


المقدمة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي
أنزل القرآن وجعله شفاء ورحمة للمؤمنين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيّد
الأنبياء والمرسلين ، سيّدنا ومولانا أبي القاسم محمّد وعلى آله الغرّ الميامين
أهل بيت الوحي ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الذكر والتنزيل ، خزّان
العلم ، ومنتهى الحلم ، وأصول الكرم ، وقادة الأمم ، وأولياء النعم ، وعناصر
الأبرار ، ودعائم الأخيار ، وأبواب الإيمان ، وأمناء الرحمن ، وسلالة النبيّين ،
وصفوة المرسلين ، وعترة خيرة ربّ العالمين.
وبعد :
فحيث إنّ الحكمة
الإلهيّة اقتضت أن يكون الرسل بشرا يوحى إليهم كانت الحاجة إلى آيات ودلائل تبيّن
صدقهم فيما يبلّغون عن ربّهم ، ويهدون ، ويعلّمون. من هنا كانت المعجزة قرينة
الرسالة ، ولو لا المعجزة لأشكل الأمر على الناس ، وخالط الشكّ اليقين ، والتبس
الصدق والكذب ، وبالتالي تشوّشت أفكار الناس في تمييز الصادق من الكاذب ، والنبيّ
من المنتحل.
ومن هنا فإنّ
الظاهر أنّه لم يرد لفظ المعجزة كاصطلاح إلّا في الفترة
المتأخّرة عن رسول
الوحي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد نزول القرآن ، وإنّما عبّر عنها في الآيات والروايات
بالآية تارة (قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) وبالبيّنة تارة (قَدْ جاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وبالبرهان تارة ثالثة (فَذانِكَ بُرْهانانِ
مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ) وبالسلطان رابعة (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ) لما في هذه الألفاظ من اندماج بين وحي اللفظ وبصيرة العقل
وقوّة الحجّة ومنطق البرهان ، فتحاكي وجدان الإنسان وقلبه وعقله وفطرته وبصره
وبصيرته بما يقطع أمامه سبل الشكّ ، ويزيح ظلمات الوهم.
فالآيات علائم
ودلالات ظاهرة ، كما أنّ دلالاتها واضحة سواء كانت دلالة عقليّة أو حسيّة ،
والبرهان إظهار للحجّة بموازين العقل والحكمة ، وهو أوكد الأدلّة المحفّزة لكوامن
الصدق والتصديق ؛ لذلك يقتضي الصدق لا محالة ، والسلطان لما فيه من سلطنة وهيمنة
على القلب والعقل تدعو إلى الإيمان ، وتدفع الشكوك والأوهام ، ولا يبعد أن تكون
الآية لعموم الناس ؛ لأنّ الحب طريقهم إلى الإيمان واليقين غالبا ، والبيّنة في
مواقع إظهار ما يخفى على الناس معرفته ، والبرهان لمن كان من أهل العقول والأفكار
، والسلطان لتسلّطه على أهل العلم والحكمة من الناس. هذا من حيث خصوصيّات كلّ لفظ
منها.
وأمّا من حيث
الهدف والمضمون فالجميع يشترك في تصديق النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتثبيت حقّانيّة دعواه ، واستقامة طريقه ، وصحّة أهدافه
ونواياه. ولعلّ من هنا اتّفقت الكلمة على انحصار طريق معرفة صدق دعوى الأنبياء عليهمالسلام بظهور المعجز على أيديهم كما يظهر من أقوال المحقّقين
كقولهم : «وطريق معرفة صدقه ظهور المعجزة على يده».
__________________
وعليه فإنّ طريق
التصديق بالنبوّة والإيمان بها ينحصر بالإعجاز الذي يظهره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شاهدا مطابقا لدعواه.
ولعل هذا هو
المرتكز في أذهان البشر وفطرهم كسبيل قد يعد وحيدا ، أو الأكثر قوّة ، والأسرع
أثرا في التصديق والإيمان ؛ ولذا كان أوّل نداء يطلقه الكافرون في مواجهة دعوات
الرسل والأنبياء عليهمالسلام هو المطالبة بإظهار الآيات والمعاجز ، وكلّ قوم كانوا
يطلبون من رسولهم ذلك حتّى وإن أقرّوا بغيره من الأنبياء السابقين.
قال تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ
افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) .
ففي الوقت الذي
أثبتت الآية التقارن التامّ بين رسالات الرسل والآيات البيّنة كشفت عن إيمان
اللاحقين بدعوات السابقين حتّى وإن كذّبوا من أرسل إليهم من الأنبياء ، فطالبوهم
بإظهار الآية.
وكانت هذه الآيات
هي الحجّة التي تنهض للمطالبين الصادقين في دعواهم لجذبهم إلى الإيمان ، كما تثبت
على المعاندين لو أصرّوا وظلّوا في غيّهم يعمهون.
ولعلّ ممّا يشهد
لذلك آيات متضافرة في الكتاب العزيز ، بعضها يثبت وقوع الإعجاز مقارنا لدعوى
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبعضها يبيّن نوع الإعجاز وتفاصيل حدوثه.
وربّما يعدّ من
الأولى قوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا
مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) .
فهي في الوقت الذي
تثبت دلائل الأنبياء الكافية في اليقين والإيمان
__________________
تهدّد المنكرين
الذين عاصروا الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم وعايشوه بمصير يشبه مصير السابقين في مواقفهم من الرسل ،
وقد جمعت هذه الآيات مع الآيات التي في سياقها قبلا وبعدا بين الدلائل المادّيّة
والمعنويّة ، فحيث تحدّثت ما قبلها عن آية الرياح وما لها من آثار هامّة ونافعة
تقوم عليها حياة الناس حيث إنّها :
١ ـ تأتي لهم
بالسحاب المثقل بالغيث الذي يسقي الأرض العطشى ، فينبت رزقهم وكلأ مواشيهم.
٢ ـ توازن حرارة
الجو فتعطيهم برودة في المناطق الحارّة ودفئا في الباردة.
٣ ـ تنقي الهواء
والفضاء من الأوبئة والغازات الضارّة.
٤ ـ تلقح الأشجار
فتعطي ثمارها ، والأزهار فتعطي أريجها وجمالها ، وتنشر البذور من البيادر إلى
الأراضي الجرداء فتغدو خضراء ممرعة ترعاها الأغنام والمواشي ، وتضفي على الحياة
بهجة وروعة.
٥ ـ تحرّك الفلك
والسفن في البحار والأنهار فتربط بين البشر ، وتجمع بين حاجاتهم واحتياجاتهم
فيتكافلون ويتكاملون ويتعاونون ..
وغيرها من آيات
وبراهين ودلائل تقوم عليها حياة الناس ، وتدلّ على سعة رحمة الله عزوجل وعميم فضله وخيره وعظم بركته ؛ ولذا قال سبحانه بعدها : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
وأمّا الدلائل
المعنويّة التي هي أيضا من آثار رحمة الله وخيره وبركته فقد جاءت مقارنة لتلك
لتشمل كلّ جوانب الإنسان ، وتسدّ كلّ احتياجاته الجسديّة والروحيّة ؛ إذ لا يكفي
الإنسان أن يعيش ناعما ، يبات شبعانا ،
__________________
ويغدو وفيرا رويا
، فإنّ ذلك مهما بلغ وكثر ولذ وطاب لا يسدّ حاجاته الأكبر والأوسع في تحقيق الآمال
، واللهفة إلى النجاح في مختلف شؤون الحياة ، بل لو لا الأمل والنجاح يصبح نهار
الإنسان ليلا ، وحلوه مرّا ؛ لقصور الدنيا بما فيها من شهوات وغرائز ولذات ومطائب
عن إشباع روح الإنسان وعقله وفكره ، فحتى تتمّ النعمة وتكتمل الحجّة ويتمّ البرهان
كان لا بدّ من إشعال وقدة الأمل في قلبه ، وإنارة طريقه على المستقبل والغد الناجح
الوفير ، فقال سبحانه : (وَكانَ حَقًّا
عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) .
وعلى خلاف ذلك ما
سيلاقيه الكفّار المعاندون من أيام شديدة وساعات سوداء مدلهمّة ، ومنها قوله تعالى
: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). والمستفاد منها هو أنّ لكلّ رسول ونبيّ آية قد أحكمها الله
تعالى وتولّاها بالحقّ والصدق والثبات في الموقف والغاية ، يمتنع عنها الريب ، ولا
تخالجها شكوك الشيطان وتشكيكاته ، وهذه أيضا تضمّنت آيات الظاهر والباطن ، فالأولى
تنسف خطط الشيطان ، وتعود بالناس إلى الإيمان ، والثانية تطمئن الرسل بمستقبل مشرق
يعيش الناس فيه الإيمان بأصنافه وشعبه.
__________________
كيفيّة الإعجاز
ومن الثانية :
آيات متضافرة أيضا شرحت بوضوح ودقّة وعمق كيفيّة الإعجاز وأنحائه لعل منها :
١ ـ قوله سبحانه :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) وهي اليد والعصا ، والحجر ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ،
والقمل ، والضفادع ، والدم دلائل خارقة ظاهرة.
٢ ـ قوله تعالى : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) .
٣ ـ قوله تعالى : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ
يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً).
٤ ـ قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها
شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) .
٥ ـ قوله تبارك
وتعالى : (قُلْنا يا نارُ
كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) وغير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الله تعالى قد نصر
أنبياءه عليهمالسلام بالمعجزة ، ولم يوكل عموم الناس الذين يقنعهم بالإيمان
عادة الشاهد
__________________
المادي الظاهر على
صدق الأنبياء أكثر من قدرتهم الروحيّة وحالاتهم المعنويّة والعقليّة ؛ لأنّ هذا قد
لا يدركه عموم الناس كما لم ينحصر لطفه عزوجل بإخبارات النبيّ السابق عن ظهور نبيّ في اللاحق ، وذكره
لعلامات النبوّة وسيماء النبيّ القادم ؛ وذلك لأنّه حتى لو وصلت هذه الإخبارات
والعلامات للأمم اللاحقة على نحو التواتر إلّا أنّها قد لا تلزم من لا يتديّن بدين
أصلا ، أو لا يعتقد بنبوّة ذلك النبيّ ، فلا تتمّ الحجّة عليه.
ولعلّ قوله سبحانه
في سورة الحديد : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ
لِلنَّاسِ) يحاكي أصحاب العقول المتفتّحة والآراء المتطلّعة لجمع
الدين بالدنيا والفكر والتطبيق حتّى في مثل مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد
ونحوها ، حيث جمعت بين ثلاثة دلائل واضحة تشكّل العناصر الأساس لقيام أي مجتمع
ودولة ، وهي :
١ ـ البيّنات كحجج
على الإيمان
٢ ـ الكتاب كحجّة
على التقنين والتنظيم
٣ ـ الميزان كحجّة
على التطبيق والممارسة مادّيّا ومعنويّا.
ومن الواضح أنّ
كلّ دولة وأمّة تقومان على العقيدة والنظام والسلطة ، ويجمعهما الهدف المشترك ،
وهو العدل ، ثم يأتي بعد ذلك الحديد والقوّة لحمايتهما من الاستهانة أو الاستلاب ،
وبهذا يبني الأنبياء عليهمالسلام حضارة إنسانيّة رائعة يسودها الأمن والسلام ، ويحكمها
العدل والنظام في شتى المجالات ، وقد جمع هذه جميعا القرآن الكريم ، فاحتوى كلّ
رسالات الأنبياء وأهدافهم ، فوصفه ربّه ومنزّله : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
__________________
هِيَ
أَقْوَمُ) ووصفه من حمله وبلّغ به وبشّر : «هو الدليل يدلّ على خير
سبيل» ..
وبالتالي فإنّ كلّ
حرف وكلمة وجملة وآية وسورة بل كلّ حركة وسكنة ورفع ونصب فيه يدلّ على إعجاز
وإعجاز وعلوّ وسمو ، فهو كما قالوا عنه : ليست معجزة واحدة فحسب ، بل موسوعة
معجزات ، فاجتماعيّاته معجزة لعلماء الاجتماع ، وسياسيّاته معجزة للسياسيّين ،
وأخلاقيّاته معجزة للأخلاقيّين ، وعسكريّاته معجزة للعسكريّين ، واقتصاديّاته
معجزة للاقتصاديّين ، وتربويّاته معجزة للتربويّين ، وأداءه معجزة للأدباء ، ولكلّ
اختصاصيّ معجزة في اختصاصه ، بل إنّ القرآن معجزة لكلّ إنسان في الجانب المنسجم مع
أولويّات ذلك الإنسان ، فهو معاجز بعدد الخلائق ، أو ليست الطرق إلى الله سبحانه
بعدد أنفاس الخلائق؟ فهو معجزة للناس أجمعين.
وفوق ذلك أنّه
معجزة الفلسفة ، فهو كتاب أعطى الفلسفة الكاملة الصحيحة للبشر ، فهو كتاب الكون ،
بل هو عدل الكون ؛ إذ الكون كلّه كلمة من كلمات الله ، والقرآن كلمة أخرى من كلمات
الله ، فهي وتلك كلمتان مترادفتان ، الكون قرآن ولكن بشكل ، والقرآن كون ولكن بشكل
آخر ، وبعد ذلك وقبله فإنّ من القرآن ما فيه شفاء ورحمة للعالمين ، ولا يزيد
الظالمين إلّا خسارا.
كما ستبقى صور
الإعجاز وأشكاله تتجلّى في كلّ عصر ، ومع كلّ جيل مهما نضج البشر ، وتنامت عقولهم
، وتراكمت تجاربهم ، وتنوّرت أفكارهم. فإنّ القرآن يفسّره الزمان كما في بعض
الأخبار لا تنقضي عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه ؛ لأنّه كلام الله سبحانه ، وفيض من
علمه اللامتناهي ، وكلامه عزوجل مظهر لعلمه ، وعلمه مظهر لذاته ، وكلّها لا متناهية وفوق
ما لا يتناهى ،
__________________
فكيف يدركه بشر ،
أو يحيط بكنوزه محيط أو عالم؟ وبهذا يظهر مدى التجافي عن الحقيقة الدامغة فيما
يدّعيه بعض أعداء الإسلام من أنّ القرآن من صنع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنّ القرآن لم يوح إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأكمله ، بل كان يوحى إليه رؤي قصيرة ووصايا ، وأمثال وقصص
ذات مغزى ، أو أحاديث في أصول العقيدة.
ويكفينا في ردّ
زعم هؤلاء ما صدع به الحقّ تبارك وتعالى في قوله عزّ من قائل : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) .
وقال مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما» .
فإنّ كلمات القرآن
وآياته وحروفه وكلّ ما فيه ينطق بأنّه وحي ممّن خلق الأرض والسماوات العلى ، وما
خلقته عقول بشر ، أو فاهت به ألسنتهم.
الإعجاز لغة
واصطلاحا
المعجز في اللغة
له أكثر من معنى إلّا أنّ الأقرب منه إلى الفهم العرفي ما ذكر في أقرب الموارد ،
وهو : أعجز فلان فلانا أي صيّره عاجزا .
لكن في مجمع
البحرين فسّره بالمعنى المصطلح ، وكأنّه تفسير بالمصداق ، فقال : المعجز : الأمر
الخارق للعادة المطابق للدعوى المقرون بالتحدّي ، وقد ذكر المسلمون للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ألف معجزة منها القرآن .
وقد فقد عرّف
بتعاريف مختلفة بعض الشيء باختلاف قيودها.
__________________
ففي تجريد
الاعتقاد : وطريق معرفة صدقه ظهور المعجزة على يده ، وهو ثبوت ما ليس بمعتاد أو
نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوة .
وقريب منه ما في
مجمع البيان : وحاصله أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهيّة بما يخرق
النواميس الطبيعيّة ويعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه .
وينبغي إضافة قيد
التحدّي لهذين التعريفين لينطبق على موازين الحدّ التامّ المنطقي بداهة دخول
الكرامة ونحوها في التعريف ، فلا يصبح حينئذ مائزا بين ما يظهر على أيدي الأنبياء
والأولياء عليهمالسلام ، ولا يبعد أن تكون جميع هذه التعاريف ناظرة إلى أمر واحد
وإن كان ربّما لم يستظهر من بيانها ، وهو أنّ المعجز أمر خارق للعادة وليس لضوابط
العقل ؛ إذ لا يمكن الجمع بين النقيضين حتّى بالإعجاز لامتناع الموضوع.
وعليه فليس
الإعجاز في تبديل الممتنع بالذات إلى ممكن ، بل هو اختصار مراحل الإمكان
الاستعدادي للممكن بإرادة الله سبحانه ، أو بقوّة النبيّ المعنويّة التي منحها
الله سبحانه إياه لإيجاده ؛ ولذا يسمّى خارقا للعادة ، فيمكن إثمار الشجرة غير
المثمرة في آن ؛ لأنّ تحقّق الاثمار عادة يتوقّف على شرائط لا تتحقّق عادة إلّا
بعد مضي زمان ، ولكن ربّما تحصل هذه الشرائط فورا بالإعجاز ، وهذا هو معنى خرق
العادة أي المعتاد المألوف في الكون أو عند الناس.
هذا وهناك شروط
أخرى ينبغي توفّرها في الإعجاز منها : مطابقة المعجزة للدعوى ، وأن لا يكون هناك
من يعارض مدّعي النبوّة فيما يتحدّى
__________________
به ، بحيث يستطيع
غيره أن يأتي بمثل ما أتى به ؛ إذ لا يكون حينئذ ما أتى به ذلك النبيّ معجزا ،
ومنها غير ذلك ممّا فصّله علماء الكلام.
بعض مزايا القرآن
الكريم
ولعلّ من المناسب
أن نشير هنا إلى بعض مزايا القرآن الكريم التي اتّفق أهل الرأي فيها على أنّها
إعجاز :
١ ـ أنّ القرآن
الكريم معجز من حيث اختصاصه بمرتبة عليا في الفصاحة والبلاغة خارقة للعادة لا يمكن
لأحد أن يأتي بمثلها أو أن يدانيها.
٢ ـ من حيث كونه
مركّبا من نفس الحروف الهجائيّة التي يقدر على تأليفها كلّ أحد ومع ذلك عجز الخلق
عن تركيب مثله بهذا التركيب العجيب ، والنمط الغريب من قوة اللفظ ، وسحر البيان ،
ودقّة المعنى ، وسلاسة التعبير ، وقوّة الترابط بحيث إنّ كلّ تغيير أو تصرّف فيه
يخرجه عن عذوبته ، ويشير إلى وجود خلل في العبارة.
٣ ـ من حيث
امتيازه عن غيره من كلام العرب بامتياز مليح ، فإنّ أي كلام في هذه اللغة مهما كان
فصيحا وبليغا إذا زيّن بالقرآن الكريم تجد القرآن ممتازا عنه متفوقا عليه بما لا
يقبل القياس أو التقويم.
٤ ـ من حيث
اتّصافه بنظام فريد ، وأسلوب وحيد غير معهود في جميع الأزمنة ، لا شعرا ولا نثرا ؛
لذلك نسبه أدباء الكفّار إلى السحر ؛ وذلك لأخذه بمجامع القلوب واتّصافه
بالجاذبيّة الخاصّة.
٥ ـ بالرغم من سعة
مضامينه ووفرة آياته وكثرة سوره فهو خال عن الاختلال والتناقض والتهافت (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) .
__________________
فلا تجد فيه كلمة
خالية عن الفصاحة ، ولا آية مخالفة لآية أخرى ، بل جميعه موصوف بغاية الجودة ،
ومتّصف بما لم تجر بمثله العادة.
٦ ـ من حيث اشتمال
القرآن الكريم على أحسن الآداب ، وأمتن الحكم ، وأكمل المواعظ ، وأصوب القوانين ،
وأتمّ الأحكام في العبادات والمعاملات والمعاشرات في أمور الحياة والأسرة والمجتمع
، وفي الحدود والأقضية في السفر والحضر والأمن والخوف والسلم والحرب والعسرة
والغلبة وكلّ ما يحتاجه الإنسان في أصوله وفروعه بشكل ليس فيه أدنى خلل.
فجعل الله تعالى
هذا القرآن مشتملا على كلّ ما تحتاج إليه الأمم ، وهاديا إلى التي هي أقوم ، كما
جعل بيانه وتبيانه عند مهابط وحيه وخزّان علمه وترجمانه في خلقه النبيّ الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته الأطهار عليهم آلاف التحية والثناء تكريسا
للاقتداء ، وتعظيما للإمامة وما يترتّب عليها من فوائد كبيرة في دنيا الناس
ودينهم.
٧ ـ من حيث ما
تضمّنه من الأخبار في قضايا الأمم السالفة ، وخفايا القصص الماضية ، ودقائق القرون
الخالية ، مثل أخبار آدم عليهالسلام وابنيه ، ومسائل نوح عليهالسلام ، وأمور إبراهيم عليهالسلام ، وقصّة أصحاب الكهف ، وقضايا موسى ..... ممّا لم يطّلع
عليها أحد إلا بعض خواصّ الأحبار والرهبان الذين لم يكن النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم معاشرا لهم ، بل كان بعيدا عن مخالطتهم. فكتاب كهذا من
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي لم يتعلّم عند أحد يكشف قطعا عن كونه من الله العالم
بجميع الأمور.
علما بأنّ ما
بيّنه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من أخبار القرآن لم يكن اقتباسا من كتبهم ، بل نقلا لحقيقة
الأمر وواقعه الموجود عندهم ، وإلّا لكانوا يرمونه بالسرقة من كتبهم وهم غير آبين
من توجيه التهمة مع توفّر الدواعي الكافية في ذلك.
٨ ـ من حيث
اشتماله على الأخبار عن ضمائر المنافقين وبواطن
الكافرين ونوايا
المشركين الخفيّة التي لم يطلع عليها أحد حتّى إنّهم كانوا يحذرون من أن تنزل فيهم
آية تفضحهم ، وتكشف نواياهم.
بل أخبر عن الأمور
المستقبليّة والحوادث المقبلة والغيب الصادق والنبأ المطابق ممّا لم يطّلع عليه
إلّا علّام الغيوب مع كمال المطابقة والصدق كما في قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ
الدُّبُرَ) ، وقوله تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
هذا مضافا إلى
إخباراته عن الحقائق العلميّة التي لم ينكشف اليسير منها إلّا في الآونة الأخيرة
والقرون المتأخّرة على رغم تطوّر العلوم والمعارف.
٩ ـ من حيث خواصّه
المعنويّة وخصائصه الذاتيّة في التأثير على الأرواح ، وشفائه للقلوب والضمائر ،
وعلاجه للأجسام ، وطمأنته للقلوب ، وبركاته في النفوس ، فضلا عن الآثار الوضعيّة
الأخرى التي تلازمه في النظر والقراءة والاستشهاد والاحتفاظ ونحو ذلك.
١٠ ـ من حيث
طراوته وحلاوته وعدم الملل منه عند تلاوته وقراءته مهما زادت وتكرّرت ، وبعد كلّ
ذلك فإنّه لا يخلق على طول الأزمان ، ولا يبلى ، بل يستفاد منه في كلّ قراءة جديدة
نكتة جديدة ، ويجد القارئ المتدبّر فيه إلماعات وإشارات وحقائق ولطائف لم تظهر له
من قبل ، فهو كلام الله البالغ ، وحكمه الساطع ، وهو نور لا يطفأ ، وسراج لا يخبو
كما ورد في خطبة مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام في نهج البلاغة .
إلى غير ذلك من
جهات وأسرار لا يسع المجال لبيانها هنا.
__________________
الشيعة والاهتمام البالغ بالقرآن الكريم
إنّ القرآن الكريم
أحدث في الحياة البشرية أعظم انقلاب وتغيير شمل كلّ مناحي الحياة ، وامتدّ شعاعه
إلى أبعد الأصقاع ، وأذهل أقوى الأدمغة ، واكتسح أعظم الحضارات ، وأقام فوق ركامها
أنظف حضارة وأجمل حياة وأكمل سيادة وسياسة.
هذا وقد كان
للشيعة اليد الطولى والسهم العظيم في الاهتمام به ، والعمل على دراسته وتفسيره ،
وبيان معانيه ومضامينه ، واكتشاف أسراره وآياته وبيّناته بهدى من أئمّتهم عليهمالسلام الذين هم عدل القرآن وأهله الذين أنزل القرآن في بيوتهم.
فكتبوا ونشروا
وحثّوا أيما حثّ على قراءته وحفظه ونشره وتجويده والاستناد إليه في كلّ حقول
المعرفة ، وكان السبب في اهتمام الشيعة بالقرآن في الدرجة الأولى هو أهمّيّة
القرآن نفسه وعظمة أمره ، ثمّ الاقتداء بالنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة من أهل بيته عليهمالسلام في ذلك.
فمن ينظر إلى
الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام والتي تحدّثوا فيها عن القرآن الكريم يواجه عناية بالغة
وكبيرة منهم بهذا الكتاب الإلهي الخالد ، ثم من يطّلع على بقيّة أحاديثهم في شتى
جوانب الدين يجدها مليئة بالاستدلالات من القرآن الكريم ممّا يكشف عن شدّة حرصهم
على البقاء إلى جانب القرآن والانطلاق منه والرجوع إليه ، ويشهد بذلك ما ألّفه
علماء الإمامية سدّدهم الله تعالى ورواتهم حول فضل القرآن وخصائصه وعلومه ومزاياه
وفي شتى المجالات. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر
ما يلي :
١ ـ كتاب فضل
القرآن ليونس بن عبد الرحمن من أصحاب الإمام الرضا عليهالسلام.
٢ ـ كتاب فضل
القرآن لمحمّد بن الحسن الصفّار المتوفّى سنة ٢٩٠ ه.
٣ ـ كتاب نوادر
القرآن لعليّ بن إبراهيم بن هاشم في القرن الثالث الهجري.
٤ ـ كتاب فضل
القرآن لمحمّد بن مسعود العيّاشي في القرن الثالث الهجري.
٥ ـ كتاب فضائل
القرآن لأحمد بن محمّد بن عمّار المتوفّى سنة ٣٤٦ ه.
كما عقد جمع من
علماء الإمامية أبوابا خاصّة حول القرآن في كتب الحديث مثل :
١ ـ كتاب فضل
القرآن في الجزء الثاني من (أصول الكافي) للكليني.
٢ ـ كتاب فضل
القرآن في الجزء الثاني من موسوعة (من لا يحضره الفقيه).
٣ ـ كتاب القرآن
في الجزء الرابع من موسوعة (وسائل الشيعة).
٤ ـ كتاب القرآن
في الجزء الأوّل من (مستدرك وسائل الشيعة).
٥ ـ كتاب القرآن
في الجزء الثاني والتسعين من موسوعة (بحار الأنوار).
وهذا يدلّك على
مدى اهتمام الشيعة بالقرآن الكريم ، كما أنّ التأريخ يشهد لهم مدى تفانيهم وبذلهم
لأرواحهم على مدى التأريخ في سبيل القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهمالسلام. وقبل كلّ ذلك كان الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
هو أوّل من سمع
القرآن من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخالجته آياته ، وهو أوّل من جمعه بأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكتب تفسيره وتأويله وشأن نزوله كما في متضافر الأدلّة .
أمّا في علوم
التفسير فكان الشيعة لهم القدم الأوّل في ذلك ، وقد ذكر الشيخ الذهبي من علماء
الأزهر في كتابه التفسير والمفسّرون عددا من ذلك بعد أن استعرض بنحو مجمل من كتب
في العصر الإسلامي الأوّل ، وعدّ على رأسها تفسير الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، فهو أوّل من كتب في التفسير ، ثم قال في كتابه : وقد عدّ
السيوطي في الإتقان من اشتهر بالتفسير من الصحابة وسمّاهم ، ومن سمّاهم ابن مسعود
، وابن عبّاس ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت وغيرهم ... ثمّ قال : أمّا عليّ بن أبي
طالب عليهالسلام فهو أكثر الخلفاء الراشدين رواية عنه في التفسير .
وفي مكان آخر قال
: جمع عليّ عليهالسلام إلى مهارته في القضاء والفتوى علمه بكتاب الله ، وفهمه
لأسراره وخفي معانيه ، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل ، وقد روي
عن ابن عباس أنه قال : ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليّ بن أبي طالب عليهالسلام.
وليس الذهبي
منفردا في هذا القول ، فقد ذكر هذا الكثيرون غيره .
أمّا أوّل من صنّف
في التفسير فهو ترجمان القرآن عبد الله بن العبّاس المتوفّى سنة ٦٨ ، ثم تلميذه
سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج عام ٩٤ ، وقيل : سنة ٩٥ وكان من المشهورين في التفسير ، بل روي عن
قتادة أن
__________________
سعيدا كان أعلم
معاصريه بالتفسير . وأسند أبو عمر الكشي في كتاب الرجال عن أبي عبد الله
الصادق عليهالسلام أنه قال : سعيد بن جبير كان يأتمّ بعليّ بن الحسين عليهالسلام ، وكان عليّ بن الحسين عليهالسلام يثني عليه. وما كان سبب قتل الحجّاج له إلّا على هذا الأمر
ـ يعني التشيّع ـ وكان مستقيما .
وقد اهتمّ الشيعة
اهتماما كبيرا بالتفسير ، وكتبوا فيه الكثير من الكتب ، منها في تفسير كل القرآن ،
ومنها في بعضه.
القرآن وأهل البيت
عليهمالسلام
إنّ من يتتبّع
أحاديث العترة النبويّة الطاهرة يجدها تسير جنبا إلى جنب مع القرآن ، تتمسّك
بآياته ، وتستدلّ بإشاراته ، كما أنّ القرآن الكريم نفسه يشيد بمواقفهم وأقوالهم عليهمالسلام ؛ إذ وصفهم بالطهارة من الرجس المعنوي والماديّ ذلك الوصف
المؤكّد الذي يقتضي تنزيههم عن أيّ خطأ وخطل ، ومخالفة للكتاب ، بل يقتضي كونهم مع
القرآن في هدف واحد ، وعلى جادّة واحدة ، ولا غرابة إذا قيل : إنّهم عليهمالسلام ورثوا الكتاب وعلمه وفهمه وفقه أسراره ومقاصده وأبعاده
وبطونه دون غيرهم ، فذلك أمر قد جرى بعض منه في الأنبياء السابقين وأوصيائهم كما
يصرّح القرآن الكريم بذلك.
وقد صرّح أئمّة
أهل البيت المطهّرون عليهمالسلام بهذا الأمر في تصريحات مستقلّة ، مثلما روي عن الإمام موسى
بن جعفر عليهماالسلام إذ قال :
«نحن الذين
اصطفانا الله عزوجل ، وأورثنا هذا الذي فيه تبيان كلّ شيء» على أنّ العقل يحتمّ مثل هذه الوراثة للكتاب وعلمه وفهمه
وفقهه ؛ إذ لو لا الصفوة التي ترث مسئوليّة الحفاظ على الرسالة لضاعت الرسالة ،
__________________
وضاعت جهود صاحبها
، وانتقض الغرض من بعثته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومن البديهي أنّ
أولى الناس بذلك هو من يرتبط بصاحب الرسالة بوشائج القربى ، ويكون على درجة عالية
من الطهر والتقى والورع والذكاء والنبوغ ليزداد حرصه على الرسالة وعلى ميراث
صاحبها من العلوم والمعارف ؛ ولهذا اختصّ نسب الرسول وذرّيّته عليهمالسلام بعلم الكتاب العزيز ، فهم تحمّلوه وحملوه كمسؤولية كبري ،
وتجشّموا في سبيل المحافظة عليه عناء كبيرا ونصبا كثيرا ، وقاتلوا الناس على
تنزيله ، ثمّ قاتلوهم على تأويله ، ثم إنّ البراهين والأدلّة العمليّة التي قدّمها
الأئمة عليهمالسلام في مجال تفسير القرآن وفكّ رموزه وبيان بطونه وأبعاده
بنفسها خير شاهد على ذلك ، ونذكر هنا جملة من الأحاديث الواردة بهذا الشأن تيمّنا
وتبرّكا :
١ ـ عن أبي سعيد
الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إني تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا
بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» .
٢ ـ عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنا أوّل وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة وكتابه
وأهل بيتي ، ثمّ أمّتي ، ثمّ أسألهم ما فعلتم بكتاب الله وأهل بيتي» .
٣ ـ وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه حتى يردوا عليّ
الحوض» .
ولا يخفى على
اللبيب دلالة (المعيّة وعدم المفارقة) على التلازم وعدم الافتراق أو الاختلاف في
كل شيء حتّى يوم القيامة.
__________________
٤ ـ وعن عليّ عليهالسلام قال : «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء إلّا أخبرتكم به
واسألوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ، أم
في سهل أم في جبل» .
٥ ـ وعنه عليهالسلام قال : «والله ما نزلت آية إلّا وقد علمت فيم نزلت وأين
نزلت ... إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا» .
٦ ـ وعنه عليهالسلام قال : «سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، فما
من آية إلّا وأعلم حيث نزلت بحضيض جبل أو سهل أرض» .
٧ ـ وعن أبي
الصباح قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمّد عليهماالسلام : «إنّ الله علّم نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم التنزيل والتأويل ، فعلّمه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا عليهالسلام قال : وعلّمنا والله» .
٨ ـ وعن عبد
الأعلى مولى آل سام قال : سمعت أبي عبد الله الصادق عليهالسلام يقول : «والله إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخره ،
كأنّه في كفّي ، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن. قال الله
عزوجل : (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) .
٩ ـ وعن أبي عبد
الله الصادق عليهالسلام في قول الله عزوجل : (بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قال : هم الأئمّة عليهمالسلام» .
__________________
وفي رواية أخرى : «هم
الأئمّة عليهمالسلام خاصّة» .
١٠ ـ وعن أبي جعفر
الباقر عليهالسلام في تفسير قول الله عزوجل : (هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) قال عليهالسلام : «إنّما نحن الذين يعلمون ، والذين لا يعلمون عدوّنا ،
وشيعتنا أولو الألباب» .
١١ ـ وعن عليّ
أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء
على خلقه ، وحجّته في أرضه ، وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا
يفارقنا» .
١٢ ـ وعنه عليهالسلام قال : «نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد ، فينا نزل القرآن ،
وفينا معدن الرسالة» .
١٣ ـ وعن أبي جعفر
عليهالسلام في قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال عليهالسلام : «الذكر القرآن ، ونحن أهله» .
١٤ ـ وعن أبي عبد
الله عليهالسلام في قوله عزوجل : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ) قال عليهالسلام : «الثقلان نحن والقرآن» .
١٥ ـ وعن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «إنّ الله جعل ولايتنا أهل البيت قطب القرآن» .
هذا وقد تواترت
الأخبار الدالّة على كونهم عليهمالسلام عدل القرآن والثقل الذي أوصى به النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والدالّ على تلاحمهم المطلق مع القرآن فكرا وقولا وعملا
، بل هم القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد وردت أكثر من ثلاثين رواية بهذا
الشأن عن طرقنا ، وأكثر من ستّ عشرة
__________________
رواية من طرق
العامّة تدلّ على ذلك ، كما أورده العلّامة البحراني وغيره.
ومن هنا اتّفق
أصحابنا على أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح عن النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة الطاهرين عليهمالسلام ، وحرّموا القول فيه بالرأي والاجتهاد ، وهذا ما رواه
العامّة أيضا عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «من فسّر القرآن برأيه وأصاب الحقّ فقد أخطأ» والظاهر أنهم التزموا به من حيث الكبرى وإن خالف جمع غير
قليل من مفسّريهم الالتزام بذلك من حيث الصغرى. خصوصا ما يتعلّق بالآيات الواردة
بشأن أهل البيت عليهمالسلام وبيان فضائلهم ومقاماتهم الربّانيّة.
ومن الواضح أنّه
لا يجوز أن يكون في كلام الله عزوجل وحججه المعصومة عليهمالسلام تناقض أو تضادّ أو تعارض حقيقي لما فيه من القبح ونقض
الغرض وغيرهما من المحالات.
كيف لا وقد عرفت
أنّهم عليهمالسلام عدله ، بل والناطق من كلماته وآياته ، كما أنّه الميزان
الذي يفصل بين منطقهم وحديثهم ومنطق وحديث غيرهم ، وممّا يؤكّد ذلك ما روي عن النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام : «إذا جاءكم منّا حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافق
كتاب الله فخذوه ، وما خالفه فاطرحوه أو ردّوه علينا» .
ولعلمائنا الأعلام
في علمي التفسير والأصول كلام مفصّل في بيان المقصود من التفسير بالرأي وحلّ بعض التشابه
البدوي الذي قد يتصوّره البعض تعارضا واقعا بين الآيات والروايات بما لا يسعنا
المجال لبيانه هنا .
__________________
هذا مضافا إلى ما
تواتر نقله في كتب العامّة فضلا عن الخاصّة من حديث الثقلين الدالّ على تلاحم
القرآن وأهل البيت عليهمالسلام ، فقد أوردوا في كتبهم من روايته عن الصحابة الذين سمعوه
من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أكثر من ثلاثين صحابيا ، وبقي على ذلك متواترا في كلّ عصر
إلى العصر الحاضر ، ونصّ الحديث هو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ،
كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» .
ولا يخفى أنّ لفظ
العترة والأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في تعيين أهل البيت عليهمالسلام يعيّنان المراد من أهل البيت عليهمالسلام ، فضلا عن دلالة الإجماع والعقل.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» مع قول صلىاللهعليهوآلهوسلم : «وإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» يعيّنان
الأئمّة الاثني عشر المعصومين عليهمالسلام من عترة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وذرّيّته كما ذكره العلّامة البلاغي (قده) ولعلّ من دلائل
ذلك أيضا إجماع المسلمين على أنّ من عداهم عليهمالسلام ليس معصوما ، ولا يتّصف بأنّه مثل كتاب الله لا يضلّ من
تمسّك به. وهذه أسماء الصحابة السامعين لهذا الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ١ ـ عليّ أمير المؤمنين عليهالسلام ٢ ـ عبد الله بن
عبّاس ٣ ـ أبو ذرّ الغفاري ٤ ـ جابر الأنصاري ٥ ـ عبد الله بن عمر ٦ ـ حذيفة بن
أسيد ٧ ـ زيد بن أرقم ٨ ـ عبد الرحمن ابن عوف ٩ ـ ضميرة الأسلمي ١٠ ـ عاصم بن ليلى
١١ ـ أبو رافع ١٢ ـ أبو هريرة ١٣ ـ عبد الله بن حنطب ١٤ ـ زيد بن ثابت ١٥ ـ أم
سلمة ١٦ ـ أم هاني أخت أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام ١٧ ـ خزيمة بن ثابت ١٨ ـ سهل بن سعد ١٩ ـ عدي بن حاتم ٢٠ ـ
عقبة بن عامر ٢١ ـ أبو أيوب الأنصاري ٢٢ ـ
__________________
أبو سعيد الخدري
٢٣ ـ أبو شريح الخزاعي ٢٤ ـ أبو قدامة الأنصاري ٢٥ ـ أبو ليلى ٢٦ ـ أبو الهيثم بن
التيهان.
وهؤلاء الذين
ذكرنا أسماءهم من بعد أم هاني قد رواه كلّ منهم منفردا كمن تقدّمه ، وقاموا في
رحبة الكوفة مع سبعة من قريش ، فشهدوا أنّهم سمعوه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فهؤلاء ثلاثة وثلاثون ، ورواه أبو نعيم الإصبهاني في
كتاب (منقبة المطهّرين) مسندا عن جبير بن مطعم ، وأسنده أيضا عن أنس بن مالك ،
وأسنده عن البراء بن عازب ، ورواه موفّق بن أحمد أخطب خوارزم عن عمرو بن العاص.
وقلّما يخلو عن رواية هذا الحديث مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل لأهل السنّة من
أوّل ما أخرج الحديث من الحفظ وصدور الحفّاظ إلى صحف المحدّثين ولا زالت يروى فيها
عن صحابي واحد أو أكثر ، وربّما روي في واحد منها عن أكثر من عشرين صحابيا إمّا
مجملا كما في الصواعق ، وإمّا مسندا مفصّلا كما في كتب السخاوي والسيوطي والسمهودي
وغيرهم ، ومن أراد الاطلاع فليرجع إلى الجزأين المكتوبين في أسانيد هذا الحديث من كتاب
العبقات.
كما ورواه
الإماميّة في كتبهم وأسانيدهم المتكرّرة عن الباقر والصادق والكاظم والرضا عليهمالسلام ، عن آبائهم عليهمالسلام ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبالأسانيد الأخر عن أمير المؤمنين عليهالسلام وعمر وأبي ذرّ وجابر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت
وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة وغيرهم عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما في غاية المرام .
أهل البيت عليهمالسلام عدل القرآن
تضافرت الأدلة من
الآيات والروايات بل وهو ممّا يحكم به العقل أيضا فضلا عن الإجماع أنّ أهل البيت عليهمالسلام عدل القرآن الكريم ، وهما القيمتان
__________________
المتكاملتان
والمتلاحمتان في الجوهر والمضمون ، ولا يفصل بينهما مكان أو زمان أو رأي أو مفهوم
، ولا يوزّعهما فكر أو تطبيق ، شعاعان من نور واحد ، وطريقان في هدف واحد ،
يشتركان معا في إضاءة عقل الإنسان وروحه وقلبه ، ويوجّهانه إلى حيث سعادته وبناء
حياته وحضارته الحرّة الكريمة ، فلو لا القرآن لم يكن للحياة هدى ، ولا للإنسان
رشد ، ولا علق في طرفه نور ، ولو لا أهل البيت عليهمالسلام لم يكن للرشد مرشد ، ولا للعلم معلم أو تعليم ، ولا للنور
شعاع أو مصباح. فالقرآن أصل العلم ، وأهل البيت عليهمالسلام معرفته ومعدنه وبيانه ؛ ولذا كان أكثر ما نزل به القرآن ما
يرتبط بهم عليهمالسلام من قريب أو بعيد ، فبعضه في ولايتهم ومودّتهم وطاعتهم عليهمالسلام ، وبعضه في فضح أعدائهم ، وبعضه في الأحكام والفضائل التي
لا تصل غايتها ولا تقع مقبولة عند الخالق تبارك وتعالى إلّا إذا اقترنت بمحبّتهم ،
ووصلت من طرقهم.
فيمن نزل القرآن
١ ـ عن أبي
الجارود قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : «نزل القرآن على أربعة أرباع ، ربع فينا ، وربع في
عدوّنا ، وربع في فرائض وأحكام ، وربع سنن وأمثال ، ولنا كرائم القرآن» .
٢ ـ عن عبد الله
بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن القرآن والفرقان قال : «القرآن جملة الكتاب وأخبار ما
يكون ، والفرقان المحكم الذي يعمل به ، وكلّ محكم فهو فرقان» .
٣ ـ وعن الأصبغ بن
نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : «نزل القرآن أثلاثا ، ثلث فينا وفي عدونا ، وثلث
سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام» .
__________________
٤ ـ عن محمّد بن
خالد بن الحجّاج الكرخي ، عن بعض أصحابه رفعه إلى خيثمة قال : قال أبو جعفر : «يا
خيثمة ، القرآن نزل أثلاثا ، ثلث فينا وفي أحبّائنا ، وثلث في أعدائنا وعدوّ من
كان قبلنا ، وثلث سنّة ومثل ، ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم
ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت
السماوات والأرض ، ولكلّ قوم آية يتلونها وهم منها من خير أو شرّ» .
ولا تنافي بين هذه
الأخبار ؛ لأنّ بناء هذا التقسيم ليس على التسوية الحقيقيّة ، ولا على التفريق من
جميع الوجوه ، بل على أصل التصنيف ، فإطلاقه لا ينفي ما عداه لكونه ليس في مقام
البيان ، وعليه فلا بأس باختلاف الأخبار بالتثليث والتربيع ، ولا بزيادة بعض
الأقسام على الثلث أو الربع أو نقصه عنهما ، ولا دخول بعضها في بعض.
هذا وقد وردت
أخبار جمّة عن أهل البيت عليهمالسلام في تأويل كثير من آيات القرآن بهم وبأوليائهم وأعدائهم ،
حتّى إنّ جماعة من أصحابنا صنّفوا كتبا في تأويل القرآن على هذا النحو ، جمعوا
فيها ما ورد عنهم عليهمالسلام في تأويل آية آية ، إمّا بهم أو بشيعتهم أو بعدوّهم على
ترتيب القرآن ، وقد روي في الكافي وفي تفسيري العياشي وعليّ بن إبراهيم القمّي
والتفسير المسموع من الإمام أبي محمّد الزكي أخبار كثيرة من هذا القبيل ، منها ما رواه في الكافي عن أبي جعفر عليهالسلام في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ (١٩٤) عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٥) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) . قال : «هي الولاية لأمير المؤمنين عليهالسلام» .
وفي تفسير الصافي
نقلا عن العيّاشي عن محمّد بن مسلم عن أبي
__________________
جعفر عليهالسلام قال : «يا أبا محمّد ، إذا سمعت الله ذكر قوما من هذه
الأمّة بخير فنحن هم ، وإذا سمعت الله ذكر قوما بسوء ممّن مضى فهم عدوّنا» .
وفيه عن عمر بن
حنظلة عن أبي عبد الله عليهالسلام سأله عن قول الله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) .
قال : فلمّا رآني
أتتبّع هذا وأشباهه من الكتاب قال : «حسبك كلّ شيء في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته
، مثل هذا فهو في الأئمّة عنوا به» .
وقد أشار الفيض
الكاشاني (قدسسره) إلى بعض السرّ فيه في تفسيره ، فقال : إنّه لمّا أراد الله أن
يعرّف نفسه لخلقه ليعبدوه ، وكان لم يتيسّر معرفته كما أراد على سنّة الأسباب إلّا
بوجود الأنبياء والأوصياء ؛ إذ بهم تحصل المعرفة التامّة والعبادة الكاملة دون
غيرهم ، وكان لم يتيسّر وجود الأنبياء والأوصياء إلّا بخلق سائر الخلق ليكون أنسا
لهم ، وسببا لمعاشهم ؛ فلذلك خلق سائر الخلق ، ثمّ أمرهم بمعرفة أنبيائه وأوليائه
وولايتهم ، والتبرّي من أعدائهم ، وممّا يصدّهم عن ذلك ، ليكونوا ذوي حظوظ من
نعيمهم ، ووهب الكلّ معرفة نفسه على قدر معرفتهم بالأنبياء والأوصياء ؛ إذ
بمعرفتهم إيّاهم يعرفون الله ، وبولايتهم إيّاهم يتولّون الله ، فكلّ ما ورد من
البشارة والإنذار والأوامر والنواهي والنصائح والمواعظ من الله سبحانه فإنّما هو
لذلك ، ولمّا كان نبيّنا سيّد الأنبياء ووصيّه سيد الأوصياء لجمعهما كمالات سائر
الأنبياء والأوصياء ومقاماتهم مع مالهما من الفضل عليهم وكان كلّ منهما نفس الآخر
صحّ أن ينسب إلى أحدهما من الفضل ما ينسب إليهم لاشتماله على الكلّ ، وجمعه لفضائل
الكلّ ، وحيث كان الأكمل يكون الكامل لا محالة ؛ ولذلك خصّ تأويل الآيات بهما ، وبسائر
أهل البيت عليهمالسلام الذين هم منهما ذرّيّة بعضها من بعض ، وجيء بالكلمة
الجامعة التي هي الولاية فإنها مشتملة
__________________
على المعرفة
والمحبّة والمتابعة وسائر ما لا بدّ منه في ذلك.
وأيضا فإنّ أحكام
الله سبحانه إنّما تجري على الحقائق الكلّيّة والمقامات النوعيّة دون خصائص
الأفراد والآحاد ، فحيثما خوطب قوم بخطاب أو نسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب وذلك
الفعل عند العلماء وأولي الألباب كلّ من كان من سنخ أولئك القوم وطينتهم ، فصفوة
الله حيثما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم مكرمة يشمل ذلك كلّ من كان من سنخهم
وطينتهم من الأنبياء والأولياء وكلّ من كان من المقرّبين ، إلّا مكرمة خصّوا بها
دون غيرهم ، وكذلك إذا خوطبت شيعتهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعداؤهم بسوء
ونسب إليهم سوء يدخل في الأوّل كلّ من كان من سنخ شيعتهم وطينة محبّيهم ، وفي
الثاني كلّ من كان من سنخ أعدائهم وطينة مبغضيهم من الأوّلين والآخرين ؛ وذلك لأنّ
كلّ من أحبّه الله ورسوله أحبّه كلّ مؤمن من ابتداء الخلق إلى انتهائه ، وكلّ من
أبغضه الله ورسوله أبغضه كلّ مؤمن كذلك ، وهو يبغض كلّ من أحبّه الله تعالى ورسوله
، وكلّ مؤمن في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم ومحبّيهم ،
وكلّ جاحد في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من مخالفيهم ومبغضيهم.
وقد وردت الإشارة
إلى ذلك في كلام الصادق عليهالسلام في حديث المفضّل بن عمر ، وهو الذي رواه الصدوق طاب ثراه
في كتاب علل الشرائع بإسناده عن المفضّل بن عمر قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : بم صار عليّ بن أبي طالب عليهالسلام قسيم الجنّة والنار؟ قال : «لأن حبّه إيمان ، وبغضه كفر ،
وإنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان ، وخلقت النار لأهل الكفر ، فهو عليهالسلام قسيم الجنّة والنار لهذه العلّة ، والجنّة لا يدخلها إلّا
أهل محبّته ، والنار لا يدخلها إلّا أهل بغضه».
قال المفضّل : يا
ابن رسول الله فالأنبياء والأوصياء هل كانوا يحبّونه وأعداؤهم يبغضونه؟ فقال «نعم»
قلت : فكيف ذلك؟ قال : «أما علمت أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال يوم خيبر : لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله تعالى
ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، ما يرجع حتّى يفتح الله على يده؟» قلت : بلى. قال :
«أما علمت أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا أوتي بالطائر المشوي قال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك
إليك يأكل معي هذا الطير وعنى به عليّا؟» قلت : بلى. قال : «يجوز أن لا يحبّ
أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم عليهمالسلام رجلا يحبّه الله ورسوله ، ويحبّ الله ورسوله؟» فقلت : لا.
قال : «فهل يجوز أن يكون المؤمنون من أممهم لا يحبّون حبيب الله وحبيب رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنبيائه؟» قلت : لا. قال : «فقد ثبت أنّ جميع أنبياء الله
ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام محبّين ، وثبت أنّ المخالفين لهم كانوا له ولجميع محبّيه
مبغضين» قلت : نعم. قال : «فلا يدخل الجنّة إلّا من أحبّه من الأوّلين والآخرين ،
فهو إذا قسيم الجنّة والنار».
قال المفضل بن عمر
، فقلت له : يا ابن رسول الله ، فرّجت عنّي فرّج الله عنك فزدني ممّا علّمك الله
تعالى ، فقال : «سل يا مفضل» فقلت : أسأل يا ابن رسول الله فعليّ بن أبي طالب عليهالسلام يدخل محبّه الجنّة ومبغضه النار أو رضوان ومالك؟ فقال : «يا
مفضّل ، أما علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث رسوله وهو روح إلى الأنبياء وهم أرواح
قبل خلق الخلق بألفي عام؟» قلت : بلى. قال : «أما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد الله
وطاعته واتّباع أمره ، ووعدهم الجنّة على ذلك ، وأوعد من خالف ما أجابوا إليه
وأنكره النار؟» فقلت : بلى. قال : «أفليس النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ضامنا لما وعد وأوعد عن ربّه عزوجل؟» قلت : بلى. قال : «أوليس عليّ بن أبي طالب عليهالسلام خليفته وإمام أمّته؟» قلت : بلى. قال : «أوليس رضوان ومالك
من جملة الملائكة والمستغفرين لشيعته الناجين بمحبّته» قلت : بلى. قال : «فعليّ بن
أبي طالب عليهالسلام إذا قسيم الجنّة والنار عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ورضوان ومالك صادران عن أمره بأمر الله تبارك وتعالى ،
يا مفضّل ، خذ هذا فإنّه من مخزون العلم ومكنونه لا تخرجه
إلّا إلى أهله» .
عن تفسير الإمام
العسكري عليهالسلام عن الحسن بن عليّ عليهماالسلام أنّه قال : «من دفع فضل أمير المؤمنين عليهالسلام فقد كذّب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر
كتب الله المنزّلة ، فإنّه ما نزل شيء منها إلّا وأهمّ ما فيه بعد الأمر بتوحيد
الله تعالى والإقرار بالنبوّة الاعتراف بولاية عليّ والطيّبين من آله عليهمالسلام» .
وعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : ما قبض الله نبيّا حتّى أمره أن يوصي إلى
عشيرته من عصبته ، وأمرني أن أوصي ، فقلت : إلى من يا ربّ؟ فقال : أوص يا محمّد
إلى ابن عمّك عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، فإنّي قد أثبتّه في الكتب السالفة ، وكتبت فيها أنّه
وصيّك ، وعلى ذلك أخذت ميثاق الخلائق ومواثيق أنبيائي ورسلي. أخذت مواثيقهم لي
بالربوبيّة ، ولك يا محمّد بالنبوّة ، ولعليّ بن أبي طالب بالولاية .
وعن جابر الجعفي
عن الباقر عليهالسلام في رواية طويلة قال : «فنحن أوّل خلق الله وأوّل خلق عبد
الله وسبّحه ، ونحن سبب خلق ، وسبب تسبيحهم وعبادتهم من الملائكة والآدميين ، فبنا
عرف الله ، وبنا وحّد الله ، وبنا عبد الله ، وبنا أكرم الله من أكرم من جميع خلقه
، وبنا أثاب من أثاب ، وبنا عاقب من عاقب ، ثمّ تلا قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٦) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) . وقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) . فرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أوّل من عبد الله تعالى ، وأوّل من أنكر أن يكون له ولد
وشريك ، ثمّ نحن بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» .
فظهر من جميع ما
ذكر أنّ حقيقة الدين وروح الأحكام معرفتهم
__________________
وولايتهم ، وجميع
الخلق راجع إليهم ، فجميع آيات الكتاب تكون فيهم وما يتعلّق بهم وبشؤونهم في دلالة
اللفظيّة أو اللبيّة أو النقليّة ، فتأمل.
لمحة تأريخيّة عن
علوم القرآن
لقد أدركت الطلائع
المؤمنة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أهميّة العلم ، ووعت أن الشخصيّة الإسلاميّة عمادها الأساس
هو التوحيد ، وأنّ طريق التوحيد هو العلم ، فانبرت للعلم تنهله ، وترتاد رياضه ،
وطلبت العلم ليهديها إلى حقائق الكون ، ولتبلغ المراتب السامية في مدارج الرقي
الحضاري ، وتنافست في مصداق قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ) . وتسابقت كسبا للدرجات العليا عند الله تعالى ، ونيلا
للرفعة والمنزلة السامية لديه (... يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) .
وفهم المسلمون
الأوائل البون الشاسع بين الجهل والعلم في اعتبارات القرآن حين ثقفوا قوله تعالى :
(كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في الوقت الذي أشاد الله تعالى بشهادة أهل العلم على
وحدانيّته : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
ولقد كان رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم النمير العذب والسلسل الرقراق لمختلف العلوم والمعارف ،
فأحاط به جمع من الصحابة الأجلّاء ، يقتبسون منه سناء العلم ، ويستضيئون بهداه.
غير أن هذه العلوم
القرآنية لم تدوّن جميعها عند تدوين القرآن في العهد الرسالي ؛ وذلك لأسباب عديدة
عدّ بعضهم منها ما يلي :
__________________
١ ـ وجود الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بين المسلمين يوضّح لهم ما أشكل عليهم فهمه ، ويبصّرهم
بحقائق التفسير ، ويوجّههم نحو المقاصد القرآنيّة ، فهو (... يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ...). .
٢ ـ قدرتهم على
الفهم المباشر والاستيعاب الصحيح ، لفصاحتهم وبلاغتهم العربيّة الأصيلة ؛ ولأنّ
القرآن الكريم : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ (١٩٤) عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٥) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) .
٣ ـ لعسر الكتابة
وندرة أدواتها وقلّة الكتّاب للتعلّم والتعليم ، وبعد أن اختار الله سبحانه وتعالى
الصادق الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى جواره تباري المسلمون الغيارى على الدين في تدوين
العلوم وتصنيفها حسبما توفّرت لديهم من الوسائل والأدوات ، ولعلّ من أهمّ الأسباب
التي دفعتهم إلى التدوين :
أ ـ الرغبة في أن
يكونوا مصاديق تتحقّق فيهم إرادة الله الأزلية في حفظ القرآن وتخليده بالبحث فيما
احتواه من علوم وما تضمّنه من معارف لما يترتّب على ذلك من هداية وتعليم وتربية.
ب ـ خدمة الأمّة
الإسلاميّة جيلا بعد جيل بإشاعة العلم بينها ، ونقله لها دون خطأ أو اشتباه
بتدوينه ، لا سيّما بعد أن اختلط العرب بغيرهم من الأعاجم.
ج ـ تزكية ما
لديهم من العلم بنشره بين المسلمين ، فإنّ في نشره زكاة له.
د ـ نيل الثواب
العظيم في طلب العلم ونشره وترويجه ، حيث رفع الله سبحانه درجات العلماء في الدنيا
والآخرة ، وجعل طلب العلم في أعلى مراتب المستحبات والمندوبات ، وفي بعض مراتبه من
أهمّ الفرائض
__________________
والواجبات ، كما
ظلّل أهل العلم بأجنحة ملائكته ، وسخّرهم للاستغفار عنهم والدعاء لهم كما هو في
متضافر الأخبار على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه.
هذا وقد كان
مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام الرجل الأوّل ، والمحرز لقصب السبق في مضمار تدوين القرآن
وتفسيره وبيان علومه.
قال في الإتقان :
أخرج ابن أبي داود من طريق ابن سيرين قال : قال عليّ عليهالسلام : «لما مات رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آليت ألا آخذ عليّ ردائي إلّا لصلاة جمعة حتّى أجمع القرآن».
وكذلك ابن الضريس في فضائله ، وابن أشتة في المصاحف من وجه آخر ، وفيه أنّه كتب
فيه الناسخ والمنسوخ .
والجدير بالذكر
أنّ جمع مولانا أمير المؤمنين القرآن لا يعني أنّه لم يكن مدوّنا ، بل كان مدوّنا
في الرقاع والعسب ونحوها ، وقام أمير المؤمنين عليهالسلام بتدوينه مصحفا ، وذلك بترتيب (الجذاذات) المدوّن عليها
وتوحيدها.
والمشهور أنّ
الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أمر أبا الأسود الدؤلي (ت ٦٩ ه) بوضع بعض قواعد اللغة
حفاظا على سلامتها ، فكان عليهالسلام أوّل من وضع الأساس لعلم إعراب القرآن.
وأمّا في مضمار
التفسير فقد جاء : أمّا الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم عليّ بن أبي طالب ،
والرواية عن الثلاثة نزرة جدّا .
وعن نصير بن
سليمان الأحمسي عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنّه قال : «والله ما نزلت آية إلّا
وقد علمت فيما أنزلت وأين أنزلت ، إنّ ربّي
__________________
وهب لي قلبا عقولا
ولسانا سؤولا» .
وعن الأصبغ بن
نباته أنّه عليهالسلام قال في خطبة له : «سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي فلق
الحبّة وبرأ النسمة ، لو سألتموني عن أيّة آية لأخبرتكم بوقت نزولها ، وفيم نزلت ،
وأنبأتكم بناسخها من منسوخها ، وخاصّها من عامّها ، ومحكمها من متشابهها ، ومكيّها
من مدنيّها» .
وعن ابن الطفيل
قال : شهدت عليّا يخطب وهو يقول : «سلوني ... فو الله ما من آية إلّا وأنا أعلم أبليل
نزلت أم بنهار ، أم في سهل أم في جبل» .
وفتق الإمام أمير
المؤمنين عليهالسلام سائر العلوم القرآنية وصنّفها ، فلقد أملى ستّين نوعا من
أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوع مثالا يخصّه ، وهو في كتاب نرويه عنه من عدّة
طرق موجود بأيدينا إلى اليوم ، وقد أخرجه بتمامه العلّامة المجلسي (قده) في الجزء
الأربعين من بحار الأنوار.
وليس عجبا أن ينال
الإمام عليّ عليهالسلام هذه المرتبة ، وأن يدّخر هذه الكنوز العلميّة ، وأن يبلغ
هذا الشأن ؛ لأنّه العلم الهادي والحجّة في الخلق.
ومن هنا يرى البعض
أنّه لا يصحّ فيه ما اشتهر قوله : إنّه عليهالسلام أوّل الصحابة إسلاما ، وأقدمهم إيمانا ـ لأنّ عليّا عليهالسلام هو وصيّ رسول ربّ العالمين ، وحجّة الله على خلقه ، ولد
مؤمنا مسلما معيّنا من قبل الله تعالى للوصيّة والخلافة والإمامة قبل أن يخلق الله
الخلق ـ إلّا على نحو الإضافة أو المجاز على ما هو المستفاد من بعض الروايات ، كما
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان
__________________
نبيّا قبل أن يخلق
في الحياة الدنيا ، ومن تلك الأحاديث والروايات التي ذكرت وهي صريحة في عموم أخذ
الميثاق للجميع بالنبوّة والولاية في عالم الذر . الحديث الشريف : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» . وفي آخر : «كنت حيّا وآدم بين الماء والطين» . وكذلك الحديث القدسي : «لولاك لما خلقت الأفلاك» . إلى غيرها من الروايات والأحاديث المعتبرة.
وقد ورد في كتاب «إليا»
والذي نشرته دار المعارف الإسلامية في لاهور في باكستان في تموز عام ١٩٥١ م تحت
عنوان «أسماء مباركة توسّل بها نوح عليهالسلام» حيث عثر العلماء السوفيت في منطقة «وادي قاف» على خشبة
قديمة قالوا : إنها تعود إلى سفينة نوح عليهالسلام مكتوب عليها مجموعة من الحروف باللغة السامانيّة ، وهي
أقدم لغات العالم ، وترجم حروف هذه اللوحة إلى اللغة الإنجليزيّة العالم البريطاني
«إيف ماكس» أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانشستر ، ولا يخفى أنّ «إيليا» و «شبر»
و «شبير» هي أسماء باللغة السامانية ، ومعناها بالعربيّة «عليّ» و «حسن» و «حسين»
وقد جاء في دعاء النبيّ نوح عليهالسلام بعد ترجمته : «إلهي بلطفك ورحمتك وبالذوات المقدّسة محمّد
إيليا شبّر شبير فاطمة خذ بيدي ، فإنّ هؤلاء الخمسة عظماء يجب احترامهم ، ومن
أجلهم خلق الله تعالى هذه الدنيا ، إلهي فأمدّني ببركة أسمائهم وأنت قادر على
هدايتنا جميعا» .
إنّ أمير المؤمنين
عليهالسلام كان حافظا ومستودعا لعلوم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث قال عليهالسلام : «كنت أدخل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّ يوم دخلة ، وكلّ ليلة دخلة ، فيخليني فيها أدور معه
حيثما دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
أنّه لم يصنع ذلك
بأحد غيري ... وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سكتّ وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت
على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها عليّ ، فكتبتها بخطّي
، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها
وعامّها ، ودعا الله أن يؤتيني فهمها وحفظها» .
وعن عبد الله بن
مسعود قال : استدعى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا عليهالسلام فخلا به ، فلمّا خرج إلينا سألناه : ما الذي عهد به إليك؟
فقال عليهالسلام : «علّمني ألف باب من العلم ، فتح لي كلّ باب ألف باب» .
ولقد أبان القرآن
الكريم عن منزلة أمير المؤمنين عليهالسلام ومقامه في آية المباهلة في قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ
وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) .
فقد أجمع
المفسّرون على أنّ المقصود من الأبناء في الآية الشريفة هم الحسنان عليهالسلام ، والنساء فاطمة عليهاالسلام ، والأنفس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ عليهالسلام إلى غيرها من الآيات الشريفة والروايات المتواترة كما في
حديث الثقلين والمنزلة .
__________________
بعض مفسّري الشيعة
من الصحابة
الأوائل في التفسير والتأويل عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب (ت ٦٨ ه). وهو
أوّل من أملى في تفسير القرآن الكريم ، وقد حكي عن أبي الخير قوله في طبقات
المفسّرين عند ذكره ابن عبّاس : فهو ترجمان القرآن وحبر الأمّة ، ورئيس المفسّرين .
وقال الزركشي :
وصدور المفسّرين من الصحابة عليّ ثم ابن عبّاس ، إلّا أنّ ابن عبّاس كان قد أخذ عن
عليّ عليهالسلام .
وقال أيضا كان
لعليّ عليهالسلام فيه ـ التفسير ـ اليد السابقة قبل ابن عبّاس ، وهو القائل
: «لو أردت أن أملي وقر بعير عن الفاتحة لفعلت».
وقال ابن عطية
فأمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم فعليّ بن أبي طالب ، ويتلوه ابن عبّاس رضي الله
عنهما .
وقد ورد أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دعا لابن عباس بقوله : «اللهم فقّهه في الدين» فخرج بحرا في العلم وحبرا للأمّة.
ومن المفسّرين
جابر بن عبد الله الأنصاري (ت ٧٤ ه) الذي عدّه أبو
__________________
الخير في طبقات
المفسّرين من الطبقة الأولى ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، ومنهم الصحابي الجليل أبي بن
كعب ، وهو أوّل من صنّف في فضائل القرآن ، وهو سيّد القرّاء ، وعدّه أبو الخير في
الطبقة الأولى من المفسّرين ، وهو ممّن جمع القرآن على عهد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومنهم سعيد ابن جبير التابعي ، وهو أعلم التابعين في
التفسير ، وقال قتادة : كان سعيد ابن جبير أعلمهم بالتفسير ، وقال خصيف فيه : كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن
المسيّب ، وبالحجّ عطاء ، وبالحلال والحرام طاووس ، وبالتفسير أبو الحجّاج مجاهد
بن جبر ، وأجمعهم لذلك كلّه سعيد بن جبير .
وممّن اهتمّوا
بعلوم القرآن وعنوا بها : أبان بن تغلب (ت ١٤١ ه) ، فهو أوّل من صنّف في القراءة
، ودوّن علمها ، وأوّل من صنّف في معاني القرآن ، وأوّل من صنّف في غريب القرآن ،
ومنهم طاووس بن كيسان (ت ١٠٦ ه) ، وهو من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين عليهماالسلام ، عدّه ابن تيميّة من أعلم الناس بالتفسير ، ومنهم محمد بن
السائب الكلبي من أصحاب الإمام محمّد الباقر عليهالسلام ، وهو أوّل من صنّف في أحكام القرآن (ت ١٤٦ ه) ، وهو صاحب
التفسير الكبير ، ومنهم أبو حمزة الثمالي صاحب الإمام زين العابدين عليهالسلام وقد ذكر تفسيره ابن النديم.
ومن المشاهير
المهتمّين بعلوم القرآن الفراء يحيى بن زياد فقد صنّف في معاني القرآن ، ومنهم
عليّ بن إبراهيم القمّي ، وله كتاب تفسير القرآن ،
__________________
وعليه المعوّل إلى
اليوم ؛ لأنّه تفسير بالمأثور عن أهل البيت عليهمالسلام ، عاصر الإمام الحسن العسكري عليهالسلام وهو من أعيان القرن الثالث.
ومنهم محمد بن
أحمد بن جنيد ، وهو من الفقهاء الأعاظم ، ألّف في الفقه المقارن ، وهو أوّل من
صنّف في أمثال القرآن. ذكر ابن النديم في الفهرست ما لفظه : كتاب الأمثال لابن
الجنيد. وله مصنّفات كثيرة ، وهو من معاصري والد الشيخ الصدوق ، ومنهم العيّاشي
محمّد بن مسعود ، فله ما يقرب من مائتي مصنّف ، منها كتاب التفسير المعروف ب «تفسير
العياشي». والحسن بن عليّ بن فضال ، له كتاب «الناسخ والمنسوخ» وكان من خواصّ
الإمام الرضا عليهالسلام ، وتوفّي سنة (٢٢٤ ه) ومحمّد بن العبّاس بن عليّ المعروف
بابن الحجّام ، له في كلّ علوم القرآن كتب مفردة ، وله كتاب «ما نزل في أهل البيت عليهمالسلام من القرآن» وهو ألف ورقة.
ومنهم أبو عليّ
الكوفي (ت ٣٤٦ ه) له كتاب «فضائل القرآن» ومنهم ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ ه)
وتفسيره مشهور باسمه.
ومنهم ابن عقدة
أبو العبّاس ، وهو وحيد دهره في حفظ الحديث (ت ٣٣٣ ه) له كتاب في تفسير القرآن من
طريق أهل البيت عليهمالسلام.
وفي هذا القرن
ازداد ازدهار المؤلّفات ، وكثرت المصنّفات ، فظهر منها «البرهان في علوم القرآن» و
«البيان في علوم القرآن» للشيخ المفيد محمّد بن النعمان (ت ٤٠٩ ه) وقيل (ت ٤١٣ ه)
وكتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للسيد الشريف الرضي (ت ٤٠٦ ه) وكتاب «التبيان
في تفسير القرآن» للشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه) ومنهم
الشيخ رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب (ت ٥٨٨ ه) له كتاب «أسباب النزول»
وكتاب «متشابه القرآن» ، ومنهم الشيخ أبو الفتوح الرازي له كتاب «روض الجنان في
تفسير القرآن» في عشرين مجلّدا ، ومنهم أمين الدين الطبرسي (ت ٥٤٨ ه) وقيل (ت ٥٦١
ه) صاحب «مجمع
البيان في تفسير
القرآن» .
ثم استمرّ العلماء
في إغناء المكتبة الإسلاميّة بصنوف المؤلّفات والأبحاث المتعلّقة بالقرآن الكريم
أمثال زبدة البيان للمقدّس الأردبيلي ، وكنز العرفان للفاضل المقداد ، وتفسير
الصافي للفيض الكاشاني ، والميزان للسيّد الطباطبائي ، وغيرها الكثير الكثير
المصنّف في هذا الشأن بنحو جامع شامل أو مختصّ بباب أو مجال من المجالات. ولا يزال
البحث والتأليف مستمّرا في أصقاع العالم الإسلامي ، والعلماء عاكفين على دراسة ما
في القرآن الكريم من أصناف المعارف والعلوم ، حيث ظهرت بدائع المؤلّفات ونفائس
المصنّفات التي كشفت عمّا في القرآن الكريم من ذخائر وكنوز المعرفة والعلم ، وهو
يمدّ البشريّة بأنوار الهداية والرشاد ، ويدلّهم على الطريق المستقيم والحياة
الحرّة السعيدة الكريمة.
علم التفسير أساس
علوم القرآن
التفسير في اللغة
الكشف والإظهار والإبانة ، وفي الاصطلاح بيان معاني الآيات القرآنيّة وشأنها
وظروفها بلفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة .
وأما التفسير
بوصفه علما فهو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاما لله تعالى .
فالنظر في القرآن
الكريم من حيث كونه كلاما له دلالة ومعنى ولله تعالى فيه غرض وقصد ، ومن أجل بيان
هذه الدلالة وشرح المعنى وإيضاح القصد والإفصاح عن الغرض نشأ علم التفسير الذي
تكفّل بتلك الغايات.
__________________
ولعلّ على هذا
المعنى جاء قوله سبحانه : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ
إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وبذلك يختلف عن التأويل ؛ لأنّ التأويل من الأول ؛ أي
الرجوع إلى الأصل كما في مفردات الراغب ، والتفسير أعمّ منه ، كما وأنّ أكثر ما يستعمل التفسير في
الألفاظ والتأويل في المعاني ، كتأويل الرؤيا ، كما أنّ التفسير أكثره يستعمل في
المفردات بينما التأويل في الجمل ، مضافا إلى أنّ التأويل يستعمل أكثره في الكتب
الإلهيّة ، بينما التفسير قد يستعمل في الأعمّ ، ولا يخفى عليك أنّ تفسير القرآن
والعلم بتأويله من أشرف الصناعات وأسمى المعارف ، وذاك لما ثبت في المنطق من أنّ
الصناعات الحقيقيّة إنّما تتشرّف بأحد ثلاثة أمور :
الأول : شرف
موضوعاتها ، وهو المشهور الغالب في مختلف العلوم ، كما قالوا بأشرفيّة علم الكلام
على الفقه ، والثاني على الأصول ؛ لكون الأوّل يبحث في موضوع المبدأ والمعاد ،
وهما يعودان إلى الخالق تبارك وتعالى ، وفي العرف يقولون : الصياغة أشرف من
الدباغة ؛ لأنّ موضوعها الذهب والفضّة ، وهما أشرف من جلد الحيوان المذكّى أو
الميتة الذي هو موضوع الدباغة.
الثاني : شرف
أغراضها وغاياتها ، كما شرّف علم الطب على غيره ؛ لكونه يهدف إفادة صحّة الإنسان
وسلامته ، والإنسان أشرف مخلوقات الله سبحانه ، وكما شرّف علم الفقه على غيره ؛
لكونه يهدف الرفعة بالإنسان إلى الكمالات المعنويّة العالية. وفيه قد قيل :
موضوعه فعل
المكلفينا
|
|
غايته الفوز
بعليينا .
|
الثالث : شرف
معلومه ، وبعضهم أضاف شدّة الحاجة إليه ؛ لوقوع مسائله كثيرا في محلّ حاجة العالم
واستنفاد أغراضه.
__________________
وهذا ما حازه
جميعا علم التفسير ؛ وذلك لأنّ موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى الذي هو ينبوع كلّ
حكمة ، ومعدن كلّ فضيلة ، ومخزن العلوم والمعارف ، وغرضه هداية الناس إلى التي هي
أقوم في الدنيا والآخرة.
كما أنّ معلومه ما
أودعه الله سبحانه من قوانين ومعان وأسرار في عالمي التكوين والتشريع ، فعلم
التفسير هو من أجلّ العلوم قدرا ؛ لأنّه الموصل إلى فهم مراد الباري عزوجل في كتابه ، ومعرفة أحكامه في وحيه وتنزيله ، وما فرضه على
عباده ، وهذه الغاية من أشرف الغايات وأحسن الطرق لنيل السعادات.
هذا وقد نشأت
للتفسير أساليب ومذاهب ، ودوّنت للمفسّرين شرائط وآداب ، وصار المفسّرون طبقات.
ولأهمّيّة الدور
الذي يمارسه علم التفسير صار هذا العلم أساسا لكافة العلوم وأهمّها ، وما من علم
إلا ويعوّل عليه ، ولقد بيّن العلماء الشروط التي يجب توفّرها في العالم ليكون
قادرا على التفسير ، ولعلّ من أهمّها ما يلي :
١ ـ اللغة : ليعرف
بها شرح المفردات ومدلولاتها بحسب الوضع ، فلا يكفي معرفة اليسير منها.
٢ ـ النحو : بما
أنّ المعنى يتغيّر ويختلف باختلاف الإعراب فلا بدّ من وجود الإعراب لتحديد المعنى
المراد من التركيب بناء على معرفة إعرابه.
٣ ـ التعريف : وبه
يعرف المفسّر أبنية الكلم وموازينها وصيغها ، فإذا وجد كلمة مهمة استطاع تصريفها ،
فاستطاع معرفة مادّتها ومعناها.
٤ ـ الاشتقاق :
وهو معرفة المصدر الذي صدرت عنه الكلمة ، فالاسم إذا كان من مادّتين مختلفتين
اختلف معناه باختلافهما ، كالمسيح مثلا : أهو من السياحة أم من المسح؟.
٥ ـ علوم البلاغة
: وبها يعرف المفسّر طريق المعاني ، وخواصّ التراكيب.
٦ ـ علم القراءات
: وبه يعرف كيف ينطق بالقرآن ، وبه كذلك يرجّح بعض وجوه التفسير المحتملة على بعض
آخر ؛ لتواتر قراءة ، أو شهرتها ، أو شذوذها.
٧ ـ أصول الدين :
وهي قواعده المتعلّقة بذات الله وصفاته وأفعاله والإيمان به وما إلى ذلك ، وبهذا
العلم يستدلّ المفسّر على ما يستحيل بحقه تعالى ، وما يجب ، وما يجوز.
٨ ـ أصول الفقه :
وبه يستطيع أن يدرك وجه الاستدلال على الأحكام فيه.
٩ ـ أسباب النزول
: إنّ معرفة أسباب النزول توضّح إلى حدّ بعيد مرامي تلك الآية ومدلولها.
١٠ ـ الناسخ
والمنسوخ : يعلم به الآيات المحكمة والآيات المنسوخة وما بطل العمل به وما بقي
وهكذا.
١١ ـ الحديث
النبوي : وما حديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا تفسير للقرآن والشريعة ، فكم من حديث فسّر القرآن ،
وكم من مغلق فتحه.
١٢ ـ علم الموهبة
: وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم ، كما ربّما يستفاد من بعض الأخبار.
١٣ ـ علم المنطق :
وهو علم مهمّ للغاية يحتاجه المفسّر طريقا إلى الفهم الصحيح ، لكونه ضابطا
للتفكير.
إضافة إلى كلّ هذا
يجب أن يكون المفسّر أديبا ، ذكيا ، واسع العقل ، كبير القلب ، تقيّا ، صالحا ،
يخشى الله في السرّ كما يخشاه في العلانيّة ؛ لأنّ هذه تهيئ في نفسه الاستعداد لشروق
الروح وصفاء الضمير ، فيفيض الباري
عزوجل عليه من أنواره وعناياته وألطافه.
أنواع التفسير
ربما ينقسم
التفسير إلى نوعين أساسيين :
الأول : تفسير
لفظي لا يتجاوز غالبا حلّ الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما يحتويه نظم القرآن من
نكات بلاغيّة وإشارات فنّيّة ، وهذا النوع أقرب إلى التطبيقات اللغويّة والبلاغيّة
منه إلى التفسير وبيان مراد الله سبحانه من هداياته.
الثاني : تفسير
المعنى وهو يجاوز اللغة ، ويجعل هدفه الأعلى تجلية معاني القرآن وتعاليمه ، وحكمة
الله تبارك وتعالى فيما شرّع للناس في كتابه العزيز على وجه يزكّي الأرواح ، ويفتح
القلوب ، ويرفع النفوس إلى الاهتداء بهديه ، وهذا هو الأصل فيه.
هذا وللمفسّرين في
مساعيهم مذاهب مختلفة ترجع إلى اختلاف الهدف أو الجهة التي أراد كلّ مفسّر أن
يستنطق القرآن ويستهدي بهديه فيها ، ولعلّ من أبرز هذه المذاهب ما يلي :
١ ـ التفسير
بالمأثور
٢ ـ التفسير
بالدراية ، والمراد بالدراية هنا الاجتهاد بعد معرفة المفسّر كلام العرب وأساليبهم
في القول ، وبعد وقوفه على أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه
ونحوها من مسائل وفنون مختلفة.
٣ ـ التفسير
الباطني
٤ ـ التفسير
العقلي الفلسفي أو الكلامي
٥ ـ التفسير
الفقهي
٦ ـ التفسير
العلمي ، ويقصد به التفسير الذي يتحدّث عن
الاصطلاحات
العلميّة في القرآن ، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء القائمة على الأسس
الفلسفيّة منها ، أو العلوم التجريبيّة.
٧ ـ التفسير
الاجتماعي
٨ ـ التفسير
الأدبي
٩ ـ التفسير التدبري
الذي يعتمد غالبا على الفهم العميق والإدراك المركّز لمعاني الألفاظ القرآنيّة بعد
إدراك مدلول العبارات القرآنيّة وفهم دلالاتها فهما عميقا ودقيقا ، ثم ربطها بواقع
الحياة البشريّة ، وفهم أبعادها وجوانبها المختلفة في الآمال والآلام والطموحات
والمشاعر والتفكّرات.
١٠ ـ التفسير
الشمولي ، وهو الذي يجمع بين كلمات الله سبحانه وكلمات حججه الطاهرة عليهمالسلام بما لهما من ظلال وتطابق وتكامل في آن واحد ، ويجعل من كلّ
منهما ميزانا ومفسّرا للآخر ؛ لأنّ القرآن والسنّة نور واحد ورسالة واحدة تجلّى
أحدهما في كلمات الوحي الإلهي والآخر في كلمات رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة الطاهرين عليهمالسلام.
مضافا إلى اعتماده
في ذلك على تجارب الحياة وعبقريّة البشر وطاقاته العقليّة وتدبّره في مختلف
المسائل والشؤون ؛ وذلك للتطابق الجوهري بين النقل والعقل لكونهما يرجعان إلى خالق
واحد ونظام واحد ورؤية واحدة.
وبالتالي فإنّ ما
يبينانه من مفاهيم ومعان هي عين الحقّ والصواب لا يخالجه خطأ أو جهل أو قصور ،
ولعلّ هذا أفضل أنواع التفسير وأكمله وأدقّه لما له من خصوصيّة فهم القرآن في أصل
معناه أو حدوده أو مصداقه الأكمل على ميزان أهل البيت عليهمالسلام ورؤيتهم ، كما أنّ القرآن الميزان الذي يميّز كلامهم عليهمالسلام من غيره المشتبه على الناس في السند أو في الدلالة ، وهذا
ما قد نجده جليّا في تفسير المرجع الديني الإمام السيّد محمّد الحسيني الشيرازي (أعلى
الله مقامه) حيث جمع بين اللغة والعقل والنقل الوارد عن المعصومين عليهمالسلام في فهم معاني الآيات وكشف مضامينها.
هذا ولا يخفى عليك
أنّ إعجاز القرآن لا ينحصر بألفاظه وظواهره ، بل في رموزه وإشاراته ولطائفه
وحقائقه ، ففي كلّ سورة بحار من المعارف ، وتتجلّى في كل آية منه أنوار من الحقائق
والهدايات ، وكيف لا يكون كذلك وقائله عزوجل لا نهاية لعلمه وكماله ، ولا حد لعظمته وجلاله ، وما حصل
من التحديدات إنّما هو من مقتضيات الاستعدادات لطفا بالعباد ، لا أن يكون تحديدا
منه.
وربّما يتوصّل من
يراجع مختلف أنحاء التفاسير أنّه فسّر كلّ صنف من العلماء القرآن بما هو المأنوس
عندهم ، فالفلاسفة والمتكلّمون فسّروه بمذاهبهم من الآراء الفلسفيّة والكلاميّة ،
والعرفاء والصوفيّة على طريقتهم ، والفقهاء فسّروا ما يرتبط بغرضهم في فقه الأحكام
والمسائل ، والمحدّثون فسّروه بخصوص ما ورد من السنّة الشريفة من الآيات ، كما أنّ
الأدباء فسّروه من زاويتهم الأدبيّة ، وهكذا أهل المعارف والعلوم الإنسانيّة
والطبيعيّة.
ومع كلّ ذلك يظهر
العجب في أنّه كلّما كثر في هذا الوحي المبين والنور العظيم من هذه البيانات
والتفاسير فهو على كرسي رفعته لا ينقص ، وجماله يزداد على مر العصور تلألؤا وجلالا
، فما نجده من مزايا وخصوصيّات لبعض التفاسير إنّما هي قضيّة نسبيّة تعتمد على
ذكاء المفسّر وسعة اطّلاعه وطول باعه في العلوم المختلفة ، وهذا ما امتاز به
الإمام الشيرازي (قدسسره) ؛ إذ له في كلّ فنّ معرفة ، وله في مختلف مجالات
الثقافة والفكر رؤية ومنهج ، ومن هنا كانت له إشراقات وإلماعات ربّما لم يصل إليها
قبله مفسّر أو يسبقه إليها ذهن عالم أو أديب ، كما ستجد ذلك جليّا من خلال مطالعتك
لهذا السفر القيّم.
الطريقة الجديدة
في تفسير القرآن الكريم
إنّ مفسّري القرآن
وبالأخصّ القدامى منهم أبلوا بلاء حسنا في تفسير الآيات الشريفة المتعلّقة
بالعقائد والأحكام ، وخصوصا مواضيع التوحيد والشرك والنبوّة والإمامة ونحوها ،
والتي تشكّل جوهر الإسلام ، والعنصر الذي اتّفقت عليه الشرائع الإلهيّة ، لكن
الملحوظ أنّ منهج القدماء قام على أساس التسلسل السوري في القرآن ؛ إذ أخذوا في
تفسيرهم سورة بسورة وآية بآية ؛ لذلك لم يبحثوا مجموع الآيات الواردة حول موضوع
واحد دفعة واحدة إلّا نادرا ، مما أدّى إلى توزيع الكثير من المضامين والمعاني في
الشيء الواحد على مختلف السور والآيات ، فصار الطالب يحتاج إلى المزيد من الجهد
والتتّبع حتّى يحصل على الحقيقة كاملة جليّة على الرغم من وجود نقاط قوّة عديدة في
هذا النهج.
أمّا طريقة
التفسير الجديدة فهي جاءت تكملة لجهود المتقدّمين وإغناء لتجاربهم ودراساتهم لتعطي
لنا صورة بالغة الوضوح ومكمّلة لما أعدّه السابقون من المفسّرين ، وهذا التفسير
يسمّى «التفسير الموضوعي» وهو يعني بتفسير آيات القرآن الكريم حسب الموضوعات
والمفاهيم ، أي حسب التبويب والتقسيم الموضوعي للقرآن الكريم.
وتتلخّص هذه
الطريقة في جمع الآيات المتعلّقة بالموضوع الواحد في مكان واحد ، ثمّ تصنيفها على
حسب التسلسل الموضوعي ، ثمّ القيام بعمليّة جمع بين الأصناف لاستنباط نظرة واحدة
متكاملة وفكرة جامعة شاملة من مجموع هذه الآيات ، خصوصا أنّ القرآن الكريم (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) كما أنّنا نستفيد فائدة أخرى من هذا الجمع لمجموع الآيات
المتعلّقة بموضوع معيّن بالإضافة إلى فائدة الوقوف على النظرة القرآنيّة المتكاملة
، وهي أنّنا
__________________
ربّما يصعب علينا
فهم آية ما من الآيات ، أو معرفة الهدف منها لابتعادنا عن عصر الوحي وعدم اطّلاعنا
على ملابسات نزول تلك الآية بنحوها الكامل والقرائن الحاليّة أو المقاميّة ونحوها
السائدة في المجتمع الإسلامي آنذاك ، فيأتي أسلوب «جمع الآيات إلى جانب بعضها»
ليساعدنا على رفع بعض الغموض وإزالة شيء من الإبهام ، وتنكشف لنا بسبب هذا الجمع
ملامح الحقيقة من خلال غيوم الاحتمالات وسحب الأوهام التي قد تكتنف آية من الآيات
؛ ولهذا قيل : «إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا» وورد عن مولانا
أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام تأكيد لذلك : «كتاب الله تبصرون به وتنطقون به ، وتسمعون
به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض» .
هذا والتفسير
الشريف الذي نتحدّث عنه وإن كان قد جاري طرق القدامى في نهجه وطريقته إلّا أنّه
حاول فيه المصنّف (أعلى الله مقامه) أن يقترب بعض الشيء إلى الطريقة الجديدة ،
فسعى إلى إيجاد ربط بين الآيات المختلفة ، وأشار إلى الجهات الأخرى المكمّلة
لمعاني الآيات المفسّرة في موردها ، وفي بعضها أشار إلى عنوانها ، وبذلك يكون قد
سهّل على القارئ الوصول إلى بعض الحقيقة كاملة ، وكان موفّقا في ذلك ؛ لأنّ من
أصعب ما يجده الكاتب في مثل هذا النوع من الكتابات أن يجمع المعاني المتعدّدة في
عبارة موجزة ومختصرة ، خصوصا وأنّه يفسّر القرآن.
