تقريب القرآن الی الأذهان

الجزء السابع

من آیة ٨٤ من سورة المائدة

الى آية ١١١ من سورة الأنعام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٤)

____________________________________

[٨٤] هذه الآية وطرفاها وردت في قصة النجاشي ملك الحبشة ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام مع جماعة من المؤمنين إلى النجاشي فأكرمهم وأعزّ وفادتهم ، ثم أنه بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة من القسيسين فقال لهم : انظروا إلى كلامه ومصلاه. فلما وافوا المدينة دعاهم رسول الله إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ـ إلى قوله ـ (سِحْرٌ مُبِينٌ) (١) ، فلما سمعوا ذلك من رسول الله بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي وأخبروه خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرءوا عليه ما قرأ عليهم ، فبكى النجاشي وبكى القسيسون وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه وخرج من بلاد الحبشة يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما عبر البحر توفي ، فنزلت هذه الآيات :

(وَإِذا سَمِعُوا) أي هؤلاء النصارى (ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) من القرآن (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) أي من البكاء (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) أي لمعرفتهم أن المتلوّ عليهم حق ، فإن الإنسان إذا عرف الحق ، رأى الخارج على خلافه ، أو رأى اضطهاد أهله ، بكى رقة على الحق أو القائم به (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا) بدينك ورسولك (فَاكْتُبْنا) أي سجلنا ، سواء كان كتابة حقيقية أو لا (مَعَ الشَّاهِدِينَ) الذين شهدوا

__________________

(١) المائدة : ١١١.

وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٥) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٧)

____________________________________

بالحق ، والمراد بهم المسلمون هنا.

[٨٥] (وَما لَنا) أي يقول هؤلاء النصارى : لأي عذر (لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) إيمانا حقيقيا كإيمان المسلمين (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) من القرآن والإسلام (وَ) الحال أنّا (نَطْمَعُ) أي نرجو ونأمل (أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) في الجنة (مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ).

[٨٦] وقد حقق الله لهم الرجاء الذي رجوه (فَأَثابَهُمُ اللهُ) أي جازاهم وأعطاهم الثواب (بِما قالُوا) أي بسبب قولهم ذاك المنبثق عن عقيدتهم الراسخة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي بساتين تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أي لهم الخلود فلا انقضاء للنعيم ولا زوال لهم (وَذلِكَ) الثواب (جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون العقيدة والقول والعمل.

[٨٧] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) كاليهود وسائر المسيحيين والمشركين (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) فلم يقبلوها (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الذين يلازمون النار ، كما خلد أصحاب الجنة فيها.

[٨٨] وفي سياق ذكر الرهبان وهم يحرمون الطيبات على أنفسهم ، يأتي النهي

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ

____________________________________

للمسلمين عن تحريم ما أحلّ الله ، كما ينهى عن الإسراف والاعتداء ، فإن كلا الطرفين منهي عنه مذموم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) أي لا تجعلوها بمنزلة المحرمات فتجتنبوا عنها اجتنابكم عن المحرمات ولفظة «ما» موصولة ، أي طيبات الأشياء التي أحلها الله لكم ، ولعلّ الإتيان بها لإفادة العموم ، إذ لو قال : «طيبات أحل الله لكم» كان المتبادر منه طيبات خاصة ، وليست إضافة طيبات إلى «ما» تفيد التقييد ، بل هو من باب «قطيفة خز».

وقد نزلت هذه الآية في الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وبلال وعثمان ابن مظعون ، فأما علي عليه‌السلام فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله ، وأما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا ـ كل ذلك بقصد الامتناع عن شهوات الدنيا رجاء ثواب الله ـ فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة : ما لي أراك متعطلة؟ فقالت : ولمن أتزيّن ، فو الله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا فإنه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدنيا. فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرته عائشة ، فخرج فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟! إني أنام بالليل وأنكح وأفطر بالنهار فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك ، فأنزل الله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) (١) (٢) ، ولا يخفى أن مثل ذلك لا يضر مقام عصمة الإمام لأنه :

أولا : قيّد ب «إلا ما شاء الله».

__________________

(١) البقرة : ٢٢٦.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٣ ص ٢٤٣.

وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ

____________________________________

وثانيا : أنه من قبيل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (١) ، ولعل السر في المقامين أن الأمر كان جائزا قبل النهي ، ولفظة «لم» ليس للتقريع ، بل للإرشاد وإعطاء الحكم.

(وَلا تَعْتَدُوا) حتى تسرفوا في تناول الطيبات ، أو تتعدوها إلى الخبائث (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قد تقدم أن معنى «لا يحب» في هذه المقامات : أنه يكرههم ويبغضهم.

[٨٩] (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) أي في حال كون الرزق حلالا ـ أي مباحا ـ طيبا ، أي لا ضرر فيه ولا خبث (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ) أي بالله (مُؤْمِنُونَ) فلا تخالفوا أوامره ولا ترتكبوا زواجره.

[٩٠] (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اليمين التي أجازها الله سبحانه هي التي تكون منعقدة وتترتب على حنثها الكفارة ، أما اليمين اللفظية ـ التي تتداول على ألسنة الناس حيث يحلفون على كل صغيرة وكبيرة ـ واليمين التي لم يعط الله الرخصة في متعلّقها كيمين تحريم الطيبات على النفس زهدا ، فهي لغو من اليمين لا تترتب عليها كفارة ، ولا يكون نقضها حنثا (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) عن قصد وتعمّد مع

__________________

(١) التحريم : ٢.

فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ

____________________________________

صلاحية المتعلّق للانعقاد ، فقول الإنسان : «لا والله» و «بلى والله» لغو لم يقصد به عقد اليمين ، كما يعقد العقد ، بل هو من قبيل التأكيد كما أن عقده بدون صلاحية المتعلق لا يفيد شيئا. وقد سبق ذلك في سورة البقرة ، لكن التكرار هنا فذلكة للحكم المتقدم وتمهيد للكفارة.

(فَكَفَّارَتُهُ) أي كفارة ما عقّدتم من الأيمان ، وسميت الكفارة كفارة لأنها تكفّر الذنب وتستره ، وإنما تجب الكفارة إذا حنث الإنسان مقتضى يمينه (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) جمع مسكين ، والمراد به الفقير ، يعطي كل واحد مدا من الطعام ، وهو ما يقرب من ثلاثة أرباع الأوقية ـ بحقة كربلاء ـ أو ثلاثة أرباع الكيلو ، أو يطعمهم إطعاما (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) فلا يجب في إطعامهم الحد الأعلى وهو الأرز مثلا ، ولا يجوز الأدنى كإطعامهم بالدخنة مثلا (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) أي يكسي كل واحد من العشرة بثوبين «المئزر والقميص» بأي جنس كان (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي عتق عبد أو أمة لوجه الله سبحانه ، وإنما عبر عن الإنسان بالرقبة ، لعلاقة الكل بالجزء (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أحد الأمور الثلاثة للكفارة فكفارته صيام (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) متتابعات ـ كما ذكر الفقهاء ـ و (ذلِكَ) المتقدم من الأمور الثلاثة ثم الصيام (كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) جمع يمين وهو الحلف (إِذا حَلَفْتُمْ) ثم حنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فلا تحنثوها بل

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٩٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩١) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ

____________________________________

أوفوا بها (كَذلِكَ) البيان ، أي مثل هذا البيان الذي بيّن به الكفارة ، وحكم اللغو في اليمين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) واضحة لا لبس فيها ولا غموض (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الله سبحانه حيث أرشدكم إلى مصالحكم.

[٩١] وبعد ذكر تحليل الطيبات يأتي بيان تحريم الخبائث (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) وهي كل ما أسكر سواء كان من العنب أو غيره (وَالْمَيْسِرُ) هو القمار بجميع أنواعه (وَالْأَنْصابُ) وهي الأصنام كانوا يذبحون لها الذبائح ويلطخونها بدمائها (وَالْأَزْلامُ) قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة وذلك نوع من أنواع القمار خصّص بالذكر لاشتهاره في زمن الجاهلية ، وقد مر تفسير هذه الكلمات سابقا (رِجْسٌ) أي خبيث (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فإن الشيطان هو الذي أمر بتعاطيها ، مقابل عمل الرحمن ، بمعنى : هو الذي أمر به وعمله ، فإن الشيطان هو الذي عمل هذه الأشياء إما حقيقة كما يظهر من بعض الأحاديث ، وإما مجازا باعتبار وسوسته وإلقائه في قلوب الفاسقين (فَاجْتَنِبُوهُ) أي اجتنبوا تعاطي هذه الأشياء فلا تشربوا الخمر ولا تضربوا الميسر ولا تعبدوا الأصنام وتستقسموا بالأزلام (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي كي تفوزوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة.

[٩٢] (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ) بوسوسته وأمره بشرب الخمر ولعب الميسر

أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩٢)

____________________________________

(أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ) أيها المسلمون (الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) والفرق بينهما أن أصل التعدي من فعل الجوارح ، وأصل البغضاء من فعل الجوانح (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي بالنسبة إليهما ، فإن «في» تستعمل بمعنى «النسبة» كما قالوا في قولهم : «الواجبات الشرعية في الواجبات العقلية» أن «في» بمعنى النسبة ، أي بالنسبة إلى الواجبات العقلية.

في المجمع : أن سعد بن أبي وقاص ورجلا من الأنصار كان مؤاخيا لسعد دعاه إلى طعام فأكلوا وشربوا نبيذا مسكرا فوقع بين الأنصاري وسعد مراء ومفاخرة فأخذ الأنصاري لحى جمل فضرب به سعدا ففزر أنفه. فأنزل الله ذلك فيهما (١).

أقول : إن إيقاع العداوة بواسطة الخمر ظاهر ، إذ السكر الموجب لذهاب العقل يوجب كل شيء ، وإيقاعه بسبب القمار ، من جهة الاختلاف بينهما فيمن له الغلب أولا وبغض المغلوب للغالب ثانيا.

(وَيَصُدَّكُمْ) كل واحد من الخمر والميسر (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) إذ الإسكار يوجب عدم الالتفات إلى الله سبحانه ، والقمار بإشغاله الحواس ، منسي له الله تعالى (وَعَنِ الصَّلاةِ) لما هو واضح مما تقدم (فَهَلْ أَنْتُمْ) أيها المسلمون (مُنْتَهُونَ) عنهما ، فتتركونهما لهذه المضار ، وصيغة الاستفهام بمعنى النهي كما هو واضح.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٤١١.

وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٣) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

____________________________________

[٩٣] (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في الأوامر والنواهي ، ومن المعلوم أن طاعتهما واحدة ، وإنما يذكر الله لأنه الأصل في الإطاعة ، ويذكر الرسول لأنه المبلغ الذي بيّن الأمر والنهي (وَاحْذَرُوا) من مخالفتهما فإن ذلك موجب لخزي الدنيا والآخرة (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن إطاعتهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فانتظروا العقوبة حيث قد بلّغكم الرسول فلم ينفعكم البلاغ وتجاوزتم الحد.

[٩٤] ولما نزل تحريم الخمر والميسر قال بعض الصحابة : يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ـ يريدون هل من إثم على الذين قتلوا أو ماتوا قبل التحريم ، وهم يتعاطونهما؟ ـ فنزلت هذه الآية (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) أي إثم وحرج وعصيان (فِيما طَعِمُوا) سابقا قبل التحريم من الخمر وتعاطوا من الميسر وغلّب أحد اللفظين تخفيفا كما قال الشاعر : «علفتها تبنا وماء باردا» (إِذا مَا اتَّقَوْا) «ما» زائدة ، (وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي إذا كان طعامهم مصاحبا للتقوى والإيمان والعمل الصّالح ، ثمّ إنّ الإنسان قد يكون مؤمنا وعاملا للصالحات لكنّه ليس متّقيا ، أي ليس في نفسه حالة رادعة وملكة الخوف من الله سبحانه ، ولذا ذكر سبحانه التقوى في عداد الإيمان

ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا

____________________________________

والعمل الصالح. ثمّ كرر سبحانه الجملة السابقة أي «اتّقوا وآمنوا وعملوا الصّالحات» بتعبير (ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا) بلا ذكر العمل الصالح و (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) بلا ذكر الإيمان ، ولا يخفى أن الإحسان هو عبارة عن العمل الصالح. ولعل الوجه في التكرار إفادة الدوام في الصفات الثلاثة ، أي أن عدم الجناح مشروط «بالإيمان والتقوى والعمل الصالح» سابقا ، «وبالإيمان والتقوى والعمل الصالح» مستمرا فيما بعد ، وقد كررّ «التقوى» في الجملة الثانية لتأكيد أن كلّا من الإيمان والعمل الصالح لا ينفع بدون التقوى ، والذي يقرّب إرادة الدوام من الجملة الثانية دخول «ثمّ» فيها ، فاستمرار التقوى مع الإيمان ، واستمرار التقوى مع العمل الصالح ، شرط في عدم الجناح.

وهنا سؤال : إن ظاهر الآية «اشتراط عدم الجناح بالطعام ، بالإيمان والتقوى والعمل الصالح» وإذا فرضنا أن الطعام كان محللا ـ كما عرفت في شأن النزول ، إذ كانت الخمر لم تحرم بعد ـ فما معنى هذا الشرط؟ فقد كان شرب الخمر ـ قبل تحريمها ـ مباحا حلالا للمسلم والكافر ، فأي معنى لتقييد التحليل بالإيمان؟

والجواب : أن الشرط لا مفهوم له ، فليس المعنى «الجناح إذا لم يؤمنوا» إذ الشرط كما يساق غالبا لبيان المفهوم ، نحو «إن جاءك زيد فأكرمه» المفهوم منه «إن لم يجئك فلا تكرمه» يساق أحيانا لبيان تحقق الموضوع ، نحو : «إن رزقت ولدا فاختنه» فإنه لا مفهوم له ب «إن لم ترزق ولدا فلا تختنه» إذ أن «لم يرزق ولدا» يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، وإنما الجملة «إن رزقت» معناها : «يجب الختن للولد» ..

وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ

____________________________________

وهنا كذلك ، إذ الآية مسوقة لبيان «أن المؤمنين الذين شربوا وهم متقون عاملون بالصالحات ليس عليهم جناح» في مقابل توهم الأصحاب أن عليهم الجناح ، لا أنه سيق للمفهوم حتّى يقال بعدم استقامة مفهومه ... ثم إنه من المحتمل أن يكون في تناول الكفار للمباح حضر ، كما دلّ الدليل أن في تناول المباح للنصّاب حضر ، فمن شرب من نهر الفرات من أعداء الصديقة الطاهرة عليها‌السلام كان شربه محرما ، وعلى هذا فللمفهوم مجال واسع في الآية.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في أمورهم ، وكأنه حث على الإحسان وإن لم يكن المحسن من أهل الإيمان. ولا يخفى أن من طعم محرما وتذرّع لرفع الحد عنه بهذه الآية ، فهو مخطئ إذ الآية تشترط في عدم الجناح الإيمان والتقوى والعمل الصالح ، ومن المعلوم أن التقوى والعمل الصالح يتنافيان مع عمل المحرم.

[٩٥] وفي سياق التحليل والتحريم ، وتتميما لما تقدم في أول السورة من قوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ) وقوله : (إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) يأتي ذكر الصيد في حال الإحرام وكفارته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ) من «بلا» بمعنى اختبر ، يعني ليختبركم الله ويمتحنكم (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) أي ببعض الصيد المحرّم على المحرم (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) فيكون في طريقكم إلى الحج بعض أقسام الصيد سهل التناول حتى أن أحدكم لو مدّ يده لتمكن من أخذه ، ولو شرع رمحه لتمكن من صيده ، وبالأخص فراخ الطير وصغار الوحش وبيض الطير

لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً

____________________________________

المحرم ، فقد ابتلي المؤمنين في عمرة الحديبية بكثرة الصيد في طريقهم إلى مكة وقد كان ذلك اختبارا من الله لهم ، أيّهم يطيع فيتجنب وأيّهم يعصي فيصيد؟!

وإنما كان ذلك الاختبار (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) أي بالسر والخلوة ، وبعيدا عن أعين الناس ، وقد تقدّم سابقا أن اختبار الله ليس لأنه لا يعلم ، وإنما لأجل أن يظهر معلومه ، ويتم الحجة كما أن «ليعلم» يراد به «ظهور معلومه» فإن العلم حيث كان من الأمور ذات الإضافة صح أن يكون السبب له انكشاف المعلوم للعالم ، وأن يكون وجود المعلوم في الخارج ، والمراد بالغيب ما غاب عن الحواس ، وهو إما بالنسبة إلى الله ، أو بالنسبة إلى سائر الناس أي في حال عدم رؤيتكم لله سبحانه ، أو عدم رؤية الناس لكم (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد النهي ـ المستفاد من الكلام ـ بأن صاد وخالف أوامر الله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٩٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) أي في حال كونكم محرمين ، والمراد بالصيد كل وحش أكل أم لم يؤكل إلّا ما استثني ، و «حرم» جمع «محرم» ، يقال : أحرم الرجل إذا دخل في الحرم أو في الإحرام ، فالآية تدل على حرمة الصيد الحرمي ، والصيد الإحرامي ، كما أن ذلك ، عام للحج والعمرة (وَمَنْ قَتَلَهُ) أي قتل الصيد (مِنْكُمْ) أيها المحرمون (مُتَعَمِّداً) وهذا القيد لا مفهوم له ، لأنه من مفهوم

فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ

____________________________________

اللقب الذي ثبت عند العلماء عدم المفهوم له ، فإن للخطأ أيضا كفارة ، كما ثبت في السنة ، ولعل فائدة القيد كونه الغالب الذي يتناوله الإنسان ، بالإضافة إلى أنه يترتب على ما يأتي من قوله : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ)(فَجَزاءٌ) عليه كفارة (مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) «من» بيان لجزاء ، أن جزاءه أن يكفر بإحدى النعم الثلاث المشابهة لذلك الصيد المقتول. فمثلا : الظبي شبيه بالشاة ، وحمار الوحش وبقرته شبيهان بالبقرة ، والنعامة شبيهة بالجزور (يَحْكُمُ بِهِ) أي بالمثل (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي رجلان عادلان ، فيحكمان أن الحيوان الفلاني الذي اصطيد هو مثل الحيوان الفلاني من الأنعام الثلاثة ـ الشاة والبقرة والإبل ـ فكلما حكما بأنه مثل الصيد أخذ كفارة له.

وقد ورد في الأحاديث : أن المراد بذوي العدل هم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليه‌السلام (١) فما وجد من النصوص في مورد المماثلة وجب الحكم به ، وما لم يرد فالظاهر عدم المانع في التمسك بظاهر الآية من كفاية إخبار عادلين عارفين بالمماثلة ، إن لم يوجد نص بالخلاف بالقيمة أو ما أشبه.

(هَدْياً) أي في حال كون الكفارة تهدى هديا (بالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يذهب بها إلى صوب الكعبة فإن أصاب الصيد وهو محرم بالعمرة ذبح جزاءه بمكة وإن كان محرما بالحج ذبحه بمنى (أَوْ) يكون جزاء الصيد (كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) فإذا لم يجد الأنعام أخذ بقيمتها الطعام

__________________

(١) الكافي : ج ٤ ص ٣٩٧.

أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٦) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ

____________________________________

وتصدق به على المساكين (أَوْ) يكون جزاء الصيد (عَدْلُ ذلِكَ) أي معادل الإطعام (صِياماً) فلكل مدّين صوم يوم ، وتفصيل هذه الأمور تطلب من الفقه في كتاب الحج.

وإنما شرعت الكفارة (لِيَذُوقَ) الصائد (وَبالَ) أي عقوبة (أَمْرِهِ) أي عمله وهو الاصطياد المنهي عنه (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) من الصيد فمن صاد متعمدا وكفّر عفا سبحانه عن ذنبه (وَمَنْ عادَ) إلى الصيد متعمدا مرة ثانية فلا كفارة عليه من عظم ذنبه ، فإنه لا يغسل بالكفارة بل ينتقم (اللهُ مِنْهُ) في الآخرة انتقاما لهتكه حرمة الإحرام أو حرمة الحرم.

هذا ما فسّرت به الآية الكريمة في الأحاديث ، وإن كان لا يبعد انصراف الآية الكريمة إلى «ما سلف» قبل التحريم والعفو باعتبار أنه غير جائز حتى عند الجاهليين ، وما أعيد بعد التحريم ، فيكون العفو عما سلف من قبيل «الإسلام يجبّ عما قبله» والمراد بالانتقام الكفارة والعقاب (وَاللهُ عَزِيزٌ) قادر غالب (ذُو انْتِقامٍ) ينتقم من كل من عصاه وخالفه.

[٩٧] (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) والمراد من البحر الأعم من النهر ، فإن العرب تسمي النهر بحرا ، فإن صيده مباح في حال الإحرام ، ولو في الحرم ـ لو صار فيه بحر ، أو أتى بصيده إليه ـ هذا بالنسبة إلى صيده

وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٧) جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ

____________________________________

(وَ) أما بالنسبة إلى أكله ف (طَعامُهُ) أي طعام البحر ، قد متعتم به (مَتاعاً) والمتاع ما يتمتع به الإنسان (لَكُمْ) أيها المحرمون (وَلِلسَّيَّارَةِ) أي القوافل السيارة التي تسير كثيرا ، فإن السمك يجفّف للسفر ، وإنما خصص بالسفر مع أنه طعام للحضر أيضا ، لكثرة انتفاع المسافر ، إذ لا يمكن غالبا ذبح الأنعام في السفر ، فينتفع المسافر بالسمك المجفف انتفاعا كثيرا (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) الأعم من الوحش والطير (ما دُمْتُمْ حُرُماً) جمع «محرم» ، أي ما دمتم في الإحرام وما دمتم في الحرم ـ كما تقدم ـ يقال : رجل حرام ، إذا كان محرما أو كان في الحرم (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه ، فلا ترتكبوا نواهيه (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الحشر هو الجمع ، أي يكون مصيركم وحشركم إليه ، فيجازيكم بما اقترفتم من الذنوب والآثام.

[٩٨] وفي سياق حكم الصيد في حال الإحرام ، يأتي الكلام حول ما جعله سبحانه حراما من المكان والزمان ، ليهدي الناس في فترات معينة وأماكن معينة عن الخصام والانتقام ، الذي يكدّر الحياة البشريّة (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) سمّيت الكعبة «كعبة» لتربيعها وإنّما قيل للمربّع : كعبة لنتوء زواياه الأربع ، مقابل المدوّر ، والكعب هو النتوء والارتفاع (الْبَيْتَ الْحَرامَ) عطف بيان على الكعبة ، وإنّما جيء بهذا العطف ، لأنّه كانت لدى الجاهليين ، كعبات متعدّدة وكانوا يحجّون إليها ويطوفون بها ، فهدمها النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمّى البيت الحرام ، لحرمته

قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ

____________________________________

ولأنّه يحرم فيه القتال والصّيد وغيرها (قِياماً لِلنَّاسِ) مفعول ثان ل «جعل» أي جعل الله الكعبة لقيام النّاس ، بأن تقوم أمورهم ، وتستقيم أحوالهم ، اقتصاديّا واجتماعيّا ، وغيرهما ، كما ذكر في فلسفة الحجّ (١).

(وَ) جعل الله (الشَّهْرَ الْحَرامَ) قياما للناس ، فأشهر الحرم : وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ، تقوم أمور الناس واجتماعهم ، إذ تخفّف عن كواهلهم عبء الحروب ، والمخاصمات وتسبب الأمن والهدوء ، مما يروّج الاقتصاد ، ويهيئ الجوّ الملائم للتفاهم وغيرها ، فالبيت الحرام أمن في المكان ، والشهر الحرام أمن في الزمان ، وقد جعل سبحانه الأمن متعديا إلى خارج هذه الحدود فجعل (وَالْهَدْيَ) أي محترما لا يمس بسوء ، وهو ما يهدى إلى الكعبة بإشعار أو تقليد (وَالْقَلائِدَ) جمع قلادة أي ما تقلّدها ـ بعلاقة الحال والمحل ـ أي جعل القلائد محترمة لا تمس بسوء. والمراد بالقلائد إما الحيوان الذي يقلّد ، أو الإنسان الذي يحرم فيقلد نفسه. قالوا : كان الرجل يقلّد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف.

ولا يقال : أن غير الهدي والقلائد أيضا محترم لأنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره أو بدن غيره فما معنى الاختصاص هنا؟

لأن الجواب ظاهر : فإن الهدي لا يجوز أن يمس ، وإن جاز مسّه لو لا كونه هديا بسبب الاقتصاص والإفلاس ونحوهما ، كما أنه لا يجوز أن يتعدّى على المحرم بما يجوز التعدي عليه في غير حال الإحرام ، فلا يجوز أخذ المحرم وحبسه ولو كان بحق ـ إذ الواجب إتمام العمرة

__________________

(١) راجع كتاب «عبادات الإسلام» للمؤلف.

ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٨) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (١٠٠)

____________________________________

والحج لله ـ فكما لا يجوز لنفسه الإبطال لا يجوز لغيره الإبطال.

(ذلِكَ) أي إنما جعل سبحانه هذه المحرمات (لِتَعْلَمُوا) أيها الناس (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنه عالم بأحوال الإنسان وما يكتنفه من العداء والشر وأنه يحتاج إلى هدوء وسكينة في المكان وفي الزمان ، وأن الناس يحتاجون إلى ما يقيم معاشهم ومعادهم ، ولذا جعل هذه المحرمات للاستراحة والاستجمام ، ولعل ذكر السماوات استطراد ، فإنّ ما ذكر مرتبط بالأرض ، لكن لو ذكرت وحدها لأوهم عدم علمه سبحانه بما في السماوات (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من أحوال الإنسان والحيوان والأزمان والأماكن وغيرها.

[٩٩] ولمّا تقدّم بعض الأحكام عقّبه سبحانه بذكر الوعد والوعيد (اعْلَمُوا) أيها النّاس (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن عصاه وخالفه (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب وآمن وعمل صالحا ، فإنّه يغفر ذنوبكم ويرحمكم بفضله وسعته.

[١٠٠] (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) أي أداء الرسالة وبيان الشريعة ، أما القبول من الناس فليس من شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يرتبط به (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي تظهرون من الأقوال والأعمال (وَما تَكْتُمُونَ) من

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠١)

____________________________________

النيات والأعمال ، فإنه لا يخفى عليه شيء ويجازيكم بكل ذلك ، فأحسنوا ولا تخالفوا.

[١٠١] ولما بين سبحانه الحلال والحرام ذكر أنهما لا يستويان ، فلا يتناول أحد خبيثا مدعيا أنه لا فرق بين هذا وغيره ، كما نرى اليوم كثيرا من الناس يتناولون المحرمات مدّعين عدم الفرق بينها وبين المحللات (قُلْ) يا رسول الله : (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) المحرم (وَالطَّيِّبُ) المحلل ، فإنهما ليسا متساويين (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) أيها السامع (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) وزيادته على الطيب ، كما نرى من أن أنواعا من الحيوان المحرم أكثر من المحلل ، فإن كثرة الخبيث لا تسبب طيبه ولعل قوله «ولو» لدفع استبعاد بعض الناس : أنه كيف يمكن أن يكون هذا الشيء الكثير حراما؟ : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عصيانه ولا تخالفوه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي كي تفوزوا بالثواب العاجل والآجل.

[١٠٢] قلنا سابقا قد جرت عادة القرآن الحكيم ، بعدم إطالة أمر واحد ، فيمل السامع فهو إذا أراد الإطالة ، ذكر في الأثناء ما يلطّف الجو ، ويرفع الملل من السامع ، ببيان حكم جديد منبّه ، وهكذا أتت آية السؤال هنا في وسط الحرام والحلال ، بالإضافة إلى ارتباط الآية بالحج ، حيث أنها وردت في باب السؤال عن الحج.

فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب فقال : إن الله كتب عليكم الحج. فقام سراقة بن مالك فقال : في كل

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ

____________________________________

عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول : نعم ، ولو قلت : نعم ، لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (١). فنزلت

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) متصفة بأنها (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) أي تظهر لكم (تَسُؤْكُمْ) أي تسبب سوءا أو حزنا وصعوبة عليكم (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) أي عن تلك الأشياء (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي في فترة الوحي ووجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهركم (تُبْدَ لَكُمْ) لأن الوحي يأتي إليه بالجواب فيكون موجبا للصعوبة عليكم بتشريع أحكام جديدة أنتم في غنى عنها.

وهنا سؤال : كيف يمكن عدم السؤال إن كان من الأمور المرتبطة بالدين؟ وهل أن أحكام الله اعتباطيّة حتّى يشرّعها السؤال؟ أليس كلّ حكم تابع للمصلحة والمفسدة ، ويبيّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك لإيصال الناس إلى مصالحهم ومفاسدهم؟ وما خصوصية (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) فإن الأئمة عليهم‌السلام أيضا بتلك المثابة حيث أنهم يعلمون جميع الأحكام؟

والجواب : أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد التي منها مصلحة التسهيل على المكلفين ، فكثيرا ما لا يشرع حكم ـ كعدم وجوب السواك ـ لمصلحة التسهيل ، ومن المعلوم أن هذه المصلحة قد

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٣١.

عَفَا اللهُ عَنْها

____________________________________

ترتفع إذا كان هناك لجاج وعناد وظلم ، كما قال سبحانه : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (١) ، وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الثاني.

وأما السؤال الأول : فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان في مقام بيان جميع الأحكام ، وليست القضية شخصية ، كابتلاء بإرث لا يعلم تقسيمه ، أو زوجة لا يعرف حقها ، أو ولد عاص لا يدري كيف يعاشره أو أشباه ذلك ، لم يكن وجه للسؤال ، لأنه تعنّت وإرهاق.

وأما السؤال الثالث : فلأن المصالح التشريعية قد كملت في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنه لا تشريع جديد بعده ، ولذا فلم يكن الأئمة عليهم‌السلام بمثابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إمكان تشريع الحكم ، وإن كان من الممكن التشريع لو حدث في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء ، وهذه المصلحة وهي انسداد باب التشريع حتى لا يكون لأحد ذلك ـ بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وإن كان مفوّتا لمصالح واقعية ـ مثلا ـ لكنها أقوى في الاعتبار من مراعاة مصالح لأحكام جديدة.

ولعل الجواب على الإشكال الثاني يستفاد من حديث ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها» (٢).

(عَفَا اللهُ عَنْها) أي عن تلك الأشياء فلا تتكلفوها ، أنه سبحانه

__________________

(١) النساء : ١٦١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ٢٦٠.

وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمُ (١٠٢) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٣) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ

____________________________________

رجّح مصلحة التسهيل عليكم على مصلحة تلك الأحكام ، فإن تسألوا عنها وتعاندوا ترفع تلك المصلحة التسهيلية فتبتلون بها (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر ما سلف (حَلِيمٌ) يمهلكم فلا يعجل في عقابكم.

[١٠٣] (قَدْ سَأَلَها) أي سأل عن تلك الأشياء التي إن تبد تسيء السائل (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأمم السابقة ، كما سأل اليهود عيسى عليه‌السلام المائدة ، ثم كفروا ، وسأل بنو إسرائيل القتال ، فلما أجيبوا ولّوا إلا قليلا منهم ، وسأل قوم صالح الناقة ثم عقروها ، أو «من المشركين» حيث سألوا من النبي أشياء ثم لما بدت لهم كفروا ولم يؤمنوا (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) فازدادوا عذابا على عذابهم ، وهذه الآية كالتعليل للنهي في الآية السابقة.

[١٠٤] ثمّ يرجع السياق إلى ذكر بعض الأمور المحللة التي حرمها أهل الجاهلية (ما جَعَلَ اللهُ) أي لم يحرم الله ـ كما يزعم أهل الجاهلية ـ (مِنْ بَحِيرَةٍ) هي الناقة إذا شقّت أذنها ، من «البحر» بمعنى الشق (وَلا سائِبَةٍ) من «ساب الماء» إذا جرى ، أي الناقة السائبة التي تجري على الأرض بدون أن يمسها أحد ـ كما سيأتي ـ (وَلا وَصِيلَةٍ) من «الصلة» ضد القطيعة وهي قسم من الناقة والشاة كانوا يحرمونها (وَلا حامٍ) من «حمى يحمي» إذا حفظ ، وهو قسم من الإبل كانوا يحرمونه لأنه حمى نفسه ، فقد كان أهل الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن خامسها أنثى بحروا أذنها أي شقوها وحرموها على النساء فإذا ماتت حلّت ، وإذا

وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٥)

____________________________________

ولدت عشرا جعلوها سائبة لا يستحلون ظهرها ولا أكلها ، وربما تسيّب بنذر ، فكان ينذر أحدهم إن برئ مريضه أو جاء مسافره فناقته سائبة ، وإذا ولدت ولدين في بطن واحد ، أو الشاة ولدت في السابع ذكر أو أنثى في بطن واحد قالوا : وصلت فلم تذبح ولم تؤكل وحرّموا ولدي الشاة على النساء حتى يموت أحدهما فيحل. والحام الفحل إذا ركب ولد ولده أو نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ وماء ، فأنزل الله عزوجل أنه لم يحرم من هذه الأمور شيء.

(وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فينسبون تحريم هذه الأشياء إلى الله سبحانه كذبا وبهتانا (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي ليس لهم عقل يميزون به بين الحرام والحلال والحق والباطل.

[١٠٥] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لهؤلاء الذين يحرمون أشياء افتراء (تَعالَوْا) أي هلمّوا (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام في القرآن (وَإِلَى الرَّسُولِ) كي تصدقوه وتتبعوا سنته (قالُوا) في الجواب (حَسْبُنا) أي يكفينا لمصالحنا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من العقائد والأقوال والأعمال والعادات.

وهنا يسأل سبحانه سؤال إنكار وتعجب بقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الحق والباطل (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحق ، أي :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٦)

____________________________________

فهل يتبعونهم ولو كانوا جهالا ضالين؟

[١٠٦] ولما بيّن سبحانه أحوال الكفار وأنهم ضالون أمر المسلمين باتباع الحق ، وأنهم لا يضرهم ضلال من ضل ، بينما هم مهتدين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ) «عليك» اسم فعل بمعنى : الزم واحفظ ، أي احفظوا (أَنْفُسَكُمْ) عن الضلال والانحراف (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ) من الناس (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) أي إذا كنتم مهتدين. ومن المعلوم أن من شروط الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد وسائر الواجبات التي هي من هذا القبيل.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أيها الناس (جَمِيعاً) فإن مصير الضال والمهتدي إليه سبحانه (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الأعمال الحسنة والقبيحة ، وليس كالدنيا يختلط فيها الحابل بالنابل فتؤخذون أنتم بذنوب الضالين اشتباها وتعمدا ، أو يشتبه أمر الضالين ، فلا يجازون بالعقاب.

[١٠٧] ثم تعرّض سبحانه لبيان تشريع جديد ورد في قصة خاصة ، يرجع إلى سنّ بعض الأحكام ، بعد ما فرغ من بعض أقسام الحلال والحرام. فقد روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أن ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجارا إلى الشام : تميم بن أوس الداري وأخوه عدي ، وهما نصرانيان ، وابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلما ، حتّى إذا كانوا

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ

____________________________________

ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية فكتب وصيته بيده ودسها في متاعه وأوصى إليهما ودفع المال إليهما وقال : أبلغا هذا إلى أهلي. فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال إلى الورثة ، فلما فتش القوم المال فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيها تاما فكلموا تميما وصاحبه فقالا : لا علم لنا به وما دفعه إلينا ، أبلغناه كما هو ، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١). فنزلت الآية ، وستأتي تتمة القصة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) «شهادة» مرفوع بالابتداء خبره «اثنان» أي الشهادة المعتبرة شرعا فيما بينكم شهادة نفرين (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بأن ظهرت عليه آثار الموت (حِينَ الْوَصِيَّةِ) أي في وقت الوصية (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي رجلان عادلان من المسلمين (أَوْ آخَرانِ) أي شخصان آخران لتحمل الشهادة (مِنْ غَيْرِكُمْ) أي من غير المسلمين ، و «أو» هنا للترتيب لا للتخيير (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم ولم تجدوا مسلمين للإشهاد على الوصية فأشهدوا نفرين آخرين (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) بأن ظهرت علائمه ، والجملة الشرطية لتقييد قوله «آخران» فإن إشهادهما مشروط بالضرب في الأرض ، وهذا من باب المورد ، وإلا فالمعيار عدم وجود مسلمين ، وإن كان في الحضر ، فإذا تحملا الشهادة ، وأرادا الإدلاء بها

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٣١.

تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٧)

____________________________________

فهو بهذه الكيفية (تَحْبِسُونَهُما) أي تقفونهما (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) أي صلاة العصر وذلك لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت ، ولعله ليكون أردع للكذب إذ الاجتماع يسبب الهيبة في قلب المدلي للشهادة (فَيُقْسِمانِ) أي الشاهدان غير المسلمين (بِاللهِ) وهذا دليل على أن الشاهد يجب أن يكون معترفا بالله كأهل الكتاب (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي شككتم في شهادتهما واحتملتم التبديل والتغيير والتزييف في الأمر ، وهذا شرط للقسم ، أي أنهما يقسمان في حال شكّكم ، وإلا فيدليان بالشهادة بدون القسم (لا نَشْتَرِي بِهِ) أي بما ندلي من الشهادة (ثَمَناً) وهذا هو المقسم به ، فلا نغيّر الشهادة ولا نبدّل ولا نزيّف الواقع ، ابتغاء تحصيل ثمن ، أي مال (وَلَوْ كانَ) المشهود له (ذا قُرْبى) أي من أقربائنا ، وخصص بالذكر لأن الناس دائما يميلون إلى أقربائهم فيشهدون بالباطل لنفعهم ، وهذا كالتأكيد ، وإلا فليس هنا مشهودا له. والمعنى : أن لا ندلي شهادة باطلة حتى لأقربائنا (وَلا نَكْتُمُ) أي لا نخفي (شَهادَةَ اللهِ) أي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها. والإضافة تعظيمية (إِنَّا إِذاً) لو كتمنا شهادة الله (لَمِنَ الْآثِمِينَ) أي العاصين.

وحاصل الحكم أن الإنسان إذا أراد أن يوصي فعليه أن يشهد على وصيته شاهدين مسلمين عادلين ، فإن كان في سفر وظهرت عليه أمارات الموت ، ولم يكن هناك مسلمون لتحمل الشهادة ، يشهد على وصيته شاهدين كتابيّين ، وتقبل شهادتهما بدون اليمين إن لم يشك

فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ

____________________________________

الوارث بهما ، أما إذا شك بهما واحتمل أنهما يكذبان في الشهادة ، فالحاكم الشرعي يحضرهما بعد صلاة العصر ، ويحلفهما أولا بهذا الحلف : «والله إنا لا نبتغي بالشهادة مالا ولا نبدل الشهادة حتى لأقربائنا ولا نكتم الشهادة التي ألزمها الله إيمانا ولو فعلنا ذلك لكنا آثمين» وبعد أداء هذا القسم أو شبهه في المعنى ، يدليان بشهادتهما حول الوصية ، وتقبل شهادتهما حينئذ.

[١٠٨] لما نزلت الآية الأولى صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا فخلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبيلهما ، ثم اطلعوا على إناء من فضة منقوش بذهب وقلادة من جوهر معهما من مال الميت فقال أولياء الميت : هذا من متاع الميت. فقال النصرانيان : اشتريناه منه ونسينا أن نخبركم ، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزل قوله «فإن عثر» فقام رجلان من أولياء الميت عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة فحلفا بالله أن النصرانيين خانا وكذبا ، فدفع الإناء إلى أولياء الميت ، وبعد مدة أسلم تميم الدارمي فكان يقول : صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله وأستغفره.

(فَإِنْ عُثِرَ) يقال : «عثر الرجل على الشيء» إذا اطلع عليه ، ف «عثر» مبني للمجهول بمعنى : «ظهر» (عَلى أَنَّهُمَا) أي الوصيين غير المسلمين (اسْتَحَقَّا) أي استوجبا (إِثْماً) أي ذنبا ، بأن ادّعى الأولياء أنهما كذبا في اليمين والشهادة بل خانا الوصية فشاهدان آخران مسلمان (يَقُومانِ مَقامَهُما) أي مقام غير المسلمين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَ

عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)

____________________________________

عَلَيْهِمُ) أي من أولياء الميت الذين استحقت عليهما الوصية ، وكان المال لهم (الْأَوْلَيانِ) تثنية «أولى» ، بدل من قوله «آخران» أي يقوم شاهدان كل واحد منهما أولى بالميت ، أي من أقربائه وذي ولايته ، وهذان ينقضان شهادة الوصيين الكاذبين غير المسلمين (فَيُقْسِمانِ) أي وليا الميت (بِاللهِ لَشَهادَتُنا) نحن أولياء الميت ـ في تكذيب الوصيين ـ (أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي من شهادة الوصيين الكاذبين ، وكلمة «أحق» جرّدت من معنى التفضيل ـ كما سبق ـ (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي ما تجاوزنا الحق بل نطلب مال الميت (إِنَّا إِذاً) لو اعتدينا كنا (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لنفوسنا حيث قسمنا كذبا ، وإذا حلف وليّا الميت كذلك نقض حلف الوصيّين ، وأخذ المال منهما وأعطي إلى ولي الميت.

[١٠٩] (ذلِكَ) الذي تقدم من كيفية إحلاف الوصيين بعد الصلاة (أَدْنى) أي أقرب (أَنْ يَأْتُوا) أي يأتي الوصيان (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) فإن اليمين رادعة لكثير من الناس عن الكذب (أَوْ يَخافُوا) إذا علموا بأنهم إن حلفوا كاذبين (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) إلى أولياء الميت فيحلفان على كذبهما ويكون الحق لهما دون الوصيين (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) فيجمعون بين فضيحة الكذب والسرقة ، وفضيحة الحلف الكاذب (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تحلفوا به كذبا (وَاسْمَعُوا) هذه الموعظة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الذين

يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٠) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ

____________________________________

يفسقون بالخروج عن طاعته ، وارتكاب معصيته ، فإنه لا يلطف بهم اللطف الخاص بالمطيعين.

[١١٠] قد سبق جانب من قصص اليهود والنصارى ، ويأتي هنا جانب آخر من قصة النصارى في ثوب بديع (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) أي اتقوا يوم الحشر الذي يجمع الله فيه الأنبياء المرسلين جميعا (فَيَقُولُ) لهم : (ما ذا أُجِبْتُمْ) أي بماذا أجابكم الأمم هل بالإيمان والتصديق أم بالكفر والتكذيب؟ (قالُوا) أي قال الرسل في جوابه : سبحانه (لا عِلْمَ) كامل (لَنا) فإنا لم نر منهم إلا الظواهر ، أما البواطن والخفايا فأنت العالم بها وحدك (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي الأشياء الغائبة عن الحواس ، وقصد الآية هنا الإجمال ، أو ذلك في موقف من مواقف القيامة ، إذ لها مواقف كل موقف منها يخالف الموقف الآخر في الخصوصيات والمزايا ـ هذا جواب الأنبياء بصورة عامة ـ أما جواب عيسى عليه‌السلام ففيه تفصيل وسيأتي بعد آيات من قصة عيسى عليه‌السلام.

[١١١] (إِذْ قالَ اللهُ) أي «يقول» فإن المضارع المتحقق الوقوع ينزّل منزلة الماضي ، ومحل «إذ» النصب على «اتقوا» أي : اتقوا زمان يقول الله : «يا عيسى» ، أو على تقدير «اذكر» (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وذكر «ابن مريم» استنكار لقول النصارى إنه «ابن الله». (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) والمراد بالنعمة جنسها ، لا نعمة واحدة ، ومعنى ذكر النعمة شكرها ، والإتيان بما يستحق المنعم بها. ومن المعلوم أن النعمة على

إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ

____________________________________

الوالدة بالعفاف والطهارة وغيرهما ، من أعظم النعم على الولد ، فهي مما تستحق الشكر. ثم فسر سبحانه بعض نعمه بقوله : (إِذْ أَيَّدْتُكَ) أي قويتك ونصرتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي الروح المنزّه عن الأدران ، وهو جبرئيل عليه‌السلام أو ملك آخر ، أو روح منفوخة فيه تحفظه عن الزلل فإن الأنبياء والأئمة مزوّدون بروح طاهرة تحفظهم وترشدهم بأمر الله سبحانه (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي في حال كونك صبيا فإنه عليه‌السلام ، قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ...) (١) (وَكَهْلاً) أي في حال كونك كهلا ، وهو قبل سن الشيخوخة ، وهذا من تتمة الكلام ، يعني أنك تكلم الناس في الحالين ، لا كسائر الناس الذين لا يتكلمون إلا في حالة واحدة.

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) أي جنس الكتاب المنزل من السماء ، فإنه كانت كتب نازلة على الأنبياء السابقين وقد كان عليه‌السلام تعلمها بتعليم الله سبحانه (وَالْحِكْمَةَ) وهي معرفة الأشياء على واقعها ، فإن معرفة الكتب غير معرفة الحكمة ، وأن يكون الإنسان بحيث يعلم الأمور ومواضعها (وَالتَّوْراةَ) وهي الكتاب المنزل على موسى عليه‌السلام (وَالْإِنْجِيلَ) وهو الكتاب المنزل على المسيح نفسه عليه‌السلام (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي على قالب الطير وهيكله. ومن المعلوم أن هذا النحو من

__________________

(١) مريم : ٣١ و ٣٢.

بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١١) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ

____________________________________

التجسيم لم يكن حراما لأنه كان بأمر الله ، وليس التحريم عقليا حتى لا يمكن التخصيص فيه (بِإِذْنِي) ولعل «بإذني» إشارة إلى ذلك ، أو أن الخلق إنما كانت بقدرته ، إذ لو لم يأذن الله لم يتمكن أحد من خلق شيء وصنعه (فَتَنْفُخُ فِيها) أي في تلك الهيئة التي خلقتها. ولا يخفى أن الروح جسم لطيف فيمكن أن ينفخ المسيح عليه‌السلام بإذن الله ذلك الجسم في الهيكل المصنوع (فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) أي طيرا حقيقيا كسائر الطيور ، بأمري وإرادتي (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) أي تشفي الذي ولد أعمى (وَالْأَبْرَصَ) الذي به البرص (بِإِذْنِي) أي بأمري وإرادتي (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من القبور فتجعلهم أحياء (بِإِذْنِي) وإرادتي ، فإنك تدعوني لهذه الحوائج وأنا أستجيب دعاءك (وَإِذْ كَفَفْتُ) أي منعت (بَنِي إِسْرائِيلَ) اليهود (عَنْكَ) فلم يقدروا على قتلك (إِذْ جِئْتَهُمْ) أي حين أتيت إليهم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالأدلة القاطعة على صحة نبوتك وصدق كلامك (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك وجحدوك ولم يؤمنوا بما جئت به (مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (إِنْ هذا) أي ما هذا الذي نرى من خوارقك (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي سحر واضح.

[١١٢] (وَ) اذكر نعمتي عليك يا عيسى ابن مريم (إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) «الوحي» هنا بمعنى الإلقاء إليهم ، ولو كان ذلك بواسطة

أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١٢) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ

____________________________________

نفس عيسى أو يحيى عليهما‌السلام أو المراد الإلهام إلى قلوبهم ، بواسطة العقل الذي هو حجة باطنة. والمراد بالحواريين أصحابه الخاصون به ، وسبق وجه تسميتهم بالحواريين (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) المسيح عليه‌السلام ، فإن الإيمان بالله نعمة على المسيح ، كما أن تصديقه عليه‌السلام نعمة عليه ، إذ الأمران موجبان لقربه عليه‌السلام إلى الله سبحانه حيث تمكن من هدايتهم ، بالإضافة إلى لزوم ذلك الاحترام الظاهري (قالُوا) أي الحواريون : (آمَنَّا) أي بالله ورسوله (وَاشْهَدْ) يا ربنا ، أو المراد الاستشهاد بعيسى عليه‌السلام (بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) لله فيما يأمر وينهي.

[١١٣] واذكر نعمتي عليك يا عيسى ابن مريم حينما جرى الحوار بينك وبين الحواريين حول إنزال الله المائدة فطلبت من الله فاستجاب لك وأنزل المائدة (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) ولعلهم ذكروا اللفظ بتأدّب. وإنما نقل سبحانه المعنى ، أو كان مثل هذا الخطاب بأمر عيسى عليه‌السلام نفسه ، أو كان لديهم متعارفا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) إما المراد : الاستطاعة بحسب القدرة ، وكان ذلك حين عدم كمال إيمانهم ، وإما المراد : الاستطاعة بحسب الإرادة ، أي : هل يريد؟ وكان سؤال استعطاف ، و «المائدة» مشتقة من «ماد يميد» إذا تحرك ، فهي فاعلة ، سمّي بها الخوان ، لأنه يميد ويتحرك من مكان لآخر وقت البسط والجمع ، وقد أرادوا إتيان عيسى بهذه المعجزة ليروها ويلمسوها ويأكلوا منها ، فلا يبقى محل ريب عندهم في صدق الدعوة.

قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٣) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٤) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا

____________________________________

ولعل ذلك كان قبل سائر الآيات من إبراء الأكمة والأبرص ، ولذا (قالَ) لهم عيسى عليه‌السلام : (اتَّقُوا اللهَ) أي خافوه فلا تسألوا سؤال جاهل ذي ريب (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله بما له من صفات الكمال التي منها الاستطاعة على مثل هذا الأمر الهّين.

[١١٤] (قالُوا) أي قال الحواريون : (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) أي من المائدة (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) إما الاطمئنان بأصل المبدأ وأنك رسوله ، أو الاطمئنان بالرؤية ، كما قال الخليل عليه‌السلام : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١) (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) بما أخبرت من الشريعة. وهذا محتمل أيضا لإرادة العلم العياني ، ولإرادة أصل العلم لكونهم في شك (وَنَكُونَ عَلَيْها) أي على المائدة (مِنَ الشَّاهِدِينَ) الذين يشهدون لمن لم يحضر بأنه قد نزلت المائدة ورأيناها عيانا.

[١١٥] (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) داعيا الله سبحانه : (اللهُمَّ رَبَّنا) ـ وكان الإتيان بلفظ الرب ، للمبالغة في الدعاء ـ أنت الذي ربّيتنا ، فتفضل علينا بإتمام التربية (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) أي خوانا عليه طعام ، يأتي من طرف العلو (تَكُونُ) المائدة (لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا ، فإن الأعياد في الأمم ،

__________________

(١) البقرة : ٢٦١.

وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٥) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٦)

____________________________________

إنما هي بمناسبة ذكريات انتصاراتهم. ومن المعلوم أن تكريم جماعة بنزول المائدة عليهم من قبل الله سبحانه من أعظم الذكريات التي ينبغي أن يحتفل بها ، ـ أول القوم ـ الذين نزلت عليهم ، و ـ آخر القوم ـ أي من يأتي من بعدهم من أبنائهم.

(وَآيَةً مِنْكَ) أي دليلا وعلامة من قبلك على التوحيد والنبوة وما أشبههما (وَارْزُقْنا) من المائدة (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإنك تتفضل بالنعم كرما وجودا ولا تريد عوضا تنتفع به بخلاف الناس إذا أعطوا شيئا فإنهم يريدون بدلا عنه يصل إليهم.

[١١٦] (قالَ اللهُ) سبحانه في جواب عيسى عليه‌السلام : (إِنِّي مُنَزِّلُها) أي أنزّل المائدة (عَلَيْكُمْ) أيها السائلون لها (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) أي بعد إنزالها عليكم (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) شديدا (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي لا أعذب مثل ذلك العذاب أحدا من العصاة الذين هم في ذلك الزمان ، فإن إطلاق «العالمين» غالبا ، يكون على عالم زمان واحد. والسبب في شدة العذاب أنهم كفروا بعد ما آمنوا وطلبوا المعجزة ، وقبل منهم ولبّى طلبهم.

ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام : أن المائدة كانت تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون منها ثم ترتفع فقال كبراؤهم ومترفوهم : لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا. فرفع الله المائدة ببغيهم ومسخوا قردة وخنازير (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٤ ص ٢٤٨.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ

____________________________________

[١١٧] تقدم أن الله سبحانه يسأل الأنبياء عن جواب الأمم لهم ، ثم ذكر جملة من معجزات عيسى المقتضية لإيمان الناس به إيمانا عادلا ، لكن النصارى رفعوه فوق مقامه إذ جعلوه إلها ، ولذا يتوجه السؤال إليه عليه‌السلام في مشهد القيامة حول هذا الافتراء الذي نسب إليه عليه‌السلام حتى تظهر براءته من ذلك ، فيكون المجال فسيحا أمام عقاب من ادّعى ذلك كذبا وبهتانا ، في يوم يجمع الله الرسل فيقول : «ماذا أجبتم»؟ (وَإِذْ قالَ اللهُ) أي «يقول» فإن المستقبل المتحقق وقوعه ينزل منزلة الماضي (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ) أي : هل أنت ، على نحو الاستفهام التوبيخي لمن ادعى ذلك ، والتقريري بالنفي بالنسبة إلى المسيح عليه‌السلام (قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله ، لا أنهم لا يعتقدون بألوهية الله تعالى (قالَ) عيسى عليه‌السلام في جواب ذلك : أسبحك (سُبْحانَكَ) أي أنزهك يا رب تنزيها عن مثل هذا الكلام (ما يَكُونُ لِي) أي ليس يجوز بالنسبة لي (أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) فآمر الناس باتخاذي إلها (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) أي قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين (فَقَدْ عَلِمْتَهُ) لكن لا تعلم ذلك ـ على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ـ فلست قائله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) أي سريرتي ، فكيف بأقوالي العلانية؟ (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) وهذا على جهة المقابلة ، وإلا فليس لله سبحانه نفس ، وقوله «ولا أعلم» لبيان

إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٧) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٨) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٩)

____________________________________

ضراعته عليه‌السلام إليه سبحانه وإلا فلم يكن الكلام مسوقا إليه (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي تعلم كل غيب عن الحواس ، ولست أنا كذلك ، فأنت تعلم أني لم أقل «اتخذوني وأمي إلهين» للناس.

[١١٨] ثم بين عليه‌السلام ما قاله لقومه زيادة في التبرّي من هذا القول المختلق المنسوب إليه (ما قُلْتُ لَهُمْ) أي للناس (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) من الإقرار لك بالعبودية ، فقد قلت لهم : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فأنا وأنتم متساوون في عبادة الله وكونه ربنا وخالقنا (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) شاهدا أرى أقوالهم وأعمالهم (ما دُمْتُ) كنت (فِيهِمْ) أي في وسطهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي أخذتني مستوفى كاملا إلى السماء ـ وقد سبق وجه ذلك ـ (كُنْتَ أَنْتَ) يا إلهي (الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي المراقب لهم فيما يعملون ويعتقدون ويقولون (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي شاهد حاضر.

[١١٩] إن مبدأ القوم هو أنت «ربي وربكم» ومعادهم بيدك وحدك (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) لا يقدرون على رفع شيء من أنفسهم ولا يقدر غيرك على نجاتهم (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القادر (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل شيئا إلا طبق الحكمة والمصلحة ، وفي هذا تسليم الأمر

قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢٠) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢١)

____________________________________

لمالكه وتفويض الأمر إلى مدبره ، وهذا التعبير لا ينافي علم عيسى عليه‌السلام بأنهم معذبون ، فإنه كما يقول أحدنا لمالك الأمر : «إنه بيدك إن شئت فعلت وإن شئت تركت» حتى مع علمنا أنه يفعل أحدهما لا محالة. هذا بالإضافة إلى أن بعضهم ـ وهم القاصرون ـ قابلون للغفران.

[١٢٠] (قالَ اللهُ) بعد ذلك الحوار ، في مشهد القيامة (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فلا الكاذب المغالي القائل «المسيح ابن الله» ، أو «هو الله» ، ينفعه كذبه ، ولا الكاذب المغالي القائل «بأن المسيح بشر غير نبي» ينفعه كذبه ، إنه يوم الصدق ، وينفع الصادق صدقه (لَهُمْ) أي للصادقين (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مما لا نهاية له (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما عملوا في دار الدنيا (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من الجزاء والثواب (ذلِكَ) المقام الذي حصلوه بما عملوا (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز بعده أعظم منه.

[١٢١] إن النصارى كذبوا في جعل الشريك لله ، ف (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا شريك له فيهن ، ولا ملك غيره (وَما فِيهِنَ) مما يوجد فيهما من إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد أو غيرها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يمتنع عليه شيء ، ومن هذه صفته لا يكون له شريك في الملك.

(٦)

سورة الأنعام

مكيّة ـ مدنية / آياتها (١٦٦)

سميت بذلك لاشتمالها على كلمة «الأنعام».

وفي حديث : أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة ، وشيعها سبعون ألف ملك لعظمتها (١).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد ويعطف عليهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٣٠.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (٢)

____________________________________

[٢] ولما كان ختام السورة السابقة أن (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك الختام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) واللام في الحمد للجنس ، أي أن جنس الحمد لله إذ جميع المحامد راجعة إليه ، و «السماوات» غالبا تأتي بصيغة الجمع بخلاف الأرض التي تأتي مفردة إشعارا بأكثرية السماوات على الأرض ، وإلا فالأرضون أيضا سبعة كما قال سبحانه : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (١) (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي كوّنهما ، و «الظلمة» إن كانت عدم ملكة ، فمكوّن الملكة مكون العدم لأن أعدام الملكات لها حظ من الوجود كما قالوا. وقد أتى بالظلمات جمعا بخلاف النور ، للتناسب مع الجملة السابقة «السماوات والأرض» ولعل سر الإتيان بصيغة الجمع انقسام الظلمات حوالي النور فإن النور يشق طريق الظلمة ، كلما قرب النور كان أرق.

ثم أظهر سبحانه التعجب من الذين يتخذون من دون الله أندادا بينما كان كل شيء لله سبحانه (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد كل هذه الآيات والدلائل (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يسوونه بغيره ويجعلونه عدلا وشريكا ومثيلا لأشياء أخرى مما لا أثر لها ولم تخلق شيئا.

[٣] وحيث أن الجو العام في هذه السورة حول العقيدة مبدءا ومعادا ، والأمور الكونية التي خلقها سبحانه تنتقل بالآيات من عقيدة إلى

__________________

(١) الطلاق : ١٣.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٣) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٤)

____________________________________

عقيدة ، ومن خلق إلى خلق (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) إما باعتبار أبينا آدم عليه‌السلام وإما باعتبار خلق كل فرد من التراب والماء ، فإن الإنسان من النطفة وهي من النبات والحيوان وهما من الأرض والماء (ثُمَّ قَضى) أي قدّر وكتب (أَجَلاً) أي مدة للإنسان عامة ، حتّى تنقضي الدنيا ، أو لكل فرد حيث أن لكل فرد مدة لا يتجاوزها (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) إما تفصيل ل «أجلا» أي أن الله سبحانه هو مصدر الأجل المسمّى الذي سمي لكل شخص فليس بيد غيره الآجال ، وإما المراد أن البعث الذي هو أجل ومدة لبقاء الإنسان في الدنيا حيا وميتا (عِنْدَهُ) فبيده قيام الساعة (ثُمَّ أَنْتُمْ) أيها البشر (تَمْتَرُونَ) أي تشكّون في الله سبحانه. إنه بيده الخلق والموت والبعث لا بيد غيره ، فكيف تشكون فيه وتتخذون غيره شريكا له؟!

[٤] (وَهُوَ اللهُ) لا إله غيره (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي أن الخالق والمتصرف في هذا الكون ليس إلا الله ، خلافا لمن كان يجعل للسماء إلها خاصا ، وللأرض إلها غيره. ومعنى «في» الظرفية المجازية ، وإلا فليس لله سبحانه مكان ، إذ المكان يوجب التحديد ، والتحديد يوجب التجزئة ، والتجزئة من صفات المصنوع لا الصانع (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) الخفي المكتوم ، أعم مما في الصدور ، أو من الأسرار (وَجَهْرَكُمْ) مقابل ذلك بالمعنيين (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي ما تعملون من الأعمال ، فإن العمل من كسب الإنسان. وفي هذه الآيات ردّ على

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ

____________________________________

الدهرية القائلين بقدم السماوات والأرض ، والثنوية القائلين بإلهين : نور وظلمة ، والمشركين الذين يجعلون له سبحانه شريكا ، والجهّال من الفلاسفة الذين يقولون بعدم عموم علمه أو قدرته ، ومن أشبههم من أصحاب العقائد الزائفة حول إله الكون.

[٥] ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين تقدم ذكرهم في أول السورة ، قال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) أي معجزة ودليل وبرهان وحجة (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) الدالة على وجوده وصدق رسالتك يا رسول الله (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لا يقبلونها ولا ينظرون إليها نظر منصف معتبر.

[٦] (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي الكفار (بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) من القرآن والرسول وسائر الآيات (فَسَوْفَ) في القيامة ، أو في الدنيا حين ظهور الرسول ووضوح صدقه بالسيطرة والغلبة ـ كما أخبر ـ (يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) أي أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من الحق. وفي الآية تهديد ، كما تقول للمجرم : «سوف تعلم إجرامك» تريد أنه يلاقي جزاءه ، إن كان المراد ب «سوف» القيامة.

[٧] ثم حذرهم سبحانه أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة حيث كذبوا وعصوا وعتوا عن أمر ربهم (أَلَمْ يَرَوْا) استفهام تذكيري توبيخي ، أي «ألم يعلموا» ـ فإن الرؤية تستعمل بمعنى العلم ـ (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من الأمم ، و «القرن» أهل كل عصر ، وسمّوا بذلك لأن

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

____________________________________

بعضهم يقترن ببعض ، ولذا اختلف في المدة المراد به ، لاختلاف الاعتبار (مَكَّنَّاهُمْ) أي تلك الأمم (فِي الْأَرْضِ) بأن جعلناهم ملوكا وقادة وساسة ذا عدد وعدد وإمكانيات (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) حيث كانوا هم أكثر تمكنا منكم. والظاهر أن الخطاب خاص بالكفار في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان السابقون أكثر تمكنا منهم. لا يقال : إن من المحتمل كون بعض الأمم السالفة أكثر تمكنا من جميع من يأتي إلى يوم القيامة حتى يكون الخطاب عاما؟ لأن الجواب ظاهر ، إذ قوله : «ألم يروا» ينافي ذلك فإن الناس لم يعلموا أخبار هكذا أمة ـ كما تقولون ـ بل ما رواه إنما هو أخبار الأمم التي كانت أقوى من الكفار في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) هو من «درّ إذا هطل» ، و «مدرار» صيغة مبالغة ، أي كثيرة الهطول ، حتّى عمّهم الخير والبركة والثروة. والمراد بالسماء : المطر ، بعلاقة الحال والمحل ، كما قال الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

(وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) أي مياهها بعلاقة الحال والمحل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي تحت قصورهم وأشجارهم ، أو باعتبار أن الماء تحت سطح الأرض التي يمشون عليها. وكل ذلك لم يفدهم في بقائهم وحسن ذكرهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) والمراد : هلاكهم بذهاب أثرهم وانقطاع نسلهم وعقبهم ، وفناء حضارتهم ، بسبب عصيانهم وكفرهم مقابل الأنبياء عليهم‌السلام والصالحين الذين بقوا إلى يوم الناس هذا ، وإن

وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٧) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٨) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٩)

____________________________________

صلاحهم وحسن أعمالهم سبب بقاء آثارهم وبقاء ذكرهم وبقاء مناهجهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي خلّفنا من بعدهم أمة أخرى وجماعة آخرين.

[٨] ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الكفار معاندون في كفرهم ، لا لأنهم لم يعملوا الحق (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) أي مكتوبا في ورق يشهد لك بصدقك (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي مسّوه بيدهم ، حتى يتيقنوا بأن ذلك ليس من الشعوذة وستر العيون (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) أي ما هذا الكتاب (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي سحر ظاهر ، فلا يصدقونك.

قالوا : نزلت هذه الآية في جماعة من الكفار قالوا : يا محمد لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله.

[٩] (وَقالُوا) أي قال هؤلاء الكفار (لَوْ لا) أي هلّا ، ولماذا ما (أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي على الرسول ، ملك نشاهده فنصدق به ، ثم رد الله عليهم مقالتهم بأنه (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) كما اقترحوه (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي انتهى أمدهم وأجلهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي يهلكون ويموتون ، وذلك لما جرت سنة الله أن لا تنزل الملائكة بالنسبة إلى المعاندين ، إلا وقت موتهم.

وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً

____________________________________

وهنا سؤال : إن هذا لا يكون جوابا للكفار ـ على هذا المعنى ـ إذ لهم أن يقولوا : فليغيّر الله سنته ، بأن ينزل الملك ويبقينا حتى نؤمن؟ وسؤال ثان : لماذا جرت سنة الله على ذلك ، أليس هداية الناس غاية الخلقة ، فما المانع من توفر أسباب الهداية بإنزال الملك؟

والجواب عن الأول : إن سنة الله جرت على الهلاك عقب مجيء الملائكة ، كما جرت سنته على الإحراق عقيب الإلقاء في النار ، وليس للكفار أن يشكلوا بهذا الإشكال ، إذ يقول النبي : ولماذا تريدون نزول الملائكة؟ أللعناد؟ فلا داعي إلى إجابتكم ، أم لأنه خارق والإتيان بالخارق موجب للتصديق؟ فقد أتيت بالخوارق ، أم لأنه خارق خاص؟ فالخارق الخاص لا يلزم إجابته لدى العقل والعقلاء ، وهذا كما إذا حمل الطبيب شهادة الكلية فيقول له المريض : ائتني بشهادة رئيس الحكومة ، إنه سؤال سخيف لدى العقلاء ..

والجواب عن الثاني : إنه سبحانه علم عنادهم وأنه لا يفيد معهم إنزال الملك ، كما بيّن ذلك في قوله (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) (١) ، وما كان يمنعهم أن يقولوا أن ما يشاهدونه من صورة الملك إنما هو سحر مبين!

[١٠] ثم بيّن سبحانه وجها آخر لعدم إجابة اقتراحهم (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مَلَكاً) منزلا من السماء (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي في صورة رجل ، فإن خلقة البشر غير مستعدة لرؤية الملك في صورته ، إلا إذا بدّلت صورته إلى صورة إنسان وواقع ملك ، وذلك لا يفيد اقتراحهم ، فإن الملك جرم لطيف لا تراه أعين البشر ، كما لا يرى

__________________

(١) الأنعام : ٨.

وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ

____________________________________

الإنسان الهواء (وَلَلَبَسْنا) من اللبس بمعنى الاشتباه (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المقترحين إنزال الملك (ما يَلْبِسُونَ) أي كما يلبسون اليوم على أنفسهم أمر النبي لأنه إنسان مثلهم ، فكان إنزال الملائكة في صورة بشر موجبا لأن نلبس نحن عليهم الأمر ـ مثل لبسهم هذا اليوم ـ وحاصل جواب الاقتراح :

أولا : أن الملك لا ينزل إلا لأمور خاصة ، كما نزل في قصة إبراهيم عليه‌السلام ولوط عليه‌السلام.

ثانيا : إن الملك إذا نزل ، نزل في صورة بشر ، فيبقى شكّهم على حاله.

[١١] ثم قال سبحانه على سبيل التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) استهزأت بهم أممهم وسخروا منهم ، فلست أنت بأول رسول يستهزأ بك ويقترح عليك اقتراحات عن عناد وسخرية (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي : فحلّ وأحاط بالساخرين بالرسل (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء سخريتهم ، أو المراد أن الأنبياء كانوا يتوعدونهم بالعذاب فكانوا يسخرون بوعيدهم ، فحاق بهم العذاب المستهزأ به.

[١٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها (ثُمَّ انْظُرُوا) إذا مررتم ببلدان الأنبياء ، وتفكروا (كَيْفَ

كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ

____________________________________

كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي الأمم التي كذبت أنبياءهم ، كيف أبيدت ولم تبق منهم باقية ، فإن ديار الأمم السابقة حوالي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر كانت باقية وآثار الخسف والهلاك على بعضها ، وأخبار الهلاك والتدمير كانت عند الناس مشهورة ، فإذا سافروا وسألوا علموا ذلك ، وكان ذلك سببا لردعهم عن تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستهزاء بالقرآن.

[١٣] ثم احتج سبحانه على المكذبين بحجة أخرى فقال : (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المكذبين : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إذ لا يتمكنون أن يجيبوا بأنها لهم ، ولا أنها لأصنامهم ، وإذ يتحيرون بالجواب (قُلْ) أنت : إنما هي كلها (لِلَّهِ) فلما ذا تتخذون إلها غيره؟ وإذ سبق التهديد والوعيد جاء هنا بالتبشير كي تلين القلوب القاسية بالتهديد مرة والتبشير أخرى (كَتَبَ) أي أوجب سبحانه (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) على الخلق واللطف بهم ، وإيجاب ذلك من مقتضيات الحكمة لكي تطلبوا أيها الناس رحمته الواسعة بالإطاعة والامتثال ، لأنه إله الكون وراحمهم في هذه النشأة و (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي جمعا ينتهي إلى ذلك اليوم ، فإن الناس يجتمعون تدريجا لا دفعة ، فكل إنسان يولد فولادته مقدمة للموت الذي ـ بدوره ـ يجمع الناس فردا فردا حتى ينتهي الجمع في يوم القيامة ، فبيده سبحانه المعاد أيضا (لا رَيْبَ فِيهِ) أي محل ريب ، وإن ارتاب المبطلون.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ

____________________________________

وإذا كان المبدأ والوسط والمعاد بيده تعالى ف (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أن غير المؤمنين يكونون قد خسروا أنفسهم حيث باعوها واشتروا عوضها العذاب ، بينما باع المؤمنون أنفسهم واشتروا بها الجنة والثواب.

[١٤] (وَلَهُ) أي الله سبحانه (ما سَكَنَ) وهدأ (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أو المراد ب «ما سكن» مطلق الأشياء الساكنة والمتحركة ، من قولهم : فلان يسكن بلد كذا ، أي يستقر فيه ، فلله كل ما استقر وحلّ في هذين الزمانين «الليل والنهار» ، أما على الثاني فوجه الكلام واضح ، وأما على الأول فلعل التخصيص بالساكن ـ مقابل المتحرك ـ لإلقاء الرهبة في النفس حيث أن الساكن يلقي ظلال الموت الرهيب ، ولذا يرى الإنسان نفسه تهدأ وتسكن إذا صار في محل ساكن لا حسّ فيه ولا حركة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد ولكل صوت (الْعَلِيمُ) بكل شيء.

[١٥] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَغَيْرَ اللهِ) أي هل غير الله سبحانه (أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي مالكا ومولى وربا؟! وهو المتصف بكونه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ومنشئهما ، إنه من السخافة أن يترك الإنسان الخالق ويتمسك بذيل المخلوق (وَهُوَ) أي الله سبحانه (يُطْعِمُ) فإن الأطعمة والأرزاق من عنده (وَلا يُطْعَمُ) أي لا يرزقه أحد ، فهل من المنطق أن يترك الإنسان الخالق الرازق ويتخذ

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ

____________________________________

المخلوق المرزوق وليا من دون الله ، الذي ليس بيده أي شيء؟ (قُلْ) يا رسول الله هؤلاء الكفار : (إِنِّي أُمِرْتُ) أمرني الله (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لله وصدّق بكلماته واتبع أوامره ، وكوني أول من أسلم لعلمي التّام بالخالق سبحانه ، كما قال : «إني أول من يجاهد» ، «وإني أول من يسافر» دلالة لامتلاء النفس بذلك الشيء (وَ) أمرني الله بأن (لا تَكُونَنَ) التأكيد للنفي (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يجعلون مع الله شريكا. والظاهر أن المراد بالشرك أعم ممن يجعل مع الله شريكا مع الاعتقاد به سبحانه ، أو بدون الاعتقاد به ، والمعنى : إني أمرت بالأمرين ، الإسلام ، وعدم الشرك.

[١٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بمخالفة أوامره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عذاب يوم القيامة ، وإنما قال «أخاف» مع أنه متيقن إما من جهة التعبير بالخوف حتى عن المتيقن ، كما يقول من حكم عليه بالإعدام : «إني أخاف الموت» أي أرهبه ، وإما لاحتمال النجاة لأن رحمته وسعت كل شيء ، فمعنى الخوف على هذا الاحتمال رجاء العفو والرحمة.

[١٧] (مَنْ يُصْرَفْ) العذاب (عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم العظيم (فَقَدْ رَحِمَهُ) إذ لا أحد ـ باستثناء المعصومين ـ إلا ويكون مستحقا للعذاب ، ولذا كان الصرف عنه بمقتضى الرحمة (وَذلِكَ) الصرف ، أو الرحمة

الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)

____________________________________

(الْفَوْزُ) والفلاح (الْمُبِينُ) الواضح الذي لا فوز مثله.

[١٨] ويستطرد السياق بذكر بعض صفاته سبحانه في مقابل المعاندين المنكرين (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) من «مسّ أي أمسك» بما هو ضرر من فقر أو مرض أو ما أشبههما (فَلا كاشِفَ لَهُ) أي دافع له (إِلَّا هُوَ) فلا أحد مؤثر في الكون ، وإنما العلل تؤثر في المعلولات بإذن الله سبحانه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) غنى أو صحة أو ما أشبههما (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إنه القادر المطلق على الخير والشر ، أما من سواه فقدرته من قدرته ، مع أنه ليس له إلا قدرة ناقصة لبعض الأشياء.

[١٩] (وَهُوَ) تعالى (الْقاهِرُ) أي الذي يقهر ويغلب (فَوْقَ عِبادِهِ) أي الجميع تحت تسخيره وسيطرته ، لا الفوقية المكانية ، فإنه أجل من الزمان والمكان (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أعماله ، فليس كونه قاهرا موجبا للخوف من ظلمه ، كسائر الجبابرة القاهرين (الْخَبِيرُ) بما يصدر من العباد ، فلا يأخذ أحدا بجرم أحد كما هو شأن القاهرين من البشر ، حيث يشتبهون كثيرا لجهلهم.

[٢٠] في بعض التفاسير : أن أهل مكة أتوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : أما وجد الله رسولا غيرك ، ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأرنا من يشهد

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى

____________________________________

أنك رسول الله كما تزعم (١) ، فنزلت هذه الآية : (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي أعظم من حيث الشهادة ، حتى آتيكم به دليلا على صدقي وصحة نبوتي ، إنهم يتحيرون في الجواب طبعا ، ويفكرون في الناس العظماء بنظرهم ليقولوا : «فلان» ، لكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع تحيرهم وتفكرهم بما علمه الله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي هو شاهد يشهد بصدق نبوتي. وقد مرّ سابقا أن شهادة الله هي إجراء الإعجاز على يده الكريمة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أنزله تعالى عليّ (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) أي لأخوفكم بهذا العقاب ، وأخوّف من كفر وعصى (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على «كم» أي أنذر به من بلغه هذا القرآن إلى يوم القيامة.

وروي عن الباقر والصادق عليه‌السلام : أن «من بلغ» معناه : من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (٢).

وعليه فهو عطف على الضمير المرفوع في «أنذر» أي أنذر أنا الرسول والأئمة ـ الذين هم مصداق «من بلغ» ـ الناس (أَإِنَّكُمْ) أي : هل إنكم أيها السامعون الكفار (لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى)؟ استفهام إنكاري ، أي : كيف تشهدون بذلك بعد وضوح أدلة التوحيد وقيام

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٢٢ وتفسير القمي : ج ١ ص ١٩٥.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٤١٦.

قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً

____________________________________

الحجة والبرهان على بطلان كل شريك؟ والمراد الشريك مطلقا ولو كان واحدا ، وذكر «آلهة» من باب المورد (قُلْ) أنت يا رسول الله ، إذا لم يعترف أولئك بالتوحيد : (لا أَشْهَدُ) أنا بمثل شهادتكم بالشريك ، وإنما أنا لا أعتقد إلا إلها واحدا (قُلْ) يا رسول الله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي من الأوثان التي تشركون بسببها ، وتدخلون أنفسكم في زمرة المشركين من أجلها.

[٢١] ثم ذكر سبحانه أن أهل الكتاب كسائر المشركين يعلمون الحق لكنهم يتجاهلونه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) يراد به جنس الكتاب الأعم من التوراة والإنجيل وغيرهما (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون الرسول (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فكما يعرف الشخص ابنه بحيث لا يمكن أن يشتبه بغيره ، كذلك لا يشتبه أهل الكتاب بمعرفة الرسول بوصفه ومزاياه الموجودة في كتبهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن باعوها بالكفر ، الذي عاقبته (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إن عدم الإيمان مترتب على الخسران ، فالخاسر لا يؤمن والرابح يؤمن.

[٢٢] (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي من يكون أكثر ظلما وتعديا عن الحق (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)؟! بأن جعل له شريكا وزعم أن الله أمره بذلك ، كأهل الكتاب وقسم من المشركين الذين كانوا يقولون : إن الله أمرنا باتخاذ

أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)

____________________________________

الأنداد والشركاء (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كما لو كذب بالقرآن أو بالرسول أو بالمعجزات ، فإنها كلها من آيات الله سبحانه ، لكن الكتاب آية صامتة ، والرسول آية ناطقة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إنهم لا يفوزون بخير الدنيا ، ولا سعادة الآخرة.

[٢٣] (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) وهو يوم القيامة الذي يجمع فيه هؤلاء المشركون وسائر المكذبين (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) وجعلوا لله شريكا (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي الشركاء لله الذين زعمتم أنهم كذلك. والإضافة إلى «كم» باعتبار أنهم اتخذوها ، كما تضاف إلى «الله» باعتبار أنه سبحانه المجعول في رديفهم فيقال «شركائي» (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء الله سبحانه؟ والاستفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.

[٢٤] (ثُمَ) بعد هذا السؤال منهم (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي معذرتهم ، فإن الفتنة على معان ، منها : المعذرة ، أو هو على سبيل المجاز ، أي : لم تكن نتيجة فتنتهم بالأصنام ، إلا التبرؤ منها ، كما يقال : «لم يكن درسهم وقضاؤهم إلا رشوة وخيانة» يراد أن عاقبتهما كانت الرشوة والخيانة (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فيحلفون بالله كذبا أنهم ما كانوا مشركين ، كما اعتادوا في الدنيا أن يحلفوا كذبا حينما يقعون في المشاكل.

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها

____________________________________

[٢٥] (انْظُرْ) يا رسول الله إلى حلف هؤلاء (كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بأنهم ما كانوا مشركين ، وهذا أمر يقصد به التعجّب والاستغراب (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، ويفترون الكذب على الله بقولهم : هذه شفعاؤنا عند الله ، فلم يجدوها ولم ينتفعوا بها وإنما الأمر لله وحده.

[٢٦] قيل : إن نفرا من مشركي مكة جلسوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقرأ القرآن ، فقال بعضهم لبعض : ما يقول محمد؟ قال : أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. فنزلت هذه الآية (وَمِنْهُمْ) أي من الكفار والمشركين (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي إلى كلامك يا رسول الله (وَ) لكن حيث أنهم أعرضوا عن الحجة بعد ما بيّنت لهم (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) هي جمع «كنان» وهي ما ستر شيئا ، فإن الإنسان إذا أعرض عن الحق غشيت على قلبه غشاوة ، إذ صار الإعراض له ملكة وعادة ، ونسبته إلى الله سبحانه باعتبار أنه سبحانه هو الذي جعل الإنسان هكذا ، فإنه علة كل شيء ، وإن كان السبب المباشر هو الشخص (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي حتى لا يفقهوه بمعنى لا يفهموه (وَ) جعلنا (فِي آذانِهِمْ وَقْراً) «الوقر» هو الثقل في الأذن ، فهم كمن لا يسمع ، حيث أنهم لا يستفيدون من سماعهم (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) ومعجزة خارقة على نبوتك وصدقك (لا يُؤْمِنُوا بِها) أي بتلك

حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)

____________________________________

الآيات ، إذ قد ران على قلوبهم ما كانوا يعملون (حَتَّى إِذا جاؤُكَ) لا يطلبون الحق بل (يُجادِلُونَكَ) ويناقشونك (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) «أساطير» جمع أسطورة ، بمعنى الخرافة ، من سطر إذا كتب ، يعني : ما في القرآن من القصص والأحكام وغيرها ليست إلا أخبار الأقوام السابقة وترّهاتهم.

[٢٧] (وَهُمْ) أي هؤلاء الكفار الذين سبق ذكرهم (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي عن النبي ، أو القرآن ، يعني : ينهون الناس عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو القرآن ، (وَيَنْأَوْنَ) من «نأى» بمعنى تباعد ، أي يتباعدون (عَنْهُ) أي عن الرسول أو القرآن ، فهم يجمعون بين رذيلتي الكفر والأمر بالمنكر (وَإِنْ) أي : وما (يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فإنهم لا يضرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يضرون أنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي لا يعلمون أنهم بذلك يهلكون أنفسهم.

[٢٨] (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله أحوالهم في الآخرة وكيف أنهم يندمون على ما فرّطوا في دار الدنيا (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي أشرفوا واطلعوا ووقفوا على حافتها لدخولها (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أي يرجعوننا إلى الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) دلائله وبراهينه (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله والرسول وما جاء به. وجملتا «لا نكذب» و «نكون» من مدخول التمني ،

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا

____________________________________

والتقدير : «يا ليت لنا انتفاء التكذيب ، والكون من المؤمنين».

[٢٩] (بَلْ بَدا لَهُمْ) أي ظهر لهؤلاء الكفار الحق جليا بحيث لا مجال لإخفائهم له (ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا حيث كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ولعل وجه الإضراب ب «بل» بيان أنه ليس الأمر على ما قالوه من أنهم : لو ردّوا إلى الدنيا لآمنوا ، فإن التمني الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان ، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي يعاينوه (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا كما تمنوا (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي لرجعوا إلى كفرهم وعصيانهم (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في أنهم لو ردّوا لعملوا صالحا كما في آية أخرى : (رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (١) ، ولا يخفى أن الإنسان إذا كان ذا طبع عنادي لا ينفك عن طبيعته حتى ولو رأى المشاهد العظيمة من عناده كما هو المشاهد المجرّب.

[٣٠] وقد كان هؤلاء الكفار ينكرون المعاد وهم في دار الدنيا (وَقالُوا إِنْ هِيَ) أي ما هي (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي الحياة القريبة التي نحن فيها وليس ورائها شيء (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت. و «البعث» هو الإرسال والإحياء.

[٣١] (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله أحوال هؤلاء الكفار يوم القيامة (إِذْ وُقِفُوا

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١٠٠ و ١٠١.

عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً

____________________________________

عَلى رَبِّهِمْ) أي في معرض خطابه وحسابه ، كالشخص الذي يقف عند الملك وهو مجرم ، فإنه في حال يأس واضطراب ممّا ينطق الملك في حقه من العقاب. ومن المعلوم أن الله لا يرى ، وليس بجسم ، ولا له مكان ، فالمعنى على سبيل المجاز (قالَ) ربهم لهم (أَلَيْسَ هذا) اليوم الذي كان يخبر به الأنبياء وكنتم تنكرونه (بِالْحَقِ) وهو استفهام توبيخ وتقريع (قالُوا) مقرّين مذعنين (بَلى) هو حق (وَرَبِّنا) وإنما حلفوا خوفا ، فإن الخائف يردف كلامه بالحلف استمالة لقلب المخوف منه وإظهارا بأنه يوافق كلام المتكلم (قالَ) الله سبحانه (فَذُوقُوا الْعَذابَ) والمراد ب «الذوق» ليس الذائقة اللسانية ، بل ذوق الجسد فإنه يطلق عليهما (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم ، وكان السؤال للإهانة والإذلال.

[٣٢] ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفار بقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) المراد (بِلِقاءِ اللهِ) جزاؤه وعقابه ، كما يقال : فلان لقي عمله ، أي جزاء عمله ، وإلا فليس لله مكان يرى (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) أي يوم القيامة (بَغْتَةً) أي فجأة من «بغت يبغت» بمعنى فاجأ ، وإنما ذكر ذلك لأنهم في دار الدنيا كانوا لا يحسبون حساب يوم القيامة حتى يستعدوا له. وهل المراد ب «الساعة» الموت ـ كما ورد : من مات قامت قيامته (١) ـ حتى يلائم ما بعده ، أم المراد القيامة ويكون المراد

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٨ ص ٧.

قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ

____________________________________

العذاب الشديد لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب القبر ، احتمالان.

(قالُوا) أي قال هؤلاء الكفار عند معاينة الأهوال والعذاب : (يا حَسْرَتَنا) الحسرة شدة الندم يعني : أيتها الحسرة احضري فهذا وقتك (عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) أي على ما تركنا وضيّعنا في الدنيا من أعمارنا ولم نقدم عملا صالحا ننتفع به في هذا اليوم (وَهُمْ) أي هؤلاء الكفار (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) «الوزر» الثقل ، وحيث إن للذنوب ثقلا تسمى أوزارا (عَلى ظُهُورِهِمْ) هذا من باب التشبيه ، فكما أن من يحمل ثقلا على ظهره يكون في تعب وحرج ، كذلك من يحمل ذنبا ، ومنه : «عليه دين» (أَلا) للتنبيه (ساءَ) أي بئس (ما يَزِرُونَ) أي ما يحملون من وزر ، بمعنى : إثم وحمل خطأ.

[٣٣] (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي ليست الحياة القريبة التي اغتر بها الكفار فعملوا لها وتركوا آخرتهم (إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) «اللهو» هو ما يلهي الإنسان عن الجدّ إلى الهزل ، فإن الدنيا ليست إلّا ألعابا وملهيات وإنما كانت كذلك لأنه لا حقيقة لأعمالها فهي فانية زائلة ، وإذا بالإنسان يرى نفسه ولم يحصّل شيئا. وغير خاف أن ذلك بالنسبة إلى الأعمال التي لا تعقب ثمرة صالحة ، وإلّا فالدنيا مزرعة الآخرة. ونعم متجر العقلاء (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) «اللّام» للتأكيد ، أي أن الدار الثانية التي هي الجنة ونعيمها (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) معاصي الله ، وقد جرد «خير» عن معنى التفضيل ، أو بملاحظة أن في الدنيا أيضا خيرا في الجملة ، ثم إنها خير

أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ

____________________________________

للمتقين ، أما غيرهم فالدنيا خير لهم. ولذا ورد : «إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (١) (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها البشر ، فإن من عقل وأدرك علم أن الباقي السرمدي الذي لا يشوبه حزن وهمّ خير من الفاني الممزوج بأنواع المصائب والرزايا.

[٣٤] ثم سلّى سبحانه نبيه على تكذيبهم إياه وعدم انصياعهم لأوامره وإرشاده بقوله : (قَدْ نَعْلَمُ) يا رسول الله ، و «قد» تستعمل في المضارع للتحقيق إلّا أن الغالب أنها فيه للتقليل (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) مما ينسبونه إليك من أنك شاعر وكاهن ومجنون ، وما أشبه ذلك من السباب والاستهزاء الذي كانوا يكيلونه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَإِنَّهُمْ) أي الكفار (لا يُكَذِّبُونَكَ) يا رسول الله في قرارة نفوسهم ، لعلمهم أنك صادق ، وهذا نوع من التسلية إذ الإنسان إذا علم أن عدوه يجلّه في قرارة نفسه ، كان ذلك سلوة له لما علمه من الاحترام الكامن.

قالوا التقى الأخنس بن شريف وأبو جهل بن هشام فقال الأخنس : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوة فما ذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٦ ص ١٧.

وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ

____________________________________

وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام معنى آخر للآية حاصله : «إنهم لا يكذبونك بحجة ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به من برهان» (١).

(وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) وهم الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ، وغيرهم بالمنع عن الإسلام (بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي ينكرون آيات الله ، كما قال سبحانه (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٢).

[٣٥] ثم ذكر سبحانه تسلية للنبي أنه ليس بأول رسول يكذّب ، بقوله : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ليس تنكير «الرسل» لأنه ليس هناك رسول يكذّب ، حتّى ينافي قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣) ، المفيد لتكذيب كل رسول ، وإنما الكلام حيث جرى مجرى التسلية كان يكفي ذلك الإلماع إلى أن هذا الجنس أيضا في معرض التكذيب والازدراء (فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا) أي على تكذيب الناس لهم (وَأُوذُوا) إما عطف على «كذبوا» أو على «كذبت» (حَتَّى أَتاهُمْ) أي جاءهم (نَصْرُنا) إياهم على المكذبين ، فاصبر أنت يا رسول الله حتّى يأتيك النّصر (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي لا أحد يقدر على تغيير ما أخبر الله به من نصر الرسل ، وإهلاك

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٨٦.

(٢) النمل : ١٥.

(٣) يس : ٣١.

وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)

____________________________________

أعدائهم (وَلَقَدْ جاءَكَ) يا رسول الله (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي بعض أخبار الرسل السّابقين كيف نصرناهم على أعدائهم.

[٣٦] ثمّ بيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفّار لا يؤمنون فلا تتعب نفسك لأجلهم ، ولا تحزن. وهنا نكتة بلاغيّة لا بأس ببيانها ، وهي أنّ الألفاظ والجمل وضعت للمعاني الخاصّة ، لكنّها كثيرا ما تستعمل لإنشاء مفهومها الموضوع له ، لكن يراد غير ذلك ، كما يستعمل الاستفهام والتعجّب بالنّسبة إليه سبحانه ، مع العلم أنه لا يجهل شيئا ، ولا يتعجب من شيء ، وإنما استعمال الاستفهام والتعجب بداعي التحريض أو الردع أو نحوهما ، وهكذا الخطاب الغليظ أو الرقيق لأحد ، قد يراد به المعنى الموضوع له ، وقد يراد به داع آخر يفرغ في مثل هذا القالب ، فإنك إذا أردت تنبيه أحد من جيرانك ، تغلظ لولدك في الخطاب مع أنك لا تريده بالذات ، فمثلا تقول : «لو أنك ألقيت النفاية بباب الدار لحبستك» فإنك لا تريده بل تنشئ هذا الكلام بداعي زجر الجار عن القيام بمثل هذا العمل ، بل قد يكون عمل يستفاد منه شيء ـ حسب المتعارف ـ يأتي به الإنسان لغرض آخر ، كما لو أردت تأديب ولدك لما اقترفه من عمل سيئ ، فإنك تعمل إلى خادمك وترفسه برجلك ـ في هدوء ـ قائلا : لماذا فعلت هذا الفعل ، وإنك لا تريده إطلاقا ، وإنما تريد إفهام ولدك أن هذا العمل له هذا الجزاء.

وعلى هذا الوجه جرى الكلام في هذه الآية الكريمة (وَإِنْ كانَ كَبُرَ) إنه سبحانه يريد بيان غلظة قلوب الكفار وعنادهم ، لكنه يصوغه في أسلوب خطاب للنبي ، بأنك توسلت بكل الوسائل من الصعود في السماء ، وجعل النفق في الأرض ـ مما يتوسل الناس بهما في مآربهم ـ

وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥)

____________________________________

فإن الكفار لا يؤمنون .. كما أن قصة موسى عليه‌السلام (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (١) ، من هذا القبيل أيضا.

(وَإِنْ كانَ) يا رسول الله (كَبُرَ) أي عظم واشتد (عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) أي إعراض هؤلاء الكفار عن الإسلام (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) أي قدرت (أَنْ تَبْتَغِيَ) أي تطلب وتتخذ (نَفَقاً) أي سربا (فِي الْأَرْضِ) تشبيه للمعقول بالمحسوس ، فكما أن من يريد فتح مدينة ، يتخذ الإنفاق من خارج المدينة إلى داخلها ثم يدخلها فجأة ليستولي عليها ، فكذلك إن تمكنت أن تصنع مثل ذلك للسيطرة على أرواح هؤلاء وقلوبهم (أَوْ) تبتغي وتطلب (سُلَّماً) أي مصعدا ومرقاة (فِي السَّماءِ) لتصعد عليه (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي حجة وبرهان ، غير ما أنزلنا عليك. وجواب «إن» محذوف ، أي «فافعل» حذف لدلالة الكلام عليه ، كما تقول : «إن تمكنت أن تتصدق» وتحذف قولك : «فافعل».

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ) أي الناس (عَلَى الْهُدى) بأن يلجئهم إلى قبول الإيمان ، لكنه لا يشاء ذلك لأنه حينئذ يبطل الامتحان والاختبار (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) فإنّ الجاهل هو الّذي يظنّ أنّ بالإمكان العادي اجتماع النّاس كلّهم على أمر ، أمّا العاقل المجرّب فيعلم أنّه ما من شيء إلا وفيه خلاف وخصام حتّى البديهيّات الأوليّة

__________________

(١) الأعراف : ١٥١.

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)

____________________________________

كنور الشّمس ، فإنّ السفسطائيين ينكرونه ، ولم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معرض الجهل حتّى يكون الكلام ردعا له ، وإنما صيغ الكلام لداعي تأنيب الكفّار حتّى أن قصد هدايتهم يكون من أعمال الجاهلين.

وهنا سؤال : كيف تقولون في الآيات النازلة بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل هذه المحامل ، ولا تقولون في ما أشبهها من الآيات في غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل ذلك؟

والجواب : القرينة الخارجية ـ وهي أن النبي معصوم ـ أوجبت ذلك ، كما أن القرينة الخارجية أوجبت حمل «الاستفهام» من الله تعالى على معنى آخر ، بينما الاستفهام من غيره سبحانه يحمل على معناه الحقيقي.

[٣٧] إن الذين يستجيبون لك يا رسول الله هم الأحياء الذين لم يمت الضمير في جوفهم ، والذين يكفرون فهم الأموات ، فكما أن الميت لا يسمع ولا ينتفع كذلك هؤلاء (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) أي يقبل الإيمان من كان حيا يسمع (وَالْمَوْتى) لا سماع لهم حتّى (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) في الآخرة فيسمعون ، إنهم لا علاج لهم ، يقول الشاعر :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

(ثُمَ) بعد البعث والحساب (إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي يرجعون إلى حكمه وقضائه ، وهذا لتأكيد أن الكفار أموات ، كقول الإمام

وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ

____________________________________

علي عليه‌السلام : «يا أشباه الرجال ولا رجال» (١) ، فإن «ولا رجال» لتأكيد الجملة الأولى.

[٣٨] (وَقالُوا) أي قال الكفار : (لَوْ لا) أي هلّا (نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) أي معجزة خارقة (مِنْ رَبِّهِ) فإنهم بعد ما عجزوا عن مقابلة القرآن قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنزل علينا مثل عصا موسى وناقة صالح وأشباههما حتى نؤمن بك ، فردهم سبحانه بقوله : (قُلْ) يا رسول الله : (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) كما تقترحون (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قدرة الله ، بل إنه ليس في إنزالها مصلحة ، فإنهم معاندون والمعاند لا تفيده ألف آية ، كما لم تفد مع فرعون عصا موسى عليه‌السلام ومع قوم صالح عليه‌السلام الناقة ، ولو لم يكن هؤلاء معاندون لكفاهم الكتاب الحكيم. ثمّ إن إتيان آية موسى عليه‌السلام أو ما أشبهها أبعد لقبولهم ، إذ القرآن الذي هو على لسانهم ينسبونه إلى السحر ، فكيف بالعصا التي ليست من مهنتهم؟!

[٣٩] وحيث أن جو هذه السورة حول التوحيد وشؤونه والآيات الكونية وردع الكفّار بمختلف أصنافهم عن عقائدهم الباطلة ، بيّن سبحانه بعض مخلوقاته الدالة على وجوده وصفاته الكمالية بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) من «دبّ يدبّ» إذا تحرك ، ثم عمّ كل حيوان ولو لم يتحرك ،

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ٢٧ ص ٩٢.

وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ

____________________________________

كما أنه يشمل حيوانات البر ، لمقابلته بالطائر ، وذكر «في الأرض» للتعميم ، (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) كما أن ذكر «يطير بجناحيه» للتعميم أيضا ، والسر أنه كثيرا ما يعبّر بمثل هذا التعبير ويراد به العموم مبالغة ، فإذا جاء القيد أفاد العموم الاستغراقي (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أيها البشر فإن كل نوع منهما أمة مستقلة وهي مثلكم في الإبداع ولطف الصنع ودقة التركيب (ما فَرَّطْنا) أي ما تركنا (فِي الْكِتابِ) أي كتاب الكون ، فإن الكون كتاب الله والموجودات كلماته ، وإنما سمّي الكون كتابا ، لأن الكتاب بمعنى الجمع ، من كتب بمعنى جمع ، وهذا الكون قد جمع الأشياء فهو كتاب الله التكويني (مِنْ شَيْءٍ) فهذا الكتاب قد اشتمل على جميع الأشياء ومختلف الأصناف ، فهل بعد ذلك يطلب أحد دليلا على وجود الله؟ (ثُمَ) هذه الأمم كلها بعد الممات (إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي يجمعهم يوم القيامة جميعا ، كما قال : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (١) ، فمنه سبحانه بدؤها وإليه عودها.

[٤٠] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا الدالة على وجودنا وسائر صفاتنا ، بعد هذه الدلائل الواضحة (صُمٌ) جمع «أصم» وهو الذي لا يسمع (وَبُكْمٌ) جمع «أبكم» وهو الذي لا يتكلم ، فهم كالذي لا يسمع ولا يتكلم حتّى يكتسب العلم ويدركه فإن العلم يأتي من الأذن ويخرج

__________________

(١) التكوير : ٦.

فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠)

____________________________________

من اللسان (فِي الظُّلُماتِ) فلا يبصر حتّى يرى الأشياء ، فإن الكافر مثل هذا الشخص لأنه قد عطّل جوارحه فلا يدرك شيئا كما لا يدرك الأعمى الأبكم الأصم شيئا (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) أي يتركه ولا يجبره على الهداية حتى يضل الطريق وذلك بعد ما بين له الحجة فلم يقبل بل أعرض عنها ـ وقد تقدم معنى ذلك ـ (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) باللطف الخفي به ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (١) ، (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢).

[٤١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَرَأَيْتَكُمْ) أي أخبروني ؛ فإن «أرأيت» بمعنى «أخبر» ، و «كم» للخطاب ، وهو يتغير حسب إفراد المخاطب وتثنيته وجمعه ، كقوله سبحانه : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (٣) ، (إِنْ أَتاكُمْ) أي جاءكم (عَذابُ اللهِ) بأن نزلت صاعقة أو خسفت بكم الأرض أو ما أشبههما ـ كما حدث في الأمم السابقة ـ (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة بأهوالها وعذابها (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) لكشف العذاب والأهوال عنكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن هذه الأصنام آلهة؟! وهم بفطرتهم يجيبون بالنفي ، وأنهم لا يدعون غير الله ، بل يدعون الله وحده ، وفي ذلك دلالة على بطلان الأصنام وعبادتها.

__________________

(١) محمد : ١٨.

(٢) العنكبوت : ٧٠.

(٣) الإسراء : ٦٣.

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣)

____________________________________

[٤٢] ولذا قال سبحانه (بَلْ إِيَّاهُ) أي الله سبحانه (تَدْعُونَ) وتقبلون عليه في شدائدكم (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي يرفع الضر الذي دعوتموه من أجله (إِنْ شاءَ) الكشف عنكم (وَتَنْسَوْنَ) في وقت الشدة (ما تُشْرِكُونَ) من دون الله.

[٤٣] ثم بيّن سبحانه أن الأمم الماضية لما أتتهم الرسل ولم يؤمنوا بهم أصابهم أنواع البلاء ، وأن حال هؤلاء كحال أولئك إن لم يؤمنوا (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلنا (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا رسول الله فلم يؤمنوا (فَأَخَذْناهُمْ) أي أخذنا تلك الأمم (بِالْبَأْساءِ) أي الفقر والبؤس (وَالضَّرَّاءِ) أي الأوجاع والأسقام (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي كي يتضرعوا إلى الله سبحانه ، فإن الإنسان إذا ابتلي بالبلاء كان أقرب إلى الله سبحانه ، وفي ذلك لطف بالنسبة إليه.

[٤٤] لكنهم لم يتضرعوا وحتى في هذه الحالة ركبوا العناد وسلكوا سبيل اللّجاج (فَلَوْ لا) أي هلّا ـ وهي كلمة توبيخ ـ (إِذْ جاءَهُمْ) أي جاء تلك الأمم (بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) وخضعوا لله (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) بسبب استمرارهم في الكفر والعصيان فلم تجد الهداية إلى قلوبهم سبيلا (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فرأوا أعمالهم

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ

____________________________________

حسنة ، ولذا لم يتركوها.

[٤٥] (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي تركوا ما ذكّرناهم من أوامرنا ولم يعملوا بما دعاهم الرسل إليه (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من النّعم حيث قد أقبلت الدنيا عليهم من جميع النواحي بعد تلك البأساء والضراء. وذلك لأجل احتمال إفادة التذكير بالنعم حتى يشكروا بارئها والمتفضل بها عليهم (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) أي بما أعطاهم الله من النعم واشتغلوا بالتلذذ ولم يقبلوا أمر الرسل ، بل صار ذلك سببا لزيادة طغيانهم وكفرهم (أَخَذْناهُمْ) بالهلاك والنكال (بَغْتَةً) أي فجأة (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) من «بلس» إذا تحسّر ، أي أنهم متحيّرون آيسون من النجاة.

[٤٦] (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) «الدابر» الأصل ، أي استؤصل وقطع أصل القوم بسبب العذاب (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي أهلك الكفار وأراح البلاد والعباد منهم.

[٤٧] ثم احتج الله على الكفار بحجة أخرى تدل على بطلان أصنامهم وأن الأمر لله وحده (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يشركون بالله سبحانه : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني ، فقد تقدم أن «أرأيت» بمعنى أخبرني (إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أي أذهب بها فصرتم صمّ وعمي

وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ

____________________________________

(وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي سلب عقولكم حتى صرتم لا تعقلون ، أو المراد الطبع عليها حتى تبتعد عن الخير (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي بذلك الشيء المأخوذ منكم ، فإنهم يعترفون بأن الأصنام لا تتمكن من إعادة الأشياء المذكورة (انْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نبيّن لهم في القرآن الآيات الدالة على التوحيد ، و «تصريف الآيات» توجيهها ، من «صرف» إذا أرسل (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) من «صدف» بمعنى أعرض ، أي يعرضون عن الحق وعن القائل في الآيات.

[٤٨] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَرَأَيْتَكُمْ) أي أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) بعد ما أنذرتكم ولم تؤمنوا (بَغْتَةً) أو مفاجأة خفية ، فإن الفجأة تلازم الخفية (أَوْ جَهْرَةً) علانية بلا فجأة (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) الكافرون الذين ظلموا أنفسهم ، والعاصون ، والمراد بالهلاك ما يسبب خسارة الدارين ، أما المؤمن لو هلك ، فإنه لا يخسر إلّا الدنيا ، ويعوّض عنها بأنواع الإنعام ، وفي هذا الاستفهام إيقاظ وتنبيه وردع لهم من الظلم ، فأي أحد يجب أن يهلك إذا أتى العذاب.

[٤٩] (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بالجنة والثّواب لمن آمن وأصلح

وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)

____________________________________

(وَمُنْذِرِينَ) بالنار والعقاب لمن كفر أو عصى (فَمَنْ آمَنَ) بما أمر الله الإيمان به (وَأَصْلَحَ) أعماله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما في الدنيا فلأن الخوف والحزن الحقيقيين ما كانا مع الانقطاع عن العوض والثواب وما أشبهها ، وليس المؤمن كذلك فإنه يعلم أن ما يصيبه يعقبه الثواب والأجر. ولذا قال الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عاشوراء : «هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله» (١) ، والارتباط بين هذه الآية والآية السابقة واضح فإن العذاب لما وعد به الكفار بيّن أن الرسل شأنهم التبشير والإنذار.

[٥٠] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) أي يصيبهم العذاب (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله سبحانه. ثم لا يخفى أن الغالب تفسير الآيات الدالة على العذاب بعذاب الآخرة ، مع أن الإطلاق خلاف ذلك ، فإن من أعرض عن ذكره سبحانه يصيبه العذاب في الدنيا وفي الآخرة ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (٢) ، وسببه واضح فإن المناهج التي يتبعها الإنسان مما وضعها غير الله سبحانه لا بد وأن تكون منحرفة ، وهذا الانحراف يسبب الفوضى والاستبداد وما أشبه ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٥ ص ٤٥.

(٢) طه : ١٢٥.

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ

____________________________________

مما يؤذي الإنسان وينغّص عيشه.

[٥١] إن الكفار كانوا يستعظمون كيف يمكن أن يكون الإنسان رسولا بدون أن يكون له مال عريض أو علم غيب ذاتي يعينه في أموره وحوائجه ، ويردّ الله سبحانه عليهم ذلك ، بأن الرسالة لا ترتبط بهذه الأمور ، وإنما هي هداية ونور (قُلْ) يا رسول الله : (لا أَقُولُ لَكُمْ) أيها الناس (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) التي يهب منها لمن يشاء ما يشاء. ومن المعلوم أنه ليس لله سبحانه خزائن بالمعنى المتعارف لدينا ، بل خزائنه الأرض والشمس والمعادن وما أشبه ، مما تفيض ثروة ومالا. وفي الحديث القدسي : «إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون» (١).

والمراد ب «عدم القول» عدم الوجود ، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع (وَلا) أقول (أَعْلَمُ الْغَيْبَ) كما يعلم الله سبحانه ، بل إنما أعلم بما يوحي إليّ بإذن الله سبحانه ، كما قال عيسى عليه‌السلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (٢) ، وفي الآية الكريمة : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٣) ، (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) كما أنكم تتوقعون أن يكون الرسول ملكا (إِنْ أَتَّبِعُ) أي ليس لي شأن إلّا أن أتبع ، و «إن» بمعنى «ما» (إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) من الأوامر والنواهي لأجل الإرشاد والإصلاح (قُلْ) يا رسول الله لهم : إن مثل المؤمن والكافر كمثل البصير الذي يبصر الأشياء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٣٥.

(٢) آل عمران : ٥٠.

(٣) الجن : ٢٧ و ٢٨.

هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ

____________________________________

والأعمى الذي لا يبصر (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ)؟ كلّا ، إن كل أحد يعلم بأنهما ليسا متساويين. ولعل تقديم الأعمى لأن الخطاب كان مع الكفار الذين هم بمنزلة الأعمى (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في الأمر وأن مقام الرسالة لا يرتبط بما ذكرتم من الأشياء.

[٥٢] (وَأَنْذِرْ) يا رسول الله (بِهِ) أي بالقرآن ، فإنه قد تقدّم ذكره بلفظ «ما يوحى إليّ» (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) والخوف هنا ليس بمعنى الاحتمال ، كقولك : «أخاف أن يهدم البناء» ، بل بمعنى الخوف القطعي ، فهو كقولك : «أخاف من الجلاد» وهو يريد القتل. والمراد ب «الذين يخافون» المعترفون بالبعث ، وإنما قد أنذر هؤلاء مع أن الإنذار عام ، لأن هؤلاء هم المنتفعون بالإنذار ، أما من أعرض فلا ينتفع به (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله تعالى (وَلِيٌ) يلي أمورهم هناك (وَلا شَفِيعٌ) وليس المراد أن الله يشفع إذ لا معنى لشفاعته ، بل المراد أن الشفاعة بيده ، فلا يشفع أحد إلّا بإذنه ، كما قال سبحانه : (لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) ، (لَعَلَّهُمْ) أي هؤلاء الذين أنذرتهم (يَتَّقُونَ) معاصي الله ، ويأتمرون بأوامره.

[٥٣] إن من يخاف الحساب ، أنذره يا رسول الله ولا تطرده من عندك وإن طلب الأشراف ذلك (وَلا تَطْرُدِ) من مجلسك (الَّذِينَ يَدْعُونَ

__________________

(١) الأنبياء : ٢٩.

رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ

____________________________________

رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ) أي صباحا (وَالْعَشِيِ) طرف العصر (يُرِيدُونَ) بالدعاء والضراعة (وَجْهَهُ) أي ذاته سبحانه خالصا مخلصا. وقد ورد أنه مرّ ملأ من قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وسلمان وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعا لهم؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم تبعناك. فنزلت الآية.

وفي بعض التفاسير أنه طعن أولئك الأشراف في سيرة هؤلاء الفقراء وأعمالهم ، كي يدفعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإبعادهم عنه ، فرد عليهم سبحانه بقوله : (ما عَلَيْكَ) أي ليس عليك (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فأنت لا تتحمل تبعة سيرتهم (وَما مِنْ حِسابِكَ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فإنهم لا يطالبون بحسابك ، بل كلّ وعمله ، فسيرتهم لو كانت كما يقولون لا تضرك (فَتَطْرُدَهُمْ) فإن الشخص إنما يطرد من تضره سيرته ، أما من كان قلبه عامرا بالإيمان وصلاته دائمة طرفي النهار فإن فقره وسيرته لا يوجبان طرده ـ لو فرض أن في سيرته ميل ـ (فَتَكُونَ) بسبب طردهم (مِنَ الظَّالِمِينَ) لهم ، أو لنفسك ، فإن الإنسان إذا ظلم غيره فقد ظلم نفسه أيضا ، وسيقت هذه الجملة مبالغة في ردع من طلب طرد أولئك.

[٥٤] (وَكَذلِكَ) أي هكذا (فَتَنَّا) أي ابتلينا (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) حيث ابتلينا

لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ

____________________________________

الأشراف والفقراء (لِيَقُولُوا) أولئك الأشراف : (أَهؤُلاءِ) أي هل هؤلاء الفقراء (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) حتى عمّهم النبي بلطفه ، وجعلهم ندماءه وموضع سره؟ نعم ، ليس الإسلام ينظر للناس كما ينظر أهل الدنيا (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أنهم شاكرون ، والشاكر أفضل من غيره عند الإسلام ، وإن كان غيره في نظر الناس شريفا ، فإن الميزان عند الإسلام التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١).

[٥٥] والإسلام لا يسد الأبواب على العاصي ، وإنما يفتح له باب التوبة.

وقد ورد أن جماعة جاءوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما ، فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا ، فنزل قوله تعالى (وَإِذا جاءَكَ) يا رسول الله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) أي بدلائلنا وبراهيننا (فَقُلْ) لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي أنتم في سلام لا في عذاب وعقاب ، يقبل عذركم ويغفر ذنبكم (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أنه فرض على نفسه ـ حسب حكمته ـ أن يرحم العباد ويشملهم بلطفه وإحسانه (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) والمراد بالجهالة هنا ليس الجهل مقابل العلم ، بل عدم المبالاة ، وإنما سمي بذلك لأن العالم التارك

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً

____________________________________

لعلمه هو والجاهل سواء ، وكأنه للجهل بالنتائج والعواقب المرتبة على العمل ، وإلا فالآية تشمل العمل ، بل هو موردها.

(ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد العمل (وَأَصْلَحَ) أي عمل صالحا (فَأَنَّهُ) أي الله سبحانه (غَفُورٌ) لذنبه (رَحِيمٌ) به. وكان الإتيان ب «رحيم» بعد «غفور» غالبا ، لإفادة الفضل في لطفه وإحسانه.

[٥٦] (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي كما سبق نفصل الأدلة والبراهين الدالة على التوحيد وسائر شؤون المبدأ والمعاد ، ونشرحها ونبيّنها ، حتى يتضح سبيل المهتدين (وَلِتَسْتَبِينَ) أي تظهر (سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) المعاندين ، فإن في بيان الحق وضوح الأمرين ؛ سبيل المحق وسبيل المبطل. ولفظة «سبيل» مما يجوز التذكير والتأنيث ، ولذا قال : «تستبين» بالتأنيث.

[٥٧] ثم أمر سبحانه رسوله بالبراءة مما يعبد المشركون بقوله : (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها ، والمراد ب «من دون الله» ما خلا عبادة الله ، فإن النهي أعم من عبادة الأصنام وحدها أو بالاشتراك مع عبادة الله ، فإن عبادة الأصنام إنما أتت من هوى النفس لا من دليل عقلي أو منطقي (قُلْ) يا رسول الله لهم : (لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) في عبادة الأصنام (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) إذا فعلت أنا ذلك

وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ

____________________________________

(وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) لو عبدت الأصنام.

[٥٨] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ) أي أمر واضح بيّن لا غموض فيه (مِنْ رَبِّي) أي أن تلك البينّة أتتني من جانب الله سبحانه ، لا مثلكم أتبع هوى النفس (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بما أنا عليه من الدليل والبيّنة ، وقد كان الكفّار يطلبون من الرسول ـ استهزاء ـ أن ينزل عليهم العذاب الذي يعدهم ، كما قال سبحانه : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) (١) ، فرد عليهم بقوله : (ما عِنْدِي) أي ليس باختياري وأمري (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي الذي تطلبون سرعته (إِنِ الْحُكْمُ) أي ليس الحكم في باب العذاب (إِلَّا لِلَّهِ) فهو وحده (يَقُصُّ الْحَقَ) أي يبيّنه (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) الذي يفصّل الأمور ، فإذا اقتضت المصلحة أتاكم بالعذاب ويفصل الأمر وتنتهي المشكلة ، ومن المعلوم أن إنزال العذاب له مقاييس خاصة ، وأوقات محددة ، فليس كل من طلب العذاب يجاب فورا وإن كان من أكثر الناس إجراما.

[٥٩] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يطلبون سرعة العذاب (لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي بأمري وإرادتي (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من إنزال العذاب

__________________

(١) الحج : ٤٨.

لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ

____________________________________

بكم (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) إذ أهلككم فأستريح منكم ، لكن ذلك بإذن الله ومشيئته (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) وبمقتضى عمله يقدم العذاب تارة ويؤخره أخرى.

[٦٠] وحيث ذكر علمه سبحانه بالظالمين يأتي السياق ليذكر الكافرين بعلمه سبحانه وقدرته وأعماله ، في أنفسهم وفي الآفاق ، إنها أقوى الأدلة على وجوده وسائر صفاته الكلامية ، وهل من حاجة بعدها إلى الخوارق التي كانوا يقترحونها لإثبات كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَعِنْدَهُ) أي عند الله سبحانه (مَفاتِحُ) جمع «مفتح» بمعنى المفتاح (الْغَيْبِ) أي ما غاب عن الحواس والمشاعر ، فكأن الغيب قد سدّت أبوابه وأقفلت فلا يتمكن الإنسان أن يرى ما ورائها ، وليس بيد أحد مفاتيح تلك الأبواب ليفتحها ويرى الغيب ، وإنما هي بيد الله سبحانه وحده ، فهو الذي يعلم الغيب كله ويتمكن أن يفتح تلك الأبواب لمن أراد من خلقه ، كما قال : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١) ، (لا يَعْلَمُها) أي لا يدري ما هي تلك المفاتيح (إِلَّا هُوَ) أي إلّا الله سبحانه ، وحيث أن كشف الغيب يحتاج إلى العلم بالكشف والقدرة على الكشف ، وكان المقام مقام بيان عمله سبحانه ، قال سبحانه «لا يعلمها» فلا يقال أن الأنسب أن يقول : «لا يقدر عليها» لا أن يقول «لا يعلمها». فالأرزاق والآجال وما أشبههما ، التي تأتي في المستقبل ، لا يعلمها إلّا الله سبحانه (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ

__________________

(١) الجن : ٢٧ و ٢٨.

وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ

____________________________________

وَالْبَحْرِ) المراد بالبر : الأعم من المدن ، والبحر : الأعم من الأنهار ، بقرينة المقابلة (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أوراق الأشجار (إِلَّا يَعْلَمُها) ، (وَلا) من (حَبَّةٍ) كامنة (فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) أي جوفها ، أو لا تسقط حبة في باطن الأرض مما تزرع أو غيره. وقد كان التقابل بين «ما تسقط من ورقة» وبين «ولا حبة» لطيفا جدا ، حيث أن الأول حركة الحياة إلى الموت ، والسقوط الثاني حركة الموت إلى الحياة والارتفاع (وَلا) من (رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) من جميع الأشياء والأصناف. وهذا وإن كان أخص من الموجودات ، لأن من الأشياء ما لا يتصف برطوبة لا يبوسة كالعقل ، إلّا أن العموم يشمله الفحوى ، وكثيرا ما يقال اللفظ الأخص ويراد الأعم حيث أن الأخص صار مثلا ، كقوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (١) ، فإن الأكثر داخل بالفحوى (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن جميع الأشياء محفوظة عند الله سبحانه في كتاب واضح جليّ ، وهو اللّوح المحفوظ ، أو المراد بالكتاب علمه الشامل. ولعلّ التعبير بالكتاب لأجل بيان أنه محفوظ لا يزول ، كما أن الكتاب كذلك.

[٦١] (وَهُوَ) سبحانه كما يعلم الأشياء كذلك تجري الأشياء بقدرته وإرادته ، فأنتم أيها البشر في قبضته وطوع أمره ، فإنه (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أيها البشر (بِاللَّيْلِ) أي يقبض أرواحكم عن التصرف ، و «التوفي» أخذ

__________________

(١) التوبة : ٨٠.

وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ

____________________________________

الشيء كاملا ومنه الوفاة ، فإن الإنسان إذا نام أخذ الله روحه المتصرفة التي تبصر وتسمع وتذوق وتلمس وتشم ، وهذه الآية كقوله سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (١) ، وإنما الفرق أن الموت توف بمعنى أتم من التوفي ، بمعنى النوم (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي ما كسبتم وفعلتم ، أي عملتم بجوارحكم (بِالنَّهارِ) وهذا التفصيل خارج مجرى الغالب ، وإلا فهو يتوفى بالنهار لمن نام فيه ، ويعلم ما جرح الإنسان بالليل لمن عمل فيه (ثُمَ) بعد توفيكم بالليل (يَبْعَثُكُمْ) أي يوقظكم وينبهكم من نومكم (فِيهِ) أي في النهار (لِيُقْضى) أي لينهى (أَجَلٌ مُسَمًّى) أي أمدكم الذي سماه سبحانه في اللوح المحفوظ ، يعني أنه إنما يوقظكم في النهار حتّى لا يموت الإنسان قبل وقته (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بعد تمام المدة وانتهاء الأمد ، ترجعون إليه سبحانه في الآخرة ، والمراد : إلى حسابه ، وإلا فليس له سبحانه محلّ ، فإنه منزّه عن الزمان والمكان (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم ـ بعد رجوعكم إليه ـ (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ليعطي كلّ ذي جزاء جزائه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

[٦٢] (وَهُوَ) سبحانه (الْقاهِرُ) أي القادر الذي يقهر ويجبر كما يشاء (فَوْقَ عِبادِهِ) أي مستعل عليهم ، فإن من يتصرف في الإنسان يكون

__________________

(١) الزمر : ٤٣.

وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)

____________________________________

فوقه رتبة ، وليس المراد الفوقية الحقيقية ، فإنه منزه عن المكان (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) جمع حافظ ، وهم الملائكة الذين يبعثهم الله تعالى لحفظ الإنسان عن العطب ، وحفظ أعماله في دفاتر سجلات ليجزي كلّا حسب ما عمل (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وصار وقت أن يموت تركه الحافظ له وأسلمه إلى حتفه (تَوَفَّتْهُ) أي قبضت روحه كاملة (رُسُلُنا) أي الملائكة المرسلة لأجل هذه الغاية (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) بأن يقدموا أخذ الروح أو يؤخروها ، أو يشددوا في النزع أو يخفّفوا ، بل يفعلون ما يؤمرون ، وإنما أتي بلفظ «رسلنا» جمعا ، لأن لملك الموت أعوانا ، كما ثبت من السنة ، ولعل في قوله : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (١) ، دلالة عليه.

[٦٣] (ثُمَ) بعد ما أخذت الملائكة أرواحهم (رُدُّوا) أي رجعت أرواحهم (إِلَى اللهِ) أي في المكان المهيأ لهم من قبله سبحانه (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي سيدهم بالحقيقة ، لا مثل سيادة الأصنام عليهم (أَلا) فلينتبه الناس أن الله (لَهُ) وحده (الْحُكْمُ) في جميع الأمور الكونية ، حتى قبض أرواحهم ومحاسبتهم هناك (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) وحسابه سريع لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه حساب المحاسبين من الوقت ونحوه ، فليس هناك بطء في الحساب حتّى يكون للمحاسب مجال

__________________

(١) النساء : ٩٨.

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى

____________________________________

واسع لكي يتمّ حسابه.

[٦٤] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفّار ، دلالة على قدرته سبحانه الكاملة : (مَنْ يُنَجِّيكُمْ) ويخلصكم (مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي من شدائدهما وأهوالهما ، فإنّهم يقولون لليوم الشّديد : «يوم مظلم» تشبيها ، فكما أنّ الإنسان لا يهتدي طريقه في الليل والظلمة ، كذلك لا يهتدي طريقه في الشّدائد (تَدْعُونَهُ) أي تدعون الله تعالى إذا وقعتم في الشّدّة والظلمة (تَضَرُّعاً) ضراعة واستكانة بلسانكم (وَخُفْيَةً) وسرا في نفوسكم ، فتتوافق الظواهر والبواطن في الضراعة والمسألة لكي ينجيهم الله سبحانه ، قائلين : (لَئِنْ أَنْجانا) ربنا (مِنْ هذِهِ) الشّدّة والكارثة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الذين يشكرون نعمائه عليهم معترفين به وبفضله وإحسانه.

[٦٥] (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء : (اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها) أي من هذه الشدّة (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) أي يخلّصكم من كلّ غمّ وهمّ (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) به غيره ، وترجعون إلى شرككم وعصيانكم ، كما قال سبحانه : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (١).

[٦٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : الله (هُوَ الْقادِرُ عَلى

__________________

(١) العنكبوت : ٦٦.

أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦)

____________________________________

أَنْ يَبْعَثَ) أي يرسل (عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كالصواعق (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالخسف (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) من «لبس عليه الأمر» إذا خلط بعضه ببعض أي يخلطكم (شِيَعاً) جمع «شيعة» أي فرقا ، مختلفي الأهواء لا تكونون أمة واحدة ، بل أحزابا وأهواء (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) فهم في عداء مستمر وحروب دائمة ، وإنما ينسب ذلك إليه سبحانه ، لأنه يكلهم إلى أمرهم بعد أن أعرضوا عن طريقه ، وتركوا منهاجه (انْظُرْ) يا رسول الله. والمراد بالنظر التأمل والتفكر (كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) نردّد الدلائل على التوحيد ونكررها مرة بعد مرة (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) أي يفهموا الحق ، ويذعنوا للخالق ويتجنبوا الكفر والباطل.

[٦٧] (وَكَذَّبَ بِهِ) أي بما نصرّف من الآيات (قَوْمُكَ) يا رسول الله ، والمراد بهم إما قريش ، وإما العرب ، وإما الناس المبعوث إليهم بصورة عامة ، والمراد بالتكذيب : تكذيب أغلبهم لا جميعهم ، لوضوح إيمان بعض من كلّ من الطوائف الثلاث به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نزول الآية (وَهُوَ الْحَقُ) أي ما نصرفه من الآيات حق لا مرية فيه (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي موكل إليّ أمركم حتى يضرني تكذيبكم ، بل أنا مبلّغ ، وقد بلغت ما أمرت بتبليغه.

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ

____________________________________

[٦٨] ثم بيّن سبحانه أن ما أخبر به الرسول من وعيد المكذبين بشر الدنيا والآخرة لا بد وأن يظهر ، وهناك يعلم المكذبون أنهم خسروا ، وأن تكذيبهم عاد بالوبال عليهم (لِكُلِّ نَبَإٍ) أي لكل خبر (مُسْتَقَرٌّ) أي محل استقرار يظهر هناك صدقه ، فما كان في الدنيا يظهر أثره في الدنيا وما كان في الآخرة يظهر أثره في الآخرة (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيها المكذبون عاقبة أمركم.

[٦٩] إن أول حركة لا بد وأن يختلط المؤمنون بها والمناوئون لها ، ولا بد وأن يكون ضعاف النفوس من المؤمنين يكتسبون من المعاندين بعض الأفكار المعادية ، ولا أقل من أن يجبنوا عن الاستمرار والتظاهر ، ولذا فمن اللازم أن يجنّب القادة أتباعهم عن الاختلاط خصوصا حالة التهجم من المعاندين (وَإِذا رَأَيْتَ) يا رسول الله (الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) خوض المناقشة والاستهزاء ، والخطاب وإن كان موجها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أنه عام لجميع المسلمين (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فاتركهم ولا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي غير ما خاضوا فيه أولا ، بأن يتكلموا في سائر المواضيع فلا بأس حينئذ من مجالستهم والتكلم معهم (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) بأن نسي المسلم وجلس مع الخائضين في آيات الله ، والجملة شرطية ، أي : وإن أنساك ، و «ما» زائدة ، ومن المعلوم أن الشرط لا ينافي العصمة ، فإن الجملة الشرطية تأتي حتّى مع استحالة طرفيها نحو : إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ

فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

____________________________________

وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) ، (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) أي بعد التذكر ، لكون مجالستهم محرمة منهي عنها (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين يخوضون في الآيات.

[٧٠] (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي هل على المؤمنين المتقين (مِنْ حِسابِهِمْ) أي حساب الكفار الخائضين في آيات الله (مِنْ شَيْءٍ)؟ فإنهم ليسوا بمسؤولين عن خوضهم في الآيات (وَلكِنْ) قيامهم عن المجالس إذا خاضوا (ذِكْرى) أي تذكير للخائضين بأنهم يعملون عملا سيّئا ، وإنما قال «ذكرى» لأن الخائض يعلم سوء فعله في قرارة نفسه ، لكنه يغفل غالبا حين الخوض ، فأمر المسلم أن يقوم من مجلسه ليتذكر (لَعَلَّهُمْ) أي لكي ينتهي الخائضون و (يَتَّقُونَ) ويتورعون عن الخوض.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : لما نزلت (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال المسلمون : كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم فلا ندخل المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام؟ فأنزل الله سبحانه : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أمرهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا (٢).

__________________

(١) الزخرف : ٨٢.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٢ ص ٣١٢.

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ

____________________________________

[٧١] (وَذَرِ) أي اترك يا رسول الله (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) المراد من «دينهم» : الذي يتدينون به من عبادة الأصنام ، والمسيحية واليهودية وما أشبه ، والمراد باتخاذه لعبا ولهوا : أنهم كالأطفال الذين يتخذون آلة للعب واللهو فلا علاقة لهم بها إلا علاقة التلاعب ، لا أنه دين وصل إلى أعماق قلوبهم وأخذ يوجه حياتهم ، وأما دينهم الذي يجب أن يتدينوا به ـ أي الإسلام ـ ونسبته إليهم لأجل وجوب اتخاذه دينا ، واتخاذه لعبا ولهوا استهزاؤهم به كأنه لعب ولهو (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) زاعمين أنه ليس ورائها شيء ، وشغلتهم الدنيا عن الدين (وَذَكِّرْ) يا رسول الله هؤلاء الكفار (بِهِ) أي بالدين (أَنْ تُبْسَلَ) من «بسل» بمعنى استسلم ، أي لكي لا تسلم (نَفْسٌ) للهلكة (بِما كَسَبَتْ) أي بسبب عملها ، فإنك إن ذكّرت لعلها تعود إلى الرشد وتنقذ من الهلكة حيث (لَيْسَ لَها) أي للنفس (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله (وَلِيٌ) ناصر ينصرها (وَلا شَفِيعٌ) يشفع لها ، فإن الشفاعة بيد الله وحده (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) أي تفدي بكل ما يمكن جعله فدية ، لتنقذ نفسها من العذاب (لا يُؤْخَذْ مِنْها) إذ ليس الميزان هناك إلا العمل وحده (أُولئِكَ) الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا هم (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) أي أهلكوا «ب» سبب «ما كسبوا» من الأعمال والعقائد الباطلة (لَهُمْ شَرابٌ

مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا

____________________________________

مِنْ حَمِيمٍ) أي : الماء الذي يشربون إنما هو من حميم جهنم ، وهو الماء المغلي الحار (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم.

[٧٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا) أي هل ندعو الأصنام التي لا تنفعنا إن عبدناها (وَلا يَضُرُّنا) إن تركنا عبادتها (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) أي نرجع القهقرى ، فإن من أتى إلى مكان ثم رجع إلى محله الأول كان خاسرا ، و «الأعقاب» جمع «عقب» (بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) إلى دينه وصراطه (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ) أي استغوته (الشَّياطِينُ) أي الغيلان (فِي الْأَرْضِ) أي البيداء ، بأن أخرجته الشياطين من الجادة إلى المهلكة (حَيْرانَ) لا يدري أيتبع أصحابه أم يتبع الشياطين (لَهُ) أي لهذا الذي استهوته الشياطين (أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) إلى الجادة ، وأن لا يتبع الشياطين ، قائلين له : (ائْتِنا) أي جئنا وكن معنا. فإن قسما من الغول ـ وهم سحرة الجن ـ يكونون في الصحراء ، يؤذون بعض المارة ، فإذا رأى الشخص جماعة منهم يستهوونه قائلين له : من هنا الجادة ـ ويدلّونه إلى المفاوز المهلكة ـ فهو يتحير بين أن يسير مع هذه الجماعة التي تصبغ نفسها بصبغة أدلاء الطريق وأنها من أهل البادية تعرف الطريق الموصل من

قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ

____________________________________

غيره ، أم يسير مع رفاقه الذين خرج معهم ، حيث أنهم رفاقه ، لكنهم ـ بزعمه ـ يمشون على غير الطريق ويصيبهم العطب أخيرا. وهناك قسم من الناس ينكرون الجن والغول والشيطان ، لكنه من ضيق الأفق ، فإن العلمين القديم والحديث أيّدا الدين والقصص المؤكدة لوجود ذلك (١).

(قُلْ) يا رسول الله : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) الذي ينبغي للإنسان أن يتبعه ويترك غيره (وَأُمِرْنا) أي أمرنا الله وأرشدنا العقل (لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في جميع شؤوننا.

[٧٣] (وَ) أمرنا (أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي بإقامة الصلاة ، فإن حذف حرف الجر ، مع أن «وأن» مطرد شائع ، كما قال ابن مالك :

والخوف مع أن وإن يطرد

مع أمن لبس كعجبت أن يدو

(وَاتَّقُوهُ) أي احذروا عقاب الله تعالى (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون يوم القيامة ليحاسبكم على ما عملتم من خير وشر.

[٧٤] (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) والمراد بالسماوات : إما الأجرام هناك ، أو المدارات للكواكب (بِالْحَقِ) أي ليس بالباطل فإن

__________________

(١) أنظر كتاب «على حافة العالم الاثيري» لفريد وجدي ، مادة «اسبرتزم».

وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)

____________________________________

من يصنع شيئا قد يصنعه عبثا وباطلا وقد يصنعه لغاية وحكمة ، فمعنى بالحق : أن الخلق ليس عبثا ، كما قال سبحانه : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) (١) ، (وَيَوْمَ يَقُولُ) سبحانه لشيء (كُنْ) واخرج من العدم إلى الوجود (فَيَكُونُ) ويوجد (قَوْلُهُ الْحَقُ) الظاهر أنه العامل في «يوم» أي أن قوله تعالى يكون ويتحقق في أي يوم قال لشيء «كن» فهو سبحانه خلقه بالحق ، وقوله حق ، أي متحقق ثابت لا خلف فيه ، وليس كأقوال من تذهب أقواله باطلة. (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) الصور هو الآلة التي ينفخ فيها لأجل هلاك الناس جميعا ، وهو في آخر يوم من أيام الدنيا ، أو لأجل أحيائهم جميعا ، وهو في أول يوم من أيام الآخرة ، يعني أنه سبحانه الملك الوحيد الذي لا يوجد ملك غيره ، في ذلك اليوم. والفقرات الثلاثة في الآية لبيان الأحوال الثلاثة ، الخلق للأشياء ، والتصرف في الكون بما يشاء الله ، وكون المعادلة له سبحانه ، وهو (عالِمُ الْغَيْبِ) أي يعلم ما غاب عن الحواس ، لعدم إدراك الحواس له ، أو لكونه من الأمور المستقلة (وَالشَّهادَةِ) أي ما يشاهده الناس ، وأتى بهذه الجملة هنا ، ليتناسق العلم مع القدرة ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أفعاله (الْخَبِيرُ) بالأشياء ، فلا يعمل شيئا اعتباطا وعبثا

__________________

(١) آل عمران : ١٩٢.

وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥)

____________________________________

[٧٥] وبعد ما بيّن سبحانه الأدلة حول التوحيد ، أتى بقصة إبراهيم عليه‌السلام الذي كان يدعو إلى التوحيد ، ليمثل الأدلة في قصة حوارية جذابة (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) والمراد بالأب هنا العم ، كما ورد ، فإن العرب تسمي العم أبا ، كما تسمي الخالة أما ، وقد ورد في زيارة الشهيد على الأكبر عليه‌السلام ، «السلام عليك يا بن الحسن والحسين» (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) على وجه الاستنكار والتوبيخ ، أي كيف تعبد الأصنام وتجعلها إلها من دون الله؟ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي واضح ، فإن الإله يجب أن يكون خالقا رازقا فكيف تكون الأصنام آلهة؟

[٧٦] (وَكَذلِكَ) أي بمثل هذه الفطرة المستقيمة التي رأى بها إبراهيم بطلان عبادة الأصنام (نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي آثار الملك الموجودة في السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والأشجار والدواب وغيرها ، مما تدل كلها على وجود إله حكيم عليم خالق قادر ، وإنما نسب الإراءة إلى نفسه تعالى لأنه هو الذي فتق بصيرة إبراهيم عليه‌السلام للتأمل في الآيات الكونية. وفي الأحاديث أنه عليه‌السلام كان يرى أغوار الأرض وآفاق السماء فقد كشف عن عينه الحجاب وكان يرى ما لا يدركه البصر الإنساني.

(وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي المتيقنين بأن الله سبحانه هو الخالق والإله ، أريناه الملكوت ، فجملة «وليكون .. إلخ» مستأنفة.

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا

____________________________________

[٧٧] إن إبراهيم عليه‌السلام اصطدم بأصناف ثلاثة يعبدون من دون الله الكواكب ، فكان بعضهم يعبدون «الزهرة» وبعضهم يعبد «القمر» وبعضهم يعبد «الشمس» فأراد الاحتجاج عليهم فلما جن عليه الليل رأى الزهرة فقال لعبّادها مستنكرا : هل هذا ربي؟ ثم رد عليهم بأنه آفل ذاهب متحرك ، وهذا من شأن المخلوق لا الخالق فإن الخالق لا يتغير ولا يتحرك ، وبعد ما طلع القمر ، قال لعباده على وجه الاستنكار : هل هذا ربي؟ ثم أبطل ألوهيته بما سبق وبيّن أن إلهه هو الله وحده لا شريك له. (فَلَمَّا جَنَ) أي أظلم (عَلَيْهِ اللَّيْلُ) وستر بظلامه كل شيء (رَأى) إبراهيم عليه‌السلام (كَوْكَباً) وجماعة يعبدونه (قالَ) مستنكرا عليهم : هل (هذا رَبِّي)؟ (فَلَمَّا أَفَلَ) وغرب النجم (قالَ) إبراهيم : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي لا أحب أن أتخذ الشيء الذي يغرب إلها.

[٧٨] (فَلَمَّا رَأَى) إبراهيم عليه‌السلام (الْقَمَرَ بازِغاً) أي طالعا منيرا وجماعة يعبدونه (قالَ) مستنكرا عليهم : هل (هذا رَبِّي)؟ (فَلَمَّا أَفَلَ) وغرب القمر (قالَ) إبراهيم على سبيل التّعريض بأولئك (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إلى الطّريق المستقيم (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) الذين ضلّوا الطّريق ، واتّخذوا آلهة باطلة.

[٧٩] (فَلَمَّا) أصبح إبراهيم عليه‌السلام و (رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) طالعة وجماعة يعبدونها (قالَ) مستنكرا عملهم طاعنا في حجّتهم : هل (هذا رَبِّي هذا

أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً

____________________________________

(أَكْبَرُ)؟ ، فكأنّهم كانوا يستدلّون بكبرها على أنها الرّب دون سواها (فَلَمَّا أَفَلَتْ) الشّمس وغربت (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام : (يا قَوْمِ) العبّاد لغير الله تعالى (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي ما تجعلونه من الكواكب شريكا لله سبحانه.

[٨٠] (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) والمراد بالوجه الذات ، لكن حيث أن الإنسان حينما يخلص لشيء ويريد استقباله ، يوجّه وجهه إليه ، واستعمل الوجه في الذات مجازا (لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي خلقها وأوجدها (حَنِيفاً) أي مائلا عن الشرك إلى الإخلاص (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يشركون بالله غيره.

[٨١] ولما جادل إبراهيم حول الأصنام والكواكب التي يعبدها قومه ، فشي أمره فجاء إليه الناس يحاجّونه (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) أي خاصموه وجادلوه في باب الألوهية (قالَ) إبراهيم (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ) أي تجادلونني بالنسبة إلى الله تعالى (وَقَدْ هَدانِ) إلى الحق بلطفه وإحسانه (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي لا أخاف من آلهتكم أن يسببوا لي ضررا ، فإنه ليس الصنم والنجم يضران الإنسان (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) أي ضررا بي ، والاستثناء منقطع ، وقد مر سابقا أن هذه الاستثناءات إنما

وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ

____________________________________

هي لأجل إفادة تمام الطلب بعد جعل المستثنى منه الإطلاق ، فالأصل مثلا ، ولا أخاف ضررا إلا من الله سبحانه.

ولست أعلم ما يشاء ربي من ضرري أو نفعي بل (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي سبحانه المحيط بالأشياء بعلمه الواسع واطلاعه الشامل (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أيها المشركون وتتدبرون لتعرفوا أن الأمر كما قلت لكم.

[٨٢] (وَكَيْفَ أَخافُ) أنا المعتقد بالله سبحانه الضرر من قبل (ما أَشْرَكْتُمْ) من الأصنام والنجوم وهي لا تملك شيئا من الضرر والنفع (وَ) الحال أنكم (لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) الذي بيده كل ضرر ونفع (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أي جعلتم النجوم والأصنام شركاء لله والتي لم يدل دليل من قبل الله سبحانه على صحتها ، فإن «ما» موصولة مصداقها «الأصنام والنجوم» (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) نحن وأنتم (أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) بأن لا يخاف الضرر (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تستعملون عقولكم وعلومكم فتميزون الحق من الباطل؟

[٨٣] ثم بيّن سبحانه من له الأمن بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله تعالى (وَلَمْ يَلْبِسُوا) أي لم يخلطوا (إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) بأن لم يشركوا فإن الشرك ظلم ،

أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ

____________________________________

كما قال سبحانه : (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) فإنهم لا يخافون عقاب الآخرة ، ولا ضرر الدنيا بلا عوض (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي مهديون إلى الحق. وهذه الآية وإن كان موردها قصة إبراهيم عليه‌السلام والإيمان والشرك إلا أنها عامة تشمل كل إيمان لم يلبس بظلم ، ولذا ورد في مصداقها الولاية لأهل البيت عليهم‌السلام (٢).

[٨٤] (وَتِلْكَ) الحجة التي احتج بها إبراهيم عليه‌السلام في ما سبق (حُجَّتُنا) أي الأدلة التي (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أعطيناها لإبراهيم عليه‌السلام ، ولقنّاه إياها (عَلى قَوْمِهِ) المشركين حتى تمكن من إيرادها عليهم وأن يغلبهم (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) كما رفعنا إبراهيم عليه‌السلام درجات حيث كان مؤمنا موحدا مجاهدا (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فبحسب حكمته البالغة يرفع الدرجات ، وبحسب علمه الشامل يعلم الأشياء.

[٨٥] (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم عليه‌السلام (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) إسحاق هو ابن إبراهيم من سارة ، ويعقوب ابن اسحق عليهم‌السلام ، ولم يذكر إسماعيل وهو ابنه من هاجر لإرادة ذكره مستقلا حتى يظهر له من الشأن ما لا يظهر لو أدرج في جملة «وهبنا» وقد ذكر سبحانه الشجرة النبوية من إبراهيم عليه‌السلام ومن نوح عليه‌السلام فلا يفوت ذكره حيث يذكرون

__________________

(١) لقمان : ١٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٦ ص ١١٤.

كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً

____________________________________

(كُلًّا) من الثلاثة (هَدَيْنا) إلى الحق والى صراط مستقيم (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) هؤلاء (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي من ذرية إبراهيم ، أو من ذرية نوح عليه‌السلام أو المراد كلّا منهما ، فإنه يجوز ذلك بإرجاع الضمير إلى كل واحد ، كما قال سبحانه : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) (١) (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) وهو ابن داود (وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ) ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (وَمُوسى) بن عمران (وَهارُونَ) أخو موسى عليه‌السلام (وَكَذلِكَ) أي هكذا يجعل النبوة في ذريته ، تكريما له (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في أعمالهم ، فإنا نكرمهم بما يستحقون.

[٨٦] (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى) ابن زكريا (وَعِيسى) ابن مريم (وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي أن كل واحد منهم من الذين أصلحوا.

[٨٧] (وَإِسْماعِيلَ) ابن إبراهيم عليه‌السلام جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن المحتمل أن يراد به إسماعيل صادق الوعد الذي أشير إليه في قوله سبحانه : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) (٢) ، (وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ) ابن متّى صاحب الحوت (وَلُوطاً) والكلام في «اللام» في «اليسع» ،

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) مريم : ٥٥.

وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ

____________________________________

والمنصرف وغير المنصرف من الأسماء مرتبط بالمفصلات (وَكلًّا) أي كل واحد منهم (فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالم زمانهم ، فإن كل نبي كان أفضل من جميع الناس ، باستثناء النبي الذي في عهده ، فلوط كان في عهد إبراهيم ولم يكن أفضل منه.

[٨٨] (وَ) كذلك فضلنا جماعة (مِنْ آبائِهِمْ) أي من آباء هؤلاء الأنبياء (وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي أولاد هؤلاء الأنبياء (وَإِخْوانِهِمْ) أي إخوان هؤلاء الأنبياء (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي اصطفيناهم واخترناهم للرسالة (وَهَدَيْناهُمْ) إلى الحق ، وذلك لا يلازم سبق الضلالة ، كما لا يخفى (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في كل شيء ؛ العقيدة والسلوك والقول.

[٨٩] (ذلِكَ) الهدى الذي هدينا به الأنبياء (هُدَى اللهِ) وإرشاده الذي يأتي بأكمل السعادة وأوفر الخير (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، والمراد إما الهدى الخالص ، ومن المعلوم أنه لا يلزم في الحكمة بالنسبة إلى كل أحد ، وإما الهدى العام وذلك وإن لزم بالنسبة إلى كل أحد لكن المراد هنا الإيصال إلى المطلوب لا إراءة الطريق ، أو يقال : إن الذي دلّ عليه الدليل أن العقاب لا يجوز بلا بيان ، أما الهداية فلا دليل عقلي على إيجابها بالنسبة إلى كل أحد ، نعم في لزوم خروج الخلق عن العبث يلزم الإرشاد في الجملة (وَلَوْ أَشْرَكُوا) أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء (لَحَبِطَ) أي لبطل (عَنْهُمْ) فإن الحبط لما أشرب معنى الزوال والذهاب عدّي ب «عن»

ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ

____________________________________

(ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الأعمال السابقة على الشرك. ثم إن الآية في مقام بيان أن الشرك موجب لحبط الأعمال مهما كانت سوابق الشرك ، إذ من المعلوم الضروري عدم شرك الأنبياء ، فإن الشرط يأتي حتّى في مستحيل الطرفين ، كقوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) ، ومن هذا القبيل أيضا قوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢).

[٩٠] (أُولئِكَ) الذين ذكرناهم من الأنبياء عليهم‌السلام ، هم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) المراد به الجنس (وَالْحُكْمَ) أي منصب الحكم بين الناس ، فإن هذا المنصب ليس إلّا لله ولمن أعطاه إياه (وَالنُّبُوَّةَ) حيث كانوا أنبياء ، وذكر النبوة بعد الكتاب ، لدفع توهم أن إعطاء الكتاب ليس من قبيل إعطاء الكتاب للاسم ، كقوله سبحانه : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (٣) ، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بالكتاب والحكم والنبوة (هؤُلاءِ) الكفار الذين جحدوا نبوتك يا رسول الله (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) أي بالإيمان بها ، والمراد إيكال أمر دعاية النبوة والإيمان بها ، والجهاد في سبيلها ، كالوكيل الذي يراعي أمور الموكل (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) فهم يقومون بواجب أمر النبوة خير قيام.

[٩١] (أُولئِكَ) الأنبياء عليهم‌السلام الذين سبق ذكرهم (الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أي

__________________

(١) الزخرف : ٨٢.

(٢) الزمر : ٦٦.

(٣) البقرة : ٦٤.

فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)

____________________________________

هداهم الله ، والتكرار هنا مقدمة لقوله سبحانه (فَبِهُداهُمُ) يا رسول الله (اقْتَدِهْ) في أسلوب الدعوة والصبر على الأذى والاهتمام بالأمر ، وهذا كتسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإشارة إلى أن الأنبياء السابقين ابتلوا بما ابتلي به ، بالإضافة إلى أن الاقتداء بهم في هدى الله سبحانه ، لا فيما هو من عند أنفسهم ، حتى يقال : كيف يؤمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاقتداء بمن هو دونه في الفضيلة.

إنه قيام بالوظيفة لأمر الله سبحانه ولحسابه الخاص ، فالأجر منه وحده (قُلْ) يا رسول الله لمن تبلغهم : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة وأداء الوحي ثمنا وأجرة (إِنْ هُوَ) أي ما تبليغ الوحي (إِلَّا ذِكْرى) أي تذكيرا (لِلْعالَمِينَ) الذين هم في زماني وبعد زماني. وكونه تذكيرا باعتبار ما أودع في الإنسان من الفطرة الدالة على توحيده سبحانه.

وهنا سؤال : كيف يمكن الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١).

والجواب : إن إطلاق الأجر على المودة مجاز ، وقد كان إرجاع الناس إليهم لصالح الناس ، حيث إنهم الهداة المصلحون.

[٩٢] وحيث ذكر سبحانه أنه أعطى الأنبياء الكتاب ، ردّ على من زعم أنه سبحانه لم ينزل كتابا. فقد ورد أن حبرا من أحبار اليهود جاء إلى

__________________

(١) الشورى : ٢٤.

وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها

____________________________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له النبي : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله سبحانه يبغض الحبر السمين ـ وكان اليهودي سمينا ـ فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه : ويحك ولا موسى؟ فأنزل الله هذه الآية (١) (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه الذي يليق به (إِذْ) نسبوا إليه الكذب ف (قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) أي لم ينزل على رسول كتابا من السماء ، كما قال ذلك اليهودي. إن معنى عدم إرسال الرسل ، وإنزال الكتب أن الله خلق الخلق عبثا واعتباطا. ومن المعلوم أن نسبة العبث إلى شخص عادي موجب لإهانته وعدم تقديره ، فكيف بالله الحكيم العليم؟! (قُلْ) يا رسول الله لإبطال كلامهم ف (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) عليه‌السلام أليست التوراة من إنزال الله تعالى ، وإنما ذكرها لكون طرف الكلام يهوديا (نُوراً وَهُدىً) أي في حال كون كتابه عليه‌السلام نور يهدي الناس إلى مناهج الحياة الصحيحة ، وهداية (لِلنَّاسِ) إلى الحق (تَجْعَلُونَهُ) أي تجعلون ذلك الكتاب (قَراطِيسَ) أي تكتبونه ، وهذا لزيادة التأكيد ، أي : فكيف تنكرون ما تلقيتموه أنتم بالقبول ، وكنتم تكتبونه في قراطيس باعتبار أنه كتاب سماوي منزل من عند الله سبحانه؟ (تُبْدُونَها) أي تظهرون بعضها ، حيث كانوا يكتبون بعض الأحكام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٨٩.

وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ

____________________________________

الموجودة في التوراة في أوراق ويعطونها بيد الناس (وَتُخْفُونَ كَثِيراً) من التوراة لأجل كونها خطرا على أموالهم أو جاههم ، أو فيه دلالة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود ببركة التوراة المنزلة على موسى (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) فإنكم لو لا كتاب الله المنزل لم تكونوا تعلمون شيئا ، فكيف تنكرون إنزال الله الكتاب ، وتقولون : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)؟ (قُلْ) يا رسول الله : (اللهَ) أنزل الكتاب على موسى (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي دعهم (فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) فهم وما خاضوا فيه من الباطل والكذب ، إنهم يلعبون بالدين ، فذرهم وما هم فيه

[٩٣] (وَ) كما أنزلنا الكتاب على موسى كذلك (هذا) القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) إليك يا رسول الله (مُبارَكٌ) يوجب البركة والسعادة (مُصَدِّقُ) الكتاب (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي قبله ، من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية ، ومن المعلوم أن تصديق أصل الكتاب لا يلازم تصديق التحريفات التي طرأت عليه ، (وَلِتُنْذِرَ) يا رسول الله (أُمَّ الْقُرى) أي مكة ، وإنما سميت بها لأن الأرض دحيت من تحتها (وَمَنْ حَوْلَها) من سائر أهل الأرض (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) من أهل الكتاب وغيرهم (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن المنزل عليك ، فإن

وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ

____________________________________

الإيمان بالآخرة يوجب خوفا في القلب ، ينبعث منه اتباع الحق أينما وجد ، وفيه تعريض بمن لا يؤمن من أهل الكتاب ، فإنه غير مؤمن بالآخرة (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) فيؤدونها لأوقاتها ، فمن يترك الصلاة ليس بمؤمن بالآخرة والقرآن ، وإن ادّعى الإيمان.

[٩٤] وحيث كان الكلام حول الوحي ، ومن قال بعدم الوحي إطلاقا ، ناسب ذلك التنديد بمن قال بالوحي كذبا ، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) نزلت في ابن أبي سرح الذي استعمله عثمان على مصر وقد هدر رسول الله دمه وكان حسن الخط من كتابة الوحي فإذا قال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) كتب : «إن الله عليم حكيم» وهكذا ، وكان يقول للمنافقين : إني أقول من نفسي مثل ما يجيء به. ثم ارتد كافرا إلى مكة وصار من الطلقاء يوم فتح مكة. ثم لا يخفى أن قوله سبحانه «ومن أظلم» على سبيل الحصر الإضافي ، كقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) (١) ، وغيره.

(أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) كمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة كذبا ، وكغيره ممن ادّعى هذا المنصب افتراء ، نحو : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) من الآيات أو الأحكام.

في «المجمع» : قيل : المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،

__________________

(١) البقرة : ١١٥.

وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ

____________________________________

أملى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (١) ، فجرى على لسان ابن أبي سرح : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأملاه عليه وقال : هكذا أنزل فارتد عدو الله وقال : لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال (٢).

(وَلَوْ تَرى) يا رسول الله (إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) أي في شدائد الموت عند النزع ، كأن الموت بشدائده يغمرهم مرة فمرة ، كما يغمر الماء الغريق (وَالْمَلائِكَةُ) القابضة لأرواحهم (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم بأبشع الوسائل يضربون وجوههم وأدبارهم ، قائلين لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) من أجسادكم ، وهذا للإذلال والإهانة ، وإلا فليس خروج أنفسهم بإمكانهم ، بل بقدرة الله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) أيها الظالمون (عَذابَ الْهُونِ) فإنه ليس عذابا جسديا فقط بل معه ذلة وهوان (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أي جازاكم بعذاب الهون بسبب مقالتكم الكاذبة على الله حيث كنتم تقولون : «أوحي إلينا ولم يوح إليكم» ومعنى «على الله» أي بالنسبة إليه سبحانه (وَ) بما (كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ) ودلائله

__________________

(١) المؤمنون : ١٣ ـ ١٥.

(٢) مجمع البيان : ج ٤ ص ١١١.

تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤)

____________________________________

(تَسْتَكْبِرُونَ) فلا تخضعون لأحكامه وأنبيائه ، وجواب «لو» محذوف للتهويل ، أي : لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا مريعا.

[٩٥] وهنا يوجّه الباري سبحانه كلامه إليهم (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا) أيها الظالمون (فُرادى) أي في حال كونكم وحدانا لا مال لكم ولا مدافع ، بل واحدا واحدا (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) حين جئتم إلى الدنيا (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي ما أعطيناكم من المال والأقرباء والخدم (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) في دار الدنيا ، فإن الإنسان باعتبار إقباله على الآخرة تكون الدنيا وراء ظهره (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) الذين اتخذتموهم لأنفسكم شفعاء يشفعون لكم يوم القيامة (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) أي الأصنام التي كان المشركون يزعمون أنها شركاء الله سبحانه في الخلق والرزق وقضاء الحوائج ، وقد كان المشركون يقولون : إنّ هذه الأصنام تشفع لنا يوم القيامة. وورد أن سبب نزول هذه الآية أن النضر قال : سوف يشفع لي اللّات والعزّى.

(لَقَدْ تَقَطَّعَ) أيها الظالمون (بَيْنَكُمْ) وبين الأصنام فلا مواصلة تنفع للشفاعة (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أي ضاع وتلاشى (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) من الآلهة المزعومة فلا تجلب نفعا ولا تدفع خيرا.

[٩٦] إن أصنامكم لا تشترك مع الله في الخلق ولا في أي شيء من الشؤون

إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦)

____________________________________

بل (إِنَّ اللهَ) وحده (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) أي يشق الحب اليابس الميت ويخرج منه النبات ويشق نواة التمر فيخرج منها النخل (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فالنبات حي يخرجه من الحبة التي لا حياة فيها ، والفرخ حيّ يخرجه من البيض الميت ، والولد الحيّ يخرجه من الأم الميتة ، والبعوض وأشباهه يخرجه من الماء الميت ، وهكذا (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) كالحبة من النبات ، والبيض من الدجاج ، والجنين الميت من الأم الحية ، والفضلات الميتة من الحيّ ، وكأن التغيّر في العبارة «يخرج» و «مخرج» للتفنّن في العبارة الذي هو نوع من أنواع البلاغة (ذلِكُمُ اللهُ) أي ذلك الذي يفعل كل ذلك ـ أيها البشر ـ هو الله وحده (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي تصرفون عن الحق إلى الباطل.

[٩٧] (فالِقُ الْإِصْباحِ) أي يشق عمود الصبح عن ظلمة الليل ، ويخرج الضياء من الظلمة (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) تسكنون فيه وتهدؤون عن العمل إذا أظلم (وَ) جعل (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) تجريان في أفلاكهما بحساب دقيق ، و «حسبان» مصدر ، وكونهما حسبانا أي مصدري حساب وتوقيت ، نحو : «زيد عدل» ، مما حمل المصدر على الذات مبالغة ، فمن الشمس تتولد الأيام ، ومن القمر تتولد الشهور والأعوام (ذلِكَ) المذكور من فلق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْعَلِيمِ)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ

____________________________________

بمصالح العباد ، فأي شيء يرتبط بأصنامكم أيها الضالون.

[٩٨] (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أيها البشر (النُّجُومَ) في السماء (لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فإن الإنسان يعرف طريقه من النجم في الليالي ، فمن قصد مدينة نحو المشرق جعل النجم المشرقي أمامه ، ومن قصد مدينة نحو المغرب ، جعله خلفه ، وهكذا (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) الدالة على الخالق وصفاته (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لهم علم ومعرفة بالأوضاع.

[٩٩] (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي خلقكم وأبدعكم (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم عليه‌السلام ومن فضل طينته خلقت حواء عليها‌السلام ، إنه سبحانه القادر لمثل هذا الأمر العظيم فلكم مستقر في بطون الأمهات (وَمُسْتَوْدَعٌ) في أصلاب الآباء ، وإنما سمي ذلك مستودعا لأن المني يبقى قليلا في الصلب حتى ينزل ، فهو أشبه بالوديعة (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي الأدلة والحجج (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي يفهمون الأدلة ، كي يعلمون أن الله سبحانه هو الذي صنع كل ذلك.

[١٠٠] (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر ، والمراد بالسماء جهة العلو ، فإن ما علاك فأظلك هو السماء ـ في لغة العرب ـ (فَأَخْرَجْنا بِهِ

نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ

____________________________________

نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أي أخرجنا بسبب الماء نبات كل شيء قابل للإنبات من مختلف أقسام النباتات (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي من الماء ، والتكرار ، لأنه أجمل أولا ، ثم أريد التفصيل ، أو الضمير عائد إلى النبات ، فإن النبت أولا ليس أخضر ، وإنما أبيض صغير ثم يصير أخضر (خَضِراً) هو بمعنى أخضر ، أي نخرج من ذلك زرعا رطبا أخضر (نُخْرِجُ مِنْهُ) من ذلك الزرع الأخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) قد تركّب بعضه على بعض كحب الحنطة والشعير (وَ) يخرج (مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها) بدل «من النخل» (قِنْوانٌ) أي أعذاق الرطب ، فإن «قنوان» : جمع «قنو» بكسر القاف وضمها ، وهو «العذق» بالكسر (دانِيَةٌ) أي قريبة التناول (وَ) أخرجنا منه (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ أَعْنابٍ) جمع «عنب» (وَ) أخرجنا منه (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) أي شجريهما (مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) فبعض الأشجار والأثمار والأوراق والأزهار والحبات متشابهة وبعضها غير متشابهة ، في اللون والطعم والحجم والخاصية وغيرها. والاختلاف بين لفظي «مشتبه ومتشابه» من أحسن أنواع البلاغة ، لتطابق اللفظ والخارج (انْظُرُوا) أيها الناس (إِلى ثَمَرِهِ) أي ثمر كل واحد من المذكورات (إِذا أَثْمَرَ) فإن في ذلك دلالة عجيبة على الصانع تعالى (وَ) انظروا إلى (يَنْعِهِ) أي نضجه إذ نضج ، فإن من نظر إلى ذلك نظر تأمل واعتبار ، عرف عظيم

إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

الصنعة وجليل الخلقة ، ودقيق الحكمة ، و «ينع» في اللغة بمعنى «النضج» وقيل : جمع «يانع» ؛ كصحب وصاحب (إِنَّ فِي ذلِكُمْ) أي فيما تقدم من الخلقة (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالحقائق ، ويتجنبون السخافة.

[١٠١] إن الله هو خالق كل شيء وهو الإله الواحد الذي لا شريك له (وَ) لكن الكفار (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) فقالوا بأن لله شركاء في الألوهية هم من الجن (وَ) الحال أنه سبحانه هو الذي (خَلَقَهُمْ) أي خلق الجن ، فكيف يكون المخلوق شريكا مع الخالق في الألوهية (وَخَرَقُوا) أي جعلوا ، ولا يخفى ما في التعبير بلفظ «خرقوا» من اللطافة. (لَهُ) تعالى (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقد قال اليهود : عزير ابن الله ، وقالوا : نحن أبناء الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وجعل المشركون الملائكة بنات الله ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١) ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فإن ذلك منهم كان ظنا وتوهما (سُبْحانَهُ) منصوب بفعل محذوف ، أي : «أنزهه تنزيها له» (وَتَعالى) أي تقدس وترفع (عَمَّا يَصِفُونَ) أي الأوصاف التي يلصقونها بساحة قدسه ، من جعل الشريك والأولاد.

[١٠٢] إنه وحده هو (بَدِيعُ) أي مبدع (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وخالقهما بلا

__________________

(١) الزخرف : ٢٠.

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)

____________________________________

شريك أو ظهير ، وهذا ردّ على من جعل له شريكا (أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ) الحال أنه تعالى (لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) أي زوجة؟ وهذا رد لمن جعل له أولادا (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فهو الخالق المطلق ، (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو العالم المطلق.

[١٠٣] (ذلِكُمُ) أي ذلك المذكور له الصفات المتقدمة هو (اللهُ) تعالى ، و «كم» للخطاب إلى السامعين (رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلا شيء خارج من خلقه ، حتى يكون له شريكا (فَاعْبُدُوهُ) وحده (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حفيظ ومدبّر وقائم ، فلا حافظ غيره ، ولا قائم بالأمر أحد سواه.

[١٠٤] (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) فإنه سبحانه ليس بجسم حتى يكون مرئيا ، وهذا لا فرق فيه بين الدنيا والآخرة ، فهو لا يبصر في الدنيا ولا يبصر في الآخرة (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) روعي في الكلام التجانس اللفظي ، وإلا فهو يدرك كل شيء الأبصار وغيرها (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لا يراد به اللطف بالمعنى في الأجسام ، المراد به النافذ في الأجسام ، والرقيق ، وما أشبه ، بل من باب «خذ الغايات واترك المبادئ» فعلمه نافذ في الأشياء ، وقدرته سارية في الأكوان (الْخَبِيرُ) العالم بكل شيء.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ

____________________________________

[١٠٥] (قَدْ جاءَكُمْ) أيها البشر (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) «بصائر» جمع «بصيرة» وهي الدلالة البيّنة التي يبصر بها الشيء ، أي جاءتكم دلالات من قبل الله سبحانه ، على الأصول ، والأحكام (فَمَنْ أَبْصَرَ) أي من تبيّن هذه الدلالات ونظر فيها نظر معتبر بصير (فَلِنَفْسِهِ) فإنه يعود خير ذلك إلى ذاته وشخصه (وَمَنْ عَمِيَ) عنها فلم ينظر فيها وأعرض عنها (فَعَلَيْها) أي أن وبال الإعراض يعود على نفسه (وَما أَنَا) المراد بالضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عَلَيْكُمْ) أيها الناس (بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن الخطأ والانحراف ، وإنما أنا مبلغ مرشد ، من آمن فلنفسه ومن ضل فعليها.

[١٠٦] (وَكَذلِكَ) أي مثل تصريفنا الآيات من ذي قبل (نُصَرِّفُ) هذه (الْآياتِ) نرسلها ونبيّنها (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) أي يقول الكفار : درست هذه الآيات وتعلمتها من غيرك ، كما كانوا ينسبون القرآن إلى تعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الراهب في طريق الشام ، أو من سلمان ، أو من بعض اليهود (وَلِنُبَيِّنَهُ) أي نوضّح ما تقدم من الآيات (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي للعلماء الذين يعلمون الآيات ، فإن هؤلاء هم المنتفعون بالآيات ، ولذا خصّهم بالذكر.

[١٠٧] (اتَّبِعْ) يا رسول الله (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وهو (لا إِلهَ إِلَّا

هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ

____________________________________

هُوَ) وذر الأصنام والأوثان ، فإن صاحب الدعوة لا يبالي بما قاله المغرضون ، ولا يضره انحراف المنحرفين (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فلا تتعرض لهم ، وليس المراد عدم دعائهم إلى الإسلام ، أو عدم القتال معهم ، بل معناه : «أعرض عن أقوالهم وطريقتهم» ، وهذا كما يقال : «أعرض عن فلان» يراد عدم الاهتمام بقوله والاعتناء بشأنه ، وأنه لا بد من سلوك الطريق المستقيم أحبّ أم كره.

[١٠٨] (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أن يكرههم على عدم الشرك (ما أَشْرَكُوا) ولكن الدنيا دنيا اختبار وامتحان ، وإنما يريهم الله سبحانه الطريق ، فمن شاء آمن ومن شاء أشرك (وَما جَعَلْناكَ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحفظهم عن الشرك ، حتى يكون إثم الشرك عليك (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي لست بموكل عليهم في ذلك ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولعل الفرق بين الحفيظ والوكيل ، أن الحفيظ هو الذي يحفظ الشيء عن الضرر ، والوكيل هو الذي يناط به أمره ، فيجب عليه دفع الضرر عنه وجلب النفع إليه ، فهو أعم من الحفيظ.

[١٠٩] (وَلا تَسُبُّوا) أيها المسلمون الآلهة (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ها الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله (فَيَسُبُّوا اللهَ) مقابلة بالمثل (عَدْواً) أي ظلما ، بمعنى التعدي عن الحق (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فإنهم جاهلون بالله ، وإلا لماذا

كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ

____________________________________

كانوا يسبونه ، ويتخذون آلهة سواه؟ (كَذلِكَ) الاعتقاد بالآلهة الباطلة (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) فإن كل إنسان يرى عمله حسنا ، ولو تفكر وقارن رأى الصحيح من عمله وأباطيله. ونسبة التزيين إلى الله سبحانه لأنه هو الذي يخالف الخلق وسبب الأسباب ، وذلك للامتحان ، وليتبين من يخالف نفسه ومن يتبع هواها (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) فإن الجميع يرجعون إلى حساب الله سبحانه ، وثوابه وعقابه (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الأعمال الحسنة والقبيحة ، ومعنى ذلك أنه يجازيهم بأعمالهم ، كما تقول لابنك العاصي : «أخبرك بما عملت ...» تريد التهديد والوعيد.

وهنا سؤال : كيف نهى الله عن سبّ الأصنام ، وفي القرآن كثير من القدح فيهم؟

والجواب : إن الفرق بين سبّ الحكيم وسبّ الجاهل أن الأول يعرف موقع السب ، بخلاف الثاني ، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس ، ورأينا أنه يضرب بنفسه لحدّ أو قصاص ، فإن الأمرين لا يتنافيان.

[١١٠] (وَأَقْسَمُوا) أي حلف الكفار (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي أيمانهم الغليظة (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة خارقة حسب ما طلبوا من مقترحاتهم (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) أي بتلك الآية (قُلْ) يا رسول الله لهم : (إِنَّمَا الْآياتُ) الخارقة (عِنْدَ اللهِ) ومن لدنه ، وليس لدي منها شيء ،

وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

____________________________________

فإن عرف الله الصلاح في الإتيان بها أظهرها ، وإن عرف الصلاح في عدم الإتيان لم يأت بها (وَما يُشْعِرُكُمْ) أيها المؤمنون (أَنَّها) أي الآيات (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) كما جاءت الآيات من قبل فلم يؤمنوا. والسر أن المعاند لا تفيده الآية ، والطالب للحق تكفيه ما تقدم من الآيات ، فإنزال الآيات المقترحة لا فائدة فيها.

[١١١] (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) جمع «فؤاد» وهو القلب (وَأَبْصارَهُمْ) جمع «بصر» وهو العين (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي بالقرآن (أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإنهم جوزوا بإنكارهم أول الأمر الذي استلزم عنادهم وتماديهم في غيهم ، بأن أزعجت نفوسهم ، فجعلت قلوبهم تخفق ، وأبصارهم تتحرك زائغة ، كما هو شأن كل مبطل أمام الحق أنه لا يدري ما يصنع ، وعينه تتلفت هنا وهناك تبحث في الأرض والسماء عن طريق المهرب والخلاص من الأزمة التي وقع فيها (وَنَذَرُهُمْ) أي ندعهم (فِي طُغْيانِهِمْ) الذي طغوا وتعدوا فيه الحق (يَعْمَهُونَ) يتردّدون في الحيرة.

وقد روي أنهم لما طلبوا الآيات ، أراد النبي أن يسأل ربه بتلك الآيات ، فجاء جبرئيل وقال : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولكن إن لم يصدقوا ، عذّبوا ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل أتركهم حتى يتوب تائبهم (١). فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٩١.

تقريب القران الى الأذهان

الجزء الثّامن

من آية ١١٢ من سورة الأنعام

إلى آية ٨٨ من سورة الأعراف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ

____________________________________

[١١٢] ثم بيّن سبحانه أنّ هؤلاء معاندين لا يريدون بالآيات إلا الاقتراح ، ولو أنزلت إليهم لم يكونوا مؤمنين (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) حتّى يرونهم مشاهدة ، ويشهدون لك بالرسالة (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) أي أحيينا الأموات حتّى تكلّمهم (وَحَشَرْنا) أي جمعنا (عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) أي مقابلة ومعاينة ، بأن جئنا لهم بما طلبوا من الآيات ، أو المراد : جمعنا حواليهم الأشياء الكونية ، بأن يأتيهم الشجر والحجر والماء والحيوان ، وكان ذلك لبيان حشر صور مدهشة مرعبة (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لعنادهم وإصرارهم (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يجبرهم على الإيمان ، ولكن الله لا يشاء ذلك لأنه خلاف الحكمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا ، بل يزعمون أنهم يؤمنون إن رأوا ، لجهلهم بعنادهم الكامن في نفوسهم ، الذي لا ينفع معه كل آية.

[١١٣] (وَكَذلِكَ) أي كما جعلنا لك يا رسول الله أعداء معاندين (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) ومعنى «الجعل» التخلية بينهم وبين اختيار العداوة ، وذلك اختبار لهم ، ورفعا لدرجات الأنبياء. وقد سبقت الإشارة إلى أن الأمور الاختيارية للناس تنسب إلى الله سبحانه باعتبار جعله الأسباب والتخلية بين الناس وبينها ، كما تنسب إلى فاعليها لأنهم السبب المريد لها (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) نصب «شياطين» لأنه بدل «عدوا»

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ

____________________________________

والمراد به الجنس لا الواحد ، والمراد بشياطين الإنس ، إما الشياطين الموكلة بالإنسان التي تغويه وتأمره بالقبائح ، وإما من قبيل «خاتم فضة» أي المردة من أفراد الإنسان ، فإن الشيطان بمعنى المارد من «شطن» ، قال الشاعر :

أيا شاطن عصاه عكاه

ثم يلقى في السجن والأغلال

وهكذا يقال بالنسبة إلى شياطين الجن (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي يوسوس خفية (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي : القول المزخرف ، الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل (غُرُوراً) أي لأجل الغرور والإضلال (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) أي لو أراد جبرهم على عدم هذه الأعمال العدوانية ضد الأنبياء ، لتمكّن من ذلك ، لكنه لم يشأ ، لأنه خلاف الحكمة (فَذَرْهُمْ) أي دعهم (وَما يَفْتَرُونَ) أي افتراؤهم ، فأعرض عنهم ، ولا تتعرّض لهم ، بل خذ طريقك ، وبلّغ رسالات ربك.

[١١٤] إن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول لأجل الغرور (وَلِتَصْغى) لأجل أن تميل (إِلَيْهِ) أي إلى هذا الوحي بزخرف القول (أَفْئِدَةُ) أي : قلوب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) فإنهم يوسوسون ليغروا الناس وليستميلوا أفئدة الكفار إلى مكائدهم (وَلِيَرْضَوْهُ) أي يرضى من لا يؤمن بالآخرة ، بالوحي والوسوسة ، بمعنى إرضاء الكفار

وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ

____________________________________

بمنهجهم فلا يميلوا إلى الحق (وَلِيَقْتَرِفُوا) أي يرتكبوا من الكفر والمعاصي (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي الشيء الذي يرتكبون. وجملة المعنى أن وسوسة الشياطين لأجل أن يغروا الناس ، ويستميلوا قلوبهم ، ويرضون عن طريقتهم ، ويرتكبون الآثام.

[١١٥] إنّ هناك شخصين متعاديين الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي لا يؤمن بالآخرة ، فمن الحكم بينهما؟ وهنا يأتي الجواب أن الحكم هو الله وحده ، قل يا رسول الله لهؤلاء : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) أي أطلب سوى الله حاكما (وَهُوَ) أعلم الحكّام (الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) فيه ما يحتاج إليه الإنسان ، يفصل بين الحقّ والباطل ، ومعنى التفصيل : تبيين المعاني بما يوجب رفع الاشتباه. ومن المعلوم أن القادر على تنزيل الكتاب ، هو الذي يتخذ حكما (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي الكتاب وهو القرآن (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) وليس كلام الآدميين ، وتخصيص أهل الكتاب ، لأن علمهم يقتضي أن يعرفوا ذلك ، فإنه «إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه» (فَلا تَكُونَنَ) يا رسول الله (مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكين. ومن المعلوم أن النبي لا يشك وإنما المراد به السامع ، وإن كان الخطاب موجها إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١١٦] (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) بالقرآن الكريم ، فما أراده الله سبحانه من

صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦)

____________________________________

البشر ، تم بإنزال هذا الكتاب ، فليس وراءه كتاب آخر وكلمة أخرى (صِدْقاً وَعَدْلاً) فما فيه من الأخبار صدق لا يشوبه كذب ، وعدل لا يشوبه انحراف وزيغ ، فكل خبر يخالف إخباره عن المبدأ وعن المعاد وعن الرسالة وعن العدل وعن الخلافة وعن غيرها ، فهو كذب ، وكل حكم يخالف حكمه فهو زيغ وباطل (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) فإن كلمات الله سبحانه هي الميزان لكل شيء فلا أحد يبدّل كلماته تعالى بالزيادة والنقصان ، تبديلا صحيحا ، ومن بدّل فهو المنحرف الضال (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال الناس (الْعَلِيمُ) بكل ما يفعلون فيجازيهم حسب أعمالهم وأقوالهم.

[١١٧] إن الميزان هو كلمات الله سبحانه ، فليس هناك حق فيما عدا ذلك (وَ) لذا (إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لأن غالب الناس كفّار أو ضالين ، فاتّباعهم موجب للكفر والضلال ، نعم هناك قلة لم يخل منهم زمان ، هم الآخذون بأحكام الله تعالى ، فإطاعتهم هي إطاعة الله ، ولا يوجب اتباعهم ضلالا وزيغا (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتّبع هؤلاء الكثرة من الناس (إِلَّا الظَّنَ) فليس لهم حجة وبرهان في كفرهم وضلالهم ، وإنما يرجّحون ظنّا ما يعتقدونه ، أو يعملون به (وَإِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) «الخرص» هو التخمين ، أي يقولون تخمينا لا اعتقادا وجزما.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ

____________________________________

[١١٨] (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي أعلم من سائر الناس بمن يسلك سبيل الضلال ، فقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) صادر عن علم ومعرفة ، فإذا قال قائل : إن الكفار يعتقدون اعتقادا جازما بما أشركوا ، ويقولون ما يقولون عن قطع وجزم. فذلك غير عارف بأحوالهم ، وربك أعلم منه بهم (وَهُوَ) سبحانه (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الذين يسلكون سبيل الهدى والرشاد.

[١١٩] إذا فالحكم كله لله صغيرا كان أو كبيرا ، وقد كان الضّالّون يجادلون المسلمين في شؤون كثيرة ، ومنها أمر الذبائح ، فقد كانوا يأكلون الميتة ، ويتركون المذبوح ، وكانوا يحتجون على المسلمين قائلين : أتأكلون أنتم ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربّكم؟ يريدون الاعتراض على المسلمين في عدم أكلهم للميتة (فَكُلُوا) أيها المسلمون (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) عند الذبح ، واجتمع فيه سائر الشرائط ، والأمر للإباحة لأنه في مقام توهم الحضر (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) بأن آمنتم بالله ورسوله وصدّقتم بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١٢٠] (وَما لَكُمْ) أيها المسلمون (أَلَّا تَأْكُلُوا) أي شيء لكم في أن لا تأكلوا (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي لم لا تأكلونه ، هل أن ذلك بزعم التحريم لأنكم تقتلونه؟ (وَقَدْ فَصَّلَ) الله سبحانه (لَكُمْ)

ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ

____________________________________

على لسان رسوله (ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وليست الذبيحة منها (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فإنكم إذا اضطررتم إلى ما حرّم جاز لكم أكله بقدر الضرورة (وَإِنَّ كَثِيراً) من الناس (لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) فإلى حيث مال هواهم ساقوا الناس إليه ، فذلك يسبب إضلال الناس (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يهديهم إلى الحق ، وإن تحريم المشركين للمذكى من هذا القبيل ، فإنه من الهوى ، لا من علم وصلاح (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) الذين يتجاوزون الحق ، ويتعدونه إلى الباطل.

[١٢١] وفي عداد ذكر الحرام والحلال ، ينهى سبحانه عن كل محرم (وَذَرُوا) أيها المسلمون (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) أي ما ظهر من المعاصي وما بطن مما يؤتى به سرّا.

قيل : إن أهل الجاهلية كانوا يقولون : إذا زنا الإنسان علنا كان آثما ، وإن زنا سرا لم يكن به بأس ، وبهذه المناسبة نزل هذا التعميم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) أي يعملون بالمعاصي (سَيُجْزَوْنَ) أي يعاقبون (بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي يرتكبون ، يقال : «اقترف الإثم» أي ارتكبه.

[١٢٢] (وَلا تَأْكُلُوا) أيها المسلمون (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ

اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها

____________________________________

اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) من الذبائح التي تذبح بدون التسمية (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وخروج عن طاعة الله تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ) أي يلقون خفية (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أي : في قلوب الذين اتبعوهم من الكفّار (لِيُجادِلُوكُمْ) قائلين : كيف تأكلون أيها المسلمون مما تقتلونه أنتم ولا تأكلون مما قتله الله ، وقتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم؟ (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في أكل الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) لأنّ استحلال الميتة يوجب الكفر ، أو المراد : أنكم مثلهم ، لا مثل المؤمنين ، وهذا تعبير خطابي ، ولعل هذا أقرب لأن الاستحلال يوجب الكفر لا الشرك.

[١٢٣] ثم ذكر سبحانه مثل الفريقين ، المؤمنين والكفار (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالكفر (فَأَحْيَيْناهُ) بالإيمان ، فإن الكفر شبه الموت حيث أن الكافر لا يأتي منه العمل الصالح ، والإيمان شبيه بالحياة لذلك (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) منهاجا ينير به دروب الحياة (يَمْشِي بِهِ) أي بذلك النور (فِي النَّاسِ) فيعرف كيف يمشي وكيف يعاشر ، لا كالأعمى الذي يصطدم بهذا وذاك (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) أي كالكافر الذي هو مثل الشخص الذي لا نور له بل يمشي في الظلمات ، فمن في الظلمة شبّه بالكافر ، لأن ظلمة الكفر أشد من ظلمة عدم النور ، وإن الكافر لا يعرف سبيل الحياة السليمة ولذا فهو دائم المشاكل والمصادمات (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) إذ

كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣)

____________________________________

الخروج من الظلمة لا يكون إلّا بانتهاج منهاج الإيمان ، وإلا فمن ظلمة إلى ظلمة ، وهذا سرّ ما يشاهد من ازدياد مشاكل العالم يوما بعد يوم ، وكلّما عدّلوا القوانين ، وبدّلوا المناهج لم يزدهم إلا مشكلة وإعضالا. والاستفهام إنكاري ، يراد أنهما ليسا بمتساويين ، بل الحي ذو النور أفضل من الميت في الظلمة (كَذلِكَ) أي كما زيّن للمؤمن الإيمان كذلك (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) والذي زيّن لهم هو الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء ، أو هو الله سبحانه بالمعنى المتقدم في قوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (١) ، أي خلّينا بينهم وبين ما يزيّن لهم عملهم.

[١٢٤] (وَكَذلِكَ) أي كما تركنا الكفار في ظلمتهم يعمهون ، أو كما زيّنا لهم أعمالهم ، كذلك (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) فتركنا المجرمين على حالهم (لِيَمْكُرُوا فِيها) أي في القرية ، و «اللام» للعاقبة ، أي أن عاقبة تركنا إياهم مكرهم في القرية ، كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) ، أو المراد : كما جعلنا ذا النور من المؤمنين ، كذلك جعلنا ذا الظلمة من المجرمين (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) فإن عاقبة مكرهم ووبال طغيانهم لا يرجع إلا إلى أنفسهم (وَما يَشْعُرُونَ) أي لا يدرون أن مكرهم يعود بالوبال

__________________

(١) الأنعام : ١٠٩.

(٢) القصص : ٩.

وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤)

____________________________________

السيّئ إلى أنفسهم.

[١٢٥] (وَإِذا جاءَتْهُمْ) أي جاءت هؤلاء المجرمين (آيَةٌ) دلالة من الله على التوحيد والرسالة (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ) بهذه الآية وبما جاءت من أجله (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي تأتي على أيدينا المعجزة ، ويوحى إلينا حتّى نكون كالرسل. قالوا : نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حيث قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والله لو كانت النبوة حقّا لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سنّا وأكثر منك مالا. وقيل : نزلت في أبي جهل حيث قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرس رهان قالوا : منّا نبي يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه.

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فإنه سبحانه أعلم من جميع الخلق بموضع الرسالة ، وليست هي بالمال والكبر والسن ، بل بالفضائل النفسية والقابلية المحلية (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي عملوا الجرائم والموبقات (صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) أي يكونوا أذلاء في الآخرة ، أو المراد : الأعم من الدنيا والآخرة ، ومعنى «عند الله» أن ذلك الصغار من عنده سبحانه (وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) أي بسبب مكرهم ، فإن الصغار والعذاب جزاء لأعمالهم القبيحة.

فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)

____________________________________

[١٢٦] إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جاء بالإسلام ، فمن حكّم عقله وآمن كان له من الله اللطف الخفي وشرح الصدر ، ومن أعرض وبقي على كفره أعرض سبحانه عنه وخلّى بينه وبين ما يفعل الشيطان به من تضييق الصدر (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) إلى الإيمان (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) «الشرح» هو : التوسعة ، وهذا من باب التشبيه ، فكما أن الشيء الواسع له مجال أن ينفذ فيه شيء ، كذلك القلب المنشرح له محل أن ينفذ فيه الإسلام (وَمَنْ يُرِدْ) الله (أَنْ يُضِلَّهُ) لأنه ترك الإيمان وعاند ، فاقتضت المشيئة أن يخلى بينه وبين الضلال حتى تكون عاقبة أمره خسرا ، ويذوق وبال إعراضه (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً) لا ينفذ فيه الإسلام (حَرَجاً) هو أضيق الضيق ـ كما قالوا ـ (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) فإن الإنسان إذا جرّ إلى السماء جرّا ، أحس بضيق شديد في صدره ، من جهة أن الهواء كلما لطف ، كان التنفس فيه أصعب ، ومعنى «في السماء» الولوج في طبقات السماء ، ليعطي معنى الشدة أكثر من «إلى» وكذاك التشديد في «يصّعّد». (كَذلِكَ) أي كما ذكر من تضييق الصدر (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) وهو العذاب ، والصعوبة ، أو المراد به المعنى الظاهري له ، فإن للكفر رجسا (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) فالعقوبة لمن لا يؤمن أن يجعل صدره ضيقا حرجا ، فليس ذلك ابتداء منه سبحانه ، كما قد يزعم الناظر في أول الآية ، وهذا

وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ

____________________________________

كقولك : «إن من يريد خيره من أبنائي أعطه المال ، وإنّ من يريد شره أقطع عنه المال ، وهكذا أعمل بمن لا ينصاع إلى أوامري».

[١٢٧] (وَهذا) أي الإسلام (صِراطُ رَبِّكَ) يا رسول الله (مُسْتَقِيماً) لا اعوجاج فيه ولا انحراف ، فمن لم يقبله لم يفرّ من الانحراف ، وإنما زاغ وانحرف (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي بيّناها وشرحناها (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أصله «يتذكّرون» ثم أدغمت التاء في الذال ، والمراد : أنه لمن يتذكّر ما أودع فيه من الفطرة الآمرة باتباع الطريق القويم.

[١٢٨] (لَهُمْ) أي للذين تذكروا وعرفوا الحق (دارُ السَّلامِ) وهي : الجنة ، فإنها دار السلامة التي لا حرب فيها ، ولا بغضاء ، ولا مرض ، ولا همّ ، ولا ما ينغّص العيش (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي أن تلك الدار عند كرامة الله ولطفه ، وفي ضمانه وعهده (وَهُوَ) أي الله سبحانه (وَلِيُّهُمْ) الذي يتولّى أمورهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم الصالحة واتّباع أوامره.

[١٢٩] (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) أي يجمعهم ، والضمير عائد إلى الجن والإنس ، الذين تقدم الكلام عنهم ، بأنهم يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، وأنه جعل لكل نبي عدوّا منهم ، وإذ يجمعون يقال لهم : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي اتّخذتم أتباعا كثيرين

وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً

____________________________________

منهم واحتشدتم حشدا عظيما من التابعين الذين اتبعوكم في وساوسكم وغروركم. ولفظة «يوم» منصوبة ، ب «يقال» المقّدر ، (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) أي أتباع الجن (مِنَ الْإِنْسِ) الذين اتبعوهم وأخذوا بوساوسهم وإيحاءاتهم : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) فلقد كان الإغواء نأخذه متاعا واستمتاعا ، فإن الإنسان الذي لم يملأ فراغ قلبه الحقّ يطلب متعة يستمتع بها ، وما أجدر بالإغواء والإيحاء أن يملأ ذلك الفراغ ، وهذا كالاعتذار من الأتباع الإنسيين ، كما يقول أحد الناس إذا سئل عن عمله الباطل؟ أنه اتخذه وسيلة للتسلية وسد الفراغ (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا) أي الموت (الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي وقّتّه وجعلته مدة ، فقد أدركنا الموت ونحن في الاستمتاع (قالَ) الله تعالى : (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي مقامكم ، و «الثواء» : الإقامة ، والضمير عائد إلى الجن والإنس (خالِدِينَ فِيها) أي في النار أبد الآبدين (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن تنقطع النار وذلك بالنسبة إلى عصاة المؤمنين (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (حَكِيمٌ) وبمقتضى حكمته جعل النار مثوى لهم (عَلِيمٌ) يعلم الصالح من الفاسد.

[١٣٠] ـ (وَكَذلِكَ) أي كما تقدم من الخلة بين الجن والإنس ، ليغوي بعضهم بعضا ، (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) فنجعل الظالم وليا

بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى

____________________________________

للظالم في الدنيا وفي الآخرة (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبهم الأعمال السيئة وإعراضهم عن الحق.

[١٣١] ثم يخاطب الجن الذين أوحوا إلى الإنس وأضلوهم بهذا الخطاب : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) و «المعشر» هو الجماعة (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) على وجه الاستفهام الإنكاري ، و «منكم» باعتبار أن الإنس والجن من مادة سفلية ، فبعضهم من بعض ، أو باعتبار أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل رسلا من الجن إليهم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ) أي يتلون عليكم (آياتِي) أي حججي ودلائلي (وَيُنْذِرُونَكُمْ) أي يخوفونكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي يوم القيامة (قالُوا) أي قالت الجن في جواب هذا الاستفهام : (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) بما تستحق من العقاب حيث خالفنا وعصينا ، فإنّا معترفون بالجرائم ، ثم يقول سبحانه : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي تزيّنت لهم وأغوتهم (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) في الآخرة (أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) في الدنيا فاستحقوا العقاب.

[١٣٢] إن هؤلاء الجماعة الذين حكم عليهم بالنار لم يكن اعتباطا ، وإنما كان بعد الإنذار والتبليغ و (ذلِكَ) الإرسال والإنذار لأجل (أَنْ لَمْ يَكُنْ) أي لأنه ليس (رَبُّكَ) يا رسول الله (مُهْلِكَ الْقُرى) أي يهلك

بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ

____________________________________

ويعذب أهل المدن (بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) عن الدين والطريق ، بل إنما يهلكهم إذا أتمّ الحجة عليهم ، ثم خالفوا وعصوا.

[١٣٣] ثم إنه ليس التعذيب اعتباطا بأن يحشرون جميعا في درجة واحدة ـ كما قد ينساق من الآيات السابقة ـ بل (وَلِكُلٍ) من المجرمين ، أو الأعم منهم ومن المطيعين (دَرَجاتٌ) أي مراتب خاصة بهم (مِمَّا عَمِلُوا) «من» للإنشاء ، أي : تنشأ تلك الدرجات من أعمالهم في الدنيا (وَما رَبُّكَ) يا رسول الله (بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) فلا يدري من عمل وما عمل ، بل كل شيء عنده محفوظ بقدره وخصوصياته.

[١٣٤] إن هذه الأوامر وتلك العقوبات ، ليست لاحتياج الله سبحانه إلى هذه أو تلك (وَرَبُّكَ) يا رسول الله (الْغَنِيُ) الذي لا يحتاج إلى شيء إطلاقا (ذُو الرَّحْمَةِ) ومن رحمته جعل الأوامر ليرحم العباد بها (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يهلككم أيها البشر (وَيَسْتَخْلِفْ) أي يجعل خليفة لكم وفي محلكم (مِنْ بَعْدِكُمْ) أي بعد الإذهاب بكم (ما يَشاءُ) من أنواع المخلوقات (كَما أَنْشَأَكُمْ) وأوجدكم (مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) حيث أذهبهم وأتى بكم ، فإن ذلك عليه يسير.

[١٣٥] (إِنَّ ما تُوعَدُونَ) أيها البشر من القيامة والحساب والثواب والعقاب

لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ

____________________________________

(لَآتٍ) أي يأتي لا محالة (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لستم تقدرون أن تسبّبوا عجزه سبحانه حتى لا يتمكن من إعادتكم والإتيان بكم لساحة الحساب.

[١٣٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي منزلتكم ومقدار تمكّنكم من الدنيا ، وهذا الأمر للتهديد ، أي : اعملوا الكفر والمعاصي بما تتمكنون (إِنِّي عامِلٌ) بما أمرني الله سبحانه ـ فلكم دينكم ولي دين ـ (فَسَوْفَ) في الآخرة (تَعْلَمُونَ) جزاء أعمالكم (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة في دار السلام ، هل أنتم أم أنا؟ لكن اعلموا أن عاقبة الدار لي ف (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) ولا يفوز بالسعادة (الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي.

[١٣٧] ثم يعود السياق إلى معالجة العقيدة في بعض نواحيها فيحكي سبحانه ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقسيم ما ينفقوه من الزرع والأنعام بين الله وبين الأصنام (وَجَعَلُوا) أي جعل الكفار (لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) أي خلق (مِنَ الْحَرْثِ) أي الزرع (وَالْأَنْعامِ) أي المواشي من الإبل والبقر والغنم (نَصِيباً) أي حظا وقسما ، وجعلوا للأصنام نصيبا (فَقالُوا هذا) القسم (لِلَّهِ) تعالى

بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ

____________________________________

(بِزَعْمِهِمْ) وإنما نسبهم إلى الزعم لأنه لم يكن لله ، فإن الله لا يقبل الشيء الذي أشرك معه فيه (وَهذا) القسم (لِشُرَكائِنا) أي الأوثان ، الشركاء الذين نحن أشركناهم مع الله ـ وفي الإضافة تكفي أدنى ملابسة ، ككوكب الخرقاء ـ (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ) من الأنعام والحرث (فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) أي أن الله لا يقبله ، وكنّى بالإيصال لتشبيه المعقول بالمحسوس تقريبا للمعنى إلى الأذهان (وَما كانَ لِلَّهِ) بزعمهم (فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) وهذا مجاز ، أي أن الأصنام تنتفع بهذا النصيب من خلال ما يترسخ لها في قلوب المشركين من المكانة والاحترام ، أو المراد أنهم كانوا إذا خصصوا نصيبا للشركاء لا يأخذون منه لله شيئا ، أما الحصة المخصصة لله سبحانه فقد يأخذون منها ليوفروا المأخوذ مع حصة الأصنام.

روي عن أهل البيت عليهم‌السلام : أن المشركين كانوا يعيّنون قسما من الحرث والأنعام لله وينفقونه على الضيوف والمساكين وقسما منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون عندها ثم إن رأوا أن ما عيّنوا لله أزكى بدّلوه بما لآلهتهم ، وإن رأوا أن ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم وعللوا ذلك بأن الله غنيّ.

وروي أيضا : أنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله ردّوه ، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعلوه للأصنام تركوه ، وقالوا : الله غني ، وإذا انخرق الماء الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه ، وإذا

ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ

____________________________________

انخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه وقالوا : الله غني .. فرد عليهم سبحانه بقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي أن حكمهم بالتشريك أو عند الاختلاط ، والتزكية ، سيّئ ، فإن الله وإن كان غنيا ، لكن هذا العمل مخالف لجلال شأنه وعظيم كبريائه.

[١٣٨] (وَكَذلِكَ) أي كما جعل المشركون في الحرث والأنعام ما لا يجوز ، كذلك فعلوا بالنسبة إلى أولادهم ما لا يجوز (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فاعل «زين» «شركاؤهم» أي أن الشياطين الذين اتخذهم المشركون شركاء لله زينوا لهم (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) مفعول «زين» (شُرَكاؤُهُمْ) فقد كان كثير من المشركين يعبدون الجن ، وهي توحي لهم بالأعمال السيئة. فقد كانوا يقتلون البنات خوفا من العار ، كما قال سبحانه : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* .. أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) (١) ، وقال : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٢) ، وكانوا يقتلون البنين خوف الفقر ، كما قال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) (٣) ، (لِيُرْدُوهُمْ) من «أراده» بمعنى : «أهلكه» أي أنه كانت غاية الشياطين ـ الشركاء ـ الذين زينوا للمشركين قتل أولادهم ، إرادة إهلاك الأولاد بالقتل ، وإهلاك الآباء بالذنب (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي يخلطوا عليهم الحق بالباطل حتى

__________________

(١) النحل : ٥٩ و ٦٠.

(٢) التكوير : ٩ و ١٠.

(٣) الأنعام : ١٥٢.

وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ

____________________________________

لا يعرفوا أحدهما من الآخر ، وفي الغالب يأتي أهل الباطل بضغث من الحق وضغث من الباطل ، حتى لا يصغر الحق ، فيتبعه الناس (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) أي ما قتلوا أولادهم ، ومشيئة الله إنما هي بجبرهم على الهدى ، لكنه لا يشاء لأن الدنيا خلقت للاختبار (فَذَرْهُمْ) أي دعهم واتركهم يا رسول الله (وَما يَفْتَرُونَ) أي افتراؤهم على الله سبحانه ، فقد كان المشركون ينسبون أباطيلهم إليه سبحانه ، و «ذرهم» تهديدا لهم ، لا أن معناه عدم وجوب ردعهم ونهيهم.

[١٣٩] (وَقالُوا) أي قال المشركون في قسم آخر من خزعبلاتهم : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ) أي مواش وزرع (حِجْرٌ) أي حرام (لا يَطْعَمُها) أي لا يأكلها (إِلَّا مَنْ نَشاءُ) وهي التي خصّصوها لأصنامهم فقد كانت خاصة للسدنة لا يشركهم فيها أحد (بِزَعْمِهِمْ) أي قد كان هذا التحريم زعما منهم ، إذ لم ينزل الله به من سلطان (وَ) عمدوا إلى قسم ثان من الأنعام فحجروها وقالوا : هذه (أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) أي لا تركب ، لأنها نذرت للآلهة ، أو لأنها ولدت كذا ولدا ، أو لأنها حمت ظهرها ، من السائبة وأخواتها ، كما تقدم في سورة المائدة (وَ) عمدوا إلى قسم ثالث من الأنعام فهي (أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) عند الركوب ، أو عند الذبح ، أو لا يحجون عليها ، وقد كانوا ينسبون كل ذلك إلى الله سبحانه (افْتِراءً عَلَيْهِ) فقد كانوا كاذبين في

سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا

____________________________________

هذه النسب (سَيَجْزِيهِمْ) الله سبحانه (بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي بسبب افترائهم على الله سبحانه كذبا وزورا.

[١٤٠] (وَقالُوا) أي قال المشركون في قسم آخر من أباطيلهم : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ) من الأجنة (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) أي نسائنا ، إن كانت حية (وَإِنْ يَكُنْ) ما في بطون الأنعام (مَيْتَةً) بأن خرج الجنين ميتا (فَهُمْ) رجالا ونساء (فِيهِ شُرَكاءُ) يجوز للنساء أكله كما يجوز للرجال (سَيَجْزِيهِمْ) الله تعالى (وَصْفَهُمْ) أي هذا الوصف الذي كانوا يصفون به الجنين بالتحليل والتحريم و «وصف» منصوب بنزع الخافض ، أي «بوصفهم» (إِنَّهُ) سبحانه (حَكِيمٌ) يحكم عن حكمة ومصلحة (عَلِيمٌ) بما يصدر من هؤلاء ، فيجازيهم حسب المصلحة والحكمة.

[١٤١] ثم يجمع ذلك كله بقوله سبحانه : (قَدْ خَسِرَ) الكفار (الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) خوف العار أو الفقر أو للنذر ـ فقد كانوا ينذرون قتل الأولاد ـ (سَفَهاً) أي جهلا وسفاهة ، فإنهم اشتروا بذلك النار (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بما يعملون ، فإنهم كانوا يزعمون صحة عملهم هذا (وَحَرَّمُوا

ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا

____________________________________

ما رَزَقَهُمُ اللهُ) أي خسروا بتحريمهم قسما من الأنعام والحرث الذي زعموا أنه حجر لأصنامهم (افْتِراءً عَلَى اللهِ) حيث كانوا ينسبون ذلك إليه سبحانه (قَدْ ضَلُّوا) الطريق المستقيم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في تلك الأعمال.

[١٤٢] (وَهُوَ) الله (الَّذِي أَنْشَأَ) أي خلق وأبدع (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مَعْرُوشاتٍ) أي مجعولات لها عروش من الكروم (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) من الأشجار التي لا تحتاج إلى العروش بل هي قائمة على ساقها (وَ) أنشأ (النَّخْلَ) للتمر (وَالزَّرْعَ) من مختلف المزروعات في حال كون جميع ذلك (مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي ثمره الذي يؤكل ، والاختلاف في اللون والطعم والشكل والخواص (وَ) أنشأ (الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) وذكرهما لكثرتهما في هذه البلاد في حال كون ذلك كله ، أو الأخيرين (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) من حيث اللون والورق والشجر وغيرها (كُلُوا) أيها البشر (مِنْ ثَمَرِهِ) أي ثمر هذا المنشأ (إِذا أَثْمَرَ) فإن ذلك مباح لكم (وَآتُوا حَقَّهُ) أي الحق المجعول عليه ، وهو إعطاء الفقراء منه شيئا ، حفنة حفنة ، أو كفا كفا (يَوْمَ حَصادِهِ) أي جنيه وقطعه (وَلا تُسْرِفُوا) في باب ما رزقناكم ،

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ

____________________________________

بأن تعطوا الجميع ، أو تصرفوه فيما لا يعني ، أو ما أشبه (إِنَّهُ) سبحانه (لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يكرههم.

[١٤٣] (وَ) أنشأ (مِنَ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (حَمُولَةً) هي الإبل التي يحمل عليها ، أو كل ما يحمل من الخيل والبغال والحمير والإبل (وَفَرْشاً) أي ما يفترش من جلودها كالغنم ، أو المراد بالفرش صغارها قبل أن تكون صالحة للحمل ، (كُلُوا) أيها البشر (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ولا تحرموا شيئا منها كما كان أهل الجاهلية يحرمون بعض الطيبات (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) كأن العاصي يضع قدمه حيث وضع الشيطان قدمه (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي واضح العداوة ، لأنه يسبب ذهاب دنياكم وآخرتكم.

[١٤٤] ثم بيّن سبحانه أن ليس في شيء من الأنعام محرما ، وإنما ذلك اختلاق من الجهال ، إنه سبحانه أنشأ (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) من الأنعام الثلاثة ، و «الزوج» يقع على الواحد الذي يقع معه الآخر ، وعلى الاثنين ، فالرجل زوج والمرأة زوج ، كما أن كليهما زوج (مِنَ الضَّأْنِ) وهي الشاة (اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى و «اثنين» بدل من «ثمانية» (وَمِنَ الْمَعْزِ) وهي السخل (اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يحرمون بعض هذه الأقسام : (آلذَّكَرَيْنِ) دخلت همزة

حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا

____________________________________

الاستفهام على همزة الوصل وفصل بينهما بالألف ، ولم تسقط همزة الوصل لئلّا يلتبس الاستفهام بالخبر وإن جاز الحذف لقرينة «أم» أي : هل أحد الذكرين من الضأن والمعز (حَرَّمَ) الله (أَمِ) إحدى (الْأُنْثَيَيْنِ) منها أم حرّم سبحانه ما (اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ)؟ أي الجنين الذي اشتمل عليه رحم الضأن والمعز ، فإنهم كانوا يقولون : إن ما في بطون هذه الأنعام محرم على الإناث وخالص للذكور (نَبِّئُونِي) أي : أخبروني أيها الكفار المحرمون لبعض هذه الأقسام (بِعِلْمٍ) أي : عن دليل عملي ، لا الأوهام والظنون (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في تحريم الله سبحانه لهذه الأقسام.

[١٤٥] (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى ، وهو عطف على («مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ» وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى ، وهذا تمام الثمانية (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (آلذَّكَرَيْنِ) أي : هل أن واحدا من الذكرين (حَرَّمَ) الله سبحانه (أَمِ) إحدى (الْأُنْثَيَيْنِ) من الإبل والبقر؟ (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ)؟ من الجنسين ـ كما تقدم ـ (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي : حضورا ـ مقابل «نبئوني بعلم» ـ أي : هل علمتم أو حضرتم التحريم؟ (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) التحريم ، وإذ لا دليل لكم لا سماعا ولا

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً

____________________________________

حضورا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فإن من ينسب إلى الله سبحانه حكما بالكذب هو أظلم الناس لنفسه. وقد تقدم أن التفضيل هنا نسبي لا واقعي (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيوقع الناس في الضلالة ، ولا علم له بصحة عمله ، بل يعلم بطلانه أو يظن ما يقوله ظنا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بل يتركهم وشأنهم حتى يتمادوا في غيهم وضلالهم.

[١٤٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) أي ما أوحى به الله سبحانه في باب تحريم هذه الأشياء التي تتناولونها أنتم والتي تحرمونها (مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) أي على آكل يأكله ، فكل ما تذكرون تحريمه باطل ، بل هو حلال طيب (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) غير مذكّى شرعا (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي مصبوبا ، وإنما خص المسفوح بالذكر ، لأن ما اختلط باللحم مما يعسر تخليصه منه محلل مباح (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) ومن المعلوم أن ذكر اللحم من باب المثال ، وإلا فشحمه وسائر أجزائه أيضا حرام (فَإِنَّهُ) أي كل واحد من هذه المحرمات ، أو خصوص لحم الخنزير (رِجْسٌ) أي قذر منفور منه (أَوْ فِسْقاً) عطف على «ميتة» أي لحما يكون أكله فسقا ، لأنه خلاف إباحة الله ، وذلك

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ

____________________________________

فيما (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : ذكر عليه اسم الأصنام حين القتل ، ولم يذكر عليه اسم الله (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول أحد هذه المحرمات (غَيْرَ باغٍ) في أكله (وَلا عادٍ) من التعدي ، بأن لم يكن طالبا لأكل الحرام ، ومتعديا حد سدّ الرمق ـ وقد تقدم المعنى في سورة المائدة ـ (فَإِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (غَفُورٌ) يغفر لمن تناول مضطرا (رَحِيمٌ) بالعباد حيث رخّص لهم ذلك ، وقد تقدم عدم المنافاة بين عدم المعصية والغفران.

[١٤٧] كان هذا الحكم بالنسبة إلى غير اليهود (وَ) أما (عَلَى الَّذِينَ هادُوا) فقد (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) من دابة ليست مشقوقة الرجل كالإبل والنّعام ، أو الطير كالإوز والبط (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) كل شحم في بدنهما (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي الشحم الذي كان على ظهرهما (أَوِ) ما حملته (الْحَوايا) من الشحم ، وهي : جمع «حاوية» ، والمراد به الأمعاء ، وهو الشحم الملتف بالأمعاء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) كشحم الجنب والإلية ونحوهما (ذلِكَ) التحريم عليهم لم يكن لأجل ضرر في المحرمات عليهم بل جزيناهم بسبب بغيهم أي ظلمهم حيث كانوا يكفرون بآيات

وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا

____________________________________

الله ويقتلون الأنبياء بغير حق (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في إخبارنا عن بني إسرائيل وما فعلوا وما فعلنا بهم ، وذلك بخلاف كثير من الأعداء حيث يلفّقون أخبارا مكذوبة على أعدائهم لحطّهم في أعين الناس.

[١٤٨] (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا رسول الله فيما ذكرت للمشركين من التحريم والتحليل ، حيث قالوا : إن حرام الله وحلاله كما نقول ، أو فيما ذكرت عن اليهود من تحريم الله عليهم المذكورات بسبب بغيهم (فَقُلْ) لهم : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) يرحم جميع ذوي الروح ، ولذا لا يعاجلكم بالعقوبة لكي تتوبوا (وَ) لكن مع ذلك (لا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي : لا يدفع عذابه إذا جاء وقته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الذين ارتكبوا الجرائم.

[١٤٩] (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) واتخذوا شريكا لله سبحانه ، للدفاع عن أنفسهم ، وتبرير شركهم (لَوْ شاءَ اللهُ) أن لا نشرك (ما أَشْرَكْنا) نحن (وَلا) أشرك (آباؤُنا) من قبل (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) فإذا أشركنا وحرمنا وسكت الله عنا فهو يرضى بذلك ويريد شركنا وتحريمنا (كَذلِكَ) أي كتكذيب هؤلاء لك يا رسول الله في قولك : إن الله لا يرضى بالشرك ولم يحرّم ما حرّمتموه (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أنبياءهم (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي : حتى نالوا عذابنا ونكالنا

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ

____________________________________

(قُلْ) يا رسول الله لهم ، ردّا على حجتهم (هَلْ عِنْدَكُمْ) أيها المشركون (مِنْ عِلْمٍ) بأن الله يريد شرككم وتحريمكم للمحللات (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) وإذ ليس لكم دليل فكلامكم خال عن الحجة (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون في أقوالكم وأعمالكم (إِلَّا الظَّنَ) فإنكم تظنون ما تقولونه لما اعتدتم عليه (وَإِنْ أَنْتُمْ) أي : ما أنتم (إِلَّا تَخْرُصُونَ) الخرص ، هو : التخمين.

[١٥٠] (قُلْ) يا رسول الله لهم : إنكم إذا عجزتم عن إقامة الدليل على عقيدتكم ومدّعاكم (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) التي بلّغتكم ، بأنه لا يريد الشرك ، ولم يحرّم المذكورات (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالجبر والإكراه ، لكنه لا يشاء ذلك حتّى يجري الاختيار والاختبار.

[١٥١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين حرموا الأمور المذكورة : (هَلُمَ) أي : أحضروا (شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) الذي ذكرتم حرمته من أقسام الحيوان والزرع ، إنه طالبهم بالعلم فلم يكن عندهم ، ثم طالبهم بالشاهد ، لكنه لا شاهد عندهم ، ولكنهم قد يأتون بشهود زور (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ) يا رسول الله (مَعَهُمْ) فإن شهادتهم باطلة.

وإن قيل : كيف دعاهم إلى الشهادة ، ثم لم يقبل شهادتهم؟

وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً

____________________________________

قلنا : إنه دعاهم إلى أن يأتوا بالشهود العدول لا من أنفسهم ، وإلّا فالمدعي لا يكون شاهدا ، فإن شهدوا بأنفسهم لم تقبل شهادتهم.

(وَلا تَتَّبِعْ) يا رسول الله (أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي هوى أنفسهم ، فإن من لا يعمل بالحق لا بد وأن يكون متبعا لهواه ، وحيث يرشده الهوى إليه (وَ) لا تتبع أهواء (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كالكفار الذين كانوا ينكرون البعث. ومن المعلوم أن الكفار كانوا على قسمين : منهم من يؤمن بالآخرة كأهل الكتاب ، ومنهم من لا يؤمن بها كالدهرية (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يجعلون له عدلا وشريكا.

[١٥٢] وبعد استنكار ما حرمه المشركون على أنفسهم ، واستنكار استحلالهم لبعض المحرمات ، يأتي السياق لبيان المحرمات الواقعية التي حرّمها الله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (تَعالَوْا) أي أقبلوا واحضروا (أَتْلُ) أي أقرأ (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) «ما» مفعول «أتل» (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) أي بالله (شَيْئاً) أي لا تجعلوا له سبحانه شريكا. والجملة في تأويل المصدر ، فيكون بدلا من «ما حرم» أي أتل تحريم الشرك. فلا يقال : إن النفي في النفي يفيد الإثبات.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أوصاكم بهما إحسانا ، إذ في «حرّم» معنى الإيصاء ، و «إحسانا» منصوب بفعل مقدّر ، تقديره : «أحسنوا

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

____________________________________

بالوالدين إحسانا». ومن المعلوم أن ترك كل واجب حرام ، ولذا صحّ تعداده في جملة «ما حرم» (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بنين وبنات (مِنْ إِمْلاقٍ) هو الفقر ، أي من جهة الفقر ، فقد كان المشركون يقتلون أولادهم ، خوف أن يفتقروا فلا يجدوا مؤونتهم. (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ) أنتم أيها الآباء (وَإِيَّاهُمْ) أي الأبناء ، فليس رزقهم عليكم ، ثم إن من المعلوم أن الرزق يحتاج إلى جدّ وتعب فليس المراد برزقه إياهم أنه ينزله من السماء في الدلو (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) جمع فاحشة ، صفة للمقدر أي «الصفة الفاحشة» (ما ظَهَرَ مِنْها) للناس (وَما بَطَنَ) أي أتي به سرا ، وهذا يشمل جميع المحرمات غير المذكورة بالنص (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) من المسلم والمعاهد (إِلَّا بِالْحَقِ) وقد تقدم أن مثل هذه الاستثناءات من أصل الكلام ، لا من قيده ، أي لا تقتلوا النفس إلّا بالحق ، والحق في القتل في موارد خاصة ، كالجهاد ، والزاني المحصن ، والمرتد الفطري ، والمهاجم والقصاص ، وما أشبه. (ذلِكُمْ) المذكور في الآية من المحرمات (وَصَّاكُمْ) الله (بِهِ) أي أمركم به ، فإن الوصية بمعنى الأمر (لَعَلَّكُمْ) أيها البشر (تَعْقِلُونَ) أي تحكّمون عقولكم في المحرم والمحلل ، فلا تقولوا شيئا اعتباطا.

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها

____________________________________

[١٥٣] (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) وهو من فقد الأب والجد ، أو الأعم منه ومن فقد الأم ، وكلمة «لا تقربوا» للمبالغة في الاجتناب ، وتخصيص اليتيم بالذكر ، مع عدم جواز التصرف في مال كل أحد بدون رضاه ، لأجل أن اليتيم لا يقدر على الدفاع عن نفسه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالطريقة التي هي أحسن من سائر الطرق ، بأن يحفظ له ماله إلا بمقدار ضروري لمعاش اليتيم حيث ينفق عليه (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) «الأشد» : جمع «شد» نحو : أضر ، جمع : ضر ، والشد : القوة ، وهو استحكام قوة الشباب ، أي حتى يبلغ إلى قوة شبابه ، وهو إنما يحصل بالبلوغ والرشد ، والبلوغ في الولد كمال خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، أو الاحتلام ، وفي البنت غالبا كمال التسعة والدخول في العاشرة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) فلا تنقصوا الكيل والميزان عند البيع ، ولا تزيدوهما عند الشراء (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، فلا إفراط ولا تفريط.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي بالمقدار الذي يسعها ، ولا يوجب ضيقا وحرجا عليها ، فهذه التكاليف السابقة ، لا حرج فيها على النفس ، أو المراد أن الوفاء بالكيل والوزن حسب المتعارف ، لا الدقة العقلية حتى يوجب عسرا وحرجا.

ولا يقال : فكيف كلّف الإنسان بالجهاد؟

لأنا نقول : إن الجهاد خارج عن هذا العموم ، فإنه لإرساء قواعد

وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ

____________________________________

الإسلام ، والعموم إنما هو في مقابل التكاليف في سائر الشرائع ـ المنحرفة ـ والقوانين المرهقة ، فإنه يريد بيان سهولة أحكام الإسلام وسماحتها.

(وَإِذا قُلْتُمْ) شيئا (فَاعْدِلُوا) في القول ، والعدل فيه أن لا يميل القائل نحو الباطل. فالغيبة ، والسبّ ، والقضاء بغير الحق ، وما أشبهها ، ظلم ، ليس بعدل (وَلَوْ كانَ) المقول فيه (ذا قُرْبى) فإن الناس غالبا يقولون الباطل لصالح ذوي قرباهم ، ولذا يأمرهم سبحانه بالعدل بالنسبة إليهم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) والمراد جميع معاهداته ، كما قال : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١) ، فالمراد الإتيان بالواجبات وترك المحرمات (ذلِكُمْ) الذي تقدم ذكره من الأحكام (وَصَّاكُمْ بِهِ) على طريق اللزوم والحتم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتذكروا وتأخذوا به ، والتذكّر باعتبار ما هو كامن في الفطرة من حسن هذه الأشياء ، كما سبق.

[١٥٤] (وَ) وصّاكم سبحانه (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) أي أن الأحكام التي أنزلتها توصل إلى السعادة ، فهي طريق إليها بالاستقامة ، لا كسائر الطرق الملتوية ، التي قد لا توصل ، وقد توصل بالتواء وعناء (فَاتَّبِعُوهُ) أي سيروا عليه وانتهجوه (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) الأخرى من سبل الكفر والبدع

__________________

(١) البقرة : ٤١.

فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)

____________________________________

والشبهات (فَتَفَرَّقَ) أي تتفرق تلك السبل (بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فتشتّتكم ، وتلهيكم عن طريقه سبحانه (ذلِكُمْ) الاتباع لسبيله (وَصَّاكُمْ) الله (بِهِ) إلزاما (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لكي تتقوا عقابه وتحذروا الخسران.

[١٥٥] إن هذا الصراط كان قديما قبل موسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام ، وإن الجميع كانوا مأمورين باتباعه (ثُمَ) بعد سبق هذا الصراط عند الأنبياء السابقين (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي أعطيناه التوراة (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي لأجل إتمام عمل موسى عليه‌السلام الحسن الذي أدّاه ؛ من القيام بالتبشير والهداية ، أو لأجل إتمام النعمة على موسى الذي أحسن الخدمة لله سبحانه ، فإن إنزال الكتاب على النبي من أعظم المفاخر بالنسبة إليه (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) مما يحتاج إليه الناس (وَهُدىً) أي دلالة على الحق (وَرَحْمَةً) يرحم الله بسببه على عباده حيث ينقذهم من الشقاء إلى السعادة (لَعَلَّهُمْ) أي لعل الناس (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي بملاقاة جزائه وثوابه وعقابه (يُؤْمِنُونَ) فيسعدون.

[١٥٦] (وَهذا) القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) له بركة يأتي منه الخير الكثير (فَاتَّبِعُوهُ) أيها الناس (وَاتَّقُوا) معاصي الله سبحانه ، ومخالفة كتابه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي تشملكم الرحمة.

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ

____________________________________

[١٥٧] وإنما أنزلنا هذا الكتاب (أَنْ تَقُولُوا) أي لئلّا تقولوا : (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) من قبل الله سبحانه (عَلى طائِفَتَيْنِ) اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلِنا) ولم يرتبط الكتاب بنا حتى نؤمن به (وَإِنْ كُنَّا) «إن» مخففة من المثقلة ، أي أنه كنّا نحن العرب (عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي دراسة أولئك الطوائف المنزلة عليهم الكتب ، أي لغتهم (لَغافِلِينَ) فلم نعرف ما في كتبهم حتى نؤمن بها ، فقد أنزلنا إليكم الكتاب حتى لا يكون لكم عذرا في عدم الإيمان.

[١٥٨] (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) الذي نفهمه (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي أكثر هداية في التمسك والعمل على طبق الكتاب لأنا ألين عريكة ، وأكثر تمسكا بالمعتقدات (فَقَدْ جاءَكُمْ) أيتها الأمة المعاصرة للرسول (بَيِّنَةٌ) أي دلالة واضحة (مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن (وَهُدىً) يهتدى به إلى الحق (وَرَحْمَةٌ) يرحم بها الله من تمسّك به ، إذ يسعده في الدنيا والآخرة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ) أي من يكون أكثر ظلما لنفسه (مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ)؟! وهو القرآن (وَصَدَفَ) أي أعرض (عَنْها) أي عن الآيات (سَنَجْزِي) في الآخرة ، أو الأعم منها ومن الدنيا (الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ

آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)

____________________________________

آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب الشديد (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي بسبب إعراضهم عن الحق والآيات.

[١٥٩] ما ينتظر هؤلاء الكفار بعد نزول القرآن؟ (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي هل ينتظرون للإيمان (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وذلك لا يمكن في دار التكليف (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) وذلك مستحيل لأن الله لا مكان له ولا حركة (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أي العذاب ، حتى يروا العذاب فيؤمنوا (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يا رسول الله (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) فإن العذاب إذا نزل لا تقبل التوبة ، لأن العذاب لا ينزل إلا بعد تمام الحجة والمخالفة ، وحين ذاك قد تم الاختبار وصار موعد المجازاة (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على «لم تكن آمنت» ، والمعنى : أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم ، أو ضمت إلى إيمانها أفعال الخير ، فإنها إذا آمنت فقد نفعها إيمانها ، وكذلك إذا ضمت إلى الإيمان طاعة لنفعها أيضا ، فلا ينفع إيمان الكافر ، ولا طاعة المؤمن عند حلول العذاب ، وإنما النافع الإيمان السابق ، والطاعة السابقة (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء : (انْتَظِرُوا) إتيان بعض آيات الله ف (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ذلك

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)

____________________________________

حتى يرى كل واحد منّا جزاءه العادل وما قدم لنفسه.

[١٦٠] ثم يقرّر سبحانه أن الإسلام إنما هو دين واحد لا تفرقة فيه ، فالذين يتفرقون ليسوا من الإسلام ، كما أن من أشرك ليس من الإسلام (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) تفريقا بالأهواء كالكفار المختلفين ، أو بالأديان كاليهود والنصارى وفرقهم ، أو بالضلالة والشبهات ولو في دين الإسلام ، كالفرق المبتدعة ، فإن الذين يفعلون ذلك (وَكانُوا شِيَعاً) جمع «شيعة» أي طوائف مختلفة (لَسْتَ) يا رسول الله (مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) فلا ربط بينكما أبدا ، وإنما هم في جهة وأنت في جهة.

وليس معنى أن الجميع على باطل ، بل المعنى أن ما ليس فيه الرسول باطل ، وإلّا فالحق دائما مع إحدى الطوائف (إِنَّما أَمْرُهُمْ) أي أمر هؤلاء الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا (إِلَى اللهِ) فهو الذي يجازيهم لسوء أفعالهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من الأعمال. وهذا تهديد ، كقولك : «لأعلمنك غدا» لمن خالف أمرك ، تريد أنك تعاقبه بفعله.

وهنا سؤال : إذا علمنا نحن المسلمين بطلان سائر المذاهب والطوائف ، فما ذا نفعل بهذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم؟

والجواب : إن الكتاب والسنّة يأمراننا باتباع علي وأهل بيته الأئمة الأحد عشر عليهم‌السلام ، وبعد ذلك فقد عيّن الفقهاء الراشدون لمرجعية الأمة ، في قوله عليه‌السلام : «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ،

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا

____________________________________

مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه» (١). وقوله عليه‌السلام : «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (٢). أما الاختلاف بين الفقهاء في بعض الفروع فليس ذلك اختلافا يذكر ، بل هو كالاختلاف بين كل مهندسين ، أو طبيبين ، أو حاكمين ، مع إخلاص كل منهما واتحاد منهجهما.

ثم إنه قد يستغرب : كيف يكون مصير هذه الكثرة من الناس الذين ليسوا بمسلمين ، وكثير من المسلمين المنحرفين ، النار ، ومن يبقى للجنة إذا؟

والجواب : إن ما يستفاد من الآيات والروايات أن الخلود في النار إنما هو للمعاند ، ولا دليل على أنه لا يمتحن القاصر من البشر في الآخرة ليدخل الجنة ، بل دلّ الدليل على ذلك ، كما هو مذكور في علم الكلام. ومن المعلوم عدم كون أكثر الناس مقصرين معاندين ، إذا فليس بالبعيد دخول كثرة هائلة من البشر الجنة ، للإيمان وحسن العمل في الدنيا ، أو حسن الامتحان في الآخرة.

[١٦١] وإذ تقدم الكلام حول الجزاء يقرر السياق القاعدة العامة له وأنه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) التاء إما للمبالغة ، وإما للتأنيث أي طاعة حسنة (فَلَهُ) من الثواب (عَشْرُ أَمْثالِها) على الأقل وإلا فقد يبلغ الثواب إلى (سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٣) ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) في التاء القولان ، وإذا كانت للتأنيث فهي صفة «خصلة» (فَلا

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري : ص ٢٩٩.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٤٠.

(٣) البقرة : ٢٦٢.

يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي

____________________________________

يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) سيئة واحدة وإن كانت عظيمة جدا ، فلا يقال : ما فائدة «الواحدة» فيما لو كانت أعظم من المعصية ككذبة واحدة جزاؤها سنة في النار ـ مثلا ـ؟ فمثلا جزاء من يسب الملك بلفظة مائة سوط ، وهو جزاء واحد ، وإن كان عظيما في نفسه (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في مقدار ما استحقوا من السيئات بل جزاء وفاقا.

[١٦٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) أي أرشدني (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والمراد : الصراط الموصل للإنسان إلى الحقائق والسعادة في الدنيا والآخرة ، بالنسبة إلى كل شيء من الأمور (دِيناً) منصوب على تقدير هداني ، أي هداني دينا ، أو على الحال أي أن الصراط في حال كونه دينا (قِيَماً) أي مستقيما ، وهو مصدر ، ك «الصغر والكبر» (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل من «دينا» والملة : هي الشريعة ، مأخوذة من «الإملاء» لأن الشرع يمليه الرسول على أمته ، وإنما نسب الدين إلى إبراهيم عليه‌السلام لاتفاق جميع الأديان على جلالته عليه‌السلام وصحة دينه ، وقد كانت الأديان كلها دينا واحدا فلا مانع أن ينسب اللاحق إلى السابق (حَنِيفاً) أي في حال كون تلك الملة مائلة عن الباطل إلى الحق ، من «حنف» بمعنى «مال» (وَما كانَ) إبراهيم عليه‌السلام (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلم يكن مشركا كمشركي مكة ولا يهوديا ولا نصرانيا ، فكلاهما مشركان.

[١٦٣] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (إِنَّ صَلاتِي) وهي الصلوات التي يأتيها

وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى

____________________________________

الإنسان واجبة أو مندوبة (وَنُسُكِي) النسك : العبادة ، يقال : رجل ناسك أي متعبد ، ويقال للأضحية : النسكية ، للتقرب بها إلى الله ، فهي عبادة (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي حياتي وموتي (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فإن عبادتي له وحده بلا شريك ، وأموالي ملكه وبقدرته لا بشركة أحد معه.

[١٦٤] (لا شَرِيكَ لَهُ) لا أشرك أحدا به في العبادة ، ولا أزعم أن له شريكا في حياتي وموتي (وَبِذلِكَ) أي بالتوحيد (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمة ، أو المراد رتبة إسلامي من أول الرتب.

[١٦٥] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي) أي أطلب (رَبًّا) وإلها (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الاستفهام للإنكار ، أي كيف أتخذ غير الله إلها ـ بالاستقلال أو بالشركة ـ والحال أنه تعالى رب كل شيء لا رب سواه ولا إله إلا هو؟

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) فإذا اكتسبت المعصية بالشرك ، لحقني جزائي السيئ ، (وَلا تَزِرُ) أي لا تحمل من «وزر» بمعنى حمل الإثم (وازِرَةٌ) أي نفس حاملة (وِزْرَ) أي معصية نفس (أُخْرى) بل عصيان كل أحد على نفسه وهو يحمل تبعته.

قيل : إن الكفار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ ، فأنزل الله هذه الآية.

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

____________________________________

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي إلى حسابه مصيركم أيها المشركون ، أو أيها البشر (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما) أي بالشيء الذي (كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ليجازي كل إنسان وما عمله من إحسان وإساءة.

[١٦٦] (وَهُوَ) الله وحده (الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) فإنكم تخلفون أهل العصر السابق في إرث الأرض وما عليها ، كما أن من بعدكم يخلفكم ويرثكم في أرضكم وأموالكم (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ذكاء ، وعلما ، ومالا ، ومنصبا ، ومن سائر الجهات ، فإن الأمور التكوينية والتقديرية كلها بيده لا شريك له (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي استخلفكم وأعطاكم عطاء متفاوتا ليختبركم ، ويظهر سرائركم ، وهل أنكم تطيعون أم تعصون (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) فلا يظن الكافر والعاصي ، أن العقاب بعيد ، فإن أمد الدنيا قصير مهما طال ، أو المراد سرعة العقاب في الدنيا ، وقبل الآخرة ، إذ المعاصي توجب آثار وخيمة فورا في الدنيا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) لمن تاب وآمن (رَحِيمٌ) يرحم العباد ، ويتفضل عليهم من واسع فضله.

(٧)

سورة الأعراف

مكية / آياتها (٢٠٧)

سميت السورة بهذا الاسم لوجود كلمة «الأعراف» فيها. ولما ختم سبحانه «الأنعام» بالرحمة ، افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين والحكمة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أبتدئ بها السورة ، وأجعل الإله الرحمن الرحيم ، قدام قراءتي لها.

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)

____________________________________

[٢] (المص) قد تقدم تفسير فواتح السور المقطعة ، وأنها رموز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أن من جنس هذه الحروف.

[٣] (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهو القرآن فليس حروفه أمرا خارقا ، وإنما التركيب أمر خارق (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ) يا رسول الله (حَرَجٌ) وضيق (مِنْهُ) أي من هذا الكتاب ، حيث ترى أن قومك يكذبوك ويؤذوك في سبيله ، بل اطمئن بنصر الله سبحانه وحسن ثوابه ، وإنما أنزل الكتاب إليك (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بهذا الكتاب ، الكافرين والعصاة ، بعقاب الله تعالى (وَ) ليكون (ذِكْرى) وتذكرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) فيتذكرون به الدين والأصول والفروع ، ليعملوا بما فيه.

[٤] (اتَّبِعُوا) أيها الناس (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من القرآن والأحكام (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي غير ربكم تعالى (أَوْلِياءَ) كالأوثان ، والكفار (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليل ـ أيها البشر ـ تذكركم واتعاظكم.

[٥] (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي كثيرا من أهل القرى (أَهْلَكْناها) عبّر بالقرية وأريد أهلها بعلاقة الحال والمحل ، والمراد بالإهلاك إرادته ، فإنه كثيرا ما يقال الفعل ويراد مقدماته ـ كما قرّر في علم البلاغة ـ (فَجاءَها بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) أي بالليل (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي في وقت القيلولة وهي نصف النهار ، من «أقال» بمعنى «أراح» ، ومن المعلوم أن العذاب

فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)

____________________________________

في هذين الوقتين أشد وقعا لغفلة الناس وراحتهم.

[٦] (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم ، وكلامهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) وقت مجيء العذاب (إِلَّا) الاعتراف بذنبهم ب (أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فاعترفوا بما كان منهم حين رأوا العذاب.

[٧] لكن الاعتراف لم ينفعهم (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل ، يسألهم عن أعمالهم ، وما أجابوا به الرسل لما بعثوا إليهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي الأنبياء ، فإن كل واحد من الرسل والأمم لا بد وأن يحضر في محضر الحساب.

[٨] وليس السؤال لجهلنا بما صدر من الطرفين (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي نقص ما كان من الطرفين قصة صادرة عن علمنا بأحوالهم ، فليس السؤال إلا التقرير والتأكيد على أنفسهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن أعمالهم حين عملوها بل كنّا شهودا عليهم حاضرين ـ علما ـ عند أعمالهم.

[٩] (وَالْوَزْنُ) للأعمال (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (الْحَقُ) فلا ينقص حق ولا يزاد على حق ، وإنما توزن الأعمال بموازين عادلة (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) الصالحة ، وإنما جمع «الميزان» ، باعتبار كل عمل عمل (فَأُولئِكَ) الذين ثقلت موازينهم (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين فازوا بالسعادة الأبدية.

وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)

____________________________________

[١٠] (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) الصالحة بأن ثقلت موازين سيئاته (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فإن النفس كانت لتحصيل الجنة ، فقد حصل الإنسان بها النار (بِما كانُوا) أي بسبب كونهم (بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي بسبب جحودهم بما جاء به الرسل من الآيات.

وهنا سؤال : ما هي طبيعة «الموازين» في الآية؟

والجواب : من المحتمل أن يراد بها الموازين المعقولة لا المحسوسة ، كما يقال : وزنت فلان ، أو فلان خفيف الوزن ، أو فلان له وزن ، وهكذا. والله سبحانه يعلم قيمة الأعمال ، كما أنّا نعرف قيم بعض الأعمال ، فنقدر المهندس وعمله أكثر مما نقدر العامل. كما أن من المحتمل أن يراد بها الموازين المحسوسة بأن تتجسّم الأعمال ، فللصلاة صورة ووزن ، وهكذا لسائر الأعمال الخيرية والشرية ، ثم توزن في موازين كموازين الدنيا.

[١١] (وَ) كيف لا تخضعون لله سبحانه ، والحال أنه بالإضافة إلى نعمة إرسال الرسل والهداية ، ابتدأ عليكم بنعمة الحياة؟ ف (لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) أيها البشر (فِي الْأَرْضِ) بأن جعلنا الأرض تحت إرادتكم تبنون وتزرعون وتخرجون كنوزها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ما تعيشون به من أنواع الرزق (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي أن شكركم للنعم قليل.

وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ

____________________________________

[١٢] (وَ) قبل ذلك (لَقَدْ خَلَقْناكُمْ) أي أوجدنا أصلكم الذي هو التراب ، أو المني ، أو الدم ، بعد العدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أفضنا عليكم الصورة الإنسانية ، في رحم الأمهات (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) إن أريد ب «ثم» معناها الظاهر ، كان المراد من «خلقناكم» خلقنا أسلافكم ، أي آدم عليه‌السلام ، ومن البلاغة أن ينسب الإنسان ما للآباء إلى الأبناء ، كما قال : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) (١) ، بالنسبة إلى اليهود المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن أريد بها الترتيب في الكلام ، نحو «إن من ساد ثم ساد أبوه» كان الخطاب في «خلقناكم» على ظاهره.

وقد كان أمرنا بالسجود لآدم ـ جدكم ـ نعمة وتشريفا لكم (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الشيطان ، ويسمى إبليسا لأنه «أبلس» وحرم من رحمة الله سبحانه (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) فإنه أبى واستكبر ، وهو لم يكن من الملائكة ، وإنما كان معهم فشمله الخطاب.

[١٣] (قالَ) الله تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) «لا» زائدة في الكلام ، أي ما منعك أن تسجد ، وإنما يؤتى بها لنكتة بديعة ، هي قطع الكلام عما سبقه والابتداء بالكلام التالي ، ليتكرر التوبيخ كأنه قال «ما منعك»؟ وحذف المتعلق ثم سكت هنيئة ، وابتدأ «أن لا تسجد». ومثل هذا في المحاورات كثير (إِذْ أَمَرْتُكَ) بالسجود (قالَ) إبليس :

__________________

(١) البقرة : ٩٢.

أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)

____________________________________

(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أي من آدم ، فلا ينبغي للأرفع أن يسجد ويتواضع للأخفض ، ثم علل كونه خيرا بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ) أي خلقت آدم (مِنْ طِينٍ) والنار مضيئة والطين كدر. لكن قياسه كان باطلا إذ مجرد الإضاءة لا تكون سبب الأفضلية ، وإنما الأشياء بالكسر والانكسار ، وإعدام النار للأشياء بعكس الأرض المحيية لها جهة نقص فيها ، سبب لرفعة الأرض عليها ، بالإضافة إلى أن التواضع كان للآمر لا لآدم ، فمن أمر عبده بأن يحمل طبقا من طين على رأسه كان عمل العبد امتثالا للسيد لا تواضعا للطين.

[١٤] (قالَ) الله سبحانه لإبليس : (فَاهْبِطْ) أي اخرج خروجا انحداريا ـ إما منزلة أو حقيقة ـ (مِنْها) أي من الجنة (فَما يَكُونُ لَكَ) أي ليس لك حق (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي في الجنة لأنها ليست موضع المتكبرين (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) من «الصغار» وهو «الذلة» ، فإنك ذليل في مقام قربنا ، حقير عندنا.

[١٥] (قالَ) إبليس لله سبحانه : (أَنْظِرْنِي) أي أمهلني لأن أبقى حيا (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة الذي يبعث فيه الخلق للجزاء.

[١٦] (قالَ) الله سبحانه : (إِنَّكَ) يا إبليس (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي من الذين يمهلون ولا يعجل لهم بالموت ، ولعلّ المراد بسائر المنظرين «الملائكة» ـ أي أنت أيضا مثلهم في الإمهال ـ ولكن من المعلوم أنه

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)

____________________________________

ليس الإنظار إلى يوم القيامة بل (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).

[١٧] (قالَ) إبليس بعد إمهال الله سبحانه له (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي بسبب إغوائك لي ، وليس المراد إغواءه سبحانه ، بل المراد الإتيان بسبب ، وأمره بأمر سبب غوايته ، وقد ذكرنا سابقا أن الأفعال إنما تنسب إليه سبحانه لأنه الخالق المهيئ للأسباب والوسائل (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي للبشر (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي أقعد في طريقك لأغوي البشر عنه إلى الضلال والانحراف ، فإن إغوائي للبشر مقابل إغوائك لي ، وقد كان هذا القياس من الشيطان أيضا باطلا ، وهو مثل أن يعطي الأب ولديه رأس مال ، فيأخذ أحدهما رأس المال ويذهب به نحو الفساد ، ثم لما أتم ماله ، وبقي رأس مال أخيه يقول لأبيه ، كما سببت فسادي أسبب فساد أخي ، وهذا الكلام خارج عن المنطق ، إذ الأب لم يسبب فساده وإنما أراد صلاحه ، بخلاف عمله في فساد أخيه فإن الفاسد يسبب فساده.

[١٨] (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي من قدامهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) وهذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، فكما يجلس اللص في طريق المسافرين ، ثم يهاجمهم من جميع جوانبهم الأربعة ليسرق ما معهم ، كذلك الشيطان يطوّق الإنسان ليضله عن طريق الله سبحانه (وَلا تَجِدُ) يا رب (أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر البشر (شاكِرِينَ) لك ولنعمك ، بل يتبعون طريق الكفران ، فإن من عصى

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ

____________________________________

الله سبحانه فقد كفر بنعمه وفضله.

وهنا سؤال : لم أطلق الله سبحانه إبليس ليضل البشر؟

والجواب : لأن الدنيا وضعت للاختبار ، ولو لم يكن الآمر بالشر كانت دنيا جبر وإكراه ، ولم يكن للمطيع فضل يستحق به الجنة.

وسؤال ثان : أليس من الممكن أن يتفضل الله بالجنة على البشر بدون اختبار؟

والجواب : كلّا ، إن الإنسان بالإطاعة يكون قابلا للدرجات ، كالتلميذ الذي يكون قابلا للتعليم ـ بالقراءة والامتحان ـ فلو لم تكن إطاعة لم تكن قابلية ، ومن المعلوم أن حرمان القابل لأجل غيره ظلم ، ألا ترى لو أن الحكومة لم تفتح المدرسة لتهذيب النفوس المستقيمة الذكية ، إشفاقا على البليد الذي يرسب ، كان ظلما للذكي النابه. والكلام طويل مذكور في كتب الكلام والفلسفة.

[١٩] (قالَ) الله تعالى لإبليس : (اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (مَذْؤُماً) من «ذأم يذأم» فهو «مذءوم» بمعنى : عاب ، فإن الذأم والذيم أشد العيب (مَدْحُوراً) أي مطرودا ، من «دحر» بمعنى : طرد (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي : أؤكد أن من تبعك من البشر (لَأَمْلَأَنَ) أي أملأ بالتأكيد (جَهَنَّمَ مِنْكُمْ) من التابع والمتبوع (أَجْمَعِينَ) بلا استثناء.

[٢٠] وبعد تمام الكلام مع الشيطان توجه الخطاب إلى آدم عليه‌السلام الذي خلقه سبحانه للاستخلاف في الأرض (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) حواء

الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ

____________________________________

(الْجَنَّةَ) هو أمر من «السكن» دون السكون ، والتقدير «ولتسكن زوجك» (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) من ثمار الجنة (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) بالأكل ، والنهي عن الاقتراب مبالغة في عدم الأكل ، نحو قوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) (١) ، وقد تقدم الكلام حول ماهية الشجرة ، في سورة البقرة (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسكما ، والظلم كان لأجل أن الأكل يسبب خروجهما.

[٢١] (فَوَسْوَسَ لَهُمَا) أي لآدم وحواء ، ومعنى الوسوسة : الإلقاء في الذهن إلقاء مردّدا ، هل يفعل أو لا يفعل (الشَّيْطانُ) في أكل الشجرة (لِيُبْدِيَ لَهُما) أي ليظهر لهما ، و «اللام» للعاقبة ، نحو : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) ، (ما وُورِيَ) أي ما ستر من «وارى» على وزن «فاعل» (عَنْهُما) أي عن آدم وحواء (مِنْ سَوْآتِهِما) أي عورتيهما ، فقد كان آدم وحواء مستورين بألبسة الجنة وكان لازم إخراجهما إذا أكلا من الشجرة أن ينزع عنهما اللباس ، فكان عاقبة أكلهما إظهار عورتيهما ، وسميت العورة «سوءة» لأنها يسوء الإنسان ظهورها.

(وَقالَ) الشيطان في وسوسته لهما (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ

__________________

(١) الإسراء : ٣٥.

(٢) القصص : ٩.

الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ

____________________________________

الشَّجَرَةِ) أي عن أكلها (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) فليس النهي لأجل تحريم الأكل عليكما ، بل لأجل أن تبقيا في صورة البشر ـ المحببة إليكما ـ أما إذا لم تشاءا فلا مانع لله سبحانه عن أكلكما من الشجرة ، والحاصل أنه أوهمهما أن النهي ليس وراءه لوم ، وإنما هو نهي صلاح (أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) فمن أكل من الشجرة إما أن يصبح ملكا ، أو يكون إنسانا خالدا.

[٢٢] (وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما بالله تعالى ، فإن «قاسم» و «أقسم» بمعنى الحلف (إِنِّي لَكُما) يا آدم وحواء (لَمِنَ النَّاصِحِينَ) فإني أنصحكم بالأكل لتكونا كسائر الملائكة ، أو تبقيا مخلدين في الجنة.

[٢٣] (فَدَلَّاهُما) أي دلّى الشيطان آدم وحواء ، من «تدلية الدلو» وهو أن ترسلها في البئر ، بمعنى دلاهما من الجنة إلى الأرض (بِغُرُورٍ) أي بما غرّهما من الكلام والقسم (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) بأن أكلا منها شيئا يسيرا انتزعت ملابسهما و (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهرت عورتاهما (وَطَفِقا) أي شرعا (يَخْصِفانِ) أي يجمعان من «الخصف» بمعنى الجمع (عَلَيْهِما) أي على أنفسهما (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) فقد أخذا من أوراق شجرة التين ، وجعلا يلفان على عورتيهما (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ

أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا

____________________________________

أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي عن تناول هذه الشجرة ، فلما ذا أكلتما منها؟ (وَ) ألم (أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)؟ أي عدو ظاهر ، فلم سمعتما كلامه؟

وهنا سؤال : كيف يمكن لمثل آدم النبي المعصوم عليه‌السلام أن يترك قول الله سبحانه : (لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (١) ، ويأخذ بقول الشيطان القائل : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)؟

والجواب : إن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، ولعل آدم وحواء ظنا أن المراد بالظلم أن يكونا ملكين وبالأخص لما حلف الشيطان لهما ، فإنهما لم يكونا يحتملان أن أحدا يحلف بالله كاذبا ـ كما في الحديث ـ.

وقد تكرر استعمال الظلم لوضع الشيء غير موضعه ، وإن لم يكن فيه غضاضة أصلا ، كما قال سبحانه حكاية عن موسى : (ظَلَمْتُ نَفْسِي) (٢) ، ولعلهما ظنا أن الأصلح بحالهما أن يبقيا بشرا ـ حسب كلام الله ـ لكنهما شاءا الجائز ، كما يترك الإنسان كثيرا ما الأصلح لما يجده أوفق بحاله ، وهذا مما لا ينافي مقام العصمة إطلاقا.

[٢٤] (قالا) أي قال آدم وحواء عليهما‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) بارتكاب

__________________

(١) البقرة : ٣٦.

(٢) القصص : ١٧.

وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)

____________________________________

المنهي عنه وأكل الشجرة (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أي تستر علينا ، وهو كناية عن العفو عما صدر (وَتَرْحَمْنا) أي تتفضل علينا برحمتك (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا بعض درجاتهم. وحيث تقرر عقلا ونقلا أن الأنبياء معصومون ، كان اللازم القول بعدم كون أكل الشجرة معصية إطلاقا ، وإنما كان النهي للإرشاد ، كما يقول الطبيب للمريض : «لا تشرب هذا المائع فيطول مرضك» ، فإنه نهي للإرشاد ، ويكون ارتكابه موجبا لطول المرض فقط ، وليس هذا مما يوجب العقاب.

وكذلك كان النهي بالنسبة إلى أكل الشجرة ، لأنه كان لإرشادهما إلى البقاء في الجنة أبدا ، كما قال سبحانه : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١) ، وكان الأكل موجبا للخروج من الجنة ، ولقاء مشاكل الدنيا ، والظلم ـ كما تقدم ـ هو وضع الشيء في غير موضعه ويلائم ارتكاب المنهي إرشادا ، كما يلائم القبيح ، كما أن الغفران هو الستر ، وهو يلائم العصيان ويلائم ارتكاب المنهي الإرشادي ، والخسران يلائم عدم الربح المتوقع ، ولذا يقول التاجر : «خسرت» فيما إذا لم يربح المتوقع. ألا ترى أن المريض إذا ارتكب ما يسبب طول مرضه ، يقول للطبيب : «اشتبهت ، فتدارك الأمر ، وإلا خسرت صحتك في هذه المدة» ولم يكن ذلك عصيانا إطلاقا. ومن هنا اشتهر في تسمية هذا النوع من الخلاف ب «ترك الأولى» أي أن الأولى كان عدم الارتكاب ، وهنا سؤالان :

__________________

(١) طه : ١١٩ و ١٢٠.

قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ

____________________________________

الأول : كيف يصدر مثل هذا الترك من الأنبياء ولهم المقام الرفيع؟

الثاني : إن هذا فتح لباب التأويل وارتكاب خلاف الظاهر ولا داعي له؟

والجواب عن الأول : أن ذلك لئلّا يعتقد البشر ألوهية الأنبياء ، فإن من عادة البشر الغلو بالنسبة إلى القديسين ، وذلك ضد الغلو ، وإن غالى بعض الضعاف أيضا.

والجواب عن الثاني : إن فتح هذا الباب مما لا بد منه ، فإن الكلام مشتمل على المجاز والكناية وما أشبه ـ حتّى بالنسبة إلى كلام البشر العادي ، فكيف بالبلغاء ـ وإلّا لزم القول بالتجسيم لقوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) ، والظلم لقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) (٢) ، والكذب لقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) (٣) ، إلى غير ذلك. وقد جرت قوانين البلاغة على أن يصرف الكلام إلى المراد منه ، وإن كان خلاف الظاهر اللفظي ، إذا دل دليل من العقل والنقل على المراد ، أما إذا لم يكن هناك دليل ، أخذ بظاهر الألفاظ.

[٢٥] (قالَ) الله سبحانه لآدم وحواء وإبليس : (اهْبِطُوا) من الجنة هبوطا نحو الأسفل حيث كانت الجنة أعلى من الأرض ، أو هبوطا رتبيّا ، إن كانت من جنان الدنيا (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فالشيطان عدوّ لهما وهما عدوّان له ، وبين المرأة والرجل تنافس وتجاذب (وَلَكُمْ) جميعا (فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي محل قرار (وَمَتاعٌ) تتمتعون به من المأكل

__________________

(١) القيامة : ٢٤.

(٢) النساء : ٨٩.

(٣) الأنفال : ١٨.

إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى

____________________________________

والملبس وغيرهما (إِلى حِينٍ) الموت أو حين البعث.

[٢٦] (قالَ) الله تعالى ثانيا : (فِيها) أي في الأرض (تَحْيَوْنَ) أي تعيشون ، أو المراد يحيى لك نسل (وَفِيها تَمُوتُونَ) جميعا (وَمِنْها) أي من الأرض (تُخْرَجُونَ) يوم القيامة للحساب والجزاء.

[٢٧] ثم خاطب الله سبحانه البشر ، بمناسبة نزع الشيطان لباس أبويهم ، وبمناسبة ما وعد من أن لهم في الأرض متاع ، بقوله : (يا بَنِي آدَمَ) والخطاب بهذا اللفظ للتذكير بجدّهم آدم عليه‌السلام ـ لمناسبة الموضوع ـ (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) إما المراد «الإنزال» حقيقة ، بأن أنزل اللباس من الجنة ، أو «الإنزال» مجازا بنزول المطر الذي هو سبب نبات القطن وما أشبه ، ورعي الحيوانات ذات الأصواف ، أو المراد «التعظيم» لعظم المعطي ، كما يقال : «رفعت عريضتي إلى القاضي» تعظيما لمقامه وأنه أرفع منزلة من صاحب العريضة ، ومثله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (١) ، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٢) ، (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً) (٣) ، (يُوارِي) أي يستر (سَوْآتِكُمْ) أي عوراتكم (وَ) أنزلنا عليكم (رِيشاً) أي أثاثا مما تحتاجون إليه ، و «الريش» ما فيه الجمال ، ومنه ريش الطائر (وَلِباسُ التَّقْوى) أي الاجتناب عن معاصي الله سبحانه ، وسمي لباسا لأنه يستر الشر الكامن في نفس الإنسان ، كما يستر اللباس

__________________

(١) الزمر : ٧.

(٢) الحديد : ٢٦.

(٣) الطلاق : ١١ و ١٢.

ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما

____________________________________

مواضع القبح من بدن الإنسان ، فمثلا من يغتاب غيره يظهر قبح نفسه ، فإذا اتقى سترت هذه التقوى قبحه النفسي (ذلِكَ خَيْرٌ) من جميع أنواع اللباس الظاهرة ، إذ القبائح النفسية أكثر وأبشع من القبائح البدنية ، لأن القبائح الكامنة إذا ظهرت توجب النار والخزي بخلاف قبائح الجسد (ذلِكَ) أي لباس التقوى (مِنْ آياتِ اللهِ) «من» إما للإنشاء ، أي أن لباس التقوى ينشأ من الآيات والحجج التي أنزلها الله سبحانه ، وإما تبعيضية أي أن التقوى من جملة آيات الله وعلاماته ، لأنه هو الذي أمر بالتقوى (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي جعل الله التقوى آية لكي يتفكر الإنسان ، ويتذكر فيما أودع في فطرته ، فيسعد.

[٢٨] (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي لا يضلنّكم بأن يدعوكم إلى المعاصي فتجيبوه فيحرمكم من السعادة والجنة (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) آدم وحواء (مِنَ الْجَنَّةِ) ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بإغوائه ووسوسته ، إخراجا بصورة بشعة حيث كان (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) والنزع وإن كان من فعله سبحانه ، إلّا أنه حيث كان بسبب الوسوسة ، صح الانتساب إليه ، كما قال سبحانه عن فرعون : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) (١) ، مع أن الذبح كان من فعل جنود فرعون (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) أي عورتيهما. ولعل السر في تكرار هذه اللفظة تركيز البشاعة في نفس السامع ، فمن يرغب في أن تبدو سوءته؟

__________________

(١) القصص : ٥.

إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا

____________________________________

وحيث كان هنا محل سؤال : أنه كيف يفتن الشيطان الإنسان ولا يراه؟ قال سبحانه : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) أي نسله ، فإن للشيطان نسلا كما للإنسان ، كما قال سبحانه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) (١) ، (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) فإنهم من جنس لطيف لا يرى بالعين المجردة ، كالهواء اللطيف الذي لا يرى ، وإن أحس به الإنسان.

ومن قال : إنه كيف يأمر بذلك؟

فالجواب : إن هذه الإلقاءات في القلب بالشر ، كلها منه ، كما أن الإلقاءات الخيرة من الملائكة ـ كما في الأحاديث ـ وإلا فمن أين هذه الإلقاءات؟!

(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ومعنى «جعله» سبحانه : التخلية بينهم وبين الشياطين ، ومعنى كونهم أولياء : أنهم يتبعونهم ، ويتخذونهم محل الولي الحميم في التصادق معهم دون المؤمنين.

[٢٩] والذين لا يؤمنون بالإضافة إلى أنهم اتخذوا الشيطان وليا ، إنهم مقلّدون تقليدا أعمى ، كاذبون في أقوالهم ، عالمون بالفحشاء ، فهم مجمع الرذائل حيث تركوا الإيمان (وَإِذا فَعَلُوا) أي فعل الذين لا يؤمنون (فاحِشَةً) أي خصلة فاحشة ، متعدية عن الحق ، فإن «فحش» بمعنى «تعدّى» ، وهذا عام شامل لجميع المعاصي (قالُوا وَجَدْنا

__________________

(١) الكهف : ٥١.

عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ

____________________________________

عَلَيْها) أي على هذه الفاحشة (آباءَنا) فإنا نقلّدهم في عملهم هذا (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) أي بهذه الفاحشة ـ وكان قولهم هذا كذبا ـ (قُلْ) يا رسول الله لهم : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ثم ردّ عليهم من وجه آخر هو : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) على نحو الاستفهام الإنكاري.

وقد ورد في التفسير : أن الآية نزلت بمناسبة ما كان يفعله المشركون ، فإنهم كانوا يبدون سوءاتهم في طوافهم ، فكان يطوف الرجال والنساء عراة ، يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب ، وكانت المرأة تضع على قبلها النسعة في الطواف وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

تعني «العورة» ، فكان التذكير بذلك بمناسبة إنعام الله على بني آدم باللباس ، وفي سياق نزع إبليس لباس آدم وحواء عليهما‌السلام.

[٣٠] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين إذا فعلوا الفاحشة قالوا إن الله أمرنا بها : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) أي بالعدل والحق ، لا بالفحش والتجاوز (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) فلا تتخذوا الشيطان وليا ، كالمشركين ، وهذا إما عطف على «أمر ربي» أي قل : أقيموا ، وإما عطف على «لا يفتننكم الشيطان». ولعله المناسب للمعنى ، وهو أن

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)

____________________________________

الله يأمر بالقسط ، وبالإخلاص ، أو للقصة ، وهو أن اللازم إقامة الوجه ، لا إقامة الفرج ـ كما كانوا يطوفون عراة ـ.

وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية هدم لما كان أهل الجاهلية يلتزمون به من اختصاص الشعائر بقبيلة دون قبيلة ، فكان لهذا صنم ولذاك صنم ولهذه كعبة ولتلك كعبة ، فإن الإسلام يرى المساجد كلها لله ، واللازم على المسلم أن لا يفرق بينها ، أو أنه في قبال المسيحيين الذين كان لكل طائفة منهم كنيسة.

(وَادْعُوهُ) أي ادعوا الله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي ليكن دعاؤكم في حال كونكم أخلصتم له دينكم (كَما بَدَأَكُمْ) أي خلقكم (تَعُودُونَ) فهو وحده الذي خلق ويعيد ، فلا معنى لأن يشرك به غيره.

[٣١] إنكم ستعودون فريقين (فَرِيقاً هَدى) أي هداه الله سبحانه (وَفَرِيقاً حَقَ) أي ثبت (عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) لأنهم أعرضوا عن الهداية وسلكوا سبيل الغواية ، وإنما ضلوا بسبب (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) فكانوا يتبعون أوامر الشياطين لا أوامر الله سبحانه ، ولذا ضلوا (وَ) من اللطيف أنهم (يَحْسَبُونَ) أي يظنون ويزعمون (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) وأن طريقتهم حق.

[٣٢] وبمناسبة ذكر المسجد يأتي الحكم حول أمر مرتبط بالمسجد كما أن بمناسبة ذكر المحرمات سابقا يأتي بيان الحرام والحلال ، وبيان أن

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)

____________________________________

الطيب غير محرم وإنما حرّم الخبيث لمصلحة الإنسان (يا بَنِي آدَمَ) خطاب لكل مكلف من أبناء آدم وحواء (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي ثيابكم التي تتزيّنون بها ، خذوها وألبسوها إذا أردتم الذهاب إلى المسجد.

روي أن الحسن بن علي عليهما‌السلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه. فقيل له : يا بن رسول الله! لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال : «إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي ، وهو يقول : خذوا زينتكم عند كل مسجد ، فأحب أن ألبس أجود ثيابي» (١).

والظاهر أن الآية عامة تشمل غير الثياب أيضا ولذا روي عن الصادق عليه‌السلام ، تفسيرها ب «التمشيط» (٢).

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) أي مباح لكم المأكول والمشروب ، فإن الأمر هنا للإباحة (وَلا تُسْرِفُوا) في الأكل والشرب ، أو في كل شيء ، والإسراف هو التجاوز ، فقد يصل إلى حد المكروه ، وقد يصل إلى حد الحرام (إِنَّهُ) تعالى (لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي يكرههم ويبغضهم. ولعل التعبير ب «لا يحب» لبيان أن الله سبحانه لعلوّ مقامه وعظمته فيجب على الإنسان أن يجتنب ما لا يحبّه ، فكيف بما يكرهه ، وقد جرى ديدن العظماء أن يعبروا ب «لا أحب» فيما لا يريدونه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٤ ص ٤٥٥.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢ ص ١٢٢.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)

____________________________________

[٣٣] (قُلْ) يا رسول الله : (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) جميع أنواع الزينة من المساكن والمتنزهات والحليّ والملابس والمراكب وغيرها (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) المأكل الحلال ، أو المراد : كل رزق ، والاستفهام على سبيل الإنكار ، أي أنها ليست بمحرمة ولا حق لأحد في تحريمها ، فما يفعله الرهبان ليس صحيحا.

(قُلْ) يا رسول الله (هِيَ) أي الزينة والطيبات ـ باعتبار كل واحد منهما ـ (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فما يتناوله الكفار منها حرام لا يجوز ، في حال كونها (خالِصَةً) للمؤمنين بلا مشاركة الكافرين لهم إطلاقا ـ حتى على وجه الحرام ـ (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإن الطيبات للمؤمنين في الدنيا وفي الآخرة ، لكن الكفار يشاركون المؤمنين زورا في الدنيا ، ولا يقدرون على ذلك في الآخرة ، وهناك احتمال آخر : أي أن الطيبات خالصة في الآخرة لمن آمن في الدنيا ، فتكون جملة واحدة ، لا جملتان ، ثم لا يخفى أن كون الطيبات للمؤمن في الدنيا ـ على المعنى الأول ـ لا يقتضي جواز تناولها من يد الكافر غير الحربي ، بحجة أنها ليست له ، فإن الله سبحانه جعل في الدنيا لغير الحربي حرمة ، لأجل استقامة أمور العالم.

(كَذلِكَ) أي كما فصلنا الأمور السابقة ، واضحة لا لبس فيها (نُفَصِّلُ الْآياتِ) الدالة على الأصول والفروع (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإن العلماء هم الذين يستفيدون من هذه الآيات.

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)

____________________________________

[٣٤] ولما بيّن سبحانه المحللات عطف عليها المحرمات ، فقال : (قُلْ) يا رسول الله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) جمع «فاحشة» أي الخصلة الفاحشة ، المتعدّية عن الحق ، من «فحش» بمعنى تعدّى ، والمراد بها : كل منكر (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) أي ما أعلن أو أخفي.

ثم بيّن سبحانه بعض أفراد الفاحشة لأهميتها (وَالْإِثْمَ) أي الخمر ، فإنه من أسمائها قال الشاعر :

شربت الإثم حتى زال عقلي

كذاك الإثم يفعل بالعقول

(وَالْبَغْيَ) أي الظلم (بِغَيْرِ الْحَقِ) هذا قيد توضيحي ، لإفادة أن البغي ليس بحق ، كقوله سبحانه : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) (١) ، (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ) أي حرّم سبحانه الشرك (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي لم يقم له دليل ، وكل شرك كذلك ، فالقيد توضيحي لبيان أن الإشراك ليس بأمر الله ، خلافا لما كان المشركون ينسبون شركهم إليه سبحانه (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أنه تعالى حرم نسبة ما لا تعلمون إليه ، خلافا للكفار حيث أنهم كانوا يفعلون المعاصي ويقولون : «أمرنا الله بها».

[٣٥] ثم سلّى سبحانه نبيه ، بأن لا يضيق صدره بما يفعله الكفار ، من

__________________

(١) آل عمران : ٢٢.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي

____________________________________

اقتراف هذه الجرائم كلها بقوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل جماعة وأهل عصر ومصر مدة لا يتجاوزونها ، ولهؤلاء مدة ، ثم يلفّهم الموت ، وينسيهم البلى ، وستطهر الأرض منهم (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) بأن توجه الأجل إليهم (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً) أي لا يتأخرون مقدارا من الزمن ، فإن «الساعة» في اللغة بمعنى : مقدار الزمان قصر أم طال (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي لا يتقدمون على موعدهم ، فإذا قدّر هلاك أمة في الساعة الرابعة من يوم الجمعة ، فإذا توجه الأجل إليهم في الصباح لا يتأخرون إلى الساعة الخامسة ، ولا يتقدمون إلى الساعة الثالثة. والظاهر أن الفعلين بمعنى «الاستفعال» ، أي لا يطلبون ـ طلبا مفيدا ـ التقديم والتأخير ، وليس «جاء» بمعنى «وقع» حتى يقال : إن التقديم والتأخير لا يعقل بالنسبة إلى الأمر الواقع ، وليس في الكلام مجاز المشارفة ، إذ «جاء» لفظ يقع بالنسبة إلى الواصل ، وبالنسبة إلى من في الطريق.

[٣٦] (يا بَنِي آدَمَ) خطاب لعموم المكلفين (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) أي إن أتاكم ، فإن «إما» مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة (رُسُلٌ مِنْكُمْ) لا يقال : لا رسول بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما معنى ذلك؟ قلت : إن الشرط قد يصاغ لإفادة التحقيق ، فهو إنشاء مفهوم الشرط لغرض آخر ، كما ينشأ مفهوم التعجب والأمر والاستفهام ، لأغراض أخرى ، فالمراد ـ هنا ـ أن الرسل تأتي لتبين للناس ، فمن أطاع سعد ، ومن خالف شقي (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ) أي يخبرونكم (آياتِي) وأحكامي فإن «قص» بمعنى «اتبع

فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ

____________________________________

الأثر» ، فالنقل عن الله سبحانه قصة عنه (فَمَنِ اتَّقى) إنكار الرسل والآيات ، أو اتقى المعاصي (وَأَصْلَحَ) عمل صالحا (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) كخوف سائر الناس (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) كحزنهم ، فإن أهل التقوى يعلمون أن ما يصيبهم إنما هو بإذن الله ، وأن الله أعدّ لهم أعظم الجزاء ، ولذا لا يكون للكوارث عليهم وقع ، كما أنهم يكونون مطمئنين بثواب الله في الآخرة ورحمته ، ولذا لا يكون لهم خوف من العقاب كخوف غيرهم.

[٣٧] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي حججنا ودلائلنا ، وأنكروا الأنبياء والرسل (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) بأن رأوا أنفسهم فوق الرسل ، وفوق الإذعان لآيات الله (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الملازمون لها ، فإن الملازم للشيء يقال له الصاحب (هُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد.

[٣٨] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد أظلم منه ، فهو إخبار في صورة استفهام ، ليكون أبلغ ، إذ السامع يعدّ نفسه ليجيب بجواب يرضي المتكلم ، فهو إخبار مع أخذ الموافقة من السامع (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الدالة على الألوهية ، أو الرسالة ، أو المعاد ، أو سائر الشؤون الحقة (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) فينالهم جميع ما كتب لهم من الخير والشر ، والرزق والعمر ، في دار الدنيا ، فلا يقطع

حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها

____________________________________

عنهم ما كتب لهم ، بسبب كفرهم (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا) أي ملائكة الموت لتقبض أرواحهم ، بعد أن أتموا مدّتهم المكتوبة لهم (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) أي يقبضون أرواحهم (قالُوا) أي الملائكة ، لهم : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ أي أين ذهبت أصنامكم التي تجعلونها شريكة لله؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ والتقريع ، وبيان أنها لم تنفعكم في دفع العذاب الآن (قالُوا) يعني الكفار : (ضَلُّوا) تلك الأصنام (عَنَّا) فقد افتقدناهم فلا يقدرون على دفع العذاب عنا (وَشَهِدُوا) أي الكفار (عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) وأخذ بإقرارهم ليجزون بكفرهم.

[٣٩] وإذا كان يوم القيامة (قالَ) الله سبحانه لهم : (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) أي جماعات وطوائف من الكفار السابقين (قَدْ خَلَتْ) أي مضت وسبقتكم (مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) وهذا نوع من عذاب آخر لأن الإنسان بحشره مع المجرمين يعذّب نفسيا ، كما يعذب جسديّا بإدخاله النار ، وهؤلاء لا صفاء بينهم ، فاجتماعهم في الدنيا على الكفر لا يسبب ارتياح بعضهم مع بعض هناك ، بل بالعكس ، ف (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ) من تلك الأمم الكافرة ، النار (لَعَنَتْ أُخْتَها) أي الأمة السابقة التي هي أختها في الكفر ، فإن النار محل

حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨)

____________________________________

خصام وتضارب بعكس الجنة التي (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (١) ، (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٢).

(حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا) أي تلاحقوا واجتمعوا ، أصله «تدارك» قلبت التاء دالا ، وأدغمت الدال في الدال ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن (فِيها) أي في النار (جَمِيعاً) أي جميع الأمم الكافرة (قالَتْ أُخْراهُمْ) أي الطائفة التي دخلت النار متأخرة وهم الأتباع (لِأُولاهُمْ) أي بالنسبة إلى الرؤساء الذين دخلوا أولا : (رَبَّنا هؤُلاءِ) الطائفة الأولى (أَضَلُّونا) حيث أغرونا لنتخذ معك شريكا ونخالف أوامر رسلك (فَآتِهِمْ) أي أعطهم (عَذاباً ضِعْفاً) أي مضاعفا : عذابا لكفرهم ، وعذابا لإغوائهم إيانا (مِنَ النَّارِ) وبهذا يريدون الانتقام من القادة المغوين.

(قالَ) الله تعالى في جوابهم : (لِكُلٍ) منهم ومنكم (ضِعْفٌ) أي عذاب مضاعف ، فللرؤساء الضعف للكفر والإغواء ، وللتابعين الضعف للكفر وتقوية مكانة الرؤساء ، فإنه لو لا التابعين لم يتمكن المتبوعون من السيطرة وإقصاء الحق ، كما قال الإمام عليه‌السلام لتابعي بني أمية «لو لا أنتم لما غصبوا حقنا» (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أيها الضالون

__________________

(١) يونس : ١١.

(٢) الحجر : ٤٨.

وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ

____________________________________

والمضلون مقدار عذاب كل واحد منكم ، ولا الفرق بين الضعف في المتبوع ، وبين الضعف في التابع.

[٤٠] وحينما يسمع القادة جواب الله سبحانه للتابعين ، يتوجهون إليهم بالشماتة ، قائلين : لسنا أولى منكم بالعذاب ليكون لنا ضعف ، فكلنا سواء في الكفر (وَقالَتْ أُولاهُمْ) القادة (لِأُخْراهُمْ) التابعين : (فَما كانَ لَكُمْ) أيها التابعون (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) وتفاوت في الكفر ، بأن يكون كفركم أخف من كفرنا ، حتى تستحقون عذابا أقل (فَذُوقُوا) أيها التابعون (الْعَذابَ) بسبب ما (كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) من الكفر والمعاصي.

[٤١] (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فلم يقبلوها (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي تكبروا عن الخضوع لها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : «أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأما الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ السماء نادى مناد اهبطوا به إلى سجين» (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ) أي يدخل البعير (فِي سَمِّ الْخِياطِ) أي ثقب الإبرة ، فكما يستحيل دخول الجمل في ثقبها ، كذلك يستحيل دخول الكافر في الجنة ، وهذا تمثيل بديع للاستحالة ، وقيل المراد ب «الجمل» الحبل الغليظ (وَكَذلِكَ)

نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ

____________________________________

أي كما جزينا هؤلاء المكذبين (نَجْزِي) سائر (الْمُجْرِمِينَ) وإن كان اختلاف بين أنواع الجزاء ، فكل إجرام له جزاء خاص ، وعقوبة مخصوصة.