القرآن يفسّره
الزمان
إنّ تطور الزمن
وتقدّم العلوم أكسب المحقّقين والمفكّرين نمطا جديدا من الرؤية ، حيث تتأكّد هنا
أهمّيّة وضرورة التفسير الموضوعي ، فقد أصبح كلّ فريق من هؤلاء المفكّرين
والمحقّقين وبالاعتماد على هذا النوع من التفسير يستخرج من القرآن الكريم مفاهيم
وأمورا علميّة جديدة تطابق
__________________
اختصاصه ،
فالاستفادة من القرآن الكريم على الأصعدة الاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة في
تصاعد واتّساع مستمرّين.
وقد استخرج
المحقّقون الإسلاميّون المعاصرون بفضل ما أوتوا من الطرق الحديثة المبتكرة في
البحث العلمي والدراسة والتحليل حقائق مهمّة من القرآن الكريم ربّما لم تخطر على
بال المفكّرين والمحقّقين القدامى ، فأضافوا على علوم القرآن الكثير ، كما اكتشفوا
من المعاني والمضامين الشيء الكثير.
إنّ القرآن الكريم
كتاب أبدي خالد ينطوي على أبعاد مختلفة ، وبطون متنوّعة ، بحيث يمكن للعقل البشري
المتطوّر أن يكتشف في كلّ مرّة معنى جديدا فيه ، وبحيث يمكن لدارسيه من أهل
التحقيق أن يكتشفوا في كلّ عصر بعدا جديدا من أبعاده في شتى مجالات المعارف
الإنسانية ، ومن هنا اتّفقت الكلمة على أنّ الاستفادة من القرآن الكريم لا تنحصر
بالعرفاء والفقهاء والفلاسفة وأرباب العلوم القديمة والإلهيّات خاصّة.
إنّ استنباط نكات
دقيقة وجديدة من القرآن من قبل علماء الطبيعة والرياضيين ورواد العلوم الإنسانية
كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم فلسفة التأريخ خير دليل وأفضل شاهد على أنّ هذه
المعجزة الخالدة تنطوي على بطون عديدة وأبعاد متنوعة ، وأنّها تتّسع لمفاهيم واسعة
كثيرة يضيق عن استيعابها أو تحصيلها أيّ تصوّر بشري وذهن إنساني وبرنامج ثقافي
عادي مهما ادّعى من الشموليّة والغزارة والإحاطة.
إنّ مرور الزمن
وتقدّم العلوم لم يمنحا علماء الطبيعة وحدهم إمكانيّة استنباط حقائق وأبعاد مهمّة
وجديدة عن القرآن في حقول علوم الطبيعة وخلقة الإنسان والأرض والسماء وغيرها من
الظواهر الطبيعيّة ، بل ومكّنا المفسّرين أيضا من استخراج حقائق مهمّة وجديدة من
هذا السفر الإلهي الخالد جنبا إلى جنب مع توسّع العلوم واتّساع نطاق المعارف
وتفتّحها وظهور المناهج العلميّة الإنسانيّة الجديدة.
والآن نحن نشاهد
شروع التحقيقات العلمية حول القرآن من طريق أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) وقد كشفت
للأجيال الحاضرة والقادمة الكثير من الحقائق والآفاق التي عجز العقل والذهن البشري
العادي عن اكتشافها والتوصّل إليها بمجرّده ، فبواسطة هذا الجهاز العجيب تمكّن
العلماء من إزالة الكثير من نقاط الإبهام التي دارت سابقا حول مضامين بعض الآيات
والروايات بسبب قصور الناس عن دركها ، وسيأتي زمان أيضا يفسّر لنا الكثير من
الغوامض فيهما التي ربّما تصوّرها بعض الناس أنّها شيء من الغريب أو المستهجن ،
فإنّ للقرآن الكريم معاني ودرجات وصورا وحقائق ، وحينما يتّصل عقل الإنسان بنور
الوحي يزداد انشراحا وبهاء وتألّقا ومعرفة ، فتفتح له من العلم أبواب وأبواب.
قال سبحانه وتعالى
: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) وقال عزّ من قائل : (هذا بَصائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وجاء في الحديث
الشريف عن الصادق عليهالسلام : «كثرة النظر في العلم يفتح العقل» وعن أمير المؤمنين
عليهالسلام أنه قال : «سلوني عن القرآن فإنّ في القرآن علم الأوّلين
والآخرين ، لم يدع لقائل مقالا ، ولا يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم» وروي عن الإمام
الباقر عليهالسلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة
إلى يوم القيامة إلّا أنزله في كتابه ، وبيّنه لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم» لكن المشكلة في البشر أنفسهم لعجزهم وقصورهم أو تقصيرهم في
الإمعان فيه واكتشاف أسراره وغوامضه ، لكن كلما سعى البشر في فهمه ودراسته وصل إلى
__________________
مطلوبه ؛ لأنّ
القرآن كتاب هدى ونور ، ومن الهدى الإيصال إلى المطلوب.
ولعلّ ممّا يؤيّد
ذلك ما ورد في بعض الأخبار من أنّ القرآن الكريم يفسّره الزمان ، والذي قد يكون من
معانيه أمور :
١ ـ أنّ القرآن الكريم
صالح لكلّ عصر وزمان ، ويتناسب مع أيّ تطوّر حضاري وعلمي وتأريخي ، بل هو الأساس
في دعم أيّ حضارة وأيّ مدنيّة مؤمنة بأهداف إنسانيّة ، ويعطيها الروح والديموميّة.
٢ ـ أنّ تطوّر
العلم والتكنولوجيا الحديثة كشف الكثير من الحقائق القرآنيّة ، ولعلّ من ذلك أنّ الشمس
وردت في القرآن الكريم (٣٣) مرّة وبمعان فلكية رائعة تحكي الحقيقة العلميّة بكلّ
وضوح ، ولعلّ أهمّها تلك الآيات التي تتحدّث عن حركتها أو حركاتها الكثيرة وبأسلوب
علمي جمالي يخلب الألباب ... وتلك الآيات التي تتحدث عن هرم الشمس وشيخوختها
وموتها في آخر الأمر كبقيّة المخلوقات التي نشرها الله تعالى في كونه الكبير ...
وردت الشمس كما وردت بقيّة الأجرام الكونيّة والظواهر السماويّة الأخرى ضمن أسلوب
وهدف القرآن ككلّ ، وهو الهداية وإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم
والحياة ؛ ولأنّ القرآن ليس كتابا علميّا خاصّا لم يتعرّض إلى قطرها ، ولا إلى
حجمها ، ولا إلى كثافتها ، ولا إلى درجة حرارتها أو جاذبيّتها ، ولا لأي رقم علمي
محدّد ممّا تتعرّض له الدراسات الكونيّة المعاصرة. ولكن يمكن لقارئ القرآن والباحث
في الآيات الكونيّة أن يحصل على معلومات ممتازة عن الشمس لكن في حدود ، ويمكن أن
يأتي باحث آخر ويلتقط معلومات أخرى وضمن حدود معيّنة أخرى ، ويبقى الباحثون
الجادّون غائصين في بحر القرآن كلّ يلتقط ما يستطيع من لآلئه ، مستفيدين من علوم
عصرهم ، فهي أضواء إضافيّة تنير الطريق للغوص في طرق الشمس والآيات الكونيّة
الأخرى الزاخرة في القرآن
الكريم . فإنّ ما يتوصّل إليه العلماء في مجال الفلك في هذا العصر
الحديث المليء بالاكتشافات الباهرة حول هذا الجرم السماوي هو يؤكد ويؤيّد يوما بعد
آخر ما ذكره ديننا الإسلامي حول الشمس في جميع خصوصيّاتها.
٣ ـ أنّ عقول
البشر في تطوّر ونموّ ، والحياة سائرة نحو المزيد من العلم والمعرفة ، والتجارب
تتراكم على كشف الكثير من الأسرار ، وكلّما تطوّر الإنسان توصّل إلى مراق وآفاق
جديدة في القرآن لم يكن قد وصلها من قبل ، بل لم يكن يدركها لقصوره وعجزه ، فكلّما
تطوّر الزمن وتطوّر معه الإنسان توصّل إلى حقائق وأبعاد جديدة في فهم الآيات ،
واستنار بهديها ، فكلّ جيل منهم يختلف عن السابق كما سيختلف عن اللاحق حتّى تكتمل
العلوم باكتمال الإنسان في عصر ظهور ولي الله الأعظم (عجل الله فرجه الشريف) ،
فحينئذ يصل إلى درجات سامية من المعرفة والفهم والإدراك.
هذا التفسير
مهما كانت الدوافع
الكامنة وراء كتابة التفسير وضمن الشروط التي ذكرناها فيما تقدّم والتي يجب أن
تتوفّر في المفسّر فإنّ ما كتب في هذا المجال يعدّ إنجازا علميّا له خصائصه
ومميّزاته ، حيث إنّ كلّ تفسير كتب ـ وضمن الشروط الموضوعة والمقرّرة لذوي
الاختصاص ـ يضيف معلومات جديدة وفنّا وذوقا آخر لهذا العلم الذي لا ينضب ، لكن
تبقى لمن اتّخذ أهل البيت عليهمالسلام نهجا وطريقا ومدرسة وتألّقا وعلوّا وارتفاعا فيما يستنبط
من آراء ويبني من أفكار ويؤسّس من رؤي السمة العليا في ذلك ، وهذا ما اتّسم به
السيّد الراحل أعلى الله مقامه ، وتميّزت به كتبه الوفيرة ، وخصوصا هذا
__________________
التفسير ، حيث
زانته من ضمن ما زانته اعتماده المطلق على ما ورد منهم عليهمالسلام ، مسلّما لهم ، منقادا إليهم فيما يقولون ويعملون ويهذّبون
، وهذه سمة لا ينالها إلّا الفائزون الناجحون ، والعالمون الصادقون ؛ لأنّهم صلوات
الله عليهم باب الله الذي منه يؤتى ، وهم عيبة علمه ، وحبلة المتين ، وصراطه
المستقيم ، وعندهم عليهمالسلام جوامع الكلم والعلم كما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال : سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «أعطاني الله خمسا ، وأعطى عليا خمسا ، أعطاني
جوامع الكلم ، وأعطى عليا جوامع العلم» .
وعن أبي جعفر عليهالسلام قال : «إنّا أهل بيت عندنا معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء
الأمر» .
وعن الصادق عليهالسلام قال : «عندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه وأواخيه» .
فالاعتماد عليهم
صلوات الله عليهم يكشف الكثير من الحقائق والمعارف مع تطوّر الزمن والاكتشافات ؛
حيث أشاروا صلوات الله عليهم وبيّنوا جميع الأمور للبشريّة ، وبقي علينا أن نجدّ
أكثر ونسعى لإظهار هذه الحقائق والاغتراف من منهلهم العذب ، وهذا لا يأتي إلّا
بالمعرفة التامّة لأهل البيت عليهمالسلام ، معرفة المؤمنين بهم وبمقاماتهم السامية والمستسلمين في
مدرستهم بكل خشوع وانقياد ؛ وذلك لأنّ العلم نور يقذفه الله سبحانه في قلب من يشاء
، وليس ذلك إلّا من تنوّر بمحبّتهم عليهمالسلام ، وتواضع لعظمتهم ، واقتدى بهم ، وتعلّم في مدرستهم ، وقد
ورد عن الصادق عليهالسلام : «فمن عرف
__________________
من أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم واجب حقّ إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه ، وعلم فضل طلاوة
إسلامه ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى نصب الإمام علما لخلقه ، وجعله حجّة على أهل
موادّه وعالمه ، وألبسه الله تاج الوقار ، وغشّاه من نور الجبّار ، يمدّ بسبب إلى
السماء ... إلى أن قال : حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه ، يدين بهديهم العباد ،
وتستهلّ بنورهم البلاد ، وينمو ببركتهم التلاد ... فليس يجهل حقّ هذا العالم إلّا
شقي ، ولا يجحده إلّا غوي ، ولا يصدّ عنه إلّا جريّ على الله جلّ وعلا» .
وفي حديث رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «يا سلمان ، من عرفهم حقّ معرفتهم واقتدى بهم ...
فهو والله منّا ، يرد حيث نرد ، ويسكن حيث نسكن ...» وإلى ذلك أشار الإمام الصادق عليهالسلام بقوله : «ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين
ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه ، وردّوه إلينا» .
وعن الإمام الباقر
عليهالسلام : «هم والله نور الله الذي أنزل ، وهم والله نور الله في
السماوات وفي الأرض» .
وعن أبي ذرّ (رضوان
الله عليه) قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «خلقت أنا وعليّ بن أبي طالب من نور واحد» .
وفي رواية أنّهم
جميعا عليهمالسلام من نور الله الأعظم .
كما أنّ علمهم عليهمالسلام وورثوه من النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فعن أبي جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ عليّ بن أبي طالب كان هبة الله
__________________
لمحمّد ، وورث علم
الأوصياء وعلم من كان قبله» .
وعن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث جاء فيه : «وربّ الكعبة وربّ البيت ـ ثلاث مرّات ـ
لو كنت بين موسى والخضر عليهماالسلام لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ، ولأنبأتهما بما ليس في
أيديهما ؛ لأنّ موسى والخضر عليهماالسلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما هو كائن ، وأنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطي علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فورثناه من
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وراثة» .
فمن هنا كانت
مدرسة أهل البيت عليهمالسلام هي الأولى والأخيرة في هداية البشر ونقلهم إلى شاطئ الأمان
، والتأريخ هو خير دليل وشاهد على ذلك. وأعظم مدرسة للإسلام كانت مدرسة الإمام
الصادق عليهالسلام حيث كانت جامعة كبري شملت كلّ العلوم والفنون والمعارف ،
وقد خرّجت الكثير من العلماء الذين قدّموا للبشريّة والحضارة الإنسانيّة بكلّ
إخلاص وتفان الشيء الكثير. والإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام هو سادس أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، وقد تهيّأت له عليهالسلام الظروف السياسيّة في نشر علومهم وتأسيس دعائم العلم في
مختلف المجالات حتّى أقام تلك الجامعة العظيمة التي لا زالت إلى يومنا هذا تخرّج
الفطاحل من العلماء ممّن ينتسبون إليها.
فإنّ الذي يتتبّع
كتب الرجال وتأريخ الأعلام يجد أنّ لعلماء الشيعة الذين ورثوا علوم أهل البيت عليهمالسلام دورا أساسيا ومهمّا في تأسيس فنون المعرفة ، حيث تقدّموا
في تأسيس العلوم في الصدر الأوّل ، وبرعوا ، وسادوا في حضارتهم وعلمهم على جميع
المعاهد والجامعات ، وعلومهم مبنيّة على أسس الأخلاق ومكارمها التي ورثوها عن آل
محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكما يقال : إنّ المحروم من حرم منهم عليهمالسلام.
__________________
السيد صاحب
التفسير أعلى الله مقامه
إنّ الأمم الحيّة
والشعوب اليقظة في كلّ عصر من عصور التأريخ وعلى امتداد الأرض المعمورة تعرف
بتقديرها للعلم واحترامها للعلماء والأخذ عنهم والاغتراف من مناهلهم العذبة
الرويّة ، فهم المقياس الحقّ لحياة الأمم والشعوب أو موتها. وأمّتنا الإسلاميّة
أشرف الأمم ، ويزخر تأريخها بالمكانة السامية التي يحتلّها العلماء في نفوس الناس
، والمنزلة الرفيعة التي بلغوها في قلوبهم ، وبالأخصّ العلماء الذين تخرّجوا من
تلك المدرسة العظيمة التي بنى أساسها الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهماالسلام ، كما ونجد القرآن الكريم يعطي العلماء منزلة تجعلهم في
مصافّ الملائكة المنزّهين فيقول :
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كما نراه جلّ وعلا يمنحهم منزلة الخشية منه سبحانه وتعالى
على سبيل الحصر ، فيقول جلّ وعلا : (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) .
وهو بعد هذا وذاك
يرفعهم درجات فيقول : (يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) إلى كثير من الآيات القرآنيّة التي تكشف عن مكانة العلماء
عند الله سبحانه وتعالى.
وهكذا برز العلماء
، وخرّجت الحوزات العلميّة المقدّسة الفطاحل منهم الذين تركوا آثارا وتراثا استقوه
من فكر ونهج أهل البيت عليهمالسلام ، ينير البشريّة جمعاء ، ومن بين هؤلاء النوادر الذين
أثروا المكتبة الإسلاميّة بمؤلّفاتهم وعلمهم صاحب هذا التفسير العظيم «تقريب
القرآن إلى الأذهان» المرجع الديني الكبير الإمام السيّد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى
الله
__________________
درجاته) ، المولود
في عام ١٣٤٧ ه والمتوفّى في شوال عام ١٤٢٢ ه ، فهو (رضوان الله عليه) من أجلى
مصاديق قول النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم «إذا مات المؤمن
الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء» وما ذاك إلّا لأنّ العالم في الأمّة كالروح من الجسد ، وما
هو إلّا المثل الصالح في زهده وورعه وتقواه والسمات الإسلاميّة الفاضلة والصفات
الحميدة ، جليل القدر ، عالي المنزلة ، جمع إلى جانب العلم الغزير الأخلاق الفاضلة
، والسلوك الحسن ، والسيرة العطرة ، وحبّ الناس ، وعلوّ الهمّة ، ومكارم الأخلاق.
وبعد ذلك كلّه فهو
حامل هموم المسلمين وهدفيّة الإسلام ، وقرنها بشجاعة وإقدام فائقين يعجز عن
بلوغهما الأبطال الأشاوس في مختلف المجالات والأصعدة. لقد تميّز الإمام الشيرازي (قدس
سرّه) بفكره المعطاء الغني المختصر بالتجارب ، والمفعم بالنضج والنظرة الواقعية
إلى الأمور ، والأصيل المستلهم من الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة ، والذي يعالج
شتى القضايا الحيوية ومشاكل العصر.
ورغم الحياة
الصعبة والقاسية جدا التي كان يعيشها الإمام الراحل (قدس سرّه) طوال حياته الشريفة
والظروف التي ألمّت به من كلّ حدب وصوب من البعيد وربّما القريب كان كما قالوا عنه
: نادرة التأليف في التأريخ وسلطان المؤلفين ، حيث عرف بكثرة الإنتاج والعطاء الفكري والعلمي والتربوي
، حيث تنوّعت مؤلّفاته من حيث المادّة العلميّة ، وبلغت ألفا وثلاثمائة كتاب وكتيب
وموسوعة ، فشملت الفقه والأصول والفلسفة والكلام والبلاغة والنحو وسائر العلوم
الحوزوية من جهة ، والسياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والحقوق والإدارة والقانون
والبيئة والأخلاق والتأريخ والطبّ وإدارة
__________________
الدولة الإسلاميّة
وسائر العلوم الإنسانيّة المستحدثة من جهة أخرى ، حتى عجزت أصابعه عن الإمساك
بالقلم من كثرة ما كتب.
فكان أعلى الله
مقامه يستعين أحيانا بجهاز التسجيل ليحفظ ما يريد كتابته ، ثمّ بعد ذلك يكتب على
الورق ، وكان (طاب ثراه) لا يضيّع لحظة واحدة من عمره الشريف دون الاستفادة منها ،
ولا يبالغ من يقول : إنّه كان يعمل في اليوم أكثره ، ومن العمر كلّه أو جلّه ؛ إذ
كان طاقة متفجّرة من النشاط والحيويّة والعمل ، ولا يعرف الكلل أو الملل ، ولا
يعيقه عن ذلك مرض أو همّ أو ألم ، وأرقى ما في ذلك كلّه أنّه كان مجاهدا مخلصا ،
وأبيّا نزيها ، لا يطلب فيما يقدّم أو يعطي ويجود إلّا رضا الله سبحانه ورضا
أوليائه الطاهرين عليهمالسلام.
وفي ذلك قال عنه
أخوه المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)
الذي رافقه في جلّ حياته ، وشاركه في همومه ومهامّه في كلمته التي ألقاها بعد
رحيله : وكان رحمهالله يمتاز بخصائص جمّة أهمّها خصلتان بارزتان كانتا في حياته (رضوان
الله عليه) ، وكنت ألمسهما بشكل دقيق :
الأولى : هي
إخلاصه التامّ والمطلق لله تعالى ولأهل البيت عليهمالسلام ، وخير مثال للواقع العملي لذلك تأسيسه العشرات من
المؤسّسات والمساجد والحسينيّات والمدارس والمكتبات ودور النشر وفي مختلف أنحاء
العالم ، ولم يسمّ أيا من هذه باسمه ، وقد أصرّ الكثيرون من الذين تبرّعوا أن
يذكروا اسمه ، فكان يرفض ذلك رفضا شديدا ويقول : أنا ذاهب والله سبحانه وأهل البيت
عليهمالسلام باقون ، فالأفضل أن تسمّى هذه المراكز جميعا باسمهم عليهمالسلام ؛ ولذلك فإنّه قد سمّى جميع هذه المراكز والمؤسّسات
والحسينيّات ودور النشر وغيرها بأسماء الله سبحانه وأسماء أهل البيت عليهمالسلام.
الثانية : نشاطه
المتواصل وروحيّته العالية ، حيث إنّ المرحوم
الراحل (قدس سرّه)
كان قبل وفاته بلحظات مليء بالحيويّة والنشاط رغم مرضه ، ولم يتوان عن أيّ شيء ،
وإذا أردنا تشبيهه بالبركان فإن ذلك فيه خطأ ؛ لأنّ البركان ينفجر ثم يبرد ويهدأ ،
أمّا بالنسبة للمرحوم الإمام (قدس سرّه) فقد كان لم يهدأ لحظة ، فكان يمسك القلم
حتّى إبان لحظات عمره الأخيرة ، ويستفيد من أيّ فرصة تسنح له بالتأليف والكتابة
وتشجيع الآخرين على أعمال الخير والاستفادة من فرص الحياة ، وكان حتّى في كتابته
يستخدم الدقّة في انتخاب نوع القلم الذي يسهل معه الكتابة اختصارا للوقت .
وكان (قدس سرّه)
بارعا بعلوم التفسير ، ومطّلعا على ما كتب في هذا المضمار ، وقد نقل عن بعض
تلامذته أنّه كان حاضرا في مجلس مع الإمام الراحل (قدس سرّه) ووجّه
إليه أحد الحاضرين سؤالا مفاجئا حول تفسير إحدى آيات كتاب الله العزيز ، فأجابه
الإمام الراحل (قدس سرّه) ذاكرا عشرة آراء لعشرة كتب من أشهر التفاسير الموجودة من
دون استعداد أو تحضير مسبق ، وقد حدث مثل هذا كثيرا للسيّد (قدس سرّه).
وهذا الكتاب الذي
بين يديك هو حصيلة جهد مبارك قام به السيّد المؤلّف (قدس سرّه) ، حيث ساهم به في
إغناء التراث الحضاري والمكتبة الإسلاميّة ، ولا يبالغ من يقول فيه : إنّه قليل
النظير في خصوصيّاته ومزاياه ، ممّا سيجعله مصدرا كبيرا ، من أهمّ مصادر التفسير
في مختلف شؤون المعرفة ، وقد تحدّث السيّد (قدس سرّه) عن كتابه للمرحوم آية الله
السيّد أحمد الإمامي (طاب ثراه) قائلا :
عند ما كنت في
كربلاء وحينما كنت مشغولا في كتابة تفسيري هذا «تقريب القرآن إلى الأذهان» رأيت في
المنام نورا يخرج من بيتنا ، ويسطع في السماء ، وحينما استيقظت أيقنت أنّ هذا
النور هو تفسير القرآن الكريم ،
__________________
ففرحت وسألت الله عزوجل أن يتقبّل منّي العمل.
قلنا فيما تقدّم :
لكلّ تفسير مزاياه وخصوصيّاته ، لكن امتاز هذا التفسير الشريف بجملة أمور قلما حظي
بها غيره منها :
أولا : أنّ السيّد
المؤلّف (قدس سرّه) إضافة لكونه مرجعا وزعيما دينيّا متميّزا فإنّه يعدّ أحد
رجالات الفكر المعاصرين الذين نظّروا للعالم البشري في مجالات مختلفة ، وطابقت
تنظيراته ورؤاه الواقع في العديد من الموارد والحقول ، وهذا ما يجده المتتبّع في
كتبه القيّمة من رؤي حديثة تتناسب مع التطوّر الحضاري والفكري المعاصر ، حيث إنّه (طاب
ثراه) جمع بين الفكر الجديد والقديم في التفسير ، فانعكس ذلك على فهمه للآيات
الشريفة في بيانه وشرحه لمضامينها ، جامعا بين أصالة الأمس وحداثة اليوم وتطلّعات
المستقبل ، وقد وفّق في ذلك إلى حدّ كبير ، وهذا أحد دواعي خلود هذا التفسير
وعظمته التي ستكشفها الأيّام.
ثانيا : اعتمد
السيّد المؤلّف (قدس سرّه) بشكل أساسي في تفسيره على منهجيّة أهل البيت عليهمالسلام ، وعلى الأخبار والآثار المرويّة عنهم عليهمالسلام ، فنأى بعيدا عن شبهة التفسير بالرأي ، ونزّه كلام الله عن
آراء البشر.
ثالثا : وضوح في
الرؤية ونضوج في الأفكار ، وردّ للشبهات التي أثيرت أو قد تثار بما يملأ الخافقين
علما ويقينا هنا وهناك ، وخصوصا ما يتعلّق بالآيات الواردة بشأن أهل البيت عليهمالسلام.
رابعا : أنّ أسلوب
الكتاب وطريقة بحثه تمتاز بأنّها بعيدة عن العبارات المنمّقة والاصطلاحات المعقّدة
، حيث إنّه بيّن المعاني بأسهل الألفاظ والكلمات ، كما أنّه امتاز بالاختصار
وشموليّة المطلب ، وهذه الصفات جعلته سهل الفهم على جميع المستويات ، فكان سهلا
ممتنعا على ما يعبّرون ، ممّا سمح لكلّ بيت وأسرة مهما كان مستواها ومستوى أفرادها
أن تتّخذه منارا ومعلّما ومربّيا يغنيها عن الكثير من المصادر والكتب.
خامسا : التعرّض
في تفسير الآيات الكريمة إلى الدقائق العلميّة والأحكام المتعلّقة بها وبيان
مفرداتها بشكل دقيق ومفصّل ، كما أنّه اعتمد على جانب التدبّر في الآيات واستنباط
النتائج وقراءة ما وراء الألفاظ بالاعتماد على نهج أهل البيت عليهمالسلام ، وهذه سمة هامّة قلّما أتّسم بها تفسير.
سادسا : الربط
الوثيق بين القرآن والحياة في مختلف المجالات الشخصيّة والعامّة والعباديّة
والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وغيرها ، وهذه محاولة كبيرة تعيد الناس إلى
القرآن ، كما ترتفع بتعامل الناس معه إلى ما أراده الله سبحانه له أن يكون نورا
وهدى وقائدا ومرشدا ومربّيا ومعلّما في مختلف المجالات والأصعدة ، حيث دعا السيّد
المؤلّف (قدس سرّه) إلى :
١ ـ الأمّة
الواحدة لتحرير بلاد المسلمين من التفرقة العنصريّة والقوميّة والإقليميّة مستندا
في ذلك إلى قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وعلّل أفضليّة الأمّة الإسلاميّة وأسباب رقيّها بخصال ثلاث
هي :
أ ـ الأمر
بالمعروف
ب ـ النهي عن
المنكر
ج ـ الإيمان بالله
سبحانه إيمانا صحيحا.
بلحاظ أنّ المجتمع
إذا خلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يهوي نحو السفل ؛ لما جبل عليه من
الفساد والفوضى والشغب ، فإذا تحلّى
__________________
المجتمع بهذين
الأمرين أخذ يتقدّم نحو مدارج الإنسانيّة والحضارة الحقيقيّة حتى يصل إلى قمّة
البشريّة ، وبلحاظ أنّ الصحيح رأس الفضائل لكونه إدراكا لأعظم حقيقة كونية من جهة
، ولكونه محفّزا شديدا نحو جميع أنواع الخير ، ومنفّرا قويّا من جميع أصناف الشرّ
من جهة أخرى ، وهذه في مجموعها تكوّن أهمّ العناصر التي تقوم عليها سعادة البشريّة
وأمنها وسلامها.
٢ ـ الأخوة
الإسلاميّة ليزيد في أواصر المجتمع الواحد ، ويرفع الحواجز الطبقيّة أو الفئويّة
ونحوها ، مستندا إلى قوله تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وكذلك قوله سبحانه : (فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) .
٣ ـ الحرّيّة
الإسلاميّة لكونها غاية البعثة وهدف الرسل والأنبياء عليهمالسلام ، وخصوصا خاتمهم وسيّدهم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مستندا إلى قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) فإنّ النبيّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم خلّص الناس من أغلال الاستبداد والجاهليّة بصورها المختلفة
، وفي هذا قال (قدس سرّه) : أغلال : جمع غلّ ، وهو ما يقيّد الإنسان يده أو رجله
أو غيرهما ، فإنّ من خواصّ الإسلام أنّه يطلق الحرّيّات المعقولة ، فالسفر
والإقامة والتجارة والزراعة والصناعة والبيع والاشتراء والكلام والكتابة والتجمّع
وغيرها كلّها مباحة لا قيود لها إلّا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع
والفرد ، ولا يعلم مدى ذلك إلّا بالمقايسة إلى الأنظمة والمناهج الدنيويّة التي
كلّها كبت واستعباد واستغلال .
٤ ـ الشورى على
مختلف الأصعدة والمجالات ابتداء من الأسرة إلى
__________________
الدولة ونظام
الحكم وبالنحو الإسلامي الخاصّ ، مستندا إلى قوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) وقد ردّ الطرق الغربيّة ونحوها القائمة على أساس غير عادل
في الانتخاب .
٥ ـ اللاعنف طريقا
ومنهجا للتعامل مع الآخرين من أهل الإسلام أو غيره من الأديان والمذاهب ، مستندا
لقوله سبحانه : (ادْخُلُوا فِي
السِّلْمِ كَافَّةً) وقوله عزوجل : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا
غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ) .
ومن الواضح أنّ
هذه هي الأسس البارزة لتكوين الحضارة الصحيحة والدولة الناجحة والمجتمع السعيد.
والظاهر أنّ هذا الربط والتكامل والتطابق بين القرآن والحياة العامّة قلّما يلحظ
في كتب التفسير حتّى الجديدة منها.
سابعا : أنّ من
خصائص هذا التفسير كذلك والتي تضفي عليه طابعا متميّزا آخر هو :
أ ـ في تفسيره
للكلمات والحروف المقطّعة في القرآن الكريم ، حيث أجرى استقراء لهذه الحروف وقال
في مستهلّ تفسيره عنها : يأتي زمان يدرك الناس هذا الكنز المعنوي ، كما أنّه لا
يمرّ زمان إلّا ويدرك الناس كنوزا كونيّة ، فإنّ العلوم كلّها قوانين وضعها الله
في الكون ، مثل : قانون جاذبيّة الأرض ، وقانون أرخميدس في الماء ، وقانون الأطياف
في النور وغيرها ، وإذا كان رمزا لم يلزم أن يعرفه الكلّ ، فإنّ الرموز بين رؤساء
الحكومات وكبار أعضاء الدولة في صلاح الناس وإن كان كلّ
__________________
الناس لا يعرفونها
، وفي ذلك يقول (قدس سرّه) : وهذا رمز بين الله ورسوله والراسخين في العلم .
وعلى الرغم من ذلك
فإنّه لم يقف عند هذا السرّ العظيم بين الله سبحانه ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل حاول أن يظهر في كلّ مورد من موارده بعض غموضه ، أو
يسلّط الضوء على بعض لغزه ، فمثلا في سورة يونس : فسّر حروفها المقطّعة بالتحدّي
والإعجاز ؛ لكون «المر» التي تفتح بها السورة تركّب منها القرآن المعجز ، فإنّه من
جنس كلام البشر لكنه معجز لا يتمكّن أحد أن يأتي بمثله ، كما أنّ من جنس المعادن
والنبات يتركّب الإنسان لكن لا أحد يقدر على أن يأتي بمثله ، وكذلك جميع صنع الله
سبحانه ... على الاختلاف في أوائل السور .
وفي سورة هود قال
عنها أيضا : إنّها رموز بين الله والخلق .
وفي سورة يوسف
فسّرها بالأخصّ من ذلك ، فقال عنها : رمز بين الله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كالرموز بين رؤساء الحكومات وسفرائها .
وفي سورة الرعد
ذكر أنّ الأقوال في بيان معاني الحروف في فواتح السور تبلغ أربعة عشر قولا ، لكنّه قال (قدس سرّه) : الظاهر أنّه يمكن الجمع بين كثير
منها ، ولعلّ جامعها هو الرمزيّة التي مال إليها بين الله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه المتيقّن من المعاني.
ب ـ امتاز تفسيره (قدس
سرّه) بالترابط الموضوعي بين معاني الآيات ،
__________________
وهذه ميزة قلّما
فعلها مفسّر أو وردت في تفسير إلّا في موارد قليلة ، فمثلا :
* الآيات (٢٠٥ ـ ٢٥٤)
من سورة البقرة ، تعرّضت إلى مواضع عديدة بعضها يرتبط بأحكام الحجّ ، وبعضها بصفات
الجاهلين وتعصّبهم ، وبعضها بالمنافقين ، وبعضها بالمجاهدين ، وبعضها بحركة
الأنبياء عليهمالسلام في داخل المجتمع وعلاقة الناس بهم ، وبعضها تعرّض إلى وعود
الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بدرجات الآخرة ، وبعضها إلى أسئلة وجّهها المشركون
إلى رسوله الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وبعضها تضمّن السؤال عن جملة من المحرّمات ، وبعضها
تعرّض إلى جملة من أحكام الأسرة وأحكام النساء وأحكام الولادة والإرضاع ، وبعضها
إلى حقيقة الموت والحياة ، وبعضها إلى القتال والجهاد في سبيل الله ، وبعضها إلى
الإنفاق ، وبعضها إلى غير ذلك. هذه العناوين والمواضيع المختلفة التي قد لا تتراءى
للناظر بدوا بينها ترابط وثيق يجمعها السيّد (قدس سرّه) بسياق واحد ، فيجمع سابقها
بلاحقها وبالعكس حتى يحصل من الكلام حديث عن صورة واحدة بكلّ ما يحتفّ بها من
قرائن وشواهد تكمّل المعنى وتثير الغرابة والإعجاب .
* والآيات (٦٣ ـ ٦٥)
من سورة المائدة ، تعرّضت إلى صفات المنافقين وأهل الكتاب وآثارهم السلبية على
المجتمع ، وقد امتاز في تفسيره لها ، حيث يوضح ظاهرة الازدواجيّة الثقافيّة عندهم
، والصفات الانحرافيّة الأخلاقيّة الأخرى ، وأوجه التشابه بينهم. وكذلك الربط بين
قيام الدول وهزيمتها وقوّة التلاحم والتفاهم وضعف التفرّق والاختلاف في آيات سورة
الأنفال كقوله سبحانه : (وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) قال (قدس سرّه) : إنّ التنازع يوجب تبديد القوى المعنويّة
بالإضافة إلى تبديده
__________________
وإضاعته للقوى
الماديّة ، وتذهب ريحكم أي دولتكم ، فإنّ الريح بمعناها لغة ، وشبّهت بها الدول ؛
لأنّ الدولة تشبه الريح لهبوبها وسيطرتها على الأشياء ونفوذ أمرها. يقال : هبت ريح
فلان إذا نفذ أمره ، والتنازع ليس يقسّم القوى إلى سلب وإيجاب فقط ، بل فوق ذلك
يضعف القوى الإيجابيّة ، فلو فرضنا أنّ طاقة زيد تقدّر بألف مقاتل فإذا خالفه عمرو
قدّرت طاقته بخمسمائة حتّى إنّه لو كان وحده بدون مخالف لكان قدر على الألف ؛ وذلك
لأنّ الخلاف يحدّ من النشاط ، ويضعف من القوى ، بخلاف التجمّع فإنّه يزيد الطاقة
الألفية إلى الألفين ؛ ولذا ثبت في علم النفس أنّ الإنسان إذا رأى خلافا فالأفضل
أن يصمّ عن المخالف حتّى يبقى على قواه الذاتيّة ، ولا تحدّ من نشاطه الطاقة
المناوئة .
ومضافا إلى ذلك
كلّه أوجد ترابطا موضوعيّا بين تفسير أوّل سورة وآخر سورة من القرآن الكريم ،
والترابط بين السور المتسلسلة والآيات المتسلسلة يجعل سور القرآن وآياته منظومة
واحدة مترابطة كجملة واحدة نظّمت في غاية الإعجاز في اللفظ والمعنى والإحكام
والإتقان .
ثامنا : أورد
السيّد المؤلّف (قدس سرّه) أسباب تسمية السور قبل الشروع في تفسيرها ، ثمّ بيّن
الجو العامّ للسورة والمحور الكلّي الذي تدور حوله آياتها ، فعبّر عن بعضها أنّها
بشأن التوحيد ، وأخرى بشأن الأسرة ، وثالثة بشأن العقيدة ، وهكذا ، ثم ذكر مائة
وعشرين معنى للبسملة في تفسيره هذا ، حيث يضيف إليه امتيازا بارزا آخر ، فمثلا :
في سورة الحمد فسّرها بالاستعانة ، وفي سورة البقرة علّلها بفرض التعليم والتربية
على الابتداء في كلّ عمل أو نشاط بالاسم المبارك ؛ لما له من الأثر البالغ في
الصبر
__________________
والاستقامة
والنجاح . وفي سورة الأنفال شرحها بالعلاقة على إحكام ما قبلها
وافتتاح ما بعدها من الآيات . وفي سورة يونس علّلها بتلطيف الجوّ وإعطاء الإنسان الأمن
والطمأنينة ؛ لأنّ الناس اعتادوا أن يروا الظلم والجور من الكبراء فكيف بأكبر
الكبراء؟ لكنه سبحانه ليس كذلك ؛ لأنّه رحمان بعباده ، رحيم بالمؤمنين منهم ، فلا
خوف من ظلمه ، ولا خشية من جوره .
وفي سورة النحل
جعلها الحد الفاصل بين الإيمان والكفر والمؤمن والكافر ، حيث يفتتح المؤمن باسم
الله خالق كلّ شيء ، الجامع لجميع الصفات الكماليّة ، خلافا للكفّار ومواليهم ،
حيث يفتتحون كتبهم بشيء في غير لونه ، أو يفتتحون بأسامي الأصنام ، وقد جرت عادة
من بهرتهم المدنية الحديثة أن يقتدوا أثر أولئك ، فلا يفتتحون الكتاب إلّا
بالمقدّمة أو الإهداء أو الفصل بدون ذكر لاسم الله سبحانه إطلاقا .
وفي سورة هود
علّلها بما في الاسم المبارك من الخواصّ المعنويّة على نفس القارئ ، ويجعله في حصن
وثيق من مساوئ الشياطين وفضائل الأخلاق ومحاسنها ؛ ولذا نرى أنّ سماع اسم المحبوب
يزيد الإنسان نشاطا ، كما أنّ سماع اسم المكروه يزيد الإنسان انقباضا بالإضافة إلى
أنّ اسم الله سبحانه يطرد الشياطين ، ويوجب عناية الله عزوجل للذي ذكره ، وتركيزا لصفة الرحمة في نفوس الناس ، إنّه هو
الرحمن الرحيم ، فليتخلّق الإنسان بأخلاقه سبحانه .
__________________
وفي سورة الرعد
علّل الابتداء بالاسم دون الذات ؛ لأنّ الله سبحانه لا يبتدأ به وإنّما يبدأ
باسمه. إنّه الله الرحمن الرحيم الذي أظهر صفاته الرحمة والتفضّل لا الانتقام
والعقاب والقوّة والعذاب .
وفي سورة الحجر
قال عنها : نستعين بالله الرحمن الرحيم في أمورنا ، ونجعله بدء أعمالنا ؛ ليكون
عونا لنا في ختم العمل ، وأن يطبع بطابعه ، فإنّ ما لمسته رحمة الله العظيم لا
يكون إلّا صالحا باقيا موجبا للسعادة ، ولنستمطر شآبيب رحمته فيرحمنا بلطفه
وإحسانه .
وهكذا يذكر معاني
عديدة لأصل البسملة ، أو بيانا لفوائدها وأغراضها ، وهذه ميزة أخرى من مزايا هذا
التفسير العظيم الذي قلّما يحظى بمثله تفسير ، حيث يكتفى غالبا بذكر بعض معانيها
في أول سورة الحمد ثمّ يوكل إليه في تفسير سائر السور.
تاسعا : تصدّى
أعلى الله مقامه للإجابة عن جملة من الشبهات التي قد يثيرها البعض تجاه الإسلام في
العقائد أو في الأحكام ، ولم يتوقّف على بيان المعاني الظاهرة للآيات ، وهذا نهج
جديد قلّما نجده في التفاسير ، وهو أن يتّخذ المفسّر نهج الدفاع والذود عن الشبهات
وإبطال الادّعاءات الباطلة ؛ ليجعل من التفسير معلّما ومربّيا ومحاميا في آن معا ،
فمن باب المثال : في بيان معنى قوله تعالى : (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) تعرّض إلى فلسفة الحكم بنجاسة الكفار ، فبيّنها واختصرها
في أمور ثلاثة :
١ ـ الوقاية
الفكريّة من الخرافة.
٢ ـ الحماية
الاجتماعيّة من التأثير بسلوكه.
__________________
٣ ـ تحفيزه لترك
عقيدة الكفر والالتزام بالإسلام.
يقول (قدس سرّه) :
النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشيء الذي يباشره برطوبة ، وهذه
النجاسة قد تكون لأضرار خارجيّة كالبول والغائط ، وقد تكون لأضرار معنويّة كالكافر
، فإنّه وإن كان نظيف الجسم إلّا أنّ معتقده السخيف أوجب الحكم بنجاسته ، وذلك خير
وقاية للمسلمين من أن يعاشروه فيتلوّثوا بعقيدته الفاسدة ، فإنّهم إذا عرفوه نجسا
وإنّه مهما باشر شيئا برطوبة تنجّس فورا منه اجتنبوه في المأكل والملبس ، فلا
يتعدّى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة ، وهو بدوره إذ يعرف أنّه عند
المسلمين كذلك لا بدّ وأن يسأل عن السبب ، ويريد إزالة هذه الوصمة ، ولدى تحقيق
ذلك تظهر له خرافة معتقدة ممّا يسبب تركه له واعتقاده بالعقيدة الصحيحة.
وهناك بعض
المتفلسفين يقولون : كيف يحكم بنجاسة إنسان ولزوم الاجتناب عنه لمجرد انحراف عقيدة
وهذا مناف لحرية الآراء؟
والجواب : أنّه
كيف يحكم بالاجتناب عن إنسان لمجرد أنّه مصاب بالجذام ونحوه لمجرد انحراف مزاج ،
وهذا مناف لكرامة الإنسان. فإذا كان الخوف على الجسم يبيح الاجتناب فالخوف على
الروح أولى بالإباحة .
ومن ذلك أيضا ما
أجاب به أعلى الله مقامه عن بعض مزاعم العامّة في فضل الأوّل استنادا إلى آية
الغار من سورة التوبة ، وأبطل الدعوى ، وعلّل تصدّيه لذلك بالدفاع عن حريم القرآن
لكيلا يقحم فيه ما ليس منه ، وجرّ الآيات إلى الأنظار والأفكار جرّا بدون دلالة أو
برهان بعد أن ورد الذمّ لمن فسّر القرآن برأيه .
__________________
وفي سورة العلق
ردّ مزاعم من نسب جمع القرآن إلى الأوّل والثالث بما ينفي الشكّ ويزيل الإبهام بعد
تصريح القرآن بأنّ الذي جمعه ورتّبه هو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم .
عاشرا : وبعد ذلك
كلّه فإنّ من سمات هذا التفسير الضخم هو التواضع والإقرار بالعجز أمام كتاب الله
سبحانه ، ابتداء من عنوانه إلى أخر ما ذكر مصنّفه الكبير (قدس سرّه) في هذا
المجال.
فعنوانه تقريب
القرآن إلى الأذهان وليس تفسيره ، وهو دالّ على إعظام وإجلال وإكبار للقرآن وتنزيه
له من أن تناله عقول البشر ؛ ولذا هم بحاجة إلى تقريب لما في التقريب من اعتراف
بالقصور عن درك معانيه.
وقد تكرّر من
السيّد المؤلّف نفسه (قدس سرّه) في أكثر من مرّة بأنّ ما يذكره من مضامين مجرّد
معان محتملة وليست بتفسير ، وهذا منطق من التزم الحقيقة العارف بقدرة الإنسان وحدوده
ومداه ، والعارف بكلام الله سبحانه اللامحدود في مضامينه ومعانيه الذي يستحيل أن
يحيط به المحدود ، وفي مقدّمة مصنّفه الشريف هذا قال (قدس سرّه) في توجيه ما ورد
في بعض الأخبار : من أنّ القرآن الكريم له ظاهر وباطن ، ولا يعلم تفسيره ولا ظاهره
ولا باطنه ولا تأويله إلّا الله سبحانه ... إنّ فهم كلّ ظواهر الأشياء وبواطنها
كذلك ، فإنّ البشر لا يعلم إلّا بعض السطحيّات ، مثلا ما هي حقيقة اللحم والدم؟
وما هي حقيقة الماء والكهرباء؟ وإلى غير ذلك ، فإذا رأى الإنسان سيّارة لا يعلم ما
هي؟ فإنّه لا يعلم هل هي حديد أو نحاس (ظاهرها) ، ولا يعلم ما ذا في ماكنتها (باطنها)
، ولا يعلم ما نفعها (تفسيرها) ، ولا يعلم إلى أيّ شيء يكون أوّلها (تأويلها) ،
وكذلك القرآن لا يعرف المراد الكامل من
__________________
ظاهره ولا من
باطنه ، كما لا يعرف الفائدة الكاملة منه حالا ، ولا أوّل القرآن للمستمسك به
والتارك له.
والسؤال هنا : إذا
كان لا يعلم ظاهرها ولا باطنها ولا تفسيرها ولا تأويلها فما فائدة ذلك؟
والجواب : الإشارة
والتلميح وإن كانت الحقيقة مخفيّة.
مثلا : إنّك إذا
سمعت من إنسان ما لاقاه من الأهوال في حرب ضروس ، وأراك بعض التصاوير التي التقطها
من تلك الحرب ، فإنّ الكلام والصورة لا شكّ يلمحان إلى حقيقة ، لكن هل تدرك بذلك
هول تلك الحرب وانفعالات أولئك المحاربين؟ إنّ نسبة ما نفهم من القرآن إلى حقيقته
كنسبة الصور والكلام إلى حقيقة تلك الحرب ، وللحرب ظاهر هي المعركة ، وباطن هو
الاستعمار الذي يريد التسلّط مثلا ، وتفسير هو ما تنتجه الحرب الآن من غلاء
الأسعار وانسداد الطرق ، وتأويل هو ما يترتّب من الأثر على هذه الحرب من سقوط
إمبراطورية ودخول إمبراطورية أخرى إلى الحياة .
أقول : وفي الختام
فإنّ ما امتاز به تفسير التقريب (تقريب القرآن إلى الأذهان) عن غيره من التفاسير
الشيء الكثير. أشرنا نحن إلى بعض مزاياه وخصوصياته ، وسيجد القارئ الكريم الكثير
منها أثناء تتبّعه وقراءته.
وفي الختام أشكر
دار العلوم الموقّرة والقائمين عليها على اهتمامها بطباعته طباعة جديدة منقّحة ،
وأسأل الله سبحانه لها مزيد التوفيق والتسديد في ترويج معارف القرآن والشريعة
الغرّاء آمين يا ربّ العالمين.
كما وأسأله سبحانه
وتعالى أن يتغمّد السيّد مؤلّف هذا السفر القيّم برحمته الواسعة ، ويجعل القرآن
رفيقه ومؤنسه ونوره ، وأن يتقبّله منه بقبول
__________________
حسن ، وأن يدّخره
له في ضمن الباقيات الصالحات التي قام بها في دنياه لأخراه ، كما ونسأله سبحانه أن
يعفو عن زلّاتنا ، ويتقبّل ما كتبناه في هذه السطور أداء لبعض حقوقه الكثيرة
والكبيرة التي له طاب ثراه في رقابنا ، وأن يهدي ثواب ما بذلناه إلى وليه الأعظم
وحجّته على الأمم سيّدنا ومولانا صاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف
، وأن يرضيه عنّا بحقّ محمّد وآله الطاهرين.
|
فاضل الصفّار
٢٠ ـ جمادى الثانية من عام ١٤٢٣ هجرية
في جوار عقلية الرسالة السيدة زينب عليها وعلى آبائها آلاف التحيات والصلوات
الحوزة العلميّة الزينبيّة
|
المصادر
١ ـ الإتقان في
علوم القرآن : لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي ، دار ابن كثير ، الطبعة الأولى
١٤٠٧ ه ـ ١٩٨٧ م.
٢ ـ اختيار معرفة
الرجال المعروف ب «رجال الكشي» : للشيخ أبي جعفر الطوسي ، مؤسسة آل البيت عليهمالسلام ، ١٤٠٤ ه.
٣ ـ الإرشاد :
لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي ، مؤسسة آل البيت عليهمالسلام لإحياء التراث ـ بيروت ، الطبعة الأولى ١٤١٦ ه ـ ١٩٩٥ م.
٤ ـ إرشاد القلوب
: لأبي محمد الحسن بن محمد الديلمي ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، الطبعة الرابعة ١٣٩٨
ه ـ ١٩٧٨ م.
٥ ـ إلزام الناصب
: للشيخ علي اليزدي الحائري ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، الطبعة الخامسة ١٤٠٤ ه ـ ١٩٨٤
م.
٦ ـ الأصول من
الكافي : لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي ، دار صعب ودار التعارف
ـ بيروت ، الطبعة الرابعة ١٤٠١ ه.
٧ ـ أقرب الموارد
: لسعيد الخوري الشرتوني اللبناني ، دار الأسوة للطباعة والنشر ، الطبعة الأولى
١٣٧٤ ه ش ـ ١٤١٦ ه ق.
٨ ـ بحار الأنوار
: للشيخ محمد باقر المجلسي ، مؤسسة الوفاء ـ بيروت ، الطبعة الثانية المصححة ١٤٠٣
ه ـ ١٩٨٣ م.
٩ ـ البرهان في
تفسير القرآن : للسيد هاشم البحراني ، مؤسسة الوفاء ـ بيروت ، الطبعة الثانية ١٩٨٣
م ـ ١٤٠٣ ه.
١٠ ـ البرهان في
علوم القرآن : لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي ، دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة
، الطبعة الأولى. ١٣٧٦ ١١ ـ بين الجدران : للسيد محمد السويج ، دار البيان العربي
، الطبعة الأولى ١٤١١ ه ـ ١٩٩١ م.
١٢ ـ تأسيس الشيعة
لعلوم الإسلام : للسيد حسن الصدر ، شركة النشر والطباعة العراقيّة المحدودة.
١٣ ـ التبيان في
تفسير القرآن : لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
١٤ ـ تجريد
الاعتقاد : للشيخ أبي جعفر محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الطوسي ، مركز النشر
ـ مكتب الاعلام الإسلامي ، الطبعة الأولى ١٤٠٧ ه ق.
١٥ ـ تفسير تقريب
القرآن إلى الأذهان : لآية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي ، مؤسسة
الوفاء ـ بيروت ، الطبعة الأولى ١٤٠٠ ه ـ ١٩٨٠ م.
١٦ ـ تفسير الصافي
: للفيض الكاشاني ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، الطبعة الأولى ١٣٩٩ ه ـ ١٩٧٩ م.
١٧ ـ التفسير
والمفسّرون : للدكتور محمد حسين الذهبي ، دار الكتب الحديثة ، الطبعة الثانية ١٣٩٦
ه ـ ١٩٧٦ م.
١٨ ـ تفصيل وسائل
الشيعة : للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، مؤسسة آل البيت عليهمالسلام لإحياء التراث ـ بيروت ، الطبعة الأولى ١٤١٣ ه ـ ١٩٩٣ م.
١٩ ـ تهذيب
الأحكام : لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، دار صعب
ودار التعارف ـ بيروت
، ١٤٠١ ه ـ ١٩٨١ م.
٢٠ ـ الجامع
الصحيح «سنن الترمذي» : لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة ، المكتبة الإسلاميّة.
٢١ ـ خواطري عن
القرآن : للشهيد السيد حسن الشيرازي ، دار العلوم ـ بيروت ، الطبعة الأولى ١٤١٤ ه
ـ ١٩٩٤ م.
٢٢ ـ دائرة
المعارف الإسلاميّة الشيعية : لمحسن الأمين ، دار التعارف ـ بيروت ، الطبعة
الثانية ١٤٠١ ه ـ ١٩٨١ م.
٢٣ ـ داستانها
وخاطراتي : لآية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي ، انتشارات سلسلة ،
الطبعة الأولى ١٣٨١ ه.
٢٤ ـ الذريعة إلى
تصانيف الشيعة : للشيخ آغا بزرگ الطهراني ، مؤسسة إسماعيليان ـ قم.
٢٥ ـ علوم القرآن
عند المفسرين : لمركز الثقافة والمعارف الإسلاميّة ، مكتب الاعلام الإسلامي ،
الطبعة الأولى ١٤١٦ ق ـ ١٣٧٤ ش.
٢٦ ـ عوالي اللآلئ
العزيزية : لمحمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي ، مطبعة سيد الشهداء ـ قم ، ١٤٠٥ ه
ـ ١٩٨٥ م.
٢٧ ـ الغدير :
لعبد الحسين أحمد الأميني النجفي ، دار الكتب الإسلاميّة ، الطبعة الثانية ١٣٦٦ ه.
٢٨ ـ الفروع من
الكافي : لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي ، دار صعب ودار التعارف
ـ بيروت ، الطبعة الثالثة ١٤٠١ ه.
٢٩ ـ كتاب التفسير
: لأبي النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف «بالعياشي» ،
المكتبة العلمية الإسلاميّة ـ طهران.
٣٠ ـ كتاب الخصال
: للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي ، منشورات جماعة
المدرسين في الحوزة العلمية ـ قم.
٣١ ـ لسان العرب :
لابن منظور ، نشر أدب الحوزة ـ قم ، ١٤٠٥ ه ـ ١٣٦٣ ق.
٣٢ ـ مجمع البحرين
: لفخر الدين الطريحي ، مؤسسة الوفاء ـ بيروت ، الطبعة الثانية المصححة ١٤٠٣ ه ـ ١٩٨٣
م.
٣٣ ـ مجمع البيان
: للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، ١٣٧٩
ق ـ ١٣٣٩ ش.
٣٤ ـ المستدرك على
الصحيحين : لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، دار المعرفة ـ بيروت.
٣٥ ـ مستدرك
الوسائل : للميرزا حسين النوري الطبرسي ، مؤسسة آل البيت عليهمالسلام لإحياء التراث ـ بيروت ، الطبعة الثالثة ١٤١١ ه ـ ١٩٩١ م.
٣٦ ـ مسند أحمد بن
حنبل : لأحمد بن حنبل ، دار صادر ـ بيروت.
٣٧ ـ مفاتيح الغيب
: لصدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي ، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگى ، الطبعة
الأولى ١٣٦٣.
٣٨ ـ مفردات ألفاظ
القرآن : للراغب الأصفهاني ، الدار الشامية ـ بيروت ، ودار القلم ـ دمشق ، الطبعة
الأولى ١٤١٦ ه ـ ١٩٩٦ م.
٣٩ ـ مناقب آل أبي
طالب : لأبي جعفر رشيد الدين محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني ، مؤسسة
انتشارات العلامة ـ قم.
٤٠ ـ موسوعة أهل
البيت الكونية : لمجموعة من المؤلفين ، بإشراف فاضل الصفّار ، سحر للطباعة والنشر
ـ بيروت ، الطبعة الأولى ١٤٢٣ ه ـ ٢٠٠٢ م.
٤١ ـ نهج البلاغة
: ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية الدكتور صبحي الصالح ، دار الكتاب اللبناني ودار
الكتاب المصري ، الطبعة الثانية ١٩٨٠ م.
مقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم
أجمعين إلى يوم الدين. لعل سبحانه يوفقني لشرح ألفاظ من القرآن الحكيم ، ليسبب
تسهيلا على الطالب ، ويفتح لي سبيل فهم كتابه ، الذي هو سبب سعادة الدنيا والآخرة.
ويتقبله بقبول حسن ، ليكون مصداقا ل : «كتب علم ينتفع بها» في الدنيا ، وموجبا
للأجر والثواب في الآخرة.
هذا ما يرجوه «محمد
بن المهدي الحسيني الشيرازي» عند افتتاح كتابه التفسير ، المسمى ب : «تقريب القرآن
إلى الأذهان» والله الموفق ، وهو المستعان.
كربلاء المقدسة ٢٩
ربيع الأول سنة ١٣٨٣ هجرية.
المدخل
كتاب كل عصر ومصر
قد اشتهر عند
أتباع المستعمرين من المسلمين الجدد أصحاب الثقافات الشرقية والغربية ، أن القرآن
لا يلائم العصر من جهة وجود أحكام فيه تصلح لعهد البداوة ، مثل قطع يد السارق وجلد
الزاني ورجمه ، وتقرير الاستعباد والقصاص وحرمة الربا والمكس والحريات الكثيرة
والأحكام الخاصة بالمرأة ، ومن جهة عدم وجود أحكام فيه يتطلبها العصر ، مثل أحكام
السياسة والاقتصاد والأمن وما أشبه ذلك ، ثم قالوا بأن الإسلام حيث ينطلق من
القرآن فالقرآن أيضا لا يصلح للعصر الحديث ، فاللازم فصل الدين عن الدولة ، وهذه
الفكرة إن لم تعم كافة المثقفين فهي بلا شك تعم أكثرهم ، وحيث أن الاستعمار الفكري
يستتبع الاستعمار العسكري ، فبلاد الإسلام تعيش في استعمار عسكري صريح أو مغلف ،
والواجب الاهتمام لتغيير هذه الفكرة بمختلف وسائل التغيير ، فإن الله سبحانه (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (وَإِذا أَرادَ اللهُ
بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) فإنهم إذا لم يغيروا ما بأنفسهم من أسباب الضعف والانحطاط
أراد الله بهم سوءا إرادة تكوينية تابعة لخلق المسببات بعد أسبابها.
__________________
والكلام حول رد
هذه الإشكالات طويل نكتفي بالتلميح إليه فنقول : أما الجهة الأولى فيرد على إشكال
قطع يد السارق ، أن الإسلام لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير أوليات العيش المتوسط
له ، وإذا وفر له أوليات العيش المتوسط فهل الأفضل أن يردعه ـ إذا سرق ـ بعقاب
صارم يجعل المجتمع في أمن بعد توفر زهاء عشرين شرطا في السرقة يشترط بها القطع؟ أو
أن يحبسه أو ما أشبه الحبس؟ مما لا يكون رادعا ، بل أحيانا يكون مشجعا كما لا يخفى
على من طالع أحوال المجتمعات الغربية والشرقية.
وعلى إشكال جلد
الزاني ، إن الإسلام لا يجلد إلا إذا اضطر ، وإذا عرفنا أن الإسلام يوفر المناخ
الملائم للعفة برفع الاضطرار إلى اقتراف الجنس حراما ، كان زنى الرجل أو المرأة
خرقا للعفاف الاجتماعي وتعريضا له إلى الانهيار في أقدس روابطه وهدما للعائلة ،
وأيهما خير العقاب الصارم المناسب للذة الزنى ـ إذ الجلد إيلام يناسب ما اقترفه
الزاني من الإثم ـ أو عقوبة خفيفة لا تسد هذا الباب الخطر؟
أما الرجم فهو
للزاني المحصن ، وكل إنسان عاقل يعترف بأنه إذا كانت له زوجة يشبعها جنسيا ثم
خانته كان اللازم إنزال أشد العقوبات بحقها ، وكذلك العكس وإلّا لزم انهيار
المجتمع وانهدام العائلة وعدم الأمن وكثرة الطلاق وقلة النكاح واختلاط الأنساب
وكثرة الأمراض الجنسية وتوسيع المجال للمستهترين ، إلى غيرها من المفاسد التي وقع
فيها الشرق والغرب وقد رفع عقلائهم أصواتهم بوجوب وضع حد لهذه الاستهتارات.
وعلى إشكال تقرير
الاستعباد ، إنه أفضل حل لمشكلة أسارى الحرب ، بعد الوضوح أن الإمام مخير بين
الأسر وبين السجن وبين الفدية وبين الإطلاق كل منها حسب ما يراه من المصلحة ،
فلنفرض أن المصلحة عدم القتل ، لأنه تضييع لقوى بناءة يحتاج إليها المسلمون ، وعدم
السجن ، لأنه إرهاق لكاهل الدولة ، وعدم الإطلاق بمال أو بدون مال ، لأنه يخشى
من تآمرهم على
الدولة الإسلاميّة ، فما ذا يكون الحل المعقول غير استعبادهم بتسليمهم إلى سادة
يكونون تحت إشرافهم دائما مع عدم إضاعة قدراتهم البناءة؟ ومن السهل نقد الإسلام في
تقريره قانون الرقة ، لكن من المحال إيجاد حل أفضل منه ، ولذا نرى أن الذين
انتقدوا الإسلام في هذا القانون ، لما جاء دور العمل أخذوا يقتلون مناوئيهم
بالملايين لا الألوف ، ففرنسا قتلت مليونا أو مليوني جزائري ، وأمريكا قتلت خمسة
ملايين فيتنامي ، وإنكلترا قتلت عشرين مليون صيني ، وألمانيا قتلت ما يقارب
الخمسين مليون في الحرب العالمية الثانية ، وروسيا قتلت خمسة ملايين فلاح في نظام
المزارع الجماعية ـ على ما ذكرت كل ذلك الكتب والجرائد والإذاعات ـ.
ثم نظام التعذيب
الذي اخترعه الغرب والشرق أبشع بكثير من نظام الرق بل هو نظام استعباد الشعوب
الكامل تحت غطاء الاستعمار مما أوقع العالم كله في دوامة الثورات والحروب.
وعلى إشكال القصاص
، إنه أمر طبيعي ، فهل يشفي غيظ من فقأ عينه عمدا أن يأخذ المال في قبال عينه
التالفة؟ وهل من الإنصاف أن يترك مثل هذا الإنسان الجاني يعبث بالمجتمع بدون عقاب
صارم يردعه ويردع غيره من العابثين؟ خصوصا إذا كان الجاني غنيا لا يهتم بالمال ،
فقد أجاز الإسلام ذلك في صورة طلب المجني عليه ، مع إنه أعطى الحق له في أن يعفو ،
وأن يأخذ الدية مع إعطاء الصلاحية للحاكم الإسلامي في تعزيره بما يؤلمه ، لأنه خرق
حق الله سبحانه. بما يسمى في الاصطلاح بحق الادعاء العام.
نعم قد لا يكون
للقصاص مجال في الحي ، أو في الميت ، كما في من قطع عضو ميت ، حيث أفتى الإمام
الصادق عليهالسلام بأن ديته كدية الجنين ، فيمن قطع رأس ميت ـ لوضوح
اشتراكهما في أنهما إنسانان لا روح لهما ـ
في قصة مشهورة وحينذاك يرجع الأمر إلى الدية والتعزير إن صدرت الجناية عن
عمد ، وإلى الدية فقط ، إن لم يكن عمد في البين.
وأما إشكال حرمة
الربا ، فإنه وإن أورد عليها أن الربا حق معقول ، لأن أمر صاحب المال دائر بين أن
يتاجر بماله فيربح ، وبين أن يدفعه قرضا فيربح من ورائه ، ولذا قالوا (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) لكن هو إشكال غير وارد ، لا لما أورد عليه الشيوعيون بأن
تجارة غير الدولة سرقة لأتعاب العمال ، إذ أي حق للتاجر أن يستربح ثم يأخذ لأجل
ماله شيئا من أتعاب وجهود الكادحين؟ فكل من الربا والاتجار المربح حرام.
ولا لما أورد عليه
بعض الاقتصاديين الجدد بأن الاتجار مطلقا «سواء كان من الدولة ، كما في الشيوعية ،
أو من غير الدولة ، كما في الرأسمالية» حرام ، إذ في كلا الحالين استفاد من لم
يتعب ممن تعب فهو سرقة تحت اسم القانون ، إذ يرد عليهما أنه لا بد من مخزون مالي
للقيام بخدمات المجتمع ، وأفضل طريق الخزن هو جمع المال عند التجار لئلا يجتمع
المال والسلاح والقوة في مكان ، فيكون الظلم والديكتاتورية كما نشاهدهما بأبشع
صورهما في البلاد الشيوعية .. مع لزوم مراقبة الدولة لأجل إعطاء الناس ما يحتاجون
من مسكن وأثاث ، حتى لا يبقى فقير ، ولأجل عدم إفساد الرأسمالي ـ كما في النظام
الإسلامي ـ.
بل لأن الربا على
إطلاقه ظلم ، إذ ليس كل تجارة مربحة ، وليس كل إعطاء للمال يستحق المعطي أن يأخذ
شيئا في مقابل الإعطاء وتوضيح ذلك أن لمال التاجر أربع صور :
__________________
الأولى : أن لا
تكون هناك تجارة يتمكن ما له من التقلب فيها.
الثانية : أن تكون
تجارة غير مربحة إطلاقا ، أو مربحة بقدر أقل من التعب ، أو بمقدار التعب.
الثالثة : أن يصرف
المال في الحوائج الضرورية ، لا في التجارة.
الرابعة : أن يصرف
المال في تجارة مربحة ربحا أزيد من التعب ، والربا أخذ التاجر المال ممن أعطاه
المال في كل الصور الأربعة ، مع أنه في الثلاثة الأولى ظلم.
أما في الصورة
الأولى : فلوضوح أن قول المستشكل «إن أمر صاحب المال دائر بين أن يتاجر بماله
فيربح ، وبين أن يدفعه قرضا فيربح» غير تام ، إذ المفروض أنه لا يمكن الاتجار
بالمال في هذه الصورة.
وأما في الصورة
الثانية : فإن المال ربح بقدر التعب ـ على أحسن الفرضين ـ والأحق بهذا الربح من
تعب لا من لم يتعب.
وأما في الصورة
الثالثة : فإن أخذ التاجر الربح خلاف الإنسانية ، لأنه استغلال لحاجة الإنسان في
تدميره ، فالمفترض أخذ المال لأجل قوته ، أو دواء مريضه ، فهل يحق لصاحب المال أن
يستغل هذه الحاجة في إنماء ماله؟ وتبقى الصورة الرابعة فقط مما يحق لصاحب المال أن
يأخذ بعض الربح «أخذا لأجل وجود المخزون المالي الذي هو لأجل المجتمع أيضا ـ كما
تقدم ـ» وحل الإسلام له بالمضاربة التي هي أقرب إلى العدالة بالنسبة إلى التاجر
والمضارب ، أفضل من الربا الذي قد يكون الترجيح فيه لصاحب المال ، وقد يكون
الترجيح للعامل وكلاهما اعتباطا لا يقره العقل والمنطق.
ويرد على إشكال
حرمة المكس ، أن غاية ما يقال لتبرير المكس أمران :
الأول : إنّه إذا
رفع المكس أضر ذلك بالاقتصاد ، إذ الدولة تجني من وراء المكس مقادير كبيرة من
المال تساعدها في إدارة شؤون الدولة.
الثاني : إنّه إذا
رفع المكس لزم تحطم الاقتصاد الوطني ، لأن البضائع الأجنبية ترد في البلاد بما يوجب
تحطم الاقتصاد ، ولا يخفى أن هذين الأمرين وإن تمّا في الجملة ، إلّا أن الحرمة
الذاتية للمكس لا ترتفع بهما ، بل اللازم للدولة الإسلاميّة أن تلاحظ الأهمية
وتأخذ بالأهم في البين ، فكل من المكس وتحطم الاقتصاد «المذكور في الأمرين» حرام ،
فإذا دار الأمر بين الحرامين يجب الأخذ بأقلهما حرمة من باب قاعدة الأهم والمهم.
ومنه يعلم أن حرمة
المكس ليست مطلقة حتى يستشكل على الإسلام بأنه حرم المكس ، وأن الحرمة لا تلائم
الدول الحديثة.
ويرد على إشكال
الحريات الكثيرة ، أن توهم أن الإسلام يعطي حريات تضر بالاجتماع باطل ، وجه التوهم
أن الإسلام يعطي حرية البناء وحرية الحركة ، وحرية السكنى ، وحرية التجارة ، إلى
غير ذلك ، وبذلك يختل النظام ، فكل أحد يبني ما يضر الطريق ، وكل أحد يترك بدون
ملاحظة قوانين المرور ، ولمليون مسلم مثلا ، أن يأتوا للسكنى في بلد بحيث يضيق بهم
هذا البلد ، وللتاجر أن يصدر كل بضائعه بحيث يقع أهل البلد في ضيق ، إلى غير ذلك.
والجواب : أن
الإسلام إنما يعترف بالحرية المسؤولة «أي غير الضارة» لا الحرية غير المسؤولة ،
فليس لأحد أن يستفيد من الحرية الضارة بالآخرين ، ويجب على كل مسلم احترام قوانين
الدولة الإسلاميّة الموضوعة تحت نظر المجتهد الجامع للشرائط وإن أضرت القوانين
بمصالحه الخاصة ، فإذا رأت الدولة أن استيراد هذه البضاعة مثلا تضر بالاقتصاد
الإسلامي فمنعت عن ذلك ليس لأحد أن يستورد هذه البضاعة ، إلى غير ذلك.
لا يقال : فأي فرق
بين مثل قوانين أمريكا ، وبين قوانين الدولة الإسلاميّة ، إذ كل منهما توضع حسب
المصلحة؟
لأنه يقال : الفرق
أن قوانين الدولة الإسلاميّة توضع في الإطار الإسلامي ، بخلاف قوانين مثل أمريكا ،
فالفرق بينهما كالفرق بين قوانين أمريكا ، حيث توضع في الإطار الرأسمالي وقوانين
روسيا ، حيث توضع في الإطار الشيوعي ، مع أن كلتا الدولتين تدعي أنها تلاحظ مصالح
بلادها.
ويرد على إشكال
الأحكام الخاصة بالمرأة أن المنطق والبرهان دلّا على صحة تلك الأحكام الخاصة ،
بحيث إنها لو تساوت مع الرجل في الأحكام كان خباله مثل تساويها معه في خصوصيات
الجسم ، فكما أنه لو كان كل البشر رجلا كان ذلك من أبشع الفساد ، كذلك لو كان كل
البشر متساوين في كل الحقوق والواجبات كان ذلك من أبشع الفساد ، وقد فصلنا بعض
أسباب الاختلاف بينهما في جملة من الأحكام في كتاب «في ظل الإسلام» وفي «الفقه : الحكم في الإسلام» وغيرهما.
ويرد على إشكال
القصاص ، أنه حكم إنساني رادع كما تقدم ، والإنسانية والردع لا توجدان في الغرامة
والسجن ، مع أن الإسلام جعل اختيار العفو وأخذ الغرامة بيد المجني عليه ، رخص
القصاص ، بما إذا كان الجاني عامدا ـ كما هو واضح ـ.
أليس من الحق أن
جانيا عامدا إذا قطع يد إنسان كان جزاءه أن تقطع يده ، فيما إذا أراد المجني عليه
ذلك؟ وإذا لم يكن هذا من الحق ، لنا أن نسأل الفرق بين المال والنفس ، فإذا أخذ
السارق منك دينارا كان لك أن
__________________
تأخذ منه دينارا ،
وإن قيل فلما ذا لا يقتص في العرض؟ فإذا زنى زان بزوجة زيد كان لزيد أن يزني بزوجة
الزاني ، قلنا الفرق واضح ، إذ يكون ذلك اعتداء على بريء هو زوجة الجاني بخلاف
القصاص ، فإنه رد اعتداء على نفس المعتدي ، هذا كله بالنسبة إلى الجهة الأولى.
أما الجهة الثانية
فالقول بأن الإسلام ليس فيه اقتصاد وسياسة وأمن ، كلام بلا دليل ، فالاقتصاد
الإسلامي ليس فيه مضار الاقتصاديات الثلاثة الرأسمالية والشيوعية بفرعيها
الاشتراكية والفوضوية «التي تدعي أن لكل نتاجه ، ومن كل عمله» بينما فيه الاقتصاد
المعتدل الذي يعطي كل ذي حق حقه ، كما أن السياسة في الإسلام أفضل سياسة ، حيث
تجمع بين حكم الله سبحانه والشورى في انتخاب الحاكم ، والأمن موجود في الإسلام لا
للكبت بل لجمع المعلومات وإرصاد المخربين وإيقاف المفسدين عند حدهم ، وقد ذكرنا
طرفا من هذه المسائل الثلاثة «الاقتصاد والسياسة والأمن» في كتاب «الفقه : الحكم
في الإسلام» ولذا فلا نعيد التفاصيل.
وحيث أن القرآن
مصدر لكل هذه الأحكام ، حيث بين فيها الخطوط العريضة للحياة السعيدة ، فالقرآن هو
الكتاب الوحيد الصالح لتطبيقه في العصر ، وكل كتاب وقانون غير القرآن ليس له هذه
الصلاحية ، والظاهر أن العالم أخذ أخذا حثيثا نحو السير إلى القرآن وأحكامه ، لأنه
الكتاب الوحيد الصالح للتطبيق بعد أن ظهر فشل ما عداه في تأمين الحياة السعيدة ،
فهو مثل الكهرباء بالنسبة إلى النفطيات ، حيث إنها تعطي مكانها للكهرباء ـ تلقائيا
ـ طال الزمان أو قصر ، ولذا قال سبحانه (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) .
__________________
تطبيق الفكر والعمل على القرآن
يجب تطبيق الفكر
والعمل على القرآن ، وذلك ببيان مقدمات :
الأولى : إن الله
سبحانه خلق الكون الواسع بما فيه الدنيا والآخرة والحياة وغير الحياة على كيفية
خاصة من الحقائق والأبعاد والحدود والمزايا والخصوصيات وهذا واضح لا يحتاج إلى
الدليل.
الثانية : إنّ
القرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي مما أنزله الله سبحانه في أيدي البشر ، أما سائر
الكتب المنزلة فقد حرفت وبدلت ، كما قال سبحانه : (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) و (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) بل قامت الضرورة منا على عدم تمامية الكتب الباقية ،
كالتوراة والإنجيل ، بالإضافة إلى فقدان بعض الكتب المنزلة من أساسها بحيث لم يبق
منها عين ولا أثر ، بالإضافة إلى أنه لم يعلم أن سائر الكتب المنزلة كانت لأجل
الهداية الكاملة المستوعبة للفكر والعمل بصورة مطلقة.
الثالثة : إنّ
القرآن نزل بقصد توجيه الفكر وتوجيه العمل ، والمراد بالعمل أعمال الجوارح كلها
بما فيها اللسان ، وقد دلت الأحاديث المتواترة على أن الهداية خاصة بالقرآن ـ أن
من طلب الهداية في غير القرآن أضله الله ـ أي كان ضالا والنسبة إلى الله سبحانه
باعتبار أن الآلة منه سبحانه ، ولذا نسب
__________________
كل شيء إلى نفسه.
قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) .
وقال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) .
وقال : (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) .
وقال : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) .
وقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) على فرض أن يراد به كل عمل الإنسان حتى المعصية باعتبار أن
الآلة منه سبحانه ـ وإنما كان يضل من طلب الهداية في غير القرآن ، لأنه لا هداية
فيما عداه ، مثل أن يكون الطريق إلى البلد الفلاني خاصا بطريق واحد فيقال : أن من
سلك غير هذا الطريق ضل ، فإن وجهه أنه لا طريق غيره.
الرابعة : أن
ظرفية البشر في عالم الدنيا ليست أكثر من القرآن ، فإنه وإن احتمل أن يكون الكون ـ
بمعناه العام ـ أكبر من المقدار المذكور في القرآن ، إلا أن المقدار الذي يستوعبه الإنسان
من الكون ـ استيعابا في فكره وفي عمله ـ ليس أكثر مما أرشد إليه في القرآن ، مثلا
إذا كانت صحراء بمقدار مائة فرسخ ، لكن زيدا لا يتمكن من عمران أكثر من عشرين
فرسخا منها ، كان مقتضى الحكمة أن يكون المنهاج الذي يضعه مربي زيد بقدر تعمير
عشرين فرسخا فقط ، إذ الزائد لغو لا يصدر من الحكيم ، ويؤيد أوسعية الكون عن مقدار
ظرفية الإنسان قوله عليهالسلام : «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» إلا
أن يقال أن هذا لا يدل على أوسعية الكون عن القرآن ، لأن
__________________
للقرآن بطونا ،
ولأنه لا تفنى غرائبه كما في الحديث ، فلعله سبحانه جعله يتدرج في الظهور كما جعل
حقائق كونه ، في الدنيا وفي الآخرة تتدرج في الظهور.
وكيف كان فيدل على
المقدمة الرابعة عدم وجود الهداية في ما عدا القرآن كما نص بذلك متواتر الروايات ،
فلو كان البشر أوسع للزم وجود الهداية في ما عدا القرآن الأزيد من القرآن لا بد
وأن يكون له طريق مستقيم وطريق غير مستقيم ، ومعرفة البشر الطريق المستقيم في
المقدار الأزيد هداية ، والمفروض أنه لا هداية في ما سوى القرآن.
إذا تحققت هذه
المقدمات الأربع قلنا : ثبت أن فكر البشر في أحوال المبدأ والمعاد والمعاش بكل
أصنافه من عبادة ومعاملة بأقسام المعاملات ، وأخلاق وغيرها لا يعدو القرآن كما ثبت
أن أعماله بكل أنواعها لا تعدو القرآن ، فاللازم تطبيق فكره وعمله في إطار القرآن
إذ القرآن مرماة للكون والبشر مأمور بفهم هذا الكون والعمل على طبق ذلك الفهم ،
فمثلا إذا فرضنا أن المريض كان مأمورا بشفاء نفسه ووصف المرض ووصف الدواء كان
مكتوبا بكتاب ، وقال الآمر : أفهم داءك ودوائك وأعمل لشفائك ، كان اللازم على
المريض أن يفهم الكتاب وألّا يبقى مريضا.
وعليه فإذا أفرغ
البشر فكره وعمله في إطار القرآن هدى ، وإلا ضل عن سواء السبيل ، وللتوضيح نقول :
حقيقة المبدأ وحقيقة المعاد وحقيقة المخلوقات ، أي خلق السماوات والأرض والجبال
والرعد والبرق والجنة والنار والموت والحياة وغيرها ، شيء ثابت مسلّم سواء فهمها
البشر أم لا.
كما أن سعادة
البشر في الصلاة والصيام والزكاة والبيع والنكاح والحرية والحدود والقصاص وغيرها ،
والواقع في باب الفهم وأسلوب العمل المسعد في باب العمل في القرآن الحكيم ، فإن صب
البشر فكره في
قالب فهم القرآن
أدرك الحقائق وإن صب البشر عمله في قالب العمل الذي أرشد إليه القرآن سعد ، وإلّا
أخطأ في فكره وشقي في عمله مثلا قال القرآن : الإله واحد ، وقال : أقيموا الصلاة ،
فإن لم يصب البشر فكره وعمله في هذين ، لقال بأن الإله اثنان ، ولم يصل ، والأول
يوجب انحراف فهمه عن الواقع ، والثاني يوجب شقائه حتى في الدنيا ، لأنه كما قال
سبحانه : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وقال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) .
ثم أن هنا ثلاثة
أمور :
الأول : إن للقرآن
ظهرا وبطنا ، ولبطنه بطن وهكذا ، وإذا لا حظنا ذلك في التكوينات التي خلقها الله
سبحانه ظهر نوع شبه لفهم المقصود بذلك ، فمثلا التفاح له ظهر هو قشره ، وبطن هو
لبه ، ولبطنه بطن هو نواته ، ولنواته بطن هو مخه ، وهكذا الإنسان له ظهر هو جلده
المرئي منه ، وله بطن هو لحمه ، ولبطنه بطن هو القلب والكبد والكلية ، وكل بطن
بمنزلة مخ النواة ، وفي القرآن مثلا قال سبحانه : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) فظهره هؤلاء الثلاثة في قبال موسى عليهالسلام ، وبطنه أمثالهم في قبال محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم أمثالهم في قبال علي عليهالسلام وهكذا ، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من أن القرآن كالشمس تجري
كل يوم ، فله انطباق في كل زمان على أفراد وأعمال وحالات.
ثم أن من الطبيعي
أن يكون القرآن كذلك ، لأنه كتاب اللفظ في قبال كتاب الكون ، فاللازم انطباق هذا
الكتاب على ذلك الكتاب ، وإلا لم يكن كامل الانطباق.
__________________
الثاني : ورد
بالنسبة إلى بعض أساميه سبحانه أنه لا يعلم ظاهرها ولا باطنها ولا تفسيرها ولا
تأويلها إلا الله سبحانه ، كما في دعاء السمات ، وقد يظهر من بعض الروايات أن
القرآن كذلك كما ذكر في قصة بلوهر مع يوذاسف.
وهنا سؤالان :
السؤال الأول :
أنه ما معنى ذلك؟
والجواب : أن فهم
كل ظواهر الأشياء وبواطنها كذلك ، فإن البشر لا يعلم إلا بعض السطحيات ، مثلا ما
هي حقيقة اللحم والدم؟ وما هي حقيقة الماء والكهرباء؟ وإلى غير ذلك ، فإذا رأى
الإنسان سيارة لا يعلم ما هي؟ فإنه لا يعلم هل هي حديد أو نحاس «ظاهرها» ولا يعلم
ماذا في ماكنتها «باطنها» ولا يعلم ما نفعها «تفسيرها» ولا يعلم إلى أي شيء يكون
أولها «تأويلها» وكذلك القرآن لا يعرف المراد الكامل من ظاهره ولا من باطنه ، كما
لا يعرف الفائدة الكاملة منه حالا ولا أول القرآن للمستمسك به والتارك له.
السؤال الثاني :
إذا كان لا يعلم ظاهرها ولا باطنها ولا تفسيرها ولا تأويلها فما فائدة ذلك؟
والجواب : الإشارة
والتلميح وإن كانت الحقيقة مخفية ، مثلا أنك إذا سمعت من إنسان ما لاقاه من
الأهوال في حرب ضروس ، وأراك بعض التصاوير التي التقطها من تلك الحرب ، فإن الكلام
والصورة لا شك يلمحان إلى حقيقة ، لكن هل تدرك بذلك هول تلك الحرب وانفعالات أولئك
المحاربين؟ إن نسبة ما نفهم من القرآن إلى حقيقته ، كنسبة الصور والكلام إلى حقيقة
تلك الحرب ، وللحرب «ظاهر» هي المعركة و «باطن» هي الاستعمار الذي يريد التسلط
مثلا ، و «تفسير» هو ما تنتجه الحرب الآن من
غلاء الأسعار
وانسداد الطرق و «تأويل» هو ما يترتب من الأثر على هذه الحرب من سقوط امبراطورية
ودخول امبراطورية أخرى إلى الحياة.
الثالث : قد ورد
في باب القرآن أنه لا تنقضي غرائبه والمراد بذلك ، إما بعض حقائقه التي لا نعلم
بها ، أو أن الطريق الذي أرشد القرآن البشر إليه طريق لا تنقضي غرائبه ، مثلا أرشد
القرآن البشر إلى السير في الأرض والنظر والعبرة وهكذا يؤدي دائما إلى اطلاع البشر
على معلومات جديدة غريبة واكتشافات حديثة مدهشة ، والله سبحانه العالم.
فلسفة كاملة عن الحياة
حيث أن القرآن الحكيم
فلسفة كاملة للحياة ولا فلسفة كاملة غيره ، لا بد وأن يسيطر على الحياة ، إن عاجلا
أو آجلا ، فإنه إنما يسيطر إذا عرف البشر هذين الأمرين :
إنه فلسفة كاملة
ولا فلسفة كاملة غيره :
إذ البشر بحاجة
إلى فلسفة كاملة ليسعد ، والسعادة هي الغاية المتوخاة لكل بشر ، وليس وراءها مقصد
، فإن الذاتي لا يعلل بغيره.
أما أن القرآن
فلسفة كاملة ، فلأنه يعطي شؤون الروح ، ويعطي متطلبات الجسد ويستند إلى ما لا
يتغير ، وهذه العناصر الثلاثة هي التي تشكل السعادة الكاملة لأن الإنسان روح وجسد
، ولكل واحد منهما متطلبات ، ثم إذا كان متطلباتهما غير مستندة إلى قوة أزلية لا
تتغير ، كانت محلّا للتغيير ، مما يسلب الثقة ، وسلب الثقة ينتهي إلى الشقاء ، فهو
مثل أن تراجع طبيبا لا تثق به أو تركب طائرة أو سفينة لا تثق بهما حيث أن في الكل
احتمال العطب الذي يوجب الشقاء النفسي وشقاء النفس كسعادتها ، تسريان إلى الجسد
للتفاعل بين الروح والجسد ، ولذا كان القلق يوجب قرحة المعدة ، وأمراضا أخر ، ولذا
كان أيضا المرض الجسدي يوجب اضطراب العقل ، ومنه قيل : «العقل السليم في الجسم
السليم».
وعلى هذا فإذا لم
تكن المتطلبات مستندة إلى قوة أزلية توجب الثبات والاستقرار ، كان الإنسان يعيش في
ألم وعذاب ، وحيث أن من طبيعة
الإنسان الفرار من
الألم كان لا بد له أن يتطلب فلسفة صحيحة ليدفع بها ألمه ، وينتهي به المطاف إلى
فلسفة القرآن ، التي هي الفلسفة الصحيحة للكون والحياة ، بكلا شقي الحياة : الروح
والجسد ، بالإضافة إلى أنها مستندة إلى الله سبحانه ، الذي لم يزل ولا يزال ولا
تتبدل قوانينه (فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) .
إذا ثبت هذا قلنا
: أمهات الفلسفات الموجودة في عالم اليوم خمسة :
١ ـ فلسفة الإسلام
، ٢ ـ فلسفة اليهود ، ٣ ـ فلسفة النصارى ، ٤ ـ فلسفة الرأسمالية ، ٥ ـ فلسفة
الشيوعية ، وما عدا الإسلام من سائر الفلسفات ليست صالحة للحياة ، فلا تبقى إلا
فلسفة الإسلام ، التي ينتهي البشر في آخر المطاف إليها.
ولذا قال سبحانه :
(لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) فهو بالإضافة إلى كونه غيبيا ، يؤيده المنطق والبرهان.
أما عدم تمكن
الفلسفة اليهودية والنصرانية من الصمود أمام الحياة ، فلوضوح أنهما مشوبتان بأبشع
أنواع الخرافة ، والعقل إن سبت ساعة لا يسبت إلى قيام الساعة ، ولذا بمجرد أن ترجم
كتابيهما بعض المترجمين ، وعرف الغرب والشرق ما يحتويان من الخرافة لفظوهما ،
بالإضافة إلى أنهما كانا مصادر لمحاكم التفتيش وما أشبهها ، مما اصطدم بالعلم حين
نهوض العلم ، فانسحبا عن الميدان بعد مجازر بشرية رهيبة ـ هذا أولا ـ بالإضافة إلى
أن اليهودية والنصرانية لا تشتملان على قوانين الإنسان في معاملاته وأحواله
الشخصية وسائر شؤونه ، بل منطقهما : «دعوا ما لقيصر لقيصر ، وما
__________________
لله لله» الذي
يعيش تحت مظلتهما ، لا بد له من وضع قوانين لحياته ، وحيث أنها ليست مستندة إلى
قوة أزلية لا تصلح للإسعاد «كما تقدم بيان ذلك» ، وهذا ثانيا.
وقد ظهرت آثار
انهزام اليهودية والنصرانية في هذا القرن بما لا يرجى في بقائهما وإن حقنتا بآثار
الحضارة الحديثة ، فالخشبة اليابسة لا تحيى ، وإن سقيت بألف كر من الماء.