[٤٢] (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) أي فراش ومضجع (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) جمع «غاشية» ، أي لحف من نار ، فالنار محيطة بهم سفلا وعلوا (وَكَذلِكَ) أي كما جزينا المكذبين (نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم باتباع أوامر الشيطان ، وترك عبادة الرحمن.

[٤٣] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأن صحّت عقيدتهم وعملهم ، ولا يراد بأنهم عملوا كل الصالحات ، بل قدر طاقتهم ووسعهم ، لأنّا (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا) مقدار (وُسْعَها) والوسع دون الطاقة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) الملازمون لها أبد الآبدين (هُمْ فِيها خالِدُونَ).

[٤٤] وهناك لا تنازع ولا تخاصم ـ كما كان عند أهل النار ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي : أخرجنا ما في قلوبهم من حقد وحسد وعداوة حتى لا يحسد بعضهم بعضا ، فإن الإنسان مهما كان تقيا لا يخلو قلبه من شيء من الصفات الذميمة ، وهناك تصفّى قلوبهم ، ليكونوا إخوانا

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ

____________________________________

قلبا وقالبا (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ) أي من تحت قصورهم وبساتينهم (الْأَنْهارُ) هذه جملة مستأنفة ، أي أنهم يكونون هكذا في الجنة في قبال الكفار الذين «لهم من جهنم مهاد» (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) أي أوصلنا إلى هذا النعيم ، بما هدانا سابقا في الدنيا للعقيدة الصحيحة ، والعمل الصالح (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) أي لم نقدر على الهداية بأنفسنا (لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) فإن الإنسان لا يهتدي إلا بإرسال الله الرسل ، وتبليغه الأحكام ، وهذا شكر من أهل الجنة ، وتقدير لنعم الله عليهم ، في الدنيا بالهداية ، وفي الآخرة بالجنة (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وأنهم أرسلوا من قبله سبحانه ، وكان ما قالوه حقا ، وها نحن نرى صدق ما قالوا (وَنُودُوا) أي أهل الجنة ينادون من قبل الله سبحانه : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) التي وعدتموها في الدنيا ، هي هذه التي دخلتموها ، ويحتمل أن يراد كون النداء قبل دخولها ـ فإن الواو لمطلق العطف (أُورِثْتُمُوها) أي أعطيتم إياها إرثا ، وصارت إليكم كما يصير الميراث لأهل الميت (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء لأعمالكم الصالحة في الدنيا.

[٤٥] وحيث يستقر كلّ فريق من المؤمنين والكافرين ، في مقرّه من الجنّة والنّار ، يقع بينها الحوار على النّحو الآتي (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ)

أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً

____________________________________

أي أهل الجنّة ، أهل النّار ، والإتيان بلفظ الماضي «نادى» لأنّ المستقبل المتحقّق الوقوع ينزّل منزلة الماضي : (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) فقد أعطينا الثواب والجنة كما كنا نوعد في الدنيا (فَهَلْ وَجَدْتُمْ) أنتم يا أهل النار (ما وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العقاب (حَقًّا) والوعد وإن كان بالنسبة إلى كلتا الطائفتين إلا أن انحراف العاصين وإعراضهم ، واهتداء المطيعين إلى الطريق ، أورث توجه الوعد إلى أهل الجنة ، والوعيد إلى أهل النار (قالُوا) أي قال أصحاب النار : (نَعَمْ) وجدنا وعد ربنا حقا (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد (بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الجنة وأهل النار (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ وفي الأحاديث أن المؤذن هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) ـ ، والمراد ب «لعنة الله» غضبه وانتقامه وطرده وعذابه ، وإنما ينادي المنادي بهذا النداء ليذكرهم بما كانوا يفعلون ، ومن أجله استحقوا العقاب.

[٤٦] ومن هم الظالمون؟ إنهم هم (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس عن السير في الطريق الذي جعله الله لعباده ، ليسعدوا بسلوكه في الدنيا والآخرة (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يطلبون الطريق المعوج ، فلا يسيرون في الطريق المستقيم ، فالضمير في «يبغونها» راجع إلى المضاف وهو «السبيل» لا المضاف والمضاف إليه ، وقيل :

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٤٢٦.

وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)

____________________________________

معناه يطلبون لطريق الله العوج بالشّبه التي يلتبسون بها ويوهمون أنها تقدح فيها (وَهُمْ) بالدار الآخرة (كافِرُونَ) لا يعتقدون بها.

[٤٧] (وَبَيْنَهُما) أي بين أهل الجنة وأهل النار (حِجابٌ) أي فاصل وستر (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) الأعراف : هي الأمكنة المرتفعة ، أخذ من «عرف الفرس» ومنه «عرف الديك» وكل موضع مرتفع من الأرض عرف ، لأنه بظهوره أعرف مما انخفض ، وهؤلاء الرجال (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنة وأهل النار (بِسِيماهُمْ) «السيماء» العلامة ، وهو فعل من «سام إبله» إذا أرسلها في المرعى معلّمة ، وإنما يعرفون كلا بسيماهم لأن أهل الجنة معلّمون ببياض الوجه والجلال والحفاوة ، وأهل النار معلّمون بعلامة على أنوفهم ـ كما قال سبحانه : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١) ـ ، والهيئة المنكرة ، والغبار على الوجوه كما قال سبحانه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) (٢) ، وغيرها.

(وَنادَوْا) هؤلاء الذين على الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) الذين يرونهم من هناك آخذين في الذهاب إلى الجنة ، أو المستقرين فيها (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تهنئة لهم بفوزهم بالجنة (لَمْ يَدْخُلُوها) أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة بعد (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) كما قال

__________________

(١) القلم : ١٧.

(٢) عبس : ٤١.

وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى

____________________________________

سبحانه عن لسان إبراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) (١) ، فإنه يستعمل لليقين والرجاء.

[٤٨] (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) توجهت أنظار أصحاب الأعراف (تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) الذين أخذوا في الذهاب إلى جهنم ، أو المستقرين فيها (قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا تدخلنا النار ، ولا تجعلنا من أهلها. وقد وردت أحاديث متعددة أن المراد بأصحاب الأعراف الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام وظاهر الآية لا يأباه (٢).

[٤٩] (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) الذين عليها (رِجالاً) من أصحاب النار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) بعلاماتهم ، وأنهم من رؤساء المشركين ، والمراد بالعلامات ، إما العلامات التي كانوا معلّمين بها في الدنيا ، أي صورهم التي كانوا يعرفونهم بها ، وإنما عبر بلفظ «سيماهم» لأنهم تغيروا هناك فلا يعرفون إلا السحنة وسائر العلامات ، وإما العلامات التي وسموا بها في الآخرة ، من الزرقة ، وغبار الوجه وتشوية الخلقة.

(قالُوا) أي قال أصحاب الأعراف لأولئك المجرمين : (ما أَغْنى

__________________

(١) الشعراء : ٨٣.

(٢) ورد كلمة الأنبياء عن العلامة المجلسي في بحار الأنوار : ج ٨ ص ٣٣١ ، وكما ورد كلمة الأئمة في رواية عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : نحن أصحاب الأعراف : راجع بصائر الدرجات ص ٤٩٩.

عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ

____________________________________

عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي اجتماعكم وكثرتكم ، أو جمعكم الأموال والأولاد والخدم والأصدقاء (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي استكباركم على الله والرسول ، ما أغنى عنكم كل ذلك ، فلم يدفع العذاب عنكم.

[٥٠] ثم يقول أصحاب الأعراف لأهل النار : (أَهؤُلاءِ) المراد ب «هؤلاء» أهل الجنة (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) فقد كان الكفار يحلفون ـ في الدنيا ـ أن الله لا ينال المؤمنين برحمة منه ، وهناك يريهم أصحاب الأعراف أن المؤمنين دخلوا الجنة ، وأنالهم الله رحمته.

ثم يتوجه أصحاب الأعراف إلى المؤمنين قائلين لهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وبهذا النحو يقرع أهل النار ، في قبال ما كانوا يقرعون المؤمنين في الدنيا.

[٥١] وحينما يستقر الفريقان في مقامهما من الجنة والنار يقع حوار بين الجانبين بهذه الكيفية : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي «ينادون» ، وإنما أتى بلفظ الماضي ، لأن المستقبل المتحقق وقوعه ينزّل بمنزلته ـ كما سبق ـ : (أَنْ أَفِيضُوا) أي صبّوا (عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) لنسكن به حر النار ، أو نروي به العطش والظمأ (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الطعام واللباس وغيرهما ، لننتفع به في محلنا الحار الفاقد لكل

قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)

____________________________________

شيء من وسائل الراحة (قالُوا) أي قال أهل الجنة في جواب أهل النار : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما) أي حرّم الماء والرزق (عَلَى الْكافِرِينَ) فلا يباح لنا إعطاؤكم منهما شيئا.

[٥٢] ثم وصف الكافرين بأنهم (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) فدينهم الذي اختاره الله لهم ـ وهو الإسلام ـ اتخذوه أداة تلهّي ولعب ، فكانوا به يستهزءون ، أو المراد أن دينهم كان لهوا ولعبا ، فيكون التبكيت لاتخاذهم أصل الدين ـ الكفري ـ لا اتخاذه لهوا. وظاهر الكلام المعنى الأول ، كما تقرر في علم البلاغة أن القيد إذا كان في الكلام توجه النفي والإثبات إليه.

(وَغَرَّتْهُمُ) أي خدعتهم (الْحَياةُ الدُّنْيا) فظنوا أنهم يبقون فيها إلى الأبد ، وأن نعيمها يكفيهم عن نعيم الجنة (فَالْيَوْمَ) في الآخرة (نَنْساهُمْ) أي نتركهم في العذاب ، كفعل الناسي الذي لا يعتني بالمنسي ، وإن أصابه ما أصابه (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أي كما نسوا في الدنيا التأهّب ليوم القيامة (وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) «ما» مصدرية ، أي لسبب نسيانهم ، وبسبب جحودهم ، وإنكارهم لآيات الله وأحكامه. ومن هذه الجملة يعلم أن قوله : «الذين اتخذوا» من كلام الله استئنافا ، لا من تتمة كلام أهل الجنة.

وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ

____________________________________

[٥٣] إن أهل النار وقعوا فيها بعد البيان وإتمام الحجة ، فلم يكن هذا العذاب ظلم بالنسبة إليهم (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) وهو القرآن (فَصَّلْناهُ) تفصيلا فلم يكن مجملا لا يستفاد منه المطلب (عَلى عِلْمٍ) أي كنا عالمين بما أنزلنا ، فلم يكن الكتاب كتاب جاهل لا يدري المصالح والمفاسد ، ويحكم اعتباطا (هُدىً) أي جئنا به لأجل الهداية (وَرَحْمَةً) ولأجل الرحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وإنما اختص بهم لأن الفائدة تعود إليهم وحدهم ، وإن كان الكتاب للكل.

[٥٤] (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين لم يؤمنوا بالكتاب (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي مآل الكتاب ، بمعنى : المآل الذي أخبر به الكتاب ، من العذاب والعقاب النازل بالكفار. وهذا تهديد كما يقال للعاصي أمر المولى : «هل تنتظر عقابه؟» (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وما حذّر منه (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) أي تركوه ، وفعلوا به فعل الناسي (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا : (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وهناك يعترفون بما أنكروه في الدنيا ، حيث لا فائدة في الاعتراف (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) حتى نتخلص من العقاب (أَوْ نُرَدُّ) إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ) عملا صالحا (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) سابقا من المعاصي والآثام؟ لكن ليس لهم شفيع

قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

____________________________________

ولا يردون ، ف (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أهلكوها بالعذاب والعقاب ، وأعطوها بمقابل النار ، حيثما أعطى أهل الإيمان نفوسهم في مقابل الجنان ، وربحوا أكبر ربح (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ذهب وغاب (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي افتراؤهم على الله بالشرك ، فإن الأصنام التي جعلوها شريكة لله ، وكانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) ، ضلت عنهم فلم يجدوها ، ولا شفعت لهم هناك.

[٥٥] ثم بيّن سبحانه أن الله واحد لا شريك له ، وأنه الذي خلق وكوّن ، لا شريك له في شيء من الأمور الكونية (إِنَّ رَبَّكُمُ) أيها الناس (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أنشأها وكوّنها (وَالْأَرْضَ) أوجدها. ولعل ذكر «السماوات» غالبا بلفظ الجمع ، و «الأرض» بلفظ المفرد ، مع أن كلتيهما متعددة ، كما قال سبحانه : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٢) ، أن تعدد السماوات كان مألوفا لديهم ، لما يخبر به المنجمون ، من أفلاك الكواكب السيارة ، بخلاف تعدد الأرض ، ومن البلاغة أن يكلم الإنسان المخاطبين قدر عقولهم (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ، وإن لم تكن أيام ذلك الوقت ، حيث لا شمس ولا قمر ولا حركة ، أما مصلحة خلقها في ستة أيام مع قدرته سبحانه في

__________________

(١) الزمر : ٤.

(٢) الطلاق : ١٣.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)

____________________________________

إنشائهما دفعة ، فهي كمصلحة خلق الجنين والنبات تدريجا ، مع قدرته على الإيجاد دفعة.

(ثُمَ) بعد خلق السماوات والأرض (اسْتَوى) أي استولى (عَلَى الْعَرْشِ) والمراد : جعل تدبير الأمر من هناك ، كما يقال : «استوى الملك على العرش» يراد استيلائه على الملك ، و «العرش» محل تشريفي خلقه سبحانه وأضافه إلى نفسه ، كما خلق الكعبة في الدنيا ، وجعلها بيته ، وكان ذلك لألفة الأجسام بمصدر للأحكام والتوجه (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يلبس النهار ، ويمد رواق الليل المظلم على النهار المستنير ، كما يغشي الإنسان العباءة على المصباح (يَطْلُبُهُ) أي يطلب الليل النهار طلبا (حَثِيثاً) سريعا بكل جد ، كأن النهار يرفض الليل ، لكن الليل يطارده مطاردة الطالب للمطلوب الهارب (وَ) خلق (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ) في حال كونها (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) فهي تسري وتدور وتشرق وتغيب حسب أمره سبحانه (أَلا) أي تنبهوا أيها البشر أن (لَهُ) سبحانه (الْخَلْقُ) للأشياء كلها (وَالْأَمْرُ) النافذ فيها ، فما يكون من تغيير وتبديل إلا بأمره وإرادته ، وهكذا لا أمر صحيح في التشريعات إلا له ، أما أمر سائر الآمرين ، فليست لهم قيمة واعتبار واقعي ، إلا إذا كانوا تبعا لأمره تعالى (تَبارَكَ اللهُ) أي تعالى عن الشريك وسائر النقائص (رَبُّ الْعالَمِينَ) لا رب سواه ، ولا إله إلا هو.

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها

____________________________________

[٥٦] (ادْعُوا رَبَّكُمْ) أيها البشر (تَضَرُّعاً) أي تخشّعا ، فإن التضرع هو التذلل والتخشّع ، وهو في موضع الحال ، أي في حال كونكم متضرعين (وَخُفْيَةً) أي في حال الاختفاء ، فإن الضراعة المخفية أقرب إلى تركيز التوحيد في النفس. ولا يخفي أن هذا في مورد ، وفي مورد آخر يستحب الإجهار.

فقد نزل جبرئيل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال الحج قائلا : «إن ربك يأمرك بالعج والثج» (١) و «العج» من العجيج. كما أن في الروايات استحباب الإجهار بالصلوات على محمد وآله الطاهرين فإنه موجب لذهاب النفاق ، وكأن الجهر والإخفات في الدعاء ، كالإعلان والإسرار بالصدقة ، الذي لكل واحد منهما مورد. وقد روى علي بن إبراهيم أن المراد بالتضرع : العلانية ، أي : «ادعوه علانية وسرا» (٢).

(إِنَّهُ) سبحانه (لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الذين يتجاوزون الحد ، إنه سبحانه يحب الخشوع والانكسار ، لا التجاوز والاعتداء.

[٥٧] وبمناسبة كراهيته سبحانه للاعتداء يقول تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) فإن الأنبياء والأئمة أصلحوا الأرض بمنهاج السماء ، وجعل كل شيء في موضعه ، فالتجاوز عن ذلك إفساد في الأرض وشقاء للبشر. قال الباقر عليه‌السلام : «إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيه» (٣).

__________________

(١) راجع معاني الأخبار : ص ٢٢٤.

(٢) نقلا عن مجمع البيان : ج ٤ ص ٢٧١.

(٣) الكافي : ج ٨ ص ٥٨.

وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ

____________________________________

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي في حال كونكم خائفين وطامعين ، خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فإنكم إذا لم تفسدوا ودعوتموه خوفا وطمعا جعلكم الله من المحسنين ، فتكون رحمته قريبة منكم ، وذلك يوجب استجابة دعائكم ، ولطف الله بكم.

[٥٨] (وَهُوَ) الله وحده (الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) أي يطلقها ويجريها لأجل البشارة بالمطر (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أمام رحمته ـ التي هي المطر ـ فإن الرياح إذا هبت في أيام السحاب ، دلت على نزول المطر (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) أي حملت تلك الرياح (سَحاباً ثِقالاً) بالماء (سُقْناهُ) أي دفعنا السحاب (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) وموت البلد : تعفّي مزارعه ودروس مشاربه ، لا نبات فيه ، ولا عيون وأنهار (فَأَنْزَلْنا بِهِ) أي بالبلد ، أو بالسحاب ، و «الباء» على الأول بمعنى «في» ، وعلى الثاني بمعنى «السبب» (الْماءَ) وهناك خلاف في تكوّن المطر ، لكن ذلك لا يهم التفسير ، وكيف كان فإنه بقدرة الحكيم القدير (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بسبب الماء (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) المتداولة هناك ، لا أن المراد جميع أنواع الثمرات ، إلا إذا أخذ الماء والسحاب بصورة عامة لا بالنسبة إلى بلد معيّن.

كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)

____________________________________

(كَذلِكَ) أي كما أخرجنا بالماء الثمرات (نُخْرِجُ الْمَوْتى) من الأرض ، فنحييهم. وفي بعض الأحاديث : «تمطر السماء ماء ، فيسبب ذلك الماء إحياء الأموات ، بقدرة الله سبحانه» (١) (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) المعاد والآخرة ، وكأن «لعل» تفريع على إنبات الثمر من ماء السماء في الأرض الميتة ، بأن يكون ذلك سببا لتذكيركم بالآخرة.

[٥٩] (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) ترابه الصالح للزرع (يَخْرُجُ نَباتُهُ) «نبات» فاعل «يخرج» ، أي يخرج زرعه حسنا ناميا (بِإِذْنِ رَبِّهِ) وأمره سبحانه ، بلا نكد ولا عناء ولا تعب (وَ) البلد (الَّذِي خَبُثَ) ترابه بأن كان سبخا أو ما أشبه (لا يَخْرُجُ) النبات (إِلَّا نَكِداً) قليلا عسرا لا ينتفع به ، وهكذا القلب الطيب ينمو فيه الخير والفضيلة نموا سريعا ممرعا ، والقلب الخبيث لا ينمو فيه الخير إلا قليلا عسرا (كَذلِكَ) أي كما بيّنا هذه الآية الدالة على كمال قدرة الله سبحانه (نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي نقلبها ونبيّنها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) أي للشاكرين الذين يشكرون نعم الله سبحانه ، فإنهم المنتفعون بتصريف الآيات ، فغاية التصريف لهم دون غيرهم.

[٦٠] وإذ تمّ الدليل على وجوده سبحانه بما له من الصفات ، وأنه لا شريك له ، يأتي الكلام حول الأنبياء السالفين الذين بلغوا

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ج ٧ ص ١٣.

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ

____________________________________

رسالات ربهم ، ولم يقبل قومهم منهم ، فأخذوا بالعذاب ، كما سبق في أول السورة (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها)(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) حيث كان القوم يعبدون الأصنام والأوثان (ما لَكُمْ) أي ليس لكم (مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فهو خالقكم الذي لا شريك له (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) أيها القوم ، إن لم تؤمنوا (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إما المراد يوم القيامة ، أو عذابهم في الدنيا بالطوفان.

[٦١] (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي الأشراف ، وسمّوا به لأنهم يملأون العيون والصدور هيبة وجمالا : (إِنَّا لَنَراكَ) يا نوح (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح حيث تذر الأصنام وتعبد الإله الذي لم تره.

[٦٢] (قالَ) نوح لهم : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) فلم أضلّ طريق الحق (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي يملك كل شيء فهو رب كل شيء ، وما لشيء سواه ملك ، فلا شريك له.

[٦٣] (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أي أؤدّي إليكم ما أمرني ربي بتبليغه ، وإنما جمعت الرسالات ، باعتبار كل وحي وحي (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أي أنصح

وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا

____________________________________

لفائدتكم (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من أمره ونهيه ، ومن صفاته وآثاره ، ومن ثوابه وعقابه (ما لا تَعْلَمُونَ) فاتبعوني حتى أهديكم إلى الحق.

[٦٤] وقد كان القوم يبدون التعجب من أقوال نوح عليه‌السلام ، كيف يدّعي هذا المنصب الخطير؟ وكيف يخبر عن أشياء لم يعلموها؟ فكان يقول لهم : (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للاستفهام ، أي هل تتعجبون (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أي بشر من جنسكم (لِيُنْذِرَكُمْ) ويخوّفكم من عذاب الله إن تمردتم وكفرتم (وَلِتَتَّقُوا) أي جاءكم الذكر لتتقوا وتجتنبوا عقاب الله والكفر والمعاصي (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي يرحمكم ربكم؟

[٦٥] (فَكَذَّبُوهُ) أي كذب القوم نوحا عليه‌السلام فيما دعاهم إليه ، حتى أنهم كانوا يوسعونه ضربا ، وكان الرجل يأتي بابنه إلى نوح ، ويقول له : يا بني لا تؤمن بهذا (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ) آمنوا (مَعَهُ) ـ وفي بعض الروايات : أنهم كانوا ثمانية ـ (فِي الْفُلْكِ) أي السفينة ، حيث أمره الله سبحانه فعمل سفينة وركب هو والمؤمنون فيها ، ثم أمطرت السماء ، وتفجرت العيون ، حتى أخذ الماء وجه الأرض ، وهلك الكفار بأجمعهم ، ثم يبست الأرض وخرج نوح والمؤمنون ، يعمرون الأرض بتقوى الله من جديد (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا الدالة

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ

____________________________________

على التوحيد والنبوة والمعاد (إِنَّهُمْ) أي المكذبون (كانُوا قَوْماً عَمِينَ) يقال : «رجل عم» إذا كان أعمى القلب ، ورجل أعمى إذا كان أعمى البصر ، وستأتي جوانب أخرى من قصة نوح عليه‌السلام في بعض السور الآتية ، كسورة هود وغيرها ، وحيث كان المقصود في الكتاب تفسير الآيات ـ حسب ظواهرها ـ نطوي القصة طيا.

[٦٦] (وَ) أرسلنا (إِلى عادٍ) أي قبيلة عاد ، من أحفاد نوح عليه‌السلام (أَخاهُمْ) في النسب (هُوداً) وهو من أحفاد نوح عليه‌السلام ، وقد كان هود النبي من نفس القبيلة ليكون أقرب إلى القبول ، فإن غالب النفوس تأبى عن إطاعة غير بني قومهم (قالَ) هود لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فإن الأصنام ليست بآلهة (أَفَلا تَتَّقُونَ) استفهام إنكاري ، أي لماذا لا تتقون الشرك والمعاصي؟

[٦٧] (قالَ الْمَلَأُ) الأشراف (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) والتعبير ب «كفروا» إما لتجريد الفعل عن معنى الحدوث ، وإما باعتبار الفطرة الإيمانية ، كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة» (١) ، وإما باعتبار المجموع فإن قومه ـ إذا اعتبروا من زمان نوح عليه‌السلام ـ كان فيهم بعض المؤمنين (إِنَّا لَنَراكَ) أي نعلمك ، يا هود (فِي سَفاهَةٍ) فأنت سفيه ، و «السفيه» هو

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢ ص ١٢.

وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ

____________________________________

الذي ليس له ملكة إصلاح لنفسه أو ماله (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) فتكذب في دعوى النبوة ، وأنه ليس للعالم إلّا إله واحد.

[٦٨] (قالَ) هود عليه‌السلام في جوابهم : (يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ) فإني لست سفيها وهل السفيه من ينطق بالحق الذي دلّ عليه العقل والفطرة؟! (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وكلام السفيه غير كلام الرسول العاقل.

[٦٩] (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) أؤدّي إليكم ما أوحى إليّ من الرسالات ، والجمع باعتبار كل رسالة رسالة في مختلف الأصول والفروع (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ) أنصحكم لئلّا تقعوا في العقاب والعذاب (أَمِينٌ) في تأدية الرسالة فلا أكذّب ولا أغيّر.

[٧٠] وحيث كان القوم يظهرون عجبهم من رسالة هود عليه‌السلام قال لهم : (أَوَعَجِبْتُمْ) أي هل تتعجبون (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ) ووحي (مِنْ) قبل (رَبِّكُمْ عَلى) لسان (رَجُلٍ مِنْكُمْ) من قبيلتكم (لِيُنْذِرَكُمْ) ويخوّفكم من بأس الله سبحانه (وَاذْكُرُوا) أيها القوم نعمة الله عليكم (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) في الأرض ، أي تخلفون من سبقكم في أموالهم ومساكنهم (مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) فقد أهلكهم وأتى بكم مكانهم ، أفلا

وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ

____________________________________

تخافون أن يصيبكم ما أصابهم ، أم لا تشكرون ما وهب الله لكم من البلاد والأموال (وَزادَكُمْ) الله سبحانه (فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) هيكلا وقوّة. فقد كانوا أقوياء ذوي هياكل كبيرة عظيمة (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) آلاء جمع «إلى» بمعنى «النّعم» (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بنعيم الدنيا وسعادة الآخرة.

[٧١] (قالُوا) أي قال قوم هود : (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) بلا شريك (وَنَذَرَ) أي ندع عبادة (ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام ، وكيف يكون هذا؟ فإنّا لن نترك الأصنام (فَأْتِنا) أي ادع ربك ليأتينا (بِما تَعِدُنا) من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنه إن لم نؤمن نزل علينا العذاب.

[٧٢] (قالَ) هود عليه‌السلام لقومه : (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أي وجب أن يقع ـ فإن المستقبل المتحقق الوقوع ينزّل منزلة الماضي ـ (مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) أي عذاب (وَغَضَبٌ) حيث لم تؤمنوا بعد إتيان الحجة ، ووضوح الأدلة ، وحيث أن الله سبحانه منزّه عن الأحوال الزائدة ، كان المراد ب «غضب» عاقبة الغضب ، وهو العذاب ، كما قيل : «خذ الغايات واترك المبادئ». وعليه فالفرق بين الرجس والغضب أن الثاني أعم من الأول.

أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلى ثَمُودَ

____________________________________

ثم ذكر هود عليه‌السلام بطلان أصنامهم قائلا : (أَتُجادِلُونَنِي) أي هل أنتم تناظرون معي وتخاصمونني (فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي في أصنام سميتموها أنتم ربّا ، وإلا فهي أحجار منحوتة ، وإنما قال «في أسماء» إشارة إلى أن ربوبيتها مجرد اسم لا أكثر (ما نَزَّلَ اللهُ بِها) أي بتلك الأصنام والأسماء (مِنْ سُلْطانٍ) أي من دليل دال على كونها تصنع شيئا ، أو كونها آلهة وأربابا. وقد كان الاحتجاج منه عليه‌السلام قويا جدا ، إذ مدعي الآلهة الزائدة يحتاج إلى دليل وبرهان (فَانْتَظِرُوا) عذاب الله ونكاله (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لنزول العذاب بكم ، وسترون صدق مقالتي.

[٧٣] فجاء العذاب الموعود إليهم ، وذلك أنه سبحانه ساق إليهم سحابة أمطرتهم بالعذاب حتى هلكوا جميعا وأنجيناه أي هودا عليه‌السلام (وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) فلقد كان عليه‌السلام والمؤمنون في حظيرة لا يمرّ بهم العذاب (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) «الدابر» الأصل ، أي قطعنا أصلهم ، كما يقطع أصل الشجرة ، وذلك كناية عن إهلاكهم بأجمعهم (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) أي لم يكونوا ليؤمنوا من بعد ، فقد عرفنا حالهم ، وعلمنا نواياهم وضمائرهم ومستقبلهم.

[٧٤] (وَ) أرسلنا (إِلى ثَمُودَ) وهي قبيلة من آل رجل يسمى «ثمود» من

أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً

____________________________________

أحفاد نوح عليه‌السلام (أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً) حيث كان صالح من نفس القبيلة (قالَ) صالح عليه‌السلام لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده ولا تشركوا به شيئا (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فتعبدوه معه (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) أي دلالة ومعجزة (مِنْ رَبِّكُمْ) شاهدة على صدق ادعائي للنبوة (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) الإضافة إلى الله تشريفية ، كإضافة مكة إلى الله يقال : «بيت الله» ، وإضافة دم الحسين عليه‌السلام إلى الله ، يقال : «ثار الله» (لَكُمْ آيَةً) دالة على صدق كلامي.

وقد كان من قصة صالح ما ورد : أنه بعث إلى قومه وهو ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه إلى خير ، وكان لهم سبعون صنما ، يعبدونها من دون الله ، فقال لهم : إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما سألتموني الساعة ، وإن شئتم سألت آلهتكم ، فإن أجابتني بالذي أسألها خرجت عنكم ، فقد سئمتكم وسئمتموني ، فقالوا : قد أنصفت ، فدعاها كلها بأسمائها فلم يجبه منها شيء فنحّوا بسطهم وفرشهم وثيابهم وتمرغوا على التراب وطرحوا التراب على رؤوسهم ، وقالوا لأصنامهم : لئن لم تجيبوا صالحا اليوم لنفتضحنّ ، ثم دعوه فقالوا : يا صالح ادعها ، فدعاها فلم تجبه. قال صالح : فاسألوني حتى أدعو إلهي يجبكم الساعة ، فقالوا : ادع لنا ربك يخرج لنا من هذا الجبل الساعة ناقة حمراء شقراء وبراء عشراء بين جبينها ميل ، فقال لهم : سألتموني شيئا يعظم عليّ ويهون على ربي

فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ

____________________________________

تعالوا ، فسأل الله ذلك ، فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه عقولهم لما سمعوا ذلك ، ثم اضطرب ذلك الجبل اضطرابا شديدا كالمرأة إذا أخذها المخاض ، ثم لم يفاجئهم إلا رأسها قد طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمّت رقبتها حتى اجترّت ، ثم خرج سائر جسدها ، ثم استوت قائمة على الأرض ، فلما رأوا ذلك قالوا : يا صالح ما أسرع ما أجابك ربك ، ادع لنا يخرج لنا فصيلها ، فسأل الله ذلك فرمت به فدبّ حولها ، فقال لهم : يا قوم أبقي شيء؟ قالوا : لا ، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم بما رأينا ويؤمنون بك. قال الراوي : فرجعوا فلم يبلغ السبعون إليهم حتى ارتد منهم أربعة وستون رجلا ، وقالوا : سحر وكذب. قال : فانتبهوا إلى الجميع فقال الستة : حق ، وقال الجميع : كذب وسحر ، فانصرفوا على ذلك ثم ارتاب واحد فكان فيمن عقرها (١).

(فَذَرُوها) أي دعوها واتركوها وشأنها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) من نبات الأرض (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) وأذية (فَيَأْخُذَكُمْ) أي ينالكم ويصيبكم (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٧٥] (وَاذْكُرُوا) نعمة الله عليكم (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ) في الأرض بأن أورثكم إياها ومكّنكم فيها (مِنْ بَعْدِ عادٍ) الذين أهلكوا حيث عصوا ربهم (وَبَوَّأَكُمْ) أي جعل لكم بيوتا ومساكن (فِي الْأَرْضِ) بحيث

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٧٧.

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)

____________________________________

(تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها) أي سهول الأرض (قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) وهذه نعمة كبري إذ جعل لكم الأرض ذلولا سهولها وجبالها (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) أي نعم الله عليكم ، وقد تقدم أن «آلاء» جمع «إلى» بمعنى النعمة (وَلا تَعْثَوْا) أي : لا تطغوا وتسعوا ، من «العثا» بمعنى شدة الفساد (فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) فلا تثيروا الفساد في الأرض.

[٧٦] (قالَ الْمَلَأُ) أي جماعة الأشراف (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن قبول الحق ، ورفعوا أنفسهم عن ذلك (مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم صالح (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي للمؤمنين الذين نظر إليهم المستكبرون بنظر الضعف والضعة (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) ـ بدل من قوله : («لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وإنما جيء به لئلّا يظن أن المراد «المستضعف في الدين» ـ : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) وأنه رسول من الله. وكان هذا السؤال منهم مقدمة لكلامهم أنهم غير مؤمنين به (قالُوا) أي : المؤمنون : (إِنَّا بِما أُرْسِلَ) صالح (بِهِ مُؤْمِنُونَ) فنعتقد بإله واحد وبرسالته وبما جاء به.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا

____________________________________

[٧٧] (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) السائلون ـ بعد سماعهم لكلام المؤمنين ـ : (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ) من التوحيد والرسالة (كافِرُونَ) جاحدون منكرون.

[٧٨] (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أي : قتلوها ، و «العقر» الجرح الذي يأتي على أصل النفس.

ورد أن الله أوحى إلى صالح عليه‌السلام : قل لهم : إن الله قد جعل لهذه الناقة من الماء شرب يوم ، ولكم شرب يوم ، فكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت ذلك اليوم ، فيحلبونها فلا يبقى صغير ولا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك ، فإذا كان الليل وأصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم ولم تشرب الناقة ذلك اليوم ، فمكثوا بذلك إلى ما شاء الله ثم أنهم عتوا على الله ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا : اعقروا هذه الناقة واستريحوا منها لا نرضى أن يكون لها شرب يوم ولنا شرب يوم ، فجعلوا حبلا لرجل أحمر أشقر أزرق من ولد الزنا لا يعرف له أب يقال له : «قدار» شقي من الأشقياء مشؤوم عليهم فقتلها وهرب فصيلها ، واقتسموا لحمها فيما بينهم ، فأوحى الله إلى صالح : قل لهم : إني مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيام ، فإن تابوا ورجعوا قبلت توبتهم عنهم ، وإن لم يتوبوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث (١).

(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي تجاوزوا الحد في الفساد (وَقالُوا

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ص ١٨٧.

يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ

____________________________________

يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على قتل الناقة والبقاء في الكفر (إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ثم أخبر سبحانه بما حلّ بهم من العذاب.

[٧٩] (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) «الرجف» الاضطراب (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي في محلهم ، يقول الحاضر : «أنا في داري» أي بلدي ومحلتي (جاثِمِينَ) أي صرعى ميّتين ساقطين لا حركة لهم.

ورد أن صالح لما وعدهم بالعذاب وأمهلهم ثلاثة أيام ، قال صالح عليه‌السلام : إنكم تصبحون وجوهكم مصفرّة ، واليوم الثاني محمرة ، والثالث مسودة. فجاءهم ما قاله لهم فلم يتوبوا ولم يرجعوا ، فلما كان منتصف الليل أتاهم جبريل فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم وفلقت قلوبهم وصدعت أكبادهم.

وفي بعض التفاسير : إن النار كانت تصحب الصيحة حيث أخذتهم. ولعل تسمية ذلك بالرجفة لأجل الاضطراب الحاصل للإنسان حينما يسمع صيحة مهولة (١).

[٨٠] (فَتَوَلَّى) أي أعرض صالح عليه‌السلام (عَنْهُمْ) حين رأى إصرارهم على الكفر (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أدّيت النصح الذي يسعدكم في دنياكم وأخراكم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٢٩٦.

وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ

____________________________________

(وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) فلا تقبلون نصحي. ولعل سر تأخير هذه الجملة ، عن جملة «فأخذتهم الرجفة» مع تقديمها في ظرف الوقوع عليها ، إيهام السياق سرعة الخاتمة ، حتى لا يكون فصل بين الإعراض وبين العذاب في اللفظ ، وهذا من فنون البلاغة ، لكن حيث أن مصير صالح عليه‌السلام لم يعلم مما قبل ، استأنف السياق ذكر مصيره وأنه نفض يديه منهم ، وتركهم ليلاقوا ما جلبوه على أنفسهم ، دونه.

[٨١] (وَ) اذكر (لُوطاً) ولعلّ اختلاف السياق هنا عمّا سبقه ، حيث كان يقول : «وإلى» ، تنبيه عدم التعرض لمن توسطهما من الأنبياء ، كإبراهيم عليه‌السلام الذي كان معاصرا للوط ، وإنما لم يذكر إبراهيم عليه‌السلام لعله لعدم نزول عقاب على قومه كما نزل على قوم لوط ، وقوم الأنبياء السابقي الذكر (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ)؟ على نحو الاستفهام الإنكاري ، والمراد ب «الفاحشة» المعصية المتجاوزة للحدود ، وهي اللواط بالرجال (ما سَبَقَكُمْ بِها) أي بهذه الفاحشة (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) فإن قوم لوط أول من تعاطى هذا العمل الشنيع.

[٨٢] (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) أي إتيانا شهويا ، فإن لفظ «أتى» بدون هذا القيد «الشهوة» يكون بمعنى «جاء» (مِنْ دُونِ النِّساءِ) فلا تأتون المباح ، وتأتون المحرّم ، ولعلّ عدم الإتيان لهن كان أيضا محرما ، كما

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً

____________________________________

أنه كذلك عندنا ، بعد أربعة أشهر (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) متجاوزون في الظلم والفساد ، فإن الإسراف بمعنى التجاوز.

[٨٣] (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي جواب القوم للوط عليه‌السلام الذي كان ينهاهم عن اللواط (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَخْرِجُوهُمْ) أي أخرجوا لوطا وأهله (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي مدينتكم ، وهي «سدوم» (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي يتحرّجون عن هذا العمل ، من أجل الطهارة والنزاهة.

[٨٤] (فَأَنْجَيْناهُ) أي خلصنا لوطا (وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) من العذاب النازل بقومه ، حيث أمرناهم بالسير والفرار من المدينة ، ففروا جميعا إلا زوجته (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في قومه المتخلفين عن لوط ، وإنما بقيت وهلكت لأنها كانت على طريقتهم ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) (١) ، إذ لم تؤمنا بما آمن به زوجيهما.

[٨٥] (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي أرسلنا عليهم الحجارة كالمطر ، كما قال

__________________

(١) التحريم : ١١.

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

____________________________________

تعالى في آية أخرى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (١) ، ثم قلبت مدينتهم حتى جعل عاليها سافلها (فَانْظُرْ) أي فاعلم يا رسول الله ، أو أيها الناظر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) المرتكبين للسيئات.

[٨٦] (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) هم قبيلة سميت باسم جدّهم «مدين» حفيد إبراهيم عليه‌السلام (أَخاهُمْ شُعَيْباً) وهو من أحفاد إبراهيم عليه‌السلام ، فهو أخ القبيلة (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) من الأصنام التي تبعدونها (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) دلالة واضحة تدل على صدقي. والظاهر أن المراد «المعجزة» ، فإن الأنبياء كانوا مزوّدين بالإعجاز (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أخذا وعطاء ، فلا تأخذوا زائدا ولا تعطوا ناقصا (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) من «بخس» بمعنى «نقص» (أَشْياءَهُمْ) أي لا تعطوهم ناقصا حيث إن الشيء المباع هو ملك المشتري ، فيكون الشيء للناس ، ولذا أضيف إليهم (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بأن

__________________

(١) الحجر : ٧٥.

بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً

____________________________________

تعملوا بالمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) لا يراد بذلك الإصلاح التام ، بل المعنى أن لا تأتوا بالفاسد مكان الصالح ، فإن الفساد إنما يتدرج إلى المجتمع ، أو المراد : لا تفسدوا بعد ما أصلح الأنبياء الأرض.

(ذلِكُمْ) الذي أمرتكم به من إتيان الواجبات وترك المحرمات (خَيْرٌ لَكُمْ) أي أنفع مما أنتم فيه ، وكأن الإتيان بصفة التفضيل في أمثال المقام ، للفضل المتوهم في الطرف الآخر ، مثلا : كان هؤلاء يزعمون أن ما يعملونه في الفضل ، فقيل لهم : إن ما تدعون إليه خير (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهؤلاء وإن لم يكونوا مؤمنين لكن الشرط في أمثال المقام مرتبط بفعل مقدر ، أي إن كنتم مؤمنين لعلمتم أنه خير لكم ـ كما ذكره أهل الأدب ـ.

[٨٧] (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) فإنهم كانوا قطاع طرق ، يقعدون في الطرق ، يوعدون الناس بالقتل والإيذاء إن لم يرضخوا للنهب والسلب (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي تمنعون عن إيمان الناس ، فقد كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بشعيب (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي من أراد الإيمان ، أو المراد صد المؤمنين عن القيام بوظائف الإيمان (وَتَبْغُونَها) أي تطلبون السبيل (عِوَجاً) أي تريدون الطريق المعوجّ ، ولا تريدون الطريق المستقيم ، أو المراد تتصيدون الاعوجاج لسبيل الله تعالى ، فإن أهل الباطل دائما يفكرون في نقد الحق ، حتى يروه للناس أعوج.

وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا

____________________________________

(وَاذْكُرُوا) أيها القوم (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) في العدد (فَكَثَّرَكُمْ) الله فإن جدّهم «مدين» كان واحدا ، ثم كثروا ، كما هو شأن كل قبيلة ، فاشكروا أيها القوم هذه النعمة (وَانْظُرُوا) تفكروا وتدبروا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من الأمم التي تقدمتكم ، حيث أهلكت بعذاب الله سبحانه لما فسدوا وأفسدوا وخالفوا أوامر الله سبحانه ، فخافوا أيها القوم نكال الله وعقابه.

[٨٨] ولا يغرّنكم أيها القوم تفرق الناس عني بين مؤمن وكافر ، فإن المصلحين يتفرّق الناس عنهم فرقتين دائما ، وقبل شروعهم في الإصلاح ، ويكون الناس حولهم فرقة واحدة موالية ، ولا يخفى أن هذا لا يكون سببا لأن يزعم كل من تفرّق الناس عنه فرقتين أنه مصلح وعلى حق ، فإن العاقبة للحق والضمائر تشهد بالصدق والكذب ، وهاتان علامتان مميزتان بين المحق والمبطل ، ولذا تمسك شعيب عليه‌السلام بقوله : «فاصبروا».

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) بأن صدقوني وقبلوا رسالتي (وَطائِفَةٌ) أخرى (لَمْ يُؤْمِنُوا) بل جحدوا وبقوا على كفرهم (فَاصْبِرُوا) أيها القوم ، المؤمن منكم والكافر (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) في الدنيا بإعلاء كلمة الدين وإبطال كلمة الكافرين ، أما في

وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)

____________________________________

الآخرة فهو شيء واضح (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه لا يجور في الحكم ، عن عمد أو غير عمد ، بل يعطي كل ذي حق حقه ، (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١).

__________________

(١) الأنبياء : ٤٨.

تقريب القران الى الأذهان

الجزء التّاسع

من آية ٨٩ من سورة الأعراف

إلى آية ٤١ من سورة الأنفال

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها

____________________________________

[٨٩] (قالَ الْمَلَأُ) جماعة الأشراف (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) رفعوا أنفسهم فوق مقدارها وعتوا وطغوا (مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم شعيب (لَنُخْرِجَنَّكَ) بكل تأكيد (يا شُعَيْبُ وَ) لنخرجنّ (الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) أي بلدنا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) «الملّة» هي الطريقة ، أي ارجعوا كفارا كما كنتم ، والعود في الملة إما باعتبار الغالب ، فأدخل فيه شعيبا عليه‌السلام تغليبا ، فإن المؤمنين به كانوا كفارا ثم آمنوا ، أو لزعمهم أن شعيبا عليه‌السلام كان منهم حيث كان أحدهم قبل ادّعاء النبوة ، وإما بمعنى الصيرورة ، فإن «عاد» يستعمل بمعنى «صار» ، كما قال الشاعر :

تلك المكارم لا ثعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

(قالَ) شعيب عليه‌السلام لهم : أتعيدوننا في ملتكم وتدخلوننا إليها (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) للدخول فيها؟ أي : أتجبروننا على ذلك؟ ولعل القصد : إنكم لا تقدرون على ذلك في حين كراهيتنا لذلك ، فإن العقائد لا تزول بالإكراه والإجبار.

[٩٠] ثم قال شعيب : إنه من المستحيل أن نتخذ طريقتكم ، إذ (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) بأن نجعل لله شريكا ، ونحلّل حرامه ، ونحرّم حلاله وننسب كل ذلك إليه (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها)

وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ

____________________________________

بأن أوضح الحق وأقام الحجة عليه (وَما يَكُونُ لَنا) أي لا يجوز لنا (أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) وهذا من التعليق على المحال ، لأن الله لا يشاء الكفر والعصيان ، كما قال : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (١) ، وقال : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (٢) ، أو المراد مشيئة الله بسلب التوفيق منهم ، وهذا ممكن بالنسبة إلى بعض المؤمنين الذين لا رسوخ لإيمانهم ، كما ارتد بعضهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحيث أن العود بالنسبة إلى كل واحد واحد صح ذلك (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه سبحانه كل شيء ، فهو أعلم بالصلاح وأعلم بالواقع والحقيقة ، فما كان من عبادتنا لتوحيده ، بأمره ونهيه ، هو الصحيح دون ما أنتم عليه من الشرك والعناد (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في أمورنا ، فلا نخاف من تهديدكم بإخراجنا.

ثم دعا شعيب عليه‌السلام قائلا : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) ومعنى «الفتح» النجاة ووضوح الحق ، إذ الواقع في المشكلة كأن الطريق مسدود أمامه ، كما أن من يريد الهداية يرى الضلال حاجزا ، فيطلب الفتح لهذا الحاجز وإزالته ليرى الحق ، وقيد «بالحق» توضيحي ، لإفادة أن فتحه سبحانه بالحق ، أو احترازي لأن الفتح يطلق على الفتح بالباطل ـ كما يفتح الكافر مدينة ما ـ والفتح بالحق (وَأَنْتَ) يا إلهنا

__________________

(١) الزخرف : ٨٢.

(٢) الأعراف : ٤١.

خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١)

____________________________________

(خَيْرُ الْفاتِحِينَ) فإن سائر الفاتحين قد يظلم عمدا أو خطأ أو جهلا ، أما الله سبحانه فلا يحيد فتحه عن الحق ، قيد شعرة.

[٩١] ثم بيّن سبحانه ما قالت جماعة شعيب بعضهم لبعض (وَقالَ الْمَلَأُ) أي جماعة الأشراف (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم شعيب ، بعضهم لبعض : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) في دينه وطريقته (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) خسرتم منافعكم وطريقة آبائكم.

[٩٢] (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الزلزلة ، أو الصيحة ، الموجبة للرجف والاضطراب (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي محلهم وبلدهم (جاثِمِينَ) أي ميتين ملقين لا حراك فيهم.

في المجمع : قيل : أرسل الله عليهم رمدة «أي هلاكا جعلهم كالرماد» وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت ، فدخل عليهم البيوت ، فلم ينفعهم ظل ولا ماء وأنضجهم الحرّ ، فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة فتنادوا : «عليكم بها» فخرجوا إلى البرية فلما اجتمعوا تحتها ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا وهو عذاب يوم الظلّة (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٣٠٩.

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)

____________________________________

ثم روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنه بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا» (١).

[٩٣] (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) ولم يؤمنوا به وبرسالته (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) «غنى بالمكان» يعني : «أقام فيه» أي : كأن المكذبين لم يقيموا في دارهم أصلا ، حيث ذهبت أخبارهم وآثارهم (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) عاد اللفظ تأكيدا (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) فقد خسروا دينهم ودنياهم وآخرتهم ، وهذا في قبال قولهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

[٩٤] (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) شعيب ، أي أعرض عنهم ، إما قبل الهلاك ـ وتأخير هذه الجملة لما تقدم في قصة قوم صالح ـ وإما حين الهلاك إذ أخذهم العذاب (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) وجمع «رسالات» باعتبار كل رسالة من مختلف الشؤون (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) بأن تتبعوني حتى تكونوا في أمن وسلامة (فَكَيْفَ آسى) أي أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) بعد أن قمت بواجب النصح والإرشاد. والمراد بالاستفهام «كيف» النفي ، أي : لا أحزن ، فإنهم استحقوا العقاب بإعراضهم واستكبارهم وتمرّدهم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٣٨٣.

وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ

____________________________________

[٩٥] ثم ذكر سبحانه أنه هكذا جرت عادة الناس بالنسبة إلى الأنبياء ، وهكذا جرت سنة الله بالنسبة إلى المكذبين ، تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإيقاظا لمن أراد القيام بالأمر والنهي في سبيل الله تعالى (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) المراد بها المدينة (مِنْ نَبِيٍ) لإرشادهم ، فلم يؤمنوا به (إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) أي أهل تلك القرية (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) البأساء : الشدة ، والضراء : سائر أنواع الضرر (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي يتضرعون ، بأن يتنبهوا ويتوبوا عن شركهم وكفرهم ومعاصيهم.

[٩٦] (ثُمَ) بعد أخذهم بالبأساء والضراء (بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) بأن رفعنا عنهم الشدة وجعلنا الرفاه والرخاء مكانها لعلهم يشكرون ، كما قال سبحانه : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، فإن الله سبحانه يوقظ العصاة أولا بالشدة ، فإن لم تنفع يوقظهم بالرفاه ، فإن لم ينفع عذّبهم ، حيث لم يفدهم لا الخوف ولا الإحسان (حَتَّى عَفَوْا) «العفو» هو : الإغضاء عن الذنب ، أي فعلوا الذنوب غاضّين عنها ، تاركين أنفسهم وشهواتها.

(وَ) إذا قيل لهم : إن الشدة والرخاء للابتلاء والإيقاظ ، لم يصدقوا ، بل (قالُوا) : هذه عادة الدنيا دائما ف (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ

__________________

(١) الأنعام : ٤٥.

وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

وَالسَّرَّاءُ) ما يضر من الشدائد ، وما يسر من الرفاه ، وليسا للابتلاء والإيقاظ فانسدت جميع أبواب الهداية في وجوههم ، ولم ينفعهم إرشاد الأنبياء ، ولا الضراء ولا السراء (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة بدون إمهال (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بالعذاب إلّا حين يرونه ، وربما كان هناك احتمال إقلاع ، وهنا يأتي العذاب تدريجيا ، كما حصل لقوم يونس عليه‌السلام ، أو إبلاغا للحجة إلى أقصاها ، كما صنع بقوم صالح عليه‌السلام.

ثم إن المؤمن والكافر كلاهما يبتليان بالضراء والسراء ، لكن هناك فرق ؛ فضراء المؤمن مع صبر وارتياح ، وضراء الكافر مع جزع وكمد ، وسراء المؤمن مع بركة وأمن واطمئنان ، وسراء الكافر مع محق وقلق واضطراب.

[٩٧] (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا) بالله تعالى وبأنبيائه (وَاتَّقَوْا) معاصيه وعملوا الصالحات (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) «البركات» الخيرات النامية ، وفتح الخير من السماء بكثرة الأمطار ، وطيب الهواء ، وفتحه من الأرض بإخراج النبات والثمار ، وتفجّر العيون ، إلى غيرهما من الخيرات المادية والمعنوية كاستجابة الدعاء ونحوها ، وهذا إلى جنب كونه معنويا بلطفه سبحانه ، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة ، فإن الإيمان والتقوى يوجبان سيادة مناهج الله تعالى وهي توجب الأخوة والتعاون مما يسببان ازدهار الحياة وتعميم

وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)

____________________________________

الرفاه والأمن ، كما أن الكفر والعصيان سببان لعكس ذلك (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل ولم يؤمنوا (فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبهم المعاصي والآثام.

[٩٨] ثم ذكر سبحانه أن أهل المعاصي لا بد لهم أن يترقبوا العقاب والنكال (أَفَأَمِنَ) أي هل يأمن (أَهْلُ الْقُرى) المكذبون للرسل العاصون لله سبحانه (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) أي ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ) في أمن وراحة واطمئنان؟ والمعنى : أنهم يجب أن لا يأمنوا ذلك.

[٩٩] (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) الهمزة للاستفهام ، والواو للعطف ، أي وهل يأمن أهل البلاد (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) نكالنا وعقابنا (ضُحًى) نهارا عند ارتفاع الشمس (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) في أمن واطمئنان ، أنهم إن عصوا فلن يكونوا آمنين في أحسن أوقات أمنهم ليلا ولا نهارا.

[١٠٠] (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) المكر : العلاج الخفي ، وإن غلب استعماله عرفا في معالجة الأشياء بالباطل ، أي يجب أن لا يأمن أحد من مكر الله ، وتسبيبه الأسباب للنكال به (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم ، ولا ينكرون من أمرهم ، وإلا فالمؤمنين يخافون

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ

____________________________________

سوء العاقبة الموجب للنكال والعقاب ، والمعصومون خارجون عن العموم لأن مصب الكلام حول العصاة ـ فإنه عبارة أخرى عن وجوب حذر العصاة ـ أو داخلون باعتبار احتمال صدور ترك الأولى منهم ، الموجب لعدم بلوغ بعض الدرجات الرفيعة ، كما قال سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١).

[١٠١] (أَوَلَمْ يَهْدِ) أي : ألم ينبّه ويرشد (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أي الذين صاروا خلفاء لآبائهم وأجدادهم ، من بعد ما أفنينا أولئك ، وأبحنا الأرض لهؤلاء ، أي أليس يعرف الناس مما رأوه من عذاب الأمم السابقة ـ حينما عصوا ـ (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) وأخذناهم (بِذُنُوبِهِمْ) كما أهلكنا الأمم السابقة (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بأن نعلمها بعلامة الكفر ، أو نغفلها حتى لا تعقل شيئا ، وذلك بسبب اقترافهم الجرائم والآثام ـ كما سبق ـ (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الوعظ ولا يقبلونه.

[١٠٢] (تِلْكَ الْقُرى) التي هلكت واضمحلت (نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا رسول الله (مِنْ أَنْبائِها) أي أخبارها لتنظر فيها بنظر الاعتبار ، وتخبر بها المسلمين وغير المسلمين حتى يعتبروا (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الأدلة

__________________

(١) طه : ١١٦.

فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ

____________________________________

الواضحة الدالة على المرسل والرسول فأهلكناهم لأنهم تمادوا في غيهم ولم يكن احتمال إقلاعهم عن كفرهم وعصيانهم إذ ما (كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) إنهم كانوا كذلك حسب علمنا بكامن قلوبهم (كَذلِكَ) أي كما طبع على قلوب هؤلاء ، بمعنى أنها لم تكن قابلة للهداية بسوء صنيعها ، كمن صارت المعصية ملكة له فلا يقدر عادة على تركها كذلك (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) وقد مرّ مرارا معنى «الطبع» وأنه بسوء اختيار الشخص ، لا أنه ظلم من الله ـ تعالى عن ذلك ـ بالنسبة إلى الكافر.

[١٠٣] (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) أي أكثر الذين أهلكوا (مِنْ عَهْدٍ) أي كانوا ينقضون العهود والمواثيق ، يقال : «لا عهد لفلان» ، أي لا يفي بعهده ، والمراد ب «العهد» ، إما ما أودع في فطرة كل أحد من الإيمان ، وإما ما كان مأخوذا من الناس على لسان الأنبياء ، وتصح نسبة عدم العهد إلى الأبناء ، بملاحظة التعهد مع الآباء ، ولذا من عاهد قبيلة أن لا يحاربها خمسين سنة ، كان الأبناء ملزمين بما التزم به آباؤهم (وَإِنْ وَجَدْنا) أي قد وجدنا (أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) خارجين من الوفاء بالعهد ، فإن الفسق بمعنى الخروج عن الطاعة.

[١٠٤] (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي بعد الرسل الذين تقدمت أسماؤهم ، أو

مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ

____________________________________

بعد هلاك الأمم السالفة (مُوسى) عليه‌السلام (بِآياتِنا) أي مع دلائلنا وحججنا (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي قومه ، أو الأشراف منهم ، وإنما خصّوا لأنه عليه‌السلام قصدهم أولا وبالذات (فَظَلَمُوا) أي ظلم فرعون وملأه أنفسهم (بِها) أي بسبب تلك الآيات ، فإن نزولها صار سببا لظلم أنفسهم ، ولو لا أنها نزلت لم يظلموا ، لأنه لم تكن حينئذ شريعة أصلا ، وهذا مجاز في النسبة كقوله سبحانه : (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١) ، (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي انظر يا رسول الله ، أو كل من يأتي منه النظر ، والمراد ب «النظر» التدبر والتفكر ، فيما آل إليه أمر المفسدين ، من الهلاك والغرق.

[١٠٥] (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إني رسول إليك ، من الله تعالى ، وقد كان فرعون يقول أنه الإله ، كما قال سبحانه : (فَحَشَرَ فَنادى * فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢).

[١٠٦] (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي واجب عليّ أن أقول الحق ، ولا أنسب إلى الله إلّا الصدق ، فإن الجدير بالنبي أن يقول ما قاله سبحانه ، لا أن ينسب إليه تعالى الباطل والكذب (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ

__________________

(١) الإسراء : ٨٣.

(٢) النازعات : ٢٤ و ٢٥.

مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)

____________________________________

مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة دالة على صدق كلامي ، والمراد بها الجنس لا حجة واحدة (فَأَرْسِلْ) يا فرعون (مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فإن فرعون كان قد سخّر بني إسرائيل للأعمال كالبناء ونحوه. والمراد بإرسالهم : التخلية بين بني إسرائيل وبين موسى عليه‌السلام ليوجّههم حسب الشريعة. وفي بعض التفاسير أنه عليه‌السلام أرادهم ليذهب بهم إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم وأجدادهم.

[١٠٧] (قالَ) فرعون : (إِنْ كُنْتَ) يا موسى (جِئْتَ بِآيَةٍ) أي حجة تدل على صدق نبوتك (فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنك رسول رب العالمين.

[١٠٨] (فَأَلْقى) موسى عليه‌السلام (عَصاهُ) التي كانت بيده ، وكانت من الجنة (فَإِذا هِيَ) تنقلب إلى (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي حية كبيرة عظيمة فتحت فاها لتلتقم قصر فرعون الذي كان طوله ثمانين ذراعا. وهنا خاف فرعون والحاشية ، وهربوا ، وأحدث فرعون من الخوف ، والتمس موسى أن يردّها ، فردّها وإذا بها ترجع عصا كالسابق.

[١٠٩] (وَنَزَعَ) موسى عليه‌السلام (يَدَهُ) أي جعلها تحت إبطه ، ثم أخرجها (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي صارت اليد أكثر ضياء من الشمس ، ثم أعادها إلى إبطه وأخرجها فإذا بها كحالتها السابقة.

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً

____________________________________

[١١٠] ولما رأوا هاتين المعجزتين العظيمتين تحيروا ، وهنا تدخلت الحاشية في الأمر ليخفّفوا من روع فرعون (قالَ الْمَلَأُ) أي جماعة الأشراف (مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا) أي موسى عليه‌السلام (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بالسحر ، وأنه صنع ما صنع سحرا لا معجزة.

[١١١] (يُرِيدُ) أي موسى عليه‌السلام (أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) باستمالة قلوب بني إسرائيل وسائر الناس إلى نفسه حتى يغلب عليكم. ومن الواضح أن شخصا إذا غلب يهرب أعضاء الحكومة السابقة خوفا منه (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أن نصنع لاتقاء خطر موسى عليه‌السلام؟

[١١٢] (قالُوا) أي قال الملأ في جواب فرعون الذي سأل «ماذا تأمرون» : (أَرْجِهْ) أمر من «أرجأ» بمعنى «أخّر» ، أي أخّره واضرب معه موعدا ، ولا تعجل في الحكم له أو عليه (وَأَخاهُ) أي وأخّر أخاه هارون معه (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) التي حولك ، جمع «مدينة» أي ابعث إلى البلدان الأخرى (حاشِرِينَ) أي أناسا جامعين للسحرة ليأتوا ويقابلوه بمثل سحره.

[١١٣] (يَأْتُوكَ) أولئك المبعوثون (بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) فاستحسن فرعون رأيهم وأرسل في طلب السحرة.

[١١٤] (وَجاءَ السَّحَرَةُ) وفي عددهم خلاف : من سبعين ، إلى ثمانين ألف (فِرْعَوْنَ) أي جاءوا إليه (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي عوضا على عملنا

إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ

____________________________________

(إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) على موسى.

[١١٥] (قالَ) فرعون : (نَعَمْ) لكم الأجر إن غلبتموه (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إليّ ، فأكرمكم وأجعلكم في عداد المقربين إلي.

[١١٦] (قالُوا) أي قال السحرة : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك أنت أولا (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) لما معنا من السحر؟

[١١٧] (قالَ) لهم موسى عليه‌السلام : (أَلْقُوا) ما معكم أولا (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيّهم التي كانت آلة سحرهم (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) فقد احتالوا في تحريك العصي والحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتى تتحرك بحرارة الشمس ، وغير ذلك من أنواع التمويه ، وخيّل إلى الناس أنها تتحرك ، وقد ظن الناس أنها حيات تتحرك ، وما شعروا أنها حبال تحرّكها حرارة الشمس بما فيها من الزئبق (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي أرهبوهم ، فإن الناس خافوا من حيّاتهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) فإن الحبال الكثيرة المختلفة الألوان والكيفية إذا صارت كلها حيات ـ في أعين الناس ـ تركب بعضها على بعض يكون عظيما لدى الناظر.

[١١٨] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) عليه‌السلام حين ذاك (أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) التي هي

فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)

____________________________________

معك ، فألقاها فصارت ثعبانا مدهشا (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أي تلقم وتأكل (ما يَأْفِكُونَ) أي إفكهم ، والمراد به حيّاتهم وعصيّهم ، فإن العصا أخذت تأكل الحبال ثم توجهت إلى الناس ، فأخذوا في الهرب ، وقتل تحت الأيدي والأرجل جمع كثير ، ثم أخذها موسى عليه‌السلام فإذا بها عصا ، وهناك قال السحرة : لو كان هذا سحرا لم تأكل حبالنا ، فلا بد وأن يكون إعجازا من رب السماء.

[١١٩] (فَوَقَعَ) أي ظهر (الْحَقُ) وهو أمر موسى عليه‌السلام ونبوته (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من التمويهات ، أي ظهر بطلانها.

[١٢٠] (فَغُلِبُوا) أي غلب موسى عليه‌السلام فرعون وملأه ، وبهت أولئك (هُنالِكَ) أي من ذلك المكان (وَانْقَلَبُوا) أي انصرف فرعون وملأه (صاغِرِينَ) أذلّاء مقهورين.

[١٢١] (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) فإن السحرة لما شاهدوا تلك الآيات ، وعلموا أن موسى عليه‌السلام نبي من عند الله تعالى ، لم يتمالكوا أنفسهم إلّا وسجدوا إذعانا لله سبحانه ، والتعبير ب «ألقي» مبني للمجهول ، لأجل إفادة معنى عدم تمالك النفس ، وأن ما رأوا من الآيات هي التي سببت أن يسجدوا.

[١٢٢] (قالُوا) أي قال السحرة : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) صدّقناه واعترفنا بوجوده ، وكفرنا بألوهية فرعون.

رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ

____________________________________

[١٢٣] (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) وإنما خصّوهما بالذكر ، بعد قولهم «رب العالمين» لأنهما دعيا إلى الإيمان بالله.

[١٢٤] (قالَ فِرْعَوْنُ) حين رأى إيمان السحرة : (آمَنْتُمْ بِهِ) أي بموسى عليه‌السلام والاستفهام للتوبيخ والإنكار (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي قبل أن تحصلوا على إذني ، فإنه كان يرى نفسه المستحق لأن يأذن بالإيمان ، وأن الإيمان بدون إذنه موجب للعقوبة (إِنَّ هذا) أي هذا الإيمان بهذه الكيفية (لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) فإنه أراد أن يلبس على الناس أن إيمان السحرة ليس على علم واعتقاد ، وإنما عن تواطؤ من موسى والسحرة (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي صنعتم هذا المكر لأن تسودوا أنتم في البلاد ، وتخرجوا من المدينة أهلها ، والمراد بهم فرعون وملأه ، فإنه إذا جاءت سلطة جديدة ، تجبر أهل السلطة القديمة بالفرار وقاية لأنفسهم من السجن والقتل (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيها السحرة عاقبة أمركم وجزاء عملكم.

[١٢٥] (لَأُقَطِّعَنَ) بكل تأكيد (أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) أيها السحرة (مِنْ خِلافٍ) أي من كل شق طرفا ، كاليد اليمنى والرجل اليسرى ، أو بالعكس. وكانوا يعملون ذلك لبقاء التوازن في الجملة للجسد ، إذ لو كان القطع من طرف واحد ، لم يكن لذلك الطرف رجل يمشي بها ، ولا يد يتكئ بها على العصا (ثُمَ) بعد القطع (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ)

أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ

____________________________________

و «الصلب» هو الشد على الخشبة حتى يموت ، وقد كان يطول بقاء المصلوب يوما وأكثر (أَجْمَعِينَ) فلا أدع منكم أحدا.

[١٢٦] (قالُوا) أي قال السحرة : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) «الانقلاب» هو الرجوع ، والمعنى : إنك إن صلبتنا فإنا إلى جزاء الله وثوابه نرجع ، فلا يضرنا شيء. وغرضهم بيان صبرهم على ما ينزل بهم من الشدة ، وأنهم مصممون على استمرارهم في الإيمان.

[١٢٧] (وَما تَنْقِمُ) «النقمة» الإنكار ، أي : ما تكره (مِنَّا) وما تطعن فينا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) أي دلائله وحججه (لَمَّا جاءَتْنا) فليس لنا ذنب سوى ذلك (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي اصبب علينا الصبر عند ما يفعل بنا من القطع والصلب (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي وفّقنا للثبات على الإسلام إلى وقت الوفاة حتى نموت على الإيمان والإسلام. وفي أن فرعون صلب هؤلاء أم لا ، خلاف بين المفسرين.

[١٢٨] (وَقالَ الْمَلَأُ) أي جماعة الأشراف (مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) بعد أن رأوا غلبة موسى عليه‌السلام وإيمان جمع به (أَتَذَرُ) أي هل تبقي يا فرعون (مُوسى وَقَوْمَهُ) وهم بنو إسرائيل (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بإظهار التوحيد ، وأنك لست بإله (وَيَذَرَكَ) أي يتركك موسى ، فلا يعتني

وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨)

____________________________________

بك (وَ) يذر (آلِهَتَكَ) جمع «إله» ، فقد كان يدّعي الربوبية ، وجعل لهم آلهة أيضا ، فكانوا يعبدون البقر والأصنام. وقد كان الاستفهام منهم تحريضا لفرعون ، حتى يقضي على موسى عليه‌السلام (قالَ) فرعون في جوابهم : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) أي سوف نكثر في أبناء قوم موسى القتل حتى لا يبقى منهم أحد يصلح للقتال والإفساد (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي نستبقيهن أحياء للخدمة والاستمتاع إذلالا لهم ، وإماتة لكلماتهم (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) بيدنا القوة والجند والسلاح والملك فلا يتمكنون من مقاومتنا.

[١٢٩] قد كان فرعون يفعل ذلك ببني إسرائيل ، لما علم أن زوال ملكه بيد أحدهم ، ولما ظهر موسى عليه‌السلام كفّ عن ذلك خوفا ، وبعد ما حثه قومه على الانتقام ، عزم على العودة إلى ما كان يفعله سابقا ، ولما علم بذلك بنو إسرائيل شكوا إلى موسى عليه‌السلام ف (قالَ مُوسى) عليه‌السلام (لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ) في دفع بلاء فرعون عن أنفسكم (وَاصْبِرُوا) على أذى فرعون أياما قليلة ، فلا ترجعوا عن دينكم ، ولا تظهروا الجزع (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) تعالى (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي ينقلها بإماتة السابقين أو إقصائهم ، ويجعلها في أيدي الآخرين ، كما أن الإرث كذلك في الجملة (وَالْعاقِبَةُ) الحسنة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون الله تعالى ، فإنهم يجلبون بذلك خير الدنيا وسعادة الآخرة ، مع رضا الله سبحانه عنهم.

قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ

____________________________________

[١٣٠] (قالُوا) أي قال بنو إسرائيل ، لما سمعوا جواب موسى بالصبر ، وأنه لا يريد دفع فرعون عاجلا : (أُوذِينا) أي عذّبنا من قبل فرعون (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) وتبعث فينا بالرسالة (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) وبعثت إلينا رسولا ، فلم ننتفع بك في دفع الأذى (قالَ) موسى عليه‌السلام واعدا إياهم بالنجاة : (عَسى رَبُّكُمْ) أي لعل الله سبحانه (أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) فرعون وينقذكم منه (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي يجعلكم خلفاءه والقائمين مقامه في البلاد (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) بعد ما ملكتم الأرض ، هل تفسدون كما أفسد فرعون أم تصلحون ، فإن الله سبحانه يجازي البشر بعملهم لا بعلمه فيهم.

[١٣١] ثم بيّن سبحانه ما فعله بآل فرعون من النكال والعقاب جزاء بما كانوا يقترفونه من المعاصي والآثام (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) «السنين» الأعوام المقحطة ، يقال : «أخذتهم السنة» إذا كانت سنة مقحطة مجدبة ، أي عاقبناها بالجدب والقحط (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) فإن أشجارها كانت تحمل أثمارا قليلة ، وهذا غير جدب أراضيهم (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لكي يذكروا عذاب الله فيرجعوا إلى الإيمان.

[١٣٢] (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) أي أصابهم الخير كالخصب والسعة والصحة

قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)

____________________________________

وما أشبه (قالُوا لَنا هذِهِ) أي إنا نستحق ذلك ، وهذا من حسن حظنا ، وعلوّ طالعنا ، فلم يكونوا يشكرون الله سبحانه على ما أنعم عليهم (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) كالجوع والقحط والمرض ونحوها (يَطَّيَّرُوا) أصله «يتطير» فأدغمت التاء في الطاء (بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) من المؤمنين ، فكانوا يقولون : هذا من شؤم موسى وسوء طالعه ، والأصل في التطير ما كان العرب تزعمه من أن الطير إذا جاء من طرف شمال الإنسان كان شرا وإذا جاء من طرف يمينه كان خيرا ، ثم غلب التطيّر في القسم الأول ، فإذا قيل : «تطيّر» أريد أنه «تشاءم».

فكان آل فرعون يرون البلايا من موسى عليه‌السلام ولم يكونوا يعلمون أنها من سوء أعمالهم (أَلا) أي تنبيه أيها المخاطب (إِنَّما طائِرُهُمْ) والشؤم الذي كان يلحق بهم لم يكن من عند موسى ولأجله بل من (عِنْدَ اللهِ) فإنه كان يضربهم بالبلاء عقوبة لأعمالهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك بل كانوا يزعمون الشؤم من موسى عليه‌السلام.

[١٣٣] (وَقالُوا) أي قال فرعون وملأه لموسى عليه‌السلام : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا) أي : أي شيء من المعجزات لتموّه علينا (بِها) بسببها ، تريد بذلك أن نؤمن بما تدعو إليه (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) ولا نصدّقك فيما جئت به من الألوهية والرسالة والوعد والوعيد.

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)

____________________________________

[١٣٤] (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) هو الماء الغالب على أبنيتهم وأشجارهم حتّى خرّبها (وَالْجَرادَ) حتّى أكل أشجارهم وزرعهم (وَالْقُمَّلَ) هو السوس الذي يخرج من الحنطة ونحوها (وَالضَّفادِعَ) جمع «ضفدع» حتى كان يثب في أوانيهم وقدورهم ويكثر في بيوتهم ومحلاتهم حتّى عجزوا عنها (وَالدَّمَ) فقد انقلب ماء النيل دما فكانوا لا يتمكنون من شرب ولا يهنؤون بأكل وطعام (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) أي معجزات فصّلت بعضها عن بعض ، ظاهرات واضحات (فَاسْتَكْبَرُوا) أي تكبروا عن قبول الحق بعد كل ذلك (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) عاصين ذوي كفر وإجرام.

روي أن السحرة لما سجدوا وآمن بموسى جمع من آل فرعون قال هامان لفرعون ـ وكان وزيره ـ : إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه ، فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل ، فجاء إليه موسى ، فقال له : خلّ عن بني إسرائيل ، فلم يفعل ، فأنزل الله عليهم في تلك السنة الطوفان ، فخرّب دورهم ومساكنهم حتى خرجوا إلى البرية وضربوا الخيام ، فقال فرعون لموسى : ادع ربك حتى يكف عنا الطوفان فأخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك ، فدعا موسى ربه فكفّ عنهم الطوفان وهمّ فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل ، فقال له هامان : إن خليت عن بني إسرائيل غلبك موسى وأزال ملكك ، فقبل منه ولم يخلّ عن بني إسرائيل ، فأنزل عليهم في السنة الثانية الجراد فجردت كل شيء كان لهم من النبت والشجر حتى

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ

____________________________________

كانت تجرد شعورهم ولحاهم ، فجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا ، وقال : يا موسى ادع ربك أن يكف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل وأصحابك ، فدعا موسى ربه فكفّ عنهم الجراد.

فلم يدعه هامان أن يخلي عن بني إسرائيل فأنزل الله عليهم القمّل فذهب زرعهم وأصابتهم المجاعة فقال فرعون لموسى : إن دفعت عنا القمل كففت عن بني إسرائيل ، فدعا موسى ربه حتى ذهب القمل ، فلم يخلي عن بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم بعد ذلك الضفادع فكانت تكون في طعامهم وشرابهم ، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا ، فجاءوا إلى موسى فقالوا : ادع الله يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا موسى ربه فرفع الله عنهم ذلك ، فلما أبوا أن يخلوا عن بني إسرائيل حوّل الله ماء النيل دما فكان القبطي يراه دما والإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء وإذا شربه القبطي كان دما ، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فقالوا لموسى : لئن رفع عنا الدم لنرسلن معك بني إسرائيل ، فلما رفع الله عنهم الدم غدروا ولم يخلوا عن بني إسرائيل.

[١٣٥] (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) «الرجز» العذاب ، فقد أصابهم ثلج أحمر ولم يروه قبل ذلك فماتوا فيه وجزعوا وأصابهم ما لم يعهدوا من قبل (قالُوا) أي فرعون وملأه : (يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما تقدم إليك أن تدعوه به ، فإنه يجيبك كما أجابك سابقا (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا) هذا (الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) بما جئت به من التوحيد والنبوة

وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)

____________________________________

(وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فنطلق سراحهم من السجون ومن تسخيرهم بالأعمال الشاقة.

[١٣٦] (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) بدعاء موسى عليه‌السلام ، ومعنى «كشف الرجز» رفع العذاب (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) أي : إن رفعنا العذاب كان لأجل أن يبلغوا المدّة المحدودة المقدرة لهم ، إذ لم يقدّر موتهم في ذلك الوقت الذي نزل بهم الرجز فيه (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي يخالفون وينقضون عهدهم فلا يؤمنون ولا يطلقون بني إسرائيل.

[١٣٧] (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي عذّبناهم جزاء بما فعلوا من الكفر والمعاصي (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي في البحر (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها) أي عن الآيات (غافِلِينَ) بمعنى أنهم كانوا يعملون عمل الغافل عن الآيات ، إذ الملتفت العاقل لا يخالف ولا يكذب ، أو المراد غافلين عن عواقب الآيات ، كما يقال : «فلان غافل عن أمر السلطة» أي عن عواقبه السيئة فيما إذا خالف.

وفي بعض الروايات : أنه بعد نزول الثلج خلّي عن بني إسرائيل فاجتمعوا إلى موسى في مصر واجتمع إليه من كان هرب من مصر وبلغ فرعون ذلك ، فقال هامان : قد نهيتك أن تخلّي عن بني إسرائيل فقد استجمعوا إليه ، فجزع فرعون ، وفرّ موسى إلى الخارج واتبعهم

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا

____________________________________

فرعون ، حتى وصلوا إلى البحر ، فدخل موسى ومن معه البحر بعد ما انشق لهم طرقا ، ولما بلغوا منتصف البحر ـ وهو البحر الأحمر ـ دخل فرعون وجنوده البحر ولما بلغ موسى آخر البحر وخرجوا ، كان فرعوا قد بلغ منتصفه ـ وعرضه أربع فراسخ تقريبا ـ وهناك أطبق الماء على أصحاب فرعون ، وأغرقوا أجمعين.

[١٣٨] (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) يعني : أعطينا بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين ، فإن القبط كانوا يستضعفونهم ، فأورثهم الله (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) أي مشارق الأرض التي كانوا فيها ، ومغاربها يعني أرض الشام ، فإن بني إسرائيل ملكوها بعد الفراعنة والعمالقة (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بإخراج الزرع والثمار وسائر صنوف النبات والأشجار (وَتَمَّتْ) وثبتت (كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) صفة «كلمة» أي الكلمة الحسنة التي وعدها الله (عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) فإنه أنجز وعده بإهلاك أعدائهم واستخلافهم في الأرض وكان تمام الكلمة الحسنى بسبب ما (صَبَرُوا) على أذى فرعون متمسكين بدينهم ، وقيل المراد ب «الكلمة الحسنى» ما بيّنه سبحانه في محل آخر بقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ـ إلى قوله ـ (يَحْذَرُونَ) (١).

__________________

(١) القصص : ٦ و ٧.

وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩)

____________________________________

(وَدَمَّرْنا) أي نسفنا وأهلكنا (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ) من الأبنية والقصور (وَ) ما كان يصنعه (قَوْمُهُ) من المنازل والمزارع (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من الأشجار والأعناب والثمار ، أي يجعلون له عريشا وسقفا.

[١٣٩] (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) أي قطعنا لهم بحر مصر الأحمر بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة ليعبروا فلما عبروا (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ) أي مرّوا على جماعة (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) أي يقبلون عليها ملازمين لها مقيمين عندها (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً) مجسما حتى نعبده (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) يعبدونها (قالَ) موسى عليه‌السلام : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ربكم ولا تعظّمونه فإنه لا يجوز أن تعبد الأصنام ، لأنه شرك بالله سبحانه.

[١٤٠] (إِنَّ هؤُلاءِ) القوم الذين يعبدون الأصنام (مُتَبَّرٌ) أي مدمّر مهلك ، من «التبار» بمعنى الهلاك (ما هُمْ فِيهِ) من عبادة الأصنام ، أي أن هذه العبادة توجب الهلاك والدمار (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أن عملهم باطل لا نصيب له من الحق والحقيقة.

قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ

____________________________________

[١٤١] ثم (قالَ) موسى عليه‌السلام لقومه على نحو الاستنكار والتوبيخ : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) أي ألتمس وأطلب لكم إلها غير الله ، إن هذا لا يكون أبدا (وَ) الحال أنه إلهكم الوحيد و (هُوَ) الذي (فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي زمانهم ، فإنه هو المعطي المفضل ، فكيف أتخذ إلها غيره؟!

[١٤٢] ثم خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الموجودين في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعدّد نعمه عليهم ، استدراجا لهم إلى الإيمان ، وتذكيرا بما سبق لهم منه سبحانه من الإحسان (وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) خلّصناكم منهم ، والمراد ب «آل فرعون» قومه وذووا السلطة في ملكه ، حين كانوا (يَسُومُونَكُمْ) أي يولونكم ويفعلون بكم ـ من «سام فلانا» إذا عذبه وأذّله ـ (سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب السيئ.

ثم بيّن سبحانه طرفا من ذلك العذاب بقوله : (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) «التقتيل» تفعيل من القتل ، أي يكثرون القتل في الذكور منكم. فقد كان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل ، لئلّا يولد فيهم مولود ذكر يذهب بملكه ـ حسب ما أخبره المنجّمون ـ ثم بعد ذلك وإن علم بموسى وأرسل إليه ، أخذ يقتل الذكور ثانية ، لئلّا يجتمعون حول موسى وتقوى شوكته فيعارضوه في سلطانه (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أي

وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً

____________________________________

يستبقونهن أحياء للخدمة والاستمتاع والإذلال (وَفِي ذلِكُمْ) أي في تخلية فرعون وما يفعل بكم (بَلاءٌ) أي ابتلاء (مِنْ رَبِّكُمْ) من قبله سبحانه ليجازي الصابرين (عَظِيمٌ) أو المعنى : في طرف ما فعل بكم من النجاة «بلاء» أي نعمة ، فإنه يأتي بمعناها «من» طرف ربكم «عظيم» حيث تفضل عليكم بنعمة النجاة من ذلك الشقي.

[١٤٣] ثم ذكر سبحانه تمام نعمه على بني إسرائيل فقال : (وَواعَدْنا) أي وعدنا (مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) فقد روي أن موسى عليه‌السلام لما كان بمصر وعد بني إسرائيل أنه إذا أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب ، فوعد الله موسى أن يأتي إلى الطور ويصوم ثلاثين يوما ثم يعطيه الكتاب الذي فيه الشرائع. ولعل ذكر «ليلة» دون «يوم» لأجل أن الليل أقرب إلى المناجاة ، فإن الظلمة تشع في النفس الانقطاع والخوف والرجاء ، مما يجعل الإنسان أقرب إلى الله سبحانه من النهار ، ولذا كان العبّاد يتخذونها ميقاتا لعبادتهم (وَأَتْمَمْناها) أي أكملنا الثلاثين ليلة (بِعَشْرٍ) ليال حتى صار المجموع أربعين (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) أي الوقت المضروب لإعطاء الكتاب (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وقد كان ذلك لأجل تهيئة موسى عليه‌السلام لأهلية إعطاء الكتاب ، ولئن يعرف الناس عظمة الكتاب حتى أن مثل موسى عليه‌السلام لا يعطى له إلا بعد الصيام والقيام.

ولا يخفى أن الإتمام عشرا لا ينافي وعده ثلاثين ، فإن المقرّر كان

وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ

____________________________________

إعطاء الكتاب بعد إتمام الثلاثين ، لا بمجرد إكمال الثلاثين ، وإنما قال : «فتم ميقات ربه» لئلا يوهم أن المعنى : أكملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين ، نحو : «أكملت العشرة بدرهمين».

(وَ) حين أراد موسى عليه‌السلام الخروج إلى ميقات ربه أوحى إلى أخيه هارون عليه‌السلام إذ (قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي) أي كن خليفتي (فِي قَوْمِي) فإن هارون وإن كان نبيا لكنه لم يكن رئيسا ، ففوض إليه موسى عليه‌السلام منصب الرئاسة (وَأَصْلِحْ) فيما بينهم وأصلحهم (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الذين يأمرون بالفساد ويفسدون الناس ، وهارون عليه‌السلام وإن كان منزّها عن ذلك ، إلّا أن ذلك لتنبيه القوم وإرشادهم إلى عمل هارون ، فإن الإنسان قد يوصي لأجل الوصيّ ، وقد يوصي لأجل من يسمع.

[١٤٤] (وَلَمَّا جاءَ مُوسى) عليه‌السلام (لِمِيقاتِنا) «الميقات» هو الزمان أو المكان الذي قدّر ليعمل فيه ، ولذا يقال : «ميقات الحج» للمكان المقدّر فيه الإحرام ، والمعنى : أنه لمّا انتهى موسى إلى المكان الذي وقّتنا له وأمرناه بالمسير إليه لننزل عليه التوراة ، أو المراد الميقات الزماني ، أي لمّا انتهى إلى زمان المواعدة (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) بأن خلق الكلام في الفضاء حتى سمعه موسى عليه‌السلام ، فإن الله سبحانه منزّه عن اللسان واللهاة وسائر الأمور المرتبطة بالكلام الجسدي.

(قالَ) موسى : يا (رَبِّ أَرِنِي) نفسك (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) نظر

قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ

____________________________________

العيان. وقد كان هذا السؤال من موسى إجابة لطلب قومه ، فقد روي أنه لما كلّمه الله وقرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم بذلك ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته ، فاختار منهم سبعين فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد إلى الطور وسأل الله أن يكلمه ويسمعهم كلامه ، فكلمه الله فسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لأن الله أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن بأن هذا الذي سمعناه من جميع الوجوه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا. فقال موسى : يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله إياك؟

فأحياهم وبعثهم معه فقالوا : لو أنك سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك فتخبرنا كيف هو ونعرفه حق معرفته ، فقال : يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له وإنما يعرف بآياته ويعلم بعلاماته ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى : يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله إليه : يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى : رب أرني انظر إليك (قالَ) الله تعالى في جواب موسى : (لَنْ تَرانِي) أبدا ، فإن «لن» لنفي الأبد ، وذلك لاستحالة رؤية الله سبحانه لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فإن للرؤية شرائط كلها مفقودة بالنسبة إليه سبحانه ، ومنها أن يكون المرئي جسما أو عرضا ، والله سبحانه ليس بجسم ولا عرض (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ)

فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ

____________________________________

الذي كان هناك (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) حال التجلّي (فَسَوْفَ تَرانِي) وقد كان هذا من باب التعليق بالمحال ، فإن استقرار الجبل مكانه مع إرادة الله عدم الاستقرار له كان مستحيلا. فيكون التعليق على ذلك مثل قوله : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١) ، وقوله : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٢) ، (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٣) ، مما جرى العرف بالتعليق على شيء لا يكون ، في بيان أن الشيء الفلاني لا يكون (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) أي رب موسى عليه‌السلام (لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أي مستويا مع الأرض ، والمراد بالتجلي : خلق نور يشع على الجبل ، أو إظهار قدرة وعظمة له (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي وقع مغشيا عليه من الرعب والخوف (فَلَمَّا أَفاقَ) من غشيته ورجعت قواه إليه (قالَ) موسى عليه‌السلام : (سُبْحانَكَ) أي أنزهك تنزيها عما لا يليق بك من رؤية وغيرها من النواقص (تُبْتُ إِلَيْكَ) أي رجعت إليك في أموري ، ولم يكن ذلك توبة عن ذنب بل إنه على وجه الانقطاع والتخضّع ، فإن الإنسان إذا رأى الأمور الجليلة يذكر الله بالتسبيح والتقديس والاستغفار ، والسر أن هذه الألفاظ صارت إعلاما للخضوع والخشوع ، لكثرة ما استعملت فيهما. ومنه الحديث : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر الله من غير ذنب» (٤) وإن شئت قلت : إنه إنشاء مفهوم التوبة

__________________

(١) الأعراف : ٤١.

(٢) الزخرف : ٨٢.

(٣) الأنبياء : ٢٣.

(٤) راجع وسائل الشيعة : ج ٧ ص ١٨٠.

وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ

____________________________________

بداعي التعظيم ، كما أن أدوات الاستفهام في كلامه سبحانه هي لإنشاء مفهوم الاستفهام بداعي آخر ، كالمفاضلة في قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١) ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بك وبما يليق بك من الصفات.

[١٤٥] (قالَ) الله سبحانه : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) أي اخترتك (عَلَى النَّاسِ) وفضّلتك عليهم (بِرِسالاتِي) حيث ألقيت إليك أنواع الرسالة في الأصول والفروع (وَبِكَلامِي) حيث كلّمتك دون سائر خلقي. والعطف إما للبيان ، أو المراد من الرسالة غير ما كلّم فيه ، بل كانت بالإلهام ، ومن الكلام غير ما أرسل به ، بل كان لسائر الأمور (فَخُذْ) يا موسى (ما آتَيْتُكَ) أي أعطيتك من التوراة وتمسك به (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمتي ، والشكر إما بالجنان بأن يعرف الإنسان قدر المنعم وفضله ، وإما باللسان بأن يعترف بجميله ، وإما بالأركان بأن يأتي الإنسان بما يستحق المنعم من التعظيم والإجلال والخضوع ، قال تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (٢).

[١٤٦] (وَكَتَبْنا لَهُ) أي لموسى عليه‌السلام (فِي الْأَلْواحِ) جمع «لوح» ، وهي القطعة من الخشب أو نحوها ، وقد نزلت على موسى عليه‌السلام ألواح

__________________

(١) الزمر : ١٠.

(٢) سبأ : ١٤.

مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ

____________________________________

مكتوب فيها التوراة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم (مَوْعِظَةً) هذا تفسير لقوله «كل شيء» ، وهي عبارة عن التحذير عن القبيح ، والتبصير بمواقع الخوف (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا وتوضيحا لكل أمر كانوا محتاجين إليه. ومن المعلوم أن المراد بيان الخطوط العامة للحياة الدينية ، لا كل جزئي جزئي ، وهذا هو المراد من قوله : (لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١) ، لو أريد بالكتاب القرآن ، وهو المراد من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من شيء يقربكم إلى الجنة ، إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يباعدكم عن النار إلّا وقد نهيتكم عنه» (٢) ، (فَخُذْها) أي الألواح (بِقُوَّةٍ) أي بجدّ واجتهاد ، والمراد بأخذها : العمل بما فيها ، كما قال سبحانه : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) (٣) ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) أي بني إسرائيل (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) وهذا تحريض بالأخذ بالفضائل ، فإن الشريعة لها عرض كبير للأمور يبتدئ من الواجبات وينتهي إلى أكمل الفضائل وهذا من باب شدة الجذب بقصد الاعتدال ، كما يشد الحمل من جانب كثيرا ليعتدل (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) أي جهنم ، فاحذروا أن تخالفوا وتفسقوا حتى تكونوا منهم.

[١٤٧] (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) أي أصرفهم عن الإيمان بها ، أو أصرفهم عن

__________________

(١) الأنعام : ٦٠.

(٢) راجع مستدرك وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٣٠.

(٣) مريم : ١٣.

الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ

____________________________________

النيل منها (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) فعلى المعنى الأول : أن ذلك لكونهم تكبروا ، فلم يلطف بهم الله سبحانه لطفه الخفي بل صرفهم عن الإيمان وخلّى بينهم وبين إضلال الشيطان ، كما يصرف الإنسان ولده العاصي عن لطفه فلا يعتني بشأنه. وعلى المعنى الثاني : يكون المعنى حفظ الآيات عن الزيادة والنقصان كما قال سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، والأول أقرب ، وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) ليس قيدا احترازيا ، بل لبيان أن التكبر لا يكون إلا بغير الحق ، نحو : (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (٢).

ثم وصف سبحانه أولئك بقوله : (وَإِنْ يَرَوْا) أي يرى المتكبرين (كُلَّ آيَةٍ) ومعجزة دالة على صدق الأنبياء وسائر الأمور الحقة (لا يُؤْمِنُوا بِها) حيث قد لجّوا في الفساد واستحوذ عليهم الشيطان (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ) أي طريق الهدى والحق ، الموجب للرشد والنمو العقلي والمادي ، فإن الرشد بمعنى النمو (لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) فلا يسلكوه (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ) أي طريق الغواية والضلال (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) لأنفسهم فيسلكوه (ذلِكَ) أي سبب صرفهم عن الآيات ـ على المعنى الأول ـ أو سبب اجتنابهم طريق الرشد واتخاذهم طريق الغي

__________________

(١) الحجر : ١٠.

(٢) البقرة : ٦٢.

بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً

____________________________________

(بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بحججنا ومعجزات رسلنا (وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها ، والمراد تشبيههم بالغافل الذي يغفل عن صلاحه فلا يعمل بمقتضاه.

[١٤٨] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي المعجزات والحجج (وَ) كذبوا ب (لِقاءِ الْآخِرَةِ) بأن أنكروا القيامة والبعث والنشور (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي عملوها ، فإن كل إنسان يعمل بعض الأعمال الخيرة ، فإذا كان مؤمنا يثاب عليها ، وإن كان كافرا لم يثب عليها ، وهذا لا ينافي خفة العذاب ، كما ورد في حاتم وأنو شروان وغيرهما (هَلْ يُجْزَوْنَ) أي لا يجزى هؤلاء المتكبرون ، فإن الاستفهام للإنكار (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فليس حبط أعمالهم ظلما لهم.

[١٤٩] ثم يبيّن سبحانه طرفا آخر من قصة بني إسرائيل ، وهي قصة عبادتهم للعجل حين كان موسى عليه‌السلام في الطور (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد خروج موسى عليه‌السلام إلى ميقات ربه (مِنْ حُلِيِّهِمْ) الذهبية التي كانت لهم ، من سوار وخلخال وقلادة وغيرها (عِجْلاً) أي صبّوا الحلي في صورة العجل وهو ولد البقر (جَسَداً) أي لا روح فيه ، فكان تمثال العجل وصورته ، لا واقعه وحقيقته ، ولعل هذا القيد لئلّا يتوهّم أن القوم ألبسوا الحلي عجلا حقيقيا ، فإن موسى عليه‌السلام لما أبطأ

لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً

____________________________________

أشاع رجل من بني إسرائيل واسمه «السامري» أن موسى قد مات ثم جمع حلي القوم وصاغها عجلا ، وقال لبني إسرائيل : إن هذا إلهكم ، وقد كان العجل من آلهة مصر ، وكانوا يألفون عبادته ، ولذا قبلوه ، وقد طلبوا سابقا من موسى عليه‌السلام أن يجعل لهم إلها.

وفي بعض التفاسير : إن القوم الذين رآهم بنو إسرائيل على البحر كانوا يعبدون العجل ، حين قالوا لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (١) ، وكان العجل الذي صنعه السامري (لَهُ خُوارٌ) أي صوت كصوت العجل. وقد اختلف في ذلك ، ففي بعض التفاسير أن السامري صنعه بحيث إذا هبّت عليه الريح دخلت في جوفه فأحدثت صوتا. وفي تفسير آخر : إن «السامري» رأى جبريل عليه‌السلام راكبا فرسا حين عبروا البحر ، فأخذ من تحت حافر فرسه التراب ، فأدخله جوف العجل ، وكان منه الخوار ، أو أن الخوار كان منه سبحانه حيث خلقه فيه للابتلاء.

ولا يستشكل : أنه كيف يخلق ذلك ، وهو موجب لافتتان الناس؟

فإن الجواب واضح : إذ المحل لم يكن محل اشتباه فقد علموا جميعا أن الله سبحانه لا يرى وليس بجسم ، فكان ضلالهم بسوء اختيارهم.

(أَلَمْ يَرَوْا) أولئك الذين عبدوا العجل (أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ) فمن هو عاجز عن أقل شيء وهو الكلام كيف يكون إلها؟ (وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) أي لا يرشدهم إلى خير ليأتوه ولا إلى شر ليجتنبوه

__________________

(١) الأعراف : ١٣٩.

اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً

____________________________________

(اتَّخَذُوهُ) أي اتخذوا العجل إلها ، فإن كثيرا منهم أطاعوا السامري في عبادة العجل ، ولم يطيعوا هارون فيما وعظهم وأنذرهم (وَكانُوا ظالِمِينَ) لأنفسهم بهذه العبادة حيث حرموها من خير الدنيا وسعادة الآخرة.

[١٥٠] (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أي سقط البلاء في يدهم ، وهذا من باب التمثيل والتشبيه ، فإن الإنسان إذا عمل عملا فندم ، يقال : «سقط في يده» كأن الشيء الذي اكتسبه لم يرج ، ولم يذهب كما هو عادة المتاع الجيد ، بل سقط في يده وبقي عنده ، وكأن الأصل فيه أن المتاع يسقط من محله إلى مستقره ، وهو الذي يصرفه لأجل حوائجه ، فإذا بقي عند الواسطة ـ وهو التاجر ـ كان ساقطا في يده ، دون يد المستهلك (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) فإنهم بعد ما عبدوا العجل ندموا فيما أفرطوا ، كما هو شأن غالب الحركات الاعتباطية فإن الناس يأتون بها من فورهم ثم يندمون حينما يتفكرون (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا) بقبول توبتنا (وَيَغْفِرْ لَنا) ما فعلناه من عبادة العجل (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم باستحقاق العقاب ، وفوت الثواب.

[١٥١] (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى) من الميقات (إِلى قَوْمِهِ) وعرف الأمر صار (غَضْبانَ أَسِفاً) أي حزينا على ما صدر منهم من عبادة العجل ، أو المراد رجع غضبان آسفا ، لما أعلمه الله سبحانه من عبادتهم العجل

قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠)

____________________________________

(قالَ) لهم : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي) أي عملتم خلفي (مِنْ بَعْدِي) أي بعد ذهابي إلى الميقات ، فإن عملكم بعدي كان عملا سيئا (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أي استعجلتم قضاء الله وعقابه ، فكأن العاصي لا بد وأن يلاقي العقاب ، فإذا فعل فعلا شنيعا استعجل العقاب (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) المكتوب فيها التوراة من يده تضجرا من عملهم (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) هارون (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) إما لينحّيه ناحية فيناجيه في أمر القوم ، وإما إظهارا للغضب ، ولم يكن ذلك إلا استنكارا عمليا لعمل القوم ، كما يصيح الوالد على ولده البريء ، فيما إذا عمل بعض أهل البيت عملا مخالفا ، يريد بذلك إظهار غضبه على عملهم.

(قالَ) هارون : يا (ابْنَ أُمَ) هذه الكلمة للاستعطاف لأن ذكر الأم يشع في النفس حنانا ولينا ، وقد قصد هارون بهذا التعبير التسكين من غضب موسى عليه‌السلام (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) أي اتخذوني ضعيفا ، فلم يعملوا بكلامي (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي همّوا بقتلي حين شددت عليهم في استنكاري عليهم عبادة العجل (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) فإن فعلك هذا يوهم أنك غاضب عليّ فيفرح الأعداء حيث يظنون أنهم ألقوا الخلاف بين الأخوين وجعلوني مغضوبا عليه في نظرك. ومعنى الشماتة : إظهار الفرح بوقوع عدوهم في المحذور (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

____________________________________

الذين عبدوا العجل ، فلا تشملني معهم في الغضب علينا جميعا ، فإن ذلك من عملهم.

إن هذا النحو من إظهار الغضب على الحبيب البريء ، لتنبيه العدو الآثم ، من أساليب البلاغة العملية حيث أن الحبيب لا يحمل موجدة على حبيبه بسبب هذا العمل ، بخلاف ما لو عمل بالآثم فإنه يجعله أبعد من الصواب ، إذ يسبب مثل ذلك في نفسه بغضا وعداوة زائدة ، ومثل خطاب البريء ، ما يفعله الإنسان بنفسه عند إرادة إظهار الغضب من ضرب نفسه ، أو نتف شعره ، أو شق جيبه ، أو ما أشبه ذلك.

[١٥٢] (قالَ) موسى عليه‌السلام بعد ذلك : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) قال على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه ، لا لأنه صدر منهما عصيان أو ذنب ، وقد تقدم أن هذه الكلمة تقال عند إظهار الخضوع والخشوع ، وإن كان الأصل فيها طلب غفران الذنب (وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) أي لطفك أو جنتك (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فإن رحمتك أكبر من رحمة كل راحم ، وهذا يذكر في آخر الدعاء استعطافا ، كما يقال : «أنت أجود الأجودين» لاستدعاء الجود ، لأنه اعتراف بالأفضلية.

[١٥٣] ثم قال موسى عليه‌السلام ، أو استئناف من الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) إلها معبودا (سَيَنالُهُمْ) أي يلحقهم (غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) في الآخرة ، وهو موجب للنار (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإنهم

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)

____________________________________

يصبحون أذلاء ، يكثر فيهم القتل والطرد ، ويذكرون بسوء أبدا. وقد مر تفسير قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) (١) ، (وَ) كما جازينا اليهود بهذا الصنيع (كَذلِكَ نَجْزِي) سائر (الْمُفْتَرِينَ) الذين يفترون على الله سبحانه باتخاذ الأصنام شريكا له ، فإنه افتراء على الحقيقة والواقع.

[١٥٤] (وَ) لكن المعصية لا تسبب يأس صاحبها ، فإن من تاب ، تاب الله عليه ف (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) أي الشرك والمعاصي (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) أي بعد السيئات (وَآمَنُوا) إيمانا صادقا (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (مِنْ بَعْدِها) أي بعد السيئات ، أو بعد التوبة ، ولعل التكرار لإفادة عدم قبول التوبة مع الإصرار على المعصية ، كما أنه لا توبة مع الإصرار (لَغَفُورٌ) يغفر الذنب (رَحِيمٌ) يرحم التائب بفضله ولطفه.

[١٥٥] (وَلَمَّا سَكَتَ) أي : سكن ، وفيه من البلاغة ما لا يخفى (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) بأن زالت فورته ، فإن فورة الغضب تكون أول ملاقاة المكروه (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي كان عليه‌السلام رماها إظهارا لضجره ، مما فيها التوراة (وَفِي نُسْخَتِها) أي ما نسخ ورقم فيها (هُدىً) يهدي إلى الحق (وَرَحْمَةٌ) موجب ترحّم وتنعّم (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي

__________________

(١) البقرة : ٦٢.

وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا

____________________________________

يخشونه ولا يعصونه.

[١٥٦] ثم بيّن سبحانه قصة سبق الإشارة إليها ، وهي قصة طلب القوم أن يروا الله جهرة وقد كررت أولا لأجل ذكرها في قصة موسى ، وثانيا لأجل بيان أنها كانت من قومه ، وقيل : إنها قصة ثانية ، ذهبوا معه عليه‌السلام للاعتذار من عبادة العجل ، فإنهم طلبوا من موسى أن يصحبهم ليسمعوا كلام الله سبحانه (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي من قومه (سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) ليسمعوا كلام الله سبحانه بأسماعهم ، فيزدادون إيمانا ، ولما سمعوا كلام الله سبحانه ، لم يقنعوا وطلبوا من موسى عليه‌السلام أن يروا الله جهرة ، رؤية الأبصار ، لا رؤية العلم بالقلب (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الصاعقة التي رجفت بسببها أبدانهم وقلوبهم وهلكوا جميعا لسؤالهم الشنيع وعنادهم في الأمر بعد ما نصحهم موسى عليه‌السلام ، إن ذلك غير ممكن كما تقدمت الإشارة إليه. وهنا خاف موسى عليه‌السلام أن يتهمه بنو إسرائيل أنه هو الذي قتلهم ، لمّا لم يتمكن من إسماعهم كلام الله سبحانه ، فيرتدوا عن الدين ، ولذا (قالَ) موسى عليه‌السلام لله : يا (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) هذا الموقف حين كانوا في بلادهم ، لكن الآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا قالوا إنك قتلتهم؟ (وَإِيَّايَ) وهذا للتخضّع والاستكانة ، وتسليم الأمر إليه سبحانه ، فإنه تعالى لو شاء أهلك الجميع وأماتهم ، فكلنا تحت إرادتك وفي قبضتك.

(أَتُهْلِكُنا) يا رب (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) وقد جاء الرجاء بصيغة

إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)

____________________________________

الاستفهام ، كما أنك إذا رجوت الأمير في سماع كلامك تقول : «هل يسمع الأمير كلامي» ، أي أن الإهلاك بسبب ما طلبه السفهاء من الرؤية ، خلاف رجائنا فيك ، وإن كان بالاستحقاق ، حيث أن مثل هذا الطلب من السفهاء وسكوت العقلاء عنهم ـ بعدم إنكار المنكر ـ موجب لاستحقاق العقوبة ، وإضافة الهلاك إلى ضمير المتكلم مع الغير «نا» باعتبار كون موسى عليه‌السلام ومن معه كتلة واحدة ، فهلاك بعضهم هلاك للجميع ـ مجازا ـ.

ثم بيّن عليه‌السلام أن ذلك الهلاك لم يكن اعتباطا ، حتى لا يظن الظان أن موسى عليه‌السلام في مقام الاعتراض (إِنْ هِيَ) ما هذه الرجفة التي أصابتهم (إِلَّا فِتْنَتُكَ) واختبارك ، إنك يا رب صنعت ذلك لأجل الامتحان ، والإهلاك امتحان للناس ليعتبروا ، ولنفس الهالكين بعد حياتهم (تُضِلُّ بِها) أي بالفتنة (مَنْ تَشاءُ) ممن لم تنفعه الهداية ، حيث تتركه وشأنه ليضل. وقد سبق أن الفعل ينسب إلى الله تعالى ، لأن الأسباب والآلات منه تعالى ، كما يقال : «أفسد فلان ولده» إذا أعطاه المال ولم يؤاخذه بعمله الفاسد (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) لم يذكر هنا «بها» لأن الهداية تكون بدون الاختبار أيضا ، فالهداية أعم من الابتدائية ومما تتعقب الاختبار (أَنْتَ) يا رب (وَلِيُّنا) مولانا وأولى بالتصرف فينا فلك ما تفعل ولا تسأل عن فعلك (فَاغْفِرْ لَنا) بستر ذنوب من أذنب منّا (وَارْحَمْنا) بفضلك ورحمتك (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) فإن غفرانك بلا منة وذلة. ثم إنه سبحانه أحيى السبعين الذين هلكوا ، كما تقدم في سورة البقرة.

وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

____________________________________

[١٥٧] (وَاكْتُبْ لَنا) يا رب (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) الشيء الحسن ، وهو جنس شامل لأنواع الحسنات من أمن وصحة ورفاه وفضيلة وغيرها (وَفِي الْآخِرَةِ) حسنة ، بالجنة والرضوان (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) من «هاد» بمعنى «رجع» أي رجعنا بتوبتنا إليك ، فكأن العاصي يبتعد عنه سبحانه ، ثم إذا تاب يرجع إليه ، تشبيها للبعد والقرب عن الرحمة ، بالقرب والبعد الحسّيّين.

وموسى عليه‌السلام وإن لم يكن داخلا في العصيان لكن العادة جرت على أن يتكلم الرؤساء عن جماعتهم (قالَ) الله سبحانه في جواب موسى وطلبه التوبة : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ممن استحق ذلك بالكفر والمعصية ، فالمشيئة ليست باعتبار الزيادة عمّن استحق ، بل باعتبار النقصان ، فإنه تعالى لا يعذب بعض المستحقين ، لا أنه يعذب المستحقين (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فإن الخلق والرزق وغيرهما كلها رحمة منه سبحانه ، وفي الدعاء : «يا من سبقت رحمته غضبه» (١) ، باعتبار أن الغضب لا يكون إلا بعد الخلق والرزق والعصيان ، فالرحمة سابقة.

وفي هذا الجو الرقيق ، الذي ترقّقت فيه قلوب بني إسرائيل يشير سبحانه إلى النبي الأمي ، ليتركّز في قلوبهم ، فإن الأمور تتركز في

__________________

(١) مصباح الكفعمي : ص ٦٦٧.

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٧) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ

____________________________________

القلوب أكثر إذا رقّت (فَسَأَكْتُبُها) أي اكتب رحمتي. وهذا على سبيل الاستخدام ، فإن المراد بالرحمة أولا جميع أقسام الرحمة ، والمراد بها من الضمير ثانيا : الرحمة الخاصة الزائدة (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يعطونها (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا) أي بحججنا ودلالاتنا (يُؤْمِنُونَ). ثم بيّن أولئك بقوله :

[١٥٨] (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ) أي أن الذين تكتب لهم الرحمة الكاملة هم التابعون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الْأُمِّيَ) نسبة إلى أم القرى «مكة» وبمعنى الذي لم يتعلم عند معلم ـ وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم كل شيء بوحي الله وإرادته ـ والعرب تسمي من لم يتعلم ب «الأمي» ، نسبة إلى الأم ، كأنه بقي مثل ما ولدته أمه (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) فإن الكتابين بشّرا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبرا بنعته ، وإنما حرّفهما ـ بعد ذلك ـ اليهود والنصارى.

وللشيخ محمد صادق فخر الإسلام ، في كتابه «أنيس الأعلام» قصة طويلة حول هذا الموضوع ، ولم يكن هذا بدعا ، فقد كان كل نبي سابق يبشر بالنبي اللاحق ، كما أن كل نبي لا حق يصدّق النبي السابق ، ونحن اليوم نرى صفة الإمام المهدي عليه‌السلام في كتبنا ، حيث وعدنا بظهوره «عجل الله فرجه».

ثم بيّن سبحانه سائر صفاته التي تجعل من دينه دين الفضيلة

يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ

____________________________________

والحرية الصحيحة والسعادة (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) فما يأمرهم به يكون معروفا يقبله عرف العقلاء ويرتضيه (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) فما ينهاهم عنه يكون منكرا عند عرف العقلاء ، فأمره ونهيه حسب الموازين العرفية العقلية ، لا اعتباطا واشتهاء (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) المستلذات الحسنة ، من مأكل ومشرب ومنكح ومسكن ومركب وغيرها (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) القبائح التي تعافها النفوس المستقيمة ، فتحليله وتحريمه ليسا اعتباطين ، بل لشيء في ذات الحلال والحرام ، بخلاف تحليل سائر الناس وتحريمهم ، فإنهم قد يحرمون الطيب ، كما حرمت الجاهلية السائبة وما إليها ، وقد يحللون الخبيث كما أن اليهودية والنصرانية ومن إليهما يحللون الخمر ولحم الخنزير. ثم لا يخفى أن الأمر والنهي أعم من التحليل والتحريم ، لكن حيث تقابلا ، كان لكل منهما مصداق غير مصداق الآخر.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي ثقلهم ، فإن الإصر هو الحمل الثقيل ومعنى «وضعه» أن مناهجه سهلة سمحة لا ثقل فيها ولا صعوبة (وَ) يضع عنهم (الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أغلال جمع «غلّ» ، وهو ما يقيد يد الإنسان أو رجله أو غيرهما ، فإن من خواص الإسلام أنه يطلق الحريات المعقولة ، فالسفر والإقامة والتجارة والزراعة والصناعة والبيع والشراء والكلام والكتابة والتجمع وغيرها ، كلها مباحة لا قيود عليها إلا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع والفرد ، ولا

فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٨) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

____________________________________

يعلم مدى ذلك إلا بالمقايسة إلى الأنظمة والمناهج الدنيوية التي كلها كبت واستعباد واستغلال (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أي بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَعَزَّرُوهُ) أي عظّموه ووقروه (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي القرآن ، فإنه نور يهتدى به في مسالك الحياة المظلمة ، كما أن الضياء يهتدى به في مسالك الليل المظلم ، أو المراد : علي والأئمة عليهم‌السلام كما في بعض الأحاديث ، أو الجميع ، لأنه لفظ عام ، وكل واحد من هذه الأمور مصداق ، و «الإنزال» بالنسبة إلى الأئمة ليس فيه محذور ، لما سبق ، أن التعبير بالإنزال في مثل هذه الموارد من جهة الله سبحانه الواهب لهذه الأشياء كما قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (١) ، وكما قيل في قوله سبحانه : (اهْبِطُوا) (٢) ، (أُولئِكَ) الذين آمنوا بهذا النبي (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بخير الدنيا والآخرة.

[١٥٩] وقبل أن يرجع السياق إلى تتميم قصة موسى عليه‌السلام ، تتميما لما سبق من وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيخاطبه سبحانه بقوله : (قُلْ) يا رسول الله للناس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أرسلني إليكم لأدعوكم إلى الله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المالك لهما

__________________

(١) الحديد : ٢٦.

(٢) البقرة : ٣٧.

لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)

____________________________________

المتصرف فيهما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا شريك له (يُحيِي وَيُمِيتُ) فالجماد يجعله حيا نباتا أو إنسانا أو حيوانا ، والأحياء يميتهم ، ولعل ذكر هذه الصفات لرد النصارى واليهود الذين جعلوا لله شريكا وولدا ، ولرد المشركين الذين كانوا ينسبون الإحياء والإماتة إلى الأصنام (فَآمِنُوا) أيها الناس (بِاللهِ) إيمانا صحيحا (وَرَسُولِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) وكأنه أتي بهذا الوصف للتناسب مع ما في الكتابين السابقين (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) فإنه آمن أولا ثم أمركم بالإيمان ، لا مثل كثير من الرؤساء الذين هم أنفسهم لا يطبقون المبادئ التي يدعون إليها. ولعل المراد بالكلمات : الكتب السابقة والقرآن الكريم (وَاتَّبِعُوهُ) فيما يأمركم وينهاكم (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لتكونوا مهديين ، فإن الفعل قد ينسلخ من معناه الزمني ليدل على أصل المعنى المادي ، أو المراد تهتدون إلى الجنة والرضوان ، حتى يصح تعقّب الاهتداء لما تقدم.

[١٦٠] وحيث فرغ السياق عن الفذلكة المرتبطة بذكر النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع إلى قصة موسى عليه‌السلام وقومه ، ولمّا أن وصف سبحانه قوم موسى عليه‌السلام بالكفر وعبادة العجل وغير ذلك ، ذكر أن منهم من بقوا على الإيمان والطاعة (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) أي جماعة (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) أي يدعون إلى الحق ويرشدون إليه (وَبِهِ) أي بالحق (يَعْدِلُونَ) أي يحكمون

وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ

____________________________________

بالحق ويعدلون في حكمهم. وهذا واضح ، فإن كل أمة انحرفت لا بد وأن يبقى فيها أناس معتدلون ، وكذلك كان قوم موسى عليه‌السلام في زمانه وبعده إلى زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانوا إذا رأوا عيسى نبيا آمنوا به ، وإذا رأوا الرسول مبعوثا صدقوه واتبعوه ، لكن الكثرة الساحقة منهم لمّا كانت منحرفة ، كانت «عمومات الخطاب القرآني» تنصب عليهم ، فإن البلغاء غالبا يتكلمون حول الأمور بمراعاة الغالب ، فيقال : «أهل مدينة كذا حسان الوجوه ، أو قباح ، أو كرماء ، أو بخلاء أو جبناء ، أو ما أشبه» وهم يريدون الكثرة الغالبة ، لا الجميع.

[١٦١] (وَقَطَّعْناهُمُ) أي فرّقنا بني إسرائيل تفريقا قبيليا (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) كل فرقة منهم قبيلة تنتهي إلى سبط من أسباط يعقوب عليه‌السلام فقد كان له اثني عشر ولدا ، كل ولد ولّد قبيلة (أُمَماً) بيان لاثنتي عشرة أسباطا ، فكل جماعة منهم أمة. وهذا من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل لأن القبائل المتعددة تمشي أمورها بيسر بخلاف ما لو كان الجميع قبيلة واحدة ، فإن الرؤساء إذا تعددوا تنافسوا في المكارم ، وسهل مراجعة المرؤوسين إليهم ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (١).

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) أي طلبوا منه السقيا ، وأن يسقيهم ماء ، وذلك حينما كانوا في التيه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وهو حجر كان معه فإذا أرادوا الماء وضعوه ، وضربه موسى

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ

____________________________________

بعصاه التي كانت تنقلب ثعبانا متى ما أراد (فَانْبَجَسَتْ) أي انفجرت. ولعل الفرق بينهما أن الانبجاس خروج الماء بقلّة ، والانفجار خروجه بكثرة. وفي بعض التفاسير : إن الماء كان يخرج من الحجر أولا بقلّة ثم بكثرة.

(مِنْهُ) أي من الحجر (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) لكل سبط عين ، حتى لا يزاحم بعضهم بعضا في الشرب (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) من الأسباط (مَشْرَبَهُمْ) أي محل شربهم وأخذ الماء منه (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) حيث كان يؤذيهم حرّ الشمس فتأتي سحابة تظللهم ليستريحوا تحت ظلها (وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ) هو شيء حلو كالسكر (وَالسَّلْوى) هو الطير السماني ـ كما تقدم ذلك في سورة البقرة ـ (كُلُوا) يا بني إسرائيل (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) واتركوا خبائثه (وَما ظَلَمُونا) إذ كفروا وعصوا ، فإن الله لا يضره كفر الكافر وعصيان العاصي (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث حرموها من خير الدنيا وسعادة الآخرة.

[١٦٢] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قِيلَ لَهُمُ) أي لبني إسرائيل ، والقائل هو الله سبحانه على لسان نبيه موسى عليه‌السلام : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) بيت المقدس أو أريحا (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) من أنواع المآكل ومختلف

وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ

____________________________________

المزارع والمواضع (وَقُولُوا حِطَّةٌ) إذ نطلب من الله سبحانه حطّ ذنوبنا (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية (سُجَّداً) جمع «ساجد» ، أي : في حال السجود ، بمعنى أنه إذا وصلتم إلى الباب اسجدوا وادخلوا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) متعلق بقوله : «قولوا حطة» أي إن قلتم وسجدتم نغفر لكم و (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) على غفران الخطايا بالتفضّل والتكرّم. وبين سياق هذه الآية ، وما تقدم في سورة البقرة خلاف جزئي ، وذلك من فنون البلاغة ، وأوجه الإعجاز.

[١٦٣] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) أي غيّر العاصون الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فبدلا من أن يقولوا : «حطة» قالوا : «حنطة حمراء خير لنا» (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً) أي عذابا (مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو (بِما كانُوا يَظْلِمُونَ) أي بسبب ظلمهم.

[١٦٤] (وَسْئَلْهُمْ) أي اسأل يا رسول الله اليهود ، لأجل تذكيرهم بما كانوا يفعلون من المعصية فابتلوا بعذاب الله ، حتى لا يتكرّر منهم ذلك (عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي مجاورة للبحر وقريبة منه ، من «حضر» ضد «غاب». وقد ذكر بعض المفسرين أنها كانت «إيلة».

إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ

____________________________________

(إِذْ يَعْدُونَ) من التعدّي أي يتجاوزون حدود الله (فِي) أمر يوم (السَّبْتِ) فقد حرّم عليهم صيد الأسماك في هذا اليوم ـ اختبارا ـ وحلّل عليهم في سائر الأيام ، وقد كانوا يتوصلون إلى حيلة ليحلوا بها ما حرم الله ، فحفروا أخاديد تؤدي إلى حياض يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الأخاديد ولا يتهيأ لها الخروج ، فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد وأصبحت في الحياض والغدران ، فلما كانت عشية اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها ، فلم تقدر فبقيت ليلها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد ، وكانوا يأخذونها يوم الأحد ويقولون ما اصطدنا في السبت إنما اصطدنا في الأحد ، ولكن كانوا كاذبين في ذلك ، فإنهم قد أخذوها يوم السبت وإنما القبض كان يوم الأحد (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) جمع «حوت» ، والعرب تسمي السمك حوتا ونونا (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) أي ظاهرة على وجه الماء ، من «الشرّع» بمعنى الظهور ، جمع «شارع» ، ك «كتّب جمع كاتب» ، وإنما كانت تأتي في هذا اليوم لما علمت من كونها آمنة لا تؤخذ ، ولما كان من عادة الحيوان أن يألف محل الأمان (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أي لا يكون السبت ، والتعبير بذلك ، لأنهم كانوا يعتدون في السبت (لا تَأْتِيهِمْ) لما عرفت من عدم أمنها ، ولعل الأمر كان خارقا للامتحان ، أو لعلة أخرى لا نعرفها (كَذلِكَ) أي بمثل ذلك الاختبار الشديد (نَبْلُوهُمْ) أي نختبرهم

بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ

____________________________________

(بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم وعصيانهم ، فإنه إنما حرّم عليهم الاصطياد في السبت ، أو إنما كان تظهر يوم السبت دون غيره ، بسبب فسقهم ليشتد الامتحان عليهم.

[١٦٥] وقد انقسم بنو إسرائيل أمام هذا العمل إلى ثلاثة فرق أحدها : الصائدة ، الثانية : الساكتة ، الثالثة : الناهية عن ذلك (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل ، وهي الساكتة ، قالوا للفرقة الثالثة الناهية عن المنكر : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) أي أية فائدة في وعظكم ، فإن هؤلاء لا يرتدعون حتى يعذبهم الله (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) دون الهلاك (قالُوا) أي قال الواعظون في جواب المعترضين : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أي أن موعظتنا لأجل أن يكون لنا عذر عند الله سبحانه ، فنقول له يوم القيامة : «يا رب إنا نهيناهم فلم ينتهوا» ، حتى لا يقول لنا سبحانه : لماذا لم تنهوا عن المنكر؟ (وَلَعَلَّهُمْ) بالوعظ (يَتَّقُونَ) ويرجعون عن غيّهم وعملهم المحرم ، فإن الإنسان لا يدري من يبقى إلى الأخير في عصيانه ومن يرجع عن طغيانه.

[١٦٦] (فَلَمَّا نَسُوا) أي نسي العاصون (ما ذُكِّرُوا بِهِ) ما ذكّرهم به الواعظون ، بأن فعلوا فعل الناسي ، فلم يبالوا بالنهي ، بل استمروا على عادتهم في الاصطياد يوم السبت بتلك الحيلة (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ)

وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ

____________________________________

وهم الواعظون (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم الصائدون والساكتون ، فإن السكوت عن المنكر ظلم يرجع إلى الإنسان وباله (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) هو «فعيل» من «بئس» ، بمعنى الشديد البأس ، أي : بعذاب شديد (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم.

[١٦٧] (فَلَمَّا) رأينا أنه لم يفدهم الوعظ ولا العذاب الشديد الذي عذبناهم به ـ لعلهم يرجعون عن غيهم ـ و (عَتَوْا) أي تكبّروا (عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) أي عن قبول الوعظ (قُلْنا) والمراد بالقول هنا التكوين : (لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي مسخناهم قرودا ، ومعنى «خسأ» ابتعد عن الخير.

ورد أن الواعظين خرجوا من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء ، فنزلوا قريبا منها ، فلما أصبحوا غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية ، فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت ، فدقوه فلم يجابوا ولم يسمعوا منها حس لأحد ، فوضعوا سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون ، لها أذناب ، فكسروا الباب ودخلوا المدينة ، قال الراوي : فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولم يعرف الإنس أنسابهم من القردة فقال القوم للقردة : ألم ننهكم؟

[١٦٨] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) أي أعلم ربك ، فإن «تأذن وأذن» بمعنى واحد (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) أي يرسلن على اليهود (إِلى يَوْمِ

الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ

____________________________________

الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) أي من يذيقهم العذاب الشديد. وقد دل التاريخ على أن اليهود كانوا أذلاء مضطهدين ، وما تاريخ «هتلر» منّا ببعيد ، وما يرى أحيانا من دولتهم فهي مليئة بالقلق والرعب حتى تأتيهم القاضية.

ثم أن إرساله سبحانه العذاب إنما هو بسبب عمل كل جيل جيل ، لا لأعمال آبائهم (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (لَسَرِيعُ الْعِقابِ) فإن العقاب اللاحق سريع وإن أمهل الله الظالم أياما.

روي أنه سئل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عن القريب والأقرب؟ فقال : «كل آت قريب والموت أقرب» ولعله يريد عليه‌السلام أن «الآتي» يحتمل فوته ، بخلاف الموت.

(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فلا يأس للعاصي أنه إذا تاب وعمل صالحا غفر الله له ما أذنب ورحمه.

[١٦٩] (وَقَطَّعْناهُمْ) أي فرّقنا اليهود في البلاد فرقا مختلفة (فِي الْأَرْضِ أُمَماً) في كلّ مكان واتجاه ، وذلك إذلالا لهم ، فإن الاجتماع والوحدة يوجبان العزة والسعادة (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) هم الذين إذا رأوا الحق آمنوا به كعبد الله بن أبي وغيره (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي دون الصلاح يعني المفسدون (وَبَلَوْناهُمْ) أي اختبرناهم (بِالْحَسَناتِ) تارة

وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ

____________________________________

(وَالسَّيِّئاتِ) أخرى ، أي بالنعم والنقم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا ، فإذا جاءتهم الحسنات شكروا ، وإذا أتتهم السيئات استغفروا ، فإن كلّا من النعمة والبلاء ، رحمة من جهة التذكير والإيقاظ.

[١٧٠] أولئك اليهود الذين كان منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ، ذهبوا وماتوا (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) قام مقامهم (وَرِثُوا الْكِتابَ) يعني التوراة ، و «الميراث» هو ما صار للخلف من السلف ، لكن هؤلاء غير صالحين ـ إن وجد فيهم صالح فهو نادر ـ (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي ما وجدوه من الدنيا أخذوه بلا مراعاة للشريعة ، وسمي «عرضا» لأن الدنيا فانية فما فيها عارض زائل ، وسمي «أدنى» لأنه أقرب إلى الإنسان من الآخرة (وَ) إذا قيل لهم بأن فيه الإثم (يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) ونتوب بعد ذلك (وَ) هم لا يستغفرون ولا يتوبون ، بل يصرّون على تعاطي الحرام بدليل أنهم (إِنْ يَأْتِهِمْ) بعد ذلك (عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) أيضا.

ثم ينكر الله عليهم ذلك بقوله : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ) ولم يقل «منهم» ، لإفادة أن الأخذ كان بإكراههم (مِيثاقُ الْكِتابِ) أي العهد الموجود في كتاب التوراة (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) فلا يحرّموا حلاله ولا يحلّلوا حرامه ، فكيف يأخذون الرشوة وسائر

وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا

____________________________________

المحرمات ويقولون أنها محللة عليهم؟ (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي قرءوا ما في الكتاب فهم عالمون بذلك ، ولا مجال لهم أن يقولوا : ما كنا عالمين بالميثاق (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي أن الثواب الذي وعده الله خير من عرض هذه الدنيا الفانية ، وهي وإن كانت خيرا لمطلق الناس إلّا أن تخصيص «المتقين» بلحاظ انتفاعهم به فقط دونه غيرهم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها اليهود أن الأمر على ما أخبرنا به والاستفهام للإنكار.

[١٧١] (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) أي يتمسكون (بِالْكِتابِ) بأن عملوا بما فيه من الميثاق والأحكام (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وتخصيصها بالذكر لأنها تنهى عن الفحشاء إذا أتي بها على وجهها ، فكأنها جعلت علما لسائر الأعمال (إِنَّا) إلى آخر الجملة ، خبر «والذين» (لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) الذين يصلحون أنفسهم ويقومون بما يجب عليهم ، فنثيبهم بما عملوا وأصلحوا.

[١٧٢] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ نَتَقْنَا) «النتق» قلع الشيء من الأصل (الْجَبَلَ) أي قلعناه ، وجعلناه (فَوْقَهُمْ) أي فوق بني إسرائيل (كَأَنَّهُ) أي كأن الجبل (ظُلَّةٌ) أي غمامة ، أو سقيفة ذات ظلّ. وقد كان الجبل كبيرا حتى أن في بعض التفاسير أنه كان فرسخا في فرسخ (وَظَنُّوا)

أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)

____________________________________

بأن رجح في نفوسهم (أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي واقع عليهم ، ولعل الإتيان ب «الباء» لإفادة أن وقوعه عليهم يسبب وقوعهم أيضا ، وحينما رفع الجبل فوقهم قيل لهم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) من الأحكام (بِقُوَّةٍ) أي بشدة وجهد واجتهاد. وذلك أن موسى عليه‌السلام لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها فقطع جبرئيل عليه‌السلام قطعة من جبل الطور ورفعها فوق رؤوسهم ، مهددا أنهم إن لم يقبلوا ألقاها عليهم حتى يهلكوا عن آخرهم ، ولما رأوا ذلك خافوا وقبلوا بكل كره وإجبار (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي من العهود والمواثيق (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لكي يحصل منكم التقوى ، أو لكي تخافوا عقاب الله ، فتتجنبوا المعاصي ، فإن من بنى على العمل بالكتاب يشع في نفسه جوّ من الرهبة يبعثه على التقوى.

[١٧٣] وحين انتهت قصص موسى عليه‌السلام مع قومه يبدأ السياق ليفتح قصصا جديدة حول التوحيد ، وإذ انتهى من الكلام السابق حول أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل ، تأتي هنا قصة أخذ الله سبحانه الميثاق من البشر جميعا حول الوحدانية. وفي الآية قولان :

الأول : ما روي أنه أخرج الله من ظهر آدم عليه‌السلام ذريته كالذّرّ يوم القيامة فخرجوا مثل الذر فعرّفهم نفسه وأراهم صنعه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربه فثبتت المعرفة ونسوا الموقف.

الثاني : إن الآية جارية مجرى الكلام العرفي البلاغي على طريقة التمثيل.

ومن المعلوم أن القول الأول لا مانع فيه إطلاقا ، فإن الله قادر

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى

____________________________________

على كل شيء (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) أي أخرج من بني آدم (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من «من بني آدم» أي أخرج من أصلاب الرجال (ذُرِّيَّتَهُمْ) أولادهم وذراريهم (وَ) بعد ما أخرجهم وأكملهم (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي جعلهم شهداء على أنفسهم ، فإن من اعترف بشيء كان شهيدا على نفسه ، قائلا لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟ على نحو الاستفهام التقريري ، وقد كان ذلك بلسان الأنبياء ، كما في كثير من الآيات ، مثل : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (١) ، والمراد : القول لهم على لسان موسى عليه‌السلام (قالُوا بَلى) أنت ربنا. وهذا اعتراف بالفطرة ، فإن الفطرة أذعنت بذلك ، كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» ومن قبيل ذلك (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) (٢) ، و (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣) ، و (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤) ، وأشباه ذلك مما هو كثير في القرآن ، وهو نوع من البلاغة ، كقول الشاعر : «أيا جبلي نعمان بالله خليا» ، وقوله : «أيا شجر الخابور ما لك مورقا» وقوله :

قال الحبيب وكيف لي بجوابكم

وأنا رهين جنادل وتراب

__________________

(١) الإسراء : ١٠٥.

(٢) الأحزاب : ٧٣.

(٣) فصلت : ١٢.

(٤) النحل : ٤١.

شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢)

____________________________________

فإن الغالب أن يصوغ البليغ الكلام في قالب جذاب لبيان المراد.

(شَهِدْنا) فالغرض من الآية أن الفطرة تشهد على توحيد الله سبحانه بما أودع فيها من درك الحقيقة وفهم الواقع. وإنما أودعنا في الفطرة هذه الشهادة ل (أَنْ) لا (تَقُولُوا) أيها البشر (يَوْمَ الْقِيامَةِ) حين يعاتب المشرك على شركه ، والجاحد على جحوده : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) الأمر وهو التوحيد (غافِلِينَ) فقد أودعنا فيكم ما يزيل غفلتكم.

لا يقال : فعل هذا يلزم صحة العقاب حتى بالنسبة إلى من لم تبلغه الدعوة؟

لأنه يقال : هو كذلك ، إلّا أن الله سبحانه بلطفه لا يعذب حتى يتمّ الحجة الظاهرة ، كما قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، وهذا التفسير للآية الكريمة إنما هو القول الثاني الذي يأخذ بالظاهر مع غض النظر عن أخبار «عالم الذر» والذي أظن أنه لا مانع من الجمع بين الأمرين ودلالة الآية عليهما ، فإنه لم يدل دليل على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، بل الذي يظهر في بعض الروايات أن بعض الآيات القرآنية تدل على أكثر من معنيين سواء كان المعنيان من باب المصداق أو لا ، كما أن في الآيات السابقة «إنّا عرضنا ..» يمكن الأمران ، وكان الظاهر اللفظي البلاغي يؤكد كون الألفاظ مسوقة للمعنى العرفي ، لا الخارجي ـ والله أعلم ـ.

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ

____________________________________

[١٧٤] (أَوْ تَقُولُوا) أي : لئلّا تقولوا : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) شركنا (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فلم نكن نعرف الحق من الباطل ، فقلدنا آباءنا باعتقاد أنهم أعقل منا وأدرى ، فلا بد وأن يكون شركهم على علم ودراية فلا تقصير لنا (أَفَتُهْلِكُنا) يا رب (بِما) لا جرم لنا فيه ، فإنا قد اتّبعنا ما (فَعَلَ) آباؤنا (الْمُبْطِلُونَ) أي الذين هم على الباطل؟ فإنا قد جعلنا فيكم هذه الفطرة لتكون حاكمة وشاهدة على بطلان فعل الآباء ، فلا يكون للمشرك عذر يوم القيامة بأنه لم يدر.