وأما عدم تمكن
فلسفة الشيوعية والرأسمالية من الصمود أمام الحياة ، فلأنهما أولا : ناقصتان من
حيث عدم وفائهما بجانب الروح ، وإنما تتعرضان لجانب الجسد فقط ، ولذا كان الغرب
القائل بالروح اضطر إلى التشبث باليهودية والمسيحية لأجل إملاء الروح ، ولكنهما لم
ينفعاه أيضا ، لخواء ما فيهما من الروحيات ، وأسوأ الاثنتين هي الشيوعية التي لا
تعترف بالروح أصلا.
وثانيا : لا
يستمدان قوانينهما الجسدية من قوة أزلية ، وقد عرفت أن القانون المستمد من الإنسان
ونحو الإنسان ، مترجرج ، ولا ينفع استقرار الإنسان وثقته.
أما أمثال القومية
، والبعثية ، والوجودية ، والديمقراطية والاشتراكية ، ونحوها ، فهي ليست فلسفات أصلا
، وإنما هي فكر منحرفة لبقعة صغيرة من بقع الحياة ، فالقومية معناها جمع القوم ،
والبعثية معناها بعث القوم ، والوجودية إفراط في الفردية مقابل إفراط الماركسية في
الدولة ، والديمقراطية حكم الشعب ، والاشتراكية توزيع قسم من الثروة ، ومن الواضح
أن أيّا منها ليست فلسفة للحياة ، هذا مع الغض مما سبب جملة منها من المآسي
للإنسان ، إذا .. لم يبق في الميدان إلا القرآن ، ففي أي وقت اجتهد حملته في
إيصاله إلى العالم ، استقبله العالم بكل ترحاب ، كما استقبله العالم بكل حفاوة
إبان ظهوره.
(١)
سورة الفاتحة
مكية ـ مدنية / آياتها (٧)
سميت السورة باسم «الفاتحة»
لافتتاح المصاحف بكتابتها ولقراءتها في الصلاة فهي فاتحة لما يتلوها من السور
وتسمى ب «الحمد» ومن أسمائها «سبع المثاني» و «الواقية» و «الكافية» وذكروا لها
أسماء أخرى وهي مكية وقيل إنها مدنية ولعلها نزلت مرة في مكة ومرة في المدينة.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١]
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي أستعين بالله ، وإنما لم يقل «بالله» تعظيما ، فكأن
الاستعانة بالاسم ، والله علم له سبحانه ، والرحمن والرحيم صفتان تدلان على كونه
تعالى عين الرحمة ، فلا يرهب جانبه ، كما يرهب جانب الطغاة والسفاكين ، وتكرير
الصفة للتأكيد.
الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ (٦)
____________________________________
[٢]
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) فإنه هو الذي يستحق الحمد ، لأن كل جميل منه ، وكل خير من
عنده ، وهو رب العالمين ، الذي أوجدهم ورباهم. والتربية تطلق على الإنشاء
والاستمرار ، والعالمين إشارة إلى عوالم الكون ، من جن وملك ، وإنسان وحيوان ،
ونبات وجماد ، وروح وجسد ، وغيرها.
[٣]
(الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) تكرار للتأكيد ، لإفادة أن الرب ليس طاغيا ، كما هو الشأن
في غالب الأرباب البشرية.
[٤]
(مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) الدين هو الجزاء ، فيوم الدين : «القيامة» ، والله مالك
ذلك اليوم ، لا يشرك فيه أحد (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) .
[٥]
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي عبادتنا وخضوعنا لك ، وقدم «إياك» لإفادة الحصر.
(وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) أي نطلب الإعانة ، فإنه هو الذي بيده كل شيء ، فالاستعانة
منه ، والإتيان بالتكلم مع الغير ، لإفادة كون المسلمين كلهم منخرطين في هذين
السلكين : سلك العبادة لله ، وسلك الاستعانة به.
[٦]
(اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) غير المنحرف ، والهداية هو إرشاد الطريق ،
__________________
صِراطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ (٧)
____________________________________
فإن الإنسان في كل
آن يحتاج إلى من يرشده ويهديه ، وإن كان مهديا ، وحيث لم يذكر متعلق الصراط
المستقيم ، دلّ على العموم ، فالمسلم يطلب منه سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم ،
في العقيدة ، والعمل ، والقول ، والرأي ، وغيرها.
[٧]
(صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) إنه تفسير ل : «الصراط المستقيم» أي إن الصراط المستقيم هو
صراط الذين أنعمت عليهم ، بهدايتهم من النبيين والأئمة عليهمالسلام والصالحين (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) فإن من أنعم الله عليه بالهداية ، لا يكون مغضوبا عليه (وَلَا الضَّالِّينَ) أي الضال المنحرف عن الطريق ، والضال يمكن أن يكون مغضوبا
عليه إذا كان عن تقصير ، ويمكن أن يكون غير مغضوب عليه إذا كان عن قصور ، والمسلم
يطلب من الله تعالى أن لا يكون من هؤلاء ولا هؤلاء.
(٢)
سورة البقرة
مدنية / آياتها (٢٨٧)
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
سميت السورة باسم «البقرة»
لاشتمالها على قصة البقرة وهي مدنية.
[١]
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتدأت السورة باسم الله تعالى ، لتكرر الاستعانة به ،
وليتعلم المسلم كي يبتدئ جميع أعماله بهذا الاسم المبارك ، وليتركز هذا الاسم
الكريم في الأذهان ، فإن للتكرار أثرا بالغا.
الم
(٢) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً
لِلْمُتَّقِينَ (٣) الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ (٤) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ
____________________________________
[٢]
(الم) أي من جنس هذه الحروف المقطعة : «أ» ، «ل» ، «م».
[٣]
(ذلِكَ الْكِتابُ) والإشارة بالبعيد ، للإشارة إلى كون القرآن سامي المقام ،
عالي المنزلة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس محلّا للريب ، وإن ارتاب فيه الكفار ، كما أن
النهار لا ريب فيه ، وإن ارتاب فيه السوفسطائيون ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) صفة للكتاب (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) صفة بعد صفة ، أي أن هذا القرآن هداية لمن اتقى ، وخاف من
التردي ، فإنه هو الذي يهتدي بالقرآن ، وإن كان القرآن صالحا ، لأن يهدي الكل.
[٤]
(الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) صفة للمتقين ، والمراد بالإيمان الاعتقاد به ، والغيب هو
الذي غاب عن الحواس الظاهرة ، أي ما وراء الطبيعة ، فالروح غيب ، وأحوال القبر غيب
، والله سبحانه غيب ، وهكذا (وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ) إقامة الصلاة ،
الإتيان بها دائما على الوجه المأمور بها ، ولذا تدل على معنى أرفع ، من معنى «صل»
(وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) والرزق أعم من المأكول ، والملبوس ، والمسكون ، والعلم
والصحة ، وغيرها ، وإنفاق كل شيء بحسبه.
[٥]
(وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من الوحي والقرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ
وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (٦)
____________________________________
قَبْلِكَ) فإن من شرائط الإيمان ، الإيمان بكل الأنبياء عليهمالسلام (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ) واليقين بالآخرة هو الاعتقاد بها ، والعمل بمقتضاها ، وبعض
هذه الأمور ، وإن كانت داخلة في «الإيمان بالغيب» ، لكنها ذكرت لزيادة الاهتمام
بها ، وذكر الخاص بعد العام.
[٦]
(أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) أي على بصيرة ، وهذه البصيرة أتت إليهم من ناحية الله
سبحانه (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الناجحون ، فهم في الدنيا على بصيرة ، وفي الآخرة في زمرة
الناجين ، ثم أن القرآن لما ذكر المؤمنين ، ثنّاهم بذكر الكافرين ، ثم ثلّثهم بذكر
المنافقين ، فإن كل دعوة ، لا بد وأن ينقسم الناس أمامها إلى ثلاثة أقسام : مؤمن
بها وكافر بها ، ومذبذب بين ذلك يجامل الطرفين.
[٧]
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) والكفر هو الستر ، كأن الكافر يستر الحقيقة ، ولا يبديها (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والمراد ب «الذين كفروا» هنا هم المعاندون منهم ، لأنهم
المصداق الأجلى للكافر ، وإلا فالذين آمنوا بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من الناس كانوا كفارا ثم
__________________
خَتَمَ
اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
____________________________________
آمنوا ، ومن
المعلوم أن المعاند يتساوى في حقه الإنذار وعدمه ، نعم يجب إنذاره إتماما للحجة ،
وهذا تسلية للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات.
[٨]
(خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) طبعها بالكفر ، أي جعلها بحيث يصعب إيمانها ، لأنها اعتادت
الكفر ، وعدم الاستماع إلى الحق ، وإنما ختم الله ، لأنها لم تقبل الهداية ، كمن
يطرد ولده عن داره بعد ما أرشده مرات ، فلم يفد فيه النصح ، كما قال تعالى (طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) أي بسبب كفرهم ، وإنما فسرنا «الختم» ب «يصعب» لبداهة أن
الإنسان ولو كان معاندا ، لا يخرج عن قابلية القبول والاهتداء (وَعَلى سَمْعِهِمْ) بمعنى إنهم لا يستفيدون من السمع ، كالأصم ، لأن في سمعهم
خلل (وَعَلى أَبْصارِهِمْ
غِشاوَةٌ) تشبيه للغشاوة المعنوية بالغشاوة الظاهرية ، فكما أن من
على بصره غشاوة ، لا يرى المحسوسات ، كذلك من يعاند يكون على بصره مثل الغشاوة ،
وهو تنزيل لفاقد الوصف منزلة فاقد الأصل ، كما تقول لمن لا ينتفع بالعلم ، هو جدار
(وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) في الدنيا والآخرة ، فإن من ينحرف عن قوانين الله تعالى ،
يكون (لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) .
__________________
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً
____________________________________
[٩]
(وَمِنَ النَّاسِ) المنافقون ، وهم القسم الثالث ، فهو (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) قولا باللفظ فقط (وَما هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ) حقيقة ، فلا يعملون أعمال المؤمنين ، وإن كانت قلوبهم أيضا
متيقنة بحقائق الإيمان.
[١٠]
(يُخادِعُونَ اللهَ) أي يفعلون مع الله تعالى ، فعل المخادع ، الذي يريد
الخديعة ، فيظهر ما لا يريده ، ويريد ما لا يظهره (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فيرونهم خلاف ما يضمرونه ، لكن عملهم هذا ليس خدعة حقيقية
لله وللمؤمنين ، فإنهما يعلمان نواياهم ، فلا ينخدعان بهم ، بل (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ يجري عليهم أحكام المؤمنين ظاهرا ، ولا يشتركون معهم في
أسرارهم ، كما لا يشتركون معهم في آخرتهم ، فهم مخدوعون من حيث ظنوا أنهم خادعين (وَما يَشْعُرُونَ) بأنهم خدعوا أنفسهم ، لا أنهم خدعوا الله والمؤمنين ، إذ
لو شعروا بأنهم يخدعون أنفسهم ، لم يقدموا على ما ظنوه خدعة لغيرهم ، والحال أنها
خدعة لهم حقيقة وواقعا.
[١١]
(فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) فإن قلب المنافق ملتو ، ونفسه معوجة ، لا تريد الاستقامة (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) إذ نزول الآيات ، ونصب الرسول ،
وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)
أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
____________________________________
أوجب أن يزيدوا في
التوائهم ، لئلا يسلط النور عليهم ، فيعرفوا (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي مؤلم (بِما كانُوا
يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم ، بمخالفة ظاهرهم لباطنهم ، فإنه نوع من
الكذب ، وإن كان كلامهم مطابقا للواقع ، لكنهم حيث أخبروا عن إيمانهم ـ ولم يكونوا
مؤمنين ـ كان ذلك كذبا.
[١٢]
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للمنافقين (لا تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ) فإن النفاق يلازم الإفساد ، إذ يعمل المنافق ضد الدعوة ،
ويؤلب عليها ، وهو إفساد حينما تريد الدعوة الإصلاح والتقدم (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فإنهم يظنون أن الدعوة إفساد ، وأنهم بوقوفهم ضدها يصلحون
في الأرض.
[١٣]
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ) لأنهم بوقوفهم النفاقي ضد الإسلام ، يكونون مفسدين إفسادا
بالغا أكثر من إفساد الكفار ، ولذا قال تعالى في آية أخرى (هُمُ الْعَدُوُّ) على نحو الحصر (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بذلك ، بل يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
[١٤]
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للمنافقين ، والقائل هم جماعة من المؤمنين
__________________
آمِنُوا
كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ
(١٣)
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ
____________________________________
الذين لا يخافونهم
(آمِنُوا كَما آمَنَ
النَّاسُ) إيمانا لا يشوبه نفاق (قالُوا أَنُؤْمِنُ
كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون بالسفهاء المؤمنين الحقيقيين (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وأية سفاهة أعظم من كون الإنسان حائد عن طريق الحق مع كونه
متصفا بصفة النفاق الرذيلة (وَلكِنْ لا
يَعْلَمُونَ) إنهم هم السفهاء ، لأنهم يظنون أن طريقتهم النفاقية ، أصلح
الطرق.
[١٥]
(وَإِذا لَقُوا) من «لقى» أي التقى المنافقون ب (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا) لهم (آمَنَّا وَإِذا
خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أي أشباههم من المنافقين (قالُوا) لهم (إِنَّا مَعَكُمْ) يريدون بذلك إرضاء الجانبين (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ) بالمؤمنين ، في إظهار الإيمان لهم ، وهذا هو دليل نفاقهم ،
وإلّا لو كان الأمر بالعكس ، بأن أظهروا الكفر تقية لم يزيدوا على إظهاره.
[١٦]
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) أي يفعل لهم فعل المستهزئ ، فيجري عليهم في الدنيا أحكام
الإيمان ، وفي الآخرة يجازيهم بجزاء الكفار ، وفي بعض الأحاديث إنه يستهزئ بهم في
الآخرة في النار (وَيَمُدُّهُمْ) إمداد الله سبحانه وتعالى ، بعدم الضرب على أيديهم كما
يقال : الملك يمد
فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
أُولئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما
كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ
____________________________________
قطّاع الطريق حيث
لا يستأصلهم (فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) الطغيان تجاوز الحد ، والعمه التحير ، فإن المنافق ،
كالشخص المتحير ، وإنما يمدهم الله سبحانه ، لأن الدنيا دار اختبار وامتحان ، فلا
جبر ولا إلجاء.
[١٧]
(أُولئِكَ) المنافقون (الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فكأنهم أعطوا الهداية ، وأخذوا مكانها الضلالة ، أو كأنهم
أعطوا أنفسهم بدل الضلالة ، بينما كان الذي ينبغي أن يعطوا أنفسهم بدل الهداية ،
كما قال الشاعر :
أنفاس عمرك
أثمان الجنان فلا
|
|
تشري بها لهبا
في الحشر تشتعل
|
(فَما
رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) المعنوية ، بل خسروا رأس المال الذي هو أنفسهم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في هذه التجارة والاشتراء.
[١٨]
(مَثَلُهُمْ) أي مثل هؤلاء المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) استوقد بمعنى أوقد ، أو بمعنى طلب الوقود الذي هو الحطب
ونحوه ، والمعنى أشعل نارا ليستضيء ويدفأ بها (فَلَمَّا أَضاءَتْ) النار (ما حَوْلَهُ) وانتفع بها (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) بأن أرسل ريحا فأطفأها
وَتَرَكَهُمْ
فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ
____________________________________
(وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ما حولهم وإنما كان هذا مثلا لهم ، لأن المنافق بإيمانه
الظاهري ، يعبّد لنفسه سبيل الحياة ، وينور في طريقه ، فإن الإيمان نور ، وسبب
لهداية الإنسان إلى الحق والعدل والخير ، فإذا قبض الله أرواحهم تركهم ، كسائر
الكفار في نار وعذاب ، حين يقبض الله أرواح المؤمنين ، إلى نور أوسع ورحمة أكبر ،
فهؤلاء المنافقون :
[١٩]
(صُمٌ) جمع أصم ، لأنهم لا ينتفعون بالحق ، فهم والأصم سواء (بُكْمٌ) جمع أبكم ، وهو الأخرس ، لأنهم لا يقولون الحق فهم والأبكم
سواء (عُمْيٌ) جمع أعمى ، لأنهم لا يبصرون الحق ، فهم والأعمى سواء (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) عن غيهم وضلالهم ، و «ف» ، للإشارة إلى أنهم حيث صموا
وأبكموا وعملوا لم يرج فيهم الخير ، فإنه (وَلا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعاءَ) .
[٢٠]
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) مثال آخر لحال المنافقين ، والفرق بين المثالين ، إن
المثال الأول ، كان مثالا للمنافق نفسه ، وهذا المثال مثال الحق الذي يغمر المنافق
، لكنه لا ينتفع به والصيب هو المطر ، فالحق الذي يغمر هؤلاء كمطر ينزل من السماء (فِيهِ ظُلُماتٌ) ظلمة السحاب وظلمة المطر ، لأنه يحول بين الضياء وبين
الأرض ، وظلمة
__________________
وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ
الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
____________________________________
سحاب فوق سحاب (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) من الأمور المخوفة (يَجْعَلُونَ) أي من ابتلى بهذا الصيب (أَصابِعَهُمْ فِي
آذانِهِمْ مِنَ) خشية (الصَّواعِقِ) فإن الصاعقة إذا نزلت ، قرعت الأسماع بصوتها الشديد (حَذَرَ الْمَوْتِ) فإن الصوت الشديد يوجب انخلاع القلب ، فيموت الشخص ، لكن
هؤلاء المنافقين الذين هم كفار في الباطن لا يظنون أنهم يتمكنون الفرار من بأس
الله تعالى (وَاللهُ مُحِيطٌ
بِالْكافِرِينَ) إحاطة علم وقدرة.
[٢١]
(يَكادُ الْبَرْقُ) اللامع في السحاب (يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ) أي أبصار من ابتلى بالصيب ، وخطف البصر كناية عن عماه (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) بأن أبرق ، ورأوا طريقهم (مَشَوْا فِيهِ) أي في البرق ـ بمعنى استفادتهم من نوره فيمشون (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) بأن لم يبرق (قامُوا) في أماكنهم ـ أي وقفوا ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) بسبب صاعقة قوية فتصمهم (وَأَبْصارِهِمْ) بسبب برق قوي ، إذ النور إذا قوي أوجب ذهاب البصر (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يمنعه أن يحتمي الإنسان بإصبعه ، أو بغمض بصره عن أن
يذهب بسمعه
يا
أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
____________________________________
أو بصره ، وهذا
توضيح المثال بتطبيقه على المورد أن «الصيب» هو الحق النازل على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم و «البرق» هو تقدم
المسلمين ، وما يسبب لهم إنارة الطريق ، و «الرعد والصاعقة» إيعادات الرسل ،
والأهوال المكتنفة بالدعوة ، والمنافقون كمن ابتلى بهذا الصيب في الصحراء ، فالحق
كالمطر فيه الحياة ، لكن فيه ظلمات غلبة الكفار ، وذهاب الأنفس والأموال والثمرات
، وفيه برق ينير طريق الحياة السعيدة ، وفيه رعد وصاعقة مواعيد الرسول ، وفضيحة
المنافقين ، وهؤلاء المنافقون تكاد سرعة تقدم المسلمين ، تعميهم ، فإن العين إذا
نظرت إلى ما لا يسرها اضطربت ودمعت ، كلما أضاء لهم ، بأن غلبوا في الحرب ، وحصلوا
على الغنائم ، اتبعوا الرسول ، وإذا أظلم عليهم ، بأن غلب عليهم الكفار ، وقفوا
وقاموا في مكانهم ، لا يعلمون ولا يتقدمون وهم يخافون من الفضيحة ، إن نزلت آية في
شأن المنافقين ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم ، حتى لا يسمعونها ، أو يتغافلون عنها
، كي لا يرى أثر الانهزام في وجوههم ، فإن الإنسان المجرم إذا سمع ما يمس إجرامه
ظهرت الصفرة وآثار الانهزام على وجهه ، لكن الله قادر على إماتتهم ، كما هو قادر
على فضحهم والذهاب بسمعهم وبصرهم ، فليسوا هم في راحة من نفاقهم ـ كما زعموا ـ بل
هم في أشد ابتلاء ومحنة.
[٢٢]
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ) خلق (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) وكان السبب في الخلق (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي خلقكم للتقوى
الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ
____________________________________
والعبادة ، كما
قال تعالى (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
[٢٣]
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) كالفراش الذي يكون راحة للبدن وزينة وجمالا (وَالسَّماءَ بِناءً) أي مبنيا ، وهذا يلائم كون السماء طبقة تحطم القذائف إلى
الأرض ، فإن البناء ليس المراد منه أن يكون المبنى من جسم كثيف (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) والمراد من السماء هنا جهة العلو ، أو المراد من تلك
الناحية (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بسبب الماء (مِنَ الثَّمَراتِ
رِزْقاً لَكُمْ) فإذا كان الخلق وسائر النعم من الله سبحانه (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) شركاء من الأصنام أو غيرها (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أنها باطلة ، وأنه ليس لله شريك.
[٢٤]
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتزعمون أنه ليس من الله سبحانه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) واحدة (مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل هذا المنزل ، ولو كان قصر سورة نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أو (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) ، الذين يشهدون
__________________
مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا
____________________________________
معكم ، أن محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس بنبي (مِنْ دُونِ اللهِ) أي كائن ما كان غير الله سبحانه ، كما يقال ما دون الله
مخلوق (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في ريبكم وزعمكم ، أن محمدا ليس بنبي ، وأن القرآن ليس
منزلا من عند الله تعالى ، إذ لو لم يكن محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم نبيا ، لكان إنسانا عاديا ، فيمكن الإتيان بمثل كلامه.
[٢٥]
(فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا) ولم تأتوا بسورة من مثل هذا القرآن (وَلَنْ تَفْعَلُوا) هذا إخبار بأنهم لن يفعلوا ذلك أبدا ، إذ القرآن معجز ،
فلا يمكن الإتيان بمثله (فَاتَّقُوا) عاقبة تكذيبكم ، لرسول الله ، ولكتاب الله ، التي هي (النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا) أي حطبها ، وما يسبب إيقادها (النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) جمع حجر ولعل المراد بها أصنامهم ، كما قال تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وتخصيص الحجارة بالذكر للتهويل ، إذ الحجارة لا تفنى ،
فتكون النار دائمة (أُعِدَّتْ) هذه النار (لِلْكافِرِينَ) هذه عاقبة من يكذب.
[٢٦]
(وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم وألسنتهم (وَعَمِلُوا
__________________
الصَّالِحاتِ
أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا
مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا
بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
____________________________________
الصَّالِحاتِ) بجوارحهم (أَنَّ لَهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الجنة باعتبار كونها بستانا ذات أشجار ونخيل ، تكون أرضها «من
تحتها» فالأنهار جارية من تحت الجنة على أرضها (كُلَّما رُزِقُوا) أي رزق المؤمنون (مِنْها) أي من الجنات (مِنْ ثَمَرَةٍ
رِزْقاً) بأن أتى لهم بفاكهة وثمرة (قالُوا هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) فإنهم يألفون تلك الثمار لما رأوا منها في الدنيا ، وليسوا
كأصحاب الجحيم الذين لا يألفون طعامهم الذي من ضريع ، ولا شرابهم الذي من حميم (وَأُتُوا بِهِ) أي بذلك الرزق (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا في الجودة والجدة ، لا كأثمار الدنيا ،
بعضها ناضج ، وبعضها غير ناضج ، وبعضها جيد ، وبعضها رديء (وَلَهُمْ فِيها) أي في الجنات (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من القذارات الخلقية ، كالأوساخ والدماء ، والقذارات
الخلقية ، كالسب والشتم والحسد ، ونحوها (وَهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (خالِدُونَ) أبدا لا يموتون ، ولا يتحولون عنها ، وحيث قسم الله الناس
إلى أقسام ثلاثة ، مؤمن ومنافق وكافر ، ومثل للمنافق ، ثم أمر الناس عامة بالعبادة
، ودعاهم إلى حضيرة الإيمان ، وذكر لهم فوائده ، واحتج على من أنكر الرسالة ، أجاب
عن سؤال سأله الكفار ومن إليهم تعنتا ،
إِنَّ
اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ
____________________________________
وهو : أن الله لما
ذا يضرب المثل ، كما مثل للمنافق هنا ، ومثل في سور أخرى بالعنكبوت ونحوها؟ فإن
المثال أوقع في النفوس ، وموجب لتقريب المطلب إلى الأذهان.
[٢٧]
(إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) فإن الحياء من الأشياء القبيحة ، أو نحوها ، وليس في تمثيل
الله الكبير بالأشياء الصغيرة الحقيرة ، في النظر حياء ، أي مثل كان ، وهذا معنى
قوله «ما» أي شيئا من الأشياء ، (بَعُوضَةً) وهي البقة (فَما فَوْقَها) ولعل ذكر البعوضة هنا لأنها أصغر حيوان متعارف يراه كل أحد
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي المثل (الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ) وأتى به لغرض التوضيح والتبيين (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ) معترضين (ما ذا أَرادَ اللهُ
بِهذا مَثَلاً) ومثلا تمييز في معنى «بهذا المثل» ولماذا يأتي الله بهذا
المثل ـ غير المناسب لجلال الله ـ ف (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ويوجب انقسام الناس ، ومن المحتمل أن يكون «يضل ...» جوابا
عن اعتراضهم ، أي أن المقصود من المثل الإضلال والهداية ، لكنه ينافي السياق ، فإن
المقصود بالمثل ليس ذلك ، وإنما التوضيح والتقريب (وَما يُضِلُّ بِهِ) أي بالمثل
إِلاَّ
الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
____________________________________
(إِلَّا الْفاسِقِينَ) الذين فسقوا أي خرجوا عن طاعة ربهم ومقتضى عقولهم ، ثم بين
الفاسقين بإبراز سماتهم بقوله :
[٢٨]
(الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الميثاق ما وقع التوثيق به ، وميثاق الله هو ما أخذ عليهم
في الكتب السالفة من الإيمان ، أو هو ما أودع فيهم من الفطرة بعرفان الحق (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ
أَنْ يُوصَلَ) من صلة الأرحام ، أو صلة الرسول والمؤمنين (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالكفر والنفاق وإتيان المحرمات (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أعمارهم ، فذهبت دنياهم ضنكا وآخرتهم عذابا
ونارا.
[٢٩] ثم عاد
سبحانه إلى حال الكافر ، ووجه الخطاب إليه مستدلا على بطلان كفره بقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ
أَمْواتاً) لا روح فيكم ، فإن أصل الإنسان التراب ، ثم يكون نباتا ،
ثم يكون حيوانا وما أشبه ، فيأكله الإنسان ، فيتولد منه المني ، ثم يصير إنسانا ،
ثم يموت ويرجع ترابا ، ثم يعاد يوم القيامة إنسانا (فَأَحْياكُمْ) نباتا أو حيوانا أو إنسانا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقت موتكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة (ثُمَ) بعد الحياة الثانية (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لتساقون إلى المحاكمة الكبرى ، وكون
هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
وَإِذْ
قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
____________________________________
الرجوع إليه ، مع
إن الإنسان في جميع الأحوال ، بدءا وختاما ، تحت سلطة الله وقدرته وعلمه ، باعتبار
محاسبته تعالى للإنسان.
[٣٠]
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ) لمنفعتكم (ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) فمن خلقها غيره ، وكون الخلق للإنسان ، لا يدل على تحليل
كل شيء ، بل كل شيء بحسبه ، فالأسماك المحرمة ، والحيوانات المفترسة لتمتع السمع
والبصر ، لا للأكل ونحوه وهكذا (ثُمَّ اسْتَوى) أي توجه بالخلق والأمر (إِلَى السَّماءِ
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) مدارات للنجوم السيارة ، فإن السماء في اللغة بمعنى المدار
ـ هذا إذا قلنا بالنظر الفعلي حول السماوات ـ ويؤيده حديث عن الإمام الرضا عليهالسلام ـ كما في «الهيئة والإسلام» ـ (وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يغيب عنه شيء ، فمن كفر كان الله مطلعا عليه لا يفوته
ذلك ، ولا يخفى أن خلق الأرض كان أولا ، ثم خلق السماء ، ثم دحو الأرض ، كما قال (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) .
[٣١] وحيث ذكر
سبحانه قصة خلق السماء والأرض ، وثم البناء ، توجه الحديث إلى من استخلف فيها (وَ) اذكر (إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ) الذين هم مخلوقين في الملإ الأعلى لا يرون بالعين إلّا لمن
شاء الله
__________________
إِنِّي
جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي
أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)
____________________________________
(إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يخلفني في الأمر والنهي والإرشاد ، وهذا الحوار إنما كان
لأجل إظهار كوامن ، وبيان حقائق (قالُوا أَتَجْعَلُ
فِيها) أي في الأرض (مَنْ يُفْسِدُ فِيها
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وهذا استفهام حقيقي ، يريدون بذلك استيضاح السبب ، ولعلهم
إنما علموا بذلك ، لما كانوا يدرون من كدرة الأرض وثقلها الموجبة للفساد والتكدر ،
أو لما رأوا من فعل بني الجان سابقا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ) ففينا الكفاية ، وليس هذا تزكية ، بل كقول العبد المطيع
لمولاه : إني أقوم بخدمتك فلما ذا تأتي بغيري الذي لا يقوم بالواجب ، ومعنى
التسبيح التنزيه ، وكان المراد من التسبيح بحمده ، التنزيه المقترن بالحمد ، مقابل
التنزيه غير المقترن به ، كتنزيه الجوهرة الثمينة عن النقائص ، لكن التنزيه فيها
لا يقترن بالحمد ، إذ ليس ذلك باختيارها بخلافه تعالى المقترن أفعاله وأعماله
بالإرادة (وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي أن تقديسنا وتنزيهنا لأجلك لا يشوبه رياء وسمعة (قالَ) الله تعالى في جواب الملائكة السائلين عن السبب (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فإن في استخلاف البشر ، مصالح أهم من الفساد الواقع منهم ،
كما أن استخلافهم أهم من استخلافكم فإن منهم من الأخيار والصالحين من لا يلحقه
الملك المقرب ، بالإضافة إلى أنه خلق يظهر من عظمة الصانع نوعا جديدا.
[٣٢] وإذا أراد
الله تعالى إعلام الملائكة ببعض مزايا البشر ، وإنه من جنس
وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ
لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما
____________________________________
أرفع منهم ، علّم
آدم عليهالسلام ، علوما يتمكن هو من فهمها وهضمها ، بينما لا يقدر
الملائكة على ذلك ، ثم قال تعالى للملائكة : هل تتحملون مثل ذلك؟ فأبدوا عجزهم ،
وإذا رأوا من آدم التحمل والقدرة ، اعترفوا بالتفوق ، وإنه أحق بالخلافة ، وتوضيح
ذلك بمثال أنه إذا كان لإنسان خادم لا يقدر فطرة على بناء دار جميلة ، ثم أراد
استخدام مهندس ، فقال الخادم : لماذا تستخدم غيري وأنا حاضر؟ يقول له السيد : إني
أعلم ما لا تعلم ، ثم يستخدم المهندس ، ويبين له ما يريده من الدار ، فيقدر
المهندس من بنائها ، بينما لا يقدر الخادم على النزول عند رغبة السيد ، وهناك
يعترف بالعجز ، وأن السيد كان عارفا حيث تركه إلى غيره (وَعَلَّمَ) الله تعالى (آدَمَ) عليهالسلام (الْأَسْماءَ كُلَّها) أسماء الأشياء وعلائمها ، وذلك يستلزم تعليم المسميات
والمعلومات ، فإذا علمت أحدا اسم زيد وعمرو وبكر ، كان اللازم تعريفهم له أيضا ،
ولذا قال (ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلائِكَةِ) بإتيان ضمير «هم» تغليبا للعقلاء على غيرهم ، والعرض على
الملائكة (فَقالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) صدقا خبريا يطابق كلامكم الواقع في أنكم كافين في
الاستخلاف ، ولعل تعليم آدم كان بالإلهام ، وخلق العلم فيه ، مما هو قابل له ، دون
الملائكة ، فإنهم لم يكونوا قابلين لهذا العلم والإلهام ، فلا يقال لماذا لم يعلّم
الله تعالى الملائكة.
[٣٣]
(قالُوا سُبْحانَكَ) أنت منزه عن القبيح والعبث (لا عِلْمَ لَنا
إِلَّا ما
عَلَّمْتَنا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
وَإِذْ
قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
____________________________________
عَلَّمْتَنا) فليس لنا هذا العلم الذي لآدم مما هو قابل له ، ولسنا
قابلين له (إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) والحكيم هو الذي يفعل الأشياء عن حكمة ، بمعنى وضع الأشياء
في مواضعها اللائقة بها.
[٣٤]
(قالَ يا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي بأسماء ما عرضهم على الملائكة (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) وعرفت الملائكة كون قابلية آدم فوق قابليتهم (قالَ) الله تعالى لهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب عن إدراككم (وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ) أي تظهرون (وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ) من حسد بعضكم ـ وهو الشيطان ـ لآدم عليهالسلام : ثم أن مقتضى اللطف العام والرحمة الواسعة أن يخلق الله
تعالى أنواع المخلوقات الممكنة ، التي لا يمنع عن خلقها مانع ، ولذا خلق الملائكة
دون البشر ، وخلق بعض كل من الصنفين أرفع من البعض الأخر ، فلا مجال للتساؤل ،
فلما ذا لم يجعل الله تعالى هذه القابلية البشرية في الملائكة؟ وثم خلق آدم عليهالسلام ، وانتهى كل شيء.
[٣٥]
(وَ) أذكر (إِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) إما بأن يكون هو قبلتهم ويكون السجود لله سبحانه ، وإما أن
يكون السجود لآدم ، ولا دليل عقلي على إنه لا يجوز لغير الله تعالى ، نعم ورد
الشرع بذلك بالنسبة
فَسَجَدُوا
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا
تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
____________________________________
إلى المسلمين (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) هو الشيطان (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) أي امتنع وأنف (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) التفات ، كما نقول نحن «كان أبو جهل كافرا» وليس حكاية ،
عطفا على «أبى» حتى يستلزم كونه كافرا من قبل ذلك.
[٣٦]
(وَقُلْنا يا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) حواء عليهاالسلام ، قال لهما ذلك ، بعد ما خلق حواء أيضا ، خلقا كخلق آدم
ابتداء من غير أب وأم (الْجَنَّةَ) الجنة هو البستان ، وقد كانت لله تعالى جنة أسكنها آدم
وحواء (وَكُلا مِنْها
رَغَداً) أكلا واسعا ، بلا زحمة وتكلف (حَيْثُ شِئْتُما) من أطراف الجنة (وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ) فقد نهوا عن شجرة واحدة ، اختبارا وامتحانا ، وكانت الشجرة
على قول جمع «الحنطة» وقد كان النهي إرشاديا ، كنهي الطبيب مريضه أن لا يأكل ما
يضره ، وقد كانت فائدة عدم أكلهما لها أنهما يبقيان في الجنة ، كما قال سبحانه (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا
تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ) فإن الإنسان إذا حرم نفسه من الخير ، كان ظالما لها ، إذ
الظلم بمعنى وضع الشيء في غير موضعه ، كما إن العدل معناه وضع الشيء موضعه.
__________________
فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى
حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا
____________________________________
[٣٧]
(فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها) أي حمل الشيطان آدم وحواء على الزلة عن الجنة ، بسبب إنه
حملهما على الأكل من الشجرة (فَأَخْرَجَهُما
مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء والشيطان ، والهبوط إما حقيقي ، إن كان
محل أعلى إلى أسفل ، أو رتبي (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ) فإن الشيطان عدوهما ، وهما عدوان له (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) محل القرار (وَمَتاعٌ) أي استمتاع (إِلى حِينٍ) إلى حين انقضاء الدنيا ، أو موت كل أحد ، وإذ ارتكب آدم
خلاف الأولى بأكل الشجرة ، وأهبطه الله تعالى من الجنة تداركته الرحمة.
[٣٨]
(فَتَلَقَّى) أي أخذ (آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِماتٍ) تسبب التوبة والرجوع عن الزلة ، وكان ذلك بتعليم الله
تعالى له أن يجري تلك الكلمات على لسانه ، فأجراها (فَتابَ) الله (عَلَيْهِ) أي على آدم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) أي كثير القبول للتوبة (الرَّحِيمُ) بعباده.
[٣٩]
(قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْها جَمِيعاً) إنما كرر الأمر بالهبوط توطئة لموضوع آخر ، وهو أمر
الهداية ، بعد ذكر المقر والمتاع ، كما يقال : قلت له اذهب تربح ، قلت له اذهب
تسلم (فَإِمَّا) أصله «إن» الشرطية ، و «ما»
يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
____________________________________
الزائدة ، دخلت عليها
لتصحيح نون التأكيد ، يعني فإن (يَأْتِيَنَّكُمْ) أيها البشر الذي في صلب آدم (مِنِّي هُدىً) يهديكم إلى الحق (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا ولا في الآخرة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) إذ الخوف الكامل ، إنما يكون من أمر مكروه ، ولا يعوض ،
وكذلك الحزن ومصائب المؤمنين تعوّض ، فلا خوف كامل منها ، والفرق بين الخوف والحزن
: أن الأول لأمر مترقب ، والثاني لأمر حادث ـ غالبا ـ ولا مانع من الخطاب إلى
المعدوم إذا كان المقصود منه الوصول إليه بعد وجوده ، هذا مع الغض عن عالم الذر ،
كما لا مانع من الجمع بين «إن» و «نون التوكيد» إذ المعنى إن أتاكم إتيانا قطعيا
مقابل الإتيان المظنون.
[٤٠]
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) فلم يؤمنوا بعد أن تمت عليهم الحجة ، ولعل هذا سر قوله «كذبوا»
بعد «كفروا» إذ الكفر لا يلازم التكذيب ، إذا كان عن قصور (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ) أبدا ولا يخفى أن المقصر المعاند خالد أبدا أما غيره
فيمتحن هناك.
[٤١] ولما أتم
القرآن الكريم قصة «آدم» واستخلافه في الأرض ، وجه الكلام إلى «بني إسرائيل» الذين
هم نموذج للجنس البشري ، وقد أتتهم
يا
بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
____________________________________
الأنبياء عليهمالسلام «هدى» وأنعم عليهم
الله تعالى ، فكفروا بالنعم ، وقتلوا الأنبياء ، ليكون فذلكة لقصة آدم ، ودرسا
لأمة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) هم اليهود ، وإسرائيل اسم يعقوب النبي عليهالسلام ، نسبوا إلى أبيهم الأعلى ، كما نسب البشر إلى أبيهم
الأعلى ، في قوله (يا بَنِي آدَمَ) (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وحيث لم يذكر المتعلق أفاد العموم ، فيشمل كل نعمة مادية
أو معنوية (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) وحيث لم يذكر المتعلق أفاد كل عهد عهده ، سواء كان ذلك وقت
أخذ موسى عليهالسلام عنهم العهد بالإيمان بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أم كان وقت أخذ الله عنهم العهد في عالم الذر ، ثم أودع
فيهم الفطرة دليلا عليه (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) بإعطائكم الدنيا والآخرة ، فإن الله سبحانه ضمن لمن وفي
بعهده ، أن يعمر دنياه وآخرته (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) الرهبة هي الخوف ، يعني يجب أن يكون الخوف من الله ، لا من
الناس.
[٤٢]
(وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ) من القرآن (مُصَدِّقاً لِما
مَعَكُمْ) من التوراة ، فإن التوراة الأصلية ، كانت مصدقة ، حتى في
زمان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا ما نسخ منها ، والنسخ ليس إبطالا لها ، كما أن نسخ بعض
الأحكام في
__________________
وَلا
تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
وَلا
تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
____________________________________
القرآن ـ على
القول به ـ ليس إبطالا له (وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي أول من يكفر بما أنزلت ، وإنما كانوا أول كافر ، لأنهم
بسبب علمهم كانوا مرجعا للجهال ، فيكون كفر الجهال بمرتبة ثانية (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً
قَلِيلاً) أي بمقابل آياتي ، بأن تعطوا الآيات ـ بمعنى عدم الإيمان
بها ـ في مقابل ثمن قليل ، هو رئاسة الدنيا وكونها قليلا لانقطاعها (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) فالتقوى يجب أن تكون منه تعالى ، لا أن يكون الاتقاء من
غيره ، لأن الله بيده النفع والضر دون غيره ، كما قال تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) .
[٤٣]
(وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ) اللبس هو التعمية ، أي لا تخلطوا الحق بالباطل ، فتأخذوا
ببعض التوراة الذي هو في نفعكم ، وتتركوا بعضها الذي يضركم وهو بعض الأحكام التي
تركوها ، ومنها التبشير بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَ) لا (تَكْتُمُوا الْحَقَ) الذي هو أوصاف النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعض الأحكام الأخر ، كما قال سبحانه (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) بصنعكم وأنه تلبيس المحق بالباطل ، وكتمان الحق.
__________________
وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها
____________________________________
[٤٤]
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) كما يأمر الإسلام (وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ) الذين هم المسلمون.
[٤٥]
(أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ) استفهام إنكاري ، أي لم تأمرون الناس بالأعمال الخيرية (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) فلا تعملون بها والنسيان كفاية عن عدم العمل لشبهه به في
النتيجة ، كما قال سبحانه (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) فقد كان اليهود يخالفون أحكام التوراة ، ويرتشون ويفسدون
ويكذبون (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ
الْكِتابَ) جملة حالية ، أي والحال أنتم تقرءون كتاب الله ، فاللازم
أن تكونوا أول العاملين به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي ألا تعلمون أن ما تأتون به قبيح؟.
[٤٦]
(وَاسْتَعِينُوا) في رجوعكم عن دينكم وإلغائكم لرؤسائكم ـ بما يجر ذلك عليكم
من سلب بعض دنياكم ـ (بِالصَّبْرِ) فإنكم إذا صبرتم على ما تكرهون من اتباع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عاد ذلك عليكم بخير مما أنتم فيه (وَالصَّلاةِ) فإن الصلاة توجب تهدئة النفس ، واطمئنان الخاطر (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ) (وَإِنَّها) أي الاستعانة بالصبر والصلاة
__________________
لَكَبِيرَةٌ
إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي
إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧)
____________________________________
(لَكَبِيرَةٌ إِلَّا
عَلَى الْخاشِعِينَ) فإن الصبر ليس أمرا هينا ، والصلاة الكاملة ليست عملا سهلا
، وإنما قيدنا الصلاة بالكاملة ، لأنها هي التي يستعان بها ، أو أن المراد الصلوات
اليومية ، وهي صعبة جدا إلا على الذين يخشون الله سبحانه.
[٤٧] ثم فسر
الخاشعين بأنهم (الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) الظن إما بمعنى اليقين ، وإما بمعنى الرجحان ، ولعل السر
في هذا التعبير دون اليقين ، للإشارة إلى أدنى مراتب الرجحان يوجب الخشوع ، فإن من
يظن أنه يلاقي الملك لبعثه ذلك على التهيئة ، فكيف بمن يظن أنه يلاقي مالك الملوك
، وملاقاة الله كناية عن الحضور للمحاسبة ، وإلا فالله سبحانه ليس أدنى إلى الناس
في القيامة منه إليهم في الدنيا (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
راجِعُونَ) والرجوع إليه معنوي كما تقدم.
[٤٨]
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) تكرار للتركيز والإلفات ، فإن الإنسان ربما كان غافلا حين
التذكير الأول ، فيذكر ثانيا وثالثا ، بالإضافة إلى أن النفس ، إذا كررت عليها
الموعظة ، رسخت فيها (وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) التفضيل على عالم زمانهم لا على كل العوالم ، فإن الظاهر
من هكذا تفضيلات هو الاختصاص ، فلو قيل أن «الدولة الفلانية أقوى الدول» لم يفهم
منه إلا
وَاتَّقُوا
يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ
وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ
نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
____________________________________
الإقوائية من
الدول المعاصرة لها ، لأكل دولة أتت أو تأتي ، ثم أن تفضيلهم على العالمين إنما
كان لأجل إيمانهم بموسى عليهالسلام ، بينما كان العالم بين كافر به عنادا ، كفرعون ومن تبعه ،
أو جهلا كمن كان في البلاد البعيدة التي لم تبلغهم دعوة موسى فكانوا قاصرين.
[٤٩]
(وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي لا تغني ، فلا تدفع نفس عن نفس مكروها ، وإنما الأمر
كله لله ، حتى أن الشفاعة تكون بإذنه ، والمراد بذلك اليوم ـ القيامة ـ ومعنى
التقوى منه الاستعداد له (وَلا يُقْبَلُ مِنْها) أي من النفس (شَفاعَةٌ) إلا إذا أذن الله للشفيع (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها) أي من النفس (عَدْلٌ) أي فدية ، وإنما سميت الفدية عدلا ، لأنها تعادل المفدى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فإن طريق الخلاص في الدنيا إحدى هذه الأربعة ، وليست شيء
منها في الآخرة ، إلا إذا أذن الله في الشفاعة ، وعدم الاستثناء من «شفاعة» لأجل
أن المراد منها الشفاعات الارتجالية ، كما هو المعتاد في الدنيا.
[٥٠]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل نعمة أنعمناها عليكم (إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ومن المتعارف ، أن ينسب الشيء المرتبط ببعض الأمة إلى
جميعها ، إذ يجمعهم العطف والهدى والانتصار ، فيقال بنو تميم قتلوا فلانا ، وإنما
قتله بعضهم ، أو عشيرة فلان شجعان ، وإنما جماعة منهم كذلك ، ولذا قال سبحانه «نجيناكم»
وقد كانت التنجية بالنسبة إلى
يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي
ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا
بِكُمُ الْبَحْرَ
____________________________________
أسلافهم ، والمراد
بآل الرجل قومه وخواصه وإن لم تكن بينهم قرابة ، كما يقال «آل الله» لأهل البيت عليهمالسلام (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) وسامه خسفا عذابا بمعنى ألقاه فيه ، ثم فسر سوء العذاب
بقوله (يُذَبِّحُونَ
أَبْناءَكُمْ) التذبيح هو التكثير في الذبح (وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) أي يدعونهن أحياء ، فإن فرعون ملك القبط ، لما علم من
الكهان ، أنه يولد في بني إسرائيل ـ الذين كانوا طائفة خاصة من آل يعقوب عليهمالسلام ـ أمر بذبح الأولاد وإبقاء النساء للاسترقاق والنكاح (وَفِي ذلِكُمْ) «كم» خطاب فقط ، و
«ذا» إشارة ، فإذا كان طرف الخطاب واحد يقال «ذلك» وإذا كان اثنين يقال «ذلكما»
وإذا كانوا جماعة يقال «ذلكم» و «ذا» هنا اسم إشارة إلى سوء العذاب (بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أنها كانت بالنسبة إلى الله تعالى ، لأنه لم يحل بين فرعون
، وبين هذا العمل ، كما يقال ، إن الأب أفسد ولده إذا لم يحل بينه وبين عمله
الفاسد ، وعدم حيلولة الله تعالى ، لأجل الامتحان والاختبار ـ كما تقدم ـ والإنجاء
، إنما كان بإهلاك فرعون وقومه.
[٥١]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ
الْبَحْرَ) أي جعلنا فواصل في البحر ، حتى صارت بين الماء شوارع ،
وكان عملنا هذا بسببكم ولأجلكم ، والمراد بالبحر ـ البحر الأحمر في مصر ـ وقد كان
طول
فَأَنْجَيْناكُمْ
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
وَإِذْ
واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ
____________________________________
الشوارع التي
أسفرت عنها الماء ما يقرب من أربعة فراسخ ، فإن موسى عليهالسلام وبني إسرائيل فروا من فرعون فوصلوا إلى البحر وعقبهم فرعون
وقومه ، فأمر الله موسى عليهالسلام أن يضرب بعصاه البحر ، فضرب فانحسر الماء عن الشوارع حتى
عبر بنوا إسرائيل ، وأتبعهم فرعون وجنوده ولما توسطوا الماء ، وخرج موسى عليهالسلام وقومه ، رجع الماء إلى حالته الأولية ، فأغرق فرعون وقومه (فَأَنْجَيْناكُمْ) من عدوكم (وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ) مع فرعون ، ولم يذكر تغليبا للآل عليه (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) كيف أغرقناهم لأجلكم ، ولا يخفى أن الإعجاز هين بالنسبة
إلى الله سبحانه ، فتأويل بعض الناس للمعاجز انهزام مادي غربي.
[٥٢]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ واعَدْنا مُوسى
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) واعد بمعنى وعد ، وإن موسى عليهالسلام قبل ، ولذا جيء بصيغة المفاعلة ، ولا ينافي كون الوعد هنا
أربعين ليلة ، وفي آية أخرى ثلاثين ، فإن هذه الآية بالنسبة إلى الوعدين ، وفي
الآية الأخرى بالنسبة إلى الوعد الأول ، فقد كان الله سبحانه وعد موسى أولا ثلاثين
، ثم مدده وأضاف عشرا ، والوعد كان لإعطاء الثروة التي فيها أحكام الله ، وتنظيم
أمور بني إسرائيل الذي هو نعمة عظيمة (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) ، أي من بعد موسى عليهالسلام أي وقت ذهابه إلى الطور للوعد ، فإنهم بعد ما ذهب موسى عليهالسلام ، لميقات ربه صنعوا عجلا من ذهب ، وجعلوه إلها لهم وسجدوا
له ، فقابلوا نعم الله عليهم بالكفران ، وعبادة العجل.
وَأَنْتُمْ
ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ
فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ
____________________________________
(وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) جملة حالية ، والمراد ظلمهم بأنفسهم.
[٥٣]
(ثُمَّ عَفَوْنا
عَنْكُمْ) عبادتكم للعجل (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الاتخاذ (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) نعمنا عليكم ، فتعملوا بأوامرنا.
[٥٤]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ آتَيْنا مُوسَى) نبيكم (الْكِتابَ) وهو التوراة (وَالْفُرْقانَ) أي الفارق بين الحق والباطل ، فهو أهم من الكتاب (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ولعل ليس ترجيا من الله سبحانه بل بمعنى عاقبة الترجي.
[٥٥]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ) الذين عبدوا العجل وقت ذهاب موسى إلى الطور لتلقي التوراة
والأوامر من الله سبحانه (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ
ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها فإن اتخاذه موجب للغضب والذلة في الحياة الدنيا
والآخرة (فَتُوبُوا) توبة (إِلى بارِئِكُمْ) الذي برءكم وخلقكم وهو إلهكم (فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده ولو كان قريبا له ،
فإنه كفارة للقاتل حيث سكت ولم يتكلم ، وللمقتول حيث عبد العجل (ذلِكُمْ) القتل
خَيْرٌ
لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ
____________________________________
(خَيْرٌ لَكُمْ) إذ الألم القليل خير من عذاب النار الدائم (عِنْدَ بارِئِكُمْ) متعلق بخير ، أي إن هذا العمل خير عند الله تعالى ، وفي
حكمه وإرادته ، وذلك مقابل الخير عند الناس الذي هو بالبقاء والعيش في الدنيا (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بعد ما سمعتم الأمر بأن تبتم ، وقتل بعضكم بعضا ، ومعنى
تاب عليكم ، قبل توبتكم (إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) بكم ، فلم يغضب حتى لا يقبل توبتكم أبدا.
[٥٦]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) بأن لنا إلها خلقنا وبيده أمورنا ، أو لن نؤمن لك بأنك نبي
مبعوث من قبل الله سبحانه (حَتَّى نَرَى اللهَ
جَهْرَةً) أي علانية وعيانا ، فيخبرنا بذلك ، وذلك أن موسى عليهالسلام اختار من قومه سبعين رجلا يحضرون معه إلى الميقات ، لما
طلبت بنو إسرائيل منه ذلك ، ولما جاءوا طلبوا رؤية الله تعالى (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) وهي نار تنزل من السماء ، أو مادة مذابة من المعدن ونحوه ،
فتصيب الإنسان فتقتله ، فإنهم لما طلبوا رؤية الله سبحانه ، نزلت صاعقة من السماء
فقتلتهم جميعا (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) حال نزولها ، وسبب موتكم ، فكان ذلك دليلا لكم على ذنبكم
وخطإكم ولم يكن موتا لم يعرف سببه حتى تقولوا إنه أمر طبيعي.
[٥٧]
(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أي أحييناكم لما طلب موسى عليهالسلام ذلك لئلا يقول
مِنْ
بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا
عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ
____________________________________
الباقي من بني
إسرائيل ، إنه عليهالسلام قتلهم في الطور (مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ) بسبب الصاعقة (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) نعمنا عليكم.
[٥٨]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل ، إذ كنتم في «التيه» حين أمرتم
بحرب العمالقة فعصيتم فبقيتم في الصحراء مدة مديدة ، وكنتم تتأذون من حر الشمس ،
ولم يكن لكم مأكل ف (ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ
الْغَمامَ) بأن جعلناه سترة لكم تقيكم حر الشمس وبرد القمر (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوى) المن شيء يشبه «الترنجبين» مادة حلوة ، كانت تقع على
أشجارهم فيأكلوها والسلوى طير السماني ، وإنزال السماني ، إما بكون هذا الطير ،
كان كثيرا في التيه ، فكانوا يصطادونه ، أو بأنه كان ينزل عليهم الطير المشوي ،
وقلنا لكم (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) طيب مذاقا ، وحقيقة لكونه حلالا ، لكنهم كفروا بعد كل هذه
النعم (وَما ظَلَمُونا) بكفرانهم ، فإنهم لن يضروا الله شيئا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) لأنهم أورثوا لأنفسهم ذلة في الدنيا وعذابا في الآخرة.
[٥٩]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ قُلْنَا) لكم بعد أن خرجتم عن التيه (ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ) بيت المقدس ، أو «أريحا» وهي بلدة قريبة من بيت المقدس (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) من الأماكن أو المآكل
رَغَداً
وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ
وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ
____________________________________
(رَغَداً) واسعا (وَادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية (سُجَّداً) جمع ساجد ، أي في حال كونكم ساجدين (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي سجودنا لله حطة لذنوبنا ، ومحو لسيئاتنا ، فإن فعلتم
ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ
خَطاياكُمْ) السالفة (وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ) منكم من خير الدنيا وخير الآخرة على ما يستحقون ، كما قال
سبحانه (لِيُوَفِّيَهُمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) .
[٦٠]
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا «حنطة حمراء خير لنا» عوض «حطة» كما إنهم دخلوا
بأستاهم عوض أن يدخلوا سجدا (فَأَنْزَلْنا عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) فيما فعلوا (رِجْزاً مِنَ
السَّماءِ) الرجز العذاب (بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ) أي بسبب عصيانهم.
[٦١]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذِ اسْتَسْقى مُوسى
لِقَوْمِهِ) أي سأل موسى عليهالسلام من الله تعالى أن يسقيهم ، وذلك حين كانوا في التيه ،
__________________
فَقُلْنَا
اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ
عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا
مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها
وَبَصَلِها
____________________________________
ولم يكن لهم ماء
فظمئوا (فَقُلْنَا اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وعصاه هي التي صارت ثعبانا ، والحجر ، إما كان حجرا خاصا ،
أو مطلق الحجر (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) بعدد أسباط بني إسرائيل ، فإنهم كانوا اثنتي عشرة قبيلة ،
فكانت تجري لكل قبيلة عين (قَدْ عَلِمَ كُلُّ
أُناسٍ) أي كل قبيلة (مَشْرَبَهُمْ) أي موضع شربهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا
مِنْ رِزْقِ اللهِ) أكلهم المن والسلوى ، وشربهم ماء العين المنفجر (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) الفساد (مُفْسِدِينَ) حالة مؤكدة.
[٦٢]
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى) حين كنتم في التيه ، وينزل عليكم المن والسلوى (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) أي قسم واحد من الطعام ، ولو كان ذي لونين ، فالمراد
بالوحدة التكرر في كل يوم (فَادْعُ) أي فاسأل (لَنا) أي لأجلنا (رَبَّكَ يُخْرِجْ
لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) أي من نباتها (مِنْ بَقْلِها) البقل أنواع الخضر (وَقِثَّائِها) الخيار (وَفُومِها) الحنطة (وَعَدَسِها
وَبَصَلِها) حتى نتقوت بها ونأكلها عوض
قالَ
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً
فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ
____________________________________
المن والسلوى (قالَ) لهم موسى عليهالسلام (أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أي تتركون ما هو الأفضل مما اختاره الله لكم ، إلى ما هو
الأدون مما ترغبون إليه ، وكونها أفضل وأدون ، أما باعتبار السهولة والصعوبة ، أو
باعتبار الطعم واللذة ، أو باعتبار التقوية والتغذية ، وعلى أي حال ، دعا موسى
واستجاب الله دعاءه ، وقال لهم (اهْبِطُوا مِصْراً) من الأمصار (فَإِنَّ لَكُمْ) في المصر (ما سَأَلْتُمْ) من الأطعمة (وَ) لكن اليهود بسبب تمردهم وعصيانهم ولجاجتهم المستمرة (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) فهم أذلاء في الأرض لا حكومة لهم مستقلة ولا عزة لهم عند
الناس (وَالْمَسْكَنَةُ) فإنهم مع ثروتهم أحيانا لا يفارقون المسكنة ، حيث إنهم
دائمو التشكّي لمخافتهم من الفقر ، وهذه الآية من معاجز القرآن الكثيرة ، فإن
اليهود لم تقم لهم حكومة من تاريخ القرآن إلى هذا اليوم ، إلا بحبل من الناس ،
واتصال بالحكومات القوية (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ
اللهِ) باء أي رجع ، والمراد أنهم بعملهم السيئ غضب الله عليهم (ذلِكَ) المذكور من ضرب الذلة والمسكنة ، والرجوع بالغضب بسبب أنهم
(كانُوا يَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ) المنزلة على موسى عليهالسلام حيث لم يكونوا يطيعون
وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ
____________________________________
(وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ) فإن الأنبياء تواترت إليهم لكثرة لجاجتهم ، فكانوا
يقتلونهم ، وقوله تعالى (بِغَيْرِ الْحَقِ) قيد توضيحي ، إذ لا يكون قتل النبي حقا أبدا ، وذلك بخلاف
ما لو قيل يقتل البشر بغير الحق (ذلِكَ) المذكور من كفرانهم وقتلهم الأنبياء (بِما عَصَوْا) أي بسبب عصيانهم للأوامر العقلية والشرعية (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) فإن عصيانهم واعتداءهم صار سببا للقتل والكفر ، وهما سببا
ضرب الذلة والمسكنة والغضب.
[٦٣]
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) من المسلمين (وَالَّذِينَ هادُوا) أي صاروا يهودا باليهودية (وَالنَّصارى) المؤمنين بعيسى عليهالسلام (وَالصَّابِئِينَ) وفيهم غموض وخلاف ، وربما قيل أنهم عبدة النجوم (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) حقيقة (وَعَمِلَ صالِحاً) مما أمر به الله سبحانه (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ كما تقدم ـ (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فلا ييأس أحد من روح الله ما دام في الدنيا ، وإنما قيدنا «من
آمن» ب «حقيقة» لئلا ينافي ما في صدر الآية (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا).
[٦٤]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ) العهد الشديد ، وقد
وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ
____________________________________
تقدم مكان أخذ
العهد (وَرَفَعْنا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ) وذلك أن موسى عليهالسلام لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها ، فقطع جبرائيل عليهالسلام قطعة من جبل طور ورفعها فوق رؤوسهم مهددا ، إنهم إن لم
يقبلوا التوراة قذفها على رؤوسهم ، فقبلوا قبول التوراة مجبرين ، وقلنا لكم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي بجد ويقين وشدة لا تحيدوا عنه (وَاذْكُرُوا) أي احفظوا واعملوا ب (ما فِيهِ) أي في «ما آتيناكم» وهو التوراة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي كي تخافون ، فإن العامل بأوامر الله سبحانه يكون خائفا
متقيا.
[٦٥]
(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم أيها اليهود (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الميثاق الأكيد ، فلم تعملوا بما في التوراة ، ولم تتمثلوا
أوامرنا (فَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ) حيث تفضل عليكم بالتوبة (وَرَحْمَتُهُ) بأن رحمكم فلم يؤاخذكم بسيئات عملكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) في الدنيا والآخرة ، فإن من ينسلخ عنه الإيمان يكون من
أخسر الناس.
[٦٦]
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أي عرفتم أيها اليهود (الَّذِينَ اعْتَدَوْا
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) أي جاوزوا حدود الله فيه ، وذلك أنهم حرم عليهم اصطياد
السمك في السبت فكانت الأسماك تأتي وتتجمع في هذا اليوم
فَقُلْنا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥)
فَجَعَلْناها
نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى
____________________________________
لشعورها بأمنها في
هذا اليوم ، فكان اليهود يحتالون لأخذها بإيصال الماء إلى أحواضهم ، فلما تأتي
إليها الأسماك يوم السبت سدوا طريقها ، ثم يصطادونها يوم الأحد ، وكان هذا خرقا
لحرمات الله (فَقُلْنا لَهُمْ) أي للمعتدين (كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) أي مبعدين عن الخير دنيا وآخرة ، فإنكم أيها اليهود الذين
شاهدتم هذا المسخ بالنسبة إلى المعتدي منكم كيف تعملون خلاف أوامر الله سبحانه.
[٦٧]
(فَجَعَلْناها) أي جعلنا المسخة التي مسخوا بها ، والعقوبة التي عوقبوا
فيها (نَكالاً) أي عبرة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) أي من كان في زمانهم من سائر اليهود والأمم (وَما خَلْفَها) الذين يأتون من بعدهم مما يسمعون بأخبارهم ، أو يكون معنى «نكالا»
«عقوبة» فالمعنى جعلنا المسخة عقوبة للمعاصي التي ارتكبوها مما كانت بين يدي
المسخة ، وهو «الاعتداء» وما خلف المسخة من سائر المعاصي التي كانوا يرتكبونها بعد
اعتدائهم في السبت (وَ) جعلناها (مَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) لئلا يرتكبوا خلاف أمر الله سبحانه.
[٦٨]
(وَ) اذكروا أيها اليهود قصة البقرة ، وهي أنهم وجدوا قتيلا لم
يعرفوا قاتله ، فرجعوا إلى موسى عليهالسلام ، فأمرهم الله تعالى ، أن يذبحوا بقرة ، ثم يضربوا القتيل
بها ليحيي القتيل ويخبرهم بالقاتل ، وكان هذا اختبارا لإيمانهم ، حيث أن كون ضرب
ميت بميت موجبا للحياة مما لا يصدقه ضعفاء الإيمان ، ولهذا جعلوا يسألون أسئلة
تافهة من موسى عليهالسلام حول البقرة (إِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً
قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ
وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها
____________________________________
لِقَوْمِهِ) بني إسرائيل (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) لإحياء القتيل (قالُوا أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً) أي أتسخر منا وتتخذنا سخرية ، فما الربط بين القتيل ، وبين
ذبح البقرة ، أو كيف تكون البقرة الميتة سببا لإحياء القتيل (قالَ) موسى عليهالسلام (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الذين يستهزئون بالناس ، فإن السخرية من شأن الجهال
والسفهاء.
[٦٩]
(قالُوا ادْعُ لَنا) أي اطلب من أجلنا (رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنا ما هِيَ) أي ما هي البقرة ، من حيث سنها وعمرها (قالَ) موسى عليهالسلام (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها) أي البقرة يلزم أن تكون (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ
وَلا بِكْرٌ) الفارض الكبيرة الهرمة والبكر الصغيرة (عَوانٌ) أي وسط العمر (بَيْنَ ذلِكَ) أي المذكور بين الصغير والكبير (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) من ذبح هكذا بقرة.
[٧٠]
(قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ) أي اسأل من ربك لأجلنا (يُبَيِّنْ لَنا ما
لَوْنُها) أي ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها (قالَ) موسى عليهالسلام (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها
بَقَرَةٌ
صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ
شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ
____________________________________
بَقَرَةٌ
صَفْراءُ) اللون (فاقِعٌ لَوْنُها) أي حسنة الصفرة لا تضرب إلى السواد لشدتها ، ولا إلى
البياض لقلتها (تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ) إليها إي تعجب الناظرين وتفرحهم بسبب حسن لونها.
[٧١] ولما بين
سبحانه سن البقرة ، ولونها سألوا عن صفتها (قالُوا) يا موسى (ادْعُ لَنا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) البقرة ، أتكون من العوامل ، أو من السوائم التي لا تعمل ،
ف (إِنَّ الْبَقَرَ) الذي أمرتنا بذبحه (تَشابَهَ) أي اشتبه (عَلَيْنا) وإنه كيف ينبغي أن يكون (وَإِنَّا إِنْ شاءَ
اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفة البقرة بتعريف الله سبحانه لنا كيف يجب أن يكون ،
وفي الحديث عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنهم لما شددوا على أنفسهم ، شدد الله عليهم ، ولو لم
يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد .
[٧٢]
(قالَ) موسى عليهالسلام (إِنَّهُ) سبحانه (يَقُولُ إِنَّها) أي البقرة التي أمرتم بذبحها (بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) يذلها العمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي تعمل وتكرب لإثارة الأرض (وَلا تَسْقِي
الْحَرْثَ) الحرث الزرع ، فلا
__________________
مُسَلَّمَةٌ
لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
____________________________________
تسقيه بالناعور ،
والدلاء ، والمعنى أن لا تكون عاملة (مُسَلَّمَةٌ) أي سالمة لا نقص فيها فهي بريئة من العيوب (لا شِيَةَ) من الوشي بمعنى اللون (فِيها) أي لا لون فيها يخالف لونها ، وهذا ليس تأكيد لما سبق ، إذ
كونها صفراء ، لا تدل على عدم الوشي فيها (قالُوا) لموسى عليهالسلام (الْآنَ) وبعد هذه التوضيحات لصفات البقرة (جِئْتَ بِالْحَقِ) الواضح ، أو بما هو حق الكلام مقابل الإجمال الذي قاله عليهالسلام سابقا بقوله (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(فَذَبَحُوها) أي ذبح اليهود تلك البقرة المأمور بذبحها (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي كاد ، أن لا يذبحوا تلك البقرة لغلاء ثمنها ، فإنها
انحصرت في بقرة واحدة ، لم يعطها صاحبها إلا بثمن فاحش.
[٧٣]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) ادارأتم بمعنى
اختلفتم ، وأصله تدارأتم (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من أمر القاتل ، وإنه من القاتل ، ولماذا قتل.
[٧٤]
(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) أي اضربوا القتيل (بِبَعْضِها) أي ببعض البقرة المذبوحة التي أمروا بذبحها (كَذلِكَ) أي مثل هذا الإحياء (يُحْيِ اللهُ
الْمَوْتى) في يوم القيامة ، فإن القتيل لما ضرب بالبقرة قام حيا
وأوداجه تشخب دما ، وأخبر بسبب قتله ، وبالذي قتله (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) في
لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً
وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها
لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ
خَشْيَةِ اللهِ
____________________________________
الكون وفي أنفسكم
، أو بمعنى يريكم معجزاته (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) أي كي تستعملوا عقولكم ، ولعل وجه تأخير آية «وإذ قتلتم»
على الآيات السالفة ، مع إن النظم يقتضي تقديمها ، أن السياق لبيان لجاجة اليهود ،
وعدم إطاعتهم الأوامر ، فكان المقتضى تقديم ما يدل على ذلك.
[٧٥]
(ثُمَ) من بعد ما رأيتم هذه الآيات أيها اليهود (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أي غلظت (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) المذكور من آيات الله تعالى ، أو من بعد ذبح البقرة ، وما
رأيتم من إحياء الله الميت (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في القسوة للمعقول بالمحسوس (أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً) وبين سبب أشديتها قسوة ، بقوله (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما) اللام للتأكيد ، و «ما» موصولة ، أي الحجر الذي (يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) فيكون مبعثا للخير نافعا ، بخلاف قلوبكم التي لا يأتي منها
إلا الشر (وَإِنَّ مِنْها لَما
يَشَّقَّقُ) أصله تشقق (فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْماءُ) فيكون عينا ، وإن لم يجر ، وبهذا يفترق عن السابق ، وهو ما
يتفجر منه الأنهار (وَإِنَّ مِنْها) أي من الحجارة (لَما يَهْبِطُ) أي ينزل من الجبل ويسقط (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) فإن كل حجارة تسقط ، لا بد وأن تكون سقطتها بإذن الله ،
ومن خشيته خشية واقعية
وَمَا
اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا
____________________________________
أو تشبيه ، كالذي
يخشى كثيرا فيسقط على وجهه ، وقلوبكم أيها اليهود أقسى من تلك الحجارة ، إذ لا
تخشى من الله سبحانه ، ولا تتواضع لعظمته (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيها اليهود ، فيجازيكم بسيئات أعمالكم.
[٧٦]
(أَفَتَطْمَعُونَ) أيها المسلمون (أَنْ يُؤْمِنُوا) أي يؤمن اليهود (لَكُمْ) أي لنفعكم ، إذ كل من آمن يكون في نفع المؤمنين السابقين ،
أو بمعنى الإيمان بمبادئكم ، وهذا استفهام إنكاري ، أي لن يؤمن هؤلاء اليهود
بالإسلام (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ
مِنْهُمْ) أي من هؤلاء ، وهم أسلافهم ، وإنما صحت النسبة إليهم ، لأن
الأمة الواحدة ، والقبيلة الواحدة ، تكون متشابهة الأعمال والأفعال والأقوال (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) الذي يتلوه الأنبياء عليهم (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) بالزيادة والنقصان لفظا أو معنى ، كما هو المتعارف عند من
يريد نقل كلام لا يرضيه ، فإنه إما أن ينقص فيه أو يزيد ـ لو وجد إلى ذلك سبيل ـ وإما
أن يفسره بغير ما أراد المتكلم (مِنْ بَعْدِ ما
عَقَلُوهُ) وفهموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فكيف يؤمن هؤلاء الذين كانوا يعملون بكلام الله بعد تعقل
هذا العمل.
[٧٧]
(وَإِذا لَقُوا) من الملاقاة ، أي لقي اليهود وكانت هذه خصلة بعضهم نسبت
إلى الجميع ، كما هو المتعارف من نسبة ما يقوم به البعض إلى
الَّذِينَ
آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ
(٧٧)
____________________________________
الجميع (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بأن محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم هذا موجود في كتبنا بوصفه وحليته ، ولم يقصدوا الإيمان
الحقيقي كسائر المسلمين ، ولا الإيمان الظاهري كالمنافقين ، وإنما أريد الإيمان
بمعناه اللغوي ، وهذا ذم لهم ، حيث إنهم اتصفوا بصفات المنافقين (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) وجمع هؤلاء اليهود وغيرهم من سائر اليهود ، مجلس خال من
المؤمنين (قالُوا) أي قال من لم يكن يظهر الإيمان لمن أظهره (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أي لماذا تحدثون المسلمين (بِما فَتَحَ اللهُ
عَلَيْكُمْ) أي بما عرفكم الله في كتابكم ، بأن محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم حق ، يقال فتح عليه باب العلم إذا أرشده إليه وعلمه به (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي إذا أظهرتم أنتم أيها اليهود للمسلمين ، أن في كتابكم
صفات محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم حاجوكم يوم القيامة عند الله فيقول المسلمون لليهود
المظهرين أنتم ذكرتم أن في كتابكم صفات النبي ، فلم لم تؤمنوا به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها اليهود المظهرون للمسلمين ، أن إظهاركم سبب لغلبة
المسلمين عليكم في الحجة عند الله.
[٧٨]
(أَوَلا يَعْلَمُونَ) يعني اليهود المنافقون (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
ما يُسِرُّونَ) يسر بعضهم إلى بعض (وَما يُعْلِنُونَ) وما الفائدة في أن لا يظهروا صفات
وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
____________________________________
النبي ، فإن الله
يعلم أنهم يعلمون صفاته ، ولا يؤمنون به عنادا.
[٧٩]
(وَمِنْهُمْ) أي من اليهود (أُمِّيُّونَ) منسوب إلى الأم ، بمعنى من لا يقرأ ولا يكتب كأنه نشأ تحت
تربية أمه ، لا تحت تربية المعلم (لا يَعْلَمُونَ
الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) الأماني جمع أمنية ، كالأغاني جمع أغنية ، والأماني
الأحاديث المختلفة ، أي أنهم لا يعرفون ما في التوراة من صفات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وغيرها ، وإنما هم جهلاء ، يأخذون أمور الكتاب عن علمائهم
محرفة مختلفة ، فلا يميزون بين الحق والباطل (وَإِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَظُنُّونَ) بصحة ما يسمعون ، ولا يتيقنون لأنهم لم يطالعوا الكتاب
بأنفسهم ، حتى يعرفون ما فيه.
[٨٠]
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ) أي لعلمائهم الذين (يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ) أي التوراة (بِأَيْدِيهِمْ) كناية عن أنها غير منزلة ، وإنما مكتوبة مبعثها الأيدي لا
الوحي والإلهام (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا) المكتوب (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وإنه منزل منه (لِيَشْتَرُوا بِهِ) أي بما يكتبونه (ثَمَناً قَلِيلاً) لأنهم لو كانوا يظهرون ما في التوراة حقيقة رجع مقلدوهم
إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلم يكونوا يبذلون لهم الأموال والاحترام (فَوَيْلٌ لَهُمْ) أي للذين يكتبون الكتاب بأيديهم (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) فإنه يوجب عذابا ، لأنه تحريف
وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
(٧٩)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (٨١)
____________________________________
لكلام الله تعالى (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الأموال إزاء تحريفاتهم ، فإن ثمن الحرام حرام آخر ،
وذلك موجب للعذاب فإنه أكل للأموال بالباطل ، والويل أصله الهلاك والعذاب ، ثم
استعمل في كل واقع في الهلكة.
[٨١]
(وَقالُوا) أي قال قسم من اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) فلن نعذب في جهنم إلا سبعة أيام أو ما أشبه ، على تقدير
كفرنا وعصياننا ، فلما ذا نترك رئاسة الدنيا خوفا من عذاب قليل (قُلْ) يا رسول الله لهم (أَتَّخَذْتُمْ) أي هل اتخذتم (عِنْدَ اللهِ عَهْداً) بذلك (فَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ) كذبا وزورا (ما لا تَعْلَمُونَ) ومن أدراكم أن العذاب أيام معدودة.
[٨٢]
(بَلى) ليس الأمر كما قالوا ولكن (مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَ) لم ينقلع عنها بل (أَحاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ) كالإنسان الذي يقع في دخان حيث يحيط به الدخان ، حتى لا
يتنفس ولا يبصر ولا يسمع إلا في الدخان ، وكذلك المشرك المنحرف في الخطيئة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد.
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
(٨٣)
____________________________________
[٨٣]
(وَالَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم وألسنتهم (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) التي أمر بها الإسلام (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) بها لا انقطاع لها ولا زوال.
[٨٤]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عهدهم الأكيد على لسان أنبيائهم ، بأن (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) وحده (وَ) بأن أحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) ولا تسيئوا إليهما (وَ) أحسنوا إلى (ذِي الْقُرْبى) أقربائهم (وَالْيَتامى) الذين مات والدهم (وَالْمَساكِينِ) الفقراء (وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً) وذلك يشمل جميع أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
والإرشاد ورد الاعتداء بالحسن (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وهما في سائر الأمم ، لم يكونا بهذا الشكل الموجود فعلا في
هذه الأمة (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم (إِلَّا قَلِيلاً
مِنْكُمْ) الذين عملوا بأوامرنا (وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ) تأكيدا لقوله «توليتم».
وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ
مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤)
ثُمَّ
أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ
دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ
____________________________________
[٨٥]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ) عهدكم الأكيد على لسان الأنبياء (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا يسفك بعضكم دماء بعض (وَلا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي لا يخرج بعضكم بعضا من الديار ، بأن يسفرهم ويبعدهم (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بذلك الميثاق ، بأن أعطيتمونا العهود بذلك (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أيها اليهود ، بوقوع هذا الميثاق بيننا.
[٨٦]
(ثُمَ) بعد ذلك الميثاق (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) الذين (تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) مخالفة لأوامرنا (تَظاهَرُونَ) أنتم أي يتعاون بعضكم مع بعض في إخراجكم لهم تظاهرا (عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) لا إخراجا بالحق (وَ) الحال (إِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أي كيف يخرج بعضكم بعضا ، ويقتل بعضكم بعضا ، مع أنكم إذا
وجدتم بعضكم أسيرا في أيدي غيرهم ، تعطون الفدية لخلاصهم ، فإن كان بينكم عداء ،
فما هذه الفدية ، وإن كان بينكم وداد فما هذا القتل والإخراج. روي عن ابن عباس :
أن قريظة والنضير ، كانا أخوين ، كالأوس والخزرج ، فافترقوا فكانت
أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ
إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا
____________________________________
النضير مع الخزرج
، وكانت قريظة مع الأوس ، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها ، فإذا وضعت الحرب
أوزارها فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة ، وروي عن آخر أن اليهود كانوا إذا استضعفوا جماعة آخرين
أخرجوهم من ديارهم (أَفَتُؤْمِنُونَ) أيها اليهود (بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي التوراة القائل بوجوب إعطاء الفدية لأسراكم (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) القائل بحرمة القتل والإخراج والتظاهر بالإثم والعدوان (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ
مِنْكُمْ) احكموا أنتم بأنفسكم (إِلَّا خِزْيٌ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) بالتفرقة والضعف والمهانة عند سائر الأمم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى
أَشَدِّ الْعَذابِ) بمخالفتهم أوامر الله سبحانه (وَمَا اللهُ) أي ليس الله (بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) فإنه يعلم أعمالكم ، فيجازيكم عليها.
[٨٧]
(أُولئِكَ) اليهود الذين خالفوا الأوامر بتلك الأفعال (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ
الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) فباعوا الآخرة ، وأخذوا الدنيا بدلها (فَلا
__________________
يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما
جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً
كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا
غُلْفٌ
____________________________________
يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ) يوم القيامة (وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) هناك.
[٨٨]
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ) أعطينا التوراة إياه (وَقَفَّيْنا) أي أردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موسى (بِالرُّسُلِ) رسول يتبع رسولا (وَآتَيْنا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) جمع بينة ، أي الدلالة الواضحة ، وهي المعجزات التي أعطيت
لعيسى عليهالسلام من إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) التأييد التقوية ، وروح القدس ، إما جبرئيل عليهالسلام ، أو روح قوية من الله سبحانه فيه تقوية على التبليغ
والإرشاد مع كثرة أعدائه (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ) أيها اليهود (رَسُولٌ بِما لا
تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) ولا يمثل إليه من الأحكام (اسْتَكْبَرْتُمْ) وتكبرتم عن قبول أحكام الله سبحانه (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كعيسى ومحمد صلوات الله عليهما (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى عليهاالسلام؟ وهذا استفهام إنكاري عليهم.
[٨٩]
(وَقالُوا) أي قالت اليهود للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف ، بمعنى إنها في غطاء وغلاف عن هدايتكم ، فلا تصل
الهداية إليها ،
بَلْ
لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)
وَلَمَّا
جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ
____________________________________
كما في آية أخرى (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) (بَلْ) ليس كذلك ، وإنما (لَعَنَهُمُ اللهُ) وأبعدهم عن الخير بسبب كفرهم فإنهم لما كفروا ولم يمتثلوا
أوامر الله ، أبعدهم الله عن الخير ، كمن لا يسمع شخصا أمره فيتركه ولا يعتني به (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) لما ران على قلوبهم ، وأظلمت نفوسهم بالكفر.
[٩٠]
(وَلَمَّا جاءَهُمْ) أي اليهود (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) هو القرآن (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ) أي الكتاب الذي مع اليهود ، وهو التوراة ، فإن القرآن يصدق
التوراة الحقيقي المنزل على موسى عليهالسلام (إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (وَكانُوا) أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يأتي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أو ينزل القرآن (يَسْتَفْتِحُونَ) أي يطلبون الفتح من الله (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنهم كانوا يدعون الله ، أن يبعث الرسول ، حتى يكونوا
أرجح كفة من الكفار (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا) أي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي عرفوه بصفاته ومزاياه (كَفَرُوا بِهِ) وأخذوا يحاربوه ، بل فوق ذلك أنهم كانوا يرجحون الكافرين
على
__________________
فَلَعْنَةُ
اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا
اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ
يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
____________________________________
الرسول والمؤمنين
قائلين (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (فَلَعْنَةُ اللهِ
عَلَى) اليهود (الْكافِرِينَ) بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وبالقرآن ، وهم يعرفون ذلك.
[٩١]
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي بئس الشيء الذي باع اليهود بذلك أنفسهم ، فأعطوا أنفسهم
للعذاب الأبدي ، واشتروا الكفر (أَنْ يَكْفُرُوا بِما
أَنْزَلَ اللهُ) بدل «ما» أي بئس الكفر الذي أخذوه مقابل أنفسهم ، وذلك
تشبيه ، فكأن الكفر والإسلام ، سلعتان فمن أختار أحدهما باع نفسه بذلك الشيء ، إذ
يصرف نفسه في سبيل ذلك ، فإذا باع نفسه مقابل الإسلام كان نعم ما اشترى به نفسه ،
وإذا باع نفسه مقابل الكفر كان بئسما اشترى به نفسه ، واشترى هنا بمعنى البيع ،
كما قال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (بَغْياً) أي حسدا ، وهو علة لاشترائهم السيئ ، أي كان سبب شرائهم
الكفر الحسد ، الذي كان فيهم لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حيث أنه من ولد إسماعيل ، لا من ولد جدهم إسحاق عليهماالسلام (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) الدين (مِنْ فَضْلِهِ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأن ينزل ، متعلق ب «بغيا» أي أن الحسد من جهة نزول القرآن
__________________
فَباؤُ
بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
وَإِذا
قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا
وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
____________________________________
على محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم دون غيره (فَباؤُ) أي رجع اليهود (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) فإنهم كانوا مغضوب عليهم من جهة تعدياتهم في زمان موسى
وعيسى ، وسائر الأنبياء عليهمالسلام ، فغضب الله عليهم مرة أخرى من جهة كفرهم بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَلِلْكافِرِينَ) الذين من أظهر مصاديقهم اليهود (عَذابٌ مُهِينٌ) وهو العذاب الذي يذل صاحبه ويهينه.
[٩٢]
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لليهود (آمِنُوا بِما
أَنْزَلَ اللهُ) على محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (قالُوا نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) من التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما
وَراءَهُ) أي وراء ما نزل عليه من كتاب عيسى عليهالسلام ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَهُوَ) أي ما وراء كتابهم (الْحَقُّ مُصَدِّقاً
لِما مَعَهُمْ) والجملة حالية (قُلْ) إنكم تكذبون في قولكم (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) فإنكم لستم بمؤمنين ، حتى بالتوراة وإلا (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ
مِنْ قَبْلُ) في السابق (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالتوراة ، فإن كتابكم حرم قتل الأنبياء ، فأنتم لستم
بمؤمنين ، لا بكتابكم ، ولا بما بعد كتابكم من الإنجيل والقرآن.
وَلَقَدْ
جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ
____________________________________
[٩٣]
(وَ) كيف تقولون (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) وعملكم ، يدل على خلاف ذلك ، ف (لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحة (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ) إلها لكم (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد رواحة إلى الطور (وَ) الحال (أَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم في عبادة العجل ، فلو كنتم مؤمنين بما نزل عليكم ،
لم تتخذوا العجل إلها؟.
[٩٤]
(وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ) عهدكم الشديد ، بالعمل بالتوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي قطعة من جبل الطور ـ كما تقدم ـ وقلنا لكم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي بشدة ، بمعنى العمل ، بكل ما في الكتاب عملا مستمرا
قويا (وَاسْمَعُوا) أوامر الله سبحانه (قالُوا سَمِعْنا
وَعَصَيْنا) حكاية حالهم ، ويحتمل أنهم قالوه بلفظهم استهزاء (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) فكما أن من شرب الماء يدخل الماء في جوفه ، كذلك اليهود ،
دخل العجل ـ أي حبه ـ في قلوبهم بسبب كفرهم بالله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم (بِئْسَما
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) الذي قلتم (نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) فإن الإيمان الذي يأمر باتباع العجل ، ليس إيمانا ، وإنما
هو كفر.
إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ
يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(٩٥)
____________________________________
(إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) وهذا استهزاء لهم ، ثم إنه إنما كرر «رفع الطور» للدلالة ،
على أنهم عكسوا الميثاق الذي أخذ منهم ، حال الرفع ، بل اتخذوا العجل إلها.
[٩٥]
(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء اليهود ، الذين يقولون أن الآخرة هي
لهم وحدهم لا يشركون فيها غيرهم من النصارى والمسلمين وغيرهما (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ
عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) عند الله صفة للدار الآخرة ، أي الدار التي هي عند الله ،
ومن دون الناس صفة لخالصته ، أو لقوله «لكم» (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ) لأن من يدري أن مصيره الجنة ، لا بد وأن يتمنى الموت ، حتى
يخلص من آلام الدنيا وأتعابها (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في مقالكم وكنتم تعتقدون ما تقولونه بألسنتكم.
[٩٦] ثم أخبر
سبحانه بأنهم ليسوا صادقين (وَ) الدليل على ذلك أنهم (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ) أي الموت (أَبَداً) في حين من الأحيان بسبب ما (قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) من المعاصي والمنكرات والكفر ، وإنما نسب التقديم إلى اليد
لأنها الآلة الظاهرة في تقديم الأشياء المحسوسة غالبا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فلا يغترون بمقالهم ، أن لهم الآخرة ، وأنهم أحباء الله
دون سواهم.
وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ
يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا
____________________________________
[٩٧]
(وَ) كيف يتمنون الموت ، والحال أنك يا رسول الله (لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى
حَياةٍ) فإنهم أشد حرصا من سائر الناس على البقاء في الدنيا ،
لأنهم يعلمون أن آخرتهم إلى النار والعذاب (وَ) حتى أنهم أحرص (مِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) إذ المشرك ، يزعم أنه لا شيء وراءه ، فيكون حريصا على
البقاء لئلا يفنى ، وهؤلاء حيث يعلمون العقاب ، فهم أحرص من المشركين (يَوَدُّ) أي يحب (أَحَدُهُمْ) أي كل واحد منهم (لَوْ يُعَمَّرُ) ويطول عمره (أَلْفَ سَنَةٍ) حتى لا يذوق العذاب عاجلا (وَ) الحال (ما هُوَ) أي ليس التعمير ألف سنة (بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذابِ) زحزحه أي نحاه ، وقوله (أَنْ يُعَمَّرَ) بدل «هو» أي ما التعمير بمزحزحه من العذاب ، فما الفائدة
في البقاء ألف سنة لمن عاقبته النار (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) من الكفر والسيئات ، فيجازيهم عليها يوم القيامة بالنار
والعذاب.
[٩٨]
(قُلْ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لليهود الذين جاءوك وقالوا لك لو أن الملك الذي يأتيك
ميكائيل لآمنّا بك فإنه ملك الرحمة يأتي بالسرور والرخاء وهو صديقنا وجبرائيل ملك
العذاب ينزل بالقتل والشدة والحرب وهو عدونا فإن كان ينزل عليك جبرائيل لا نؤمن بك
(مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧)
مَنْ
كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ
اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
____________________________________
لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ) ليس سببا فيما يعمل حتى تتخذونه عدوا بل إنه (نَزَّلَهُ) أي القرآن (عَلى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللهِ) لا من عند نفسه (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) أي للكتاب الذي قبله وهو التوراة (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) فأي ذنب لجبريل عليهالسلام حتى تتخذونه عدوا ولا تؤمنون بالكتاب الذي يأتي به.
[٩٩]
(مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ) أي يفعل فعل المعادي من الإتيان بما يكرهه سبحانه (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ
وَمِيكالَ) وإنما خصهما بالذكر لأنهما موضع البحث مع اليهود (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) إذ كل من يعادي أحد هؤلاء يكون كافرا والله عدو لمن كفر أي
يفعل معه فعل المعادي من الإهانة والتعذيب والعقاب.
[١٠٠]
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات (وَما يَكْفُرُ بِها
إِلَّا الْفاسِقُونَ) الفاسق هو الخارج عن طاعة الله سبحانه.
أَوَكُلَّما
عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
وَاتَّبَعُوا
ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ
____________________________________
[١٠١]
(أَوَكُلَّما عاهَدُوا) أي اليهود (عَهْداً نَبَذَهُ) أي نقضه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي جماعة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) وهذا إنكار عليهم في نقضهم عهود الأنبياء السابقين
بإطاعتهم ونقضهم عهود رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في قصة نضير وقريضة والمراد بالإيمان : إما الإيمان
بالعهود وإما الإيمان بالله ورسله وإما الإيمان بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنما قال أكثرهم لأن بعضهم آمن كعبد الله بن سلام.
[١٠٢]
(وَلَمَّا جاءَهُمْ) أي اليهود (رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) كعيسى عليهالسلام ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ) من التوراة (نَبَذَ فَرِيقٌ) أي جماعة (مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود الذين آتاهم الله التوراة (كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) وتركوا أوامره باتباع الأنبياء عليهمالسلام من بعد موسى عليهالسلام (كَأَنَّهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) أي من أحكام التوراة الإيمان بالأنبياء واتباع الرسل.
[١٠٣]
(وَاتَّبَعُوا) عوض الكتاب ـ السحر ـ فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم وراحوا
يتعلقون ب (ما تَتْلُوا) وتقر (الشَّياطِينُ) والسحرة (عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ) بن داود عليهمالسلام حيث أن الشياطين على لسان السحرة على
وَما
كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ
____________________________________
زمان سليمان كانوا
يتلون السحر للناس و «على» بمعنى «في» كما قال ابن مالك «على للاستعلاء ومعنى في
وعن» أي أن اليهود أخذوا يتعلقون بالسحر الذي كان في زمان سليمان يريدون بذلك جلب
الأموال والتقرب إلى الناس وكانوا يقولون أن سليمان عليهالسلام إنما أوتي الملك العظيم بسبب أنه كان يعمل بالسحر فرد الله
عليهم بقوله (وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ) فإن السحر موجب للكفر ولا يخفى أن الكفر على نوعين : كفر
في العقيدة وكفر في العمل ، فالكفر في العقيدة هو إنكار أصول الدين ، والكفر في
العمل هو ترك واجب أو فعل ، ولذا شاع استعمال الكفر على ترك الأوامر وفعل النواهي
كقوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) في قصة الحج وقوله (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ
إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) في باب الشكر وقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «كفر بالله العظيم
من هذه الأمة عشرة» وعدّ منها النمام ونحوه وعلى أي حال فسليمان ما كان ساحرا ولم
ينل ما نال بالسحر وإنما بالنبوة والموهبة الإلهية.
(وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا) بعملهم بالسحر وتعليمهم للناس إياه والشياطين أرواح شريرة
تلقي الشر في النفوس كما ثبت في العلم الحديث أيضا وغيره في باب التحضير والتنويم
المغناطيسي (يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ) والسحر أمور غير طبيعية تأتي بعلاج خفي ومنه التصرف
__________________
وَما
أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ
أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ
____________________________________
في العين وفي
النفس وفي العقل فيوجب عداوة بين الناس ومرضا وما أشبه (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على قوله «ما تتلوا» أي أن اليهود تركوا الكتاب
واتبعوا سحر الشياطين وسحر الملكين ومن قصتهما أن بعد نوح عليهالسلام كثرت السحرة فأنزل الله ملكين في «بابل» على نبي ذلك
الزمان حتى يعلمان الناس إبطال السحر فكانا يقولان للناس «هذا السحر وهذا إبطاله»
كالطبيب الذي يكتب كتاب الطب فيصف الداء وما يسببه والدواء المزيل له فيقول مثلا
إن الشيء الفلاني سم ودواؤه كذا فكان الملكان يعلمان السحر وإبطاله ويحذران الناس
أن يعملوا بالسحر وإنما يصران أن يبطلوا السحر فإذا تعلم منهما الناس أخذ بعضهم
بالسحر كما أن الشخص يقرأ كتاب الطب فيسقي الناس السم لم يكن ذلك من ذنب المؤلف
للطب وإنما هو من العامل بما يضر الناس.
فقد ترك اليهود
كتاب الله وأخذوا بالعلم الذي أنزل ـ أي أنزل الله ـ على الملكين الذين نزلا (بِبابِلَ) وهما (هارُوتَ وَمارُوتَ) ولا يظن أحد أنهما كيف يعلمان السحر للناس وهما ملكان من
قبل الله تعالى (وَ) ذلك لأنه (ما يُعَلِّمانِ مِنْ
أَحَدٍ) أي ما يعلمان أحد السحر (حَتَّى يَقُولا) له (إِنَّما نَحْنُ
فِتْنَةٌ) وامتحان لك وكان تعليم للعلاج لا للإضرار (فَلا تَكْفُرْ) بأعمال السحر (فَيَتَعَلَّمُونَ) أي الناس (مِنْهُما) أي من الملكين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وما
وَما
هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (١٠٢)
____________________________________
يوجب العداوة
والبغضاء بين الزوجين مما يؤول إلى الفراق والطلاق (وَ) لا يتوهم أن الأمر خرج من يد الله سبحانه كلا بل إنما شاء
الله أن يختبر عباده كما أنه حين يخلق العنب ويعطي القدرة للبشر فيعصره خمرا لا
يخرج الأمر من يده سبحانه بل إنما ذلك للامتحان والابتلاء ولهذا قال سبحانه (ما هُمْ) أي الملكان ومتعلم السحر منهما (بِضارِّينَ بِهِ) أي بسبب السحر (مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللهِ) فإن شيئا لا يؤثر في شيء إطلاقا إلا بإذن الله ومعنى إذنه
أنه يخلي بين المؤثر والمتأثر ولو لم يخل كان عالم الجبر وبطل الامتحان والاختبار
والمراد بهذه الجملة أن شيئا لا يخرج من إرادة الله سبحانه حتى أن يتمكن من الردع
لكنه لا يردع.
(وَيَتَعَلَّمُونَ) أي يتعلم الناس من الملكين (ما يَضُرُّهُمْ) أي الشيء الذي يضرهم في دنياهم ودينهم (وَلا يَنْفَعُهُمْ) أكد بذلك ردّا لزعمهم أن السحر ينفعهم حيث يوصلهم إلى
أغراضهم (وَلَقَدْ عَلِمُوا
لَمَنِ اشْتَراهُ) أي علم المتعلمون للسحر أن من اشترى السحر وباع دينه (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي من نصيب (وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) فإنهم أعطوا أنفسهم للنار مقابل اشتراء السحر الذي زعموا
وَلَوْ
أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ
(١٠٤)
____________________________________
إنه ينفع دنياهم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) نزل العالم بالشيء منزلة الجاهل حيث لم يعمل بعلمه فإن من
لا يعمل بعلمه هو والجاهل سواء.
[١٠٤]
(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي اليهود بدل اتباع السحر (آمَنُوا) حقيقة (وَاتَّقَوْا) عن فعل المعاصي (لَمَثُوبَةٌ) أي ثواب (مِنْ عِنْدِ اللهِ
خَيْرٌ) لهم في دنياهم وآخرتهم (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) لكنهم حيث لا يعملون بذلك فكأنهم لا يعلمونه.
[١٠٥]
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقُولُوا) للرسول حين كلامكم معه (راعِنا) فإن راعنا في اللغة العربية من المراعاة والرعاية ، ولكنها
في لغة اليهود بمعنى «أسمعت لا سمعت» فهو سب ودعاء على المخاطب وقد كانت اليهود
اغتنمت هذه الكلمة المتشابهة لسب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بهذا العنوان فكانوا يأتون إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ويقولون له «راعنا» يريدون بذلك سبه صلىاللهعليهوآلهوسلم فنهى الله المسلمين عن هذه اللفظة حتى لا يتمكن اليهود من
التكلم بهذه الكلمة (وَقُولُوا) عوض ذلك (انْظُرْنا) أي انظر إلينا بنظرتك الرحيمة (وَاسْمَعُوا) أيها المؤمنون أوامرنا وأوامر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَلِلْكافِرِينَ) من اليهود الشاتمين للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تحت ستار لفظة «راعنا» (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم في الآخرة.
ما
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
ما
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ
تَعْلَمْ
____________________________________
[١٠٦]
(ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من اليهود والنصارى والمجوس (وَلَا) من (الْمُشْرِكِينَ أَنْ
يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ) قبل (رَبِّكُمْ) سواء كان خيرا معنويا كالنبوة والإرشاد والوحي أو ماديا
كالغلبة والنصر والمال (وَاللهُ يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) فليس إرادة الله تبعا لإرادة الكفار والمشركين (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فليس فضله خاصا بقوم من الكفار كما كانت اليهود تزعم أن
النبوة فيهم دون غيرهم.
[١٠٧]
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) بأن نرفع حكمها ونجعل مكانه حكما آخر (أَوْ نُنْسِها) بأن نرفع رسمها ونبلي عن القلوب حفظها ، والنسيان لا يقع
بالنسبة إلى القرآن الكريم وإنما بالنسبة إلى الكتب السالفة ولذا لا يوجد كثير
منها فعلا ، أما النسخ فإنه وقع بالنسبة إلى القرآن ـ على الأشهر ـ وإلى غيره (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وإنما يقع النسخ والإنساء فيما يؤتى بالمثل لأن المثل أصلح
من المنسوخ والمنسي ، فمثلا إذا سقطت ورقة مالية عن الاعتبار فيأتي الحاكم بورقة
أخرى مثلها في القيمة ، كما أنه قد يأخذ درهما من زيد ليعطيه بدله دينارا (أَلَمْ تَعْلَمْ) أيها اليهودي
أَنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ
أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى
____________________________________
المنكر للنسخ (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فإن اليهود كانوا يلقون الشبهة بأنه كيف يمكن نسخ كتابهم
بالقرآن وأنه إن كان كتابهم صالحا فلما ذا ينسخ وإن لم يكن صالحا فلما ذا أنزله
الله تعالى ، وقد كان الجواب إن عدم النسخ إما لعدم مثل أو أصلح وإما لعدم قدرة
الله تعالى على النسخ وكلا الأمرين مفقودان ، فالمثل والأصلح موجودان والله على كل
شيء قدير.
[١٠٨]
(أَلَمْ تَعْلَمْ) أيها المنكر للنسخ (أَنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيتصرف فيما يشاء من الأوضاع والأحكام كيف يشاء (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله (مِنْ وَلِيٍ) يلي أموركم (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم فهو سبحانه يرى صلاحكم في النسخ والإنساء فإن
المصالح تختلف حسب اختلاف الأعصار والأشخاص ، ولقد كان شأن آيات الله أن تنهض
بالبشر مرتبة فمرتبة حتى وصلت النوبة لرسالة الإسلام وهذه بدلت بعض جزئياتها قبل
تمامها وكمالها تحقيقا للتناسق بين الرسالة وبين العصر ، حتى إذا كملت لم يبق مبرر
أو تحوير بل تبقى إلى الأبد.
[١٠٩]
(أَمْ تُرِيدُونَ) أيها المعاصرون للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من مسلم وكتابي ومشرك (أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) أسئلة تعنت ولجاجة (كَما سُئِلَ مُوسى
مِنْ
قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ
(١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ
____________________________________
مِنْ
قَبْلُ) حيث كانوا يقترحون عليه اقتراحات ويسألونه محالات كقولهم
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فإن المعاصرين كانوا يسألون ما لا يعنيهم أو ما
أشبه كقولهم (أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) فقد زجرهم الله سبحانه لهذه الأسئلة التي لا ترتبط بمقام
الرسول والرسالة من بعد ما تبين لهم الهدى ، وقوله «رسولكم» لا يختص بالمؤمنين إذ
يكفي في الإضافة أدنى ملابسة (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) بأن يأخذ الكفر ويترك الإيمان الذي من مصاديقه الأسئلة
التعنتية إذ إنها من سمات الكفر والانحراف (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ) أي وسطه الموصل إلى المطلوب.
[١١٠]
(وَدَّ) أي أحب (كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) اليهود والنصارى والمجوس (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) أيها المسلمون (مِنْ بَعْدِ
إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) فتكونون مثلهم (حَسَداً) لكم كيف صرتم إلى حضرة الإيمان وتقدمتم في الحياة وهذا
الحب ليس من جهة أنهم متدينون فيأسفون عليكم لماذا تركتم الإيمان بل الحب (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) تشبيها
__________________
مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ
بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ
____________________________________
وحسب أهوائهم أي
أن مبدأ الحب هوى النفس لا الدين (مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) فليس ذلك لجهلهم بدينكم وحقيقتكم (فَاعْفُوا) أيها المسلمون عنهم (وَاصْفَحُوا) عن أعمال الكفار ولا تقابلوا إساءتهم بالمثل (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فيأذن لكم في المبارزة والمقاتلة والمقابلة بالمثل (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيأتي يوم يجعلكم أقوياء فتتمكنوا من محاربة هؤلاء الكفار
فيأذن لكم في المبارزة معهم.
[١١١]
(وَ) أما إذا لم يأت الله بأمره ف (أَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ) ولا تبارزوا (وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ) من إعطاء الزكاة وسائر الخيرات التي هي لأنفسكم لأنها تعود
إليكم في الدنيا بالألفة وفي الآخرة بالثواب (مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) يوم القيامة و (إِنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يضيع شيء يصرف في وجهه ولا عمل يؤتى لأجله.
[١١٢]
(وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) قالت اليهود : لن يدخلها إلا اليهود ، وقالت النصارى : لن
يدخلها إلا النصارى ، وهود جمع هائد ، كعود جمع عائد (تِلْكَ) المقالة
أَمانِيُّهُمْ
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)
وَقالَتِ
الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ
الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ
____________________________________
(أَمانِيُّهُمْ) جمع أمنية أي رغبتهم الكاذبة (قُلْ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم (هاتُوا) أي احضروا وجيئوا (بُرْهانَكُمْ) ودليلكم على ما تدّعون (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) في مقالتكم.
[١١٣]
(بَلى) جواب سؤال تقديره أفليس يدخل الجنة أحد ومن هو؟ فقيل (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء فإذا أسلمه الشخص فقد أسلم
جميع جوارحه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فهو يدخل الجنة سواء كان يهوديا في زمان موسى أو نصرانيا
في زمان عيسى أو مسلما في زمان محمد أو من سائر الأمم في زمان أنبيائها عليهمالسلام.
وهذا كلام معه
دليله إذ معيار الدخول في الجنة الإيمان والعمل الصالح فلا يقال لمن يقول ذلك :
هات برهانك.
[١١٤]
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى
شَيْءٍ) من دين وإيمان وتقوى فكل طائفة تجعل نفسها الناجية وغيرها
الهالكة (وَ) الحال إن (هُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ) والتالي
كَذلِكَ
قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي
خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ
____________________________________
للكتاب لا يحق له
أن يقول مثل هذه المقالة إذ كل منهم يعلم أن صاحبه على بعض الشيء ، فإن اليهود
يعرفون أن النصارى لهم إيمان في الجملة وكذلك النصارى يعرفون أن اليهود لهم إيمان
في الجملة (كَذلِكَ) القول (قالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) من الكفار (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) وهذا تأنيب للطائفتين حيث صاروا كمن لا كتاب له وهو جاهل
فإن الجاهل يمكن إن يقول ليس اليهود أو النصارى على شيء لأنه يزعم بطلان كليهما (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) جميعا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهناك يتبين لكل طائفة إنه على شيء أم لا (فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ولعل تخصيص الحكم بهناك لأن هناك لا تبقى شبهة في الحكم
بخلاف حكمه سبحانه في الدنيا فإن من لا يؤمن بالإسلام لا يعترف بحكمه.
[١١٥]
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) وهي عامة لكل مانع وإن كان ينطبق على أهل مكة الذين منعوا
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن المسجد الحرام وبخت نصّر الذي منع عن بيت المقدس (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أي لا أحد أظلم من هكذا شخص والحصر المستفاد من الآية
إضافي وإلا فمن قتل الأنبياء أظلم (وَسَعى فِي خَرابِها) خرابا معنويا بمنع المصلين عنها أو خراب العمارة والبناء (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها
إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ
عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً
____________________________________
يَدْخُلُوها
إِلَّا خائِفِينَ) من عذاب الله سبحانه ، فمن يسعى في خراب المساجد كيف
يدخلها آمنا أو خائفين من المسلمين أن يعاقبوهم (لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) بالعقاب الإسلامي لمن فعل ذلك أو إخبار بخزي عن الله
سبحانه ينزل بمن يسعى في خراب المساجد (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) حيث يذوق النار مهانا ولعل هاتين الآيتين أيضا تلميح إلى
فعل اليهود بمنعهم عن المساجد.
[١١٦]
(وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فكلتا الجهتين له سبحانه خلقها وهما ملك له وحده (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) وجوهكم (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وجه الله جانبه أي أن الله سبحانه محيط بالعلم والقدرة على
كل ناحية فإذا توجه الإنسان إلى المشرق فقد توجه إلى الله وإذا توجه إلى المغرب
فقد توجه إلى الله ، وليس الله جسما حتى يكون له مكان معين يلزم التوجه إليه (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) علما وقدرة لأنه محيط بجميع الجهات (عَلِيمٌ) بما يفعله الإنسان من التوجه إلى أية ناحية ، وربما قيل
بأنها نزلت في رد اليهود الذين قالوا كيف انصرف محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة.
[١١٧]
(وَقالُوا) اليهود عزير ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله
والمشركون قالوا الملائكة بنات الله (اتَّخَذَ اللهُ
وَلَداً) أما بأن أولده
سُبْحانَهُ
بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ
____________________________________
كما زعم بعضهم أو
أتخذ بعنوان التبني (سُبْحانَهُ) أي أنزهه عن ذلك تنزيها (بَلْ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكيف يكون المملوك ولدا إذ الولد ليس ملكا للوالد ، ثم إن
المملوك تحت التصرف فالتبني لماذا ...؟ (كُلٌ) أي كل من السماوات والأرض (لَهُ) تعالى (قانِتُونَ) أي خاضعون ومطيعون.
[١١٨]
(بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما ومنشئهما وخالقهما وهذا تأكيد لما في الآية
السابقة من أنه (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (وَإِذا قَضى أَمْراً) وأراده (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ) أي لذلك الأمر المراد (كُنْ) أي يأمره بأن يوجد (فَيَكُونُ) أي فيوجد عقيب أمره فالكون بهذا النحو طوع إرادته وأمره.
[١١٩]
(وَ) بعد ذكر اختلاف أهل الكتاب ومنعهم وسائر المشركين عن
المساجد ، وشركهم في باب التوحيد ، تعرض القرآن الحكيم حول كلامهم بالنسبة إلى
الرسالة ، فقال ، و (قالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) موازين الوحي والرسالة (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا
اللهُ) أي هلّا يكلمنا ربنا ، بأن يأمرنا بأوامره ، بدون احتياج
إلى وسيط ، أو يكلمنا بأنك نبي (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) ومعجزة حسب اقتراحنا (كَذلِكَ قالَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) لأنبيائهم (مِثْلَ
قَوْلِهِمْ
تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
إِنَّا
أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ
الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ
____________________________________
قَوْلِهِمْ) لموسى عليهالسلام أرنا الله جهرة (تَشابَهَتْ
قُلُوبُهُمْ) في الإنكار وفي الاقتراح والتعنت (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) فلا حاجة إلى تكليم الله ، ولا إلى الإتيان بخوارق
اقترحوها ، إذ لو كان مرادهم بيان الحق والبرهان ، فقد فعلنا ذلك ، وإن كان مرادهم
غير ذلك فليس على الله إلا إتمام الحجة (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) إنما خصهم لأنهم الذين يستفيدون منها وينتفعون بها.
[١٢٠]
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (بِالْحَقِ) تأكيد للإرسال ، إذ كل إرسال الله تعالى بالحق (بَشِيراً) تبشر المؤمنين المطيعين (وَنَذِيراً) تنذر الكافرين والعاصين ، فأنت رسولنا ، وإن كانوا يشكون
في رسالتك ، ويسألونك عن أشياء تافهة (وَلا تُسْئَلُ) أنت (عَنْ أَصْحابِ
الْجَحِيمِ) فلست أنت مكلفا عنهم ، وإنما عليك التذكير فقط.
[١٢١]
(وَ) حيث أن من طبيعة الحال أن كل صاحب مبدأ ليستميله الخصماء
إلى ناحيتهم ، ويعدونه الرضا عنه ، إذا مال نحوهم بيّن الله تعالى لنبيه ، أن ذلك
سراب خادع ويجب أن لا يغتر به الإنسان ، إذ (لَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) إلى الأبد (حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ) وتدخل في طريقتهم ، إذ كل ذي طريقة لا يرض عن شخص إلا
قُلْ
إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١)
يا
بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
____________________________________
بدخوله في طريقته
تماما وكمالا (قُلْ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِنَّ هُدَى اللهِ) الذي هو الإسلام (هُوَ الْهُدى) فقط دون ما سواه من اليهودية والنصرانية (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) إشارة إلى أن دينهم ليس إلا هوى أنفسهم ، وليس من عند الله
سبحانه (بَعْدَ الَّذِي
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بالإسلام وشرائعه وبطلان اليهودية والنصرانية (ما لَكَ) أي ليس لك (مِنَ اللهِ) أي من طرف الله (مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ) أي فلا يلي الله تعالى أمورك ولا ينصرك.
[١٢٢]
(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ
الْكِتابَ) التوراة والإنجيل الموصوفين بكذبهم (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) بالعمل بما في الكتاب (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) أي بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بالقرآن أو بالإسلام أو بكتابهم إيمانا صحيحا ، لا
كإيمان المعاندين الذين يأخذون ببعض الكتاب دون بعض (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في الدنيا وفي الآخرة ، أما في الدنيا ، فلأن منهاج الله
سبحانه هو المنهاج المسعد في الحياة ، فإذا عرض عنه الإنسان ، كانت معيشته ضنكا ،
وأما في الآخرة ، فللعذاب المعد للكافرين.
[١٢٣]
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) من إرسال
وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا
تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
وَإِذِ
ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ
____________________________________
الرسل إليكم ،
وإهلاك عدوكم ، وجعلكم ملوكا وتوسيع الدنيا لكم (وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) في زمانكم ، التي هي من أعظم النعم ـ وقد تقدم الكلام في
مثل هذه الآية ـ.
[١٢٤]
(وَاتَّقُوا يَوْماً) أي يوم القيامة ، الموصوف بأنه (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) هناك وإنما ترى كل نفس جزاؤها العادل ، فلا يحمل أحد وزر
أحد (وَلا يُقْبَلُ مِنْها
عَدْلٌ) أي فدية تعادله ، فيفك نفسه بالفدية والمال (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) بدون رضى الله سبحانه (وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) فلا ينصر أحد أحدا ، وقد تقدمت مثل هذه الآية ، لكن أريد
الانتقال إلى موضوع آخر كرر المطلب السابق تذكيرا وتركيزا.
[١٢٥]
(وَ) حيث تم بعض الكلام عن اليهود والنصارى والمشركين ، انتقل
السياق للكلام حول إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهمالسلام وبناء البيت مما يشترك فيه الجميع ، وإن تاريخهم قبل تاريخ
اليهودية والنصرانية ، وقد اعتاد أن يتكلم المتكلم عن الظروف المعاصرة ، ثم ينتقل
إلى التواريخ الغابرة ، واذكر يا رسول الله (إِذِ ابْتَلى) امتحن (إِبْراهِيمَ) عليهالسلام (رَبُّهُ) فاعل ابتلى ، أي امتحن الله إبراهيم (بِكَلِماتٍ) أي بأمور ، فإن الكلمة تقال للأمر ، ولا يبعد أن يكون
المراد بالكلمة نفس معناها العرفي ، فالمعنى ابتلاه بكلمات تكلم الله أو الملك معه
عليهالسلام حولها لينفذها ، ويأتي بمعناها ، ولعل الكلمات كانت حول
ذبح
فَأَتَمَّهُنَّ
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى
____________________________________
إسماعيل عليهالسلام ، أو حول مجابهة نمرود الطاغي (فَأَتَمَّهُنَ) بأن أطاع الأمر كاملا غير منقوص (قالَ) الله تعالى بعد إتمام الكلمات (إِنِّي جاعِلُكَ) يا إبراهيم (لِلنَّاسِ إِماماً) والإمام هو المقتدى ، وحيث أن «الناس» كالجمع المحلى
باللام أفاد العموم ، ولا منافاة بين كونه عليهالسلام سابقا نبيا ورسولا ، ولم يكن إماما عاما ، ثم صار كذلك
جزاء إتمام الكلمات (قالَ) إبراهيم عليهالسلام سائلا الله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) هل تجعل يا رب إماما؟ وهذا طلب المتأدب يأتي به في لسان
الاستفهام (قالَ لا يَنالُ
عَهْدِي) بالإمامة (الظَّالِمِينَ) وهذا جواب مع زيادة ، إذ المفهوم منه ، نعم أجعل بعض ذريتك
، لكن غير الظالم منهم ، وإنما خص هذا بالذكر ، لبيان عظم مقام الإمامة.
[١٢٦]
(وَ) اذكر يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ) الحرام بمكة المكرمة (مَثابَةً) بمعنى مرجعا فإن الناس يرجعون إليه كل عام ، والرجوع
بمناسبة مجموع الناس ، وإن لم يرجع إليه كل فرد (لِلنَّاسِ وَأَمْناً) فلا يحل القتال فيه ، وإن من التجأ إليه يكون آمنا ، فلا
يجري عليه الحد ، ثم صار في الكلام التفات إلى الخطاب قائلا (وَاتَّخِذُوا) أيها المسلمون (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) وهو الحجر الذي كان يضعه إبراهيم عليهالسلام تحت رجله لبناء أعالي الكعبة ، الذي هو الآن بالقرب من
الكعبة (مُصَلًّى) أي محل للصلاة ، فإنه تجب الصلاة للطواف
وَعَهِدْنا
إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
وَإِذْ
قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً
____________________________________
حول مقام إبراهيم
في الحج (وَعَهِدْنا) أي ذكرنا (إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ) عليهماالسلام : الأب والابن (أَنْ طَهِّرا
بَيْتِيَ) طهارة معنوية ، بعدم السماح لنصب الأصنام فيه وطهارة
ظاهرية بالنظافة (لِلطَّائِفِينَ) أي الذين يطوفون حول البيت (وَالْعاكِفِينَ) الذين يعتكفون في المسجد الحرام ، وللاعتكاف مسائل وأحكام
مذكورة في كتب الفقه (وَالرُّكَّعِ) جمع راكع (السُّجُودِ) جمع ساجد ، أي المصلين.
[١٢٧]
(وَ) اذكر يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ) في دعائه لله تعالى (رَبِّ اجْعَلْ هذا) البلد وهو مكة ، التي بنى فيها البيت (بَلَداً آمِناً) عن الأخطار ، أو محكوما بحكم الأمن حكما شرعيا ، وإن كان
السياق يؤيد الأول (وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن دعاء إبراهيم عليهالسلام كان خاصا بهم (قالَ) الله سبحانه في جواب إبراهيم عليهالسلام ما يدل على استجابة دعائه مع الزيادة ، وهي (وَمَنْ كَفَرَ) من أهل هذا البلد ، لا نقطع عنه الثمار بل (فَأُمَتِّعُهُ) أي أعطيه المتاع من الحياة والرزق والأمن ، وسائر الأمور (قَلِيلاً) فإن
__________________
ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا
مَناسِكَنا
____________________________________
عمر الدنيا قصير ،
وأمدها قليل (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) أي أدفعه إلى النار باضطرار منه ، فما من أحد يرضى بالنار (إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) أي بئس المأوى والمرجع.
[١٢٨]
(وَ) أذكر يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) أي كان يبني أساس البيت الحرام ، ويرفعه من الأرض ،
ويعاونه في ذلك (وَإِسْماعِيلُ) ابنه ، وهما يقولان في حال البناء (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) بناء البيت (إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ) دعاءنا (الْعَلِيمُ) بما نعمله ونقصده.
[١٢٩]
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) في جميع أمورنا ، والدعاء بالإسلام ، لا ينافي كونهما كذلك
قبل الدعاء إذ الإسلام كسائر العقائد ، والأعمال بحاجة إلى الاستمرار ، مما لا
يكون إلا بهداية الله وتوفيقه ، فكما أن الابتداء لا يكون إلا بعونه سبحانه ، كذلك
الاستمرار ، كما في (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) (وَ) اجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) وأولادنا (أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ) والإسلام هو تسليم الأمور إلى الله سبحانه في الاعتقاد
والقول والعمل (وَأَرِنا) أي عرفنا (مَناسِكَنا) جمع منسك ، أي المواضع التي
__________________
وَتُبْ
عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
____________________________________
تتعلق النسك بها ،
والنسك العبادة ، يقال رجل ناسك ، أي عابد ، وقد استجاب الله دعاءهما ، حيث أراهما
جبرائيل عليهالسلام موضع الصلاة ، والوقوف ، وغيرها (وَتُبْ عَلَيْنا) أي أرجع إلينا بالمغفرة والرحمة ، فإن التوبة بمعنى الرجوع
، ولذا يقال الله «التواب» أي كثير الرجوع إلى عبيده ، ومن ذلك تعرف أنه لا دلالة
للآية ، على أنهما عليهماالسلام ، كانا قد أذنبا (إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ) بعبادك (الرَّحِيمُ) بهم.
[١٣٠]
(رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ) أي في الأمة المسلمة ـ التي طلبناها منك ـ (رَسُولاً مِنْهُمْ) من نفس الأمة ، لا من سائر الأمم ، حتى يكون لهم الشرف
بكون الرسول منهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِكَ) دلائلك ، وبراهينك ، وأحكامك (وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ) إما المراد : القرآن ، أو المراد : «كتابك» على نحو الكلي (وَالْحِكْمَةَ) هي وضع كل شيء موضعه والمراد بتعلمهم إياها ، تعليمهم
العلوم الكونية والتشريعية ، فإن الجاهل لا يتمكن ، من وضع الأشياء مواضعها لجهله
بها (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم من الأدناس والقذارات الأخلاقية والأعمالية (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) حقيقة ، فإن العزة لا تكون إلا بقلة الوجود ، وكثرة
الاحتياج ، والله واحد لا شريك له ، وجميع الاحتياجات إليه وتخصيص العزة هنا
بالذكر ، للتلميح إلى كون الاحتياج إليه (الْحَكِيمُ) فأفعالك صادرة عن حكمة ، وما طلباه إنما كان عين الحكمة.
وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)
وَوَصَّى
بِها
____________________________________
[١٣١] هذه هي
طريقة إبراهيم عليهالسلام (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) أي من يعرض عن هذه الطريقة في التوحيد والتسليم وسائر ما
ذكر مما يدل على أنها من أفضل الطرق (إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ) أي لا يترك هذه الملة ، إلا من ضرب نفسه بالسفاهة والحمق ،
وهل هناك طريقة أفضل من هذه الطريقة؟ والاستفهام في قوله «من يرغب» استنكاري (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) جملة حالية ، أي إنا بسبب هذه الطريقة المستقيمة ، التي
كانت لإبراهيم عليهالسلام اخترناه نبيا (فِي الدُّنْيا
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الفائزين بالدرجات الرفيعة.
[١٣٢]
(إِذْ قالَ لَهُ
رَبُّهُ) هذا متعلق بقوله «اصطفيناه» أي اخترناه لما قلنا له (أَسْلِمْ) في جميع أمورك لله (قالَ) إبراهيم عليهالسلام (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ) وحده لا شريك له ، ومعنى أسلم استقم على الإسلام ، واثبت
على التوحيد ، كقوله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ) وكما يقول أحدنا لمن كان جالسا في مكان : أجلس هنا حتى
الساعة العاشرة ـ مثلا ـ.
[١٣٣]
(وَوَصَّى بِها) أي بالملة والطريقة التي كانت لإبراهيم عليهالسلام
__________________
إِبْراهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا
تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
أَمْ
كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي
____________________________________
(إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) أولاده ، وخصهم بالذكر ، مع أن دعوة إبراهيم عليهالسلام كانت عامة ، إشارة إلى لزوم دعوة الأهل بصورة خاصة إلى
الحق ، كما قال سبحانه (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (وَ) وصى بها (يَعْقُوبُ) حفيد إبراهيم من إسحاق ، بنيه أيضا وخص يعقوب لأنه جد
اليهود ، وكانت الوصية (يا بَنِيَ) أي يا أبنائي ، فهو جمع ابن ، وأصله بنيني (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي اختار (لَكُمُ الدِّينَ) حتى تكونوا متدينين ، ومعنى اختار الله الدين لهم ، أنه
سبحانه أعطاهم الدين ، وأراد ذلك منهم مقابل بعض الأمم الوحشية الذين تركوا وشأنهم
، فلم تبلغهم دعوة الأنبياء (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي لا تتركوا الإسلام ، فيصادفكم الموت على تركه ، وإنما
خص الموت ، لأنه لو كان غير مسلم قبل ذلك ، ثم أسلم ومات مسلما لم يكن عليه بأس.
[١٣٤]
(أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ) أيها المدعون إن الأنبياء كانوا يهودا أو نصارى ، فإن
اليهود كانوا يقولون أن يعقوب النبي عليهالسلام أوصى بنيه باليهودية ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك بأنكم
لم تكونوا حضورا (إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) واقترب من الوفاة (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ
ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) على طريقة الاستفهام التقريري
__________________
قالُوا
نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً
واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا
هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ
____________________________________
(قالُوا نَعْبُدُ
إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) إبراهيم جد يعقوب وإسماعيل عمه وإسحاق أبوه ، وقدم إسماعيل
لأنه كان الأكبر سنا ، والأعلى منزلة ، وسمى العم أبا تغليبا ، ولأن العرب تسمي
العم أبا والخالة أما (إِلهاً واحِداً) بغير شريك (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) فكان دينهم الإسلام ، والإسلام هو دين جميع الأنبياء عليهمالسلام ، لأن معناه التسليم لله في أوامره ونواهيه ونفي الله
سبحانه كون دين الأنبياء اليهودية أو النصرانية ، يراد به نفيها بالمعنى المتداول
عند أهل الكتاب ، وإلا فلا يهم الاسم ، كما لا يخفى.
[١٣٥] ثم بين الله
حقيقة هي أن الأمة الماضية ليست تهمكم ، أيها المعاصرون للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنما المهم أعمالكم ، فكيف كانت تلك الأمم ، فإنها قد
ذهبت وفنت (تِلْكَ) أي إبراهيم وأولاده عليهمالسلام (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي ذهبت ومضت (لَها ما كَسَبَتْ) فإن أعمالها ترتبط بها لا بكم (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) فإن أعمالكم ترتبط بكم لا بهم (وَلا تُسْئَلُونَ) أنتم (عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ) فأصلحوا أعمالكم.
[١٣٦]
(وَقالُوا كُونُوا
هُوداً أَوْ نَصارى) أي قالت اليهود كونوا يهودا وقالت النصارى كونوا نصارى (تَهْتَدُوا) للحق وترشدوا (قُلْ) يا رسول
بَلْ
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(١٣٥) قُولُوا
آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى
وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
____________________________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (بَلْ) نتبع (مِلَّةَ) أي دين (إِبْراهِيمَ) الصافي من شوائب اليهودية والنصرانية ، وإنما هي الإسلام
المصفى ، وإن كان فرق بين الإسلام وبين دين إبراهيم عليهالسلام في بعض الخصوصيات التشريعية ، فالمراد نفي النصرانية
واليهودية (حَنِيفاً) أي مستقيما عن الاعوجاج (وَما كانَ) إبراهيم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما أنتم أيها اليهود والنصارى مشركون ، إذ تقولون عزير
ابن الله ، أو المسيح ابن الله ، وعلى هذا فالمراد بإتباع ملة إبراهيم عليهالسلام إتباعها في التوحيد.
[١٣٧]
(قُولُوا) أيها المسلمون ، ما يجب عليكم أن تعتقدوا به ، وما هي
خلاصة الأديان السابقة واللاحقة ، التي تعين زيف العقائد النصرانية واليهودية
وغيرهما (آمَنَّا بِاللهِ وَ) آمنا ب (ما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من القرآن الحكيم (وَما أُنْزِلَ إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أحفاد يعقوب فإن كثيرا منهم كانوا أنبياء عليهمالسلام نزلت عليهم الصحف (وَ) آمنا ب (ما أُوتِيَ مُوسى
وَعِيسى وَ) آمنا ب (ما أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ) قاطبة (مِنْ رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي من الأنبياء عليهمالسلام ، فإنا نعترف بالجميع (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله سبحانه (مُسْلِمُونَ) فإن دين الأنبياء ، عليهمالسلام كلهم يتلخص في أصول وفروع
فَإِنْ
آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ
(١٣٨)
____________________________________
وأخلاق فالأصول :
التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة ، والمعاد ، فإن كل نبي كان يصدّق من سبقه
ويبشّر بمن يلحقه ، كما إن الإمامة بمعنى الوصاية ، فإن كل نبي كان له أوصياء ،
والفروع : الصلاة والصوم والزكاة وما أشبه من العبادات ، وأحكام المعاملات ـ بالمعنى
الأعم ـ وكل الأديان كانت مشتركة فيها مع تفاوت يسير حسب اقتضاء الزمان والأمة ،
فمثلا كان صوم الصمت في بعض الأمم وليس في الإسلام وهكذا ، والأخلاق : الصدق
والأمانة ، والوفاء ، والحياء ، وما أشبه وكلها فطريات نفسيه كانت الأنبياء عليهمالسلام تأمر بها وتنهى عن أضدادها.
[١٣٨]
(فَإِنْ آمَنُوا) أي آمن غير المسلمين من سائر الأديان والفرق (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) أي كما تؤمنون أنتم أيها المسلمون (فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى الحق (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن مثل هذا الإيمان ، ولزموا طريقتهم المنحرفة (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي في خلاف فهم في شق وأنتم في شق (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) فإن الله يكفيك يا رسول الله وينصرك عليهم (وَهُوَ السَّمِيعُ) كلامهم (الْعَلِيمُ) بأعمالكم ونواياكم.
[١٣٩] اتبعوا (صِبْغَةَ اللهِ) واصبغوا أنفسكم بها ، وهي الإسلام ، فإن كل طريقة يتبعها
الإنسان لون له ، لكنه لون غير محسوس ، تشبيها بالألوان المحسوسة (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) وهذا استفهام إنكاري ، أي لا أحد أحسن من الله صبغة ودينا (وَنَحْنُ) المسلمون (لَهُ عابِدُونَ)
قُلْ
أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ
أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ
إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا
هُوداً أَوْ نَصارى
____________________________________
لا لغيره من
الشركاء الذين أنتم تعبدونها مع الله ، أو من دون الله ، وربما يقال إن وجه
التسمية بـ «الصبغة» أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم بماء أصفر يعمدونهم فيه ،
والآية من المشابهة كقوله سبحانه (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) .
[١٤٠]
(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء اليهود والنصارى وغيرهم (أَتُحَاجُّونَنا) أي تباحثون معنا (فِي) دين (اللهِ) وإنه لم أنسخ أديانكم ، ولم أختر من العرب رسولا ، ولم
أفعل كذا وكذا؟ (وَهُوَ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ) أي أن الله ليس ربا لكم فقط حتى يكون معكم وحدكم إلى الأبد
(وَلَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فليس عملنا غير منظور إليه عند الله ، وعملكم منظور إليه ،
كما كانوا يزعمون قائلين نحن شعب الله المختار ، ونحن أبناء الله وأودائه (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) إذ لا نشرك به أحدا بخلافكم حيث جعلتم له شريكا.
[١٤١]
(أَمْ) تباحثون معنا في أمر الأنبياء عليهمالسلام و (تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ) أحفاد يعقوب الذين كانوا أنبياء عليهمالسلام (كانُوا هُوداً) أي يهودا (أَوْ نَصارى) وهذا اشتباه منهم إذ اليهودية والنصرانية ، تولدتا بعد
إبراهيم عليهالسلام ، فكيف يكون إبراهيم
__________________
قُلْ
أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ
مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ (١٤١)
____________________________________
أحدهما ، كما قال
سبحانه (وَما أُنْزِلَتِ
التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) (قُلْ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لهؤلاء المدعين بيهودية هؤلاء الأنبياء ، أو نصرانيتهم (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) فالله سبحانه يقول لم يكونوا يهودا ولا نصارى ، وأنتم
تقولون كانوا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ
كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) أي لا أحد أظلم ممن يكتم الشهادة التي عنده من الله سبحانه
، فإن اليهود كانوا يكتمون ما أنزل إليهم من البينات والهدى حول الأنبياء السابقين
وحول نبي الإسلام (وَمَا اللهُ) أي ليس الله (بِغافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ) فإنه يعلم أعمالكم التي منها كتمانكم للشهادة ، ثم يجازيكم
عليها.
[١٤٢]
(تِلْكَ) الأنبياء عليهمالسلام وما كانوا يعملون ويتدينون لا يرتبطون بكم أيها المعاصرون
للرسول ، فإنها (أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ومضت (لَها ما كَسَبَتْ) من الأعمال والأفعال (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) من الخير والشر (وَلا تُسْئَلُونَ) أنتم (عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ) فلم هذه المباحثة والمحاجة والمجادلة.
__________________
تقريب القران الى الأذهان
الجزء الثّانى
سورة البقرة
من آية (١٤٣) إلى (٢٥٣)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة
والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين.
سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا
عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا
____________________________________
[١٤٣]
(سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ) جمع سفيه ، وهو الغر والجاهل ، وناقص العقل (مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ) أي أيّ شيء صرف المسلمون (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) السابقة (الَّتِي كانُوا
عَلَيْها) يتوجهون في صلاتهم ، وهي بيت المقدس ، فإن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمون كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، وهو قبلة اليهود ،
ثم في المدينة حولت القبلة إلى الكعبة ، وكان السبب الظاهر لذلك أن اليهود عابوا
النبي بأنه يصلي إلى قبلتهم ، فحوله الله عنها إلى الكعبة ، فأخذ اليهود يهرجون
حول تحويل القبلة (قُلْ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ) فمتى شاء وجه عبيده إلى حيث يشاء ، وليست القبلة احتكارا
حتى لا يمكن تحويلها (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وكما كان الصراط المستقيم قبلا بيت المقدس حال التوجه ،
كذلك صار الصراط المستقيم ، فعلا الكعبة.
[١٤٤]
(وَكَذلِكَ) أي كما أن لله المشرق والمغرب ، وأنه لا مناقشة في ذلك (جَعَلْناكُمْ) أيها المسلمون ، وفي التأويل ، إن المراد بالخطاب الأئمة عليهمالسلام (أُمَّةً وَسَطاً) متوسطا ، والإطلاق وإن كان يفيد الوسطية في كل شيء في
العقيدة ، فلا جمود ولا إلجاء ، وفي المكان فهم متوسطون بين شرق الأرض وغربها ،
وفي التشريع ، فليس ناقصا ولا مغاليا ، وهكذا إلا أن ظاهر قوله سبحانه بعد ذلك (لِتَكُونُوا
شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ
____________________________________
شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) يفيد أن المراد بالتوسط الوسيطة بين الرسول وبين سائر
الناس ، فالأمة تأخذ من الرسول ـ ويشهد الرسول عليهم بأنهم أخذوا منه ، حتى لا
يقولوا ما عرفنا ـ وسائر الناس يأخذون من الأمة ـ وتشهد الأمة عليهم بأنهم أخذوا
منها ، حتى لا يقول الناس لم نعرف ـ وهذا هو الظاهر من «لام» العلة في قوله «لتكونوا
.. ويكون» ولعل ارتباط هذه الآية بما سبقها من حكم القبلة ، وما لحقها بيان أن
المسلمين لهم مكان القيادة ، لأنهم الآخذون عن الرسول المبلغون للناس فالذي ينبغي
أن تكون لهم سمة خاصة في شرائعهم ، حتى لا يرمون بالذيلية ، والإتباع لقبلة
الآخرين ، ثم رجع السياق إلى حكم القبلة فقال سبحانه (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي بيت المقدس الذي كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يتوجه نحوه في الصلاة ، طيلة كونه في مكة المكرمة ، ومدة
بعد الهجرة (إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) معنى «لنعلم» أن يتحقق علمنا في الخارج ، بأن يظهر المتبع
من المخالف ، فإنه قد يقال لنعلم ، ويراد به حصول العلم للمتكلم ، وقد يقال لنعلم
، والمراد به وقوع المعلوم في الخارج ، وفي بعض التفاسير أن قوما ارتدوا على
أدبارهم لما حولت القبلة ، فظهر
__________________
وَإِنْ
كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ
إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى
____________________________________
إنهم لم يكونوا
يتبعون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حقيقة وإنما حسب الأهواء ، والعقب مؤخر القدم ، والمعنى
التشبيه لمن يرتد كافرا ، بمن يرجع القهقرى (وَإِنْ كانَتْ) مفارقة القبلة الأولى إلى قبلة أخرى (لَكَبِيرَةً) إذ هو خرق لاعتياد قديم متركز (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إياهم بأن قوى قلوبهم بالإيمان (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أيها المسلمون الراسخون الذين اتبعتم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا تقدير لهم في ثباتهم ، ووعد لهم في الجزاء على
إيمانهم الكامل ، ويحتمل أن يكون جوابا عن سؤال وقع من بعضهم ، وهو إنه كيف تكون
حال صلواتهم السابقة التي صلوها إلى بيت المقدس ، وإن كان الظاهر من كلمة «إيمان»
المعنى الأول (إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فلا يضيع أتعابهم وأعمالهم.
[١٤٥] وبعد ما بين
الحكم ، وأن القبلة تحولت ، بيّن الله سبحانه قصة التحويل ، فإنها كالعلة للحكم
المتقدم ، والعلة دائما تأتي متأخرة في الكلام ، وإن كانت سابقة في التحقيق ، كما
يقال إنه إنسان طيب لأن تربيته حسنة (قَدْ نَرى) «قد» هنا للتحقيق
نحو (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) وإن كان الغالب في «قد» الداخلة على المضارع ، أن تكون
بمعنى التقليل ، ولعل سر دخولها ، إشراب الفعل معنى التقليل ، حيث لا يريد المتكلم
__________________
تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
____________________________________
إظهار العلم بالبت
، مثله (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً) (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) يا رسول الله (فِي السَّماءِ) أي في ناحية السماء ، فإن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يقلب وجهه في أطراف السماء ، فينتظر الوحي حول القبلة
، وإن اليهود عيروه صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلين له أنك تابع لقبلتنا فلما كان في بعض الليل خرج صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يقلب وجهه في آفاق السماء ، فلما أصبح صلى الغداة ، فلما
صلى من الظهر ركعتين ، جاء جبرائيل عليهالسلام بهذه الآية ، ثم أخذ بيده فحول وجهه إلى الكعبة ، وحول من
خلفه وجوههم ، حتى قام الرجال مقام النساء ، والنساء مقام الرجال (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) إذ الرسول كان يحب الكعبة التي هي بناء جده إبراهيم عليهالسلام وعندها موطنه (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الشطر الجزء ، أي حول وجهك نحو جزء من المسجد الحرام ،
والمسجد لكونه محيطا بالكعبة يكون المتوجه إليه متوجها إليها إذا كان من بعيد (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) أيها المسلمون (فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وذكر «الوجه» في المقامين ، لأنه الشيء الذي يتوجه به في
جسد الإنسان (وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنصارى الذين يستشكلون عليكم قائلين إن كانت
القبلة
__________________
لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
وَلَئِنْ
أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما
أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
____________________________________
السابقة حقا ،
فهذه باطلة ، وإن كانت هذه حقا ، فتوجهكم في السابق إلى بيت المقدس باطل (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ) أي تحويل القبلة أو هذه القبلة حق من قبل الله ، فإن الله
سبحانه يعبده عباده كيف يشاء ، فمن الجائز أن يعبد الأمة بتشريع إلى مدة ، ثم
يعبدهم بتشريع آخر (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا يَعْمَلُونَ) أي يعمل أهل الكتاب من الإرجاف وبث الأباطيل حول تحويل
القبلة وسائر الأمور المرتبطة بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[١٤٦]
(وَلَئِنْ أَتَيْتَ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (بِكُلِّ آيَةٍ) من الآيات الدالة على أن قبلتك حق (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) لأنهم معاندون ، والمعاند لا ينفع معه الدليل (وَما أَنْتَ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (بِتابِعٍ
قِبْلَتَهُمْ) بعد ما تعلم أن قبلتهم منسوخة ، كقوله تعالى (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَلا
أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (وَما بَعْضُهُمْ
بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) اليهود لا يتبعون قبلة النصارى ، والنصارى لا يتبعون قبلة
اليهود (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (أَهْواءَهُمْ) في باب القبلة وسائر التشريعات (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بأن
__________________
إِنَّكَ
إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ
فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
____________________________________
طريقتهم باطلة (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وهذه الجملة ، وإن كانت موجهة إلى الرسول ، لكن المقصود
منها العموم ، ولا تنافي العصمة ، فإن الاشتراط يلائم المحال ، كقوله تعالى (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا
أَوَّلُ الْعابِدِينَ) وقد تقرر في المنطق أن صدق الشرطية إنما هو بوجود العلية
ونحوها ، لا بصدق الطرفين.
[١٤٧]
(الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) من اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي الرسول ، أو هذا الحكم ، أعني كون تغيير القبلة بأمر
الله سبحانه ، وإن كان الأول أقرب إلى سياق التشبيه (كَما يَعْرِفُونَ
أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) ممن لم يؤمن بالرسول (لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فليس عذر هؤلاء جهلهم ، حتى يرجى زواله ، وإنما العناد
الذي لا علاج له.
[١٤٨]
(الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أي هذا هو الحق من عند الله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي الشاكين فيه ، فإن المحق إذا كثرت عليه التهجمات ورمي
بأنه على غير حق ، يكاد يشك فيه ، ولذا يثبت الله الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما قال تعالى (وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) .
__________________
وَلِكُلٍّ
وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ
بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
____________________________________
[١٤٩]
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) أي لكل أمة من الأمم طريقة (هُوَ) أي الله سبحانه (مُوَلِّيها) أي أمرهم بالتوجه إليها ، فلا غرابة أن يكون للمسلمين وجهة
خاصة في قبلتهم (فَاسْتَبِقُوا) أي سارعوا إلى (الْخَيْراتِ) تنافسوا فيها ، فإن الله موليكم هذه الطرائق ، ولا تبقوا
جامدين على طريقة منسوخة ، فإن ذلك انصراف عن الخير إلى الشر ، ومن المحتمل أن
يكون «هو» راجعا إلى «كل» أي لكل فرد أو أمة ، طريقة في العمل والتفكير فذلك الشخص
مولي وموجه نفسه إياها ، فليكن هم كل فريق وفرد أن يسابق غيره في الخيرات (أَيْنَ ما تَكُونُوا) من بقاع الأرض (يَأْتِ بِكُمُ اللهُ
جَمِيعاً) يوم القيامة ، حتى يجازيكم على أعمالكم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيتمكن من جمعكم ، ولا يفوته شيء
[١٥٠] كان لتحويل
القبلة نحو الكعبة أسباب وعلل ، العلة الأولى : رغبة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في أن تحول القبلة لما عيرته اليهود ، العلة الثانية : أن
التحويل كان للحق ، وأن يكون للمسلمين ميزة خاصة يمتازون بها عن سائر الأمم ، حتى
في اتجاه الصلاة ، العلة الثالثة : أن التحويل كان لقطع حجة الناس ، الذين كانوا
يتعجبون من كون المسلمين ، يدعون دينا جديدا ، ومع ذلك يتوجهون إلى قبلة بني
إسرائيل ، وتبعا لهذه العلل ، تكرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام ، وقال سبحانه
(وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ) للسفر من البلاد (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)
وَإِنَّهُ
لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ
إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي
____________________________________
فإنه قبلة في
السفر كما هو قبلة في الحضر ، وفي هذا فائدة ثانية للتكرار (وَإِنَّهُ) أي توجيه الوجه نحو المسجد الحرام (لَلْحَقُ) الذي جاء (مِنْ رَبِّكَ وَمَا
اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فمن أعرض عن هذه القبلة كان جزاءه سيئا ، ومن اتبعها كان
جزاءه حسنا.
[١٥١]
(وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ) للسفر من البلاد (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هذا للسفر (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وهذه الآية ، جمع بين الآيتين السابقتين (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، الآية : ١٥٠» (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، الآية : ١٤٥» وقد عرفت إنه كرر لفائدة العلة المذكورة في
الآية (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي إن تحويل القبلة ، إنما هو لنقطع احتجاج الناس عليكم
حيث يقولون : كيف إن المسلمين يدعون إلى دين جديد وقبلتهم هي قبلة أهل الكتاب (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فإن هؤلاء لا ينفعهم المنطق ، فالمعاند لا تفيده الحجة (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) فالخشية ، إنما تكون ممن بيده النفع والضر ، وهؤلاء ليس
بيدهم شيء منهما ، وإنما كل ذلك بيد الله سبحانه ، ولا يخفى أن الاستثناء منقطع
كقولك : إنما فعلت الفعلة الفلانية ليعرف الناس بالأمر ، إلا من يريد
وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ (١٥١)
____________________________________
العناد (وَ) بعد ذلك فتحويل القبلة إنما كان (لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بتميزكم عن أهل الكتاب وقطع تعيير اليهود ، وإرجاعكم إلى
بناء جدكم إبراهيم الذي هو إحياء لذكراكم (وَلَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) إلى الحق اهتداء كاملا ، فإن في تشريف الإنسان بشرف سببا
لتقريبه إلى الهداية الكاملة.
[١٥٢] وقد أتممنا
النعمة عليكم بتحويل القبلة (كَما) أنعمنا عليكم قبل ذلك بنعمة عظمي ف (أَرْسَلْنا فِيكُمْ) أيها المسلمون (رَسُولاً مِنْكُمْ) لا من غيركم ، فاخترتكم لأن تكون رسالتي بيد واحد منكم (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) وقرآننا تلاوة (وَيُزَكِّيكُمْ) يطهركم من أدناس الجاهلية والقذارات الخلقية ، والنجاسات
البدنية ـ بإرشاده إياكم إليها ـ (وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتابَ) ومن المعلوم أن التلاوة غير التعليم ، فرب تال غير معلم ،
بالإضافة إلى أن التعليم فيه معنى التركيز والتثبيت (وَالْحِكْمَةَ) يرشدكم بمواضع الأشياء ومواقع الخطأ والصواب ، فالحكمة ـ كما
عرفت ـ وضع كل شيء موضعه (وَيُعَلِّمُكُمْ ما
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) بصورة عامة ، فيشمل القصص والتواريخ المفيدة وأحوال
الأنبياء ، وأحوال المعاد مما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ
____________________________________
[١٥٣]
(فَاذْكُرُونِي) أيها المسلمون بالطاعة والعبادة ، وتنفيذ الأوامر (أَذْكُرْكُمْ) بالنعمة والإحسان والجنان (وَاشْكُرُوا لِي) بإظهار النعمة والحمد عليها (وَلا تَكْفُرُونِ) كفرا في الاعتقاد ، أو كفرا في العمل بأن لا تعملوا
بأوامري.
[١٥٤]
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَعِينُوا) في أموركم التي تريدونها سواء كانت تحت اختياركم ، أم لم
تكن كالصحة والغنى (بِالصَّبْرِ) وتحمل النفس ، فإن كثيرا من الأمور تتنجز بعد حين ، فإذا
صبر الإنسان تنجزت أموره ونعم براحة البال ، واطمئنان النفس ، وإذا لم يصبر جرى
القدر ، وهو مضطرب البال كئيب (وَالصَّلاةِ) فإن الصلاة توجب توجه الإنسان إلى الله سبحانه ، والانصراف
عن الدنيا مما يشع في النفس الهدوء والسكينة ، وعدم الاهتمام بمكاره الدنيا (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) باللطف والعناية والرحمة والأجر والثواب ، وهكذا يهذب
الإنسان والأمة ويرشدهم إلى مهمتهم العظيمة ، ويمرّنهم على الصبر والتحمل ، ولذا
يخطوا القرآن الحكيم خطوة أخرى معهم بعد الصبر والصلاة ، قائلا : إنكم لا بد وأن
تتحملوا مشاق القيادة من القتل وسائر أنواع المصائب التي تتعرض لمن أراد الإصلاح
والإرشاد ، ولذا يقول سبحانه :
[١٥٥]
(وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) فالميت من لا تأثير له
بَلْ
أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥)
الَّذِينَ
إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦)
____________________________________
في الحياة ولا
امتداد ، وهؤلاء ليسوا كذلك (بَلْ أَحْياءٌ) حياة واقعية في الدنيا بتأثيراتهم وامتداداتهم ، وفي الآخرة
، لأنهم في نعيم مقيم ، (وَلكِنْ لا
تَشْعُرُونَ) أنتم بحياتهم ، إذ الحياة في نظركم الحس والحركة ، مع إنها
معنى سطحي للحياة.
[١٥٦]
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي نمتحنكم أيها المسلمون (بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ) وكونه شيئا ، إما باعتبار أنه لا يمتد ، وإنما الخوف في
زمان يسير ، وإما باعتبار أنه لا يبلغ الخوف ـ غالبا ـ أشده (وَالْجُوعِ) ولم يذكر العطش لأن الماء غالبا متوفر (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) المبذولة في الحرب ، أو ما ينهب منها في التصادم ، أو
الضيق الاقتصادي ، أو ما أشبه (وَ) نقص من (الْأَنْفُسِ) ممن يقتل في سبيل الله (وَ) نقص من (الثَّمَراتِ) بسبب النهب ، أو الحصاد قبل أوانه من أجل الأعداء ، كما
وقع في قصة الخندق حيث أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين أن يحصدوها ، لئلا ينتفع بها المشركون ـ كما في
بعض التواريخ ـ أو بأسباب أخر (وَبَشِّرِ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (الصَّابِرِينَ) في هذه المكاره.
[١٥٧]
(الَّذِينَ إِذا
أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) أي إنا مملوكون له سبحانه (وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ) فهو مرجعنا ومعه حسابنا وجزاؤنا ، وفي هذه
أُولئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
إِنَّ
الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
____________________________________
الجملة تسلية
للمصاب ، إذ اعتراف الإنسان بأن كل شيء له إنما هو لله ، يهوّن ذهاب بعضها ، فإن
صاحب المال أخذه ، كما أن اعتقاد الشخص ، بأن الله هو الذي يجازي يهوّن الأمر ،
فإن ما فقده سوف يعوّض ولذا من كرر هذه الجملة في المصيبة عارفا معناها متوجها إلى
الله سبحانه ، في التسليم والرضا ، يجد برد الاطمئنان في قلبه.
[١٥٨]
(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) والصلوات هي العطف ، فإن صلى بمعنى عطف ، وهي من الله
التوجه بالبركة والإحسان (وَرَحْمَةٌ) ترحم في الدنيا والآخرة (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ) الذين اهتدوا إلى واقع الأمر مما ينفع دنياهم وعقباهم ،
فبذلوا ما بذلوا في سبيل الله راضين مرضين.
[١٥٩] وحيث ألمع
سابقا إلى الجهاد ، أتى الإلماع إلى الحج ، فإنهما صنوان في التعداد والمشقة ـ في
الجملة ـ فقال سبحانه (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ) وهما جبلان قرب المسجد الحرام (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) جمع شعيرة ، وهي مشتقة من اللباس الملتصق بشعر البدن ، فكل
شيء مرتبط بشيء ارتباطا وثيقا يدل عليه يكون من شعائره ، فالمراد أن هذين الجبلين
من الأمور المرتبطة بالله سبحانه ، حيث جعلهما محلا لعبادته بالسعي بينهما (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) أي قصد البيت الحرام ، والحج القصد (أَوِ اعْتَمَرَ) والعمرة هي الزيارة أخذ من العمارة ، لأن
فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ
شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ
____________________________________
الزائر يعمر
المكان بزيارته ، والحج والعمرة عملان من أعمال الحج (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي يسعى بينهما ، وإنما عبر ب «لا جناح» لأن المسلمين
تحرجوا من الطواف بهما ظنا منهم أنه من عمل المشركين ، حيث كان على الصفا صنم يسمى
«أساف» وعلى المروة صنم يسمى «نائلة» فهو ترخيص في مقام توهم الحصر ، ومن المعلوم
أن الإباحة في مقام توهم الحصر ، والنهي في مقام توهم الوجوب ، لا يدلان على
مفادهما الأولية ، لأنه لإثبات أصل الطرف الآخر ، لا خصوصيته الإباحية والتمويمية (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي أتى بخير من الأعمال والأفعال تطوعا ، والتطوع التبرع
بالشيء من الطوع بمعنى الانقياد (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) لعملهم ومعنى شكره تقديره وجزائه للعامل (عَلِيمٌ) بأعمالهم ، فلا يفوته شيء منها.
[١٦٠] لعل ارتباط
هذه الآية بما ورد قبلها ، أن اليهود والنصارى لم يفعلوا مثل ما فعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حول الصفا والمروة ، فالرسول أبطل كل شيء حول الحج ، وأقام
كل حق فيه ، فالصفا والمروة ، حيث كانا حقا أثبتهما الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإن ظن الناس أنهما من الباطل ، لكن أهل الكتاب حشروا كل
ما أتى به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ مما عرفوه حقا ـ في زمرة الباطل ، ولذا صار الكلام
السابق ، فاتحة للتعريض بهم ، فهو مثل أن يقول أحد أنا اعترفت بالحق ، لكنه لم
يعترف بما علم من الحق ، والله أعلم بموارده (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) فيخفون الأدلة
وَالْهُدى
مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩)
إِلاَّ
الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(١٦١)
____________________________________
الدالة على حقية
الإسلام ، مما نزلت في الكتب السالفة (وَالْهُدى مِنْ
بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) أي يكتمون الهدى الذي يرونه ، وإن لم يكن منزلا وبيّنا (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يبعدهم عن الخير في الدنيا وفي الآخرة ، بتضييق الأمور
عليهم هنا والعذاب هناك (وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ) الذين يأتي منهم اللعن من الناس والملائكة والجن.
[١٦١]
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) منهم واتبعوا الحق وأظهروه (وَأَصْلَحُوا) ما فسد من عقائدهم وأعمالهم (وَبَيَّنُوا) للناس ما أنزله الله من الهدى والبينات (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فالتوبة معناها الرجوع ، ورجوع الله بمعنى إعادة الإحسان
والرحمة عليهم بعد انقطاعها عنهم بسبب كفرهم وكتمانهم (وَأَنَا التَّوَّابُ) أي كثير الرجوع ، فإن العاصي إذا عصى ألف مرة ورجع ألف مرة
قبلت توبته ، إذا تاب توبة نصوحا (الرَّحِيمُ) بالعباد.
[١٦٢]
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) ولم يتوبوا (وَماتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ) بالعقائد الصحيحة (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فإن الكل يلعنون الظالم ، والكافر ظالم ، فإنه وإن لم
يقصده اللاعن
خالِدِينَ
فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
وَإِلهُكُمْ
إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ
____________________________________
بالذات ، لكنه
داخل في عموم اللعن.
[١٦٣]
(خالِدِينَ فِيها) أي في تلك اللعنة ، إذ لعنة الدنيا تتصل بلعنة الآخرة (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إذ لا أمد لعذاب الله بالنسبة إلى الكافرين (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) فلا ينظر أحد إليهم نظرة رحمة وإحسان ، أو لا يمهلون
للاعتذار ، أو لا يؤخر عنهم العذاب.
[١٦٤] ولما تقدم
حال الكافر صار السياق لبيان التوحيد ، والأدلة على الوحدانية (وَإِلهُكُمْ) أيها الناس (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الموصوف ب (الرَّحْمنُ
الرَّحِيمُ) لا كما يصور الإله بعض الكتب السماوية من أنه إله انتقام
وغضب وعذاب.
[١٦٥]
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ) بهذا النظام البديع والترتيب الرائع (وَالْأَرْضِ) بهذا الأسلوب المنظم المتكامل (وَ) في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) يأتي أحدهما عقب الأخر خليفة ، لتنظيم الحياة على الأرض
بأجمل صورة (وَ) في (الْفُلْكِ) السفينة (الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في أسفارهم وتجارتهم (وَ) في (ما أَنْزَلَ اللهُ
مِنَ السَّماءِ) جهة العلو (مِنْ ماءٍ) ببيان «ما» (فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ)
بَعْدَ
مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ
____________________________________
بالإنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي جمودها وركودها (وَبَثَ) أي نشر وفرق (فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) تدب وتتحرك على وجه الأرض ، وكلمة «بث» عطف على «أحيا» أي
كان المطر سببا لإحياء الأرض ، وانتشار الحيوانات فيها ، إذ لو لا المطر لم يكن
للحيوان ماء ، ولا طعام فيهلك ، ولم يبق له نسل (وَ) في (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي صرفها ونقلها من مكان إلى مكان لتروح وتذهب بالأمراض
والعفونات ، وتنقل السحاب من هنا إلى هناك ، ولو كانت الريح راكدة لم تنفع أي شيء (وَ) في (السَّحابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فإنه بما يكونه من أطنان من الماء ، يبقى معلقا بين
الجهتين ، ويسير إلى كل ناحية (لَآياتٍ) وعلامات دالة على الله ، ووحدته وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ويعملون عقولهم في استفادة النتائج من المقدمات والمسبب عن
الأسباب ، وينتقلون من العلم بالمعلول إلى العلم بالعلة.
[١٦٦]
(وَمِنَ النَّاسِ) أي بعضهم (مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ
دُونِ اللهِ) أي غير الله (أَنْداداً) جمع ند ، بمعنى الأشباه ، والمراد بذلك آلهة يجعلها شبيهة
لله في أنه يعبدها ، وهي الأوثان (يُحِبُّونَهُمْ) أي يحب هؤلاء الناس
كَحُبِّ
اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
إِذْ
تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ
____________________________________
تلك الآلهة ،
وإنما أتى بجمع العاقل لكونها ردفت مع الله سبحانه ، والقاعدة تغليب الرديف على
رديفه كقوله تعالى (مَنْ يَمْشِي عَلى
بَطْنِهِ) وقوله (وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ) (كَحُبِّ اللهِ) أي كحبهم لله ، أو حبا شبيها بما يستحق الله ، وعلى الأول
، فالمراد بهم المشركون الذين يعتقدون بالله (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من حب هؤلاء لأوثانهم ، فالمؤمنين حيث يعرفون أن كل خير من
الله يحبونه حبا بالغا (وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يعني لو يرون هؤلاء المشركين يوم القيامة كون القوة جميعا
لرأوا مضرة فعلهم ، وسوء عاقبة شركهم ، وحذف جواب لو ، تهويلا للأمر ، كما تقول
لعدوك : لو ظفرت بك (وَأَنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعَذابِ) عطف على «أن القوة».
[١٦٧] إن الرؤية
من الظالم للعذاب ، إنما يكون (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
اتُّبِعُوا) من القادة (مِنَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا) وهم التابعون لهم (وَرَأَوُا) جميعا (الْعَذابَ
__________________
وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا
مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يا أَيُّهَا
النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً
____________________________________
وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ) أي فيما بينهم (الْأَسْبابُ) فما كان في الدنيا يسبب وصلة بعضهم لبعض من المال والرئاسة
والقرابة والحلف وأشباهها ، تنقطع هناك ، فلا داعي لنصرة الرؤساء أتباعهم الذين
كانوا يتبعونهم في الدنيا.
[١٦٨]
(وَقالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا) إي التابعين لرؤسائهم (لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً) أي يا ليت لنا عودة إلى دار الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الرؤساء (كَما تَبَرَّؤُا
مِنَّا) هنا في القيامة حال حاجتنا إلى العون (كَذلِكَ) أي هكذا (يُرِيهِمُ اللهُ
أَعْمالَهُمْ) أي أعمال كل من التابعين والمتبوعين (حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) فإن صلاتهم وأعمالهم ، كلها ذهبت أدراج الرياح ، فيتحسرون
لماذا لم يعملوا بأوامر الله سبحانه (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) فإن المشرك يبقى في النار إلى الأبد ، إن تمت عليه الحجة
وعاند.
[١٦٩] وإذ تم
الكلام حول العقيدة ، توجه إلى الحياة التي هي مقصد الإنسان ، وإليها يرجع كثير من
حركته وسكونه (يا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) من نباتها وحيوانها ومائها ومعدنها (حَلالاً طَيِّباً) أي في حال كون المأكول حلالا طيبا ، إلا ما حرم منه ، وفي
قوله «طيبا»
وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ
آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
____________________________________
إشارة إلى أن كل
حلال طيب ، وليس فيه خبث يوجب انحراف الصحة ، أو انحراف الخلق (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فكأن الشيطان يخطو نحو الآثام ، ومن أثم كأنه تتبع خطواته
إذ مشى خلفه (إِنَّهُ) أي الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ) أي عدوا ظاهرا.
[١٧٠]
(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ) أي الأعمال السيئة (وَالْفَحْشاءِ) وهي الأعمال السيئة للغاية ، فهو مشتق من الفحش ، بمعنى
التعدي (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ) أي تنسبوا إلى الله (ما لا تَعْلَمُونَ) من العقائد والأحكام ، وعدم العلم هنا أعم من العلم بالعدم
، كما قال سبحانه (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ
بِما لا يَعْلَمُ) .
[١٧١]
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام وسائر الوحي (قالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وجدنا عليه آباءنا من التقاليد ، فأنكر الله ذلك عليهم
بالاستفهام الإنكاري ، بقوله (أَوَلَوْ كانَ
آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من أمور الدين والدنيا (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحق فإذا
__________________
وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً
وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
____________________________________
ظهر لكم أن آباءكم
لا يعلمون ، فكيف تتبعونهم.
[١٧٢] ثم بين الله
سبحانه ، أن هؤلاء الكفار لعنادهم وتعصبهم ، قد غلقت منافذ السمع والبصر عنهم ،
فلا يفيد فيهم وعظ ولا تذكير (وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بعد ما يروا الآيات ، ويسمعوا نداءك يا رسول الله (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) أي يرفع صوته (بِما) أي بالحيوان الذي (لا يَسْمَعُ) ولا يفهم الكلام ، وإنما يسمع (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) فالحيوان ، إذا صحت به ، لا يفهم من كلامك إلا مجرد الدعوة
والنداء ، فهؤلاء الكفار كذلك ، إذ لا ينتفعون بكلامك أبدا ، فهم (صُمٌ) جمع أصم (بُكْمٌ) جمع أبكم (عُمْيٌ) جمع أعمى ، فإنهم ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون ، لكنها
كالمعطلة ، لأنها لا تؤدي وظيفتها (فَهُمْ لا
يَعْقِلُونَ)
[١٧٣]
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) تكرارا لما تقدم لإلحاق مسألتي الشكر والمحرمات به (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ولا تشكروا سائر الآلهة ، كالمشركين الذين يزعمون أنهم
يمطرون بالأنواء ، ويرزقون بالآلهة المزعومة.
[١٧٤]
(إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) وهي التي لم تذبح على النحو الشرعي
وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ
____________________________________
(وَالدَّمَ) وهو وإن كان مطلقا ، إلا إنه مقيد بالمسفوح لقوله سبحانه (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ
دَماً مَسْفُوحاً) (وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ) وخص اللحم بالكلام ، وإن كانت جملته محرمة ، لأن اللحم هو
المعظم المقصود في الغالب (وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) الإهلال في الذبيحة رفع الصوت بالتسمية ، وقد كان المشركون
عند ذبحهم ، يرفعون أصواتهم بتسمية الأوثان ، فنهى الله سبحانه عن أكل ذبيحة ذكر
غير اسم الله عليها (فَمَنِ اضْطُرَّ) بصيغة المجهول ، فإن «اضطر» متعد من باب الافتعال ، وحيث
لم يكن المقصود ، سبب الاضطرار ، ذكر مجهولا (غَيْرَ باغٍ) أي لم يكن باغيا وطالبا للذة في أكله وشربه (وَلا عادٍ) أي متعد في الأكل والشرب ، عن حد الضرورة ، أو غير باغ على
إمام المسلمين ، ولا عاد بالمعصية طريق المحقين (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تناول هذه المحرمات (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر العصيان إذا اضطر إليه ، فغفر بمعنى ستر ، وستر
العصيان ، عدم المؤاخذة به (رَحِيمٌ) بكم ، ولذا جاز تناول المحرم في حال الاضطرار.
[١٧٥]
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) وهم اليهود والنصارى الذين كانوا يكتمون العقائد الحقة
الموجودة في كتابهم ، وينسبون إلى
__________________
وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى
____________________________________
الكتاب أحكاما لم
توجد فيه ، كما قال سبحانه (قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولعل ارتباط هذه الآية بما قبلها من جهة الأمور التي كانوا
يحرمونها ، ولم يكن في كتبهم تحريم لها (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أي بهذا الكتاب (ثَمَناً قَلِيلاً) من رئاسة الدنيا وأموالها ، فإنها قليل بالنسبة إلى الآخرة
(أُولئِكَ ما
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) أي لا يجرون إلى بطونهم ولعل ذكر في بطونهم للاحتراز عن
الأكل في بطن الغير ، فإن العرب تقول شبع فلان في بطنه ، إذا أكله بنفسه ، وتقول
شبع فلان في بطن غيره ، إذا أكله من يتعلق به (إِلَّا النَّارَ) فإن ما أكلوه ينقلب نارا تحرق بطونهم في جهنم (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) فيهملهم ليذوقوا الهوان جزاء ما فعلوا (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم عن الآثام ، فإن البطن إذا مليء حراما يقسو ،
فلا يهتدي حتى يتزكى الإنسان ويتطهر (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) مؤلم.
[١٧٦]
(أُولئِكَ) الذين يكتمون ما أنزل الله هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدى) أي عوض الهداية ، فكأن نفس الإنسان ثمن لأحد أمرين الضلالة
والهداية ، فهم أعطوا أنفسهم ، واشتروا الضلالة عوض أن
__________________
وَالْعَذابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ
أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
____________________________________
يشتروا الهداية (وَ) اشتروا (الْعَذابَ
بِالْمَغْفِرَةِ) فعوض أن يشتروا المغفرة لأنفسهم اشتروا العذاب (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب عن صبرهم على النار التي هي عاقبة عملهم ، أي كيف
أنهم يصبرون على النار حينما فعلوا ما عاقبته النار.
[١٧٧]
(ذلِكَ) العذاب ، إنما توجه إليهم بسبب أن (اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) أي التوراة (بِالْحَقِّ وَإِنَّ
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) بكتمان بعضه وإظهار بعض (لَفِي شِقاقٍ) وخلاف عن الحق (بَعِيدٍ) فهم إنما استحقوا العذاب ، لأنهم خالفوا الحق ، وكتموا ما
لزم إظهاره ، ومن المحتمل أن يكون المراد بالكتاب «القرآن» أي أن عذابهم بسبب
كتمانهم كون القرآن حقا واختلافهم فيه ، بأنه سحر وكهانة أو كلام بشر.
[١٧٨]
(لَيْسَ الْبِرَّ) كل البر أيها اليهود المجادلون حول تحويل القبلة الصارفون
أوقاتكم في هذه البحوث العقيمة (أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) فإن ذلك أمر فرعي مرتبط بتكليف الله سبحانه ، وقد كلفنا أن
نصرف الوجوه إلى الكعبة (وَلكِنَّ الْبِرَّ) فعل ، أي ولكن ذا البر (مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فذلك هو الأصل الذي
وَالْمَلائِكَةِ
وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا
وَالصَّابِرِينَ
____________________________________
يتفرع عليه أحكام
الصلاة وغيرها (وَ) آمن ب (الْمَلائِكَةِ
وَالْكِتابِ) المنزل من عند الله على أنبيائه (وَ) آمن ب (النَّبِيِّينَ) كلهم أولهم وأوسطهم وأخرهم (وَآتَى الْمالَ) أي أعطاه وأنفقه (عَلى حُبِّهِ) أي مع أنه يحبه ، أو على حب الله تعالى (ذَوِي الْقُرْبى) أي قراباته وأرحامه (وَالْيَتامى) الذين مات أبوهم (وَالْمَساكِينَ) الذين لا يجدون النفقة لأنفسهم وأهليهم (وَابْنَ السَّبِيلِ) الذي انقطع في سفره ، فلا مال له يوصله إلى أهله ومقصده ،
وسمي ابن السبيل ، لعدم معرفة أبيه وعشيرته (وَالسَّائِلِينَ) من الفقراء الذين يسألون الناس (وَ) آتى المال (فِي) فك (الرِّقابِ) أي اشتراء العبيد أو إعتاقهم ، حتى يتحرروا عن ربق
العبودية (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي أداها على حدودها (وَآتَى الزَّكاةَ) الواجبة والمستحبة (وَالْمُوفُونَ) الذين يفون (بِعَهْدِهِمْ إِذا
عاهَدُوا) سواء كان عهدا مع الله كالنذر والبيعة ، أو مع الناس
كالعقود ، وهذا عطف على قوله «من آمن» (وَالصَّابِرِينَ) عطف على من آمن على طريق القطع بتقدير المدح ، كما قال ابن
مالك :
واقطع أو اتبع
أن يكن معينا
|
|
بدونها أو بعضها
اقطع معلنا
|
فِي
الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى
____________________________________
وارفع أو انصب
إن قطعت مضمرا
|
|
مبتدءا أو ناصبا
لن يظهرا
|
فإن عادة العربي
أن يتفنن بالقطع رفعا ونصبا إذا طالت الصفات تقليلا للكلل وتنشيطا للذهن بالتلون
في الكلام (فِي الْبَأْساءِ) البؤس الفقر (وَالضَّرَّاءِ) والمضر الموجع والعلة وكل ضرر (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي الصابرين حين القتال (أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات هم (الَّذِينَ صَدَقُوا) في نياتهم وأعمالهم ، لا من يجادل في أمر كتحويل القبلة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الخائفون من الله سبحانه ، وفي هذه الآية الكريمة إلماح
إلى حال كثير من الناس حيث يتركون المهام ويناقشون في أمر غير مهم عنادا وعصبية.
[١٧٩] وحيث ذكر
سبحانه ما هو البر عقبه ببعض الأحكام التي ينبغي لأهل البر المؤمنين بالله واليوم
الآخر المتصفين بتلك الصفات أن يلتزموا بها (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) ومعنى كتابته تشريعه إذ الشرائع تكتب (فِي الْقَتْلى) جمع قتيل ، فقد ورد أنها نزلت في حيين من العرب لأحدهما
طول على الأخر ، وكانوا يتزوجون نساء بغير حلال ، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر
منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وجعلوا جراحاتهم على
الضعف من جراح أولئك ، حتى جاء الإسلام ، وأبطل تلك الأحكام ، فـ
الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ
ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ
عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ
____________________________________
الحر بـ مقابل
الحر يقتل لا مقابل العبد (وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى) تقتل بمقابل الأنثى لا الذكر يقتل في قبال الأنثى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ) قبل (أَخِيهِ شَيْءٌ) بأن عفى الأخ الولي للمقتول عن قتل القاتل ، وبدله بالدية
، أو عفى عن بعض الدية ، وبقي بعضها الأخر فالواجب على الطرفين ، مراقبة الله في
الأخذ والإعطاء ، فمن طرف الولي للمقتول (فَاتِّباعٌ) للقاتل (بِالْمَعْرُوفِ) بأن لا يشدد في طلب الدية ، ومن طرف القاتل (وَأَداءٌ إِلَيْهِ) أي إلى العافي (بِإِحْسانٍ) من غير مطل وتصعيب (ذلِكَ) الحكم في باب القتيل بالمماثلة ، أولا ، والتخيير بين
القتل والدية والعفو ثانيا (تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) عليكم (وَرَحْمَةٌ) منه بكم ، وفي المجمع أنه كان لأهل التوراة القصاص أو
العفو ، ولأهل الإنجيل العفو والدية (فَمَنِ اعْتَدى) عن الحكم المقرر (بَعْدَ ذلِكَ) الذي قررناه من الأحكام (فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ) مؤلم في الدنيا والآخرة.
[١٨٠]
(وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ) في باب القتل ، بأن يقتل القاتل عمدا (حَياةٌ) للمجموع ، لأن كل من افتكر إنه لو قتل قتل ارتدع إلا
النادر ، وأيضا إن القصاص يوجب عدم تعدي أولياء المقتول على
يا
أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(١٧٩) كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
____________________________________
أقرباء القاتل ،
بأن يقتلوا منهم عددا كثيرا ، كما كان هو المتعارف في زمان الجاهلية ، حتى ربما
فنيت القبيلة لأجل قتيل واحد (يا أُولِي الْأَلْبابِ) جمع لب ، بمعنى العقل ، أي يا أصحاب العقول (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) القتل ، أي شرع القصاص ، حتى تتقون من القتل.
[١٨١] وحيث ألمح
القرآن الحكيم إلى حكم القتل ، أشار إلى ما يرتبط به من الوصية ، فقال (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) كتابة راجحة ، فإن الكتابة تشمل الواجب والمندوب ، والوصية
مندوبة ، إلا إذا وجبت بالعارض (إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بأن رأى مقدماته من مرض وهرم ونحوهما (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا فإذا لم يترك الخير ، لا داعي للوصية وإن كانت
مستحبة أيضا ، لكنها ليست مثل تأكيد من ترك الخير (الْوَصِيَّةُ) نائب فاعل «كتب» (لِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ) أي الأقرباء (بِالْمَعْرُوفِ) بأن يوصي لوالديه وأقربائه ، ولو كانوا وراثا ، شيئا من
الثلث ، وهذا يوجب نشر الألفة والمحبة أكثر فأكثر ، وإنما قيده بالمعروف ، حتى لا
يوصي بما يوجب إثارة الشحناء ، كأن يترك الأقرب ، ويوصي للأبعد ، أو يفضل بعضا على
بعض بما يورث البغضاء ، والمراد بالمعروف ، الذي يعرف أهل التميز ، إنه لا جور فيه
ولا حيف ، وهذه الوصية تكون (حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) الذين يؤثرون التقوى.
فَمَنْ
بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ
إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ
____________________________________
[١٨٢]
(فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي بدل الإيصاء وغيّره وزوّره (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي علمه ، فالسماع يستعمل بمعنى العلم (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي إثم التبديل (عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ) وليس إثم على الذي يأكل المال إرثا بغير علم ، والذي يأكله
زيادة على حصته ، من غير علم فإن الغالب ، أن يبدل الجيل الأول ، ويتصرف سائر
الأجيال ، بلا علم منهم بالتبديل (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لوصاياكم وأقوالكم (عَلِيمٌ) بنواياكم وتبديلكم ، أو تنفيذكم للوصية ، ولعل هناك نكتة
أخرى في قوله (فَإِنَّما إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) هي أن كثيرا من الناس لا يوصون خوفا من أن يلحقهم إثم
التبديل من بعدهم ، لأنهم بوصيتهم أعانوا من بدل ومهدوا الطريق له ، كما رأيت ذلك
متعارفا في كلام كثير من الناس ، حيث يقولون من أوصى ألقى ورثته في المعصية ، فيكف
بعضهم عن الوصية ، فأشار سبحانه إلى كون هذا الحكم غلطا ، فإن الموصي فعل خيرا ،
وإنما المغير هو الذي يتحمل الإثم.
[١٨٣] ثم استثنى
سبحانه عن حرمة تبديل الوصية ، بأنه إنما يكون حراما ، إذا كان تغيرا من حق إلى
باطل ، أما إذا كان من باطل إلى حق ، فلا إثم في التغيير (فَمَنْ خافَ) وخشي (مِنْ مُوصٍ) أي الذي يوصي (جَنَفاً) أي ميلا عن الحق إلى الباطل ، بأن أوصى أزيد مما يحق له
الإيصاء به (أَوْ إِثْماً) بأن حرم ورثته بإيصائه ، وفي الحديث أن الإثم الخطأ عن عمد
، والجنف الخطأ لا عن عمد (فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ) أي بين الورثة والموصي ، والموصى له ، بأن رد الزائد إلى
الورثة ، وأبطل ما
فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً
____________________________________
فيه الإثم (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي على المبدل للوصية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) بمن يأثم ، فكيف بمن لا يأثم ، وقد ثبت في الشريعة إن
الوصية بما زاد على الثلث لا تنفذ إلا برضى الورثة .
[١٨٤] ثم انتقل
السياق إلى حكم آخر من أحكام الإسلام ـ لما ذكرنا من أن القرآن الحكيم ، بعد بيان
أصول التوحيد ، ذكر جملة من الأحكام ـ فقال سبحانه ، (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) فإنه مفروض عليكم ، فيجب عليكم أن تصوموا (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ) فلستم أنتم وحدكم أمرتم بالصيام ، بل كان الصوم شريعة في
الأديان السابقة أيضا (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) النار بصيامكم ، فالصائم حيث يحس بالجوع والعطش والضعف
يتذكر الله سبحانه فيخبت قلبه وتضعف فيه قوى الشر ، وترق نفسه وتصفو روحه ، وكل
ذلك سبب للتقوى وترك المعاصي.
[١٨٥]
(أَيَّاماً) أي إن الصيام في أيام (مَعْدُوداتٍ) أي محصورات ، فليست أيام كثيرة لا تعد ، وإنما هي ثلاثون
يوما فقط ـ وفيه تسلية للصائم ـ وليس الصيام على كل أحد (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا
__________________
أَوْ
عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
____________________________________
يضره الصوم (أَوْ عَلى سَفَرٍ) فقد شبه السفر بمركوب لغلبة الركوب فيه ، وحد السفر معين في
الشريعة (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فليصم في أيام أخر غير شهر رمضان ، قضاء لما فاته
بالمرض أو السفر (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ) أي يطيقون الصيام ، بأن يكون آخر طاقاتهم وذلك موجب للعسر
، كما لا يخفى ، إذ آخر الطاقة عسر ، أو أن الذي يطيق الصوم كان في أول الشريعة
مخيرا بين الصيام والإطعام ، ثم وجب الصوم وحده ، وذلك للتدرج بالأمة (فِدْيَةٌ) أي الواجب عليهم الفداء بدل الصوم (طَعامُ مِسْكِينٍ) واحد وهو مد من الطعام (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) بأن زاد على طعام المسكين (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون ، الذي يبلغ الصوم طاقتكم (خَيْرٌ لَكُمْ) من الإطعام ، فالإنسان إما أن يضره الصوم ضررا بالغا ، وهو
الذي تقدم أن يفطر ويأتي بعدة من أيام أخر ، وإما أن يشق عليه إلى حد العسر ، وهو
الذي يبلغ منتهى طاقته ، وهذا يخير بين الصيام والإطعام وإن كان الصيام خير ، وإما
أن لا يشق عليه وهو الذي يجب عليه الصيام معينا مما بين في الآية التالية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لعلمتم أن الصيام خير لما فيه من الفوائد التي ليست في
الإطعام ، وليس مفهومه ، إن لم تكونوا تعلمون ، فليس الصوم خير ، بل المفهوم إن لم
تكونوا تعلمون ، لم تعلموا إن الصوم خير.