وهنا سؤال : إن الفطرة سواء جعلت في الإنسان أم لم تجعل ، لم يصح احتجاج المشرك ، إذ لو لا الأنبياء لم يعذب المشرك ، ومع وجود الأنبياء يكون احتجاج الله على المشرك بأنه لم لم يؤمن بالنبي ، لا لم لم يسمع نداء فطرته؟ فكيف يعلّل العقاب بجعل الفطرة؟

والجواب : إنه تعليل بجزء العلة ، فإنه لو لا الفطرة لم يكن الإنسان عارفا بصحة كلام الأنبياء ، إذ ما لم يدل الباطل على شيء لا يؤخذ الإنسان بما قام عليه الدليل ، ولذا ورد أن لله حجتين : ظاهرة هي الأنبياء ، وباطنة هي العقول. وعليه فالتعليل إنما هو بجزء العلة ، كما يقول القائل : «هيأت لك دارا لتسعد» ، مع العلم أن الدار بعض من علة السعادة لا كلها.

[١٧٥] (وَ) كما بيّنا لكم هذه الآية الدالة على التوحيد (كَذلِكَ نُفَصِّلُ) سائر (الْآياتِ) والبراهين ونوضحها جلية ، ليعرفها كل أحد

وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها

____________________________________

(وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكي يرجعوا عن غيّهم إلى الحق والرشاد. والظاهر أن «الواو» في «ولعلهم» عطف على المعنى المستفاد من «نفصّل» أي «ليعرفونها» و «لكي يرجعوا».

[١٧٦] إنا جعلنا هذه الفطرة في الإنسان ليكون انحراف المشرك بلا عذر ، ويكون انحراف من انحرف بلا مبرر ، وقد وقع مثل هذا الانحراف في بعض الأفراد وهو «بلعم بن باعورا» فقد أعطي «الاسم الأعظم» الذي يستجاب به الدعاء ، وكان يدعو به فيستجيب الله سبحانه له ، فمال إلى فرعون ، فلما مرّ فرعون في طلب موسى عليه‌السلام وأصحابه ، قال فرعون لبلعم : ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه الله علينا ، فركب بلعم حمارته ليمرّ في طلب موسى ، فامتنعت عليه حمارته ، فأقبل يضربها ، فأنطقها الله عزوجل ، فقالت : ويلك على ماذا تضربني ، أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين ، فلم يزل يضربها حتى قتلها وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه فنسيه. والآية وإن كانت في شأنه إلا أنها عامة لكل من انسلخ من آيات الله لترجيحه هوى نفسه ، كما هو شأن الآيات القرآنية.

(وَاتْلُ) أي اقرأ يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) أي على الناس (نَبَأَ) أي خبر (الَّذِي آتَيْناهُ) أي أعطيناه (آياتِنا) أي حججنا ودلائلنا ـ وقد تقدم أن المراد من ذلك الاسم الأعظم ـ (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي خرج من تلك الآيات ، كالشيء الذي ينسلخ من جلده ، كأن الآيات كانت كالجلد الواقي له عن شرور الدنيا والآخرة فأخرج نفسه منها ، فتعرض

فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ

____________________________________

للخطر والهلاك (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي لمّا خرج عن الوقاية تبعه الشيطان ليضلّه عن طريقه (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي الهالكين.

[١٧٧] (وَلَوْ شِئْنا) أي اقتضت مشيئتنا أن نجبره على البقاء (لَرَفَعْناهُ) أي رفعنا «بلعم» (بِها) أي بتلك الآيات ، فلو أردنا أن يبقى بالجبر لأمكننا ذلك ، حتى ترتفع درجته (وَلكِنَّهُ) أي «بلعم» والضمير يرجع إلى «الذي آتيناه» كذلك الضمير السابق (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) فركن إلى الدنيا ومال إليها ، كأنه جعلها موضع خلده وإقامته وأعرض عن الدار الآخرة ، أو «أخلد» بمعنى لصق (وَاتَّبَعَ هَواهُ) عوض أن يتبع الحق ويسير في طريق الرشد (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) من «الحملة» أي إن تطرده (يَلْهَثْ) يخرج لسانه من فمه يتنفس (أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) بأن تركته فلم تتعرض له ، فإن كل حيوان يلهث في حال الإعياء والإكلال بخلاف الكلب فإنه يلهث في حال الراحة والإعياء.

والمراد أنه ضال على كل حال سواء عارضته أم لم تعارضه ، بخلاف كثير من الناس الذين يضلون لدى المعارضة وحينما يغضبون أو يرون أن مصالحهم مهددة. إن بلعم أخرج لسانه ليدعو على موسى ـ شبيها بلهث الكلب ـ حينما لم يعارضه موسى عليه‌السلام ولم يهدد مصالحه ، بل كانت أموره أحسن تحت لواء موسى حيث يجمعهما

ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ

____________________________________

الدين ، لكنه شبيه بالكلب اللاهث وإن لم تطرده.

(ذلِكَ) المثال بالكلب (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فإنهم بصفة الكلب في الإيذاء واللهث وإن لم يتعرض لهم بسوء (فَاقْصُصِ) يا رسول الله (الْقَصَصَ) أي أخبار الماضين (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيرتدعوا عن غيهم ، إذ يعلمون أن مصيرهم كمصير أولئك إلى الهلاك والدمار ، إن عاندوا الحق وعارضوا الدين.

[١٧٨] (ساءَ مَثَلاً) أي بئس مثلا مثل (الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) والمراد : بئس الصفة المضروب لها المثل بصفة المكذبين ، فإن سوء المثل يدل على سوء الممثل له (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي أنهم بالعصيان ظلموا أنفسهم حيث حرموها من خير الدنيا وسعادة الآخرة.

[١٧٩] (مَنْ يَهْدِ اللهُ) أي : يهديه الله سبحانه (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) فإن هداية الله هي الهداية الحقة التي تورث خير الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي يضله ، بأن يقطع لطفه عنه حيث يراه في سبيل العصيان والفساد (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم وما ربحوا شيئا.

[١٨٠] (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي خلقنا وأنشأنا (لِجَهَنَّمَ) اللام للعاقبة ، كما في

كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ

____________________________________

قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) ، (كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) فإنه سبحانه خلقهم ليعبدوه ويدخلوا جنته كما قال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) ، وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (٣) ، لكنهم بسوء أعمالهم أوجبوا لأنفسهم الشقاء ودخول النار. والكلام تعقيب لما تقدم في الآية السابقة من ضرب الأمثال للكفار ، فكأنه قال : «مثلهم ذلك ، ومصيرهم هذا». ثم إنه يدل على أن مصير «فلان» النار بهذه العلائم ف (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي لا يفهمون الحق بسببها ، والمراد عدم إذعانهم للحق ، لأن التارك والجاهل سواء ، فقد قال سبحانه : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) (٤) ، (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) الرشد ، وإن رأوا بها الأمور المادية ، فإن التارك للطريق والأعمى سواء (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) الوعظ والإنذار سماعا مفيدا ، وإن سمعوا ألفاظهما ، فإن من لا يستجيب للوعظ هو والأصم سواء.

(أُولئِكَ) الأشخاص (كَالْأَنْعامِ) من الإبل والبقر والغنم ، فكما أنها لا تفقه ولا تبصر الرشد ، ولا تسمع إلى الوعظ كذلك هؤلاء (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من البهائم لأنها تهتدي إلى مصالحها ومفاسدها وتنبعث إذا

__________________

(١) القصص : ٩.

(٢) الذاريات : ٥٧.

(٣) النساء : ٦٥.

(٤) النحل : ٨٤.

أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ

____________________________________

بعثت وتنزجر إذا زجرت ، بخلاف هؤلاء فإنهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة ولا ينصاعون للأوامر والزواجر (أُولئِكَ) الضالون (هُمُ الْغافِلُونَ) عن الحق والواقع ، فإنهم كالغافل في عدم الانتفاع بالأوامر والنواهي ، وليست الأنعام غافلة ، فهم أسوأ من الأنعام.

[١٨١] وحيث ذكر سبحانه مصير الكافرين وأنهم الذين لا يعقلون ولا يهتدون ، بيّن ما يجب أن يكون عليه أهل القلوب الفاقهة من العقلاء فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الحسنة المعنى كالكريم والغفور والجواد والرحيم والعفوّ وغيرها (فَادْعُوهُ بِها) أي فادعوا الله بهذه الأسماء بأن يقال : يا كريم يا غفور وهكذا (وَذَرُوا) أي اتركوا (الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أي ينحرفون فيها بتسمية أصنامهم بأسمائه سبحانه ، فقد كانوا يقولون لشيء : هذا إله المطر ، وهذا إله النبات ، وهذا إله الأرض .. وهكذا ، فكانوا يجعلون صفاته وأسمائه للأصنام أو الأوهام ، أو المراد : يلحدون بأسمائه كما سموا صنما ب «اللات» مخفف «الله» وصنما ب «العزى» مخفف «عزيز» ، أو المراد : يلحدون بتسمية الله بأسماء لا تليق به كتسميته «أبا» و «زوجا» وما أشبه ذلك. إنهم (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا بالشقاء وفي الآخرة بالنار.

[١٨٢] ثم بيّن سبحانه أن ليس كل الناس منحرفين في الشرك والظلم (وَمِمَّنْ خَلَقْنا) من البشر (أُمَّةٌ يَهْدُونَ) الناس (بِالْحَقِ) ويرشدونهم

وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)

____________________________________

إليه (وَبِهِ) أي بالحق (يَعْدِلُونَ) أي يحكمون بالعدل لا يزيغون عن الحق ولا يميلون نحو الباطل.

[١٨٣] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فلم يؤمنوا ، بل بقوا على عنادهم ، مصرّين على كفرهم (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) «الاستدراج» هو تقريب شيء إلى المقصد درجة درجة ، أي أن المكذبين نقرّبهم إلى العذاب والهلاك درجة فدرجة (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أنهم آخذون في القرب من الهلاك ، فإن المؤمن كلما زلت به قدم تذكّر واستغفر وابتعد بنفسه عن الهلكة ، أما المكذب فإنه حيث لا يبالي بما عمل يتقرب إلى الهلاك شيئا فشيئا وهو لا يعلم ذلك.

[١٨٤] (وَأُمْلِي لَهُمْ) «الإملاء» التأخير ، أي : أمهلهم ولا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتون الله سبحانه ، والإمهال لهم موجب لكثرة عذابهم لازدياد معصيتهم (إِنَّ كَيْدِي) «الكيد» هو معالجة الأشياء خفية ، إن عملي للانتقام منهم (مَتِينٌ) مستحكم لا يفوته شيء.

[١٨٥] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) أي هلّا يتفكر المشركون فيما يقولونه ويرمون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجنون ، فإنهم كانوا يقولون أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجنون (ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) وكيف يكون مجنونا من يأتي بما يعجز عنه البشر ، وكل أقواله وأعماله في غاية الصحة والدقة؟! (إِنْ هُوَ) أي ما هو (إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)

أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)

____________________________________

منذر للناس إن عملوا شيئا يعاقبوا عليه ، فواضح كونه منذرا ، وإنما ذكر «الإنذار» فقط لأنه في مقابل المشركين الذين كانوا يعملون السيئات.

[١٨٦] إنهم كيف لا يؤمنون والكون كله يدل على وجود الله سبحانه؟ ثم كيف لا يؤمنون ومن الجائز أن يموتوا عاجلا فيبتلوا بالعقاب والعذاب؟! (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر اعتبار وتعقّل (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي آثار الملك ، فإن الأثر يدل على المؤثر حتى يعترفوا بالإله الخالق وبما يليق به من الصفات (وَ) أولم يتفكروا وينظروا في (ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) من أصناف خلقه فيعرف أنه خالق الأشياء جميعا (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) حتى يعدوا للموت عدّته ويحتاطوا لما بعد الموت حتى لا يندموا ويخسروا ، فإن مجرد احتمال ذلك كاف في أن يرتدع الإنسان ، كما أشار إلى ذلك الإمام علي عليه‌السلام في الأبيات المنسوبة إليه :

قال المنجم والطبيب كلاهما

لم يحشر الأموات ، قلت : إليكما

إن كان قولكما فلست بخاسر

أو كان قولي فالخسار عليكما

إنهم لم يؤمنوا بالقرآن الكريم الذي تكتنفه كل شواهد الصدق والحق (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) ومطلب وخبر (بَعْدَهُ) أي بعد القرآن (يُؤْمِنُونَ)

مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ

____________________________________

أو بعد «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقدم قوله «ما بصاحبهم». وفي الكلام مجاز سواء عاد الضمير إلى القرآن ؛ لأن ليس كل القرآن حديثا وقصة وإنما فيه إنشاء ، أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنه صاحب حديث.

[١٨٧] (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بأن يخلي بينه وبين الضلال ، لما سبق منه من الإعراض عن الحق (فَلا هادِيَ لَهُ) إذ الهداية منحصرة بالله سبحانه ، فإذا لم تشع الهداية من قبله فلم يكن للإنسان هاد سواه (وَيَذَرُهُمْ) أي يترك هؤلاء المعرضين الذين لا يتفكرون ولا ينظرون إلى الحق (فِي طُغْيانِهِمْ) وضلالهم ، كأنهم طغوا عن الحق (يَعْمَهُونَ) أي يتحيّرون ، فهم دائما متردّدون بين الحق والباطل ، حيث أن الضمير يناديهم لاتباع الحق ، وشهواتهم تمنعهم. وقد تقدم أن العمى في العين ، والعمه في القلب.

[١٨٨] ولما تقدم الوعيد بيوم القيامة ، الذي يسمى ب «الساعة» ، سأل جماعة عن وقت القيامة (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ السَّاعَةِ) أي القيامة (أَيَّانَ مُرْساها) أي متى وقوعها ، من «رسا الشيء يرسو» إذا ثبت. و «المرسى» بمعنى المثبت ، أي متى وقت ثبوتها؟ (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : (إِنَّما عِلْمُها) أي علم الساعة (عِنْدَ رَبِّي) فهو وحده يعلم وقتها (لا يُجَلِّيها) أي لا يكشفها. الظاهر أن المراد : لا يأتي بها (لِوَقْتِها) أي حين يكون وقتها (إِلَّا هُوَ) تعالى ، فعلمها عنده ، ووقتها عند إرادته ، وإنما لم يكشف الله سبحانه عن وقتها لخلقه

ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)

____________________________________

ليكون أدعى لهم إلى الطاعة واجتناب المعصية ، فإن الإنسان إذا لم يعرف وقت البلاء يكون خائفا دائما ، أما إذا عرف أخّر الطاعات وكان خوفه لقرب وقت الساعة.

ولا يقال : إن القيامة ليس مما يخاف منه الإنسان في الدنيا ، إذ هي بعد القبر ، فعلمها وعدمه سواء بالنسبة إلى الإنسان الحي ، وإنما يصح هذا التعليل بالنسبة إلى الموت.

لأننا نقول : قيام القيامة بالنسبة إلى العاصين ـ وهم في القبر ـ من أكثر الأشياء خوفا ، كما ورد في الأحاديث.

(ثَقُلَتْ) الساعة ، أي وقوعها (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإن أهل السماوات والأرض يخافونها خوفا عظيما لشدتها وما فيها من المحاسبة والمجازاة (لا تَأْتِيكُمْ) أيها البشر ، أيها الشاعرون (إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) أي أن الناس يسألونك يا رسول الله عن الساعة وعن وقت قيامتها ، كأنك عالم بها ، فإن «الحفي» بمعنى المستقصي في السؤال ، ويقال للعالم النحرير : «حفي» باعتبار أنه من كثرة سؤاله استوعب الأمر تماما وعلم الواقع كما هو ، فالمعنى : «كأنك عالم بالقيامة قد أكثرت المساءلة عنها» (قُلْ) يا رسول الله في جواب السائلين : (إِنَّما عِلْمُها) أي علم الساعة (عِنْدَ اللهِ) كرّر هذا ليصل بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إن علمها

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ

____________________________________

خاص بالله لا يشترك معه في هذا العلم أحد.

[١٨٩] إن الساعة غيب لا يعلمه إلا الله ، وكذلك سائر الأمور الغائبة عن الحواس ، وإن كنت أنا ـ الرسول ـ أعلم الغيب بذاتي ، لكنت أعلم ما يضرّني فاجتنبه وما ينفعني فارتكبه (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء السائلين : (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فإنني لا أقدر على جلب نفع ولا دفع ضرر (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فما شاء أن يملكني إياه ؛ أتمكن منه ، وما لم يملكني إياه ؛ لا أتمكن منه ، وهذا كما ملّك سبحانه الرسول بعض المنافع ودفع عنه بعض المضارّ ، نعم الرسول أكثر ملكا حيث أنه مزوّد بقسم من الحصانة وعلم الغيب (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) علما مطلقا كما يعلمه الله سبحانه ، فإن الرسول لم يكن يعلم الغيب بذاته ، وإنما بمقدار علم الله سبحانه ، كما قال سبحانه : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١) ، (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) أي أكثر من الأشياء الخيرة كالشراء الرخيص أيام الرخص لأيام الغلاء ، وغيره مما لو عرفه الإنسان لانتفع به كثيرا (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) الذي يمكن دفعه ، فإن الإنسان إذا عرف أن هذا الغذاء يضره أو هذا الشخص يقتله ، أو هذا السفر يؤذيه ـ مثلا ـ لأجتنبها.

ومن الغريب أن بعض الناس يتمسكون بمثل هذه الآية لعدم معرفة الرسول بالأشياء المستقبلية إطلاقا ، إنه ليس إلا كتمسك المجبرة بقوله

__________________

(١) الجن : ٢٧ و ٢٨.

إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)

____________________________________

سبحانه : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) (١) ، والمجسمة بقوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (٢) ، والقدرية بقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٣) ، والقائلين بحجية التوراة والإنجيل بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) (٤) ، (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) (٥) ، والقائلين بمعصية الأنبياء بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٦) ، والقائل بجهل الله سبحانه وتعالى بقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ) (٧) ، والقائل بتعدد الآلهة بقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٨) ، حيث دلل على أن الآلهة مع الله لا توجب الفساد. وهكذا من أمثال هذه الاستدلالات التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عدم اطلاع القائل بأساليب الكلام ، وعدم جمعه بين النص والظاهر ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والحقيقة والمجاز ، ومعارض السياق.

(إِنْ أَنَا) أي ما أنا (إِلَّا نَذِيرٌ) أنذر الكافر والعاصي بالعقاب (وَبَشِيرٌ) أبشر المؤمن المطيع بالثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) اللام للعاقبة ، أي أن فائدة إنذاري وبشارتي إنما هي للمؤمن ، أما غيره فالرسول بشير نذير له ، لكنه حيث لا ينتفع بقوله ، فكأنه ليس مرسلا بالنسبة إليه.

وقد ورد في بعض التفاسير أن أهل مكة قالوا : يا محمد! ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه ،

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧.

(٢) القلم : ٤٣.

(٣) القمر : ٥٠.

(٤) المائدة : ٤٥.

(٥) المائدة : ٤٨.

(٦) طه : ١٢٢.

(٧) يونس : ١٩.

(٨) الأنبياء : ٢٣.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما

____________________________________

وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى أرض قد أخصبت ، فأنزل الله هذه الآية.

[١٩٠] وحيث انتهى السياق من قصة المعاد ، ونبذ من يوم البعث ، يأتي دور قصة أخرى من قصص البشر الذي لا يزال ينحرف عن الفطرة ويتوجه نحو الشرك والكفر ، كما تقدمت قصة «بلعم» بهذا الصدد (هُوَ) الله وحده (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) فابتداء الخلقة بآدم عليه‌السلام وحده (وَجَعَلَ) أي خلق (مِنْها) أي من جنس تلك النفس ونوعها وصورتها (زَوْجَها) حواء عليها‌السلام (لِيَسْكُنَ) آدم عليه‌السلام المفهوم من قوله «نفس واحدة» (إِلَيْها) أي إلى الزوجة ، فيستريح بها وتكون موضع سكونه واطمئنانه وراحته (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي قاربها ، إذ الرجل حين المقاربة يكون كالغشاء والغطاء لها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) هو الماء الذي يستقر في الرحم أول الأمر ، وفي هذا الحين لا يحسّان بالحمل حتى يعلّقا عليه آمالا ، وينذرا لأجل الجنين نذورا (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت بالحمل على الخفة (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي صارت ذات ثقل ، وتبيّن الحمل وظهر أثره في الزوجة (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) أي دعا الزوج والزوجة ، فإن الكلام حول الإنسان لا حول آدم وحواء عليهما‌السلام ، فإنه سبحانه يريد بيان الطبيعة البشرية التي تستقيم في أول الأمر ثم تنحرف لنوازع ورغبات ، والكلام في مثله حيث يبتدأ بجهة ، ثم ينصرف لجهة أخرى ، يسمى استخداما ، فإن اللفظ خدم معنى ، والضمير معنى آخر

لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)

____________________________________

كما قال : (وَالْمُطَلَّقاتُ) ـ إلى قوله ـ (وَبُعُولَتُهُنَ) (١) ، فإن الضمير يرجع إلى بعض المطلقات ، وهنّ الرجعيات فقط. (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي ولدا صالحا كاملا صحيح الخلقة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك وحدك لا شريك لك ، فنقدر فضلك ولطفك علينا ، ونحمدك ونشكرك على ما أعطيتنا هذا الولد الصالح.

[١٩١] (فَلَمَّا آتاهُما) أي أعطى الله الأبوين ولدا (صالِحاً جَعَلا) أي الأبوان (لَهُ) سبحانه (شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) في الشؤون المرتبطة بالولد ، فتشكر الأصنام كما يشكر الله في إعطاء الولد ، ويسمياه بعبد العزى وعبد اللات وعبد مناة ، وأحيانا كانا ينذرانه للأصنام ذبحا أو خدمة ؛ كما ينذر لخدمة المسجد ونحوه (فَتَعالَى اللهُ) أي أن الله أعلى وأجل (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي يشرك البشر ، إنه سبحانه ليس له شريك ولا مثيل.

[١٩٢] (أَيُشْرِكُونَ) استفهام توبيخي ، أي كيف ي شرك هؤلاء مع الله شريكا (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً)؟ فإن الأصنام لا تتمكن من خلق شيء (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أولئك الشركاء ـ كالأصنام ـ هي كلها مخلوقة ، أو المراد أن الجميع من المشرك والأصنام مخلوقون.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)

____________________________________

[١٩٣] (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي لا تستطيع تلك الأصنام (لَهُمْ) أي لعبّادها (نَصْراً) حيث يقعون في المشاكل (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) لا تستطيع الأصنام نصر أنفسها إذا تعدّى عليها متعدّ ، كما قد رأى ذلك الشاعر أن الثعلب يبول على رأس صنمه ، فكسره قائلا :

أرب يبول الثعلبان برأسه؟ لقد

ذلّ من بالت عليه الثعالب

ولا يخفى أن الإتيان بضمير العاقل للأصنام للتشاكل بما كان يعتقده عابدوها من أنها تعقل وتفهم وتضر وتنفع.

[١٩٤] (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أيها المسلمون إن تدعوا هؤلاء المشركين (إِلَى الْهُدى) ليهتدوا ويتركوا أصنامهم (لا يَتَّبِعُوكُمْ) حيث استحوذ الشيطان عليهم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) فإن دعاءهم إلى الإيمان والسكوت عنهم متساويان ، كما قال سبحانه : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

وقد يستشكل بعض الملحدين : بأن الأمر إن كان بالنسبة إلى مرحلة الظاهر فالله «سبحانه» والأصنام متساويان من هذه الجهة ، فإنه لا يظهر أثر للنصرة وعدمها ، وإن كان بالنسبة إلى مرحلة الواقع ، فأي

__________________

(١) البقرة : ٧.

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤)

____________________________________

دليل على الفرق ، وإن الأصنام تنصر في زعم عبادها كما أن الله ينصر في نظر المسلمين؟

والجواب : إن الأدلة لما دلّت على وجوده سبحانه كانت كافية للفرق في مرحلة الواقع ، فلو كان هناك شخصان أحدهما يملك شهادة الطب ، والآخر جاهل ، ولم ينفع الدواء الذي وصفه صاحب شهادة الطب للمريض ، لا يمكن أن يقال بالتساوي مع الجاهل ، وإنما يجب أن يعلل بعلة أخرى ، وإن شئت قلت : إن الدليل في قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) خطاب في الظاهر ، وإنما البرهان المقنع ما ذكرنا. وبهذا يجاب عن الإشكال بالنسبة إلى التوسل بالأنبياء والأولياء مما دلّ الدليل عليه.

[١٩٥] (إِنَّ الَّذِينَ) أي الأصنام الذين (تَدْعُونَ) هم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي تجعلونهم آلهة (عِبادٌ) أي مخلوقة لله ، فإن العبد هو المطيع. ومن المعلوم أن الجمادات تطيع الله تعالى ، كما يطيعه الإنسان ، كما قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) ، (أَمْثالُكُمْ) أيها البشر فليسوا بآلهة حتى تعبدونهم.

(فَادْعُوهُمْ) في مهماتكم وكشف الضر عنكم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) الأمر هنا للتعجيز والتوهين ، كما تقول للعاجز عن القيام : «قم إن صدقت أنك قادر» (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنها آلهة تنفع وتضر.

__________________

(١) الإسراء : ٤٥.

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)

____________________________________

ومن الوهابيين من يستدل بهذه الآية بعدم صحة التوسل بالأنبياء والأئمة ، قائلا : «فادعوهم فليستجيبوا لكم».

والجواب : نقضا ؛ «فادع الله فليستجب لك» فإن قال : يستجيب ، قلنا : يستجيبون بأمر الله تعالى وإذنه. وحلا ؛ بأن الفارق هو الدليل ، وعدم الاستجابة العاجلة لا دلالة فيه لأحد الطرفين.

[١٩٦] ثم بيّن سبحانه أن الأصنام لا تقدر على شيء حتى على ما يقدر الإنسان العادي عليه ، فمن لا يقدر على أقل شيء كيف يكون إلها معبودا؟ (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) أي : هل لهذه الأصنام أرجل يمشون بها في مصالحكم ، أو مشيا لأنفسهم ، حتى يتساووا مع أقل حيوان أو إنسان؟ (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) «البطش» هو الأخذ بشدة ، أي يأخذون بأيديهم بشدة ما يريدون الانتقام منه ، أو مطلق الأخذ (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها) الأشياء؟ (أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) الأصوات والشكاوى وغيرهما؟ إنها لا تحس إطلاقا ، فكيف تعبدون أنتم أيها البشر هذه الأشياء الفاقدة لكل حس؟

(قُلِ) يا رسول الله للمشركين : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الشركاء الذين جعلتموهم مع الله سبحانه (ثُمَّ كِيدُونِ) أي امكروا بي بأجمعكم عابدا ومعبودا (فَلا تُنْظِرُونِ) لا تأخروني ، بل أسرعوا في الكيد ، فإن ربي ينصرني عليكم جميعا. إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا

إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)

____________________________________

يتحدّاهم ، لبيان أن الله ناصر نبيه ، لكن أصنامكم لا تنصركم.

[١٩٧] (إِنَّ وَلِيِّيَ) الذي يتولى أمري وينصرني (اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أي القرآن ، فإنه كما أمرني بالرسالة ضمن لي النصرة (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) يتولى أمورهم وينصرهم على أعدائهم ، وهذا لا ينافي عدم الحيلولة بينهم وبين أعدائهم أحيانا لمصالح وجهات.

[١٩٨] (وَ) الأصنام (الَّذِينَ تَدْعُونَ) هم (مِنْ دُونِهِ) أي غير الله سبحانه من الآلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) لا يقدرون على أن ينصروكم (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فإذا تعدّى عليهم متعدّ لا يتمكنون من الدفاع عن أنفسهم.

[١٩٩] (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) إن تدعوا أيها المسلمون ، المشركين (إِلَى الْهُدى) والحق (لا يَسْمَعُوا) دعاءكم فإنهم معاندون ، وقيل : المعنى إن تدعوا الأصنام لا يسمعوا لأنهم جماد (وَتَراهُمْ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الرؤية (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي المشركون ، أو الأصنام ، فإن الأصنام عيونها مفتوحة إلى الإنسان كالناظر (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) إبصارا نافعا ؛ إذا كان وصفا للمشركين ، أو أصل الإبصار ؛ إذا كان وصفا للأصنام.

[٢٠٠] وحيث أن الإنسان إذا ورد في خضم الاحتجاج ورأى عناد الخصم

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ

____________________________________

على الباطل يأخذه الغضب الموجب للخروج عن آداب المحاورة ، أوصى الله سبحانه نبيه بمكارم الأخلاق ـ بمناسبة المقام ـ فقال : (خُذِ الْعَفْوَ) عن الناس أي لازم العفو عنهم ، وأصفح عن السيئ منهم ، أو المراد خذ الزائد من أموالهم ، أي ما عفا وفضل من نفقاتهم ، فإن الخمس والزكاة والخراج والجزية كذلك ـ غالبا ـ والمعنى الأول أقرب إلى الظاهر ، والمعنى الثاني وارد في الحديث ، ولا يبعد إرادة الأمرين ، فإن استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز إذا كان هناك دليل (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي ما يستحسنه العرف ، وهو ما ليس بقبيح عند العقل ، وهو ضد النكر (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فلا تقابل جهلهم بجهل. إن المتكلم مع طبقات الناس المختلفة يحتاج إلى التزام هذه الأشياء إن أراد مراعاة الآداب ، فاللازم أولا أن يعفو عمن يخشن في الكلام ويتنكب عن طريق الحق ، ثم يأمره بالمعروف لعله يرجع ويسترشد ، فإذا رأى منه جهلا وإصرارا ، فليعرض عنه ولا يقابله بمثل عمله.

[٢٠١] (وَإِمَّا) مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة تأتي لتجميل الكلام وفوائد أخر (يَنْزَغَنَّكَ) «النزغ» هو الإزعاج بالإغراء ، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب ، أي إن تالك (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) وسوسة ونيل ونخسه في القلب ، وحركة وإزعاج بأن ثار القلب أمام الجاهل وغضب واحتد ، حتى أراد الانتقام والسباب (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي سل الله سبحانه أن يعيذك ويحفظك من شر الشيطان (إِنَّهُ) سبحانه (سَمِيعٌ)

عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)

____________________________________

لقولك (عَلِيمٌ) بقصدك وما عرض لك.

[٢٠٢] ثم بيّن سبحانه أن هذه قاعدة المؤمنين كلما ألقى الشيطان في قلوبهم ميلا وزيغا ، أدركتهم الفطنة ، فلم يميلوا إليه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) بأن جعلوا التقوى شعارهم ، وذاقوا حلاوتها وصارت ملكة وعادة عندهم (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) بأن أتاهم من يطوف من الشياطين على قلوب بني آدم ، فأراد إغواءهم ، وميلهم عن الحق ، وأعمى قلوبهم ، وزين في نفوسهم الشهوات. وقد دلت الأدلة الشرعية والعلمية (١) على أن في الجو أرواح شريرة شأنها الإغراء والإغواء ، ولا يراها الإنسان.

(تَذَكَّرُوا) وأدركتهم ملكة التقوى الكامنة في نفوسهم (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) يبصرون الطريق ولا يعمهون عن الحق ، ولا يتمكن الشيطان من تغشية قلوبهم بغشاء الشهوات والمغريات.

[٢٠٣] هذا شأن المتقين الذين لا يسايرون الشياطين في إغوائهم وإغرائهم (وَ) أما (إِخْوانُهُمْ) أي إخوان الشياطين الذين لا تقوى لهم ليرتدعوا عن المعاصي والآثام فإنهم (يَمُدُّونَهُمْ) أي يمدون الشياطين ويسايرونهم (فِي الغَيِ) والضلال ، فإذا مس العاصي طائف من الشيطان عمل بما يوحي إليه ، وكان ذلك إمدادا للشياطين ، لأنه مشى في ركابهم ، ومسايرة لهم (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) بل يذهبون إلى آخر

__________________

(١) المس الروحي / عبد الرزاق نوفل.

وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ

____________________________________

الشوط ، بخلاف المتقين الذين لا يمدون الشياطين ويقصّرون في المسايرة ، ولعل جملة «ثم لا يقصرون» للإشارة إلى أن المتقي إذا غفل وأغري ومشى بعض الطريق مع الشيطان أدركته بصيرته فرجع ولا يسير إلى آخر الشوط ، بخلاف إخوان الشياطين.

[٢٠٤] وفي سياق الكلام حول أدب الحوار مع الناس ، وأن المتقي متأدب بالآداب يأتي دور المحاورة بين الرسول والكفار حول القرآن كشاهد لأدب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكون الكفار إخوان الشياطين الذين يمدونهم في الغي (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) يا رسول الله (بِآيَةٍ) أي بمعجزة يقترحونها عليك ، فإن الكفار كانوا يقترحون على الرسول الأمور الخارقة للعادة لمجرد المجادلة والمعاندة ، لا لإرادة الاهتداء والاسترشاد ، فإذا لم يستجب الرسول لمطلبهم (قالُوا) أي الكفار : (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي لماذا لم تختر هذه الآية المقترحة؟ ولماذا لم تأت بها؟ كأنهم ، يرون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفاعل لما يشاء ، فمهما اجتبى آية واختارها ، أتى بها (قُلْ) يا رسول الله : إن الآيات ليست باختياري واجتبائي ، بل (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) فاللازم اختيار الله للآيات ، فما رآها صلاحا أرسلها وزودني بها ، وما لم يرها صلاحا لم يرسلها ، إن كنتم تريدون الحق والهدى ـ حقيقة ـ وقصدكم من طلب الآيات ، إقامة الدليل والحجة على صدقي ف (هذا) الذي جئت به من القرآن المعجز الذي لم تتمكنوا أن تأتوا بمثله (بَصائِرُ) وحجج وبراهين (مِنْ) قبل (رَبِّكُمْ وَهُدىً) يهدي من أراد الحق إلى الحق (وَرَحْمَةٌ) يوجب

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً

____________________________________

ترحّم الله سبحانه ولطفه بالعاملين به (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) اللام للعاقبة ، إذ المنتفع بهذه الآيات هم المتقون فقط.

[٢٠٥] وإذ تقدم ذكر القرآن تلميحا بقوله «هذا بصائر» بيّن سبحانه لزوم الأدب أمام القرآن بقوله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) أي قارئ كان (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي أعيروا أسماعكم له (وَأَنْصِتُوا) «الإنصات» هو السكوت. ومن المعلوم أن الإنصات أخص من الاستماع ، فإن الإنسان ربما يستمع إلى الكلام وهو يتكلّم ، ولذا نص عليه ، فإن الأدب أن يستمع الإنسان ، ولا يتكلّم ، وهذا الأمر للاستحباب ، ككثير من أوامر القرآن الكريم كقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) (١) ، كما دلّت على ذلك الأحاديث (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي يرحمكم الله سبحانه بسبب تأدبكم أمام كتابه الكريم ، أو بسبب اتعاظكم بمواعظه ، حيث تستمعون لها.

[٢٠٦] وبمناسبة الإنصات عند تلاوة القرآن ، يأتي بيان كيفية دعوة الله سبحانه ، فإن القرآن كلام الله للخلق ، والدعاء كلام الخلق مع الله سبحانه (وَاذْكُرْ) يا رسول الله ، أو كل من يأتي منه الذكر (رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أما المراد به حديث النفس ، وأما المراد التذكر بالهمس والإخفات ، ولعل الأول أقرب ، بقرينة ما يأتي بقوله : «ودون ...» (تَضَرُّعاً) أي بنحو الضراعة والاستكانة (وَخِيفَةً) أي مع الخوف من

__________________

(١) النور : ٣٤.

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ

____________________________________

الله تعالى ، فإن ذلك أقرب إلى الإجابة (وَ) اذكره سبحانه (دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) فإن الكلام المتوسط خير ، وهذا لا ينافي استحباب الإجهار لدواعي أخر ، كما نزل جبرئيل على الرسول ، وقال : «يأمرك ربك بالعج والثج» (١) في باب التلبية وما ورد من أن الصلوات المجهر بها تذهب بالنفاق ، وما دل على الإتيان بالصلوات الثلاث جهرية ، إلى غير ذلك ، والقول بأن الله لا يحتاج إلى الإجهار تعليل تافه ، فإنه ينقض بأن الله لا يحتاج إلى الكلام ، فليكتف المستشكل بحديث النفس في قراءته ودعائه وأذكاره؟ (بِالْغُدُوِّ) أي الصباح (وَالْآصالِ) جمع «أصل» ، وأصل جمع «أصيل» ، فهو جمع الجمع ، ومعناه «العشيات» ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس ، وهذا كناية عن دوام الذكر ، والتفريق بين «الغدو والآصال» بالإفراد والجمع ، تفنن بلاغي لا يخفى لطفه.

(وَلا تَكُنْ) يا رسول الله ، أو المراد العموم ، والمقصد العموم على أي حال ، وإنما الكلام في مرجع الضمير (مِنَ الْغافِلِينَ) الذين يغفلون عن ذكر الله سبحانه. وفي الآية الكريمة روايات كثيرة غالبها من باب بيان المصداق ، فلا تضر بعمومها.

[٢٠٧] ثم بيّن سبحانه أن الملائكة الذين هم أبعد عن النزوات ، وهم دائمو الذكر ، فأجدر بالإنسان أن يكون متذكّرا دائما (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٩٦ ص ٢٨٦.

لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)

____________________________________

أي الملائكة ، والمراد بكونهم عنده سبحانه أنهم في قربه ، قرب الجاه والمكانة ، لا القرب المكاني (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) ولا يترفعون بأنفسهم عن الخضوع والخشوع له سبحانه (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي ينزهونه عما لا يليق به ، بذكر «سبحان الله» أو غيره (وَلَهُ) تعالى (يَسْجُدُونَ) كسجودنا ، أو المراد غاية الخضوع.

(٨)

سورة الأنفال

مكية ، مدنية / آياتها (٧٦)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الأنفال» وحكمها. والجو العام لهذه السورة حول السلم والحرب وشؤونهما ، وحياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ومناوئيهم ، وأمثلة من آل فرعون ومن كذّب بآيات الله سبحانه.

ولما كانت سورة الأعراف لبيان قصص الأنبياء ، وثم ختمت بقصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، افتتحت هذه السورة بذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جرى بينه وبين قومه ، فقال سبحانه :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) دليلا على ابتداء هذه السورة ، واختتام السورة السابقة.

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ

____________________________________

[٢] (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْأَنْفالِ) هو جمع «نفل» بمعنى الزيادة ، والمراد هنا : الغنيمة ، وإنما سميت نفلا لأنها عطية وفضل من الله سبحانه للمسلمين ، وقد اختلف التفسير حول الأنفال ، والذي نعتقده بعد الجمع بين الآيات والروايات أن الأشياء التي ليست ملكا لأحد وغنائم دار الحرب تنقسم إلى قسمين :

الأول : الغنائم ؛ وهي تقسم إلى خمسة أقسام : قسم يسمى «الخمس» لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والأربعة الباقية للمقاتلين.

الثاني : الأنفال ؛ وهي ما سيأتي في الرواية ، وتكون لله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام ، وقد أبيحت في حال الغيبة لمن يتولى الأئمة عليهم‌السلام ، أو لمطلق من حازها مؤمنا كان أو غير مؤمن. وظاهر سياق الآية أن المراد بالأنفال هنا هي مطلق الغنائم ، فإن السورة نزلت في وقعة بدر ، ولما هزم المسلمون الكفار ، انقسموا ثلاث فرق.

روى عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشهدت معه بدرا فهزم الله تعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصيب العدو منه غرّة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق منا نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرّة فاشتغلنا به. فنزلت

____________________________________

الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)؟ (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين.

وهذا الحديث يدل على أن المراد بالأنفال مطلق الغنائم ، كما هو ظاهر السياق ، وهناك حديث يفسر الأنفال بما يحضر الإمام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا منافاة بين الأمرين ، فقد تكرر منا سابقا أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في أكثر من معنى واحد إذا كانت هناك قرينة.

فعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا وأعطوا بيدهم» (١).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : «الفيء والأنفال ما كان من أرض خربة أو بطون أودية أو أرض لم يكن فيها مهراقة دم أو صولحوا أو أعطوا بأيديهم ولم تفتح بالسيف فهو يكون من الفيء والأنفال ، فهذه لله ورسوله فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء وهو للإمام بعد الرسول» (٢).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : «الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال ، وكل أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال والأرضون الموات والآجام وبطون الأودية وقطائع الملوك وميراث من لا وارث له فهو لله ولرسوله ولو من قام بنصه ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال» (٣).

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٥٣٩.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٩ ص ٥٢٧.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢١٠.

قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا

____________________________________

وعلى هذا فتسمية هذا الشيء بالأنفال لزيادة الإمام بحصة دون سائر شركائه في الخمس.

(قُلِ) يا رسول الله في جواب السائلين عن الأنفال : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ليس لأحد حتى يتنازع فيها ، وإذا كانت لله والرسول فلهما الخيار في أن يقسماها كيف شاءا (فَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه في التنازع وطلب ما ليس لكم (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي ما بينكم من الخصومة والمنازعة ، وإنما يؤتى بكلمة «ذات» لتشبيه الصلة التي بين الناس بأمر مجسّم فيما بينهم ، تشبيها للمعقول بالمحسوس (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في الغنائم وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين للرسول فيما يأتيكم به من قبل الله سبحانه. قيل : إنه لما عرف المسلمين أنه لا حق لهم في الغنيمة وأنها لله والرسول ، قالوا : يا رسول الله سمعا وطاعة فاصنع ما شئت.

[٣] ثم ذكر سبحانه صفات المؤمنين الكاملين ليكون درسا للمسلمين في مستقبل حياتهم وليكون ميزانا يزن المسلم نفسه فيه فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي اضطربت وخافت من عظمته ، وإن لم يكن خوفا من ذنب ، فإن الإنسان إذا علم أنه سيحضر محضرا كبيرا وعظيما ارتجف قلبه خوفا من الفشل (وَإِذا تُلِيَتْ) أي قرأت (عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ) الآيات (إِيماناً) فإن الإيمان ملكة في

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ

____________________________________

القلب ، كلما كرّر المطلب على الإنسان زادت الملكة قوة وثباتا (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أمرهم ، فيفوّضون أمورهم إليه ، في كل مرجو ومخوف.

[٤] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بالإتيان بها مواظبين عليها ، والحث عليها بالنسبة إلى سائر الناس ، فإن الإقامة غير الإتيان (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) سواء الواجب من الإنفاق أو غيره.

[٥] (أُولئِكَ) المتصفون بهذه الصفات (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فهم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وهم الذين شعرت قلوبهم الإيمان وامتثلت جوارحهم لتطبيقه (لَهُمْ دَرَجاتٌ) رفيعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فهم مكتوبون عنده أصحاب الدرجات الرفيعة ، وسينالونها في الآخرة (وَمَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فهم يرزقون بإكرام وإعظام لا بإهانة وإذلال.

[٦] إن الأنفال لله والرسول ، وإن كره المسلمون ذلك ، فإن في كونها لله والرسول حسن العاقبة والمصير ، كما إن إخراجك يا رسول الله لوقعة بدر كان بالحق ولعاقبة حسنة ، وإن كره المسلمون ذلك ، فإن الله وحده يعلم العواقب ، ويأمر بما هو خير (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) يا رسول الله (مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) والمراد ب «البيت» هنا محل الإقامة ، وهي المدينة المنورة ، ومعنى «الإخراج» أمره بذلك (وَ) الحال (إِنَّ فَرِيقاً مِنَ

الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)

____________________________________

الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) للخروج.

وقصة بدر في الجملة هي إن الكفار في مكة لما شرّدوا قسما من المسلمين إلى الحبشة ، وطاردوا الرسول وأصحابه ، حتى اضطروا للهجرة تحت جنح الظلام ، أخذوا بعد ذلك يؤذون المسلمين الباقين في مكة ، ويشيعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه مختلف الإشاعات ، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضع حدا لهذه التعديات التي لا مبرر لها إلّا الحقد والحسد. وأخيرا عزم على قطع طريق تجارتهم التي تسير بين مكة والشام ، ليتأدبوا ويأخذوا بذلك حذرهم.

فخرجت عير لقريش إلى الشام فيها كثرة وافرة من أموالهم ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالخروج ليأخذوها ، وأخبرهم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين ؛ غنيمة العير ، أو مطاردة قريش ومحاربتها وتبديدها ، فخرج هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، فلما قارب «بدر» وهي بئر هناك أبلغ أبا سفيان ذلك ، وكان في العير فخاف خوفا شديدا ، وبعث إلى قريش فأخبرهم بذلك وطلب منهم الخروج والدفاع عن العير وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر ، وتركوا الطريق ومروا مسرعين ، ونزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر أن العير قد أفلتت وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها وأمره بالقتال ، ووعده النصر ، فأخبر به رسول الله أصحابه فجزعوا من ذلك وخافوا خوفا شديدا إذ لم يتهيئوا للحرب ، فقال رسول الله : أشيروا عليّ. فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلت منذ عزّت ولم نخرج على هيئة الحرب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجلس فجلس.

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ

____________________________________

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشيروا عليّ. فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر ، فقال : اجلس ، ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ولو أمرتنا أن نخوض جو الفضاء وشوك الهراس لخضنا معك ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ولكنا نقول : «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ولكنا نقول : «اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون». فجزاه النبي خيرا ثم جلس ثم قال : أشيروا عليّ. فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ قال : نعم قال : فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره. قال : نعم. قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمر بنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت.

ثم قال : والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. إلى أن قال : ولكن نعد لك الرواحل ونلقي عدونا فإنا صبّر عند اللقاء أنجاد في الحرب ، وإنا لنرجوا أن يقرّ الله عينيك بنا. فقال رسول الله : كأني بمصرع فلان هاهنا وبمصرع فلان هاهنا وبمصرع أبي جهل وعتبة وشيبة فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله الميعاد (١) ، فنزلت الآية : (كَما أَخْرَجَكَ) فأمر بالرحيل حتى نزل ماء بدر وأقبلت قريش.

[٧] (يُجادِلُونَكَ) يا رسول الله بعض المؤمنين فيما دعوتهم إليه من محاربة قريش (فِي الْحَقِ) فإن الحرب واجب وحق (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أنه حق ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٤٧.

كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ

____________________________________

فإنهم كانوا يقولون : هلّا أخبرتنا لنعد عدتنا للحرب ، وهم يعلمون أنك لا تأمرهم إلّا بأمر الله سبحانه كما قال سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

(كَأَنَّما) هؤلاء المجادلين (يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) فيظنون أن سوقهم إلى الحرب موجب لهلاكهم حيث لم يعدوا لها العدة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي ينظرون إلى الموت عيانا ويرونه بأبصارهم ، فكيف يكون حال مثل هذا الإنسان ، كذلك حال هؤلاء المجادلين.

[٨] (وَ) اذكروا أيها المسلمون (إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) على لسان رسوله (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) إما طائفة العير فتغنمونها ، وإما قريش فتقتلونهم وتتخلصون من بعض أعدائكم (وَتَوَدُّونَ) أي تحبون وترغبون (أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) فإنهم كانوا يحبون أن يغنموا العير لئلّا يلاقوا مشقة الحرب ، والحال أن الحرب كانت لهم أكثر شوكة إذ تركز في العدو خوفهم وشوكتهم ، وكأن الشوكة مأخوذة من الشوك لأن في الحرب شوكا وليس الأمر سهلا ، فيكون تشبيها ، أو المراد بالشوكة : السلاح.

(وَيُرِيدُ اللهُ) حيث أمركم بالحرب (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي

__________________

(١) النجم : ٤ و ٥.

وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)

____________________________________

يظهر الحق ، بما بيّنه وأوجبه عليكم من المقاتلة (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي يستأصلهم ، فإن «الدابر» هو الأصل ، أي يجذ الكفر من أصوله ، فإن وقعة بدر كانت أقوى الأسباب لنصرة المسلمين إلى الأبد وهزيمة الكافرين إلى الأبد.

[٩] وإنما أراد الله ذلك (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي يظهر حقيقة الإسلام ، وفي التكرار تركيز وتوطئة لقوله : (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أي يظهر بطلانه بإهلاك الكفار (وَلَوْ كَرِهَ) ذلك (الْمُجْرِمُونَ) الذين أجرموا بالكفر والعصيان.

[١٠] ولما بلغ أصحاب رسول الله كثرة قريش وما معها من السلاح والعتاد فزعوا واستغاثوا بالله وتضرعوا. «و» اذكروا أيها المسلمون (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) أي تطلبون الغوث والنصرة من (رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ) دعاءكم وتضرعكم (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أي مرسل إليكم مددا (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي بعضهم خلف بعض ، فهم مترادفون متتابعون في النزول إليكم.

فإن قيل : كيف يمكن الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (بِثَلاثَةِ آلافٍ) (١) (بِخَمْسَةِ آلافٍ) (٢)؟

__________________

(١) آل عمران : ١٢٥.

(٢) آل عمران : ١٢٦.

وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)

____________________________________

فالجواب : إن الألف كانوا مقاتلين ، والبقية للبشارة وتقوية القلوب ، كما يقال : إن العاملين في المدينة عشرة ، فإذا قيل : إنهم أكثر؟ أجيب بأن المائة مثلا إنما هي من حيث العدد والحركة والعمل للعشرة. وفي الحديث : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (١). فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه ، فأنزل الله الملائكة ، وقد قاتلت الملائكة وأسرت بعض المشركين.

[١١] ثم يذكر سبحانه أن إنزال الملائكة إنما كان لأجل تقوية قلوب المسلمين ، وإلّا فنصر الله سبحانه لا يحتاج إلى مدد ملك أو غيره (وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي ما جعل الله الإمداد بالملائكة (إِلَّا بُشْرى) أي بشارة لكم بالنصر ، فإن الإنسان يستبشر بكثرة الأعوان وإن كان علم أنهم للسواد والكثرة فقط (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ) أي بالإمداد (قُلُوبُكُمْ) فيزول الخوف والوسوسة عنها (وَ) إلّا في الحقيقة والواقع (مَا النَّصْرُ) أي ليس النصر (إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ولا تأثير للإمداد والإعداد وإنما هي روابط ووسائط إلّا من عند الله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب بسلطانه (حَكِيمٌ) فيما يفعل ، وهذا لا يدل على عدم تهيئة الأسباب ، بل يدل على لزوم تهيئتها ، فإن الملائكة وقوى ما وراء الطبيعة بشائر ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٢٥٩.

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ

____________________________________

وإلّا فالنصر من الله بأسبابه الظاهرية التي قررها هو سبحانه ، كما قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (١).

[١٢] ولما أمسى القوم المساء قبل الواقعة أخذ أصحاب الرسول النوم ، من كثرة التعب وقد كان إلقاء الله النوم عليهم ليذهب خوفهم ، ويتقووا على القتال غدا ، فإن من استراح ونام لم يقلق كما يقلق الساهر ، كما أن أعصابه تهدأ ، وقواه تكثر فيتمكن مما لا يتمكن عليه الساهر ، واحتلم كثير من المسلمين تلك الليلة ، وكان موضع نزولهم كثير الرمل ، مما سبب صعوبة الحركة ، فوسوس إليهم الشيطان قائلا : كيف أنتم على حق ، وقد أصابتكم الجنابة ، ومحلّكم غير صالح ، ولا ماء عندكم ، بينما المشركون على الماء ، فأنزل الله المطر ، حتى لبد الأرض ، واغتسلوا ، وارتووا. فاذكروا أيها المسلمون (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) أي يستولي عليكم (النُّعاسَ) أي النوم (أَمَنَةً) أي أمانا (مِنْهُ) سبحانه ، فإنه لم يفعل ذلك إلّا لأجل أمنكم وراحتكم وإزالة الخوف عنكم ، و «الأمنة» الدعة التي تنافي المخافة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من حدث الجنابة (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسوسته فإنه كان يوسوس في قلوبهم : كيف يكونون على حق ، وهم نجسون ، ومحلهم رمل ، وهم ظماء (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي ليشد

__________________

(١) الأنفال : ٦١.

وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

____________________________________

قلوبكم ويقويها ، فإن النوم ونزول المطر قوّيا قلوبهم حيث أزالا المخاوف والوساوس والأتعاب (وَيُثَبِّتَ بِهِ) أي بالمطر (الْأَقْدامَ) أي أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل ، أو المراد تقوية القلب فإنه يكنى بذلك عنه ، أو المراد ذهاب الحالات الخمسة بالأمرين ؛ فالنوم للدعة ، والمطر لتطهير البدن عن نجاسة المني ، والاغتسال لذهاب رجس الشيطان ، وتقوية القلب عن وسوسته ، وتثبيت الأقدام بتلبد الرمل.

[١٣] واذكروا أيها المسلمون (إِذْ يُوحِي) وهم وإن لم يروا ذلك ولم يسمعوه بآذانهم إلّا أنهم علموه (رَبُّكَ) يا رسول الله (إِلَى الْمَلائِكَةِ) المنزلين في وقعة بدر (أَنِّي مَعَكُمْ) وهذا لتقوية قلوب المسلمين ، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة لا تفعل شيئا إلّا بأمر الله سبحانه (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بتقوية قلوبهم ودحر الشياطين عنهم ، فإن في القلب لمّتان : لمّة من الملائكة ولمة من الشيطان ، فالنوايا الحسنة وما أشبه من الملائكة ، والنوايا السيئة وما أشبه من الشياطين.

(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف من المؤمنين ، وقد كان ذلك ، فقد سلّط الله على الكفار رعبا عظيما ، حتى أن أبا لهب قال لأبي سفيان ـ بعد الواقعة ـ : كيف كان أمر الناس؟ قال : لا شيء والله إلّا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسرونا كيف شاءوا ، وأيم الله مع ذلك مالت الناس ، رأينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)

____________________________________

(فَاضْرِبُوا) أيها الملائكة (فَوْقَ الْأَعْناقِ) أي الرؤوس أو المذابح ، فإنهما فوق الأعناق ، أو هو كناية عن ضرب القفا للإذلال والإهانة (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ) أي من الكفار (كُلَّ بَنانٍ) أي أصابع اليد والرجل ، أو المعنى : جزّوا أعناقهم واقطعوا أطرافهم.

[١٤] (ذلِكَ) التعذيب والضرب فوق الأعناق والبنان بسبب أنهم (شَاقُّوا اللهَ) أي خالفوا الله (وَرَسُولَهُ) فكأنهم في شق والله والرسول في شق آخر (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ومن المعلوم أنه يكتفي بذكر الله وحده أو الرسول وحده ، ولكن ذلك لتعظيم الرسول حين يقرن باسم الله سبحانه ، وأنه الشخص المقابل لهم في المشاقة (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في الدنيا بعقوبة الكافرين على أيدي المسلمين ، وفي الآخرة بإخلادهم في النار.

[١٥] (ذلِكُمْ) «ذلك» إشارة إلى العذاب في الدنيا بالأسر والقتل ، و «كم» خطاب للكفار (فَذُوقُوهُ) أي ذوقوا هذا العذاب. و «الفاء» دخلت لإفادة الترتب على الكفر (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) علاوة على هذا العقاب العاجل (عَذابَ النَّارِ) في الآخرة. ولا يخفى أن «الذوق» يستعمل كثيرا في غير الذوق باللسان ، باعتبار إدراك الإنسان له كما يدرك باللسان المذوقات ، وهو يستعمل بالنسبة إلى الألم الروحي ، كما

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ

____________________________________

يقال : «ذق الذل» ، وبالنسبة إلى الألم الجسمي ، كما يقال : «ذق السوط» ، قال سبحانه : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) (١) ، وقال : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٢).

[١٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب عام لكل مؤمن ، وإن كان نزول الآية بمناسبة قصة بدر (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من اللقاء في الحرب (زَحْفاً) «حال» أي حال كونهم وإياكم زاحفين متدانين للقتال ، فإن الزحف بمعنى الدنو (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي لا تنهزموا بأن تجعلوا ظهوركم إليهم ، فإن الإنسان لا يجعل ظهره إلى ساحة القتال إلّا إذا أراد الفرار.

[١٧] (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أي من يجعل ظهره إليهم يوم القتال ، وإنما قال «يومئذ» لأنه فهم من قوله : (إِذا لَقِيتُمُ إِلَّا) إذا كان (مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي تاركا موقفه إلى موقف آخر أصلح للقتال من موقفه الأول ، و «التحرّف» الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف بمعنى الطرف ، واللفظ ، حال ، أي : في حال كونه قاصدا الطرف حتى يكون أمكن في الحرب (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) طلب حيزا غير حيزه السابق ، أي مكان جديد ، يقال : «فلان متحيز إلى فلان» أي

__________________

(١) النحل : ١١٣.

(٢) الدخان : ٥٠.

فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى

____________________________________

منحاز نحوه ، منضم إليه. فالمعنى : أنه ولّى دبره لينضم إلى جماعة يستعين بهم في القتال ، فإن الإنسان وحده يجترئ عليه العدو أكثر مما إذا كان مع جماعة (فَقَدْ باءَ) خبر «ومن يولهم» أي أن المولي دبره يرجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) فكأنه كان ذاهبا إلى الحرب برضى الله ، والآن بفراره رجع يحمل الغضب (وَمَأْواهُ) أي مصيره (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وبهذا يستدل على أن الفرار من الزحف كبيرة موبقة.

[١٨] ثم ذكر سبحانه أن السبب الحقيقي في انهزام الكفار إنما كان هو الله سبحانه (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) أي لم تقتلوا الكفار أنتم أيها المسلمون. و «النفي عنهم» باعتبار كونهم السبب الأضعف ، فلو لا تشجيع الله سبحانه بإنزال الملائكة وإنزال المطر وتقوية قلوبهم ومساعدة الملائكة لهم في القتل والأسر لم يتمكنوا من الغلبة عليهم ، ومن المتعارف أن ينسب الفعل إلى أقوى السببين (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بتهيئة الأسباب وإلقاء الرعب في قلوب الكفار حيث انهارت أعصابهم (وَما رَمَيْتَ) يا رسول الله ، أو أيها المسلم (إِذْ رَمَيْتَ) والمراد بالأول : الرمي المصيب ، فإن الفعل ينفى عمن لم تكن نتيجة الفعل بقدرته ، كما يقال لمن ألقى حجرا بدون معرفة فاصطاد طائرا : «فما صدت أنت وإنما صادته الصدفة». ولعل المراد ب «الرمي» ، رمي القوم بالهلاك ، كما يقال : «رماه الله بهلاك ونكال». (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فإنه كان السبب الأقوى في هلاكهم ونكالهم.

وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً

____________________________________

وذكر جمع من المفسرين : أن المراد بذلك ، رمي الكفار بالتراب ، فإن جبرئيل عليه‌السلام قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر : خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما التقى الجمعان لعلي عليه‌السلام : أعطني قبضة من حصى الوادي. فناوله كفا من حصى عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه وفمه ومنخريه منه شيء وتبعهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم ، ولما أن اصطف القوم برز عتبة وشيبة والوليد للقتال وطلبوا المبارز فخرج إليهم بعض المسلمين فلم يرضوا بهم لما جرت العادة من عدم احتشام القرن إلّا بقرنه حتى برز إليهم عليّ عليه‌السلام وحمزة وعبيدة ، ودارت المعركة بنصرة هؤلاء ، وقتل أولئك ، وهنا حمي الوطيس واستعرت الحرب ولم تنكشف إلّا بهزيمة الكفار وقتل جماعة كبيرة منهم ، وأخذ المسلمون يأسرونهم والملائكة تعينهم في الأسر كما أعانتهم في القتل. فكان المسلم يشير بسيفه أو رمحه ولما يصل إلى الكافر فإذا به يخر قتيلا تقتله الملائكة ، وكذلك الأسر. حتى أن العباس أسره أبو اليسر وكان العباس جسيما وأبو اليسر نحيفا ، فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ فقال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد أعانك عليه ملك كريم (١). وكل هذه كانت للبشرى وإنما النصر كان من عند الله.

(وَ) قد فعل الله سبحانه ما فعل (لِيُبْلِيَ) أي لينعم على (الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ) أي من عنده سبحانه (بَلاءً حَسَناً) أي نعمة جسيمة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٢٧.

إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ

____________________________________

فـ «الواو» على هذا استئنافية متعلقة بفعل مقدّر ، كما قدّرناه ، أو المراد : ليمتحن المؤمنين امتحانا حسنا ، فإن البلاء يأتي بمعنى النعمة كما يأتي بمعنى الاختبار ، وإنما يقال للنعمة : بلاء ، لأن أصل البلاء ما يظهر به الأمر من الشكر والصبر ، فالنعمة بلاء لأنها تظهر الشكر ، والمصيبة بلاء لأنها تظهر الصبر (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بضمائركم ونياتكم. وفي الحرب تظهر أقوال ، وتجول في الصدر نيات ، فمن الأحرى أن يحفظ الإنسان قلبه ولسانه لئلّا ينحرفان عن نهج الصواب بمحضر من يسمع ويعلم كل شيء.

[١٩] الأمر (ذلِكُمْ) أي أن الأمر كما ذكرنا من القصة ، وهذا كما أن من يذكر قصة يقول بعدها : «هكذا» وهذا شبه تأكيد للكلام السابق ، ف «ذلك» إشارة و «كم» للخطاب ، أي : أخاطبكم أيها المؤمنون أن الأمر كذلك (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) هذا عطف على «ذلكم» أي أن الغرض كان بلاء المؤمنين ووهن كيد الكافرين. هذا بناء على رجوع «ذلكم» إلى البلاء المستفاد من قوله : «ليبلي المؤمنين» ، وإلّا كان «وأن الله» استئنافية.

[٢٠] وحيث بيّن سبحانه أن الله يوهن كيد الكافرين خاطب الكفار بقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أيها الكفار (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وهذا تهكّم ، فإن أبا سفيان دعا قبل الواقعة بقوله : «اللهم أهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم» ، فقد استجاب الله دعاءه وأهلك أضل الفريقين وأقطعهما للرحم. والمراد ب «الاستفتاح» طلب الفتح ، كأن

وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ

____________________________________

الذي يقع في مشكلة قد انسدت عليه الأبواب فيطلب فتحها ليتخلص من المشكلة.

ثم يرغّبهم سبحانه في الانتهاء عن كفرهم (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن الكفر ومعاداة المسلمين (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في دنياكم وآخرتكم (وَإِنْ) لم تنتهوا و (تَعُودُوا) إلى كفركم ومشاقتكم لله والرسول (نَعُدْ) إلى ما رأيتم من إهلاككم وإذلالكم ، وبأسنا لا يقف أمامه تجمع وكثرة (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) أي لا تفيد بكم جماعتكم شيئا (وَلَوْ كَثُرَتْ) فإن النجاح ليس بالكثرة وإنما بالقوة التي هي متوفرة لدى المؤمنين (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ومن المعلوم انطباق هذه الآيات في كل زمان ومكان بشرط أن يعمل المسلمون على شرائط الإيمان.

[٢١] ثم خاطب سبحانه المؤمنين أن يلتزموا بما هو سبب نجاحهم بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) واختصاص الخطاب بالمؤمنين ، مع أن الإطاعة واجبة على الجميع ، لأنهم هم المصغون المنتفعون بالخطاب دون غيرهم (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي لا تعرضوا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَ) الحال (أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) دعاءه لكم وأمره ونهيه إياكم ، فإن المعرض بعد العلم أشد عقوبة عن المعرض بلا علم.

[٢٢] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) وهم اليهود والمنافقون (وَهُمْ

لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ

____________________________________

لا يَسْمَعُونَ) حقيقة ، إذ لو سمعوا ووعوا لعلموا ، فعدم علمهم دليل على عدم سماعهم سماع متعظ واع ، فإنه يقال للعالم التارك لعلمه : «إنه غير عالم» ، كما يقال لمن سمع قول الرشد ، فسلك سبيل الغي : «أنه لم يسمع».

[٢٣] وإذ أمر الله سبحانه المؤمنين بالسماع النافع المقترن بالعمل حذّرهم أن يكونوا كالدابة التي لا تسمع إلّا نداء من غير أن تعقل وتعمل حسب ما سمعت ، ولا تنطق بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) الكفار ، إنهم أشر من الدابة ، حيث إن الدابة لا تعقل ، وهؤلاء يعقلون ثم يعرضون (الصُّمُّ الْبُكْمُ) «صمّ» جمع «أصم» : وهو الذي لا يسمع ، و «بكم» جمع «أبكم» : وهو الذي لا يتكلم (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) عقلا مثمرا ، وإلا فهم عقلاء ، فإن هؤلاء شر ما دبّ على وجه الأرض من الحيوان حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من الحق ، ولم يتكلموا به.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنها نزلت في بني عبد الدار ، لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له : سويبط» (١).

[٢٤] (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً) قبولا للحق وإذعانا به وإنصافا في الأمر (لَأَسْمَعَهُمْ) إسماعا نافعا ، ولكنه علم أن ليس فيهم خير ، ولا رجاء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٩٦.

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)

____________________________________

بهم ، فلذا تركهم مغلقي القلوب ، وهذا كما تقول : «لو علمت في هذه الأرض قابلية للزرع لحرثتها» ، حيث إنها لا تصبح قابلة للزراعة حتى بالحرث. وهكذا قلب الإنسان القابل وقلب الإنسان غير القابل ، فإن أغشية الكفر قد شملتهما ، لكن الله سبحانه يزيل الغشاء عن قلب القابل حيث يعرف فيه الخير ، ولا يزيله عن قلب غير القابل حيث يعرف فيه عدم الخير.

وبهذا تحقق أنه لا مجال للإشكال بأنه إن أريد من «الإسماع» المعنى الظاهري ، فقد أسمع الله سبحانه كل برّ وفاجر ؛ فلا يناسبه التعليق على «لو» الامتناعية ، وإن أريد منه تطهير القلوب تكوينا فإن الله لو فعل ذلك لكان فيه من الخير ؛ فلا يناسبه ما يفهم من الآية من عدم إمكان الخير.

وحاصل الجواب : أن هناك ثلاث مراتب : الإسماع الظاهري ، وإزالة الأغشية ، وطهارة القلوب ذاتا. فإزالة الأغشية خاصة بالمؤمن ، بينما الإسماع عام لكل واحد ، فالمعنى : لو علم الله الطهارة الذاتية في قلوبهم لأزال الأغشية المظلمة عنها ، علاوة على الإسماع ، ولكن علم أن ذلك لا ينجح ، فإن قلوبهم كالأرض السبخة التي لا ينفع معها الحرث ، فلذا تركهم وشأنهم.

(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) بهذا النحو من الإسماع بإزالة الأغشية (لَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا ، لأن قلوبهم سبخة لا ينفعها حتى إزالة الأغشية (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحق.

وربما أورد بأنه : كيف يمكن ذلك ، والحال أن لازم هذا النحو

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ

____________________________________

من القياس المنطقي ـ بحذف الأوسط ـ «لو علم الله فيهم خيرا لتولوا» ، مع وضوح أنه لو علم الله فيهم خيرا لم يتولوا؟

والجواب : إن الكلام جار مجرى العرف ، فليس هذا قياسا واحدا بل قياس وزيادة تقديره «لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ، لكنه علم فيهم عدم الخير فلم يسمعهم» ، «ولو أسمعهم مع علمه عدم الخير فيهم لتولوا» وهذا كما تقول عن ولد لك غير قابل للكسب : «لو علمت أنه غير كاسب لزودته برأس مال» ، «ولو زودته لأتلف» تريد : لو زودته والحال أني أعلم عدم قابليته.

[٢٥] وبعد ما ذكر سبحانه وجوب إطاعة الله والرسول ، ألمع إلى أن في الاستجابة كل الخير كما أراهم ذلك فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا) أي أجيبوا. ولعل السر في الإتيان بباب «الاستفعال» المفيد للطلب ، إفادة أن اللازم كون الجواب عن القلب والضمير ، لا بمجرد اللفظ والظاهر ، فإن طلب الإنسان لأن يجيب إنما بنبع من قلبه وباطنه (لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) وقد تقدم أن ذكر الرسول تعظيما له ، ولأنه الداعي الذي يراه الإنسان ويقابله (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) فإن الحياة الكاملة إنما هي بالإيمان ، إذ الحياة بمعنى الحس والحركة مرتبة ضعيفة من الحياة ، والمرتبة الأعلى بمعنى السعادة الملازمة للعلم والفضيلة والرفاه والأمن والصحة ، هذا بالنسبة إلى الدنيا وكذلك بالنسبة إلى الآخرة ، فإن حياة الجنة هي الحياة الكاملة التي تستحق أن تسمى حياة ، أما حياة النار فإنها لا تستحق اسم الحياة ، ولذا قال سبحانه : (لا

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)

____________________________________

يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١).

و «إذا» ليست شرطا له مفهوم ، بل المراد إفادة أن دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما تكون لما فيه حياة الناس. وتوحيد الفعل مع أن الله والرسول اثنان ، باعتبار أن دعوتهما واحدة ، أو كان باعتبار كل واحد منهما ، كما قال : (طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) (٢).

إنه سبحانه يريد أن تستجيبوا عن إرادة وطواعية وإن كان يقدر على كل شيء (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) فمن هذه قدرته ، أليس يقدر على جبركم أن تؤمنوا؟ ومعنى «الحيلولة بين المرء وقلبه» أن لا تطيع الأعضاء القلب فيما يأمر وينهى ، بأن يريد قلبه شيئا فلا تطيعه الأعضاء بمنع الله سبحانه عن الإطاعة ، وكذا العكس بأن تنقل الأعضاء ـ كالعين والأذن والذوق والأنف واللامسة ـ إلى القلب معلومات فلا يفهمها ، فإن القلب كالسلطان يعطي ويأخذ ، والله قادر على أن يفصل بينه وبين رعيته وجيوشه (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واعلموا أنكم تجمعون إليه للجزاء والحساب. ومعنى «إليه» أي إلى الموضع المقرر للجزاء ، كما يقال : «ذهب إلى الله» لمن يذهب إلى الحج ، فيراد المكان المقرر لإتيان الأعمال. إن قلوبكم بين يديه وحشركم إليه ، فأذعنوا له حتى تحيون حياة طيبة.

__________________

(١) طه : ٧٥.

(٢) البقرة : ٢٦٠.

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ

____________________________________

[٢٦] (وَاتَّقُوا) أي خافوا ، إن لم تستجيبوا (فِتْنَةً) وبلاء عامّا (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فإن أفراد الأمة إذا سكتوا على المنكر عمّهم الله بالعقاب ، أولئك بالعصيان وهؤلاء بالسكوت ، كمن لا يأخذ بيدي من يريد ثقب السفينة فإنه يقرن مع الثاقب. كما مثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن قرأ : «لتصيبن» أدخل الساكت في جملة الظالمين ، لأنه ظالم بسكوته. ويكون المعنى على هذا : إن الفتنة تصيبكم أيها الظلمة فقط ، فلا تقولوا : كيف تصيبنا الفتنة فقط ونحن في جملة غير الظالمين؟ تريدون بذلك عدم إصابتكم بالفتنة لأنكم بين أظهر غير الظالمين ، فإن الله سبحانه قادر على إصابتكم فقط ، كما أصابت الفتنة أصحاب السبت دون الذين نهوهم ووعظوهم.

هذا ، ولكنا حيث نرجح عدم الزيادة والنقيصة في القرآن الحكيم ، وأن ما بين دفتيه هو القرآن المنزل حتى أن النظم أيضا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نوجّه الروايات الواردة «الخاصة بالقراءات» بأنها تأويل واجتهاد لا نزول ووحي.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فإذا أخذتم يكون أخذه أليما شديدا ، فاستجيبوا لله والرسول ، فإن فيه حياتكم ، وفي غيره النكال والعقاب.

[٢٧] وقد رأيتم كيف تفضّل الله عليكم حين استجبتم له وللرسول (وَاذْكُرُوا) أيها المؤمنون (إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) في العدد

مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ

____________________________________

(مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) يطلب الأعداء ضعفكم فينزلون بكم أنواع الإهانة والأذى (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي يأخذونكم فجأة ، و «الاختطاف» إما لأجل السجن أو لأجل القتل أو لأجل الأذية ، والمراد ب «الناس» الكفار (فَآواكُمْ) أي جعل الله سبحانه لكم مأوى تأوون إليه ، وهي المدينة (وَأَيَّدَكُمْ) قوّاكم (بِنَصْرِهِ) لكم على أعدائكم حتى صرتم أقوياء بفضله سبحانه (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) فإنهم في مكة كانوا فقراء لا يجدون طعاما ولا شرابا ، حتى إذا صاروا في المدينة زرعوا واتجروا فرزقوا من الطيبات (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا فضله سبحانه ، ونعمته وإحسانه عليكم.

[٢٨] ولما ذكر سبحانه وجوب استجابة المؤمن لله ورسوله ، نهى عن الخيانة له وللرسول بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ) بترك أوامره (وَالرَّسُولَ) بترك شريعته. وقد نزلت هذه الآية في أبي لبابة ، وإن كانت هي عامة لكل من يريد الخيانة.

فقد ورد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاصر يهود بني قريضة إحدى وعشرين ليلة ـ لما خانوا عهده ـ فسألوه الصلح على ما صالح عليه بنوا النظير بأن يصيروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله وولده كانوا عندهم ، فبعثه رسول الله فقالوا : ما ترى يا أبا

وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ

____________________________________

لبابة أننزل على حكم سعد؟ فأشار بيده إلى حلقه «إنه الذبح» فلا تفعلوا ، فأتى جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك ، قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله. فلم يرجع إلى الرسول بل جاء إلى المسجد وشد نفسه بسارية من سواري المسجد وقال : لا والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي.

فمكث أياما لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خرّ مغشيّا عليه ثم تاب الله عليه ، ونزلت : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تاب الله عليك. قال : لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده ثم قال أبو لبابة : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن انخلع من مالي. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يجزيك الثلث أن تصدّق به (٢).

(وَ) لا (تَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي أمانة بعضكم عند بعض من مال ، أو عرض ، أو ما أشبه (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أن الخيانة محرّمة موجبة للعقاب والعذاب. ومن الممكن أن تكون جملة «وتخونوا» استفهامية إنكارية ، أي : «كيف تخونوا أماناتكم في حال العلم» ، وسميت خيانة الله والرسول خيانة الأمانة لنفس الإنسان.

[٢٩] (وَاعْلَمُوا) أي تيقنوا (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) امتحان وابتلاء

__________________

(١) التوبة : ١٠٢.

(٢) راجع تفسير القمي : ج ١ ص ٣٠٣.

وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

ليختبر الله سبحانه من يرجّح أمر الله على ماله وولده ، ومن يرجّحهما على أمره سبحانه ، فإن أبا لبابة حمله على ما فعل أن أمواله وأولاده كانت عند اليهود فخاف إن نصح لله والرسول أن تذهب أمواله وأولاده. (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فمن رجّح أمره سبحانه على ماله وولده أوجر بأعظم أجر.

[٣٠] إن الأمانة حمل ثقيل لا يقوم بها إلّا من اتقى الله ، ولذا يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) فإن من اتقى الله سبحانه صار ميزان الخير والشر ملكة له ، فيفرق بين الحق والباطل بتلك الملكة الحاصلة بالتقوى ، فإن عرفان الإنسان أن عليه مراقبا يحدّد موقفه من الأعمال والأقوال. (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) التي عملتموها. ومعنى «تكفير السيئات» سترها ، فإن التكفير بمعنى الستر والتغطية (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم بإزالتها ، فإن الستر غير الإزالة ، وهما نعمتان وفضلان (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فإنه يتفضل عليكم بالتكفير والمغفرة وجعل الفرقان.

[٣١] وإذ تقدم الكلام حول نصرة المؤمنين في بدر بعد أن كانوا قليلا مستضعفين في مكة ، بيّن سبحانه حالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يدبرون مؤامرة

لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)

____________________________________

(لِيُثْبِتُوكَ) أي يقيّدوك ويسبحونك فتثبت في مكة لا تقدر على الإرشاد والتبليغ (أَوْ يَقْتُلُوكَ) ويستأصلوا شأفتك (أَوْ يُخْرِجُوكَ) ويبعدوك ، بإرسالك إلى بعض المحالّ النائية ، حتى لا تتصل بأصحابك وبالناس (وَيَمْكُرُونَ) تأكيد ، تهيئة لقوله : (وَيَمْكُرُ اللهُ) أي يدبر الله سبحانه الأمر خفية ، فإن التدبير لا يكون إلّا خفية (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) فإنه أعرف بطرق العلاج. والفرق بين مكر الله سبحانه ومكر الناس أن الأول لا يكون إلّا بحق ، والثاني لا يستعمل ـ غالبا ـ إلّا إذا كان بباطل.

إن هذه الآية الكريمة نزلت في قصة هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك أن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن أناس إلى دار الندوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا شيخ قائم بالباب وإذ ذهبوا إليه ليخرجوه قال : أنا شيخ من مصر «أو نجد» أدخلوني معكم. قالوا : ومن أنت يا شيخ؟ فقال : أنا شيخ من مصر «أو نجد» ولي رأي أشير به عليكم.

فدخلوا وجلسوا فتشاوروا وهو جالس وأجمعوا أمرهم على أن يوثقوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال الشيخ : هذا ليس بالرأي ، فإن فعلتم هذا ذهب أصحابه وفكّوا وثاقه ، ومحمد رجل حلو اللسان فإنه يفسد عليكم أبناءكم وخدمكم وما ينفع أحدكم بهم بعد أن أفسدهم محمد. ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه من بلادهم ، فقال الشيخ : هذا ليس بالرأي ؛ إنه إن خرج أحاط به الناس الأعراب لحلو منطقه وأفسد عليكم من الخارج. فاستصوبوا رأيه ثم سألوه الرأي قال :

____________________________________

أخرجوا من كل بطن من العرب إنسانا يجتمعون عليه ويضربونه ضربة رجل واحد حتى يقتلوه ، فيفرّق دمه في القبائل ولا تتمكن عشيرته من المطالبة بدمه ويجبرون على أخذ الدية ، فتستريحون منه.

فأخذوا برأي الشيخ ، وكان هو الشيطان «لعنه الله» تزيّ بزيّ البشر. ونزل جبرئيل على الرسول يخبره بمكر أهل الندوة ، ويأمره بالفرار ليلا ، وأن ينيم عليا عليه‌السلام مكانه ليشتبه عليهم الأمر ، فلما أمسى المساء جاء الفتيان مسلّحين ، وأرادوا أن يدخلوا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن أبا لهب حال دون ذلك ، وقال : لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا ونساء ولا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة ، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر رسول الله أن يفرش له وقال لعلي عليه‌السلام : أفدني بنفسك. قال : نعم يا رسول الله. قال : نم على فراشي والتحف ببردتي. وكان الفتيان ينظرون من شقوق الباب فيرون في مكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصا نائما فظنوه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخرجه من بين ظهراني الكفار وهم نيام وهو يقرأ عليهم : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١).

وقال له جبرئيل : خذ على طريق «ثور» وهو جبل على طريق «منى» له سنام كسنام الثور فدخل غارا كان فيه ، فلما أصبحت قريش وبثوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش فقام علي عليه‌السلام في وجوههم وقال : ما شأنكم؟ قالوا له : أين محمد؟ قال : أجعلتموني عليه رقيبا ، ألستم

__________________

(١) يس : ١٠.

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا

____________________________________

قلتم : نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا يضربونه ويقولون : أنت تخدعنا منذ الليلة ، فتفرقوا في الجبال وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفوا الآثار ، فقالوا : يا أبا كرز اليوم اليوم ، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هذه قدم محمد والله إنها لأخت القدم التي في المقام ، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار ثم قال : ما جاوزوا هذا المكان ، إما أن يكون صعد إلى السماء أو دخل تحت الأرض ، وقد كان بعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار وجاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال : ما في الغار أحد ، فتفرقوا في الشعاب وصرفهم الله عن رسوله ثم أذن له بالهجرة (١).

[٣٢] (وَ) قد كان بعض الكفار (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) من القرآن الحكيم (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) بآذاننا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) المسموع ، فإن العاجز المتكبر دائما يظهر القدرة ، لكنه لا يظهر منه الأثر بخلاف القادر المتواضع الذي يعمل كثيرا ويقول قليلا (إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) جمع «أسطورة» ، والمراد بها : أخبار الماضين ومختلقاتهم. قالوا : وقد كان قائل هذا النضر بن الحارث ابن كلدة وقد أسر يوم بدر وقتل.

[٣٣] (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالُوا) أي بعض الكفار وهو أبو

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٥٠.

اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)

____________________________________

جهل : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي جاء به محمد (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) وكنا نحن على الباطل (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً) المراد بها «جنس الحجارة» وليست «التاء» للمفرد (مِنَ السَّماءِ) أي من جهة العلو ، كما أمطرت على قوم لوط (أَوِ ائْتِنا) أي صبّ علينا وجئنا (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم.

فقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكون بها العرب وتدين لكم العجم. فقال أبو جهل : «اللهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» (١).

وفي بعض الروايات : أنها نزلت حين نصب الرسول عليّا خليفة له يوم غدير خم ، فجاءه رجل يقال له الحارث بن عمرو الفهري فحاجّ النبي في شأن علي عليه‌السلام ثم سأله : هل هذا من الله أو منك؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل من الله سبحانه. فأخذ يذهب وهو يدعو بهذا الدعاء «اللهم إن كان .. الى آخره» ، حسدا وبغضا للإمام عليه‌السلام. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إما تبت وإما رحلت ، فركب راحلته وخرج ، ولما وصل إلى خارج المدينة أتته جندلة فرضّت هامته ، وفيه نزلت : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) (٢) ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض المنافقين : انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ١٥٨.

(٢) المعارج : ٢.

(٣) راجع بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ٣٢٣.

وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ

____________________________________

أقول : وكأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بالرحيل حتى لا يمنع عن عذابه وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنده حيث قال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ). كما أنه لا منافاة بين الحديثين ، فقد كانت بعض آي القرآن وسوره ينزل مرتين وأكثر ، فلعلها نزلت مرة في قصة أبي جهل ومرة في قصة الحارث.

[٣٤] ثم بيّن سبحانه أنهم مع استحقاقهم العذاب لما كانوا يفعلونه ، لكنه لا يعجّل لهم ما دام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، فلعلهم يرجعون ويتوبون ، وما دام أنهم ـ مع كفرهم ـ يستغفرون الله سبحانه ، كما روي أن أبا جهل بعد ما ذكر الدعاء قال : واستغفر الله ، فقال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) بإمطار الحجارة عليهم ـ كما طلبوا ـ أو غيره (وَأَنْتَ فِيهِمْ) جملة حالية ، أي : في حال كونك يا رسول الله بين أظهرهم ، والمراد بذلك إما الرحمة بهم لأجلك ، أو عدم عذابهم لاحتمال الإيمان ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما دام فيهم يحتمل رجوعهم وهدايتهم. (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ولعل اختلاف التعبير في «ليعذبهم» و «معذبهم» لأجل أن كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرهم له أمد ولذا جاء بالفعل ، أما الاستغفار فإنه لا مدة له ولذا جيء بالاسم الدال على الدوام.

[٣٥] ثم بيّن سبحانه أنه وإن كان لا يعذبهم إلّا أنهم يستحقون العذاب بما يرتكبون من الآثام ، فقال سبحانه : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) أي لم لا يعذبهم وأي أمر يوجب ترك تعذيبهم

وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)

____________________________________

(وَ) الحال أن (هُمْ يَصُدُّونَ) ويمنعون الناس المؤمنين (عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فقد أخرجوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وأجبروهم إلى الهجرة نحو الحبشة والطائف والمدينة (وَ) الحال أنهم (ما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي أولياء المسجد ، أي لم يكن المشركون أصحاب ولاية على المسجد الحرام حتى يكون الصدّ عنه مشروعا ، فإنهم حيث كفروا برب المسجد وخالفوا أوامره لوضع الأصنام فيه وهتكوا حرمته بالتصفيق فيه ، لم تكن لهم ولاية عليه (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي ليس أولياء المسجد إلّا الذين يتقون الله سبحانه ويطيعون أوامره وهم المؤمنون ، فإنهم أولياؤه الشرعيون (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر هؤلاء المشركين (لا يَعْلَمُونَ) ذلك ويظنون ـ حيث أنهم ورثوا سدانة البيت من آبائهم ـ أنهم بذلك يكونون أولى بالمسجد.

ورد في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «كان في الأرض أمانان من عذاب الله ، وقد رفع أحدهما ، فدونكم الآخر ، فتمسكوا به» (١). وقرأ الآية : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ...).

[٣٦] ثم بيّن سبحانه علّة عدم كونهم أولياء المسجد ، وذلك لأن صلاتهم هتك لحرمته وإنفاقهم لأجل الصدّ عنه ، وهل يكون وليّ شيء هاتكا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٠ ص ٢٨٤.

وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً

____________________________________

وصادا عنه؟ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ) أي دعاء المشركين وعبادتهم (عِنْدَ الْبَيْتِ) الحرام (إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) «المكاء» الصفير ، يقال : «مكا يمكو مكاء» إذا صفّر بفيه. و «التصدية» التصفيق ، وهو ضرب اليد على اليد. فقد كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون.

وفي حديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا صلّى قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران ، ورجلان عن يساره يصفقان بأيديهما فيخلطان عليه صلاته ، وقد قتلوا جميعا يوم بدر (١).

(فَذُوقُوا) أيها الكفار (الْعَذابَ) في الدنيا بالقتل والأسر وغيرهما ، وفي الآخرة في نار حرّها شديد بسبب ما (كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بالله ورسوله.

[٣٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) في قتال الرسول والمؤمنين والتأليف عليهم (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعوا الناس بذلك عن دين الله وطريقه المستقيم ، فكيف يمكن أن يكون الصاد عن سبيل الله وليا لمسجد الله؟ (فَسَيُنْفِقُونَها) أي يقع منهم الإنفاق (ثُمَّ تَكُونُ) الأموال المنفقة للصد عن سبيل الله (عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) موجبة للحزن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٨٧.

ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ

____________________________________

والتحسّر يخسرونها بلا جدوى (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) في الدنيا بظفر المسلمين عليهم ، وفي الآخرة بأنها تسبب لهم النار (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون ، فإنهم يجمعون كلهم هناك جزاء لما فعلوا من الكفر والعصيان.

وفي بعض التفاسير : إن الآية نزلت فيما أنفقه الكفار يوم بدر لقتال المسلمين ، وقد أخبر الله عن العاقبة قبل وقوعها فكانت كما ذكر.

[٣٨] إن ما تقدم من إخلاء الله السبيل للكفار حتى ينفقوا أموالهم في سبيل الصدّ عن طريق الله سبحانه (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فتكون الأموال المنفقة في سبيل الله معلومة ، وتكون الأموال المنفقة في سبيل الباطل معلومة ، فقد كانت الأموال قبل الاحتكاك وحدوث الحادثة غير مميز خبيثها من طيبها ، أما في الحادثة فسيتميز بعضها عن بعض (وَ) ل (يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) فإنه كان متفرّقا في أموال عدة ، وبذلك تتجمع أجزاؤه (فَيَرْكُمَهُ) أي يجعله ركاما مجموعا (جَمِيعاً) كالنفايات والقاذورات التي تتجمع من البيوت ، ويجعل بعضها على بعض في المزبلة (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) كما تجتمع القاذورات في المنافي خارج المدينة. وهذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ليكون أوقع في النفس (أُولئِكَ) الذين أنفقوا هذه الأموال في سبيل

هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ

____________________________________

الباطل (هُمُ الْخاسِرُونَ) فقد خسروا الأموال ، بل اشتروا بها العار والنار.

[٣٩] (قُلْ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لا تيأسوا من رحمة الله ، فإن الإنسان مهما عصى ، إذا تاب ؛ تاب الله عليه (إِنْ يَنْتَهُوا) عن كفرهم وعصيانهم ، بالإسلام والطاعة (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من ذنوبهم ومعاصيهم (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى كفرهم وأعمالهم ، و «العودة» باعتبار أن كل يوم كفر جديد ومعصية جديدة (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي عادة الله فيهم بالإهلاك ، فإنها تنطبق على هؤلاء ، وإضافة السنة إلى الأولين ، باعتبار كون سنة الله واقعة عليهم ، ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة ـ كما ذكروا ـ ويحتمل أن يكون المراد : إن ينتهوا عن قتال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تركوا وشأنهم ولم يعاقبهم الرسول بما فعلوا ـ فهو مغفرة لهم ـ وإن عادوا إلى القتال فقد مضت سنة الله في الأنبياء أن يكون المحاربون هم المغلوبون المنهزمون ، وهذا تهديد إلى كل من تسوّل له نفسه قتال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٤٠] (وَقاتِلُوهُمْ) أي قاتلوا الكفار أيها المسلمون (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي لا توجد فتنة ـ فإن «كان» تامة ـ فإن الكفار مهما وجدوا القوة والمنعة فتنوا المؤمنين عن دينهم ، وأحدثوا الفتن والقلاقل ، أما إذا قوتلوا وكسرت شوكتهم ، ذهبت الفتن وتحطمت المؤامرات والمكايد

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)

____________________________________

(وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) المراد ب «الدين» الطريقة ، أي حتى تتجمع الطرائق على طريقة واحدة ، هي طريقة الله سبحانه. وهذه الآية تدل على جواز المقاتلة إلى أن تتوحد الطرائق في طريقة ارتضاها الله سبحانه للعباد ، فلا يكون دين سواه (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي انتهى هؤلاء الكفار عن الكفر والعصيان ومحاربة الرسول والمؤمنين (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فإنه يعلم السر وأخفى. وما على المسلمين إلّا توحيد الصفوف ظاهرا أما البواطن والسرائر فليس عليهم ، بل الله يعلم بها ويجازي كل واحد حسب ضميره وسرّه.

[٤١] (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرض الكفار عن الإيمان ، ولم ينتهوا عن الكفر والعصيان (فَاعْلَمُوا) أيها المؤمنون (أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) سيّدكم وناصركم ، فلا تخشوهم ، بل أقدموا على محاربتهم ، فالله (نِعْمَ الْمَوْلى) حيث أنه عالم قادر وفيّ بما يعد (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لا يغلبه أحد كما قال سبحانه : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) (١).

__________________

(١) آل عمران : ١٦١.

تقريب القران الى الأذهان

الجزء العاشر

من آية ٤٢ من سورة الأنفال

إلى آية ٩٣ من سورة التوبة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ

____________________________________

[٤٢] وحيث سبق الكلام حول قصة بدر ، يعود السياق ليذكر جوانب أخرى من القصة كما هو عادة القرآن الحكيم ، حيث يبيّن من القصة جوانب معينة فقط ، ثم يبيّن تلك الجوانب في ثنايا آيات أخرى ، لتبقى للقصة ظرافتها ، ولئلّا تكون مملّة ككتب التاريخ التي تسرد القصص ، ولأن يكون للنفس شوق وتلهف إلى القرآن وإلى القصة يسوقان الإنسان إلى التملّي منها. وتبتدئ بذكر الغنيمة والحكم فيها ، كما ابتدأت السورة بذكرها في الجملة فقال سبحانه : (وَاعْلَمُوا) أيها المسلمون (أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) والغنيمة : هي الفائدة مطلقا سواء حصلت من الحرب أو من غيرها ، وإن كان مورد نزول الآية غنائم دار الحرب ، وكلمة «من شيء» للتأكيد ، أي سواء كانت الغنيمة قليلة أو كثيرة (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) أي قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الإمام عليه‌السلام ، فالنصف من الخمس أي عشرة من المائة منه للإمام عليه‌السلام ، إذ حصة الله سبحانه للرسول وحصة الرسول للإمام ، وفي حال الغيبة يدفع هذا النصف إلى نواب الإمام وهم الفقهاء الجامعون للشرائط ، وهم يصرفونه في ترويج الإسلام ، حيث قال الإمام عليه‌السلام : «إن الخمس عوننا على ديننا» (١).

وإنما ذكر «الله» سبحانه تعظيما لأمر الرسول والإمام واحتراما لهما ، حيث قرنا به ، وإلّا فالأموال كلها لله سبحانه (وَ) النصف الآخر من الخمس ل (الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ممن ينتهي نسبه

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٥٤٧.

إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)

____________________________________

إلى هاشم جدّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السادة. ويشترط في هؤلاء الفقر ، وقد عوّضهم الله عن الزكاة التي جعلت لغير السادة ـ إذا كانت من غير السادة ـ ثم أن الأربعة أخماس الباقية من الغنيمة ، تقسم بين المقاتلين في غنائم دار الحرب ، ولصاحب المال في خمس سائر الغنائم ، فإن الخمس يجب في سبعة أشياء : غنائم دار الحرب ، والمكاسب مطلقا ، والغوص ، والكنز ، والمعدن ، والحلال المختلط بالحرام ، والأرض المنتقلة إلى الذمي (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أي لا تطمعوا في كل الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله ، فهو متعلق بقوله «واعلموا» وليس مفهوم الشرط : أن الخمس ليس لهؤلاء إن لم تكونوا آمنتم ، بل مفهومه إن كنتم آمنتم تؤمنون بذلك.

(وَ) إن كنتم آمنتم ب (ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) يعني الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي يوم فرقنا بين الحق والباطل وهو يوم بدر (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المؤمنين من أصحاب الرسول وجمع الكافرين من أهل مكة للقتال ، والمراد ب «ما أنزلنا» الملائكة أو النصر ، إي : إن كنتم مؤمنين بالله وبما أنزل من النصر والملائكة على الرسول يوم بدر ، تؤمنون بهذا الحكم الذي هو كون الخمس للطوائف الستة المذكورين وليس للمقاتلين فيه حق (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر أن ينصر الجماعة القليلة على الجماعة الكثيرة.

[٤٣] إن المسلمين خرجوا من المدينة لإدراك قافلة أبي سفيان التجارية فنزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ونزل جيش المشركين ـ الذين

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ

____________________________________

جاءوا من مكة لإنقاذ القافلة ـ بقيادة أبي جهل على الضفة الأخرى البعيدة من المدينة ، وبين الفريقين ربوة ، أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيش ، ولم يكن كلا الجيشين يعلم بموقع الجيش الآخر حتى أنه لو كان بينهما موعد للقاء لم يجتمعا بهذه الكيفية ولكن الله جمعهما على جانبي الربوة لينصر المسلمين على الكفار ويرى الجميع من الدلائل الباهرة ما يكفي لإتمام الحجة ، وقد رأى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرؤيا جيش المشركين قليلا فأخبر أصحابه بذلك ، فاستبشروا وتشجعوا وأقدموا على القتال ، ولو رآهم كثيرا وأخبر أصحابه بذلك لخافوا ووجلوا فيفشلوا ، ولم تكن الرؤيا كاذبة فإنهم بعددهم الكثير كانوا قليلا في الواقع بالنسبة إلى قواهم المعنوية الضئيلة.

والقرآن الحكيم يبيّن هذا الطرف من القصة بقوله سبحانه : (إِذْ أَنْتُمْ) «إذ» متعلق بقوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) أي أن إنزالنا كان في وقت كنتم أيها المسلمون (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) مؤنث «أدنى» أي العدوة القريبة من المدينة ، و «العدوة» شفير الوادي ، فإن لكل وادي عدوتان أي جانبان (وَهُمْ) أي الكفار (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) مؤنث «الأقصى» بمعنى البعيدة ، أي في الطرف البعيد من الوادي ، وبعده باعتبار المدينة المنورة (وَالرَّكْبُ) أي قافلة قريش التجارية ، وهو جمع «راكب» ، كصاحب وصحب (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي في مكان أسفل منكم إلى جانب البحر ، وليس المراد ب «الأسفل» الانخفاض بل الأبعد.

وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ

____________________________________

والفائدة في ذكر هذه المواطن الإخبار الدال على قوة المشركين وضعف المسلمين وإن غلبتهم في مثل هذه الحالة كان بأمر إلهي وذلك أن العدوة القصوى كان فيها الماء ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وكانت رخوة تسوخ فيها الأرجل وكانت العير وراء ظهورهم مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتحملهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ويبذلون نهاية جهدهم ، ومع ذلك فقد نصر الله المسلمين.

(وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم والكفار على اللقاء في مكان واحد (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) فإنكم كنتم تخافونهم لكثرتهم واستعدادهم ، وهم كانوا يخافونكم لشدة بطشكم ، وما أدخل في قلوبهم من الرعب منكم ، فقد كانت أسباب عدم القتال ، أو القتال بهزيمتكم متوفرة (وَلكِنْ) شاء الله سبحانه وقدّر أن يجمعكم بهذه الكيفية وينصركم عليهم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً) أي ينفذه ويأتي به إلى الوجود (كانَ مَفْعُولاً) أي واجبا أن يفعل ومقدرا أن يكون ، فقد قضى سبحانه إعزاز الإسلام ونصرة المسلمين.

وإنما قضى ذلك (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي ليموت من يموت من الكافرين بعد تمام الحجة عليه ، فإن نصر المسلمين بتلك الكيفية كان من البراهين الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن لم يؤمن بعد ذلك ومات ، كان هلاكه بعد إتمام الحجة عليه (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي يعيش من عاش منهم بعد إتمام الحجة عليه ، وهذا كما

وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ

____________________________________

يقال : «أتممت الحجة على الأحياء والأموات» ، أو المراد من «الهلاك والحياة» الكفر والإسلام ، فقد تقدم أن الحياة الكاملة في الإسلام ، كما أن الكافر ليس إلا ميتا في كثير من الأمور الحيوية ، ولذا يقال عن المؤمن أنه حي ، وعلى الكافر أنه ميت ، كما قال سبحانه : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (١) ، (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بضمائركم ، فإن الحرب غالبا مثار كلام غير لائق ونيات سيئة ، ولذا يذكّرهم سبحانه بوجوب حفظ الألسنة والضمائر عن السوء.

[٤٤] وقد ذكر ما تقدم من نزول النصر (إِذْ يُرِيكَهُمُ) أي يريك (اللهُ) الكفار (فِي مَنامِكَ) يا رسول الله (قَلِيلاً) لتخبر بذلك المؤمنين فتقوى قلوبهم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) أي أراك الله الكفار كثيرا ، ثم أخبرت بذلك المؤمنين (لَفَشِلْتُمْ) أيها المؤمنون وضعفت عزيمتكم في قتالهم ، فإن الفشل هو الضعف عن فزع وخوف (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي في أمر محاربتهم حيث كنتم ترهبونهم ، فيقول بعضكم : نقاتلهم ، ويقول بعض : لا نقاتلهم (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي سلّم المؤمنين عن الفشل والتنازع واختلاف الكلمة (إِنَّهُ) سبحانه (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يدور في صدور الناس من الوساوس وتقلّب

__________________

(١) الأنفال : ٢٥.

(٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ

____________________________________

وجوه الرأي. وقد ذكرنا أن «الإراءة قليلا» لم تكن كذبا بل باعتبار أن الإنسان القوي دائما يرى الكثير قليلا ، بخلاف الإنسان الجبان الذي يرى القليل كثيرا ، هذا بالإضافة إلى أنه محسوس مجرّب ، مبسوط في علم النفس ومشروح.

[٤٥] وحيث تقابل الجيشان رأى المسلمون قلّة المشركين ، لما كانوا يحملونه من القوة في نفوسهم والتصميم والإرادة بتسديدهم وعزمهم ، ورأى المشركون قلة المسلمين حيث كانوا قليلا عددا ، فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة وثلاث عشر بينما كان الكافرون بين التسعمائة والألف ، وحيث كان كل فريق يرى خصمه قليلا تجرّأ الطرفان على القتال مما أدى إلى نصر المسلمين (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) أي يريكم الله أيها المؤمنون ، الكافرين (إِذِ الْتَقَيْتُمْ) أي في زمان لقائكم وإياهم في ساحة القتال (فِي أَعْيُنِكُمْ) أي في نظركم (قَلِيلاً) فكان الكفار في نظر المسلمين قليلين لما عندهم من الإرادة والقوة.

ومن المعلوم أن الحالات النفسية تؤثر في حواس الإنسان الظاهرة ، وقد كان هذا بإرادة الله سبحانه حيث قوّى نفوس المسلمين حتى يروا الكافرين قليلين فيطمعوا فيهم (وَيُقَلِّلُكُمْ) أيها المؤمنون (فِي أَعْيُنِهِمْ) أي أعين الكافرين ، فقد أراد الله سبحانه أن يقلل المؤمنين في نظر الكافرين لئلّا ينسحبوا عن قتالهم ، فلا ينال المؤمنون منهم نيلا ، وقد كان ذلك سبب غرور الكافرين فقد كان أبو جهل يقول لأصحابه : خذوا المسلمين بالأيدي أخذا ولا تقاتلوهم.

لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)

____________________________________

وإنما فعل ذلك سبحانه ، بأن قلّل كل جانب في نظر الجانب الآخر (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ينفذ إرادته في غلبة المسلمين ، التي كانت قد قدّرت. وقد كررت هذه الجملة تأكيدا ، ولإفادة أن النصر كما كان من عند الله ، كان التقليل من عنده أيضا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فإن الأمور كما كانت بقدر الله وقضائه ، كذلك تكون مصائر الأمور إليه ، فبيده المبدأ والمعاد ، وهذا التشجيع للمسلمين في أن يقدموا ، فإن المبدأ والمنتهى بيد ناصرهم ومعينهم وهو الله سبحانه.

[٤٦] وحيث بيّن سبحانه كيف أنه نصر المؤمنين في موقعة بدر مع كون القوى المادية كانت بجانب الكافرين ، أمر المسلمين أن يثبتوا أمام كل مشكلة ، فإن الله بجانبهم دائما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) كافرة أو مخالفة ، ممن عتي عن أمر الله سبحانه (فَاثْبُتُوا) ولا تنهزموا أمامهم ، فإن الثبات يوجب النصر ، وبالعكس الانهزام والفرار يوجبان الفشل والخسران (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) مستعينين به في الحرب والدعوة ، فإن ذكر الله سبحانه يشجّع الإنسان ويقوّي فيه العزيمة ، كيف والإنسان بتكرار الذكر ، تتكون فيه ملكة الاتصال بالقوى الكونية ، هذا بالإضافة إلى أن نصرة الله سبحانه توجب قوة وطاقة خارقة في النفس ، كما ثبت في علم النفس (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تنجحوا وتظفروا وتفوزوا بخير الدنيا والآخرة.

وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)

____________________________________

[٤٧] (وَأَطِيعُوا اللهَ) فيما أمركم (وَرَسُولَهُ) فيما بيّن لكم ـ وقد مرّ مكررا أن قرن اسم الرسول باسم الله سبحانه للتعظيم ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المبيّن ـ (وَلا تَنازَعُوا) فيما بينكم فيقول بعض : نقدم ، ويقول بعض : نحجم (فَتَفْشَلُوا) فإن التنازع يوجب تبديد القوى المعنوية بالإضافة إلى تبديده وإضاعته للقوى المادية (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي دولتكم ، فإن الريح بمعنى الدولة لغة ، أو هو من باب التشبيه ، فإن الدولة تشبّه بالريح لهبوبها وسيطرتها على الأشياء ونفوذ أمرها ، يقال : «هبت ريح فلان» إذا نفذ أمره.

والتنازع ، لا يجزئ القوى إلى سلب وإيجاب فقط ، بل فوق ذلك يضعف القوى الإيجابية. فلو فرضنا أن طاقة زيد تقدّر بألف مقاتل ، فإذا خالفه عمرو قدّرت طاقته بخمسمائة ، حتى أنه لو كان وحده بدون مخالف لقدرت طاقته بألف ، وذلك لأن المخالف يحدّ من النشاط ويضعف من القوى ، بخلاف التجمع فإنه يزيد الطاقة الألفية إلى الألفين. ولذا ثبت في علم النفس أن الإنسان إذا رأى خلافا فالأفضل أن يصمّ عن المخالف حتى يبقى على قواه الذاتية ، ولا تحد من نشاطه الطاقة المناوئة.

(وَاصْبِرُوا) والفرق بين الثبات والصبر ، أن الصبر يلائم حالة الهزيمة والنصر ، وهو مقابل الجزع ، والثبات مقابل الانهزام ، ومن الواضح أن الصابر يصل إلى مطلبه ولو انهزم وقتيا (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والظفر ، وليس المراد المعية الجسمية ، كما هو واضح.

وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)

____________________________________

[٤٨] (وَلا تَكُونُوا) أيها المؤمنون (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) من أهل مكة (بَطَراً) «البطر» الخروج من موجب النعمة بالكفر ، من «بطر» يعني «شق» ، ومنه «البيطار» لأنه يشق اللحم بالمبضع ، فقد خرج الكفار من مكة بالمعازف والطبول (وَرِئاءَ النَّاسِ) فإنهم لما خرجوا ملئوا خوفا ورعبا من المسلمين ، ولكن خرجوا ليظهروا أنهم لا يبالون بالمسلمين ويظهروا شوكتهم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هذا مقابل قولهم أنهم أولى بالبيت من المسلمين. والمراد ب «الصد» المنع عنه ، حيث كانوا يقفون دون تبليغ الأحكام (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) إحاطة علم وقدرة فيجازيهم بما عملوا.

قال ابن عباس : أنه لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش أن ارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ـ وكان بدر موسم من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ـ فنقيم بها ثلاثا ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا (١).

وإلى هذا أشارت الآية الكريمة ، فإن المسلمين يجب أن يكونوا مؤدبين بآداب الله سبحانه حتى في حالة الحرب.

[٤٩] في موقعة بدر جاء إبليس إلى كفار مكة في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : إني جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه وجاء

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٣٦.

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ

____________________________________

بشياطينه يهول بهم على أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لأصحابه : غضوا أبصاركم وعضوا على النواجذ ولا تسلّوا سيفا حتى آذن لكم. ثم رفع يده إلى السماء فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت لا تعبد ، لا تعبد» (١) ثم أصابه الغشي فسري عنه وهو يسلت العرق عن وجهه وهو يقول : هذا جبرائيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين. فنظروا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لامع قد وقع على عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقائل يقول : أقدم حيزوم ، أقدم حيزوم. وسمعوا قعقعة السلاح من الجو ونظر إبليس إلى جبرائيل فتراجع ورمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال : ويلك يا سراقة تفت في أعضد الناس ، فركله إبليس ركلة في صدره وقال : إني بريء منكم.

(وَ) قد كان ذلك (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي في وقت حسّن الشيطان أعمال المشركين في نظرهم بأن شجّعهم على قتال المسلمين ، ويحتمل أن يكون «إذ» معمولا لفعل مقدّر هو «اذكر» (وَقالَ) الشيطان للكفار : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرتكم وقوتكم فانهضوا لقتال المسلمين ـ في بدر ـ (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من الإجارة ، ناصر لكم على عدوّكم (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي التقت ، فرقتا المسلمين والكافرين

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٥٥.

نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ

____________________________________

(نَكَصَ) الشيطان أي رجع (عَلى عَقِبَيْهِ) أي متقهقرا منهزما ، فإن الإنسان إذا أراد أن يتقهقر اعتمد على عقب رجليه ، وهذا تشبيه لإفادة الفرار مع الجبن ، فإن الجبان لا يدبر خوفا من أن يلحقه الطلب.

(وَقالَ) الشيطان للكفار : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) فلا صلة بيننا ، ولا أفي بما ضمنت لكم من الإجارة والنصر (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) فقد رأى الشيطان الملائكة وكان يعرفهم ، وعلم أنه لا طاقة له بهم ، كما أن الملائكة كانت تعرف الشيطان (إِنِّي أَخافُ اللهَ) بأن يعذبني على أيدي الملائكة (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) لا يطاق عذابه.

وفي بعض التفاسير : وإنما قام الشيطان بهذا العمل ـ أي تشجيع الكفار ـ لأن الله سبحانه شاء أن يخرجهم إلى حرب المسلمين ، فتنكسر شوكتهم وتذهب ريحهم ويتحطم كبرياؤهم.

ومن الانهزامية المادية أن نأوّل هذه الآية كسائر الآيات المبينة لما وراء المادة ، بتأويلات لا تنافي الأمور المادية ، فإن التأويل إنما يصح إذا دل عقل أو نقل قطعي على خلاف الظاهر ، أما إذا لم يدل دليل ولم تكن هناك قرينة ، فأي مبرّر لأن نترك الظاهر بمجرد أنه يلائم الأمور المادية ، ولو فتح هذا الباب للزم أن نقول بذلك حتى في القرآن الحكيم نفسه ، إذ هو أيضا أمر خارج عن طوق المادة.

[٥٠] كان تزيين الشيطان للمشركين قتالهم مع المسلمين (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ)

وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ

____________________________________

أي في حال صدور هذه المقالة عن المنافقين ، والمراد بهم إما الكفار ، فإن الكافر باعتبار أنه يعلم الواقع ويظهر خلافه يسمى منافقا ، وإما المسلمون المنافقون (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إما عطف بيان ، أو يراد أحد اللفظين المسلمون المنافقون ، وبالتالي الكفار ، والمراد بالمرض مرض الانحراف عن المنهج المستقيم ، فإن البدن كما يصاب بالأمراض الجسمية ، كذلك الروح تصاب بالأمراض الخلقية ، فالبخل والحسد والجبن وما أشبه أمراض (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي غرّ المسلمين دينهم حتى خرجوا مع قلّتهم وصمّموا على قتال الكفار الأقوياء عددا وعدّة (وَ) ليس الأمر كذلك فإنه (مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فيسلم أمره إليه ويثق به (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغلب ، وكذلك لا يغلب المتوكلون عليه (حَكِيمٌ) فيما يفعل ، يضع الأمور مواضعها ، فلا يترك المسلمين ولا يخذلهم ، بل ينصرهم على الكافرين ، فإنه له القوة يمنحها المتوكلين عليه ، وله الحكمة يدبّر بها الأمور.

[٥١] إن الكافرين كان مبدأ أمرهم ـ في مقابلة المسلمين ـ الانهزام ، فلننظر إلى مصيرهم (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله ، أو المراد كل من تتأتى منه الرؤية (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) أي تقبض الملائكة أرواح الكفار عند موتهم (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ)

وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)

____________________________________

أي يضربونهم من الأمام ومن الخلف ، كما يضرب المجرم الكثير الاجرام (وَ) يقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي العذاب الذي يحرق.

وقد روي أن الملائكة كانت تضرب قتلى المشركين في بدر بالمقامع فتلهب جراحاتهم بالنار وتزهق أرواحهم (١). والإتيان بصيغة الأمر في «ذوقوا» لتصوير المشهد كأنه مجسّم أمام المخاطب ، وهو من باب الإلفات ، كما ذكر في علم البلاغة.

[٥٢] (ذلِكَ) العقاب لكم أيها الكفار (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي بما قدّمتم وفعلتم من الكفر والمعاصي ، وإنما نسب إلى اليد ، للتغليب ، فإن كثيرا من الأعمال تأتي بواسطة اليد (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) «ظلّام» صيغة للنسبة ، لا مبالغة ، كتمّار بمعنى المنسوب إلى التمر. قال ابن مالك :

ومع فاعل ، وفعّال ، فعل

في نسب أغنى عن اليا فقبل

ومن المحتمل أن تكون مبالغة ، وذلك لإفادة أنه سبحانه لو كان ظالما لكان كثير الظلم لأن كل صفة تصحّ فيه تعالى لا بد وأن تبلغ شأنا كثيرا ، فنفي المبالغة نفي للأصل ، والمعنى : إن العقاب ليس إلا بسبب جناية العبد ، لا أنه اعتباطي منه سبحانه.

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٨٠.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ

____________________________________

[٥٣] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب : العادة ، والكافر للتشبيه ، أي أن عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كعادة آل فرعون وهم قومه وأتباعه (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من أقوام الأنبياء ، في الكفر بالرسل وتكذيبهم ، فليس تكذيب هؤلاء جديدا ، فإن السابقين عليهم أيضا (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) وما أنزل على الأنبياء (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) بأن عاقبهم وأنزل عليهم أنواع العذاب (إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) لا يقدر أحد على التمرد عليه ، فإذا أراد أخذ أحد أخذه أخذ عزيز مقتدر (شَدِيدُ الْعِقابِ) وليس عقابه يسيرا هيّنا حتى لا يخشى منه.

[٥٤] (ذلِكَ) العقاب الذي حلّ بأولئك وهؤلاء ، ليس اعتباطا وابتلاء من الله سبحانه بلا استحقاق بل بسبب عملهم ، لأن (اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما) أي الحالة الصحيحة التي كانت (بِأَنْفُسِهِمْ) إن الصحة والرخاء والأمن والغنى أحوال لاصقة بأنفس الناس ، منحها الله إياهم ، وطلب أن يعملوا برضاه فيها ، فإذا غيّروا ما طلب منهم بالنسبة إليها ، بأن صرفوا تلك النعم إلى المعاصي ، غيّر الله تلك النعم فأبدل الصحة مرضا ، والرخاء ضنكا ، والأمن اضطرابا ، والغنى فقرا. وهذا بالإضافة إلى كونه مرتبطا بما وراء المادة ، مرتبط بالمادة أيضا ، فإن الصحة تنحرف باستعمال

وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ

____________________________________

المحرمات الضارة ، والرخاء ينحرف بعدم التعاون والعداء مما يسبب تفكك المجتمع فلا يزرع بمقدار ما كان التعاون يسببه ، وهكذا ، والأمن ينحرف إذا نوى كل إنسان الشر بأخيه ، والغنى ينحرف إذا كسل الناس عن العمل أو عملوا أعمالا غير مثمرة لا تفيد مالا.

ومن المعلوم أنه لا يلزم أن يكون الناس مؤمنين ثم يكفرون ، بل هنالك مناهج بشرية عامة قرّرها سبحانه إذا سادت المجتمع كانوا في أمن ورفاه ، فإذا غيّروها تغيرت النعمة ، مثلا الظلم والقتل قبيحان ، والتعاون والإحسان حسنان ، أما بالنسبة إلى من بدّل الإيمان كفرا ومناهج الشريعة أهواء ، فذلك أوضح (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع أقوال الناس (عَلِيمٌ) بضمائرهم ، فإذا رأى تغييرا في النيات ، وانحرافا في الكلمات غيّر ما أعطاهم من نعمة وما تفضّل عليهم من أمن وراحة.

[٥٥] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي أن عادة هؤلاء الكفار كعادة آل فرعون (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من سائر الأمم. وإنما كرّر لتأكيد أن الحالة هي الحالة ، فإن كثيرا من الناس لا يصدقون أن ما جرى في الأمم السابقة تجري في هذه الأمة ، ولذا يحتاج الأمر إلى تركيز وتقرير ، وذلك لا يكون إلا بالتكرار والتذكير مرة فمرة (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) دلائله وحججه (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) فلم يموتوا ميتة طبيعية ، وإنما أخذوا بالعذاب (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) مع فرعون نفسه ، فإنه قد يطلق «الآل» على الأعم من الشخص

وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦)

____________________________________

للتغليب ، كما تقدم في قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) (١) ، (وَكُلٌ) من تلك الأمم التي أهلكناهم (كانُوا ظالِمِينَ) وتخصيص الكلام بآل فرعون ، لأن كفرهم وعقوبتهم كانت ظاهرة واضحة لدى السامعين.

[٥٦] (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) الدابة : كل ما يدبّ على وجه الأرض ، لكن المنصرف منها الحيوان ، وشرّ الجميع (عِنْدَ اللهِ) في حكمه (الَّذِينَ كَفَرُوا) واستمروا على كفرهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) «الفاء» لعطف جملة على جملة. ولا يقال : إن الدواب لا شر فيها ، فكيف يجعل الكافر شرا منها ، لأنه يجاب عنه : بأن من الدواب ما فيها شر كالسامة والمؤذيات. والتي ليس فيها شر ، يعدّ شرا باعتبار أنها لا تهتدي طريقا ، وليس المراد بالشر هذا المعنى فقط.

[٥٧] ثم بيّن سبحانه المصداق الظاهر لذلك بقوله : الكفار (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) عهد حسن الجوار بأن تكون في أمن منهم ، وهم في أمن منك (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي كلّما عاهدوا نقضوا العهد ولم يفوا به (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) الله ولا يخافون عقابه ، أو لا يتقون نقض العهد. والظاهر من الآية أن ذلك كان دأب بعض الكفار.

وفي «المجمع» : عن مجاهد أنه أراد به يهود بني قريظة فإنهم قد

__________________

(١) آل عمران : ٣٤.

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ

____________________________________

عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يضرّوا به ولا يمالئوا عليه عدوا ، ثم مالئوا عليه الأحزاب يوم الخندق وأعانوهم عليه بالسلاح ، وعاهدوا مرة بعد أخرى فنقضوا (١).

[٥٨] وما هو جزاء هذه الفئة التي هي شرّ من الدواب ولا تلتزم حتى بالعهود؟! (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) «إن» الشرطية و «ما» زائدة ، و «ثقف» بمعنى : ظفر ، أي إن ظفرت بهم يا رسول الله (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) «التشريد» هو التفريق ، أي نكّل بهؤلاء تنكيلا وفرّقهم تفريقا حتى يتعثّر بهم من هم ورائهم من الذين عاهدوا معك ، حتى يخافوا فلا ينقضوا العهد. فتكون الآية دالّة على أمرين : الأول : تأديب هؤلاء الناقضين للعهد. الثاني : إلقاء الرعب في قلوب الآخرين لئلّا ينقضوا عهدهم (لَعَلَّهُمْ) أي لعلّ من خلفهم (يَذَّكَّرُونَ) أي يتذكرون أن نقض العهد يوجب مثل هذا التأديب فلا يقدموا على مثله ، فإن نقض العهد من أسوأ الأعمال ، إذ يدل ذلك على أن المعاهدة كانت للضعف ، فكلّما وجد أحد المعاهدين سبيلا إلى نقضه نقضه ، وهذا يوجب سقوط قيمة المعاهدات ، وأن لا يكون المتعاهدون بعضهم في أمن من بعض. أما الخدعة في الحرب فليست قبيحة إذ تلك بعد تأهّب كل فريق.

[٥٩] (وَإِمَّا تَخافَنَ) «إمّا» مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة ، تأتي

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٨٣.

مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨)

____________________________________

للتوسع في معنى الشرط ، يعني : ولو كان الاحتمال ضعيفا ، إن لم تدخل نون التأكيد ، وإلّا أفادت التأكيد في الشرط ، بأن يكون الاحتمال قويا (مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) أي إن خفت يا رسول الله من قوم من هؤلاء المعاهدين خيانة ، بأن يخونوا عهدك ويحاربوك فجأة بعد إبرام الميثاق (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي ألق المعاهدة بينك وبينهم ، إلقاء منتهيا إليهم ، بمعنى أعلمهم عن إلقاءك للعهد ، حتى يكون كلا الطرفين على سواء في الأمر ، لا أن يكونوا هم بصدد المباغتة وأنتم في أمن ودعة منهم ، فإن الإنسان إذا علم أن خصمه في عهد يأمن ، أما إذا علم أنه في حرب يستعد ، أما أن يبقى متزلزلا يخاف خيانته ، فإنه في اضطراب وارتباك ، والعهد في نظر العرف ليس مما إذا أبرم دام ، بل معلق بنقضه من الطرفين مع الاعلام (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي فلا تخنهم يا رسول الله بالقتال فجأة بدون إعلام ، بل أعلمهم النقض ثم إذا أردت قتالهم ، فقاتلهم بعد الاعلام.

وعن بعض المفسرين : إن الآية نزلت في بني قينقاع من اليهود ، فإنه كان بين النبي وبين أولئك معاهدة ، وحيث أن اليهود كان من طبعهم الخيانة خاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، ولذا حلّ العهد الذي بينهم ، لئلّا يباغتوه وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمن منهم. ثم صارت بينهم المحاربة (١).

[٦٠] إن الكفار بنقضهم العهد دون الاعلام ، وخيانتهم وغدرهم ـ كما صدر

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٨٥ ، عن الواقدي.

وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ

____________________________________

من بني قريظة ـ يظنون أنهم قد سبقوا ، وأدركوا فرصة ذهبية سببت عجز المسلمين ، لكنه ليس كذلك (وَلا يَحْسَبَنَ) يا رسول الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) بنقضهم العهد وغدرهم (سَبَقُوا) واستفادوا من فرصة المباغتة والسبق (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي أن هؤلاء الكفار لا يعجزون المسلمين ، بمعنى أنهم بغدرهم لا يسببون عجز المسلمين ، بل الله سبحانه ناصرهم ، فإن الله سبحانه في عون الوفيّ لا الغادر ، ولذا ذهب بنو قريظة أدراج خيانتهم ، بينما غلبهم المسلمون.

[٦١] (وَأَعِدُّوا) أيها المسلمون ، والإعداد هو التهيئة قبل وقوع الأمر (لَهُمْ) أي للكفار (مَا اسْتَطَعْتُمْ) ما قدرتم عليه (مِنْ قُوَّةٍ) دفاعية وهجومية ، بتهيئة وسائل الحرب ، حتى تكونوا دائمي الاستعداد ، سواء هاجمتم أو هوجمتم. ولعل إطلاق القوة يشمل جميع أنحاء القوى المادية والمعنوية وغيرها (وَ) ما استطعتم (مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي ربط الخيل واقتناءها للجهاد والحرب (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي تخوّفون بسبب إعداد ما استطعتم (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) فإن الكافر عدو الله لمخالفته له ، وعدو المسلمين كما هو واضح. ولعل المراد بهم : أهل مكة ، فإنهم كانوا ظاهري العداوة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي ترهبون به كفارا آخرين دون أولئك في العداوة ، أي أن عداوتهم أضعف ، أو دون أولئك في المحل كبني قريظة الذين كانوا قريبين من المدينة (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي لا تعلمون أيها المسلمون أنهم أعداء لكم

اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ

____________________________________

(اللهُ يَعْلَمُهُمْ) حيث يعلم ما بطن من الأمور.

وهذا درس للمسلمين بأن يستعدوا لأي عدو لئلّا يباغتوا (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) فإن الحرب تحتاج إلى الإنفاق ، ولذا يقرن غالبا الجهاد بالإنفاق في الآيات الكريمة (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يرجع إليكم في الدنيا بالغنيمة وشبهها ، وفي الآخرة بالثواب الجزيل (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا يظلمكم الله تعالى بأن يعطيكم أقل مما أخذ منكم.

[٦٢] (وَإِنْ جَنَحُوا) الجنوح : الميل ، ومنه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد طرفيه ، أي إن مال الكفار (لِلسَّلْمِ) وعدم الحرب (فَاجْنَحْ لَها) أي مل إليها واقبلها منهم ، و «السلم» مؤنث سماعي ، ولذا جيء بالضمير مؤنثا (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوّض أمرك إليه ، فلا تخف أن تفوتك الفرصة ، فإن السلم أحرى أن تلين القلوب فيه ويكفي مؤونة أتعاب الحرب (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوال الطرفين (الْعَلِيمُ) بنياتهم ، فلا يفوته غدر غادر وسلم مسالم. ومن المعلوم أن الجنوح للسلم إذا كان من مصلحة المسلمين فلا ينسخ قوله : (قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) ، هذه الآية ، بل كلّ في مقام المصلحة.

[٦٣] (وَإِنْ يُرِيدُوا) أولئك الذين يجنحون للسلم (أَنْ يَخْدَعُوكَ) بأن

__________________

(١) التوبة : ٣٦.

فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)

____________________________________

يجدوا فرصة لتهيئة العدّة للغدر بك وقتالك (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) هو يكفيك شرهم ، ويتولى أمورك ، فإنه كما كفاك سابقا يكفيك الآن (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ) أي قوّاك (بِنَصْرِهِ) أي النصرة التي أنزلها عليك (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي أيدك بالمؤمنين الذين التفوا حولك ، فتمكنت أن تبارز بهم الأعداء.

[٦٤] (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) المتنافرة حتى يكونوا قوة واحدة في وجه الأعداء ، فإن وحدة الكلمة من أهم أسباب النصر ، وقد كانوا قبل الإسلام في أشد حالة من العداوة والبغضاء حتى أنه كان بين الأوس والخزرج عداوة وقتال دام أكثر من مائة سنة (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فإن المال يزيد العداوة ، فإنه يكون وقودا لها ، وإنما أزال الله سبحانه الضغائن بتصفية القلوب وتطهير أدران النفوس (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بهدايتهم للإسلام المطهّر للعداوة عن الأفئدة (إِنَّهُ) سبحانه (عَزِيزٌ) غالب على أمره ، فإذا أراد شيئا أوجده (حَكِيمٌ) بحكمته وتدبيره يدبّر الأمور ويديرها.

[٦٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) أي يكفيك في مقابلة الأعداء (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فإنهم كافون بالنسبة إلى القوى الظاهرة ، وهذا تشجيع

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥)

____________________________________

للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلّا ينظر إلى كثرة الأعداء ، كما جرت العادة في الحروب العادية.

قال بعض المفسرين : نزلت في البيداء قبل الشروع في القتال في وقعة بدر (١).

[٦٦] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ) أي رغّب (الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) بذكر فوائده وآثاره وأنهم يسودون بسببه ويحوزون الأجر والثواب في الآخرة لأجله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (عِشْرُونَ صابِرُونَ) على القتال (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من الكفار فكل واحد من المؤمنين في قبال عشرة من الكافرين (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك لأن الإيمان والتضحية طاقتان عظيمتان تبدّلان الإنسان العادي إلى شخص شجاع مقدام ، وذلك الضعف في الكفار بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون ، فمن يحارب عن معرفة وإيمان يزوّد بما لا يزوّد به الإنسان الخليّ من العقيدة والدين ، وإن من عرف أنه إن قتل دخل الجنة وإن قتل دخل الجنة ، كان قوي القلب في مقابل من لا يفقه ذلك.

[٦٧] إن الفئة إذا كانت قليلة كانت الطاقة الإيمانية فيها قوية جدا ، وذلك لأنها تتقوّى حتى تتمكن من مقابلة القوي ، وهذا أمر بيّن في علم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٤٩٠ ، عن الكلبي.

الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)

____________________________________

النفس ، فالنفس القوية تأتي بما تحير العقول فيه ، إما إذا كثرت الفئة فإن روح الاتكالية تقوى فيهم ، وبمقدار ارتفاع نسبة الاتكالية ، تنخفض القوة والطاقة ، ولذا نرى الأمم أول تكوّنها أنشط منها في أواسط حياتها ، فكيف بأواخرها ، وهذا هو السبب في أن خفّف الله الحكم عن المؤمنين بعد أن كثروا ، (الْآنَ) وبعد أن كثرتم أيها المؤمنون (خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) في لزوم مقابلة الواحد منكم لعشرة من الكفار (وَعَلِمَ) الله (أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) عطف على «الآن» لا على «خفف» والمراد بالضعف : ضعف الطاقة ، لا ضعف الجسد (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) أيها المسلمون (مِائَةٌ صابِرَةٌ) تصبر على المكاره (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) من الكفار (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ) صابرين (يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) من الكفار (بِإِذْنِ اللهِ) وإرادته حيث أراد لكم أن تكونوا أقوى من عدوكم بما وهب لكم من الإيمان ، فإن الرجل منكم يعادل رجلين من العدو ، فإنه وإن كان أضعف من الحكم السابق ولكنه أيضا بإذنه سبحانه (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ينصرهم ويعينهم.

ولعل الحكمين تابعان لحالة نفوس المسلمين في كل دور ، فمتى رأوا قوة من أنفسهم كان العشرة منهم بمائة ، ومتى رأوا الضعف من أنفسهم كان العشرة منهم بعشرين ، فلا نسخ في البين ، والله العالم.

[٦٨] أسر المسلمون يوم بدر سبعين أسيرا فقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ثلاثة ، وخاف

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)

____________________________________

المسلمون أن يقتلهم جميعا فتقدموا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخذ الفداء منهم رغبة في المال ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أن قتل بعضهم أصلح ، كما كان كذلك شأن الأنبياء قبله ، وذلك لأن رؤوس المؤامرات إذا أطلقوا عاثوا في الأرض فسادا وعادوا إلى المجتمع بأكثر قتلا وفتكا ، لكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل طلب هؤلاء لأمر أصلح وهو أن لا يختلف أصحابه بما يعود بأكثر ضررا ، فنزلت هذه الآية توبيخا للمسلمين :

(ما كانَ لِنَبِيٍ) أي ليس له ، ولم يكن في عهد الله إليه (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) بأن يأخذ الأسير ثم يطلقه منّا ، أو في مقابل الفدية (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) الإثخان : التغليظ ، أي يحمل الأرض ثقلا بالقتلى ، أو المعنى : حتى يغلب في الأرض ليخاف الكفار سطوته ، فإنهم إن علموا أنهم إن وقعوا أسرى فدّوا وتحرروا ، جرّأهم ذلك على الاستمرار في المؤامرة والمكايدة ، لكنهم إن عرفوا أن وراءهم القتل ، قلت جرأتهم ، وسلمت الدولة من شرهم.

فهل (تُرِيدُونَ) أيها المسلمون (عَرَضَ الدُّنْيا) أي المصالح الدنيوية ، وسمي عرضا لأنه لا يبقى ، والمراد به هنا : المال المأخوذ فدية (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فإنكم إن صرفتم النظر عن المال لأجل ثواب الله سبحانه ، كان خيرا لكم (وَاللهُ عَزِيزٌ) ذو قوة ومنعة ، فاعملوا بأوامره حتى يقويكم (حَكِيمٌ) يدبر الأمور بحكمته البالغة ، فما يأمر به هو المصلحة دون ما تظنون.

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)

____________________________________

[٦٩] (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي لو لا أن الله سبحانه كتب سابقا أن لا يعذب الناس حتى يبيّن لهم ، كما قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، (لَمَسَّكُمْ) أيها المسلمون (فِيما أَخَذْتُمْ) من الفدية (عَذابٌ عَظِيمٌ). إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عليه غضاضة لأنه لاحظ الأصلح من توحيد كلمة أصحابه حيث قبل أخذ الفدية مكرها ، أما المسلمون فقد استحقوا العقوبة حيث رجّحوا المال على ما فيه خيرهم ورغبة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ورد في الحديث : أن الفدية كانت أربعين أوقية من الفضة ، كل أوقية أربعين مثقالا ، إلّا العباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أخذ منه مائة أوقية (٢).

[٧٠] أما إذا انتهى الأمر وأخذتم الفدية فلا بأس في أكلكم لها (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) من الكفار (حَلالاً طَيِّباً) والطيب إذا قورن بالحلال أفاد معنى عدم نفرة الطبع منه في مقابل الحلال الذي ينفر منه الطبع (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا أوامره (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) قد غفر ذنبكم في أخذكم الفدية (رَحِيمٌ) يرحمكم فيما بعد بلطفه ، مقابل بعض الكبار الذين إذا غفر ذنب المذنب ، ينتهي الأمر عند ذلك ، فلا يرحمه بعد ذلك.

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

(٢) عوالي اللآلي : ج ٢ ص ١٠١.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ

____________________________________

[٧١] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) أي تحت استيلائكم ، وذكر «اليد» لأنها تكون الآخذة للأشياء غالبا (مِنَ الْأَسْرى) جمع أسير ، والمراد بهم أسرى بدر الذين أسرهم المسلمون (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) بأن لم تكن قلوبكم محشوة بالحقد والعداوة بل طاهرة نظيفة (يُؤْتِكُمْ) أي يعطيكم (خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء ، وإنما يعطيكم ذلك لطفا ورحمة لا استحقاقا وعوضا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم. ومن المعلوم أن ذلك مشروط بالإيمان (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد كان العباس بن عبد المطلب يقول : نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي ، كان معي عشرون أوقية ذهبا فأخذت مني فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا كل منهم يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية.