شَهْرُ
رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى
____________________________________
[١٨٦] الأيام
المعدودات المفروض فيها الصيام هي (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) مما زاد في عظمته وحرمته ، إذ صار زمانا للنزول أعظم دستور
للبشرية إلى الأبد في حال كون القرآن (هُدىً لِلنَّاسِ) يهديهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم (وَبَيِّناتٍ) أي أمور واضحات (مِنَ) جنس (الْهُدى) فليس هدى غامضا يحتاج إلى إثبات ودليل ، بل واضح لائح ،
ومن الهدى بيان لبينات ، إذ يمكن أن يكون شيئا بينا من حيث الشهادة ، أو المعاملة
أو نحوها (وَ) من (الْفُرْقانِ) أي يفرق بين الحق والباطل والضلال والرشاد (فَمَنْ شَهِدَ) أي حضر ولم يغب بالسفر (مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي شهر رمضان (فَلْيَصُمْهُ) إيجابا ، ولما كان الحكم عاما استثنى منه بقوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وإنما كرر تمهيدا لقوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ولذا أمركم بالإفطار في السفر والمرض (وَ) إنما شرع عدة من أيام أخر (لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي عدة الشهر ، فإن في صيامه فوائد لا يدركها إلا من
أكملها ، فإن لم يتمكن من إكمالها في نفس شهر رمضان أكملها خارجه (وَ) إنما شرع الصوم (لِتُكَبِّرُوا اللهَ
عَلى
ما
هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(١٨٥)
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا
دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
____________________________________
ما
هَداكُمْ) أي تعظموه بسبب هدايته لكم إلى دينه وشريعته ، فالصيام سبب
قرب النفس إلى الله سبحانه ، فيأتي منها التكبير عفوا ، وفي التأويل ، المراد به
تكبير ليلة الفطر (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) فالصوم نعمة تستحق الشكر لما فيه من صلاح الدنيا والدين.
[١٨٧] وحيث أن من
عادة القرآن الحكيم أن يخلل الأحكام نفحة موجهة نحو الله تعالى ، ليرتبط الحكم
بالخالق ، وليشع في النفس النشاط والعزيمة ، أتت أية استجابة الدعاء هنا ، بعد طول
من بيان الأحكام ، ثم يأتي بعدة آيات ترتبط بالأحكام ثانية ، بالإضافة إلى أن
استجابة الدعاء تناسب شهر رمضان ، فإنه شهر دعاء وضراعة ، وقد ورد أن سائلا سأل
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كيف ندعوا ، فنزلت (وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)
إليهم ، قرب العلم
والإحاطة والسمع والبصر ، لا قرب الزمان والمكان والجهة ، فإنه سبحانه منزه عن كل
ذلك (أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ) الذي يدعوني (إِذا دَعانِ) ولعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة فإن
«إذا» ظرف ، ويفيد تكرار كلمة «دعا» لتتركز في الذهن تركيزا (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي يطيعوني في أوامري ونواهي ، إذ من يجيب الدعاء ، يستحق
أن يستجيب له الإنسان (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) إيمانا بذاتي وصفاتي (لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ) أي لكي يصيبوا الحق ويهتدوا إليه.
أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ
____________________________________
[١٨٨]
(أُحِلَّ لَكُمْ) الطيبات أيها الصائمون (لَيْلَةَ الصِّيامِ) التي تصومون غدها (الرَّفَثُ) أي الجماع (إِلى نِسائِكُمْ) وإنما عدى ب «إلى» لتعليم معنى الإفضاء ، أي الانتهاء إلى
زوجاتكم بالجماع. وقد روي عن الصادق عليهالسلام في سبب نزول هذه الآية أنه قال : كان الأكل محرما في شهر
رمضان بالليل بعد النوم ، وكان النكاح حراما بالليل والنهار في شهر رمضان ، وكان
رجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقال له مطعم بن جبير ، أخو عبد الله بن جبير الذي كان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ، وفارقه
أصحابه وبقي في أثنى عشر رجلا ، فقتل على باب الشعب ، وكان أخوه هذا مطعم بن جبير
شيخا ضعيفا ، وكان صائما فأبطأت عليه أهله بالطعام ، فنام قبل أن يفطر ، فلما
انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة ، فلما أصبح حضر حفر الخندق
فأغمي عليه ، فرآه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فرق له ، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سرا في شهر
رمضان ، فأنزل الله هذه الآية ، فأحل النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم
إلى طلوع الفجر . (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) فكما أن اللباس يقي البدن وكما أنه ملاصق بالبدن ومحرم
عليه ، كذلك كل من الزوجين بالنسبة إلى الآخر (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ) أيها الصائمون (كُنْتُمْ تَخْتانُونَ) من الخيانة
__________________
أَنْفُسَكُمْ
فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ
اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ
إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ
تِلْكَ
____________________________________
(أَنْفُسَكُمْ) أي كنتم تخونونها بارتكاب المعصية فكأن المرتكب لها يخونها
إذ يسبب لها خسارة ، وكل خائن كذلك يسبب لمن خانه خسارة (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ما كنتم تأتون به من المحرم في جماع أهليكم ليلا (وَعَفا عَنْكُمْ) بالنسبة إلى هذا الحكم فمن الآن (بَاشِرُوهُنَ) أي يجوز لكم جماعهن ليلا والأمر في مقام نفي لا يفيد إلا
الجواز (وَابْتَغُوا ما
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) من الأولاد واللذة المحللة الموجبة للثواب ، وهذا بالنسبة
إلى نسخ الحكم بتحريم الجماع (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) أي يباح لكم الأكل والشرب من أول المغرب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) بيان الخيطين أي يتضح الفجر الصادق الذي هو في وسط الظلام
كخيط أبيض قرب خيط أسود (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ) بالكف عن المفطرات المذكورة في الشريعة ، من أول الفجر
الصادق (إِلَى اللَّيْلِ) وهو المغرب الشرعي ، وهذا بالنسبة إلى نسخ الحكم بتحريم
الأكل والشرب لمن نام قبل أن يفطر (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) أي لا تجامعوا النساء (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ
فِي الْمَساجِدِ) ليلا أو نهارا والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة
ويشترط فيه الصوم ، وأقله ثلاثة أيام بتفصيل مذكور في الفقه ، ومن أحكام الاعتكاف
حرمة مباشرة النساء ليلا ونهارا (تِلْكَ) التي ذكرنا من أحكام
حُدُودُ
اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً
____________________________________
الصيام وغيرها (حُدُودُ اللهِ) التي جعلها لأفعال العباد من الفعل فلا يجوز تركه ، والترك
فلا يجوز إقحامه كحدود المدينة والدار ونحوهما (فَلا تَقْرَبُوها) نهى عن الاقتراب ، مبالغة في النهي عن الاقتحام والمخالفة
كقوله تعالى (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (كَذلِكَ) أي مثل هذا البيان الواضح الذي بين أحكام الصيام وغيره (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) دلائله وأحكامه (لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي لكي يتقوا معاصيه.
[١٨٩] ثم انتقل
السياق إلى تشريع آخر له مناسبة ما ب «الأكل» الذي دار الحديث حوله في مسألة
الصيام (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) بالغصب وما أشبه ، وكان وجه ذكر كلمة «بينكم» أن الآكلين
للغصب ونحوه يتآمرون بينهم في خفاء حتى يبرروا أكلهم (وَتُدْلُوا) الإدلاء أي الإلقاء والإفضاء أي تلقوا (بِها) أي بتلك الأموال (إِلَى الْحُكَّامِ) جمع حاكم ، بمعنى القضاة بعنوان الرشوة والهدية ليأخذوا
جانبكم في أكل المال بالباطل (لِتَأْكُلُوا) علة لتدلوا أي علة
إعطائكم الرشوة أن تأكلوا (فَرِيقاً)
__________________
مِنْ
أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(١٨٨)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
____________________________________
أي قسما (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) بدون حق (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) بأن أكلكم وإرشاءكم باطل وإثم.
[١٩٠] مرت أحكام
كلها تحتاج إلى التوقيت من صيام واعتكاف ومحاكمات وغيرها فناسب أن يأتي تشريع
الأهلة هنا مع الغض عما تقدم من أن المقصود بيان جملة من الأحكام بعد بيان أصول
التوحيد (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (عَنِ الْأَهِلَّةِ) وعن سبب اختلاف الهلال في كل شهر من الهلال إلى البدر ثم
إلى الهلال حتى المحاق أو عن فائدة هذا الاختلاف ولماذا لم يكن القمر كالشمس في
الانتظام (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم (هِيَ مَواقِيتُ) جمع ميقات بمعنى الوقت والزمان (لِلنَّاسِ) في عباداتهم ومعاملاتهم (وَ) ل (الْحَجِ) فمن أقرض إلى شهر أو باع ليقبض الثمن ، أو يدفع الثمن بعد
شهرين ، أو أراد الصيام والإفطار أو الحج في أشهره لا بد وأن يكون له معلم يستند
إليه ولذلك جعل الله الأهلة ، وهذا الجواب ينطبق على السؤال بناء على الوجه الثاني
في معنى «يسألونك» وأما بناء على الوجه الأول وسؤالهم كان عن سبب اختلاف الأهلة ،
فإن القرآن أعرض عن جوابهم لأن عقولهم ما كانت تتحمل الجواب الفلكي ، ولذا عبر عن
ذلك إلى فائدة الأهلة التي هم أحوج إليها ، كما في آية أخرى (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ
ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ) حيث أعرض عن جواب ماهية
__________________
وَلَيْسَ
الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (١٨٩) وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ
____________________________________
المنفق أي محل
الإنفاق لأن هذا هو الذي يترتب عليه الفائدة وهم بحاجة إليه ، وحيث ذكر الحج في
الكلام انتقل السياق إلى ما كان يفعله الجاهليون من أنهم إذا أحرموا لم يدخلوا
البيوت من أبوابها وإنما يدخلونها من ظهورها ، فنهى عن ذلك ، وفي هذا تلميح بأن
السؤال عما لا يهمكم من الأهلة ، مثل إتيان البيوت من ظهورها وكالأكل من القفا (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا) تدخلوا (الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِها) بأن تنقبوا البيوت وتدخلونها من النقب (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) من الله سبحانه بإتيان أوامره واجتناب نواهيه (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) ولو في حال الإحرام (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) أي لكي تفلحوا بالوصول إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
[١٩١] وهنا حكم
آخر من أحكام الإسلام الكثيرة وهو القتال والجهاد ، ولقد كان بين هذا الحكم وبين «الحج»
المتقدم مناسبة ، إذ المشركون قد منعوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الحج عام الحديبية ، فكان على المسلمين أن يستعدوا
للجهاد إن اقتضت الظروف (وَقاتِلُوا) أيها المسلمون (فِي سَبِيلِ اللهِ) لا لحب السيطرة والغلبة كما هو شأن ملوك الدنيا وزعمائها
بل في سبيل إعلاء كلمة الله التي فيها سعادة البشر (الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ)
وَلا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ
____________________________________
لا كل آمن ، فمن
ألقى سلاحه ، وسكن إلى محله ، فإن في قتاله إيجاد فوضى واضطراب لا داعي إليهما (وَلا تَعْتَدُوا) إذا قاتلتم من قاتلكم فإن القتال قتال دفاع ، فلا معنى
للاعتداء وأنتم مرتبطون بالله الذي تقاتلون لأجله فلا يصح الاعتداء من أمثالكم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) فهو الذي يأمر بالعدل والإحسان ، فكيف يحب من اعتدى وبغى؟.
[١٩٢]
(وَاقْتُلُوهُمْ) أي الذين يقاتلونكم (حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي وجدتموهم (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ
حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها ، فمن قاتلكم قتلتموه
ومن أخرجكم من دياركم أخرجتموه جزاء وفاقا (وَالْفِتْنَةُ) التي أثارها الكفار بتفتين المسلمين عن دينهم وإلقاء
الارتياب والشك في قلوبهم ليجلبوهم إلى حظيرة الكفر بعد أن هداهم الله (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) فالقتل يوجب ذهاب الدنيا والفتنة توجب ذهاب الدين ، فمن
تقاتلونهم لا يستحقون عليكم أن يهرجوا بأن المسلمين يشهرون السلاح فإنهم يستحقون
القتل لأنهم بدأوا بالقتال لأنهم فتنوا ، وروي أنها نزلت في مسلم قتل كافرا في
الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك
، فبين سبحانه أن
الفتنة التي تصدر من الكفار أشد من القتل (وَلا تُقاتِلُوهُمْ) أي لا تقاتلوا
__________________
عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١)
فَإِنِ
انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا
عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
____________________________________
الكافرين أيها
المسلمون (عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) أي في الحرم (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ
فِيهِ) ويبدءوا بالقتال (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) بدءوكم بالقتال في الحرم (فَاقْتُلُوهُمْ) هناك (كَذلِكَ) الذي مر من وجوب قتال الكفار حيث وجدوا إلى آخر ما ذكر (جَزاءُ الْكافِرِينَ)
[١٩٣] (فَإِنِ انْتَهَوْا)
عن الكفر بأن أسلموا (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ)
يغفر سيئاتهم حتى التي ارتكبوها قبل إسلامهم من القتال فالإسلام يجب ما قبله (رَحِيمٌ)
بعباده المؤمنين.
[١٩٤]
(وَقاتِلُوهُمْ) أي الكفار الذين يقاتلوكم لا لأجل القصاص فقط بل (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بأن لا يفتن المسلمون عن دينهم (وَيَكُونَ الدِّينُ) والطريقة (لِلَّهِ) فلا يبقى منهج لسواه بأن ينتصر الحق على الباطل وهذان هما
الغاية من إيجاب الدفاع (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَلا عُدْوانَ) أي تعدي بالدفاع والقتال (إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ) الباقين على كفرهم ، أي إذا انتهى المعتدون عن الفتنة
والتعرض لدين الله والتعرض للمسلمين بالأذى والقتال فلا قتال معهم لأن القتال لا
يكون إلا مع الظالمين ، وسمي «عدوانا» تشبيها كما قال سبحانه في الآية المقبلة : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).
الشَّهْرُ
الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
وَأَنْفِقُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
____________________________________
[١٩٥]
(الشَّهْرُ الْحَرامُ) وهو ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب سميت هذه الأشهر
حراما لتحريم القتال فيها (بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ) أي بمقابل الشهر الحرام فمن انتهك حرمة الشهر الحرام
بالقتال فيه لم يحرم قتاله بل يقاتل (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) كما أن الجروح قصاص فمن انتهك حرمة اقتص منه في نفس الشهر
أو المكان الذي انتهكت حرمته ولذا يحارب المحارب في الحرم وفي الشهر الحرام (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) لا أزيد من ذلك وسمي اعتداء لأنه مثل الاعتداء فالتسمية
إنما هي بالمجانسة (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تتجاوزوا الحدود ولا تبالغوا في القسوة والانتقام (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ) فيأخذ بأيديهم في الدنيا ويسعدهم في الآخرة.
[١٩٦]
(وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) فإن الجهاد يحتاج إلى الإنفاق في تجهيز الجيش وهو من أعظم
السبل (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ) أي لا تلقوا أنفسكم بأيديكم (إِلَى التَّهْلُكَةِ) بترك الإنفاق للجهاد حتى يتسلط عليكم العدو (وَأَحْسِنُوا) في إنفاقكم وجهادكم وسائر أموركم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
[١٩٧] ثم يرجع
السياق إلى أحكام الحج الذي ألمح إليه فيما سبق ، لأن
وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ
كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ
أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ
____________________________________
الحج كان في مقام
صلح الحديبية وحج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي ائتوا بها تماما وكاملا بإتيان مناسكهما قربة إلى الله
تعالى لا لأجل رياء أو سمعة أو نحوهما (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) بأن منعكم مانع عن الحج بعد ما أحرمتم فعليكم إذا أردتم
التحلل عن الإحرام أن تقدموا أو تذبحوا ما (اسْتَيْسَرَ) أي ما أمكنكم (مِنَ الْهَدْيِ) الذي قدمتموه إلى الله ، والهدي هو البقر أو الإبل أو
الغنم (وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ) وهو كناية عن التحلل عن الأجسام أي لا تحلقوا (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) الذي قرر في الشريعة من محل الحصى أو مكة أو منى كما فصل
في الفقه (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً) لا يتمكن من أن لا يحلق (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ
رَأْسِهِ) كأن قمل رأسه فيتأذى من هوائه فلا يتمكن من عدم الحلق
فعليه إذا حلق قبل أن يبلغ الهدي محله فدية يقدمها بدل حلقه (مِنْ صِيامٍ) ثلاثة أيام (أَوْ صَدَقَةٍ) لستة مساكين (أَوْ نُسُكٍ) أي شاة يذبحها لأجل تعجيله في الحلق (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من العدو الصاد وكذلك شفيتم من المرض وزال المانع (فَمَنْ تَمَتَّعَ) أي استمتع بالطيب والنساء وسائر الملذات التي يحرمها
الإحرام بسبب إتيانه (الْعُمْرَةَ) فإن العمرة تنتهي سريعا فتحل المحرمات (إِلَى الْحَجِ) أي يكون تمتعه بالملذات إلى أن يحرم
فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
____________________________________
للحج فعليه ما (اسْتَيْسَرَ) أي ما تمكن عليه (مِنَ الْهَدْيِ) إبل أو بقر أو شاة يجب عليه ذبحها في منى أيام العيد (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدي فعليه صيام (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
فِي) أيام (الْحَجَ) من ذي الحجة (وَسَبْعَةٍ) أيام (إِذا رَجَعْتُمْ) إلى بلادكم (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) تكون بدلا عن الهدي (ذلِكَ) التمتع الذي يكون عمرته مقدمة على حجه فرض (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) من كان في أطراف الحرم من كل جانب أثني عشر ميلا أو نحوه
على خلاف ، أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام بأن كان محله عند أقل من ذلك
ففرضه القرآن أو الإفراد وفي كليهما يقدم الحج على العمرة ، والفرق بينهما أن
القارن يعقد إحرامه بسوق الهدي دون المفرد (وَاتَّقُوا اللهَ) في أحكامه أيها المسلمون (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فلا تخالفوا أوامره ونواهيه. والحج يشتمل على فرضين : (عمرة)
هي : «الإحرام والتلبية» ، «والطواف بالبيت» ، «صلاة الطواف» ، «والسعي بين الصفا
والمروة» ، «والتقصير». و (حج) هو : «الإحرام» ، «والوقوف بعرفات» ، «الوقوف
بالمشعر» ، «الإفاضة إلى منى» ، «رمي جمرة العقبة» ، «نحر أو ذبح» ، «حلق أو تقصير»
، طواف الحج وصلاته وسعي وتقصير وطواف النساء وصلاته «طواف النساء» ، «صلاة طواف
النساء» ، «السعي بين الصفا والمروة» ، «طواف
الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ
____________________________________
الزيارة» ، «صلاة
طواف الزيارة» ، «المبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر» ، «رمي الجمار الثلاث
يومي الحادي عشر والثاني عشر» ، وقد أشار الشيخ البهائي إلى هذه الأعمال في بيته
المشهور
أطرست للعمرة
اجعل نهج
|
|
أو وأرنحط رسطر
مر : لحج
|
[١٩٨]
(الْحَجُ) في (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أو أشهر الحج أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة
فلا يجوز تأخيره منها كما كان الجاهلون
__________________
فَمَن
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ
وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللّهُ
وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي
الأَلْبَابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن
____________________________________
يفعلون حيث يؤخرون
الحج ، ونزل فيهم (إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (فَمَنْ فَرَضَ) على نفسه (فِيهِنَ) أي في هذه الأشهر (الْحَجُ) فليعلم أنه لا (رَفَثَ) وهو الجماع (وَلا فُسُوقَ) وهو السباب والمفاخرة (وَلا جِدالَ) قول لا والله وبلى والله (فِي الْحَجِ) أي في حال الإحرام (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) في الحج وغيره (يَعْلَمْهُ اللهُ) ولعل ذكره هنا لكثرة احتياج الحجاج بعضهم إلى بعض في مختلف
الشؤون فأريد التنبيه بأن كل خير يصدر من الإنسان إنما هو بعلم الله سبحانه
فيجازيه على ذلك (وَتَزَوَّدُوا) من الحج زادا للروح (فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوى) وهو يحصل بكثرة هائلة في الحج حيث التجرد والكف عن الملذات
ومقامات الشدائد والصعوبات ، ويحتمل أنها نزلت فيمن لم يكن يأخذ الزاد للحج بادعاء
أنه ضيف الله ثم ليستعطي في الطريق فأمر بأخذ الزاد فإنه قرين بالتقوى دون
الاستعطاء الذي فيه منقصة وذلة وحرمة أحيانا (وَاتَّقُونِ) أي خافوني في أعمالكم فلا تغفلوا ولا تتركوا واجبا (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا أصحاب العقول.
[١٩٩] كانوا
يتأثمون بالتجارة في الحج فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ
__________________
تَبْتَغُواْ
فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ
عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا
هَدَاكُمْ
وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ
(١٩٨) ثُمَّ
أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ
اللّهَ
إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
(١٩٩) فَإِذَا
قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ
____________________________________
تَبْتَغُوا
فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) بالاتجار فإنه ليس بمحرم (فَإِذا أَفَضْتُمْ) منها كما يندفع الماء نحو الوهاد فإن الحجاج يندفعون
كالسيل (مِنْ عَرَفاتٍ
فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وهو الموقف الثاني ووقته بين طلوع الفجر وطلوع الشمس من
يوم العيد (وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ) أي بإزاء هدايته سبحانه إياكم لدينه وما يسعدكم في الدنيا
والآخرة (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ) أي قبل الهدي (لَمِنَ الضَّالِّينَ) عن دينه.
[٢٠٠]
(ثُمَّ أَفِيضُوا) من المشعر إلى منى (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ
النَّاسُ) من قبلكم إبراهيم عليهالسلام وذريته (وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ) اطلبوا غفرانه وعفوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) هكذا يقتضي نظم الآية ، لكن ورد أن قريشا لا يقفون بعرفات
ولا يفيضون منه ويقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه فيقفون بالمشعر ويفيضون منه
، فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منه كسائر الناس.
[٢٠١]
(فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ) أي أديتم أعمالكم فالمناسك جمع منسك
فَاذْكُرُواْ
اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي
الآخِرَةِ
مِنْ خَلاَقٍ (٢٠٠) وِمِنْهُم مَّن
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
(٢٠١) أُولَـئِكَ
لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ
____________________________________
وهو مصدر ميمي
بمعنى العمل (فَاذْكُرُوا اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) فإن أهل الجاهلية كانوا إذا فرغوا من الحج يجتمعون هناك
ويعدون مفاخر آبائهم ومآثرهم ويذكرون أيامهم القديمة وأياديهم الجسيمة فأمرهم الله
أن يذكروه عوض ذكرهم آبائهم ، بل يجب أن يذكروه أكثر وأحسن من ذكر آبائهم فهو
المنعم الحقيقي الذي بيده كل شيء ومنه كل خير ، وهنا يكون المجال واسعا لبيان
نموذجين من الناس منهم من يريد الآخرة ومنهم من يريد الدنيا ولذا قال تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا
آتِنا فِي الدُّنْيا) أي أعطنا من نعيمها ورفاهها وسعادتها ولا يسأل نعيم الآخرة
لأنه غير مؤمن بها إذ كان الحج قبل الإسلام عامّا للمعتقد والمنكر (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي نصيب.
[٢٠٢]
(وَمِنْهُمْ) أي من الناس (مَنْ يَقُولُ رَبَّنا
آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا) من وقى يقي أي احفظنا من (عَذابَ النَّارِ) فهو يسأل نعيم الدنيا ونعيم الآخرة ويتعوذ بالله من النار.
[٢٠٣]
(أُولئِكَ) يسألون خير الدنيا والآخرة (لَهُمْ نَصِيبٌ
مِمَّا كَسَبُوا) لأنهم يستحقون ثواب أعمالهم بخلاف الطائفة الأولى فإن
كفرهم يمنع
وَاللّهُ
سَرِيعُ الْحِسَابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُواْ اللّهَ
فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ
إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(٢٠٣) وَمِنَ
النَّاسِ
مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
____________________________________
عن ثوابهم (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) فلا يظن الإنسان أن الآخرة بعيدة فإنه لا تمر الأيام
والليالي إلا والشخص دفين في التراب وإن طال عمره في الدنيا.
[٢٠٤]
(وَاذْكُرُوا اللهَ) أيها الحجاج (فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ) وهي أيام التشريق في منى (فَمَنْ تَعَجَّلَ) النفر إلى مكة من منى (فِي يَوْمَيْنِ) بأن نفر يوم الثاني عشر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فإنه يجوز النفر بعد زوال الثاني عشر (وَمَنْ تَأَخَّرَ) في النفر فنفر في الثالث عشر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فيجوز كل من الأمرين (لِمَنِ اتَّقى) الصيد في إحرامه وإلا فإن صاد وجب عليه النفر الثاني فلا
يجوز أن ينفر في الثاني عشر (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الحشر هو الجمع والمعنى تجمعون إلى حكم الله وجزائه يوم
القيامة.
[٢٠٥] ثم يلتفت
السياق إلى الإنسان طالحه وصالحه ، ويبين خصائص البشر ، ليعطي درسا لمن أراد
الصلاح والرشاد فيقول سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) للباقته وفصاحته وكلامه المعسول فتستحسن كلامه وتصغي إلى
بيانه (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) أما متعلق ب «قوله» ، أي
وَيُشْهِدُ
اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(٢٠٤) وَإِذَا
تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا
وَيُهْلِكَ
الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ
(٢٠٥) وَإِذَا
قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ
وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (٢٠٦)
____________________________________
قوله في شؤون
الدنيا معجب ، أو متعلق ب «يعجبك» أي أن إعجابك إنما هو في الدنيا ، والأول أقرب (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) كما هو شأن المنافقين أبدا فإنهم حيث يرون نفاقهم يظنون أن
الناس مطلعون على سرائرهم فيؤكدون بأنهم مخلصون وأن ما في قلبهم يطابق ما على لسانهم
(وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصامِ) الألد هو شديد الخصومة والخصام جمع يعني أنه من أكبر
خصمائك في الباطن.
[٢٠٦]
(وَإِذا تَوَلَّى) وأدبر وذهب من عندك (سَعى فِي الْأَرْضِ) من هنا إلى هناك كما هو شأن المشاغب المفسد (لِيُفْسِدَ فِيها) بإثارة الفوضى والاضطراب (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) أي الزراعة (وَالنَّسْلَ) أي الأولاد والذرية فإن إثارة الفوضى يوجب خراب الزراعات
لاشتغال أهلها بالكفاح ، وفناء النسل إذ الشباب دائما يقدمون على الحرب والجلاء (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ).
[٢٠٧]
(وَإِذا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللهَ) في عملك فلا تفسد (أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي حملته عزة وحمية الجاهلية بأن يأثم لأنه لا يرضخ للحق
ولا يعتني به (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي تمكينه جهنم جزاء له (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي محل القرار ، وهذه الآيات نزلت في المنافقين أو في فرد
خاص منهم يسمى
وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ
بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨)
____________________________________
الأخنس بن شريق ،
كان يظهر المحبة للنبي ويبطن الفساد والنفاق ، ولعل وجه ارتباط هذه الآيات بالحج
أن الكلام انتهى هناك حول من يفتخر بالآباء اعتزازا بالنفس وهذا مثلهم في الاعتزاز
والاغترار.
[٢٠٨]
(وَمِنَ النَّاسِ) أي بعض الناس (مَنْ يَشْرِي) أي يبيع فإن كلا من البيع والشراء يجيء بمعنى الآخر (نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لأجل طلب رضاه سبحانه (وَاللهُ رَؤُفٌ
بِالْعِبادِ) يرأف بهم فيجازيهم لعملهم الحسن ، ولعل ذكر الرأفة لأجل أن
هذا البيع يحتوي على أخطاء وأضرار ، ففيه تنبيه إلى أن الله رؤف يجنب البائع
الأخطار والإضرار ، وهذه الآية نزلت في الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام حين نام في فراش الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلة الهجرة.
[٢٠٩] وحين ذكر أن
من الناس من هو منافق ناسب الإرشاد العام فقال سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) باللسان (ادْخُلُوا فِي
السِّلْمِ) مع الله ورسوله في جميع أموركم (كَافَّةً) أي جميعا فاستسلموا للدين في جميع شؤونكم (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بأن تخالفوا أمر الله سبحانه وتتبعوا أمر الشيطان وما يوحي
اليه الهوى (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي عدو ظاهر لأنه يأمر بالمفاسد التي ترجع إلى ذهاب دينكم
ودنياكم.
فَإِنْ
زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ
____________________________________
[٢١٠]
(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) تشبيه للذنب بمن يزل له قدم (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحة على الحق (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ عَزِيزٌ) فلا يمتنع عليه العذاب والعقاب بمن زل (حَكِيمٌ) في فعله ليعفوا عمن يشاء ويعذب من يشاء.
[٢١١] وهنا يعود
السياق إلى من تأخذه العزة فيقول سبحانه (هَلْ يَنْظُرُونَ) النظر بمعنى الانتظار أي هل ينتظر هؤلاء المنافقون (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) حتى يؤمنوا ويقلعوا عن نفاقهم وكفرهم (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ظلل جمع ظلة وهي ما يستظل به من الشمس وسمي السحاب ظلة
لأنه يستظل به من الشمس ، والغمام هو السحاب وقد كانت اليهود تزعم أن الله ينزل في
ظلل من الغمام وكذلك الملائكة معه ولذا قال : (وَالْمَلائِكَةُ) عطفا على «الله» (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي يوم تغيير الكون عن وضعه لا يبقى بعد مجال للتكليف إنما
هو يوم القيامة (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ويكون ذلك اليوم يوم حساب وعقاب وثواب ، لا يوم عمل وشغل ،
فالآية تشير إلى أساطير أهل الكتاب متهكما ساخرا ، ثم يهدد ويوعد بأن الأمر يقضي
فلا مجال بعد التكليف.
[٢١٢] وحيث أشير
إلى أسطورة إسرائيلية ، توجه السياق إلى تأنيب بني إسرائيل الذين كانوا يعاندون في
إنكارهم للآيات (سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) أي أعطيناهم أدلة واضحة ومع ذلك عاندوا
وَمَن
يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ
مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء
بِغَيْرِ
حِسَابٍ (٢١٢) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ
____________________________________
ولم يؤمنوا (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) كفرا فلا يؤمن بآياته (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فليهيئ نفسه لعقابه.
[٢١٣]
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة مقابل الحياة البعيدة وهي الآخرة والتي
زينها لهم هي مجموعة عوامل بعضها حق وبعضها باطل فإن الحياة التي خلقها الله جميلة
تزين نفسها كما أن الشيطان والنفس والهوى تزين الحياة لتصرف الناس عن الآخرة (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) حيث يرونهم منصرفين عنها مقبلين إلى الآخرة ـ التي لا
يعتقد هؤلاء الكفار بها ـ (وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا) من المؤمنين (فَوْقَهُمْ) أي فوق هؤلاء الكفار منزلة ومقاما ورتبة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لأنهم عملوا لها فأدركوا خيرها والكفار لم يعملوا فيبقون
هناك سائلين (وَاللهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) فالرزق في الدنيا ليس بالكفر والتوجه إليها حتى يحرم أهل
الآخرة منها بل الرزق يصيب الكافر والمؤمن ، فالمؤمن منعم في الدنيا وفوق الكافر
في الآخرة.
[٢١٤] إن كل حركة
إصلاحية لا بد وأن تشق صفوف الناس المتصافقة على الفساد وهكذا كان بعث الأنبياء عليهمالسلام فقد (كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ
اللّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ
وَمَا
اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ
آمَنُواْ
لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء
إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
(٢١٣)
____________________________________
للهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ) لمن آمن وأصلح (وَمُنْذِرِينَ) لمن كفر أو عصى (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ بِالْحَقِ) قيد توضيحي إذ كل إنزال من الله بالحق وإنما أكد لمقابلته
لسائر الكتب التي ترسلها رؤساء الحكومات إلى رعاياها فإن منها ما هو حق ومنها ما
هو باطل (لِيَحْكُمَ) ذات الكتاب (بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) من أمور معاملاتهم وسائر معاشراتهم والاختلاف هنا لا ينافي
كون الناس أمة واحدة إذ وحدة الأمة تجتمع مع هذا النوع من الاختلاف ثم صار نفس
الكتاب محلا لاختلاف الأمة فيه ، لكن هذا الاختلاف ليس عن واقع وشك ، لأن الكتاب
واضح بل عن حسد وبغي وطمع (وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ) أي في الكتاب بأن فسره كل حسب نظره وهواه (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي الأمة التي أعطيت الكتاب (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الأدلة الواضحة على معاني الكتاب (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي الاختلاف إنما نشأ من البغي والظلم والحسد الحاصل بينهم
(فَهَدَى اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) حقيقة وأرادوا اتباع أحكام الله واقعا (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) أي للشيء الذي اختلفت الأمة فيه (بِإِذْنِهِ) أي بلطفه بهم حيث هداهم (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إما
أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا
حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا
إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
____________________________________
معناه الإيصال إلى
المطلوب وهو ليس بواجب بالنسبة إلى الجميع وإما معناه إرائة الطريق ومعنى من يشاء
إنه لو لم يشأ لا يهدي أحد ، إذ الهداية لا تكون إلا بإرسال الرسل ، والأول أنسب
بالسياق.
[٢١٥] ثم يسأل
الله المؤمنين الذين وقعوا في متاعب هذا الخلاف حيث يحاربونهم الكفار لأجل أنهم
اهتدوا بهدي الله (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي بل حسبتم وظننتم أيها المسلمون (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) اعتباطا وبلا مشقة وحرج (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ
مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا) أي مضوا (مِنْ قَبْلِكُمْ) أي لم يأتكم بعد امتحان مثل امتحان الأمم المؤمنة السالفة
الذين ثبتوا وصبروا تجاه الأحزان والكوارث وإنما قال «مثل» لأنهم صاروا مثلا للصبر
وتحمل المكاره (مَسَّتْهُمُ) أي لمستهم (الْبَأْساءُ) الفقر (وَالضَّرَّاءُ) المرض والحرج وأشباههما (وَزُلْزِلُوا) أي حركوا بأنواع المحن والبلايا (حَتَّى) وصل الحال إلى أن (يَقُولَ الرَّسُولُ) لتلك الأمم (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) استعجالا للنصر الموعود وتمنيا للخلاص من الشدائد والمحن ،
فاستدرك الأمر وأجيب سؤالهم بأنه (أَلا إِنَّ نَصْرَ
اللهِ قَرِيبٌ) وهذا جواب طبيعي يقوله الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والمؤمنون كلما رأوا البلاء والمحن ، وفي الآية تعبير
المؤمنين وأنهم إنما يفوزون بسعادة الدنيا والآخرة بعد مثل هذه الكوارث والمتاعب.
[٢١٦] ويأتي هنا
دور أسئلة وجهت إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أجاب عنها القرآن
يَسْئَلُونَكَ
ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى
____________________________________
الكريم يجمعها
الإقلاع عن الملذات والصبر على الطاعة وبهذا يرتبط السياق بما قبله حيث كان الكلام
في معرض التضحية في سبيل العقيدة والإيمان وما يأتي نوع من التضحية (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (ما ذا يُنْفِقُونَ) في سبيل الله من أقسام الأموال (قُلْ) ليس لهم الإنفاق فإنه أي شيء كان يقبل إذا كان المنفق عليه
أهلا كما أنه لا يقبل إذا كان المنفق عليه غير أهل فمعيار الإنفاق ليس ماهية
المنفق وإنما شخص المنفق عليه ف (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ) فاللازم أن يكون للوالدين (وَالْأَقْرَبِينَ) أقربائكم (وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وأشباه ذلك مما يقصد به وجه الله سبحانه (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) إنفاق أو غيره (فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ) فيجازيكم بالخير خيرا. وروي أنها نزلت في عمرو ابن الجموح
، وكان شيخا كبيرا كثير المال فقال يا رسول الله بما ذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق
فأنزل الله هذه الآية .
[٢١٧] ثم رجع السياق
إلى الآية السابقة التي فيها ذكر التضحية والزلزال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ) مع من تعدى عليكم أو على العقيدة الصحيحة أو على الناس (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) تكرهونه (وَعَسى)
__________________
أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
____________________________________
بمعنى «قد» وما
بعده فاعله (أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) والقتال من ذلك فإنه يوجب سيادتكم وسعادتكم (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ) وترك القتال كذلك لما فيه من راحة الجسم وعدم اضطراب القلب
لكنه شر لما فيه من زوال السيادة والعزة وتسلط الكفار والأجانب (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه خيركم وشركم (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ).
[٢١٨] بعث رسول
الله بسرية فاتفق أن قاتلت في شهر رجب وهي تترد في أن اليوم الذي حاربت فيه من
جمادى أو رجب ، وشهر رجب من الأشهر الحرم ، ولذا كثر صخب المشركين وإنه كيف يقاتل
الرسول في شهر حرام وأتى وفدهم إلى المدينة يسألون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) بدل شهر أي يسألونك يا رسول الله عن القتال في الشهر
الحرام (قُلْ قِتالٌ فِيهِ) أي في الشهر الحرام (كَبِيرٌ) في نفسه لا يجوز (وَ) لكن ليس كبر ذنبه مثل عظم ذنب ما تفعلونه أنتم أيها
المشركون ف (صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ) أي المنع عنه بأن لا يسلم أحد (وَكُفْرٌ بِهِ) أي بالله سبحانه (وَ) صد عن (الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) لئلا يحج المسلمون (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) أي أهل المسجد الحرام (مِنْهُ) كما فعل المشركون بالنبي والمسلمين (أَكْبَرُ
عِنْدَ
اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ
عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا
____________________________________
عِنْدَ
اللهِ) فكيف تؤاخذون المسلمين بذنب مهما عظم وتنسون ذنوبكم التي
هي أعظم منه (وَالْفِتْنَةُ) التي أنتم تقيمون عليها من تفتين المسلمين عن دينهم
وإغرائهم بالكفر بعد الإسلام (أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ) الذي صدر من المسلمين ، فالقتل يفسد دنيا المقتول والفتنة
تفسد دين المفتتن وأخراه (وَلا يَزالُونَ) أي لا يزال الكفار (يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المسلمون (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَنْ دِينِكُمْ) إلى الكفر (إِنِ اسْتَطاعُوا) أن يردوكم (وَمَنْ يَرْتَدِدْ
مِنْكُمْ) أيها المسلمون (عَنْ دِينِهِ) إلى الكفر (فَيَمُتْ وَهُوَ
كافِرٌ) في مقابل من ارتد ورجع حتى مات مؤمنا (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) والحبط هو الإبطال والإفناء فلا حسنة لهم ولم ينتفعوا
بإيمانهم السابق على الكفر (فِي الدُّنْيا) فليس لهم احترام المسلم وحقوقه (وَالْآخِرَةِ) فلا يجزى بالجنة والثواب (وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد.
[٢١٩] وهناك ظن
أناس أن القاتل في رجب إن سلم من الإثم لم يكن له أجر لأنه انتهك حرمة الشهر
الحرام فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) بأن قطعوا ديارهم وأهليهم وخلفوا أموالهم لأجل أن يكونوا
وَجاهَدُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ
____________________________________
مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَجاهَدُوا) أي أوقعوا أنفسهم بالجهد والتعب ، وأوضح أفراده المقاتلة (فِي سَبِيلِ اللهِ) لكسب مراضيه (أُولئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللهِ) يأملونها في الدنيا والآخرة (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر لمن زل و (رَحِيمٌ) بعباده المؤمنين فلا ينقص أجورهم وإنما قال : «يرجون» لأن الإنسان لا يدري ما حاله
في المستقبل وإنه هل يبقى على الإيمان والصلاح حتى يثاب أم يفتن في دينه حتى يحبط
عمله.
[٢٢٠]
(يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْخَمْرِ) وهي كل مسكر وأظهر أفراده المسكر المتخذ من العنب (وَالْمَيْسِرِ) وهو القمار بجميع أصنافه والسؤال كان عن حكمهما (قُلْ) يا محمد (فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ) أي وزر عظيم لما فيهما من الفساد الكبير (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فإن الخمر تفيد اللذة والطرب وفي الاتجار بها ثمن وربح
والقمار فيه لذة للاعب وربح للفائز (وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) إذ الفساد الذي يسببانه في البدن والعقل والمال أكبر من
اللذة والربح الذي يحصل بسببهما بالإضافة إلى العقوبة الأخروية التي تصيب الإنسان
من جرائها.
(وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (ما ذا يُنْفِقُونَ) وهنا جاء الجواب طبق السؤال وإنه «ماذا» لا إنه «لمن» فقال
(قُلْ) يا محمد (الْعَفْوَ) أي الزائد من المال على النفقة فإن ما بقدر نفقة النفس
والأهل لا ينفق تقديما
كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
____________________________________
لواجبي النفقة على
غيره وهذا الإنفاق مستحب لما دل على حصر الحقوق الواجبة في أمور معدودة (كَذلِكَ) أي هكذا يا رسول الله فإن كذا تشبيه وإشارة والكاف الملحق
بها اللام للخطاب (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ) الأدلة المرتبطة بالتشريعات (لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ) أي لكي تتفكروا.
[٢٢١]
(فِي) أمر (الدُّنْيا وَ) أمر (الْآخِرَةِ) فتجمعوهما في التفكير ثم ترون جمال الأحكام إذ التفكير في
الدنيا فقط يوجب شلل قسم من الأحكام فلما ذا ينفق الإنسان ـ مثلا ـ وهو بحاجة إلى
المال ، كما إن التفكير في الآخرة فقط يوجب شلل قسم آخر من الأحكام فلما ذا لا
ينفق الإنسان جميع أمواله لتحصيل أجر الآخرة وهكذا سائر الأحكام فلا يعرف جمالها
إلا إذا افتكر الإنسان في كلتا الحياتين وعرف المصلحتين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) كيف يعاشروهم فقد ورد أنه لما نزل (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ذهب كل من عنده يتيم ليعزل اليتيم في مأكله ومشربه عن نفسه
لئلا يبتلي بماله واشتد ذلك عليهم فسألوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فنزلت (قُلْ) يا رسول الله (إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ) بأن يصلح الإنسان أموال اليتيم ويعاشره معاشرة المصلحين
بدون أجرة وعوض خير من عزلهم وطردهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) بأن تخلطوا أموالهم
__________________
فَإِخْوانُكُمْ
وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ
إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
وَلا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
____________________________________
بأموالكم وتشاركون
معهم بالنسبة وحفظ المقدار فهم إخوانكم في الإيمان والأخ يعاشر الأخ بالإصلاح
والغبطة (وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فهو عارف بنية المخالطين للأيتام وإنهم يريدون بالمخالطة
الإفساد وأكل مال اليتيم أو الإصلاح والتحفظ على اليتيم حتى يبلغ ويرشد (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي أوقعكم في العنت والمشقة بالنسبة إلى اليتيم بأن يوجب
الاجتناب عن أموالهم واعتزال أموالكم عن أموالهم فحيث أنه لم يفعل ذلك رحمة بكم فلا
تأكلوا أموالهم فسادا وطمعا (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) فهو يقدر ـ بعزته ـ من إعناتكم (حَكِيمٌ) لا يفعل إلا الصلاح وما تقتضيه الحكمة.
[٢٢٢] ثم انتقل
السياق إلى فئة من أحكام الأسرة في النكاح والطلاق وشؤونها ولعل الارتباط العام
بين هذه الآيات والآيات السابقة أنها انتهت إلى حكم اليتيم ، فاللازم بيان العش
الذي يتربى فيه فراخ الإنسان ، وإنه كيف يلزم أن يكون لينشأ الأولاد صالحين أصحاء
جسما وعقلا وعاطفة (وَلا تَنْكِحُوا) أيها الرجال المسلمون النساء (الْمُشْرِكاتِ) سواء كن أهل كتاب أم لا فأهل الكتاب أيضا مشركون كما قال سبحانه
(فَتَعالَى اللهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) (حَتَّى يُؤْمِنَ) ويدخلن في الإسلام (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) تلك
__________________
وَلا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ
مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا
إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ
____________________________________
المشركة لجمالها
أو مالها أو حسبها أو نسبها (وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ) بناتكم أيها المسلمون (حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) تزوجوه بنتكم (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ
وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) ذلك المشرك (أُولئِكَ) المشركات والمشركون (يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ) إما بالتبليغ إلى الشرك وإما بحكم دينهم فإن جليس الإنسان
إذا كان غير متدين لا بد وأن يسري إلى جليسه (وَاللهُ يَدْعُوا
إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي غفران الذنوب (بِإِذْنِهِ) فالمسلمات والمسلمون حين أخذوا مبادئهم عن الله سبحانه لا
بد وأن يدعون بلسانهم أو بحكم دينهم إلى الجنة (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) أحكامه ودلائله (لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لكي يتذكروا ويتعظوا ويرشدوا.
[٢٢٣]
(وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْمَحِيضِ) الحيض والمحيض بمعنى واحد وأنه هل يجوز مقاربة النساء في
حالة الحيض أم لا (قُلْ) يا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (هُوَ) أي المحيض (أَذىً) قذر نجس أو مشقة (فَاعْتَزِلُوا
النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) والاعتزال هو الابتعاد عنهن (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) بالجماع (حَتَّى يَطْهُرْنَ) وينظفن عن الدم (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) عن الدم (فَأْتُوهُنَ) جامعوهن
مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
(٢٢٣)
____________________________________
(مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ) بمقاربتهن من الفرج الذي هو محل الدم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الذين يرجعون كثيرا عن ذنوبهم إلى الندم والاستغفار بمعنى
أنهم كلما أذنبوا تابوا ورجعوا واستغفروا ولعل ذكر التواب بمناسبة أن من زل فقارب
في المحيض يقبل الله توبته وإن تكرر منه إذا ندم ندما حقيقيا وتاب توبة نصوحا (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) بالماء عن الأقذار الباطنية والظاهرية أو بالاستغفار عن
الذنوب.
[٢٢٤]
(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) أي مزرعة ومحترث فكما يحرث الحارث البذر في الأرض كذلك
يحرث الرجل في زوجته (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) وزرعكم (أَنَّى شِئْتُمْ) «أنى» إما زمانية
بمعنى أي وقت شئتم ، باستثناء أيام الحيض التي سبق أنها لا يجوز وسائر ما استثنى
من حال الصوم والإحرام وشبههما ، وإما مكانية أي إتيانها في قبلها من خلفها أو
قدامها أو جانبيها ، أو بمعنى الكيفية باركة ونائمة وقائمة ، أما أن يراد سياق
السبيلان فبعيد عن سياق الآية (وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ) بالولد فإنه يبقى ذخرا لكم ، أو قدموا لأنفسكم بالطاعة حيث
ذكرت أوامر ونواهي (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) والملاقاة هنا بمعنى أنه عليكم حساب الملاقي لملاقيه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بأنهم
وَلا
تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
____________________________________
يفوزون بكل كرامة.
[٢٢٥] وناسب قصة
النساء حلف بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين
امرأته فكان يقول : إني حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله ، فنزلت الآية مما ناسب قصة
العائلة والنساء التي سبقت ، وتأتي ، فقال سبحانه : (وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً) أي معرضا (لِأَيْمانِكُمْ) بأن تحلفوا به (أَنْ تَبَرُّوا) أي لئلا تبروا ، أي تريدون بالحلف عدم البر (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ) أي وعدم التقوى وعدم الإصلاح ، فإن هذه اليمين فاسدة لا
تنعقد (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأيمانكم وأقوالكم (عَلِيمٌ) بأحوالكم ونياتكم.
[٢٢٦]
(لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ) ولا يعاقبكم (بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ) جمع يمين ، ويمين اللغو هو ما يجري على عادة الناس من قول
: لا والله وبلى والله من غير عقد على يمين يقتطع بها مال ولا يظلم بها أحد (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ) أي بحنث يمين نويتم اليمين الحقيقية حين إجرائها (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر الذنب (حَلِيمٌ) يحلم عن العصاة لعلهم يتوبوا ، وتكرار كلمة غفور في كثير
من الآيات لفتح باب التوبة أمام العصاة الذين هم كثيرا ما يعصون عن شهوة ونزوات
وهوى ، فإن
لِلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
____________________________________
الله سبحانه لا
يسد عليهم باب التوبة وإن تكررت منهم المعاصي والذنوب.
[٢٢٧] ثم يرجع
السياق إلى أحكام الأسرة مع مناسبة للحكم مع الحلف فيقول سبحانه : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) والإيلاء هو الحلف على ترك وطي المرأة على وجه الإضرار بهن
(تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ) مبتدأ لقوله «للذين» أي توقف أربعة أشهر جائز للذين يؤلون
من نسائهم وذلك لأن للرجل أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر وبعد ما تم أربعة أشهر خيره
الحاكم بين الوطي والكفارة وبين الطلاق وإن امتنع عن الأمرين حبسه (فَإِنْ فاؤُ) ورجعوا إلى زوجاتهم بالوطي بعد الأشهر الأربعة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لهم بهذا الحلف (رَحِيمٌ) بهم.
[٢٢٨]
(وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ) فطلقوا (فَإِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ) للطلاق (عَلِيمٌ) بالضمائر والنيات.
[٢٢٩]
(وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ) أي يصبرن (بِأَنْفُسِهِنَ) أي يحفظنها عن الزواج ونحوه (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) جمع قرء وهو من ألفاظ الضد يطلق على الحيض وعلى الطهر
والمراد هنا الطهر فإذا طلقت المرأة في طهر لم يواقعها فيه الرجل كان هذا الطهر
وطهران آخران بينهما حيض موجبا لانتظار العدة فإذا رأت الدم الثالث انقضت عدتها (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ
مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي
ذَلِكَ
إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ
حَكُيمٌ
(٢٢٨)
____________________________________
يَكْتُمْنَ) أي يخفين (ما خَلَقَ اللهُ فِي
أَرْحامِهِنَ) من الولد ودم الحيض حتى يبطلن حق الرجعة في الطلاق الرجعي
أو يستعجلن العدة (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يوم القيامة ، فمن آمن بهما لا بد وأن تستقيم حركاته
وسكناته وأقواله وأفعاله ، لأنه يعلم أن الله مطلع عليه وأنه سوف يحاسبه (وَبُعُولَتُهُنَ) أي أزواج المطلقات
الرجعيات (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) إلى أنفسهم (فِي ذلِكَ) أي زمان التربص (إِنْ أَرادُوا) أي البعولة بردهن (إِصْلاحاً) لا إضرارا ، وذلك أن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته
طلقها واحدة وتركها ، حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها وتركها مدة ثم طلقها أخرى
وتركها مدة كما فعل في الأولى ثم راجعها وتركها مدة ثم طلقها أخرى ، وهذا العمل
حرام وإن كان يثبت حكم الرجعة به (وَلَهُنَ) أي حق النساء على أزواجهن (مِثْلُ الَّذِي) للأزواج (عَلَيْهِنَ) فلكل على الآخر حقوق تتكافأ (بِالْمَعْرُوفِ) من العشرة وسائر الأمور (وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَ) زيادة (دَرَجَةٌ) فإن بيده الطلاق وله عليها الطاعة (وَاللهُ عَزِيزٌ) ينفذ أوامره (حَكِيمٌ) جعل أحكامه على طبق المصلحة والصلاح ، ومن المحتمل أن يكون
قوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَ) بيان حال العدة أي أن لكل من الزوج والزوجة حقا على الآخر
في حال العدة مع أن الرجل له فضيلة على المرأة بأن الاختيار إلى الزوج فقط.
الطَّلاقُ
مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ
يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
____________________________________
[٢٣٠]
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فإن للرجل أن يطلق زوجته تطليقتين فالواجب إذا راجعها بعد
التطليقتين إمساك وحفظ لها في حبالته (بِمَعْرُوفٍ) بالعشرة الحسنة (أَوْ تَسْرِيحٌ) وطلاق ثالث (بِإِحْسانٍ) بإعطائها حقوقها وعدم التعدي ، وفوق ذلك إنه يحسن إليها
جبرا لخاطرها المكسور.
(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) أيها الأزواج (أَنْ تَأْخُذُوا) في حال الطلاق والاستبدال (مِمَّا) أي من الذي (آتَيْتُمُوهُنَ) وأعطيتموهن من المهور (شَيْئاً إِلَّا أَنْ
يَخافا) أي الزوجان (أَلَّا يُقِيما
حُدُودَ اللهِ) من حقوق الزوجية (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) من حقوق الزوجية (فَلا جُناحَ) ولا حرج (عَلَيْهِما) أي على الزوجة في البذل وعلى الزوج في قبول البذل (فِيمَا) أي في الذي (افْتَدَتْ) الزوجة (بِهِ) من المال (تِلْكَ) الأحكام المذكورة هي (حُدُودَ اللهِ) وأوامره ونواهيه (فَلا تَعْتَدُوها) ولا تجاوزوها بالمخالفة (وَمَنْ يَتَعَدَّ) منكم ويتجاوز (حُدُودَ اللهِ) ويخالف أوامره ونواهيه (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ)
فَإِنْ
طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ
طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما
حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
____________________________________
[٢٣١]
(فَإِنْ طَلَّقَها) طلاقا ثلاثا (فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ) الطلاق الثالث فإنها تحرم عليه (حَتَّى تَنْكِحَ) المرأة المطلقة ثلاثا (زَوْجاً غَيْرَهُ) ويسمى هذا الزوج محللا (فَإِنْ طَلَّقَها) أي طلق المرأة الزوج الثاني وانقضت عدتها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي على الزوجة والزوج الأول الذي طلقها ثلاث طلقات (أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا) أي الزوجان (أَنْ يُقِيما حُدُودَ
اللهِ) في حسن الصحبة والمعاشرة وإن لم يظنا صح الرجوع لكنه سبب
للمعصية ، والحاصل أن الحكم الوضعي الصحة وإن كان الحكم التكليفي الحرمة كمن يغسل
يده النجسة بالماء المغصوب الذي يوجب طهارة يده لكنه فعل حراما (وَتِلْكَ) المذكورات في باب الطلاق والنكاح (حُدُودَ اللهِ) أوامره ونواهيه (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ) الأمور فإنهم هم الذين ينتفعون بهذه الأحكام.
[٢٣٢]
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي قاربن تمام العدة وإنما عبر بهذا التعبير لأن انقضاء
العدة يعبر عنه بانقضاء الأجل فما يقابله بلوغ الأجل إذا قاربه ، إذ البلوغ الدقي
خارج عن محاورة العرف (فَأَمْسِكُوهُنَ) أي احفظوهن في حبالتكم بالرجوع إليهن في عدة الرجعة (بِمَعْرُوفٍ) الذي يعرفه العقلاء والمشرعون من القيام بحقوق
أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
____________________________________
الزوجة (أَوْ سَرِّحُوهُنَ) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن (بِمَعْرُوفٍ) بإعطاء حقوقهن كاملة من غير إيذاء لهن (وَلا تُمْسِكُوهُنَ) بأن ترجعوا إليهن (ضِراراً) بقصد الإضرار بهن لتطويل العدة أو التضييق في النفقة ـ كما
تقدم ـ (لِتَعْتَدُوا) عليهن وتظلموهن (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) الإمساك بقصد الإضرار (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) لأنه أساء بسمعته عند الناس وعرض نفسه لعذاب الله وسخطه (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) أحكامه وأوامره ونواهيه (هُزُواً) سخرية بأن تستخفوا بها (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) حيث أنعم عليكم بكل نعمه ، التي منها نعمة الزوجة التي
تسكنون إليها وتقضون مآربكم بسببها (وَ) اذكروا (ما أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) فشرفكم بتعلمكم الأحكام وإرشادكم إلى ما يصلحكم ويهيئ لكم
حياة سعيدة (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي بذلك الكتاب ، وهذا إما صفة للكتاب أو جملة مستأنفة (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يفوته عملكم ونيتكم فلا تتعرضوا لسخطه وغضبه.
[٢٣٣]
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن ـ وذلك
فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ
____________________________________
بقرينة : أن ينكحن
ـ (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي لا تمنعوهن ظلما (أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَ) إلى الزوج السابق أو من تريد الزواج به فعلا وسمى زوجا
للأول وربما قيل في وجه النزول أن معقل بن يسار عضل أخته جملاء أن ترجع إلى الزوج
الأول وهو عاصم بن عدي حين طلقها وخرجت من العدة ثم أراد أن يجتمعا بنكاح جديد
فمنعهما من ذلك ، ولو كان كذلك كان المراد بأزواجهن بالمعنى الأول فإنه لا يحق
لأحد أن يمنع المرأة الثيبة في الرجوع إلى زوجها بنكاح جديد (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ) مما أباحه شرع الإسلام من شروط النكاح وآداب العشرة (ذلِكَ) المذكور من تحريم العضل (يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن المؤمن يجتنب سخط الله ويبتغي رضاه (ذلِكُمْ) الذي ذكرنا في باب الزواج (أَزْكى لَكُمْ) أنمى لكم (وَأَطْهَرُ) لنفوسكم فإن في الزواج النسل والتحصن وسير الحياة إلى
الأمام (وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فاتبعوا أوامره وانتهوا عن زواجره.
[٢٣٤]
(وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإن الأم ترضع ولدها سنتين تامتين أربعة وعشرين شهرا (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) التي
وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ
بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ
____________________________________
ندب إليها الإسلام
ومن العلماء من أوجب ذلك (وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ) أي الأب ، وإنما عبر بهذا التعبير إثارة للعاطفة ، له فإن
الأب قد ولد له الولد فاللازم أن يحنو عليه (رِزْقُهُنَ) الإدام والطعام (وَكِسْوَتُهُنَ) اللباس (بِالْمَعْرُوفِ) لدى الشرع والعرف من اللائق بحالها فإن على الأب أن يقوم
بهذه الشؤون ما دامت الأم في الرضاع ، وقد استفاد أكثر المفسرين من هذه الجملة كون
الكلام حول الأم المطلقة وإلا فالرزق والكسوة على الزوج لأجل النكاح لا لأجل
الرضاع (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ
إِلَّا وُسْعَها) فكل من الأب والأم يؤدي واجبه في حدود طاقته فلا تتحمل
الأم الرضاع بلا بدل ولا ينتفع الأب بولده في المستقبل مجانا فسعة هذه أن ترضع
ببدل ، وسعة ذاك أن يدفع الأجر لما يعود نفعه إليه (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها) بأن ترضع مجانا وبلا عوض باستغلال الأب عاطفة الأم للولد
فلا ينفق عليها ، أو بمعنى أن الوالدة لا يؤخذ منها الولد ليعطي للأجنبية غيظا من
الأب عليها فتضر بفراق ولدها (وَلا) يضار (مَوْلُودٌ لَهُ) أي الأب (بِوَلَدِهِ) بأن تستغل الأم عاطفة الأب نحو الولد فتكلفه أكثر من الكسوة
والرزق قبال رضاعها ، أو لا يضر الأب بولده بأن يأخذه من الأم ويعطيه للأجنبية ،
فإن لبن الأم أوفق بالولد ، والأول أقرب إلى السياق (وَعَلَى الْوارِثِ) للأب إذا مات الأب (مِثْلُ ذلِكَ) الرزق والكسوة للأم في حال رضاعها للولد ،
فَإِنْ
أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ
أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا
سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
____________________________________
ولا يخفى أن أجر
رضاع الصبي مما يرثه الصبي من أبيه لدى موت الأب (فَإِنْ أَرادا) أي الأب والأم (فِصالاً) للولد عن الرضاع بأن يفطماه قبل الحولين (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) بأن تشاور الأبوان وتراضيا في فطام الولد قبل العامين وذلك
لئلا يتضرر الصبي إذا استقل أحدهما بالفطام فإن الرضا المتعقب للمشورة لا يكون إلا
إذا كان الانفصال صلاحا (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) أي على الأبوين في هذا الفطام (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) أيها الآباء (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) بأن تستأجروا لهم مرضعات غير أمهاتهم (فَلا جُناحَ) ولا حرج (عَلَيْكُمْ) في ذلك (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المرضعات (ما آتَيْتُمْ) ووعدتم لهن من الأجر (بِالْمَعْرُوفِ) أي تسليما بالمعروف بدون نقصان ومطل ومن ، وهذا شرط تكليفي
لا وضعي ، كما هو كثير في القرآن الحكيم ، لغاية الإلفات إلى لزوم كون الأعمال عن
صدق وإخلاص وتقوى (وَاتَّقُوا اللهَ) في أعمالكم التي منها الأحكام السالفة حول الرضاع (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يغيب شيء عنه ولا تخفى عليه خافية ، فلتكن أعمالكم حسب
مراضيه وأوامره.
[٢٣٥]
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي الرجال الذين يموتون (وَيَذَرُونَ
أَزْواجاً
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُمْ
____________________________________
أَزْواجاً) أي يخلفون زوجاتهم (يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَ) أي يحفظن أنفسهن عن الزواج ولعل في قوله إشارة إلى أن
النفس ولو كانت تطمح نحو الزواج لكن الواجب اصطبارها والتحفظ عليها (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ففي هذه المدة يجب عليها الحداد بترك الزينة والخطبة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) وانقضت المدة (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أيها المسلمون (فِيما فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَ) من الزينة أو الخطبة أو النكاح فإنها ترجع إلى نفسها
والناس مسلطون على أنفسهم (بِالْمَعْرُوفِ) بأن لا تعمل منكرا ينافي الإسلام (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيطلع على أعمالهم ، ولا يفوته شيء من إطاعتكم ومخالفتكم.
[٢٣٦]
(وَ) إذا كانت المرأة في العدة ف (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الراغبون في الزواج منهن (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ
النِّساءِ) بأن تلمحوا إلى رغبتكم في الزواج منهن وتعرضوا على ذلك
تعريضا وإشارة من طرف خفي ، لا تصريحا فإن ذلك خلاف الجو الذي يحيط بالمرأة
المعتدة من الربط الباقي بينها وبين زوجها الأول (أَوْ أَكْنَنْتُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ) بأن أضمرتم إرادة زواجهن بدون أن تصرحوا أو تلمحوا بذلك
فإن الكناية
عَلِمَ
اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ
تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
____________________________________
اللفظية والإضمار
القلبي لا جناح فيهما (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ) أيها الرجال (سَتَذْكُرُونَهُنَ) وهن في العدة إرادة للزواج بهن (وَلكِنْ) لا تصرحوا بالخطبة و (لا تُواعِدُوهُنَّ
سِرًّا) في الخلوة فتبدوا رغبتكم في الزواج بهن في منأى من الناس (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) بالكناية والتلميح لا بالتصريح وذكر ما يقبح ذكره كما كانت
عادة بعض الناس.
(وَلا تَعْزِمُوا) أي لا تقصدوا (عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي إجراء الصيغة التي هي كعقدة تعقد النكاح بين الجانبين ،
وقد نهى عن العزم على ذلك مبالغة ، كقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ) (حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتابُ) الذي كتبناه في باب العدة من أربعة أشهر وعشرا (أَجَلَهُ) أي أمده ، بأن تنقضي العدة (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من عزم النكاح فكيف بما تسرون به من نكاح المعتدة سرا (فَاحْذَرُوهُ) أن تخالفوه (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَفُورٌ) يستر عاجلا فلا يغرنكم ستره (حَلِيمٌ) عليم فلا يعجل بالعقوبة فلا يسبب ذلك جرأتكم على انتهاك
حرماته.
__________________
لا
جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ
____________________________________
[٢٣٧] وبعد بيان
حكم موت الزوج ، يأتي حكم الطلاق ، والطلاق إن كان قبل الدخول ولم يذكر في العقد
مهر فللمرأة المتعة ، وإن كان قبل الدخول وذكر المهر فللمرأة نصف المهر (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأزواج (إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) بالدخول (أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً) «أو» بمعنى الواو
، أي لم يكن شيء من الأمرين لا المس ولا المهر ، ويسمى المهر فريضة لأنه يجب إذا
سمي ، والمعنى أنه يباح الطلاق قبل المس والفرض ، فلا يتوهم أحد أن النكاح لأجل
الوطي فكيف يصح الطلاق قبله (وَمَتِّعُوهُنَ) أي أعطوهن المتعة وهي ما تتمتع به المرأة ويوجب تعويضا
يجبر خاطرها الكسير (عَلَى الْمُوسِعِ) أي الغني يقال أوسع الرجل إذا كثر ماله (قَدَرُهُ) من دار أو خادم أو نحوهما (وَعَلَى الْمُقْتِرِ) أي الفقير يقال أقتر الرجل إذا افتقر (قَدَرُهُ) كخاتم أو درهم أو نحوهما (مَتاعاً
بِالْمَعْرُوفِ) ليس فيه إسراف ولا تقصير (حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون طاعة الأوامر والانتهاء عن الزواجر.
[٢٣٨]
(وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) طلاقا قبل الدخول (وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً) بأن عينتم في النكاح المهر فعليكم أن تدفعوا إلى المرأة
نصف (ما فَرَضْتُمْ) نصف المهر ، هذا هو الحكم
إِلاَّ
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
____________________________________
الواجب (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) أي تعفي المرأة عن نصفها فلا تأخذ شيئا وتهب مالها إلى
الزوج (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) يمكن أن يراد به الزوج بأن يعفو عن نصفه فيعطي للمرأة جميع
مهر المرأة ، وروي أن المراد عفو ولي الزوجة ، فيما إذا كان لها ولي مفروض
كالصغيرة ، أو موكل من قبلها في الكبيرة (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) فإن من يترك حق نفسه تبرعا أقرب إلى التقوى بأن تبقى معصية
الله فلا يطلب ما ليس له (وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) بأن يتفضل بعضكم على بعض فيتنازل عن حقوقه لأجل صاحبه ولعل
الفرق بين العفو والفضل أن العفو هبة جميع حقوقه والفضل هبة بعضها (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على
أعمالكم إن حسنا وإن سيئا.
[٢٣٩] إن القرآن
الحكيم دائما يلطف أجواء الأحكام بتلميح إلى قدرة إله الكون وعظمته ورحمته وغفرانه
ونحوها ليسمو بالنفس ويربط الحكم بالخالق حتى يكون أقرب إلى التنفيذ ، ولما طالت
آيات الأحكام وبالأخص ما له جو كابت حزين من طلاق وموت ونحوهما أتت آيات الصلاة
متداخلة بينها لتشع في النفس الطمأنينة والهدوء (أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) مع مناسبة لهذه الآيات مع الجو العام لما قبلها
__________________
حَافِظُواْ
عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ
(٢٣٨) فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما
عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً
____________________________________
وبعدها حيث تعرضت
لصلاة الخوف والمطاردة ، هذا ما أحتمله أن يكون سببا لذكر هذه الآيات هنا متوسطة
أحكام الموت والطلاق (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ) كلها (وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) خاصة وهي صلاة الظهر لأنها تتوسط بين النهار فإن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يصليها بالهاجرة في مسجد مكشوف فكانت أثقل صلاة عليهم
ولذا لم يكن يحضرها إلا الصف والصفان فقط ، كما ورد عن بعض الصحابة (وَقُومُوا) أيها المسلمون (لِلَّهِ قانِتِينَ) أي داعين فإن القنوت هو الدعاء ، ومنه القنوت في الصلاة
والمراد إما القنوت في الصلاة أو مطلقا.
[٢٤٠]
(فَإِنْ خِفْتُمْ) فلم تتمكنوا من المحافظة على الصلاة بشرائطها وآدابها ،
حيث ابتليتم بالعدو الذي لا يسمح لكم بالصلاة الكاملة فصلوا رجالا جمع راجل أي
مشاة (أَوْ رُكْباناً) جمع راكب أي على ظهور دوابكم (فَإِذا أَمِنْتُمْ) من الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) صلاة كاملة (كَما عَلَّمَكُمْ ما
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من أمور دينكم ودنياكم.
[٢٤١] ثم رجع
السياق إلى تتمة الأحكام السابقة ، بعد ما أشعّت في النفس الاطمئنان وندى الجو
بذكر الصلاة (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) «يتوفون» مجازا
بالمشارفة ، فإنه كثيرا ما يعبر عمن شارف
وَصِيَّةً
لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
(٢٤١)
____________________________________
أمرا بالداخل فيه
، كما يعكس كثيرا فيعبر عن الداخل بالمشارف ، نحو (لا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ) و (لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) فالمراد الذين يقاربون الوفاة ، ولهم زوجات فمن الأفضل أن
يوصوا (وَصِيَّةً
لِأَزْواجِهِمْ) بأن يمتعهن الوصي (مَتاعاً إِلَى
الْحَوْلِ) فيعطي النفقة والكسوة إليهن إلى سنة كاملة (غَيْرَ إِخْراجٍ) أي في حال كونهن غير مخرجات إخراجا عن بيوت أزواجهن (فَإِنْ خَرَجْنَ) عن رغبتهن (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أيها الأولياء (فِي ما فَعَلْنَ فِي
أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) بالزواج والزينة بعد انقضاء عدة الوفاة ـ وهي أربعة أشهر
وعشرا ـ فإن قبل ذلك لا يكون معروفا ، بل منكرا (وَاللهُ عَزِيزٌ) فيحكم بمقتضى عزته وسلطته (حَكِيمٌ) لا يحكم اعتباطا بل عن مصالح وعلل ، وهذه الآية حسب ما
ذكرنا لها من المعنى لا تكون منسوخة بآية (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْراً).
[٢٤٢]
(وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ) يمتعهن الأزواج بشيء سواء كن واجبة النفقة أم لا (بِالْمَعْرُوفِ) فإن ذلك يسبب رفع الغضاضة (حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون مخالفة أوامر الله سبحانه إيجابا كانت أو
ندبا.
كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ
لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو
____________________________________
[٢٤٣]
(كَذلِكَ) الذي بين الله لكم الأحكام (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تعقلوا آياته وأحكامه.
[٢٤٤] ومن جو
الأسرة وامتدادها وانقطاعها ينتقل السياق إلى قصة الحياة والموت التي تشبه قصة
الأسرة في كونها امتدادا للحياة العائلية وانقطاعا لها في قصة عجيبة هي : أن أهل
مدينة من مدائن الشام كانوا سبعين ألف بيت هربوا من الطاعون فمروا بمدينة خربة قد
جلا أهلها عنها وأفناهم الطاعون فنزلوا بها فأماتهم الله من ساعتهم جميعا وصاروا
رميما يلوح ، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له «حزقيل» فبكى واستعبر
وقال : يا رب لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم ، فعمروا بلادك وولدوا عبادك
وعبدوك مع من يعبدك ، فأوحى الله إليه أن يقول الاسم الأعظم فقاله عليهم فعادوا
أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبحون الله ويكبرونه ويهللونه (أَلَمْ تَرَ) استفهام تقريري أي ألم تعلم فإن الرؤية تأتي بمعنى العلم
كقول الشاعر : «رأيت الله أكبر كل شيء» وقد يستفهم بمثل هذا الاستفهام لإيجاد
العلم (إِلَى الَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) سبعون ألفا كما تقدم (حَذَرَ الْمَوْتِ) وفرارا من الطاعون (فَقالَ لَهُمُ اللهُ
مُوتُوا) فأماتهم حيث ظنوا الهرب (ثُمَّ أَحْياهُمْ) بدعاء النبي حزقيل عليهالسلام (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(٢٤٤) مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً
كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
____________________________________
فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ) كلهم بخلقهم ورزقهم وتدبير أمورهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ) نعمه وفضله عليهم بل يقللون فضله بالعصيان.
[٢٤٥]
(وَ) إذ علمتم أن الهروب من الموت لا ينفع ف (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ولا تهربوا خوف الموت (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنياتكم وأعمالكم.
[٢٤٦] إن القتال
بإعطاء المال والنفس في سبيل الله ليس هدرا وإنما المقاتل والعامل للبر ، يقرض
الله بما يذهب منه ثم يرجعه سبحانه إليه ف (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي أيّ شخص ذاك الذي يقرض الله وينفق نفسه وماله في سبيله
قرضا حسنا لا لرياء وسمعة ولا بمنّ وإكراه وسائر ما يشين القرض (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ربما بلغت الملايين وعما ذا تخافون في قرض أموالكم هل من
الفقر؟ (وَاللهُ يَقْبِضُ) فيفقر (وَيَبْصُطُ) فيغني فلا ينفعكم البخل ولا يضركم القرض والسخاء ، أم
تخافون في قرض أنفسكم لله من الموت؟ (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) فيعطيكم أفضل مما أخذ منكم ، قال الإمام أمير
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا
أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا
____________________________________
المؤمنين عليهالسلام لأحد أولاده «أعر الله جمجمتك» .
[٢٤٧] وهنا قصة
حياة أو موت أخرى تناسب القصة السابقة (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم ـ كما تقدم ـ (إِلَى الْمَلَإِ) أي الجماعة (مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) النبي (إِذْ قالُوا
لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو أشموئيل وبالعربية إسماعيل (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أي سلطانا (نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللهِ) تحت لوائه حيث أذلهم الجبابرة وأخرجتهم من بلادهم وقتلتهم
وسبيت ذراريهم ونسائهم وكان النبي في ذلك الزمان ينظم أمور الدين والملك وينظم
أمور الجيش والسلطة (قالَ) النبي (هَلْ عَسَيْتُمْ) أي لعلكم (إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) أراد بذلك أخذ العهد عليهم في المقاتلة إن عيّن ملك لهم (قالُوا) أي قال الملأ في جواب النبي عليهالسلام (وَما لَنا أَلَّا
نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي ليس بإمكاننا أن نترك القتال (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا) أخرجنا الأعداء من بلادنا (وَأَبْنائِنا) أي إخراجنا من أبنائنا حيث قتل بعضهم وسبي البعض ،
__________________
فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ
يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ
بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
____________________________________
فسأل النبي عليهالسلام من الله ذلك ، فاستجاب الله دعاءه وعين لهم ملكا وكتب
عليهم القتال (فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) أدبروا وكرهوا القتال (إِلَّا قَلِيلاً
مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الذين فروا من الجهاد بعد طلب منهم وإلحاح.
[٢٤٨]
(وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ) أشموئيل (إِنَّ اللهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ) وعين عليكم (طالُوتَ مَلِكاً) وكان من أبناء «بن يامين» أخي يوسف عليهالسلام ولم يكن من سبط النبوة ولا من سبط المملكة ، فإن النبوة
كانت في أولاد «لاوي» ابن يعقوب عليهالسلام ، والمملكة كانت في أولاد «يهوذا» ابن يعقوب عليهالسلام (قالُوا أَنَّى) أي كيف (يَكُونُ لَهُ
الْمُلْكُ عَلَيْنا) ويجعل سلطانا وملكا لنا (وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ) لأنا من أسباط النبوة والمملكة (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) فهو فقير لا مال له والملك يحتاج إلى المال ليدير شؤون
السلطة (قالَ) النبي عليهالسلام في جوابهم (إِنَّ اللهَ
اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) والله لا يصطفي إلا من هو الأصلح بحال عباده (وَزادَهُ بَسْطَةً) أي سعة وزيادة (فِي الْعِلْمِ) والمملكة تحتاج
وَالْجِسْمِ
وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
وَقالَ
لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ
سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
____________________________________
إلى علم الملك
ليتمكن به من إدارتها (وَالْجِسْمِ) فهو رجل سمين يهابه الناس ، شجاع يخافه الأعداء وهذه
الأمور هي مقومات الملك لا المال فإن العلم والشجاعة والهيبة تأتي بالمال ، وليس
بالعكس (وَ) ليس كونه من «بن يامين» نقصا فكما جعل الله الملك في بيت «يهوذا»
سابقا يجعله في «طالوت» حالا فإن (اللهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) وليس احتكارا على أحد (وَاللهُ واسِعٌ) قدرة وعطاء فيهب الملك لمن يشاء (عَلِيمٌ) بمصالح العباد فلا يجعل شيئا إلا إذا كان صالحا.
[٢٤٩]
(وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ) أشموئيل زيادة في الدلالة على جعل الله «طالوت» ملكا عليهم
(إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) وأن الله تعالى جعله ملكا (أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ) وهو تابوت أنزله الله على أم موسى فوضعت موسى فيه حين
ألقته في البحر وكان بنوا إسرائيل يتبركون به فلما حضر موسى الموت وضع فيه الألواح
ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة وأودعه يوشع وصيه فلم يزل التابوت بينهم حتى
استخفوا به وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات فلم يزل بنوا إسرائيل في عز وشرف ما
دام التابوت بينهم فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم ثم جعل
رد التابوت عليهم دليلا على أنه جعل الله طالوت ملكا (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) تسكنون
وَبَقِيَّةٌ
مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ
طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ
مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
____________________________________
إليه وتعلمون أنكم
منصورون بسببه ويكون دليلا على ملك طالوت (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا
تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) عصا موسى عليهالسلام والألواح وطست خاص بالأنبياء عليهمالسلام وأشياء أخر ، فإنها وصلت بالإرث إلى آل هذين النبيين
المعظمين وهم جعلوها في التابوت (تَحْمِلُهُ
الْمَلائِكَةُ) حملا واقعيا أو حملا ظاهرا بأن رأى بنوا إسرائيل الملائكة
بين السماء والأرض أتت بالتابوت (إِنَّ فِي ذلِكَ) التابوت الذي رجع إليكم بعد فقده (لَآيَةً لَكُمْ) على كون طالوت ملكا (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) مصدقين ، أي إن كنتم مؤمنين قلبا ، تصدقون ذلك.
[٢٥٠]
(فَلَمَّا) رأى بنوا إسرائيل التابوت صدقوا وانضووا تحت لواء طالوت ،
وتحركوا نحو الجهاد مع أعدائهم ولما (فَصَلَ) خرج وانفصل عن المدينة (طالُوتُ بِالْجُنُودِ) الذين كانوا معه (قالَ) طالوت ممتحنا للجنود حتى يتبين مقدار صبرهم وثباتهم على
المكاره وأنهم إن جازوا من نهر الماء عطاشا يوثق بهم في الحرب وإن لم يسمعوا ولم
يتمكنوا من الصبر على عطش قليل فهم أحرى بأن لا يصبروا أمام السيوف والرماح (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ) ممتحنكم (بِنَهَرٍ) من ماء في طريقكم (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي) ممن يتبعني
وَمَنْ
لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ
فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
____________________________________
ولينصرف (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) أي لم يذق طعم ذلك الماء (فَإِنَّهُ مِنِّي) ويتبعني (إِلَّا مَنِ
اغْتَرَفَ غُرْفَةً) واحدة (بِيَدِهِ) فشربها فقط لا أكثر من ذلك (فَشَرِبُوا مِنْهُ) من النهر (إِلَّا قَلِيلاً
مِنْهُمْ) الذين أطاعوا أمر طالوت فلم يشربوا إلا غرفة واحدة وهؤلاء
الذين أطاعوا هم الذين اتبعوا طالوت إلى الحرب أما من عصاه فلم يتبعه (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ) أي جاوز طالوت النهر (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ) ممن تبعه ولم يشرب الماء إلا غرفة (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ
بِجالُوتَ) وهو رئيس الكفار (وَجُنُودِهِ) لما رأوا من كثرتهم (قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) من أصحاب طالوت ، وفي قوله «يظنون» إشارة إلى أن الظن
بالمعاد كاف في تحفيز الإنسان نحو الجهاد والأعمال الصالحة ، وملاقاة الله كناية
عن القيامة لأنهم يلاقون جزاء الله (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة (قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) أي بنصره (وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ) الذين يصبرون على المكاره ويثبتون عند ملاقاة الكفار ،
وبهذا الكلام شجعوا أنفسهم وأصحابهم لمقابلة جالوت وجنوده.
وَلَمَّا
بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً
وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو
____________________________________
[٢٥١]
(وَلَمَّا بَرَزُوا) أي ظهروا في محل الحرب (لِجالُوتَ
وَجُنُودِهِ) الكثيرة (قالُوا) أي قال طالوت والمؤمنون (رَبَّنا أَفْرِغْ) أي أصبب (عَلَيْنا صَبْراً) لنكون صابرين في الحرب (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) حتى لا نفر (وَانْصُرْنا عَلَى
الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فاستجاب الله سبحانه دعاءهم.
[٢٥٢]
(فَهَزَمُوهُمْ) أي هزم طالوت والمؤمنون ، جالوت والكفار (بِإِذْنِ اللهِ) ونصره (وَقَتَلَ داوُدُ) النبي عليهالسلام وهو أبو سليمان عليهالسلام (جالُوتَ) رئيس الكفار فإن داود أخذ حصاة ورماها بالمقلاع نحو جالوت
فأصابت جبهته وكانت فيها ياقوتة فانتشرت ووصلت إلى دماغه وخر ميتا وهزم الكفار (وَآتاهُ) أي أعطى (اللهِ) داود عليهالسلام (الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ) فصار نبيا وملكا (وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشاءُ) من العلوم الدنيوية والأخروية (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بأن يدفع الكافرين المفسدين بسبب المؤمنين المصلحين (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) لما يوجدون فيها من القتل والحرق والسبي والإفساد (وَلكِنَّ
اللهَ ذُو
فَضْلٍ
عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
(٢٥٢)
____________________________________
فَضْلٍ
عَلَى الْعالَمِينَ) فيدفع الفاسد بالصالح لتبقى الأرض عامرة وينمو الزرع
والضرع.
[٢٥٣]
(تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي تلك التي ذكرت من إماتة الأحياء دفعة وإحياء الموتى
دفعة وتمليك طالوت ونصرة المؤمنين على أعدائهم دلالات الله على وجوده وقدرته وعلمه
وسائر صفاته (نَتْلُوها) نقرؤها (عَلَيْكَ) يا رسول الله (بِالْحَقِ) أي بالصدق فلا كذب فيها وأنزلت لأجل الصدق لا لأجل الباطل
والكذب والغش (وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ) حيث تخبر بهذه الأخبار عن غيب بدلالة الله لك ووحيه إياها
إليك.
تقريب القران الى الأذهان
الجزء الثّالث
من آية (٢٥٤) سورة البقرة
إلى (٩٣) سورة آل عمران
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ
العالمين ، والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد المصطفى وعترته
الطّاهرين.
تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
____________________________________
[٢٥٤]
(تِلْكَ الرُّسُلُ) الذين أشير إليهم في قوله (إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ)(فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ) فهم وإن اشتركوا في أصل الرسالة إلا أنهم مختلفين في
الفضيلة (مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ) إياه وهو موسى عليهالسلام وحيث أن هناك محل سؤال : هل يمكن للإنسان أن يرتقي هذا
المرتقى العظيم حتى يكلمه الله سبحانه؟ ألمحت الآية إلى ذلك قائلة : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) لا درجة واحدة ، حتى سببت تلك الرفعة أن يتمكن من مكالمة
الله مباشرة (وَآتَيْنا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) وأنه لمن تفنن القرآن الحكيم في التعبير حيث لم يصرح باسم
موسى وصرح باسم عيسى عليهالسلام والبينات هي الدلالات الواضحات على نبوته من إحياء الموتى
وإبراء الأكمه والأبرص (وَأَيَّدْناهُ) أي قويناه فإن التأييد بمعنى التقوية (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي روح مقدسة ، كما مر سابقا فلم يكن إنسانا عاديا ولا
خالقا وربا وإنما نبي مؤيد من عند الله سبحانه ، وحيث كان هنا مجال سؤال هو أن
الأنبياء عليهمالسلام حيث أتوا بالدلالات لم يكن مجال لتشكيك الناس فيهم فكيف
تقع الحروب بين الناس حول الأنبياء إثباتا أو نفيا أو إثباتا لنبي دون نبي؟ أتى
السياق مشيرا إلى جواب ذلك (وَلَوْ شاءَ اللهُ) بأن ألجأ الناس واضطرهم على الانقياد والاهتداء (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) أي من بعد الرسل أي بعد مجيء كل واحد منهم
مِنْ
بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ
وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ
____________________________________
(مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي جاءت الناس الأدلة الواضحة (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) أي الناس (فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) بالرسول (وَلَوْ شاءَ اللهُ
مَا اقْتَتَلُوا) تكريرا للتأكيد وأن المشيئة الإلجائية لم تتعلق حول
التشريع وإن تعلقت حول التكوين (وَلكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من إعطاء الاختيار بيد الإنسان ليؤمن من آمن عن اختيار
ويكفر من كفر عن اختيار ليثبت الجزاء والحساب ولم يذكر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لأن الخطاب موجه إليه (وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ).
[٢٥٥] وحيث أن
القتال يحتاج إلى الإنفاق يزاوج القرآن الحكيم في آياته بين الأمرين كثيرا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) من مختلف أنواع الرزق ، ولعل عمومه يشمل مثل التعليم
والشفاعة ونحوها فإن العلم والوجاهة من رزق الله سبحانه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا
بَيْعٌ فِيهِ) حتى يشتري الإنسان نفسه بشيء فينجيها من عذاب الله سبحانه (وَلا خُلَّةٌ) أي صداقة فيراعى الصديق المذنب لأجل صديقه ، أو صداقة بين
الله وبين أحد حتى يراعيه ويغفر ذنبه لصداقته (وَلا شَفاعَةٌ) كشفاعات الدنيا حيث أن الشفيع ينبعث من نفسه فيشفع للمذنب
، فإن هناك لا يشفعون إلا لمن ارتضى
وَالْكافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ
____________________________________
(وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) فليس حرمان الكافر في ذلك اليوم لأجل الظلم من قبل الله
سبحانه بل الكافر هو الظالم الذي استحق العقاب بكفره وظلمه نفسه حيث حرمها من نيل
المثوبة.
[٢٥٦]
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) فالأمور في يوم القيامة كلها بيده لا يشارك فيما يفعل ولعل
هذا هو وجه الارتباط بين هذه الآية والآية السالفة (الْحَيُ) الذي لا يموت فلا يمكن التخلص منه (الْقَيُّومُ) القائم على الأمور يعلمها جميعا فلا يمكن الاختفاء منه.
(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) وهي النوم الخفيف المسمى بالنعاس (وَلا نَوْمٌ) وقدم الأول لتقدمه في الخارج (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو الخالق والمالك الوحيد الذي لا يشاركه أحد ، والظرف
هنا يتبع المظروف فليست السماوات والأرض خارجتين عن الملكية (مَنْ ذَا) أي أي شخص (الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ) يوم القيامة (إِلَّا بِإِذْنِهِ) استفهام إنكاري فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ) أي ما يقدمون من أعمال خير وشر وما يخلفون من بعدهم كبناء
مدرسة أو مخمر يبقيان بعده (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أي بما يعلمه من الماضي والحاضر والآتي (إِلَّا بِما شاءَ) أي
وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (٢٥٥) لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى
____________________________________
بما أراد من اطلاع
الناس عليه فإن علم الشخص حتى بالضروريات مما تتعلق به مشيئة الله سبحانه فإنه هو
الذي جعل الإنسان بحيث يعلم الأمور في الجملة (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الكرسي كناية عن السلطة والملكية يقال : كرسي فلان يسع
العراق إذا كان ملكا عليها ، أي أن سلطة الله سبحانه تشمل جميع الكون ، فإنه لا
يخلو من سماء وأرض (وَلا يَؤُدُهُ) أي لا يشق عليه تعالى ، من آده يأده ، إذا أثقله وجهده (حِفْظُهُما) أي حفظ السماوات والأرض بالتربية والتنمية والإصلاح (وَهُوَ الْعَلِيُ) أي الرفيع مقاما (الْعَظِيمُ) الشأن.
[٢٥٧]
(لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) فإن الله لم يلجأ الخلق إلى اعتناق الدين بل جعل فيهم
الاختيار والإرادة فإن شاءوا دانوا وإن لم يشاءوا لم يدينوا (قَدْ تَبَيَّنَ) أي وضح (الرُّشْدُ مِنَ
الْغَيِ) أي الهداية من الضلالة والإيمان من الكفر والحق من الباطل (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) وهو كل ما يعبد من دون الله (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) وحده ، وقدم نفي الكفر لأن النفي مقدم على الإثبات كما قدم
في كلمة «لا إله إلا الله» (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) أي تمسك واعتصم وأخذ (بِالْعُرْوَةِ) وهي «المسكة» لمثل الكوز (الْوُثْقى) أي الوثيقة التي لا تنفصل فقد شبه الخير بإناء للسقي
لا
انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
اللهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ
إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
____________________________________
أو الطعام له عروة
فالإيمان بالله عروة وثقى للخير لأنه (لَا انْفِصامَ لَها) ولا انقطاع بل تدوم الاستفادة من الخير بسبب الإيمان في
الدنيا والآخرة بينما الإيمان بالطاغوت عروة واهية تنفصم إذا فارق الإنسان الحياة
الدنيا ينقطع الخير الذي يناله الإنسان ـ فرضا ـ بسبب الكفر (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنياتكم وأعمالكم.
[٢٥٨]
(اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا) يلي أمورهم وينصرهم ويعينهم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ) ظلمات الحياة ومشاكلها ، من ظلمة العقيدة ، وظلمة القول
وظلمة الدنيا كلها (إِلَى النُّورِ) نور الهداية ، ونور الآخرة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي أن جنس الطاغوت يكون أولياء لهم ، فإن الطواغيت من الجن
والإنس يتولون أمورهم وضلالهم وحيث أن الطاغوت أريد به الجنس جاز الإتيان بصيغة
الجمع في «أوليائهم» صفة له (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ) الكامن في فطرتهم ، ومن نور الدنيا (إِلَى الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر والظلال في الدنيا وعذاب الله في الآخرة (أُولئِكَ) الذين كفروا (أَصْحابُ النَّارِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد فلا منجي لهم ولا مخلص
[٢٥٩] سبق الحديث عن الإيمان والكفر ،
فلتناسب المقام قصة حوار
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ
إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ
فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ
____________________________________
حول هذا الموضوع
بين إبراهيم عليهالسلام ونمرود (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم ، وقد
تقدم أن هذه العبارة تذكر لإفادة العلم (إِلَى الَّذِي حَاجَ) من المحاجة بمعنى المجادلة والمخاصمة (إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) أي في باب رب إبراهيم عليهالسلام الذي كان يعبده ، أو رب الذي حاج وإن كان الأول أقرب (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي حيث أن الله أعطى نمرود الملك والسلطة بطر فأنكر وجود
الخالق وجعل يجادل نبيه إبراهيم عليهالسلام حول وجود الله سبحانه فقد قابل الإحسان بالإساءة (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) في جواب نمرود حيث قال له : من ربك؟ والمراد بالإحياء إحياء
الجماد فإن كل حي أصله التراب والماء إذ التراب بسبب الماء ينقلب عشبا والعشب
ينقلب نطفة إنسانا أو حيوانا (قالَ) نمرود (أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ) فأخرج نفرين من حبسه وضرب عنق أحدهما وأطلق الآخر وكان هذا
مغالطة من نمرود إلا أن إبراهيم عليهالسلام أراد أن يلزمه بحجة لا يتمكن حتى من المغالطة فيها ف (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) هكذا يظهر للأبصار سواء دارت هي أو دارت الأرض كما يقوله
بعض علماء الفلك (فَأْتِ بِها مِنَ
الْمَغْرِبِ) إن كنت إلها خالقا (فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ) أي تحير
وَاللهُ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨) أَوْ كَالَّذِي
مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ
اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ
لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ
عامٍ
____________________________________
نمرود ولم يحر
جوابا (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بتعاميهم عن الحق فإنه سبحانه لا يلطف
لطفه الخاص بمثل هؤلاء وإن أتم عليهم الحجة وأراهم الطريق.
[٢٦٠]
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ) أي ألم تر إلى الذي مر على قرية ، والمعنى إن شئت فانظر
إلى الذي حاج وإن شئت فانظر إلى الذي مر على قرية وهو عزيز النبي عليهالسلام أو أرميا (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) أي ساقطة حيطانها على سقوفها وأهلها موتى والسباع تأكل
الجيف ففكر في نفسه ساعة (قالَ أَنَّى) أي كيف (يُحْيِي هذِهِ) الأموات (اللهُ بَعْدَ
مَوْتِها) وكان ذلك منه تعجبا لا إنكارا (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) حتى بلي ونخرت عظامه (ثُمَّ بَعَثَهُ) أحياه كما كان (قالَ) الله سبحانه له بإيجاد صوت في الجو (كَمْ لَبِثْتَ) في مبيتك ومنامك (قالَ) النبي (لَبِثْتُ يَوْماً) ثم نظر فإذا هو نام صباحا والآن قبل غروب الشمس فأضرب
قائلا (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قالَ) الله سبحانه (بَلْ لَبِثْتَ
مِائَةَ عامٍ) وقد كان معه طعام وشراب وحمار ، فكان الطعام والشراب باقيين
كما هما وكان الحمار قد مات وتفرقت عظامه ونخرت دلالة على كمال قدرة الله
فَانْظُرْ
إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى
____________________________________
سبحانه (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم تغيره السنون ، والإتيان بلفظ المفرد باعتبار كل واحد
منهما (وَانْظُرْ إِلى
حِمارِكَ) كيف مات ونخرت عظامه (وَلِنَجْعَلَكَ) أيها الرسول (آيَةً لِلنَّاسِ) أي حجة حيث أحييناك بعد مائة عام حتى يعرف الناس أن الله
قادر على بعث الأموات (وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ) لحمارك المتفتتة (كَيْفَ نُنْشِزُها) أي كيف نرفع بعضها إلى بعض لنركب منها الهيكل العظمي
للحمار (ثُمَّ نَكْسُوها) أي نلبس العظام (لَحْماً) حتى يستوي حمارا حيا (فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ) أي وضح له إحياء الأموات عيانا (قالَ) النبي عليهالسلام (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي علما عيانا وإلا فقد كان يعلم ذلك قبل السؤال.
[٢٦١]
(وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فإنه عليهالسلام رأى جيفة تمزقها السباع فيأكل منها سباع البر وسباع الهواء
ودواب البحر فسأل الله إبراهيم عليهالسلام فقال : يا رب قد علمت أنك تجمعها من بطون السباع والطير
ودواب البر فأرني كيف
قالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
____________________________________
تحييها لأعاين ذلك
(قالَ) الله سبحانه (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) على نحو استفهام التقرير ، ليقول آمنت ، كقولهم : «ألستم
خير من ركب المطايا» (قالَ) إبراهيم عليهالسلام (بَلى) أنا مؤمن (وَلكِنْ) أسأل ذلك (لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي) ويكون يقيني عين اليقين فإن الإنسان الذي يعلم أن النار ـ مثلا
ـ حارة ، يسمى ذلك علم اليقين ، فإذا رآها سمي حق اليقين ، فإذا أدخل يده فيها
فاحترقت سمي عين اليقين ، وورد أنه عليهالسلام علم أن الله يتخذ عبدا له خليلا إذا سأله إحياء الموتى
أحياها فأراد أن يطمئن أنه هو (قالَ) الله سبحانه (فَخُذْ أَرْبَعَةً
مِنَ الطَّيْرِ) الطاووس والحمام والغراب والديك فاذبحهن وقطعهن واخلطهن
بعضا ببعض (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) من صرته بمعنى قطعته و «إليك» إنما هو من مستلزمات القطع ،
فإن الإنسان إذا أراد أن يقطع شيئا قطعا جيدا ويخلطه لا بد وأن يجذبه إليه ولعله
كناية عن القطع الجيد والتخليط البالغ (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى
كُلِّ جَبَلٍ) من عشرة جبال (مِنْهُنَّ جُزْءاً) وإنما ذلك يدل على أن الأجزاء الميتة تجتمع من محلات
متباعدة وقت الحشر (ثُمَّ ادْعُهُنَ) بأن تأخذ بمنقار كل واحد من الطيور الأربعة في يدك وتدعوه
باسمه (يَأْتِينَكَ) تجتمع الأجزاء من الجبال (سَعْياً) مسرعات (وَاعْلَمْ أَنَّ
اللهَ عَزِيزٌ) لا يمتنع عليه شيء (حَكِيمٌ) فيما يفعل فلا يفعل شيئا اعتباطا وعبثا ، ففعل إبراهيم عليهالسلام ذلك فتطايرت
مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ
يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا
مَنًّا
____________________________________
الأجزاء بعضها إلى
بعض حتى استوت الأبدان وجاء كل بدن حتى نظم إلى رقبته ورأسه فأطلقها إبراهيم عليهالسلام فطرن فالتقطن الحب وشربن الماء ثم دعون لإبراهيم عليهالسلام.
[٢٦٢] تقدم الكلام
في الآيات السابقة عن من يقرض الله قرضا حسنا ، ثم تخلل الكلام دليل التوحيد
والرسالة والمعاد والآن يرجع السياق إلى الإنفاق (مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لا رياء أو سمعة وشهرة ونحوها (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) من الحنطة أو الشعير أو نحوهما (أَنْبَتَتْ) أي أخرجت (سَبْعَ سَنابِلَ) جمع سنبلة وهي مجمع الحبات (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ) فتكون النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف (وَاللهُ يُضاعِفُ) أي يزيد كل سبعمائة (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده من المنفقين (وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) يسع علمه وقدرته فيعلم المنفق والإنفاق ، وقد مثل الإنفاق
بهذا ليكون أوقع في النفس وأكثر في التأثير والتشويق.
[٢٦٣] ثم ذكر شرطا
آخر للإنفاق المثمر الموجب للأجر بقوله تعالى :
(الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ) أي لا يعقبون (ما أَنْفَقُوا مَنًّا) على المعطى له بأن يمن عليه في إنفاقه كأن يقول له : إني
وَلا
أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ
____________________________________
أعطيتك فكن شاكرا (وَلا أَذىً) بأن يؤذى المعطى له ، كأن يقول : ابتليت بفلان الفقير (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وجزاء إنفاقهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العذاب لأن من ينفق هكذا يكون مخلصا في جميع أعماله ،
أو لا خوف عليهم من فوت الأجر (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) وهو يحتمل الأمرين مثل ـ لا خوف ـ.
[٢٦٤]
(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) بأن يرد به السائل ، نحو الله يعطيك (وَمَغْفِرَةٌ) أي تجاوز عن السائل فيما إذا أساء (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) لأن الصدقة كذلك تجرح قلب السائل دونهما ، ولأنها تتبع
العقاب ، لأن هكذا صدقة محرمة ، بخلافهما (وَاللهُ غَنِيٌ) فلا يحتاج إلى صدقاتكم أيها المعطون ، وإنما أنتم تحتاجون
إليها ، فحث الله بالإنفاق لكم ، لا له (حَلِيمٌ) حليم عن عقابكم بسبب صدقاتكم التي يتبعها الأذى.
[٢٦٥]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِ) على السائل (وَالْأَذى) له فإن فيها إبطالا للصدقة من حيث الثواب فلا ثواب لها عند
العرف لأن مثل هذه الصدقة لا تحسب جميلا وإنما قبيحا بشعا ، فإن من يبطل صدقته
بالمن والأذى فهو (كَالَّذِي يُنْفِقُ
مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) لأجل
وَلا
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ
تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا
كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
____________________________________
أن يراه الناس
فيمدحوه (وَلا يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بأن يكون الداعي له إلى التصدق أمر الله سبحانه أو ثواب
الآخرة (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) الصفوان : الحجر الأملس ، والوابل : المطر الشديد الوقع ،
والصلد من الأرض ما لا ينبت شيئا لصلابته ، فإن الإنسان الكافر كالحجر الصلب الذي
لا يرجى منه خير ، وما يتحفظ به ظواهره بمنزلة تراب على الحجر يظن الناس أنه محل
قابل للنبت ، والصدقة التي يرائي بها كالمطر الشديد ، فإنه إذا نزل بأرض صالحة كان
مبعث الخير والنبات لكنه إذا نزل على الحجر المغطى بالتراب أزال ترابه وأظهر
صلادته وعدم قبوله لأي إنبات أو عشب ، وكذلك الكافر الذي يظن به الناس بعض الخير
إذا أنفق رياء ظهر على الناس حقيقته المنحرفة فتكون الصدقة ـ التي هي بذاتها سبب
الخير والرحمة ـ معرية لحقيقة الكافر البشعة ، ومن ناحية أخرى أنها توجب سخط الله
عليه أكثر من ذي قبل فتكون مذهبة لما يظن أنها حسنة له من بعض أعماله الخيرية
السابقة (لا يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) من مكاسبهم السابقة لأن الصدقة برياء ذهاب بها كما أن
المطر يذهب بالتراب فلا يمكن إرجاعه وجمعه (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) فلا يلطف بهم اللطف الخاص لأنهم أسقطوا أنفسهم عن القابلية
لجحودهم بعد أن عرفوا الحق.
وَمَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها
ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
____________________________________
[٢٦٦]
(وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي لأجل طلب رضى الله سبحانه (وَتَثْبِيتاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) أي لأجل تثبيت أعمالهم الحسنة وتركيزها ، تثبيتا ناشئا من
أنفسهم فأنفسهم هي التي توصي بذلك ، لا كالمرائي الذي يحمله على الصدقة رؤية الناس
، فهذه الجملة «من أنفسهم» مقابل جملة «رئاء الناس» في الآية السابقة (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) أي بستان مرتفع (أَصابَها وابِلٌ) مطر غزير (فَآتَتْ) أي أعطت (أُكُلَها) وثمرها (ضِعْفَيْنِ) فإن الإنسان المؤمن كالبستان الواقع في مرتفع يزهو للناس
ويكون أقرب إلى الاستفادة من الهواء والشمس والمطر ، فإن المؤمن أقرب إلى الخير
فإذا تصدق تكون صدقته كالمطر الذي إذا نزل بالبستان يوجب نمو ثمارها وازدهار
أشجارها (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها
وابِلٌ) مطر غزير فيكفي لإثمارها وإنضارها طل رذاذ من مطر قليل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيجازيكم على أعمالكم إن رياء وإن قربة.
[٢٦٧] ولما مثل
سبحانه لصدقة كل من المؤمن والكافر ، مثل لصدقة المؤمن الذي يمن بصدقته فيبطلها (أَيَوَدُّ) أي هل يحب (أَحَدُكُمْ أَنْ
تَكُونَ
لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ
فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ
فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
____________________________________
تَكُونَ
لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تحت أشجارها (لَهُ فِيها) أي في تلك الجنة (مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) أي الشيخوخة (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفاءُ) عاجزون عن كسب المأكل والملبس (فَأَصابَها) أي أصاب الجنة (إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ
فَاحْتَرَقَتْ) كلا لا يحب أحد ذلك إنه في أشد أوقات حاجته ، فهل يرضى
إصابة النار بأثمن ما يملك؟ إن مثل من ينفق عن إيمان واعتقاد مثل تلك الجنة ، فإذا
امتن بعد ذلك أو آذى السائل ، يكون ذلك نارا تحرق جنته في أشد أوقات حاجته ، فالإنسان
في أشد الحاجة إلى خيره في الآخرة ، فإذا امتن بقي صفر اليدين هناك (كَذلِكَ) أي كهذا البيان الذي بين أمر الصدقة وغيرها (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) بضرب الأمثال والمشوقات (لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ) فتستقيموا على الصراط المستقيم.
[٢٦٨]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) طيبا واقعيا بكونه حلالا وظاهريا بكونه جيدا و (مِنْ) طيبات ما (أَخْرَجْنا لَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ) أي
وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
____________________________________
طيب مكسبكم وطيب
ثماركم ، فلا تنفقوا من الربا ولا من الماء الآجن ولا من حشف التمر ـ مثلا ـ (وَلا تَيَمَّمُوا) أي لا تقصدوا (الْخَبِيثَ) الحرام الرديء (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) للناس (وَ) الحال أنكم (لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) فإن أراد أحد إعطائكم من ذلك ما كنتم تأخذونه (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي تغمضوا عيونكم كراهة له ، فالإنسان إذا استبشع شيئا غمض
عينه حتى لا يراه ، فكيف تنفقون مثل هذا الشيء الذي إذا أردتم أخذه غمضتم عينكم استبشاعا
له (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ غَنِيٌ) عن صدقاتكم فلا يأخذ إلا الطيب ولا يقبل إلا الحسن (حَمِيدٌ) أي مستحق للحمد على نعمه ، ومن حمده أن يعطي الإنسان الشيء
الطيب في سبيله ، فالإنسان إذا أراد تقدير شخص دفع إليه أحسن ما يتمكن ، لا أنه
يدفع الرديء الخبيث.
[٢٦٩]
(الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) إذا أردتم الإنفاق في سبيل الله (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) إذا أردتم الإنفاق يقول لكم : أنفقوا من الرديء الخبيث ،
وهو قسم من الفحشاء ، أو المراد به الأعمال القبيحة مطلقا ، (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) فإنه يغفر ذنوبكم بسبب الصدقة وسائر المبرات (وَفَضْلاً) فيخلف ما أنفقتموه (وَاللهُ واسِعٌ) ليس ضيق المقدرة حتى لا يتمكن من التعويض (عَلِيمٌ) بما تعطون فيجازيكم بالحسن
يُؤْتِي
الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
وَما
أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ
____________________________________
حسنا وبالسيئ
سيئا.
[٢٧٠] إنّ الإنفاق
في سبيل الله من الطيب بلا رياء ولا منّ ولا أذى من الحكمة التي هي وضع الأشياء
موضعها اللائق والله سبحانه (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشاءُ) ممن له قابلية بما سبق أن أخذ بالشريعة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وأي خير أعظم من أن يعمر الإنسان دنياه وعقباه بأخذه
بأوامر الله سبحانه وانتهاجه المنهج المستقيم الموجب لسعادة النشأتين (وَما يَذَّكَّرُ) أي ما يتذكر ولا يفهم ذلك (إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) أصحاب العقول فصاحب العقل هو الذي يتبع ما ينفعه ويذر ما
يضره.
[٢٧١]
(وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ) قليلة أو كثيرة أي أية صدقة تصدقتم بها (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) أي ما أوجبتموه على أنفسكم لله بسب النذر (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) فيجازيكم عليه ويكون ذلك سببا للإحسان إلى النفس (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالشح ومنع الصدقات الواجبة وحنث
النذر والمن والأذى والرياء في الصدقة (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم ويخلصونهم من عقاب الله سبحانه.
[٢٧٢]
(إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (الصَّدَقاتِ) حين إعطائها ، بأن تعطوها
فَنِعِمَّا
هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
(٢٧١) لَيْسَ
عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ
____________________________________
جهرا ، بقصد
القربة لا بقصد الرياء (فَنِعِمَّا هِيَ) أي فنعم الشيء الصدقة الظاهرة فإنها توجب دفع التهمة
واقتداء الناس (وَإِنْ تُخْفُوها) أي الصدقات (وَتُؤْتُوهَا) أي تعطوها سرا (الْفُقَراءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ) لأنه أقرب إلى القربة وأبعد عن الرياء وأحفظ لصون ماء وجه
الآخذ (وَيُكَفِّرُ) أي يغفر (عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئاتِكُمْ) أي بعض ذنوبكم بواسطة إعطاء الصدقة فإن صدقة السر تطفي غضب
الرب (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم على أعمالكم ، فليس التصدق سرا غائبا عن الله
سبحانه بل هو بكل شيء عليم.
[٢٧٣] امتنع بعض
المسلمين عن التصدق إلى غير المسلم فنزلت (لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ) فإنك لست مجبورا بأن تهديدهم وإنما عليك الإرشاد والبلاغ (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إلى الصراط المستقيم ، بإراءته الطريق ، أو بإيصاله
المطلوب (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) فإن نفعه الدنيوي والأخروي يعود إليكم (وَما تُنْفِقُونَ) أي ليس إنفاقكم (إِلَّا ابْتِغاءَ
وَجْهِ اللهِ) أي لأجله سبحانه ، وأي شيء أحسن من أن ينفق الإنسان في
سبيل خالقه ومنعمه والمتفضل عليه (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ
فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا
يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً
____________________________________
خَيْرٍ
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي يوفر عليكم
جزاءه وثوابه (وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ) فتعطون جزاء إنفاقكم كاملا غير منقوص ، فالإنفاق لأنفسكم ،
وثوابه يعود عليكم ، وهو في سبيل الله وما أجمل أن يعطي الإنسان شيئا يعود نفعه
إليه ثم يثاب به في الآخرة ، ويرضى الله سبحانه عنه بذلك.
[٢٧٤] ولما بين
الله سبحانه فضل الصدقة عقبه بأحسن مصارفها بقوله سبحانه : (لِلْفُقَراءِ) أي أن النفقة لهؤلاء (الَّذِينَ أُحْصِرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ) أي منعوا والذي منعهم هو أنفسهم ، لأجل سبيل الله وإطاعته
، فقد نزلت الآية في أصحاب الصفة الذين تركوا كل شيء لأجل الإسلام وأحصروا أنفسهم
للعبادة والجهاد بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي ذهابا فيها وعدم الاستطاعة اختيارية لا اضطرارية (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) أي يظنهم الذي يجهل حالهم وباطن أمرهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) الامتناع من السؤال فإن الناس إذا رأوا تعففهم ظنوهم
أغنياء لما عهدوا من سؤال الفقراء (تَعْرِفُهُمْ) أي تعرف إنهم فقراء (بِسِيماهُمْ) أي من وجوههم وأحوالهم يكون الفقر عليها باد (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أي كما هو شأن كثير من الفقراء ، بمعنى أنه ليس منهم سؤال
فيكون إلحافا ،
وَما
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
(٢٧٣)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ
____________________________________
لا إنهم يسألون من
غير إلحاف (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ) كل شيء يطلق عليه الخير من دار أو عقار أو درهم أو دينار
أو غيرها (فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ) لا يفوته شيء فيجازيكم جزاء حسنا.
[٢٧٥]
(الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) بالليل سرا وعلانية وبالنهار سرا وعلانية (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إن الآية وإن كانت عامة إلا إنها نزلت في علي عليهالسلام حيث كانت له أربعة دراهم فتصدق باثنين منها نهارا سرا
وعلانية وباثنين ليلا سرا وعلانية ، وقد تقدم معنى (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
[٢٧٦] وحيث كانت
الآيات حول الإنفاق ، ناسب السياق ذكر الربا ، فإنه عكس الإنفاق إذ هو استيلاء على
أموال الناس من غير مبرر ، بخلاف الإنفاق الذي هو إعطاء ماله للناس من غير مكسب
وتجارة (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا) وأكله كناية عن أخذه وإن لم يتصرف فيه (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) الرجل الذي مسه
__________________
ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبا
____________________________________
الشيطان فصرع
وتغير حاله ودارت عينه وزال توازن جسده وزبد فمه إذا أراد أن يقوم لبقية ما فيه من
الشعور يقوم بعض القيام بكل انحراف وتأرجح ثم يسقط على الأرض ، وهكذا الإنسان الذي
يأكل الربا حتى اعتاد ذلك يكون أشبه شيء في عملية انتهاب أموال الناس بمن تخبطه
الشيطان الذي يريد أن يقوم فإن تفكيره تفكير منحرف كتفكير المطروح وعينه تنظر بزيغ
إلى أموال الناس كعين المصروع وفيه يلهج حول المال بانحراف كفم المصروع وإذا أراد
أن يقوم من كبوته ويترك الربا ويأخذ بالجادة المستقيمة حول المال لا يلبث أن يسقط
في الربا كما اعتاد من أكله وصار الابتزاز لمال الناس ملكته ، وهذا تشبيه رائع
مفزع وهكذا يكونون هؤلاء يوم القيامة. فقد روى الإمام الصادق عليهالسلام عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : لما أسري بي إلى السماء رأيت أقواما يريد أحدهم
أن يقوم ولا يقدر عليه من عظم بطنه فقلت من هؤلاء يا جبريل فقال : هؤلاء الذين
يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس
، وقد ثبت في
العلم أن الأرواح الشريرة قد تدخل في الإنسان فتسبب له صرعا (ذلِكَ) الأكل للربا الذي اعتادوه بسبب أنهم (قالُوا) ليس في أكل الربا بأس ف (إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا) كلاهما تعامل برضى الطرفين (وَ) ليس كذلك فمنطقهم غلط فقد (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) لما فيه من الفوائد (وَحَرَّمَ الرِّبا) لما فيه من
__________________
فَمَنْ
جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)
____________________________________
المضار ، ويكفي أن
نلمح إلى ضرر واحد هو أن معطي الربا إما ساقته الضرورة إلى الاقتراض كمرض أو نحوه
مما ألجأ للاقتراض برباء فما أقبح أن يستغل الإنسان أخيه في مثل هذا الموقع مما
يجدر به أن يساعده ويسعفه ، وإما اقترض للتجارة وهذا لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة :
الأول أن يخسر والثاني أن لا يربح ولا يخسر وما أقبح في هاتين الصورتين أن يأخذ
صاحب المال زيادة بينما خسر العامل في الأول ولم يربح في الثاني والثالث أن يربح ،
وقد قرر الإسلام المضاربة والاشتراك في المربح فيما يجبر المقترض أن يدفع بمقدار
خاص إلى المقرض بينما قد ربح بمقداره وقد ربح أقل وقد ربح أكثر.
(فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في تركه أخذ الربا (فَانْتَهى) وتاب (فَلَهُ ما سَلَفَ) فكل ربا أكله الناس بجهالة وعدم علم بحرمته أو قبل الإسلام
لا يسترد منهم (وَأَمْرُهُ إِلَى
اللهِ) سبحانه لا إلى الناس حتى يقول من أعطاه الربا : ردّ عليّ
ما أخذت مني ، أو أمره في قبول الله توبته إليه سبحانه (وَمَنْ عادَ) إلى الربا بعد النهي والإسلام (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) أبد الآبدين إلا أن يدركهم الله برحمته كما قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) .
__________________
يَمْحَقُ
اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦)
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا
____________________________________
[٢٧٧]
(يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) أي ينقصه ويتلفه ويهلكه فما ظن المرابي أنه سبب زيادة
أمواله يكون سببا لهلاكه ونقصانه فإن الربا يسبب غضب الناس وسخطهم على المرابي مما
يثير حربا أو نهبا من الناس أو الحكومات لأمواله فيذهب الأصل والفرع (وَيُرْبِي) أي يزيد وينمي (الصَّدَقاتِ) فإنه وإن ذهب جزء من المال بالصدقة لكنها تسبب حب الناس
والتفافهم وتعاونهم مع المتصدق مما ينجر إلى زيادة أمواله ، وهذا مع الغض عن المحق
والنماء الخارجين عن الطبيعة مما يشأهما الله سبحانه بلا واسطة عادية (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ) كثير الكفر (أَثِيمٍ) أي مذنب وفي هذا دلالة على أن آكل الربا كفار أثيم.
[٢٧٨]
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) بالأصول الاعتقادية (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) بأن أتوا بالواجبات وتركوا المحرمات (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ) تخصيص بعد التعميم لأهميتهما (لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد مر تفسير عدم الخوف وعدم الحزن.
[٢٧٩]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) خافوا من عقابه (وَذَرُوا ما بَقِيَ
مِنَ الرِّبا)
إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
____________________________________
مما كنتم تطلبونه
قبل الإسلام وقد روي عن الإمام الباقر عليهالسلام أنه قال : إن الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهلية وقد
بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية
(إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) بالإسلام حقا فإن المؤمن هو الذي يأتمر بالأوامر وينزجر
بالزواجر.
[٢٨٠]
(فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا) ولم تنقادوا إلى هذا النهي بل أكلتم الربا بعد النهي (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ) أي اعملوا القتال مع الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأكل الربا يكون كمن أعلن الحرب مع الإله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذلك من أفظع الجرائم ، وعاقبته خسران الدين والدنيا ، وحكم
آكل الربا إنه يؤدب مرتين ثم يقتل في الثالثة كما روي عن الإمام الصادق عليهالسلام
(وَإِنْ تُبْتُمْ) ولم تأخذوا الربا (فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ) دون الزيادة التي حصلتموها بالربا ولا مفهوم للآية بأنهم
إن لم يتوبوا فليس لهم رأس المال ، بل المراد أن لكم رأس المال فما تبغون بالزيادة
(لا تَظْلِمُونَ) الناس بأخذ الزيادة منهم (وَلا تُظْلَمُونَ) بالنقصان من رأس المال.
__________________
وَإِنْ
كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)
وَاتَّقُوا
يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ
____________________________________
[٢٨١]
(وَإِنْ كانَ) فيمن تطلبون منه ـ ممن ذكر أنه يرجع رأس المال ـ (ذُو عُسْرَةٍ) بأن كان رأس مالكم الذي تطلبونه عند ذي عسرة لا يتمكن من
أدائه لعسره وضيقه فاللازم نظرة إلى انتظار وتأخير (إِلى مَيْسَرَةٍ) أي إلى حال يسار المديون والجملة خبرية معناها الأمر ، أي
فأنظروه إلى وقت يساره (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) على المعسر بما عليه من الدين بأن تجعلوا طلبكم صدقة له (خَيْرٌ لَكُمْ) في الدنيا يجلب المحبة والبركة من الله سبحانه وفي الآخرة
بالثواب الجزيل (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون الخير من الشر وتميزون ما ينفعكم مما
يضركم لعلمتم أن هبة الدين للمعسر خير لكم.
[٢٨٢]
(وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فلا تأكلوا الربا ولا تؤاخذوا المعسرين بل تصدقوا عليهم ،
فإن إتيان الحرام موجب للعقاب والتصدق موجب للثواب (ثُمَّ تُوَفَّى) أي تعطى وافيا (كُلُّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ) من خير أو شر (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) شيئا فلا ينقص من أجورهم شيء كما لا يزاد في عذابهم أكثر
من استحقاقهم ، ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه وأمره وقضائه وجزائه.
[٢٨٣]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ) أي تعاملتم بالدين ودان بعضكم
بِدَيْنٍ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئاً
____________________________________
بعضا في بيع أو
غيره (بِدَيْنٍ) إما تأكيد وإما لدفع توهم أن يكون المراد من المداينة
المجازاة كما قال الشاعر «ولا أنت دياني فتجزيني» (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة قد سميت في العقد كما لو دائنه إلى سنة أو باعه
نسيئة إلى ستة أشهر مثلا (فَاكْتُبُوهُ) أي اكتبوا ذلك الدين في صك وأنه إلى أية مدة لئلا يقع فيه
نسيان أو جحود أو خلاف (وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ) كتاب الدين (كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) بالحق لا يزيد في المقدار والأجل والوصف ولا ينقص منها (وَلا يَأْبَ) أي لا يمتنع (كاتِبٌ) أي شخص كان من المتعاملين أو غيرهما (أَنْ يَكْتُبَ) الصك (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) بأن يبخل فلا يكتب ، فالتكليف من الله سبحانه وهو في مقابل
أن علمه تعالى الكتابة والعلم فلا يثقل أو يبطئ أو يبخل (فَلْيَكْتُبْ) الكاتب (وَلْيُمْلِلِ) بمعنى ليملأ فإن الإملال والإملاء بمعنى واحد يلقي صيغة
الكتابة على الكاتب (الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُ) أي المديون حتى يقر على نفسه أولا ، حتى لا يقول زائدا على
الحق ثانيا ، فالذي له الحق لو أملى كان معرضا لأن يقول الزيادة (وَلْيَتَّقِ اللهَ) الكاتب أو المديون (رَبَّهُ) فإنه رب له فكيف يخالف أمره (وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص الكاتب أو المديون (مِنْهُ) أي من الحق (شَيْئاً) أما نقص الكاتب فواضح وأما نقص المديون كأن يجعل
فَإِنْ
كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا
الْأُخْرى
____________________________________
الدينار والذي هو
مقابل ثوب في مقابل ثوبين (فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) بحيث لم يتمكن من الإملاء (أَوْ ضَعِيفاً) لجنون أو كبر أو صغر أو نحوها (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) لخرس أو عذر آخر مع عدم السفاهة والضعف (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) أي ولي من عليه الحق (بِالْعَدْلِ) بلا إفراط أو تفريط (وَاسْتَشْهِدُوا) أي اطلبوا شهادة (شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ) على المكتوب لينفع ذلك عند الترافع والمخاصمة لدى التخالف
، ولعل قيد من رجالكم لإخراج الكفار (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي لم يكن الشاهدين (رَجُلَيْنِ) لعدم حضورهما أو عدم إرادة المستشهد (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) يشهدون على الكتابة ، أو فليشهد رجل وامرأتان (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) لوثاقتهم أو عدالتهم إذ لا تقبل شهادة من عداهم لدى
المخالفة والتراخ ، وإنما جعلت المرأتان مكان رجل واحد لأن المرأة لضعف ذاكرتها
كما ثبت في العلم الحديث يتطرق إليها من النسيان ما لا يتطرق إلى الرجل ، ولذا قال
سبحانه : (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما) من الضلال أي تخطأ وتشتبه وتنسى (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا) التي لم تضل (الْأُخْرى) التي نسيت وضلت ، و «أن» إما بمعنى «لئلا» وتكون جملة «فتذكر»
منقطعة ، أي إن ضلّت تذكر الثانية الأولى ، وأما أصلها «إن» بالكسر ، صفة
وَلا
يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً
أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
____________________________________
لامرأتان ، والأول
أقرب (وَلا يَأْبَ) أي لا يمتنع (الشُّهَداءِ) الذين يراد إشهادهم للدين ـ وسموا شهداء بمجاز المشارفة ـ (إِذا ما دُعُوا) لتحمل الشهادة وهذا أمر إيجابي أو استحبابي ، أو المراد
الأعم من التحمل والأداء.
(وَلا تَسْئَمُوا) أي لا تضجروا أيها المتداينون (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي تكتبوا الدين أو تكتبوا الحق (صَغِيراً) كان الحق والدين (أَوْ كَبِيراً) وهذا تأديب لمن يترك كتابة الصغير لعدم الاهتمام به ،
فكثيرا ما يقع التنازع في الصغير (إِلى أَجَلِهِ) أي إلى أجل الدين ومدته ، وفيه تنبيه إلى أن الكتابة تبقى
إلى الأجل فتنفع هناك ، أو المعنى كتابة تتضمن إلى الأجل ، فيعين في المكتوب أجل
الدين.
(ذلِكُمْ) ذا إشارة إلى الكتاب الذي يكتب في المداينة «وكم» خطاب إلى
الذين آمنوا (أَقْسَطُ عِنْدَ
اللهِ) أي أعدل ، بمعنى أقرب إلى العدل وإلا فليس في العدل مفاضلة
حقيقية (وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ) فيه تقوم الشهادة التي تؤمن عن الزيادة والنقصان (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب إلى عدم الريب في المبلغ والأجل فالله يريده وأنتم
لا تشكون ، والشهادة تستقيم ، بسبب الكتابة والصك وما ذكر من الكتابة عامة لكل
مكان (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) المعاملة ـ المفهوم من الكلام ـ (تِجارَةً حاضِرَةً) معجلة غير
تُدِيرُونَها
بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ
فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (٢٨٢)
____________________________________
مؤجلة كغالب
التجارات النقدية التي تجري في الأسواق (تُدِيرُونَها
بَيْنَكُمْ) إدارة يد بيد ، ومعنى الإدارة المناقلة ، فينقل هذا ماله
إلى ذاك وينقل ذاك عنه إلى هذا (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) وحرج (أَلَّا تَكْتُبُوها) فلا مانع من عدم كتابة التجارة النقدية إذ الكتابة للوثيقة
وهنا لا يحتاج إلى الوثيقة (وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ) فإنه يستحب للإنسان الذي يريد المبايعة أن يأخذ الشاهد ،
ففي المعاملة كثيرا ما يقع من نزاع وخصام فإذا كان هناك شهادة يقل وطئ النزاع ،
والآية وإن كانت عامة لفظا لكن لا يعد أن لا يراد بها الإطلاق من المعاملات
الجزئية اليومية لعدم تعارف الأشهاد منذ زمان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ) بأن يكلف الكاتب الكتابة ويكلف الشاهد الشهادة في حال يكون
حرجا عليهما وضررا ، كما تعارف الآن عند الحكومات المنحرفة فإنه يحضر الشاهد ويعنت
ويضار فإن في مضارتها زهادة للناس عن الكتابة والشهادة (وَإِنْ تَفْعَلُوا) المضارة بها (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ) أي خروج عن أمر الله سبحانه لسببكم أيها المضارون (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم (وَيُعَلِّمُكُمُ
اللهُ) مصالحكم فاتبعوه (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) وأنتم لا تعلون وما أجدر بالجاهل أن يتبع العالم ، عن علي
بن إبراهيم أن في
وَإِنْ
كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ
رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
____________________________________
سورة البقرة
خمسمائة حكم وفي هذه الآية الكريمة وحدها خمسة عشر حكما والآية كما تقرر في العلم
الحديث من أعجب الآيات في باب المعاملة.
[٢٨٤]
(وَإِنْ كُنْتُمْ) أيها المتداينون المتبايعون (عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين والتعبير بلفظ «على» لركوب المسافر غالبا (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب الدين والمعاملة (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) تقوم مقام الصك ورهان جمع رهن ، وهو اسم للوثيقة ولذا جاءت
الصفة بالتأنيث والقبض شرط في صحة الرهن ، ولذا وصفه بالقبض (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ) وهو صاحب الحق (بَعْضاً) وهو من عليه الحق بأن وثق به وأنه يؤدي الدين بدون صك ولا
رهن ، فأعطاه الدين مجردا عن الأمرين (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ) أي المديون (أَمانَتَهُ) فلا ينكر ولا يمطل ، كفاء لما رآه أهلا (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) فإن الله شهيد ويجازي فإن أنكر أو مطل أو بخس كان معرضا
نفسه لعقوبة الله سبحانه (وَلا تَكْتُمُوا) أيها الشهود (الشَّهادَةَ) التي تحملتموها (وَمَنْ يَكْتُمْها) أي يخفي الشهادة فلا يحضر لأدائها أو يؤديها على خلاف
الواقع (فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ) فقد عزم القلب على الكتمان وأطاعته الجوارح واللسان ولأن
الكتمان أنسب إلى القلب لكونه في محل
وَاللهُ
بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
____________________________________
مكتوم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من إخفاء الشهادة وإبدائها (عَلِيمٌ) فلا تفعلوا ما يوجب عقابه وسخطه.
[٢٨٥]
(لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فما تعاطونه من الأملاك ليست لكم إلا مجازا وإنما هي ملك
له سبحانه فاعملوا فيها حسب ما أمركم ولا تخالفوا أمر المالك الحقيقي (وَإِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) بما تعلمونه ويخفى على غيركم (أَوْ تُخْفُوهُ) فتكتموه (يُحاسِبْكُمْ بِهِ
اللهُ) فإن جميع الأعمال والأقوال والأفكار تحت المحاسبة ، أو أن
الإبداء والإخفاء لما في النفس محسوب عليهما ، وهذا العموم للتناسق مع إبداء
الشهادة وكتمانها (فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) حسب ما تقتضيه الحكمة البالغة فالغفران والشفاعة ليسا
اعتباطا وإنما ينصبان على المحل القابل (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) من المغفرة والعقاب ولا يخفى أن العذاب على ما في النفس لا
ينافي ما دل على عدم العقاب ، على العزم على المعصية لاختلاف المعاصي ، واختلاف
أنواع العقاب فلا شبهة في أن من يعزم على المعاصي وإن لم يفعلها أبعد عن قرب
الحلال ممن لا يعزم إطلاقا ، وهذا البعد هو نوع من العذاب أو يجمع بنحو ذلك.
آمَنَ
الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
____________________________________
[٢٨٦] وهنا يرجع
السياق إلى ذكر التوحيد والنبوة والشرائع جملة في لباس أنها لا تكلف الناس فوق
الطاقة وسؤال المغفرة والعفو لتكون فذلكة للسورة (آمَنَ الرَّسُولُ) محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (بِما أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فهو أول مؤمن بما أنزل إليه وليس كرؤساء الأديان المفتعلة
والملوك والحكام الذين لا يشملهم القانون (وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌ) أي كل واحد منهم (آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) فليس المؤمن أن يقتنع بجانب واحد من جوانب الإسلام كما هو
كثير في تابعي الأحزاب والمبادئ حيث أن ذا النشاط المتفايض منهم يقتنع منه بجانب
واحد وإن ترك سائر الجوانب فإن لسان حال المؤمنين (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فلسنا كاليهود الذين لا يعترفون بالمسيح عليهالسلام ونبي الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا كالنصارى الذين لا يعترفون بنبي الإسلام ، فلا تكون
كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض (وَقالُوا سَمِعْنا) آيات الله وأحكامه (وَأَطَعْنا) أوامره ونواهيه لا كاليهود الذين قالوا
سمعنا وعصينا ،
يقولون (غُفْرانَكَ) أي نطلب مغفرتك (رَبَّنا) نعلم أن (إِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فاغفر لنا حتى نكون في ذلك اليوم سعداء.
[٢٨٧] إن الأحكام
التي سلفت في السورة وفي غيرها ليست مما لا يطاق
لاَ
يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا
أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا
____________________________________
فإنه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) فإن أوامره ونواهيه مستطاعة للمكلف وليس في الدين من حرج ،
فلا يظن أحد أن الإيمان السابق ذكره في (وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) يوجب مشقة وعنتا وإرهاقا (لَها) أي للنفس (ما كَسَبَتْ) من الحسنات فالجزاء الحسن يجزى به من أحسن (وَعَلَيْها) أي على النفس ضرر (مَا اكْتَسَبَتْ) من الآثام والسيئات ولعل في مجيء الكسب من بابين «كسب» و «أكتسب»
إفادة أن الطاعة طبيعية والمعصية تؤتي بالتكلف إذ للفظة الاكتساب ظلالا يفيد التعب
والغضب بخلاف الكسب وتؤيده قاعدة «زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى» وهناك يتوجه
المؤمنون إلى الله داعين سائلين (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) بلا نسيان وإنما تصح المؤاخذة فيهما لغلبة كون مقدماتهما
اختيارية وما ينتهي إلى الاختيار يكون بالاختيار (رَبَّنا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي ثقلا فإن بعض التكاليف قد توجب ظروفها ثقلا وعنتا ،
فالمؤمن يسأل أن يجنبه الله سبحانه مثل هذا الثقل (كَما حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) فإنهم بلجاجتهم استحقوا تحميل الثقل كما تقدم في قصة بقرة
بني إسرائيل وكما قال سبحانه : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)
__________________
رَبَّنَا
وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ
(٢٨٦)
____________________________________
(رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) وإن كان مقدورا لنا فإن عدم الطاقة ليس بمعنى عدم القدرة
حتى يقال : إن الله لا يكلف غير المقدور فما وجه هذا الدعاء؟ (وَاعْفُ عَنَّا) ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) خطايانا أي استرها ولا تبدها (وَارْحَمْنا أَنْتَ
مَوْلانا) سيدنا والأولى بالتصرف فينا (فَانْصُرْنا عَلَى
الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) حتى نغلب عليهم في الحكم كما نغلب عليهم في الحجة.
(٣)
سورة آل عمران
مدنية / آياتها (٢٠١)
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
سميت بذلك
لاشتمالها على لفظة آل عمران وقد نزلت بالمدينة.
[١]
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مرّ تفسيرها في أول سورة الحمد.
الم
(١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً
لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ
____________________________________
[٢]
(الم) تقدم ما يحتمل أن يكون تفسيرا له.
[٣]
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فليس له شريك وهو الحي الذي لا يموت وإن كانت الحياة
بالنسبة إليه تعالى تخالف الحياة بالنسبة إلينا فإن حياتنا غير ذواتنا وإنما هي
صفة قائمة بنا بخلاف الحياة فيه سبحانه فإنه عين ذاته والقيوم هو القائم على كل
نفس بما كسبت وعلى كل شيء
[٤]
(نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) لا بالباطل فإن الإنزال قد يكون بالباطل وقد يكون بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) على موسى عليهالسلام (وَالْإِنْجِيلَ) على عيسى عليهالسلام.
[٥]
(مِنْ قَبْلُ) إنزال القرآن عليك ، وكل هذه الكتب (هُدىً لِلنَّاسِ) فإنها تهديهم من الظلمات إلى النور ومن الباطل إلى الحق
ومن الضلال إلى الرشاد (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ) الفارق بين الحق والباطل وهو أعم من الكتب السابقة وسائر
ما أنزل على أنبياء الله ورسله (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بحجج الله ودلالاته (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) في الدنيا بالفوضى والهرج والمرج والمشاكل كما قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
وَاللهُ
عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ
____________________________________
ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) وفي الآخرة بالعقاب (وَاللهُ عَزِيزٌ) له العزة والقدرة بأن يفعل ما يشاء (ذُو انْتِقامٍ) ينتقم ممن حادّه وعصاه.
[٦]
(إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فلا يظن عاص أنه يخفى على الله سبحانه ، فإنه يعلم كل شيء
في الكون حتى وساوس القلوب وهواجس الصدور.
[٧]
(هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) أي يعطيكم الصورة في بطون أمهاتكم (كَيْفَ يَشاءُ) من رجل وامرأة وجميل وقبيح وقصير وطويل وغيرها فكيف يخفى
عليه شيء وهو يفعل مثل هذا الفعل الدقيق في ذلك المحل المظلم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو وحده إله الكون وخالقه (الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) فما يفعل شيئا عبثا بل يفعل ما يفعل بالحكمة.
[٨]
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن (مِنْهُ) أي قسم من الكتاب (آياتٌ مُحْكَماتٌ) غير متشابهات فالمفاد منها واضحة لا يخفى على أهل اللسان
كقوله سبحانه (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ)
__________________
هُنَّ
أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ
____________________________________
(هُنَ) أي تلك الآيات المحكمات (أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله الذي يرجع إليه لدى الشك والخصام والجدال.
(وَأُخَرُ) أي آيات أخر (مُتَشابِهاتٌ) والمتشابه هو الذي يحتمل وجهين أو وجوها مما سبب عدم إدراك
الناس كلهم لها ، من تشابه ، وإنما يؤتى به إما امتحانا حتى يعرف المؤمن من
المنافق أو لتقريب المطلب إلى أذهان الناس الذين لا يدركون الحقائق ككثير من آيات
الصفات ونحوها كقوله سبحانه : (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) حيث أريد التفهيم من أن المؤمنين ينظرون إلى رحمة الله ،
أو كقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) أو لأن المطلب دقيق لا تتحمله بعض العقول كآيات الجن
والشيطان مما لا يتحملها عقل من إلف المادة فيشتبه الأمر عليه أو لأنه جيء به
لاعتبار كلامي فاشتبه الأمر نحو (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) أو غير ذلك ، والمتشابه مما لا بد منه في الكلام الراقي
كما لا يخفى بأدنى تأمل (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق وانحراف إما جهلا أو عنادا (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) اتباعا على خلاف المراد منه ويوجهون المتشابه حسب أهوائهم
ومشتهياتهم كما يقول القائل
__________________
ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
____________________________________
بالتجسم من (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وبالجبر من (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) وبمعصية الأنبياء عليهمالسلام من (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى) ويكون الإسلام خاصا بالعرب من (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وهكذا (ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ) أي لأجل تفتين الناس وإضلالهم (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي لأجل أن يكون له مجال في تأويل الكلام على غير المراد
منه ليطابق هواه ومشتهاه (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ) التأويل هو ما يؤول وينتهي إليه الكلام فمثلا ظاهر (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إنهم ينظرون إلى الله لكن هذه الجملة تؤوّل إلى معنى أنهم
ينظرون إلى رحمة الله ولطفه وثوابه ، كما يقال في العرف «إني أنظر إلى العقل وهو
يسيّر الإنسان» إنه لا يريد النظر بالعين وإنما عرفان ذلك (إِلَّا اللهُ) فهو سبحانه يعلم المراد من كلامه (وَالرَّاسِخُونَ) أي الثابتون (فِي الْعِلْمِ) الذين لهم اطلاع على المعلومات وبأساليب الكلام وبما يدل
عليه العقل والشرع وهذا ليس ببدع فإن القوانين المدنية لا يعرفها إلا من درسها
وأتقنها وأساليب الكلام العربي لا يعرفها إلا من أتقن الأدب والبلاغة وهكذا ، إن
الراسخين يعلمون تأويل المتشابه في حال كونهم (يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ) أي بالمتشابه كما آمنا بالمحكم (كُلٌ) من المحكم والمتشابه
__________________
مِنْ
عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا
____________________________________
(مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فإذا لم يظهر المعنى في بادئ النظر لا ينكرون ولا يقولون
بالتناقض ، فإنهم جمعوا بين فضيلتي العلم بالتأويل والإذعان بصحة المتشابه بخلاف
الجهال فإنهم يعترضون على المتشابه أولا ويفسرون حسب أهوائهم ثانيا ، وهكذا نجد
الآن في العرف العالم الورع يجمع بين الفضيلتين والجاهل يشتمل على الرذيلتين (وَما يَذَّكَّرُ) أي يتذكر ويرد المتشابه إلى المحكم وإلى ما دل من العقل
والنقل (إِلَّا أُولُوا
الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول الحصيفة ، ثم إنه ورد في الأحاديث أن
المراد بالراسخين النبي والأئمة عليهمالسلام ولا يخفى أنهم من أجلّ مصاديق الراسخين وذلك هو المراد لا
الانحصار.
[٩] إن الراسخين
في العلم يلتجئون إلى الله سبحانه قائلين (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا) أي لا تملها عن الحق وإنما نسب الزيغ إليه سبحانه لأنه هو
الذي هيأ الأسباب ليمتحن عباده فترك الإنسان ـ وعدم اللطف به ـ حتى يقع فريسة
الشيطان من صنع الله سبحانه كما يقال أن الملك أفسد الرعية لا يراد أنه أفسدهم
وإنما يراد تركهم حتى يفسدوا ، ولا يخفى الفرق بينه سبحانه وبين الملك لرعيته فإن
الله حيث خلق الدنيا للاختبار لا بد وأن يهيئ الوسيلتين ليظهر المطيع من العاصي
كما قال : (كُلًّا نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بخلاف الملك فإنه لا يحق له أن يفسد الرعية حتى بتركهم وما
يشاءون فإنه يأمر بالصلاح والإصلاح كما أن الله تعالى يسبل النعم على الجنات ولا
يعاقبهم عقوبة ظاهرة في
__________________
بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا
____________________________________
الدنيا ، وذلك ليس
جائز للملوك فإنه يجب إيقاف الجاني عند حده وإجراء العقاب عليه ثم إن الإنسان مهما
كان من الرسوخ في العلم فإنه معرض للزلة كما زل «بلعم» قال سبحانه (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا
فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) ولذا يدعو الراسخون ربهم سبحانه أن لا يقطع عنهم لطفه
الخاص ولا يتركهم ليلعب بهم الشيطان كما يشاء ، إذ (بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنا) إلى دينك (وَهَبْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ) من عندك (رَحْمَةً) ولطفا نثبت بها على دينك وطاعتك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الكثير الهبة لمن تشاء بما تشاء.
[١٠]
(رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ) تجمعهم (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ
فِيهِ) هو يوم القيامة الذي لا شك فيه عند ذوي العقول وإن شك فيه
أناس لا نصيب لهم من العلم والمعرفة وقد تقدم وجهه في أول سورة البقرة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي الوعد الذي وعده أنبياءه والبشر بيوم القيامة ، فلا تزغ
قلوبنا حتى نكون ذلك اليوم من المطرودين أو هذا إظهار من الراسخين بالاعتراف
بالبعث وإنهم جمعوا بين فضيلتي الاعتراف بالمبدأ والمعاد.
[١١]
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) من الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون المتشابه وغيرهم
__________________
لَنْ
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ
هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
____________________________________
من سائر الكفار (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) كي يعطوها فينجون من عذاب الله سبحانه كما تنفع الفدية في
الدنيا (وَلا أَوْلادُهُمْ
مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله وسخطه (شَيْئاً) فلا يتمكن أولادهم أن يقفوا ليمنعوا عنهم العذاب (وَأُولئِكَ) الكفار (هُمْ وَقُودُ) الوقود الحطب وكل ما يوقد به النار (النَّارِ) يوم القيامة تتقد النار بأجسامهم كما تتقد النار بالحطب
والنفط ونحوها.
[١٢]
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ) الدأب العادة ، أي عادة هؤلاء الكفار في التكذيب بك وبما
أنزل إليك كعادة آل فرعون الذين كذبوا الرسل (وَ) كعادة (الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) من سائر الكفار الذين كانوا يكفرون بآيات الله ويكذبون
أنبياءه (كَذَّبُوا) جميعا (بِآياتِنا) أي بدلائلنا الدالة على التوحيد وسائر الأصول (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب عصيانهم ومعاصيهم ، ومعنى الأخذ العقاب أي عاقبهم
، كقوله (وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) (وَاللهُ شَدِيدُ
الْعِقابِ) فليس عقابه كعقاب سائر الناس ، وإنما (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ
يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) .
__________________
قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ
(١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ
____________________________________
[١٣]
(قُلْ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ كَفَرُوا
سَتُغْلَبُونَ) أي بعد قليل يكونون مهزومين إما في الدنيا بغلبة الإسلام ،
كما صار وكما أخبر حيث إن الإسلام غلبهم وأخذ بلادهم (وَتُحْشَرُونَ إِلى
جَهَنَّمَ) يوم القيامة ، وإما في الآخرة بمعنى أنكم بعد قليل تهزمون
أمام أمر الله سبحانه ، ويقبضكم ملك الموت الذي وكل بكم ، وبعد ذلك تحشرون إلى
جهنم يوم القيامة (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئسما مهد لكم أو ما مهدتم لأنفسكم.
[١٤] ولما بين
سبحانه أن الكفار سيغلبون بين لذلك شاهدا محسوسا في قصة بدر حيث كان المسلمون
ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والكفار ألف رجل ولم يكن للمسلمين من العتاد إلا شيئا
ضئيلا بينما كان الكفار بأكمل السلاح ومع ذلك فقد غلب المسلمون عليهم بنصر الله
سبحانه (قَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المسلمون أو أيها الكفار (آيَةٌ) أي علامة على صدق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن الله ينصره ويهزم الكفار (فِي فِئَتَيْنِ) أي جماعتين جماعة المسلمين وجماعة الكفار (الْتَقَتا) من الملاقاة إذ اجتمعتا في بدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهم المسلمون (وَ) فئة (أُخْرى كافِرَةٌ) وهم المشركون الذين أتوا من مكة (يَرَوْنَهُمْ) أي يرى المسلمون الكفار (مِثْلَيْهِمْ) أي ضعف أنفسهم (رَأْيَ الْعَيْنِ)
وَاللهُ
يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ
____________________________________
فلم يكن ذلك خيالا
وإنما واقعا فإن الكفار في الواقع كانوا أكثر ، ومع ذلك فقد غلب المسلمون ، ولعل النكتة
في ذكر ذلك بيان أن المسلمين غلبوا مع أنهم كانوا يعلمون بزيادة الكفار عليهم وإن
ذلك يدل أن الله نصرهم وإلا فإن الجيش إذا علم أن العدو أكثر منه وهن في عضده
ويسبب ذلك انهزامه في أكثر الأحيان ، وفي الآية أقوال أخر مذكورة في التفسيرات (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ
يَشاءُ) أي يقوي بنصره فلا يضرهم قلة عددهم وعدتهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور وهو غلبة المسلمين على المشركين مع أن الكفار
كانوا ثلاثة أضعافهم (لَعِبْرَةً) أي اعتبار وهي بمعنى الآية وإنما سميت الآية عبرة لأنها
تعبر بالإنسان من الجهل والغفلة إلى العلم والتذكير (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي أصحاب العقول ، وليس المراد بالبصر النظر بالعين وإنما
النظر بالقلب كما يقال فلان بصير بالأمور أي يعرفها ويدركها.
[١٥] وهنا يتساءل
الإنسان ماذا صرف الكفار عن الحق وهم يرونه؟ ويأتي الجواب إن الذي صرفهم هو جمال
الدنيا ومالها كما قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام «لكنهم حليت
الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها»
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ) أي أن حب الإنسان للمشتهيات والملذات سبب لهم أن تتزين
الدنيا في نفوسهم فيطلبون اللذائذ ولو
__________________
مِنَ
النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
____________________________________
في المحرمات ولم
يذكر الفاعل ، لأنه ليس بمقصود وقد تقرر في علم البلاغة أن مقتضاه أن لا يذكر
الفاعل أو المفعول حيث لم يكن مقصودا (مِنَ النِّساءِ) بيان «الشهوات» (وَالْبَنِينَ) فإن حب الأولاد يسبب إطاعتهم والتحفظ عليهم ولو بذهاب
الدين (وَالْقَناطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ) القناطير جمع «قنطار» وهو ملء مسك ثور ذهبا وإنما سمي
قنطارا لأنه يكفي للحياة فكأنه قنطرة يعبر بها مدة الحياة ، والمقنطرة بمعنى
المجتمعة المكدسة كقولهم دراهم مدرهمة ودنانير مدنرة (مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ) فإن الإنسان بحبه للأموال يعصي الله في جمعه وفي عدم إعطاء
حقوقه (وَالْخَيْلِ) عطف على النساء ، والخيل الأفراس (الْمُسَوَّمَةِ) من سوم الخيل التي علمها ولا تعلم إلا الجيد الحسن منها (وَالْأَنْعامِ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) أي الزرع فهذه كلها محببة للناس ، لكن (ذلِكَ) كله (مَتاعُ الْحَياةِ
الدُّنْيا) أي ما يستمتع به في الدنيا ولا تنفع الآخرة إلا إذا بذلت
في سبيل الله ـ كل حسب بذله ـ (وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الْمَآبِ) المرجع أي أن المرجع الحسن في الآخرة منوط بالله سبحانه
فاللازم أن يتزهد الإنسان في الملذات ولا يتناول المحرم منها رجاء ثواب الله
ونعيمه المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، فلا تسبب هذه المشتهيات عدول الإنسان
عن الحق إلى الباطل وعن الرشاد إلى الضلال.
قُلْ
أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا
____________________________________
[١٦]
(قُلْ) يا رسول الله للناس الذين زين لهم حب الشهوات (أَأُنَبِّئُكُمْ) أي هل تريدون أن أخبركم (بِخَيْرٍ مِنْ
ذلِكُمْ) أي بأحسن من هذه الشهوات ، و «كم» خطاب للناس (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) المحرمات وعملوا حسب أوامر الله سبحانه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الآخرة (جَنَّاتٌ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها ونخيلها وقصورها (خالِدِينَ فِيها) فإنهم يسكنون الجنة أبد الآبدين لا زوال لهم ولا تحويل (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي نساء طاهرة من الأقذار الظاهرية كالحيض والوساخة ،
والأقذار الباطنية كسوء الخلق والحقد والعداوة (وَ) أكبر من كل ذلك (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ) فإن الله راض عنهم ومتى شعر الإنسان برضى الله سبحانه منه
تنعم بأفضل نعمة نفسية كما لو علم فرد من الرعية أن الملك يحبه ويرضى عنه (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) خبير بأفعالهم وأعمالهم فيجازيهم حسب ما يفعلون.
[١٧] ثم وصف
سبحانه المتقين الذين سبق ذكرهم بقوله «للذين اتقوا» فالمتقون هم (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا
آمَنَّا) أي صدقنا بك وبرسلك وبما أمرت ووعدت (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي تجاوز عما صدر منا من
وَقِنا
عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ
وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
____________________________________
الخطايا (وَقِنا) أي احفظنا من «وقى» «يقي» بمعنى حفظ (عَذابَ النَّارِ) حتى لا نكون من أهلها.
[١٨]
(الصَّابِرِينَ) صفة أخرى للمتقين فأولئك هم الصابرون في المصائب وعند
الطاعة ، ولدى المعصية (وَالصَّادِقِينَ) في نياتهم وأقوالهم وأفعالهم (وَالْقانِتِينَ) من القنوت بمعنى الإطاعة والخضوع (وَالْمُنْفِقِينَ) لأموالهم في سبيل الله سبحانه (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) الذين يطلبون غفران ذنوبهم (بِالْأَسْحارِ) جمع سحر وهو ما يقرب من طلوع الفجر آخر الليل.
[١٩] ويناسب
السياق هنا الإشارة إلى صفات الباري عز اسمه حيث تقدم ذكر من اتقى وأوصاف المتقين
الذين يعملون لله سبحانه (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وشهادة الله لفظية وواقعية فإن الشهادة إظهار المطلب
باللسان وقد أظهر الله سبحانه وحدته وسائر صفاته بما هو أقوى وأثبت وأولى من اللفظ
، وهو خلق المصنوعات التي تشهد جميعها بصفاته كما قال الشاعر «وفي كل شيء له آية
..* .. تدل على أنه واحد» وإنما تشهد المصنوعات على الوحدة لأنه لو كان فيهما آلهة
غير الله لفسدتا فعدم الفساد دليل الوحدة ـ كما تقرر في علم الكلام ـ (وَالْمَلائِكَةُ) شهدوا بالوحدانية شهادة لفظية وحقيقية (وَأُولُوا الْعِلْمِ) أصحاب العلم الذين يدركون ، لا كل من يدعي العلم ، فإنه من
ينظر إلى الكون
قائِماً
بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
____________________________________
نظر عالم معتبر لا
بد له من الإذعان بالوحدانية (قائِماً بِالْقِسْطِ) أي في حال كونه سبحانه قائما بالعدل ، فإن القسط بمعنى
العدل ، ومعنى قيامه سبحانه بالعدل أنه يفعل ما يفعل بالعدل فخلقه ، وتقديره ،
وتشريعه ، كل بالعدل ومعنى العدل الاستواء ، مقابل الظلم الذي هو الاعوجاج
والانحراف ، فمثلا جعل الشمس في السماء عدل لأنها تنير وتشرق وتقيم المجموعة
الشمسية بينما عدمها انحراف وظلم ، وكذلك تقدير هذا غنيا وذاك فقيرا ، وهذا رئيسا
وذاك مرءوسا بالعدل ، وما يشاهد في ذلك من الانحراف فإنه ليس من التقدير وإنما من
سوء اختيار الناس ، وكذلك تشريع الصلاة واجبة ، والخمر محرمة بالعدل.
يقال أن رجلا سأل
كسرى عن سبب عدله قال : لعدة أسباب منها أني رأيت في الصحراء يوما كلبا كسر رجل
غزال ، فما لبث أن رماه إنسان بحجر فكسر رجله فلم يمض على الرجل إلا برهة إذا بفرس
رفسه فكسر رجله ، فلم تمض على ذلك لحظات إلا بالفرس عثر فانكسرت رجله ، وهناك علمت
أن الظلم عاقبته وخيمة .... والإنسان إذا لم يعرف الصلاح والعدل في بعض الأشياء
فليس له أن يعترض ، والحال أنه يجهل أكثر الأشياء ، فهو كمن يعترض على أدوية وصفها
الطبيب وهو لا يعرف من الطب شيئا ، ولفظة «قائما» فيها إيماءة لطيفة ، فإن القائم
يشاهد ما لا يشاهده القاعد ، إذ هو مسيطر مشرف (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تكرار للتأكيد ، فإن العالم قبل الإسلام كان مرتطما في أو
حال الشرك حتى جاء الإسلام فأظهر التوحيد وجدد ما محي من سنن الأنبياء عليهمالسلام وإرشادهم حول المبدأ تعالى (الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) الذي يفعل كل شيء عن حكمة وعلم.
إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
____________________________________
[٢٠] وبعد ما تقرر
التوحيد والعدل أتى دور الدين الذي أرسله الله سبحانه إلى العباد (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ) والدين هي الطريقة التي تؤمن السعادة للبشر دنيا وآخرة ،
إنه عند الله الإسلام ، وإن كان عند غيره اليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها ،
فإن الله سبحانه لم يرسل إلا الإسلام والإسلام هو دين الأنبياء جميعا فإنه عبارة
عن تسليم منهج الأعمال إلى الله الذي خلق الكون وهو أعلم بالنظام السماوي له الذي
إن تبعه البشر عاش سعيدا ومات حميدا ، وقد ذكرنا سابقا أن الاختلاف بين الأديان
السماوية الواقعية في شرائط ومزايا لا في الجواهر والأصول (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) أي ليس اختلاف أهل الكتاب بعضهم مع بعض وجميعهم مع
المسلمين (إِلَّا مِنْ بَعْدِ
ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) فعرفوا الصحيح من السقيم والحق من الباطل ، وإنما اختلفوا (بَغْياً) أي حسدا (بَيْنَهُمْ) فلم يقبل اليهود أن يرضخوا لعيسى عليهالسلام حسدا ، ولم يقبل النصارى أن يؤمنوا بنبي الإسلام صلىاللهعليهوآلهوسلم حسدا ، كما قال سبحانه (أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ) فلم يؤمن بها فلا يظن أنه ربح وتهنأ بدنيا باقية بل خسر
وذهبت دنياه وآخرته (فَإِنَّ اللهَ
سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب الكفار
__________________
فَإِنْ
حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ
لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا
فَقَدِ اهْتَدَوْا
____________________________________
في الدنيا بأنواع
من البلايا والمصائب كما قال (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) وفي الآخرة بما اقترفوا من الكفر والآثام ، والآخرة قريبة
جدا فإن «من فاته اليوم سهم لم يفته غدا» قال الشاعر :
ألا إنما الدنيا
كمنزل راكب
|
|
أناخ عشيا وهو
في الصبح راحل
|
[٢١]
(فَإِنْ حَاجُّوكَ) يا رسول الله وجادلوك في أمر التوحيد بعد وضوح الحجة (فَقُلْ) لهم (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ) فأنا لا أعبد إلا الله سبحانه لا أتخذ له شريكا ، وإسلام
الوجه كناية عن الإسلام المطلق إذ تسليم الوجه إلى نحو يدل على تسليم القلب وسائر
الجوارح (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي الذين اتبعوني هم أيضا أسلموا وجوههم لله فقط دون غيره (وَقُلْ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) أي أعطوا الكتاب السماوي من اليهود والنصارى والمجوس (وَ) قل لل (الْأُمِّيِّينَ) من المشركين الذين
لا كتاب لهم وسموا أميين إما لجهلهم نسبة إلى الأم وإما لأنهم من أهل مكة ـ أم
القرى ـ (أَأَسْلَمْتُمْ) أي هل أسلمتم وجوهكم لله وحده ـ بلا جدال ولا نقاش معهم
بعد ما تمت عليهم الحجة ـ (فَإِنْ أَسْلَمُوا) وتشرفوا بدين الإسلام (فَقَدِ اهْتَدَوْا) إلى
__________________
وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١)
____________________________________
الحق وإلى طريق
مستقيم (وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أن تبلغهم الإسلام وليس عليك إجبارهم حتى لا يتولوا وحتى
لا يعرضوا (وَاللهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ) لا يفوته شيء من أعمالهم فهو يجازيهم بكفرهم وميثاقهم كما
يجزيهم على إيمانهم وإطاعتهم.
[٢٢] ثم بين
سبحانه أن أهل الكتاب كفروا بالله قديما وقتلوا الأنبياء عليهمالسلام ، تسلية للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يضيق صدره بتكذيبهم ولجاجتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ) فلا يقبلونها بعد وضوحها وعلمهم بها (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
حَقٍ) فإن قتل النبي مطلقا ليس بحق وإنما يأتي القيد إفادة لأنه
لا حجة لهم في قتل الأنبياء عليهمالسلام حتى أنه ليس هناك حق مدعى أيضا (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (مِنَ النَّاسِ) فإن أهل الظلم والباطل الذين تتمثل فيهم القوة غالبا
يقتلون من ينهاهم عن ذلك ويأمر بالقسط والعدل (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وكلمة البشارة استهزاء أو بعلاقة استعمال الضد في الضد
كتسمية الزنجي بالكافور والأعمى بالبصير ، أو للمقابلة نحو (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ، فإن
__________________
أُولئِكَ
الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ
____________________________________
المؤمن يبشر
بالثواب والكافر يبشر بالعقاب.
[٢٣]
(أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الخيرية فإن لكل إنسان أعمال خيرية وإن كان كافرا ، ومعنى
حبط العمل بطلانه وعدم إفادته (فِي الدُّنْيا) فإن كفرهم سبب هدر دمهم فعملهم الخير لم ينفعهم في حقن
دمهم أو أعمال الخير التي تدفع البلايا والآفات لا تنفع مع الكفر والانحراف (وَالْآخِرَةِ) فلا تفيدهم أعمالهم الحسنة ثوابا كما قال سبحانه (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (وَما لَهُمْ) أي ليس لهم (مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من عذاب الله وسخطه.
[٢٤]
(أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله ، ومعناه إفادة العلم بهذا الاستفهام (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا) أعطوا (نَصِيباً مِنَ
الْكِتابِ) أي بعضا منه لأنهم بتحريفهم الكتاب قد فقدوا بعضه كما قال
سبحانه (وَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (يُدْعَوْنَ إِلى
كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) يدعوهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى كتاب الله ليجعل حكما بينهم وأن محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم حق أم لا فقد كان في التوراة والإنجيل صفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولذا كان يدعوهم إلى تحكيم كتابهم في هذا الأمر لكنهم لم
يقبلوا
__________________
ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
فَكَيْفَ
إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ
____________________________________
(ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي يعرض عن تحكيم الكتاب وإنما قال فريق لأن بعضهم دخل في
الإسلام بعد ما تمت له الدلالة والإرشاد كعبد الله بن سلام وغيره (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحق وعن كتابهم وفي بعض الأحاديث أن الآية نزلت في
مسألة زنا وقعت بين يهودي ويهودية وكان حكمهما الرجم في التوراة ورجعوا إلى الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم لعله يحكم بغير ذلك فحكم الرسول بينهم بما في التوراة
فكرهوا ذلك.
[٢٥]
(ذلِكَ) الإعراض عن كتابهم وعن أوامر الله سبحانه بسبب أنهم أمنوا
العقوبة بما لفقوه من الكذب حيث (قالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ) أي نار جهنم على فرض كفرنا وعصياننا (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) سبعة أيام أو أربعين يوما وهذه المدة القليلة فلا ينبغي
ترك الشهوات والرئاسة لأجلها (وَغَرَّهُمْ) أي خدعهم (فِي) باب (دِينِهِمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) أي الذي افتروا ونسبوه إلى الدين من أن النار أيام معدودة
فقط خدعهم وغرهم.
[٢٦]
(فَكَيْفَ) حالهم إذا انكشف غرورهم (إِذا جَمَعْناهُمْ
لِيَوْمٍ) القيامة الذي (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس محل ارتياب وشك (وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ
ما
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللهُمَّ
مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ
____________________________________
ما
كَسَبَتْ) أي يعطى كل إنسان
جزاءه وافيا غير منقوص (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) بل يجزون على حسب أعمالهم.
[٢٧] وهنا يتوجه
السياق إلى كون الملك لله فليس لأهل الكتاب أن يحسدوا الرسول والمسلمين فيما أوتوا
من حول وطول وعزة وملك ، وفي بعض الأحاديث أن الآية نزلت بعد ما بشر الرسول
المسلمين بأنهم يفتحون ملك فارس والروم ، فاستهزأ الكفار بذلك وقالوا أنى يكون
لمثل هؤلاء أن يسيطروا على تلك الدولتين العظيمتين (قُلِ) يا رسول الله (اللهُمَ) أي يا الله ، والميم بدل عن حرف النداء (مالِكَ الْمُلْكِ) مالك منصوب على أنه مناد مضاف أي يا مالك الملك فكل شيء لك
وحدك لا شريك وملك من عداك إنما هو مجازي اعتباري (تُؤْتِي) أي تعطي (الْمُلْكَ مَنْ
تَشاءُ) أن تعطيه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشاءُ) أن تنزعه من غير فرق بين أن يكون الملك سلطانا أو ملكا
لشيء كالدار والعقار (وَتُعِزُّ مَنْ
تَشاءُ) أن تعزه عزة ظاهرية أو باطنية بالإيمان والطاعة (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) أن تذله (بِيَدِكَ الْخَيْرُ
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فتقدر على الإعطاء والمنع وأن تعز وتذل.
[٢٨]
(تُولِجُ) أي تدخل (اللَّيْلَ فِي
النَّهارِ) فيأخذ الليل مكان النهار ، فيما
وَتُولِجُ
النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً
____________________________________
ينقص اليوم ويزيد
الليل ، أو فيما إذا جاء الليل وذهب النهار ، وهو كناية ، إذ ليس الإدخال حقيقة (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بأحد المعنيين السابقين (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) كما يخرج النبات الحي من الحب الميت والأرض الميتة ، أو
يخرج الجنين الحي من الأم الميتة كما قد تموت الأم ويخرج الولد منها حيا (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كما يخرج الحب الميت من النبات الحي والبيضة الميتة من
الدجاجة والولد الميت من المرأة الحية إذا مات الجنين في بطنها ، وفي التأويل
إخراج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن (وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشاءُ) من عبادك وخلقك (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير تقتير كما يقال فلان ينفق بغير حساب ، أو بلا حساب
من المنفق عليه وإن كان كل شيء عنده تعالى بحساب.
[٢٩] وحيث ثبت أن
الملك بيد الله والعزة والذلة منه ف (لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) بأن يصادق المؤمن الكافر بزعم أنه ينفعه لأن بيد الكافر الملك
أو أنه يسبب عزته وشوكته (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي من دون أن يتخذ المؤمنين أولياء بل اللازم أن يتخذ
المؤمن المؤمن وليا ، ويتخذ من الكافر عدوا (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) الاتخاذ للكافر وليا (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
فِي شَيْءٍ) أي ليس ذا قدر عند الله سبحانه (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي
وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ
(٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا
ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً
____________________________________
تخافوا من الكفار
فلا بأس باتخاذهم أولياء تقية (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) أي يخوفكم الله من نفسه فإن من يتخذ الكافر وليا يشمله
عقاب الله سبحانه (وَإِلَى اللهِ
الْمَصِيرُ) أي المرجع فمن عصاه يجازيه بالنار والعذاب.
[٣٠]
(قُلْ) يا رسول الله للمسلمين (إِنْ تُخْفُوا ما فِي
صُدُورِكُمْ) أي نواياكم وما في قلوبكم ، كما لو اتخذتم الكافر وليا في
قلبكم مما لم يعلم به الناس (أَوْ تُبْدُوهُ) أي تظهروه (يَعْلَمْهُ اللهُ) فإنه العالم بالنوايا وما في الصدور (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) فهو العالم بكل شيء فكيف لا يعلم ما في صدوركم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو العالم بالنوايا والقادر على العقاب فمن الجدير
بالمسلم أن لا يتخذ الكافر وليا أو المؤمن عدوا حتى في قلبه إذ يعلمه الله ويقدر
على عقابه.
[٣١] اذكروا أيها
الناس (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) أي تجد كل أعماله الخيرية حاضرة كما قال سبحانه (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) ومعنى حضور العمل حضور حساباتها وثوابها وعقابها أو
__________________
وَما
عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً
وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)
قُلْ
أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
____________________________________
تجسم الأعمال كما
ذهب إلى ذلك بعض (وَما عَمِلَتْ مِنْ
سُوءٍ) أي تجد أعماله السيئة حاضرة (تَوَدُّ) تلك النفس العاصية (لَوْ أَنَّ بَيْنَها) أي بين النفس (وَبَيْنَهُ) أي بين ما عملت من سوء (أَمَداً بَعِيداً) أي مكانا بعيدا تشبيه بالأمر المحسوس فكما أن المتباعدين
لا يتلاقيان فعلا كذلك لو كان العمل السيئ بعيدا عن عامله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) حتى تخافوا من عقابه فتتقوه (وَاللهُ رَؤُفٌ) ذو رأفة ورحمة (بِالْعِبادِ) ومن رأفته يحذركم عن المعاصي حتى لا يأخذكم وبالها
وعاقبتها.
[٣٢]
(قُلْ) يا رسول الله (إِنْ كُنْتُمْ) أيها المسلمون ، أو يا أهل الكتاب (تُحِبُّونَ اللهَ) حقيقة وتصدقون في مقالتكم هذه (فَاتَّبِعُونِي) فيما أمر الله وأنهى (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) فإن الله لا يحب إلا من اتبع رسوله في أوامره ونواهيه وإلا
مجرد دعوى حب الله بلا شاهد وحقيقة لا يكفي في حب الله تعالى للمدعي (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) فإن من أحسن واتبع الرسول يغفر ذنبه ويمحي سيئته (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بعباده.
[٣٣]
(قُلْ) يا رسول الله (أَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ) وإطاعة الله سبحانه هي إطاعة الرسول لكن ذكر ذلك تعظيما
للأمر وإردافا لإطاعة الرسول
فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
____________________________________
بذلك كما قال (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) مع أن خمس الله إنما هو للرسول ويحتمل أن يكون ذكر الله
والرسول لإفادة وحدة الجهة أي إن الله والرسول لهما إطاعة واحدة فهو من قبيل أطع
العلماء لا من قبيل أطع العالم أو أطع أباك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا فلم يطيعوا (فَإِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْكافِرِينَ) الذين يعرضون عن أوامر الله ورسوله ومعنى لا يحبهم أنه
يبغضهم لا النفي للحب فقط المجامع لعدم البغض.
[٣٤] وحيث كان
الكلام حول وحدة الدين وأنه هو الإسلام والتعريض بالكفار وأخيرا انتهى المطاف إلى
ميزان حب الله سبحانه ناسب السياق ذكر بعض الأفراد الذين اختارهم الله سبحانه أليسوا
هم جميعا قادة دين واحد المنتهي إلى المسلمين فمن اللازم أن يعرفوهم ويقدروهم ،
فقال سبحانه (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) أي اختار لرسالته ووحيه وجعلهم أنبياء مرشدين (آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) الأنبياء الذين من نسله إسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف وعيسى
ومحمد «صلوات الله عليهم أجمعين» (وَآلَ عِمْرانَ) موسى وهارون عليهماالسلام (عَلَى الْعالَمِينَ) وإنما خصص هؤلاء الأنبياء ، لكون آدم أبو البشر ، ونوح وآل
إبراهيم بما فيهم إبراهيم ـ فإنه يقال آل فلان للأعم منه ومن آله ـ وآل عمران
الذين فيهم الأنبياء ، أولوا العزم هم مدار الرسالات العالمية.
__________________
ذُرِّيَّةً
بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
____________________________________
[٣٥] حال كون نوح
وآل إبراهيم وآل عمران (ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ) في أداء الرسالة ومناصرة الدين وإرشاد الناس ، فإن من خرج
عن دين آبائه ليس منهم كما قال سبحانه (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ) بخلاف من اتبع آباءه (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما تقوله الذرية (عَلِيمٌ) بضمائرهم وأعمالهم ولذا فضلهم على من سواهم إن هؤلاء
الأنبياء كلهم ذووا خصائص واحدة موروثة من جدهم آدم عليهالسلام مما تؤهلهم لحمل الرسالة الواحدة التي هي رسالة الإسلام.
[٣٦] وفي هذا الجو
يأتي ذكر والدة عيسى عليهمالسلام وأنها كيف كانت طاهرة زكية بحيث أهلت لإيداع النبي العظيم
عندها ، اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ) وهي حنّة جدة عيسى عليهالسلام من الأم (رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) وذلك حين حملت لم تكن تعلم أنها أنثى فنذرت أن تجعل ما في
بطنها لخدمة المسجد ومعنى المحرر الفارغ من الأعمال الدنيوية الصارف جميع أوقاته
في خدمة بيت الله سبحانه ، وهكذا كان قلب أم مريم عامرا بالإيمان جاعلة أعز شيء
لديها لله وفي خدمة عباد الله (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) نذري (إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ) لدعائي (الْعَلِيمُ) بما في ضميري من صدق وإخلاص.
__________________
فَلَمَّا
وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها
بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
____________________________________
[٣٧]
(فَلَمَّا وَضَعَتْها) أي وضعت امرأة عمران جنينها خاب ظنها ورأت أنها أنثى ف (قالَتْ) في يأس وتبتل (رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُها أُنْثى) والأنثى لا تصلح للخدمة (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) فإن الله كان يعلم ذلك منذ كانت جنينا في بطنها بينما هي
لا تعلم إلا بعد الوضع (وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى) فالذكر يأتي منه الخدمة ولا بأس بحشره في مكان العبادة في
المسجد بخلاف الأنثى إذ لا تلائم الرجال ولا تلائم عادتها النسائية المسجد ، ثم
قالت (وَإِنِّي سَمَّيْتُها
مَرْيَمَ) أي جعلت اسمها «مريم» وهي في لغتهم بمعنى العابدة (وَإِنِّي أُعِيذُها) أي أجعلها في حفظك وحراستك (بِكَ وَ) أعيذ (ذُرِّيَّتَها مِنَ
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي المرجوم باللعن والمطرود عن الخير.
[٣٨]
(فَتَقَبَّلَها
رَبُّها) أي تقبل الله سبحانه مريم مع أنوثتها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) حيث قدر لها السعادة وأن يجعل منها عيسى المسيح عليهالسلام (وَأَنْبَتَها نَباتاً
حَسَناً) أي جعل نشوءها نشئا حسنا بالفضيلة والأخلاق والعفة
والطهارة (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا) أي جعل الله سبحانه كفيلها زكريا وكان زوج خالة مريم ، وهو
من أنبياء الله سبحانه فإن أم مريم
كُلَّما
دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
____________________________________
ذهبت بها إلى
المسجد وسلمتها إلى الأحبار فتنازعوا في كفالتها حتى اقترعوا عليها وخرجت القرعة
باسم زكريا فكانت مريم تخدم في صغرها المسجد حتى إذا بلغت مبلغ النساء انفصلت عنهم
في غرفة خاصة بها بناها لها زكريا في وسط المسجد عالية لا يمكن الوصول إليها إلا
بسلم وكان يأتي بحوائجها كل يوم وكان من غريب أمرها أن (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا
الْمِحْرابَ) وهي غرفتها وسمي محرابا لأنه محل محاربة النفس والشيطان (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) فاكهة في غير حينها (قالَ يا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هذا) أي من أين لك هذا الرزق (قالَتْ) مريم (هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) أرسله إلي الله تعالى من الجنة كرامة لي (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير تقتير أو محاسبة من المرزوق.
[٣٩]
(هُنالِكَ) الذي رأى زكريا إكرام الله سبحانه لمريم نحو خرق العادة من
إرسال الفاكهة إليها (دَعا زَكَرِيَّا
رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) أي نسلا صالحا (إِنَّكَ سَمِيعُ
الدُّعاءِ) وكان زكريا يائسا من الأولاد حيث كبر وشاخ وكانت امرأته
عاقرا لكن طلب ودعا مريدا على وجه الإعجاز وخرق العادة.
فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ
بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ
____________________________________
[٤٠]
(فَنادَتْهُ) أي نادت زكريا (الْمَلائِكَةُ وَهُوَ
قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) إما المراد المحراب أو نفس المسجد وسمي محرابا لأنه محل
محاربة الشيطان والنفس حيث يريدان صرف الإنسان إلى الدنيا والمسجد يصرفه إلى
الآخرة (أَنَّ اللهَ
يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) سماه سبحانه بهذا الاسم قبيل الولادة في حال كونه (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) والمراد بالكلمة عيسى عليهالسلام أي أن يحيى يصدق نبوة عيسى ، وإنما سمي عيسى عليهالسلام كلمة الله لأنه كان بإلقاء الله إياها إلى مريم ، كما تلقى
الكلمة من الفم (وَسَيِّداً) أي ذو سيادة وشرافة (وَحَصُوراً) يحصر نفسه عن الملذات ، أو عن النساء خاصة بمعنى أنه عليهالسلام كان زاهدا ، وكون حصور مدحا ليحيي عليهالسلام لأسباب خاصة لا ينافي استحباب الزواج في الشرائع (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الذين يصلحون ولا يكن فيهم فساد كما هو شأن جميع الأنبياء.
[٤١] فاستفسر
زكريا عليهالسلام عن كيفية حصول الولد هل يرزقه وهما على ما هما عليه من
الحالة أم تتبدل حالتهما (قالَ) زكريا في جواب الملائكة سائلا عن الله سبحانه (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي كيف يكون لي ولد (وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ) أي الشيخوخة (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)
قالَ
كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ
رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ
____________________________________
ليس لها قابلية
الولادة (قالَ) الملك في جوابه (كَذلِكَ) أي كالحال الذي أنتما عليه من الكبر والعقر (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) فإنه قادر على كل شيء.
[٤٢]
(قالَ) زكريا عليهالسلام (رَبِّ اجْعَلْ لِي
آيَةً) أي علامة أعرف بها وقت الحمل لأزيد شكرا وسرورا أو علامة
أعرف بها استجابة دعائي ليطمئن قلبي وأجده محسوسا ملموسا بعد ما وجدته سماعا
بالبشارة (قالَ) الملك ، أو الله سبحانه بخلق الصوت في الفضاء (آيَتُكَ) أي الدليل على ذلك (أَلَّا تُكَلِّمَ
النَّاسَ) أي لا تقدر على التكلم معهم كلما توجهت إليهم بالكلام يعقد
لسانك (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ
إِلَّا رَمْزاً) بالإشارة باليد والرأس (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
كَثِيراً) فإن لسانك لا ينعقد عن الذكر والتسبيح لله سبحانه (وَسَبِّحْ) أي نزه الباري تعالى (بِالْعَشِيِ) آخر النهار (وَالْإِبْكارِ) أول النهار ، من أبكر فهو اسم مفرد لا جمع.
[٤٣] ثم رجع
السياق إلى بقية قصة مريم عليهاالسلام حيث كانت قصة زكريا عليهالسلام توسطت في الموضوع لمناسبة (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) اختارك لعبادته وإطاعته وأن تكوني وعاء لنبيه (وَطَهَّرَكِ) من الآثام والذنوب والأدناس
وَاصْطَفاكِ
عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
ذلِكَ
مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
____________________________________
والعادات النسائية
(وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ) وكرر الاصطفاء تأكيدا ومقدمة لذكر نساء العالمين فليس
الاختيار لها في جملة مختارات وإنما هي مختارة على سائر نساء زمانها وعوالمها لأكل
العالمين فإن فاطمة عليهاالسلام هي المختارة المطلقة على جميع النساء وقد تقدم أن مثل هذه
العبارة تقال مرادا بها العوالم المعاصرة لأكل العوالم كما يقال إن الدولة
الفلانية أقوى جميع الدول يراد الدول المعاصرة لها لا كل دولة في العالم أتت أو
تأتي.
[٤٤]
(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) القنوت الخضوع والإخلاص في العبادة (لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ) أي في جملة الذين يركعون لله سبحانه.
[٤٥]
(ذلِكَ) الذي تقدم من قصص مريم وزكريا ويحيى (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي الأخبار الغائبة عن الحواس فإن كل شيء غاب عن الحواس
يسمى غيبا (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نلقيه عليك ليدل على أنك من المرسلين فإن الإخبار عما
لم يحضره الإنسان ولم يعلمه من طريق التاريخ يدل على كونه بالإعجاز وخارق للعادة (وَما كُنْتَ) يا رسول الله (لَدَيْهِمْ) أي عند الأحبار والمعاصرين لمريم عليهاالسلام (إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ) التي بها كانوا يكتبون التوراة (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) فإن زوجة
وَما
كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
____________________________________
عمران لما أتت
بمريم إلى المسجد اختلفت الأحبار في من يكفلها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب
قربانهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقال له الأحبار : إنها لو
تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكن نقترع عليها فتكون عند من خرج
سهمه ، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون رجلا إلى نهر جار فألقوا أقلامهم في الماء فأبرز
قلم زكريا وارتفع فوق الماء ورسبت أقلامهم ولذا أخذها زكريا (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ) في شأنها وأن أيهم يكفلها.
[٤٦] واذكر يا
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ) مخاطبة لمريم عليهاالسلام (يا مَرْيَمُ إِنَّ
اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) أي بولد هو كلمة الله تلقى عليك ويخرج منك بصورة عيسى
المسيح عليهالسلام (اسْمُهُ الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) قيل سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض ويسير فيها ، وذكر في
الكلام أمه دحضا لمن يفتري قائلا : أنه ابن الله ، في حال كونه (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي ذا جاه وقدر وشرف (وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) لله تعالى قرب شرف وجاه لا زمان ومكان.
[٤٧]
(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ) أي في حال كونه صغيرا قبل أوان تكلم
وَكَهْلاً
وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
____________________________________
الأطفال والمهد هو
الموضع الذي يوضع فيه الطفل ويهز من خشب أو حديد أو ثوب أو نحوها (وَكَهْلاً) أي يكلمهم كهلا بالوحي والكهل ما بين الشاب والشيخ أو يراد
الإخبار عن بقائه إلى ذلك الوقت (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين فيهم الصلاح دون الفساد.
[٤٨]
(قالَتْ) مريم لما سمعت هذا النبأ المدهش (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) أي كيف يمكن أن ألد ولدا (وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ) أي لم يقترب مني على نحو النكاح فإنها كانت دون زوج (قالَ) الملك في جواب مريم (كَذلِكِ) أي هكذا بدون المس والزوج (اللهُ يَخْلُقُ ما
يَشاءُ) فإنه ليس بخارج عن قدرة الله سبحانه (إِذا قَضى أَمْراً) أراد خلقه وتكوينه (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ) قولا أو إرادة بدون تلفظ (فَيَكُونُ) في الخارج ، فإن الله يوجد الأشياء بصرف الإرادة.