[٧٢] ثم سلّى الله سبحانه نبيّه حول إطلاق الأسرى بالفداء نزولا عند رغبة أصحابه ، بأنه لا يهمّه ما لعل الطلقاء يقومون به من مؤامرة جديدة ضده (وَإِنْ يُرِيدُوا) أي يريد الطلقاء (خِيانَتَكَ) بأن يكون في نيّتهم تجديد المؤامرة (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) في قصة خروجهم إلى بدر (فَأَمْكَنَ) الله المسلمين (مِنْهُمْ) فقتلوهم وأسروهم ، والله قادر على أن يمكّن المسلمين منهم ثانية إن خافوا منهم. وسمى خروجهم إلى

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا

____________________________________

بدر خيانة باعتبار وجوب شكر المنعم ، لا باعتبار سبق معاهدة ، فإنك إذا أنعمت وتفضلت على أحد ، ثم قام ضدك يقال : أنه خانك (وَاللهُ عَلِيمٌ) بإرادتهم الخيانة وعدمها (حَكِيمٌ) يدير الأمور حسب الحكمة ، فهم في قبضة علمه وإرادته لا يتمكنون من الإضرار بك.

[٧٣] وبمناسبة ذكر الحرب وعلاقة المسلمين بالمشركين ، يأتي ذكر علاقة المسلمين بعضهم ببعض ، وأنها علاقة الإيمان والعقيدة والهجرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا) أي حاربوا الكفار (بِأَمْوالِهِمْ) بأن بذلوها في سبيل الجهاد (وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ويأتي ذكر «سبيل الله» في كل مناسبة للتنبيه على أن حركة المسلمين ليست إلا لإعلاء كلمة الله (وَالَّذِينَ آوَوْا) أي الأنصار من أهل المدينة الذين جعلوا للرسول والمهاجرين مأوى بأن أسكنوهم في منازلهم ، فإن المهاجرين لم يكن لهم مسكنا حين وردوا المدينة فأسكنهم الأنصار معهم في بيوتهم (وَنَصَرُوا) أي نصروا الرسول والمهاجرين على أعدائهم (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وليست هنالك ولاية بين المسلم وقريبه الكافر ، والولاية كلمة عامة تشمل أقسام الولاية والنصرة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) إلى المدينة ، بل بقوا في مكة

ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ

____________________________________

اختيارا (ما لَكُمْ) أي ليس لكم أيها المسلمون (مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لأنهم خالفوا أمر الرسول وأضعفوا ـ ببقائهم في مكة ـ كيان المسلمين (حَتَّى يُهاجِرُوا) كما هاجرتم (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) أي طلب المؤمنون غير المهاجرين منكم أيها المهاجرون أن تنصروهم على أعدائهم الكفار ، في الأمور الدينية (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) ومن المعلوم أن النصرة غير الولاية المطلقة ، لأن المسلمين في المدينة كان ينصر بعضهم بعضا ، ويسكن أحدهم الآخر في داره ، ويجتمعون في السلم والحرب ، وأخذ الغنائم ، ويتفقد أحدهم الآخر ، كأهل بيت واحد ، بخلاف النصر المجرّد على الكافر الذي قرّره سبحانه للمسلمين في مكة.

(إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ) أيها المسلمون المهاجرون (وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فإذا استنصركم المسلمون في مكة على كفار معاهدين معكم ، فلا تخرقوا المعاهدة ، ولا تنصروا المسلمين ، لأن المسلم لا يغدر بعهده ، ولا ينقض ميثاقه وإن كان مع الكافر (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تتركوا موالاة المهاجرين ، ولا تتولوا غير المهاجرين.

[٧٤] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ليسوا لكم بأولياء وإن كانوا أقرباؤكم بالنسب أو باللغة أو بالوطن بل (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ينصر بعضهم بعضا

إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا

____________________________________

ضدكم وإن اختلفوا. وبهذا المعنى ورد : «الكفر كله ملة واحدة» (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي إن لم تفعلوا ما أمرتم به من ولاية المؤمنين ، واعتبار الكفار كلهم ملّة واحدة ، بأن عاديتم المؤمنين أو واليتم الكافرين (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) لأن في ذلك تعزيزا للكفر وإذلالا للإسلام ، وقد دلّ منطق التاريخ أن كل وقت اتخذ فيه المسلمون الكافرين أولياء ، ضعفت شوكتهم وذهبت ريحهم ، وبالعكس كل وقت اتخذوهم فيه أعداء ، واتخذوا سائر المسلمين أولياء ، قويت شوكتهم وهبت ريحهم.

[٧٥] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته وتطبيق حكمه (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) من أهل المدينة الذين أعطوا المسلمين مأوى ونصروهم على أعدائهم (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لقيامهم بجميع شرائط الإيمان (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الله لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي مع الكرامة في الدنيا وفي الآخرة ، فإن المؤمنين إذا ما عملوا بشرائط الإيمان تمّت عليهم بركات من السماء والأرض.

[٧٦] (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) في المستقبل ـ حتى لا يظن أن الأمر تمّ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (وَهاجَرُوا) والهجرة باقية مهما كان الإنسان في دار

وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)

____________________________________

الكفر مما لا يتمكن معه من إظهار معالم الإسلام (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) ولو بنحو المعية المعنوية بأن كان جهادهم مع المؤمنين وفي جماعتهم (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) في الأجر والثواب وخير الدنيا (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي ذوو الأرحام والقرابة (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله. وهذا أخص من الحكم الأول ، فالقريب المسلم الجامع للشرائط أولى بقريبه المسلم الجامع للشرائط من البعيد المسلم الجامع للشرائط في جميع الجهات التي منها الإرث. ويفهم من الآية أن الأقرب من الرحم أولى من الأبعد (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فما يذكره من الأحكام إنما هو حسب الحكمة والمصلحة ، لأنه يصدر عن علم واطلاع.

وفي بعض التفاسير : إن هذه الآية نسخت الآية السابقة (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فإن كان هناك دليل صحيح في الدين يدل على ذلك فهو ، وإلا فظاهر الآيتين غير متناف حتى نحتاج إلى القول بالنسخ ، والله العالم (١).

__________________

(١) راجع تفسير القمي : ج ١ ص ٢٨٠.

(٩)

سورة التوبة

مدينة / آياتها (١٢٩)

تسمى هذه السور ب «سورة براءة» لأنها تبتدئ بهذه الكلمة ، كما تسمى بالتوبة ، لكثرة اشتمالها على مشتقات هذه الكلمة. ولم تبتدئ هذه السورة ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأنها نزلت لإعلان الحرب على الكفار والمنافقين ، وذلك ينافي «البسملة» التي تحمل في معناها الرحمة والسلام. ولما اختتمت سورة الأنفال بعلاقة المسلمين بعضهم مع بعض ابتدأت هذه السورة بعلاقة المسلمين بالكافرين.

بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ

____________________________________

[١] (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي هذه براءة ، على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أو «براءة» مبتدأ خبره «إلى الذين». ومعنى البراءة : انقطاع العصمة ، يقال : «برأ يبرأ من فلان» إذا قطع ما بينهما من الصلة. والمعنى : أن لا عصمة بين المسلمين وبين الذين عاهدوهم من المشركين ، فقد كان بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين المشركين معاهدات ، لكنهم غدروا ، ولذا أجّلهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة أشهر ، فمن كان له معاهدة أعلمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يبقى على المعاهدة إلى أربعة أشهر ، ثم هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرب عليه فليتخذ حذره.

ولم يكن هذا نقضا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل نقضا منهم ، ولذا قال سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) (١). وقد شاء الله سبحانه أن يطهر الجزيرة التي أصبحت عاصمة الإسلام عن رجس الشرك والنفاق لتتوحد فيها الكلمة ويكون للمسلمين دولة مرهوبة الجانب ليفرغوا إلى الروم والفرس.

[٢] (فَسِيحُوا) أيها الكفار (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) معنى «السيح» السير ، يقال : «ساح» إذا سار على مهل. أي : أنتم في مهلة بأن تسيروا آمنين وتتصرفوا في حوائجكم بكل تأن وطمأنينة إلى أربعة أشهر من ابتداء الإعلان ، وهو من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر ، فإذا

__________________

(١) التوبة : ٤.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)

____________________________________

انقضت هذه المدة فليس لكم عهد ولا أمان ، والمحاربة معكم لا تعتبر غدرا ومباغتة (وَاعْلَمُوا) أيها الكفار (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تتمكنون من أن تعجزوه وتغلبوه ، بل هو القادر على أن يخزيكم بأيدي المسلمين ، فلا تفكروا في محاربة المسلمين (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) «الخزي» النكال ، أي أنه سبحانه ينكل بهم وينتصر عليهم.

روى المفسرون أنه لما نزلت سورة براءة دفعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي بكر ليذهب إلى الحج فيقرأها على المشركين ، فلما مضى بعض الطريق جاء جبرئيل عليه‌السلام إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : إن السورة لا يبلغها إلا أنت أو رجل من أهل بيتك ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا أن يخرج ويأخذها من أبي بكر ، فرجع أبو بكر وذهب علي عليه‌السلام وقرأ السورة على الكفار في منى ثلاثة أيام ، يوم العاشر من ذي الحجة ، والحادي عشر ، والثاني عشر منه ، فكان يخرط سيفه ويقول : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يدخل البيت إلا مؤمن ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كانت بينه وبين رسول الله مدة فإن أجله إلى أربعة أشهر (١).

ولما أعلم الكفار بذلك ، أظهروا تبرؤهم ، فلم تبق صلة بينهم ، وقد كان هذا العمل خطرا ، حيث أن الكثرة الغالبة من الحجاج كانوا مشركين ، فالاصطدام بهم بهذه الصورة الخشنة كان مظنة الإيقاع بالإمام عليه‌السلام لكن الله سبحانه عصمه عن ذلك ، وقد كان نزول سورة براءة في السنة التاسعة من الهجرة ، بعد فتح مكة ، وفي العام القابل حج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الوداع ، ولما أن رجع عن الحج نصب عليا

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٦٦.

وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)

____________________________________

خليفة في غدير خم ، وقبض في شهر صفر من تلك السنة.

[٣] (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إعلام منهما (إِلَى النَّاسِ) من المسلمين والمشركين (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم النحر ، مقابل الحج الأصغر الذي هو العمرة ، وسمي بالأكبر لأن أعماله أكثر ، وإنما كان يوم النحر يوم الحج الأكبر لأن طواف الحج الذي هو أعظم أعماله يأتي فيه ، ويحتمل أن يراد بذلك جميع أيام الحج ، كما يقال : يوم الجمل ، ويوم صفين ، ويراد به الحين والزمان الذي وقعت فيه هذه الحوادث. والمعنى أن الله ورسوله يعلنان في هذا الوقت (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلا علاقة له بهم ، ولا عهد له معهم (وَرَسُولِهِ) أيضا بريء منهم. وقد تقدم أن ذكره سبحانه هو الأصل ، وذكر الرسول للاحترام ولأنه المنفّذ المواجه (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي رجعتم عن الشرك أيها المشركون (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في دنياكم حيث تسودون وتبقون مرفهين (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الإيمان وبقيتم على الشرك (فَاعْلَمُوا) أنكم في معرض عقاب الله وعذابه و (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تتمكنون من أن تعجزوه وتغلبوه ، بل هو ينتصر عليكم ويهلككم ويخزيكم (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في الدنيا والآخرة. وتسمية الإنذار بشارة ، من باب الاستهزاء ، وذكر الضد

إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ

____________________________________

مكان الضد ، كما يسمى الزنجي : كافورا ، والأعمى : بصيرا ، ولبيان أن العذاب يأتي مكان انتظار البشارة ، فإن الكفار كانوا ينتظرون بأعمالهم عاقبة حسنة فإذا بها عذاب ونكال.

[٤] ثم استثنى سبحانه من براءته من المشركين وانتهاء معاهدتهم إلى أربعة أشهر ، المعاهدين الذين وفوا بالعهد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أيها المسلمون معهم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) بل بقوا أوفياء على عهودهم (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي لم ينضموا إلى أعدائكم حتى يكونوا ظهيرا لهم عليكم (فَأَتِمُّوا) أيها المسلمون (إِلَيْهِمْ) وإنما قال : «إليهم» كأن الإتمام يبتدئ من المسلمين وينتهي إلى أولئك (عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) المضروبة لهم ، فهم في مدة عهدهم آمنون لا يحاربون (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون نقض العهد.

وقد كان جماعة من المشركين كذلك بقوا أوفياء على عهودهم كبني كنانة وبني حمزة ، وقد كانت مدتهم تسعة أشهر ، وكأهل هجر والبحرين وإيلة ودومة الجندل الذين كانت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم مصالحات.

[٥] (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي مضت الأشهر الأربعة التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها ، والتي تنتهي بانتهاء عشرة أيام من ربيع الأول. ومعنى الانسلاخ : المضي ، كما ينسلخ الجلد عن الشاة ، فتبدو

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ

____________________________________

عارية ظاهرة ، تشبيها للأشهر الحرم بالجلد الواقي لما بعدها من الأيام (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فقد رفعت الهدنة والعهد بما نقضوا من العهود. وليس المراد قتل كل فرد فرد ، بل المراد وقوع المقاتلة ، وأنهم في حكم المحارب ، والمراد من «حيث وجدتموهم» أينما كانوا في حلّ أو في حرم ، فإن الحرم محترم لمن احترمه ، أما من لم يحترمه فليس بمحترم فيه (وَخُذُوهُمْ) أي خذوا من تمكنتم من أخذه ، والأخذ للقتل أو الحبس أو الاسترقاق (وَاحْصُرُوهُمْ) امنعوهم عن التصرف في حوائجهم و (اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) كل محل للرصد والتطلع كقلل الجبال ، والمضايق ، وقوارع الطرق (فَإِنْ تابُوا) عن كفرهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي التزموا بشرائط الإسلام ، فإن إظهار مجرد الإيمان بدون الرضوخ للأحكام والاستعداد لامتثال أوامر الله والرسول ، لا يعدّ إلا لقلقة لسان (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) دعوهم يتصرفون في البلاد ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، لأنهم أصبحوا من زمرتهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم يتفضّل عليهم بلطفه.

[٦] (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذي أمرتك بقتاله بعد انسلاخ الأشهر الحرم (اسْتَجارَكَ) أي استأمنك ، بأن طلب الأمان منك ليسمع دعوتك

فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

____________________________________

(فَأَجِرْهُ) وأعطه الأمان (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) وحيث أن كلام الرسول هو الوحي ، كما قال سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ، كان كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلام الله تعالى (ثُمَ) إن أسلم ، كان له ما للمسلمين ، وإن لم يسلم ف (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي أرجعه إلى محل أمنه ، بأن يكون في حمايتك حتى يبلغ مكانه ، لئلّا يغدر به في الطريق ، وهذا كان كافرا حربيا ، بعد عدم قبوله الإسلام إلّا أنه حيث جاء لغرض صحيح ، لا يجوز قتله حتى يبلغ مأمنه (ذلِكَ) الأمان لمريد فهم الإسلام بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة الإسلام ، فهذا الأمان سبب لدخول بعضهم في الإسلام.

[٧] ثم بيّن سبحانه وجه تبرؤ الرسول من العهود بعد أربعة أشهر بقوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) وقد غدروا وظاهروا الأعداء ، وهل العهد يبقى مع ذلك؟ وقد كان ضرب المدة أربعة أشهر من سماحة الإسلام ، وإلّا فقد استحق الغادرون أن يجهز عليهم فور غدرهم (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) معهم (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فإنهم لم يغدروا ، وكان استثناؤهم وحدهم دون سواهم ، وقد كانوا كثيرين ـ كما عرفت ـ لأنهم «الفرد» الظاهر السابق إلى الذهن ، والمراد بأولئك : هم قبائل بكر ،

__________________

(١) النجم : ٥.

فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً

____________________________________

بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو حمزة ، فقد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ـ اليوم الذي عاهد رسول الله قريش قرب الحرم ـ وهؤلاء لم ينقضوا العهد ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإتمام مدتهم وفاء للعهد (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) أي مدة استقامة المشركين الذين لم ينقضوا العهد معكم ، بأن لم تظهر منهم أمارات الغدر والخيانة (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) وابقوا على عهدكم معهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون نقض العهد وخلف الوعد.

[٨] (كَيْفَ) يكون للمشركين عهد ، وتتورعون عن قتالهم (وَ) الحال أنهم (إِنْ يَظْهَرُوا) ويظفروا (عَلَيْكُمْ) ويتمكّنوا منكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي لا يحفظوا ولا يرعوا فيكم قرابة ولا عهدا ، فإن «الإل» بمعنى القرابة ، و «الذمة» بمعنى العهد ، أو «الإل» بمعنى الحلف ، أي تذهب المحالفات والعهود بمجرد أن يتمكن هؤلاء منكم (يُرْضُونَكُمْ) هؤلاء المعاهدون (بِأَفْواهِهِمْ) فيتكلمون بكلام الموالين (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) حبكم وولاءكم ، بل هي مليئة بغضا وعداوة (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن العهود والمواثيق ، فإن الفسق بمعنى الخروج عن الحق.

[٩] (اشْتَرَوْا) هؤلاء الناكثون بمقابل آيات (اللهِ) التي كان المفروض الإيمان بها (ثَمَناً قَلِيلاً) فقد أعرضوا عن الدين في مقابل دنيا قليلة

فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا

____________________________________

زائلة تحفظوا عليها (فَصَدُّوا) أي منعوا الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أي سبيل الله تعالى (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس عملهم ذلك.

[١٠] (لا يَرْقُبُونَ) لا يراعون ولا يحفظون (فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) وهذا تأكيد لما سبق ، أي أنهم لا يراعون قرابة المؤمنين ولا عهدهم ، بل إن ظفروا بهم قتلوهم وانتقموا منهم (وَأُولئِكَ) الكفار الناقضون للعهد (هُمُ الْمُعْتَدُونَ) المجاوزون للحد ، حيث لم يراقبوا العهود.

[١١] (فَإِنْ تابُوا) عن الكفر وقبلوا الإسلام (وَ) خضعوا لأوامره بأن (أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) بالنسبة إلى من تمكن منها فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) أيها المسلمون ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) نميّزها ونبيّنها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لأهل العلم ، فإنهم هم الذين يستفيدون منها لا الجهلة الذين لا يعرفون شيئا.

[١٢] (وَإِنْ نَكَثُوا) أي نقضوا (أَيْمانَهُمْ) أي عهودهم والأيمان التي حلفوها بعدم الاعتداء عليكم (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) معكم ، وهذا كالتذكير ببشاعة عملهم ، وإلا فكل نكث يكون بعد العهد (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي أخذوا يقدحون ويعيبون دينكم (فَقاتِلُوا) أيها

أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

____________________________________

المسلمون (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) «أئمة» جمع إمام ، وهم قادة الكافرين ، وإنما خصّهم بالذكر لأنهم المضلون لأتباعهم الذين إن استأصلوا ذهبت شوكة الكافرين.

ويستفاد من الآية : أن الأولى قصد مراكز انتشار الكفر ومعادنه (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي أن أئمة الكفر لا يحفظون العهود والأيمان ولا وفاء لهم بها (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم لكي ينتهوا عن الكفر.

[١٣] ثم حثّ سبحانه المؤمنين بقتالهم بقوله : (أَلا تُقاتِلُونَ) أي هلّا تقاتلون (قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ونقضوها ، وهذا لا ينافي قوله : «لا أيمان لهم» فإن معنى ذلك : أنهم لا يحفظوها ، ومعنى هذا أنهم عقدوها. والحاصل أنهم عقدوا الأيمان ولكن نقضوها (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) حين تآمروا في دار الندوة لإخراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة. ولعل ذكر ذلك مع أنهم همّوا بقتله أيضا ، أوقع في النفس ، وأبلغ في التحريض والحث ، لأن الإخراج الذي قصده المتآمرون كان أسوأ من القتل ، فإنهم قصدوا إخراجه حتى يموت في بيداء خالية من الماء والطعام ، أو المراد بالإخراج : إخراجه من بين أظهرهم بالإثبات أو القتل أو النفي (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإنهم ابتدءوا بقتال المسلمين وإيذائهم والصد عن سبيل الله.

إن كل هذه الأمور الثلاثة مما يبيح لكم قتالهم ، فلماذا

أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا

____________________________________

لا تقاتلونهم أيها المسلمون؟ (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي هل تخشون هؤلاء الكفار أن تصيبكم منهم أذية؟ (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فإنكم إن تركتم قتال هؤلاء عذّبكم الله سبحانه ، فهو أحق بالخشية من هؤلاء (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وبما جاء به الرسول ، أما غير المؤمن فلا يعتقد بعقاب الله سبحانه ولذا لا يخشاه.

[١٤] (قاتِلُوهُمْ) أي قاتلوا الكفار أيها المسلمون ، إن تقاتلوهم (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) بالقتل والأسر (وَيُخْزِهِمْ) أي يذلهم ويحطّم شوكتهم (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) حتى تكون كلمتكم هي العليا وتكون الغلبة لكم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) فإن صدور المؤمنين كانت ممتلئة غيظا وكمدا ، وكل من انتصر شفي صدره وذهبت فرحة النصر بغيظه.

[١٥] (وَيُذْهِبْ) الله (غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) الذي تجمع فيها من كثرة ما رأوا من الاضطهاد والظلم (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من هؤلاء الكفار إذا آمنوا مع فرط تعدّيهم وعتوّهم ، فإن الإسلام يجبّ ما قبله (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمصلحة حيث يأمركم بقتال هؤلاء ، فلا يأمر اعتباطا (حَكِيمٌ) فأمره عن حكمة ودراية.

[١٦] (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) «أم» أداة استفهام وعطف ، فقد عطفت هذه

وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)

____________________________________

الجملة على قوله : «ألا تقاتلون» أي : هل ظننتم أيها المسلمون أن تتركوا آمنين في دياركم من دون أن تكلّفوا الجهاد في سبيل الله سبحانه؟ (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) «لمّا» حرف نفي مع تقريب وقوع الفعل الذي لم يقع بعد ، أي لم يتعلق علم الله سبحانه بالمجاهدين ، فإنه لم يصدر منكم جهاد ، حتى يكون علم الله واقعا خارجيا ، فإن العلم إنما يكون خارجيا ، إذا وجد متعلقه ، فإذا علم الإنسان أن زيدا سيجيء غدا ، يقال : لمّا يعلم فلان مجيء زيد ، بمعنى أنه لم يقع متعلق علمه (وَ) لمّا يعلم الله الذين (لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) «الوليجة» هي البطانة التي يخفي الإنسان لديها أسراره ، كأنه يلج فيها بسره ، فإن حبّ الشخص لا يمتحن في أيام الرخاء ، وإنما يمتحن في أيام الشدة والبلاء ، فالصديق لا يتّخذ غير صديقه وليجة ، بخلاف ضعيف الصداقة.

ولذا نرى أن كثيرا من المسلمين اتخذوا الولائج ، وبدت ضمائرهم السيئة عند الجهاد (وَاللهُ خَبِيرٌ) أي عليم (بِما تَعْمَلُونَ) أيها المسلمون. والحاصل أنه لا بد من امتحانكم أيها المسلمون بالجهاد ليتبين المجاهد منكم من غيره ، ويتبين الذي يخلص في النية لله والرسول ، من غيره.

[١٧] روي أن المسلمين عيّروا أسرى بدر ، ووبّخ علي عليه‌السلام العباس بن عبد المطلب بقتال رسول الله وقطيعة الرحم. فقال العباس : تذكرون

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

____________________________________

مساوئنا وتكتمون محاسننا. فقالوا : أولكم محاسن؟ قالوا : نعم ، إنا نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني (١). فنزلت هذه الآيات : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) سواء المسجد الحرام أو غيره حال كونهم (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي حال شهادتهم بكفر أنفسهم ، فكيف يجتمع الإذعان لله والكفر بآياته ، إنك إن أهنت شخصا وعمّرت داره كان تعمير داره سيئة لا حسنة ، فكيف يمكن الافتخار بأنه من المحاسن؟ ومعنى «ما كان» : أنه ليس لهم ذلك. ولعلّ وجه الارتباط أنه لمّا نهي المشركون عن زيارة البيت بيّن سبحانه السبب ، بأن الشرك وعمارة المسجد ـ ماديا ومعنويا ـ لا يجتمعان.

(أُولئِكَ) الذين كفروا (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت فلا قيمة لحسناتهم التي يزعمون أنها حسنة ، فإن الحسنة لا تقبل إلّا مع الإسلام والإخلاص (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أبد الآبدين ، بمعنى أنهم لو ماتوا كافرين لم تنفعهم الحسنة في نجاتهم من النار.

[١٨] (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) بناءها وإقامة العبادة فيها (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بأن أقرّ بالوحدانية واعترف بيوم القيامة ، إنه هو الذي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ٦٣.

وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

____________________________________

يجوز له تعمير المسجد ، وهو الذي يقبل منه (وَأَقامَ الصَّلاةَ) بمعنى التزم بشرائع الإسلام ، فإن الاعتراف اللفظي بدون الخضوع والانصياع لأوامر الإسلام لا يعدّ إلا لقلقة لسان (وَآتَى الزَّكاةَ) بالنسبة إلى من وجدها (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي خشية من نوع الخشية التوحيدية ، فإن المشرك يخشى من إلهين ، والمؤمن يخشى من إله واحد. وليس النفي مطلقا كما هو واضح ، قال سبحانه بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَتَخْشَى النَّاسَ) (١) ، (فَعَسى أُولئِكَ) أي لعلّ الذين آمنوا بالله واليوم الآخر والتزموا بشرائطه (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي في زمرتهم ، وإنما قال «فعسى» لأن المرء لا يعرف مستقبله ، فربما كان مؤمنا عاملا ، ثم ينقلب كافرا ، فلا يكون من المهتدين ـ بما للكلمة من معنى ـ.

[١٩] (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) «السقاية» مصدر سقي الماء ، و «الحاج» بمعنى القاصد إلى مكة ، بعد ما كان في اللغة بمعنى مطلق القصد (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تعميرا بالبناء ، أو بالعبادة ، والأول هنا أقرب (كَمَنْ آمَنَ) الاستفهام إنكاري ، وفي الكلام حذف تقديره «أهل سقاية» أي ليس الساقي العامر للمسجد الحرام كالمؤمن (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وذلك لأن الإيمان هو أصل الفضائل ، أما السقاية والعمارة

__________________

(١) الأحزاب : ٣٨.

وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)

____________________________________

فهما أمران شكليان ، إذا لم تنضم إليهما روح الإيمان لن ينفعا شيئا (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته سبحانه (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أولئك وهؤلاء (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فإن من ظلم نفسه بالكفر لا يكون مهديا ، فلا يكون عمله عن اهتداء حتى يترتب عليه فضل.

روي أن العباس وشيبة أنهما تفاخرا ، فمر بهما أمير المؤمنين علي عليه‌السلام فقال : بماذا تتفاخران؟ فقال العباس : لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد ، سقاية الحاج. وقال شيبة : أوتيت عمارة المسجد الحرام. فقال علي عليه‌السلام : استحييت لكما ، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا. فقالا : وما أوتيت يا علي؟ قال : ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله ، فقام العباس مغضبا يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟ فقال : ادعوا لي عليا فدعي له ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما حملك على ما استقبلت به عمك فقال : يا رسول الله صدمته بالحق فمن شاء فليغضب ومن شاء فليرض. فنزل جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول : اتل عليهم (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..). فقال العباس : إنا قد رضينا «ثلاث مرات» (١).

وقد كانت سقاية الحاج عبارة عن تهيئة دلاء وأواني قبل الموسم فتملأ ماء من بئر زمزم ، فإذا جاء الحجاج سقوا منها ، حيث أن البئر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٦ ص ٣٩.

الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)

____________________________________

كانت لا تتحمل اجتماع خلق كثير عليها.

[٢٠] (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبرسوله (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة لأجل الإسلام (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بأن تحملوا المشاق (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) فبذلوا المال والنفس لإعلاء كلمة الله سبحانه (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) من الذين لم يفعلوا ذلك ، وإن سقوا الحجيج وعمروا المسجد (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون المفلحون.

[٢١] (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أي من عنده. والإتيان بكلمة «منه» لتعظيم قدر البشارة (وَرِضْوانٍ) أي رضاه سبحانه عنهم ، وهو أعظم بشارة ، فإن الإنسان إذا علم أن الملك ـ مثلا ـ راض عنه كان مرتاح الضمير مسرور الخاطر ، أما إذا علم أنه غاضب عليه كان بالعكس ، وإن أغدق عليه في العطاء (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم لا يزول ولا يتحول.

[٢٢] (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فالجنات والنعيم كلاهما خالدان إلى ما لا نهاية (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فليرغب الراغبون فيه.

[٢٣] وحيث ذكر سبحانه وجوب الجهاد في سبيله ، والهجرة من دار الكفر لأجله ، بيّن أنه يجب أن يتجرّد الإنسان من أقرب العلاقات إلى نفسه

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)

____________________________________

لأجله تعالى فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) بأن تتولّونهم ولاء صادرا من الأعماق ، وإن استحبّت معاشرتهم في الظاهر لقوله سبحانه : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (١) ، (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي آثروا الكفر واختاروه (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي الآباء والإخوان (مِنْكُمْ) فيقدّم ولايتهم على ولاية الله والرسول والمؤمنين (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم حيث أوجبوا لها خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

وفي بعض الأحاديث : إن الآية وردت في «حاطب بن أبي بلتعة» (٢) فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد فتح مكة ، أمر أصحابه بكتمان الأمر حتى يفاجئ المسلمون الكفار ولا تراق الدماء ، فكتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأطلع الله رسوله بالخبر ، فوبخ حاطبا ثم عفا عنه ، وأرجع الرسول الذي كان بيده الكتاب ، فكان كما أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عدم وصول الخبر إليهم ، وقد قال حاطب معتذرا أن له أهلا في مكة فخاف أن تكون الدائرة على المسلمين ، فيكون له يد على الكفار ، ويسلم أهله من عقابهم وعذابهم.

[٢٤] ثم بيّن سبحانه ميزان الإيمان الصحيح ، وأنه لا يكون إلا بأن يرجّح

__________________

(١) لقمان : ١٦.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٣٠.

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي

____________________________________

المؤمن كفّة الإيمان على جميع الشؤون والاعتبارات (قُلْ) يا رسول الله للمسلمين : (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) واللفظان يشملان الأجداد والأحفاد (وَإِخْوانُكُمْ) الأعم من الأخوات (وَأَزْواجُكُمْ) اللاتي عقدتم عليهن (وَعَشِيرَتُكُمْ) أقاربكم غير من ذكروا ، كالأعمام والأخوال ومن أشبههما (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) جمعتموها وكسبتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) تخشون أن تكسد ولا تدار ، إن اشتغلتم بطاعة الله سبحانه (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) بأن تحبون المقام فيها ، سواء كانت بلادا أو بيوتا (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) وأقرب إلى نفوسكم (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) من طاعته وطاعة رسوله (وَ) أحب إليكم من (جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي سبيل الله ، فإذا دار الأمر بين ترجيح رضاه سبحانه أو رضا رسوله وبين ذلك المحبوب لديكم من مال وقرابة قدمتموه عليها (فَتَرَبَّصُوا) انتظروا. وهذا تهديد ، أي انتظروا العقاب فإنكم لستم من الله في شيء. وكيف يدّعي الإنسان الإيمان وهو يقدّم تلك الأمور على أمر الله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فإنكم لا خير فيكم ، وإنما يأتي بأمر الله غيركم ، كما يقال : «إن كنت لا تفعل هذا فانتظر حتى يأتي غيرك ليفعله» ، فإن الله سبحانه غني عنكم فهو القادر على أن ينفذ أوامره بواسطة أناس غيركم (وَاللهُ لا يَهْدِي

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)

____________________________________

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) فإن من خرج عن طاعة الله بالفسق ، بعد العلم والعرفان ، يطبع على قلبه فلا يلطف به سبحانه ألطافه الخاصة.

[٢٥] ثم بيّن سبحانه مصداقا من مصاديق إتيان الله بأمره ، بعد ما اختار المسلمون الحياة ، وفرّوا من الله والرسول ، في وقعة «حنين» التي كانت قريبة إلى مشاعرهم وأفكارهم عند نزول هذه السورة. وقصة هذه الغزوة باختصار : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فتح مكة خاف الكفار الذين كانوا مبثوثين في الجزيرة أن يأتي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على آخرهم فاجتمع هناك جموع كثيرة من هوازن وغيرها ربما بلغ عددهم ثلاثين ألفا ، وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ومروا حتى بلغوا «أوطاس» يريدون قتال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبلغه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خبر اجتماعهم هناك ، فجمع القبائل ورغّبهم في الجهاد ووعدهم النصر وأن الله وعده أن يغنمهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ، فرغب الناس وخرجوا كل قبيلة وفئة تحت راية ، وعقد اللواء الأكبر للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اثني عشر ألف رجل. فلمّا صلّى الغداة انحدر في وادي حنين والجو لا زال مظلما ، وقد كانت هوازن قد سبقوا المسلمين من الليل وكمنوا في أطراف الجبال ، وحنين واد كثير الانحدار ، فلما انحدر جيش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الوادي ، وقد كان أول من انحدر بنو سليم معهم خالد بن الوليد ، وكانوا غافلين عن اختفاء هوازن ، وإذا بهم يرشقون بالسهام كقطر المطر من كل جانب دون أن يروا أحدا وظهرت كتائب هوازن من كل ناحية ، فانهزم بنو سليم ، وكسرت بانكسارهم سائر جيوش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفروا صعدا في الجبال والوديان ، وبقي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وجماعة يعدون بالأصابع من أولاد العباس وغيرهم.

____________________________________

وأخذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينادي : يا معشر الأنصار إليّ وأنا رسول الله. وقد التفت كتائب هوازن به يريدون قتله والإمام يضرب بالسيف يمنة ويسرة ، فلم يبق من المسلمين أحد فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعباس : اصعد هذا الطرب وناد : «يا أصحاب سورة البقرة» و «يا أصحاب بيعة الشجرة» إلى أين تفرون هذا رسول الله؟ وقد كان العباس رفيع الصوت ، ثم رفع يده فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان ، فنزل جبرائيل فقال : دعوت بما دعا به موسى حيث فلق الله له البحر ونجاه من فرعون ، ثم أخذ كفا من حصى فرماه في وجوه المشركين قائلا : «شاهت الوجوه ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد» ، فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون : لبيك ، ومروا برسول الله واستحيوا أن يرجعوا إليه. فالتحقوا بالراية ونزل النصر من السماء وانهزمت هوازن وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو ، ولما فر الكفار غنم المسلمون غنائم كثيرة من أموالهم ونسائهم وذراريهم ، وقسمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

أقول : المراد ب «أصحاب سورة البقرة» إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) (٢) ، الذين طلبوا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٤٩.

(٢) البقرة : ٢٤٧.

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (٢٥)

____________________________________

جهاد الكفار ثم (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) (١) يعني : أنكم أيها المسلمون صرتم كأولئك ، والمراد ب «أصحاب بيعة الشجرة» أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين صلح الحديبية اتكأ على شجرة وبايع المسلمين من جديد ، ليمتثلوا أوامره ، كأنه ما كانت كما قال سبحانه : (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (٢).

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) أيها المسلمون (فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) في بعض الأخبار أنها كانت ثمانين (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي : ونصركم في يوم حنين ، وتخصيصه بالذكر لأنه لو لا نصرة الله سبحانه لم يكن لهم نصر حسب الظاهر بعد فرارهم وانهزامهم (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) فإنه لم يتفق لجيش المسلمين أن يكونوا اثني عشر ألفا قبل ذلك ، وقد قال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة ، لما رأوا من كثرتهم المدهشة في الجيش (فَلَمْ تُغْنِ) الكثرة (عَنْكُمْ شَيْئاً) أي لم تفدكم الكثرة (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) أي برحبها وسعتها ، و «الباء» بمعنى مع ، أي مع كونها وسيعة فسيحة ضاقت عليكم ، فإن الإنسان إذا خاف ، يرى في نفسه ضيق الأرض ، بالإضافة إلى أنهم لم يجدوا موضعا للفرار ، لاحتمال وجود العدو في كل مكان (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي انهزمتم من عدوكم ، وأعطيتم أدباركم للعدو ، وقد كان الخطأ من المسلمين

__________________

(١) البقرة : ٢٤٧.

(٢) الفتح : ١٩.

ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها

____________________________________

أنهم لم يثبتوا أول الأمر ، فإن الثبات أول الأمر خليق بأن يكشف النازلة ، كما أنهم أخطئوا حين اغتروا بكثرتهم ، فإن الإنسان إذا رأى كثرة من معه تقوى فيه روح الاتكالية ، وذلك خليق بانهزامه. ثم إن مقدمة الجيش لم تتخذ احتياطاتها اللازمة ، فإن دخول مثل هذا الموضع مما يحيط به الجبال يحتاج إلى إرسال بعض القوات الاستطلاعية.

[٢٦] (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) أي السكون النفسي الذي يزول الخوف معه ، فإن أقوى أسباب الهزيمة في كل ميدان ، تزلزل النفس وعدم اطمئنانها بالنصر ، أما إذا قويت النفس على تحمّل المكروه كان الإنسان خليقا بالنصر (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين بقوا معه ولم ينهزموا. فقد بقي مع الرسول تسعة من بني هاشم أولهم أمير المؤمنين عليه‌السلام كما بقي ابن أم أيمن وقد قتل في ذلك اليوم ، أو المراد : المؤمنين حين رجوعهم إلى الرسول ، فإن الجيش الذي يفر إذا فكر في العاقبة تقوى نفسه بإذن الله سبحانه (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) فقد أنزل الله سبحانه أفواجا من الملائكة لنصرة المؤمنين. وهذا ليس بغريب ، فقد وعد سبحانه بنصرة الملائكة لكل من استقام فكيف بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال سبحانه : (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) (١).

وقد ورد : أن رجلا من المشركين قال للمؤمنين ، وهو أسير في أيديهم : أين الخيل البلق والرجال عليهم الثياب البيض ، فإنما كان قتلنا

__________________

(١) فصلت : ٣١.

وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ

____________________________________

بأيديهم وما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة. قالوا : تلك الملائكة (وَعَذَّبَ) الله (الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر (وَذلِكَ) العذاب (جَزاءُ الْكافِرِينَ) الذين يكفرون بالله وآياته.

[٢٧] (ثُمَ) بعد تمام الأمر (يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) من الكفار إذا أسلموا ، وذكر «على من يشاء» لإفادة أن التوبة ليست واجبة ، أو المراد : من يشاء من المنهزمين ، فإن الفرار من الزحف كبيرة موبقة ، وقد شاء سبحانه أن يتوب على المؤمنين دون المنافقين (وَاللهُ غَفُورٌ) يستر الذنوب (رَحِيمٌ) يتفضّل بالرحمة عليهم.

[٢٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشيء الذي يباشره برطوبة ، وهذه النجاسة قد تكون لأضرار خارجية كالبول والغائط ، وقد تكون لأضرار معنوية كالكافر ، فإنه وإن كان نظيف الجسم إلا أن معتقده الباطل أوجب الحكم بنجاسته. وذلك خير وقاية للمسلمين من أن يتلوثوا بعقيدته ، فإنهم إذا عرفوه نجسا حتى أنه يجب الاجتناب عنه في المأكل والملبس وأنه مهما باشر شيئا برطوبة تنجس فورا منه ، اجتنبوا عنه ، فلا يتعدّى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة ، وهو ـ بدوره ـ إذ يعرف أنه عند المسلمين نجس لا بد وأن يسأل عن السبب ويريد إزالة هذه الوصمة ، ولدي تحقيق ذلك تظهر له خرافة معتقده مما يدعوه أن يتركها ويعتقد بالعقيدة الصحيحة.

فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ

____________________________________

وهناك بعض المتفلسفين يقولون : كيف يحكم بنجاسة إنسان ، ولزوم الاجتناب عنه ، لمجرد انحراف عقيدة ، وهذا مناف لحرية الآراء؟

والجواب : إنه كيف يحكم بالاجتناب عن إنسان لمجرد أنه مصاب بالجذام ونحوه ، لمجرد انحراف مزاج ، وهذا مناف لكرامة الإنسان ، فإذا كان الخوف على الجسم يبيح الاجتناب فالخوف على الروح أولى بالإباحة.

(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) والمراد : عدم دخوله ، والمسجد الحرام من باب المورد ، فإن عليا عليه‌السلام أمر بحكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينادي : «لا يحج بعد هذا العام مشرك» (١).

وإن قيل : فكيف دخل وفد نجران مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

نقول : إنه قبل نزول هذا الحكم ، فإن الأحكام نزلت تدريجا ، أما القول بأن النصارى ليسوا بمشركين. فهو خلاف قوله تعالى : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢) ، وقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٣) ، وقوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) (٤).

(بَعْدَ عامِهِمْ هذا) في السنين المقبلة (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا ، فقد كان المنع عن المشركين يضر باقتصاد أهل مكة حيث أن كثيرا من وارداتهم كانت من الحجاج المشركين (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٣ ص ٤٠٠.

(٢) التوبة : ٣١.

(٣) المائدة : ٧٤.

(٤) المائدة : ١١٧.

مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

____________________________________

مِنْ فَضْلِهِ) وقد وفى سبحانه بما وعد ، فقد أسلم أهل اليمن وحملوا إليهم الميرة والطعام عوض المشركين ، كما أسلم أهل الآفاق وحجوا وأغنوا أهل مكة أكثر من إغناء المشركين. أما هذه الأيام فإن آبار الذهب الأسود قد أوصلت مستواهم الاقتصادي إلى علوّ مدهش (إِنْ شاءَ) للدلالة على أن الأمور بيده سبحانه ، ولسوقهم إلى رجائه والسؤال منه والخضوع والضراعة إليه.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالمصالح ، فإن منعه عن حج المشركين إنما هو عن علم (حَكِيمٌ) يضع الأمور في مواضعها ويأمر بها حسب المصالح الكامنة ، وإن لم يعرف الناس تلك المصالح فورا.

[٢٩] (قاتِلُوا) أيها المسلمون (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إيمانا صحيحا ، وإن آمنوا به إيمان شرك ونحوه (وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صحيحا ، وإن آمنوا به إيمانا منحرفا ، كأهل الكتاب الذين قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (١) ، (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) المراد بالرسول : إما الأعم ، فإنهم لا يحرّمون المحرمات التي أتى بها موسى وعيسى عليهما‌السلام ، أو الأخص يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي لا يتخذونه دينا ، والمراد به الإسلام (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)

__________________

(١) البقرة : ٨١.

حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)

____________________________________

وصف ل «الذين لا يؤمنون» (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) هي «فعلة» من «جزى يجزي» مثل «العقدة» و «الجلسة» ، وهي عطية مخصوصة ، كأنها جزاء لهم على بقائهم على الكفر ، أو جزاء للمسلمين عوض حمايتهم لهم ، فإن الذمي في بلاد الإسلام يكون محترم المال والنفس موفّر الحرمة والكرامة (عَنْ يَدٍ) أي يسلمونها بأيديهم ، كما يقال : «كلمته وجها بوجه» (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي أذلاء من «الصغار».

إن أهل الكتاب حيث انحرفت عقيدتهم حتى جعلوا الخرافة في معتقدهم ، وحيث حرفوا كتبهم حتى نسبوا الزنا والكفر وشرب الخمر والقسوة وشبهها إلى أنبيائهم ، وحيث هدموا نظم الله سبحانه ليجعلوا مكانها أنظمة مخترعة ، استحق الإسلام أن يشعرهم بشيء من الذلة ليتركوا الباطل إلى الحق ، فإن الإنسان لا يرضى أن يبقى ذليلا ، لكنه احترمهم حيث أقرّ بهم وسمح لهم بالبقاء تحت ظله ، باحترام اسم الكتاب ، وهذا الإذلال لا ينافي الحرية في شيء ، أرأيت من ينحرف في سلوك أو أخلاق هل يستحق ما يستحقه المستقيم؟ وليس الميزان في تقييم الإنسان الذي يراعي جهتي المادة والروح واقعا ، هو النظر إلى صورته البشرية ، بل الصورة والسيرة ، فمن انحرفت سيرته لم تنفعه صورته.

فهرب بعض المفسرين ومن إليهم عن الحكم على طبق هذه الآية أو ما أشبهها خروج عن الواقع الإسلامي ، كما هو خروج عن الموازين البشرية الرفيعة التي تجعل للروح قسطا في تقييم الإنسان كما أن للبدن قسطا.

[٣٠] ثم بيّن سبحانه طرفا من أقوال أهل الكتاب وافتراءاتهم على الله

وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)

____________________________________

سبحانه (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) وبهذا الانحراف خرجوا عن زمرة الموحّدين ، فإن الله لا يمكن أن يكون له ولد إذ ليس جسما يلد ، كما وصف تعالى نفسه بقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (١) (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) إن ألسنتهم اخترعت هذا القول بلا استناد إلى كتاب منزل أو دليل مبين. و «أفواه» جمع «فوه» ، بمعنى : الفم (يُضاهِؤُنَ) أي يشبه قول هؤلاء اليهود والنصارى ، في هذه المقالة (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الذين يجعلون لله شريكا ، فإن كلا القولين تشبيه لا يليق بجلال الله سبحانه ، فإن من له شريك إنما هو كمن له ولد في أنه مخلوق ليس بإله ، وإنما كان التشبيه شركا لأن الشبيه يشارك شبهه في أمر جامع ويفترق عنه في أمور مميزة ، وبذلك يكون مركبا ، والمركب ليس بإله (مِنْ قَبْلُ) وهذا توبيخ لهم ، فإن الأنبياء يأتون لقلع جذور الكفر فإذا ارتدت الأمة إلى مقالة الكفار الذين جاء الأنبياء لمحقهم ، كانت معرضة عن الأنبياء ، وتبيّن أن كلام الأنبياء لم يؤثر فيهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء عليهم بالهلاك ، فإن المفسد يدعى عليه بالموت ليستريح الناس من شره (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن

__________________

(١) سورة الإخلاص : ٢ ـ ٥.

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا

____________________________________

الحق إلى الإفك الذي هو الكذب.

[٣١] ثم بيّن سبحانه سببا آخر لكفرهم ، أنهم أعطوا حق التشريع أي التحليل والتحريم إلى علمائهم ، مع العلم أن هذا الحق خاص بالله سبحانه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١) ، (اتَّخَذُوا) أي اتخذ اليهود والنصارى (أَحْبارَهُمْ) جمع «حبر» وهو العالم (وَرُهْبانَهُمْ) جمع «راهب» وهو العابد (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي مع الله ، فإن أخذ الغير يعبّر عنه «من دون» وإن كان مع الأصل.

قال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ، قال : فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة براءة هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً ..) حتى فرغ منها. فقلت له : إنا لسنا نعبدهم. فقال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلّون ما حرم الله فتستحلونه؟ قال فقلت : بلى قال : فتلك عبادتهم (٢).

أقول الشرك على أربعة أقسام : الشرك في ذات الله ، والشرك في صفاته ، والشرك في أفعاله ، والشرك في أمره ونهيه. فمن قال : إن له شريكا ، أو أن صفاته لغيره ، أو أن قسما من الخلق لسواه ، أو أنه يحق الأمر والنهي لغيره ، فهو مشرك.

(وَ) اتخذوا (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) ربا من دون الله (وَما أُمِرُوا

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩ ص ٩٨.

إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ

____________________________________

إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) لا شريك له ، فقد كان أنبياؤهم يأمرونهم بذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي ليس في الكون إله غيره (سُبْحانَهُ) أي أنزهه تنزيها (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن شركهم ، وجعلهم لله شريكا.

[٣٢] ومن صفات هؤلاء أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) القرآن الكريم أو أحكامه. وسمي نورا لأنه كما يهتدى بالنور في الظلمات ، كذلك يهتدى بالقرآن في دروب الحياة المظلمة ، فإن النور الظاهر لنفسه المظهر لغيره ، كذلك أحكام الله سبحانه وكتابه الحكيم ، ومعنى إرادتهم إطفائه ، أنهم يريدون أن ينطفئ فلا يضيء العالم به (بِأَفْواهِهِمْ) فكما يطفأ النور بالفم بسبب النفخ ، فإنهم يريدون إبطال كتاب الله بما يتقولون عليه (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) أي يمنع الله ذلك إلا أن يظهر أمره ، وذلك بإظهار الكتاب والإسلام في جميع المجالات (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي حتى مع كرههم وعدم إرادتهم.

[٣٣] وكيف يتمكن هؤلاء من إطفاء نور الإسلام والقرآن والحال أن الله سبحانه (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْهُدى) أي مع الهداية والإرشاد ، فإن الرسول حامل مشعل الهدى (وَ) ب (دِينِ الْحَقِ)

لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ

____________________________________

الذي هو الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فيكون هو الدين الوحيد الذي له الغلبة والحجة على سائر الأديان.

وفي الأحاديث : إن تأويل هذه الآية عند خروج الإمام المهدي عليه‌السلام الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن تملأ ظلما وجورا (١).

ويكون عند ذلك الإسلام وحده دين العالم لا دين سواه (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) بأن كرهوا إعلاء هذا الدين على سائر الأديان.

[٣٤] ثم بيّن سبحانه بعض الصفات الذميمة الأخرى لأهل الكتاب بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وجّه الكلام إليهم لأنهم الذين يصدّقون بذلك ، أما سائر أهل الكتاب فإنهم يكذبون الخبر ، وإن علموا به باطنا (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ) وهم علماء أهل الكتاب (وَالرُّهْبانِ) وهم عبّادهم (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) المراد ب «الأكل» التصرف ، فإن معظم التصرف لما كان بالأكل غلب على سائر التصرفات بعلاقة الجزء والكل ، والمراد ب «الباطل» بالرشوة ونحوها مما لا يحق لهم أكل الأموال بتلك الصور (وَيَصُدُّونَ) أي يمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فلا يتركون الناس أن يسلموا ويؤمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم إن الأحبار والرهبان يكنزون الذهب والفضة فليحذر المسلمون

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥١ ص ٥٠.

وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)

____________________________________

أن يكونوا مثلهم فيجازوا بجزائهم (وَ) ذلك فإن (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) أي يجمعونها ولا يؤدون حقوقهما ـ لا الكنز المصطلح ـ (وَلا يُنْفِقُونَها) أي الكنوز (فِي سَبِيلِ اللهِ) كما أمر من إعطاء الزكاة والخمس (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم موجع ، وأتى بالبشارة مكان الإنذار استهزاء من استعمال الضد في ضده.

[٣٥] في (يَوْمَ) أي ذلك العذاب إنما هو في يوم (يُحْمى عَلَيْها) أي يوقد على تلك الكنوز ، فإن الشيء إذا أريد انصهاره إما يوقد تحته أو يوقد فوقه (فِي نارِ جَهَنَّمَ) فهي في النار وتوقد عليها النار ، حيث تنصهر تماما (فَتُكْوى بِها) أي بتلك الكنوز المحماة (جِباهُهُمْ) جمع «جبهة» (وَجُنُوبُهُمْ) جمع «جنب» (وَظُهُورُهُمْ) جمع «ظهر» ، وإنما خصّصت هذه المواضع لأن الجبهة محل الوسم ، والجنب محل الألم ، والظهر محل الحدود. وقيل : لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وطوى عنه كشحه ـ أي جنبه ـ وولّاه ظهره.

ويقال لهم في حال الكي تعنيفا وتوبيخا : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) هذا جزاؤه ، حيث لم تنفقوها في سبيل الله (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي ذوقوا عقابه ووباله وعاقبته.

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ

____________________________________

[٣٦] ولما أوجب سبحانه قتال الكفار وأهل الكتاب الذين انحرفوا ، بيّن أنه لا يحل القتال في الأشهر الحرم التي هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب. فقد قرّر الله سبحانه السلام في هذه الأشهر ليستريح الناس فيها وليكونوا في أمن ، كما قرر السلام في الحرم ليكون مكانا للسلام ، وقد قدم على ذلك مقدمة هي عدة الشهور ، وأنها مرتبطة بدورة الفلك (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) حسب أمره وتقديره (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) محرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وربيع الثاني ، وجمادى الأولى ، وجمادى الآخرة ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة (فِي كِتابِ اللهِ) أي ما كتبه وقرره ، وذلك طبق ناموس خلق الكون حيث دورة الفلك وسير الشمس والقمر ، وقد كانت الكتابة (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فإنه من ذلك اليوم أجرى النيّرين المعدلين للشهور والسنوات. والظاهر من الأشهر ، الأشهر القمرية ، لأنها المتبادر لدى الشرع والمتشرعة.

(مِنْها) أي من تلك الأشهر (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) سمّي الشهر حراما ، لحرمة القتل والقتال فيه ، ولما له من الاحترام ، وقد كان كذلك قبل الإسلام أيضا ، حتى أن ولي الدم لو رأى قاتل أبيه لم يهجم عليه بسوء حتى ينقضي الشهر الحرام (ذلِكَ) الترتيب للأشهر ، والحرم منها (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الطريقة القويمة المستقيمة ، لأنها مطابقة لناموس الخلق وحركة النيّرين ، ولأن السلام لا بد وأن يسود فترة من الزمن ،

فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)

____________________________________

حتى تهدأ النفوس ، وتزول الهموم منها ، فإن فترة الأشهر بغير ذلك فإنها لا تلائم الفطرة والخلق (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) في تلك الأشهر الحرم (أَنْفُسَكُمْ) بخرق حرمتها ، فإن خرق حرمتها يوجب عقابا ونكالا.

(وَقاتِلُوا) أيها المسلمون (الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) من غير فرق بين أقسامهم وأصنافهم ، و «كافة» بمعنى الإحاطة ، مأخوذة من «كافة الشيء» وهي حرفه ، وإذا انتهى الشيء إلى ذلك كفّ عن الزيادة ، وأصل الكف : المنع ، و «كافة» منصوبة على المصدر (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي أن قتالكم لهم إنما هو في مقابلة قتالهم لكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فلا تفعلوا في الحرب ما ينافي التقوى ، فإن الله سبحانه مع الذين يتقون معاصيه ، ويمتثلون أوامره.

[٣٧] لما بيّن سبحانه حرمة أشهر الحرم الأربعة ، ذكر ما كان يفعله الجاهليون حيث كانوا يؤخرون تحريم الشهر الحرام إلى صفر حيثما شاءوا ذلك ، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم ، ثم إذا انقضت حاجتهم أرجعوا الحرام إلى المحرم ، وكان يقوم بذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، وكان رئيس الموسم ، فيقول : أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يردّ لي قضاء. فيقولون : نعم صدقت ، أنسئنا شهرا أو أخّر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر ، وأحل المحرم. فيفعل ذلك ، فإنهم بذلك يريدون القتال في الحرم ، وهذا العمل يسمى

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ

____________________________________

«نسيئا» فإن «أنسأ» بمعنى أخّر ، و «النسيء» بمعنى تأخير الشهر الحرام عن وقته.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) فإن المشركين كانوا كفارا حسب عقائدهم حول الإله. واليوم الآخر فتحليل الحرام وتحريم الحلال ، زيادة في الكفر ، لأن التشريع لله وحده ، فمن شرع في قبال الله سبحانه فهو كافر (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١). ومن المعلوم أن الكفر والإيمان قابلان للزيادة والنقصان (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يضل بسبب هذا النسيء الكفار ، أما غير الكفار فإنهم لا يتبعون إلا شريعة الله سبحانه فلا ضلال لهم بالنسيء ، ومعنى «يضلّ» ـ بالبناء للمفعول ـ أن النسيء يسبب انحرافهم عن جادة الهدى (يُحِلُّونَهُ) أي يحلون الشهر الحرام (عاماً) في عام فيجعلون المحرم حلالا (وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) فيمشون على الأصل في تحريم شهر محرم ، وذلك حين يحتاجون إلى القتال في المحرم يحلّلونه ، ويجعلون صفر بدله حراما ، وحين لا يحتاجون إلى القتال يكون المحرم على حاله في التحريم ، وإنما يقدمون الحرام ويؤخرونه (لِيُواطِؤُا) أي ليوافقوا ، يقال : «واطأ» في الشعر ، إذا قال بيتين على قافية واحدة ، ومثله «أوطأ» (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) أي ليكون تعداد الحرام بقدر

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)

____________________________________

تعداد الحرام الذي جعله الله ، فإنهم لا يحلون الشهر الحرام ، إلا وجعلوا مكانه شهرا آخر حراما ، وهذان عصيانان : تحليل الحرام ، وتحريم الحلال (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) فقد زين الشيطان في نظرهم الأعمال السيئة فلازموها وافتخروا بها (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الذين يصرّون على الكفر بعد تبيّن الحق ، فإنه سبحانه لا يلطف بهم لطفه الخاص.

[٣٨] وفي سياق حكم الجهاد مع الأعراب يأتي دور الكلام حول جهاد الروم ، فإنه لما رجع رسول الله من الطائف أمر بالجهاد لغزو الروم ، وذلك في زمان إدراك الثمار فأحبوا المقام في مساكنهم وقريبا من أموالهم ، وشق عليهم الخروج إلى القتال ، وكان من عادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخفي الغزوة التي يريدها غالبا ، لئلّا يعرف العدو فيتخذ أهبته منها فيكثر القتلى ، ولذا كان إذا أراد الخروج نحو غزوة في الشمال ذهب مقدارا نحو الجنوب ثم انحنى صوب قصده إلا في هذه الغزوة حيث كانت الشقة بعيدة والعدو كثير ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أصحابه بذلك ليتأهبوا ويأخذوا حذرهم ، وتسمى هذه الغزوة ب «تبوك» وقد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الروم قد جمعوا له أطراف الجزيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة ، وانضمت إليهم لخم وجذم وعاملة وغسان من قبائل العرب وقدموا مقدماتهم إلى البقاء. فاستنفر المسلمين لجهادهم ، وهنا وجد المنافقون فرصتهم لإظهار نواياهم فأخذوا يخذلون المسلمين ، قائلين : «لا تنفروا في الحر» فقد كان الهواء حارا ،

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً

____________________________________

وقالوا : إن السفر بعيد ، فلا طاقة لنا به ، والعدو الروم فلا قبل لنا بهم ، إلى غير ذلك من الأعذار الواهية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ) : أيّ نفع وفائدة تعود إليكم في التخلّف والعصيان؟ (إِذا قِيلَ لَكُمُ) قال لكم الرسول : (انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) اخرجوا إلى مجاهدة المشركين في «تبوك» وهي من بلاد البلقاء (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) «اثاقل» من تثاقل ، من باب «التفاعل» أبدلت تاؤه ثاء ، على القاعدة المشهورة في تاء «التفاعل» و «التفعّل» ثم جيء بالهمزة لاستحالة الابتداء بالساكن. أي : ملتم إلى البقاء في الأرض ، وعدم الخروج ، كأن الجسم قد ثقل أزيد من وزنه العادي فكلما رفع جذبه ثقله نحو الأرض (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) الاستفهام إنكاري ، و «من» بمعنى البدل ، أي : هل رضيتم أيها المسلمون وآثرتم الحياة الفانية القريبة بدل الحياة الباقية الآخرة (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) بالنسبة إليها (إِلَّا قَلِيلٌ) فإن الدنيا قليلة ، والآخرة كثيرة ، فلا ترجّحوا القليل على الكثير ، وإذا تركتم الجهاد فاتتكم تلك المنافع الدائمة الخالدة.

[٣٩] (إِلَّا تَنْفِرُوا) أي : إن لا تخرجوا إلى القتال الذي دعاكم إليه الرسول (يُعَذِّبْكُمْ) الله (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما موجعا في الدنيا من قبل الكفار ،

وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي

____________________________________

وفي الآخرة بالنار (وَيَسْتَبْدِلْ) بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) فيأتي بمسلمين آخرين مكانكم وبدلكم ينصرون الرسول ويطيعون أوامره ، فإن الله على كل شيء قدير (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) لا تضروا الله بقعودكم عن القتال شيئا ، فإنه غني عنكم وعن العالمين ، وإنما تضرون أنفسكم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر أن يستبدل بكم غيركم ، كما يقدر أن ينصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدونكم ، كما نصره من ذي قبل حيث لم تكونوا مسلمين أنتم ـ أيها المتخلفون ـ.

[٤٠] ثم بيّن سبحانه إمكانية نصر الرسول بدونهم ، بضرب مثل قريب ، وهو نصرته على الكفار في مكة حيث أرادوا قتله فأنجاه منهم وأعزه ، وأذلهم (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي إن لم تنصروا الرسول في غزو الروم (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) من ذي قبل ، وهو قادر على نصره الآن (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة ، ونسبة الإخراج إليهم لأنهم كانوا السبب حين أرادوا قتله ففر من أيديهم (ثانِيَ اثْنَيْنِ) فقد كان حين الفرار هو وأبو بكر ، إذ رآه في الطريق فأخذه كيلا يخبر الناس بخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيلحقه الطلب ، فإن من عادة الإنسان أن يفشي الأنباء الهامة ، وذكر «ثاني اثنين» لبيان أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بهذه الغربة حتى أنه لم يكن معه إلا نفر آخر.

فالله القادر على نصره وهو بتلك الغربة والوحدة ، قادر على أن ينصره الآن. ولبيان ذلك جيء بالقيدين الآخرين (إِذْ هُما فِي

الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا

____________________________________

الْغارِ) «الغار» هو الثقب في الجبل (إِذْ يَقُولُ) الرسول (لِصاحِبِهِ) أبي بكر : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) مطّلع علينا ، فالإنسان الفار اللاجئ إلى ثقب جبل لا أحد معه إلا شخص واحد يخشى ويخاف ويحزن فيزيده كآبة ، كيف نصره الله على أعدائه ، إن الله قادر على أن ينصره الآن كما نصره سابقا.

وقد استدل بعض على فضيلة أبي بكر بهذه الآية ، لكن لا يخفى ما فيه ، فإنها لم تدل إلا على كونه أحد الشخصين ، وأنه صاحب ، وأنه حزن ، وأن الله معهما ، ولا دلالة في شيء من ذلك ، فإن الاثنين عدد «وثاني اثنين» حكاية العدد ، وليس فيما يقتضي الفضل يعد ، والصاحب يطلق على كل مصاحب (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) (١) ، والحزن لم يكن صحيحا وإلا لم ينهه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢) ، والله سبحانه مع كل بر وفاجر (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (٣) ، بل ربما قيل : إن الآية دلت على خلاف الفضيلة إذ قال سبحانه : «عليه» و «أيده» بينما قال في مكان آخر (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٤).

إن هذا البحث له موضع غير هذا الموضع ، وإنما المقصود الإشارة إلى عدم حسن أن يقحم في القرآن الحكيم ما ليس منه ثم جرّ الآيات إلى الأنظار والأفكار جرّا بدون دلالة أو برهان. فقد ورد الذم لمن فسّر القرآن برأيه.

__________________

(١) الكهف : ٣٥.

(٢) يونس : ٦٣.

(٣) المجادلة : ٨.

(٤) التوبة : ٢٦.

فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى

____________________________________

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي ألقى في قلبه ما سكن به ، وعلم أنه سبحانه ينصره عليهم (وَأَيَّدَهُ) أي قوّى الرسول ونصره (بِجُنُودٍ) من الملائكة (لَمْ تَرَوْها) أي ما رأت الكفار إياها ، بمعنى عدم كونهم أجساما حتى يروا.

ورد أنه كان رجل من خزاعة يقال له «أبو كرز» اقتفى مع المشركين أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وقف بهم على الغار فقال لهم : هذه قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي والله أخت القدم التي في المقام ، وقال : هذه قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي والله أخت القدم التي في المقام ، وقال : هذه قدم أبي قحافة أو ابنه ما جاوزوا هذا المكان ، إما أن يكونوا قد صعدوا السماء أو دخلوا في الأرض. وجاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : اطلبوه في هذه الشعاب ، وكانت العنكبوت نسجت على باب الغار ، وأرسل الله زوجا من الحمام حتى باضا في أسفل الثقب فقال سراقة وكان مع الكفار : لو دخل الغار أحد لانكسر حتما البيض وتفسخ بيت العنكبوت. ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «اللهم أعم أبصارهم» فعميت أبصارهم عن دخوله وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار ويئسوا أخيرا فرجعوا (١).

(وَجَعَلَ) الله تعالى (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وكيدهم للرسول وشوكتهم (السُّفْلى) إذ تحطمت وفشلت فكانت في الدرجة السفلى

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ج ١ ١٢٧.

وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)

____________________________________

(وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) المرتفعة المنصورة ، وهذا إخبار بأن كلمته وقوله دائما يكونان كذلك. ومن الواضح في التاريخ أن كلمة الله عالية وأنصارها الأعلون ، وإن كانت الغلبة لكلمة الكافرين ، حتى إن الناس لو كانت سيوفهم مع السلطات الباطلة كانت قلوبهم مع أهل الحق ورأوا أن الحق عندهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب (حَكِيمٌ) في تدبيره.

[٤١] (انْفِرُوا) من «نفر» إذا خرج مسرعا ، أي اخرجوا إلى الجهاد (خِفافاً) جمع «خفيف» (وَثِقالاً) جمع «ثقيل» ، والخفة تطلق على قليل العيال ، قليل السن والنشيط ، وقليل المشاغل ، كما أن الثقل عكس ذلك كله ، والمراد : جاهدوا واخرجوا لأجل الحرب كيفما كنتم في خفة أو ثقل (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) والمجاهدة بالمال : بذله في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، والمجاهدة بالنفس : الذهاب للحرب (فِي سَبِيلِ اللهِ) ويسمى جهادا ، لأنه من الجهد والتعب (ذلِكُمْ) ذلك إشارة ، و «كم» للخطاب ، أي أن الجهاد ـ أيها المسلمون ـ (خَيْرٌ لَكُمْ) من تركه ، فإنه فيه عزّ الدنيا وسعادة الآخرة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ليس المعنى إن لم تعلموا لم يكن خيرا لكم ، بل المعنى إن كنتم تعلمون ، لعلمتم أنه خير لكم.

[٤٢] كان المنافقون يرجفون بالمسلمين قائلين : «إن السفر بعيد» فإنها كانت مسافة بعيدة بين المدينة وبين «تبوك» فلا تذهبوا إلى الجهاد. فرد

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)

____________________________________

عليهم سبحانه (لَوْ كانَ) ما دعوتهم إليه يا رسول الله (عَرَضاً قَرِيباً) أي غنيمة سهلة التناول ، فإن أموال الدنيا تسمى أعراضا باعتبار كونها زائلة فانية (وَسَفَراً قاصِداً) أي سفرا متوسطا في البعد والقرب ، بأن سهل عليهم الذهاب والخروج (لَاتَّبَعُوكَ) لأنه يسهل عليهم ذلك (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة ، فإن الشقة بمعنى القطعة من الأرض التي يشق على إنسان السير فيها لبعدها ، ولذا يأتون بالأعذار الواهية فرارا (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) فإنهم كانوا يحلفون بأنهم لا يقدرون على الخروج لاشتغالهم وأن لهم أعذارا مشروعة (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) هؤلاء المعتذرون باستحقاقهم العقاب في الآخرة ، والنكال في الدنيا ، فإن ترك الجهاد يوجب الذلة والصغار للفرد والجماعة (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ادعائهم أنهم لا يستطيعون الخروج.

[٤٣] استأذن جماعة من المنافقين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تركهم الخروج إلى تبوك ، فأذن لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان هذا الإذن كسائر أوامر الرسول وكلماته بالوحي بدليل قوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ، لكن الاستئذان من القوم كان نفاقا فاستحقوا العقاب.

__________________

(١) النجم : ٤ و ٥.

عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)

____________________________________

ومن البلاغة أن يوجه الإنسان العتاب إلى أحد وهو يريد إفهام غيره ، فإذا ألحّ الشخص المتظاهر بالفقر ، فأشرت إلى ولدك بإعطائه المال ، تقول له ـ معاتبا ـ وأنت تريد إفهام الآخذ : لم أعطيته المال؟ مع أن إعطاءه كان بأمرك ولكنك تريد توبيخ الآخذ بصورة بليغة ، وهذا كما يظهر في الكلام يظهر في العمل ، فقد تأخذ بيد الولد لتقصيره أمام الآخذ مظهرا غضبك عليه ، تريد إفهام الآخذ بسوء صنيعه في الأخذ ، كما تقدم في قصة موسى وهارون عليهما‌السلام.

وهذا هو المعنى من قول الإمام الرضا عليه‌السلام في جواب أسئلة المأمون عن عصمة الأنبياء. وأنه كيف قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عفا الله عنك ..» ، هذا مما نزل ب «إياك أعني واسمعي يا جارة» (١).

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) يا رسول الله. إنه لا يريد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل خلاف الأولى ، حتى يستحق العفو أو العتاب ، بل يريد إفهام المتخلفين أنهم فعلوا فعلا قبيحا حتى إن الإذن لهم في القعود يستحق العفو (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) في البقاء وعدم الخروج إلى الجهاد (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في أنهم لا يستطيعون الخروج (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي حتى تعلم وتميّز بين الصادق والكاذب ، وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يميّز ويعلم ، كيف وأحدنا يعلم الصادق والكاذب من أصحابه وأصدقائه؟ لكن هذا الكلام لتنبيه المتخلفين الكاذبين ، وأنه عرف كذبهم وسوء قصدهم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٨٣.

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ

____________________________________

[٤٤] (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صادقا ، كيف والمؤمن يعلم أنه سواء غلب أو غلب كان له الأجر العظيم والعاقبة المحمودة عند الله سبحانه ، ولذا لا يطلب الإذن في التخلّف (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في أن يجاهدوا ، والمعنى لا يستأذنوا للتخلّف في أمر الجهاد ، لا أن المعنى لا يستأذنون للجهاد (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) الذين يتقون عصيان الله ، ويعملون حسب أوامره.

[٤٥] (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) ويطلب إذنك في القعود عن الجهاد (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صادقا عن عقيدة ورسوخ (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي شكّت ، من «الريب» بمعنى التردّد ، أي شكّوا في صدق الأمر وحقيقته (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ) وشكّهم حول المبدأ والمعاد (يَتَرَدَّدُونَ) فتارة ترجح عندهم العقيدة ، وأخرى يرجح عندهم الإنكار. ولهذا فإن هؤلاء لمّا لم يستيقنوا يستأذنوك للتخلّص من الصعوبة.

[٤٦] ثم بيّن سبحانه علامة نفاقهم وأنهم امتازوا عن المؤمنين بأن لم يستعدوا للجهاد فقد نووا من أول الأمر عدم الخروج (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) إلى الجهاد ، كما أراد سائر المؤمنين (لَأَعَدُّوا لَهُ) للجهاد

عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ

____________________________________

(عُدَّةً) أهبة ، فإن العدة والأهبة والآلة نظائر (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) الانبعاث هو الانطلاق بسرعة في الأمر (فَثَبَّطَهُمْ) أي أوقفهم عن الجهاد بالتزهيد فيه فرغبوا عنه (وَقِيلَ) القائل هو الله سبحانه ـ بلسان الحال ـ أو إخوانهم المنافقون : (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) النساء والصبيان والعجزة الذين بقوا في المدينة ولم يخرجوا للجهاد.

إن أمر الجهاد كان متوجها إليهم مع صفاء النية وخلوص القصد ، أما أنهم نافقوا وكانوا لو خرجوا ألقوا التشويش والاضطراب ـ كما هو شأن المنافق في كل حركة ـ بالنميمة بين المسلمين ، وكان الضرر في خروجهم أكثر ، فالأحرى أن لا يخرجوا ، فالله سبحانه كره ذهابهم للغزو لهذه الجهة فلم يوفّقهم للجهاد. وقد مرّ مكررا أنه تصحّ نسبة الفعل إليه سبحانه باعتبار أنه لم يزل العائق تكوينا ، كما يقال : «إن الملك عوّق ذهاب الجيش ولم يدعهم يذهبوا» ، فيما إذا لم يزل العائق أمامهم.

[٤٧] ثم بيّن سبحانه سبب كره الله انبعاثهم بقوله : (لَوْ خَرَجُوا) أي خرج هؤلاء المنافقون إلى الجهاد (فِيكُمْ) أي في ضمنكم أيها المسلمون (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) «الخبال» هو الفساد ، أي كان خروجهم معكم سببا للفساد والاضطراب ، فإن المنافق دائم النقد للحركات ، كثير التخذيل مما يوجب فسادا واضطرابا وتشويشا (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) «الإيضاع» الإسراع في السير ، و «الخلال» بمعنى «البين» ، أي أسرعوا

يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)

____________________________________

في الدخول بينكم بالفساد والنميمة والإفساد (يَبْغُونَكُمُ) أي يطلبون لكم (الْفِتْنَةَ) واختلاف الكلمة والانشقاق ـ كما هو شأن المنافق ـ (وَ) يكونون (فِيكُمْ) أيها المسلمون (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) يسمعون أقوال الكفار ـ المفهوم من الكلام ـ فيصبح هؤلاء المنافقون جواسيس وعيونا للكفار ، أو المراد : إن كانوا معكم كان من المؤمنين البسطاء أشخاص يسمعون لأولئك المنافقين ، فعدم مجيئهم كان أنفع لكم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالنفاق وعدم الخروج ، فيجازيهم بما عملوا.

[٤٨] (لَقَدِ ابْتَغَوُا) وطلب هؤلاء المنافقون (الْفِتْنَةَ) والفساد بين المسلمين (مِنْ قَبْلُ) في أحد وفي حنين وعند الثنية عند رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع حيث أرادوا قتله ودبروا مؤامرة خبيثة لتشتيت شمل المسلمين (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) «التقليب» تصريف الشيء على غير وجهه ، فقد احتال المنافقون لأن يقلبوا وحدة المسلمين تشتتا ، وصفاءهم كدورة (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) الظفر الذي وعد الله سبحانه (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) دينه والإسلام وحقيقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَ) الحال أن (هُمْ كارِهُونَ) لمجرد الحق وظهور أمر الله ، فإن يثيروا الفتن الآن بالنفاق ، فقد كانوا سابقا كذلك ، فلا يهمّك أمرهم يا رسول الله ، ولا تعيرهم وبالا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)

____________________________________

[٤٩] (وَمِنْهُمْ) أي من المنافقين المتخلّفين في غزوة تبوك (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) يا رسول الله في التخلّف (وَلا تَفْتِنِّي) لا توقعني في الفتنة ، بأن تأمرني فلا ألبّي الطلب ، أو المراد : لا تفتني ببنات الأصفر.

فقد ذكر المفسرون : أن رسول الله لما استنفر الناس إلى حرب الروم في تبوك قال : انفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر ، فقام جد بن قيس أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله ائذن لي ولا تفتني ببنات الأصفر ، فإني أخاف أن أفتتن بهن ، فقال : قد أذنت لك ، فنزلت الآية. ويسمّى الروم بنوا الأصفر ، لأن حبشيا غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفرا لعسا ـ كما عن الفراء ـ.

ثم إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزى هذا الرجل بصنيعه فقد قال لبني سلمة : من سيدكم؟ قالوا : جد بن قيس إلا أنه بخيل جبان. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأي داء أدوى من البخل ، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور (١).

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) إنهم أظهروا بتخلفهم الفرار عن الفتنة ، فقد سقطوا في الفتنة بتخلفهم عنك وعصيانهم لك ، فإن الإذن عن كره كعدمه (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) تحيط بهم فلا مخلّص لهم منها. ولعل هذا التعبير بمناسبة أنهم أظهروا الفرار من الفتنة ، لكن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٩٣.

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)

____________________________________

المنافق لا يفرّ من فتنة إلّا ويسقط في فتنة أخرى ، لأنه من أهل النار وهي محيطة به ، فكيف يفر منها.

[٥٠] وكيف يكون هؤلاء المنافقون مسلمين ، والحال أن صفاتهم صفات الكافرين (إِنْ تُصِبْكَ) يا رسول الله (حَسَنَةٌ) تصل إليك غنيمة أو خير (تَسُؤْهُمْ) أي يحزن المنافقون من أجلها (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) شدة وآفة في النفس أو المال أو غيرهما (يَقُولُوا) المنافقون : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أخذنا حذرنا من قبل وقوع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في هذه البلية (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) رجعوا إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المؤمنين من الشدة. وقد كان من عادة المؤمنين عكس ذلك ، فإنهم إذا رأوا الرسول في شدة اجتمعوا حوله ليواسوه بأنفسهم.

[٥١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) فلم يكن ما أصابنا شر لنا ، كما زعمتم ، بل إن الله سبحانه كتب هذه البلايا لنا لأن ترفع درجاتنا في الآخرة ، وينصرنا على أعدائنا في النهاية ، ونحن مسلمون لأمر الله منقادون لإرادته (هُوَ مَوْلانا) أولى بنا من أنفسنا ، فما كتبه لنا كان لخيرنا وصلاحنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بأن يكلوا أمرهم إليه ، ويرضوا بقضائه ، فليس ذلك إلا للخير والسعادة.

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ

____________________________________

[٥٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : (هَلْ تَرَبَّصُونَ) «التربص» الانتظار ، أي : هل تنتظرون (بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إما النصر والظفر وخير الدنيا ، وإما الشهادة في سبيل الله وفيها خير الآخرة ، فلا يعود تربّصكم بشر لنا أو خير لكم (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) ننتظر أن تقعوا في أحد الشرين (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بأن تهلكوا فتعذّبوا في الآخرة (أَوْ بِأَيْدِينا) بأن ننتصر عليكم فتصبحوا أذلاء في الدنيا خاسرين مقهورين (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا. وهو تهديد في صورة الأمر كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) ، (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي منتظرون ، حتى نرى لمن العاقبة الحسنة ، ولمن العاقبة السيئة.

[٥٣] قد كان بعض المنافقين عرضوا أموالهم لمساعدة المجاهدين في «تبوك» لينجوا بذلك عن الذهاب بأنفسهم ولا يقعوا موقع لوم المسلمين بأنهم نافقوا ، ولم يشتركوا في الجهاد مع المجاهدين ، لكن الله سبحانه أخبر عن نيتهم وأن إنفاقهم لا ينفع شيئا (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : (أَنْفِقُوا) أموالكم للجهاد (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) أي إن أنفقتم طائعين أو مكرهين

__________________

(١) فصلت : ٤١.

إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)

____________________________________

لا يتقبل الله منكم الإنفاق. فاللفظ أمر والمعنى الشرط.

ثم بيّن السبب بقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله سبحانه ، والفاسق لا يتقبل منه الإنفاق ، لأن قبول الأعمال مشروط بالتقوى وهو منفي عنهم ، قال سبحانه : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١).

[٥٤] (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) : أيّ شيء منع قبول إنفاقهم والإثابة عليه؟ إنه كفرهم (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) فإن الكفر الباطني مانع عن قبول الأعمال ، وإن أظهر الإسلام (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) متثاقلين ، فإن المؤمن حيث امتلأ إيمانا يقدم على الطاعات بكل شوق ورغبة ، بخلاف المنافق الذي لم يذعن قلبه لشيء ، فإنه لا يأتي الصلاة وسائر الطاعات إلّا متثاقلا كسلانا فإنه يريد بذلك إراءة الناس (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) للإنفاق ، لأنهم لا يدفعون المال عن عقيدة وإخلاص ، وإنما يدفعون للتستر بالإسلام والتحفّظ على أنفسهم من ألسنة المؤمنين ، لئلّا يظهر ما ينوون من الكفر والنفاق.

__________________

(١) المائدة : ٢٨.

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)

____________________________________

[٥٥] (فَلا تُعْجِبْكَ) يا رسول الله (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين وأولادهم ، ولا تنظر إليهم بعين الإعجاب ، فإن الأموال والأولاد قد تكون نعمة وخيرا حينما يشكر الإنسان وجودها ويصبر ويحتسب لفقدها ، أما إذا لم تكن كذلك ، فهي بالعكس تصبح وبالا على الإنسان (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) بهذه الأموال والأولاد (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن النفس غير المطمئنة تكون دائمة القلق على مصير الأموال والأولاد لأنها دائمة الخوف عليهما ، أما المؤمن فإن بقيت أمواله وأولاده شكر وإن ذهبت صبر ، وعلم أن ذلك موجب للأجر والثواب ، فلا يكون خائفا قلقا.

قال أحد الكافرين : إن أعجب ما رأيت من شيخ مسلم أنه كان صاحب أغنام تعدّ بالألوف وكان جميع كيانه بها وإذا به يفاجأ ذات يوم ـ وأنا عنده ـ بأن يخبره آت قائلا : إن الأغنام ذهب بها السيل ، قال : وكنت أترقب انقلابا في حال الشيخ الذي ذهب كل كيانه بذهاب أغنامه ، وإذا به يقول : «إنا لله وإنا إليه راجعون ، وماذا نصنع؟ نتوكل على الله ، ونصبر ، فهو خير للصابرين» وكأن أمرا لم يحدث.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) تهلك وتذهب بالموت بصعوبة ، فهم قد عاشوا في الدنيا بصعوبة وقلق ، وها هم يموتون ، وحينما تريد أرواحهم أن تخرج ، تخرج بصعوبة ، فيموتون بكل صعوبة (وَهُمْ كافِرُونَ) فقد عاشوا أشقياء ، وماتوا أشقياء ويحشرون أشقياء إذ ماتوا كافرين. ثم إن جملة «تزهق» إما استئنافية ، وإما عطف على «ليعذبهم». وإرادة الله

وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)

____________________________________

ذلك ، إنما كانت بسبب أنهم أعرضوا عن الحق فتركهم الله سبحانه في كفرهم. وهو معنى إرادته أن يموتوا كافرين.

[٥٦] وقد كان هؤلاء المنافقين يريدون اللعب على حبلين ، فحيث أن السلطة بيد المسلمين يريدون إرضاءهم بإظهار أنهم منهم ، وحيث أن قلوبهم كانت منكرة كانوا مع الكافرين باطنا وعملا ، لكن الله سبحانه أبدى نواياهم (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) يقسمون بالله إنهم مثلكم في الإيمان والإخلاص (وَما هُمْ مِنْكُمْ) ليسوا مثلكم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) من «فرق» بمعنى خاف ، أي يخافون ويجتنبون القتل والقتال ، وكيف يكون من يجبن مثل غيره من المسلمين الأقوياء القلوب؟!

[٥٧] (لَوْ يَجِدُونَ) أي لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء (مَلْجَأً) حصنا ، ويسمّى الحصن بذلك ، لأن الإنسان يلجأ عند الخوف إليه (أَوْ مَغاراتٍ) جمع «مغارة» ، من «غار يغور» إذا دخل ، ومنه «الغار» بمعنى النقب في الجبل (أَوْ مُدَّخَلاً) من «ادّخل» أصله أو «تدّخل» من باب الافتعال قلبت تاؤه دالا ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ، والمراد به النفق وشبهه ، أي : لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء محل فرار سواء كان حصنا أو غارا أو ثقبا في الأرض (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) أي فروا منكم ومن القتال إلى ذلك المخبأ (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) من

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ

____________________________________

«الجموح» بمعنى المضي مسرعين بحيث لا يردهم شيء.

[٥٨] (وَمِنْهُمْ) أي من المنافقين (مَنْ يَلْمِزُكَ) يقال : «لمز الرجل» إذا عابه ، قال سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) ، (فِي الصَّدَقاتِ) أي في تقسيم الصدقات وهي الغنائم وما أشبهها ، مما فرضه الله سبحانه لإقامة المصالح ، أي يطعنون عليك في تقسيمك (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) وقالوا إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدل وأعطى الحق في موضعه (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) يغضبون ويعيبون ، فليسوا معترفين بك وأن أعمالك إنما تصدر عن الوحي ، بل هم طلاب دنيا.

ورد أن هذه الآية نزلت لما جاءت الصدقات وجاء الأغنياء وظنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسمها بينهم ، فلما وضعها في الفقراء تغامزوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمزوه وقالوا : نحن الذين نقوم في الحرب وننفر معه ونقوّي أمره ، ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ولا يغنون عنه شيئا.

إنهم قالوا هذا القول وطعنوا في الرسول ، لا حبا للعدالة ، بل غضبا لأنهم لم ينالوا منها.

[٥٩] (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي ما أعطاهم الرسول بحكم

__________________

(١) الهمزة : ٢.

وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ

____________________________________

الله سبحانه (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) كافينا (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإن لم يقسم لنا من هذه الصدقة قسم لنا من غيرها (وَرَسُولُهُ) ذكر الله لأنه الآمر ، وذكر الرسول لأنه المقسم والمعطي (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) نرغب إليه ونطلب منه سبحانه أن يوسع علينا. أي «لكان خيرا لهم» هذا هو جواب «لو» فإنه حذف للدلالة على العموم والتوسعة ، فإن المذكور إنما هو لفظ واحد بخلاف المحذوف ، ولذا قالوا : إن حذف المتعلق يفيد العموم.

[٦٠] ثم بيّن سبحانه مصرف الصدقات ، وأنها يجب أن تصرف في المصارف المذكورة لا أن تعطى للأغنياء والطامعين (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) المراد بالصدقات الزكاة ـ كما أجمع المفسرون عليه ـ وهي تؤخذ بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر ، من أموال تسعة ، بعنوان الوجوب ، ومن غيرها بعنوان الاستحباب ـ كما فصّل في الفقه ـ والأموال التسعة هي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والذهب ، والفضة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب. بشرائط مخصوصة ، وتعطى لثمانية أصناف ، منهم :

الفقراء الذين لا يجدون قوت سنة لأنفسهم ولعيالهم حسب شأنهم ، لا قوة ولا فعلا.

(وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقير ، كأن الفقر أسكنه

وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ

____________________________________

الأرض فلم يقدر على التحرك ، وحيث أنهم في المجتمع صنفان متمايزان ، إذ هناك صنف تعسّرت أموره وإن كان ظاهره لا بأس به ، وصنف داخل في العجزة كالعميان والزمنى ومن إليهم ، ذكرهم سبحانه صنفين ، وإن كان الميزان في الصنفين واحدا ، وهو عدم تمكنهم من مؤونة سنة فعلا وقوة.

ولعل وجه تقديم الفقراء : أن إعطاءهم من الزكاة أبعد في النظر ولذا جيء بهم أولا ، تداركا لهذا البعد ، كما أنك إذا أردت أن تعدّ من أتاك تذكر الأبعد في نظر السامعين ، كما أن ذكر المساكين مع أنهم داخلون في الفقراء لعلة ، وذلك لدفع احتمال أن مثل هؤلاء لا بد وأن يعيشوا على إحسان المحسنين من الذين يتصدقون بالصدقات المستحبة لدفع البلاء ، كما جرت العادة ، لا أن يكون لهم رزق في خزينة الدولة.

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) أي الذين يعملون لأجل جمع الزكوات ، وجبايتها ، ولو كانوا أغنياء فإنهم يأخذون حق العمل ، ولفظة «على» لأجل أن العامل يقتطع من أموال الناس ، فهو شبيه بالضرر ، فإنه يعمل لأجل الفقير ، على الغني.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار الذين يراد تأليف قلوبهم بالمال ليميلوا نحو الإسلام أو نحو المسلمين ، فإن الأموال تقرّب الناس إلى الناس ، وتقرّب الناس إلى الأديان والمبادئ ، وكذلك المسلمون الذين أسلموا ولكن لم يدخل الإسلام في قلوبهم فيعطوا من الزكاة لتقوى عقيدتهم ، ويستحكم إسلامهم.

وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)

____________________________________

(وَفِي الرِّقابِ) جمع «رقبة» والمراد بها : الإنسان ، فإن الرقبة تستعمل في الإنسان بعلاقة الجزء والكل ، كما أن «العين» تستعمل في الجاسوس بهذه العلاقة ، والمراد بهم : العبيد الذين هم تحت الشدة ، يشترون من الزكاة ويعتقون ، وكذلك العبيد الذين كاتبوا مواليهم ولم يقدروا على دفع تمام مال الكتابة.

(وَالْغارِمِينَ) جمع غارم ، من «غرم» بمعنى استدان ، والمراد بهم : الذين اقترضوا ثم أنفقوا المال في غير معصية ، ومن غير سرف ، فإنهم يعطون من الزكاة ليؤدّوا ديونهم ، أو تدفع ديونهم منها ولو بعد موتهم.

(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وهي جميع مصالح المسلمين التي من أظهرها : الجهاد لإعلاء كلمة الله.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع به في سفره ، يعطى من الزكاة ليرجع إلى محله ، وإن كان في بلده غنيا. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي افترض الله سبحانه تقسيم الزكاة بهذه الصورة فريضة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بحاجة خلقه (حَكِيمٌ) فيما فرض عليهم ، وعلى من فرض. والكلام حول الزكاة طويل ، راجع «عبادات الإسلام» (١) حتى تعرف بعض أحكامها.

[٦١] كان الكلام حول المنافقين وعلامات النفاق وبعض ما صدر منهم مما

__________________

(١) للمؤلف.

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ

____________________________________

يدل على انحرافهم ونفاقهم ، فمنهم من يلمز النبي في الصدقات ، ومنهم من يؤذي النبي ، ومنهم من يخشى أن تنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة ، تفضحه وتبين نفاقه (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) إيذاء بالقول ، فقد كان عبد الله بن نفيل منافقا ، وكان يقعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع كلامه ثم ينقله إلى المنافقين وينمّ عليه. فنزل جبرائيل عليه‌السلام وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخبر المنافق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك فحلف أنه لم يفعل فقبل منه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب الظاهر ـ ونهاه أن يقعد مع أصحابه من بعد ، فرجع إلى أصحابه وقال : إن محمدا «أذن» أخبره الله أني أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فقبل ، وأخبرته : أني لم أفعل ، فقبل ، فأنزل الله هذه الآية : (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي يستمع إلى ما يقال له ويقبل ، ولا فطنة له بأن يميّز بين الصحيح من الكلام والسقيم.

(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : إني (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن كما قالوا ، ولكن ليس كما قصدوا ، فإن «الأذن» قد يكون في سماع كلام الشر في أحد ثم يرتّب الأثر عليه ، وقد يكون خيرا ، يسمع الكلام ولا يكذّبه ، ولكنه لا يرتّب ما على المجرم من العقاب ، كيف يمكن أن يعاب عليه فعله هذا؟! لكن المنافق هو الذي يرى الإحسان ـ حتى بالنسبة إلى المنافق ـ إساءة.

(يُؤْمِنُ بِاللهِ) إيمانا من القلب ، ويعلم أن الله سبحانه صادق (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لنفع المؤمنين ، وفرق بين «الإيمان به» إذ معناه تصديقه ، و «الإيمان له» ، أي يرتب الأثر الذي هو نافع للمؤمن ، سواء

وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ

____________________________________

اعتقد بذلك أم لم يعتقد. فقد اعتقد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحة كلام جبرئيل المنزل من قبله سبحانه ، كما رتّب أثر الصحة لنفع ذلك المؤمن ـ المنافق ـ حيث لم يعاقبه. ولا يخفى أن «الإيمان» له إطلاقان : إطلاق على كل مؤمن مقابل الكافر ، وهو من أظهر الإسلام ، وإن لم يدخل في قلبه ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (١) ، وإطلاق على المعتقد في مقابل المنافق ، كما قال سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٢) ، والمراد هنا : الإطلاق الأول.

(وَ) هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ولو إيمانا ظاهريا ، حيث أنه هداهم للأصلح بحالهم في الدنيا ، أما المؤمن الحقيقي فإنه سعد بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دنيا وآخرة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) بالقول أو العمل ، لا يظنون أنهم فاتوه حيث لم يعاقبهم وقبل عذرهم ، فلم يرتّب على أذيتهم شيء ، بل (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلأن إيذاء الرسول له أثر وضعي يوجب الخسران والخزي ، وأما في الآخرة فله عذاب أليم في النار.

[٦٢] (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي يحلف هؤلاء المنافقون (لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) حيث أنكم تقبلون عذرهم إذا أقسموا بالله بأنهم لم يقولوا ما قالوا ، ولم يفعلوا ما فعلوا (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي يرضوا كل واحد

__________________

(١) النساء : ١٣٧.

(٢) الحجرات : ١٥.

إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ

____________________________________

منهما ، بالإيمان الصحيح وعدم الإيذاء واقعا ـ مما يريدون ستره بالحلف ـ أما الترضية الظاهرية للرسول ، فإنها لا تنفعهم في الباطن والواقع (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) واقعا ، والمعنى : إن كانوا مؤمنين واقعا لعلموا أن مرضاة الله والرسول أولى من الترضية الظاهرية.

[٦٣] (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أليس يعرف هؤلاء المنافقون (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) «المحادّة» مجاوزة الحد بالمشاقة والمخالفة (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) فإن علموا ذلك فكيف يحادّون الله والرسول بالنفاق وإيذاء الرسول (ذلِكَ) الخلود في النار (الْخِزْيُ) أي الهوان (الْعَظِيمُ) الذي لا خزي فوقه.

[٦٤] (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) أي يخافون ويخشون (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) من القرآن (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي تخبرهم بنفاقهم ، فتكون فضيحة لهم ، وقوله «تنبئهم» لإفادة أنهم كانوا يخفون نفاقهم ، فكأنهم لا يعلمون. وإنما السورة المنزلة تخبرهم حسب تظاهرهم بالنفاق.

ورد أنه لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «تبوك» قال قوم من المنافقين فيما بينهم : أيرى محمدا أن حرب الروم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع منهم أحد أبدا. فقال بعضهم : ما أحرى أن يخبر الله محمدا بما كنّا فيه ، وبما في قلوبنا ، وينزل بهذا قرآنا يقرأه الناس ـ قالوا هذا

قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ

____________________________________

على حد الاستهزاء ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمار بن ياسر : الحق القوم فإنهم قد انحرفوا ، فلحقهم عمار فقال لهم : ما قلتم؟ قالوا : ما قلنا شيئا إنما نقول ذلك على حد اللعب والمزاح. فنزلت هذه الآية.

(قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : (اسْتَهْزِؤُا) أمر في معنى الوعيد (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم وقولكم الاستهزائي.

[٦٥] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) يا رسول الله! عن طعنهم في الدين واستهزائهم بك وبحركاتك ، وقلت لهم : لم فعلتم ذلك؟ (لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) «الخوض» هو دخول القدم في المائع ، من ماء أو طين ، ثم كثر استعماله في الدخول فيها ، يعني : على وجه اللهو دون الجد ، أي كان كلامنا مجرد لعب ولهو دون إرادة الحقيقة والجد (قُلْ) يا رسول الله لهم : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) استفهام إنكاري ، أي كيف تستهزئون بالله وحججه ورسوله؟

[٦٦] قل يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : (لا تَعْتَذِرُوا) بهذه الأعذار الواهية الكاذبة (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) الظاهري ، فإنهم بإظهارهم الإيمان دخلوا في زمرة المؤمنين ، فاستهزاؤهم هذا كان كفرا ونقضا لذلك الإيمان ، وقد اعتذر بعضهم اعتذارا صادقا فرجع عن نفاقه ودخل

إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)

____________________________________

الإيمان قلبه ، فقبل الرسول عذره وعفا الله عنه.

وفي بعض التفاسير : إنه كان مخشي بن حميّر ، ويسمى عبد الرحمن ، وسأل الله بعد توبته أن يقتل شهيدا لا يعلم أحد مكانه ، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر ، ولذا قال سبحانه : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) وهو التائب حقيقة (نُعَذِّبْ طائِفَةً) بسبب أنهم بقوا على نفاقهم و (كانُوا مُجْرِمِينَ) لم ينفكوا عن الجريمة.

[٦٧] ثم بيّن سبحانه حقيقة المنافقين وصفاتهم بقوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي أنهم من طبيعة واحدة وطينة واحدة (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) يأمر بعضهم بعضا بإتيان المنكر ، من الكفر والمعاصي (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) فإذا أراد أحدهم أن يعمل بطاعة نهاه غيره (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) يمسكونها عن الإنفاق ، بخلاف المؤمن الذي يبسط يده بالمال ، أو المراد : قبض أيديهم عن كل خير (نَسُوا اللهَ) عملوا عمل الناسي وإن كانوا ذاكرين له ، فكما أن الناسي يترك المنسي ، كذلك هؤلاء يتركون أوامر الله سبحانه (فَنَسِيَهُمْ) الله سبحانه أي تركهم وشأنهم لا يهديهم طريقا ولا يفعل بهم صلاحا. وليس المراد «النسيان» حقيقة ، لأن الله سبحانه لا ينسى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الذين خرجوا عن طاعة الله سبحانه ، وإن أظهروا

وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً

____________________________________

الإيمان ، و «الفسق» عبارة عن الخروج عن الطاعة. وهذه الآية تعطي ميزان النفاق إلى يومنا ، وما أكثر أمثال هؤلاء في زماننا هذا.

[٦٨] (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ) وحيث كان الكلام حول المنافقين مفصلا ، أما الكفار فذكرهم استطراد (نارَ جَهَنَّمَ) يعذبهم بها جزاء لما اقترفوا من الآثام (خالِدِينَ فِيها) دائمين لا يخرجون منها (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي أن النار تكفيهم جزاء لذنوبهم وكفرهم ونفاقهم (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) طردهم عن نعيمه ورضوانه ، فإن اللعن بمعنى الطرد (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) يقيم عليهم فلا يجدون خلاصا منه. ولعل المراد بذلك : العذاب العام في الدنيا والآخرة ، فإن النفاق خلة يكون صاحبها دائم التعب والنصب لأنه بين المؤمن ، المهين له ، الحذر منه ، وبين الكافر الذي لا يقبله لأنه لم يتمسك بالكفر كما تمسك الكافر الصريح بكفره.

[٦٩] إن هؤلاء المنافقين حالهم كحال الذين (مِنْ قَبْلِكُمْ) من الكفار والمنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان بالأنبياء ويبطنون الكفر ، أو يحادّون الأنبياء ويكفرون بما أنزل إليهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) فإن بعض الأمم كانت قواهم المادية والجسمية أكثر من أمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يشهد بذلك التاريخ ـ (وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) لخصوبة النسل فيهم

فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)

____________________________________

وازدهار التجارة والعمران عندهم (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) «الخلاق» النصيب ، أي صرفوا نصيبهم من المال والقوة والأولاد في الاستمتاع والملذات عوض أن يصرفوها في شكر المنعم وما أمر به (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) أنتم ـ يا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أي المنافقون منهم (بِخَلاقِكُمْ) أي بنصيبكم (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) دون أن تعتبروا بمصيرهم فتصرفوا نعم الله سبحانه فيما أمر (وَخُضْتُمْ) في الكفر والاستهزاء وملاذ الدنيا (كَالَّذِي خاضُوا) أي كخوض أولئك الأولين (أُولئِكَ) الذين صنعوا هذه الصنائع السيئة (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الحسنة ، لأن الحسنة لا تقبل مع الكفر والنفاق والعصيان ، قال سبحانه : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١). ومعنى الحبط ذهاب الأجر (فِي الدُّنْيا) إذ لم ينتفعوا بها ، فإن الانحراف عن مناهج الله سبحانه يوجب المشاكل التي لا تكافأ بها الأعمال ، فمثلا الثروة توجب رفاه الإنسان ، أما إذا كانت مقترنة بالانحراف فإنها توجب الضنك والضيق عوض الرفاه (وَالْآخِرَةِ) فلا ثواب لأعمالهم الخيرة (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم وكل شيء عندهم.

__________________

(١) المائدة : ٢٨.

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ

____________________________________

[٧٠] (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) استفهام إنكاري ، أي ألم يأت إلى هؤلاء المنافقين (نَبَأُ) أي خبر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم (قَوْمِ نُوحٍ) عليه‌السلام حيث أهلكهم الله بالغرق (وَعادٍ) قوم هود عليه‌السلام أهلكهم الله بالريح (وَثَمُودَ) قوم صالح عليه‌السلام أهلكهم بالرجفة (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) عليه‌السلام نمرود وأتباعه ، حيث سلب الله ملكهم ونعمتهم (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) قوم شعيب عليه‌السلام أهلكهم بعذاب يوم الظلة (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) من «ائتفك» بمعنى انقلب ، أي البلاد التي انقلبت وهي بلاد قوم لوط عليه‌السلام حيث أهلكوا ، وذلك أن الله سبحانه أمر جبرائيل فقلب تلك المدن بأن جعل عاليها سافلها (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الظاهرة والأدلة البينة ، لكنهم عصوا وأبوا وتمردوا على الله ورسله فأهلكهم الله بذنوبهم وما (كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) فتعذيبهم بأنواع العذاب لم يكن ظلما منه سبحانه لهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فقد عوقبوا بسبب تمرّدهم وعصيانهم ، وهؤلاء الكفار والمنافقون حالهم حال أولئك ، إن تمردوا وعصوا أخذوا بذنوبهم ، فليحذروا أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم.

[٧١] ولما بيّن سبحانه صفات المنافقين وما فعل بهم كما فعل بأسلافهم ، بيّن صفات المؤمنين والعاقبة الحسنة التي تنتظرهم (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فإن كل واحد منهم ينصر صاحبه

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ

____________________________________

ويؤيده ويعينه ، لأنهم من عنصر واحد وأصل واحد وتجمعهم عقيدة واحدة (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي الأمور الحسنة التي يعرفها الناس من واجب أو مندوب شرعا وعقلا (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الذي ينكره الناس من حرام أو مكروه شرعا وعقلا (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يداومون على فعلها ويحثّون الناس عليها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي الحق المفروض ، أو مطلق الصدقة ، فإن الزكاة تطلق عليهما (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمرهم وينهاهم (أُولئِكَ) المؤمنون الذين هذه صفاتهم (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) إما المراد : رحمتهم في الجنة ، ولذا دخلت «السين» ، وإما المراد : في الدنيا ، ودخول «السين» لإفادة كون الرحمة إنما تأتي بعد مدة من استمرارهم في العمل ونجاحهم في الامتحان ، فلا يتوقع المؤمن أن تشمله الرحمة فورا بمجرد وقوعه في مشكلة ، وإنما تؤخر عنه للامتحان والاختبار (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره متمكن من إنفاذ إرادته (حَكِيمٌ) في تدبيره وفعله ، فيفعل الأشياء حسب المصلحة.

[٧٢] (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بالإضافة إلى الخير في هذه الحياة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من تحت قصورها وأشجارها (خالِدِينَ فِيها) دائمين لا يزولون عنها (وَ) وعدهم (مَساكِنَ

طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ

____________________________________

طَيِّبَةً) مهيأة فيها الأثاث والرياش ، طيبة الهواء والمرافق بحيث يطيب فيها العيش (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) العدن ، والإقامة والخلود ، نظائر ، أي أنهم في جنات الخلود. وورد في بعض الأحاديث : «إنها أعلى الجنان مما لم يخطر على قلب بشر» (١) (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أي أن رضاه سبحانه على هؤلاء المؤمنين أكبر من كل ذلك ، فإن الإنسان إذا علم برضى الكبير منه ارتاح ضميره ، فكيف به لو علم برضاه سبحانه عنه. ومن المعلوم أن ارتياح الضمير أكبر من ارتياح الجسد.

(ذلِكَ) النعيم الجسدي والروحي للمؤمنين والمؤمنات (هُوَ الْفَوْزُ) والنجاح (الْعَظِيمُ) الذي لا نجاح فوقه ولا فوز أكبر منه وأعظم.

[٧٣] وحيث ذكر سبحانه أحوال الكفار والمنافقين وبيّن صفاتهم الذميمة ، أوجب الجهاد لتخليص البشرية منهم (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالمقاتلة والمحاربة وبيان عقائدهم السخيفة ، فإن هذا الجهاد نوع من أنواع الحرب الباردة ـ في الاصطلاح الحديث ـ (وَالْمُنافِقِينَ) وجهاد المنافقين بالوعظ والإنذار لهم ، وإجراء الحدود عليهم ، وتخويف الناس من النفاق. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاهدهم مرة بإظهار نفاقهم ، وتارة بضرب الحصار عليهم ، كما قال سبحانه :

__________________

(١) المستدرك : ج ٦ ص ٦٢.

وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ

____________________________________

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) (١) ، وأخرى بنهي المؤمنين عن أن يتصفوا بخلة النفاق.

ومن المحتمل أن يراد بالمنافق هنا : الكافر المنافق ، فإن بعض الكفار ينافق بإظهار الودّ للمسلم وتأليفه وهو ألد الأعداء له ، في مقابل الكافر الصريح الذي يظهر عداءه وشحناءه.

(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) حتى يرتدعوا ، فإن الغلظة في الكلام والسلوك مع شخص خليق بأن يردعه عن عمله ، كما قال سبحانه : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (٢) ، (وَمَأْواهُمْ) أي محلهم ومصيرهم ، من «أوى» إذا اتخذ مكانا (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المرجع والمأوى لهم.

[٧٤] ومن المنافقين من يتأمرون على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون عنه أشياء ، إذا استنطقهم الرسول حلفوا بالله كذبا أنه لم يصدر منهم شيء ، فقد كان جماعة منهم خرجوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «تبوك» وكانوا كارهين لذلك ، فإذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتقصوه ، فأبلغ ذلك «حذيفة» إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطلبهم وقال : ما هذا الذي بلغني عنكم. فأخذوا يحلفون بالله ما قالوا شيئا ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية تفضحهم (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) أي أقسم هؤلاء المنافقون بالله بأنهم لم يقولوا شيئا ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) فإنهم

__________________

(١) التوبة : ١١٨.

(٢) الفتح : ٣٠.

وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ

____________________________________

بسبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطعن في الإسلام صاروا كفارا (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) الظاهري ، فإن المنافق إذا أظهر الإسلام صار مسلما ، فإذا صدرت منه كلمة الكفر صار كافرا.

لا يقال : إنهم إن كفروا وجب عليهم حدّ المرتد.

لأنا نقول : إنهم كانوا مرتدين عن ملّة ، ولا يحدّ مثلهم ، وإنما يستتابوا ، وإنكارهم كان بمنزلة التوبة ، وإن كان توبة صورية لا حقيقية.

(وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) فقد أرادوا إخفاء نور الإسلام ، وذلك يتحقق بكل ما يهتم به المنافق من إرادة قتل النبي ، وإيجاد الفساد بين المسلمين ، وإخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة ، لكنهم لم ينالوا ذلك ولم يقدروا على ما هموا به ، بل انعكس الأمر فقد زاد الإسلام علوّا ، والرسول ارتفاعا ، والمسلمون سموّا.

وقد ورد في بعض الأحاديث : تأويل الآية بالذين خالفوا الرسول في قصة «غدير خم» وأرادوا إخماد نور الوصي ، وقالوا في الرسول كلاما بذيئا (١).

(وَما نَقَمُوا) النقمة الإنكار والغضب ، أي أن هؤلاء لم ينكروا على المسلمين (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإن الله سبحانه أغنى المسلمين وأنعم عليهم ، بفضل إرشادات الرسول ، فلم يكن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٧ ص ١١٥.

فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا

____________________________________

للمسلمين ذنب يستحقون به النقمة من المنافقين ، ولكن المنافقين كرهوا ذلك حسدا ، أو المراد : أن الله أغنى هؤلاء المنافقين ، فكان من اللازم أن يحبوا الله ورسوله حيث أعطاهم الغنائم لكنهم جعلوا مكان الشكر كفرانا ، كما يقال : «لم يكرهني فلان إلا لأني أحسنت إليه».

(فَإِنْ يَتُوبُوا) عن نفاقهم ويرجعوا إلى الحق (يَكُ خَيْراً لَهُمْ) في دنياهم وفي آخرتهم حيث يكونون كسائر المسلمين لا يجتنب أحد منهم ولا يكرههم المسلمون ، ويقال في مثل هذه المواضع «خير» مقابل ما يظن أنه خير ، وإن لم يكن إلا شرا واقعا (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي يستمروا على إعراضهم عن الحق وسلوكهم سبيل النفاق (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً) مؤلما موجعا (فِي الدُّنْيا) باجتناب المسلمين لهم ، وتضييق العيش عليهم ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) ، (وَ) في (الْآخِرَةِ) بالنكال والنار (وَما لَهُمْ) ليس لهم (فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍ) يلي أمورهم ويحبهم (وَلا نَصِيرٍ) ينصرهم ، فليس كما ظنوا أن المنافقين ينصرونهم إذا وقعوا في المشاكل ، فإن المنافق حيث اختمر على طبيعة النفاق ، لا ينصر حتى أخاه وأقرب الناس إليه.

[٧٥] (وَمِنْهُمْ) من المنافقين (مَنْ عاهَدَ اللهَ) أي عهد مع الله (لَئِنْ آتانا

__________________

(١) طه : ١٢٥.

مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ

____________________________________

مِنْ فَضْلِهِ) أعطانا الله من كرمه وجوده (لَنَصَّدَّقَنَ) نتصدق على الفقراء (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) فيما أعطانا الله فننفق المال في وجهه ، ولا نكون مفسدين مسرفين.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف كان محتاجا فعاهد الله ، فلما آتاه بخل به. وفي التفاسير : أنه قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالا. فقال : يا ثعلبة «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فدعا له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة ، وبعث رسول الله المصدق ليأخذ الصدقة ، فأبى وبخل وقال : ما هذه إلا أخت الجزية. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة» (١).

[٧٦] (فَلَمَّا آتاهُمْ) أي أعطاهم الله (مِنْ فَضْلِهِ) وجوده ما طلبوه (بَخِلُوا بِهِ) ولم يدفعوا حقه ولم يفوا بما عاهدوا عليه (وَتَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن إعطاء حقه كما أمر الله (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن دين الله وأحكامه وأوامر الرسول وأعمال الخير.

[٧٧] (فَأَعْقَبَهُمْ) فأورثهم بخلهم ونقضهم لعهد الله (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ)

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ١٣ ص ٢٥٦.

إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)

____________________________________

فإن الإنسان إذا أعرض عن أمر كبير لا بد وأن يختلق لنفسه تبريرات وأعذارا ، ليبرّر موقفه ، وذلك هو النفاق (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) أي يلقون جزاء بخلهم ، فالضمير عائد إلى البخل ، وأريد به جزاءه ، أو المراد نفس البخل ، بناء على تجسيم الأعمال ، أو الضمير عائد إلى الله سبحانه المعلوم من السياق ، و «ملاقاة الله» إنما هي في القيامة بملاقاة حسابه ، فإنه سبحانه منزّه عن المكان والرؤية.

وذلك بسبب ما (أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) بسبب خلفهم للعهد الذي عاهدوا ، من أن الله إذا أعطاهم من فضله تصدّقوا وكانوا شاكرين (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي وبسبب كذبهم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المراد بالكذب عليه : أن الصدقة أخت الجزية ـ كما تقدم ـ.

[٧٨] (أَلَمْ يَعْلَمُوا) استفهام إنكاري ، أي أليس يعرف هؤلاء المنافقون (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) المخفي في نفوسهم (وَنَجْواهُمْ) التي يتناجون بها مع أمثالهم من المنافقين؟ فإن المنافق لا بد وأن يتناجى مع أمثاله لجعل حلول ومبرّرات لموقفهم النفاقي ، كما تدور الأسرار في نفوسهم فيقلبون أوجه الرأي للخلاص من مأزقهم (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يعلم ما غاب عن الحواس ، من الأمور المختفية في النفوس ، والنجوى ، وغيرهما ، فإذا علموا ذلك ، فلما ذا لا يخشون منه سبحانه ولا يفعلون حسب مرضاته؟

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)

____________________________________

[٧٩] وكان من المنافقين من يرصدون للمسلمين ليعيبونهم ، فقد جاء رجل من المؤمنين بصاع من تمر للصدقة ، فقال المنافقون : إن الله غني عن صاعه ، وإنما جاء بذلك حتى يذكر في المتصدقين. وجاء رجل آخر بصرّة من دراهم ، فقالوا : إنه جاء بذلك للرياء ، فعابوا المكثر بالرياء ، والمقل بالإقلال ، فنزل قوله تعالى : المنافقون (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) «اللّمز» هو الطعن ، أي يطعنون (الْمُطَّوِّعِينَ) أي معطي الصدقة تطوعا من «اطّوع» ، أصله «تطوع» ، أدغمت التاء في الطاء ، وجيء بهمزة الوصل ، لتعذر الابتداء بالساكن (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ولعلّ ذكر هذا للدلالة على أن إيمان المتطوع كان اللازم أن يحجز القائلين من الطعن بهم ، لكنهم منافقون لا يبالون بالإيمان والمؤمنين (فِي الصَّدَقاتِ) كما طعنوا فيمن أعطى الدراهم (وَ) يلمزون (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي إلّا طاقتهم في الإنفاق والتصدق ، كما عابوا من أعطى الصاع (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) ويستهزئون بهم (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) أي يجازيهم جزاء سخريتهم. وقد تقدم تفصيل الكلام في سورة البقرة ، في قوله سبحانه : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (١) ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع.

[٨٠] روي أنه عند نزول آية (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) في حق المنافقين قالوا : يا

__________________

(١) البقرة : ١٦.

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ

____________________________________

رسول الله استغفر لنا فوعدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستغفار ، فنزلت الآية : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يا رسول الله (أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الصيغة الأولى للأمر ، والمراد بها المبالغة في الإياس ، أي سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر فإنهم لا يستحقون الغفران ، ولذا لا يغفر الله لهم (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) صيغة مبالغة يراد بها الكثرة ، كما يقال : «لو قلت لي ألف مرة ما قبلت» لا يريد الألف ، بل المراد أنه لا يقبل وإن قال فوق الألف (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لأنهم جبلوا على النفاق والجبل عليه لا يفيده الاستغفار ، وهذا ليس إهانة للرسول ـ كما زعم ـ بل أفرغ التوبيخ لأولئك في هذا القالب ، كما تقدم في قوله : (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (١).

وإن قيل : كيف جاز للرسول أن يعدهم بما لم يفعل؟

قلنا : إن ثبتت الرواية ، لم يكن به بأس لأن الاستغفار إنما كان لأجل أن يغفر الله ، فإذا أخبر سبحانه بأنه لا يغفر لم يبق للاستغفار مجالا ، كما لو وعد إنسان بإطعام زيد ثم مات زيد. ثم إنه كان مراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاستغفار بالشرط فلم يكن إخبارا مطلقا حتى يقال أنه يلزم جهله بالمستقبل ، وأنه تكلم من عند نفسه ، وهذا ينافي قوله تعالى : (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢).

__________________

(١) الأعراف : ١٥١.

(٢) النجم : ٤ و ٥.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا

____________________________________

(ذلِكَ) الذي تقدم من عدم قبول توبتهم وعدم فائدة الاستغفار بالنسبة إليهم بسبب أنهم أي المنافقين (كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) كفرا باطنا ، وإن أظهروا الإسلام (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) فإنه سبحانه لا يلطف بهم اللطف الخفي بعد أن خرجوا عن طاعته وخالفوا أوامره عن علم وعمل.

[٨١] (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) «المخلّف» بصيغة المفعول من باب «التفعيل» هو المتروك خلف من مضى ، وسمّي مخلفا لأنه تخلّف بنفسه ، أو خلّفه شخص آخر وأبقاه ، كالمؤخّر ، (بِمَقْعَدِهِمْ) هو «مصدر ميمي» بمعنى «القعود» أي أن من تخلفوا عن الجهاد في تبوك ، فرحوا بقعودهم (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) أي بعده ، أو بمعنى : بقاؤهم خلافا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد فرحوا بأنهم نجوا من تلك السفرة المتعبة الخطرة (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ترجيحا للراحة على التعب (فِي سَبِيلِ اللهِ) ولإعلاء كلمته (وَقالُوا) قال أولئك المخلّفون للمسلمين ولنظرائهم من المنافقين : (لا تَنْفِرُوا) أي لا تذهبوا للجهاد (فِي الْحَرِّ) فإن وقت خروجهم كان مصادفا للحر الشديد (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (نارُ جَهَنَّمَ) التي تجب للمتخلّف (أَشَدُّ حَرًّا) من هذه الحرارة التي يلاقيها المجاهدون ، فهي أولى بالاحتراز من هذه

لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)

____________________________________

(لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي يفهمون ، والمعنى : أنهم لو فقهوا لعلموا أن نار جهنم أولى بالاحتراز والتجنّب.

[٨٢] إن الفرح الذي فرحه المخلفون بسبب بقائهم يوجب لهم العذاب الدائم ، فاللازم أن يضحكوا قليلا لأنه لم يبق لهم مجال للضحك ، فقد استحقوا بذلك العقاب ، والمهدّد لا يضحك (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) إنه ليس أمرا بالضحك وإنما بيان لوجوب التقليل من ضحكهم (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) حيث عملوا ما يستحقون به البكاء حيث اشتروا النار بفرارهم من الزحف (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من النفاق والتخلّف عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٨٣] (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) يا رسول الله من هذه الغزوة ـ غزوة تبوك ـ (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) لا خصوصية للرجوع إلى الطائفة ، وإنما المقصود ترتيب الأثر على تلك الطائفة من المنافقين الذين تخلفوا عن تبوك (فَاسْتَأْذَنُوكَ) أي طلبوا منك الإذن (لِلْخُرُوجِ) معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ) لهم : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) إلى الغزوة (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) فإنا قطعنا عنكم ولا صلة بيننا وبينكم (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ) عن الجهاد (أَوَّلَ مَرَّةٍ) في غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) الذين

وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤)

____________________________________

يخالفوننا ، وكونوا معهم دائما ، إن الذي يترك الإنسان في ساعة العسرة لا يصلح أن يكون معه ، فطبعه طبع انهزامي مخلد إلى الدعة ، ولو خرج لم يزد إلا خبالا وخذلانا ، فلذا كان اللازم أن يجتنب عنه إطلاقا ، بالإضافة إلى أن الإسلام في غنى عنه ، وهو لا يستحق شرف الجهاد فليبق في بيته ويكن مع الخالفين.

[٨٤] ثم نهى سبحانه نبيه عن الصلاة على مثل هؤلاء المنافقين ليحذر غيرهم من النفاق ، ولأنهم لا يستحقون الرحمة والغفران (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ) أي إذا مات أحد هؤلاء المنافقين فلا تصلّ على ميتهم (أَبَداً) أي إلى الأبد ، فإنه تجوز الصلاة على من لم يصلّ عليه إلى آخر العمر ـ على قول ـ لكن المنافق لا يستحق ذلك (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي لا تقف على قبره للدعاء كما هو عادة الناس أن يقفون على قبر المسلم يدعون له ويستغفرون من أجله.

وذلك بسبب (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) وإسلامهم الظاهري إنما حقن دماءهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ، لكنه لم يدخلهم في زمرة المؤمنين الذين لهم الكرامة (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله سبحانه. ثم إن المراد ب «الصلاة» طلب الرحمة له ، كما أن المراد ب «الوقوف على قبره» ذلك ، فلا ينافي ذلك ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعبد الله ابن أبيّ المنافق الذي مات فصلّى الرسول عليه ، ولعنه عقيب الرابعة. ثم إنه قد اختلفت الأقوال حول هذا المنافق مما لا يهمنا التعرّض له.

وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا

____________________________________

[٨٥] (وَلا تُعْجِبْكَ) يا رسول الله ، أي لا تنظر نظرة إعجاب ـ المستلزمة للتكريم ـ (أَمْوالُهُمْ) أي أموال المنافقين (وَأَوْلادُهُمْ) الكثيرة ، كيف قد منحوا ذلك ، وأنها تدل على تكريم الله لهم ، بل بالعكس (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها) بهذه الأموال والأولاد (فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) «زهق النفس» عبارة عن هلاكها (وَهُمْ كافِرُونَ) فهم بين عذاب الدنيا للمال والأولاد من التبعة والهموم ، وبين عذاب الآخرة حيث أنهم يموتون مع الكفر. وقد مر تفسير الآية فراجع.

ولعل المقصود من تكرار الآية : النهي عن هذا النوع من التكريم اللاشعوري للكفار والمنافقين ، فإن نظر الإعجاب هو نظر التكريم ، فيختلف المقصود هنا من المقصود هناك.

[٨٦] (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن الكريم تتضمن (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ) إما بالنسبة إلى غير المؤمنين ، وإما بالنسبة إلى المنافقين ، أي آمنوا إيمانا صحيحا ، وإما بالنسبة إلى المؤمنين بقصد إبقائهم على الإيمان واستقامتهم فيه نحو (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) لإعلاء كلمة الإسلام ، فآمنوا ، وادعوا غيركم إلى الإيمان والجهاد (اسْتَأْذَنَكَ) أي طلب منك الإذن في عدم الجهاد (أُولُوا الطَّوْلِ) أي أصحاب المال والقدرة والغنى (مِنْهُمْ) من المنافقين (وَقالُوا ذَرْنا)

نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

أي دعنا (نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) الذين ليس عليهم جهاد ، من النساء والصبيان والعاجزين.

[٨٧] (رَضُوا) أي رضي هؤلاء المنافقين (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جمع «خالفة» ، وهي المرأة سميت به لأنها تتخلف عن الجهاد ، أو هو أعم من «الخالف» فإن «فارس» يجمع على «فوارس» ، والمراد : كل من تخلف عن الجهاد من النساء والصبيان والعاجزين (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) فإنهم بسبب نفاقهم طبع عدم الإيمان على قلوبهم (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) قبح عملهم وتركهم للجهاد ، كشأن كل إنسان انغمر في الشهوات والمفاسد ، فإنه لا يعرف قبح عمله بل يراه حسنا.

[٨٨] (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) إيمانا صادقا (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) بإنفاقها في سبيل الله. وسمي جهادا لأن بذل المال يحتاج إلى جهد النفس وتعبها (وَأَنْفُسِهِمْ) يقاتلون الكفار ويجالدون المردة الفجار (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) المنافع والأشياء الخيرة من خيرات الدنيا والآخرة ، فإنهم يحرزون حسن السمعة والمال في الدنيا ، والنعيم في الجنة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون الناجحون.

[٨٩] (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها

خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)

____________________________________

وقصورها ، فهم مشرفون على الأنهر الجارية ، وفي ذلك لذة ومتعة (خالِدِينَ فِيها) أبدا لا خروج لهم منها ، ولا زوال لنعيمها عنهم (ذلِكَ) الإحراز للخيرات وللجنات (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا شيء أعظم منه.

[٩٠] أمام الحركات ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف : قسم يأتي وينضم إلى الحركة ، وقسم لا يأتي ولا يعتذر ، وقسم يأتي ويعتذر. وهكذا حدث في غزوة تبوك ، فالمؤمنون الصادقون انضموا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمنافقون بعضهم جاء ليعتذر بلا مبرّر ، وبعضهم لم يجئ إطلاقا حتى للاعتذار (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) من «اعتذر» باب «التفعيل» بمعنى : أبدى العذر بدون أن يكون ذا عذر في الحقيقة (مِنَ الْأَعْرابِ) إما المراد بهم : أهل البدو ، وإما المراد : أهل الحضر ، لكنهم شبّهوا بالأعراب في عدم استحقاقهم التكريم ، كما قال سبحانه : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) (١).

جاء هؤلاء (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) أي يأذن لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التخلّف عن الجهاد (وَقَعَدَ) المنافقون (الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في باطنهم ، وإن أظهروا التصديق في الظاهر ـ كما هو شأن المنافق ـ فإن هؤلاء لم يأتوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للاعتذار بل قعدوا في مكانهم وكأن أمرا لم يحدث (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من هؤلاء (عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع ، وإنما خصص جماعة منهم لأنهم لم يكفروا كلهم ، فالمعذورون من

__________________

(١) التوبة : ٩٧.

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ

____________________________________

الأعراب غالبا لا ينطوون على الكفر ، وإنما يتخلّفون تكاسلا.

[٩١] ثم بيّن سبحانه أهل الأعذار الذين يسقط عنهم الجهاد بقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) جمع «ضعيف» كالشيخ الكبير ، والضعيف البنية ، والعاجز لعمى أو زمانه أو ما أشبه ـ مما لا يسمّى مرضا ـ (وَلا عَلَى الْمَرْضى) جمع «مريض» وهم أصحاب الأسقام والعلل المانعة عن الجهاد (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) ليست معهم نفقة الخروج وأسباب السفر (حَرَجٌ) ضيق ، فلا جناح عليهم في التخلّف عن الجهاد (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن أخلصوا العمل من الفسق ، وكانوا ناصحين في قرارة نفوسهم. وليس المعنى : وجود الحرج لغير الناصح ـ من جهة عدم الجهاد ـ بل المراد : أن عدم الحرج المطلق إنما يترتب على العاجز الناصح ، أما العاجز المنافق فعليه حرج من جهة نفاقه.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) لا سبيل على تعذيبهم ولا جناح عليهم ، فإنهم محسنون في أعمالهم. ولا يخفى أن الآية لا تدل على أن مريد الإحسان لا جناح عليه وإن أساء ، فإن الظاهر منها أن المحسن حقيقة لا جناح عليه (وَاللهُ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم ، فلا يحمّلهم فوق طاقتهم.

لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)

____________________________________

[٩٢] (وَلا) سبيل وجناح (عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) «ما» زائدة تأتي لتزيين الكلام ، أي إذا جاءوك يا رسول الله (لِتَحْمِلَهُمْ) أي يسألونك مركبا يركبون عليه ليجاهدوا (قُلْتَ) يا رسول الله : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فليس عندي مركب تركبونه (تَوَلَّوْا) أي رجعوا (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) أعينهم تسيل بالدموع من حزنهم (أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) ينفقونه لأجل تهيئة وسائل الجهاد.

ورد أن سبعة من الأنصار جاءوا إلى الرسول يطلبون منه المركب ليرافقوه في غزوة ، فاعتذر منهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه لا يجد ما يحملهم ، فرجعوا باكين (١). وفيهم نزلت الآية.

[٩٣] (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي السبيل لعقابهم ولومهم (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يطلبون إذنك للتخلّف عن الجهاد والبقاء في المدينة (وَهُمْ أَغْنِياءُ) قادرون على الجهاد ونفقاته (رَضُوا) أي رضي هؤلاء المستأذنون (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) من النساء والصبيان والعاجزين (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بسبب نفاقهم (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بأن تخلّفهم عن الجهاد يسبب

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١٠٤.

تقريب القران الى الأذهان

الجزء الحادي عشر

من آية ٩٤ من سورة التوبة

إلى آية ٦ من سورة هود

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

____________________________________

[٩٤] لنذكر طرفا يسيرا من هذه الغزوة «تبوك» من كراس «رسول الإسلام في المدينة» من السلسلة التي وضعناها في قادة الإسلام (١) : لما خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة استعرض الجيش فكانوا ثلاثين ألفا ، فغمر الجيش الفرح لكثرة عددهم ، لكنهم عانوا في هذه السفرة أشد أنواع الجوع والعطش ، فالمضرة كبيرة ، والحر شديد ، والقلوب متعلقة بالمدينة ، إذ نضجت الثمار ، وحان قطفها ، والمركوب قليل ، حتى أن العشرة منهم كانوا يتناوبون في ركوب جمل واحد ، والطعام قليل جدا ، ففي بعض الأحيان كان نفران منهم يتقاسمان تمرة واحدة شق لهذا وشق لذاك ، وأصابهم أشد العطش فكانوا ينحرون إبلهم العزيزة ، لينقبوا كروشها ، ويشربوا ماءها ، أو يعتصروا فرثها ليشربوا عصيره ثم يجعل ما بقي على كبده ، حتى أن بعضهم رأى الموت بعينيه ، فطلبوا من النبي الاستسقاء ، فدعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رافعا يديه إلى السماء. قال الراوي : فلم يرجعوا حتى هطلت السماء بمطر غزير.

هذا بالإضافة إلى الإشاعات التي ملكت القلوب ـ وإن سارت بأجسامها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنه لا بد وأن تقضي جيوش الروم الهائلة المنظمة على الجيش الإسلامي ، فلا يبقى منه أحد ..

وسار الرسول حتى وصل «تبوك» وقد كان «هرقل» وزع رواتب سنة كاملة على جيشه ، كما وزع أموالا طائلة على القبائل التي استخدمها لقتال المسلمين ، وهم لخم وجذم وعاملة وغسان وغيرها ... وقد أتت الروم أنباء هائلة عن جيش المسلمين ، مما رأوا أن

__________________

(١) للمؤلف.

____________________________________

من الصالح عدم دخولهم في قتال لا يعرف مصيره ، وقد كان الروم شاهدوا في حرب «مؤتة» قتال المسلمين ، فإذا لم يتمكن جيشهم ، وعدده «مائتا ألف» من جيش «مؤتة» الذي كان بقيادة جعفر عليه‌السلام وعدده «ثلاثة آلاف» فكيف يقاوم جيشهم جيش الإسلام كله وهم لا يعلمون عدده من الكثرة بقيادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولذا قرروا انسحاب الجيش ، فانسحبوا قبل الاصطدام بجيش المسلمين.

وصل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «تبوك» فلم يلق جيشا ، فاستشار أصحابه في غزو بني الأصفر ـ أي الروم ـ والرجوع إلى المدينة؟ فأشاروا على الرسول بالرجوع ، فبقي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك عشرين يوما ، وعقد الاتفاقيات مع الزعماء والقبائل ، فأرسل إلى أصحاب أيلة : «يوحنا بن روبة» بالإذعان للمسلمين أو الغزو؟ لكن «يوحنا» كان رجلا حكيما ، فاختار الإذعان ، وتم الاتفاق بإعطائه الجزية للدولة الإسلامية ، وعدم التعرض للدعوة الإسلامية ... وعقد الصلح بين المسلمين وبين أهل «جرباء» وهي قرية في منطقة «عمان» بالبلقاء ، من أراضي الشام ، على مثل المصالحة مع صاحب أيلة ... وعقد الصلح بين المسلمين وبين أهل «أذرح» قرية أخرى قريبة من الجرباء بمثل مصالحة الجرباء .. وتم الصلح بين المسلمين وبين «الأكيدر» ملك «دومة الجندل» على بذل الجزية وعدم التعرض للمسلمين.

وانتظر الرسول جيوش الروم لكنها لم تزحف ، فأخذ الجيش الإسلامي طريقه إلى المدينة بعد ما أمن الحدود الشمالية ، وصارت له منعة وقوة ، وفتحت مجالات الإسلام في القلوب والمدن والقرى ، وإذا بالمدينة تشاهد غبار جيش الإسلام المنتصر على الإمبراطورية

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ

____________________________________

يبدو في الأفق البعيد ، ويقترب رويدا رويدا ، وإذا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزحف بهذه الجيوش المنتصرة في هيبة الرسالة السماوية ، ويلتقي الإمام بالرسول تلاقي الأخ بأخيه في فرح وسرور ، فقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خلّف عليا في المدينة لئلّا يفسد المتخلفون الجو ، كما كانوا قد تآمروا ، وهناك قال له : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (١) ، ويجيء المتخلفون عن الجيش ، ليعتذروا عما تقدم منهم من تفريط ، ويطهروا آثامهم السالفة بالتوبة والندم (يَعْتَذِرُونَ) أي يعتذر المتخلفون من المنافقين الذين كان عددهم ثمانين ، وقد تخلفوا في المدينة خوفا ونفاقا ، وإرادة للتآمر على الرسول ، وقلب أوضاع المدينة (إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من غزوة «تبوك» بأعذار كاذبة باطلة لا حقيقة لها ولا واقع ، كما هو شأن المنافق في كل زمان (قُلْ) يا رسول الله لهم : (لا تَعْتَذِرُوا) فإن اعتذاركم لا يفيدكم ، فإنا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدقكم في ما تقولون (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) أخبرنا الله عز اسمه (مِنْ أَخْبارِكُمْ) وأعلمنا حقيقة أمركم ، وأنكم لم تخرجوا نفاقا وجبنا لا لعذر مشروع.

وفي بعض التفاسير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى المسلمين أن يكلموهم أو يجالسوهم ليذوقوا وبال أمرهم ، ولئلّا يتجرأ أحد على خرق أوامر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣١ ص ٣٦٦.

وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ

____________________________________

الله والرسول (١).

(وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سينظران في المستقبل إلى أعمالكم الدالة على نفاقكم وعدم صحة أعذاركم ، فإن عمل الإنسان في المستقبل دليل على عمله في الماضي ، فعمله بعضه من بعض (ثُمَّ تُرَدُّونَ) أي ترجعون (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) في الآخرة ، والمراد بذلك : التهديد ، وفي الآخرة سيحاسبكم الله على أعمالكم التي صدرت منكم ، كما يقول الحاكم للمجرم : «سترد إليّ» يريد تهديده بالعقاب (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم الله سبحانه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليها.

[٩٥] وجاء رئيس المنافقين «عبد الله بن أبي» حالفا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يتخلّف بعد هذه الغزوة ، وطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرضى عنه (سَيَحْلِفُونَ) سيقسمون (بِاللهِ لَكُمْ) أيها المؤمنون (إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) إذا رجعتم إليهم ووصلتم إلى المدينة (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) لتصفحوا عن جرمهم ، ولا توبّخوهم على ما صدر منهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) إعراض ردّ وإنكار ، لا إعراض صفح. ومن البلاغة التشابه في اللفظ والاختلاف في المعنى.

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١٠٦.

إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ

____________________________________

(إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي نجس ، والمراد نجاسة باطنهم ، فهم كالشيء المنتن النجس الذي يلزم الاجتناب عنه ، وإلا أصاب الإنسان قذره ونتنه (وَمَأْواهُمْ) مصيرهم (جَهَنَّمُ) فهي مستقرّهم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من النفاق والآثام.

[٩٦] (يَحْلِفُونَ لَكُمْ) يحلف هؤلاء المنافقون لكم أيها المسلمون ، يريدون بذلك تقوية أعذارهم وتصديقكم لهم (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) طلبا لمرضاتكم حتى يؤمّنوا سعادتهم الدنيوية بينكم (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) مجاملة ، أو لعدم علمكم بواقعهم النفاقي (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة الله سبحانه ، ثم لم يرجعوا عن نفاقهم ، قد علقت الآثام بقلوبهم فهي رجس نجس ، والمراد : أن الواجب عدم إظهار المؤمنين الرضا عنهم ، بعد ما علموا أن الله غير راض عنهم.

[٩٧] وبعد ما ينتهي الكلام حول الكفار والمؤمنين والمنافقين من أهل المدينة ونحوها ، يأتي دور ذكر الكفار والمؤمنين والمنافقين من أهل البوادي ، فإن لأهل البوادي لونا خاصا يميّزهم عن أهل المدن «فالأعراب أشد كفرا» لكفارهم ، (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) لمنافقيهم (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) لمؤمنيهم.

(الْأَعْرابُ) يقال : رجل أعرابي ، إذا كان ساكنا في البادية سواء

أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ

____________________________________

كان عربيا أو أعجميا ، ويقال : رجل عربي إذا كان من العرب سواء سكن البادية أو المدينة (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) لأنهم حيث كانوا من أهل البادية سرت فيهم جفوة الصحراء وقساوة الجهل ، فكفرهم ونفاقهم أشد من كفر كفّار أهل المدن ونفاق منافقي أهل الحضر ، لبعدهم عن الحضارة والعلم والآداب (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي أنهم أحرى وأولى بعدم العلم بالفرائض والسنن وسائر الحدود التي أنزلها الله سبحانه على رسوله ، وإنما قال : «حدود» لأن حدود الأحكام أدق من نفس الأحكام ، ولذا كثيرا ما يعرف الناس الأحكام ، لكنهم لا يعلمون حدودها ، أي خصوصياتها وميّزاتها ، حتى لا يدخل فيها شيء ليس منها ، ولا يخرج منها شيء هو منها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بهم وبأحوالهم (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى بالنسبة إليهم. وفي الآية دلالة على ذم بقاء الإنسان أعرابيا ـ ساكنا للبادية ـ.

[٩٨] (وَمِنَ الْأَعْرابِ) منافقون وهم (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) في سبيل الله (مَغْرَماً) «المغرم» هو الغرم ، وهو نزول نائبة بالمال ، فهم يظنون أن ما أنفقوه في سبيل الله من جهاد أو غيره غرامة لحقت بأموالهم ، حيث لا يرجون خيره وثوابه ، ولا يصدّقون بما قال الله والرسول في سبيل بذل الأموال وأجرها (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم صروف الزمان وحوادث الأيام ، فقد كان هؤلاء المنافقون ينتظرون الانكسار والذلة والفقر وما أشبه للمؤمنين. وسميت الحوادث السيئة بالدوائر ،

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)

____________________________________

لأن الفلك يدور ، فإذا دار جاء بالمكروه ، ولذا يقال لمن يراد تحذيره : «لا تغفل من دوران الفلك».

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذا دعاء على أولئك الأعراب المنافقين بأن تدور الدائرة الآتية بالعاقبة السيئة عليهم ، لا على المؤمنين (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالهم النفاقية (عَلِيمٌ) بضمائرهم ونواياهم ، فيجازيهم عليها.

[٩٩] (وَمِنَ الْأَعْرابِ) قسم طيّب وهو (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيعتقد بما جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحوال المعاد (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ) فيعلم أن إنفاقه يقرّبه من الله سبحانه ، فإن «قربات» جمع قربة ، وهي الأعمال الخيرة التي تورث قرب العبد من الله سبحانه قربا تشريفيا (عِنْدَ اللهِ) فهي تبقى عنده سبحانه لا تضيع ولا تذهب عبثا ، كما كان يظن بعض المنافقين الذين يتخذون إنفاقهم مغرما. (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي يبتغي بما ينفق دعوات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يدعو له بالخير ، فإن «الصلاة» بمعنى العطف والرحمة والدعاء ، فهو عطف على «قربات» (أَلا إِنَّها) أي نفقاتهم (قُرْبَةٌ لَهُمْ) موجبة لقربهم إلى ساحة رضا الله سبحانه ، فلهم ما ابتغوا ، ويبشّرون بحسن العاقبة (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) فتغمرهم الرحمة في الجنة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ

____________________________________

يتفضّل عليهم بالرحمة والرضوان.

[١٠٠] وبعد ذكر أقسام من أهل البلاد وأهل البادية ، يبيّن سبحانه أحوال الأمة بصورة عامة ، وأن فيهم المؤمن والمنافق والكافر ، وأن لكلّ درجات ومراتب (وَالسَّابِقُونَ) إلى الإيمان والطاعة (الْأَوَّلُونَ) بالنسبة إلى غيرهم ، وإن كان فيهم الأول فالأول (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة (وَالْأَنْصارِ) للإسلام وهم أهل المدينة الذين سبقوا إلى الإيمان والنصرة (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أي بالإيمان والطاعة ، فإن الاتّباع يلزم أن يكون لشيء (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ومعنى رضاه أنه أكرمهم وأوجب لهم الخير والجنة (وَرَضُوا عَنْهُ) فهم فائزون بشرف الرضا ، ومن دخل قلبه الرضا عن الرب ارتاح واطمأن (وَأَعَدَّ) الله (لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وقصورها (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا زوال لهم عنها ، ولا تغيّر لها عنهم (ذلِكَ) الرضوان والجنة (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والفلاح الذي يصغر دونه كل شيء ، وإنما فضّل الله السابقين لما تحمّلوه من المشاق والأتعاب في نصرة الدين والجهاد في سبيله.

[١٠١] (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أي في أطراف بلدكم (مِنَ الْأَعْرابِ) الساكنين في البادية ، أي بعضهم (مُنافِقُونَ) يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر

وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

____________________________________

(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أيضا منافقون (مَرَدُوا) أي تمرّنوا حتى صاروا ماهرين (عَلَى النِّفاقِ) وذكرهم بهذه الصفة للإشعار بخطرهم ، فإن المنافق الماهر أكثر خطرا من غيره من المنافقين (لا تَعْلَمُهُمْ) أي لا تدرك حقيقة نفاقهم ولا تعرف أشخاصهم ، وهو تقرير لمهارتهم فيه ، بحيث يخفون عليك حتى أنك لا تعلم ذلك. وهذا لا غضاضة فيه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم الغيب إذا شاء الله. ومن المعلوم أن الله إذا لم يشأ تعليمه بشيء لم يعلمه. ومن المحتمل أن يكون لفظة «لا تعلمهم» استعملت بقصد التهويل من نفاقهم ، فإن مثل هذا اللفظ يستعمل بقصد شيء آخر غير معناه ، فيقال : «أنت لا تعرف زيدا كيف يحسن» يراد بذلك أنه كثير الإحسان.

(نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ونعرف حقائقهم (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) لعلّ المراد : مرّة في الدنيا بالتضييق عليهم وعدم هدوء بالهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) ، ومرّة في القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) هو عذاب النار في الآخرة.

[١٠٢] (وَآخَرُونَ) من أهل المدينة ومن الأعراب حولها (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) فقد جاء بعض المتخلّفين معتذرين إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما صدر منهم من التخلّف ، وكانوا سبعة ندموا على قعودهم وتخلّفهم عن

__________________

(١) طه : ١٢٥.

خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ

____________________________________

الجهاد في غزوة تبوك لما بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فأيقنوا على أنفسهم بالعذاب فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد ، فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلّى ركعتين ـ وكانت هذه عادته إذا قدم من السفر ـ فلما رآهم موثقين سأل عنهم ، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتى يحلّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أؤمر فيهم. فنزلت الآية ، فأطلقهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا بعد ما فكّهم : هذه أموالنا ، وإنما تخلفنا عنك بسببها ، فخذها وتصدق بها وطهّرنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» ، فنزلت ((خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ..) (١).

(خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ) عملا (آخَرَ سَيِّئاً) فإنهم كانوا يقيمون الصلاة ويأتمرون بأوامر الرسول لكنهم تركوا الجهاد في تبوك (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وإنما قال : «عسى» ليكونوا بين الخوف والرجاء (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) بالناس يتفضّل عليهم بالرحمة.

[١٠٣] (خُذْ) يا رسول الله (مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي أموال هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا (صَدَقَةً) هي بعض أموالهم ، ولذا جاء ب «من». والظاهر من السياق أنها غير الصدقة المفروضة التي هي من الزكاة. وقد قال المفسرون : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ ثلث أموال التائبين وترك لهم الثلثين (٢) (تُطَهِّرُهُمْ) تلك الصدقة عن دنس الذنوب

__________________

(١) التوبة : ١٠٣.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٠١.

وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)

____________________________________

والخطايا ، أو المراد تطهرهم أنت بتلك الصدقة ، وتطهير الإنسان بالصدقة إنما هو تطهير معنوي ، فإن للذنوب نجاسة ، والصدقة توجب تنظيف الإنسان من تلك النجاسة ، لأنها موجبة للغفران وحتّ الآثام (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) «التزكية» هي التنمية أي توجب لهم النمو ، وذلك أعم من النمو الخلقي والخلقي وسائر أقسام النمو ، وسميت الزكاة زكاة ، لأنها توجب نمو صاحبها ، أو المال المزكّى ، و «تزكيهم» خطاب ، بخلاف «تطهّرهم» المحتمل للأمرين.

(وَصَلِ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) على معطي الصدقة ، والمراد ب «الصلاة عليهم» الدعاء لهم ، فإن الصلاة عبارة عن الدعاء ، فإن صاحب الصدقة إذا دعا له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جبرا لما يحسّ به من ألم فقد المال (إِنَّ صَلاتَكَ) عليهم (سَكَنٌ لَهُمْ) أي موجبة لسكون خاطرهم وهدوء بالهم وارتياح نفوسهم.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أتاه آت بالصدقة قال : «اللهم صلّ عليه» (١).

والظاهر تحقق الصلاة بكل لفظ أفاد الدعاء ، نحو : «بارك الله لك أو آجرك الله» أو ما أشبه ، كما أن الظاهر من السياق والتعليل أن الحكم عام لا يخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأن لنا برسول الله أسوة حسنة ، فما دل على الخصوصية استثني ، وما لم يدل بقي على عموم الأسوة (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالك وأقوالهم (عَلِيمٌ) بصدقاتهم وما نووه

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١١٨.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ

____________________________________

من النيات الصالحة.

[١٠٤] (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي : ألم يعلم هؤلاء المتصدقين ، أو الناس جميعا؟! وهذا تحريض للناس على التوبة والتصدق ، لا لأولئك التائبين الذين أرادوا أن يتصدقوا. فلا يقال : أنه لا مجال لمثل هذا الاستفهام إلا للمنكر ، فلا يحسن أن يقول الإنسان لمريد الحج : «ألا تعلم أن للحج ثوابا عظيما» ، بل إنما يحسن قول ذلك لمن يريد الحج. وإنما جاء الاستفهام في سياق قصة التائبين لإعطاء الصدقة للمناسبة (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) فلا صغار في التوبة حتى يأنف الإنسان من الإنابة ، إن طرف القبول هو الله العظيم الشأن ، وهذا أمر طبيعي ، فإن الإنسان لا يكره الاعتراف لدى العظيم ، وإنما يكرهه لدى الحقير (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يقبلها ، فليس الآخذ هو الفقير حتى لا يهتم الإنسان بشأنه ، وإنما هو سبحانه ، وذلك يوجب الإعطاء بكثرة واحترام ، لا بقلة وإهانة ، كما هو الطبع البشري في إرادة إعطاء الشيء لمن دونه.

وفي الخبر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل» (١) ، وهذا على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس ، مبالغة في الأمر.

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير قبول التوبة ، إما باعتبار الأفراد ، وإما

__________________

(١) فقه القرآن : ج ١ ص ٢٢٢ ..

الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ

____________________________________

باعتبار كل فرد حيث أن الإنسان لو عصى ألف مرة وفي كل مرة تاب قبلت توبته ، إذا كانت توبة نصوحا (الرَّحِيمُ) الذي يرحم العباد ويتفضّل عليهم.

[١٠٥] وبمناسبة أن الله يقبل التوبة ويأخذ الصدقة ، مما يدل على أنه سبحانه مطّلع على الأعمال ، يأتي السياق لبيان أن كل الأعمال كذلك ، وليس ذاك خاصا بالتوبة والصدقة ، وإن الاطّلاع ليس خاصا بالله سبحانه بل الرسول والمؤمنون أيضا مشاركون له سبحانه في الاطّلاع على أعمال الناس ، وإن كان هناك فرق بين الاطّلاعين ، فالله سبحانه يعلم كل شيء من كل أحد ، والرسول والمؤمنون مطّلعون بقدر ما يريد الله سبحانه.

(وَقُلِ) يا رسول الله للناس عامة : (اعْمَلُوا) ما شئتم من خير وشر ، إن كان المراد صبّ الكلام على أن عملكم سوف يرى ، لأنه حينئذ تجرد الصيغة عن معنى الأمر ، أو المراد : اعملوا الأعمال الحسنة (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) يعلمها سبحانه ، ولعلّ دخول «السين» لأن الرؤية إنما تكون بعد وجود العمل (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) وذلك واضح لا يحتاج إلى التأويل ، أرأيت أن الناس يعلمون الخير من الشر كما يعرفون مقادير الأشخاص في أعمالهم ، منتهى الأمر أن الله سبحانه يعلم الخفايا بالتفصيل ، والمؤمنون يعلمون بالإجمال.

وربما يقال : إن دخول «السين» لتوحيد السياق بين الله والرسول والمؤمنين ، حيث أنهم لا يرون العمل إلا بعد زمان من وقوعه ، كما

وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

____________________________________

ربما يقال : إن الإتيان بهذه الآية عقب الآية السابقة لإفادة أن التوبة المجردة لا تنفع وإنما اللازم تصديقها بالعمل.

وما ورد في بعض الأخبار : أن المراد بالمؤمنين الأئمة عليهم‌السلام (١) فهو من باب المصداق الظاهر ، وإلا فالعموم على حاله ، كسائر الآيات العامة التي لها مصاديق ظاهرة.

(وَسَتُرَدُّونَ) أي ترجعون بعد موتكم (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) ما يشهده الإنسان أي يحضره ، وهو كل ما يدرك بالحواس الظاهرة ، أي سترجعون إلى عالم السر والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم للجزاء (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير أو شر.

[١٠٦] كان المتخلفون عن غزوة تبوك بين منافق معتذر ، ومنافق غير معتذر ، ومخطئ معترف (وَ) هناك (آخَرُونَ) من المتخلفين (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أي مؤخّرون موقوفون ، من «أرجأ» بمعنى «أخّر» فلم يكن هذا القسم منافقا ، ولا مخطئا ، بل إنما تخلّف توانيا عن الاستعداد حتى فاته المسير ، ولم يكن قبل نزول الآية قد بتّ في أمرهم بشيء بل كان موكولا إليه سبحانه ، إما يعذبهم بتوانيهم ، وإما يتوب عليهم بسبب أنهم لم ينافقوا ولم تدنس قلوبهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) لعصيانهم وتخلفهم (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لنقاء قلوبهم (وَاللهُ عَلِيمٌ)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٣٤٧.

حَكِيمٌ (١٠٦)

____________________________________

بنياتهم وسبب توانيهم عن غزوة تبوك (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم من العذاب والتوبة.

لكن الله سبحانه تاب عليهم أخيرا ، وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى في آخر السورة (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) (١) وكان من قصتهم ما ذكره المفسرون حيث قالوا : قد كان تخلف عن رسول الله قوم منافقون وقوم مؤمنون مستبصرون لم يعثر عليهم في نفاق وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، فلما تاب الله عليهم قال كعب : ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك وما اجتمعت لي راحلتان إلا في ذلك اليوم فكنت أقول : أخرج غدا ، أخرج بعد غد ، فإني قوي ، وتوانيت وبقيت بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياما أدخل السوق ولا أقضي حاجة ، فلقيت هلال ومرارة وقد كانا تخلّفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق ولم نقض حاجة ، فما زلنا نقول : نخرج غدا وبعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فندمنا ، فلما وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلناه نهنّئه بالسلامة فسلمنا عليه ، فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا ، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام.

فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا ، وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد ولا يكلمنا ، فجاءت نساؤنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن : قد بلغنا سخطك على أزواجنا أفنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن ، فلما رأى كعب وصاحباه ما حل بهم

__________________

(١) المستدرك : ج ٧ ص ١٢.

____________________________________

قالوا : ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إخواننا ولا أهلنا فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت.

فخرجوا إلى «ذناب» جبل بالمدينة فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم ، فبقوا على هذه الحالة أياما كثيرة يبكون بالليل والنهار ، ويدعون الله أن يغفر لهم ، فلما طال عليهم الأمر قال كعب : يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله وسخط علينا إخواننا وسخط علينا أهلونا ، فلا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه.

فبقوا على هذا ثلاثة أيام كلّ منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه ، فلما كان في الليلة الثالثة ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله ، وهو قوله سبحانه : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ ..) فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يبشرهم ، وجاءوا مسلّمين على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد بان السرور في وجهه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتصدق كعب بثلث ماله شكرا لله تعالى (١).

وفي بعض الأحاديث : انطباق الآية على مثل «الوحشي» قاتل حمزة عليه‌السلام حيث أسلم بعد الجريمة ، فإنه مرجأ لأمر الله إما يعذبه وإما يتوب عليه (٢).

[١٠٧] ثم ذكر سبحانه قصة جماعة أخرى من المنافقين الذين ارتبطت

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٠٢.

(٢) راجع الكافي : ج ٢ ص ٣٨١.

____________________________________

قصتهم بقصة تبوك وهم الذين أرادوا أن يتستروا بمسجد «ضرار» لحبك المؤامرات ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وأرادوا انقلاب الأمر في المدينة لكن الله وقى المسلمين شرهم وأعلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما نووه من المكر.

فقد روى بعض أهل السير : أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصّر وله عبادة في الجاهلية وله شرف كبير في قبيلته الخزرج ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع عليه المسلمون وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالؤهم على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد.

وكان من أمر المسلمين ما كان ، وقد امتحنهم الله عزوجل وكانت العاقبة للمتقين ، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأصيب ذلك اليوم ، فجرح وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم وحثهم إلى نصرته وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبّوه ، فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي شر. ولما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى «هرقل» ملك الروم يستنصره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوعده ومنّاه وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً

____________________________________

الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله ويغلبه ويردّه عمّا هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليه من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا لهم إذا قدم عليهم بعد ذلك.

فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد «قبا» فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك وجاءوا فسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله. فلما قفل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجعا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه الوحي بخبر مسجد «ضرار» وما أبطن بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم ـ مسجد قبا ـ فأرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هدم المسجد وأحرقه ، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف والقمامة ، وردّ الله كيده ، فأصاب أبا عامر قبل رجوعه إلى المدينة بالقولنج والبرص والفالج واللّقوة ، وبقي أربعين يوما في عذاب الدنيا ، ثم هلك إلى عذاب السعير (١). وفي هذه القصة نزلت هذه الآيات :

(وَ) منهم (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) أي بنوا (مَسْجِداً) وهو اسم لبقعة يتّخذ للصلاة ، وإن كان أصله بمعنى موضع السجود (ضِراراً) أي مضارّة ، فإنه مصدر من باب «المفاعلة» ، يقال : «ضارّ ضرارا وضيرارا» ،

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري : ص ٤٨٧.

وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى

____________________________________

فإنهم بنوه لأجل الإضرار بالمسلمين (وَكُفْراً) لأجل الكفر (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي لاختلاف الكلمة وإبطال الألفة ، وجعل المسلمين طائفتين ، الموالي للرسول ، والمخالف له (وَإِرْصاداً) لأجل الإعداد للفتنة ، وأن يجعلوه محل رصد وإشراف (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) وهو أبو عامر الراهب. وهذا أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي هو من أخيار المؤمنين ، وقد تقدم أن أبا عامر كان حربا للرسول من قبل غزوة تبوك. وقد سماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ب «الفاسق».

(وَلَيَحْلِفُنَ) أي يحلف هؤلاء الذين اتخذوا المسجد وكانوا اثني عشر (إِنْ أَرَدْنا) أي ما أردنا ببنائنا للمسجد (إِلَّا الْحُسْنى) أي الفعلة الحسنة ، من إقامة الصلاة ، ودرك الجماعة في الليلة الشاتية والممطرة للضعفاء ونحوهم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فإنهم لم يريدوا ببنائه الحسنى ، بل السوءة والتآمر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفى بالله شهيدا على ذلك ، بالإضافة إلى ما عرف بعد ذلك من الأدلة والشواهد.

[١٠٨] (لا تَقُمْ) يا رسول الله (فِيهِ) في ذلك المسجد (أَبَداً) يقال : «فلان يقوم الليل» أي يصلّي ، والمعنى : لا تصلّ في ذلك المسجد ، ولم يكن هذا خلفا من الرسول لوعده بالصلاة فيه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن شاء الله» فلم يشأ الله ونهاه عن ذلك (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى)

مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)

____________________________________

أي بني أصله على تقوى الله ، وطاعته (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) منذ أول يوم وضع أساسه ، وهو مسجد «قبا» فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما هاجر إلى المدينة أقام هناك أياما وبنى فيه هذا المسجد وصلى فيه ، ثم انتقل إلى المدينة ، وبنى فيه مسجده الذي دفن في حجرة مجاورة له (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) للصلاة ، من مسجد «ضرار».

ولا يراد بهذا أن يصلي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دائما في مسجد «قبا» بل إنه إذا أراد الصلاة هناك ـ خارج المدينة ـ فمسجد «قبا» أولى بالصلاة فيه من مسجد «ضرار» (فِيهِ) في هذا المسجد. والمراد بالظرف ذلك المكان ، أي أن القبيلة الموجودة هناك وهم بنو عمرو بن عوف (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من لوث المعاصي والذنوب ، وليسوا مثل بني غنم أصحاب مسجد ضرار الذين بنوه ، فهم رجال يحبون النجاسة ولوث المعاصي (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي المتطهرين.

وهناك معنى آخر للتطهير فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لأهل قبا : «ماذا تفعلون في طهركم فإن الله قد أحسن عليكم الثناء». قالوا نغسل أثر الغائط. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنزل فيكم هذه الآية» (١).

أقول : لأنه كان المتعارف عندهم في ذلك الوقت الاستنجاء بالخرق والأحجار.

[١٠٩] ثم بيّن سبحانه الفرق بين البناءين ، وبين الفريقين ، وأن أحد البناءين

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٥٤.

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)

____________________________________

راسخ ثابت والآخر هاو منهار ، وأن أحد الفريقين صلد الإيمان قوي العقيدة ، والآخر شاكّ ذو ريبة وتزلزل (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) أي بنيان أمره ودينه ومنهجه (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ) فهو يتحرّى التقوى في كل أعماله (وَرِضْوانٍ) أي رضى الله سبحانه ، فلا يعمل شيئا إلا إذا علم أن فيه رضاه سبحانه (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) «شفا جرف» نهاية الشيء في المساحة ، و «جرف الوادي» نهايته التي تنجرف بالماء ، و «هار الجرف يهور» ، إذا أشرف على السقوط والهدم ، و «أنهار» بمعنى سقط. فقد شبه سبحانه بنيان المنافق بالبناء الذي بني على شفا جرف جهنم وكان الجرف هائر (فَانْهارَ) الجرف (بِهِ) أي بالبناء ، أو أنهار البناء بصاحبه (فِي نارِ جَهَنَّمَ) فذهبت أتعابه أدراج الرياح. والمعنى : أنه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق فإن عمل المتقي ثابت راسخ وعمل المنافق هاو منهار (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فإن الإنسان الذي صار الظلم عالقا بقلبه ، ينغلق فؤاده ، فلا تدخله أشعة الهداية. والمراد بعدم الهداية : أنه يتركهم وشأنهم ولا يلطف بهم الألطاف الخاصة.

[١١٠] ذاك كان مثل بنيانهم ـ من بناء المسجد ـ ثم انتقل سبحانه إلى البناء العام في حياتهم ومناهجهم في الدنيا ، وانتقل إلى تصويره ببناء حسّي يبنى على جرف هار ، فكما أن ذلك البناء ينحرف ويسقط ، كذلك أعمالهم تسقط بهم في جهنم. وهنا مثل آخر لعقيدتهم الكائنة في

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ

____________________________________

قلوبهم والمختلجة في صدورهم (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) أي ما بنوا عليه حياتهم من النفاق (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) سببا للتزلزل والشك في قلوبهم ، فإن الإنسان كيفما بنى حياته وقرّر منهجه ، يكون معتقده وضميره ، فهم مقسّمو القلوب بين المؤمنين والكافرين (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ)(إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) تصير قطعة قطعة ، فتزول الريبة بزوال موضعها ، وإلا فما دام هؤلاء على ذلك البناء والمنهج ، فالريبة لازمة لقلوبهم لا تنفك عنها أبدا (وَاللهُ عَلِيمٌ) بنياتهم (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم.

[١١١] ثم يحرّض الله المؤمنين على الجهاد مبيّنا الثواب العظيم لمن جاهد قائلا : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) فأنفسهم لله سبحانه ، وأموالهم له تعالى ، لا يحق لهم أن يخلّوا بالنفس أو المال بعد هذه المبايعة التي عقدوها مع الله بقبول الإيمان ، وقد كان في مقابل هذا المبيع (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فالجنة بدل بذل النفس والمال في سبيل الله تعالى. ولا يخفى أن بيع النفس إنما هو لصرفها في مراضيه لسانا وقدما وقلما وسائر ما يتعلق بالبدن ، فليس الأمر خاصا بالجهاد ، ومن أهمّ الأغراض في هذه المعاملة ما بيّنه بقوله : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ولأجل إعلاء كلمته (فَيَقْتُلُونَ) الكفار تارة (وَيُقْتَلُونَ) يقتلهم

وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ

____________________________________

الكفار تارة أخرى ، وكون الجنة لهؤلاء (وَعْداً عَلَيْهِ) على الله (حَقًّا) و «وعدا» منصوب بالمصدر ، لأن «اشترى» يدل على أنه سبحانه وعد بذلك ، فإن المعاملة تستوجب وعد الطرفين ببذل السلعة ، وبذل المال (فِي التَّوْراةِ) لموسى عليه‌السلام كان هذا الوعد (وَالْإِنْجِيلِ) لعيسى عليه‌السلام (وَالْقُرْآنِ) فإن وعد الجنة لمن باع نفسه وماله في سبيل الله مذكور في هذه الكتب الثلاثة لهؤلاء الأنبياء العظام.

(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) استفهام في معنى الإنكار ، أي لا أحد أكثر وفاء من الله ، فهو إذا وعد لا يخلف البتّة ، أما غيره فإنه وإن كان لا يخلف بإرادته ، لكنه قد يطرأ ما يضطرّه إلى الخلف (فَاسْتَبْشِرُوا) أيها المؤمنون (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) الضمير في «به» يرجع إلى «بيعكم» أي : افرحوا بهذه المعاملة ، و «الاستبشار» هو شدة الفرح الذي يظهر أثره في وجه الإنسان ، وأي بيع أحسن من هذا؟ إنه إعطاء المال لمالكه ثم أخذ العوض منه ، ثم إن النفس في سبيل الفناء ، والمال في سبيل الذهاب ، فما أفضل أن يشتري بهما الإنسان شيئا باقيا دائما.

قال الإمام علي عليه‌السلام :

وإن كانت الأبدان للموت أنشأت

فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل (١)

__________________

(١) ديوان الإمام علي عليه‌السلام : ص ١٠٦.

وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)

____________________________________

وقيل :

وإن كانت الأموال لا بد تنفني

فتقديمها لله والدين أجمل

(وَذلِكَ) البيع (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والفلاح الذي لا يقابله فلاح.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة : «إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها» (١). وفيه : «فلا أموال بذلتموها للذي رزقها ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها» (٢).

قال الشاعر :

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا

تشري بها لهبا في الحشر تشتعل

وقد كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأهل بيته الطاهرين من أفضل مصاديق هذه الآية.

[١١٢] روي في الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنه لما نزلت هذه الآية : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قام رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا نبي الله أرأيتك الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتى يقتل ، إلّا أنه يقترف من هذه المحارم أشهيد هو؟ فأنزل الله على رسوله : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...) (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة : الكلمات القصار رقم ٤٥٦.

(٢) نهج البلاغة : خطبة ١١٦.

(٣) التوبة : ١١٢.

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ

____________________________________

أقول : قد وصف سبحانه المؤمنين الذين اشترى أنفسهم وأموالهم مقابل الجنة بهذه الأوصاف فقال : (التَّائِبُونَ) أي الراجعون إلى طاعة الله ، من «تاب» إذا رجع. ولا يخفى أن الرجوع والتوبة لا يلازمان العصيان ، ولذا ورد في القرآن : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ) (١) ، فإن العصيان أشد أفراد البعد عنه سبحانه ، وإلّا فكل نومة وأكلة وتكلّم مع الناس مما يسبب الغفلة عنه سبحانه تحتاج إلى التوبة والأوبة. فلا يقال : كيف وصف الإمام عليه‌السلام ـ وهو معصوم ـ بالتوبة ، بعد ما ذكرتم أن الآية نزلت في شأنه؟ ثم إن «التائبون» رفع بالقطع ، أي هم التائبون ، كما قال ابن مالك :

واقطع أو اتبع إن يكن معينا

بدونها أو بعضها اقطع معلنا

(الْعابِدُونَ) الذين يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئا (الْحامِدُونَ) الذين يحمدون الله سبحانه (السَّائِحُونَ) الذين يسيحون في الأرض ، أي يسيرون فيها ، للاعتبار ولطلب العلم كما قال سبحانه : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (٢).

وينسب إلى الإمام عليه‌السلام :

تغرب عن الأوطان في طلب العلا

وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

وفي بعض التفاسير : أن المراد ب «السائح» الصائم ، لقول

__________________

(١) التوبة : ١١٧.

(٢) الملك : ١٦.

الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)

____________________________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سياحة أمتي الصيام» (١).

(الرَّاكِعُونَ) الذين يركعون ، إما مطلقا لاستحباب الركوع تعظيما له سبحانه ، أو المراد الركوع في الصلاة (السَّاجِدُونَ) في الصلاة أو مطلقا (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو كل حسن يستحسنه الشرع أو العقل (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو كل قبيح يستقبحه الشرع أو العقل. ولا يخفى أنه بهذا المعنى الذي ذكرنا ، ليس ترك كل معروف منكرا ، فقراءة القرآن مثلا في يوم الجمعة معروف فليس تركها منكرا ، كما أنه ليس ترك كل منكر معروفا فأكل الجبن ـ وهو مكروه ـ منكر فليس ترك أكله معروفا. نعم يتلازم الأمران في الواجب والحرام.

(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي العاملون بالحدود ، القائمون عليها في جميع أبواب العبادة والمعاملة ، وسائر ما ورد في الشريعة (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الْمُؤْمِنِينَ) الذين يجمعون هذه الصفات ، بأن لهم كل خير وسعادة.

[١١٣] ولما سبق حرمة موالاة الكافرين والمنافقين حتى الصلاة عليهم ، والقيام على قبورهم ، والصلاة في مسجدهم ، بيّن سبحانه حرمة الاستغفار لهم أحياء كانوا أم أمواتا ، فإن الاستغفار أي طلب غفران الله لعدو الله لا يصح ، إذ هو غير قابل للمغفرة.

وذكر بعض المفسرين : أن بعض المسلمين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٨ ص ١١٥.

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)

____________________________________

لنا أن نستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الكفر. فنزلت هذه الآية (١).

لكن الظاهر أن ذلك غير طلب الغفران للكافر الحي ، بمعنى طلب هدايته من الله ليستحق الغفران ، فإذا قال : اللهم اغفر له ، عنى : اهده ، ليكون قابلا للمغفرة. فقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «أن إبراهيم عليه‌السلام وعده أبوه آزر أن يسلم ، فاستغفر له ، فلما تبيّن له أنه عدو لله ، تبرأ منه» (٢). كما أن الظاهر أن الخيرات للأقارب الكفار الذين ماتوا لا بأس بها ، فإن ذلك موجب لتخفيف العذاب ، وهو غير الاستغفار بطلب المغفرة ، وقد ورد بذلك أحاديث كثيرة.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) بأن يطلبوا من الله الغفران لمن أشرك بالله. ومن المعلوم أنه لا خصوصية للمشرك ، بل ذلك لا يجوز بالنسبة إلى كل كافر (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي كان المستغفر لأجله صاحب قرابة للمؤمن المستغفر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي من بعد أن علم المؤمنون أن أولئك المشركين هم أصحاب النار.

[١١٤] ولما كان هنا موضع سؤال وهو : كيف يحرم الاستغفار للكافر مع أن إبراهيم عليه‌السلام استغفر لأبيه ـ وهو عمّه ، وإنما يسمي العرب العم بالأب

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١٣٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧١ ص ٤٧.

وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)

____________________________________

تعظيما ـ والحال أن آزر كان كافرا؟ ورد قوله سبحانه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) أي وعد الأب إبراهيم بأن يؤمن (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي لإبراهيم (أَنَّهُ) أي أباه (عَدُوٌّ لِلَّهِ) وأنه لا يؤمن (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وترك الاستغفار له. وقد تقدم الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام بذلك.

وروي : أن إبراهيم قال لأبيه : إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك ، فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه (١). ومن المعلوم أنه لا منافاة بين الأمرين. وعلى أي حال فعمل إبراهيم لا ينافي عموم «ما كان للنبي والذين آمنوا».

(إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) أي دعّاء ، كثير الدعاء والبكاء ، وأصل «الأواه» مبالغة ـ على وزن ضرّاب ـ من «التأوّه» بمعنى : التوجّع والتحزّن (حَلِيمٌ) يحلم عن الناس حتى عن الكفار ، لعلّه يدخلهم في حظيرة الإيمان بحلمه. وأما مناسبة «أواه» للمقام فظاهرة ، إذ مقتضى كثرة الدعاء أن يدعو حتى للكافر الذي يحتمل أن يؤمن.

ومن المفسرين من أقحم في الآية ما اختلقته الأهواء الأموية من كفر أبي طالب ، ولقد كان أبو طالب عليه‌السلام من أشد المؤمنين بالله ورسوله حتى أنه قال عليه‌السلام :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٧٧.

وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)

____________________________________

ولقد علمت بأنّ دين محمد

من خير أديان البرية دينا

وحتى أنه حين مات نزل جبرئيل قائلا للرسول : «مات ناصرك فاخرج من مكة» (١). وسمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام وفاته ووفاة خديجة «عام الحزن» (٢). وإنما الكلام هنا أن ذلك لا يرتبط بالتفسير ، وإنما يرتبط بالتعصّب ، وكم أخفى التعصب الحق.

[١١٥] إن ما يستفاد من الآيات السابقة من انقطاع صلة المؤمنين عن الكافرين ، يوجب التساؤل ، وهو : ماذا يعملون بما سلف من الأموات الكافرين ، فقد كانت الوشائح بين المؤمنين والكافرين قوية وكانوا يحسنون إليهم أحياء ويستغفرون لهم أمواتا؟ ولذا ورد : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) بأن يصرفهم عن طريق الهدى ويحكم بضلالهم ، بأعمال عملوها قبل النهي والتحريم (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) إلى الإيمان (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من أوامره ونواهيه ، فإذا بيّن لهم ثم خالفوا ، استحقوا العقاب والحكم بالضلال ، وهكذا قوله سبحانه : (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) ، (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم من عمل قبل التحريم ومن عمل بعد التحريم ، فيجزي كلّا حسب عمله.

وفي بعض التفاسير : إن سبب نزول هذه الآية ، أنه مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض ، فقال المسلمون : يا

__________________

(١) إيمان أبي طالب : ص ٢٥٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٥.

(٣) الإسراء : ١٦.

إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)

____________________________________

رسول الله إخواننا المؤمنون الذين ماتوا قبل الفرائض ما هي منزلتهم؟ فنزلت : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ ..) (١).

[١١٦] (إِنَ) المؤمن الذي يبيع نفسه لله قد ربح كل شيء ، وإن قطع صلته بأقرب الناس إليه حتى في الاستغفار ف (اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا مالك فيهما سواه (يُحْيِي) الجماد (وَيُمِيتُ) الأحياء ، فالأرض الميتة يجعل منها نباتا وإنسانا وحيوانا ، كما أنه يرد هذه الأحياء إلى الأرض فيجعلها جمادا (وَما لَكُمْ) أيها المسلمون (مِنْ دُونِ اللهِ) سواه (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فلا يتولّى شؤونكم ولا ينصركم غيره ، فمن له الملك ، وبيده الحياة والموت ، ويتولّى وينصر أحق بأن يربط الإنسان صلته به دون سواه ، ويترك غيره لأجله ، ولو كان أقرب قريب إليه.

[١١٧] ثم ذكر سبحانه قصة جماعة تخلفوا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لحقوا به ، أو تابوا بعد ذلك. فقد ذكر الرواة أن عبد الله بن خيثمة تخلف عن غزوة تبوك إلى أن مضى من مسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشرة أيام ، ثم دخل يوما على امرأتين له في يوم حار في عريشين لهما قد رتبتاهما وبرّدتا الماء وهيأتا له الطعام ، فقام على العريشين ثم قال : سبحان الله ، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، في الفتح والريح والقرّ يحمل سلاحه على عاتقه ، وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٤٢.

____________________________________

مهيأ وامرأتين حسناوين ، ما هذا بالنصف. ثم قال : والله لا أكلم واحدة منكما كلمة ولا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأخ ناضحه واشتد عليه وتزوّد وارتحل وامرأتاه تكلمانه ولا يكلمهما.

ثم سار حتى إذا دنا من تبوك قال الناس : هذا راكب على الطريق. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن يا أبا خيثمة أولى لك ، فلما دنا قال الناس : هذا أبو خيثمة يا رسول الله ، فأناخ راحلته وسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أولى لك. فحدثه الحديث ، فقال له خيرا ودعا له. وهو الذي زاغ قلبه للمقام ثم ثبّته الله (١).

ونقل الرواة : أن ممن لقي العسر في هذه السفرة أبا ذر الغفاري رحمه‌الله فقد كان جمله أعجف تخلف به في الطريق حتى أنه لحق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثلاثة أيام ووقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه وحمل ثيابه على ظهره ، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كن أبا ذر فقالوا : هو أبو ذر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدركوه بالماء فإنه عطشان. فأدركوه بالماء ، ووافى أبو ذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه إداوة فيها ماء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا ذر معك ماء وعطشت؟ فقال : نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد ، فقلت : لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك قوم من العراق يتولون

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٠٢.

لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ

____________________________________

غسلك وتجهيزك ودفنك» (١).

(لَقَدْ تابَ اللهُ) أي تحنّن ولطف ، فإن «تاب» لغة بمعنى : غفر ، وبمعنى : رجع بفضله (عَلَى النَّبِيِ) وما ورد في بعض الأحاديث «بالنبي» إنما أريد به نفي كون معنى التوبة بالنسبة إلى النبي صادرة عن عصيان (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فهم بين من يستحق المغفرة لمعصية صدرت عنه ، وبين من يستحقها تفضّلا (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أي اتبعوا النبي (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي وقت صعوبة الأمر ، وذلك في غزوة تبوك ، فقد كانوا في صعوبة من جهة المركب ، ومن جهة الماء والزاد ، ومن جهة الحر ، ومن جهة التعب للسفر الطويل ، ومن جهة الخوف من الأعداء ، فقد كان العشرة منهم يتراوحون على بعير وزادهم الشعير المسوس ، والتمر المدود ، والإهالة السنخة «وهو ما أذيب من الشحم المتغير الريح» ، وكانوا يمصون تمرة واحدة ، وهم جماعة كثيرة ، يخرجها هذا من فيه فيمصها الآخر وهكذا حتى لا يبقى إلا النواة (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ) يميل وينحرف (قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن الجهاد ، فأرادوا البقاء في المدينة أو بقوا ثم لحقوا بالرسول كأبي خيثمة.

(ثُمَّ تابَ) الله (عَلَيْهِمْ) من بعد ذلك الزيغ والانحراف (إِنَّهُ)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ٤٢٩.

بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ

____________________________________

تعالى (بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فلا يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم ، وبما عملوه من الكسل والمطل.

[١١٨] (وَ) لقد تاب الله (عَلَى الثَّلاثَةِ) أشخاص (الَّذِينَ خُلِّفُوا) عن غزوة تبوك ، كأن الشيطان خلّفهم وهم من تقدم ذكرهم مفصّلا في قوله سبحانه : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ)(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) «ما» مصدرية ، أي : مع رحبها ـ بالضم ـ وسعتها ، ضاقت عليهم لأن الناس قاطعوهم بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإنسان إذا قاطعه الأصدقاء تضيق نفسه ، حتى يظن أن الأرض ضيقة لا مجال له فيها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) كأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعا يخفونها فيه ، وهذا كناية عن شدة غمّهم. ولعل وجه (ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أن الإنسان إذا غمّ غمّا شديدا تسخن شرايينه وأعضاؤه ، فلا يكفي النّفس المجذوب لتبريدها ، فيحسّ بأن نفسه قد ضاقت ، لأنها لم يصل إليها الهواء الكافي.

(وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أنه لا موضع للفرار من سخط الله سبحانه إلا إليه نفسه تعالى ، فإنه سبحانه قد أحاط بأقطار الأرض وآفاق السماء فكيف يمكن الفرار منه إلا أن يتوجه الإنسان إليه بالتوبة والاستغفار ، ولعل الإتيان بلفظة «الظن» هنا لإفادة الحالة النفسية للإنسان المجرم حيث أنه لا يفكر في الملاجئ الممكنة ، فهو يتردّد بين هذا أو ذاك ، وإن ترجّح في نفسه الملجأ الحقيقي وهو الله تعالى.

ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)

____________________________________

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي تاب الله عليهم ورجع إليهم بعد أن أعرض عنهم بقبوله توبتهم في التخلف عن تبوك (لِيَتُوبُوا) أي يرجعوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية ، فيكون لهم ما للمسلمين لا يقاطعون ولا ينبذون (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) مبالغة في «التائب» ، فإنه سبحانه كثير الرجوع إلى عباده إن رجعوا إليه ، وليس ككبرياء الناس حيث أنه إن قطعوا عن أحد لا يعودون إليه ، ولو عادوا لم يتكرر ذلك منهم مرات ومرات ، فالإنسان مهما عصى وتاب ، قبل الله توبته إذا كانت توبة نصوحا ، وإن نقض التوبة قبل ذلك ألف مرة (الرَّحِيمُ) يرحم العباد ويتفضل عليهم بلطفه ، فليست توبة مجردة ، وإنما مع التفضيل والتكرّم.

لقد كان هؤلاء الثلاثة المتخلفون ـ كعب ومرارة وهلال ـ أرجئوا ، في الآية السابقة (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) ثم تاب الله عليهم هنا ، وكان في كلا الأمرين أبلغ حكمة ، وخير تأديب وموعظة.

وهنا كلمة لا بد من بيانها وهي أن الناظر في الآيات يرى أن بعض العاصين كان الله والرسول يعفوان عنهم كهؤلاء ، وبعضهم يبقون موضع السخط والغضب ك «ثعلبة» الذي تقدمت أحواله ، إن هذا يكشف عن الفرق بين العصاة ، فمن أصلح منهم وطهر قلبه استحق العفو والغفران ، أما من أبدى التوبة وقلبه ملوّث بالذنوب والنفاق ، فلم يكن تنفعه الندامة ، ولذا كان مطرودا من رحمة الله ، وقد بيّن سبحانه أن قبول التوبة مشروط بالطهارة والنقاء ، كما في قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) (١) ، وغيرها من الآيات.

__________________

(١) المائدة : ٩٤.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ

____________________________________

[١١٩] وبمناسبة توبة هؤلاء وصفاء باطنهم في التوبة ، وصدقهم في الرجوع إلى الحق ، يأتي السياق ليبيّن وجوب كون الإنسان متقيا منضما إلى جماعة الصادقين ، لينال الخير والغفران (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) اجتنبوا معاصيه وخذوا بأوامره (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) و «المعية» هنا تفيد المعية الانضمامية ، والمعية العملية ، بأن يصدق الإنسان ، وينضم مع الزمرة الصادقة ، لينال كل خير وفضل. وقد ورد في أحاديث كثيرة : أن المراد بهم أمير المؤمنين وآله الطاهرين (١) ، وهذا من باب أظهر المصاديق كما لا يخفى.

[١٢٠] ثم يأتي البيان العام للمسلمين بوجوب اتباع الرسول في كل أمر وعدم التخلّف عنه في غزو أو غيره (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) إنه خبر في معنى النهي ، أي : لا يجوز للمسلمين من أهل المدينة (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) أهل البدو ، وتخصيص هؤلاء بالذكر ليس لأجل خصوصية فيهما دون سائر المسلمين ، وإنما لأجل كونهما محل أوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غالبا ، في الجهاد ونحوه ، وإلا فالمسلمون كلهم كذلك (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) في غزوة أو سفرة أو سائر ما يريده منهم ويعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وَلا) لهم أن (يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) الكريمة بأن يطلبوا لأنفسهم من الخير والراحة دون نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن يؤثروا

__________________

(١) تفسير فرات الكوفي : ص ١٧٤.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)

____________________________________

أنفسهم على نفسه فإذا أراد الجهاد تركوه يقاسي الحر والبرد ، وهم في مساكنهم هادئون آمنون. يقال : «رغبت بنفسي عن هذا الأمر» أي ترفعت بها عنه.

(ذلِكَ) النهي لهم والزجر عن التخلف ، ليس بلا عوض ولا مقابل ، وإنما لهم بكل حركة وسكون وتعب أجر وثواب بسبب أنهم (لا يُصِيبُهُمْ) في سفرهم (ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ) تعب في أبدانهم (وَلا مَخْمَصَةٌ) بمعنى المجاعة ، وأصله ضمور البطن للمجاعة ، يقال : «رجل خميص البطن» ، أي ضامرها من الجوع ، والمعنى : لا يصيبهم جوع (فِي سَبِيلِ اللهِ) ولإعلاء كلمته (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) أي لا يضعون أقدامهم موضعا يسبب غيظ الكفار ، والمراد : إما وطي أراضي الأعداء ، فإنهم يغيظون إذا رأوا واحدا يطأ محلّهم ، أو الذهاب مطلقا ، فإن الكفار يغيظون بسير المسلمين إليهم لإرادة الغزو.

(وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) لا يصيبون من الكفار أمرا ، من قتل أو جراحة أو مال أو سبي أو ما أشبه (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) لهؤلاء المسلمين المجاهدين (بِهِ) بسبب ذلك العمل (عَمَلٌ صالِحٌ) وطاعة مقبولة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا وعملوا الأعمال الحسنة.

وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً

____________________________________

[١٢١] (وَلا يُنْفِقُونَ) هؤلاء المسلمون ، في الجهاد (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي قليلة أو كثيرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي لا يجتازون أرضا في مسيرهم إلى الكفار للجهاد (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك ليثابوا عليه (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) أي يكتب ذلك للجزاء ب (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء أحسن أعمالهم ، أو أحسن جزاء أعمالهم. وعلى الأول : فالسكوت عن سائر الأعمال ليس لعدم الجزاء وإنما لوضوح أن من يجزي على الأحسن يجزي على غيره. وعلى الثاني : يكون المعنى أنه سبحانه يجازيهم بجزاء هو أحسن من عملهم ، فلو استحق عملهم جزاء ألف دينار ، أعطاهم ألفين.

[١٢٢] ورد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج غازيا لم يتخلّف عنه إلا المنافقون والمعذورون ، فلما بيّن سبحانه عيوب المتخلّفين ـ في غزوة تبوك ـ قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سرية من سراياه. فلمّا أمر رسول الله بالسرايا إلى الغزو أراد المسلمون أن ينفروا جميعا ، وكان ذلك مستلزما لأن يبقى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، فنهاهم الله عن ذلك.

أقول : في الآية احتمالات نذكر أقربها إلى الظاهر وإلى السياق ـ أي الارتباط بالقصة المتقدمة في غزوة تبوك ـ.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) هذا نفي معناه النهي ، أي :

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

____________________________________

ليس للمؤمنين أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيدا (فَلَوْ لا) تحضيض وحث ، بمعنى : أن اللازم ذهاب بعض وبقاء بعض (نَفَرَ) وخرج إلى الجهاد (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) من كل قبيلة ونحوها (طائِفَةٌ) جماعة ، ويبقى من كل فرقة جماعة آخرون (لِيَتَفَقَّهُوا) أي ليتفقه هؤلاء الباقون ـ المفهوم من قوله : (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ـ (فِي الدِّينِ) يبقون خدمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتعلموا أحكام الإسلام التي تنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدريجا (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ينذر الباقون قومهم النافرين (إِذا رَجَعُوا) رجع النافرون (إِلَيْهِمْ) أي إلى الباقين (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي يحذر النافرون عما أنذروا به.

فلنفرض أن زيدا ذهب إلى الجهاد ، وبقي عمرو وتعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمة الاستمناء ـ مدة غياب زيد ـ فإذا رجع زيد حذره عمرو عن الاستمناء حتى يترك وينقلع. ولو كان المعنى على هذا السياق المذكور لكان فهم وجوب الذهاب إلى مراكز العلم لتحصيله ، بالفحوى ، لأن المقصود من البقاء عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس إلا تعلم الحكمة وإفادتها للغائب ، وكذلك من يسافر في طلب العلم ثم ينذر أهله إذا رجع إليهم.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : «كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن ينفر منهم طائفة وتقيم طائفة للتفقه ، وأن يكون الغزو نوبا» (١). ولا ينافيه ما ورد عن الإمام الصادق ـ لأن الظاهر إرادة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١٥٧.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً

____________________________________

الفحوى ـ في تفسير الآية ، «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ويختلفوا إليه ، فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ..» (١).

ثم إنه لو قلنا : إن الآية مستقلة برأسها لا ترتبط بما قبلها ، يكون المعنى : أن اللازم على كل طائفة من كل فرقة من المسلمين المنتشرين هنا وهناك أن يذهبوا إلى طلب العلم في مراكزه ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم حتى يحذروا عن ترك الواجبات وإتيان المحرمات. وتكون المناسبة بينها وبين الآيات السابقة بيان أن النفر واجب في مقامين : في مقام الجهاد وفي مقام العلم. ولا يخفى أن الآية تشمل التفقه بنحو الاجتهاد ، وبنحو أخذ الرواية ، ونحو بيان المسائل بعد أخذها عن المجتهد ، فهي أعم من الاجتهاد والوعظ ونشر المسائل.

[١٢٣] وإلحاقا بما تقدم من أمر الجهاد ، يأتي السياق ليبيّن خطة الإسلام في جهاد الكفار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) من «ولي يلي» إذا قرب ، أي : يقربونكم ـ في الأرض ـ (مِنَ الْكُفَّارِ) فقاتلوا الأدنى فالأدنى ، وذلك لتتصل أرض الإسلام بعضها ببعض ولا تحدث بينها فجوة يتّخذها العدو مرصدا وقاعدة لمحاربتكم. وقد دلّ الدليل على جواز مقاتلة الأبعد إذا كان المسلمون في أمن من الأقرب لمهادنة أو معاهدة أو ما أشبه (وَلْيَجِدُوا) أي يجد الكفار (فِيكُمْ غِلْظَةً) وخشونة ، فإن ذلك مما يسبب انهيار معنويات العدو ، لكن ليست «الغلظة» بالمثلة ونحوها فقد حرّم الإسلام ذلك كما منع عن قتل المرأة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٤٠.

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ

____________________________________

والصبي والفاني والراهب وممن لا يساعد المحاربين (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فلا تتركوا التقوى كما لا يرعوي المحاربون ـ إذا فتحوا البلاد ـ من كل إثم وشناعة ، فإن الإسلام جاء محرّرا لا فاتحا ، فليس للجيوش الإسلامية أن تفعل ما تشاء إذا غلبت.

وقد زجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلالا حين رأى من بعض النساء اليهوديات ـ من أهل خيبر ـ تغيرا فسألهن ما بالهن؟ فلما أجبن بأن بلال مرّ بهن على مصارع قتلاهن ـ يعني يهود خيبر ـ قال الرسول لبلال زاجرا : كأن الله نزع الرحمة من قلبك!

[١٢٤] ويأتي السياق ليبيّن كلام المنافقين وما يرتسم في قلوبهم وحركاتهم إذا أنزلت سورة ، فإن المنافق إذا أنزلت سورة تريب نفسه وتحمل السورة إلى محامل بعيدة عن الحقيقة والواقع ليثلج صدره بالتكذيب ، وطبق ما في نفسه يطفح كلام مريب على لسانه فيتساءل ممن حوله عن وقع السورة في نفوسهم ، حتى يرتب الأثر ، فإن جذبت السورة ناسا ردّهم ، وإن لم تجذبهم يزيدهم ريبا وشكا. أما حركته فإنه ينزعج من الحضور في مجال تتلى السورة فيه لأن قلبه لا يميل إليهم ولا إليها ، إذن فلينصرف عن المجلس متسلّلا حتى لا يعلم نفاقه ، ويستريح إلى أقرانه (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) «ما» زائدة جيء بها لتحسين الكلام ، ولعله لنكتة بلاغية هي تصوير حال المنافق المنكر ، فقد نزلت السورة ، لكن في قلب المنافق «ما أنزلت» (فَمِنْهُمْ) أي من المنافقين (مَنْ يَقُولُ) على وجه الإنكار والاستخبار : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة

إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ

____________________________________

(إِيماناً)؟ ليعلموا وقع أثر السورة في النفوس والمقاومة إذا أرادوا إلقاء الريب والشك.

وهنا يأتي الجواب من الله سبحانه ليفصل في الأمر بما هو الواقع ، من غير حاجة إلى جواب المؤمنين أو إلى جواب المنافقين : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) فإن المؤمن المخلص كلّما ذكر الله سبحانه وكلّما رأى آية من آياته يزداد إيمانا وعقيدة (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون بنزول السورة فرحا يظهر في وجوههم أثره ، وكيف لا يفرحون وقد زادهم سبحانه دلالة وكرامة ، وقوّى جانبهم بنزول سورة أخرى؟!

[١٢٥] (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) روحي ، وهو الشك والنفاق والإنكار (فَزادَتْهُمْ) السورة (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) لأن قلوبهم كانت قذرة بإنكار ما سبق من آيات الله ، فإذا أنكروا هذه السورة وشكوا فيها زادت قذارة قلوبهم. ويسمى الكفر رجسا ، لأنه كالنجاسة الظاهرة التي تؤذي ، ويجب على الإنسان أن يتجنّبها (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) فإن من لا تنفعه السور لا بد أن يبقى شاكا منافقا حتى يموت في كفره ونفاقه.

[١٢٦] إن أمر هؤلاء المنافقين عجيب ، فإن السور لا تفيدهم ، والفتنة لا ترجعهم عن غيّهم (أَوَلا يَرَوْنَ) هؤلاء المنافقون ـ على نحو الاستفهام الإنكاري ـ (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) أي يمتحنون ، تارة بنصر

فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)

____________________________________

المسلمين ، وأخرى بكشف الرسول نواياهم ، وثالثة بالأمراض وما أشبه ، مما ينبغي أن يرجع المنافق عن غيّه إذا أصابه ذلك (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) فالفتنة كثيرة الوقوع في حياتهم (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عن نفاقهم وكفرهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) نعم الله سبحانه ، وأدلته وحججه ، إن قلوبهم قد تحجّرت فلا تفيدها السورة ولا الفتنة ، فما ذا يصنع بها؟

[١٢٧] ولما فرغ من بيان أقوالهم ونواياهم ، بيّن عملهم النفاقي تجاه نزول السورة (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) «ما» زائدة كما تقدم ، وهم حضور عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ) أي بعض هؤلاء المنافقين (إِلى بَعْضٍ) ليغمز إليه ويشير إليه بأن لا يؤمن ولا يتزحزح عن نفاقه. فيقول بعضهم لبعض بالقول أو الغمز والإشارة : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المؤمنين المخلصين؟ والظاهر أن المراد رؤية الالتفات إلى نواياهم وإشاراتهم ، لا رؤية العين ، فإنهم كانوا يريدون عدم التفات المسلمين إلى أحوالهم لئلّا يعرفوا سبب قيامهم عن المجلس وانصرافهم (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن المجلس إذا لم يرهم أحد ، أو حين انفضّ المجلس (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عليهم بأن يصرف الله قلوبهم عن فهم الحق وإدراكه ، فإنهم لما نافقوا لم يستحقوا الألطاف الإلهية الخفية بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الحق ، فقد طبع على قلوبهم بالكفر والعصيان والنفاق.

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ

____________________________________

[١٢٨] وفي ختام السورة تأتي آيتان لبيان وظيفة المؤمنين تجاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يحنو عليهم ، فاللازم أن ينصروه ويؤازروه ، ولبيان ما يفعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو تولّى الناس عنه وأعرضوا ، وكأنها خاتمة لما تقدم من أحوال من آمن وآزر ، ومن نافق وتخلف (لَقَدْ جاءَكُمْ) أيها البشر ، أو أيها المؤمنون (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنس نفوسكم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا تحريض لاتباعه والأخذ بأمره حيث أنه من أنفسهم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي صعب عليه عنتكم وما يلحق بكم من الضرر والأذى (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على حفظكم وتقدمكم وسعادتكم ، فلستم بهيّنين عليه حتى لا يهمّه أمركم ، ويلقي بكم في المهالك اعتباطا ، فإذا أمركم بأمر فإن فيه سعادتكم وخيركم ، لأنه جاء من المشفق الحريص على شؤونكم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) الرأفة شدة الرحمة (رَحِيمٌ) للتأكيد وتفهيم من لا يفهم معنى الرؤوف ، فهو وصف توضيحي من قبيل «سعدانة تنبت».

[١٢٩] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عنك يا رسول الله ، وعن رسالتك (فَقُلْ) يا رسول الله : (حَسْبِيَ اللهُ) أي كافيّ ، فإنه قادر على أن ينصرني (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا شريك له أرجوه أو أخافه ، بل هو وحده بيده كل شيء ، فهو قادر على نصري وإعزازي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اتكلت في أموري كلها

وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)

____________________________________

عليه (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فهو أعظم من كل عظيم ، إذ العرش العظيم ـ أي السلطان الكبير ـ له ، فمن اتصل به لا يخشى أحدا سواه ، وإن أعرض عنه الناس ، فإن العرش كناية عن السلطة والسيادة.

(١٠)

سورة يونس

مكية / آياتها (١١٠)

سميت السورة بهذا الاسم حيث اشتملت على قصة «يونس» النبي عليه‌السلام والسورة تدور مباحثها حول العقيدة ، وما يتفرع منها ـ غالبا ـ وحيث اختتمت سورة «براءة» بذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ابتدأت هذه السورة بذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله سبحانه ، فهو وحده المستحق للتقديم ، وذكر الرحمن الرحيم ، لتلطيف الجو ، فإن الناس قد اعتادوا أن يروا الظلم والجور من الكبار والطغاة ، لكنه ليس كذلك إنه الرحمن بعباده ، الرحيم بالمؤمنين منهم ، فلا خوف من ظلمه ، ولا خشية من جوره.

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٣)

____________________________________

[٢] (الر) من ألف ولام وراء وغيرها يتركب هذا القرآن المعجز ، فإنه من جنس كلام البشر ، لكنه معجز لا يتمكن أحد أن يأتي بمثله ، كما أن من جنس المعادن والنبات يتركب الإنسان ، لكن لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله ، وكذلك جميع صنع الله سبحانه ـ على الاختلاف في أوائل السور ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) خبر لقوله «الر» أي هذه الحروف آيات الكتاب ـ على بعض الأقوال ـ والمراد ب «الكتاب الحكيم» القرآن العظيم الحاكم بالحق ، المحكم في وصفه وأسلوبه وأحكامه.

[٣] (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) استفهام إنكاري ، أي : هل إيحاؤنا إلى رجل منهم موجب للعجب والاستغراب ، إنه لا ينبغي ذلك ، فقد أوحي إلى جنس البشر قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالأنبياء كلهم كانوا بشرا (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) مفعول «أوحينا» فقد كان الناس يرتكبون المحرّمات ويفعلون القبائح ، فجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينذرهم بالعذاب إن اقترفوا الآثام (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) واعتقدوا بما جئت به (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فكما أن الإنسان الصادق في قوله لا تزل قدمه عند المحاكمة والحكم ، كذلك من آمن له قدم صدق لا تتزلزل ولا تضطرب عند الله سبحانه ، ويوم محكمته الكبرى (قالَ الْكافِرُونَ) الذين لا يعتقدون بالله وآياته : (إِنَّ هذا) النبي ـ يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ

____________________________________

واضح ، حيث أنهم لم يتمكنوا من مقابلته والإتيان بمثل كلامه.

[٤] ثم عطف سياق الكلام حول الإله ، على الكلام حول الرسول ، وأخّره لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يقول هذا الكلام ويثبته ويدعو إلى التوحيد ويقدم عليه البراهين والأدلة (إِنَّ رَبَّكُمُ) أيها البشر (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فالذي خلقهما واخترعهما وأوجدهما من العدم هو ربكم وخالقكم ، لا الأحجار المنحوتة والأشجار وسائر المخلوقات. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد جرت سنة الله سبحانه على التدرّج في الخلق ، مع أنه قادر على الخلق دفعة واحدة ، فالإنسان والحيوان والنبات كلها تتدرّج في الخلق حتى تكمل ، ولعلّ في ذلك اعتبار للملائكة ونحوهم ، كما أن في تدريج خلقة الإنسان وسائر الأشياء عبرة للبشر ، فإن الإذعان يأتي بالتدريج. وأما خصوصية «الستة» فهي كخصوصية «تسعة أشهر» للجنين وسائر الأزمان المضروبة لسائر المخلوقات.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه ، أو توجّه نحو خلقه ـ كما مر في سورة الأعراف ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقدّره وينفذه على وجهه ، فهو الخالق ، وهو الآمر في الكون (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) فهو سبحانه كما بدأ وخلق ، وأمر ونفّذ ، كذلك بيده المعاد وإليه المرجع ، وهناك لا بد من الشفاعة للعصاة كما جرت العادة في الدنيا ، ولكن الشفاعة هناك أيضا بيده ، فلا يشفع أحد إلا من بعد إذنه (ذلِكُمُ اللهُ)

رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً

____________________________________

الموصوف بهذه الصفات هو (رَبَّكُمُ) لا غيره من الأصنام وسائر المعبودات (فَاعْبُدُوهُ) وحده بدون شريك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فيه حثّ على التذكّر والتفكّر ليهتدوا إلى الطريق ، ويجتنبوا المتاهات.

[٥] ثم بيّن أن الرجوع إليه كما كان منه البدء ، للتصريح بذلك بعد الإشعار والإلماع إليه (إِلَيْهِ) إلى الله سبحانه (مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم أيها البشر (جَمِيعاً) فلا يتخلّف منكم أحد (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) لا يخلف ما وعد من رجوعكم إليه (إِنَّهُ) وحده (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ويوجدهم من العدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد موته وفنائه وعدمه ، وإنما يعيده (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يعطيهم جزاءهم (بِالْقِسْطِ) بالعدل ، فإذا لم يروا هنا «في الدنيا» جزاء أعمالهم الصالحة ، لا بد وأن يروا هناك «في الآخرة» (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يؤمنوا بالله (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) «الحميم» هو الماء الحار الذي انتهى إلى آخر درجة من الحرارة (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم وموجع بسبب ما (كانُوا يَكْفُرُونَ) «ما» مصدرية ، أي جزاء على كفرهم.

[٦] ثم بيّن سبحانه صفاته الفعلية ، وأقام البرهان على الألوهية بما يرى الإنسان من الآثار الكونية البادية للعيان (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً)

وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ

____________________________________

أي نورا بالنهار ، ليستفيد منه الإنسان والحيوان والنبات وسائر المخلوقات الأرضية ، ولولاها لم يكن ذو روح على وجه البسيطة (وَالْقَمَرَ نُوراً) بالليل ، قالوا : والضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور ، وإن كان يطلق كل منهما على الآخر ، إلا أنهما إذا اجتمعا دلّ الأول على زيادة.

إن هذا البرهان كاف للإنسان العادي الذي لا يعرف إلا الفطرة السليمة ، كما أنه كاف لأكبر الفلاسفة دقة ، وكذلك جميع آيات القرآن ، فهي في حين تقنع الإنسان البسيط تكون أقوى الحجج للمنطقي والفلسفي والمجادل. فمن يأتري خلق هذه الأشياء؟ هل أنها صنعت نفسها؟ إن هذا لا يمكن أبدا ، أم صنعها جاهل عاجز؟ وهذا كالسابق في الاستحالة. فلا بد وأن يكون صانعها عالم قدير ، وليس هو إلا الله سبحانه.

(وَقَدَّرَهُ) أي قدر القمر (مَنازِلَ) بأن جعل له منازل ، ينزل في أحدهما بعد الآخر حتى يكمل الدور ، وقوله «قدره» إما بحذف «اللام» أي «قدر له» ، وإما مجاز لعلاقة الحال والمحل ، فقد نسب ما للمحل إلى الحال. وإنما قدره منازل (لِتَعْلَمُوا) بالقمر ومنازله (عَدَدَ السِّنِينَ) فإن السنة تتكون من اثني عشر شهرا ، والشهر لا يكون إلا بحركة القمر من منزل إلى منزل (وَالْحِسابَ) حتى تعرفوا أي يوم أول الشهر وأي يوم آخره ، وتضبط بذلك الحسابات والمواعيد. وقد كان القمر والشهور خير وسيلة للعالم والجاهل للضبط والتقدير ، أما سائر الحسابات فهي غير محسوسة بالإضافة إلى كونها خاصة بالعالم.

ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)

____________________________________

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) الخلق من سماوات وأرض وشمس وقمر ومنازل (إِلَّا بِالْحَقِ) فلم يكن الخلق لهوا وعبثا لا طائل فيه ، فإن فيه دلائل على الوحدانية والصفات الأزلية ، كما أن فيه الحساب والميقات والمنافع للخلق (يُفَصِّلُ) الله سبحانه (الْآياتِ) الدالة على وجوده ويبيّنها آية آية (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فيعطون كل آية حقها ، أما الجهّال فإنهم معرضون عن الآيات ((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) (١).

[٧] ثم بيّن سبحانه آية أخرى من الآيات الدالة على وجوده مما هو ظاهر للعيان ويعرفه كل إنسان (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) والمراد ب «الاختلاف» إتيان أحدهما خلفة للآخر ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) (٢). ولعلّ تقديم الليل ، لأن الظلمة هي السابقة على النور ، فقد قالوا : إن النور والظلمة «عدم وملكة» ومن المعلوم تقدم العدم على الملكة ذاتا (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ) من أنواع الكواكب والنيازك والشهب والسحاب والأمطار والرياح وغيرها (وَالْأَرْضِ) من أنواع الجبال والمعادن والمياه والنباتات والحيوانات والإنسان وغيرها (لَآياتٍ) أي أدلة دالة وبراهين ساطعة على وجود الله سبحانه وصفاته ، من العلم والقدرة والإرادة والحياة وغيرها (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الانزلاق في مهاوي السفاسف

__________________

(١) الأنعام : ٢٦.

(٢) الفرقان : ٦٣.

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨)

____________________________________

والخرافة ، كما أن فيهما آيات لمن يتقي عصيان الله سبحانه. وإنما خصّوا بالذكر لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[٨] ثم ذكر سبحانه جزاء الذين لا يقتنعون بهذه الآيات ، وينكرون المعاد المستلزم لإنكار المبدأ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لقاء الله ، والمراد ب «لقائه» لقاء الجزاء المقرّر لهم من عنده ، فإن الله سبحانه منزّه عن المكان ، وإنما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمراد ب «لا يرجون» لا يتوقعون ، وإنما جيء بهذا اللفظ لأن كل معتقد به يرجو ثواب الله سبحانه ، فإن الإنسان بطبعه يرجو نوال الكريم. وهذا كناية عن عدم الإيمان ، فإن الذين لا يؤمنون لا يرجون المعاد (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة ، فإن «دنيا» مؤنث «أدنى» أي اختاروا هذه الحياة ، فصرفوا همّهم في عمارتها ، ولا يعملون إلا لها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي سكنوا إليها وركنوا لها. وهذا من عجيب الأمر : كيف يركن الإنسان إلى دنيا يعلم بفنائها السريع ، ويشاهد كل يوم كثرة من الأموات؟! (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) دلائلنا التي أقمناها على التوحيد وسائر شؤون المبدأ والمعاد ، من الأدلة الكونية وغيرها (غافِلُونَ) فلا يتأملون فيها ولا يعتبرون بها.

[٩] (أُولئِكَ) الذين تلك أوصافهم (مَأْواهُمُ) أي مستقرّهم ومرجعهم (النَّارُ) إليها يصيرون بسبب ما (كانُوا يَكْسِبُونَ) من أنواع الكفر والمعاصي.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ

____________________________________

[١٠] هذا هو الكفر ، وهذا مصيره ، فلننظر إلى الإيمان ومصيره (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله واليوم الآخر وصدقوا بما جاءت به الأنبياء (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة ، فإن المحرمات لا تصلح لبناء فرد أو مجتمع أو دنيا أو آخره ، بخلاف الواجبات والمندوبات والمباحات فإنها تصلح لذلك (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) بسبب إيمانهم إلى الجنة في الآخرة ، وإلى كل خير في الدنيا ، فإن الإيمان مفتاح كل سعادة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي تحت أبنيتهم وأشجارهم ، أو من تحت أنفسهم ، باعتبار أن ماء النهر أسفل من الإنسان إذا مشى على الأرض (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بحيث يتنعّم الإنسان فيها بجميع أنواع النعم ، من أمن ورفاه وصحة وعلم ولذة وغيرها.

[١١] (دَعْواهُمْ) أي دعاء المؤمنين ، فإن الدعوى قول يدعى به إلى أمر (فِيها) أي في تلك الجنات : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) «سبحان» مصدر منصوب بفعل مقدّر ، أي : أنزّهك تنزيها ، يا الله ، فإن «الميم» في «اللهم» بدل من حرف النداء «يا» (وَتَحِيَّتُهُمْ) «التحية» مصدر من باب التفعيل ، بمعنى التكرمة ، مشتقة من : «أحياك الله» (فِيها) أي في الجنات (سَلامٌ) من الله لهم ، ومن الملائكة بالنسبة إليهم ، ومن بعض المؤمنين لبعض ، وفي الدعاء : «حينا ربنا بالسلام» (١). والمراد

__________________

(١) مستدرك وسائل الشيعة : ج ٩ ص ٣٢٠.

وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ

____________________________________

بـ «السلام» السلامة من الآفات والمكاره ، فإن الجنة هي دار السلام التي لا مكروه فيها أبدا. ومن ذلك سلام الإنسان لبعض حيا أو ميتا ، فإن سلامة الحي من المكاره هنا ، وسلامة الميت من المكاره هناك ، وهو دعاء ، أو تفأّل ، أو رجاء ، بمعنى : «اللهم سلّمه» ، أو : «أتفأّل لك السلامة» ، أو : «أرجوها لك». (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي آخر كلامهم الذي يتكلمون به (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهم بين تسبيح وتسليم وتحميد.

[١٢] إن حكمة الله سبحانه اقتضت بقاء الإنسان في الدنيا حتى يبلغ الأجل المضروب له سواء كان صالحا أو طالحا ، فالخيّر والشرير اللذين سبق الكلام حولهما لا بد وأن يتمّا مدتهما المقرّرة لهما ، وإن كان بعض الناس يستعجلون الشرّ بدعائهم ، أو بأعمالهم (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) من الموت والمرض والفقر مما يستحقّون بأعمالهم أو بدعائهم ، فإن بعض الناس إذا غضب دعا على نفسه وعلى بعض ذويه بالهلاك والأمراض ونحوهما (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) أي كما يعجّل سبحانه لهم إعطاء الخير الذي يستحقونه بأعمالهم ، أو بدعائهم (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لفرغ من إهلاكهم ، ولم يكن على وجه الأرض إنسان ، والمعنى : لفرغ من أجلهم ومدّتهم المضروبة للحياة ، وإذا انتهت مدّتهم هلكوا ، كما قال سبحانه : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ

فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً

____________________________________

عَجُولاً) (١) ، فحيث اقتضت المشيئة الإلهية بقاء الإنسان مدة في الدنيا (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) من الكافرين الذين لا يعتقدون بالمعاد (فِي طُغْيانِهِمْ) عن الحق وترفّعهم عن الإيمان (يَعْمَهُونَ) «العمه» هو العمى ، وشدة الحيرة ، فلا نقضي أجلهم بل نمهلهم إمهالا. وهذا الإبقاء إنما هو ليزيد عذابهم حيث طغوا وأعرضوا عن الإيمان بعد ما رأوا الآيات الدالّة عليه.

[١٣] إن الإنسان الذي لم يتأدب بآداب الله سبحانه كثير التناقض ، فبينما تراه يستعجل الشر ، تراه لا يطيق أقل مس من الشر ، حتى أنه إذا أصابه ذلك جعل يدعو الله في كل حالاته لكشفه عنه (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) مجرد مسّ وعبور عليه (الضُّرُّ) مشقة من مشقات الدنيا في نفس أو أهل أو مال أو نحوها (دَعانا) لكشفه وإزالته ، في حال كونه نائما (لِجَنْبِهِ) مضطجعا (أَوْ قاعِداً) في حال قعوده (أَوْ قائِماً) في حال قيامه ، والظاهر أن «أو» هنا بمعنى «الواو» ، فإنها تأتي بمعناها ، قال ابن مالك :

خير ، أبح ، قسم ، بأو ، وأبهم

واشكك ، وإضراب بها أيضا نمي

وربما عاقبت الواو إذا

لم يلف ذو النطق للبث منفذا

__________________

(١) الإسراء : ١٢.

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ

____________________________________

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) وأزلنا البلاء الذي توجّه إليه (مَرَّ) في طريقه السابق ، بدون أن يغيره إلى طريق الدين والحق (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) كأن لم يسألنا إزالة ضره ، فهو لا يعرف الرب بعد إزالته. إنه يمرّ بدون أن يتوقف ليشكر ، أو يتذكر ، أو يعتبر ، (كَذلِكَ) بمثل هذه الطبيعة المنحطّة التي تتضرّع إلى الله في الضراء ، وتنساه في السراء (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن المسرفين الذين أسرفوا في الحياة الدنيا والركون إليها ، ولم يجعلوا للآخرة خط رجعة إليها ، لو وقفوا وتأملوا وشكروا ، ارتدعوا عن أعمالهم الباطلة ، لكنهم يمرّون بلا شكر وتدبّر ، ولذا زيّن الشيطان في نظرهم قبح أعمالهم ، فإن الإنسان إذا تدبر عرف الحسن من القبيح ، أما إذا ركب هواه وسار لا يلوي على شيء ، لا يرى أعماله القبيحة إلا حسنة.

[١٤] فما ذا كانت عاقبة المسرفين؟ إن السياق يستعرضها بالنسبة إلى الأمم السابقة ، لتعتبر هذه الأمة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) جمع «قرن» ، وهو أهل كل عصر ، سموا بذلك لمقارنة بعضهم لبعض ، ومنه «القرن» بمعنى الشجاع المقابل لأنه مثل الشجاع الآخر (مِنْ قَبْلِكُمْ) بأنواع العذاب (لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم وغيرهم ، وأسرفوا في الركون إلى الدنيا (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج والأدلة ، فإن الهلاك إنما

وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)

____________________________________

يكون بعد إتمام الحجة ، أما مجرد الظلم بدون إتمام الحجة ، فإنه لا يوجب هلاكا ـ عند الله سبحانه ـ قال : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي أن هلاكهم بعد العلم بأنهم لا يؤمنون أبدا ، فهم ظالمون قد تمت عليهم الحجة ، ولا يؤمنون بعد ذلك (كَذلِكَ) أي كما جازينا أولئك القرون لمّا ظلموا (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) من جميع الأمم.

[١٥] (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) يا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أيها البشر المتأخرون عن أولئك (خَلائِفَ) جمع «خليفة» نحو : طرائق جمع طريقة (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد أولئك القرون ، فإنكم خلفتموهم في الأرض ، وصرتم خلفا لهم (لِنَنْظُرَ) أي نرى ، والمراد : الرؤية العلمية ، أو الرؤية حقيقة ، فإنه سبحانه ناظر لأعمال العباد (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) هل تعملون الصالحات أو السيئات ، كأولئك القرون؟ وإنما نريد النظر للاختيار والجزاء.

[١٦] ثم بيّن سبحانه بعض أعمال هؤلاء المشابهة لأعمال أولئك القرون الظالمة. فقد ذكر بعض المفسرون أن جماعة من المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل ، وليس فيه عيبها ، أو بدّله وتكلم به من تلقاء نفسك (٢).

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٥ ص ١٦٦.

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي

____________________________________

فنزلت : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) على هؤلاء الكفار (آياتُنا) المنزلة في القرآن (بَيِّناتٍ) واضحات (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) أي لا يؤمنون بالمعاد ، فإن المؤمن بالمعاد يرجو فضل الله سبحانه ، فمن لم يرج فليس بمؤمن ، لتلازم الرجاء والإيمان : (ائْتِ) جئ يا محمد (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) القرآن الذي تلوته (أَوْ بَدِّلْهُ) فاجعله على خلاف ما تقرأه ، والفرق بينها : أن القرآن الثاني غير مرتبطة مطالبه بالقرآن الأول ، بخلاف «بدله» فهو هو ، لكن مع التبديل كأن يقول ـ عوض (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) ـ : «إنكم وما تعبدون من دون الله زينة الجنة» مثلا. وقد ظن أولئك الجهلة أن القرآن أمثال أشعار العرب التي يتمكن الشاعر أن يقول شعرا آخر ، أو أن يبدل جزءا من الشعر فيجعل مكانه جزءا آخر.

(قُلْ) يا رسول الله لهم : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) أبدل القرآن (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) من ناحية نفسي ، فإنه معجز وذلك بيد الله وحده ، يقال : «فلان تلقاء فلان» أي بحذائه وإزائه (إِنْ أَتَّبِعُ) ما أتبع (إِلَّا ما يُوحى) أي الشيء الذي يوحيه الله سبحانه (إِلَيَ) بلا زيادة ولا نقصان (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بتبديل كتابه أو تغييره ، أو

__________________

(١) الأنبياء : ٩٩.

عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)

____________________________________

سائر أنواع المعاصي (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم القيامة ، وأي معنى للتبديل؟ هل لأن القرآن ليس معجزا؟ فليأتوا بمثله ، أم لأن مطالبه وقوانينه ليست مطابقة للواقع أو للحكمة ، فما هو نقدهم فيه؟ وهل المعاند يكتفي بالتبديل؟ إن كلامهم كان لمجرد العناد ، وهذا مما لا يصغي إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١٧] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون تبديل القرآن : ليس أمر تلاوته ، ولا أمر إنزاله بيدي ، إن جميع شؤون القرآن بيد الله سبحانه ، فهو الذي أنزله ، وهو الذي أمرني بتلاوته ، وقل لهم : إني قد لبثت فيكم قبل نزول القرآن عمرا كاملا أربعين سنة ، ولو كان القرآن مني لكنت أقرأه وأعلمه قبل نزوله ، إن عدم قراءتي له من قبل ، وعدم بيانه سابقا ، دليل على أنه ليس من عندي وليس بيدي حتى أتمكن من تبديله وتغييره (لَوْ شاءَ اللهُ) أن لا أتلوه (ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) فإنه هو الآمر بتلاوته عليكم وتبليغكم به (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي لو شاء الله أن لا تعلموه ، ما أعلمكم به ، وذلك بعدم إنزاله أصلا. فبيده وحده إنزال القرآن (فَقَدْ لَبِثْتُ) مكثت وأقمت بينكم و (فِيكُمْ عُمُراً) أربعين سنة (مِنْ قَبْلِهِ) من قبل قراءتي للقرآن وتلاوتي له ، فلو كان مني لكنت قرأته من قبل ، فإنه أي فارق في كلامي قبل ادعائي للنبوة وبعد ادعائي لها. وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلم بكلام بينهم قبل النبوة فلم يكن يشبه كلامه القرآن أصلا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتتفكرون في هذه الحقيقة

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ

____________________________________

الواضحة ، فكيف تطلبون مني أن أبدل القرآن.

[١٨] إذن ، لم يبق أمامي في باب تبديل القرآن إلا أن أخترع قرآنا من نفسي ، وهذا مما لا يمكن أبدا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) أي لا أحد أكثر ظلما من إنسان تجرّأ على الله سبحانه (كَذِباً) بأن نسب إليه كلاما ليس من كلامه ، أو حكما ليس من حكمه ، فكيف أعمل أنا هذا بأن أخترع قرآنا ثم أنسبه إلى الله تعالى؟! (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كما تعملون أنتم حيث تكذبون آيات الله وتقولون : أنها ليست من الله ، فكلا الأمرين افتراء عليه ما ليس منه ، وسلب عنه ما هو منه (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) لا يفوزون بخير الدنيا ولا سعادة الآخرة ، فإن الله سبحانه بالمرصاد للمجرم ، خصوصا الاجرام بهذا الحد من الجرأة عليه سبحانه.

[١٩] ثم بيّن سبحانه آلهة هؤلاء الكفار الباطلة ، فإنهم تركوا الحق واتخذوا الباطل (وَيَعْبُدُونَ) يعبد هؤلاء الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله. وهذا يجتمع مع الشرك ومع الكفر (ما لا يَضُرُّهُمْ) ضررا من قبلها (وَلا يَنْفَعُهُمْ) فإن الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع ، والعذاب للشرك إنما هو ضرر يتوجه إليهم من عملهم الباطل ، كما أن بعض المنافع المادية لسدنة الأصنام ومن إليهم إنما هي من الأشخاص الباذلين والناذرين لا من قبل الأصنام ، ثم إن كونها «لا تضر ولا تنفع» أبلغ في الردع عن عبادتها ، لأنه لا تجوز العبادة حتى بالنسبة إلى من

وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)

____________________________________

يضر وينفع كعبادة الملوك الذين بيدهم الضر والنفع ظاهرا. أو المراد النافع والضار حقيقة ، وليس في الكون نافع أو ضار في الحقيقة إلا الله سبحانه ، فإنه هو الذي خلق المنافع والمضار وأمكن كل شيء من الإتيان بمقتضاه.

(وَيَقُولُونَ) أي يقول المشركون وهم الذين يعتقدون بالله وبالصنم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) فإنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عنده سبحانه (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) أي هل تخبرون الله سبحانه ـ على نحو الاستفهام الإنكاري ـ (بِما لا يَعْلَمُ) فإن الله سبحانه لا يعلم كون الأصنام شافعة ، فكيف تنسبون إليه أنه تعالى جعل الشفاعة لها ، و «لا يعلم» من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فإنه إذا لم يكن موضوع للعلم ، لم يكن علم. فهل يعلم هؤلاء الكفار ما لا يعلمه الله سبحانه (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ويخبرونه بما لا وجود له؟ ويخترعون الشفاعة لما لم يجعله الله سبحانه شفيعا (سُبْحانَهُ) منزّه عن ذلك (وَتَعالى) إنه أعلى وأجل (عَمَّا يُشْرِكُونَ) من أن يكون له شريك ، و «ما» إما مصدرية ، أي عن شركهم ، فهو منزّه عن شركهم وأجلّ منه. وإما موصولة ، أي عن الأصنام التي يشركونها مع الله ، فهو منزّه عن المثل ، وأعلى وأجل من أن يكون في عداد الأصنام.

[٢٠] وقبل أن يستعرض القرآن سائر أقوالهم السخيفة ، يبيّن أن الشرك

وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

____________________________________

عارض على البشر ، وإلّا فالفطرة السليمة تدل على التوحيد ، فإن الجهاز الموحّد المنظّم يدل على إرادة موحدة ورئيس واحد (وَما كانَ النَّاسُ) بفطرتهم وأصلهم (إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) موحدة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (١) ، (فَاخْتَلَفُوا) بأن بقي بعضهم على التوحيد ، وانحرف بعضهم نحو الشرك.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بأن قالها وقرّرها بأن تكون الدنيا دار امتحان ، فيكون الناس فيها مختارين مطلقي السراح مهما شاءوا اعتقدوا ، ومهما أرادوا عملوا ، حتى يكون الجزاء عدلا واستحقاقا ، لا محاباة واعتباطا (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم الله بينهم في هذه الدنيا بأن يهلك المشركين ويذر الموحدين (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والشرك ، أو المراد : لقضي بينهم بأن أجبر الجميع على التوحيد ، لكنه ((لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢).

[٢١] (وَيَقُولُونَ) أي يقول هؤلاء الكفار : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آيَةٌ) معجزة خارقة كمعاجز عيسى وموسى عليهما‌السلام (مِنْ) طرف (رَبِّهِ) فقد كانوا يقترحون خوارق أخرى ، وكان ذلك منهم تعنّتا ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٨ ص ١٨٧.

(٢) البقرة : ٢٥٧.

فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا

____________________________________

إذ يكفي في الدلالة الخارقة دلالة القرآن العظيم المعجزة الباقية ، لكنهم لم يكونوا يذعنون لها (فَقُلْ) يا رسول الله : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) إن الآية الخارقة التي تطلبونها غيب خارق لقوانين هذا الكون ، وإنه بيد الله سبحانه ليس بيدي ومن عندي ، وهو أعلم بالمصالح ((وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، فإن المتعنّت لا يريد إلا اللّجاج لا الحجة والاقتناع حتى يسير الإنسان حيث إرادته ، إنه لو أراد الاقتناع والدلالة لكفته هذه المعجزة العظيمة ، فهو كمن يأتي بإمضاء الرئيس ، ثم يقول الناس له : «جئ بإمضاء آخر حتى نقبل قولك» (فَانْتَظِرُوا) المستقبل حتى ترون هل يأتي الله سبحانه بما تطلبون (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وهذا الجواب فيه شبه تهديد ، كما تقول للمجرم : اصبر حتى نرى العاقبة.

[٢٢] ثم بيّن سبحانه أن الطبيعة البشرية إنما تطغى إذا رأت نفسها غنية غير محتاجة ، أما إذا وقع الإنسان في أزمة وشدة ، فهو يلوذ بالله ويتوسل إليه ، وهذا دليل على ما كمن في فطرته من التوحيد والاعتراف بالألوهية (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) «الإذاقة» تستعمل بمعنى الذوق باللسان ، كما تستعمل بمعنى الإدراك مطلقا ، وهذا هو المراد هنا ، فإن الرحمة ليست خاصة باللسان (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) من شدة أو فاقة أو اضطراب أو غيرها (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) فإنهم حيث رأوا الشدة

__________________

(١) الأنعام : ١١٠.

قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

____________________________________

كانوا جديرين بقبول الحق ، واتباع الرسل ، والأخذ بالأحكام ، لكن طبيعتهم العاتية حيث ترى غناها بسبب الرحمة التي ذاقتها ، ترجع إلى إنكار الآيات ، والاحتيال والمكر لإخمادها وإنكارها ، وقد كانت عادة البشر هكذا مع الأنبياء ، فقوم فرعون كلما أصيبوا بمكروه جاءوا إلى موسى عليه‌السلام يسألونه الكشف عنهم حتى يؤمنوا ، فإذا أذاقهم الله الرحمة ، وكشف عنهم العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه ، وأخذوا يمكرون بموسى ، ويحتالون لإخماد آيات الله سبحانه ، وهكذا سائر الأنبياء والمصلحين مع أممهم ، إلى هذا اليوم.

(قُلِ) يا رسول الله ، لمثل هؤلاء : لا تفعلوا ولا تمكروا ف (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) فإن مكر هؤلاء لا يصل إلى أعماق الحياة ، بخلاف مكره سبحانه وعلاجه للأمر ـ لأن المكر هو : التدبير الخفي ـ فإنه يصل إلى أعماق الحياة ، ولذا تكون جذور دعوات الأنبياء أعمق وأسرع في نفوس الناس من مكر الماكرين وإنكار الملحدين وتشكيك المشككين (إِنَّ رُسُلَنا) أي الملائكة (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي ما تدبرون خفية ضد الدين وأهله ، ثم تجزون على ذلك.

[٢٣] ثم ضرب سبحانه مثلا لطبيعة الإنسان العاتية التي تتضرع عند الشدة ، وتنسى عند الرخاء (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ) فإن مشي الحيوان ، والمركبة ، وغيرها ، إنما هو حسب تكوين الله سبحانه ونظامه الذي جعله للحياة وإلا لم يتمكن الإنسان من السير ولو خطوة واحدة (وَالْبَحْرِ) بسبب الفلك ونظام عدم غرق ما وزن الماء أثقل منه ـ كما

حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ

____________________________________

بيّن في قانون أرخميدس ـ (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) فكأن الإنسان سار من بلده في طريق البحر حتى ركب في السفينة لإرادة الذهاب إلى مقصد من مقاصده البعيدة (وَجَرَيْنَ) أي جرت السفن ، فإن «الفلك» يأتي مفردا وجمعا بلفظ واحد (بِهِمْ) أي بالناس (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) لينة يستطيبونها ، لأنها تجري نحو المقصد في رخاء وهدوء (وَفَرِحُوا) الراكبون (بِها) أي بهذه الريح. فهم في أمن وفرح وسير نحو المقصد بارتياح ، وإذا بهم (جاءَتْها) السفينة (رِيحٌ عاصِفٌ) شديدة الهبوب ، هائلة هائجة ، فأخذت السفينة في الاضطراب والإشراف على الغرق من الترنّح الشديد الذي يصيبها بسبب تلاطم الأمواج (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من الأطراف الأربعة ، فإن الرياح إذا توجهت نحو الماء رفعت منه أجزاء كثيرة ربما صارت كالجبل العظيم ، وهذا هو الموج ، والأمواج تسير بسير الهواء ما دامت تنفخ فيها وتسيّرها ، فإذا اضطربت الرياح وهبت من الجهات المختلفة جاءت الموج من كل مكان ، وإذا بالسفينة في وسط الأمواج ترتفع مرة وتنحدر أخرى ، وتميل ثالثة ، وتقع من علو دفعة ـ إذا تلاشت الأمواج تحتها ـ رابعة ، وهكذا .. فتصبح :

كريشة في مهب الريح طائفة

لا تستقر على حال من القلق

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي أحاطت بهم الأمواج بحيث تغرقهم

دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)

____________________________________

فلا نجاة من الهلكة ، وحينئذ حيث رأوا الهلاك (دَعَوُا اللهَ) وتضرعوا إليه ، وانقشعت عن عيونهم غواشي الشهوات والأنانيات ، وظهرت فطرتهم صافية (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي على وجه الإخلاص في الاعتقاد ، بحيث يجعلون الدين له ، وينقطعون عما سواه ، قائلين : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا رب (مِنْ هذِهِ) الشدة والورطة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) المعترفين بك وبفضلك وإحسانك فإن الشكر يستلزم الإذعان والتوحيد.

[٢٤] (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي خلّصهم من تلك الأهوال (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يظلمون أنفسهم وغيرهم ، فإن من لا يسير على منهاج الله سبحانه لا بد وأن يكون ظالما باغيا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فإن ظلم الظالم يعود وباله عليه (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أن بغيكم إنما هو ما يتمتّع به في الحياة الدنيا ، وذلك منقطع لا يبقى ، فإن الإنسان إنما يبغي لأمور دنيوية ، ولا فائدة فيما لا بقاء له ولا دوام (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم ومصيركم (فَنُنَبِّئُكُمْ) نخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذا تهديد بأنهم سيجازون بأعمالهم السيئة ، كما تقول للمجرم : «سأخبرك بأعمالك» تريد جزاءه

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها

____________________________________

على تلك السيئات التي صدرت منه.

[٢٥] ولما ذكر سبحانه أن الظلم إنما هو متاع الحياة الدنيا ، بيّن فناءها ، وأنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان لما يفنى ولا يبقى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي شبه الحياة القريبة في سرعة فنائها وزوالها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) وهو المطر (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فإن النبات يمتص الماء حتى ينضر ويزدهر وينمو (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) من الثمار والبقول ونحوهما (وَالْأَنْعامُ) كالحشيش والقات وغيرهما. ولعل الإتيان بهذا التفصيل للتناسق بين المثال والممثل له فكما أن الماء يختلط بالأجناس العالية من النبات ـ وهو مأكل الإنسان ـ والأجناس السافلة ـ وهو مأكل الحيوان ـ كذلك الحياة التي يفيضها الله سبحانه على الكون تختلط بالأشياء الراقية كالإنسان والجواهر ، وبالأشياء المنحطة كالمدر والحجر وغيرهما.

(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) «الزخرف» كمال حسن الشيء ، يقال : «زخرفته» أي حسنته ، فإن المطر لما ينزل من السماء يظهر ريع الزروع والكروم ونضارة النباتات والأشجار (وَازَّيَّنَتْ) أي تزينت الأرض بالنبات الزاهي والزرع النضر ، وأصل «ازينت» تزينت من باب «التفعل» قلبت «التاء» «زاء» وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن.

(وَظَنَّ أَهْلُها) أي أهل الأرض (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) لزعمهم

أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)

____________________________________

أنهم هم الذين أوجدوها بجهدهم ، وزيّنوها بصنعهم ، وأنهم مالكوا الأمر فيها ، فلا يتمكن أحد من تغييرها وتحريرها. وكذلك الإنسان دائما يظن أن ما يجري في الكون مما له دخل فيه ، إنما هو بصنعه وإرادته ، فإذا بنى دارا زعم أنها صنعه ، وإذا جرت سفينته في الماء ظن أنها منه ، وهكذا ، والحال أن الإنسان ليس إلا جزءا صغيرا متوسطا في سلسلة العلل. فقبله ، الأرض التي منها أدوات البناء وبعده الصورة التي هي من الله سبحانه ، وبها البقاء للدار ، وهكذا بالنسبة إلى السفينة وسائر الأشياء.

(أَتاها) أتى تلك الأرض المزخرفة بالزرع والنظارة (أَمْرُنا) أي عذابنا من برد أو ثلج أو عاصفة أو جراد أو نحوها (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) وهذا يدل على كمال القدرة ، فإنه لا يخشى من أحد ولا يمنعه وقت يقظة الناس كما لا يمنعه حراس الليل (فَجَعَلْناها حَصِيداً) جعلنا تلك الأرض حصيدا أي محصودة ، مقلوعة ذاهبة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) لم توجد ولم تكن (بِالْأَمْسِ) من قبل ، من «غني بالمكان» بمعنى أقام به ، ومنه «المغنى» بمعنى المنزل (كَذلِكَ) بما فصلنا هذا المثال وأوضحناه (نُفَصِّلُ) سائر (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في أدلة الله سبحانه ، فالحياة الدنيا ، كماء المطر والدنيا كالمزرعة ، فإن الحياة تختلط بماهية الأشياء ، وإذ نرى الحياة مزدهرة ، والأسواق عامرة ، والأرض مخضرة ، والناس في أمن ورفاه ، وأخذ وعطاء ، وفي هذه الغمرة من الحسن والازدهار ، وإذا بأمر الله سبحانه يأتي إما بسبب أرضي

وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا

____________________________________

كالخسف ، أو بسبب سماوي كالصيحة والبرق والقذف ، أو كالأمراض الفتاكة ، أو كالوسائل الهدامة من الآلات الحربية المفنية ـ كالقنابل وغيرها ـ فيجعلها حصيدا لا حياة فيها ولا حركة ، ولا عمارة ولا حضارة .. أليس الأمر كذلك؟ وأليس يكفي هذا دلالة على وجود الله وقدرته؟ فكيف يتكبر الإنسان ويعصي ، ويطغى ويكفر؟

[٢٦] هذه كانت حالة الدنيا فهي دار تغير وزوال ، وفناء واضمحلال (وَاللهُ يَدْعُوا) الناس (إِلى دارِ السَّلامِ) التي يكون كل شيء فيها سالما عن التغير والآفات ، وهي الجنة ، فإنه سبحانه يحرّضهم للعمل ، فهذه الدار لتلك الدار ، و «السلام» و «السلامة» بمعنى واحد ، كالرضاع والرضاعة (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إما المراد بالهداية : معناها العام ، ف «من يشاء» هم جميع الناس ، وإما المراد بها : معناها الخاص ، أي الألطاف الخاصة ، ف «من يشاء» هم الذين اتخذوا مناهج الأنبياء ، فإنهم مختصون بتلك الألطاف المؤدية بهم إلى جنات النعيم.

ومن المحتمل أن يراد بالهداية : معناها العام ـ وهي إراءة الطريق ـ ويكون «من يشاء» خاصا بمن تمّت لديه الحجة ، فإن كثيرا من أهل البلاد البعيدة لم تبلغهم الدعوة ، وكذلك من مات في الفترة بين الرسل ونحوهم ، وأولئك الذين لم تبلغهم الدعوة ، إنما يمتحنون يوم القيامة ، كما يقتضيه العدل ، ودلّ على بعض موارده الدليل.

[٢٧] تلك حال الدنيا الزائلة وهذه حال الآخرة الباقية ، فلننظر إلى أحوال أهل تلك ، وأهل هذه بين الأمرين ، ف (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الاعتقاد ،

الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ

____________________________________

وأحسنوا العمل ، بأن آمنوا وعملوا الصالحات (الْحُسْنى) أي الحالة الحسنى ، فإنهم يجزون بإحسانهم إحسانا (وَزِيادَةٌ) فضل من الله سبحانه ، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (١) ، (وَلا يَرْهَقُ) «الرهق» لحاق الأمر ، ومنه «راهق الغلام» إذا لحق بالرجال ، ويستعمل اسما من «الإرهاق» وهو أن يحتمل الإنسان ما لا يطيقه ، أي لا يلحق (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) أي غبار وسواد (وَلا ذِلَّةٌ) انكسار وانهزام ، فليست كوجوه أهل المعاصي التي يظهر عليها أثر العذاب الجسدي بالقتر ، وأثر العذاب النفسي بالذلة ، بل وجوههم نضرة ، كما قال سبحانه : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢) ، (أُولئِكَ) الذين أحسنوا (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) رفاقها وملاكها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون أبدا ، لا خروج لهم منها ، ولا تغيّر لها بهم.

[٢٨] (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أي عملوها ، وغالبا يأتي «الكسب» بالنسبة إلى السيئات للدلالة على صعوبة السيئات بخلاف الحسنات ، وذلك واضح لأن السيئات لها التواءات توجب الصعوبة لمكتسبها فمثلا الزواج فيه سهولة اطمئنان النفس إلى دار ، وأهل ، وأولاد ، وقلوب تحنو عليه ، ومستقبل يقوم به النسل ، وذكر جميل وسيادة. والسفاح بالعكس من كل ذلك ، بالإضافة إلى صرف المال والطاقة لقلب خاو

__________________

(١) فاطر : ٣١.

(٢) المطففين : ٢٥.

جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)

____________________________________

وعمل مذموم ، وهكذا. وليس المقصود أن الحلال بلا صعوبة ، وأن الحرام بلا لذة ، وإنما المقصود أن الحلال دائما أهنأ وأسهل من الحرام ، فإنه سبحانه خلط الحرام باللذة القليلة ، والحلال بالتعب اليسير ، ليختبر ويمتحن ، فلو كان الحلال بلا تعب لم يكن الآتي به ممدوحا ، ولو كان الحرام بلا لذة لم يكن التارك له مستحقا للأجر والثواب.

(جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) لا يجازون بأكثر من عملهم ، إذ الجزاء بالأكثر ظلم قبيح ، و «جزاء» مبتدأ خبره «بمثلها» ، والجملة خبر لقوله : «الذين كسبوا» والعائد محذوف أي «لهم» ونحوه (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تلحقهم ذلة نفسية ، فإن الإنسان المعذّب يحس في نفسه ذلة وانهزاما (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ليس يحفظهم عن العذاب اللاحق بهم حافظ من قبل الله ، أو المراد : لا ينجيهم من عذاب الله حافظ ، وهم بالإضافة إلى العذاب والصعوبات ، فإن الدم يحترق في الجسد ، وينقلب أسودا ، فيظهر لونه على الجسم لشفافية الجلد (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) فكأن الليل صار قطعا بسواده الشديد ، فأغشيت وجوههم بقطع منه ، قطعة فوق قطعة حتى لا يرى فيها أثر النور والضياء ، فهم في عذاب البدن ، وذلة النفس ، وسواد الوجه (أُولئِكَ) الذين كسبوا السيئات (أَصْحابُ النَّارِ) رفاقها والملازمون لها والمعرّفون بها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون أبد الآبدين.

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨)

____________________________________

[٢٩] قد كان أولئك الكفار والعصاة في الدنيا لهم آلهة وأصدقاء ، فأين ذهبت آلهتهم وأصدقاؤهم؟ وهل أنقذوهم وشفّعوا فيهم؟ إنهم هناك انقلبوا أعداء بعد ما رأوا العذاب (وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) أي نجمعهم (جَمِيعاً) بلا استثناء أحد ، وهو يوم القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله ، بأن جعلوا له شريكا : الزموا (مَكانَكُمْ) لا تبرحوا حتى تجازون بأعمالكم (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي كونوا جميعا في مكانكم حتى تعطون الجزاء. وإضافة الشركاء إليهم باعتبار أنهم اخترعوها ، وجعلوها شركاء الله سبحانه (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ميّزنا وفرّقنا ، والمراد : التفريق بينهم في السؤال ، فهناك سؤال عن المشركين ، وسؤال عن الآلهة التي عبدوها من دون الله سبحانه (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) الأصنام وغيرها من المعبودات التي عبدوها ، مخاطبين للكفار : (ما كُنْتُمْ) أيها المشركون (إِيَّانا تَعْبُدُونَ) إما المراد أنهم عبدوا الأهواء والشياطين ، وإما المراد نفي ذلك ، مريدا به نفي العلم بعبادتهم. وهذا أيضا يصح بالنسبة إلى من لا يعلم ، كالأصنام التي لا تعقل ، فإنها ينطقها الله سبحانه هناك ، أو أنهم يكذبون للتخلص من التبعة حتى لا يقال لهم : لم رضيتم بعبادة هؤلاء لكم؟ كما يكذب المشركون هناك قائلين : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١).

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)

____________________________________

[٣٠] ثم يستشهد المعبودون بالله سبحانه في أنهم لم يكونوا يعلمون بعبادة المشركين لهم (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي يكفينا شاهدا وفاصلا للحق (بَيْنَنا) معاشر المعبودين (وَبَيْنَكُمْ) أيها المشركون (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ) أيها المشركون لنا (لَغافِلِينَ) «إن» مخففة من المثقلة ، وحذف اسمها ، وهو ضمير الشأن أي يشهد الله : أنه كنا غافلين عن عبادتكم لنا ، فإنا لم نعلم بذلك ، فكيف نرضى به؟ ولا إثم علينا من هذه الجهة. وهذه حجة قوية على المشركين في الدنيا ، فإنهم يعبدون ما لا يعلم شيئا من عبادتهم ، وهل يصلح للعبادة ما هذا شأنه؟! [٣١] (هُنالِكَ) في ذلك الموقف الرهيب موقف الحشر (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي تختبر كل نفس أعمالها التي أسلفتها وقدمتها ، فإن الإنسان في الدنيا لم يختبر أعماله ، ولا يعلم الصالح والفاسد منها إلا قليلا ، إلّا إذا كان متّبعا للأنبياء فيعرف قيمة الأعمال ، فمثلا لا يعلم الإنسان في الدنيا قيمة الصدقة ، إذ لم يختبرها حتى يعرف ما الثمار الكثيرة المترتبة عليها ، كما لا يعرف مقدار ضرر الشرك وما أشبه (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي ارجعوا إليه ، إلى ثوابه وعقابه ، وحسابه وجزائه (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ضاع وبطل عن نصرتهم وشفاعتهم وإنقاذهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي الأصنام والمعبودات الباطلة التي كانوا يفترون على الله سبحانه بكونها شركاء له.

[٣٢] ثم يستدل سبحانه على كونه الحق وأن سواه باطل بما يشاهدونه في

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)

____________________________________

حياتهم اليومية (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ) ويعطي أرزاقكم (مِنَ السَّماءِ) بإنزال المطر (وَالْأَرْضِ) بإخراج النبات ، وهكذا يشمل الرزق طيور السماء وأسماك الماء وحيوانات الصحراء ، أو هو أعم من ذلك ومن سائر الأشياء التي يستفاد منها كالدور والقصور ، والمراكب والملابس ، وغيرها (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) فإن من وهبهما وأبقاهما ليس إلا الله سبحانه ، وهو القادر على أن يسلبهما (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالنباتات من الأرض ، والإنسان والحيوان من المأكولات الميتة ، أو ما أشبه ذلك (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالثمار والحبوب من النباتات ، والجنين الميت من المرأة الحية ، أو ما أشبه ذلك (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر السماء والأرض بانتظام الحركات وتسيير الأجهزة ، على وجه الحكمة والصلاح.

(فَسَيَقُولُونَ اللهُ) يفعل كل ذلك ، فإنهم بصفتهم مشركون كانوا معترفين بالله ، حيث لم تكن الأصنام وما أشبهها تقدر على هذه الأشياء الكبيرة ، فلا بد وأن يعترفوا بأنها من الله سبحانه وحده ، لا شريك له في ذلك كله (فَقُلْ) يا رسول الله لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ) في جعلكم الشريك له بغير علم ، أفلا تخافون عقابه وعذابه في شرككم بلا حجة ولا برهان؟.

فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ

____________________________________

[٣٣] (فَذلِكُمُ) أي ذاك الموصوف بتلك الصفات ـ أيها المخاطبون ـ فإن «كم» للخطاب (اللهُ رَبُّكُمُ) وإلهكم (الْحَقُ) الذي خلقكم ورزقكم ولا يستحق العبادة أحد سواه (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) استفهام تقريري ، أي ليس وراء الحق إلا باطل ، فالله الحق ، ودونه باطل (فَأَنَّى) إلى أين (تُصْرَفُونَ) يصرفكم الشيطان والأهواء ، فتعدلون عن الحق وهو الإله الواحد إلى الآلهة المتعددة.

[٣٤] (كَذلِكَ) الذي تقدم من قيام الأدلة عند هؤلاء المشركين على التوحيد ، ومع ذلك لا يقبلون النتيجة ويجعلون مع الله شركاء (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) ثبتت ، ووجبت كلمة الله وحكمه والعلم الأزلي (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) وخرجوا عن طاعة الله الواحد إلى طاعة الأنداد وعبادة الأصنام (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا بدل من «كلمة ربك» أي أن الله سبحانه علم من الأزل أن هؤلاء لا يؤمنون ، ولم يكن ذلك لأنه لم تتم الحجة عليهم ، بل لأنهم فسقوا ، وخرجوا من توحيد الله إلى الشرك.

[٣٥] ثم ذكر سبحانه حججا أخرى على التوحيد ونفي الشريك (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) أي الذين جعلتموهم شركاء لله ، فإنهم لما كانوا مختلقين ، كانت نسبتهم إلى مخترعيهم أولى من نسبتهم إلى الله سبحانه ، فلم يقل تعالى «شركائي»

مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي

____________________________________

(مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بالإيجاد (ثُمَّ يُعِيدُهُ) فانيا كما كان ، أو يعيده بعد الموت إلى الحياة. وحيث لا يحير هؤلاء جوابا ، إذ لا تفعل شركاؤهم ذلك ، ويفحمون بهذا الاحتجاج (قُلْ) يا رسول الله في الجواب : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إن ذلك خاص به لا يتمكن أحد من هذا العمل سواه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي إلى أين تصرفون عن الحق؟ من «أفك» بمعنى : انقلب وانصرف عن الحق.

[٣٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) الأصنام التي جعلتموها شركاء كذبا وزورا (مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي إلى الرشد والصلاح كي يتنعم عبّادها بما فيه خيرهم وسعادتهم ، وحيث أنهم لا يتمكنون من الإجابة بالإثبات ، وإلا طولبوا بالدليل. ولا يخفى أن هذا الاحتجاج كان مع عبّاد الأصنام ، لا مع عبّاد المسيح عليه‌السلام ونحوهم (قُلْ) يا رسول الله في الجواب : (اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) فإنه هو الذي أنزل الشرائع وأرسل الرسل لهداية الناس من الظلمات إلى النور ، وتعليم طرق الصلاح والرشاد والسعادة.

ثم يتوجه هنا سؤال يدخل فيه جميع الآلهة حتى عيسى عليه‌السلام في زعم عبّاده (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ويرشد إلى الطريق السوي ، وهو الله سبحانه (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) ويأخذ الإنسان بأوامره ونواهيه (أَمَّنْ لا يَهِدِّي)؟

إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً

____________________________________

أصله «يهتدي» من باب «الانفعال» ، قلبت «التاء» «دالا» وأسقطت همزة الوصل من أوله ، لنقل حركة التاء إلى الهاء ، فصار «هدّى» «يهدّي» والمعنى : هل الله أحق بالاتباع أم من لا يهتدي (إِلَّا أَنْ يُهْدى) فمن يحتاج إلى الاهتداء لا يصلح أن يتخذ ربا ، فالمسيح عليه‌السلام وإن كان نبيا عظيما إلّا أنه ينطبق عليه هذا الوصف ، إذ لا يهتدي إلا بهداية الله سبحانه. أما الأصنام فهي أبعد ، إذ أنها جمادات لا تهتدي حتى إذا أرادوا هدايتها.

وكأن القرآن جرى في هذا الاحتجاج مجرى المسلّم من خصمه ببعض مقدماته ليرد عليه حتى على ذلك الفرض ، والمشركون كانوا قد فرضوا عقلا للأصنام وأنها تشعر (فَما لَكُمْ) أيها المشركون ، والمعنى : ما هو سبب قولكم بغير الحق ، وأنتم تعلمون (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بأن هذه الأصنام آلهة بعد ما قامت الحجة على بطلانها.

[٣٧] (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي أن أكثر هؤلاء المشركين إنما يتبعون الظنون في اعتقادهم بألوهية الأصنام ، فإنهم لا يتيقنون بذلك جزما ، إنما رأوا آباءهم عبدوها ، فظنوا بصحتها تقليدا ، والحال (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فإن الظن ترجيح أحد الطرفين ، وهذا ليس بواقع ولا معذّر ، أما أنه ليس بواقع ، فلأن الواقع لا يتبع أداء الأشخاص ، وأما أنه ليس بمعذّر فلأن العقلاء الملتفتين لا يعتمدون عليه في الأمور المهمة ، وهذا بخلاف القطع فإنه إن حصل من

إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ

____________________________________

مقدمات صحيحة كان مطابقا للواقع ومعذّرا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) فيجازيهم بأعمالهم الباطلة التابعة لظنون تقليدية واهية.

[٣٨] ثم ينتقل السياق إلى الكلام حول القرآن الذي كان معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدليل على صدقه وصحة كلامه ، ويستعرض مناقشاتهم حوله والجواب عنها (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) أي يكون مفترى (مِنْ دُونِ) نزول من عند (اللهِ) سبحانه ، فلا يتمكن أحد أن يفتري قرآنا وينسبه إلى الله سبحانه ، فإن الكلام المفترى ليس كالقرآن ، لأن له أسلوبا خاصا معجزا ، وأنظمة وتشريعات لا يتمكن البشر من الإتيان بمثلها. بالإضافة إلى أن أحدا لو افترى على الله وجاء بمعجز ، كان حتما من الحكمة أن يكذبه الله سبحانه ، وإلا كان إغراء بالجهل ، وذلك قبيح على الله سبحانه. وقد دل التاريخ أن كل كاذب جاء بشيء ظاهره معجز ـ سحرا ـ لم يلبث أن انكشف سره وظهر كذبه.

(وَلكِنْ) هو كتاب سماوي من عنده تعالى ، وكان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي مصدقا للكتب السابقة التي جاء بها الأنبياء عليهم‌السلام فهؤلاء المعارضون له غير مرتبطين بشرائع الله ، فهم بمعزل عن الدين إطلاقا (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي أن القرآن تفصيل للذي كتبه سبحانه على البشر من الأحكام والشرائع ، كما قال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (١) ،

__________________

(١) البقرة : ١٨٤.

لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ

____________________________________

(لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس في القرآن مجالا للريب ، إذ حججه ساطعة وأدلته واضحة ، فمن ارتاب فيه فقد ارتاب ارتيابا في غير موضعه ، كمن يرتاب في النهار (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بدليل أنه معجز لا يقدر أحد من البشر من الإتيان بمثله.

[٣٩] (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي أن الكفار بعد هذه الحجج يقولون أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افترى القرآن ، ونسبه إلى الله من دون أن يكون منه ، و «أم» هنا بمعنى «بل» الإضرابية ، وفيه استفهام إنكاري (قُلْ) يا رسول الله لهم : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي مثل القرآن في البلاغة والإعجاز ، فإن إعجاز القرآن من نواحي متعددة منها بلاغته الخارقة.

وقد تحدّى القرآن بلغاء العالم بأن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن ولو كأقصر سورة نحو (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (١) لكنهم لم يتمكنوا. وقد كان تحدّي القرآن متدرجا ، فتحدّاهم أولا أن يأتوا بمثل تمام القرآن ، ثم بمثل عشر سور ، ثم بمثل سورة ، لكنهم لم يقدروا على أي منها ، وذلك دليل أنه معجز ، إذ لو لم يكن معجز لقدر البشر على الإتيان بمثله ، لأن مواده وهي الألفاظ والكلمات بل والجمل كانت تحت قدرتهم.

(وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) دعوته من الجن والإنس (مِنْ دُونِ اللهِ)

__________________

(١) الإخلاص : ١ ـ ٥.

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ

____________________________________

أي غير الله سبحانه ، ليشاركونكم وليساندوكم في الإتيان بسورة واحدة مثل القرآن ، أما الله فهو القادر على ذلك ، فاللازم أن يكون الطلب من سواه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن القرآن من كلام البشر ، وليس من كلام الله سبحانه.

[٤٠] ثم بيّن سبحانه أن تكذيب هؤلاء بدون دليل وبرهان (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) كذبوا بالقرآن قبل أن يطّلعوا على كنه أمره وحقيقته ، كالجاهل الذي يكذّب بالشيء بدون أن يقلّب أوجه الرأي فيه. إنهم حيث لم يألفوا الأنبياء والمعاجز وكانوا جاهلين بذلك تمام الجهل كذبوا بمجرد السماع والرؤية ، بدون أن يتدبروا في أنه لو كان كذبا مفترىّ لتمكنوا من الإتيان بمثله ، فإن الحكيم دائما يفكر ويتدبر ثم يحكم ويظهر النتيجة ، أما الجاهل فإنه يسرع في اتخاذ النتائج قبل التدبّر والتفكّر في المقدمات.

(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي لم يأتهم بعد ما يؤول إليه أمر الكتاب ، أي بدون أن يعرفوا مآل الكتاب ، وأنه كيف يكون وإلى ما ينتهي. وهذا كقولك : «فلان يسرع بتكذيبي بدون أن يتدبر كلامي وأن يرى مصير هذا الكلام» ، فإن كثيرا من الأشياء يعرف صدقها من كذبها من حال مصائرها ، فإذا قال زيد : «سيجيء الحاج إلى كربلاء» ، كان اللازم أن لا يكذبه السامع إلا إذا جاء وقت إخباره ولم يظهر منهم أثر ، أما أن يكذب بدون أن ينتظر أوله وآخره ، فهو خارج عن منطق العقلاء والمفكرين.

كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)

____________________________________

(كَذلِكَ) أي كتكذيب هؤلاء (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من أمم الأنبياء بدون أن يفهموا كلامهم وينتظروا عواقب كلامهم ، هل يصدق إخبارهم عن المستقبل أم لا (فَانْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الذين كذبوا الأنبياء ، فعاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك ، فإن مصيرهم إلى الهلاك والعذاب.

[٤١] وإذا كان غالب هؤلاء متّبعين للظن مكذّبين اعتباطا ، فإن منهم من يؤمن أيضا ، إذ الحق لا يخلو من أنصار (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالقرآن ، بترك كفرهم وشركهم ، واتباع الحق (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) بل يبقى في غيّه وضلاله ، (وَرَبُّكَ) يا رسول الله (أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) الذين يدومون على فسادهم ، فإن الكافر مفسد مهما كان نزيها ، فإن الكفر هو أعظم فساد في الأرض ، لأنه خرق لمنهاج الله سبحانه.

[٤٢] (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا رسول الله بعد إلزام الحجة ، وإتمام الدليل (فَقُلْ) لهم : ليعمل كلّ طرف منّا حسب منهجه ومعتقده ، فإني لا أحمل تبعة أعمالكم ، كما أنكم لا تنتفعون بعملي (لِي عَمَلِي) وسأرى جزاءه (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) وسترون جزاءه (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) أنا من الطاعة والعبادة (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) من المعاصي والكفران.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)

____________________________________

وهذا شبه وعيد لهم بأنهم وحدهم يلاقون جزاء أعمالهم الباطلة.

[٤٣] (وَمِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) بآذانهم ، لكنهم أغلقوا قلوبهم عن الانتفاع ، فهم متّخذون مكان المتفرج وإنما يستمعون فقط بدون قصد التعلم والعمل (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تُسْمِعُ الصُّمَ) جمع «أصم» بمعنى : من فقد حاسة السمع ، أي أنك لا تقدر على إسماع الحق لمن صمّت أذن قلبه (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) فإن الإنسان يقدر على إسماع من يريد الاتباع والتعقل ، أما غيره فليس ينجح فيه كل كلام.

[٤٤] (وَمِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار (مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) يا رسول الله ، حين إلقائك الحجج والأدلة ، والناظر لا بد وأن يبصر الحق في المنظور إليه ، فإن الحركات والسكنات تدل على ما في قلب المتكلم من الحرارة والصدق ، ولكنهم ينظرون للتفرّج لا لتفهّم الحق وتعلّم الواقع (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تَهْدِي الْعُمْيَ) جمع «أعمى» ، فإنهم والأعمى سواء ، فكما لا ينتفع الأعمى ببصره كذلك لا ينتفع هؤلاء بما يرون من الحق (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) فإن الإنسان يقدر على إراءة البصير ، أما الأعمى فإن الإنسان لا يقدر على إراءته الحق وإن اجتهد كل جهد.

[٤٥] وأخيرا ، إن كل ما يصيب هؤلاء إنما يصيبهم بسبب ظلمهم لأنفسهم ،

إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)

____________________________________

لأنهم لم ينتفعوا بكل ما أقيم لهم من الحجج (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) أي ظلما ولو يسيرا (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإعراضهم عن الحق بعد إتمام الحجة ووضوح المحجة.

[٤٦] ثم بمناسبة عدالة الجزاء وكون ظلمهم لا يعود إلّا على أنفسهم يأتي السياق ليبيّن أنهم في الحشر يكونون في أسوأ حال وكأن دنياهم قد مرت كساعة ، وقد بقيت التبعات الجسام عليهم (وَ) يكون حال هؤلاء الكفار (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) يجمعهم الله سبحانه لموقف القيامة ، (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) أي لم يبقوا في الدنيا (إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) فهم لا يرون إلّا بريقا من الدنيا ، وكأن عمر الدنيا كان ساعة فقط ، وهذا ليس بغريب ، فالإنسان يرى وهو في الدنيا ماضي عمره كساعة أو شبهها (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) هناك ، أي يعرّف بعضهم لبعض (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) خسروا أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، والمراد من «لقاء الله» لقاء جزائه ، تشبيها للمعقول بالمحسوس (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) للحق ، فإن عدم اهتدائهم هنا سبب خسارتهم هناك.

[٤٧] إن الكفار تكون عاقبتهم إلى خسارة ، وقد وعد الله رسوله خزي الكفار ونصرة المسلمين عليهم ، ثم بيّن أنه سواء رأى خزيهم أو مات قبل أن يرى ذلك ، فإنه سبحانه لا بد وأن يجازيهم على سوء صنيعهم

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)

____________________________________

وكفرهم ، (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) يا رسول الله «إن» شرطية و «ما» زائدة للتجميل (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) بأن تكون في الحياة ، فترى بعض العقوبات التي ننزلها بالكفار كما وعدناهم بها (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) نقبض روحك قبل أن ترى عقوبتنا لهم فإنهم لا يفوتوننا ، بل (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي رجوعهم فنريكه في الآخرة (ثُمَ) بعد رجوعهم لا يتمكنون أن يفروا من عقابه بالإنكار ، فإن (اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) فيجازيهم حسب أعمالهم التي شهدها.

[٤٨] ثم بيّن القرآن الحكيم أن تعجّب هؤلاء الكفار من ادّعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرسالة ليس في محله ، فإن الرسل قد أتت قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الأمم (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) «الأمة» الجماعة ، أي : لكل جماعة رسول يؤدي إليهم رسالة الله سبحانه (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) بيّن لهم وأنذر وحذّر ، فإذا لم يقبلوا استحقوا العقاب ، على ما وعد سبحانه ((وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي حكم الله سبحانه بينهم بالعدل ، فمن آمن أجزل له الأجر ، ومن لم يؤمن تمّت عليه الحجة واستحق العقاب (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقص من ثواب طاعاتهم ولا يزاد في عقاب سيئاتهم.

[٤٩] قد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعد المكذبين الهلاك والعقاب ، فكانوا يستعجلون

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)

____________________________________

العقاب ، على طريقة الاستهزاء (وَيَقُولُونَ) أي يقول الكفار : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي وعد عذاب الدنيا ، وعقاب الآخرة (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون القائلون بعذاب الكفار في الدنيا والآخرة (صادِقِينَ) فيما تقولونه.

[٥٠] (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : إن أمر ضرري ونفعي ليس بيدي ، فكيف بأمر ضرركم ونفعكم ، إن ما نعدكم آت لكن وقته بيد الله سبحانه (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فلو شاء الله أن يضرّني لم أملك ردّه ، ولو أراد الله أن ينفعني لم أملك تغييره أو تعجيله ، ولو أردت نفعا لنفسي ولم يردّه الله لم أقدر عليه. وهذا واضح فإن الرسول لا يقدر على أمر لا يريده الله سبحانه ، وإنما يقدر على نفع نفسه وضرها ونفع الناس أو ضرها بأمر الله وإرادته.

فالنفي هنا إضافي لا مطلق ، حتى ينافي ما دلّ على النفع الذي كان من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الضر الذي كان بسببه ، كما استثنى ذلك بقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يملكني أو يقدرني عليه ، وإذ لم أقدر على نفع نفسي وضرّها ، كيف أقدر لكم على ذلك. أما موعد عقابكم وحشركم فاعلموا أنه (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) ومدة لا بد أن يقضوها حتى تنزل بهم العقوبة على تكذيبهم وعصيانهم (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) بأن سار إليهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ) أجلهم أي لا يؤخرونه ، بمعنى عدم قدرتهم على ذلك (ساعَةً) جزءا من الزمان (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يقدّمونه عن

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ

____________________________________

موعده ووقته ، فإذا كان وقت هلاكهم يوم الجمعة وسار الأجل نحوهم من يوم الأربعاء ، لا يتمكنون أن يؤخروه إلى يوم السبت ولا يتمكنون أن يجعلونه في يوم الخميس.

[٥١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المكذبين المستعجلين بالعذاب : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني ، فإن «أرأيت» تستعمل بمعنى : أخبرني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) أي عذاب الله (بَياتاً) أي ليلا (أَوْ نَهاراً) ما أنتم صانعون؟ فقد حذف جواب «إن» لدلالة الكلام عليه (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) أي من العذاب (الْمُجْرِمُونَ) «ما» مبتدأ و «ذا» بمعنى «الذي» خبره ، والجملة استئنافية ، أي : ما الذي يستعجل المجرمون من العذاب ، والاستفهام معناه التهويل ، كما نقول لمن يفعل شيئا عاقبته سيئة : «ما الذي تجني على نفسك؟» فمفاد الآية : أنكم تستعجلون شيئا مهولا مهلكا.

[٥٢] (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) «الهمزة» للاستفهام ، و «ثم» للعطف ، أي : هل ـ بعد استعجالكم للعذاب ـ إذا وقع العذاب ، في ذلك الحين تؤمنون به. فقد كانوا لا يؤمنون بالعذاب ، وكانوا يستعجلونه على جهة الاستهزاء ، و «ما» زائدة جاءت للتزيين ، وقد ذكرنا سابقا أنه ـ غالبا ـ يأتي الكلام بصورة النفي ، ويراد منه الإثبات ..

ثم كأن النفس انتقلت إلى جو وقع العذاب فيه ـ بعد ما كانت في الدنيا طرفا لخطاب الرسول ـ فيقال للمكذّبين حين يشاهدون العذاب ويريدون الإيمان للتخلّص منه (آلْآنَ) تؤمنون ، على نحو الاستفهام

وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)

____________________________________

الإنكاري ، أي أنه لا ينفعكم الإيمان الآن (وَ) الحال أنه (قَدْ كُنْتُمْ بِهِ) بالعذاب (تَسْتَعْجِلُونَ) فكنتم مكذبين له مستهزئين به ، أي أن الإيمان الآن في حين رؤية العذاب غير نافع بعد تكذيبكم له سابقا ، ونظيره ((آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) (١).

[٥٣] (ثُمَ) بعد وقوع العذاب عليهم ، وعدم فائدة إيمانهم حين معاينة العذاب (قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بالكفر والعصيان واستعجال العذاب استهزاء : (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي العذاب الخالد الدائم في الآخرة بعد عذاب الدنيا (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي لا تجزون إلّا بما كسبتم في الدنيا ، فليس العذاب ظلما وإنما هو جزاء أعمالكم.

[٥٤] إن المكذبين لم يكونوا على علم في تكذيبهم ، بل كانوا مستبعدين للعذاب وسائر ما يخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا كانوا يسألون عن حقيقة الأمر (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) يستخبرونك ويطلبون منك يا رسول الله أن تخبرهم (أَحَقٌّ هُوَ) هل حق ما جئت به من الأحكام والوعد والوعيد وغيرهما؟ (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : (إِي) إنه حق (وَرَبِّي) أي قسما بالله (إِنَّهُ لَحَقٌ) لا شك فيه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لا

__________________

(١) يونس : ٩٢.

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤)

____________________________________

تتمكنون من أن تعجزوا الله سبحانه فلا يتمكن من إنفاذ أمره ، أو على أن تعجزوه من تعذيبكم ، فقد كان الكفار يظنون أنهم قادرون على إطفاء نور الله ، والفرار من عقابه.

[٥٥] إن العذاب إذا جاء للمكذّب لا يتمكن من النجاة منه ، لا بنحو تعجيزه سبحانه بالقوة ، ولا بنحو الافتداء للخلاص منه ، وهو من الهول بحيث إن الإنسان حاضر لإعطاء جميع ما في الأرض للخلاص ، ولكن هيهات! (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) بالشرك والكفر ، أو بالعصيان والطغيان (ما فِي الْأَرْضِ) من الثروة (لَافْتَدَتْ بِهِ) أعطت كل ما في الأرض فدية عن نفسها ليخلّصها من العذاب ، فإن عذاب الله هائل إلى هذا الحد ، حتى يستعد المجرم للتنازل عن جميع ما يملك ـ ولو كان كل ما في الأرض ـ لأجل أن لا يعذّب ، ولكن ليس للإنسان جميع ما في الأرض ، ولا ينفعه في الافتداء والخلاص لو ملكه (وَأَسَرُّوا) أسرّ المجرمون (النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أنهم أخفوا ندمهم على ما فات منهم لما رأوا العذاب. ولعل سر إخفائهم لندمهم أن لا يشمت بهم. وقد روي ذلك عن الصادق عليه‌السلام (١).

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل فكان عقابهم بمقدار أعمالهم السيئة (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، فيما يفعل بهم من العذاب لأنه

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١٩٨.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ

____________________________________

بمقدار أعمالهم.

ولا يقال : كيف أن هذه الأعمال القليلة استحقوا بها العقاب الكثير ومع ذلك فهو عدل؟

لأنه يقال : إن العقاب ليس بقدر حجم الجرم ومدته ، بل بقدر آثاره المعنوية ، كما أن من يسبّ الملك يقتل ، ومن يزني يرجم ، فإن الأعمال ليست بحجومها وإنما بقيمتها ، كما نرى المهندس يعطى لساعة قضاها في رسم خريطة عشرة دنانير ، بينما العامل لا يعطى ليوم كامل دينارا ، وقد لاقى الحر والبرد. أما دوام العذاب فهو لنيّاتهم السيئة التي أظهروها وهم باقون عليها ((وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١).

[٥٦] إن الله سبحانه يتمكن من إنفاذ وعوده لأن له كل شيء ، كما أنه تعالى ينفذها لأن وعده لا خلف فيه ، فلا يظن الإنسان أنه يعصي والمهدّد غير قادر ، أو أنه لا يفي بوعده ، فلا يعاقب (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو المالك المطلق لكل شيء. والمراد هنا : الأعم من الظرف والمظروف ، كما تقول : «تحت سلطة الملك ما في البلاد» ، تريد البلاد وما فيها. وحيث أن له كل شيء فهو يقدر على إنفاذ وعده بالعقاب لمن كفر وتمرد (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) لا خلف فيه. نعم دلّ الدليل على أن قسما من وعيده يمكن العفو عنه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي أكثر

__________________

(١) الأنعام : ٢٩.

لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ

____________________________________

الناس أو أكثر المجرمين (لا يَعْلَمُونَ) فينكرون أن يكون كل شيء لله سبحانه ، أو أنه يفي بما وعد ، كما كانوا يقولون : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (١) ، وإنما قال أكثرهم ، لا جماعة من الناس ـ حتى من المجرمين ـ يعلمون كل ذلك.

[٥٧] أما إذا قال بعض الناس : إنا إذا متنا بطل كل شيء ، ولا عقاب حين ذاك ، فليعلموا أن الله سبحانه (هُوَ يُحيِي) الأموات (وَيُمِيتُ) الأحياء ، فبيده الحياة والموت (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، أي إلى حسابه وجزائه ، فلا يظنوا أن لهم فرارا من حكمه «ولا يمكن الفرار من حكومتك».

[٥٨] ويعقب السياق على ما تقدم من الوعد والوعيد نداء عاما إلى البشر (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب لجميع البشر (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) «الموعظة» بيان ما يجب أن يرغب فيه ، وما يلزم أن يحذر عنه ، والمراد بها الأحكام الإسلامية وما نزل من قبله سبحانه من القرآن الكريم وسائر ما بيّنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) فإن الصدور كانت مليئة بالخرافة في العقيدة ، وبالأدران في الصفات ، وبالهموم والأحزان والقلق ، والقرآن بما له من المناهج والإرشادات يعوض مكان الخرافة حقائق ، ومكان الرذالة فضيلة ، ومكان الأحزان

__________________

(١) البقرة : ٨١.

وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)

____________________________________

والقلق ، الفرح والطمأنينة ، فهو يشفي الصدور من أمراضها (وَهُدىً) أي دلالة وهداية إلى الحق (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ما يسبب لهم أن يرحمهم‌الله بفضله.