[٤٩]
(وَيُعَلِّمُهُ) أي يعلم الله سبحانه المسيح (الْكِتابَ) أي الكتابة أو مطلق الكتاب المنزل من السماء (وَالْحِكْمَةَ) حتى يكون حكيما يعرف مواضع الأشياء أو المراد بالحكمة علم
الشرائع من الحلال والحرام وسائر الأحكام (وَالتَّوْراةَ) وهو كتاب موسى عليهالسلام (وَالْإِنْجِيلَ) وهو الكتاب الذي أنزل على المسيح بنفسه وقد ذكروا
وَرَسُولاً
إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ
طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى
بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِكُمْ
____________________________________
أن معنى التوراة «التعليم
والبشارة» ومعنى الإنجيل «البشارة والتعليم».
[٥٠]
(وَ) نجعله (رَسُولاً إِلى بَنِي
إِسْرائِيلَ) لإرشادهم من الضلالة إلى الحق ، وانتقل السياق إلى كلام
عيسى عليهالسلام الذي كان يتكلم به بعد النبوة ، فكان يقول لبني إسرائيل (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) أي بمعجزة وعلامة تدل على صدق دعواتي للنبوة وأني رسول
إليكم (أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ) أي أصنع لأجلكم (مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي على صورة الطائر (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في الطائر المصنوع من الطين (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) وإرادته وقدرته ، فصنع صورة خفاش من الطين ونفخ فيه فطار (وَأُبْرِئُ) أي أشفي (الْأَكْمَهَ) الذي ولد أعمى ، أو مطلق الأعمى (وَالْأَبْرَصَ) الذي أصيب بمرض البرص وهو الوضح (وَأُحْيِ الْمَوْتى) كل ذلك (بِإِذْنِ اللهِ) فكان يقف على القبر ويقول للميت قم بإذن الله فيقوم ينفض
عن جسمه الغبار كأنه لم يمت أصلا (وَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِما تَأْكُلُونَ) إخبارا عن الغيب (وَما تَدَّخِرُونَ) من الادخار (فِي بُيُوتِكُمْ) فكان يقول
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ
عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠)
إِنَّ
اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
____________________________________
للشخص تغذيت بكذا
أو حفظت لليل كذا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت من المعجزات (لَآيَةً) معجزة دالة على صدقي (لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) بالله وإنما يقيد بالإيمان لأن من لا يؤمن بالله سبحانه لا
يمكن أن يفرق بين المعجزة والسحر.
[٥١]
(وَ) ذلك في حال كونه (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيَ) أي ما تقدم علي وأنزل قبلي (مِنَ التَّوْراةِ) فإنه من أسباب لزوم تصديقي حيث لا أبطل كتاب بني إسرائيل (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) يا بني إسرائيل (بَعْضَ الَّذِي
حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في شريعة موسى عليهالسلام وهذا التحليل إنما كان لانقضاء ظرف التحريم (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة تشهد بصدقي وأني من قبل الله سبحانه ، وهي إما
إجمال لما فصل في الآية السابقة ، جمعا لأعماله عليهالسلام في الأمور الثلاثة ، التصديق ، والتحليل ، والإعجاز ، وإما
يراد به آية أخرى لم تذكر في القرآن (فَاتَّقُوا اللهَ) وصدقوا برسالتي (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه.
[٥٢]
(إِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ) فلست أنا ابنا له ، قال ذلك ردا على النصارى الذين اتخذوه
إلها (فَاعْبُدُوهُ) وحده ولا تعبدوا من دونه الشركاء كما عبدت اليهود عزيرا ،
وعبدت النصارى المسيح (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ)
فَلَمَّا
أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ
الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا
بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ
(٥٣)
____________________________________
لا اعوجاج له ولا
انحراف بخلاف سائر الطرائق التي هي طرق معوجة منحرفة زائغة.
[٥٣] وبعد هذه
الحجج لم يزدد بني إسرائيل إلا عنادا واستكبارا (فَلَمَّا أَحَسَ) من الحس أي وجد (عِيسى) عليهالسلام (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) وأنه لم تنفعهم الحجة والدليل (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) الذين ينصرون ديني للوصول إلى ثواب الله تعالى إذ المسلم
يقطع طريق الوصول إلى الله لينتهي إلى ثوابه (قالَ الْحَوارِيُّونَ) هو جمع حواري من الحور بمعنى شدة البياض وسمي خاصة الإنسان
بالحواري لنقاء قلبه وصفاء باطنه (نَحْنُ أَنْصارُ
اللهِ) الذين ننصر دينه ونتابعك على ما أنت عليه (آمَنَّا بِاللهِ) إيمانا لا يشوبه شرك (وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) في أدياننا.
[٥٤] ثم توجهوا
إلى الله سبحانه داعين قائلين (رَبَّنا) أي يا ربنا (آمَنَّا بِما
أَنْزَلْتَ) على رسولك عيسى عليهالسلام (وَاتَّبَعْنَا
الرَّسُولَ) فيما أمر ونهى (فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ) الذين يشهدون على الأمم كما قال سبحانه (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فالرسل
__________________
وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
إِذْ
قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
____________________________________
شهداء على أصحابهم
وهم شهداء على سائر الناس.
[٥٥] ذلك كان قول
أنصار عيسى والمؤمنين به أما الكفار الذين جحدوه وأنكروه فلم يؤمنوا (وَمَكَرُوا) لعيسى عليهالسلام بأن يقتلوه (وَمَكَرَ اللهُ) بإنقاذه منهم وقتل كبيرهم عوضه ، والمكر لغة بمعنى تطلب
العلاج لأمر ما والغالب يستعمل في الشر ، ولعل نسبة المكر هنا إلى الله سبحانه
للمقابلة نحو قوله (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) مع أن الله سبحانه ليس له نفس (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) لأنه أعرف بطرق العلاج ، وفي بعض التفاسير أنه لما أراد
ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليهالسلام دخل خوخته وفيها كوة فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء
وقال الملك لرجل خبيث من الكفار ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه
عيسى عليهالسلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه بظن أنه
عيسى وكان قتله على نحو الصلب وكلما صاح أنه ليس بعيسى لم يفد.
[٥٦] واذكر يا
رسول الله (إِذْ قالَ اللهُ) أو ذاك إذ قال ، أو ومكر الله إذ قال (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي آخذك وافيا فإن معنى توفاه أخذه وافيا ويقال توفى الله
فلان حين يأخذ روحه وافية من الوفاء وهو في أخذ الروح والجسد أقرب إلى الحقيقة من
أخذ الروح فقط فإنه
__________________
وَرافِعُكَ
إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا
____________________________________
بعلاقة الكل
والجزء أي آخذك (وَرافِعُكَ إِلَيَ) فإنه عليهالسلام رفع إلى السماء الرابعة كما في بعض الأحاديث وقد يظن أن
ذلك ينافي ما اشتهر في العلم الحديث من عدم وجود سماوات ذات حجوم لكنه ظن غير تام
إذ السماء حتى لو كان يراد بها المدار ـ كما هو معناه لغة ـ تكون هناك سماوات
وللتوضيح راجع «الهيئة والإسلام» تأليف «العلامة الشهرستاني» (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنهم أرجاس أنجاس فكما أن الجسم المحاط بالنجاسة إذا غسل
يطهر عنها كذلك إن الإنسان الطيب في أناس كفرة عصاة إذا أخرج من بينهم كان تطهيرا
له في المعنى عن لوثهم وكفرهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ) من النصارى (فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بك من اليهود (إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ) وهذا من معاجز القرآن الحكيم فإن النصارى دائما فوق اليهود
إلى يومنا هذا وسيكونون كذلك إلى يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيَّ
مَرْجِعُكُمْ) جميعا أنت وأصحابك الكفار ، وذلك يوم القيامة (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ
فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والشرك ومن كونك نبيا وسائر الأصول والفروع
التي كنت تنادي بها وتبشر من أجلها وكان اليهود يكفرون بها.
[٥٧]
(فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا) بك وبما جئت به (فَأُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا)
وَالْآخِرَةِ
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
وَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ
عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
____________________________________
بضرب الذلة
والمسكنة عليهم وإنهم دائما تحت حكم أصحابك وأنه لا تقوم لهم دولة إلا بحبل من
الله وحبل من الناس وإنهم مكروهون منفورون أبد الآبدين (وَالْآخِرَةِ) بإدخالهم نارا أحاطت بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء
كالمهل (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه.
[٥٨]
(وَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا) بك وبما بشرت به (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) مما أمرناهم به واجتنبوا عن المحرمات ، فإنه لا يقال يعمل
فلان الصالحات إلا إذا اجتنب الآثام إلى جنب إتيانه بالواجبات (فَيُوَفِّيهِمْ) أي يعطيهم الله (أُجُورَهُمْ) كاملة غير منقوصة فإن الوفاء إعطاء المطلوب كاملا (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا بالكفر أو بعدم العمل الصالح.
[٥٩]
(ذلِكَ) المذكور هنا من أخبار زكريا وعيسى ويحيى ومريم عليهمالسلام (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) أي نقرأه عليك بسبب الوحي (مِنَ الْآياتِ) أي من جملة الآيات والحجج الدالة على صدقك وأنك نبي يوحى
إليه (وَ) من (الذِّكْرِ) إي القرآن (الْحَكِيمِ) المحكم الذي لا يتطرق إليه بطلان أو زيغ.
إِنَّ
مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ
____________________________________
[٦٠] وهنا تتهيأ
النفوس لإدراك حقيقة عيسى هل كان بشرا وكيف ولد من غير أب فقال سبحانه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ) فليس ولادة عيسى من غير أب عجيبا وبدعا ولا يدل ذلك على
أنه رب ، فآدم أعجب منه أليس الله سبحانه (خَلَقَهُ) أي خلق آدم (مِنْ تُرابٍ) صنعه وجسده (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) إنسانا حيا (فَيَكُونُ) كما قال ومقتضى القاعدة أن يقال «فكان» إلا أن هذه الجملة
أخذت صيغة المثالية نحو الصيف ضيعت اللبن ، ولذا يؤتى بها على لفظها وقد تقدم أن
كلمة «كن» تعبر عن الإرادة الأزلية لا أن في اللفظ خصوصية.
[٦١]
(الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ) يا رسول الله أي أن قصة عيسى هكذا أو خلقه كذلك حق من ربك (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكين فإن امترى بمعنى شك والخطاب وإن كان للرسول
لكنه عام لكل أحد ، ومن المعلوم أن توجيه الخطاب لا يلازم احتمال وجود الصفة ،
وإنما أكد البيان بجملة «فلا تكن» لكثرة الشك والتشكيك لدى الناس في مختلف شؤون
عيسى عليهالسلام.
[٦٢]
(فَمَنْ حَاجَّكَ) وجادلك يا رسول الله (فِيهِ) أي في عيسى قائلا أنه ليس بشرا وإنما هو رب انفصل عن الرب
، ونزلت الآية في وفد نجران من المسيحيين الذين جاءوا للمجادلة مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم تنفعهم الحجة والدليل فقرر الطرفان أن يخرجوا إلى
الصحراء ليدعو
مِنْ
بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
إِنَّ
هذا لَهُوَ الْقَصَصُ
____________________________________
كل من الطرفين على
الكاذب فخرج الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الموعد مع علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام فلما رأتهم النصارى أحجموا وقال كبيرهم : إني لأرى وجوها
لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه
الأرض نصراني إلى يوم القيامة وقال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم
الوادي عليهم نارا ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) حول قصة عيسى عليهالسلام (فَقُلْ) لهم يا رسول الله (تَعالَوْا) أي هلموا إلى حجة أخرى ليست محل نقاش وجدال (نَدْعُ) أي يدعو كل طائفة منا (أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا) أي من هو بمنزلة أنفسنا (وَأَنْفُسَكُمْ) أي من هو بمنزلة أنفسكم ، والمراد دعوة كل طرف خواصه ومن
يقترب إليه من الأبناء والنساء ومن هو بمنزلة نفسه (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) الابتهال طلب اللعنة من الله سبحانه أي تدعو كل طائفة على
الأخرى قائلين : لعن الكاذب ، وقد يستعمل الابتهال بمعنى مطلق الدعاء خيرا كان أو
شرا (فَنَجْعَلْ) في ابتهالنا (لَعْنَتَ اللهِ عَلَى
الْكاذِبِينَ) وقد أجمع المفسرون أن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يخرج معه إلا ابنيه الحسن والحسين وبنته فاطمة وابن عمه
عليا عليهمالسلام.
[٦٣]
(إِنَّ هذا) الذي أوحينا إليك في أمر عيسى وغيره (لَهُوَ الْقَصَصُ)
الْحَقُّ
وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ
____________________________________
جمع قصة (الْحَقُ) الذي لا كذب فيه ولا زيغ (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ) فليس عيسى إلها كما يزعم النصارى (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في أفعاله فلا يتخذ البشر ابنا له كما يقول اليهود
والنصارى.
[٦٤]
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا مصرين على عقائدهم الفاسدة (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) الذين يفسدون عقائد الناس وأعمالهم فإنهم لا يفوتونه
سبحانه بل هم بعلمه وسيجازيهم بأعمالهم وأفعالهم.
[٦٥] وحيث انتهى
السياق من قصص عيسى عليهالسلام تناول الحديث حول أهل الكتاب وانحرافاتهم للعلاقة الوثيقة
بين الموضوعين فقال سبحانه (قُلْ) يا رسول الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) والمراد بهم اليهود والنصارى (تَعالَوْا) أي هلموا نجتمع جميعا (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ
بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي إلى كلام عدل لا ميل له ونحن جميعا نعترف به وندع ما
سوى ذلك ما لم يدل عليه دليل (أَلَّا نَعْبُدَ
إِلَّا اللهَ) فإن العبادة لا تجوز إلا له إذ هو الذي خلق الكون (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) من إنسان أو حيوان أو جماد كما يصفه المشركون (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً) أي بعض البشر (أَرْباباً) وآلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) كاتخاذ النصارى المسيح إلها أو المراد
فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)
ها
أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
____________________________________
اتخاذ الأحبار
والرهبان آلهة في الإطاعة فيما خالف الله سبحانه كما قال : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن ذلك (فَقُولُوا) لهم (اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ) لله وحده نتبع طريقه ولا نبتغي غير الإسلام دينا.
[٦٦] وقد كان أهل
الكتاب يقولون أن إبراهيم كان على ديننا فاليهود منهم كانوا يقولون أنه عليهالسلام كان يهوديا والنصارى منهم كانوا يقولون أنه عليهالسلام كان مسيحيا فقال سبحانه في ردهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ) أي لماذا (تُحَاجُّونَ) وتجادلون (فِي إِبْراهِيمَ) عليهالسلام وتنسبوه إلى اليهودية والنصرانية (وَ) الحال أنه متقدم زمانا على كلا الدينين ، فإبراهيم جد موسى
وعيسى وهو سابق عليهما بقرون فإنه (ما أُنْزِلَتِ
التَّوْراةُ) على موسى (وَالْإِنْجِيلُ) على عيسى (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد إبراهيم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أليس لكم عقل حتى
تعرفون التاريخ.
[٦٧]
(ها) تفيد التنبيه (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) يا معشر أهل الكتاب (حاجَجْتُمْ) وجادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ) مما تعلمون كالقبلة
__________________
فَلِمَ
تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ
____________________________________
ونحوها (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ) إذ لا تعلمون تاريخ إبراهيم وتجادلون في أنه كان يهوديا أو
نصرانيا (وَاللهُ يَعْلَمُ) تاريخ إبراهيم ودينه (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) فما هذه المخاصمة والمجادلة.
[٦٨]
(ما كانَ إِبْراهِيمُ
يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) فإنهما طريقتان متأخرتان انحرفتا عن سنن الأنبياء حتى أن
المسيح وموسى عليهماالسلام لم يكونا متصفين بهاتين الملتين (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مستقيما في دينه لا منحرفا (مُسْلِماً) لما تقدم من أن الإسلام دين الأنبياء جميعا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كشرك اليهود الذين جعلوا عزير ابن الله وشرك النصارى الذين
جعلوا المسيح إلها أو ابن الله.
[٦٩] كانت اليهود
تقول نحن أولى بإبراهيم لأنه على ديننا وكانت النصارى تقول مثل ذلك فنزلت (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الذي يحق أن يفتخر به ويقول أنا على طريقته وأنه رئيس
الملة لي (لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ) في زمانه وبعده إذ التابع يحق له أن يفتخر برئيسه ومتبوعه
لا من يتبع غيره كاليهود والنصارى الذين خالفوا إبراهيم (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) عطف على «الذين اتبعوه» فإن هذا النبي والمؤمنين هم الذين
اتبعوا إبراهيم وهم على ملته فإن ملته التوحيد وخلع الأنداد (وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ
(٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما
يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ
____________________________________
الْمُؤْمِنِينَ)
يلي أمورهم
وينصرهم على عدوهم.
[٧٠]
(وَدَّتْ) أي أحبت ورغبت (طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) أي جماعة منهم فإن كثيرا من أهل الكتاب لم يكن يعنيهم هذه
الأمور (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) عن دينكم حتى تدخلوا في دينهم أو ترجعوا كفارا (وَما يُضِلُّونَ) هؤلاء (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فإنهم بتركهم الإسلام والتزامهم أديانهم المنحرفة سببوا
ضلالا لأنفسهم ، أو المراد أنه لا يرجع وبال إضلالهم إلا على أنفسهم حيث يوجب ذلك
لهم خزيا في الدنيا وعذابا في الآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي ما يعلمون أنهم أضلوا أنفسهم أو ما شعروا بأنه رجع وبال
إضلالهم إلى أنفسهم.
[٧١]
(يا أَهْلَ الْكِتابِ) هم اليهود والنصارى ، والمجوس وإن كانوا أهل الكتاب إلا أن
هذه المباحثات كانت مع الطائفتين فقط كما يستفاد من سياق الآيات (لِمَ) أي لماذا (تَكْفُرُونَ بِآياتِ
اللهِ) بدلائله وحججه التي أقامها على التوحيد والرسالة وسائر
الأمور (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) بلزوم الإقرار بها شهادة فيما بينكم ، أو شهادة حسب كتبكم
الدالة على التوحيد ورسالة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وسائر الأمور المختلف فيها.
[٧٢]
(يا أَهْلَ الْكِتابِ) وخطابهم بهذا الخطاب إشعار بأنهم ينبغي أن
لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
وَقالَتْ
طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
____________________________________
لا يكونوا كذلك إذ
هم أهل العلم والدراية وفيهم نزل كتاب الله سبحانه (لِمَ) أي لماذا (تَلْبِسُونَ الْحَقَّ
بِالْباطِلِ) أي تخلطون الحق بالباطل ففي أعمالكم قسم من الحق وقسم من
الباطل فالإيمان بموسى وعيسى حق والكفر بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم باطل وهكذا بعض كتابهم حق وبعضه الذي حرفوه باطل (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي تعلمون أنه حق فقد كان علماؤهم يكتمون صفات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى لا يميلوا نحوه وتذهب رئاستهم.
[٧٣] وقد صدرت
مكيدة من أهل الكتاب لتضليل الناس وأن لا يتعلقوا بدين الإسلام ، حيث يظهرون عملا
يصورهم عند الناس في صورة المنصف وأنهم إنما لم يتبعوا الإسلام لأنهم لم يجدوه حقا
(وَقالَتْ طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) بعضهم لبعض (آمِنُوا) أي أظهروا الإيمان (بِالَّذِي أُنْزِلَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالقرآن (وَجْهَ النَّهارِ) أي أول الصبح ، فقولوا إنا آمنا بمحمد وكتابه لأنا وجدناه
في كتبنا (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) أي آخر النهار فقولوا بعد أن آمنا رجعنا إلى صفات محمد
ثانيا فوجدناها ليست كما ذكر في كتابنا ، فإن هذا العمل يريكم في أعين الناس
منصفين حيث آمنتم بمحمد بمجرد علمكم بحقيقته ، وإنما رجعتم حيث ظهر لكم عدم
الحقيقة ، فتوهمون الناس أنكم منصفون صادقون تريدون الحق (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لعل هذا
وَلا
تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ
يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ
إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)
____________________________________
العمل الخداعي
يسبب رجوع المسلمين عن إسلامهم حيث يوجب ذلك تشكيكا لهم.
[٧٤]
(وَلا تُؤْمِنُوا) أي لا تظهروا الإيمان (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ) فإيمانكم وجه النهار يكون عند أهل الكتاب لا عند المسلمين
، أو لا تؤمنوا إيمانا صادقا من قلوبكم إلا لأهل الكتاب ، فلا تؤمنوا للمسلمين ،
ومعنى الإيمان لمن تبع دينهم أنهم يؤمنون بمثل ما آمن أهل الكتاب (قُلْ) لهم يا رسول الله (إِنَّ الْهُدى) الحقيقي (هُدَى اللهِ) لا هذا الهدى الاصطناعي الذين تريدون به خداع أصحابكم
والمسلمين فلسنا في حاجة إلى هداكم كما لا نخاف من إضلالكم فإن الله إذا هدى شخصا
لا يرجع بخداعكم ، ثم يرجع السياق إلى كلام اليهود بعضهم لبعض ، ولا تؤمنوا (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما
أُوتِيتُمْ) فإنما أوتيتم أيها اليهود هو خير مما أوتي غيركم فلا يكن
إيمانكم بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إيمانا عن قلب أو صدق (أَوْ يُحاجُّوكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي لا تؤمنوا أن يحاجكم المسلمون عند ربكم بمعنى أنه لا
يمكن أن يكون ذلك إذ المحاجة لا تكون من المبطل ـ والمسلم مبطل بزعمهم ـ (قُلْ) يا رسول الله ردا على قولهم (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ)
(إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ) فأي مانع من أن يعطي المسلمين مثل ما أعطى اليهود وأفضل
منه (يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) الفضل لا ينفد فضله بإعطائه لأحد (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق
يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
____________________________________
يعلم حيث يجعل
رسالته.
[٧٥]
(يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فإن فضله يبتدئ بالخلق وينتهي إلى حيث لا قابلية فوقه.
[٧٦] وقد جمع بعض
أهل الكتاب إلى تلك الرذائل السابقة رذيلة الخيانة (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) أي بعض أهل الكتاب ـ والمراد به من آمن منهم كعبد الله بن
سلام ـ (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي تجعله أمينا على قنطار من مال لا يخونه بل يؤديه إليك
عند المطالبة ، وقد ورد أن عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب
فأداه إليه فمدحه الله بهذه الآية (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) أي تجعله أمينا على مال قليل كدينار (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عند المطالبة فإن رجلا من قريش استودع «فخاص» دينارا فخانه
ولم يرده إليه (إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) بالضغط والإلحاح والمراقبة (ذلِكَ) الاستحلال والخيانة منهم لأموال الناس بسبب أنهم أي الخائن
من أهل الكتاب (قالُوا لَيْسَ
عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي لا سبيل ولا غضاضة علينا في استحلالنا أموال الأميين أي
العرب حيث أنهم خرجوا عن دينهم أي غير الشرك وقد أودعونا حال شركهم فإذا رفضوا
طريقتهم إلى الإسلام سقط
وَيَقُولُونَ
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ
____________________________________
حقهم كذا كانوا
يقولون وينسبونه إلى كتبهم (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) فإنه ليس ذلك في كتبهم ، بل اللازم أداء الأمانة إلى البر
والفاجر (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم يكذبون على الله وأن عدم الأداء خيانة ورذيلة.
[٧٧]
(بَلى) فيه نفي لما قبله وإثبات لما بعده أي لم يجز الله الخيانة
بل أوجب الأداء ف (مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ) وأدى الأمانة التي عنده (وَاتَّقى) من عذاب الله في الخيانة وغيرها (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) لا الخائنين الكاذبين.
[٧٨]
(إِنَ) من يأكل الأمانة ويكذب على الله فقد باع دينه بثمن قليل و (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) بمقابل عهد (اللهِ) الذي هو الكتاب والدين (وَ) ب (أَيْمانِهِمْ) أي أقسامهم الكاذبة التي يحلفون بها لأجل الباطل (ثَمَناً قَلِيلاً) وقد تقدم أن الأمور الدنيوية مهما عظمت فإنها قليلة
بالنسبة إلى الآخرة (أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي لا نصيب لهم من رحمة الله وجنته في الآخرة (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) كلام لطف وحنان وهو كناية عن غضب الله عليهم كما أن من غضب
على شخص لا يكلمه (وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ) أي لا يعمهم بلطفه وإحسانه وهو كناية أخرى عن
يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
وَإِنَّ
مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ
الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما
هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
____________________________________
الغضب كالذي يغضب
على شخص فلا ينظر إليه (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ذلك اليوم الذي يحتاج كل أحد إلى فضله وإحسانه تعالى (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من الدنس فإن قلب الخائن الكاذب أقذر ما يكون
فلا يشمله الله سبحانه بلطفه الخاص الذي يلطف به على المؤمنين (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع.
[٧٩]
(وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي بعض أهل الكتاب (لَفَرِيقاً) أي جماعة (يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي يطوون ألسنتهم عند قراءة الكتابة وطي لسانهم إنما هو
بالزيادة والنقيصة فكما أن ليّ الشيء يخرجه عن الاستقامة بالزيادة في جانب والنقيصة
في جانب كذلك ليّ اللسان بالكتاب ، فإنهم أضافوا على التوراة والإنجيل في مواضع
ونقصوا منهما في مواضع (لِتَحْسَبُوهُ) أيها المسلمون (مِنَ الْكِتابِ) فيكون شاهدا لأباطيلهم المخترعة (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) بل من إضافاتهم وتحريفاتهم (وَيَقُولُونَ هُوَ) ما يتلونه باسم
الكتاب (مِنْ عِنْدِ اللهِ) تعالى (وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) بل من مخترعاتهم الكاذبة (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) في نسبتهم ذلك التحريف إليه سبحانه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه ليس من الكتاب وأنهم كاذبون.
ما
كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ
يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا
رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
(٧٩)
____________________________________
[٨٠] وحيث أنه كان
من أظهر تلك التحريفات تحريفهم حول المسيح عليهالسلام وادعائهم أنه شريك مع الله وأن ذلك موجود في كتابهم ، ردهم
الله سبحانه بأن ذلك مستحيل في حق المسيح ، لأن الله سبحانه لا يعطي النبوة لرجل
كاذب يدعي لنفسه الربوبية فإنه (ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) أي يعطيه (الْكِتابَ
وَالْحُكْمَ) بين الناس (وَالنُّبُوَّةَ) والرسالة (ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي اعبدوني دونه سبحانه ، أو المراد اعبدوني معه ، فإن
عبادة الشريك عبادة لمن دون الله ، ولأن الشرك معناه عدم عبادة الله إطلاقا إذ
الله لا شريك له ، فمن له شريك ليس هو بإله ، وفي بعض التفاسير أن سبب نزول هذه
الآية أن يهوديا سأل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك ونزلت الآية (وَلكِنْ) اللازم على الرسول أن يقول للناس (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) منسوبين إلى الرب ترشدون الناس إلى التوحيد وتعبدون إلها
واحدا بسبب ما (كُنْتُمْ) أي كونكم (تُعَلِّمُونَ) للناس (الْكِتابَ) الذي أخذتموه من نبيكم (وَبِما كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ) أي بسبب درسكم إياه يعني أن الرسول يقول للناس إنكم بسبب
كونكم علماء معلمين مدرسين يجب أن تكونوا ربانيين منسوبين إلى الرب فقط لا إلى
غيره من الأنداد والشركاء.
وَلا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
____________________________________
[٨١]
(وَلا) يكون للنبي أن (يَأْمُرَكُمْ) عطف على (ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ)(أَنْ تَتَّخِذُوا
الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) فإن ذلك محال إذ من يختاره الله للرسالة لا يأمر بالكفر (أَيَأْمُرُكُمْ) أي هل يأمركم النبي (بِالْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أسلمتم بإيمانكم بالنبي ، وهذا استفهام إنكاري أي لا يكون
ذلك أبدا فقد أخرجكم النبي من الكفر إلى الإسلام فكيف يأمركم بالكفر ثانيا بأن
تتخذوه شريكا لله.
[٨٢] وإذ تم
الكلام حول عيسى وأنه ليس بشريك لله سبحانه رجع السياق إلى نبي الإسلام وأنه النبي
بعد عيسى عليهالسلام ، (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) عهدهم المؤكد (لَما آتَيْتُكُمْ
مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) «ما» بمعنى «مهما»
أي أخذ الله عهد النبيين أنه مهما أعطاه الله الكتاب والحكمة والرسالة (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما
مَعَكُمْ) يراد به نبي الإسلام ، أو كل نبي يأتي بعدهم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) هذا جواب «مهما» فالله سبحانه كان يأخذ من النبيين الميثاق
أنه مهما أعطى أحدهم الرسالة فإن عليه أن يؤمن برسول الإسلام ، أو عليه أن يؤمن
بالرسول الذي يتلوه وأن يناصره ويعاضده ، وفي الوجه الأول إفادة أن الأنبياء جميعا
أقروا بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واعترفوا به وآمنوا به وفي الوجه الثاني إفادة أن كل
رسول كان يؤمن بالرسول الذي يأتي
وَلَتَنْصُرُنَّهُ
قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
فَمَنْ
تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
____________________________________
من بعده حتى أن
الأنبياء كلهم كسلسلة واحدة يؤمن سابقهم بلاحقهم ويصدق لاحقهم سابقهم (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) ومعنى نصرة النبي السابق للاحق أن يأخذ له العهد من أمته (قالَ) الله تأكيدا لأخذ الميثاق (أَأَقْرَرْتُمْ) أي هل أقررتم أيها الأنبياء باستعدادكم للإيمان بالرسول
ونصرته (وَأَخَذْتُمْ عَلى
ذلِكُمْ) الإيمان بالرسول ونصرته (إِصْرِي) أي عهدي الأكيد من أممكم حتى يؤمنوا بالرسول وينصروه (قالُوا) أي قالت الأنبياء في جواب الله سبحانه (أَقْرَرْنا) بذلك وأخذنا الأمر (قالَ) الله سبحانه لهم (فَاشْهَدُوا) بذلك على أممكم أي كونوا شهداء عليهم حتى نحتج على المخالف
يوم القيامة بشهادتكم (وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ) فإني أيضا شهيد عليهم بأنهم أقروا بأن يؤمنوا بالرسول
وينصروه ، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أنه لم يبعث الله نبيا آدم ومن بعده إلا أخذ عليه العهد
بالإيمان بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمره بأخذ العهد بذلك من أمته .
[٨٣]
(فَمَنْ تَوَلَّى) وأعرض عن الإيمان والنصرة (بَعْدَ ذلِكَ) العهد الذي أخذه نبيه منه (فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) الخارجون عن إطاعة الله سبحانه حيث نقضوا العهد وخالفوا
الوعد.
__________________
أَفَغَيْرَ
دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً
وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ
____________________________________
[٨٤] إن عدم
الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم خلاف عهدهم أولا وخلاف الواجب عليهم ثانيا (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) أي يطلبون ويريدون غير دين الله ودين الإسلام الذي ثبت
بالآيات والحجج (وَلَهُ) أي لله (أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكل شيء في الكون خاضع له سبحانه منقاد لأمره فما بال
هؤلاء يخالفون دين الله الذي أذعن له كل الكون (طَوْعاً وَكَرْهاً) فإن ذوي العقول من الملائكة ونحوه أسلم لله طوعا والجمادات
أسلمت كرها بمعنى أنها مستمرة حسب مشيئة الله سبحانه (وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ) أي إلى حكمه وأمره وثوابه وعقابه يرجعون عند الموت أو في
القيامة.
[٨٥] هنا يأتي دور
إظهار الأمة المسلمة إيمانها بجميع الأنبياء ، فإنه مقتضى وحدة الرسالات ومقتضى ما
سلف من إيمان كل سابق باللاحق وتصديق كل لاحق للسابق (قُلْ) يا رسول الله صيغة الإيمان التي يجب الاعتراف بها على كل
أمتك (آمَنَّا بِاللهِ) إلها واحدا (وَ) ب (ما أُنْزِلَ عَلَيْنا) من القرآن الحكيم وسائر الأحكام (وَ) ب (ما أُنْزِلَ عَلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) أولاد يعقوب الذين
وَما
أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ
____________________________________
كانوا أنبياء (وَ) ب (ما أُوتِيَ) أي أعطي (مُوسى) من التوراة (وَعِيسى) من الإنجيل (وَ) بما أعطي (النَّبِيُّونَ مِنْ) قبل (رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الأنبياء لا كاليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى عليهالسلام ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا كالنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَنَحْنُ لَهُ) أي لله (مُسْلِمُونَ) منقادون فيما أمرنا ونهانا.
[٨٦]
(وَمَنْ يَبْتَغِ) يطلب ويريد (غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً) من الأديان السماوية أو المفتعلة (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) أبدا في الدنيا بل تجري عليه أحكام الكفار (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم جميعا.
[٨٧] إن الذين
أدركوا حقيقة وحدة الرسالات وحقيقة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ودين الإسلام ثم أنكروا وعاندوا فقد ظلموا أنفسهم وأبعدوها
عن لطف الله وهدايته فلا يلطف بهم الله لطفا خاصا ولا يهديهم بل يتركهم في ظلمات
كفرهم (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) والمراد بالإيمان علمهم بحقيقة الرسول الإيمان في الظاهر ،
إلا إذا أخذنا بما ورد في بعض التفاسير والروايات من أنها نزلت في رجل آمن ثم ارتد
ثم ندم فأرسل إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من يسأله عن قبول توبته فأجاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ
أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(٨٧)
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
____________________________________
بالإثبات فتاب
وحسن إسلامه ، ولذا استثنى في آخر الآيات (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا)(وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ
حَقٌ) شهادة واقعية وإن لم يظهروها ولم يلتزموا بلوازمها (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحة على صدق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وحقيقة ما جاء به (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يلطف بهم اللطف الخاص الذي يلطف به بمن استقام ولم
يظلم نفسه.
[٨٨]
(أُولئِكَ) الذين كفروا بعد إيمانهم (جَزاؤُهُمْ أَنَّ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) بإبعادهم عن رحمته ومغفرته وثوابه (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فإنهم يدعون عليهم بالعذاب ويلعنونهم.
[٨٩]
(خالِدِينَ فِيها) أي يخلدون في اللعنة والطرد أبد الآبدين (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) أي لا يسهل عليهم لأنهم بكفرهم استحقوا العقاب الدائم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت ، أو لا ينظر
إليهم.
[٩٠]
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) عن كفرهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الكفر بأن آمنوا (وَأَصْلَحُوا) في أعمالهم أي عملوا الصالحات (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ)
رَحِيمٌ
(٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ
____________________________________
لكفرهم وذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم فلا يؤاخذهم بسيئاتهم.
[٩١] هذا حال من
آمن بعد ارتداده وتاب ، أو آمن بعد علمه بالحق وكفره ، أما من بقي على كفره بعد
الإيمان فجزاؤه ما يأتي (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بالنبي وبما جاء به (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) فإن الكافر ببقائه على الكفر يزداد كفرا فإن كل ساعة يكون
كافرا فيها يكون أكثر كفرا من الساعة المتقدمة ، أو المراد ازدياد الكفر باستحكامه
فإن الإنسان كما يزداد إيمانا كلما رأى آيات الله كذلك يزداد كفرا كلما أعرض عما
يراه من الآيات (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ) التي تأتي منهم حال الاحتضار فإن المحتضر حيث يرى حقيقة
الإيمان يتوب في قلبه ويندم ولكن لا تقبل توبته كما قال سبحانه (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ) (وَأُولئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ) الذين ضلوا طريق الحق في الدنيا وعذبوا في الآخرة.
[٩٢]
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) ممن لم يتب حتى في حال الاحتضار كما قال سبحانه (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ) بعد الآية
__________________
فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
(٩٢)
____________________________________
السابقة : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) أو المراد التعقيب على (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ) أي أن أولئك الذين لم تقبل توبتهم في الدنيا لا ينجون من
عذاب الله يوم القيامة بإعطاء الفدية (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) أي مقدار ما يملأ الأرض من الذهب (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) لا ينفعه (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم وموجع (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) ينصرونهم من عذاب الله وسخطه.
[٩٣] وحيث جرى
حديث الإنفاق وأنه لن يقبل من الكافر يوم القيامة ناسب السياق بيان حكم الإنفاق
وأنه (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ) أي لن تدركوا النفع الذي تأملونه من رضى الله وثوابه
والجنة وخير الدنيا وغيرها (حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ) لا أن تنفقوا ما لا تحبون كإنفاق ما تعانيه النفس كما قال
سبحانه (وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ) قليل أو كثير في مختلف أصناف الأشياء (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم على قدره.
__________________
تقريب القران الى الأذهان
الجزء الرّابع
من آية (٩٤) من سورة آل عمران
إلى (٢٤) من سورة النساء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته
الطاهرين.
كُلُّ
الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى
نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ
فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)
____________________________________
[٩٤] يرجع السياق
هنا إلى ما كانت الآيات بصدده من أحوال أهل الكتاب في أصولهم وفروعهم وعنادهم
وجدالهم ، وفي بعض التفاسير أنهم أنكروا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تحليل لحم الجزور وادعوا تحريمه على إبراهيم عليهالسلام وأن ذلك مذكور في التوراة فأنزل الله سبحانه ردا عليهم هذه
الآية (كُلُّ الطَّعامِ) أي كل المأكولات ، والمراد ب «الكل» الإضافي في مقابل ما
أدعوا تحريمه (كانَ حِلًّا) أي حلالا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) اليهود (إِلَّا ما حَرَّمَ
إِسْرائِيلُ) أي يعقوب عليهالسلام (عَلى نَفْسِهِ) وهو لحم الإبل كان إذا أكله هيّج عليه «الخاصرة» فحرمه على
نفسه. وكان ذلك (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) على موسى عليهالسلام فليس تحريمه على إسرائيل دليلا على بقائه على الحرمة فإن
التوراة لما نزلت لم تحرمه فلما ذا تقولون أيها اليهود بحرمته (قُلْ) يا رسول الله لهم : (فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) حتى يظهر أنه لم تحرمه التوراة كما ذكرت لكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أن التوراة حرمت الإبل ، لكنهم لم يأتوا
بالتوراة ، فتبين كذبهم ، وقد كان اليهود يظنون أن الرسول ـ لأنه أمي ـ لا علم له
بالتوراة فلهذا كانوا ينسبون إلى التوراة أشياء ، لكن الوحي كان يفضحهم.
[٩٥]
(فَمَنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) البرهان الدال على عدم تحريم التوراة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بمنعها عن
قُلْ
صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً
____________________________________
الهداية وظلموا
غيرهم بمنعهم عن الحق.
[٩٦]
(قُلْ) يا رسول الله لليهود (صَدَقَ اللهُ) فيما نقلت لكم من عدم تحريم الجزور وكذبتم أنتم ، بل تبيّن
أن كل الطعام كان حلّا (فَاتَّبِعُوا) أيها اليهود (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً) أي مستقيما ، وملة إبراهيم تحلّل كل الطعام (وَما كانَ) إبراهيم عليهالسلام (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) دحض لافتراء آخر من أهل الكتاب حول إبراهيم عليهالسلام ، حيث كانوا يقولون أنه كان يهوديا أو نصرانيا ـ وكلاهما
مشرك ـ ففي السابق نقل افتراءهم بالنسبة إلى الله في قصة الطعام ، وهنا نقل
افتراءهم على أنبيائه بالشرك.
[٩٧] إن أهل
الكتاب دحضت حجتهم في باب التحليل والتحريم ، ودحضت حجتهم في باب دين إبراهيم ،
كما دحضت حجتهم من ذي قبل في سائر الشؤون التي ناقشوا فيها ، وبقيت الآن لهم حجة
أخرى هي : أن بيت المقدس أشرف من الكعبة ، وأنه محل الأنبياء ، فالقرآن يدحض حجتهم
هذه بأن الكعبة هي أشرف لأنها أول بيت وضع للناس ، ولأن إبراهيم عليهالسلام الذي تنتسبون إليه هو الذي بناها ، ولأن الحج شرّع إليها (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) أي بني لأجل انتفاع الناس دينا ودنيا ، فإن الأرض دحيت من
تحته ، ولم يكن قبله بيت مبنيّ (لَلَّذِي) اللام للتأكيد أي هو البيت الذي (بِبَكَّةَ) وهو اسم آخر لمكة ، وسميت بكة لازدحام الناس في الطواف
ونحوه هناك ، فإن بكّ يبكّ بمعنى «زحم يزحم» (مُبارَكاً) أي كثير البركة والخير فإن فيه خير الدنيا ، حيث الألفة
والاجتماع والاقتصاد
وَهُدىً
لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ
____________________________________
وغيرها ، وخير
الآخرة حيث غفران الذنوب ورفع الدرجات (وَهُدىً
لِلْعالَمِينَ) أي سببا لهدايتهم فإنه مذكّر بالله سبحانه وفيه ذكريات
أنبيائه ومعالم عبادته.
[٩٨]
(فِيهِ) أي في ذلك البيت (آياتٌ بَيِّناتٌ) أي دلالات واضحات على التوحيد والنبوة ونصرة الإسلام (مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي موضع قدمه حيث كان هناك حجر يضعه إبراهيم ويصعد عليه
لبناء أعالي الكعبة حتى رسخت قدماه في ذلك الحجر ، فإنه آية واضحة من آيات الله
سبحانه ، وخصّ بالذكر لأهميته وتقديرا لإبراهيم الذي ضحّى بكل ما لديه في سبيل
الله سبحانه (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) إما ابتداء ، أو عطف أي أن من آيات البيت أنه سبحانه جعله
حرما آمنا فمن دخله فهو آمن على عرضه وماله ودمه لا يمسّ بسوء وإن كان مجرما يستحق
العقاب والحد (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) أي يجب على الناس أن يحجوا إلى البيت (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أي من وجد إليه طريقا وذلك بأن يكون له ما يكفيه ذهابا
وإيابا لنفسه ولعائلته ويرجع إلى الكفاية ، مع أمن الطريق وصحة الجسم ، إلى غير
ذلك من الشروط المذكورة في الفقه (وَمَنْ كَفَرَ) فلم يحج مع الاستطاعة ، وقد تقدم أن الكفر قسمان : كفر في
الاعتقاد وهو إنكار أصل من أصول الدين ، وكفر في
__________________
فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً
وَأَنْتُمْ شُهَداءُ
____________________________________
العمل وهو ترك
واجب أو فعل محرّم. وقد كثر في القرآن والحديث استعمال الكفر بهذا المعنى (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعالَمِينَ) فلا يظن العاصي أن كفره يضر الله شيئا.
[٩٩] ويرجع السياق
إلى أهل الكتاب (قُلْ) يا رسول الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أدلته الواضحة الدالة على نبوة نبي الإسلام وما جاء به ،
الذي هو منه شؤون بيت الله الحرام (وَاللهُ شَهِيدٌ) أي يشهد ويعلم (عَلى ما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليها.
[١٠٠]
(قُلْ) يا رسول الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي تمنعون الناس عن الإيمان بالله ، فإن أهل الكتاب كانوا
يرصدون لمن يريد الإيمان فيمنعونه ، وكانوا يلقون الشكوك حول الإيمان والمؤمنين (مَنْ آمَنَ) مفعول «تصدون» أي تمنعون من آمن عن سبيل الله ، وعلى هذا
فالصد هنا خاص بالمؤمنين إلا أن يراد ب «من آمن» الأعم من المؤمن ومن يريد الإيمان
(تَبْغُونَها) أي تطلبون السبيل (عِوَجاً) منحرفا لا سبيلا مستقيما ، أو تطلبون سبيل الله عوجا ، أي
تريدون أن تكون السبيل عوجا بإدخال الشكوك عليها ، والعوج مفرد بمعنى الميل
والانحراف (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) في واقع الأمر وإقرار
وَمَا
اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
____________________________________
نفوسكم على عملكم
الباطل (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل مطّلع عليه عالم به ، وسيعاقبكم عليه.
[١٠١] وحيث تقدم
أن أهل الكتاب يصدّون من آمن عن سبيل الله ، خاطب سبحانه المؤمنين أن لا يسمعوا
إلى أهل الكتاب حتى يضلوا بتشكيكاتهم (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً) جماعة (مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) أعطوا التوراة والإنجيل (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) أي يرجعونكم كفارا بعد أن آمنتم ، وإنما خصّ فريقا لأن أهل
الكتاب لم يكونوا جميعهم سبب إضلال المؤمنين وإرجاعهم عن الإيمان.
[١٠٢]
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) أيها المؤمنون بعد الإيمان (وَأَنْتُمْ تُتْلى
عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ) فإنكم قد عرفتم آيات الله ودلائله وعلمتم ذلك ومثل هذا
الإنسان لا يمكن أن يكفر (وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) الذي يدعو إليه بالبراهين والمعاجز ، وهذا استفهام إنكاري
تعجبي ، جيء به إبعادا لهم عن الكفر وإلفاتا لهم إلى الرصيد الإيماني الموجود
عندهم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ) أي يتمسك بآيات الله وكتابه ودينه ورسوله ، فلا ينخرط إلى
الشرك والكفر والعصيان (فَقَدْ هُدِيَ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في الدنيا حيث
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ
____________________________________
يوصله إلى حياة
حرة كريمة مرفهة المرافق ، وفي الآخرة حيث يسعده في جنات النعيم.
[١٠٣] كانت
الجماعات المنضوية تحت لواء الإسلام بما فيهم الأوس والخزرج معرضة للتطاحن
والتشاحن وقد كان الكفار وأهل الكتاب يستغلون سوابق هؤلاء وطبيعة النفس البشرية في
إلقاء الفتن والتفرقة بينهم ليفتحوا ثغرة للنزاع بين أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولذا نصحهم القرآن بأن يبقوا على وحدتهم وأن لا يتفرقوا
ويتقوا الله فيما أمر ونهى ولا يطيعوا أهل الكتاب في أقوالهم المفرّقة ودسائسهم
المشتتة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه فأطيعوه فيما أمركم ونهاكم (حَقَّ تُقاتِهِ) من «وقيت» أي كما يحق أن تتقوه ، فإن التقوى من الله
سبحانه أمر صعب جدا ، إذ يلازم الإنسان في جميع شؤونه وأحواله (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) فلا يغرنكم الشيطان بأن يخرجكم من الإيمان حتى تموتوا
كافرين. ولعل المناسبة بين الجملتين أن من لا يتقي ينجر آخر أمره إلى الكفر كما
قال سبحانه : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ
الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) .
[١٠٤]
(وَاعْتَصِمُوا) أي تمسكوا (بِحَبْلِ اللهِ) وحبل الله دينه وقرآنه ، شبّه بالحبل لمناسبة أن من يتمسك
بالحبل لا بد وأن يرتفع به إلى الأعلى ، وكذلك من يتمسك بالإيمان يصعد به في
الدنيا إلى المراتب الراقية وفي
__________________
جَمِيعاً
وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ
عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
____________________________________
الآخرة إلى جنات
خالدة (جَمِيعاً) أي جميعكم لا بعضكم دون بعض.
(وَلا تَفَرَّقُوا) بأن يتمسك البعض بحبل الله والبعض بحبل الشيطان ، وهذا
تأكيد لقوله «جميعا» (وَاذْكُرُوا) أي تذكروا (نِعْمَتَ اللهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) قبل الإسلام يعادي بعضكم بعضا (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) جعلها قريبة بعضها إلى بعض ، حيث أدخل الإيمان فيها فخرج
ما كان فيها من الضغينة والإحن والحسد والعداوة (فَأَصْبَحْتُمْ) أيها المسلمون (بِنِعْمَتِهِ) أي بسبب نعمة الألفة التي وهبها الله إليكم (إِخْواناً) أحدكم أخ الآخر في الإيمان ، له ما لأخيه وعليه ما عليه. وأن
هذه النعمة قد خرقت المقاييس الجاهلية القبلية والعشائرية والعرقية وما أشبهها.
(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا
حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) الشفا : الطرف ، والحفرة المكان المحفور من الأرض ، أي
كنتم أيها المسلمون على طرف حفرة من النار ، نار الدنيا وهي العقوبات والاضطرابات
، ونار الآخرة التي أوقدت لكم (فَأَنْقَذَكُمْ
مِنْها) بالإسلام الذي نظّم أمور دنياكم وأخراكم ، حتى لا تقعوا
فيها (كَذلِكَ) أي كما بين لكم هذه الأمور واضحة وجلية (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) دلالاته وحججه (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ)
وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
____________________________________
إلى الحق وإلى
طريق مستقيم.
وما ورد في بعض
الأحاديث أن المراد من حبل الله الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أو الأئمة عليهمالسلام أو القرآن ، فإنما هي مصاديق جلية.
[١٠٥] وحيث أنقذكم
الله من الهلاك ، وهداكم فمن الجدير أن تهدوا سائر الناس (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي يجب أن يكون منكم جماعة (يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ) كل خير من الإسلام والدين والأحكام وغيرها (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) والمعروف كل فعل استحسنه الشرع أو العقل سواء وصل إلى حد
الوجوب أم إلى حد الندب ، وإنما سمي معروفا لأن الناس يعرفونه (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو بعكس المعروف ، كل ما استقبحه الشرع أو العقل ، وسمي
منكرا لأن الناس ينكرونه (وَأُولئِكَ) الذين يتصفون بهذه الصفات الثلاثة (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون الناجون.
[١٠٦]
(وَلا تَكُونُوا) أيها المسلمون بعد الألفة والأخوّة (كَالَّذِينَ) من قبلكم تألفت قلوبهم بسبب الأنبياء ثم (تَفَرَّقُوا) شيعا وأحزابا ومذاهب ومبادئ (وَاخْتَلَفُوا) فأخذ كل فريق منهم جانبا (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) الأدلة الواضحة على وحدة العقيدة والمبدأ وأركان الإيمان
__________________
وَأُولئِكَ
لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ
____________________________________
(وَأُولئِكَ) الذين اختلفوا وخالفوا الحق منهم (لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) حيث بدّلوا وغيّروا وحرّفوا.
[١٠٧] ثم بين
سبحانه أن ذلك العذاب العظيم في أي وقت يكون؟ إنه يكون في (يَوْمَ) هذه صفته (تَبْيَضُ) فيه (وُجُوهٌ) هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وابيضاض
الوجه كناية عن فرحه ونضارته وتنعّمه (وَتَسْوَدُّ) فيه (وُجُوهٌ) هي وجوه الكافرين ، واسودادها حقيقة ، فإن الوجه عند الهمّ
الكبير يميل لونه إلى السواد والكدرة لتهاجم الدم ونحوه ، أو كناية عن كلوحه وبؤسه
وهمومه (فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) يقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ) على نحو الاستفهام التوبيخي (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) إما أن يراد ب «الإيمان» الإيمان الحقيقي بأن يكون المراد
منهم الذين اختلفوا وتفرقوا وارتدوا بعد الإيمان ، وإما أن يراد به الإيمان الفطري
فإن كل إنسان مؤمن فطرة كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه
ويمجسانه»
(فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم.
[١٠٨]
(وَأَمَّا الَّذِينَ
ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) وهم المؤمنون الذين عملوا
__________________
فَفِي
رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
وَلِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
كُنْتُمْ
____________________________________
الصالحات (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) ثوابه ورضوانه وجنته (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أبد الآبدين.
[١٠٩]
(تِلْكَ) الأمور التي ذكرت في أحوال المؤمنين والكافرين وغيرها (آياتُ اللهِ) علائمه ودلائله وحججه (نَتْلُوها عَلَيْكَ) يا رسول الله (بِالْحَقِ) فإن التلاوة قد تكون بالباطل إذا كان المتلوّ أو الغرض من
التلاوة باطلا (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) أي لا يريد أن يظلم أحدا. فقد تقرر في علم الكلام أن إرادة
الظلم ـ كالظلم نفسه ـ قبيحة ، فما يصير إليه حال الكافرين من اسوداد الوجه ليس
ظلما لهم ، وإنما يكون بالعدل وجزاء لعملهم.
[١١٠]
(وَ) كيف يريد الله ظلما والحال أنه (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) والظلم ينشأ من الافتقار وهو الغني المطلق (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أمور الخلق فإن الله سبحانه يعيد المخلوق ليجازيه ، وهذا
تشبيه بالرجوع المادي «في الدنيا» الذي يكون بين الحاكم والمحكوم حيث يساق المحكوم
نحو الحاكم ليحكم عليه ، وحيث أن الأمر يرجع إلى الله فلا يظن الكافر أنه يتمكن من
الفرار عنه سبحانه حتى لا يعاقب بما عمل من السيئات.
[١١١] ويرجع
السياق هنا إلى ما تقدم من لزوم الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر (كُنْتُمْ) أيها المسلمون ، و «كان» لمجرد
خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ
____________________________________
الربط ، لا بمعنى
الماضي (خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أي خير جماعة ظهرت للناس فإن كل أمة تظهر للناس في فترة ثم
تختفي وتغيب لتأخذ مكانها أمة أخرى. وإنما كان المسلمون خير أمة لخصال ثلاثة بها
تترقى الأمم إلى أوج عزّها هي : (تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فإن المجتمع إذا خلا من هذين الواجبين أخذ يهوي نحو السّفل
لما جبل عليه من الفساد والفوضى والشغب ، فإذا تحلّى المجتمع بهذين الأمرين أخذ
يتقدم نحو الكمال بمدارج الإنسانية والحضارة الحقيقية حتى يصل إلى قمة البشرية (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إيمانا صحيحا لا كإيمان أهل الكتاب والمشركين ، والإيمان
الصحيح بالله رأس الفضائل فإنه مع قطع النظر عن كونه إدراكا لأعظم حقيقة كونية
فإنه محفّز شديد نحو جميع أنواع الخير ومنفّر قوي عن جميع أصناف الشر (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) إيمانا صحيحا بعدم الشرك وقبول قول الله سبحانه في نبوة
نبي الإسلام محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (لَكانَ) إيمانهم (خَيْراً لَهُمْ) في دينهم ودنياهم حتى تنظم دنياهم على ضوء الإسلام فتخلو
من الجهل والمرض والفقر والرذيلة ويكونون في الآخرة سعداء ينجون من عذاب الله ،
وليس المراد ب «خير» معنى التفضيل بل هو تعبير عرفي ، حيث يظهر للناس أنهم في خير
في الجملة ، وعلى هذا يكون إيمانهم أكثر خيرا وأفضل.
ثم بين سبحانه أن
ليس كل الذين كانوا من أهل الكتاب بقوا على
مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ
(١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
____________________________________
طريقتهم فإن (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) بالله وبالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وبما جاء به كالنجاشي وابن سلام وغيرهما (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله باتباع أهوائهم المضلّة وطرائقهم
الزائفة.
[١١٢] ولقد كان
كفار أهل الكتاب يؤذون المؤمنين منهم خاصة وسائر المؤمنين عامة وكان المؤمنون من
حيلهم ومؤامراتهم في قلق واضطراب ، ولذا هدأ الله سبحانه من روع المؤمنين بقوله : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) أي لن يضر أهل الكتاب إياكم أيها المؤمنون (إِلَّا أَذىً) يسيرا فإن مؤامراتهم تفشل وحيلهم تخسر ولا تبقى إلا
تشويشات وإشاعات وهي مما لا تضر ضررا معتدا به ، أما ما يظن المسلمون أن أهل
الكتاب يتمكنون من اقتلاع جذورهم وإبادة دينهم فلن يكون ذلك أبدا بل المسلمون هم
المنصورون (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ
يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) جمع دبر وهو الظهر ، أي ينهزمون فارين (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لا تنصرهم أقوالهن ، لما ألقي في قلوبهم من رعب الإسلام
وخوف الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان مصب الآية الكريمة اليهود فهم المعنيون بهذا الكلام
بقرينة الآية التالية.
[١١٣]
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) أي ضربها الله عليهم فهم أذلاء إلى الأبد وهي ثابتة لهم
ومحيطة بهم ، وأية ذلة أعظم من أنه ليست لهم دولة مستقلة وهم مهانون دائما ، وجميع
الدول تطاردهم إلا في ظرف مصلحتها الخاصة فهم كالعبيد المسخرين إن استفاد مولاهم
أطعمهم
أَيْنَ
ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
____________________________________
وإلا طردهم (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) أي وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ) أي إلا إذا تمسكوا بحبل الله تعالى بالإيمان به وبمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وبما جاء به حتى يكونوا كالمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما
عليهم (وَحَبْلٍ مِنَ
النَّاسِ) أي تمسكوا بحبل دولة قوية تحميهم ، و «الواو» للتقسيم ـ نحو
: الكلمة اسم وفعل وحرف ـ لا للجمع (وَباؤُ) رجعوا (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) فكأن الناس جاءوا للاغتراف من مناهل الإسلام وكانت اليهود
فيهم فالناس رجعوا بالإسلام وحب الله سبحانه وهؤلاء رجعوا بالكفر وغضب الله تعالى (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) أي الفقر الروحي الذي هو أعظم أقسام المسكنة فإن أرواحهم
تهفو إلى المادة أكثر من روح أي فقير مسكين وهم على ثروتهم الظاهرة من أفقر الخلق
نفسا وروحا (ذلِكَ) العقاب الدنيوي لهم بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) فموسى عليهالسلام نبيهم كان منهم في نصب وتعب فإنهم ما خرجوا من البحر إلا
قالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، واتخذوا العجل ، وآذوا موسى إلى غير
ذلك (وَيَقْتُلُونَ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) أي كانوا يقتلونهم ، و «بغير حق» تأكيد ، إشارة إلى أنه لم
يكن لهم حق في قتلهم حتى ظاهرا ، فإنهم يقتلون الأنبياء لمجرد الدعوة إلى الله
والإرشاد والوعظ ، لا لأنهم قتلوا منهم أحدا أو نهبوا مالا أو نحو ذلك ـ وإن كان
الأنبياء لو فعلوا ذلك كان بأمر الله وبالحق ـ لكن الأنبياء عليهمالسلام لم يكونوا فعلوا ذلك ـ كما قال الإمام الحسين عليهالسلام : «فبم تستحلون دمي ..؟ أعلى قتيل قتلته منكم ـ إلى
ذلِكَ
بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ
____________________________________
آخر كلامه ـ» .
(ذلِكَ) أي كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بسبب ما (عَصَوْا) أي عصيانهم لأوامر الله سبحانه سبب الكفر والقتل وهما سببا
نقمة الله ولعنته (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يتجاوزون الحدود الدينية والبشرية.
[١١٤] ولمرة أخرى
استثنى القرآن الحكيم من آمن من أهل الكتاب ، وأنه ليس كغيره ممن بقي على كفره
وعناده وقد نزلت ـ كما قيل ـ حين أسلم جماعة من أهل الكتاب فقال الكفار منهم أنهم
أشرارنا.
(لَيْسُوا سَواءً) أي ليس أهل الكتاب متساوين في ما تقدم من أوصافهم ، ثم
ابتدأ قوله سبحانه : (مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) على الحق لا زائفة زائلة ، وهم الذين آمنوا بالإسلام (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) المنزلة في القرآن المجيد (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته وأوقاته ، فإن لقراءة القرآن في الليل أثرا كبيرا
حيث إن هدوء النفس وهدوء الجو يوجبان وقوع الآيات في النفس أكثر منه في النهار (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) لله سبحانه ويخضعون له بالصلاة والتعفير.
[١١٥]
(يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إيمانا صحيحا (وَ) يؤمنون ب (الْيَوْمِ الْآخِرِ) عن حقيقة فإن من آمن حقيقة بالحساب انقلع عن الكفر
والمعاصي (وَيَأْمُرُونَ
__________________
بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ
____________________________________
بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فإن المعتقد بيوم الحساب يسارع في الخير حيث لا يدري أي
يوم يموت فينقطع عمله ولا يتمكن من المزيد «وكان الإتيان بباب المفاعلة للإشارة
إلى تسابق بعضهم بعضا» (وَأُولئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ) الذين يصلحون ولا يفسدون ، وبتعبير آخر أعضاء صالحين في
المجتمع ، وليسوا كما ذكر الكفار من أهل الكتاب أنهم أشرارهم ، بل هم من أفضل
الأخيار والصلحاء.
[١١٦]
(وَما يَفْعَلُوا) أي ما يفعله هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (مِنْ خَيْرٍ) من طاعة وعبادة (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي لن يمنع عنهم جزاؤهم بخلاف سائر الكفار الذين تحبط
أعمالهم لكفرهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ) يعلم أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم على حسناتهم.
[١١٧]
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بالله ورسوله (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ) أي لن تفيدهم ولن تدفع العذاب عنهم (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) فالمال والولد إنما ينفعان في الدنيا حيث يدفعان المكروه
بالرشوة والهدية والصلة ، والمدافعة والمناصرة (مِنَ اللهِ) أي من عقاب الله وعذابه (شَيْئاً) ولو ضئيلا (وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ) الذين يلازمونها كما
هُمْ
فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ
حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ
____________________________________
يقال : صاحب فلان
لمن يلازمه (هُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد. وقد تكرر أن الخلود للمعاند كما في دعاء كميل «من
المعاندين» أما القاصر فإنه يمتحن هناك كما دلّ العقل والشرع.
[١١٨] وحيث تقدم
حال المؤمن وحال الكافر ، ذكر حال إنفاق الكافر مقابلة لما تقدم من خير المؤمن في
قوله : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) أي ينفقه الكفار (فِي هذِهِ الْحَياةِ
الدُّنْيا) وكان ذكر «هذه» الخصوصية مع وضوحها للإشارة إلى أن الحياة
التي هي مزرعة ومن المقتضي أن تنمو ويبقى أثرها للانتفاع به في الآخرة ، لا ينفع
الكافر (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها
صِرٌّ) الصرّ هو البرد الشديد ، أو السموم الحارة (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ) فإنفاقهم كالحرث ، وكفرهم الموجب لبطلانه كالريح السامة (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن زرعوا في غير موقع الزراعة في مهب الرياح أو في غير
أوانه كالشتاء مثلا لو زرعوا بذور الصيف ، أو المراد ظلموا أنفسهم بالمعصية فسلط
الله عليهم الريح كما قال : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وإنما أوتي بهذه الجملة لظلم الكفار أنفسهم كظلم صاحب
الحرث (فَأَهْلَكَتْهُ) أي أهلكت الريح الحرث ـ وهو الزرع ـ (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) في إبطال نفقاتهم ، أو
__________________
وَلكِنْ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا
يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ
____________________________________
في إهلاك الريح
حرثهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) بكفرهم أو بظلمهم ، ولا يخفى أن قوله : «مثل ما ينفقون» «كمثل
ريح» ليس المراد أن الإنفاق كالريح ، بل يضرب المثل فيما كان المجموع من «الأصل
والشبه» مرتبطين وإن كانت مفردات الشبه لم تذكر حسب السياق اللفظي ، كما تقول : «مثل
زيد في تكلمه كمثل صوت الحمار» فالجملة شبهت بالجملة لأن الصوت شبّه بزيد ،
والحمار بالتكلم ، كما يقتضيه السياق اللفظي في الترتيب.
[١١٩] وفي سياق
الكلام عن أحوال أهل الكتاب وبيان أنهم مختلفون مع المسلمين في العقيدة والعمل
يأتي دور أن المسلم لا ينبغي له أن يتخذ صديقا من هؤلاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) أي لا تتخذوا الكفار الذين هم غير المسلمين بطانة ، وهي
خاصة الرجل الذي يسرّ إليه بأمره ويستبطن خبره ، من «بطانة الثوب» الذي يلي البدن
لقربه منه ، و «من» للتبيين كأنه قال : بطانة من المشركين ، فقد كان المسلمون
يواصلون رجالا من أهل الكتاب لسابق صداقة أو قرابة أو جوار أو نحوها فنهوا عن ذلك.
ثم بين سبحانه سبب
ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد ب «دونكم» المنافقين ، كما في بعض التفاسير بدليل
قوله : «قالوا آمنا» فإنهم (لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً) لا يألونكم أي لا يقصّرون بالنسبة إليكم ، والخبال الفساد
، أي هؤلاء البطانة لا يقصرون في فساد أمركم ولا يتركون جهدهم في مضرتكم (وَدُّوا) أي أحبوا (ما عَنِتُّمْ) أي عنتكم ،
قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا
لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا
____________________________________
والعنت المشقة ،
وهذه كلها من صفات الأعداء (قَدْ بَدَتِ) أي ظهرت (الْبَغْضاءُ) والعداوة (مِنْ أَفْواهِهِمْ) فإن فلتات كلامهم تدل على عداوتهم الكامنة (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من الحقد لكم والعداوة (أَكْبَرُ) مما يظهر من ألسنتهم (قَدْ بَيَّنَّا
لَكُمُ) أيها المؤمنون (الْآياتِ) والحجج التي تميزون بها الصديق من العدو (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل وإدراك.
[١٢٠] ثم بيّن
سبحانه أنه كيف يمكن أن يحب المؤمن هؤلاء مع أنهم أعداؤه ومع الاختلاف بينهم في
العقيدة (ها) تنبيه (أَنْتُمْ أُولاءِ) أي الذين (تُحِبُّونَهُمْ) أي تحبون أولئك الكفار (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لأنهم يريدون لكم الكفر والضلالة (وَتُؤْمِنُونَ) أنتم (بِالْكِتابِ كُلِّهِ) وهم لا يؤمنون إلا ببعض الكتاب ، أما البعض الآخر الذي فيه
أوصاف محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم والإيمان به فلا يؤمنون به ، أو المراد ب «كله» أي جنس ما
نزل على أنبياء الله ، بخلافهم فإنهم لا يؤمنون بكتاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَإِذا لَقُوكُمْ) من الملاقاة أي رأوكم (قالُوا آمَنَّا) نفاقا منهم لا أن الإيمان دخل قلوبهم ، ويحتمل أن يراد
الكفار ، فإن من يتظاهر بالصداقة كثيرا ما يظهر قبول ما عليه صديقه مع أنه ليس
بصبغة صديقه ، وهذا بناء على قوله : «من دونكم» للكفار لا للمنافقين (وَإِذا خَلَوْا) أي خلا بعضهم
عَضُّوا
عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
____________________________________
مع بعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) أي يعضون أطراف أصابعهم (مِنَ الْغَيْظِ) عليكم كيف تقدّمتم وقوي دينكم.
(قُلْ) يا رسول الله لهم (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) فإن الغيظ لا يبرحكم لأن المسلمين يتقدمون ويستمرون في
أعمالهم. أو هو دعاء عليهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) التي تضمن النفاق والكيد للمسلمين ، فيجازيهم بما اقترفوه
من الآثام والذنوب و «بذات الصدور» بمعنى : بتلك الصدور.
[١٢١] وكيف
تتخذونهم بطانة والحال أن صفتهم هكذا (إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ) أي يصبكم خير ، من «المس» بمعنى الإصابة (تَسُؤْهُمْ) أي تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ
سَيِّئَةٌ) أي بليّة ومصيبة بإصابة العدو منكم أو فقر أو موت أو نحوها
(يَفْرَحُوا بِها) أي بسببها ـ كما هو حال العدو مع عدوه ـ (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذيتهم ، وعلى مقاطعتكم إياهم التي تجر إليكم عداءهم
الظاهري ، فإن كثيرا من الناس يخافون من مقاطعة المنافقين لئلا يبتلوا بعدائهم في
الظاهر (وَتَتَّقُوا) الله سبحانه حتى يكون هو نصيركم (لا يَضُرُّكُمْ) أيها المؤمنون (كَيْدُهُمْ) ومكرهم وحيلتهم ضدكم (شَيْئاً) لأنه سبحانه ينصركم (إِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ) هم جميعا المؤمنون والمنافقون (مُحِيطٌ) أي عالم بجميع أعمالهم ،
وَإِذْ
غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ
____________________________________
كالمحيط من
الأجسام الذي لا يخلو منه طرف من المحاط ، فيجازيهم بأعمالهم.
[١٢٢] وهنا يستعرض
القرآن الحكيم قصة واحدة تدل على مدى تطبيق أحوال المنافقين التي سبقت على الواقع
الخارجي ، وأن الله كيف ينصر المسلمين في أحرج الساعات وأحلك الظروف ، وذلك في
غزوة أحد حين خرجت قريش من مكة يريدون حرب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فانتخب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم موضعا للقتال وعبّاد أصحابه الذين بلغوا سبعمائة رجل فجعل
عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب شعب في الجبل ليحفظوه حتى لا يهاجم
العدو من خلف المسلمين فقال لهم : «لا تبرحوا من هذا المكان والزموا مراكزكم ، إن
غلبنا أو غلبنا». فلما انهزمت قريش وأخذ المسلمون ينهبون ثقلهم قال أصحاب ابن جبير
له : قد غنم أصحابنا ونحن نبقى بغير غنيمة. فقال لهم : اتقوا الله فإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهانا أن نبرح أماكننا. فلم يقبلوا منه وأخذوا ينسل الرجل
منهم فالرجل حتى خلت المراكز وبقي عبد الله في اثني عشر رجلا ، واغتنم الكفار هذا
الأمر فجاء خالد بن الوليد مع أصحابه وفرقوا من تبقّى من المسلمين وقتلوهم على
الشعب وهجموا على المسلمين من خلفهم وهم مشتغلون بالنهب ورجع الكفار فطوقوا
المسلمين من جوانبهم ففر المسلمون ولم يبق مع الرسول إلا علي عليهالسلام وأبو دجانة ، وقتل من المسلمين جمع كثير بلغوا السبعين
وفيهم حمزة عم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أسد الله وأسد رسوله.
(وَإِذْ غَدَوْتَ) أي خرجت (مِنْ أَهْلِكَ) أي من المدينة غدوة ، يا رسول الله (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ) أي تهيئ لهم مراكز (لِلْقِتالِ)
وَاللهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ
____________________________________
في قصة أحد (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالك (عَلِيمٌ) بما تنويه من حب الخير والهداية للناس عامة.
[١٢٣]
(إِذْ هَمَّتْ) وعزمت (طائِفَتانِ) أي جماعتان (مِنْكُمْ) أيها المسلمون ، وهما بنو سلمة وبنو حارثة (أَنْ تَفْشَلا) وتجبنا وترجعا عن القتال وذلك لأن ابن أبي سلول المنافق
جبّنهما عن لقاء العدو فهمّا بالرجوع لكنهما لم يفعلا (وَاللهُ وَلِيُّهُما) ناصرهما فلم الفشل والخوف (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) والتوكل معناه تفويض الأمر إليه سبحانه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ) .
[١٢٤]
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ) أيها المسلمون (بِبَدْرٍ) في وقعة بدر وهي اسم بئر كانت هناك فسميت الغزوة باسمها (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) جمع ذليل لأن عددهم وعددهم كانت قليلة لا تقوى على
المقاومة (فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تتوانوا عن الجهاد بعد ما رأيتم نصرة الله في بدر وهذا
لأجل تقوية قلوبكم في «أحد» وتصديق لقوله : «والله وليهما» (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي نصركم لتقوموا بشكر نعمه عليكم.
[١٢٥]
(إِذْ تَقُولُ) يا رسول الله (لِلْمُؤْمِنِينَ) في غزوة بدر (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ
__________________
أَنْ
يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)
بَلى
إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
____________________________________
أَنْ
يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) وذلك لتقوية قلوب المؤمنين ، وبيان أن الله أرسل ملائكة
لتقويتهم وتعزيز مركزهم ، وهذا تذكير للمسلمين في أحد بسابق نصر الله لهم (مُنْزَلِينَ) أنزلهم الله سبحانه لنصرة المسلمين ولقد حاربوا الكفار
وقتلوا منهم.
[١٢٦]
(بَلى) ليس الإمداد في يوم بدر بثلاثة آلاف فقط ، بل قال لهم
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر ـ تقوية لقلوبهم ـ : (إِنْ تَصْبِرُوا) على الجهاد (وَتَتَّقُوا) المعاصي (وَيَأْتُوكُمْ) الكفار (مِنْ فَوْرِهِمْ) أي فورانهم مندفعين عاجلا نحوكم (هذا) الذي شاهدتموه إذ أتوكم كالسيل ، فإن المسلمين خذلوهم عند
مجيئهم لما رأوا من كثرتهم (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ) والإمداد إرسال المدد (بِخَمْسَةِ آلافٍ) أخر ـ غير الثلاثة آلاف ـ (مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ) من سوم الخيل إذا علّمه بعلامة ، أو علّموا أنفسهم بعلامة
حيث كانت عليهم عمائم بيض وأرسلوا أذنابها على أكتافهم ، وهناك قول آخر هو أن قوله
تعالى : «بلى» لموضوع أحد ، فإن الكفار هموا بالرجوع مرة ثانية بعد أن نالوا من
المسلمين ما نالوا وخالف المسلمون فوعدهم الله تعالى أنهم إن رجعوا أمدهم بخمسة
آلاف من الملائكة ، لكن السياق يؤيد المعنى الأول ، والله أعلم.
[١٢٧] ثم بيّن
سبحانه أن إنزال الملائكة والوعد به ليس لأجل أنهم السبب في نصر المسلمين ، بل
لأجل البشارة وأما النصر فإنه من قبل الله وحده ولو بدون الملائكة ، حتى تتقوى
قلوب المسلمين في الجهاد
وَما
جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا
النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧)
لَيْسَ
لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
____________________________________
(وَما جَعَلَهُ اللهُ) أي ما جعل إنزال الملائكة والوعد به (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي بشارة لكم أيها المسلمون (وَلِتَطْمَئِنَّ
قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي بهذا الإنزال والوعد (وَمَا النَّصْرُ) أي ليس العون (إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللهِ الْعَزِيزِ) في سلطانه (الْحَكِيمِ) في أموره.
[١٢٨] أما حكمة
نصر المسلمين على أعدائهم في هذه الغزوة وسائر الحروب فهي (لِيَقْطَعَ) أي يفصل (طَرَفاً مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) الطرف من الأنفس بالقتل ، ومن الأراضي بالفتح ومن الأموال
بالغنيمة (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي يخزيهم حتى يرغموا وتقل شوكتهم (فَيَنْقَلِبُوا) إلى أهليهم (خائِبِينَ) لم ينالوا بغنيمتهم بل انعكس الأمر فكبتوا وأرغموا.
[١٢٩]
(لَيْسَ لَكَ) يا رسول الله (مِنَ الْأَمْرِ) المرتبط بهؤلاء الكفار (شَيْءٌ) فإن النصر والهزيمة والكبت كلها مرتبطة بإرادة الله سبحانه
كما قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقال : (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) ثم رجع السياق إلى تتميم قوله في الآية السابقة «أو يكبتهم»
(أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ) بأن تكون نصرة المؤمنين على الكفار سببا لهداية جماعة منهم
إلى
__________________
أَوْ
يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً
____________________________________
الإيمان فيتوب
الله سبحانه عليهم فيما فعلوا سابقا من الكفر والعصيان (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بأن تظفروا عليهم فتأسروهم (فَإِنَّهُمْ
ظالِمُونَ) فتعذيبهم ليس ظلما من الله عليهم بل لظلمهم أنفسهم فالأمر
ليس بيدك يا رسول الله ، وإنما ينصر الله المؤمنين لأحد أغراض أربعة : قطع طرف
منهم ، أو هزيمتهم وإرغامهم ، أو هدايتهم ، أو تعذيبهم. والاعتراض بجملة «ليس لك»
لتركيز كون النصر من عند الله ، فإن اعتراض جملة في وسط جملة متسقة توجب إلفات
الذهن وتركيز المطلب أكثر من بيان الجملة في موقعها الطبيعي.
[١٣٠] ليس لك شيء (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) فيفعل ما يشاء بمن يشاء فإنه تصرّف في ملكه لحكمة وغاية (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ممن استحق الغفران بالطاعة والتوبة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استحق العذاب بالكفر والعصيان (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فتعذيبه أقل من غفرانه فقد سبقت رحمته غضبه.
[١٣١] ويرجع
السياق هنا إلى الربا والإنفاق مما مر بنا سابقا ، لمناسبة أن الربا من أسباب
العذاب ، والإنفاق ، من أسباب الغفران (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) فإن من شأن الربا
أن يتضاعف مرات ومرات فإن ربا الألف لو كان خمسينا يصبح ربا الألف
وَاتَّقُوا
اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(١٣٠) وَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١)
وَأَطِيعُوا
اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
____________________________________
والخمسين ـ في سنة
ثانية ـ ألفا ومائة واثنين ونصف ، وهكذا يتضاعف الربا ، ويمتص مال الفقراء وعملهم
الذي يؤدون به الدين والربا معا (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) أي لكي تفوزوا بالثواب والنعيم.
[١٣٢]
(وَاتَّقُوا النَّارَ) فلا تفعلوا ما يوجبها (الَّتِي أُعِدَّتْ) وهيّأت (لِلْكافِرِينَ) الذين يكفرون في الاعتقاد أو في العمل ، أو المراد الكفار
العقائديون ، والتخصيص بهم من أن العصاة أيضا يذهبون إلى النار ، وأن دوامها
وبقاءها عليهم ، أو أنهم معظمهم أهلها.
[١٣٣]
(وَأَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ) فيما يأمركم وينهاكم ، وذكر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للتعظيم وإفادة أمره أمر الله سبحانه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي ترحموا في الدنيا والآخرة.
[١٣٤]
(وَسارِعُوا) أي بادروا (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) أي سبب المغفرة وهو الأعمال الصالحة الموجبة لغفرانه
سبحانه (وَ) إلى (جَنَّةٍ عَرْضُهَا) أي سعتها ـ لا العرض مقابل الطول ـ (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فهي واسعة وسع السماوات والأرض التي لا نهاية لها في
التصور ـ فإن الفضاء الذي يعبّر عنه بالسماء مما لا يصل الفكر إلى آخره ونهايته ـ (أُعِدَّتْ) وهيّأت (لِلْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون المعاصي.
الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ
عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
____________________________________
[١٣٥] ثم بيّن
المتقين بقوله سبحانه : (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ) أموالهم (فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ) أي في حالتي اليسر والعسر ، أو حالتي السرور والاغتمام (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الذين يكظمون غيظهم (وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ) يعفون عنهم إذا ظلموهم (وَ) من فعل ذلك فهو محسن إلى نفسه وإلى الناس و (اللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ولا يخفى أن المتقي هو الذي يجمع الصفات الحميدة كلها
لكنها نثرت في القرآن الحكيم بمناسبات. وسوف نفسّر «المتقي» في كل مكان ببعض
صفاته.
[١٣٦]
(وَالَّذِينَ) عطف على (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ) أي أن المتقين هم الذين (إِذا فَعَلُوا
فاحِشَةً) أي معصية تفحش ، أي تتجاوز الحد (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بما لا يبلغ حد الفاحشة ، من سائر أقسام المعاصي ،
فالفاحشة أخذ من مفهومها كون المعصية كبيرة (ذَكَرُوا اللهَ) أي تذكروا نهي الله وعقابه (فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ) أي طلبوا غفران الله وندموا على ما فعلوا (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا
اللهُ) وهو استفهام استعطافي فالقرآن الحكيم يستعطف المذنبين نحو
التوبة والاستغفار (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى
ما فَعَلُوا) من المعاصي ، بل أقلعوا وندموا (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون كون الفعل خطيئة ، فلا يصرون
أُولئِكَ
جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا
____________________________________
على الذنب مع
علمهم به.
[١٣٧]
(أُولئِكَ) المتقون الذين هذه صفاتهم (جَزاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) يغفر ذنوبهم في الدنيا بسترها ، وفي الآخرة بالعفو عنها (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) أي من تحت نخليها وأشجارها (خالِدِينَ فِيها) أبد الآبدين (وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ) فإن الغفران والثواب من أفضل أجر العامل فإنّ أيّ أجر لا
يبلغ مثل هذا الأمر الدائم الوارف.
[١٣٨]
(قَدْ خَلَتْ) أي مضت وسبقت (مِنْ قَبْلِكُمْ) أيها المخاطبون (سُنَنٌ) جمع سنة بمعنى الطريقة ، فقد كانت في الأمم السالفة طرائق
، طريقة الحق وطريقة الباطل ، طريقة الخير وطريقة الشر .. وهكذا (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اذهبوا إلى البلاد التي كانت فيها تلك الأمم المنقرضة (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ) أي تعرفوا على أخبارهم حتى تعلموا أنهم لم يربحوا وإنما
أتوا وكذبوا الرسل وتأمروا ثم ماتوا ودفنوا ولم يبقى لهم ذكر طيب في الدنيا ولم
تدم لهم النعمة التي من أجلها عملوا ما عملوا وإنما انتقلوا إلى عذاب الله سبحانه
، ليكون في ذلك عبرة لكم فلا تكونوا من المكذبين بل من المؤمنين المصدقين.
[١٣٩]
(هذا) القرآن ، أو هذا الذي ذكرنا من أحوال المؤمن والكافر ، وما
بَيانٌ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
وَلا
تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
إِنْ
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
____________________________________
قدمنا من العظة
والإنذار (بَيانٌ لِلنَّاسِ) دلالة وحجة وتوضيح لهم كيف ينبغي أن يسلكوا ويعملوا (وَهُدىً) يهديهم إلى الحق (وَمَوْعِظَةٌ) وعظ وإرشاد (لِلْمُتَّقِينَ) فإنهم هم الذين يستفيدون منه ، وإن كان بيانا للناس عامة.
[١٤٠] وهنا يرجع
السياق إلى ذكر غزوة أحد ، لتشجيع المؤمنين وتصبيرهم على تحمّل المكاره ، بعد ما
بيّن أحوال المؤمن والكافر ، حتى تقوى عزيمتهم ، وتطمئن قلوبهم (وَلا تَهِنُوا) من الوهن أي لا تضعفوا عن قتال الأعداء (وَلا تَحْزَنُوا) مما نالكم من القتل والجرح والهزيمة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الظافرون الغالبون فإن الظفر يذهب بحرارة الخسارة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن من كان مؤمنا لا يهن ولا يحزن فإن طاقة الإيمان تؤمّن
الإنسان بالقوة والفرح أما القوة فهي مستمدة من الله سبحانه وأما الفرح فللغلبة أو
لثواب الله سبحانه فيما لو غلب.
[١٤١] ثم بيّن
سبحانه أن ما أصابهم من المكاره ليس خاصا بهم بل أصاب الكافرين مثل ما أصابهم فهم
في ذلك سواء ، لكن المؤمنين يرجون ثواب الله سبحانه مما لا يترقّبه الكافرون فهم
أجدر بالصبر والثبات وعدم الوهن والحزن (إِنْ يَمْسَسْكُمْ) أي يصبكم أيها المسلمون في غزوة أحد (قَرْحٌ) جرح وألم في أحد (فَقَدْ مَسَّ
الْقَوْمَ) الكافرين (قَرْحٌ مِثْلُهُ) في أحد حيث أصيب الكفار بالألم والجرح أيضا ، أو المراد
مسّهم القرح في بدر حيث قتل المشركون
وَتِلْكَ
الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
____________________________________
وهزموا (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أيام النصر والهزيمة وأيام القرح (نُداوِلُها) أي نصرّفها (بَيْنَ النَّاسِ) فيوم لهؤلاء على أولئك ، ويوم لأولئك على هؤلاء ، فإذا
نصرنا المؤمنين كان ذلك لإيمانهم وإذا هزموا كان امتحانا لهم.
(وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) أي أن صرف الأيام ليتميز المؤمن الحقيقي من غيره فإنه
«عند تقلب الأحوال
تعرف جواهر الرجال» و «عند الامتحان
يكرم الرجل أو يهان» ، ومعنى «ليعلم» أن معلومه سبحانه يقع في الخارج ، لا أنه
كان جاهلا ـ سبحانه ـ ثم علم ، فإن العلم لما كان أمرا إضافيا بين العالم والمعلوم
، يقال علم باعتبارين ، أما باعتبار العالم فيما كان جاهلا ثم علم ، وأما باعتبار
المعلوم فيما كان المعلوم غير خارجي ثم صار خارجيا (وَ) ل (يَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ) أي أن مداولة الأيام لفوائد ومن جملة تلك الفوائد أن يتخذ
الله سبحانه منكم مقتولين يستشهدون في سبيل الله ويبلغون الدرجات الراقية بالشهادة
، أو ليكون جماعة شهداء على آخرين بالصبر أو الجزع ، بالثبات أو الهزيمة ، فإن
إيصال جماعة قابلة إلى مرتبة أن يكونوا شهداء نعمة وغرض رفيع ، لكن المعنى الأول
أقرب (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بالكفر ، أو بالهزيمة.
__________________
وَلِيُمَحِّصَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ
جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
____________________________________
[١٤٢]
(وَ) من فوائد تداول الأيام بين الناس أنه (لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي يخلّصهم من المنافقين فيتبين المؤمن من المنافق ، أو
يخلصهم من الذنوب ، فإن بالأهوال تذاب الذنوب ، وبالشدائد تكفّر الخطايا (وَ) ل (يَمْحَقَ
الْكافِرِينَ) يهلكهم ، فإن الكفار ينقصون شيئا فشيئا حتى يهلكوا جميعا.
[١٤٣] ثم يبين
سبحانه فائدة أخرى لتداول الأيام وهي أن المؤمن لا يدخل الجنة بمجرد إظهار
الشهادتين وإنما اللازم أن يجاهد ويعمل وفي تداول الأيام يحصل هذا العمل وهذا
الامتحان المؤهل لدخول الجنة ، لكنه جاء الكلام في صورة الاستفهام تلوينا في
الكلام ، وتفنّنا في التعبير (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي هل حسبتم وظننتم أيها المسلمون (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) بمجرد الإيمان بدون الامتحان (وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أي لم يقع منكم جهاد حتى يتعلق علم الله به (وَ) لما (يَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ) فلم يقع منهم صبر حتى يتعلق به علم الله سبحانه ودخول
الجنة بدون الجهاد والصبر لا يكون ، فتداول الأيام يوجب جهاد المؤمنين وصبرهم حتى
يتأهلوا لدخول الجنة.
[١٤٤] ثم يشير
القرآن الحكيم إلى تأنيب المؤمنين في موقفهم يوم أحد ، حيث أن جماعة منهم قبل
الغزوة كانوا يتطلعون إلى الجهاد ويتمنون الاستشهاد ثم فروا منهزمين ، وفوق ذلك أن
إيمان بعضهم كان بدرجة
وَلَقَدْ
كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وَما
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
____________________________________
من الوهن حتى أنهم
لما سمعوا بموت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كادوا أن يرتدوا (وَلَقَدْ كُنْتُمْ) أيها المؤمنون (تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) ولقاء الموت كناية عن لقاء مقدماته والوقوع في الأهوال
المنتهية إليه (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) في الغزوة إذ رأيتم غلبة الكفار وقتل جماعة من المؤمنين (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي تشاهدون المعركة ، وهذا تأكيد لمعنى «رأيتموه» حتى لا
يتوهم أحد أن الرؤية كانت بالقلب ، فإن «رأى» يستعمل بمعنى «علم».
[١٤٥]
(وَما مُحَمَّدٌ) صلىاللهعليهوآلهوسلم (إِلَّا رَسُولٌ) أي ليس هو إلها لا يموت إنما هو بشر اختاره الله للرسالة
فيجري عليه ما يجري على البشر من الموت والقتل ، وليس بدعا من الرسل بل (قَدْ خَلَتْ) أي مضت وتقدمت (مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ) الذين جرت عليهم سنة الله من الموت ومفارقة الحياة (أَفَإِنْ ماتَ) موتا اعتياديا (أَوْ قُتِلَ) واستشهد (انْقَلَبْتُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ) استفهام إنكاري توبيخي أي لم يكن حالكم هكذا ، حتى ترتدّوا
بموت النبي ، وكنى عن الارتداد بالمشي القهقرى «الانقلاب على الأعقاب» الذي هو
رجوع نحو الوراء (وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلى عَقِبَيْهِ) أي من يرتد عن دينه (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ
شَيْئاً) إذ الله سبحانه غني مطلق لا يحتاج إلى إيمان أحد حتى يضره
ارتداده (وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ) الذين يشكرون نعمة الإيمان ويثبتون عليه
وَما
كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ
يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ
نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
____________________________________
فإن الارتداد من
أعظم أقسام الكفر ، كما قال سبحانه : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) .