[٥٩] فبهذا الفضل الذي تفضّل به سبحانه على عباده والذي يسبب لهم صلاح الدنيا والآخرة يلزم أن يفرح الناس ، لا بالمال والجاه والأهل ، فإنها أمور ما لم يوضع لها منهاج صحيح كانت وبالا على الإنسان وموجبة للهموم والأحزان (قُلْ) يا رسول الله للناس : (بِفَضْلِ اللهِ) الذي تفضّل عليهم بالهداية (وَبِرَحْمَتِهِ) التي رحم بها عباده (فَبِذلِكَ) بكل واحد منهما (فَلْيَفْرَحُوا) فإنهما هما اللذان ينظّمان الحياة السعيدة ، وينتهيان بالإنسان إلى سعادة الآخرة. وكأن إتيان «الفاء» مكرّرة لنكتة بلاغية ، هي لأجل أن يبقى في النفس مجال للتملّي من الفضل والرحمة ، ولذلك جيء بقوله «فبذلك» أيضا ، مع غناء الكلام عنه ، وهو بدل من «بفضل الله» (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من الأهل والمال والجاه ، فإنها إلى نفاد وفناء وتوجب الوبال إن لم يقترن بها فضل الله ورحمته.

وما ورد أن «فضل الله» هو الإمام المرتضى ، وكذلك في الآية السابقة من تفسير «هو» في «أحق هو» بالإمام عليه‌السلام ، فإن ذلك من باب المصداق الجلي ، أو أحد المصاديق ، كما هو كذلك في غالب الآيات المفسرة به وبآله الأطهار عليهم‌السلام ، وكان هذا وأشباهه من بطون القرآن السبعة أو السبعين.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)

____________________________________

[٦٠] إن الله سبحانه تفضّل عليهم بكل شيء ، لكن الإنسان الجاهل جعل الكفر مكان الشكر ، فبدّل الأوهام مكان الحقائق في العقيدة ، كما جعل من رزق الله سبحانه الحلال حراما افتراء منه عليه سبحانه ، بلا دليل ولا برهان (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يحكمون حسب أهوائهم : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) حلال كله ، والمراد ب «الإنزال» كونه من ناحيته سبحانه ، فله العلو المنزليّ ، فما يأتي منه كأنه ينزل من علو ، تشبيها للمعقول بالمحسوس كما قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (١) ، و ((اهْبِطُوا مِنْها) (٢) ، و (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ) (٣) ـ على احتمال في بعضها ـ أو المراد بإنزاله : إنزال بعض أجزائه الذي هو المطر والشعاع فلولاهما لم يكن رزق (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ) أي من ذلك الرزق (حَراماً وَحَلالاً) بينما كان كله حلالا ، فقد كانوا يرمون السائبة والبحيرة والحام وأقسام أخرى من المأكولات (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) أصله «أألله» بهمزتين ، همزة الاستفهام ، وهمزة «أل» الداخلة على «إله» ثم قلبت إحداهما وجعلت هكذا بالمد. قال ابن مالك : مدّا في الاستفهام أو يسهل.

أي : هل إن الله أذن لكم في تحريم بعض ما أنزل إليكم من الرزق (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في أن تنسبوا إليه تحريم ما لم يحرمه افتراء وكذبا.

__________________

(١) الحديد : ٢٦.

(٢) البقرة : ٣٩.

(٣) البقرة : ١٠٠.

وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً

____________________________________

[٦١] (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) كهؤلاء الذين افتروا عليه تحريم بعض الرزق (يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي عند لقائه سبحانه؟ ما يظنون أن يفعل بهم؟ إنه تهديد لهم ، فإن المفتري لا بد وأن تكون له عاقبة سيئة وقت الجزاء ، والمعنى : أيحسبون أنهم لا يجازون على افترائهم؟ (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أحلّ لهم الأرزاق بعد أن منحهم إياها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فيحرّمون ما أحلّه افتراء عليه ، عوض أن يشكروه حيث أنعم وحلّل.

[٦٢] إنهم يفترون على الله الكذب في تحريمهم ما أحلّ الله سبحانه ، والله شاهد على كل عمل لا يعزب عنه مثقال ذرة ، فهل يغني افتراؤهم عليه؟ (وَما تَكُونُ) أنت يا رسول الله (فِي شَأْنٍ) من شؤون الدنيا أو الآخرة ، من عمل أو عبادة أو غيرهما ـ والخطاب وإن كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أنه ليس خاصا به بل عام لكل أحد ـ (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) أي من الشأن (مِنْ قُرْآنٍ) فإنه من تلك الشؤون التي هي للإنسان قسم هو شأن تلاوة القرآن ، كما أن من تلك الشؤون شأن الصلاة ، وشأن الكسب وغيرهما. وخصّت قراءة القرآن لأهميتها (وَلا تَعْمَلُونَ) أيها البشر (مِنْ عَمَلٍ) صغيرا كان أو كبيرا (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) نشهده ونعلمه. والإتيان بضمير الجمع للتعظيم ، فقد جرت

إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)

____________________________________

العادة أن الكبراء يتكلمون عن أنفسهم وعن أتباعهم (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) تدخلون في ذلك العمل وتبتدئون به ، فشهادتنا مقترنة بأول كل أمر لا يفوت منا شيء من أوله ، والإفاضة غالبا تستعمل فيما يكون العمل سريعا ، ولكن النكتة في الإتيان بهذا اللفظ : أن الأعمال السريعة غالبا تفوت على الشاهد ، لكن الله سبحانه لا يغيب عنه شيء ولو كان العامل مسرعا في عمله.

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أي لا يغيب عنه (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) أي ما هو بثقل الذرة وهي الهباءة الصغيرة التي تسبح في الفضاء وترى إذا دخلت أشعة الشمس المكان المظلم من كوّة ونحوها ، و «من» زائدة تأتي لبيان التعميم المستفاد من «ما» النافية قبلها ، سواء كانت تلك الذرة (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

ولعلّ ذكر «مثقال» لبيان أن الله كما يعلم نفس الذرة يعلم ثقلها ، وهو أدق من العلم بأصلها كثيرا ، فإن العلم بأصل الذرة يحصل للناس كثيرا ، أما العلم بوزنها فلا يحصل للناس إلا نادرا جدا (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ) من مثقال ذرة ، أي : أيّ شيء كان أصغر من الذرة ، أو وزنه أقل من وزن الذرة (وَلا أَكْبَرَ) من ذلك (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كتاب واضح لديه سبحانه ، فإن علم كل ذلك في كتاب كتبه قبل أن يخلق الخلق ، وهو اللوح المحفوظ أو غيره ، وقوله : «لا أصغر» استئناف ، خبره «إلّا في كتاب مبين».

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا

____________________________________

[٦٣] إن هذه الدقة في الحساب والعلم توجب دهشة الإنسان وخوفه الشديد من القيامة ولقاء الله سبحانه ، لكن القرآن الحكيم يدرك هذا الأمر بقوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) الذين هم أحباؤه ، يأتمرون بأوامره وينتهون عن زواجره (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) يوم القيامة من العقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والفرق بين الخوف والحزن : أن الأول بالنسبة إلى الأمر المترقّب المحتمل صعوبته ، والثاني بالنسبة إلى المتقين ، صعوبة الأمر ، سواء كان ماضيا أو مستقبلا ، يقال : «إني على فقد ابني الذي فقدته لمحزون» ، ولا يقال : «لخائف» ، وهكذا لا يقال «إني لمحزون» من احتمال فقده ، ويقال : «إني لخائف منه». أما بالنسبة إلى المتقين في المستقبل ، فإنه يستعمل الخوف والحزن معا بمعنى واحد ، فمن علم أنه سيدركه مخوف يقول : «إني خائف محزون» ، قال يعقوب عليه‌السلام : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) (١).

ثم إن المحتمل أن يكون المراد من جملة : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إنشائية ، بأن تكون نهيا عن الخوف والحزن. ويحتمل أن تكون إخبارية ، أي : أنهم لا يخافون ولا يحزنون ، إما في الآخرة ، أو الأعم. وعدم خوفهم وحزنهم في الدنيا إضافي ، يعني أن الخوف والحزن الناشئين عن المعصية لا يكونان بالنسبة إليهم ، وإن كان هناك لهم خوف وحزن من نوع آخر.

[٦٤] ثم بيّن سبحانه ذلك بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) بأن صحّت عقيدتهم

__________________

(١) يوسف : ١٤.

وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)

____________________________________

(وَكانُوا يَتَّقُونَ) المعاصي فصحّت أعمالهم.

[٦٥] (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن مثل هذا الإنسان مطمئن القلب هادئ البال بينما يقلق العاصي والكافر (وَفِي الْآخِرَةِ) فإنه يبشر بنجاة النعيم ورضوان من الله. هذا بالإضافة إلى أن المؤمن المتقي لا تهمّه الكوارث والنوائب حيث يطمئن بثواب الله والجزاء ، فهو دائم البشارة وإن حزن قلبه ودمعت عيناه ، كمن رضّ بعض جسمه وأعطى بدله عشرة آلاف دينار ، فإنه وإن تألم لكنه مستبشر بالجزاء. وهكذا المتقون في الدنيا ، ومن مصاديق البشارة في الدنيا ، ما يبشّرهم به الملائكة عند موتهم ـ كما ورد في الأحاديث ـ.

(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) فإن ما قرّره سبحانه من الجزاء والثواب للمتقين لا خلف فيه ولا تبديل (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز فوقه ، والفلاح الذي لا فلاح مثله ، بشارة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، واطمئنان وهدوء فيهما ، وهل فوق ذلك نجاح أو فوز؟

[٦٦] (وَ) حيث أن أولياءه لا يحزنون ف (لا يَحْزُنْكَ) يا رسول الله (قَوْلُهُمْ) أي قول الكفار فيك وإيذائهم لك ، وإيقاعهم في المؤمنين بك (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فيمنعهم منك بعزّته ، ويعزّك وينصرك عليهم (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأعمالهم ، فيجازيهم

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ

____________________________________

عليها ، وينقذك منهم.

[٦٧] وكيف لا تكون العزة لله جميعا والحال أن جميع الأشياء مما يعقل وما لا يعقل لله لا شريك له (أَلا) فلينتبه الإنسان (إِنَّ لِلَّهِ) ملكه وطوع إرادته (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من ملك وأنس وجن ، وإذا كان العقلاء له ، فغيرهم من غير العاقل أولى بأن يكون ملكا له وخصّ العقلاء بالذكر بلفظ «من» دلالة على العظمة ، فإن من يملك العقلاء ، له العزة التي لا عزّة فوقها. (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي أنه سبحانه يملك آلهة هؤلاء المشركين فهو عطف على «من» وجيء ب «ما» لأن غالب الآلهة هي أصنام لا تعقل ولا تدرك.

وهنا احتمالان آخران :

الأول : أن يكون المعنى : أن ما يعبده هؤلاء من دون الله ليس شركاء لله ، فإنها ليست آلهة حتى تكون شركاء حقيقيون وإن سموها شركاء.

الثاني : أن يكون المعنى : أي شيء يتبع هؤلاء شركاء؟ تقبيحا لفعلهم.

ف «ما» على الأول موصولة ، وعلى الثاني نافية. وعلى الثالث استفهامية.

ثم بيّن سبحانه أن عبّاد هذه الأصنام ليسوا على يقين في كونها

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

____________________________________

آلهة (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبع هؤلاء المشركين (إِلَّا الظَّنَ) الحاصل لهم بالتقليد والعادة (وَإِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) يحدسون حدسا بلا علم ولا يقين.

[٦٨] إن الله سبحانه هو مالك من في السماوات ومن في الأرض ، ومالك الأصنام ، كما أنه هو الذي جعل الأنظمة الكونية ، التي لا تزال تتكرّر على الناس كل يوم ، بكل جمال وإتقان (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي لسكونكم عن أتعاب النهار (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي جعل النهار مضيئا تهتدون بسببه إلى حوائجكم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الجعل (لَآياتٍ) حجج (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تفهّم وتعقّل ، أما من لا يسمع ولا يصغي إلى الحق ، فإن تلك الآيات لا تفيده.

[٦٩] وحيث بيّن سبحانه عقيدة المشركين وزيف عقيدتهم وبيّن الأدلة على بطلانها ، عطف الكلام حول عقيدة أخرى غزت الأدمغة كثيرا ، وهي عقيدة اليهود والنصارى وبعض آخر ، من أن الله له ولد (قالُوا) قال الكفار : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال أهل الكتاب بأن عزير والمسيح أبناء الله ، وقال الكفار بأن الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) أسبّحه تسبيحا ، وأنزّهه تنزيها من هذه الكذبة (هُوَ الْغَنِيُ) فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد ، ولو على نحو التبنّي (لَهُ) تعالى (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا

____________________________________

الْأَرْضِ) فمن يملك كل شيء لا يمكن أن يكون له ولد ، إن الولد جزء الوالد فلا يكون مملوكا له (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ما عندكم دليل يدل على هذا الاعتقاد وأنه سبحانه اتخذ الولد (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فتنسبون إليه أمرا بدون علم ويقين ، فإنهم لم يكونوا على علم بأن له ولدا. وهذا استفهام توبيخي.

[٧٠] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بأن ينسبون إليه أنه اتخذ شريكا أو اتخذ ولدا (لا يُفْلِحُونَ) أي لا يفوزون بالنجاة والسعادة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وقال في آية أخرى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (١).

وقد دل التاريخ على صحة ذلك الإخبار ، فقد وقعت في العالم المسيحي والعالم اليهودي على طول الخط مجازر مدهشة ، فهم من عصر ظلامهم إلى عصر نورهم ـ هذا القرن ـ في حروب طاحنة عجيبة لا تبقي ولا تذر ، وألوف القصص شاهدة على ذلك ، منها ما ذكره «سلامة موسى» في كتابه «حرية الفكر» : أن حربا وقعت بين قسمي المسيحيين ـ الكاثوليك والبروتستانت ـ وذهب ضحيتها أربعة عشر مليون من البشر ، في ألمانيا وحدها.

[٧١] لهم (مَتاعٌ) قليل (فِي الدُّنْيا) يتمتعون أياما قلائل (ثُمَّ إِلَيْنا

__________________

(١) الكهف : ٥.

مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ

____________________________________

مَرْجِعُهُمْ) رجوعهم ، أي إلى حكمنا وجزائنا يكون مصيرهم (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) الدائم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.

[٧٢] لقد سبقت الإشارة في هذه السورة إلى الأمم السابقة وأنهم لما كذبوا الرسل ذاقوا وبال أمرهم ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (١) ، وسبقت الإشارة إلى أن لكل أمة رسول ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢). وهنا يأتي البيان ليبين بعض تلك القصص اعتبارا وتذكرة (وَاتْلُ) أي قص يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) على هؤلاء الكفار (نَبَأَ نُوحٍ) أي خبر نوح النبي عليه‌السلام (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ) شقّ وصعب عليكم (مَقامِي) إقامتي بين أظهركم فاستثقلتموني (وَتَذْكِيرِي) وعظي وتبييني لكم (بِآياتِ اللهِ) حججه ودلائله الدالة على وجوده وصفاته وسائر ما يرتبط به من النبوة والمعاد (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) في زجركم وما تنوون إيقاعه علي ، فإني متوكل على الله في جميع أحوالي ، وأتوكل عليه في هذه الخصوصية أيضا.

فلا يقال : مفهوم الشرط : عدم توكلّه في صورة عدم الشرط؟

__________________

(١) يونس : ١٤.

(٢) يونس : ٤٨.

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ

____________________________________

الجواب : إن القضية سالبة حينئذ بانتفاء الموضوع. أي أنه إن لم يكبر مقام نوح عندهم لم يكن خوف منهم حتى يتوكل عليه‌السلام ، على الله سبحانه للتوقي من خوفهم.

(فَأَجْمِعُوا) أيها الكفار (أَمْرَكُمْ) حولي (وَشُرَكاءَكُمْ) أي تعاونوا مع الذين اتخذتموهم شركاء لله سبحانه ، واعزموا على أمر واحد (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) لإيذائي (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) غمّا وحزنا ، بأن تتردّدوا فيه ، ويكون لكم وجه الخلاص مني (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) انهضوا لتنفذوا تدبيركم علي (وَلا تُنْظِرُونِ) لا تمهلونني حتى أفكر ، وحتى أجمع قراري لمقابلتكم.

قال نوح عليه‌السلام هذا لهم على وجه التحدّي وبيان أنهم لا يتمكنون من القضاء عليه وإن جمعوا كل قواهم وتشاوروا فيما بينهم واتحدت كلمتهم وأسرعوا في تنفيذ كيدهم نحوه ، فإنه مستعصم بالله ومستنصر به ، وجميع القوى لا تتمكن أن توصل إليه سوء. وهذا أدل دليل على وجوده سبحانه ، وإلا لتمكن أولئك الكفرة من القضاء عليه. وهذا كما تقول أقوى الدول لأضعف الحكومات : «افعلوا ما شئتم واجمعوا أمركم وأسرعوا في تنفيذ خططكم فإنكم لا تتمكنون من شيء».

[٧٣] (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الحجج والآيات ولم تقبلوا نصحي وتذكيري ، فأنتم وشأنكم ، إن تولّيكم لا ينقص أجري وثوابي (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) حتى ينقص بإعراضكم ، كالمعلم الذي إذا أعرض

إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ

____________________________________

التلاميذ عنه نقص أجره. والحاصل : إن أعرضتم عن قبول قولي لم يضرّني لأني لم أطمع في مالكم حتى يفوتني المال بتولّيكم عني ، بل يعود ضرر تولّيكم عليكم (إِنْ أَجْرِيَ) أي : ما أجري (إِلَّا عَلَى اللهِ) سبحانه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين يسلمون أمورهم إلى الله سبحانه ، فإني ماض في رسالتي ، مصمم على تبليغي ، وإن توليتم وأعرضتم.

[٧٤] (فَكَذَّبُوهُ) فكذّب أولئك الكفار نوحا عليه‌السلام ، وقالوا : أنت لست بنبي وأنكروا المبدأ والمعاد (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) من المؤمنين (فِي الْفُلْكِ) أي في السفينة (وَجَعَلْناهُمْ) جعلنا نوحا عليه‌السلام والمؤمنين معه (خَلائِفَ) خلفاء في الأرض بعد أولئك الكفار الذين أغرقوا (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فقد أمطرت السماء وتفجّرت العيون حتى أخذ الماء كل ما في الأرض ، وهناك هلك الكفار أجمع (فَانْظُرْ) يا رسول الله ـ والخطاب لكل من يصح منه النظر ـ والمراد ب «النظر» العلم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الذين أنذروا ولم ينفع فيهم الإنذار. وقومك هؤلاء يا رسول الله مثل أولئك ، إن كذبوا وأرادوا القضاء عليك نصرناك عليهم وأهلكناهم.

[٧٥] (ثُمَّ بَعَثْنا) أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد نوح عليه‌السلام (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ)

فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)

____________________________________

كإبراهيم وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام وغيرهم (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الواضحة والأدلة على المبدأ والمعاد والتكاليف (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) فقد كانت تلك الأقوام مثل أسلافهم لا يؤمنون بالحق الذي كذبت الأسلاف به ، فإن المكذبين لهم طبيعة واحدة ، ومن قبيل موحّد ، كما أن المؤمنين من قبيل واحد ، ولذا صح نسبة ما للأسلاف إلى الأخلاف ، كما نسب سبحانه ما صدر من أسلاف اليهود إلى أخلافهم الذين كانوا في زمن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) إن طبعنا على قلوب الذين يعتدون ويتجاوزون الحق ، إنما هو بعد ما أغلقوا هم قلوبهم عن قبول الحق ، واعتدوا عن سنن الحق.

[٧٦] (ثُمَّ بَعَثْنا) أي أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد أولئك الأمم والرسل (مُوسى وَهارُونَ) أخا موسى عليهما‌السلام (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أشراف قومه أو كلّهم ، فإن «الملأ» اسم للأشراف ، لأنهم يملئون القلوب هيبة ، والأنظار زينة ونظارة (بِآياتِنا) أي أرسلناهما مع أدلتنا الدالة على صدق دعواهما من المعجزات والخوارق (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الانقياد لها والإيمان بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) قد أجرموا وارتكبوا الآثام والمعاصي.

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا

____________________________________

[٧٧] (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) جاء فرعون وقومه المطالب الحقة التي كانت (مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا) الذي جئتما به من الخوارق والمعجزات (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) سحر واضح ، لا حقيقة له وإنما هو شيء يجعلنا نتخيل الأمور على غير واقعها.

[٧٨] (قالَ مُوسى) عليه‌السلام لهم : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) سحر؟ وقد حذف محكي القول لدلالة الكلام عليه ، وذلك لنكتة أدبية هي أن تبقى النفس منتظرة فتذهب كل مذهب ، تعظيما لتشنيع القائل ، أو المراد من «أتقولون» : أتعيبون وتطعنون في الحق؟ (أَسِحْرٌ هذا) هل هذا الذي جئت به من الخوارق سحر؟ وكم من فرق بين السحر والمعجز ، فالسحر شيء ضعيف له سبب خفي يتمكن أن يفعله أي واحد ولا يقترن بالتحدي ، بعكس المعجز في كل ذلك (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) لا يظفرون بمرادهم تماما ، فإنه تمويه وتزييف للمستضعفين ، ولذا لم يوجد ساحر تمكّن من تكوين أمة وكانت له سيادة ورفعة.

[٧٩] (قالُوا) أي قال فرعون وملؤه لموسى عليه‌السلام : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) على نحو الاستفهام الإنكاري ، أي : هل جئتنا يا موسى لتصرفنا ـ من «لفت» بمعنى صرف ـ (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام والملوك ، وترشدنا إلى عبادة الله؟ إن هذا لا يكون (وَتَكُونَ لَكُمَا

الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ

____________________________________

الْكِبْرِياءُ) السيادة والسلطة. فإنهم قالوا : إن موسى وهارون إنما ساقهم إلى هذه الدعوة إرادتهما أن يكونا سيدين ملكين على الناس ، فهما من طلاب العظمة والسلطة (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر وما حولها (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدّقين في دعوى النبوة.

[٨٠] (وَقالَ فِرْعَوْنُ) لملئه : (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) بالسحر ، بليغ في عمله ، لأواجه موسى به ، فإنه قد عجز عن دحض حجته ، فأراد الاستعانة بالسحرة ليقابل موسى بالمثل فتبطل حجته عليه‌السلام في زعمه.

[٨١] فجمعوا له السحرة من كل مكان ولما (جاءَ السَّحَرَةُ) جمع «ساحر» نحو : كهنة ، وطلبة ، جمع «كاهن» و «طالب». وجاء موسى عليه‌السلام في محضر فرعون والناس (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) فإنهم كانوا يلقون حبالا وعصيّا من أيديهم على الأرض فيظهر للناس أنها حيّاة وأفاعي ، وقد أرادوا بذلك بيان أن عصيّ موسى عليه‌السلام أيضا من هذا القبيل ، وإذا بطلت هذه المعجزة تمكنوا من الخدش في سائر المعجزات التي أتى بها ، بأنها أيضا أقسام من السحر. و «ألقوا» ليس أمرا بالسحر ، بل بيانا لبطلانه.

[٨٢] (فَلَمَّا أَلْقَوْا) ألقت السحرة ما معها من الحبال والعصيّ (قالَ مُوسى) عليه‌السلام لهم : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) «ما» مبتدأ و «السحر» خبره ،

إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)

____________________________________

يعني : إن الذي جئتم به هو السحر ، وليس السحر ما جئت به كما قلتم. (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) يظهر بطلانه للناس (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) فالله سبحانه لا يبقي على عمل يراد به إفساد الدين بطابع الإصلاح ، ولا يمضيه ، بل يبيّن بطلانه ويظهر زيفه.

[٨٣] (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) أي يظهر الله سبحانه الحق للناس ويحقّقه ، حتى يرون أنه حق وأن ما عداه باطل (بِكَلِماتِهِ) التكوينية وهي «كن فيكون» (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أن يظهر الحق ويتبيّن زيف الباطل. وقد تحقّق ما قاله موسى عليه‌السلام فألقى عصاه ـ وقد صارت ثعبانا عظيما ـ فأكلت كل تلك الحبال والعصي ، وخرّ السحرة ساجدين ، وبطل كيد فرعون ، بل ظهر كون الحق مع موسى عليه‌السلام وأنه نبيّ مرسل.

وهنا أمر لا بد من التنبيه عليه هو : أن القرآن إنما يأخذ موضع العبرة من القصة ، ولذا نجده في كل مناسبة يذكر طرفا خاصا منها. ففي مقام يذكر أول القصة ، وفي مقام وسطها أو آخرها ، وفي مقام يطرحها باختصار ، وفي مقام بتفصيل ، حسب اختلاف المقامات. فإذا كان الحديث حول عاقبة المجرمين ، ذكر غرق فرعون ، وإن كان حول غلبة رسل الله بالحجة ذكر غلبة موسى في إلقاء عصاه ، وإن كان حول العاقبة الحسنة للمؤمنين ذكر نجاة بني إسرائيل من مصر. وغالبا يخصّ الموضع المراد من القصة بجمل قصيرة من سائر مواضعها تحفظا على الربط والسياق.

وقد أكثر سبحانه من القصص المرتبطة بالأمم الموحّدة الباقية ،

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)

____________________________________

والأمم المشركة والملحدة الباقية ، لتكون لهم عبرة ، أما تفصيل قصص قوم لوط وشعيب وإلياس ـ مثلا ـ فليس من البلاغة ، أما قصة موسى وعيسى فلا بد من تفصيلهما لأنهما صاحبا شريعة يتمسك الناس بها إلى يوم الوقت المعلوم ، وهكذا بالنسبة إلى الاحتجاجات مع الملحدين والمشركين ، فقد بقي أكثر أهل العالم ملحدين مشركين طول الخط حتى يوم الناس هذا.

[٨٤] (فَما آمَنَ لِمُوسى) ولم يصدّق دعوته وما جاء به (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي جماعة من الشباب ـ لا الكهول والكبراء ـ والضمير في «قومه» إما راجع إلى «فرعون» أي من قوم فرعون ، أو راجع إلى موسى عليه‌السلام أي : من بني إسرائيل ، فإنهم كانوا من أقرباء موسى عليه‌السلام لأن الجميع كانوا من أولاد يعقوب عليه‌السلام. وكان إيمانهم (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) فقد كانوا يخافون بطشه ونكاله ، (وَمَلَائِهِمْ) أشرافهم وكبرائهم ، أن يؤذوهم و (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي يعذبهم فرعون ويصرفهم عن دينهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ) قاهر متكبّر وسلطان (فِي الْأَرْضِ) فيقدر على ما يريد من التنكيل والعقاب (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا وتجاوزوا الحد في الطغيان ، فقد أسرف في القتل والظلم ، وادّعى الربوبية.

والسر في هذا أن الأنبياء دائما يأتون إلى الناس عزّل بلا سلاح ومال ، والملوك الذين هم ضدّهم مزوّدون بالأمرين ، والناس بحاجة

وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)

____________________________________

إلى المال ، كما أنهم يخافون من القوة ، لذا تجبرهم الطبيعة على عدم الاعتناء بالأنبياء وإن كان الغالب أنهم يصدقونهم قلبا ، كما قال ذلك الشاعر للحسين عليه‌السلام : «قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية» ، وقال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١). ومن ذلك نرى أن الملوك إذا قبلوا الدين دخل فيه أتباعهم.

أما سر أن الأنبياء عزّل هو أن يكون في الدين صعوبة ليكون المؤمن مستحقا للأجر والثواب ، وهذا هو سر فضيلة السابقين إلى الدين ، لأنهم يلاقون من الصعوبة ما لا يلاقيه غيرهم.

[٨٥] (وَقالَ مُوسى) لقومه المؤمنين به : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) إيمانا صادقا راسخا (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فوّضوا أموركم إليه (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي إن كنتم منقادين لله ، فإن «الإسلام» هو الانقياد عملا ، كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٢) ، فالإيمان هو الاعتقاد ، والإسلام هو التسليم ، وبينهما عموم من وجه ، فكم من معتقد لا يسلم ، وكم من مسلم لا يعتقد.

[٨٦] (فَقالُوا) أي قال قوم موسى : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) فوّضنا أمورنا إليه واثقين بنصرته لنا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فنكون امتحانا

__________________

(١) النمل : ١٥.

(٢) الحجرات : ١٥.

وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

____________________________________

للكفار ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (١). فإن الكفار يمتحنون ويفتنون بالمؤمنين ، ومعنى دعائهم : أن لا يسلّط الكفار عليهم ، حتى يبتلوا بهم ، ويكون الكفار ممتحنين بسبب هؤلاء.

وقد روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما فسرا الآية بأن معناها : لا تسلّطهم علينا فتفتنهم بنا (٢).

[٨٧] (وَنَجِّنا) خلّصنا (بِرَحْمَتِكَ) بفضلك (مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي فرعون وملأه.

[٨٨] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ) هارون ، لما قرب الأمر ، وأردنا نجاتهم من أيدي فرعون وقومه (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) يقال : «تبوأ بيتا» أي اتخذ بيتا ، من باب «باء» بمعنى «رجع» ، فإن الإنسان يرجع إلى بيته كلما خرج ، ولذا يسمى البيت «مبوأ». أي اجعلا لبني إسرائيل المؤمنين بكم في مدينة مصر بيوتا خاصة بهم (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قال سعيد بن جبير إن معناه : اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أديموها وواظبوا على فعلها. ولعلّ هذين الأمرين باتخاذ البيوت بتلك الكيفية وإقامة الصلاة ، أن الأول لجمعهم في محل واحد بعضهم قبال بعض فلا يكونوا منتشرين هنا وهناك ،

__________________

(١) الفرقان : ٢١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٢١٦.

وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ

____________________________________

وذلك التكتّل والتنظيم مهم جدا في جمع الأفراد بصبغة واحدة ، ولنشر الأخبار ، وتنفيذ الأوامر فيهم بسرعة. كما أن إقامة الصلاة وتوثيق الصلات بالله سبحانه تولد فيهم طاقة روحية ونشاطا ، وتزكّي نفوسهم استعدادا لمقاومة القوم وعدم تأثير دعايات الكفار فيهم. ومن المعلوم أن تزكية الروح لها أكبر الأثر في الانتصار والثبات (وَبَشِّرِ) يا موسى (الْمُؤْمِنِينَ) بالله ربك ، بأنه سوف يفرّج عنهم.

[٨٩] (وَقالَ مُوسى) مخاطبا لله سبحانه : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) أي أعطيته والأشراف من قومه (زِينَةً) يتزيّنون بها من الملابس والمراكب والمساكن وغيرها (وَأَمْوالاً) يديرون بها شؤونهم ويتعاظمون بها على غيرهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإنها توجب الإغراء في هذه الحياة بالنسبة الى الغير ، كما توجب الكبرياء بالنسبة الى أصحابها. وكان ذكر هذه الجملة للتضرع إليه سبحانه ببيان كونهما صدا للدعوة هنا ـ في هذه الحياة ـ كما يقول الطالب شاكيا إلى مدير المدرسة : «إنك جعلت فلانا مراقبا في المدرسة ، وهو فاسد» يريد بيان الضراعة في أن كونه في المدرسة يسبب الفساد.

(رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) «اللام» للعاقبة ، كما قال سبحانه : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) ، أي أن عاقبة إعطائك

__________________

(١) القصص : ٩.

رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨)

____________________________________

المال لهم إضلال الناس عن دينك وطريقك وشريعتك (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) «الطمس» محو الأثر ، وهنا بمعنى «الضرب» ولذا عدّى ب «على» أي اضرب عليها وامحي أثرها ، حتى لا تكون سدا في طريق الدعوة.

وهل كان دعاؤه عليه‌السلام بمسخها كما ذكر جمع من المفسرين ، أو ذهاب البركة وإفنائها تدريجيا؟ احتمالان.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أبلغ بهم إلى غاية الشدة والقسوة التي يستحق بها العقاب ، لانقطاع كل رجاء في إيمانهم ، فإن الكافر لا يهلكه الله سبحانه إلا إذا انقطع كل رجاء ـ حسب الظاهر ـ عن قبول الحق ، فكان هذا دعاء لسرعة إهلاكهم ، بذكر السبب.

ومن هذا القبيل دعاء الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لزيادة شقوة ابن ملجم ، فإنه دعاء بالخلاص من القوم بذكر السبب ، وحيث أن الأمر كائن لا محالة ، فالدعاء بتقديمه ليس خلافا لموازين الدعاء إذا كان فيه فائدة مهمة.

(فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم الموجع ، أي أنهم يلازمون عدم الإيمان إلى رؤية العذاب ، وفي ذلك الوقت لا ينفع الإيمان لأنه إيمان إلجاء لا إيمان عقيدة. ومن المعلوم أن استحقاق العقاب والثواب إنما هو بالعمل المنبعث عن العقيدة. وربما يحتمل أن المراد ب «اشدد» اتركها حتى تتشدد وتتصلب ولا تلطف بها ألطافك الخفية ، فيكون كقوله (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ

قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ

____________________________________

فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (١) ، المراد به تركهم حتى يضلوا.

[٩٠] (قالَ) الله سبحانه في جواب دعاء موسى وهارون عليهما‌السلام : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) في طمس أموال فرعون وقومه والتشديد على قلوبهم (فَاسْتَقِيما) في الإرشاد والتبليغ والدعوة إلى الله سبحانه.

روي عن الصادق عليه‌السلام : «أنه كان بين قول الله عزوجل : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وبين أخذ فرعون ، أربعين سنة» (٢).

(وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في الضجر من طول المدة ، وعدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله سبحانه ، فإن لله في أحكامه مصالح لا يتضجّر منها إلا الجاهل ولا يستبطئ وعوده إلا المستعجل.

[٩١] وجاء الموعد وخرج بنو إسرائيل بقيادة موسى عليه‌السلام ووصلوا إلى البحر وانفلق الماء عن طريق لهم وجاء فرعون بجنوده ليدركهم ويأخذهم وينكّل بهم ، وتوسط قوم موسى البحر حتى دخل قوم فرعون ولما أن خرج موسى وقومه توسط البحر فرعون وقومه وإذا بالماء ينطبق عليهم ويغرقون جميعا (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) عبرنا بهم البحر حتى جاوزوه سالمين (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) أي مع جنوده (بَغْياً وَعَدْواً) إنما اتّبعوهم ليبغوا عليهم (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ) أدرك فرعون

__________________

(١) الزمر : ٢٤.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ص ١٢٧.

الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)

____________________________________

(الْغَرَقُ) أي وصل إليه الماء ليغرقه (قالَ) فرعون للتخلص من الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا) الإله (الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) يعني الله سبحانه ، فقد كان إلى ذلك الحين ينكره ويدعي الربوبية (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) إني أسلم له. لكن إيمانه كان للتخلص والنجاة ، بالإضافة إلى أن الإيمان لا ينفع إذا عاين الإنسان الموت كما قال سبحانه : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (١).

[٩٢] ولما كان هذا الكلام قال له جبرائيل : (آلْآنَ) تؤمن على نحو الإنكار ، فإن هذا الإيمان عن إلجاء واضطرار (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) ذلك بترك الإيمان وفعل المعاصي والفساد في الأرض (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بظلم الناس والتعدي عليهم وإطفاء نور الأنبياء إلى غير ذلك.

روي عن الصادق عليه‌السلام قال : «ما أتى جبرائيل رسول الله إلا كئيبا حزينا ، ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون ، فلما أمره الله بإنزال هذه الآية (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، نزل عليه وهو ضاحك مستبشر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أتيتني يا جبرائيل إلا وتبيّنت الحزن من وجهك حتى الساعة. قال : نعم يا محمد! لما أغرق

__________________

(١) النساء : ١٩.

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً

____________________________________

الله فرعون قال : «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين» فأخذت حمأة فوضعتها في فيه ، ثم قلت له : «ءآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين» وعملت ذاك من غير أمر الله عزوجل ، ثم خفت أن تلحقه الرحمة من الله عزوجل ويعذبني الله على ما فعلت. فلما كان الآن وأمرني الله عزوجل أن أودي إليك ما قلته أنا لفرعون ، أمنت وعلمت أن ذلك كان لله تعالى رضى» (١).

[٩٣] (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) إن الناس غالبا لا يصدقون بموت العظماء ، فكيف بمن ادّعى الربوبية وكان الناس يعبدونه. ولذا لما أخبر موسى عليه‌السلام أن فرعون أغرق ، لم يصدقه الناس ، ولذا اقتضت حكمة الله سبحانه أن ينجي فرعون ببدنه ، بأن ألقى بدنه الذي لا روح فيه على الساحل حتى رآه الناس. ولذا قال سبحانه «اليوم» أي يوم غرقك ننجيك يا فرعون ببدنك فقط ، فلم يذهب مع الماء ليضيع جسمه ، ولا أكلته الأسماك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) من الناس (آيَةً) علامة على قدرة الله سبحانه ، وأنه لم يكن فرعون إلها ، فإن الإله لا يموت ولا يغرق. والخطاب إما حقيقي بأن خوطب به فرعون وهو حي ، أو موجه إلى الناس يراد به إعلامهم بمصير كل ظالم ، فالخطاب من قبيل خطابات العقلاء لما لا يعقل ، كقول الشاعر :

أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وقوله :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ١١٧.

وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ

____________________________________

أيا جبلي نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلص إليّ نسيمها

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) غافلون عن التفكير في أدلتنا ودلائلنا.

[٩٤] (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) مكّنا (بَنِي إِسْرائِيلَ) بعد نجاتهم من فرعون وقومه ، وخروجهم من مصر (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) مكان ثبات وأمن ، فإن المكان المتزلزل الذي لا يستقر فيه الإنسان هو مبوأ كذب ، إذ لا وجه له واقع ، فهو يحكي عما لا يكون ، إذ ظاهره الاستقرار وباطنه الانفلات والانقلاب. فقد مكّنهم سبحانه من الشام وبيت المقدس (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بعد ما كانوا في أرض مصر متزلزلي المنزل حيث يضطهدهم فرعون ، ولم يكن لديهم ما يأكلون حتى صفرت أيديهم من المال ، لكن لم يبقوا على تلك الحالة ، فإنهم لما طال عليهم الأمد اختلفوا ، ولم يكن اختلافهم عن جهل فإنهم ما (اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) وعرفوا كل شيء ، بل اختلفوا حسدا واستعلاء ، كما هو شأن كل أمة ، أنهم يتّحدون ما داموا قلة مضطهدين ، فإذا كثروا وأمنوا وأثروا اختلفوا على المال والجاه وما أشبههما. (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فقد أحيلوا إلى المحكمة الكبرى حيث لم يرضخوا لأحكام الله في الدنيا ولا ترافعوا إلى أنبيائه ليبيّنوا لهم الحق من الباطل (فِيما كانُوا فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ

____________________________________

يَخْتَلِفُونَ) من الأصول والفروع. وقد روي أنهم انقسموا إلى إحدى وسبعين فرقة.

[٩٥] وبعد تمام قصة موسى عليه‌السلام وفرعون ، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعرف الذين يشكّون ، أنهم في شكّهم على غير حق بعد إقامة الحجة ، وكثيرا ما يوجه الخطاب إلى أحد ما ، ليعرف غيره قصد المتكلم على نحو «إياك أعني واسمعي يا جارة». ومن المحتمل أن يكون الخطاب لكل من يلتفت إلى هذه القصة ، كما ذكر علماء البلاغة أن الخطاب في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (١) ، متوجه إلى كل من يأتي منه الرؤية.

(فَإِنْ كُنْتَ) يا رسول الله ، أو إن كنت أيها السامع. وهذا لا ينافي قوله (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) إذ يستعمل ذلك بالنسبة إلى كل من أمر بتبليغه ، كما قال سبحانه : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) (٢) ، و (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (٣) ، باعتبار أن الغاية من الإنزال هم.

(فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من العقائد الحقة والقصص السالفة (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإنهم في واقع أمرهم يعترفون بكل ذلك وإن أنكره بعضهم عنادا وحسدا ، فإن الكتب السالفة كانت تدل على كل تلكم الأصول وحقائق هذه القصص (لَقَدْ جاءَكَ

__________________

(١) السجدة : ١٣.

(٢) الطلاق : ١١.

(٣) الأنبياء : ١١.

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)

____________________________________

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله ، أو أيها السامع ، فإن القرآن وما يشتمل عليه من الأصول والأحكام والقصص كله حق لا مرية فيه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) «الامتراء» طلب الشك مع ظهور الدليل ، وهو من «مرى الضرع» إذا مسحه ليدر ، ولا معنى لمسحه بعد درّه الحليب.

ولا يخفى أن مثل هذا الكلام ، إنما يفيد التلقين والإيماء ، فإن المطلب إذا ألقي على النفس قبلته. فلا يقال : ما فائدة هذا الكلام؟ إذ المخاطب إن كان شاكا لا يزول شكه بقولك : «لا تشك» ، وإن لم يكن شاكا كان مثل هذا الكلام معه لغوا ، كما أنه لا تنافي بين (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) وبين (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) فإنها بمعنى : «إن كنت في شك فاسأل حتى يزول الشك ولا تبقى فيه إلى الأبد».

[٩٦] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي لا تكن في جملة المكذبين بأدلة الله وحججه التي أقامها على توحيده وسائر صفاته وأحكامه (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم إذ هم صرفوها واشتروا بذلك العذاب والنكال.

[٩٧] وبعد وضوح الحجة وظهور المحجة وقيام الأدلة على ما أنزل على الرسول فما هو سبب إصرار قوم على الكفر والتكذيب؟ إنهم حقت فيهم كلمة الله ، فقد بيّن سبحانه سابقا أن من أعرض عن الحق بعد وضوحه لا بد وأن يقسو قلبه حتى أنه لو رأى كل آية لا يؤمن ، فقد

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

____________________________________

أغلق قلبه وطبع عليه فلا يؤمن وإن رأى الحجج والآيات (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي ثبتت (لا يُؤْمِنُونَ) بالله وما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٩٨] (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) خارقة تدل على صدق الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد وسائر الأمور الدينية (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم الموجع ، فهناك يتيقّنون بأنهم كانوا على ضلالة لكن إيمانهم حينذاك لا ينفعهم.

[٩٩] إن سنة الله لا بد وأن تجري بالنسبة إلى المكذبين بإهلاكهم ، وقد تقرّر أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، فهل هناك من خلاص من هذا العذاب والهلاك؟ هنا يذكر سبحانه أن الخلاص ممكن وهو أن يسلك المكذبون ـ حتى ولو شاهدوا العذاب ـ مسلك المؤمنين فيؤمنوا ويرجعوا عن غيّهم (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي لماذا لم يؤمن أهل القرى التي أهلكناها ، حين شاهدوا العذاب؟ وفي «لو لا» معنى التأنيب نحو : «هلّا امتنعت عن النساء وقد دعيت إلى التعفف عنهن» (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء متصل فإن قوم يونس خارجون عن هذا التأنيب (لَمَّا آمَنُوا) بعد مشاهدة العذاب (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) أي رفعنا عنهم العذاب الموجب لخزيهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً

____________________________________

أي في هذه الحياة القريبة فصرفنا عنهم العذاب (وَمَتَّعْناهُمْ) أبقيناهم متنعمين بنعم الدنيا (إِلى حِينٍ) جاء أجلهم فماتوا بالآجال المكتوبة.

فقد ورد أنه ما رد الله العذاب إلا عن قوم يونس عليه‌السلام فكان يدعوهم إلى الإسلام فأبوا ذلك ، فهمّ أن يدعو عليهم ، وكان فيهم رجلان عالم وعابد وكان اسم العالم «روبيل» واسم العابد «تنوخا» وكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم وكان العالم ينهاه ويقول : لا تدع فإن الله يستجيب لك ولا يحب هلاك عباده. فقبل يونس عليه‌السلام قول العابد ولم يقبل قول العالم حين يئس منهم بعد ما دعاهم ثلاثا وثلاثون سنة. فدعا عليهم ، فأوحى الله إليه يخبره بأنه يأتيهم العذاب في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد وبقي العالم فيهم. فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب ـ بأن رأوا في اليوم الموعود ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير وحفيف ـ فقال العالم لهم : يا قوم أفزعوا إلى الله فلعله يرحمكم فيرد العذاب عنكم. فقالوا : كيف نصنع؟ فقال : اخرجوا إلى المغارة وفرقوا بين النساء والأولاد ، وبين الإبل وأولادها ، وبين البقر وأولادها ، وبين الغنم وأولادها ، ثم ابكوا. وفعلوا ذلك وضجّوا وبكوا ، فرحمهم‌الله ، وصرف عنهم العذاب ، وفرق العذاب على الجبال وقد نزل وقرب منهم (١).

[١٠٠] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا رسول الله (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) من البشر (كُلُّهُمْ جَمِيعاً) بلا استثناء أحد. ولذا جيء بتأكيدين ، حتى لا يظن

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٣١٧.

أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ

____________________________________

أن التأكيد الأول عرفي لا حقيقي ، فإنه سبحانه قادر على أن يلجئ الناس إلى الإيمان ، كما أنه قادر على أن يحف الإيمان بالمغريات التي ترغّب الناس في الإيمان تلقائيا بلا جبر ، لكنه لم يشأ الأمرين ، إذ تعدم فائدة الإيمان حينئذ لعدم حصول الاختبار بالإكراه والإغراء (أَفَأَنْتَ) يا رسول الله (تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي لا ينبغي لك إكراه الناس على الإيمان ، أو لا تقدر على ذلك ، فإن الإيمان أمر قلبي لا يدخل تحت طوقك.

فإن قيل : فلما ذا يكره الإسلام الناس على ترك المنكرات وفعل الواجبات؟

قلنا : إن ذلك بالنسبة إلى من قبل الدين كمن قبل القانون الذي يجبر على تطبيقه عليه ، أما من لم يقبل وهو مورد الآية فلا إكراه له.

فإن قيل : فكيف لا يقبل الإسلام من الكفار غير الكتابيين إلا الإسلام أو القتال؟

قلنا : إن ذلك إذا خرقوا العهود التي بينهم وبين المسلمين ، وذلك غير الإكراه الابتدائي.

[١٠١] إن الله سبحانه لم يكره الناس على الإيمان ، ولكنه بيّن لهم الطريق ، فإن أحدا لا يتمكن من الإيمان إلا بإذنه سبحانه ، بأن يهديه الطريق ، أما من هداه وأرشده ثم أعرض عنه وسلك طريقا آخر فالله سبحانه يجعل عليه الرجس الروحي ، إذ تنغلق منافذ عقله ، وتتردى نفسه في مهاوي الضلالة التي هي أبشع أنواع الرجس (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ

إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

____________________________________

إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بأن يمكنها من الإيمان ويدعوها إليه ويرشدها إلى طريقه (وَيَجْعَلُ) الله (الرِّجْسَ) الدنس الروحي الذي هو أسوأ أقسام الدنس ، فإن القذارات الظاهرية تذهب بالغسل ونحوه ، أما القذارة الروحية فلا تذهب بألف غسل وغسل (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي لا يعملون عقولهم للاستضاءة والاستنارة.

[١٠٢] (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات الدالة على توحيد الله سبحانه وصفاته ، فإن في كل شيء آية.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنة قائمة ، وما خلاهن فهو فضل» (١).

فالآية المحكمة : هي الآيات الكونية الدالة بإحكامها وإتقانها على التوحيد وسائر صفاته سبحانه من العلم والقدرة والحياة والإرادة ، وأنه لا يفعل العبث .. وغيرها.

والفريضة العادلة : هي الأخلاق التي هي فرائض بأن يسير البشر في عدلها ووسطها ، فلا جبن ولا تهوّر بل شجاعة ، ولا بخل ولا سرف بل جود ، ولا شره ولا تزهد بل عفة ... وهكذا.

والسنة القائمة : هي الأحكام الإسلامية التي هي سنن الحياة السعيدة ومناهجها القائمة إلى الأبد ، لا تزول ولا تتغير.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ج ٤ ص ٧٩.

وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)

____________________________________

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) أي لا تفيد هذه الدلالات والبراهين الجلية ، ولا يفيد الإنذار والوعظ (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) إذ أنهم أغلقوا قلوبهم وغمضوا أبصارهم. وإنما عدي ب «عن» لأنه أشرب معنى «الدفع» ، أي لا تدفع الآيات والعضلات العذاب عن قوم لا يؤمنون ، فقد كان السياق حول عذاب المكذبين وأنه سبحانه يجعل الرجس عليهم.

[١٠٣] (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) أي ينتظر هؤلاء الكفار الذين لا تفيدهم الآيات والنذر ، والاستفهام إنكاري (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إلا العذاب والهلاك ، والمراد بأيامهم : وقائعهم المؤلمة ، ومعنى «خلوا» مضوا. والحاصل أنهم إن لم يؤمنوا فلينتظروا العذاب كما نزل بقوم عاد وثمود وغيرهم (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (فَانْتَظِرُوا) مثل تلك الأيام بعد ما أعرضتم عن الإيمان (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فلننتظر جميعا حتى يأتيكم العذاب.

[١٠٤] (ثُمَ) عند نزول العذاب (نُنَجِّي رُسُلَنا) فلا يصيبهم مكروه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من بين أولئك الكفار ، فلا يحرق الرطب مع اليابس ـ كما اشتهر على ألسنة الناس ـ (كَذلِكَ) أي كما ننجي الرسل (حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أي نجاة المؤمنين لازم علينا في الحكمة.

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً

____________________________________

ويحتمل أن يكون «كذلك» للمؤخر ـ لا المقدم ـ أي نجاة المؤمنين الآن كنجاة المؤمنين سابقا.

[١٠٥] (قُلْ) يا رسول الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب للناس بصورة عامة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وطريقتي التي جئت بها ، أحق هي أم باطل؟ فلا تدرون ذلك ، فإن شككم لا يزحزحني من عقيدتي ودعوتي ، بل أبقى صامدا للدعوة (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ولا يثنيني إلى عبادة تلك الآلهة كثرة عبّادها وشككم في ديني ، كما هو الغالب في الأفراد الذين يدعون إلى طريقة فلا يجدون مؤيدين لها فيعدلون عنها (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) فهو الذي يميتكم وتكون ناصيتكم في قبضته ومصيركم إليه. وهذا تهديد لهم ، وتذكير بأن الموت بيد الله سبحانه وليس للأصنام شيء (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله وكتبه ورسله وشرائعه.

[١٠٦] وكأن المقام صار مقام مخاطبة الله لنبيه ، وأن الشاكين حاضرين في محضر الرسول حين يتلقى الوحي ، من باب الإلفات الذي هو نوع من البلاغة ، ولذا قال : (وَأَنْ أَقِمْ) يا رسول الله (وَجْهَكَ) واتجاهك فإن «الوجه» لمّا كان المحل الذي يتوجه الناس به إلى غيرهم ، أمر بإقامته ، وعدم صرفه إلى هنا وهناك (لِلدِّينِ) أي طريقة الإسلام (حَنِيفاً) أي في حال كونك مائلا عن سائر الأديان ، أو مستقيما في

وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ

____________________________________

طريقتك ودعوتك (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يشركون بالله غيره ، وكأن عطف «أن أقم» على تقدير : «قيل لي» أن أقم.

[١٠٧] (وَلا تَدْعُ) يا رسول الله (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله سبحانه (ما لا يَنْفَعُكَ) إن أطعته (وَلا يَضُرُّكَ) ضرر معتد به إن عصيته. وإنما قيدنا بذلك لأنه المفهوم ، فإن الله سبحانه هو المستقل بالنفع والضرر أما غيره من الآلهة المزعومة فمنها ما لا ينفع ولا يضر إطلاقا ، كالأصنام ، ومنها ما لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله سبحانه ، كفرعون ونمرود وغيرهما من الأصنام البشرية (فَإِنْ فَعَلْتَ) تلك العبادة والدعوة لغير الله (فَإِنَّكَ إِذاً) في ذلك الحين (مِنَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بإيجاب العذاب عليها وعلى سائر الناس فيما لو صاروا سببا للضلال والغواية. ولا ينافي كون الخطاب متوجها إلى النبي مع مقام عصمته ، لأنه تعليمي ، بالإضافة إلى إمكان استحالة المقدم في الشرط ، وإنما صدق الجملة بصدق الملازمة.

[١٠٨] الأصنام والآلهة المزعومة لا تنفع ولا تضر ، أما الله سبحانه فهو وحده المالك للنفع والضرر ولكل شيء ، فمن اللازم أن يدعوه الإنسان وحده (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) يا رسول الله (اللهُ بِضُرٍّ) أي إن أحلّ ضرا. وكأن الإتيان بلفظ «المس» لإفادة أن أقل مقدار من الضر الذي يمس الإنسان مسا ، لا كاشف له سوى الله ، فكيف بالمقدار الكبير منه؟ (فَلا كاشِفَ لَهُ) لا دافع له (إِلَّا هُوَ) إلا الله وحده ، فهو القادر

وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي

____________________________________

على دفع الضر (وَإِنْ يُرِدْكَ) من «أراد يريد» (بِخَيْرٍ) يقال : «يريدك بالخير» و «يريد بك الخير» بمعنى واحد (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي لا يقدر أحد على منعه.

قال بعض المفسرين : إن ذكر الإرادة مع الخير ، والمس مع الضر ، لتلازم بين الأمرين ، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات ، وأن الضر إنما يمسّ البشر لا بالقصد الأول ، ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاقا لهم عليه ، ولم يستثني لأن مراد الله لا يمكن رده (١).

(يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فيعطيه كما تقتضي حكمته البالغة (وَهُوَ الْغَفُورُ) لذنوبهم (الرَّحِيمُ) بهم يرحمهم ويتفضل عليهم.

[١٠٩] وأخيرا جاء الحق إلى الناس ، والرسول مأمور بالتبليغ ، وبعد ذلك كل امرئ وما اختار (قُلْ) يا رسول الله للناس : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) على نحو العموم (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ) هو دين الإسلام المشتمل على كل شيء مما يحتاجه الإنسان في مختلف مجالات الحياة (مِنْ رَبِّكُمْ) إلهكم الحقيقي ومربّيكم (فَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق (فَإِنَّما يَهْتَدِي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٨ ص ١١٠.

لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)

____________________________________

لِنَفْسِهِ) فإن فائدة هدايته عائدة إليه (وَمَنْ ضَلَ) عنه وعدل إلى سائر السبل (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي على نفسه ، فإن ضرر الضلال يعود إلى الإنسان نفسه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فلست أنا مسئولا عمن ضل بعد إراءته الطريق وإرشاده السبيل ، فأنتم موكلون إلى أنفسكم وليس عليّ إلا البلاغ.

[١١٠] (وَاتَّبِعْ) يا رسول الله (ما يُوحى إِلَيْكَ) من قبل الله سبحانه ، بتنفيذ أوامره (وَاصْبِرْ) على إيذاء الكافرين والمشركين (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبينهم بالغلبة والثواب لك هنا ، والعقاب لهم هناك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فإنه يحكم بالعدل ، ولا يغمط أحدا حقه ويشهد كل شيء فلا يزيغ به حكم ، ولا يميل به باطل ، فهو الحاكم بالعدل والصواب.

(١١)

سورة هود

مكية / آياتها (١٢٤)

سميت السورة بهذا الاسم ، لاشتمالها على قصة هود النبي عليه‌السلام وحيث أن سورة يونس اختتمت باتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للوحي ، ابتدأت هذه السورة بالوحي.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله ، فإن للاسم خواصا ، ولذا نرى أن سماع اسم المحبوب يزيد الإنسان نشاطا ، كما أن سماع اسم المكروه يزيد الإنسان انقباضا ، بالإضافة إلى أن اسم الله يطرد الشياطين ويوجب عناية الله للذي ذكره ، وتركيز لصفة الرحمة في نفوس الناس ، إنه هو الرحمن الرحيم ، فليتخلّق الإنسان بأخلاقه سبحانه.

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢)

____________________________________

[٢] (الر) رموز بين الله والخلق ، أو أن من جنس «أ ، ل ، ر» (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فكل آية من آياته محكمة متينة ليست رخوة لا تلائم الواقع والحياة ، وتكون غير صالحة لكل زمان أو مكان ، بل إنها كالأحجار الكريمة المستحكمة التي لا يدخلها نقص ورخاوة وتفكك ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كل آية قد وضعت موضعها المناسب لها ، كما يفصل الكتاب إلى أبواب وفصول ، فليس نظمها مهلهلا غير منظم ، كالبناء المحكم ذي الأحجار والأدوات القديمة والذي ينظم ويفصّل تفصيلا منسجما صحيحا دقيقا ، فالآية محكمة بذاتها ، منظمة في مكانها.

وهو (مِنْ لَدُنْ) أي من عند إله (حَكِيمٍ) في أفعاله يضع الأشياء في مواضعها ، فلا يفعل شيئا اعتباطا وعبثا وإنما بالحكمة والصلاح (خَبِيرٍ) عليم بالأشياء ، فإن الحكمة غير العلم ، إذ ربما حكيم غير عالم ، كما أنه ربما عالم غير حكيم.

[٣] (أَلَّا تَعْبُدُوا) تقديره «لأن لا تعبدوا» ، فهو متعلق ب «أحكمت» أي أنزل الكتاب المحكم المفصل لعلّة أن لا تعبدوا ، فهو منصوب محلا ، كما تقول : «كتبت إليك أن تتعلم» (إِلَّا اللهَ) فهو وحده المستحق للعبادة والطاعة لا إله سواه (إِنَّنِي لَكُمْ) أيها الناس (مِنْهُ) من طرفه سبحانه (نَذِيرٌ) أنذر العاصين بالعقاب (وَبَشِيرٌ) أبشر المطيعين بالثواب. وكان ذكر الإنذار قبل التبشير ، للزوم تطهير النفس عن الكفر والمعاصي أولا ثم تحليتها بالفضائل ، قالوا : ولذا قدم النفي على الإثبات في «لا إله إلّا الله».

وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣)

____________________________________

[٤] (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا غفرانه فيما سلف من ذنوبكم (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) في أموركم ، فإن الاستغفار والتوبة أمران ، فإن الأول تطهير ، يمكن أن يرجع الإنسان ـ بعده ـ إلى الله ويمكن أن يرتكس في الذنوب ، وإن كان الغالب استعمال كل واحد منهما ويراد به الاثنان. والحاصل أن الإنسان يحتاج إلى تطهير ما سبق ، وطهارة المستقبل ، فالاستغفار وضع للأول ، والتوبة للثاني ، وإن استلزم كل واحد الآخر (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) فإنه إن استغفرتم وتبتم تفضّل عليكم بالمتاع الحسن من رزق وأثاث ورياش ، وحسنه بجماله الذاتي وأن لا يكدّره قلق ومرض وما أشبههما (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقت مسمى عنده ، وهو منتهى عمركم (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) فمن أوتي بالفضل عن الاستغفار والتوبة آتاه الله سبحانه فضلا وزيادة على المتاع الحسن ، فالمطيع له المتاع الحسن والمطيع الذي يزيد في طاعته على أصل الواجب بالمندوبات ونحوها يعطى أزيد على قدر فضله (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تعرضوا وأصله «تتولوا» بحذف إحدى التاءين ـ على القاعدة ـ و «التولي» بعدم الإيمان أو عدم الاستغفار والتوبة (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة ، الذي تعظم الأهوال فيه وتكبر ، فإن كان التولي بالمعصية كان الخوف بمعناه ، فإن العاصي يخاف عليه ، لا إنه يقطع بعذابه ، لاحتمال خلاصه بالعفو والشفاعة ، وإن كان التولي بالكفر كان لفظة «الخوف» من التواضع في الكلام لمن لا يعتقد.

إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)

____________________________________

[٥] (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم ، ومعناه إلى حسابه وجزائه رجوعكم بعد الموت (وَهُوَ) سبحانه (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على إحياء الأموات ، ومحاسبتهم وجزائهم وقد اشتملت هذه الآيات على التوحيد والنبوة والمعاد ، وتعديل السلوك في الحياة.

[٦] ويواجه هذا الكتاب الحكيم وهذا الرسول البشير النذير جماعة من الناس بالإعراض بحني رؤوسهم وثني صدورهم كما يفعل كل من يريد أن يخفي نفسه منك ولا يعتني بك وبكلامك (أَلا) فلينتبه السامع (إِنَّهُمْ) أي الكفار (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يطوونها ويدخلون بعض أجزائها في بعض كالمطرق الشديد الإطراق (لِيَسْتَخْفُوا) يطلبون بذلك تخفيهم (مِنْهُ) من الله أو من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَلا) فلينتبه السامع (حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يتغطون بثيابهم ، فإن الإنسان المعرض يتلفّح بثوبه ، إما بأن يضعه على رأسه ، أو يخفي به بعض جسده ، ولعل بعضهم كان يفعل ذلك إظهارا لإعراضه حين يقرأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن. (يَعْلَمُ) الله (ما يُسِرُّونَ) يخفون (وَ) يعلم الله (ما يُعْلِنُونَ) عند ما يستغشون ثيابهم (إِنَّهُ) سبحانه (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي الصفات والأسرار الكامنة فيها ، فلا ينفعهم ثني الصدور واستغشاء الثياب في تخفيهم عليه سبحانه ، فإنه العالم بكل شيء.

تقريب القران الى الأذهان

الجزء الثّانى عشر

من آية ٧ من سورة هود

إلى آية ٥٣ من سورة يوسف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين.

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ

____________________________________

[٧] إنه سبحانه عالم بكل شيء ، ولو لم يعلم كل شيء لم يقدر على إيصال الرزق لكل دابة صغيرة أو كبيرة (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) «الدابة» كل حيوان يدبّ على وجه الأرض ، وهذا من باب المثال ، وإلا فمن الحيوانات ما لا يدب ، كما أن منها ما ليس في الأرض (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ولعلّ تخصيص الرزق بالذكر ، للزومه عدة أمور من علم وحكمة وقدرة وغيرها ، ولتكرره كل يوم ـ غالبا ـ (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) مستقر تلك الدواب (وَمُسْتَوْدَعَها) ولعلّ الأول عبارة عن كل محل تقرّ فيه ، ولو لم يكن مكانها ، والثاني محلها الذي هو عيشها ومنزلها. وقيل في ذلك أقوال أخرى (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي إن جميع ذلك بالإضافة إلى أنها معلومة لله سبحانه مدرجة في كتاب واضح ، ولعله هو اللوح المحفوظ.

[٨] (وَهُوَ) سبحانه (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لا أكثر ولا أقل ، وقد جرت حكمة الله سبحانه على الخلق التدريجي كما نشاهده في النبات والحيوان والإنسان ، وكذلك كان خلق السماء والأرض ، وخصوصية ستة أيام كخصوصية الآماد المعينة في سائر الأشياء كتسعة أشهر مثلا للجنين. والظاهر أن المراد : مقدار ستة أيام ، إذ لم يكن في ذلك الوقت يوم بمعناه الحالي (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فقد كان سلطانه سبحانه وتصرفه ـ وهو المتبادر من العرش كما يقال : عرش الملك الفلاني من البلاد الكذائية إلى البلاد الكذائية ـ على

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ

____________________________________

الماء ، قبل خلق السماوات والأرض ، فإن الله قبل خلق السماوات والأرض خلق ماء ثم كوّن الكون ، وأما لم ذلك؟ فعلمه لدى علّام الغيوب (لِيَبْلُوَكُمْ) يختبركم ويمتحنكم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) إن خلق السماوات والأرض كان استعدادا لإمكان خلق الإنسان ليمتحن ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الأشياء لأجلك».

أما خصوصية «الستة» وكون العرش على الماء ، فهو من توابع الخلق لأجل الامتحان ، لا من صميمه ـ كما يظهر لنا من السياق ـ كأن تقول : «هيأت لولدي الدار الفلانية في سنة ، لأسكنه فيها». ثم إن ذلك كان لأجل امتحان البشر وليظهر أيهم أحسن عملا ، حتى يكون الجزاء وفق الامتحان ، ومن الغريب ـ إذن ـ أن ينكر أحد الجزاء (وَلَئِنْ قُلْتَ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) للحساب والجزاء (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسله (إِنْ هذا) أي : ما هذا القول حول البعث (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي تمويه واضح ، لا حقيقة له.

[٩] إنهم يكذبون بكل شيء لم يروه ، وقد وعدناهم بالعذاب لكنه تأخر عنهم ، فيستعجلونه استهزاء ، وينكرونه كما ينكرون البعث (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الذي يستحقونه بتكذيبهم للرسول وإنكارهم لله سبحانه (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) «الأمة» بمعنى «الحين» أي إلى أجل مسمّى

لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩)

____________________________________

ووقت معين عدّت أيامه في علم الله سبحانه لمصالح خاصة (لَيَقُولُنَ) على وجه الاستهزاء : (ما يَحْبِسُهُ)؟ أي : أيّ شيء يؤخر هذا العذاب الموعود عنّا إن كان الوعد حقا ، فتأخيره دليل على كذبه (أَلا) فلينتبه السامع (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) العذاب (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) لا يقدر أحد على صرفه عنهم ، بل يأخذهم ويهلكهم (وَ) حينذاك (حاقَ بِهِمْ) أحاط بهؤلاء المكذبين (ما) أي العذاب الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فلا منجي لهم ولا مهرب. أما تأخير العذاب فلأجل إيمان من يؤمن ، ممن يعلم الله إيمانه منهم ، ولينشأ بعض الذراري من أصلاب الكفار ، وإنما يأخذ الله سبحانه بعذاب الاستئصال من لم يجد منه خيرا إلى الأبد.

[١٠] إن الإنسان عجول في حكمه وتقلبه فهو يستعجل العذاب ، كما أنه ييأس لمجرد نزول البلية ، والفخر بمجرد نزول النعمة (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أنزلنا إليه رحمة ذاقها ، من صحة أو مال أو ولد أو نحوها. والمراد ب «الذوق» هنا مطلق الإدراك ، فإنه يستعمل فيما يتذوق باللسان ، وفيما يدرك بالحواس الظاهرة ، وفيما يدرك ولو بالحواس الباطنة ، كما أن الرؤية كذلك ، تقول : رأيت وجه زيد ، ورأيت خشونة الحصير ، ورأيت الله أكبر كل شيء (ثُمَّ نَزَعْناها) أي سلبنا تلك النعمة (مِنْهُ) من الإنسان لمصلحة اقتضته (إِنَّهُ) أي الإنسان (لَيَؤُسٌ) ذو يأس وقنوط (كَفُورٌ) يكفر بالله وييأس من روحه ورحمته.

وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)

____________________________________

[١١] (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ) جعلناه يتذوق ويدرك ، (نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي بعد بلاء أصابه (لَيَقُولَنَ) الإنسان عند نزول النعماء به : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ) أي الأمور التي تسوء صاحبها من فقر ومرض وعقم وما أشبه (عَنِّي) فكأنه أمر عادي طبيعي لا يشكر الله على ذهابها ، ولا يرى أنه هو الذي أذاقه النعمة (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) يفرح ويفخر على الناس فلا يصبر عند البلية ولا يشكر عند النعمة ، إنه عجول في جميع أحواله في نعمة كان أم في نقمة.

[١٢] (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على الشدة فلم يكفروا ، وعلى النعمة فلم يبطروا ، فإن النعمة تحتاج إلى الصبر ، كما أن البلية تحتاج إليها ، ورب إنسان أنعم الله عليه فلم يصبر على النعمة حتى بدّلها كفرا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فلم يعملوا بالسيئات عند النعمة أو البلية (أُولئِكَ) الصابرون (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) غفران ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) في الدنيا بالسعادة ، وفي الآخرة بالجنة والرحمة والرضوان.

[١٣] ما هو موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام هؤلاء الكفار الذين يقولون عن البعث أنه سحر مبين ، ويكفرون عند الشدة ، ويبطرون عند النعمة؟ إنه لا بد وأن يضيق صدره ، خصوصا وأنهم يطلبون منه ما لا يرتبط بالرسالة تعنّتا.

وقد روي أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا :

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ

____________________________________

يا محمد! إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا ، أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة. فنزلت هذه الآية (١).

وفي التأويل ، ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : إني سألت ربي أن يؤاخي بيني وبينك ففعل ، وسألت ربي أن يجعلك وصيّي ففعل ، فقال بعض القوم : والله لصاع من تمر في شنّ بال أحب إلينا مما سأل محمد ربّه ، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوه ، أو كنزا يستعين به على فاقته. فنزلت (٢) :

(فَلَعَلَّكَ) يا رسول الله (تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) من التنقيص لآلهة المشركين وتسخيف عقائدهم وأعمالهم ، كأن لا تقرأ بعض آي القرآن التي فيها هذه الأمور ، خوفا من أذى الكفار واستهزائهم (وَضائِقٌ بِهِ) بذلك الوحي (صَدْرُكَ) فإن الإنسان إذا همّه أمر ارتفعت درجة حرارته مما يتطلب هواء كثيرا ، وفي النفس العميق تنتفخ الرئة كثيرا مما يسبب ضيق الصدر عند انتفاخها (أَنْ يَقُولُوا) أي كراهة أن يقول الكفار : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي لماذا لم ينزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَنْزٌ) من المال ليستعين به على فقره (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) ليشهد بصدقه ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا ذكر آلهتهم ونقائصهم قابلوه بالاستهزاء بمثل هذه الأمور «لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك» يريدون بذلك كفّه عن بعض الوحي.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩ ص ١٠٣.

(٢) الكافي : ج ٨ ص ٣٧٨.

إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ

____________________________________

وهنا يرشده سبحانه أنه لا يحتاج إلى كنز أو ملك (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) تنذر الناس ، والمنذر لا يحتاج إلى كنز ، وإنما طالب المال يحتاج إليه ، كما أنه لا يحتاج إلى الملك ، بل إنه بحاجة إلى التصديق ، وقد كانت معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدلة الصدق ، من المعجزات الباهرات (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فهو الموكل بهم ، والمتصرف في أمورهم ، و «الوكيل» هو العارف بالصلاح دونهم ، فما يفعله من عدم تلبية مثل هذه الخوارق إنما ذلك من صلاحهم وإن لم يعرفوا.

[١٤] (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل يقولون إن الرسول افترى القرآن على الله سبحانه ونسبه إليه كذبا مع أنه ليس من عنده (قُلْ) يا رسول الله لهم : إن كان القرآن من كلامي وليس من كلام الله سبحانه (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) أي مختلقات من عند أنفسكم ، فإنه لو كان من كلام البشر لتمكن البشر من الإتيان بمثله.

وليس لأحد أن يقول كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدرجة الأولى في البلاغة ، لذا لم يقدروا أن يأتوا بمثله. إذ كونه بالدرجة الأولى لا تمنع أقرانه أن يأتوا بجزء من بلاغته. ومن المعلوم بأن القرآن كبير فليأتوا بمثل بعضه ، كما أن كون أحد المهندسين أقوى من غيره في التصميم ورسم الخرائط ، ليس معناه أن سائر المهندسين لا يتمكنون حتى ولو بتخطيط تصميم واحد كتصميمات ذلك المهندس الكثيرة ، بل معناه أنه من حيث المجموع أقدر من غيره. ثم لو كان افتراء لزم ـ عقلا ـ تعجيز الله له ، وإلا لزم الإغراء بالجهل ، ولذا لم يدّع أحد النبوة كاذبا إلا

وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ

____________________________________

فضح كما نرى الشيء الكثير منه في التاريخ.

(وَادْعُوا) أيها المكذّبون (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) لمناصرتكم في الإتيان بعشر سور مثل القرآن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم أن القرآن افتراء ، وليس من عند الله سبحانه.

[١٥] (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي إن لم يجبكم هؤلاء الكفار إلى الإتيان بمثل عشر سور ، ولعل الإتيان ب «لكم» خطابا للمسلمين ، لأجل أن المسلمين كانوا يحاجّون الكفار بمثل هذه الاحتجاجات ، والكفار لم يكونوا يتمكنون من الإجابة (فَاعْلَمُوا) أيها المسلمون (أَنَّما أُنْزِلَ) القرآن (بِعِلْمِ اللهِ) فإن علمه وحده كفيل بأن يأتي بشيء لا يقدر عليه البشر ، أما غيره فلا علم له بحيث يعلم ما لا يقدر عليه كل البشر حتى يتحدّاهم. ومعنى «اعلموا» أن ذلك العجز دليل على أنه من الله سبحانه ، إذ لو لم يكن من عنده سبحانه لشحذ الكفار أفكارهم ، وعقدوا ندوات وجاءوا أخيرا بمثل القرآن ، لتوفّر الدواعي لذلك ، فإن القرآن كان السلاح الوحيد الذي يتحداهم ، ويبنى عليه إبطال كل مزاعمهم ، فلو ملكوا أن يأتوا بمثل القرآن ولو بعد جهد وصعوبة ، لأتوا حتى يستريحوا ، وتكون لهم حجة على مزاعمهم بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس صادقا فيما يقول.

(وَ) اعلموا (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فإنه لو كان له شريك ، لتمكن

فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا

____________________________________

من إسعاف هؤلاء المشركين به ليأتوا بمثل القرآن ، فإذا لم يأتوا به دل ذلك أن الله واحد لا شريك له ولا مثيل (فَهَلْ أَنْتُمْ) بعد قيام الحجة عليكم (مُسْلِمُونَ)؟ لكنهم لم يسلموا ، بل ظلوا يحاربون الإسلام حتى خضعوا بالقوة.

ثم إن القرآن تحدّى الكفار مرة بالإتيان بسورة ، ومرة بالإتيان بعشر سور ، ومرة بالإتيان بمثل القرآن كله ، فهل كان التحدي بهذا الترتيب؟ قاله بعض المفسرين ، وقال آخرون : إن التحدي بعشر سور كان بعد التحدي بسورة واحدة ، فما السر؟

الظاهر أن المراد : عدم إمكانهم أن يأتوا بشيء مثل القرآن ، سواء سورة واحدة منه أو أكثر ، فإن ذلك خارج عن موضوع التحدي ، وإنما اختلف حسب المقامات ، وذلك كما أن الطبيب إذا أراد تحدي من لا معرفة له بالطب وهو يدعي ذلك : يقول : «اشف مريضا ، اشف عشرة مرضى ، اشف من في البلد» ، فإنه لا يريد إلّا التحدي ، لا عدد المرضى الذين يريد المدعي علاجهم.

[١٦] إن الكفار الذين لم يرضخوا للقرآن والحق ، إنما كانوا يخافون منه على منافعهم الدنيوية من رئاسة ومال وما إليهما ، فكيف يستعدّ من هو سيد قومه في قريش أن يذعن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يزعم أنه دونه في المجتمع ، وكيف يرضخ الرئيس الديني اليهودي الذي تجبى إليه ثمرات عمل ألوف اليهود أن يترك كل ذلك ، ليكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. ولذا يذكرهم سبحانه بهذه الحقيقة الكامنة في نفوسهم (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة

وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)

____________________________________

(وَزِينَتَها) أي بهجتها وزخارفها ، وهو معرض عن الآخرة (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي : نوفّ لهم جزاء أعمالهم ، فإن كل عمل فيه جزاء ولا بد أن يرى الإنسان ـ صالحا أو طالحا ـ جزاء عمله (وَهُمْ فِيها) في الحياة الدنيا (لا يُبْخَسُونَ) لا ينقصون منها شيئا. فإن «البخس» بمعنى النقصان.

[١٧] (أُولئِكَ) المريدون للدنيا فقط ، هم (الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) إذ لم يعملوا في الدنيا عملا يستحقون به الجنة ، بل عملوا ما استحقوا به النار والعذاب (وَحَبِطَ) بطل (ما صَنَعُوا فِيها) ما عملوا في الدنيا من أعمال الخير ، إذ لم تكن أعمالهم لله سبحانه حتى يستحقوا عليها الثواب ، وحيث أن الثواب لازم طبيعي للعمل الصالح ، عبر ب «الحبط» بالنسبة إلى ما لا ثواب له ـ نظرا إلى نوعه ـ وإن كان الأمر ليس من الحبط حقيقة (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فإن مبرّاتهم باطلة لا ثمرة لها ، إذ لم تكن جامعة لشرائط الصحة.

[١٨] صنف من الناس يريد الحياة الدنيا وزينتها ، وصنف من الناس على بيّنة من ربه ، فهو يعرف طريقه ويؤمن بالآخرة كما يؤمن بالأولى ـ فطرة ـ وعنده شاهد يشهد له بصدق فطرته ، وهو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سبقه مصدّق بطريقته كتاب موسى عليه‌السلام. إن هؤلاء الصنف يؤمنون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم ينظرون إلى فطرتهم ، وإلى الشاهد ، وإلى الوثيقة السابقة. أما غيرهم فالنار موعدهم. هذا هو ظاهر الآية ، ويؤيده ما دلّ

أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً

____________________________________

على حجية العقل وصحة حكم الفطرة ، فهو كبيّنة من الرب.

؟ وقد روي عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام تفسير «الشاهد» في هذه الآية بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وفي المقام روايات أخرى واحتمالات ، أما الروايات فالظاهر أنها من باب ذكر المصاديق ، كما روي أن الشاهد هو الإمام المرتضى عليه‌السلام (٢). وأما الاحتمالات فلا حجية فيها ما لم توافق الظاهر.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) استفهام تقريري ، أي هل من كان على برهان وحجة من قبل الله سبحانه ، فله نور فطري يرى الحق ويؤمن به؟ ولفظة «على» للتشبيه بالذي يركب المركب الفاره ، في مقابل الراجل (وَيَتْلُوهُ) أي يعضده ويؤيده (شاهِدٌ مِنْهُ) أي شاهد من قبل الله سبحانه ، وهو الرسول ، يشهد له بما دلّت عليه فطرته وهداه إليه عقله ، من أن للكون خالقا ، وأنه لا بد وأن يجازى كلّا بعمله. إلى غير ذلك مما تدل عليه الفطرة.

(وَمِنْ قَبْلِهِ) أي قبل هذا الشاهد (كِتابُ مُوسى) عليه‌السلام يدل على صحة طريقته ، فله مؤيد فعلا ومؤيد سابقا (إِماماً وَرَحْمَةً) حالان لكتاب موسى عليه‌السلام أي أن كتاب موسى إمام يؤتمّ به في أمور الدين ،

__________________

(١) راجع الكافي : ج ١ ص ١٩٠.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٢٥٥.

أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً

____________________________________

ورحمة من الله على عباده ، إذ يهديهم إلى الطريق.

وذكر كتاب موسى ، لأنه مقبول لدى اليهود والنصارى ، ولأن عيسى عليه‌السلام كان كمتمّم لكتاب موسى ، فالتوراة هي الأصل. والحاصل المستفاد : أن التقدير : «أفمن كان على بينة من الله ، وله شاهد على حقيقته ، ويعتقد به شاهد آخر ، كمن أراد الحياة الدنيا وزينتها؟». وقد حذف جواب الاستفهام لدلالة الكلام عليه.

(أُولئِكَ) الذين وصفوا بأنهم على بيّنة من ربهم (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالله وسائر الأمور التي يلزم الإيمان بها (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) والفئات ، من أهل الكتاب كانوا أم من غيرهم (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) ومصيره ومستقره (فَلا تَكُ) يا رسول الله (فِي مِرْيَةٍ) وشك (مِنْهُ) من الموعد ، أو من القرآن وما يلزم الإيمان به. والخطاب وإن كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أن المراد به سائر الناس (إِنَّهُ) أي ما تقدم من الموعد ، أو ما يلزم الإيمان به ـ المعلوم من السياق ـ (الْحَقُّ مِنْ) قبل (رَبِّكَ) أو أن الخبر الذي أخبرت به هو الحق من عند الله سبحانه ، فلا كذب فيه ولا تحوير (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) به ، بل يزعمون أنه كذب وافتراء.

[١٩] (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحد أكثر ظلما ، وإن كان بصورة الاستفهام (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي نسب إلى الله الكذب افتراء ، وقد

أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً

____________________________________

ذكر ذلك بمناسبة ما كان المشركون ينسبونه إلى النبي من افترائه القرآن ونسبته إلى الله سبحانه ، ولا يخفى أن عبارة «من أظلم» المستعملة في القرآن كثيرا ، يراد بها الظلم النسبي غالبا ، لا الحقيقي (أُولئِكَ) المفترون على الله (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) يوم القيامة ، أي يستحضرون في المحكمة التي يعقدها الله سبحانه ، إذ لا مكان له تعالى ولا يمكن رؤيته (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) جمع شاهد ، والمراد بهم إما الأنبياء أو الملائكة أو المؤمنون (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) ونسبوا إليه ما لم يكن منه ، فلا مجال للإنكار ولا محل للفرار ، ولا يمكن لهم أن يحلفوا كما يحلف المشركون ، قائلين : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) ، (أَلا) فلينتبه السامع (لَعْنَةُ اللهِ) طرده وعذابه (عَلَى الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم وغيرهم بالافتراء على الله سبحانه ، وهذا إما تتمة كلام الأشهاد ، أو ابتداء كلام.

[٢٠] ثم وصف سبحانه الظالمين ، بقوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس عن الاهتداء وسلوك سبيل الله ، فيغرونهم بإلقاء الشّبه عليهم ، وإثارة شكهم وكفرهم وعصيانهم بترك أوامره ونواهيه (وَيَبْغُونَها) أي يريدون أن تكون السبيل (عِوَجاً) زيغا عن الاستقامة وعدولا عن الصواب ، هذا لو رجع الضمير إلى «السبيل» ـ وهي مؤنث

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ

____________________________________

سماعي ـ أما لو رجع إلى سبيل الله ، كان المعنى : أنهم يزيدون وينقصون في سبيل الله وأحكامه ليظهروا للناس أنها منحرفة زائفة ، فيصرفوهم عنها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالدار الآخرة ، من البعث والحساب والجزاء (هُمْ كافِرُونَ) غير مقرّين.

ولا يخفى أن هذه الأوصاف ، تنطبق على الذين يفترون على الله الكذب ، فإنهم الصادون عن السبيل ، الجاحدون بالآخرة ، وإن أقرّ بعضهم بها لسانا ، فلو لا جحودهم قلبا لم يصدوا عن طريقه سبحانه.

[٢١] (أُولئِكَ) الذين صدّوا عن السبيل وكفروا بالآخرة (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لم يكونوا يتمكنون من أن يعجزوا الله سبحانه في شيء من إرادته ، فيهدي الناس على رغمهم ، ولو أراد أن يأخذهم ويهلكهم لم يكن أمرهم عسيرا عليه ، فهم في قبضته وتحت قدرته ، وكأن ذكر «في الأرض» للإشارة إلى أنهم لا يتمكنون من تعجيزه في محل سيطرتهم وإمكانياتهم ، فكيف بالآخرة التي يحشرون فيها فرادى بلا مال ولا جاه ولا قوة (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله سبحانه (مِنْ أَوْلِياءَ) وأنصار ينصرونهم ويتولون أمرهم ، فإن الله سبحانه هو الذي بيده الأمور ، ويتولى كل شيء ، فإذا نزلت بهؤلاء كارثة لم يكن هناك منقذ لهم (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) عذاب كفرهم بأنفسهم ، وعذاب صدّهم ، وكونهم سببا في كفر غيرهم ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا

ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)

____________________________________

يُفْسِدُونَ) (١) ، فقد عاشوا صمّا عميا و (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) فقد كانوا يقولون : إنا لا نستطيع أن نسمع كلام الله ، يريدون إظهار الضجر والاستهزاء ، لا أن المراد عدم استطاعتهم حقيقة (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) الأدلة والبراهين ، قد سدّوا أسماعهم عن كلامه سبحانه ، وأغمضوا عيونهم عن رؤية آياته ، لقد عاشوا مغلقي البصائر ، كأن ليس لهم سمع ولا بصر.

[٢٢] (أُولئِكَ) البعداء الصادّون الضالّون (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فإن النفس ، كرأس مال يجب أن يتحفظ الإنسان بها عن العطب ويجلب بها الربح ، وهؤلاء قد خسروها ، حيث عطبت نفوسهم ، ولم يحصلوا على ربح (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فقد تبدّد كذبهم وافتراؤهم ، وضاع عنهم فلم ينجهم ، فإن عملهم هلك وضاع ، حيث نجا سائر المؤمنين بأعمالهم الطيبة.

[٢٣] (لا جَرَمَ) «لا» كلمة نفي و «جرم» معناه الكسب ، أي لا كسب لهم في النفع بل كسبهم خسران الدنيا والآخرة ، أو بمعنى «لا محالة» و «لا بد» (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي الأكثر خسارة من غيرهم ، لشدة عذابهم ، ولا شك أن الكفار الذين لهم تلك الأوصاف المتقدمة من أكثر الناس عقابا.

__________________

(١) النحل : ٨٩.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً

____________________________________

[٢٤] هكذا كان حال الكافر المتصف بتلك الصفات السيئة ، أما المؤمنون فحالهم أحسن حال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبما يلزم الإيمان به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة. والمراد هنا أعم من فعل الواجبات وترك المحرمات ، فإن من لم يترك الحرام لا يقال له أنه يعمل الصالحات وإن أتى بكل واجب. كما أنها تشمل عامل المستحبات وتارك المكروهات (وَأَخْبَتُوا) أي أنابوا وتضرّعوا إليه ، فإن الإخبات بمعنى الطمأنينة ، أي اطمأنوا (إِلى رَبِّهِمْ) وخشوا وخضعوا له ، فإن المؤمن خاضع لله ، مطمئن إلى أحكامه وتقديراته ، هادئ النفس لما يترقّبه من نصرته وعونه (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) المالكون الملازمون لها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون أبدا دائما.

[٢٥] ثم مثّل سبحانه الكافر والمؤمن بمثل محسوس فقال : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) فريق الكافرين وفريق المؤمنين ، أما الكافرون فهم (كَالْأَعْمى) بصرا (وَالْأَصَمِ) أذنا ، وأي عمى أعظم من عدم إبصار آيات الله وبراهينه وحججه ، وأي صمم أعظم من عدم استماع أوامره ونواهيه وإرشاداته (وَ) أما المؤمنون فهم ك (الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) فكما أنه يرى ويسمع ، كذلك المؤمن قد تفتّحت بصيرته فيرى الآيات الكونية ، وانفتح سمع قلبه فيسترشد بالموعظة ويسمع الحق سماع تفهّم وعمل (هَلْ يَسْتَوِيانِ) هؤلاء وهؤلاء (مَثَلاً) أي من حيث المثل ، استفهام إنكاري ، أي لا يستوي السميع البصير ، والأعمى

أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ

____________________________________

الأصم ، عند أحد ، فكذلك المؤمن والكافر (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي تتذكرون ـ حذفت إحدى تاءيه للقاعدة في باب التفعل ـ وهو استفهام إنكاري يراد به ردع الكافرين ، كيف لا يفكرون في هذا الأمر الواضح ، ويعتبرون به.

[٢٦] وبعد ما بيّن سبحانه في هذه السورة حقائق كبري حول المبدأ والمعاد والرسول والأمة ، وأن من كذّب فله الهلاك والدمار والعذاب والنار ، ومن آمن فله خير وسعادة وجنات النعيم ، ذكر جملة من القصص السالفة التي تثبت احتجاج الأنبياء مع أممهم حول هذه العقائد ، وما انجرّت إليه أمورهم ، من تكذيب واضطهاد ، وما أعقب تكذيب الأمم من الهلاك والعقاب (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فقال لهم : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي منذر واضح ، أنذركم أن إذا كفرتم وعملتم بالمعاصي تجازون بعذاب الدنيا والآخرة.

[٢٧] (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) متعلق ب «نذير» أي إنذاري هو أن تتركوا عبادة ما دون الله من الأصنام (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) مؤلم موجع ، وإنما قال «أخاف» لأنه لم يكن معلوما أنهم يموتون كفارا لعلهم يتوبون ، أو ترقيقا في الكلام مع المنكر المعاند.

[٢٨] (فَقالَ الْمَلَأُ) أي جماعة الأشراف ـ لأنهم يملئون العيون جلالا والقلوب هيبة ـ وحيث أن المعارضين للأنبياء والمصلحين دائما هم

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ

____________________________________

الطبقة المستعلية ، يأتي بيان حوارهم ، وإلّا فغيرهم أيضا كان يجادل ويحاور (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) صفة «الملأ» ، وليس المراد ب «كفروا» تجدّد الكفر منهم ، بل كونهم كفارا ، فإن فعل الماضي ينسلخ عن الزمان غالبا ـ في مثل هذه الموارد ـ ولا مفهوم للوصف ، بأنه كان هناك عدّة لم يكفروا ، لأنه وصف توضيحي لا احترازي : (ما نَراكَ) يا نوح (إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) فكيف تدّعي النبوة والرسالة من الله سبحانه. فقد كانت كل أمة تظن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلزم أن يكون من الملائكة ، لا لبرهان عندهم ، بل لرفعة مقام الرسالة في نفوسهم ، لأنه لا يمكن أن يكون بشرا مثلهم في حين يدعي أنه متصل بالسماء وواسطة بينهم وبين الله العظيم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) لم يتبعك الأشراف والرؤساء والمثرون ، وإنما اتبعك وآمن بك الأراذل ، وهو جمع «رذل» وهو الخسيس الحقير في كل شيء ، فكيف يؤمن الأشراف في صف الأراذل.

وقد كان الغالب أن الفقراء الذين ليس لهم ثروة ومنصب هم أسرع الناس قبولا إلى اتباع كل حق وباطل ، لأن المال والمنصب والكبرياء تمنع عن الاستجابة ، وتسبب القسوة والغلظة ، بخلاف الجماهير والفقراء من مختلف الطبقات والأعمال وما أشبه ، فإنهم أقرب إلى البساطة ، والفطرة السليمة.

في حال كونهم (بادِيَ الرَّأْيِ) أي ظاهر الرأي لا عمق لرأيهم ، حتى يتدبروا ويتفكروا في الصدق والكذب ، والعواقب والمصير ،

وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨)

____________________________________

مشتق من «بدا» بمعنى ظهر (وَما نَرى لَكُمْ) يا نوح وللمؤمنين بك (عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) في ثروة أو مكانة اجتماعية ، فكيف نتبعك؟ وقد ظنوا أن الرسالة من جنس هذه الأعراض الدنيوية ، فاللازم أن تكون الفئة المؤمنة من أصحاب الأموال والمناصب ، وقد غفلوا عن أن الرسالة من المناصب الروحية لا يتحملها إلا من اختاره الله وجعل نفسه أكمل الأنفس ، وليست من المناصب الدنيوية التي تحتاج إلى ثروة وكبرياء. وهكذا هم أهل الدنيا يستصغرون دائما أهل الدين ، إذا خلت أيديهم من المال والجاه.

(بَلْ نَظُنُّكُمْ) يا نوح أنت والمؤمنين بك (كاذِبِينَ) في دعوى النبوة وما أتيت به ، وتبعك هؤلاء عليه من الدين.

[٢٩] (قالَ) نوح في جوابه لكفار قومه : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) على برهان وحجة يشهدان لي بصحة الدعوى وصدق النبوة ، وبأني أتيت بالمعجزات ، أفلا تصدقونني؟ وتنسبوني إلى الكذب أيضا (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي جعلني نبيا وخصّني بهذه المنزلة الرفيعة من بين البشر (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) خفيت عليكم لعدم تهيؤكم لقبول تلك البينة ، (أَنُلْزِمُكُمُوها) نجبركم على المعرفة والبينة (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي تكرهون البينة والمعرفة ولا تتدبرونها ، والحاصل أن لي بينة ، لكن أنتم تكرهون رؤيتها والتدبّر فيها ، وإنما لا ألزمكم وأجبركم على التدبر لأنه «لا إكراه في الدين».

وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠)

____________________________________

[٣٠] (وَيا قَوْمِ) لماذا تمتنعون عن إجابتي وليس في ذلك تكليف لكم بدفع الأجور حتى تخافون من ذلك وتهربون من دفعه ، فإني (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على دعوتي لكم إلى الله سبحانه (مالاً) فتستثقلون دعوتي (إِنْ أَجرِيَ) أي : ما أجري في التبليغ (إِلَّا عَلَى اللهِ) فهو الذي أمرني بذلك ، وهو الذي يعطيني الأجر والثواب على عملي (وَ) قد كان بعض الكفار سألوا نوحا بطرد المؤمنين ـ الأراذل في نظرهم ـ حتى يفكروا في أمره ويلتفوا حوله ـ كما قال بعض المفسرين ـ لكن نوحا أجابهم بقوله : (ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) لست أطردهم من عندي ولا أقصيهم من حوالي ، ولماذا؟ أليسوا هم مؤمنين بي و (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فيجازي من طردهم بالعذاب والنار ، كما تقول : «لا أقطع علاقتي بفلان فإنه يلاقي الملك» ، تريد : فيشكوك عنده (وَلكِنِّي أَراكُمْ) أيها الكفار (قَوْماً تَجْهَلُونَ) الحق ، فتعلّلون عدم إيمانكم بعلل واهية وأعذار سخيفة.

[٣١] (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ) بأس (اللهِ) ونقمته (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي طردت هؤلاء المؤمنين بلا ذنب ولا عصيان ، حين يشكوني خصمائي عند الله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتفكرون ، فتعلمون أن الأمر على ما قلته. وهكذا يكون دائما المتكبرون ، إنهم يقولون لأصحاب الرسالات

وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١)

____________________________________

والمصلحين : أطرد فلانا وفلانا ، ممن يرون أنهم فوقهم شأنا. وقد دلت التجارب أن أولئك المؤمنين هم المخلصون الذين يحملون مشعل الإصلاح دون أولئك المتكبرين الذين يريدون طرد جماعة ، فإن المتكبر لا يصلح لحمل شعلة الهداية والإصلاح.

[٣٢] (وَ) يا قوم (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) فأتمكن فوق قدرة البشر بأن أبذل ما أشاء ، وأفعل ما أشاء (وَلا أَعْلَمُ) بنفسي من دون إرشاد ربي (الْغَيْبَ) الأمور الغائبة عن الحواس والمدارك ، حتى أريد أن أتفضل عليكم بذلك (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) من الملائكة ، فأنا بشر كما قلتم ذو إمكانية بشرية ، لا خزائن ، ولا غيب لي ، وإنما أنا رسول من قبل الله سبحانه (وَلا أَقُولُ) للمؤمنين الملتفين حولي الذين (تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) «الازدراء» الاحتقار ، أي الذين تحتقرونهم. ونسبة الازدراء إلى العين لأنهم إنما ازدروهم لما عليهم من ألبسة رثة وأطمار خلقه ، ولو نظروا إلى واقعهم لرأوهم كبارا في نفوسهم ، عظماء عند الله سبحانه. وقد حذف المتعلق في الكلام ، أي تزدريهم أعينكم : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) حيث لم يعطهم مالا وجاها ـ كما تقولون أنتم ـ فإن الخير في الإيمان والصفات الكاملة لا في المال والمنصب (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) فلقد أتاهم الخير كله ، حيث هيأ نفوسا نظيفة وقلوبا طاهرة (إِنِّي إِذاً) إذا طردتهم ، أو قلت : لن يؤتهم الله خيرا (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) حيث ظلمتهم بذلك العمل ، أو هذا القول.

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ

____________________________________

[٣٣] ولما حاجّهم نوح عليه‌السلام بتلك الاحتجاجات الصريحة المعقولة ، لم يجد القوم إلا الفرار عن المحاجة ، ف (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) حاججتنا وخاصمتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) وبحثك معنا حول المبدأ والمعاد وما إليهما (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب. فقد هددهم نوح بعذاب الله إن بقوا في كفرهم وغيّهم (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك النبوة ، وأنّا إن لم نؤمن عذبنا الله بذنوبنا.

[٣٤] (قالَ) نوح في جواب استعجالهم العذاب : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ) بالعذاب (اللهُ إِنْ شاءَ) تعذيبكم ، وليس من عندي حتى أعجّله أو أؤجله (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي إن أراد عذابكم فلا تتمكنون من تعجيزه حتى لا يتمكن من العذاب ، ولا تتمكنون من صدّ العذاب أو الهرب عن مشيئته سبحانه.

[٣٥] ثم قال نوح عليه‌السلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ) يا قوم (نُصْحِي) وإرشادي (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) وإنما قيّد النصح بالإرادة ، وقد صدر منه فعلا ، تواضعا في الكلام ، وكأنه لم ينصح من قبل ، لا أنه نصح ولم يفد ، أو لأنهم لم يعتبروا كلامه نصحا ، فهو يقول : إن صدر مني نصح في المستقبل لا ينفعكم (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) وإرادة الله إغوائهم ، يعني تركهم وشأنهم ، حيث أنهم لمّا أعرضوا عن الحق

هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)

____________________________________

تركهم سبحانه وشأنهم ، فلم يلطف بهم الألطاف الخاصة ليستعدوا للاهتداء ، كما تقول : «إن كان الملك يريد إفساد الشعب لا ينفع وعظ الخطباء» تريد تركهم على حالهم حتى يفسدوا بطبعهم ، ويعملوا الجرائم لعدم رادع لهم.

و (هُوَ) تعالى (رَبُّكُمْ) فهو يعلم دخائل نفوسكم ، وأنكم غير صالحين للطفه الخفي (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة فيجازيكم بسيئاتكم.

[٣٦] (أَمْ يَقُولُونَ) أي : بل يقولون ، والظاهر من السياق أنه من تتمة المطلب المربوط بحوار نوح مع قومه (افْتَراهُ) على الله في دعواه الرسالة (قُلْ) يا نوح لهم : (إِنِ افْتَرَيْتُهُ) أي كذبت على الله فيما نقلته عنه (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) وعقوبته لي ، لا لكم ، فأنتم بريئون من جرمي وافترائي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) لا أو آخذ بجريمتكم وكفركم.

وهناك احتمال آخر وهو أن يكون ذلك من الالتفات من قصة نوح إلى قصة النبي مع المشركين ، فإنهم كانوا يتّهمون الرسول بما اتّهم قوم نوح نوحا عليه‌السلام من الافتراء ـ وحيث كان ذلك من أغراض القصة ، جيء به هنا تنبيها ، يرجع إلى تتمة قصة نوح وقومه ـ فالمعنى : إن هؤلاء المشركين يقولون لك يا رسول الله أنك افتريت على الله سبحانه بنسبة القرآن إليه. والبقية بهذا السياق جاعلا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكان نوح عليه‌السلام.

وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)

____________________________________

[٣٧] (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) بعد تلك البلاغات الكبيرة والمحاولات الطويلة ، والأمد البعيد (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) بك من قبل فلا رجاء في الباقين (فَلا تَبْتَئِسْ) أي لا تحزن ولا تغتم ، من «الابتئاس» وهو افتعال من «البؤس» بمعنى الغمّ (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من الكفر وأنواع المعاصي ، فإن الإنسان إنما يحزن إما لنفسه كيف يكون مصيره مع قومه ، وإما للقوم ، أما إذا أدّى ما عليه بالدعوة مرارا كثيرة فلا حزن لنفسه ، كما أنه لو علم أن لا خير فيهم فلا حزن عليهم.

[٣٨] (وَاصْنَعِ) اعمل (الْفُلْكَ) هي السفينة لتركبها أنت والمؤمنون عند الطوفان (بِأَعْيُنِنا) بمرأى منّا فإن «أعين» جمع «عين» أي برعايتنا وحفظنا ، حيث ننظر إليك وإلى عملك. ومن يراقبه الله سبحانه لا يضل ولا يزيغ (وَوَحْيِنا) أي تعليمنا لك كيفية الصنع (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) لا تسألني العفو عن هؤلاء الكافرين ، ولا تشفع لهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) قد حكم عليهم بالغرق والهلاك ، وإنما خاطبه سبحانه بذلك ، ليعلم أنه لا يستجاب مثل هذا الدعاء ، فلا يتعب نفسه في الطلب والسؤال.

وإن قيل : كيف يجمع هذا الأمر ـ وهو أن نوحا عليه‌السلام كان يريد الدعاء لهم بالخير ـ مع قوله سبحانه حكاية عن نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١)؟

__________________

(١) نوح : ٢٧.

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨)

____________________________________

فالجواب : إن دعاء الخير لمن يحتمل إيمانه في المستقبل ، لا ينافي دعاء الشر لمن علم بعدم إيمانه أصلا ، فإن قوله عليه‌السلام «من الكافرين» يعني الذين لا يرجعون عن غيّهم وكفرهم ، وفوق ذلك (يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (١) ، فلا خير في نسلهم كما لا خير فيهم .. أما الذين ظلموا فلعله كان يحتمل رجوع بعضهم. وبهذا الخطاب منه سبحانه تبين أنه لا يفيد فيهم الدعاء ، ولا يرجعون عن غيّهم أبدا ، وأنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن من قبل.

[٣٩] (وَ) جعل نوح عليه‌السلام (يَصْنَعُ الْفُلْكَ) بيده ، ينحتها ويسويها ، كما يصنع النجار من الأخشاب الأبواب وغيرها (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ) جماعة (مِنْ قَوْمِهِ) الذين دعاهم فلم تنفعهم الدعوة (سَخِرُوا مِنْهُ) استهزءوا منه قائلين : يا نوح صرت نجارا بعد طول الدعوة وادّعاء النبوة ، والجدال والبحث حول الإله والمعاد ، استهزاء به وسخرية منه ، فكانوا يتضاحكون يقول بعضهم لبعض : انظروا إلى هذا المدّعي للنبوة كيف ينجر سفينة بهذا الكبر في اليابسة حيث لا ماء.

(قالَ) نوح عليه‌السلام في جوابهم : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) على هذا العمل (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي نجازيكم على سخريتكم بسخرية منّا عند نجاتنا وغرقكم. إما سخرية حقيقية ، وإما من باب تسمية الجزاء باسم المجزي به ، نحو : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا

__________________

(١) نوح : ٢٨.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ

____________________________________

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) ، و ((اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٢).

[٤٠] (فَسَوْفَ) في المستقبل (تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يفضحه ويهينه ويذله ، وذلك بالغرق (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) لا يزول عنه ولا يتحول ، وهو عذاب الآخرة الممتد من بعد الموت في القبر ، ثم في جهنم إلى الأبد.

[٤١] (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) «حتى» غاية لحال نوح وحال قومه ، أي بقي نوح يصنع السفينة وبقي القوم على كفرهم يستهزئون منه ، حتى حين مجيء أمرنا بإهلاكهم ونجاة المؤمنين (وَفارَ التَّنُّورُ) بالماء ، فقد كان فوران التنور بالماء علامة لوقت العذاب كي يحمل نوح عليه‌السلام في السفينة المؤمنين (قُلْنَا) أي أوحينا إلى نوح عليه‌السلام : (احْمِلْ فِيها) في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) من كل أجناس الحيوانات زوجين ذكر وأنثى ، يطلق «الزوج» على الذكر كما يطلق على الأنثى ، وقد يطلق على الاثنين معا ، فيقال لهما «زوج» ، ولما كان يحتمل في الآية إرادة المعنى الأخير حتى يكون اللازم حمل أربعة من كل جنس ، بيّن «الزوجين» بأن المراد بهما فرد وفرد ، فيصير الحاصل اثنين لا أكثر.

(وَ) احمل في السفينة (أَهْلَكَ) عائلتك ، زوجتك وأولادك

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

(٢) البقرة : ١٦.

إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)

____________________________________

(إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) من تقدم حوله قولنا بأنه من الهالكين من عائلتك وهي زوجة نوح عليه‌السلام واسمها واغلة ، وكانت أما لكنعان الولد الذي هلك بالغرق ، فقد كان لنوح عليه‌السلام زوجتان وأولاد كلهم صالحون إلا هذه المرأة وابنها (وَ) احمل في السفينة (مَنْ آمَنَ) وهم بين ثمانية وثمانين ، كما في الأحاديث ، ولذا قال سبحانه : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وقد ورد أن نوحا عليه‌السلام نادى الحيوانات فأجابته واجتمعت حوله فأركبها في السفينة ، وذلك ليس على الله بعزيز.

ومن غريب الأمر أن بعض المسلمين الذين فقدوا ثقتهم بنفوسهم أمام الغرب يأوّلون جميع المعاجز مهما تمكنوا ويجعلونها أمورا عادية وقصصا خارجية لا مسحة عليها من الغيب والإعجاز ، وإذا لم يلائم شيء مع هذه الطريقة سمّوه ب «الإسرائيليات» ولم ذلك؟ لأنه معجز خارج عن نطاق مفاهيم الماديين الغربيين. ففي قصتنا مثلا ، يقول : سفينة نوح سفينة عادية صنعت ، و «الوحي حولها» هو الإلهام في القلب كما يلهم قلب كل متعلم بالعلم ، و «حمل نوح عدة حيوانات» مما يملكه نوح من الحيوانات ، وكان الموسم فيضانا والمطر وابل فغرق بعض الناس الذين كانوا في تلك المناطق ، وسلم نوح وقومه المؤمنون.

وهكذا يحرّفون كل خارقة إلى رماد وتراب بعد ما كانت خارقة تأخذ بالأنفس وتدل على رسالة الأنبياء ، فإذا لم يكن في القرآن فهو خرافة وإسرائيليات ، مهما بلغ سنده من الصحة والثبات ، أما إذا كان

____________________________________

في القرآن فباب التأويل واسع ، ف ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) يراد به انشقاق بعض الأقمار التي دل العلم على وجودها سابقا ثم صارت منشقة بصورة هائلة أي : ابتعاد الأنجم بعضها عن بعض. و ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (٢) كانت أسراب طير معها «ميكروب» الوباء فلما اختلطت بالناس ، عدى المرض إليهم فماتوا بالوباء ، وما أشبه هذه التأويلات .. وهكذا هلمّ جرا.

حتى أن بعضهم ـ وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، طبعا ـ ذكر أن المراد ب «الإله» القوة المسيّرة للكون أو الطاقة المحركة للحياة ، و «المعاد» هو حساب التاريخ للإنسان ، و «الجنة» ذكره الطيب المنبعث عن أعماله الحسنة ، و «النار» ذكره السيئ المنبعث عن أعماله القبيحة ..

فلنتساءل : أي فرق بينكم أيها المؤمنون! وبين الماديين؟ وهل أحد ينكر الطاقة ومحاسبة التاريخ والذكر الحسن والسيئ؟ وإذا سألت هؤلاء المنهزمين ، ماذا تصنعون بالنصوص والتصريحات؟ أجابوا بأنها على سبيل الكناية والمجاز ، حسب فهم العرب المخاطبين ..

نقول : إن المؤمن هو من يؤمن بكل نص ، أما أن يكون الإنسان ماديا قلبا ، مسلما صورة فليس ذاك إلا النفاق ، والانهزام أمام بريق الغرب المادي .. ومثل هذه الانهزامية في العقائد ، والانهزامية في الأحكام ، كمن يقول إن الإسلام جمهوري لقوله تعالى في قصة بلقيس : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٣)؟ ، أو برلماني ، لقوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ

__________________

(١) القمر : ٢.

(٢) الفيل : ٤ و ٥.

(٣) الأعراف : ١١١.

وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ

____________________________________

شُورى) (١) ، أو اشتراكي ، لقوله : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (٢) ، أو ربوي لقوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (٣) ، مما يفهم منه جواز أكله بدون أن يصبح أضعافا ، وهكذا .. مما هم بالهوس أقرب منهم إلى الإسلام. وقد رأينا أن معيار هؤلاء هو الغرب فما ذكره فهم تبع له ، فإن وافق الإسلام فهو ، وإلا فاللازم أن يطبق الإسلام عليه ، يا للهراء والسخف!!

[٤٢] (وَقالَ) نوح عليه‌السلام : (ارْكَبُوا فِيها) في السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي قائلين بسم الله ، وقت جريانها على الماء ، ووقت إرسائها أي وقوفها وحبسها عن المسير ، أو المعنى : بالله إجراؤها وإرساؤها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) وبهاتين الصفتين استحق المؤمنون النجاة.

[٤٣] (وَ) كانت السفينة (هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ) جمع «موجة» وهي ما علا من الماء بسبب دخول الهواء فيه ، فيكون الماء متخلخلا عاليا يسير بسير الهواء واتجاه الرياح ، ومعنى «بهم» أي في حال كونها معهم ، وحال كونهم فيها (كَالْجِبالِ) بارتفاعها وضخامتها (وَنادى نُوحٌ) عليه‌السلام في تلك الحالة (ابْنَهُ) كنعان الذي كان من تلك المرأة

__________________

(١) الشورى : ٣٩.

(٢) المعارج : ٢٥.

(٣) آل عمران : ١٣١.

وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ

____________________________________

الخائنة (وَكانَ) الابن (فِي مَعْزِلٍ) أي محل عزلة ، لأنه لم يركب معهم في السفينة : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) في السفينة لتنجو (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) حتى تهلك وتغرق.

[٤٤] فأجابه الابن (قالَ سَآوِي) من «أوى يأوي» إذا اتخذ مأوى ومحلّا ، أي سأرجع إلى مأوى (إِلى جَبَلٍ) شاهق لا يعلوه الماء (يَعْصِمُنِي) يحفظني (مِنَ الْماءِ) فلا أغرق ولا أركب معك في السفينة (قالَ) نوح عليه‌السلام : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي لا شيء يحفظ الإنسان من عذاب الله وغرقه الذي قدّره على الكافرين (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) من المؤمنين الذين ركبوا السفينة ، فآمن بالله واركب السفينة كي تنجو ويرحمك الله (وَحالَ بَيْنَهُمَا) بين نوح وابنه (الْمَوْجُ) جاءت الأمواج حتى لم يشاهد نوح ابنه (فَكانَ) أي صار الابن (مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أغرق وأهلك في جملة الكافرين.

[٤٥] لقد طافت السفينة على الماء أياما ، ونوح والمؤمنون والحيوانات فيها ، وأخذ الماء ينهمر من السماء ويخرج من الأرض حتى غرق الكفار بأجمعهم (وَ) حينذاك (قِيلَ) المراد أن الله سبحانه قال ذلك ، إما بنفسه أو بأمر بعض الملائكة أن يقول ذلك ، أو المراد إرادته سبحانه ، فعبّر عنه بالقول : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) ردّي واشربي الماء الذي

وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ

____________________________________

أخرجتيه بسبب تفجّر العيون ، وقد أريد بذلك : نشف الماء دفعة كأنه بلع له (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي قال تعالى للسماء : أمسكي المطر ولا ترسلي الماء إلى الأرض. فبلعت الأرض ماءها ، وأمسكت السماء عن المطر. وهل أن المراد من «ابلعي ماءك» جميع الماء الموجود فيها ولو كان الماء النازل من السماء ، أم خصوص مائها ، وبقي ماء السماء وتسرب في المسارب والمنحدرات؟ احتمالان.

وقد روي عن الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام : أن الماء بقي ، وصار بحارا وأنهارا (١).

أقول : إن العلم الحديث دلّ على كون الجبال كلها كانت غامرة في الماء ، حتى أرفع الجبال كانت كذلك ، وقد وجد فيها آثار للماء والحيوانات المائية ، ولعل ذلك ـ إن صح ـ كان من وقت الطوفان حيث دلّ الدليل على غمر الماء لكل الجبال.

وهل أن الخطاب حقيقي لشعور السماء والأرض بالأمر والنهي ، بمقتضى ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٢) ، أو المراد نتيجة ذلك ، من باب خطاب العارف نحو : «أيا جبلي نعمان بالله خليا». احتمالان؟ ولا يبعد الأول ، كما قال سبحانه : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣) ، وهكذا أمثالها ، مما ظاهره شعور السماء والأرض.

(وَغِيضَ الْماءُ) أي ذهب الماء من وجه الأرض إلى باطنها من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٠٤.

(٢) الإسراء : ٤٥.

(٣) فصلت : ١٢.

وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)

____________________________________

«غاض يغيض» إذا تسرّب في الباطن (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تمّ الأمر المراد ، وهو هلاك الكفار ونجاة المؤمنين (وَاسْتَوَتْ) استقرت السفينة (عَلَى) جبل يسمى (الْجُودِيِ) وقد ورد في التفاسير أنه جبل بالموصل في شمال العراق (١) (وَقِيلَ) أي قال الله سبحانه ، أو الملائكة ، أو نوح والمؤمنون ، والمراد : نتيجة ذلك (بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين كفروا وظلموا أنفسهم ، فليبتعدوا عن رحمة الله ، وعن سعادة الدنيا بالهلاك ، وعن خير الآخرة بدخول النار.

وقد ذكر المفسرون وأهل البلاغة أن هذه الآية الكريمة في كمال البلاغة مما يدهش العقول والألباب فقد ذكروا أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم ، فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية ، فقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبه شيء من الكلام ، ولا يشبه كلام المخلوقين ، وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.

وكان أهل الجاهلية إذا ألّفوا أفصح القصائد علقوها بالكعبة ، وهكذا حتى جمعت من أفصح القصائد وأبلغها على الكعبة سبع ، لامرئ القيس وزملائه ، فلما نزلت هذه الآية ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابتها ، وأن تعلق قرب المعلقات السبع ، فف عل ذلك بعض المسلمين ، ولما أصبحت قريش وأتت إلى الكعبة ، ورأت الآية إلى جنب المعلقات ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٣٣.

وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي

____________________________________

اضطرت إلى أن تقلع المعلقات ولم تدعها قرب الآية.

ويقال : أن ثلاثة من الملحدين أرادوا معارضة القرآن ليبطلوا أساس الإسلام ، فاجتمعوا في مكة ، وضمن كل واحد منهم أن يقول مثل ثلث القرآن إلى العام القابل ، واجتمعوا في القابل في مكة فقال أحدهم : إني أعرضت عن معارضة القرآن لما رأيت أن فيه قوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..) ، فقد علمت أني لا أتمكن أن آتي بما يشابهها. وقال الثاني : إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت في قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (١) ، فقد علمت أنه لا يتسنّى لي مقابلة هذه الآية. وقال الثالث : إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت فيه قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢) ، فقد علمت أنه لا يمكنني معارضة هذه الآية.

ويقال أن الإمام الصادق عليه‌السلام مرّ بهم في ذاك الحال وهم يتذاكرون عجزهم وينسبون تلك الأسباب فيما بينهم ، فقال لهم : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٣) (٤).

[٤٦] وإذ قد انتهى الأمر وتذكر نوح عليه‌السلام ابنه الغريق كنعان وأخذته الشفقة عليه (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) نداء دعاء وضراعة (فَقالَ) : يا (رَبِّ إِنَّ ابْنِي

__________________

(١) يوسف : ٨١.

(٢) القصص : ٨.

(٣) الإسراء : ٨٩.

(٤) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٢١٣.

مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

____________________________________

مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) فقد وعدتني بنجاة أهلي فنجّه من الغرق ، أو من العذاب في الغرق ، فإن كان المراد الأول ، فلعلّ نوحا لم يكن يعرف مصير ولده هل أنه غرق أم لا (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أي إن حكمك أصح الأحكام ، فلا تحكم في ولدي أو غيره إلا بالصحيح.

[٤٧] (قالَ) الله سبحانه في جواب طلب نوح عليه‌السلام : (يا نُوحُ إِنَّهُ) أي ولدك (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) فإن الأهل الذين وعدت بنجاتهم ليس أهل لحم ودم ، وإنما أهل عقيدة وإيمان (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) قد يبالغ في نسبة الفعل إلى شخص حتى يجعل ذلك الشخص نفس الفعل ، كما يقال : «زيد عدل» مع العلم أن زيد ليس قطعة من العدل وإنما هو ذو عدل ، ولكن البلاغة تقتضي ذلك. وهنا كذلك ، فإن ابن نوح لما كان يعمل الأعمال الفاسدة ، صار كأنه قطعة منها ، فقيل : «إنه عمل غير صالح» ، كما يقال : «زيد قطعة من فساد» ، يراد أنه منهمك فيه ، أو بتقدير «ذو» أي أنه «ذو عمل غير صالح» كما قال الشاعر : «فإنما هي إقبال وإدبار» أي : «ذات إقبال وإدبار».

وقال بعض أن الضمير في «إنه» يعود إلى سؤال نوح ، أي : إن طلبك بنجاة ابنك عمل غير صالح ، لكن هذا الاحتمال بعيد عن الظاهر.

(فَلا تَسْئَلْنِ) يا نوح (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) السؤال إنشاء ، والإنشاء لا يتصف بالصدق والكذب ، ومطابقة الواقع وعدم مطابقته ،

إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ

____________________________________

وكونه متعلق العلم وعدم كونه متعلقه. إلّا أن الإنشاء حيث يحمل دائما ـ في طيه ـ إخبار عن شيء صح الاتصاف بهذه الأمور ، فمثلا يسألك أحدهم مالا ، فتقول : إنه يكذب ، ولست تريد أنه يكذب في السؤال ، بل تريد أن الخبر الذي يدل عليه هذا الإنشاء ـ وهو أنه فقير معدم ـ غير صحيح ، إذ ظاهر السائل أنه لفقره يسأل ، فأنت تريد تكذيب ذلك الخبر المنطوي في هذا الإنشاء ..

وهنا كذلك ، فإن سؤال نوح لم يكن بما ليس له به علم ، بل الخبر الضمني كان بدون علم فإنه عليه‌السلام أخبر بأن الله وعده نجاة ابنه ـ بتشكيل القياس ـ «ابنه من أهله» ، و «أهله موعود نجاتهم» ، ف «ابنه موعود نجاته». وقد كان نوح عليه‌السلام يرى أن الوعد بنجاة الأهل شامل للولد أيضا ، وعلى هذا طلب الوفاء بالوعد ، لكنه سبحانه بيّن أنه لم يكن داخلا في الوعد ، ولم يدل دليل على لزوم علم الأنبياء بجميع الأمور ، حتى يقال أن نوحا عليه‌السلام كيف لم يعلم ذلك ، وهذا لا ينافي مقام العصمة ، فإن معنى العصمة أن لا يذنب ، لا أن يعلم كل شيء.

(إِنِّي أَعِظُكَ) يا نوح (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي لئلّا تكون جاهلا ، ولا شك أن وعظه سبحانه يبدّد الجهل. وقد يظن بعض الناس أن هذه عبارة خشنة ، لكن الظاهر أنه جار مجرى التكلم المعتاد ، في مقابل التكلم بلين ، ومقامه سبحانه لا يقتضي اللين في الكلام ، ويحتمل أن يكون إفراغ الغالب في هذا القالب لإفادة مبغوضية الكفار لدى الله سبحانه ـ وقد سبق ما يشبهه في قصة أخذ موسى عليه‌السلام برأس أخيه ـ.

[٤٨] (قالَ) نوح عليه‌السلام بعد ذلك الكلام منه سبحانه : يا (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ

بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)

____________________________________

بِكَ) أي أعتصم بك ، من «عاذ» إذا استجار (أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي أسألك شيئا ليس فيه صلاح ، ويكون سؤالي صادرا عن عدم علم لي بالواقع. ولا يخفى أن ذلك لا ينافي أيضا مقام العصمة ، فإن «ولدك لو سألك أن تذهب إلى النجف ، ولم يكن ذلك من الصلاح ، لأن الأجور تحمّلك خسارة كبيرة ، فهل أن سؤاله يعد عصيانا لك؟». لكن نوحا عليه‌السلام أراد أن يجنّبه الله سبحانه حتى من هذا النحو من السؤال.

(وَإِلَّا) أي : وإن لم (تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) «الغفران» الستر ، و «الترحم» التفضّل ، وهما كما يكونان بالنسبة إلى العاصي ، يكونان بالنسبة إلى المطيع ، فإن الإنسان مهما بلغ من النزاهة فإنه يحتاج إلى ستر الله لما لا يليق بشأنه ، كما يحتاج إلى تفضّله ، وهذا هو سر استغفار المعصومين.

فمثلا إن التوجه إلى إنسان في كلام مما يسبب عدم التوجه إلى الله سبحانه في ذاك الوقت لا يليق بشأن من يعرف الله حقّ معرفته ، وإن كان راجحا في نفسه ، ولذا يستحق الاستغفار. قال سبحانه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (١). ومن هذا القبيل ما قيل : «حسنات الأبرار سيئات المقربين» (٢).

__________________

(١) النصر : ٢ ـ ٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٠٥.

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)

____________________________________

ثم إن من المعلوم أن للخسران مراتب فمن من شأنه تحصيل الربح الكثير إذا لم يحصل عليه كان خاسرا ، وهكذا قول نوح عليه‌السلام : «أكن من الخاسرين» فلو لا غفران الله ورحمته كان عليه‌السلام خاسرا إذا لم يحصّل تلك المراتب الرفيعة التي تليق بمثله.

[٤٩] ولما استقرت السفينة على جبل الجودي (قِيلَ) والقائل هو الله سبحانه ، إما بنفسه ، أو بأمر ملائكة بذلك : (يا نُوحُ اهْبِطْ) من السفينة والجبل إلى الأرض (بِسَلامٍ مِنَّا) بتحية لك من عندنا ، أو بنجاة وسلامة من قبلنا ، فأنت آمن ناج (وَبَرَكاتٍ) أي زيادة من فضل ، وخيرات نامية (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أي الجماعات التي معك من الإنس والطير والوحش ، فإنها تنمو وتزداد حتى تملأ الأرض من ذراريها ونسلها ، فإن الأمة تطلق على الحيوانات ، كما قال سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (١). وهنا طريفة لفظية ، وهي : أن ثمان «ميمات» اجتمعن في هذه الآية «أمم مّمّن مّعك» أصلها خمس ميمات ونونان وتنوين.

(وَ) من نسل هؤلاء (أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) نعطيهم متعة الحياة الدنيا في المستقبل (ثُمَ) يكفرون ويعصون ف (يَمَسُّهُمْ) يشملهم (مِنَّا) أي من طرفنا (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع مؤلم في الدنيا بصنوف القلق والمرض والفقر والحروب وما أشبه ، وفي الآخرة بالنار والعقاب.

__________________

(١) الأنعام : ٣٩.

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) وَإِلى عادٍ

____________________________________

وكان قوله «وأمم» لأجل أن لا يستفاد من قوله «وعلى أمم» أن من حملهم نوح وذريتهم كلهم تصحبهم السلامة والبركة ، بل هناك من نسلهم من يكفر ويعصي فلا بركة له ولا سلام.

[٥٠] (تِلْكَ) الأخبار التي قصصناها عليك من تفصيل أحوال نوح عليه‌السلام وقومه (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي أخبار ما غاب عنك يا رسول الله معرفته (نُوحِيها إِلَيْكَ) وليس في التوراة والإنجيل لهذه الكيفية والتفصيل والنزاهة (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ) يا رسول الله (وَلا قَوْمُكَ) قريش ، أو العرب ، أو الناس المعاصرون لك ، فإن لفظ «قوم» يستعمل بمعنى كل ذلك. ولا غضاضة في أن لا يعلمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهل علم الرسول إلا من علم الله سبحانه ووحيه فهو قبل ذلك لا يعلم شيئا (مِنْ قَبْلِ هذا) أي من قبل الوحي ، أو من قبل القرآن (فَاصْبِرْ) يا رسول الله على أذى قومك كما صبر نوح عليه‌السلام (إِنَّ الْعاقِبَةَ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يخافون الله ويعملون بأوامره ، كما كانت العاقبة لنوح والمؤمنين به.

[٥١] وحيث ينتهي السياق من قصة نوح شيخ المرسلين ، يأتي الكلام حول قصة هود عليه‌السلام ويورد القرآن الكريم جملة من هذا القبيل من القصص كلها تركز على شيء واحد هو بعثة الأنبياء عليهم‌السلام لإصلاح الناس ، ثم عدم سماع الناس ـ إلا نادرا ـ منهم ، ثم إهلاك المكذبين وجعل كلمة الله هي العليا بنجاة المؤمنين ونصرتهم (وَ) أرسلنا (إِلى عادٍ) وهم

أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ

____________________________________

قبيلة (أَخاهُمْ) في النسب (هُوداً) النبي عليه‌السلام ، وكان هؤلاء ساكنين في الأحقاف «والحقف» كثيب الرمل المائل ، في جنوب الجزيرة العربية ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم أخاهم من تلك القبيلة هودا عليه‌السلام ، ف (قالَ) لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (ما لَكُمْ) ليس لكم (مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) دخول «من» في المنفي يفيد العموم (إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم في اتخاذكم الأصنام شركاء لله تعالى (إِلَّا مُفْتَرُونَ) كاذبون في قولكم ، وحيث أنكم تنسبون ذلك إلى الله سبحانه ، فهو افتراء وبهتان.

[٥٢] (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على التبليغ والإرشاد والهداية (أَجْراً) مالا ، فإنما أبلغكم مجانا وبلا عوض. وقد كانت الأنبياء تؤكد على ذلك لأن الناس دائما يخافون من الداعي لخوفهم على أموالهم ، فإذا أمنوا ذلك ، لم يكن لهم عذر مادي في عدم قبولهم الدعوة (إِنْ أَجْرِيَ) أي ليس جزائي على الدعوة (إِلَّا عَلَى) الله (الَّذِي فَطَرَنِي) خلقني وسواني وأوجدني من العدم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) استفهام توبيخي ، أي لما ذا لا تعملون عقولكم لتعلموا صدق واستقامة طريقتي؟!

[٥٣] (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا عفوه وغفرانه لما سلف منكم من الكفر والمعاصي (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) في العمل بأوامره

يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)

____________________________________

ونواهيه ، فإن الإنسان العاصي يحتاج إلى أمر سلبي هو محو ما سلف ، وإلى أمر إيجابي هو الاستقامة على منهاج جديد لما يأتي. وقد تقدم أن «الاستغفار والتوبة» لو افترقا شملا الأمرين ، أما لو اجتمعا فالاستغفار للسلبي ، والتوبة للإيجابي.

فإذا فعلتم ذلك (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل المطر عليكم متتابعا متواترا ، بمعنى «جرى ونزل» ، واستعمال «السماء» مريدا به المطر ، لعلاقة الحال والمحل. قال الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وفي بعض التفاسير أنهم كانوا قد أجابوا فوعدهم هود عليه‌السلام بالغيث إن تابوا وأنابوا ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) (٢).

(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) والمراد ب «القوة» كل ما يتقوّى به الإنسان من مال وأهل وقوى مادية ومعنوية ، وهذا بقدر ما هو مما وراء الغيب ، هو حسب القوانين العادية ، فإن المؤمنين أكثر نشاطا وتآلفا ، وأصح منهاجا مما تؤدي إليه كثرة القوة (وَلا تَتَوَلَّوْا) أي لا تعرضوا عن الله وأوامره في حال كونكم (مُجْرِمِينَ) تعملون الكفر والآثام.

__________________

(١) الأعراف : ٩٧.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٢٩٠.

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً

____________________________________

[٥٤] (قالُوا) في جواب دعوته لهم : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) بحجة واضحة تدل على صدقك. فإنهم لم يكونوا يعتبرون الأدلة الواضحة حجّة ، كما هو شأن كل معاند (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) لسنا نترك عبادة الأصنام لأجل قولك بأن الله واحد. وإنما جيء ب «عن» لأنه يدل على التجاوز ، نحو : «رميت السهم عن القوس» ، أي فليس تركنا ناشئا عن قولك (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدّقين مقالك.

[٥٥] (إِنْ نَقُولُ) ما نقول فيك وفي هذه المقالات التي تقولها (إِلَّا اعْتَراكَ) أي أصابك (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) فإنك حيث كنت تسب آلهتنا ، أصابوك بالجنون فجننت وخبل عقلك ـ كذا قال المفسرون ـ فلما رأى هود عليه‌السلام أنه لا ينفع فيهم الكلام ولا يتفكرون (قالَ) لهم : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) عليّ فإني أجعلكم شهودا على (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) مع الله من الآلهة الباطلة ، ولا أعترف لهم بالألوهية.

[٥٦] فإن آلهتكم المزعومة التي تعبدونها (مِنْ دُونِهِ) من دون الله ، ليست في نظري بآلهة حتى أعبدها ، وإنما هو إله واحد لا شريك له. ثم كيف تزعمون أن آلهتكم مستني بسوء لسبي إياها ، فإني أتحدّاكم أن تجتمعوا أنتم والآلهة التي تعبدونها (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) فاحتالوا واجتهدوا

ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)

____________________________________

لضرّي وإيذائي (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي لا تمهلونني ، بل فاجئوني بالهجوم لقصد إيذائي ، فإني لا أبالي بكم ولا أكترث بكيدكم ، بعد ما كنت مستظهرا بالله سبحانه ، واثقا من نصره ، إنكم جميعا لا تقدرون على إيذائي ، فكيف يقدر بعض آلهتكم أن يمسني بسوء؟

قال بعض المفسرين : إن هذا من أعظم آيات الأنبياء عليهم‌السلام أن يكون الرسول وحده ، وأمته متعاونة عليه ، فيقول لهم : كيدوني ، فلا يستطيع واحد منهم صدّه ، وكذلك قال نوح عليه‌السلام : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ...) (١) ـ كما تقدم ـ وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٢). ومثل هذا القول لا يصدر إلا عمن هو واثق بنصر الله وبأنه يحفظه عنهم ويعصمه منهم.

[٥٧] (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) إني وثقت به وفوضت أمري إليه فهو المدافع المحامي عني (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ) سبحانه (آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي ما من حيوان يدب على الأرض إلا هو مالك له يصرفه كيف يشاء ، و «الناصية» هو مقدم الرأس ، فكما أن الآخذ بشعر مقدم الرأس لأحد ، يتصرف في ذلك الإنسان بالقهر والغلبة ، كذلك المالك للدواب ، وهذا كناية عن قهره سبحانه لكل دابة وقدرته عليها كلها (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فإنه مع قدرته فهو عادل فيما يعامل به البشر ، وسنته وأحكامه عادلة مستقيمة. وهذا تشبيه للمعقول

__________________

(١) يونس : ٧٢.

(٢) المرسلات : ٤٠.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)

____________________________________

بالمحسوس فكما أن السائر المستقيم ، يمشي على صراط مستقيم ، فكذلك صراطه سبحانه في أحكامه وسننه.

[٥٨] ثم قال هود عليه‌السلام لقومه : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أصله «تتولوا» ، أي فإن أعرضتم عن دعوتي فإني غير ملوم وغير مأخوذ بإعراضكم إذ قد (أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) وبلغت لكم رسالة ربي ، فتوليكم من سوء اختياركم. ثم إن ذلك لا يضر الله سبحانه كما لا يضرّني فإنه يهلككم بمعاصيكم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يؤتي مكانكم بأناس آخرين يعبدونه ويوحّدونه ، بعدكم وخلفا لكم (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتولّيكم ، كما لم تضرّوني بذلك (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحفظ دينه من الضياع فيأتي بغيركم ليعبدوه ، كما يحفظني عن أذاكم وضرركم.

[٥٩] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بهلاك عاد بعد أن لم تنفعهم الدعوة وتولّوا معرضين (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) من الهلاك ـ وفي المجمع : قيل أنهم كانوا أربعة آلاف ـ (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) حيث رحمناهم بعدم عذابهم. وذكر هذه الجملة ، إما لإفادة أن نجاتهم لم تكن صدفة وإنما عن قصد ، وإما لإفادة أن نجاة أولئك المؤمنين لم تكن باستحقاقهم ، إذ أن كل أحد لا بد وأنه ممن يستحق العقاب ، فنجاته تكون برحمة وفضل من الله (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد. والإتيان بهذا

وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ

____________________________________

اللفظ لدلالته على ما كان للعذاب من شدة وهول ، وتكرّر «نجينا» إما لبيان الخصوصية فإن اللفظ أولا كان مطلقا ، ثم جيء به مع المتعلق ، وإما لبيان أنهم نجوا من عذاب الآخرة كما نجوا من عذاب الدنيا ، وهذا فيما إذا أريد من «العذاب الغليظ» عذاب الآخرة.

[٦٠] ثم تأتي القصة في جمل قصار للتكرير والتركيز في الذهن (وَتِلْكَ) القبيلة التي أهلكت وهي (عادٌ) أي قبيلة عاد (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أنكروا براهينه وأدلته التي أقامها على توحيده ورسالة رسوله وسائر الأصول والفروع (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) بالمخالفة والمشاقة. وإنما قال «رسله» بلفظ الجمع ، لأن من كذّب رسولا فقد كذّب الرسل ، كما أن من المحتمل أن يكون سبحانه أرسل إليهم أنبياء ، وإنما تعرض لقصة أحدهم فقط وهو «هود» (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) «الجبار» هو من يجبر الناس على ما يريد ، و «العنيد» الكثير العناد الذي لا يقبل الحق ، والمراد جبابرتهم ، فقد كان قوم هود يمتثلون أمر الرؤساء الجبارين عوض امتثال أمر الأنبياء المصلحين.

[٦١] (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) فإن الله سبحانه سخّر للمؤمنين لعنة الكفار ، فقوم هود «عاد» يلعنون في الدنيا ، فتعقبهم اللعنات مدى الزمان (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) يكونون ملعونين مطرودين عن الخير معذّبين في النار ، يلعنهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون (أَلا) فلينتبه السامع (إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي : كفروا بربهم ، أو المراد أنهم ستروه بأن

أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ

____________________________________

لم يعترفوا به ، فإن «الكفر» أصله «الستر» (أَلا) فلينتبه السامع (بُعْداً لِعادٍ) أي أبعد الله عادا (قَوْمِ هُودٍ) النبي هود عليه‌السلام عن رحمته. وهذا دعاء عليهم يتضمن التوهين والإذلال.

وفي تكرّر «ألا» و «عاد» إظهار فظاعة أمرهم ، وحث الناس على الاعتبار بما نالهم ، والحذر من مثل أفعالهم ، وإنما قال «قوم هود» ليتميزوا عن «عاد إرم».

ورد أن عاد كانت بلادهم في البادية ، وكان لهم زرع ونخل كثير ، ولهم أعمار طويلة وأجسام ضخمة ، فعبدوا الأصنام وبعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد ، فأبوا ولم يؤمنوا وآذوه ، فكفت السماء عنهم سبع سنين حتى قحطوا ، فجاءوا إليه فقالوا : يا نبي الله قد أجدبت بلادنا ولم تمطر ، فسل الله المطر وأن يخصب بلادنا ، فتهيأ للصلاة فصلى ودعا ، فقال لهم : ارجعوا فقد أمطرتم وأخصبت بلادكم. وبقي في قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن عبادة الأصنام حتى أخصبت بلادهم وأنزل الله عليهم المطر. فلما لم يؤمنوا وبقوا على كفرهم وإصرارهم بعبادة الأصنام أرسل الله عليهم الريح الصرصر يعني «الباردة» سبع ليالي وثمانية أيام حتى أهلكهم عن آخرهم.

[٦٢] (وَ) أرسلنا (إِلى ثَمُودَ) وهم قبيلة كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك ومدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً قالَ) صالح عليه‌السلام لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) من هذه الأصنام التي تعبدونها وسائر الآلهة الباطلة

هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا

____________________________________

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ) أي ابتدأ خلقكم (مِنَ الْأَرْضِ) إما باعتبار آدم عليه‌السلام ، أو باعتبار كل فرد من أفراد البشر ، فإنه كان ترابا ثم صار نباتا ثم مأكولا ، أو حيوانا ثم منيا ثم إنسانا (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) الاستعمار هو أن يجعل القادر منهم أن يعمّر الأرض ، فإذا قيل : «استعمر زيد عمروا» كان معناه : أنه جعل عمروا قادرا على عمارة الأرض بما هيأ له من الأسباب. فالمعنى أمركم بعمارة الأرض وأقدركم عليها.

وقد روى «النعماني» عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في تفسير «واستعمركم فيها» : فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك مما جعله الله تعالى سببا لمعايشهم بما يخرج من الحب والثمرات وما شاكل ذلك مما جعله الله تعالى معايش (١).

أقول : ويؤيد هذا المعنى قوله : «أنشأكم».

(فَاسْتَغْفِرُوهُ) أي اطلبوا غفرانه بالتوبة من الشرك والمعاصي وفعل الطاعات (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) بعد أن طهّرتم أنفسكم من الذنوب ، وارجعوا إليه في أخذ الأحكام والطاعة والعبادة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) قرب العلم والاطلاع والغفران ، فليس بعيدا غير عالم ، ولا متكبرا لا يلبي الطلب (مُجِيبٌ) لمن دعاه وطلبه.

[٦٣] (قالُوا) قالت ثمود : (يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) نرجو

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٣٥.

أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)

____________________________________

منك الخير لما كنا نرى من صفاتك الحسنة وأخلاقك الطيبة ، أما الآن فقد يئسنا منك حيث رأينا أقوالك ودعوتك إلى الله ونبذ عبادة الأصنام (أَتَنْهانا) استفهام إنكاري (أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي : كيف تنهانا عن عبادة الأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها؟ (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من عبادة الله وحده ونبذ الأصنام (مُرِيبٍ) موجب للريبة والتهمة ، كيف أنت تصدّق وآباؤنا كانوا على ضلالة وجهالة.

[٦٤] (قالَ) صالح لهم : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة واضحة تشهد على صدقي (مِنْ) قبل (رَبِّي) سبحانه (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) أعطاني النبوة برحمته وفضله (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) أي من بأس الله وغضبه وعذابه (إِنْ عَصَيْتُهُ) بعد إبلاغكم الدعوة ، أو اتخاذ طريقتكم لرجائكم فيّ الخير ، فإن رجاءكم فيّ الخير من دون عبادة الله وحده لا يدفع عني العذاب ، خصوصا وأنه سبحانه أعطاني وفضلني (فَما تَزِيدُونَنِي) إذا لبّيت دعوتكم (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي خسارة على خسارة ، من سلب النبوة عني وعذاب الله الشامل للعاصين ، أو المعنى : غير أن أنسبكم إلى الخسران ، بأن أريكم أنكم الخاسرون ، إذ كلما أصرّ المبطل زاد المحق علما بأنه في خسارة وانحطاط ونقص.

وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً

____________________________________

[٦٥] ثم ذكر صالح عليه‌السلام الدليل على كونه نبيا من قبل الله سبحانه ، قال : (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ) الإضافة إليه سبحانه تشريفية ، فإنه هو الذي كونها من غير ولادة عادية ، وإنما أخرجها من الجبل الأصم (لَكُمْ آيَةً) أي علامة ودليل على صدقي وحجة كلامي ـ وقد سبقت قصتها فراجع ـ (فَذَرُوها) أي دعوها واتركوها وشأنها (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) من العشب والنبات ، ولا تريد الأكل منكم حتى تستثقلوها وتتضجرون منها (وَلا تَمَسُّوها) أي لا تصيبوها (بِسُوءٍ) أي بأذى قتل أو جرح أو عقر أو غيره فإن فعلتم ذلك (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) يقرب وقته من وقت إيذائكم لها.

[٦٦] لكن القوم أصرّوا على كفرهم وعنادهم ، واجتمع جماعة منهم وجعلوا لأحدهم جعلا إن عقر الناقة وخلّصهم منها (فَعَقَرُوها) وإنما نسب الأمر إلى جميعهم لفعل بعضهم ، ومشاركة جماعة بالتسبب ، ورضى الآخرين (فَقالَ) صالح عليه‌السلام لهم : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) فإنه لم يبق من حياتكم وتمتعكم في الدنيا أكثر من ثلاثة أيام (ذلِكَ) العذاب بعد الثلاثة أيام (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي صادق لا كذب فيه.

[٦٧] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا لقوم صالح (نَجَّيْنا صالِحاً) من العذاب

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ

____________________________________

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي رحمنا أولئك المؤمنين فلم نعذبهم. ولعل سر الإيثار في هذه الجملة إفادة أن المؤمن الناجي ، أيضا ينجو بالرحمة لأن لكل إنسان من الذنوب ما يستحق بها العذاب ، أو أن الإنسان لا يستحق الثواب والجزاء الجميل وإنما يتفضل الله سبحانه بذلك ، فالنجاة من الهلكة ليست بالاستحقاق وإنما بالفضل والرحمة (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي نجيناهم من الموت والخزي ، فإن الموت بالعذاب خزي وإهانة ، ومعنى «يومئذ» أي خزي يوم العذاب (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (هُوَ الْقَوِيُ) الذي يقوى على إهلاك الكفار وإفنائهم (الْعَزِيزُ) الغالب في سلطانه لا يمتنع عليه أي شيء مما أراد.

[٦٨] (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) بأن صاح بهم جبرائيل عليه‌السلام أو خلق الله سبحانه صيحة فماتوا جميعا (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ) وبيوتهم (جاثِمِينَ) من «جثم» بمعنى لزم المكان ، فلم يبرحه. أي : ميتين لا حراك لهم.

[٦٩] (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) «غنى في المكان» أقام فيه ، والمعنى : كأن لم تكن ثمود في منازلهم قط لانقطاع آثارهم بالهلاك ، إلا بقايا بيوتهم وجثثهم الهامدة. ثم يجمل السياق القول في ما فعلوا وكان سببا في عاقبتهم هذه (أَلا) فلينتبه السامع (إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) فلم يعتقدوا

أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩)

____________________________________

به وأشركوا معه غيره ، وأصل «الكفر» الستر ، كأنهم بعدم الاعتراف ستروا وجه الحقيقة (أَلا) فلينتبه السامع (بُعْداً لِثَمُودَ) عن حسن الذكر في الدنيا والسعادة في الآخرة ، إنهم قد طردوا عن رحمة الله وفضله.

[٧٠] ثم يستعرض القرآن الحكيم القصة الرابعة في هذه السورة بعد قصة نوح وهود وصالح عليهم‌السلام بقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) أي الملائكة وهم جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وكروبيل (إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي بشارة إعطائه الولد ـ إسماعيل عليه‌السلام ـ بعد أن شاخ ويئس عن الولد. ولعل ذكر هذا الطرف من قصة إبراهيم عليه‌السلام لبيان أن الله سبحانه أنجز وعده الذي وعده لنوح بقوله : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) ، فقد كانت البركات في أولاد إبراهيم إسماعيل وإسحاق ، والعذاب في أمة لوط.

(قالُوا) أي لما دخلت الملائكة قالت لإبراهيم : (سَلاماً) بهذا اللفظ ، وهذا كناية عن تسليمهم عليه سلاما كاملا ، بأن قالوا ـ مثلا ـ سلام عليكم ، ف (قالَ) إبراهيم عليه‌السلام في جوابهم : (سَلامٌ) بهذا اللفظ ، (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) كأنه قال : «ما أبطأ عن المجيء بالعجل» ، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بالمجرور ـ على القاعدة ـ «العجل» ولد البقر ، و «الحنيذ» فعيل بمعنى مفعول من

__________________

(١) هود : ٤٩.

فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ

____________________________________

«حنذ» بمعنى شواه بالحجارة ، أي جاء بعجل مشوي بالحجارة ، أو المشوي مطلقا. وقد كان إبراهيم عليه‌السلام محبا للضيف فلما رأى الملائكة ظنهم بشرا ـ لأنهم كانوا في صورة بشر ـ فأتى إليهم بالطعام ، وهو عجل مشوي.

[٧١] لكن الملائكة لا تأكل طعام الدنيا ، ولذا لم يتقدموا للأكل كما هو عادة الضيوف (فَلَمَّا رَأى) إبراهيم عليه‌السلام (أَيْدِيَهُمْ) أي أيدي الملائكة (لا تَصِلُ إِلَيْهِ) إلى العجل ولا يأكلون منه (نَكِرَهُمْ) أنكرهم فإن «نكر وأنكر» بمعنى واحد (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي أضمر في نفسه منهم خوفا ، يقال : «أوجس خوفا» أي أضمر ، فإن الإيجاس يعني الإحساس. قالوا : فقد جرت عادتهم أن الضيف لو أكل من الطعام كانوا في أمن منه ، وإن لم يأكل خافوا من شره لأن عدم أكله دليل أنه ينوي السوء بالمضيف. وقيل : إن خوفه كان بسبب ما علم أنهم ملائكة وخاف من أن يكونوا أمروا بعذاب القوم.

(قالُوا) أي قالت الملائكة ، لما رأوا خوف إبراهيم عليه‌السلام : (لا تَخَفْ) منا يا إبراهيم (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) بالعذاب والإهلاك ، ولا نضمر بك شرا ، أو لا نضمر بقومك شرا.

[٧٢] (وَ) قد كانت (امْرَأَتُهُ) أي زوجة إبراهيم سارة (قائِمَةٌ) في أثناء هذا الكلام بين إبراهيم وبين الملائكة (فَضَحِكَتْ) ولعلّ ضحكها كان بسبب البشارة بهلاك القوم المجرمين ، فإن المرأة أكثر الناس غضبا

فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً

____________________________________

لعمل الفاحشة من الرجال ، أو أنها ضحكت مستبشرة بقدوم الملائكة إلى دارها ، أو المراد من «ضحكت» حاضت ، فإن «ضحك» بمعنى سال ، يقال : ضحكت الشجرة ، إذا سال صمغها ، والمراد : أنها حاضت بعد عقم وانقطاع حيض ، وإن الحيض لمن المبشرات بالولد ، إذ لولاه لم يكن تكوّن الولد (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) وحيث أن بشارة الملائكة لا تكون إلا من الله سبحانه صح إسناد البشارة إلى نفسه تعالى (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فإن البشارة بالولد والذرية من خير البشائر للمرأة العقيمة.

[٧٣] (قالَتْ) سارة لما سمعت ببشارة الأولاد : (يا وَيْلَتى) حرف النداء دخل على منادى محذوف أصله : يا قوم ويلتي ، أو المعنى : يا ويلتي احضري فهذا وقتك ، كما قالوا في «يا للعجب» معناه : يا عجب احضر فهذا وقتك ، وليس حينئذ حقيقة وإنما القصد إنشاء التعجب بهذه العبارة ، و «ويلتي» أصله الدعاء بالهلاك ، لأن الويل بمعنى الشر والهلاك لكنه استعمل لمطلق التعجب عرضا ولو كان في الفرح ، من باب علاقة استعمال الضد في الضد ، نحو : «لا أبا لك» الذي كان أصله للسب ثم استعمل للمدح أيضا (أَأَلِدُ) أي : هل ألد الولد (وَ) الحال (أَنَا عَجُوزٌ) طاعنة في السن ، و «العجوز» لفظ يستعمل لكل ذكر وأنثى (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً)؟! «البعل» الزوج ، أي إن هذا بعلي في حال كونه شيخا كبير السن.

روي أن سارة كان لها من العمر يوم ذاك تسعون سنة

إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا

____________________________________

ولإبراهيم عليه‌السلام مائة وعشرون سنة (١).

(إِنَّ هذا) التبشير بالولد ، أو الولد منا ونحن هرمين (لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) ولم يكن تعجبا إنكارا لقدرة الله سبحانه ، بل الإنسان إذا رأى شيئا خلاف القوانين المودعة في الطبيعة تحرك فيه حس التعجب والاستغراب.

[٧٤] (قالُوا) أي قالت الملائكة التي بشروها بالولد : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) استفهام تنبيه ، أي : كيف تعجبين من أمر إرادة الله سبحانه؟ والحال (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) تفضله وخيراته النامية (عَلَيْكُمْ) يا (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي أهل بيت النبوة ، فإنه سبحانه لم يزل يرعاكم ويتفضل عليكم فلا عجب لأنه القادر على ما يشاء ، ولا عجب من جهتكم لأنكم مورد ألطافه وكراماته (إِنَّهُ) سبحانه (حَمِيدٌ) محمود على أفعاله (مَجِيدٌ) ذو مجد ورفعة ، فبكونه محمود الفعال يتفضّل ، وبكونه رفيعا يقدر.

[٧٥] (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) أي الخوف والرعب الذي دخله من الرسل (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بالولد ، واطمأن بفضل الله ولطف الملائكة به ، شرع (يُجادِلُنا) أي يجادل رسلنا ويناقشهم. وحيث أن رسول

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ١١٠.

فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦)

____________________________________

الشخص كالشخص ، صح إسناد فعل الرسل إليه ، كما صح إسناد فعل الأشخاص إلى الرسل ، بفعلهم معه (فِي قَوْمِ لُوطٍ) الذين أرسلت الملائكة لتعذيبهم.

ورد أن إبراهيم عليه‌السلام قال للرسل : إن كان في القوم مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا : لا ، قال : إن كان فيهم خمسون؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا. وما يزال ينقص ويقولون : لا ، حتى قال : فواحد؟ قالوا : لا ، فقال : إن فيهم لوطا؟ ـ وقد كان عليه‌السلام ابن خالة إبراهيم عليه‌السلام ـ قالوا : نحن أعلم بمن فيهم ، لننجيّنه وأهله إلا امرأته (١).

[٧٦] (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) يحلم عن العصاة ، وبحلمه كان يطلب عدم تعذيب قوم لوط (أَوَّاهٌ) أي كثير الدعاء (مُنِيبٌ) راجع إلى الله سبحانه في جميع أموره ، من «أناب» ، وكأن الإتيان بهذا الوصف له عليه‌السلام ، وقد قضي الأمر.

[٧٧] ثم قالت الملائكة لإبراهيم عليه‌السلام ، بعد التساؤل والنقاش : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الطلب وانصرف عنه فإنه لا يفيد (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بهلاك هؤلاء وعذابهم فهو نازل بهم لا محالة (وَإِنَّهُمْ) أي قوم لوط (آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) لا يرد عنهم ، فقد جرت سنة الله أن

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ص ٥٤٦.

وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧)

____________________________________

المعرضين ما داموا لم يحتجّ عليهم ، أو يحتمل ـ ولو احتمالا خارجيا ـ أو كان في أصلابهم ذرية مؤمنة ، لا يعذّبون ، أما وقد انسدت الأبواب ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب وما فائدة بقائهم أكثر من ذلك.

[٧٨] وانتهى الأمر وسار الرسل نحو قرية لوط عليه‌السلام في زي شبان حسان الصور ـ وهذه هي القصة الخامسة في السورة ـ (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) أي أتت الملائكة إلى لوط عليه‌السلام (سِيءَ) لوط (بِهِمْ) أي ساءه مجيئهم (وَضاقَ) لوط (بِهِمْ) أي بسبب ورودهم (ذَرْعاً) أي قلبا وطاقة. قالوا : إن الأصل في ذلك أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذرعه فيضعف ويمد عنقه ، ومنه قولهم : «ما لي به ذرع» أي ليس لي به طاقة.

(وَقالَ) لوط عليه‌السلام : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي يوم شديد عليّ ، كيف أصنع بالقوم إذا أرادوا الفاحشة مع هؤلاء الضيوف ، أصل «عصب» من الشد ، يقال : «عصبت الشيء» أي شددته ، ويستعمل غالبا في الشر.

وقد روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام ـ بتغيير يسير ـ : كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله ، فطلبهم إبليس الطلب الشديد ، وكان من فضلهم وخيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم وتبقى النساء خلفهم ، ولم يزل إبليس يعتادهم وكانوا إذا رجعوا خرّب إبليس

____________________________________

ما كانوا يعملون ، فقال بعضهم لبعض : تعالوا نرصد لهذا الذي يخرب متاعنا ، فرصدوه ، فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان ، فقالوا له : أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد مرة ، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيّتوه عند رجل ، فلما كان الليل صاح فقال له : ما لك؟ فقال : كان أبي ينومني على بطنه. فقال الرجل : تعال فنم على بطني. قال : فلم يزل الشيطان يدلك الرجل حتى علّمه أن يفعل بنفسه ، ثم انسل ففر منهم ، وأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام ويحبّبهم منه وهم لا يعرفونه ، فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بالرجال ، ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم ، حتى تنكّب مدينتهم الناس ، ثم تركوا نساءهم وأقبلوا على الغلمان ، فلما رأى الشيطان أنه قد أحكم أمره في الرجال ، جاء إلى النساء فصيّر نفسه امرأة ثم قال : إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض. قلن : نعم قد رأينا ذلك. وكل ذلك ينصحهم لوط ويوصيهم ، وإبليس يغويهم ، حتى استغنت النساء بالنساء.

فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرائيل وميكائيل وإسرافيل في زي غلمان ، عليهم أقبية فمروا بلوط عليه‌السلام وهو يحرث قال : أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط؟ قالوا : إنا أرسلنا سيدنا إلى رب هذه المدينة. قال : أو لم يبلغ سيدكم ما يفعل أهل هذه المدينة ، يا بني إنهم والله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. فقالوا : أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال : فلي إليكم حاجة؟ قالوا : وما هي؟ قال : تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام. قال : فجلسوا ، فبعث لوط ابنته فقال : جيئي لهم بخبز وجيئي لهم بماء في القرعة وجيئي لهم بعباءة يتغطون بها من البرد. فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر ، وجرى الوادي ، فقال لوط : الساعة يذهب بالصبيان الوادي ، قال : قوموا حتى

____________________________________

نمضي ، وجعل لوط يمشي في أصل الحائط وجعلت الملائكة يمشون وسط الطريق فقال : يا بني امشوا هاهنا ، فقالوا : أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. وكان لوط يستغنم الظلام.

ومر إبليس وأخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط ، فلما نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا : يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال : هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني في ضيفي. قالوا : هم ثلاثة خذ واحدا وأعطنا اثنين. ثم أدخلهم الحجرة ، وقال : لو أن لي أهل بيت يمنعوني منكم؟ قال : وتدافعوا على الباب وكسروا باب لوط وطرحوا لوطا. فقال له جبرائيل : إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، فأخذ جبرائيل كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم وقالوا : شاهت الوجوه. فعمي أهل المدينة كلهم وقال لهم لوط : يا رسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا : أمرنا أن نأخذهم وقت السحر. قال : فلي إليكم حاجة؟ قالوا : وما حاجتك؟ قال : تأخذونهم الساعة ، فإني أخاف أن يرحمهم‌الله سبحانه ويصرف العذاب عنهم. فقالوا : يا لوط إن موعدهم الصبح أليس بقريب لمن يريد أن يأخذ؟ فخذ أنت بناتك وامض ودع امرأتك.

وفي رواية أخرى : ففعل لوط ما أمر وخرج ببناته ليلا ودعوا زوجته لأنها كانت منافقة ، ولما خرج لوط من المدينة وجاء الصباح قلع جبرائيل المدينة ورفعها إلى السماء ثم قلبها وأمطر الله عليها وعلى أطرافها حجارة من سجيل. وفي بعض التفاسير : أن زوجة لوط هي التي أخبرت القوم بالضيوف (١).

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ص ٥٤٤.

وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)

____________________________________

[٧٩] (وَجاءَهُ) أي توجه إلى طرف دار لوط (قَوْمُهُ) الكافرون (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) يسرعون في المشي نحوه لطلب الفاحشة بالضيوف ، ولعل الإتيان بالمجهول لبيان كيفية الإسراع وأنه لم يكن هرع عقلاء وإنما هرع شهوة حيث قد انطوت أنفسهم على حب هذا العمل الشنيع ، فكانت نفوسهم تسوقهم من حيث لا يشعرون (وَمِنْ قَبْلُ) إتيان الملائكة أو من قبل وقوع هذه القصة (كانُوا) أي كان قوم لوط (يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) جمع «سيئة» والمراد بها اللواط ، وهذا لبيان وجه أنه عليه‌السلام ضاق بهم ذرعا ورأى اليوم عصيبا.

(قالَ) لوط عليه‌السلام لما رأى إصرار القوم على السيئة : (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فتزوجوا بهن واعملوا حيث أمركم الله ، ففي المرأة الطهارة النفسية والطهارة الجسدية ، وإني مستعد أن أقدم بناتي لكم لئلّا تعملوا بالمعاصي ولئلّا تفضحونني في ضيوفي. وهنا احتمال أنه عليه‌السلام أراد من «بناتي» بنات المدينة ، وأضافهن إلى نفسه لأن كبير الناس يضيف الأفراد إلى نفسه ، أي : تزوجوا البنات عوض هذا العمل (فَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه في عمل اللواط (وَلا تُخْزُونِ) أي لا تلزموني عارا (فِي ضَيْفِي) فإن الضيف لو أهين كان ذلك خزيا للمضيف وعارا عليه (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) استفهام توبيخي ، أي أليس فيكم رجل أو رشيد لا سفاهة به يمنعكم عن اقتراف هذه الجريمة وعن أن يهتك أمري بالنسبة إلى ضيوفي ، حتى

قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)

____________________________________

لا يبقى عارها عليّ مدى الحياة؟

[٨٠] (قالُوا) أي قال القوم في جواب لوط عليه‌السلام : (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا لوط (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي من حاجة ، فكما لا يرغب الإنسان فيما لا حق له فيه ، كذلك لا يرغب فيما لا حاجة له فيه ، أو لأن من حق الرجل أن يتزوج البنت ، أما إذا لم يرد فكأنه لا حق له فيها ، أو المراد ب «الحق» الحصة ، أي لا حصة لنا فيهن (وَإِنَّكَ) يا لوط (لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من الضيوف وعمل السيئة بهم.

[٨١] وهنا انقطع لوط عليه‌السلام ويئس وحزن و (قالَ) في أسف بالغ : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) فأكون قويا قادرا على دفعكم ، و «الباء» في «بكم» إما للمقابلة أي بمقابلتكم ، أو بمعنى «على» أي عليكم ، وحذف جواب «لو» توسعة في المتعلق ، أو لوضوح أن المراد «لمنعتكم» (أَوْ آوِي) من «أوى يأوي» بمعنى : لجأ (إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) يمنعني منكم ، أي : لو تمكّنت أن أستعين بقوة عشيرة أو ما أشبهها لدفعتكم ومنعتكم.

في الحديث : إن جبرائيل قال ـ حين قال لوط ذلك ـ : «لو يعلم أية قوة له؟» (١).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد».

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ص ٥٤٦.

قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ

____________________________________

[٨٢] وهنا تكلم الرسل و (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أرسلنا لإنقاذك وهلاك القوم. روي أن جبرائيل قال للوط : دعهم يدخلوا. فلما دخلوا أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم ، فذهبت أعينهم كما قال سبحانه : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) (١) ، (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) أي لا يقدرون أن يهجموا عليك وينالوا منك سوءا في نفسك أو ضيوفك. ورجع القوم عن دار لوط خائبين من رعب الملائكة فقد ألقي في قلوبهم رعب شديد ، وصاروا كلهم عميانا لا يبصرون.

وهنا توجهت الملائكة إلى لوط وقالوا له : (فَأَسْرِ) أي سر ليلا واخرج من هذه المدينة ، (بِأَهْلِكَ) «الباء» بمعنى «مع» أي مع أهلك (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي بعد ذهاب بعض الليل وقطعة منه ، فإن القطع من الليل : بعضه (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) إما بمعنى : لا يتخلّف في المدينة أحد منكم لأن كل من في المدينة سوف يصيبهم العذاب ، وإما بمعنى : لا ينظر أحد ورائه حين السير لئلّا يرى ما يزعجه من عذاب هؤلاء (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من «أسر بأهلك» يعني فلتتخلف امرأتك ، لأنها كانت مع القوم ضدك يا لوط (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) أي يصيبها من العذاب ما أصاب القوم ، فاللازم عليك أن لا تخبرها وأن تخلّفها في المدينة (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ) أي وقت هلاكهم

__________________

(١) القمر : ٣٨.

الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)

____________________________________

وعذابهم (الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) وهذا ما قالته الملائكة للوط حين استعجل عذابهم في ذلك الوقت.

[٨٣] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم (جَعَلْنا عالِيَها) أي عالي المدينة (سافِلَها) بأن قلبناها فإن جبرائيل أدخل جناحه تحت الأرض ثم قلبها بأن جعل أسفلها أعلاها (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) الظاهر أن الإمطار كان على نفس الناس ، و «الواو» لا تدل على تأخير الإمطار عن القلب ، وإن كان الترتيب الذكري قد يعطيه ، لأن «الواو» لمطلق الجمع كما ذكره أهل اللغة (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) قيل : إنه معرّب «سنك كل» كلمتان فارسيتان بمعنى المدر ، ولا شاهد لذلك (مَنْضُودٍ) هو صفة سجيل ، أي متراكم بعضه يلاحق بعضا ، أو نضد بعضه على بعض حتى صار سجيلا ، أي صار حجرا.

[٨٤] (مُسَوَّمَةً) أي معلّمة ، جعل فيها علامات تدل على أنها معدّة للعذاب (عِنْدَ رَبِّكَ) في علمه سبحانه ، وفي خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد سواه. وكان ذكر هذه الأوصاف للتهويل ، وإن الله سبحانه قد أعد لهم في خزائنه حجارة منضودة معلمة ، كما أن الملك يهيئ لأعدائه سيوفا معلومة معلمة في خزائنه ليكون على استعداد تام (وَما هِيَ) أي حجارة السجيل (مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فلا يستبعد أحد كيف يعذب

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤)

____________________________________

الله أحدا بإمطار الحجارة؟ إنهم ظلموا فاستحقوا العقاب.

وفي بعض الأحاديث : إنها مهيأة لظالمي هذه الأمة أيضا (١).

[٨٥] (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ) وهم قبيلة سمّوا باسم جدهم مدين بن إبراهيم ، أو أنها اسم مدينة. وفي الكلام حذف ، أي : أرسلنا إلى أهل مدين ـ لكن السياق يقوّي الأول ـ (أَخاهُمْ) في النسب (شُعَيْباً) وهذه القصة قد ذكرت في سورة الأعراف باختلاف في ذكر بعض الخصوصيات هنا ـ كما هو الشأن في القصص القرآنية ـ فإن القرآن يأخذ في كل موضع طرفا من القصة لإدراجه في المقصود العام المساق له الكلام (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (ما لَكُمْ) أي ليس لكم (مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) من الأصنام التي تعبدونها (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أي لا تعطوا الناس أنقص من حقوقهم عند الكيل والوزن بالتطفيف ، و «المكيال» آلة الكيل ، كما أن «الميزان» آلة الوزن ، على وزن «مفتاح» (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) فقد أنعم الله عليكم بالرزق فلا تحتاجون معه إلى التطفيف والسرقة من الناس (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن بقيتم في الكفر وعملتم بالتطفيف (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) يحيط بكم

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٣١٧.

وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

____________________________________

فلا ينجو منه أحد.

[٨٦] (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) بالعدل. وقد كان من عادة الأنبياء عليهم‌السلام أن يركزوا جهودهم بعد الدعوة إلى التوحيد والمعاد ، على النقطة المنحرفة في القوم كما ركّز لوط عليه‌السلام جهوده لإزالة الانحراف الجنسي في قومه. وكان الانحراف العام في قوم شعيب بعد عبادة الأصنام تطفيف المكيال والميزان ، ولذا أكد على ذلك بالقول مكررا ، مرة بالنهي عن التطفيف ، ومرة بالأمر بإيفاء الكيل (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوهم حقوقهم ، فإن البائع إذا باع منّا ثم أعطى أقل من ذلك فقد نقص وبخس حق المشتري (وَلا تَعْثَوْا) من «عاث» بمعنى سعى في الفساد (فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) حال كونكم تفسدون. وهذا حال تأكيدي لأنه بمعنى الفعل ، وإنما جيء به لأن المفسد قد لا يعلم بإفساده ، فهو يريد النهي عن الإفساد عمدا ، أي لا تفسدوا متعمدين الإفساد قاصدين إليه بالذات.

[٨٧] (بَقِيَّتُ اللهِ) الذي يبقى بإذن الله وإجازته وإباحته ، وأضيف إليه تشريفا (خَيْرٌ لَكُمْ) أي ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن خير لكم من التطفيف والبخس ، فإنه أكثر بركة وأحسن عاقبة. وما ورد من أن الأئمة عليهم‌السلام والحجة عليه‌السلام ـ بصورة خاصة ـ بقية الله ، يراد بذلك أنهم وأنه عليه‌السلام هم الذين أبقاهم الله سبحانه للهداية والإرشاد (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي لو كنتم مؤمنين لعلمتم أن بقية الله

وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ

____________________________________

خير ، أو أن خيرية البقية مشروطة بالإيمان (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظكم عن الحرام وعن العذاب ، وإنما أنا مذكّر مرشد ، فإن قبلتم قولي نجوتم ، وإن لم تقبلوا أهلكتكم.

[٨٨] (قالُوا) أي قال القوم في جواب إرشادات شعيب بالتوحيد وإيفاء المكيال والميزان : (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ) التي تصليها لله (تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) قالوا ذلك على نحو التهكّم والاستهزاء ، كأن الصلاة قد دفعت شعيب لهدم دين القوم (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أي هل الصلاة تأمر أن نترك التطفيف. ومن المعلوم أن في الكلام حذفا تقديره : «أصلاتك تكلّفك أن تأمرنا بترك عبادة الأصنام وترك التطفيف في المكيال والميزان» (إِنَّكَ) يا شعيب (لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قالوا ذلك على وجه الاستهزاء ، فإن الداعي الذي لا قوة له ولا طول كثيرا ما يظهر في مظهر الحليم ذي الرشد الذي يكتم غضبه وأسفه في مقابل الجهلة الذين لا يلبّون طلبه. والمراد : إنك مصطنع ذلك لاقتناص السيادة.

[٨٩] (قالَ) شعيب في جواب استهزاء القوم : (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة واضحة على نبوتي وصدق ادعائي (مِنْ رَبِّي) أي من طرفه سبحانه (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) من عنده تعالى

رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨)

____________________________________

(رِزْقاً حَسَناً) بإعطائي النبوة والتوسعة عليّ في معاشي. والجواب محذوف ، أي : هل يسعني أن أترك عبادته وطاعته أو أخون وحيه فلا أبلغه ولا أؤديه؟! (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) عملا (إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) بأن أرتكب القبائح التي أنهاكم عنها ، فأريد أن تتركوها وأعملها أنا. ولعلّه إنما تكلم بهذا ، لما يرى المصلحون ـ غالبا ـ أنهم يفعلون ما ينهون الناس عنه ، وإنما يريدون أن يتنازل الناس عن قسم من شهواتهم ليأتوها هم (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) أي ما أريد من دعوتي إلا الإصلاح لكم عن المفاسد (مَا اسْتَطَعْتُ) أي على قدر استطاعتي.

قال بعض المفسرين : إن قوله عليه‌السلام «إن كنت على بينة» إشارة إلى حق الله ، وقوله «ما أريد» إشارة إلى حق النفس ، وقوله «إن أريد» إشارة إلى حق المجتمع.

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) «التوفيق» مصدر «وفق» أي : تجمّع الأسباب لدى الإنسان ، وصيرورة بعضها وفق بعض لأخذ النتيجة. وغالبا تستعمل هذه اللفظة في التوفيق للأمور الحسنة وإن كان معناها اللغوي أعم ، فإن توفيقي في الكف عن القبائح والإطاعة ، والقيام بالدعوة إنما هو من عند الله سبحانه فإنه هو الذي أرشدني وهيأ لي أسباب ذلك (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) والتوكل على الله : الرضا بتدبيره ، واتخاذه ظهرا في الأمور بالالتجاء والتضرّع إليه (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في أموري كلها إليه ، فكما أن الإنسان إذا كان له ظهر وركن

وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ

____________________________________

يلجأ إليه ليستمد منه القوة في نوائبه ، كذلك من اتخذ الله ظهيرا رجع إليه في حوائجه بالتوسل إليه لقضاء حوائجه.

[٩٠] ثم أخذ شعيب ينصح القوم ويذكرهم بمصارع الأقوام السابقة الذين خالفوا النبيين فأهلكوا (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أي لا يحملنّكم الخلاف معي والعناد واللجاج (أَنْ يُصِيبَكُمْ) العذاب ، فعنادكم يلجئكم إلى الكفر والتمادي في الغيّ حتى يصيبكم العذاب (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح الصرصر (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) فإنهم أهلكوا في عهد قريب ، خالفوا الرسول وتمادوا في الفساد ، فإن لم تعتبروا بالمتقدمين ، فاعتبروا بهؤلاء القريبين منكم.

[٩١] (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا غفرانه لما سلف منكم من الكفر والمعاصي (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجعوا إليه في عقيدتكم وأعمالكم ، فالاستغفار لما مضى ، والتوبة لما يأتي (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بكم ، فإذا فعلتم ما ذكرته رحمكم وتلطّف بكم (وَدُودٌ) أي محبّ لكم ، ومعنى ذلك أنه يفعل بهم ما يفعل المحب بمحبّه.

[٩٢] (قالُوا) أي قال القوم بعد أن وعظهم شعيب بتلك الموعظة البالغة : (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) أي ما نفهم ، فإن «الفقه» في اللغة بمعنى «الفهم»

كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ

____________________________________

(كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) وهذا كلام المعاند فإنه يقول مثل ذلك ويريد أنه معرض عن كلام المتكلم ، فقد أقيم السبب مقام المسبب لأن عدم العمل معلول لعدم العلم (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا عزة ، فلا تتمكن من دفع أذانا لو أردنا إيذاءك (وَلَوْ لا) وجود (رَهْطُكَ) أي عشيرتك ، وحرمتهم عندنا (لَرَجَمْناكَ) أي لقتلناك بالحجارة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي لا عزّة لك عندنا. وكأن الإتيان بلفظ «علينا» لأجل أن العزيز فوق الناس مرتبة ومقاما.

[٩٣] (قالَ) شعيب عليه‌السلام : (يا قَوْمِ أَرَهْطِي) أي هل عشيرتي وقومي (أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) فتتركون إيذائي لأجل حرمة عشيرتي ، ولا تتركون إيذائي لأجل الله سبحانه ، أي تراقبون العشيرة ولا تراقبون إله العشيرة وخالق الجميع. قال هذا الكلام على نحو الاستفهام الإنكاري (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) جعلتم الله سبحانه (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) جعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء ظهوركم ، ومعنى «الظهري» جعل الشيء وراء الظهر حتى ينسى (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) قد أحاط علمه بأعمالكم ، فلا يخفى عليه شيء تصنعونه ، فيجازيكم عليه.

[٩٤] (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على المكانة التي أنتم عليها من الكفر والعصيان ، فإن «المكانة» هي الحالة التي يتمكن بها صاحبها من

إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا

____________________________________

العمل. وهذا تهديد يريد : أنكم سترون جزاء أعمالكم السيئة (إِنِّي عامِلٌ) حسب أمر الله سبحانه ولا أتزحزح عن أوامره ، فهذا كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (١) ، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الدنيا (مَنْ) منّا (يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يهينه ويفضحه ، هل أنتم أم أنا؟ فيتبيّن من هو الصادق (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) منّا (وَارْتَقِبُوا) انتظروا ما وعدكم ربكم من العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) وإني أيضا أنتظر وأرتقب ما وعدتكم أن يأتيكم ، ليدلّ على صدقي وصحة رسالتي.

[٩٥] وهكذا بقي القوم في الغيّ وتمادوا في الكفر والعصيان ، ولم تنفعهم نصائح شعيب عليه‌السلام حتى جاءهم العذاب (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بعذابهم (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) حيث رحمناهم فلم يشملهم العذاب ، وإن كان المؤمنون به مستحقين للعذاب أيضا لما تقدم أن كل إنسان ـ غير معصوم ـ لا بد وأن يصدر منه ذنب يستحق العقاب به فتكون نجاة كل فرد برحمته سبحانه.

قال في تفسير الصافي : وإنما ذكر هنا وفي قصة عاد ب «الواو» أي «ولما» ، وفي قصتي صالح وهود ب «الفاء» أي «فلما» ، لسبق ذكر وعد يجري مجرى السبب في قصتي صالح وهود دون الآخرين. انتهى (٢).

__________________

(١) الكافرون : ٧.

(٢) تفسير الصافي : ج ٢ ص ٤٧٠.

وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦)

____________________________________

واحتمل بعض أن يكون قوله : «برحمة منّا» لأجل أن نجاتهم كانت بسبب هداية الله لهم وألطافه الخفية الموجبة لخروجهم عن حظيرة الكفار.

(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) فقد صاح بهم جبرائيل عليه‌السلام صيحة شديدة زهقت روح كل واحد منهم في مكانه (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) من «جثم» في المكان إذا أقام فيه ، أي ماتوا وهم في ديارهم ، ولم يتمكنوا من الحراك أصلا.

[٩٦] (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) من «غنى في المكان» إذا أقام فيه ، أي كأنهم لم يكونوا بتلك الديار ، فقد ذهبت آثارهم ، وعفت رسومهم (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) فلينتبه السامع إلى طرد قبيلة مدين من رحمة الله ولطفه (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) ولعلّ ذكر ثمود هنا لأن كلتا الأمتين ماتتا بالصيحة. وربما احتمل أن المراد ب «الصيحة» نوع من العذاب ، تقول العرب : «صاح الزمان بهم» إذا أهلكوا.

[٩٧] ثم يحكي القرآن الحكيم القصة السابقة في هذه السورة وهي قصة موسى عليه‌السلام وفرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي مع الأدلة الدالة على كونه من طرفنا ، وهي الثعبان واليد البيضاء وغيرهما (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة عقلية على أن للكون إلها ، وأن فرعون ليس بإله للناس.

إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ

____________________________________

[٩٨] (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) إما المراد : الأشراف منهم ، وتخصيص الذكر بهم لأنهم إذا أذعنوا أذعن الناس كلهم ، أو المراد بالملإ : قومه كلهم (فَاتَّبَعُوا) أي اتبع الملأ (أَمْرَ فِرْعَوْنَ) في اتخاذه إلها والإعراض عن موسى وحججه (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي ما هو هاد لهم إلى الرشد. وهو خلاف «السفه» فإن أمره غير مرشد وغير صحيح ، بل فيه ضلالة وسفاهة.

[٩٩] وكيف يكون أمره رشيدا ، والحال أنه وأتباعه يصيرون إلى النار؟! وهل الرشد ما يسبب الهلاك والعقاب؟! (يَقْدُمُ) فرعون (قَوْمَهُ) يتقدم عليهم ويمشي بين أيديهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) جميعا ، ففي الدنيا كان يهديهم إلى النار ، وفي الآخرة يدخلهم فيها (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) «الورد» ورد الماء الذي يورد ، أي : بئس الماء الذي يردونه عطشى ، فإنه نار يردونها ، فقد شبّه هؤلاء بأهل الجنة حيث يردون المياه الجارية وأنهار من لبن وعسل وخمر ، وهؤلاء في مقابل أولئك يردون النار ويسقون من الحميم.

قال بعض المفسرين : أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم ، ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير؟

[١٠٠] (وَأُتْبِعُوا) ألحقوا (فِي هذِهِ) الدنيا (لَعْنَةً) إما بالغرق ، وإما بأن الناس يلعنونهم ، فكانت نتيجة اتّباعهم لفرعون أن تبعتهم اللعنة (وَيَوْمَ

الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ

____________________________________

الْقِيامَةِ) يتبعون باللعنات والعذاب (بِئْسَ الرِّفْدُ) أي العطاء (الْمَرْفُودُ) المعطى لهم ذلك العذاب واللعنة ، إن هذا كان عطاء فرعون لقومه ، لهم النار واللعنة ، وهذا هو عاقبة من تخلّف عن الحق واتبع الباطل.

[١٠١] ثم بيّن سبحانه الغرض الذي سيق من أجله تلك القصص ، وجعله كخاتمة للفصول المتقدمة (ذلِكَ) الذي ذكرناه فيما تقدم من هذه السورة (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي أخبار البلاد السابقة والأمم الخالية (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) ونخبره لك ليكون لك سلوة وذكرى (مِنْها) أي من تلك القرى (قائِمٌ) باق إلى الآن ، فإن بعض البلاد بقيت وإن هلك أهلها ، كمصر (وَحَصِيدٌ) أي منها حصيد قد حصد وعفا أثره ، كقرى قوم لوط عليه‌السلام.

[١٠٢] (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي نحن لم نظلم الذين هلكوا (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والعصيان وهما سببين للهلاك والنكال (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) أي لم تنفعهم ولم تفدهم (آلِهَتُهُمُ) أصنامهم البشرية ، كفرعون ، والحجرية ، كالأوثان التي كانوا يعبدونها و (الَّتِي) كانوا (يَدْعُونَ) ها (مِنْ دُونِ اللهِ) ويتخذونها أربابا (مِنْ شَيْءٍ) متعلق به «ما أغنت عنهم» أي لم تنفعهم شيئا في دفع العذاب عنهم (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بإهلاكهم

وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ

____________________________________

ونزول العذاب عليهم (وَما زادُوهُمْ) ما زادتهم تلك الآلهة (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) من «التباب» أي الخسارة ، أي أن الآلهة زادتهم خسارة على خسارتهم ، فإنهم لو لم يكونوا يعبدونها ، بل كانوا مجرد عاصين لم يزد في عذابهم ، فقد جاء من قبل تلك الآلهة زيادة في عذابهم ونكالهم ، وإنما قال : «زادوهم» بضمير العاقل ، لأن الكفار كانوا يعتبرونها عاقلة ، فجرى الكلام حسب اعتقادهم.

[١٠٣] (وَكَذلِكَ) الذي بيّناه سابقا وأوضحناه (أَخْذُ رَبِّكَ) وهلاكه (إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلكهم وعذبهم ، فقد شبّه الإهلاك بالأخذ ، فكما أن الأخذ لا يتمكن المأخوذ من الإفلات منه كذلك الذين عذبهم سبحانه لا يتمكنون من النجاة.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ الآية» (١). (إِنَّ أَخْذَهُ) للظالم (أَلِيمٌ) مؤلم موجع (شَدِيدٌ) فلا يمكن الإفلات منه.

[١٠٤] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من أحوال الأمم التي كفرت وعصت الرسل (لَآيَةً) دليل على بطش الله سبحانه لمن طغى وتكبّر (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي لمن آمن لعلمه بأنه أنموذج من ذلك العذاب المهول ، فإن ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه لعذاب الآخرة لمن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٧ ص ٣٣٥.

ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)

____________________________________

اعتقد بها (ذلِكَ) اليوم (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) يجمعون كلهم للحساب والجزاء (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ليشهده الخلائق كلهم من الجن والإنس ، وفي محضرهم يجري الحساب والجزاء.

[١٠٥] (وَما نُؤَخِّرُهُ) ما نؤخر يوم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي أمد معدودة أيامه ، فإذا انتهى ذلك الأمد أظهرناه للوجود ، واللام في «لأجل» لام العلة ، أي لغرض تمام الأجل وانتهائه.

[١٠٦] (يَوْمَ يَأْتِ) حين يأتي يوم القيامة والجزاء (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لا يتكلم أحد مع أحد إلا بإجازة الله سبحانه ، فقد شمل يوم القيامة صمت رهيب ، فإن الإنسان إذا خاف ووجل لم يتكلم حيث يسود الخوف والرهبة. ولعل في الإتيان بصيغة المجهول ـ بناء على ذلك ـ للإشارة إلى أن الناس هناك كالمساجين الذين لا يحق لأحد أن يكلمهم ، وفيه دلالة بليغة على الخوف السائد والرهبة المخيمة على الناس حتى أن سماع الكلام لا يجوز إلا بإذن خاص ، ولا يخفى أن هذا لا ينافي تكلم بعضهم مع بعض في مواقف مختلفة لأن ذلك بالإذن ، وهل الإذن كالإذن هناك ، أو المراد به الإذن التكويني برفع الأبهة؟ احتمالان.

(فَمِنْهُمْ) أي من الناس (شَقِيٌ) قد شقي بسبب الأعمال الفاسدة والعقائد الكاسدة (وَ) منهم (سَعِيدٌ) سعد وفاز بعقيدته الصحيحة

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)

____________________________________

وعمله الصالح.

[١٠٧] (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) وهم الذين تركوا الفطرة الأصلية بسبب ووساوس الشياطين والنفس الأمارة (فَفِي النَّارِ) تلك محلّهم ومسكنهم (لَهُمْ فِيها) أي في النار (زَفِيرٌ) هو إخراج النفس (وَشَهِيقٌ) وهو إدخال النفس. قالوا : «الزفير» أول نهيق الحمار ، و «الشهيق» آخر نهيقه ، وهما من أصوات المكروبين المحزونين ، و «الزفير» من شديد الأنين وقبحه ، بمنزلة إبقاء صوت الحمار ، و «الشهيق» الأنين الشديد المرتفع جدا بمنزلة آخر صوت الحمار.

[١٠٨] (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين أبدا في النار (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما بقيت جهة العلو وجهة السفل ، فإن اللفظين يطلقان على الجهتين (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فإن بعض أهل النار يخرجون منها بإدراكهم الشفاعة أو استيفاء عقابهم لأنهم كانوا أهل معاصي ، أو كانوا كفارا عصاة ، لكن لم تتم الحجة عليهم بما يوجب الخلود ، وإنما كانت الحجة عليهم بقدر دخولهم النار كما لو خالفوا بعض الأوامر الثابتة عندهم أنها من قبله سبحانه ، بقتل نفس محترمة ، أو سلب مال أو ما أشبه. ولا يلازم خروجهم من النار دخولهم في الجنة ، إذ هناك أماكن أخرى معدة للناس كالأعراف. فلا يقال : كيف يدخل الكافر الجنة؟

(إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا يمنعه عن إرادته مانع ولا يقف دون مشيئته شيء. ولعلّ الإتيان بصيغة المبالغة «فعّال»

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ

____________________________________

باعتبار العموم في ما يريد ، أي يفعل كل ما يريده ، فإذا أراد خلود الكفار خلدوا ، وإذا أراد نجاة بعض العاصين نجوا.

[١٠٩] (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بالطاعة والعمل الصالح (فَفِي الْجَنَّةِ) لهم مستقر ومأوى (خالِدِينَ فِيها) أبد الآبدين لا يزولون عنها ولا تزول عنهم (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما بقيت جهتا العلو والسفل ، فإن العرب تقول لما أطلها : «سماء» ، ولما أقلها : «أرض» (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) هذا الاستثناء لإفادة أن الأمر لم يخرج عن إرادة الله سبحانه ، فليس الخلود جبرا عليهم فإذا شاء إخراجهم من الجنة أمكنه ذلك وإن لم يفعل ، أو الاستثناء باعتبار الأول يعني أن السعيد في الجنة إلا المقدار الذي هو في المحشر أو في النار ـ ابتداء ـ لما صدر منه من بعض الأعمال السيئة ، فليس في ذلك الوقت في الجنة لأن الله لم يشأ كونه فيها ، وإذ كان الكلام موهما لانقطاع الخلود جاء التأكد لذلك بقوله سبحانه : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع ، و «عطاء» منصوب بما فهم من الجملة ، أي أعطاهم الجنة عطاء دائما.

[١١٠] إن الأقوام الذين كذبوا الرسل حق عليهم العقاب في الدنيا وحق عليهم العقاب في الآخرة ، كما استعرض كل من العقابين في قصصهم السابقة ، وإذ قد علمت يا رسول الله ذلك (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك ، فإن «المرية» بمعنى الشك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) الكفار ، من الأصنام المنحوتة ، فإن مصير الجميع إلى النار والهلاك (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا

كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)

____________________________________

كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) فليس لهم حجة في عبادتهم إلا التقليد للآباء عن جهالة وضلالة ، فليست لهم حاجة في عبادتهم لدليل أو منطق. ومن المعلوم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يشك في أمرهم ، وإنما جرى الكلام من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة» (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي معطوهم جزاء أعمالهم وعقاب أفعالهم وافيا (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) لا ينقص من عقابهم شيء.

[١١١] (وَ) شأن هؤلاء شأن من سبقهم من الأمم فلقد (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أعطيناه التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي في موسى ، هل هو نبي أم لا؟ أو اختلف في الكتاب ، هل هو من عند الله أم لا؟ وعلى كل حال ، فقد اختلفوا في الحق كما اختلف قومك يا رسول الله (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) حسب ما قدّر من المصالح ، بأن يكون لكل أمة أجل لا يتقدم ولا يتأخر (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لحكم سبحانه بين المؤمنين والكافرين بنجاة المؤمنين وإعطائهم الأجر ، وهلاك الكفار وخزيهم ، لكنه سبحانه حكم وقضى أن تكون الدنيا دار مهلة واختبار ، ولذا يترك كلّا وشأنه يعمل ما يشاء (وَإِنَّهُمْ) أي الكافرين (لَفِي شَكٍ) فإنهم ما كانوا يتيقنون بكذب دعوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (مِنْهُ) أي من وعد الله ، أو من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من الكتاب (مُرِيبٍ) موجب للريب ، فان الإنسان قد لا يعتني فلا يكون الشك موجبا للريب وقد يعتني به حتى يوقعه في الريب حقيقة.

وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)

____________________________________

[١١٢] (وَإِنَّ كُلًّا) «إن» مخففة من الثقيلة ، أو نافية ، وعلى الأول أصل «لما» : «ل من ما» أي «لمن الذين» ، فأبدلت النون ميما واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن ، فيكون المعنى : وإن كل طائفة من الفريقين ـ المؤمنين والجاحدين ـ لمن الذين يعطيهم الله أجورهم. وعلى الثاني يكون «لمّا» بمعنى «إلا» أي : «ما كل طائفة إلا ليعطيهم الله أجورهم» (لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي يعطيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (إِنَّهُ) سبحانه (بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا يفوته شيء من أعمالهم ، بل يعلم كل عمل ويعطي جزاءه.

[١١٣] (فَاسْتَقِمْ) يا رسول الله (كَما أُمِرْتَ) بالتبليغ والإنذار ، ولا يزحزحك إنكار المنكرين وجحود الجاحدين (وَ) ليستقم (مَنْ تابَ) ورجع إلى الله سبحانه بعد الكفر والعصيان (مَعَكَ) فإن الكافر والعاصي كأنهما ذاهبان عن الله سبحانه إلى غيره ، فإذا آمن الكافر ، واستغفر العاصي ، كانا تائبين راجعين إليه سبحانه. وتقدير «ليستقم» إنما هو بقرينة «استقم» نحو : «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض» أي : نحن بما عندنا راضون.

(وَلا تَطْغَوْا) أي لا تجاوزوا أوامر الله سبحانه ، بالزيادة أو النقصان ، فإن «الطغيان» تجاوز الحد ، يقال : «طغى الماء» إذا تجاوز حده. والخطاب للناس ، المفهوم من قوله «من تاب» (إِنَّهُ) تعالى (بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيبصر ويرى طغيان الطاغين واستقامة

وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)

____________________________________

المستقيمين ، فيجازي كلّ حسب عمله.

في تفسير «الصافي» : قال ابن عباس : ما نزلت آية كان أشق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الآية ، ولهذا قال : «شيبتني هود والواقعة وأخواتها» (١).

وعن بعضهم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم ، فقلت : روي عنك أنك قلت : «شيبتني هود» فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم» ، فقلت : ما الذي شيّبك منها ، أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال : لا ، ولكن قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٢).

[١١٤] وإذ أمر سبحانه المؤمنين بالاستقامة ، نهاهم عن الانحراف بالركون إلى الظالمين فإن كل انحراف عن الاستقامة ركون إلى الظالم الذي نهج ذلك المنهج المنحرف (وَلا تَرْكَنُوا) و «الركون» هو الاعتماد والميل والسكون إلى شخص أو جهة أو نحوها (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في عقيدة أو عمل أو غيرهما (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) وتأخذكم. والتعبير ب «المس» لعله لإفادة أن مس النار يقتضي الحذر منه فكيف بما فوقه (وَما لَكُمْ) أيها المؤمنون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله سبحانه (مِنْ أَوْلِياءَ) ينصرونكم في الدنيا والآخرة ، فإن الله هو وليكم (ثُمَ) إن ركنتم إلى الظالمين (لا تُنْصَرُونَ) إذ الله سبحانه يقطع نصره عنكم ، والكافرون ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٦ ص ١٧٢.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١١ ص ٢١٣.

وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ

____________________________________

بما انطووا عليه من عدائكم ـ لا ينصرونكم ، وقد جرب المسلمون ذلك ، فإنهم من يوم ركنوا إلى الكافرين أخذ أمرهم في الانحطاط إلى هذا اليوم ، حتى يرجعوا عما اقترفوا ، فينصرهم الله سبحانه.

[١١٥] وبمناسبة لزوم الاستقامة يأتي السياق لبيان وجوب الصلاة ، فإنها أحسن وسيلة للاستقامة ، إذ هي تحتاج إلى يقظة دائمة في النفس وملكة راسخة تحفظ الإنسان طيلة العمر عن الانحراف ، وهذه اليقظة والملكة لا تكون إلا بالتذكير الدائم الحاصل من إقامة الصلاة صباحا وعصرا وليلا (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) يا رسول الله ، أو كل من يأتي منه ذلك (طَرَفَيِ النَّهارِ) صباحا وعصرا ، فإن صلاة الصبح في الطرف الأول من النهار ، وصلاة الظهرين في الطرف الآخر منه (وَزُلَفاً) جمع «زلفة» وهي المنزلة ، مثل «غرف جمع غرفة» ، وهي أول ساعات الليل ، كأن كل ساعة منزلة من منازل الليل (مِنَ اللَّيْلِ) وهي صلاة المغرب والعشاء (١).

وهذا هو المفهوم من رواية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن : «طرفي النهار» الغداة ، (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) هي صلاة العشاء.

أقول : فعلى هذا تكون الآية ساكتة عن الظهرين ، ولعلّ ذلك لصعوبة الثلاثة الأول دونهما.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فإن الحسنة تكفّر السيئة

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٣٣٧.

ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)

____________________________________

وتمحقها ، ومن الحسنات «الصلوات الخمس» فإنها تمحق الذنوب وتمحيها. وقد روي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما روي عن الإمام المرتضى عليه‌السلام أنه قال : «إن الله يكفر بكل حسنة سيئة. ثم تلا هذه الآية» (١).

(ذلِكَ) الذي تقدم من قوله «استقم» (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي فيه تذكرة وموعظة لمن أراد التذكّر والتفكّر.

[١١٦] (وَاصْبِرْ) يا رسول الله على الاستقامة ، أو على الصلاة ، أو مطلقا (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) والصابر من أفضل أقسام المحسنين ، والصبر على ثلاثة أقسام : صبر على البلاء ، وصبر على الطاعة ، وصبر على الأحوال ، بأن لا يبطر الإنسان عند الرخاء ولا يجزع عند البلاء.

[١١٧] إن دعاة الإصلاح الذين يتمكنون من تغيير الواقع السيئ هم الذين يبقون على الأمم من الانهيار والدمار فإذا خلت أمة منهم انهارت واضمحلت ، كما أن المرضى يحتاجون إلى أطباء يتمكنون من علاجهم. أما إذا كان هناك مرضى بلا طبيب أو كان هناك طبيب لكن لم يتمكن من تنفيذ أوامره وعلاج مرضاه فإن عاقبتهم الموت والهلاك. وهكذا جرت سنة الله في الأمم سابقها ولا حقها فحيث إن الأمم السابقة لم ينفذ فيهم دعاة الإصلاح لقساوة قلوبهم عذّبوا. وهكذا يذكّر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٩ ص ٣١٩.

فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى

____________________________________

الله سبحانه بهذه الحقيقة حتى يأخذ الناس حذرهم ، ويعلموا أنهم إن لم يصلحوا انهاروا واستحقوا العذاب.

(فَلَوْ لا) أي فهلّا ، تقريح وذم (كانَ مِنَ الْقُرُونِ) جمع قرن وهو الجيل ، أي من الأجيال السابقة التي كانت (مِنْ قَبْلِكُمْ) أيها المسلمون (أُولُوا بَقِيَّةٍ) أصحاب بقايا فضل وعقل وتدبر ، فكأنهم كلهم كانوا أحداثا ، لا بقية عقل وحنكة وحكمة فيهم حتى يتدبروا ويتفكروا ويعتبروا بالماضين (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) فإنه كان من اللازم أن يكون فيهم جمع هذه صفتهم حتى ينقذوا الأمم والقرون من الهلاك (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) من أنبيائهم وبعض المؤمنين بهم ، مما لم يكن يكفي لدفع العذاب عنهم ، فإن الطبيب ولو كان من أحذق الأطباء لكنه إذا لم يجد آذانا صاغية من المرضى والممرضين لم يكن لأمره نفع في إنقاذ المرضى ، إن القليل الذين كانوا ينهون قد أنجيناهم ، أما سائر الجيل فقد أهلكوا بفسادهم وعصيانهم (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وعصوا (ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي اتبعوا ترفهم وشهواتهم ، في مقابل المؤمنين الذين اتبعوا أوامر الله سبحانه ومناهج الأنبياء (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) ذوي إجرام وعصيان ، ولذا أهلكوا بسبب أعمالهم الفاسدة.

[١١٨] (وَما كانَ رَبُّكَ) يا رسول الله (لِيُهْلِكَ الْقُرى) السابقة ، أي يهلك

بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ

____________________________________

أهل القرى (بِظُلْمٍ) منه لهم (وَ) الحال أن (أَهْلُها مُصْلِحُونَ) يصلحون أنفسهم ومجتمعهم باجتناب المعاصي والنهي عن المنكر ، وإنما أهلكهم بالعدل حين كان أهلها مجرمين مفسدين.

[١١٩] إن الدنيا دار اختبار وامتحان ليجزي كل حسب عمله ولذا ترك الله سبحانه الأمم وما يختارون بعد أن بيّن لهم الرشد من الغي (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا رسول الله (لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) بإلجاء الجميع إلى الإيمان والعمل الصالح ، لكنه لا يشاء ذلك لئلّا يبطل الثواب والعقاب (وَ) لكن (لا يَزالُونَ) الناس (مُخْتَلِفِينَ) بعضهم كافر وبعضهم مؤمن ، وبعضهم مطيع وبعضهم عاص ، وذلك بأن شاء الله اختيارهم وقدرتهم.

[١٢٠] (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) من المؤمنين فإنهم لا يختلفون ويجتمعون على الحق. والمراد ب «الرحمة» الألطاف الخفية ، بعد هداية الجميع إلى الطريق وإرشادهم ، فمن قبل وآمن لطف به اللطف الخفي الزائد ، ومن أعرض تركه وغيّه ، كما أن الأب إذا أعطى أولاده رؤوس الأموال ليتّجروا بها فأعرض بعض وأقبل بعض ، لطف بالمقبل كثيرا وأخذ بيده ، أما المعرض فهو يخذله ويتركه ليفعل ما يشاء (وَلِذلِكَ) أي للرحمة (خَلَقَهُمْ) فقد خلقهم الله سبحانه حتى يرحمهم ، لكن قسما منهم أبوا وتخلّفوا وعصوا ، كما أن من أسس مدرسة إنما يؤسسها لتعليم الناس وهدايتهم ، فإذا أعرض البعض كان

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ

____________________________________

من عنده ، لا من عند من أسس المدرسة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي انتهت فلا مبدل لها ، والكلمة هي : (لَأَمْلَأَنَ) من «ملأ» بمعنى : إدخال الشيء في الظرف حتى يمتلئ (جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بسبب كفرهم وعصيانهم ، وإنما ذكر هذا الطرف من الناس لأن الكلام حول العصاة والكفار ، والذين أهلكوا بسبب مخالفتهم للأنبياء.

[١٢١] (وَكُلًّا) أي كلّا من هذه القصص المتقدمة (نَقُصُّ عَلَيْكَ) ونخبرك (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أخبارهم ، كيف بلغوا ، وكيف وقف قومهم ضدهم وآذوهم؟ (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي نقوّي به قلبك ، حتى إذا رأيت إعراضا وأذى من قومك ، لم يسبب ذلك يأسك عن البلاغ. وليس معنى ذلك أنه لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبات ، وإنما استمرار الثبات هو بيد الله سبحانه (وَجاءَكَ) يا رسول الله (فِي هذِهِ) القصص السالفة (الْحَقُ) فكل ما حكي كان حقا مطابقا للواقع (وَ) جاءتك في هذه (مَوْعِظَةٌ) تعظ بها الجاهلين وتبعد بها الناس عن المعاصي (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) تذكّرهم بالله وبآياته وبالآخرة.

[١٢٢] (وَقُلْ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) من الكافرين (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على حالتكم التي أنتم عليها ، وهذا تهديد لهم ،

إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)

____________________________________

كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) ، (إِنَّا عامِلُونَ) على منهجنا ، حتى نرى ما يصنع الله بكم وبنا.

[١٢٣] (وَانْتَظِرُوا) أي توقعوا عقاب الله وعذابه (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) فضله ورضوانه ، أو المعنى : نحن وأنتم ننتظر نتائج الأعمال ، وهل نحن كنا على باطل أم أنتم؟.

[١٢٤] إن ما يأتي غيب وسينكشف الغيب ويظهر المجهول (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكلّ ما غاب عن الحواس ، أو غاب عن الوجود ـ بأن لم يوجد بعد ـ سواء كان في السماوات أو في الأرض ، إنه لله وحده فهو العالم به وهو القادر على إيجاده أو إظهاره (وَإِلَيْهِ) أي إلى الله تعالى (يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فكل الأمور مرجعها إليه في الدنيا وفي الآخرة ، فهو الفاصل في القضايا التكوينية والتشريعية ، حتى أنه إذا لم يشأ شيئا لم ينفع فيه إرادة الجن والإنس (فَاعْبُدْهُ) يا رسول الله (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) اجعله وكيلا عنك وناصرا لك ، فإن من يعلم الغيوب ، ويكون مصير الأمور إليه ، أحق بالعبادة والتوكل عليه ، من سائر الأشياء (وَما رَبُّكَ) يا رسول الله (بِغافِلٍ) أو جاهل (عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الخير والشر ، فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها.

__________________

(١) فصلت : ٤١.

(١٢)

سورة يوسف

مكية / آياتها (١١٢)

سميت السورة باسم «يوسف» عليه‌السلام ، لاشتمالها على قصته واسمه المبارك. وحيث كانت سورة «هود» مشتملة على قصص الأنبياء ، كانت هذه السورة مكملة لتلك القصص ، وأتت بقصة طريفة في موضوعها ، وهي تشمل المقصود العام من القرآن الحكيم من التوجيه نحو المبدأ والمعاد ، وتطهير النفس من الرذائل ، وذكر الأحكام والتشريعات.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء للكلام بسم الله ، فالله هو الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال ، فهو أحق الأسماء بالاستعانة والابتداء ، وبمن يبتدأ الكلام ، غيره؟ ولما ذا يبتدئ الإنسان بغيره؟ وهل يعطي الغير ما يتطلبه الإنسان؟ وهو الرحمن الذي يرحم الكل ، والرحيم الذي يتفضل على المؤمنين بأنواع خاصة من التفضّل.

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)

____________________________________

[٢] (الر) من جنس «ألف» و «لام» و «راء» أنشئ القرآن الحكيم ، أو هي رموز بين الله والرسول كالرموز التي بين رؤساء الحكومات وسفرائها ، أو غير ذلك (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) فإن هذه الأحرف وما من جنسها هي بعينها تلك الآيات البعيدة التي فوق الطاقة البشرية لا يتمكن الإنسان من الإتيان بمثلها لا لفظا ولا منهجا ، والكتاب مبيّن واضح لا لبس فيه ولا غموض ولا التواء.

[٣] ولقد شاء الله سبحانه أن ينزل هذا الكتاب بلغة العرب (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أنزلنا هذا الكتاب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ولماذا؟ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وتفهمون ، إذ هو بلغتكم ، أو الخطاب في «لعلكم» عام يشمل جميع البشر ، إذ كون القرآن من مصدر عربي أقوى في الدلالة على كونه من قبل الله سبحانه فإن الحضارة ـ عهد نزول القرآن ـ لم تكن إلا لفارس والروم ، أما عرب الجزيرة فلم يكونوا أهل تحضّر وعلم من قراءة وكتابة ، فإذا جاء بالقرآن رجل عربي يعيش بين أظهرهم ، كان أدل على أنه من قبل الله سبحانه ، مما لو كان منزلا على رجل رومي أو فارسي وسط الحضارة.

وقد ذكر المفسرون : أن نزول القرآن على رسول من الجزيرة يشتمل على أنواع من الفضل لم تكن توجد لو أنزل على طرفي العالم المتحضر يوم ذاك ، فإن الجزيرة تعد وسط العالم تقريبا ، وأنها كانت أحوج إلى الرشاد ، وأن أهلها كانوا أقدر على حمل الرسالة ، لبداوتهم وعدم تلوثهم بمفاسد الحضارة ، وغير ذلك مما بيّنوه في المفصلات.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)

____________________________________

[٤] (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وبالأخص قصة يوسف ، فإنها قصة واقعية فيها أنواع من التذكرة والعظة ، مشوقة حيث اشتملت على موضوع مثير (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي بسبب إيحائنا هذا القرآن قصصنا عليك هذه القصص فلو لا إيحاؤه لم تكن قصة (وَإِنْ كُنْتَ) يا رسول الله (مِنْ قَبْلِهِ) قبل إيحاء القرآن إليك (لَمِنَ الْغافِلِينَ) الذين لا يعرفون شيئا من ذلك. وهذا لا ينافي الحديث المروي : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (١) إذ لا ملازمة بين النبوة وبين علم كل شيء ، فلقد كان نبيا لكنه لم يكن يعلم بعض الأشياء ، أو كان وحي القرآن قبل ذلك لأنه إنما أوحي إلى النبي القرآن بعد البعثة في الظاهر ، وأما في الحقيقة فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم القرآن قبل وحيه إليه.؟ وقد ورد أن الإمام المرتضى عليه‌السلام قرأ القرآن وهو طفل رضيع.

[٥] فاذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ) في المنام (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) إنما أتى بالجمع العاقل لأن السجود من صفات العقلاء. روي عن الباقر عليه‌السلام في تأويل هذه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٦ ص ٤٠٢.

قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ

____________________________________

الرؤيا : أنه سيملك مصر ويدخل عليه أبواه وأخوته ، أما الشمس فأم يوسف راحيل ، والقمر يعقوب ، وأما الأحد عشر كوكبا فإخوته. فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله وحده حين نظروا إليه. وكان ذلك السجود لله تعالى (١).

[٦] (قالَ) يعقوب : (يا بُنَيَ) تصغير «ابن» ، ولعلّ وجه التصغير الشفقة (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) أي لا تخبرهم بما رأيت في المنام (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي فيحسدوك ، حيث تدل رؤياك على مقام رفيع ، ويحتالوا لإهلاكك حيلة (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة ، فإنه يريد الإيقاع بين الأخوة بإشعال نار الحسد في قلوب بعضهم على بعض.

[٧] (وَكَذلِكَ) أي كما أراك هذه الرؤيا تكرمة لك ، مما كان تعبيره خضوع الأخوة والأبوين لمقامك (يَجْتَبِيكَ) من «الاجتباء» أي الاختيار وهو الاصطفاء ، أي يختارك (رَبُّكَ) يا يوسف للنبوة (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) «الأحاديث» هي الرؤيا ، لأنها من أحاديث الملك وإخباره للإنسان في منامه إن كانت الرؤيا صادقة ، ومن أحاديث الشيطان والنفس إن كانت كاذبة ، و «تأويلها» تعبيرها ، سمي «تأويلا» لأن الرؤيا تأوّل إلى ذلك المعنى المتضمنة له (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعطائك

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢١٧.

وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا

____________________________________

رغباتك في الدنيا والآخرة (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) إخوتك وأولادكم بجعلهم أنبياء وملوكا وسادة للناس (كَما أَتَمَّها) أي أتم الله سبحانه نعمته (عَلى أَبَوَيْكَ) أبيك وجدك (مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) حيث جعلهما نبيين وأعطاهما نعم الدنيا (إِنَّ رَبَّكَ) يا يوسف (عَلِيمٌ) بمن يصلح للرسالة والسيادة والملك (حَكِيمٌ) يفعل الأشياء حسب الصلاح والحكمة.

[٨] ثم شرع سبحانه في قصة يوسف بقوله : (لَقَدْ كانَ فِي) قصة (يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) الأحد عشر (آياتٌ) أدلة وعلامات على قدرة الله سبحانه ، وإرشادات لمن أراد الاسترشاد (لِلسَّائِلِينَ) أي لمن يسأل عن الآيات ويهتم بالأمور ويفتش عن الحقائق.

؟ عن الجوامع : روي أن اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف؟ قال : فأخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقصة.

[٩] (إِذْ قالُوا) أي اذكر إذ قالوا ، أو لقد كان آيات إذ قالوا ، أي : قال بعض الأخوة لبعض ، وقد كان عشرة منهم من غير أم ، ويوسف وابن يامين من أم ـ كما في بعض التفاسير والتواريخ ـ (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) أي ابن يامين (أَحَبُّ إِلى أَبِينا) يعقوب عليه‌السلام (مِنَّا) فقد كان يعقوب شديد

وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)

____________________________________

الحب ليوسف وبعده لابن يامين ، وكان يوسف من أحسن الناس وجها وأحسنهم أخلاقا.

فقد حكي أن رجلا سأل يعقوب : لم تفضل يوسف على باقي الأخوة؟ قال : أعلمك بالأمر ، فطلب أحد الأخوة وسأله عما لو أساء شخص إليه ماذا يصنع؟ قال الولد : أنتقم منه .. ثم طلب يوسف وسأله عن مثل ذلك السؤال ، فقال يوسف : أعفو عنه ، قال : فإن أساء إليك ثانية؟ قال يوسف : أعفو ، قال : فإن أساء إليك ثالثة؟ قال : أعفو.

(وَ) الحال أنّا (نَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة يتعصّب بعضنا لبعض ، ويعين بعضنا بعضا ، فكيف أن أبانا يقدّم يوسف وبنيامين علينا ونحن أنفع له منهما؟ (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ) انحراف عن طريق الصواب (مُبِينٍ) واضح لا شك فيه ، فكيف يقدم أصغر الأولاد على سائر الأولاد؟

[١٠] أخذ الأخوة ـ وبالطبع لم يكن فيهم ابن يامين ـ يتآمرون على يوسف ليطفئوا حسدهم قائلين : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) قتلا (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) مجهولة بعيدة ، حتى لا يكون إلى جنبنا ، ولعلّ السباع تأكله ، أو يؤول أمره إلى الموت (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) تخلص لكم محبة الأب ، وتملكون قلبه ، فلا يصرف اهتمامه وحبه نحو يوسف فقط (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد هذا العمل من قتل يوسف أو طرحه في أرض مجهولة (قَوْماً صالِحِينَ) تستغفرون الله سبحانه. وهذا من عادة الذي

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١)

____________________________________

يريد أن يسيء وفيه بقية من إيمان ، فإنه بين عزمه على ارتكاب الجريمة بما توسوس إليه نفسه ، وبين نيته في أنه سيصبح صالحا مستغفرا بعد ارتكابها. ويحتمل أن يراد «صالحين في أمر دنياكم لا يزاحمكم فيها يوسف».

[١١] (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) في بعض الأحاديث أن اسمه «لاوي» وهو جد موسى عليه‌السلام : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) «الجب» هو البئر و «غيابته» قعره ، حتى لا يموت ولا يشرف على الموت حيث (يَلْتَقِطْهُ) أي يأخذه من هناك (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) «السيارة» هي الجماعة المسافرون ، سموا بذلك لأنهم يسيرون في البلاد. فإنهم إذا عطشوا وأرادوا الماء أدلوا دلوهم فيها ، فيتعلق به يوسف فيخرجوه ، ويذهبوا به إلى دورهم ومحلهم ، فقد تخلصنا من يوسف ، ولم نرتكب جريمة قتله (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي تريدون في الحقيقة التخلص من يوسف ، فليكن هذا عملكم ونوع تخلصكم.

[١٢] ولما أحكموا المؤامرة وأجمعوا على التخلص من يوسف الغلام البريء الجميل حسدا وعداء ، جاءوا إلى أبيهم يعقوب ف (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) لأي شيء لا تثق بنا في أمر يوسف؟ ألسنا نحن أمناء عندك؟ ويظهر من الكلام أن يعقوب كان سيئ الظن بهم في أمر ابنه يوسف عليه‌السلام (وَ) الحال (إِنَّا لَهُ) أي ليوسف (لَناصِحُونَ) ننصح لأجله ونريد الخير به.

أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)

____________________________________

[١٣] (أَرْسِلْهُ) يا أبانا (مَعَنا) إلى الصحراء (غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) «جزم الفعلين» على جواب الأمر ، والمعنى : إن ترسله معنا ، يرتع ويلعب ، و «الرتع» هو التوسع في أكل الفواكه وغيرها ، من «الرتعة» وهي الخصب ، أو التردد ذهابا ومجيئا (وَإِنَّا لَهُ) ليوسف (لَحافِظُونَ) نحفظه عن أن يصيبه الأذى.

[١٤] (قالَ) يعقوب عليه‌السلام في جواب الأولاد : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) فذهابكم به موجب لغمي وحزني حيث لا أقدر على فراقه (وَأَخافُ) عليه إن ذهبتم به (أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) حيث كانت الأرض مذئبة (وَ) الحال (أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) مشغولون بأنفسكم.

قيل : إن يعقوب رأى في منامه كأن يوسف قد شد عليه عشرة ذئاب يقتلوه ، وإذا ذئب منها يحمي عنه فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام ، ولذا قال لهم : أخاف أن يأكله الذئب.

[١٥] (قالُوا) قال الأولاد في جواب يعقوب : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ) الحال (نَحْنُ عُصْبَةٌ) يتعصّب بعضنا لبعض ، ولنا من القوة والطاقة قدر كاف (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) نكون كالذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم ، أو نكون إذن عاجزون هالكون ، وهذا كالتعليق على ما لا يكون ، للتأكيد

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦)

____________________________________

على المقصود.

[١٦] ثم إن يعقوب سلم للأمر وأرسل يوسف معهم (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) بيوسف (وَأَجْمَعُوا) أي عزموا جميعا ، يقال : «أجمع» إذا عزم (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) في قعره ، وجواب «لما» محذوف تقديره «فعلوه» (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) إلى يوسف وهو في الجب (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) أي تخبرن إخوتك (بِأَمْرِهِمْ هذا) بعد ما تنجو من البئر وتصبح ملكا ، ويأتوك إخوتك لأجل الطعام ، تحكي لهم القصة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في ذلك الوقت أنك يوسف. وقد ذكر سبحانه في آخر السورة قول يوسف لأخوته ـ وهم جاهلون بأنه يوسف ـ ((هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) (١)؟.

[١٧] ولما طرحوا يوسف في البئر ، تأخروا في الرجوع إلى المدينة حتى يأتي الليل فلا يظهر على وجوههم آثار الكذب (وَجاؤُ أَباهُمْ) أي رجعوا إلى أبيهم يعقوب (عِشاءً) أي وقت العشاء ، وذلك بعد ساعة من الغروب تقريبا (يَبْكُونَ) وإنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون في قولهم ، فإن البكاء لا يكون إلا عن حرقة القلب التي تلازم الصدق غالبا ، لكن البكاء قد يكون اصطناعا ، وإن جرت الدمعة. وكان بكاء الأخوة هكذا.

__________________

(١) يوسف : ٩٠.

قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ

____________________________________

[١٨] ولما رأى يعقوب بكاءهم ، فزع وقال : ما لكم؟ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نتسابق في العدو لننظر أينا أقدر على العدو والركض ، وأينا يسبق أصحابه ، من «استبق» بمعنى تسابق (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي رحلنا وبضاعتنا ، لأنه صغير لا يقدر على العدو ، وليحفظ رحلنا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وافترسه (وَما أَنْتَ) يا أبانا (بِمُؤْمِنٍ) أي بمصدّق (لَنا) لكلامنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ومن عادة الكاذب أن يبرّر كذبه بمثل هذه التأكيدات ، كما قال الشاعر : «كاد المريب أن يقول خذوني».

[١٩] (وَجاؤُ) جاء الأخوة (عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) جاءوا أباهم ومعهم قميص يوسف ملطخا بدم مكذوب ، فقد ذبحوا جديا ولطخوا قميص يوسف بدمه ، حيث أنهم لما ألقوه في البئر جرّدوه من ثوبه وألقوه في البئر عاريا.

وإنما جاء ب «على» لأن المعنى : «جاءوا على القميص بالدم» ، أي صبّوا عليه الدم ، هذا بناء على أن «جاء» يراد به المجيء على القميص ، لا المجيء نحو الأب ، وإنما يستفاد الثاني من السياق ، وأما لو أريد من «جاءوا» المجيء نحو الأب كان اللازم تقدير ، حال مثل «صابّين» ونحوه. «وكذب» مصدر أقيم مقام الوصف ، أي «مكذوب فيه» ، وإنما جاء بالمصدر للمبالغة ، كقولك : «زيد عدل».

ولما نظر يعقوب إلى القميص عرف أنهم كاذبون في قولهم وأنهم

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨)

____________________________________

إنما دبروا له مكيدة ، ولذا توجه إليهم و (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت لكم أنفسكم الحاسدة ليوسف مكيدة دبرتموها.

وقد روي : أنه عليه‌السلام لما رأى القميص وليس به آثار الشق ، علم أن الذئب لم يأكله فإن الذئب إذا أكل إنسانا مزّق ثيابه. قال الصادق عليه‌السلام : لما أتي بقميص يوسف إلى يعقوب قال : «اللهم لقد كان ذئبا رفيقا حين لم يشق القميص» (١).

فأمري في هذا الفراق (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام : «إن الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» (٢) (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) به ، من «استعان» بمعنى : طلب العون (عَلى ما تَصِفُونَ) أي على دفع ما تصفونه من هلاك يوسف.

وقد يقال : أنه كيف يوصف الصبر بالجميل ، مع أنه عليه‌السلام بكى حتى ابيضت عيناه؟ بل كيف يمكن للنبي أن يكون له مثل هذه العلاقة بالأولاد مع أنه يرى عظمة الله وثوابه؟ وقد يقال مثل ذلك في بكاء آدم عليه‌السلام والصديقة الطاهرة عليها‌السلام والإمام السجاد؟

والجواب : إن هذا النحو من البكاء والتوجّع كان له نوعا من التبليغ والإرشاد لم يكن يؤدى إلا بذلك ، فقد كان بكاء آدم عليه‌السلام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٩٩.

(٢) الكافي : ج ٢ ص ٩٣.

وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ

____________________________________

إرشادا إلى وقع الخطيئة ـ ولو كانت ترك الأولى ـ وبيانا لما للجنة ورضا الله سبحانه من أهمية كبري حتى أن فراقها والدخول فيما لا يرضيه سبحانه ـ ولو لم يكن عصيانا ـ يوجبان هذا النوع من البكاء.

وفي قصة آدم ، ما أجدر البكاء ولو ألف سنة لسخط الله العظيم الذي له كل شيء وبيده كل شيء .. وبكاء يعقوب كان تنفيرا لمثل هذا الاجرام الجماعي وإرشادا عمليا لما للحسد من الوقع السيئ على الحاسد والمحسود والمجتمع ، وإن مثل هذا التنفير العملي من أقوى أقسام الإرشاد والهداية .. وكذلك بكاء الصديقة الطاهرة والسجاد عليهما‌السلام كان تنفيرا عمليا لأعمال الغاصبين والسفاكين ، وإرشادا إلى عظمة المعزّى له ، الموجب لالتفات الناس حولهم فيستضيئون بأنوارهم ويهتدون بآثارهم.

[٢٠] رجع الأولاد إلى أبيهم وتمت القصة هنا ، لتبتدئ بحال يوسف في الجب ، فقد ذكر المفسرون أن البئر كانت ذات ماء ولما طرحوا يوسف فيها أوى إلى صخرة كانت في ثناياها. وقد روي أن جبرائيل عليه‌السلام هو الذي أخذه ، وشاء الله سبحانه أن يطعمه في البئر ، وهناك بقي ثلاثة أيام (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) أي قافلة تسير كثيرا ، فإن «سيارة» صيغة مبالغة ، والقافلة تسمى بهذا الاسم لسيرها كثيرا في الأرض (فَأَرْسَلُوا) أي أهل السيارة (وارِدَهُمْ) الذي يرد الماء ليستقي منه للقافلة ، حتى يأتي إليهم من تلك البئر ـ التي فيها يوسف ـ بالماء (فَأَدْلى) الوارد (دَلْوَهُ) أي فأرسل دلوه في البئر ليأخذ الماء ، فتعلق يوسف بالدلو. وروي أن جبرائيل عليه‌السلام هو الذي جعل يوسف في الدلو ، بدل الماء ، ولما أن أخرج الوارد الدلو ، رأى غلاما جميلا فيه ، عوض الماء ، فدهش من

قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)

____________________________________

هذه الصدفة العجيبة و (قالَ) لأصحابه : (يا بُشْرى) يا قوم! البشارة (هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) إن القوم لما رأوا يوسف نووا في أنفسهم أن يجعلوه بضاعة يبيعونه في البلد بعنوان أنه عبد (١).

وورد أن الأخوة جاءوا إلى البئر ليروا ماذا صنع بيوسف هل خرج أو هلك؟ وإذا بهم يتلاقون مع السيارة ، فقالوا لهم أنه عبد لنا أبق من المدينة ، ثم باعوه للسيارة ليستريحوا منه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي تعمل السيارة من نيتها جعل يوسف بضاعة. وقيل : في المعنى أمور أخرى ، وما ذكرناه الأظهر منها.

[٢١] (وَشَرَوْهُ) أي باع الأخوة يوسف للسيارة (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) ثمن ناقص مبخوس فيه عشرين درهما ـ كما في جملة من الأحاديث ـ (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) أي قليلة ، وجيء بهذا الوصف لدلالته على القلة ، فإن القلة تعدّ ، أما الكثرة فلا تعد بسهولة (وَكانُوا) كان الأخوة (فِيهِ) أي في الثمن ، أو في يوسف (مِنَ الزَّاهِدِينَ) يقال : «زهد فيه» بمعنى لم يرغب ، فإن الأخوة ما باعوه لقصد الربح حتى يرغبوا في الثمن ، وإنما باعوه للتخلّص منه.

[٢٢] وجاءت السيارة بيوسف إلى مصر ، وهل هناك بيع آخر ، أو كان عزيز مصر هو الذي اشتراه ابتداء؟ احتمالان ، وعلى كل حال فقد صار

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٣٧٢.

وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ

____________________________________

يوسف عليه‌السلام في كنف عزيز مصر ، وقد قالوا : أنه كان كبير الوزراء هناك ، أو كان هو الملك بالذات ، وتوسم العزيز فيه الخير لما رأى على شمائله من آثار الكبر والرفعة (وَ) لذا (قالَ الَّذِي اشْتَراهُ) اشترى يوسف (مِنْ مِصْرَ) من أهل مصر (لِامْرَأَتِهِ) وكانت تسمى «زليخا» (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أي هيئي له مكانا شريفا كريما ، ليكون في راحة ورفاه (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في المستقبل باتخاذه عاملا عندنا في أمورنا ، أو المراد : بيعه والانتفاع بثمنه لأن مثله غالي الثمن (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) على وجه التبنّي. فقد قالوا : أن عزيزا لم يكن له ولد ، كما أنه لم يكن يقدر على إتيان النساء (وَكَذلِكَ) كما أنعمنا على يوسف بالنجاة من كيد الأخوة والخلاص من الجب ، كذلك (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) بما عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه ـ أو الوزير ـ حتى صار بذلك متمكنا من الأمر والنهي ، وصارت له منزلة حسنة ، والمراد ب «الأرض» أرض مصر (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي تفسير الرؤيا ليبلغ المرتبة العالية بواسطة تمكّنه من هذا العلم.

ولعل المراد بذلك النبوة ، وقوله : «ولنعلمه» عطف على المعنى ، أي : دبرنا الأمر ليوسف لنمكنه في الأرض ولنعلمه ، وقد كان التعليم بسبب أنه عف عن الزنا ـ كما قيل ـ (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي على أمر يوسف يحفظه ويهيئ له أسباب الرفاه حتى يوصله إلى السلطة والسيادة ، أو المراد : أن الله غالب على أمر نفسه فمهما شاء من شيء

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ

____________________________________

تمكن منه ، لا يتمكن أحد على دفعه عن مراده ولا يعجزه شيء (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وهذا يناسب المعنى الثاني ، فإن الناس غالبا ينظرون إلى المقدمات التي ألفوها فلا يرون النتائج التي يريدها الله سبحانه ، لكنه تعالى يفعل ما يشاء مما لا يظهر للناس بل يخفى عليهم.

[٢٣] ولهذا بقي يوسف هناك منفردا مكرما (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) بأن اكتمل شبابه وقوته ، و «أشد» جمع لا واحد له ـ كما قيل ـ (آتَيْناهُ) أعطيناه (حُكْماً) حكمة يعرف بها مواضع الأشياء وموارد الأمور ومصادرها ، فكأنه يحكم على الأشياء حسب موازينها اللائقة بها (وَعِلْماً) وهو العلم بالأشياء. ومن المعلوم أن العلم بالشيء غير الحكمة ، فرب عالم غير حكيم ، ورب حكيم غير عالم. ولعل تقديم «الحكم» على «العلم» لما في الحكم من الأهمية ولذا نرى كثيرا من العلماء لا حكمة لهم ، ولذا لا ينجحون في الحياة (وَكَذلِكَ) كما جزينا يوسف عليه‌السلام على صبره وعلى المصائب التي وردت عليه (نَجْزِي) سائر (الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون في العقيدة والعمل. وهل المراد بقوله «آتيناه» الرسالة ، أو زيادة فيها؟ احتمالان.

[٢٤] وإذ قد انتهت مرحلة امتحان يوسف الأولى ، جاء دور المرحلة الثانية ، وقد كانت أصعب من الدور الأول ، وقد جرت سنة الله سبحانه على امتحان الأنبياء بأشق أنواع الامتحان ، حتى يصلوا لأخذ زمام المجتمع ، وينالوا المراتب السامية (وَراوَدَتْهُ

الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ

____________________________________

الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) فاعل «راودت» «التي» والمراد بها «زليخا» زوجة العزيز و «هو» يرجع إلى يوسف ، أي طالبت يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها (عَنْ نَفْسِهِ) كأنها تريد انتزاع نفس يوسف وشبابه وطاقاته الجسمية ، فإن «المراودة» مفاعلة ، بمعنى «الذهاب والإياب» لأجل قضاء الحاجة ، فقد تكررت زليخا في الذهاب إلى يوسف ، لتغريه وتنتزع نفسه منه ، بأن يجامعها ، إشباعا لغرائزها الجنسية.

(وَغَلَّقَتِ) زليخا (الْأَبْوابَ) أبواب القصر لئلّا يأتي أحد فجأة فيكشف مؤامرتها على يوسف ، ولفظة «غلقت» من باب التفعيل تدل على كثرة في الأبواب (وَقالَتْ) زليخا ليوسف : (هَيْتَ لَكَ) أي أقبل وبادر ، فإن «هيت» اسم فعل بمعنى : «هلمّ» و «لك» خطاب ، أي أنت يا يوسف ، يأتي للتأكيد ، كما يقال : «أنت».

وقد يصور هذا المقام الحرج الذي كان يوسف عليه‌السلام عليه ، فشاب عازب ، في قصر مليء بالترف ، وامرأة في سن الاقتضاء ، والأبواب مغلقة ، وتقتضي القاعدة أن قبل ذلك كانت منها إشارات وتطلبات ، والآن أتت الساعة الحاسمة ، بلفظ مكشوف «هيت لك» لكن الإيمان الراسخ في يوسف ضرب بالطلب عرض الحائط (قالَ مَعاذَ اللهِ) أعتصم بالله وأعوذ به أن أرتكب هذه الجريمة (إِنَّهُ رَبِّي) إن الله ربي ، فكيف أخالفه بعد أن (أَحْسَنَ مَثْوايَ) وجعل مكاني مكانا حسنا. ثم أن المراد ب «المثوى» الأصل ، أو المراد : النبوة ، أو المراد : ما هيئ له في بيت العزيز من الكرامة والاحترام. وذكر بعض المفسرين أن

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ

____________________________________

الضمير في «إنه» عائد إلى «زوجها» أي إن سيدي زوجك قد أحسن مثواي فكيف أخونه في زوجته. فإن «الرب» يطلق على السيد المحسن.

(إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الذين يظلمون أنفسهم بالعصيان ، أو يظلمون الغير بالخيانة في عرضه.

[٢٥] إن يوسف لم يهم بالخطيئة ، كيف وقد قال : «معاذ الله» لكن الآية الكريمة تصور الطبيعة البشرية التي تهم بالخطيئة لو لا النبوة والعصمة (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أي همت زليخا وقصدت الخطيئة بيوسف (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي لكان هم ، لو لم يكن برهان الله يرعى يوسف ، بكونه نبيا معصوما. وهكذا كما تقول : «قصد فلان قتلي وقصدت قتله لو كنت جاهلا».

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «البرهان : النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش ، والحكمة الصارفة عن القبائح» (١).

وحاصل المعنى : أن يوسف لو لا النبوة لكان همّ بها ، لكن النبوة منعت عن ذلك لأن المعصوم لا يهم بالخطيئة (كَذلِكَ) أريناه البرهان وحفظناه بالنبوة والعصمة (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) كل أقسام السوء ، فإن العصمة ملكة لا تدع المتصف بها يفعل شيئا مهما كان (وَالْفَحْشاءَ)

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٣٣٥.

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي

____________________________________

ركوب الفاحشة ، والمراد بها الزنا (إِنَّهُ) إن يوسف عليه‌السلام (مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ـ بصيغة المفعول ـ أي الذين أخلصناهم عن الزيف والعصيان ، واخترناهم للنبوة والطهارة.

[٢٦] إن زليخا همت بأخذ يوسف للخطيئة ويوسف هم بالفرار منها وتوجه كل منهما نحو الباب (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تبادر كل من يوسف وزليخا نحو باب الغرفة ، من «استبق» بمعنى السبقة ، وقد كان التوجه إلى الباب أولا من يوسف حيث أراد الهروب والفرار (وَ) أخذت زليخا قميص يوسف لتجرّه نحوها ف (قَدَّتْ) أي شقت (قَمِيصَهُ) أي قميص يوسف (مِنْ دُبُرٍ) أي من خلف يوسف ، لأنها أخذت بالقميص من خلفه (وَأَلْفَيا) من «ألفى» بمعنى «وجد» ، أي وجدت زليخا ويوسف (سَيِّدَها) أي زوج زليخا ، وهو «العزيز» (لَدَى الْبابِ) أي قرب الباب ، وهنا سقط في يد زليخا ، وتحيّر يوسف ماذا يصنع ، لأن المنظر كان مريبا.

وهنا بادرت زليخا لتبرير نفسها (قالَتْ) مخاطبة زوجها : (ما) نافية ، أي ليس (جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ) زوجتك (سُوءاً) عملا قبيحا (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) يحبس (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بأن يضرب بالسياط أو نحو ذلك.

[٢٧] (قالَ) يوسف عليه‌السلام : (هِيَ) أي زليخا هي التي (راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)

وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ

____________________________________

أي طالبتني بالسوء (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) أهل المرأة. روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : «ألهم الله عزوجل يوسف أن قال للملك : سل هذا الصبي في المهد ، فإنه يشهد أنها راودتني عن نفسي. فقال العزيز : الصبي؟ فأنطق الله الصبي في المهد ليوسف».

أقول : قال بعضهم : أن الابن كان له من العمر ثلاثة أشهر ، وكان ابن أخت زليخا ، وكانت الشهادة أن قال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) أي ثوب يوسف عليه‌السلام (قُدَّ) أي شقّ (مِنْ قُبُلٍ) من مقدّمه (فَصَدَقَتْ) زليخا (وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي أن يوسف كاذب ، إذ يظهر أن يوسف أراد المرأة وهي أخذت بثوبه لتدفعه عن نفسها فانشق القميص ، أو لأنه يدل أن المرأة فرّت ويوسف عقبها فتعثر بثوبه من الأمام وانشق الثوب من قدام.

[٢٨] (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) إن كان ثوب يوسف شقّ من الخلف (فَكَذَبَتْ) تبيّن كذب زليخا (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيدل على أن المرأة هي التي راودت يوسف وأنه أراد الفرار ، لأنه يدل على أن المرأة تبعت يوسف وأخذت بثوبه من خلف ، فانشق الثوب لجذبها له.

[٢٩] فالتفت الزوج إلى القميص ولما (رَأى قَمِيصَهُ) أي ثوب يوسف عليه‌السلام (قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي شقّ من خلف ، عرف أن المرأة هي التي

قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ

____________________________________

خانت وأرادت السوء (قالَ) متوجها إلى زليخا (إِنَّهُ) أي هذا العمل الذي رأى آثاره (مِنْ كَيْدِكُنَ) وحيلكن معاشر النساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) تعملن الأعمال السيئة ، ثم تلقين التهم على البريء.

[٣٠] ثم توجه السيد إلى يوسف عليه‌السلام قائلا : يا (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الحديث واكتمه فلا تفشه (وَاسْتَغْفِرِي) يا زليخا (لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أنت أذنبت لا يوسف عليه‌السلام. قال «من الخاطئين» ولم يقل «من الخاطئات» تغليبا ، كما قال : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (١) ، وكان ذلك لأن أول ما يتبادر إلى الذهن الرجال ، سواء في الإطاعة والعصيان ، أو غيرهما.

[٣١] ثم لم يمض زمان حتى شاع هذا الأمر في البلد وأن زليخا قصدت يوسف بالسوء (وَقالَ نِسْوَةٌ) أي جماعة من النساء. وإنما ذكر الفعل لأنه يجوز في الجمع مذكرا كان أو مؤنثا الأمران ، تقول «قال وقالت رجال» ، وكذا «قال وقالت نساء» ، باعتبار اللفظ والمعنى ، كما أن «قالت» باعتبار جماعة الرجال ، قال ابن مالك :

والتاء مع جمع سوى السالم

من مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

(فِي الْمَدِينَةِ) في مصر ، وكان ذكر هذه الجملة لإفادة أن الخبر

__________________

(١) آل عمران : ٤٤.

امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ

____________________________________

شاع في البلد ، ولو لم تذكر لاحتمل أن ذلك قول نسوة القصر ، فقد قلن تلك النسوة على وجه التعجّب والاستغراب : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي تدعو مملوكها إلى نفسه ، فتريد أن تسلب نفس المملوك ، ليفجر بها (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) دخل حب الفتى في شغاف قلبها ، فإن «الشغاف» هو حجاب القلب ، يقال : «شغف زيد عمرو حبا» أي خرق حب زيد شغاف قلب عمرو ، وفاعل شغفها الضمير الراجع إلى يوسف عليه‌السلام (إِنَّا لَنَراها) نرى امرأة العزيز (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) انحراف عن نهج الصواب واضح ، إذ كيف تتعلق المرأة ذات البعل بعبدها.

[٣٢] (فَلَمَّا سَمِعَتْ) زليخا (بِمَكْرِهِنَ) أي تعيير تلك النسوة لها بحب يوسف. وإنما سمي «مكرا» لأن قصدهن من هذا القول كان أن يرين يوسف لما وصف لهن منه حسنه ـ كذا في «المجمع» ـ. وقيل : لأنهن أخفين التعيير كما يخفي الماكر مكره (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) تطلبهن للضيافة عندها (وَأَعْتَدَتْ) هيأت (لَهُنَّ مُتَّكَأً) هو ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث ، أي هيأت لهن مأدبة وقد كان العادة أن يأكلوا الطعام وهم متكئون على الوسائد ـ كما هو عادة أهل الترف ـ (وَآتَتْ) أعطت زليخا (كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) لقطع اللحم ، أو تقشير الفاكهة كما هي العادة الجارية إلى هذا الزمان (وَقالَتِ) زليخا ليوسف حين اشتغلن بالتقشير أو التقطيع : (اخْرُجْ) يا يوسف

عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ

____________________________________

(عَلَيْهِنَ) أمرته بذلك ليرين جماله فلا يعذلنها في ما قصدته منه فخرج عليه‌السلام حيث كان بصورة مملوك مطيع لديها ولما (رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي أعظمنه وتحيّرن في جماله ، فقد كان خارق الحسن والجمال (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) بتلك السكاكين ، بدل تقطيع اللحم أو الفاكهة ، على جهة الخطأ ، فقد بعثت دهشتهن بجماله أن لم يلتفتن إلى صنعهن ، والمراد بالقطع ـ حسب الظاهر ـ الجرح والخدش ، يقال : «فلان قطع يده بالسكين» إذا جرحها وخدشها.

(وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) وهي كلمة تنزيه تقال في موضع الدهشة والعجب ، لبيان الدهشة في صنعه سبحانه ، وأصل «حاش» «حاشا» حذفت الألف تخفيفا ، بمعنى التنزيه ، و «لله» جار ومجرور متعلق به ما هذا الذي نراه ، أي يوسف عليه‌السلام (بَشَراً) «ما» تعمل عمل ليس ف «هذا» اسمها ، و «بشرا» خبرها ، أي ليس هذا كالبشر ، فإن هذا الجمال الخارق لا يوجد في البشر (إِنْ هذا) ما هذا (إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) رفيع المنزلة عند الله سبحانه ، ذو كرامة ، وإلّا لم يمنحه هذا الجمال.

[٣٣] (قالَتْ) زليخا بعد أن رأت أنها فازت عليهن وأنهن أعطين الحق لها فيما قصدت من السوء بيوسف : (فَذلِكُنَ) «ذا» إشارة إلى يوسف ، و «كن» خطاب لهن ، أي فهذا يوسف ـ أيتها النسوة ـ هو (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) من «لام» بمعنى «عذل» أي عذلتنني بالنسبة إليه ، قائلات كيف أن امرأة العزيز تراود فتاها؟ ثم قالت زليخا ، وقد بقي لها تعلق

وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ

____________________________________

به : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) أي طلبت نفس يوسف (فَاسْتَعْصَمَ) أي لاذ بالعصمة والامتناع (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) بعد ذلك (ما آمُرُهُ) من الفعل (لَيُسْجَنَنَ) أي ليحبس في السجن ، فإني أكيد به حتى أوقعه في السجن (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) الصاغر هو الذليل ، من الصفات ، أي لأذله حتى يكون ذليلا.

[٣٤] ولما رأى يوسف عليه‌السلام إصرارها على الخطيئة به اختار السجن لنفسه الشريفة عن الآثام ، وليخلص من التذبذب والاتهام ، ف (قالَ) : يا (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من الفاحشة ، وفي الإتيان بلفظ «يدعونني» دلالة على أن تلك النسوة أيضا طمعن فيه.

وقد روي عن الإمام السجاد عليه‌السلام : «أن النسوة لما خرجن من عندها أرسلت كل واحدة منهن إليه سرا من صاحبته تسأله الزيارة لها» (١).

ولا يخفى أن «أحب» هنا مجرد عن معنى التفضيل ، كما هو القاعدة في أمثاله كقوله : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) (٢) ، و ((أَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣) ، (وَإِلَّا تَصْرِفْ) يا رب (عَنِّي كَيْدَهُنَ) بالعصمة والحفظ (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) يقال : «صبا يصبو» ، إذا مال نحو الشهوة الجنسية ، من

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٧٥.

(٢) الكهف : ٤٥.

(٣) النساء : ٦٠.

وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)

____________________________________

«الصبوة» وهي لطافة الهوى ، أي : أمل إلى تلك النساء. ومن المعلوم أنه لو لا لطف الله وعصمته تميل النفس البشرية إلى الشهوات (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) يقال للعاصي : جاهل ، وإن كان عالما ، لأنه لو لم يجهل حقيقة لم يعرض نفسه لعقاب الله سبحانه.

[٣٥] (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) أجاب الله دعاء يوسف (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) فقد عصمه سبحانه حتى أنه لم يكن يتزحزح عن الطهارة ولو أصيب بالأذى وسجن ، كما ألقى اليأس في قلب زليخا والنسوة لامتناع يوسف عن الفاحشة (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ السَّمِيعُ) لداعي الداعي (الْعَلِيمُ) بالنيات.

[٣٦] (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) ظهر للعزيز وزوجته وأصحابهما (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) الدالة على براءة يوسف عليه‌السلام (لَيَسْجُنُنَّهُ) فإن زليخا خدعت زوجها بأن يسجن يوسف حتى يظن الناس أنه المجرم وحتى تشفي زليخا غيظها منه حيث لم يطعها في الفاحشة (حَتَّى حِينٍ) إلى مدة حتى تخمد الضوضاء ، وينسى الناس القصة.

[٣٧] وسيق إلى السجن يوسف البريء عليه‌السلام وأخذت المرأة المجرمة تسرح وتمرح ـ كما هو عادة الدنيا ـ روي عن الإمام الرضا عليه‌السلام : أن السجان قال ليوسف : إني لأحبك. فقال يوسف : ما أصابني إلا من الحب ، إن كانت خالتي أحبتني سرقتني ، وإن كان أبي أحبني حسدني إخوتي ،

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)

____________________________________

وإن كانت امرأة العزيز أحبتني حبستني (١).

وروي عن الصادق عليه‌السلام : أن يوسف بكى على يعقوب حتى تأذى منه أهل السجن فقالوا له : إما أن تبكي الليل وتسكن بالنهار وإما أن تبكي بالنهار وتسكن بالليل على واحد منهما (٢).

(وَدَخَلَ مَعَهُ) مع يوسف (السِّجْنَ فَتَيانِ) شابان ، وكانا عبدين للملك أحدهما خبازه والآخر صاحب شرابه. وفي ذات يوم جاءا إلى يوسف يبيّنان له رؤيا رأياها ـ بزعمهما ـ ف (قالَ أَحَدُهُما) وهو صاحب الشراب : (إِنِّي أَرانِي) أرى نفسي في المنام (أَعْصِرُ خَمْراً) أي أعصر العنب لصنعه خمرا ، فقد سمي العنب بذلك بعلاقة الأول ، كما يقال : «فلان يطبخ الدبس» وإنما يطبخ التمر ليكون دبسا (وَقالَ الْآخَرُ) وهو خباز الملك : (إِنِّي أَرانِي) أرى نفسي في المنام (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) من ذلك الخبز.

ثم قال الفتيان ليوسف : (نَبِّئْنا) أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ) ما يؤول إليه منامنا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الذي يحسن إلى الناس. ومن المعلوم إن الإنسان المحسن يتوسّم فيه الخير في كل شيء حتى في تأويل الرؤيا وتعبير المنام ، أو المراد تحسن تعبير الرؤيا.

قال الصادق عليه‌السلام : لما أمر الملك بحبس يوسف في السجن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ ص ٢٤٧.

(٢) إرشاد القلوب : ج ١ ص ٩٥.

قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ

____________________________________

ألهمه الله تعالى علم تعبير الرؤيا فكان يعبر لأهل السجن رؤياهم (١).

أقول : وكأن ذلك العلم صار شعارا لمن منع نفسه عن الشهوة الجنسية ، فقد قالوا : أن ابن سيرين كان تلميذا عند بزاز وكان جميلا جدا وفي ذات يوم جاءت امرأة واشترت من البزاز أجناسا ثم حمّلتها الفتى ليأتي بها إلى بيتها ، ولما أن دخلا الدار أغلقت الباب وقالت : هيت لك. قال ابن سيرين ـ لما لم يجد حيلة للفرار منها ـ : ائذني لي بالبراز لأقضي حاجتي ثم بعد ذلك أنت وشأنك. ولما أن دخل المرحاض لوث نفسه بالنجاسة ، فلما خرج ورأته المرأة بتلك الحالة عافته استقذار له ، ومن ذلك الحين وهب الله له علم الرؤيا.

[٣٨] وهنا أراد يوسف عليه‌السلام أن يرشد الفتيين إلى الطريقة الصحيحة كما هو عادة الأنبياء والمرشدين حتى ينتهزوا كل فرصة لنشر الدين وتبليغ رسالة الله سبحانه ، وقد أراد أن يقدم لذلك مقدمة مطمئنا بصحة ما يدعو إليه ، فإن غالب الناس إذا رأوا من أحد خارقة أو ما أشبهها اطمأنوا إليه وصدقوا كلامه ، بخلاف ما لو كان الكلام مجرد منطق ودليل ، فإن الناس ينظرون إلى القائل لا إلى القول.

ولذا بدأ يوسف يبين لهم أنه يعرف بعض أمور الغيب بتعليم الله له ، فبإمكانه أن يخبر عن الطعام الذي يؤتى به لهما قبل أن يؤتى به ف (قالَ لا يَأْتِيكُما) أيها الفتيان (طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) لأجل أكلكما ورزقكما (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) آتي بصفة ذلك الطعام وسائر خصوصياته ، وإنما قال «بتأويله» لأن الطعام يؤول إلى تلك الصفة ، فمثلا اللحم المعد للطعام يؤول إلى «الكباب» أو «المرق» أو ما أشبههما ، وقد لوحظ في

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ ص ١٧٦.

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ

____________________________________

اللفظ ـ الجناس ـ حيث تقدم لفظ «التأويل» بالنسبة إلى الرؤيا ، وقد كان عيسى عليه‌السلام كذلك كما قال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (١).

(قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) التأويل (ذلِكُما) أي ذلك التأويل للأشياء الغائبة عن الحواس ، و «كما» خطاب ، أي أن التأويل أيها الفتيان (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ومن هذا الباب تطرق إلى ذكر الرب ، ليتسنى له الشرح حوله (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي رفضت فراعنة مصر الذين يتخذون الأصنام آلهة ، أي أني تركت هذه الملة. وليس معنى «تركت» كونه عليه‌السلام فيها ، ثم تركها ، بل معناه : عدم قبولها ورفضها من الابتداء ، فإن الفعل يستعمل في المعنيين (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) فلا يؤمنون بمبدإ ولا معاد ، وحيث تركت تلك الملة ألهمني الله الغيب وتأويل الرؤيا.

[٣٩] (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) و «الملة» هي الطريقة الدينية ، يقال : «ملة اليهود» و «ملة النصارى» ولا يقال : ملة العطارين (إِبْراهِيمَ) جد أبيه (وَإِسْحاقَ) جده (وَيَعْقُوبَ) أبيه ، وبذلك بيّن عليه‌السلام أنه من بيت النبوة والطهارة حتى يكون كلامه مسموعا لديهم. فقد جرت عادة الناس أن يسمعوا من ذوي البيوتات والشرف أصحاب الحسب

__________________

(١) آل عمران : ٥٠.

ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ

____________________________________

والنسب ، وكان إبراهيم عليه‌السلام مشهود لدى الجميع ، ولعل إسحاق ويعقوب كان كذلك (ما كانَ لَنا) أي لا يجوز لنا معاشر الأنبياء ، أو المراد عموم البشر ، أي لا يحق للبشر (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) غيره باتخاذ الأصنام آلهة ، وكيف يجوز للبشر أن يكفر بخالقه ويجعل له أندادا؟ (ذلِكَ) التمسك بالتوحيد والبراءة من الشرك (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) حيث هدانا إلى ذلك وأوحى إلينا به (وَعَلَى النَّاسِ) حيث هداهم بسبب الفطرة والأنبياء. ولعل سبب ذكر «علينا» مستقلا ، لاختصاصهم بالنبوة والوحي (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة العظيمة ، وهي نعمة الهداية ، بل يكفرون بها باتخاذ الأصنام آلهة.

[٤٠] وبعد ما بيّن عليه‌السلام طريقته وملته ، وذكر أنه من بيت رفيع وأنه يعلم بعض أمور الغيب بتعليم الله له حتى يطمئن إليه ، أخذ في الاستدلال على التوحيد ، وقد كان الموقع مناسبا جدا للتبليغ ، فإن المستمع حيث ينتظر جوابه يصغي جيدا ، بخلاف ما لو أجابهم عن تأويل رؤياهم ثم بيّن التوحيد ، وحيث قدم له مقدمة صار الموقع أنسب ، لأنه بين ماض مشوّق ومستقبل متقرب ، فالنفس متفتحة للاستماع والقبول (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أي يا صاحبي فيه ، فإن الشيء قد يضاف إلى الزمان والمكان مجازا ، كما قال الشاعر :

يا سارق الليلة أهل الدار

يا سارقا مالي ومال جاري

أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ

____________________________________

أو المراد «ملازمي السجن» فإن «صاحب» يقال للملازم للشيء ، يقال : «صاحب الدكان» لمن لازمه بالبيع والشراء فيه .. وهكذا. (أَأَرْبابٌ) أي هل آلهة (مُتَفَرِّقُونَ) شتى متعدّدون (خَيْرٌ) في اتخاذها آلهة وعبادتها ، بأن يعبد الإنسان آلهة من حجر وخشب (أَمِ اللهُ الْواحِدُ) المتفرد الذي خلق كل شيء ، وبيده كل شيء (الْقَهَّارُ) الغالب الذي لا يعادله شيء ولا يتمكن شيء أن يقاومه؟ ومن الطبيعي أن يكون الجواب : بل الله الواحد القهار.

[٤١] (ما تَعْبُدُونَ) أنتم أيها المشركون (مِنْ دُونِهِ) من دون الله (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) أي أسماء الآلهة لا حقيقة الإله ، فإن ما تعبدون إنما هي أسماء فارغة لا حقيقة لها في منصب الألوهية ، كما يقال : «الحاكم الفلاني اسم مجرد» يراد أنه ليس بحقيقة حاكم ، وليس لديه علم الحاكم وإرادته (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) بدل من ضمير الجمع ، فأنتم وآباؤكم إنما تعبدونها باعتبار أسماء تطلقون عليها ، فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) بتلك الآلهة ، أو بأسمائها (مِنْ سُلْطانٍ) من حجة ، أي لا حجة لكم في كونها آلهة ، إذ الحجة لا بد أن تكون معقولة ، والعقل يأبى أن ينحت الإنسان حجرا أو ينجر صنما ثم يقول إنه إله الكون ، والله سبحانه لم يقل ذلك ولم ينزل بذلك دليلا. ولعل ترك الدليل العقلي إنما هو لوضوحه ، ولأنهم كانوا ينسبون ذلك إليه سبحانه.

إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ

____________________________________

(إِنِ الْحُكْمُ) ليس الحكم والأمر والنهي (إِلَّا لِلَّهِ) فكيف يعبد سواه؟ إذ العبادة خاصة بمن له الحكم والأمر والنهي ، لأن العبادة خضوع ، والخضوع لا يليق إلا أمام الحاكم الآمر والناهي ، وقد (أَمَرَ) سبحانه (أَلَّا تَعْبُدُوا) أحدا (إِلَّا إِيَّاهُ) وحده لا شريك له.

ولعل «إن الحكم» و «أمر» إشارة إلى مرتبتين من التوحيد. فقد قالوا إن التوحيد على أربعة أقسام : توحيد الذات ، بأن يعتقد الإنسان أن الإله واحد لا شريك له ، وتوحيد الصفات ، بأن يعتقد الإنسان أن صفات الله عين ذاته لا تعدّد فيها ولا مغايرة ، وتوحيد الخلق ، بأن يعتقد الإنسان أن جميع الخلق إنما هو منه وحده لا يشاركه فيه أحد ، وتوحيد العبادة ، بأن لا يعبد الإنسان أحدا إلا إياه.

(ذلِكَ) التوحيد (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي الطريقة المستقيمة ، فإن «الدين» بمعنى الطريقة ، و «القيم» بمعنى المستقيم ، مشتق من «قام» ، لا اعوجاج فيه ولا انحراف (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إن هذا هو الدين القيم ، وإن سواه معوج منحرف.

[٤٢] وإذ أتم يوسف عليه‌السلام الإرشاد والتبليغ ، شرع في جواب سؤال صاحبيه من الرؤيا ، فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) أصله «صاحبين» حذفت النون لإضافته إلى السجن ، كما هو القاعدة ، قال ابن مالك :

نونا تلي الإعراب أو تنوينا

مما تضف أحذف كطور سينا

أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)

____________________________________

(أَمَّا أَحَدُكُما) وهو ساقي الملك الذي رأى أنه كان يعصر خمرا ، فيخرج من السجن ويصير حاله كحاله السابق (فَيَسْقِي رَبَّهُ) أي سيده الملك (خَمْراً) كما كان يسقي من ذي قبل. وفي بعض التفاسير : أنه أخبر بأن بقاءه في السجن ثلاثة أيام ويخرج اليوم الرابع.

وإنما قال «ربه» لأن الرب يطلق على الصاحب ، يقال : «رب الدار» و «رب الدابة».

(وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الخباز الذي زعم أنه رأى خبزا على رأسه تأكل الطير منه (فَيُصْلَبُ) أي يشنق فيموت (فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ) تأنيث الفعل ، باعتبار كون الطير اسم جنس يطلق على الجماعة من الطائر (مِنْ رَأْسِهِ) أي من دماغه. في الحديث : إن الخباز كان كاذبا في ما ادعى من الرؤيا ولم يكن رأى شيئا في منامه وإنما اختلق ذلك. وفي بعض التفاسير : لما قال يوسف ذلك ، قال الرجل : كذبت وما رأيت شيئا ، وإنما كنت ألعب (١).

فقال يوسف عليه‌السلام : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي فرغ من الأمر الذي تسألان وتطلبان معرفته ، وما قلته لكما فإنه نازل بكما وكائن لا محالة ، و «الاستفتاء» طلب الفتيا ، أي الجواب في مسألة متعلقة بالدين أو الدنيا ، وقد كان الواقع الذي سوف يجري على الخباز

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٥ ص ٤٠٤.

وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)

____________________________________

من خلال شعاعه في دماغه ، فاخترع هذه الرؤيا المكذوبة ، ويوسف عليه‌السلام إنما نظر إلى الواقع فأخبره به ـ وكان ذلك من علم الغيب لا من تفسير الرؤيا ـ.

[٤٣] (وَقالَ) يوسف عليه‌السلام : (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) أي للعاصي الذي ظن يوسف عليه‌السلام أنه ينجو من السجن والقتل ، من صاحبيه ، ولعل التعبير ب «ظن» لإمكان محو ما علم في علمه سبحانه فإن الأمور المستقبلة ـ إلا بعضها ـ قابلة للمحو ، قال سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) ، (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي اذكر حالي عند الملك وإني إنما حبست ظلما ، لكي يفرج عني ويطلق سراحي فلما تحقق ما قاله يوسف وأن صاحب الشراب تخلّص من السجن ، وأن الخباز صلب (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي أنسى الشيطان صاحب الشراب أن يذكر يوسف لربه الملك (فَلَبِثَ) يوسف (فِي السِّجْنِ) بقي فيه (بِضْعَ سِنِينَ) «بضع» كلمة بمعنى «ما دون العشرة» ، وأصله بمعنى «القطعة» من الدهر ، أو من غيره. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاطمة بضعة مني» (٢).

[٤٤] بقي يوسف سنوات في السجن ، وساقي الملك ناس ، مشغول

__________________

(١) الرعد : ٤٠.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٠ ص ٦٧.

وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣)

____________________________________

بملهيات القصر ـ وكذلك ينسي الرخاء الإنسان زميله الذي يكابد البلاء ـ حتى رأى الملك رؤيا هالته فطلب معبّرا لذلك. وهناك تذكر الساقي يوسف السجين الذي عبّر رؤياه من ذي قبل ، وشاءت إرادة الله سبحانه إنقاذ يوسف في ذلك الحين ، وقد كان السجن والجب وكيد المرأة وحسد الأخوة امتحانات له ولرفع درجته ، فقد وكّل البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى) في منامي. وكأنه حكاية حال ما ماضية ، وإلا فاللازم أن يقول إني رأيت (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) جمع «سمين» ضد هزيل (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) أي سبع بقرات كن هزيلات ، و «عجاف» جمع «أعجف» وهو الهزيل ومؤنثه «عجفاء» ، فقد أكلت البقرات الهزال البقرات السمان حتى دخلن في بطن الهزال (وَ) أرى (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) و «السنبلة» هي العود الذي تنبت عليه حبوب الحنطة والشعير وما أشبه (خُضْرٍ) جمع «خضراء» ، أي قد انفتق حبها وكانت رطبة (وَ) سبع سنبلات (أُخَرَ يابِساتٍ) قد حصدت فالتوت تلك اليابسات على تلك الخضر حتى غلبن عليها.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي الجماعة الأشراف ، فإن الملأ هم الأشراف (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) أي أجيبوا عن هذه الرؤيا وعبّروها لي (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي إذا كنتم تعرفون التعبير. وسمي تأويل الرؤيا تعبيرا يعبر بالإنسان من هذا الجانب ـ وهو جانب ظاهر الرؤيا ـ إلى ذلك

قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)

____________________________________

الجانب ـ وهو جانب باطنه وأوله ـ مأخوذ من «العبور» من شاطئ النهر إلى الشاطئ الآخر.

[٤٥] (قالُوا) أي قال الملأ في جواب الملك : إن رؤياك (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) «أضغاث» جمع «ضغث» ، وهي قبضة الحشيش المختلط رطبها بيابسها ، و «أحلام» جمع «حلم» وهو المنام ، أي إن هذه الرؤيا إنما هي أحلام مختلطة لا يعرف تأويلها ، فكأنها إن كانت على وجه واحد عرف التأويل لها ، أما إذا اختلطت ، سمان وعجاف ، حيوان ونبات ، وتغلب الأضعف على الأقوى ـ بعكس القاعدة ـ فلا يعرف تأويلها (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هي من هذا القبيل (بِعالِمِينَ) وقد كان قولهم : «أضغاث أحلام» كمعذرة قدّموها إلى الملك ، نسبة لعدم علمهم بتأويلها.

[٤٦] (وَقالَ) الساقي (الَّذِي نَجا مِنْهُما) من السجن ـ كلا الساقي والخباز ، اللذين سجنا مع يوسف ـ (وَادَّكَرَ) أصله «ذكر» ولما جيء إلى باب الانتقال ، صار «اذتكر» ، فأبدلت التاء دالا ، فصار «اذدكر» ، وأدغمت الذال في الدال لقرب مخرجهما ، فصار «ادّكر» ، أي : وتذكّر قصة يوسف عليه‌السلام (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي بعد مدة ، فإن «الأمة» بمعنى الجماعة ، سواء كانت من الناس أو غيرهم أو من الزمان ، أو نحوه ، كأنه من «أمّ» بمعنى قصد ، فكأن الجماعة يدخل بعضها في بعض ويقصد بعضها بعضا (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِتَأْوِيلِهِ) أي تأويل هذه الرؤيا (فَأَرْسِلُونِ)

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ

____________________________________

أي : فأرسلوني إلى يوسف ليأتي ويخبركم هو بتأويل الرؤيا ، أو : فأرسلوني إلى يوسف لأسأله تعبيرها وأخبركم بالجواب.

فقد قال للملك : إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير الطاعة ، قد قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما ، فصدق في الكل ولم يخطئ ، فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب منه. فأذن له الملك ، وجاء إلى يوسف عليه‌السلام ليخبره بتعبيرها ، قائلا :

[٤٧] يا (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) الكثير الصدق فيما تخبر به ، وإنما وصفه بهذا الوصف لأنه رأى صدقه في تأويل رؤياه ، ورؤيا زميله الخباز (أَفْتِنا) أي أعطنا الجواب (فِي) هذه الرؤيا (سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) وكان تقديم السمان ، مع أن مقتضى القاعدة أن يقول : «سبع بقرات عجاف يأكلن سبع سمان» ، لأجل إفادة أنه رأى السمان قبل العجاف ، كما أن التأويل أيضا كذلك ، فقد تقدمت السنين الخصبة (وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) تلتف عليها (وَ) تغلبها (أُخَرَ يابِساتٍ) فما تأويل هذه الرؤيا (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) الملك وحاشية (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) التفسير ، أو لعلهم يعلمون فضلك فينقذوك من السجن. وإنما قال : «لعلي» لأن الإنسان يحتمل حيلولة الموت بينه وبين ما يقصده من المقاصد المستقبلة.

[٤٨] (قالَ) يوسف عليه‌السلام في جواب الساقي : أما البقرات السبع العجاف

تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ

____________________________________

والسنابل اليابسات فهن السنون الجدبة ، وأما البقرات السبع السمان والسنابل السبع الخضر فإنهن سبع سنين مخصبات ذوات نعمة.

أقول : كأن البقر والسنابل إشارتان إلى المأكل ، فإن الزرع والضرع من البقر والسنبل وجنسهما ، فقد أخبر عليه‌السلام بأن سبع سنين تكون مخصبة ثم تأتي سبع سنوات مجدبة يأكل الإنسان ما ادّخر في المخصبة ، ولذا التوت السنابل اليابسة على الخضر ، وأكلت البقرات الهزال البقرات السمان.

ثم بيّن يوسف عليه‌السلام ما ينبغي لهم أن يعملوا تجاه هذا القحط الذي سيأتيهم بعد سبع سنين من الخصب ، فقال : (تَزْرَعُونَ) «خبر في معنى الإنشاء» ، أي ازرعوا (سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي متوالية بجهد وجد ، أو بمعنى «على دأبكم وعادتكم في الزراعة» ، فإن «دأب» يأتي بالمعنيين (فَما حَصَدْتُمْ) من الزرع الذي هو أكثر من كفايتكم (فَذَرُوهُ) أي دعوه (فِي سُنْبُلِهِ) لا تدوسوه ، بل اتركوه ليبقى أكثر ، ولئلّا يسرع إليه الفساد ، فإن الحبوب في سنبلها تبقى أكثر مدة (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) مما تحتاجون في نفس السنة ، فادخروه لأكلكم وحوائجكم.

[٤٩] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) السبع سنين الخصبة (سَبْعٌ) من السنين (شِدادٌ) جمع «شديد» ، أي سنوات قحط وجدب صعاب على الناس تشتد عليهم لعدم الأكل والزرع والضرع (يَأْكُلْنَ) أي تلك السنوات الشدائد (ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) ما أبقيتم من الحبوب ، لأجل تلك السنوات.

إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)

____________________________________

وإنما قال : «يأكلن» ليطابق رؤيا الملك «يأكلهن سبع عجاف» ومثل هذا التعبير شائع في المجاز ، قال : «أكل الدهر ما جمعت ومالي».

حكى في المجمع : عن زيد بن أسلم أن يوسف عليه‌السلام كان يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ، حتى كان ذات يوم قربه إليه فأكله كله ، فقال : هذا أول يوم من السبع الشداد.

أقول : ولا بعد في ذلك ، فإن الهواء من القحط ـ غير المصطنع ـ يتغير ويتطلب الجفاف والفناء ، فما يصيب الأرض ، يصيب الحيوان والإنسان.

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) استثناء من «يأكلن» أي أن السبع الشداد تنفق فيها جميع السنابل المحرزة إلا مقدار قليل مما أحصنتم وحفظتم فإنه يبقى ليكون بذرا للرخاء الذي يأتي بعد سنيّ القحط السبع.

[٥٠] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الذي ذكرنا من الأعوام الشداد (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) يمطرون ، فإن الغيث بمعنى المطر (وَفِيهِ) أي في ذلك العام (يَعْصِرُونَ) ما اعتادوا عصره من أنواع الفواكه في أوقات الخصب والرخاء كالعنب وغيره. وهذا يدل على شدة الخصب حتى أن الناس يتأنقون في المأكل والمشرب. ولعل الإتيان بهذه اللفظة بمناسبة كون الرجل السائل كان الساقي العاصر للملك ، وقد كان هذا إخبارا من يوسف عليه‌السلام بعلم الغيب خارجا عن المنام ، لأن رؤيا الملك اشتملت على السبع الشداد ، أما ماذا يكون بعدها ، فلم يكن في الرؤيا.

وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)

____________________________________

[٥١] ثم أن الساقي بعد ما علم التعبير من يوسف جاء الملك وأخبره أن الرجل السجين يقول هكذا في تعبير رؤياك (وَ) حينئذ (قالَ الْمَلِكُ) لمن حواليه (ائْتُونِي بِهِ) جيئوا إليّ بالسجين الذي عبّر الرؤيا (فَلَمَّا جاءَهُ) جاء يوسف (الرَّسُولُ) من قبل الملك ليخرجه من السجن ، أبى يوسف عليه‌السلام الخروج حتى تتبيّن براءته من التهمة التي قذفته بها زليخا وأنه أراد بها سوءا ، ف (قالَ) يوسف للرسول : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) سيدك الملك (فَسْئَلْهُ) أي اسأل منه (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي يتعرف الملك على حال تلك النسوة اللاتي قطّعن أيديهن بالسكاكين لمّا رأينني. وإنما خصهن بالذكر لأنهن كن شاهدات على زليخا أنها دعت يوسف إلى الفاحشة ، فقد سبق أنها قالت لهن : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ). ومعنى «ما بال» أي ما شأنهن من تلك القصة.

في بعض الأحاديث : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر التعجب لأمرين من قصة يوسف ، الأول : أنه عبّر رؤيا الملك بدون أن يشترط ذلك على خروجه من السجن. الثاني : أنه لم يخرج من السجن بعد الأمر بإطلاقه حتى تظهر براءته.

أقول : لعل يوسف لم يذكر امرأة العزيز تأدبا ، أو لأنه علم أنها لا تعترف بأنها صاحبة الجريمة ، بخلاف سائر النساء ، وكان ذكر «قطّعن أيديهن» لأنه خير مذكّر لهن بالقصة.

(إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فهو سبحانه العالم بأنهن قد كدن

قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ

____________________________________

ومكرن ـ وإنما سمي كيدا ، لأن أمرهن كان في خفاء ـ وإني بريء من القذف والتهمة.

[٥٢] ثم إن الرسول رجع إلى الملك ، وقال له ما طلبه يوسف عليه‌السلام ، فأرسل الملك إلى النسوة ودعاهن ، وقال لهن : ما شأنكن مع يوسف؟ وما تعلمون من قصته وقصة زليخا؟ (قالَ) الملك لهن : (ما خَطْبُكُنَ) أي ما شأنكن (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) أي طلبتن انتزاع نفس يوسف ودعوته إلى أنفسكن ، فهل كان مائلا إلى ذلك؟ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) أي تنزيها لله ، وأصله «حاشا» حذف الألف تخفيفا ، وهي كلمة تقال في موارد ، منها : في مقام تبرئة المتهم ، كأنه تعجّب من قدرة الله على خلق بشر عفيف وبريء مثله (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) فإنه بريء لم يكن مائلا إلى الشهوة وإنما نحن كن مجرمات. ولفظ «عليه» كأنه بسبب أن السوء يركب على المجرم.

وكأن امرأة العزيز «زليخا» كانت من جملة النساء اللاتي استجوبهم الملك ف (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي ظهر الحق ، وهو براءة يوسف. قال بعضهم : «حصحص» اشتقاقه من «الحصة» أي بانت حصة الحق من حصة الباطل ، فظهر جليا واضحا لا لبس فيه ولا غموض (أَنَا) امرأة العزيز (راوَدْتُهُ) أي راودت يوسف ، راجعته واختلفت إليه (عَنْ نَفْسِهِ) لأسلب نفسه ، وأقضي

وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢)

____________________________________

معه الشهوة (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فيما قال (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) فأنا كاذبة في التهمة ، وهو صادق في براءته وكوني أنا المجرمة.

[٥٣] وهنا عاد الرسول إلى يوسف من السجن وأخبره باستجواب الملك للنساء ، وأنهن اعترفن ببراءته عليه‌السلام وأنهن المجرمات. فقال يوسف : (ذلِكَ) الذي طلبت من التثبّت في أمري (لِيَعْلَمَ) الملك ـ أو العزيز ، على تقدير كونه الوزير ـ (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) أي أني لم أخن الملك في غيابه بقصد السوء إلى زوجته ، وذكر «بالغيب» لبيان شدة وقع الخيانة إذا وقعت كذلك ، إذ خيانة المؤتمن أسوء من خيانة غيره (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا ينقذه ولا يوصله إلى مقصده. وهذا تنبيه على أن الخائن إن ستر أمره مدّة ، وهبّت الرياح نحوه أياما ، فإنه سيفضح وإن كيده سيفشل. وهناك احتمال أن يكون هذا من كلام زليخا ، تريد : إنما اعترفت ليظهر أني لا أخون يوسف وهو غائب في السجن بأن أنسب إليه الجريمة ، وكذلك ((وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) (١) ، من تتمة كلامها.

__________________

(١) يوسف : ٥٤.

الفهرس

سورة الأنعام................................................................... ٤٢

سورة الأعراف................................................................ ١٥٥

سورة الأنفال................................................................. ٢٩٤

سورة التوبة................................................................... ٣٦٣

سورة يونس.................................................................. ٤٨٩

سورة هود.................................................................... ٥٧٠

سورة يوسف................................................................. ٦٦٠

الفهرس...................................................................... ٧٠١

تقريب القرآن إلى الأذهان - ٢

المؤلف: آية الله السيد محمد الشيرازي
الصفحات: 701
  • سورة الأنعام 42
  • سورة الأعراف 155
  • سورة الأنفال 294
  • سورة التوبة 363
  • سورة يونس 489
  • سورة هود 570
  • سورة يوسف 660
  • الفهرس 701