[١٤٦] وهنا تلميح
إلى عتاب آخر موجّه للمسلمين لانهزامهم يوم أحد خوف الموت ، فلم الفرار؟ أمن خوف
الموت ، وليس الموت إلا بإذن الله تعالى ، وما قدّر من أجل للإنسان ، فالفرار
وعدمه سيان بالنسبة إلى الوقت المحدد لحياة الإنسان (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ) إن النفوس ليست هملا حتى تموت من تموت وتبقى من تبقى
بأسباب عادية من غير توسط مشيئة الباري سبحانه ، فإن الموت لا يكون (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ومشيئته (كِتاباً مُؤَجَّلاً) أي كتب الله ذلك الوقت في اللوح المحفوظ كتابا ذا أجل ومدة
محدودة معلومة (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ
الدُّنْيا) وخيرها وتعب وعمل لأجل المنافع الدنيوية (نُؤْتِهِ مِنْها) فإن الذي عمل يرى الله نتيجة عمله (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ) وخيرها وعمل لأجل ثواب الآخرة (نُؤْتِهِ مِنْها) بقدر ما عمل ، فارغبوا أيها المسلمون في ثواب الله وأجره
الأخروي بالجهاد والثبات ولا تفروا كما فررتم في أحد (وَسَنَجْزِي
الشَّاكِرِينَ) جزاء حسنا ، ومن الشكر يعرف الإنسان قيمة ما خوّله الله
سبحانه من الإسلام ووفقه للجهاد بين يدي رسوله لإعلاء كلمة الله ، فمن شكر ذلك
يجزى جزاء الشاكرين.
__________________
وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
(١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ
قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ
أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
____________________________________
[١٤٧] وما لكم
أيها المسلمون وهنتم في غزوة أحد وفررتم؟ ألم يمكنكم الاقتداء بالمؤمنين السابقين
الذين كانوا مع الأنبياء يصمدون في وجه الباطل؟ (وَكَأَيِّنْ مِنْ
نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فإن كثيرا من الأنبياء عليهالسلام قاتلوا ، وجاهد معهم وتحت لوائهم أناس من المؤمنين ربانيين
منسوبون إلى الرب تعالى بالطاعة والعبادة والإيمان ، أو بمعنى أخيار فقهاء (فَما وَهَنُوا) أي ما فتروا (لِما أَصابَهُمْ) من القتل والسلب والجروح والقروح (فِي سَبِيلِ اللهِ) للتنبيه على شدائدهم التي كانت في سبيل الله سبحانه (وَما ضَعُفُوا) عن عدوهم (وَمَا اسْتَكانُوا) أي ما خضعوا ولا تضرعوا لعدوهم (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) الذين يصبرون في الشدائد وفي الحروب.
[١٤٨]
(وَما كانَ قَوْلَهُمْ) أي قول أولئك الربانيون عند الجهاد وملاقاة الأعداء (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا) فكانوا يستغفرون عند اللقاء مما فات منهم من الذنوب
استعدادا للقاء الله سبحانه طاهرين (وَإِسْرافَنا فِي
أَمْرِنا) أي تجاوزنا الحدود وتفريطنا وتقصيرنا (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) حتى لا تزل أمام الأعداء فننهزم (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ) فهم جاهدوا وجلين من ذنوبهم لم يطلبوا إلا العفو في تواضع
وخشوع ، ولم يقصدوا إلا نصرة الدين على القوم الكافرين.
فَآتاهُمُ
اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩)
____________________________________
[١٤٩] فجزاء على
ما سلف منهم من الصبر والثبات والجهاد في خشوع وتواضع آتاهم (اللهُ) أي أعطاهم الله سبحانه (ثَوابَ الدُّنْيا) بالفتح والغلبة والعزة والرفاه (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) بجنات تجري من تحتها الأنهار ، أي ثواب الآخرة الحسن ،
والإتيان بكلمة «حسن» هنا دون «ثواب الدنيا» لعله للإشارة إلى أن ثواب الآخرة هو
الذي يوصف بالحسن ، أما الدنيا فإنها زائلة فلا قيمة لثوابها ، أو المراد «أحسن»
أقسام ثواب الآخرة الذي لا يعطى إلا للمجاهدين ، بخلاف الدنيا فإن ثوابها عام
للبرّ والفاجر (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) ومحبة الله سبحانه فوق كل ثواب كما قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ) .
[١٥٠] لما اشتد
الأمر يوم أحد أخذ جماعة من المنافقين يدعون الناس إلى الارتداد عن دينهم حتى
يستريحوا فأنزل الله فيهم : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) من المنافقين ، أو من اليهود والنصارى الذين أخذوا يشيعون
أن محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم قتل فارجعوا إلى دينكم وعشائركم (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) كفارا كما كنتم (فَتَنْقَلِبُوا
خاسِرِينَ) قد خسرتم الدنيا والدين ، فإن دنيا الجاهلية كانت فوضى
وفقرا ورذيلة.
__________________
بَلِ
اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
وَلَقَدْ
صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ
____________________________________
[١٥١]
(بَلِ اللهُ
مَوْلاكُمْ) أي هو أولى بكم من الكفار والمنافقين ، وهو ينصركم على
أعدائكم (وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ) لأن في نصرته خيرا للدارين بخلاف نصرة غيره.
[١٥٢]
(سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي نقذف الخوف والفزع في قلوبهم حتى تغلبوهم وهكذا ينصركم
الله تعالى (بِما أَشْرَكُوا
بِاللهِ) أي بسبب شركهم (ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً) أي برهانا وحجة ، فإن شركهم كان تقليدا لا عن دليل وحجة (وَمَأْواهُمُ) أي محلهم ومستقرّهم (النَّارُ) في الآخرة (وَبِئْسَ مَثْوَى
الظَّالِمِينَ) أي أن النار بئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر.
وقد ورد أن الآية نزلت حين همّ المشركون ـ يوم أحد ـ بالرجوع إلى المسلمين
لاستئصالهم عن آخرهم فلما عزموا ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا
به ، ولا يخفى أن إلقاء الرعب في قلب الكافر أمر طبيعي فإن المسلم يستمد القوة من
الله سبحانه أما الكافر فحيث لا يعتقد به سبحانه يكون قلبه هواء فيتسرب إليه
الخوف.
[١٥٣] ثم بيّن
سبحانه أن هزيمتهم يوم أحد لم تكن إلا بسبب مخالفتهم أوامر الله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإلا فالله سبحانه نصرهم كما وعد ، حتى هزموا المشركين (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) وفي لكم بما وعد من نصرتكم
إِذْ
تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
____________________________________
على الكفار (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي تقتلونهم ، فإن «حسّه» بمعنى قتله وأبطل حسّه وحياته ،
ومعنى «بإذنه» : بأمره ، فإن الله أذن لهم في القتال كما قال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ) جبنتم وكففتم وخالفتم أمر الرسول (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) هل يبقى الرماة الخمسون في الشعب كما أمرهم الرسول أم
يخرجوا يجمعون الغنائم؟ ـ كما تقدم ـ (وَ) بالآخر (عَصَيْتُمْ) أمر الرسول في لزوم أماكنكم فتخليتم عن الشعب ، فقد تخلى
من الخمسين سبع وثلاثون (مِنْ بَعْدِ ما
أَراكُمْ) الله سبحانه (ما تُحِبُّونَ) من هزيمة الكفار ونصرة المسلمين (مِنْكُمْ) أيها المسلمون (مَنْ يُرِيدُ
الدُّنْيا) وهم الذين خالفوا الرسول طلبا للغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم : عبد الله رئيس الرماة في الشعب واثني عشر من أصحابه
الذين ثبتوا في أماكنهم (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) أيها المسلمون (عَنْهُمْ) أي عن الكفار ، بل توجهتم إلى الغنائم عوض أن تحتفظوا
بأماكنكم ، فإن في حفظ المكان كان توجها نحو الكفار لئلا يرجعوا إلى المسلمين من
ورائهم ، بخلاف التوجه نحو الغنيمة فإنه كان صرفا عن الكفار ، وإضافته إليه سبحانه
كسائر الإضافات نحو «ومن يضلل» أو باعتبار أن الصرف كان عقوبة لهم على إرادتهم
للدنيا
__________________
لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
إِذْ
تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما
أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ
____________________________________
(لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي يمتحنكم ويختبركم ، حتى يظهر ما أنتم عاملون (وَلَقَدْ عَفا) الله سبحانه (عَنْكُمْ) خطيئتكم بمخالفة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم على أعدائهم ويعفو عن ذنوبهم ، ومعنى الفضل : المن
والنعمة ، فإنه يعطيهم فضلا أي فوق استحقاقهم.
[١٥٤] ولقد عفا
عنكم (إِذْ تُصْعِدُونَ) أي تذهبون في وادي أحد للانهزام ، فإن الإصعاد الذهاب في
الأرض (وَلا تَلْوُونَ عَلى
أَحَدٍ) أي لا تلتفتون إلى أحد من ورائكم بل كل همكم السرعة في
الفرار حتى لا يأتيكم الطلب (وَالرَّسُولُ) محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (يَدْعُوكُمْ) يناديكم (فِي أُخْراكُمْ) أي من ورائكم ، يقال : جاء فلان في آخر الناس أي من ورائهم
(فَأَثابَكُمْ) أي جازاكم الله على فراركم (غَمًّا) متصلا (بِغَمٍ) غمّ الهزيمة وغمّ القتلى الذين قتلوا منكم ـ ويحتمل في
اللفظين أمور ـ (لِكَيْلا تَحْزَنُوا
عَلى ما فاتَكُمْ) من الخير (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الضرر ، فإن الإنسان إذا وقع في الشدائد وجرّبها
ومارسها تصلب نفسه وتقوى روحه فلا تتزحزح بمصيبة ولا تهتز بكارثة ، وهكذا كانت
هزيمة أحد درسا وعبرة حتى يصغر في نفوس المسلمين كل ما يفوتهم من خيرات وكل ما
يصيبهم من شرور وآلام (وَاللهُ خَبِيرٌ) ذو خبر واطلاع
بِما
تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ
وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ
ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ
____________________________________
(بِما تَعْلَمُونَ) فيجازيكم على حسب أعمالكم.
[١٥٥]
(ثُمَّ أَنْزَلَ) الله (عَلَيْكُمْ مِنْ
بَعْدِ الْغَمِ) الذي غشيكم لهزيمتكم (أَمَنَةً) أي أمنا (نُعاساً) أي نوما ، وهو بدل اشتمال ل «أمنة» فإنهم ناموا من شدة
التعب والنصب بعد ما ذهب خوفهم وذهب الكفار ، و «أمنة» مصدر كالعظمة والغلبة. لكن
هذا النعاس كان (يَغْشى طائِفَةً
مِنْكُمْ) فقط الذين كانوا يعلمون أن محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم حق وأن الله لا يتركه وأن ما أصابهم يوجب الثواب والفائدة
لهم (وَ) هناك (طائِفَةً) ثانية كانوا مع النبي منافقين (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يفكّرون في هزيمتهم لا ينامون من الحزن والخوف حين انتشر
بينهم أن الكفار عازمون على الرجوع وكانوا يشكّون في نصرة الله ولذا لم يتمكنوا أن
يناموا خوفا (يَظُنُّونَ بِاللهِ
غَيْرَ الْحَقِ) وأنه لا ينصر نبيه (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) من الكفار المكذبين بوعد الله سبحانه (يَقُولُونَ) ما في نفوسهم من ظنون الجاهلية : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أمر الغلبة والنصرة (مِنْ شَيْءٍ) في مقام الاستنكار والتعجب أن ينتصروا على الكفار إذا
رجعوا (قُلْ) لهم يا رسول الله : (إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ) ينصر من يشاء ، فللمسلمين النصر والغلبة بإعطاء الله لهم
إياها (يُخْفُونَ) هؤلاء المنافقين (فِي أَنْفُسِهِمْ) النفاق والكفر (ما لا يُبْدُونَ لَكَ)
يَقُولُونَ
لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي
بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ
وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ
____________________________________
أي لا يتجرءون على
إظهاره (يَقُولُونَ لَوْ كانَ
لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أي من النصرة والغلبة (شَيْءٍ) وكنا حقيقة منصورين (ما قُتِلْنا) أي ما قتل أصحابنا (هاهُنا) في غزوة أحد (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : إن كون الأمر لنا لا يلازم أن لا
يقتل منا أحد فإن الإنسان يموت إذا جاء أجله ولو كان في داره ومنزله (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي خرج الذين كتب عليهم القتل ـ بأن رقم موتهم في اللوح
المحفوظ ـ إلى مصارعهم. و «مضاجع» جمع مضجع بمعنى محل النوم (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي
صُدُورِكُمْ) يختبر الله ما في صدوركم ، فإن ما في الصدور من الإخلاص
والنفاق ، والثبات والوهن ، إنما يظهر عند الشدائد والمحن ، وهذا عطف على قوله : «ليبتليكم»
أو مستأنفة ، أي فعل الله سبحانه ما فعل ليبتلي (وَلِيُمَحِّصَ) أي يخلص (ما فِي قُلُوبِكُمْ) بأن يكشفه للناس ولكم ، حيث أن الإنسان يظن أشياء فإذا حدث
الحادث يظهر له خلاف ما كان يظن بنفسه (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) فليس الامتحان لأن يعلم هو تعالى ، بل لأن يظهر ما يعلمه.
[١٥٦]
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا) أدبروا وانهزموا (مِنْكُمْ) أيها المسلمون
يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا
وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا
لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا
عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا
____________________________________
(يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ) يوم أحد الذي التقى فيه جمع المسلمين بقيادة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بجمع المشركين بقيادة أبي سفيان (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) طلب زلتهم وعصيانهم (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي بسبب بعض المعاصي التي كانوا يعملونها فأخذتهم عاقبتها
وشؤمها (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ
عَنْهُمْ) بعد ما ندموا ورجعوا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر للمذنب إذا تاب (حَلِيمٌ) لا يعجل بالعقوبة بل يمهل المذنب كي يتوب ويئوب.
[١٥٧]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) اعتقادا ، وهم الكفار الذين لا يدينون بما وراء الغيب ، أو
كفروا عملا وهم المنافقون ومن أشبههم (وَقالُوا
لِإِخْوانِهِمْ) في العقيدة ، أو في الإنسانية ، حتى يشمل قول الكافرين
للمؤمنين وقوله : «لإخوانهم» أي قالوا بالنسبة إلى الإخوان الذين سافروا فماتوا ،
أو حاربوا فقتلوا (إِذا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ) أي ذهبوا لأجل التجارة ونحوها ، يقال : ضرب فلان في الأرض
إذا سافر ، وتخصيص الأرض بالذكر ، لكون السفر غالبا عن طريق البر (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع «غاز» ، أي حاربوا الأعداء : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) مقيمين في أوطانهم (ما ماتُوا وَما
قُتِلُوا) فقد حسبوا أن الموت والقتل إنما هما
لِيَجْعَلَ
اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)
____________________________________
بالأسباب الطبيعية
بما وراء المادة والإحساس. مع أن الموت والقتل لا يكونان إلا بتقدير وقضاء وليس
يفيد في ذلك البقاء ، وفي هذا رد لإرجاف المنافقين الذين كانوا يلقون تبعة قتل
المؤمنين في أحد على النبي وأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أخرجهم فقتلوا ، ومعنى القضاء والقدر في الأمور التكوينية
: التخطيط وتهيئة الأسباب ، فكما أن المهندس الذي يريد بناء دار يخطط شكل الدار
المراد بنائها ثم يحضر مواد البناء من آجر وجص وحديد وخشب ، كذلك ما في العالم من
الأمور التكوينية خططت وعلمها الله سبحانه وأحضرت موادها. لكن ليس معنى ذلك أن
الأمور خارجة عن أيدي البشر وإنما جعل الدعاء والصدقة والأسباب الظاهرة مستثنيات
للتخطيط والآلات والأسباب وكل ذلك أيضا بعلمه سبحانه ، وعلى كلّ فليس الموت والقتل
مما يكون سببهما السفر والغزو كما زعمه الكفار بل هناك أسباب خفية تدير هذين
الأمرين إلى جنب الأسباب الظاهرية ، فليس كل سفر وغزو موجبا للموت كما ليس كل
إقامة موجبا للبقاء ، والكفار إنما قالوا ذلك يريدون تثبيط الناس عن الجهاد (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) الاعتقاد ـ المفهوم من الكلام ـ (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) لما حصل لهم من الخيبة حيث رأوا رجوع إخوانهم من السفر
والجهاد بالربح والظفر ، ومن الطبيعي أن يحزن ويخسر الشخص الجامد لما ناله الشخص
المتحرك من الخير والتقدم المحتومين ، واللام في «ليجعل» إما لام الأمر ، لبيان
التأكيد ، أو لام العاقبة ، أي كانت عاقبة هذا الاعتقاد الحسرة والحزن (وَاللهُ يُحْيِي) الأرض والجماد والإنسان (وَيُمِيتُ) فليس السفر والغزو تمام سبب الموت (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فارغبوا في الطاعة
وَلَئِنْ
قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
فَبِما
رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ
____________________________________
والجهاد ، واحذروا
من المخالفة والفرار ، فإن الله سبحانه يعلم أعمالكم ، ويبصر صنعكم.
[١٥٨] ثم لنفرض أن
السفر والغزو سبب الموت فهل الموت مع المغفرة خير أم الحياة لجمع الأموال التي يحياها
الكافر الذي يبقى في بلده (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) أيها المؤمنون (فِي سَبِيلِ اللهِ) وجهاد أعدائه (أَوْ مُتُّمْ) في سبيل اكتساب الرزق والتجارة والضرب في الأرض (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) حيث يغفر لكم ويرحمكم حيث كنتم مطيعين له ممتثلين أمره (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي يجمع هؤلاء الكفار الباقون في بلدهم خوفا من الخروج ،
فإن من يبقى يكتسب ويجمع مالا.
[١٥٩] ثم أن الموت
والقتل لا يسببان انقطاع الحياة حتى يخشاهما الإنسان ويرفع اليد عن مقاصده العالية
من خشيتهما (وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) فيجازيكم على أعمالكم فخير لكم أن تطيعوه حتى تكونوا مرادا
لثوابه وفضله.
[١٦٠] وهنا يلتفت
السياق ليثير في النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عاطفته الكامنة نحو المؤمنين حتى يعفو عن خطأهم في أحد ،
حيث أخلوا الشعب حتى سيطر المشركون على المعركة ، وفعلوا تلك الأفاعيل بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه من جرح وقتل وتمثيل (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ) «ما» زائدة أي
بسبب رحمة من الله سبحانه على المؤمنين (لِنْتَ لَهُمْ) أي كنت لينا رحيما بهم فقد
وَلَوْ
كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)
إِنْ
يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
____________________________________
جعله الله سبحانه
رحيما بهم لينا عليهم (وَلَوْ كُنْتَ) يا رسول الله (فَظًّا) جافي اللسان قاسي القلب (غَلِيظَ الْقَلْبِ) غلظا معنويا وهو الذي لا يلين ولا يحنو (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي تفرقوا عنك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) إذا أخطئوا (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي اطلب لهم من الله الغفران لما صدر من ذنوبهم ، والله
سبحانه وإن كان أرحم بهم لكن ذلك لزيادة عطف النبي ، فإن من يطلب المغفرة لأحد لا
بد وأن يزول من قلبه ما علق به من الكراهية ، ولتكثير محبة المؤمنين له صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث يعلمون بأنه يستغفر لهم (وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) لتأليف قلوبهم ولتعليمهم المشورة في أمورهم ، فإن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان في غنى عنهم بما كان يسدّده الله سبحانه بالوحي (فَإِذا عَزَمْتَ) بعد المشورة على فعل (فَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) ولا تهتم بمن يخالف رأيه رأيك يا رسول الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) الواثقين به المعتمدين عليه الذين يوكلون أمورهم إليه.
[١٦١]
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ
اللهُ) أيها المؤمنون ، وذلك إذا استحققتم ذلك بإيجاد أسباب النصر
وإطاعة أوامره سبحانه (فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي لا يقدر أحد على أن يغلبكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) وخذلان الله سبحانه أن يكلهم إلى أنفسهم ولا يعينهم في
أمورهم (فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) استفهام استنكاري ، أي لا يكون ناصر لكم ينصركم من بعده
سبحانه
وَعَلَى
اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (١٦٢)
____________________________________
(وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يثقون به ويعتمدون عليه.
[١٦٢] لقد كان من
أسباب تخلّي المسلمين عن مكانهم من الجبل ـ يوم أحد ـ خوفهم ألا يقسّم لهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من الغنائم ، وقد تكلم بعض المنافقين في وقعة بدر حول
قطيفة حمراء فقدت فقالوا بأن الرسول أخذها ، ولذا نزلت الآية نافية أن يغلّ
الأنبياء ويخونوا (وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَ) أي لا يجوز للأنبياء الغلول أي الخيانة ، والخيانة محرمة
مطلقا لكن المورد أتى خاصا حيث أن الكلام كان حوله (وَمَنْ يَغْلُلْ) شريفا كان أو وضيعا قليلا كان غلوله أو كثيرا (يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وفي الحديث : «يأتي
به على ظهره» . (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي تعطى جزاء كسبها كاملا غير منقوص (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص من أجورهم شيء ولا يعذبون فوق استحقاقهم.
[١٦٣]
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ) باتباع أوامره واجتناب نواهيه (كَمَنْ باءَ) أي رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) فكأنه رجع إلى أعماله الدنيئة بعد أن ذهب إلى الله سبحانه
فعلم ماذا يريد ، فقد رجع مع السخط بينما رجع غيره مع الرضوان (وَمَأْواهُ) أي مرجعه ومصيره (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) أي
__________________
هُمْ
دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ
____________________________________
أن المحل الذي صار
إليه محل سيئ ، فعلى الإنسان أن لا يفرّ من الحرب ولا يتخلف عن أمر الله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى يبوء بالغضب والسخط ويكون مصيره النار.
[١٦٤]
(هُمْ) أي هؤلاء الذين باءوا بالسخط والذين اتبعوا رضوان الله ،
ذوو (دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ) فللمؤمنين درجات رفيعة ولغيرهم درجات بذيئة ، أو أن لكل
فريق درجات من حيث القرب والبعد ، وحذف كلمة «ذوو» لما تعارف من المجاز في هذه
التعبيرات بعلاقة الحال والمحل فيقال عند العد : زيد الدرجة الأولى ، عمرو الدرجة
الثانية ، وهكذا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) فيجازيهم حسب أعمالهم فلا يزهد الإنسان في الإحسان لأنه لا
يقدّر ، ولا يجري العاصي في المعصية لأنه لا يرى.
[١٦٥] إن النعمة
التي أنعم الله بها على المسلمين مما يوجب شكرها والتضحية في سبيلها فهي نعمة
كبيرة جدا لا تماثلها نعمة ولا يبلغ شأنها إحسان ومنّة (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم الله ، فإن المنّ القطع ، وتسمى النعمة منّة لأنها
تقطع الإنسان عن البلية والفاقة (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) إنما خصوا بالذكر مع أن المنة عامة لأنهم هم الذين
استفادوا منها دون سواهم (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولاً) فإنه أعظم النعم ، ولذا لم يمن الله على الإنسان بأية نعمة
سواها ، فإن في الإرسال صلاح الدين والدنيا والآخرة وإكمال البشر حسب قابلياتهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تذكير بنعمة أخرى ، إذ كون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من جنس البشر ـ
يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا
____________________________________
لا الملائكة والجن
ـ تشريف لهم وإظهار لفضل هذا النوع ، وحيث أن السياق حول مؤمن الأنس لا يستشكل بأن
المؤمنين أعم من الجن وليس الرسول من أنفسهم (يَتْلُوا) الرسول (عَلَيْهِمْ آياتِهِ) تلاوة ، كما يتلو المعلم الدرس على التلميذ (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الأدناس الظاهرية بأوامر النظافة وما أشبه ،
والأقذار الخلقية والاعتقادية بإرشادهم إلى الحق والفضيلة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يفهمهم معانيه ، وهو غير التلاوة (وَالْحِكْمَةَ) وهو علم الشريعة ، أو مطلقا ، بمعنى أنه يعلمهم مواضع
الأشياء خيرها وشرها فإن الحكمة كما قالوا : «وضع الشيء موضعه». (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يأتيهم الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ، فعلى
المؤمنين أن يضحوا في سبيل هذه النعمة بكل غال ورخيص ، فما فعلوا يوم أحد كان خلاف
الشكر ، وما ضحوا فيه لم يكن كثيرا مقابل هذه النعمة العظمى.
[١٦٦]
(أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) أي هل أنتم بحيث لما أصابتكم مصيبة في أحد والحال أنكم في
بدر (قَدْ أَصَبْتُمْ) من الكفار (مِثْلَيْها) فإنه قتل منكم في أحد سبعين ، وقد أصبتم من الكفار مائة
وأربعين إذ قتلتم منهم سبعين وأسرتم منهم سبعين في واقعة بدر (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي من أي وجه أصابنا هذا ونحن مسلمون ، وهذه الجملة «أو
لما ..» استنكارية أي كيف تستنكرون إصابتكم بأحد والحال أنكم قد أصبتم
قُلْ
هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
وَما
أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
____________________________________
في بدر مثلي ما
أصابكم ، ثم أن هذه الإصابة كانت لضعف نفوسكم حيث أغراكم المال وأخليتم أماكنكم في
الجبل (قُلْ) يا رسول الله : (هُوَ) أي ما أصابكم (مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ) الجشعة إلى حب الغنيمة والمال (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر أن ينصركم على أعدائكم كما يقدر أن يخذلكم حين تتركون
أوامره ، وفي بعض الأحاديث : أنهم في بدر خيروا بين أخذ الفدية من الأسرى على أن
يقتل منهم في العام القابل سبعون بعدد الأسرى ، وبين أن يقتلوا الأسرى ولا يأخذون
الفدية. فطلبهم للمال أوجب اختيار الأول ، وعلى هذا كان ما أصابهم في أحد «من عند
أنفسهم».
[١٦٧]
(وَما أَصابَكُمْ) أيها المسلمون (يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ) أي حين تلاقى المسلمون والكفار في يوم أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بعلمه ، أو بأنه لم يحل بين الكفار وبينكم حتى أصابوا
منكم. وهذا كالإذن تكوينا ، وقد أذن سبحانه لفائدة التمييز بين المؤمن والمنافق (وَلِيَعْلَمَ) أي يتحصّل علمه في الخارج (الْمُؤْمِنِينَ) الذين جاهدوا.
[١٦٨]
(وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا) أظهروا الإسلام وأبطنوا النفاق وهم ابن أبي سلول وجماعته
حيث أنهم انخذلوا يوم أحد نحوا من ثلاثمائة رجل قالوا : علام نقتل أنفسنا؟! (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) فإن عمرو بن حزام الأنصاري قال لهم هذه المقالة
أَوِ
ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا
____________________________________
(أَوِ ادْفَعُوا) عن حريمكم وأنفسكم فإن الكفار إذا غلبوا نكّلوا بكم (قالُوا) أي قال أولئك المنافقون في جواب المؤمنين : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فإن هذا الذي تخوضونه ليس بقتال إذ لو كان قتالا لأخذتم
برأينا فيه ، أو تريدون إلقاء النفس في التهلكة فليس هذا قتالا يتكافأ فيه
الجانبان ، (هُمْ) أي هؤلاء المنافقون (لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ
أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) فكلما عمل المنافق بالخلاف كان أقرب إلى الكفر وكلما عمل
بالوفاق كان أقرب إلى الإيمان (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فأفواههم تنطق بالإيمان وقلوبهم تضمر الكفر والعصيان (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) في قلوبهم فيجازيهم حسب نفاقهم المضمر.
أقول : الظاهر أن
قوله : «وليعلم» إلى آخره ، ليس عطفا على «بإذن الله» إذ يكون المعنى حينئذ أن
الإصابة علة للتمييز ، والحال أن إعلان الجهاد كان علة ذلك ، فقوله : «ليعلم» جملة
مستأنفة ، أي أن حرب أحد كانت لأجل التمييز بين المؤمن والمنافق ، في جملة فوائدها
الأخرى.
[١٦٩] ثم ذكر
سبحانه صفة أخرى للذين نافقوا بأنهم هم (الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ) أي قالوا حول إخوانهم الذين ذهبوا إلى ساحات الجهاد فقتلوا
(وَقَعَدُوا) أي قعد هؤلاء المنافقون عن القتال (لَوْ أَطاعُونا)
ما
قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
____________________________________
في تركهم الخروج (ما قُتِلُوا) جملة (لَوْ أَطاعُونا ما
قُتِلُوا) مقول قولهم. (قُلْ) لهم يا رسول الله : (فَادْرَؤُا) أي ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في مقالكم أن البقاء في البيت موجب لعدم موت الإنسان ، فمن
أين لكم أن من يبقى في بيته لا يموت ، فكم من الذين بقوا في بيوتهم وماتوا وكم
خرجوا في القتال ورجعوا سالمين؟!
[١٧٠] ولو فرضنا أن الخارج إلى الجهاد
قتل ، فما يضره ذلك ، فإن من استشهد في سبيل الله لا تنتهي حياته بل يبقى حيا يرزق
(وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً)
فكما أن هذه الحياة المادية ذات مراتب ، فمرتبة منها كاملة فيمن كان سعيدا فرحا ،
ومرتبة منها ناقصة فيمن كان شقيا حزينا. كذلك من مات يكون على قسمين ـ بعد بقاء
كليهما في حياة من لون آخر ـ قسم يكون حيا هناك أي سعيدا فرحا ، وقسم يكون ميتا
هناك أي شقيا حزينا ، فليس للآية الكريمة مفهوم أن غير المقتول لا حياة له هناك (بَلْ
أَحْياءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
حياة غير مادية بل حياة عند ربهم ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا.
[١٧١] في حال
كونهم (فَرِحِينَ بِما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الحياة الباقية والسعادة والخير (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي يسرّ هؤلاء المقتولون في سبيل
بِالَّذِينَ
لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
____________________________________
الله (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) من المؤمنين الذين بقوا في الحياة وبقوا (مِنْ خَلْفِهِمْ) واستبشارهم بهؤلاء من جهة (أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) إذ الله سبحانه يتولى أمورهم (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) بالنسبة إلى من خلفهم ، فهؤلاء المقتولون جمعوا بين خيرين
خير أنفسهم حيث تنعموا بنعمة الله سبحانه وخير إخوانهم الذين من خلفهم حيث علموا
بأنهم لا خوف عليهم ، وذلك بخلاف من بقي ولم يجاهد فإنهم جمعوا بين شرين مشاكل
حياة أنفسهم ومشاكل حياة إخوانهم ، حيث لا يعلمون ماذا تكون عاقبة أمر أنفسهم وأمر
إخوانهم.
[١٧٢]
(يَسْتَبْشِرُونَ) أي هؤلاء المقتولون يسرّون ويفرحون (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ينعمها عليهم في الآخرة (وَفَضْلٍ) أي الزيادة على قدر استحقاقهم أو على ما يترقبون (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ) فإن من علم أن حقه وأجره مضمون فرح واستبشر ، فهؤلاء يرون
عيانا أن حقهم محفوظ بخلاف الإنسان في الدنيا فإنه يعلم ذلك دون أن يراه. وفي
تكرار المطلب زيادة تمكين المعنى في النفس ، ومثله كثير في التحذيرات والترغيبات
المستقبلة وبالأخص إذا لم يشاهد الإنسان أمثاله بل كان غيبا محضا فإن في التكرار
تركيز المطلب في النفس حتى تعمل تلقائيا كالذي شاهد وحضر.
[١٧٣] لما انصرف
أبو سفيان وأصحابه من «أحد» وبلغوا «الروحاء» ندموا
الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
____________________________________
على انصرافهم عن
المسلمين وتلاوموا فيما بينهم قائلين بعضهم لبعض : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب
أردفتم ، قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركتموهم ، فارجعوا فاستأصلوهم.
فبلغ ذلك الخبر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فأراد إرهابهم فخرج صلىاللهعليهوآلهوسلم ومعه من به جرح من أحد حتى بلغ «حمراء الأسد» وبلغ الخبر
المشركين فخافوا خوفا شديدا وولوا منهزمين.
ووجه اتصال الآية
أنه سبحانه بعد ما بين أجر الشهداء وأنهم يستبشرون بالأحياء ذكر وصف الأحياء الذين
يستبشر بهم المقتولون أنهم أولئك الذين لم تزلزلهم المحنة ولم تقعدهم الجراحات عن
مواصلة الكفاح ولم يرهبهم تجمع الأعداء وإرجافهم بهذا التجمع وهم مثخنون بهذه
الجراحات (الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أطاعوهما في أمرهما ، وقد ذكرنا سابقا أن ذكر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم للتشريف وأن بيان أمره أمر الله سبحانه وإلا فالأمر واحد (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي نالتهم الجراحات يوم أحد (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بعد الاستجابة (وَاتَّقَوْا) معاصي الله سبحانه (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لأنهم أطاعوا في ثلاث دفعات حضورهم في أحد واستجابتهم
ثانيا وإحسانهم وتقواهم ثالثا.
[١٧٤] ثم وصفهم
سبحانه بوصف آخر أنهم هم (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) فقد قال الناس لأصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد
فَاخْشَوْهُمْ
فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ
اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
____________________________________
رجوعهم من أحد :
إن «الناس» وهم أبو سفيان والمشركون قد جمعوا لكم ، أي جمعوا المشركين لأجل
محاربتكم (فَاخْشَوْهُمْ) أي خافوا منهم لأنهم إذا رجعوا إليكم وأنتم ـ أيها
المسلمون ـ مثخنون بالجراح من أحد لن يبقوا منكم باقية (فَزادَهُمْ) تجمع الناس عليهم (إِيماناً) فإن عند كل كارثة يتذكر المؤمن الله سبحانه فتقوى نفسه
بمعونته وتشتد عزيمته بنصره (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللهُ) أي كافينا الله يكفينا شر أعدائنا (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فإنه خير من جعله الإنسان وكيلا لعلمه بمواقع النفع والضرر
وقدرته على جلب النفع ودفع الضرر عن الموكل.
[١٧٥]
(فَانْقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي رجع هؤلاء المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، تصحبهم نعمة الله وفضله (لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ) فهم بعد ما خرجوا في طلب أبي سفيان ، هرب أبو سفيان فرجع
المسلمون وهم مرهوبو الجانب أشداء النفوس (وَ) قد (اتَّبَعُوا رِضْوانَ
اللهِ) باتباع أمره في تعقب المشركين (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) على من اتبع أمره فهو يسعده في الدنيا والآخرة.
روي عن الإمام
الصادق عليهالسلام أنه قال : عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فإني سمعت الله يقول بعقبها : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ
وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)
.
__________________
إِنَّما
ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
____________________________________
[١٧٦]
(إِنَّما ذلِكُمُ) «كم» للخطاب ، و «ذا»
إشارة إلى التخويف من الأعداء أي أن التخويف الذي صدر عن بعض الناس بالنسبة إلى
المسلمين من عمل الشيطان فإنه (الشَّيْطانُ
يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) فإن المؤمنين لا يخافون وإنما أولياء الشيطان يخافون لأنهم
بانقطاع صلتهم من الله سبحانه يخافون من كل شيء كما قال سبحانه في وصف المنافقين :
(يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) ، (فَلا تَخافُوهُمْ) أي لا تخافوا الناس الذين جمعوا لكم ، أو لا تخافوا
الشيطان وأولياءه (وَخافُونِ) والخوف من الله سبحانه بمعنى إطاعته وترك عصيانه فإن في
ترك ذلك ، النار والعقاب (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) فإن الإيمان يوجب أن لا يخاف الإنسان إلا من الله سبحانه ،
وليس المراد عدم الخوف مطلقا فإنه قهرا للإنسان وإنما المراد ترتيب الأثر على
الخوف.
[١٧٧]
(وَلا يَحْزُنْكَ) يا رسول الله (الَّذِينَ
يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي يتسابقون في أعمالهم الكافرة كأنهم في سباق من كثرة
نشاطهم (إِنَّهُمْ لَنْ
يَضُرُّوا اللهَ) فإن دعوتك التي هي مرتبطة بالله سبحانه لا بد وأن تنجح
وتتقدم وهذه المسارعات الكافرة لا تضرها ، فقد نسب موقف الدعوة إلى الله سبحانه ، إفادة
لعلوها وقوة المدافع والمتولي لها (شَيْئاً) أصلا لا صغيرا ولا كبيرا ، بل إنهم يضرون بذلك أنفسهم فإن
__________________
يُرِيدُ
اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
إِنَّ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ
إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
____________________________________
إعطاء الله القدرة
لهم في أن يفعلوا ما يشاءون لأنه (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا
يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) وإنما أراد ذلك لأنهم أعرضوا عن الحق كما أنك إذا أديت إلى
عبدك مالا ليتاجر به ، ثم ذهب يقامر به ، وأمهلته فلم تضرب على يده تقول : أريد أن
أبدي سوءته وأعاقبه بعقاب كبير (وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) بكفرهم ومسارعتهم ونشاطهم ضد الإسلام.
[١٧٨]
(إِنَّ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا) أي بدّلوا (الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) بتبديلهم الكفر بالإيمان (شَيْئاً) أيّ شيء أبدا (وَلَهُمْ) أي للذين بدلوا الكفر بالإيمان (عَذابٌ أَلِيمٌ) بما بدلوا.
[١٧٩]
(وَلا يَحْسَبَنَ) أي لا يظن (الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) الإملاء الإمهال ، أي أن إطالتنا لأعمارهم وإمهالنا إياهم
وتوفير المال والجاه لهم ليس خيرا لهم فإن الخير هو الذي لا يسبب شرا وعقابا (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) نطيل أعمارهم ونعطيهم ما نعطيهم (لِيَزْدادُوا إِثْماً) ومعصية ، فإنهم بإعراضهم عن الحق وخبث بواطنهم استحقوا
العقاب والعذاب لكن حيث لا عقاب على الخبث الباطني فقط كان الإمهال مظهرا لذلك
الخبث ، فبقاؤهم موجب لزيادة عقوبتهم (وَلَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ) يهينهم علاوة على ألمه وكربه وربما يقال : إن
ما
كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ
وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ
____________________________________
«اللام» في قوله «ليزدادوا»
لام العاقبة كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) .
[١٨٠] ثم يرتد
السياق إلى قصة أحد حيث انكشف هناك المؤمن الذي تبع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحرب من المنافق الذي تخلّف عن الجهاد كعبد الله ابن
أبي سلول بمن تخلف معه (ما كانَ اللهُ) أي ليس من سنته سبحانه أن لا يمتحن (لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي يدعهم ويتركهم (عَلى ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ) من ظاهر الإيمان الذي يتساوى فيه المؤمن والمنافق (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ) لكي يظهر ما يضمره كل فريق. وفي بعض التفاسير : أن
المشركين قالوا لأبي طالب : إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر؟ فإن
وجدنا خبره صدقا آمنا به. فنزلت الآية .
وعلى هذا فمعنى (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي حالكم قبل الإيمان ، فلا يترك سبحانه المؤمن على كفره
بين سائر الكفار (وَما كانَ اللهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) حتى تعلموا أن هذا مؤمن وهذا منافق ، بدون الاختبار
الخارجي المظهر للضمائر (وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي) أي يختار لاطلاعه على الغيب (مِنْ رُسُلِهِ) وأنبيائه (مَنْ يَشاءُ) وهذا كقوله
__________________
فَآمِنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
____________________________________
تعالى : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً*
إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ولا ينافي ذلك اطلاع بعض الملائكة والأئمة وبعض المؤمنين
على بعض المغيبات إذ الملائكة خارج عن المستثنى منه والباقون إما بتعليم النبي أو
بإلهام منه سبحانه وعدم استثنائه لندرته خارجا ، والقضايا الطبيعية ـ كما نحن فيه
ـ لا تنافيها النوادر.
وحيث عرفتم قيمة
الإيمان (فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ) إيمانا حقيقيا لا يشوبه نفاق وخبث ضمير (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) إيمانا صادقا (وَتَتَّقُوا) المعاصي وتعملوا الصالحات (فَلَكُمْ أَجْرٌ
عَظِيمٌ) يبقى إلى الأبد في جنة عرضها السماوات والأرض ورضوان من
الله.
[١٨١] وحيث تقدم
الكلام حول الجهاد والتضحية عقبه سبحانه بذكر المال فهما يذكران غالبا مقترنين إذ
الجهاد يحتاج إلى بذل المال والدين إنما يقام ببذل النفس وبذل المال معا ، فقال
سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي أعطاهم سبحانه فضلا وإحسانا فإن المال وإن اجتهد
الإنسان وكدّ في جمعه إنما هو فضل من الله سبحانه لأنه من خلقه وصنعه فالنقدان
مثلا معدنان مخلوقان له وسائر الأموال من نبات الأرض وما أشبه كله له ، هذا
بالإضافة إلى أن أجهزة الإنسان التي بها يتمكن من كسب المال كلها منه سبحانه.
والمراد بالبخل هنا هو الحرام منه مما يجب إعطاؤه فيمنع
__________________
هُوَ
خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
____________________________________
(هُوَ خَيْراً لَهُمْ) حيث يزعمون أن البخل يوفر عليهم المال فيبقى عندهم ولا
يخرج من أيديهم و «خيرا» مفعول «يحسبن» (بَلْ هُوَ شَرٌّ
لَهُمْ) إن ذلك البخل شر لهم يعود عليهم في الدنيا بالشر حيث أن
ذلك موجب لسوء السمعة الذي بدوره يوجب عدم التمكن من اكتساب المزيد من المال ويوجب
ذهاب الكائن منه بمصادرات الحكام وثورات الفقراء ، والأسوأ من ذلك أنهم (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) أي يجعل المال الذي بخلوا به طوقا في أعناقهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا كناية عن لزوم تبعة المال ، كما يقال : المرأة طوق في
عنق الإنسان ، والدّين طوق في عنق المدين ، وهكذا ، وفي الأحاديث الواردة عن النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام أنه : «ما من أحد يمنع من زكاة ماله شيئا إلا جعل الله ذلك
يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب» وفي بعضها تفسير الآية الكريمة بذلك.
ثم ما بال هؤلاء
يبخلون؟ فإنه لا يبقى المال عندهم إلى الأبد ، بل يذهبون ويذرون المال (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فكل من يموت فيهما ويخلف شيئا فلا بد وأن يرثه الله سبحانه
حيث تبقى الأموال له وحده بعد فناء الجميع فما بخل به عنه سبحانه ولم يصرف في
سبيله لا بد وأن يرجع إليه ، وليس للبخيل إلا الإثم
__________________
وَاللهُ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
____________________________________
(وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فما أنفقتم من نفقة يعلمها الله سبحانه فيجازيكم عليها
جزاء حسنا.
[١٨٢] وقد كان من
بخلاء اليهود من لا ينفق مما آتاه الله ، ثم يزيد على ذلك فيقول : إن الله فقير
لأنه يستقرض ـ تعريضا بقوله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ) ـ وأنا غني لما لدي من الأموال (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ويكفيه تهديدا أن الله سمع قوله فلينتظر الجزاء العادل
والعقاب الأليم (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) حتى يكون كتابا مسجلا عليهم لا مجال لإنكاره يوم يعطى كل
امرئ كتابه ، وقد كان منطق اليهود منحرفا إلى أبعد الحدود ، وكيف يكون الله سبحانه
فقيرا وهو الذي يملك كل شيء حتى روح هذا القائل؟! وإنما استقراضه امتحان وطلبه
المال ابتلاء واختبار ، وكيف يكون هو غنيا والحال أنه لا يملك روحه فكيف بماله؟! (وَ) سنكتب (قَتْلَهُمُ) أي قتل هؤلاء اليهود (الْأَنْبِياءَ
بِغَيْرِ حَقٍ) وإنما عيّرهم الله سبحانه مع أن آباءهم هم الذين فعلوا ،
لرضاهم بذلك أولا ولبيان أن هؤلاء خلفا عن سلف مجرمون فلا عجب أن يقول الخلف كفرا
بعد ما عمل السلف أفظع من ذلك ثانيا ، ودخول «السين» في سنكتب ، لعله لبيان أن
الكتابة لا تثبت إلا بعد أن يموتوا غير مؤمنين بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وإلا فالكتابة لا تضر إذا محيت
__________________
وَنَقُولُ
ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ
(١٨١)
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ
(١٨٢)
____________________________________
بالإيمان ، وهذا
يصح بالنسبة إلى قولهم ، أما بالنسبة إلى قتل أسلافهم ، وقد كتب قتلهم ، فلأن
كتابة ذلك عائد على الأخلاف إذا بقوا على الكفر ، ولعل العطف على المعنى أي «وكتبنا
قتلهم الأنبياء» من قبيل «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض» وقوله : «علفته تبنا
وماء باردا».
(وَنَقُولُ) حين عقابهم في الآخرة (ذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) الذي يحرق أجسادكم بفعلكم وقولكم.
[١٨٣]
(ذلِكَ) العذاب إنما يكون (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) من الكفر والعصيان ، وإنما عبّر بتقديم الأيدي لأن الإنسان
غالبا يقدّم الأشياء بيده ، فيكون ذلك من باب التشبيه للمعقول بالمحسوس (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) فأنتم عبيده خالفتم أوامره فاستحققتم هذا العقاب ، و «ظلّام»
ليست لفظة مبالغة على غرار «علّام» وإنما للنسبة نحو «تمّار» بمعنى ذي تمر ، كما
قال ابن مالك :
ومع فاعل وفعّال
فعل
|
|
في نسب أغنى عن
اليا فقبل
|
ولعل اختيار هذه
الكلمة لردّ التوهّم وهو أن الإحراق بالنار إنما يصدر من إنسان كثير الظلم ، فيكون
الإتيان به للمجانسة اللفظية كقوله :
قالوا اقترح
شيئا نجد لك طبخة
|
|
قلت اطبخوا لي
جبة وقميصا
|
الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
____________________________________
[١٨٤] إن الذين
قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، والذين قتلوا أنبياءهم ، هم الذين لم يؤمنوا
بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بحجة مكذوبة ، فقد قالوا : يا محمد إن الله عهد إلينا في
التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن زعمت أن الله بعثك
إلينا فجئنا بالقربان حتى نصدقك ، فنزلت الآية (الَّذِينَ قالُوا) للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم و «الذين» في موضع
الجر عطفا على (الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ
إِلَيْنا) أمرنا ووصّانا في الكتب المنزلة (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) بأن لا نصدق بنبوته (حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ) أي ما يتقرّب به إلى الله سبحانه (تَأْكُلُهُ النَّارُ) تأتي نار من الغيب فتحرقه ، وقد كان ذلك علامة لصدق نبوة
أنبياء بني إسرائيل (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ
مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) الأدلة الواضحة (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان الذي أكلته النار (فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ) فإنهم قتلوا ذكريا ويحيى وغيرهما (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أنكم تؤمنون بالرسول إذا جاءكم بقربان تأكله
النار؟ وإنما ينسب فعل الأسلاف إلى الأخلاف لأن الطبيعة فيهم واحدة والاتجاه واحد
فلا يمكن أن يقال : إن معاصري الرسول لم يكونوا يظهرون الرضا بفعل أسلافهم في قتل
الأنبياء.
[١٨٥]
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا رسول الله ولم يؤمنوا برسالتك (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فلست بدعا في ذلك ولا يضيق صدرك بتكذيبهم ، فإن
جاؤُ
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا
____________________________________
الناس قد كذبوا
رسلا قبلك والحال أنهم (جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) الأدلة الواضحة (وَالزُّبُرِ) أي الصحف التي فيها الأحكام والشرائع (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) وهو الكتاب الجامع للأحكام. والفرق بينهما أن الزبر صحائف
متفرقة فيها أحكام متشتتة بخلاف الكتاب الذي هو الجامع المتسلسل ، كما أنه نزل على
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الأحاديث القدسية والقرآن الحكيم .. وهنا سؤال هو : إن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم لم يأت بقربان تأكله النار؟ والجواب : إنهم سألوا ذلك
تعنّتا لا استرشادا ، وإلا فقد كان يكفيهم سائر الأدلة ، وليس شأن الأنبياء أن
يفعلوا فوق اللازم من المعجزة لكل متعنت ومجادل ، وهذا هو السر في رد كثير ممن سأل
المعجزة.
[١٨٦] إن عدم
الجهاد لخوف الموت ، وعدم الإيمان لخوف ذهاب الرئاسة ، وعدم الإنفاق لخوف الفقر ،
مما له عاقبة سيئة هي النار ، فكل إنسان يموت وتذهب حياته ورئاسته وماله ، فما
أجدر أن يفعل ما يسبّب له حسن العاقبة (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تذوقه وتلاقيه (وَإِنَّما
تُوَفَّوْنَ) أيها الناس (أُجُورَكُمْ) الحسنة أو السيئة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) فهنا عمل ولا حساب وغدا حساب وجزاء بلا عمل (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ) أي بوعد عنها (وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) لأنه سرور وراحة لا انقطاع لهما ولا تكدّر فيها (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) بلذاتها وشهواتها
إِلَّا
مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٦) لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٧)
____________________________________
(إِلَّا مَتاعُ
الْغُرُورِ) تسبب غرور الإنسان وغفلته عن الخير الدائم الباقي. فمن
الجدير بالإنسان أن يحصل بحياته ورئاسته وماله تلك الدار الباقية لا أن يغتر
بالدنيا ويعصي الله سبحانه حتى يدخل النار.
[١٨٧] إن الدنيا
دار محنة وابتلاء لا دار راحة وسعادة فاعلموا أيها المسلمون (لَتُبْلَوُنَ) أي تقع عليكم المحن والبلايا بكل تأكيد (فِي أَمْوالِكُمْ) بذهابها ونقصانها ووجوب الإنفاق منها (وَ) في (أَنْفُسِكُمْ) بالأمراض والشدائد والقتل في الجهاد ونحوه (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) اليهود والنصارى والمجوس (وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) من سائر أقسام الكفار (أَذىً كَثِيراً) سبا وشتما وتهمة ووقيعة واستهزاء (وَإِنْ تَصْبِرُوا) في البلايا والأذى (وَتَتَّقُوا) فلا تحملنّكم البلية والأذية على الابتعاد عن الدين وعمل
المحرّم (فَإِنَّ ذلِكَ) الصبر والتقوى (مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ) أي الأمور التي يجب العزم عليها والمضي فيها. وفي الكلام
مجاز إذ نسب العزم الذي هو للإنسان إلى الأمر ، مثل نسبة الإصرار إلى الأمر في
قولك : «أصرّت الأمور عليّ» لبيان أن الأمر قد صار عزما ، من شدة لزومه ، وفرض
وجوبه.
[١٨٨] ثم يأتي
السياق إلى ذكر صفة أخرى من أهل الكتاب مناسبة للمقام
وَإِذْ
أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً
قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٨)
____________________________________
حيث أنهم يعلمون
رسالة الرسول وهي موجودة في كتبهم ، لكنهم بدل أن يؤمنوا ويظهروا ذلك للناس يصرّون
على الجدال والعناد ويخفون الكتاب على الناس (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أخذ عهدهم الأكيد بواسطة الأنبياء عليهمالسلام (لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ) أي تبينون الكتاب الذي فيه الأحكام والبشارة برسالة الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَلا تَكْتُمُونَهُ) أي لا تخفونه (فَنَبَذُوهُ) أي طرحوا الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) كناية عن إهمالهم له وعدم اعتنائهم به كما أن الذي يريد
إهمال متاع يلقيه وراء ظهره (وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) أي بدلوا بأحكام الكتاب رئاسة قليلة في الدنيا وأموالا
قليلة كانوا يتقاضونها من سائر اليهود (فَبِئْسَ ما
يَشْتَرُونَ) من الثمن حيث يستحقون بذلك العذاب الدائم.
[١٨٩] ومن الناس
من لا يدخل في عمل الخير مع العاملين ، فإذا خسر العاملون ما أرادوا وصفوا أنفسهم
بالحصانة والتعّقل ، وإذا ربحوا جعلوا أنفسهم من المؤيدين لهم ، وتوقعوا أن يثنى
عليهم ثناء العاملين ، إن أمثال هؤلاء الذين لا يشتركون فيما يجب الاشتراك فيه ،
لا بد وأن ينالهم العذاب لتركهم الواجب ، وغالبا يكونون من المنافقين ، ومن الذين
يقعدون عن الجهاد ، وعن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولهؤلاء ميزة أخرى
وهي أنهم يفرحون بما يأتون من الأعمال حقا كان أو باطلا ، بخلاف المؤمنين الذين
إذا
لا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا
بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
____________________________________
عصوا استغفروا ،
وإذا أحسنوا خافوا ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) .
(لا تَحْسَبَنَ) يا رسول الله (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ
بِما أَتَوْا) من الأعمال صالحة كانت أو طالحة (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي يحمدهم الناس (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الأعمال الخيرية (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) يا رسول الله (بِمَفازَةٍ) من الفوز ، أي النجاة (مِنَ الْعَذابِ) فإنهم يعذبون بكل تأكيد لهذه الأفعال والصفات (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم. وهذه الآية كما تراها عامة ، فتفسيرها بالمنافق أو
نحوه من باب ذكر المصداق.
[١٩٠] أين المفر
لهؤلاء من عذاب الله (وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يمكن لأحد الفرار من حكومته (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يفوته ما يريد ويفعل ما يشاء.
[١٩١] وهنا ينتهي
السياق بأدلة الإيمان وأحوال المؤمنين وأن أعمال الكافرين في انهيار ، مناسبة للجو
العام من السورة الذي كان في الإيمان والعقيدة وأحوال المؤمنين والكافرين ،
ومرتبطة بالآية السابقة
__________________
إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ
لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ
فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١)
____________________________________
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ)(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في إيجادهما بما تشتملان عليه من العجائب ومختلف صنوف
الخلق والإبداع (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) تعاقبهما ومجيء أحدهما خلف الآخر بكل إتقان وانتظام (لَآياتٍ) دلالات وبراهين على وجود الله سبحانه وصفاته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول فإن كل من نظر إلى الأثر لا بد أن يعقل
وجود المؤثر وكلما كان الأثر أتقن وأجمل دلّ على كمال علم المؤثر وقدرته وإرادته
وغيرها من الصفات الجمالية.
[١٩٢] ثم بين صفات
أولي الألباب بقوله سبحانه : (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ) ذكرا بالقلب ، أي تذكرا له سبحانه (قِياماً) في حال القيام (وَقُعُوداً) في حال القعود (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في حال الاضطجاع ، يعني أنهم دائما في التفكّر بالله
سبحانه وذكره سواء كانوا قائمين أو قاعدين أو مضطجعين (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كيف خلقتا بهذا النحو المتقن المدهش ، وكيف جريتا ، وكيف
كانتا ، وكيف ستكونان ، وفي حال التفكر والدهشة لسان حال هؤلاء يقول : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الكون ، والخلق (باطِلاً) عبثا ولغوا ، بلا غاية ومقصود (سُبْحانَكَ) أي أنت منزّه عن الباطل واللغو ، وهو مفعول لفعل مقدر ، أي
نسبحك سبحانك (فَقِنا) أي احفظنا من (عَذابَ النَّارِ)
رَبَّنا
إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً
يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا
ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا
____________________________________
ولعل دخول الفاء
في «فقنا» لبيان أنهم يطلبون جزاء تصديقهم وإيمانهم وتفكّرهم.
[١٩٣] ويقولون
أيضا : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) فضحته وأهلكته (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم في دار الدنيا بالكفر أو العصيان (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم من عذاب الله سبحانه.
[١٩٤]
(رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) هو الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكل من نادى الناس للإيمان بالله سبحانه ، فإن أولي
الألباب يعترفون لله سبحانه بأنهم استجابوا لمنادي الإيمان ولم يلووا عن نداء الحق
فقد سمعوا المنادي ينادي : (أَنْ آمِنُوا
بِرَبِّكُمْ) ولا تكفروا ولا تشركوا (فَآمَنَّا) بك يا سيدنا (رَبَّنا فَاغْفِرْ
لَنا ذُنُوبَنا) التي صدرت منا (وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئاتِنا) وربما يقال بأن الفرق أن الذنوب هي الكبائر لأنها ذات
أذناب وتبعات ، والسيئات هي الصغائر لأنها تسيء إلى الإنسان وإن لم تكن ذات تبعة
لأنها مكفّرة لمن اجتنب عن الكبائر ، وهناك في الفرق أقوال أخرى ، ولعل التكرار
للتأكيد إظهارا لكمال الخوف من الذنوب (وَتَوَفَّنا) أي اقبضنا إليك عند موتنا (مَعَ الْأَبْرارِ) في جملتهم ، والأبرار جمع «برّ» وهو الذي يبرّ الله بطاعته
إياه.
[١٩٥]
(رَبَّنا وَآتِنا) أي أعطنا (ما وَعَدْتَنا) من الخير والسعادة في الدنيا
عَلى
رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ
____________________________________
(عَلى) لسان (رُسُلِكَ) وأنبيائك (وَلا تُخْزِنا) أي لا تفضحنا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) على رؤوس الأشهاد (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) الذي وعدته للمؤمنين بسعادة الدنيا وخير الآخرة.
[١٩٦]
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ) أي لهؤلاء المؤمنين الذين دعوا بالأدعية السابقة (رَبُّهُمْ) أي لبّى دعوتهم وقبل كلامهم ، قائلا : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ
مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى) فكل مؤمن محفوظ عمله ليعطي جزاءه (بَعْضُكُمْ) أيها المؤمنون (مِنْ بَعْضٍ) فكلكم من جنس واحد في نصرة بعضكم ولستم كالكافرين الذين
ليس بعضهم من بعض بل بعضهم يباين بعضا فلكل فئة منهم لون وصبغة (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) إلى المدينة (وَأُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ) أخرجهم المشركون من مكة. والآية عامة لكل مهاجر عن دياره ،
ومخرج من بلاده (وَأُوذُوا فِي
سَبِيلِي) لأنهم آمنوا وأطاعوا (وَقاتَلُوا) لأجل الله سبحانه (وَقُتِلُوا) قتلهم الكفار (لَأُكَفِّرَنَ) أي أمحونّ (عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ) فلا آخذهم بها (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تحت نخيلها وقصورها ـ كما تقدم ـ (ثَواباً) أي جزاء لهم (مِنْ عِنْدِ اللهِ) على أعمالهم ومشاقهم في سبيله
وَاللهُ
عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦)
مَتاعٌ
قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧)
لكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ
لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
____________________________________
(وَاللهُ عِنْدَهُ
حُسْنُ الثَّوابِ) أي الجزاء الحسن ، وليس كغيره ممن لا يقدر ولا يملك الثواب
الحسن.
[١٩٧] وهنا يتأمل
الإنسان كيف يكون الكفار في هذه النعمة والراحة والسياحة والأسفار والثمار ،
والمسلمون مضطهدين يخرجون من بلادهم ويؤذون ، مع أن الله سبحانه ناصرهم وظهيرهم؟
ويأتي الجواب : (لا يَغُرَّنَّكَ) وأصل الغرور إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه ، فالمعنى
لا يوهمنك يا رسول الله أن الكفار في سرور (تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) فإن تقلبهم لا يعود إليهم بنفع.
[١٩٨] فإن ذلك (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي يتمتعون بذلك في زمان قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ) مصيرهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهادُ) أي ساء ذلك المستقر لهم.
[١٩٩]
(لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بأن آمنوا وأطاعوا فإنهم وإن كانوا في أذية وضغط فعلا (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) الجارية (خالِدِينَ فِيها) أبدا لا متاع قليل كمتاع الكفار في الدنيا (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) النزل ما يعدّ للضيف من الكرامة والبرّ والطعام والشراب (وَما عِنْدَ اللهِ) من الثواب والكرامة (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) من تقلب الكفار.
وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا
____________________________________
[٢٠٠] ثم يرجع
السياق إلى أهل الكتاب الذين تقدّم أنهم يكفرون ويمكرون (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ) يصدّق بوحدانيته ويعترف بما يعترف به المؤمنون (وَ) ب (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن الحكيم (وَ) ب (ما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ) بخلاف سائر أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بما أنزل إليهم إذ
أنهم يحلّون ويحرمون ويخالفون كتابهم في أحكامه ، في حال كونهم (خاشِعِينَ) خاضعين (لِلَّهِ) سبحانه فيما أمر ونهى (لا يَشْتَرُونَ
بِآياتِ اللهِ) أي بمقابل آيات الله ودلائله وبراهينه (ثَمَناً قَلِيلاً) كما كان يفعل ذلك رؤسائهم الذين كانوا يرتشون ويخفون
الكتاب لئلا تزول رئاستهم (أُولئِكَ) الذين لهم هذه الصفات الخيرة من أهل الكتاب (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يجازيهم بما فعلوا من الخيرات وآمنوا وصدقوا (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فليس أجرهم بعيدا عنهم فإن أمد الدنيا ولو طال قليل كما
قال الشاعر :
ألا إنما الدنيا
كمنزل راكب
|
|
أناخ عشيا وهو
في الصبح يرحل
|
[٢٠١] وأخيرا يتوجه الخطاب للمؤمنين
وتنتهي السورة بهذه العظة البليغة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا) على الإيمان والمكاره (وَصابِرُوا) أي غالبوا في الصبر ، ولعل المراد مصابرة الأعداء فكلما
صبر الكفار زاد
وَرابِطُوا
وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
____________________________________
المؤمنون صبرا على
صبر أولئك حتى يغلبوا ويأخذوا المعركة (وَرابِطُوا) وهو المرابطة في ثغور المسلمين للتطلّع على أحوال الكفار (وَاتَّقُوا اللهَ) في أعمالكم فلا تأتوا بالمعاصي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي كي تفوزوا وتنجحوا في الدنيا والآخرة.
(٤)
سورة النساء
مدنية / آياتها (١٧٧)
نزلت كلها في المدينة
على المشهور وسميت بهذا الاسم ، لأنها بينت كثيرا من حقوق النساء في الشريعة
الإسلامية.
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)
[١]
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تقدم تفسيرها.
يا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا
اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ
____________________________________
[٢]
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ) بإطاعة أوامره ونواهيه ، وهذه الفاتحة تلائم خاتمة سورة آل
عمران حيث قال سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ)(الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ) هي نفس آدم أبي البشر عليهالسلام (وَخَلَقَ مِنْها) أي من تلك النفس ، إما بالخلق من فضلة طينته ، أو المراد
من جنس تلك النفس (زَوْجَها) وهي حواء عليهاالسلام ، فإن هذا الإله الخالق القادر حقيق بالتقوى ، ولا يخفى أن
ذلك لا ينافي خلق زوجتين جديدتين لهابيل وقابيل حتى نشأ منهما أبناء عمّ ـ كما عن
الأئمة عليهمالسلام ـ إذ الكلام في ابتداء الخلقة (وَبَثَ) أي نشر وفرق (مِنْهُما) أي من هاتين النفسين (رِجالاً كَثِيراً
وَنِساءً) وهذا أيضا لا ينافي إذ أصل البث منهما ، ولعل عدم ذكر لفظة
«كثير» هنا لمعلومية ذلك ، أو للتفنن في العبارة والذي هو من أساليب البلاغة (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ
بِهِ) أي يسأل بعضكم بعضا بسببه فتقولون : أسألك بالله إلّا ما
فعلت كذا ، وصنعت كذا (وَالْأَرْحامَ) أي اتقوا الأرحام ، وتقوى الله عدم مخالفته ، وتقوى
الأرحام عدم قطعها ، وهذا مناسب لما سبق من خلقهم جميعا من نفس واحدة ، فهم
متشابكون من أسرة واحدة ، فلا ينبغي لبعضكم أن يقطع بعضا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) يرقب أعمالكم وأقوالكم ونياتكم ، فلا تفعلوا ما يوجب سخطه
وعذابه وعقابه.
[٣]
(وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) أي أعطوا اليتامى الذين فقدوا آباءهم أو أمهاتهم وورثوا
منهم أموالهم التي بأيديكم أيها الأوصياء ، أو كل من
وَلا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ
____________________________________
كان مالهم بيده ،
والمراد عدم أكل أموالهم ، و «الإتيان» في حال صغرهم الصرف عليهم ، وفي حال كبرهم
إعطاؤهم إياها (وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد كأن تأخذوا أراضيهم
الجيدة وتعطوهم أراضي رديئة وهكذا (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي بضمها إلى أموالكم بأن تخلطوا بعضها مع بعض وتأكلوها
جميعا (إِنَّهُ) أي أن كل واحد من التبديل والأكل (كانَ حُوباً) أي إثما (كَبِيراً).
[٤] وقد كانت تحت
وصاية الرجل يتيمة فيأخذها طمعا في مالها ، فنهى الله عن ذلك بقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) أي لا تعدلوا (فِي الْيَتامى) أي لا تعملوا بالعدل في زواجهن فتظلموهن ـ بإبقائها معلقة
ـ تريدون بذلك أكل أموالهم بحجة الزواج (فَانْكِحُوا) غيرهن من (ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ) فإن اليتيمة لعدم كفيل لها معرضة للظلم والحيف أما غيرها
فليست كذلك ، ثم بمناسبته حكم النكاح يمتد الكلام إلى موضوع تعدد الزوجات (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي انكحوا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ،
والمراد تزويج نوع الرجل هكذا لا تزويج كل فرد لذلك العدد ، إذ لا يجوز تزويج
ثلاثة وثلاثة ـ مثلا ـ في وقت واحد ، وذلك مثل : باع القوم أمتعتهم لأهل البلد ،
يراد أن ذلك وقع في الجملة لا أن كل فرد فعل ذلك سواء في طرف البيع أو الشراء. ولا
يخفى أن خوف عدم القسط لا يوجب حرمة النكاح وضعا بمعنى
فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ
أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
وَآتُوا
النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
____________________________________
بطلانه إذا نكح بل
النهي عنه تكليفا ، وهل هو حرام أو إرشاد احتمالان ، كما لا يخفى أن جواز النكاح
مثنى وثلاث ورباع لمن أمن من نفسه وأنه يتمكن من أن يعدل فيما فرض الله لهن من
الحقوق (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا) بينهن في ما فرض الله تعالى (فَواحِدَةً) وهذا من باب المثال وإلا فمن علم أنه يتمكن أن يعدل بين
اثنتين فله أن ينكح اثنتين لا أزيد وهكذا بالنسبة إلى الثلاث.
وهذه الآية لا
تنافي قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) إذ المراد بها العدل في كل شيء حتى الميل القلبي (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي اقتصروا على الإماء فإنهن لا يحتجن إلى القسم ونحوه من
الحقوق الواجبة على الرجال في مقابل الحرائر ، والملك نسب إلى اليمين لأن اليد هي
الغالبة في العمل ، واليمنى من اليدين أكثر عملا من اليسرى (ذلِكَ) الزواج من الواحدة أو الاقتصار على ما ملكت اليمين (أَدْنى) أقرب (أَلَّا تَعُولُوا) أي لا تميلوا عن الحق ولا تجوروا.
[٥]
(وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَ) أي مهورهن (نِحْلَةً) أي عطية فإن الله سبحانه أعطاها إياهن في مقابل الاستمتاع
بهن لا على نحو الابتياع ونحوه ولعل في كلمة «نحلة» إشارة إلى تقدير المرأة ورفعها
عن مستوى المعاملة (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) أيها الأزواج (عَنْ
__________________
شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً
(٥)
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ
____________________________________
شَيْءٍ
مِنْهُ) أي من المهر (نَفْساً) تمييز ل «طبن» أي أعطين عن طيب نفس لا بالجبر والإكراه (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) الهنيء الطيب المستساغ ، والمريء المحمود العاقبة.
[٦] ولما تقدم
الأمر بدفع أموال الأيتام ، عقب ذلك بعدم الدفع إلى السفيه (وَلا تُؤْتُوا) أي لا تعطوا (السُّفَهاءَ
أَمْوالَكُمُ) وإنما أضاف المال إليهم لأن المال إنما هو للمجتمع بصورة
عامة فإذا دفع إلى السفيه أتلفه وكان نقصا بالنتيجة لمال المجتمع. وليس المراد
بكون المال للمجتمع عدم الملكية الفردية بل المراد أن هذا المجموع من الأموال
لانتفاع المجموع فإذا تلف منه شيء كان نقصا على المجموع (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فإن بالمال يقوم أمر البشر إذ لو لا المال لم تستقم أمور
الناس ومعايشهم والمعاملة بينهم (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي في تلك الأموال ، ولعل عدم ذكر «منها» بدل «فيها» مع
أنه الأنسب ، لإفادة لزوم أن لا يقتطع من المال قطعة ثم قطعة حتى تفنى بل يكون
الرزق في المال بأن يبقى المال على أصله ، وذلك لا يكون إلا بتدبيره باتجار ونحوه
حتى لا ينقص منه (وَاكْسُوهُمْ) وذكر هذين من باب المثال وإلا فاللازم القيام بجميع
نفقاتهم (وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) بأن تتلطفوا لهم في القول ، وذلك لأن اليتيم والسفيه
معرضان للمخاشنة والنهر.
[٧]
(وَابْتَلُوا) أي امتحنوا (الْيَتامى حَتَّى
إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي السنّ الذي يتمكنون من النكاح والمواقعة فيه وهو سن
البلوغ الشرعي
فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها
إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦)
____________________________________
(فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي وجدتم (مِنْهُمْ رُشْداً) والرشد عبارة عن تمكّن الشخص من إصلاح أمواله بلا سرف ولا
تبذير ولا سفه (فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) المودعة عندكم (وَلا تَأْكُلُوها) أي لا تأكلوا أموال اليتامى (إِسْرافاً) أي زيادة على قدر أجرتكم في حفظها فإن الإسراف التعدي عن
الحد (وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا) أي لا تأكلوا أموالهم سريعا من جهة خوف أن يكبروا فيأخذوها
منكم فقد كان بعض الأولياء يتلف مال اليتيم قبل أن يكبر حتى إذا كبر قال له :
أنفقته عليك (وَمَنْ كانَ) من الأولياء (غَنِيًّا) يجد مؤونة سنة كاملة (فَلْيَسْتَعْفِفْ) يقال : استعفف من الشيء إذا امتنع منه ، والمعنى : أن
الولي الغني لا يأخذ شيئا لنفسه من مال اليتيم بعنوان الأجرة والعوض (وَمَنْ كانَ) من الأولياء (فَقِيراً) لا يملك مؤونته لا قوة ولا فعلا فله الحق في أن يأكل من
مال اليتيم (بِالْمَعْرُوفِ) الذي هو قدر أجرته على حفظ أمواله لا أزيد من ذلك (فَإِذا دَفَعْتُمْ) أيها الأولياء (إِلَيْهِمْ) أي إلى الأيتام الذين بلغوا ورشدوا (أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) حتى لا ينكروا في المستقبل فإن الشهود حينئذ يكونون في
جانبكم لدى الإنكار (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) أي محاسبا وشاهدا ، فارقبوه في أعمالكم ، فإنه يعلم ما
تفعلونه بأموال الأيتام.
لِلرِّجالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
____________________________________
[٨] وقد كان أهل
الجاهلية لا يورثون البنات ، فكان الولي يدفع المال كله إلى أولاد الميت دون بناته
فنهى الله عن ذلك بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي أقرباء الرجال ، فلا يعطى الرجل أكثر من حظه ونصيبه (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) فلا تحرم من نصيبها كما لا تعطى أكثر من حصتها (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) أي مما ترك (أَوْ كَثُرَ) فالمهم أن يعطى كل واحد نصيبه على أن لا يكون ما يعطى
كثيرا أو قليلا (نَصِيباً مَفْرُوضاً) فرضه الله سبحانه وأوجبه فلا يزاد عليه ولا ينقص منه.
[٩]
(وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ) أي شهد وقت قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) أقرباء الميت الذين لا يرثون (وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينُ) من غير أقربائه (فَارْزُقُوهُمْ
مِنْهُ) أي أعطوهم شيئا من المال الموروث (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا غير خشن حتى يطيب خاطرهم ويجبر كسر عدم إرثهم وكسر
يتمهم ومسكنتهم.
[١٠] ثم بيّن
سبحانه أن من يأكل مال اليتيم أو يظلمه لا بد وأن يفعل ذلك بذريته اليتامى من بعده
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
ضِعافاً
خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
____________________________________
ضِعافاً
خافُوا عَلَيْهِمْ)
أي يجب أن يخاف
ولي اليتيم من أكل ماله فإن الولي لو خلف يتيما من بعده كيف يخاف أولياء يتيمه أن
يأكلوا أمواله كذلك فليجتنب هو عن ذلك ، والحاصل أن من كان في حجره يتيم فليفعل به
ما يحب أن يفعل بذريته. ولا يرد على هذا المعنى أنه كيف يزر وازرة وزر أخرى ، إذ
الجواب أن معنى ذلك أن الله سبحانه لا يرعى يتيمه حتى لا يقع في مخالب أولياء ظلمة
، بل يتركهم يفعلون به ما فعل أبوه بأيتام الناس ، وهكذا يفسّر ما ورد من عقوبة
الأبناء بفعل الآباء ، و «ضعاف» جمع ضعيف (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في أمر الأيتام فلا يأكلوا أموالهم ولا يؤذوهم (وَلْيَقُولُوا) للأيتام (قَوْلاً سَدِيداً) صحيحا موافقا للعدل والشرع ، فلا ينهروا الأيتام ولا
يخشنوا معهم في الكلام كما جرت عادة كثير من الأولياء.
[١١] ثم هددهم
سبحانه بعذاب الآخرة بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) بلا مبرّر واستحقاق والقيد توضيحي ، لإفادة أن أكل أموالهم
ظلم وجور (إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ) أي يملئون بطونهم (ناراً) فإن مال اليتيم ينقلب نارا (وَسَيَصْلَوْنَ) يقال : صلي الأمر إذا قاسى شدته وحرّه (سَعِيراً) أي نارا مسعّرة مؤجّجة ، والأكل في الآية كناية عن التصرف
في المال ولو كان مثل الدار واللباس فإن الأكل يستعمل بهذا المعنى كثيرا.
يُوصِيكُمُ
اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ
نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً
فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا
تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
____________________________________
[١٢]
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) والوصية منه سبحانه فرض ، كما قال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) ومعنى «في أولادكم» أي في ميراث أولادكم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) فإن الابن يرث ضعف البنت وقد كان هذا التقدير دقيقا جدا
حيث أن كلفة الرجل أكثر من كلفة البنت لوجوب نفقة المرأة على الرجل غالبا وفي كثير
من الأحيان هو يقوم بالنفقة وإن لم تجب عليه (فَإِنْ كُنَ) المتروكات الوارثات للميت (نِساءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ) أي اثنتين فما فوقها ، فإن ذلك يعبر غالبا بمثل هذه
العبارة ، يقال : من له فوق العشرة يؤخذ منه ومن له دونها لا يؤخذ منه ، يراد
العشرة فما فوقها (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما
تَرَكَ) فإذا كان للميت بنتان فما فوقهما وكان هناك وارث آخر في
طبقتهن كالأم والأب كان لهن الثلثان والبقية لسائر الورثة (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) أي أولاد الميت منحصرة في بنت واحدة (فَلَهَا النِّصْفُ) من التركة (وَلِأَبَوَيْهِ) أي الأب والأم للميت اللذين اجتمعا مع الأولاد (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) فنصيب كليهما الثلث (مِمَّا تَرَكَ) الميت (إِنْ كانَ لَهُ) أي للميت (وَلَدٌ) سواء كان الولد واحدا أو
__________________
فَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ
لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً
____________________________________
متعددا ، ذكرا أو
أنثى ، أو بالاختلاف. وأما تفصيل ميراثهم فموكول إلى كتب الفقه (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ) أي للميت (وَلَدٌ) لا صلبيا ولا حفيدا (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) الأب والأم للميت (فَلِأُمِّهِ
الثُّلُثُ) والثلثان الباقيان للأب (فَإِنْ كانَ لَهُ) أي للميت الذي خلف الأبوين بدون الأولاد (إِخْوَةٌ) من الأبوين أو الأب ، والمراد بالأخوة اثنين فما فوق ، والأختان
تقومان مقام الأخ ، فلو كان للميت أب وأم وأخوان أو أخ وأختان أو أربع أخوات ، فما
فوق (فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ) وذلك لأن الأخوة يمنعون الأم عن السدس ويوفرونه للأب فلا
ترث الأم الثلث مع وجود الأخوة. وتقسيم التركة هكذا إنما هو (مِنْ بَعْدِ) إنفاذ (وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِها) الميت (أَوْ دَيْنٍ) على الميت ، فأولا يؤخذ الدين من التركة ثم تنفذ الوصية من
التركة ـ إلى حد الثلث ـ ثم يقسم الباقي بين الورثة كما ذكر ، فلو كان للميت عشرة
دنانير ، وكان عليه دين قدره أربعة دنانير ، ووصّى بالإنفاق في الخيرات ، مقدار
ثلثه ، كان للوارث مقدار أربعة دنانير فقط ، لأن أربعة خرجت دينا ، ودينارين ثلثا
، فلم يبق إلا أربعة (آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فلا تميلوا إلى توريث الآباء أكثر من الأبناء بظن أنهم أحق
من جهة الأبوة ولا إلى العكس بظن أنهم أحق من جهة الضعف الفطري الموجود في الأبناء
__________________
فَرِيضَةً
مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما
تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ
فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ
دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ
____________________________________
فإنكم لا تعلمون
أيهم أقرب نفعا ، والله الذي هو يعلم الأشياء يقرر الحق كما تقدم فلا تخالفوا
تحديده في أنصبة الميراث جريا وراء العاطفة والأوهام ، فإنكم لا تعلمون أنكم
بأيهما أسعد في الدنيا والآخرة (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض الله هذه الأنصبة فريضة واجبة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فهو عالم بالمصالح حكيم فيما يفعل ويقرر.
[١٣]
(وَلَكُمْ) أيها الأزواج (نِصْفُ ما تَرَكَ
أَزْواجُكُمْ) أي زوجاتكم ، فإن ماتت زوجة أحدكم فللزوج النصف (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَ) أي للزوجات (وَلَدٌ) سواء كان من هذا الزوج أو من غيره (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) واحد أو متعدد (فَلَكُمُ) أيها الأزواج (الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكْنَ) من ميراثهن (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) فأولا يخرج الدين ثم تخرج الوصية إلى حد الثلث ثم تقسّم
التركة فللزوج الربع والبقية للأولاد (وَلَهُنَ) أي للزوجة التي بقيت بعد وفاة زوجها (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من الميراث (إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَكُمْ) أيها الأزواج (وَلَدٌ) وقد دلت الشريعة أن الزوجة لا ترث من الأرض (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) واحد أو متعدد ،
فَلَهُنَّ
الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ
فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ
شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ
____________________________________
ذكر أو أنثى ، من
تلك الزوجة الباقية أو من غيرها (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ) من الميراث (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها) أيها الأزواج (أَوْ دَيْنٍ) ولعل تقديم الوصية في الآيات ـ مع أن الدين مقدم في
الإخراج ـ أن الغالب وجود الوصية بخلاف الدين. (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً) الكلالة هم : الأخوة سواء كانوا من الأب أو الأبوين أو
الأم ، والمعنى أنه إن كان الوارث كلالة بأن لم تكن المرتبة الأولى موجودة ، فإن
الأبوين والأولاد في المرتبة الأولى ، والأخوة والأجداد في المرتبة الثانية ،
والأعمام والأخوال والعمات والخالات في المرتبة الثالثة ، والزوجان يرثان مع كل
مرتبة. و «كلالة» في الإعراب منصوب على الحالية ، فالمعنى إن وجد رجل يرثه قريب له
في حال كون ذلك القريب كلالة له (أَوْ) إن كان (امْرَأَةٌ) تورث كلالة ، أي وجدت امرأة يرثها قريب لها في حال كون ذلك
القريب كلالة لها ، والحاصل أنه لو مات رجل أو امرأة (وَلَهُ) أي لكل واحد من الرجل والمرأة الذين ماتا (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) والمراد هنا كلالة الأمّي خاصة بأن كان الوارث شريكا مع
الميت في الأم فقط ، بأن بقي أخوه أو أخته الأميان (فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ) من تركة الميت (فَإِنْ كانُوا) أي كانت الكلالة (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) الواحد ، بأن كانت الكلالة اثنين فصاعدا (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يقسمونه بينهم بالسوية فإن الكلالة الأمي يرثون متساوين ،
مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ
اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)
____________________________________
للذكر مثل حظ
الأنثى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصى بِها) من قبل الميت (أَوْ دَيْنٍ) فإن الدين والوصية يخرجان من المال ثم يعطى للواحد من
الكلالة السدس وللاثنين فصاعدا الثلث (غَيْرَ مُضَارٍّ) أي لا يضار الكلالة بأن يحرموه من الثلث ، أو يكون المعنى
: إنما تنفذ الوصية إذا كان الموصي غير مضار بأن لم يوصي بأكثر من الثلث وإلا لم
تنفذ الوصية فيما زاد على الثلث (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) أي هذه الأنصبة يوصيكم الله بها وصية (وَاللهُ عَلِيمٌ) فيقدر الأنصبة حسب ما يعلم من المصالح (حَلِيمٌ) لا يعاجل العصاة بالعقوبة فمن خالفه في الإرث ولم ير عقوبة
عاجلة فذلك لحلمه سبحانه فلا يغرّه ذلك.
[١٤]
(تِلْكَ) التي بيّنت في أمر الإرث (حُدُودُ اللهِ) أي الحدود التي جعلها الله سبحانه لمقادير الإرث فلا يجوز
التجاوز عنها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) بتطبيق أوامرهما والاجتناب عن مخالفتهما (يُدْخِلْهُ) الله سبحانه (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت قصورها وأشجارها (خالِدِينَ فِيها) فلا زوال لهم عنها بالموت أو الإخراج أو ما أشبه (وَذلِكَ) أي نيل الجنة والخلود فيها (الْفَوْزُ) والفلاح (الْعَظِيمُ) الذي لا يماثله شيء فلا يحسب أحد أن الفوز ببعض التركة
وَمَنْ
يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها
وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ
____________________________________
ظلما شيء يعتدّ به
فإنه لا فوز كفوز الجنة الدائمة.
[١٥]
(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) بمخالفة أوامرهما وارتكاب نواهيهما (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) فيتجاوز ما حدّ له من الطاعات (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) أي دائما. ومن المعلوم أن ذلك لمن خالف جميع الأوامر لا
بعضها التي دل الدليل على عدم خلوده ، ولعل عموم «حدوده» حيث أنه جمع مضاف ، يدل
على ذلك (وَلَهُ عَذابٌ
مُهِينٌ) فيهان في العذاب حتى يجتمع عليه عذاب الروح وعذاب الجسد.
[١٦] وحيث بيّن
سبحانه حكم الرجال والنساء في باب النكاح والميراث بيّن حكم الحدود فيهن إذا
ارتكبن الحرام فقال سبحانه : (وَاللَّاتِي) جمع «التي» أي النساء اللاتي (يَأْتِينَ
الْفاحِشَةَ) أي الزنا ، وإنما سميت بالفاحشة لأنه أمر يفحش ويتجاوز
الحد (مِنْ نِسائِكُمْ) سواء كنّ ذوات أزواج أو لا (فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي اطلبوا شهادة أربعة رجال رأوا الزنا كالميل في المكحلة (فَإِنْ شَهِدُوا) أربعة عدول على ذلك (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ) أي فاحبسوهن فيها. وقد كان ذلك حكم الإسلام بالنسبة إلى
الزانية ابتداء (حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ)
أَوْ
يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما
إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ
____________________________________
أي حتى تموت (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي يجعل لهن أمرا آخر غير الحبس. وقد نزلت آية الحدود وهي
قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) فارتفع حكم الحبس في البيت. وما ورد في الأخبار من أن آية
الحد ناسخة لآية الحبس ، يراد به أن حكم الحبس ارتفع لانقضاء أمده ، لأنه كان
مؤقتا بجعل السبيل.
[١٧]
(وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) لعل المراد ب «اللذان» اللائط والملوط به فالضمير يرجع إلى
الفاحشة لا بمعناها الأول بل بالمعنى المنطبق ، أما تفسيره بالزانيين ـ فإن لم يرد
بذلك حديث عن المعصوم عليهالسلام ـ فبعيد. (فَآذُوهُما) الأذية أعم من الحد فلا حاجة إلى القول بنسخ الحكم ـ إن لم
يرد بذلك حديث معتبر ـ (فَإِنْ تابا) من فعلهما (وَأَصْلَحا) والمراد بالإصلاح الإتيان بالأعمال الصالحة (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) ولا تتعرضوا لهما بسوء (إِنَّ اللهَ كانَ
تَوَّاباً رَحِيماً).
[١٨] ثم بيّن
سبحانه ممن تقبل التوبة وممن لا تقبل؟ لمناسبة قوله : «فإن تابا» فقال : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي أن قبول التوبة حق عليه سبحانه ـ جعله على نفسه ـ أو
المراد توبة الله أي رجوعه عن المعاصي ، فإن كلّا من الله والعبد توّاب بمعنى راجع
إلى الآخر ، فإن رجوع العبد بمعنى إقلاعه عن الذنب ورجوع الله بمعنى لطفه وإحسانه
__________________
لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ
يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً
(١٧) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ
____________________________________
وإعادة نظره إلى
العبد (لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ) العمل المحرّم (بِجَهالَةٍ) الظاهر أنه ليس المراد بالجهالة الجهل مقابل العلم ، بل
المراد مطلق العصيان ، فإنها وإن صدرت عن عمد ، لكن حيث أنها يدعو إليها الجهل بما
يترتب عليه الذنب ، يصح أن يقال : أنها عن جهل ، وليس القيد احترازيا حتى يقال :
فما هو السوء بغير جهالة؟ بل فائدته أن السوء لا يصدر إلا عن جهل (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) قبل أن يروا علائم الموت (فَأُولئِكَ يَتُوبُ
اللهُ عَلَيْهِمْ) يرجع عليهم بمحو ذنوبهم وإعادة لطفه عليهم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالح العباد فيحكم بمقتضى علمه (حَكِيماً) يضع الأشياء في مواضعها حسب ما تقتضيه الحكمة.
[١٩]
(وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ) المقبولة النافعة (لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) المعاصي ، وإنما سميت سيئة لأنها تسيء إلى صاحبها (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ) بأن رأى آثاره من مشاهدة ملك الموت ونحوه (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فإنها توبة المضطر الذي يريد الخلاص من العقاب لا توبة
النادم المطيع ، كما قال سبحانه في قصة فرعون : (آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)
(وَلَا الَّذِينَ
__________________
يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
____________________________________
يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ) فقد انقطعت الحياة التي هي محل العمل وجاءت دار الحساب
التي فيها حساب ولا عمل (أُولئِكَ) الطائفتان (أَعْتَدْنا لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) أي هيّأنا لهم عذابا يؤلمهم بسبب ما فعلوا من المعصية ،
ولا يخفى أنه بالنسبة إلى من عمل السيئات حتى جاءه الموت لا يكون العصيان سببا
موجبا للعقاب ، فإن ذلك معلق بعدم الشفاعة والعفو.
[٢٠] ثم انتقل
السياق إلى حكم آخر من الأحكام المرتبطة بالعائلة ، وهو حكم المهر ، فقال سبحانه :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) والحكم وإن كان عاما للمؤمن وغير المؤمن لكن الإصغاء حيث
كان خاصا بالمؤمنين توجه الخطاب إليهم (لا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فقد كان أهل الجاهلية إذا مات بعض ذويهم حبسوا زوجته حتى
تموت عندهم ويرثونها أي يأخذون ميراثها ولم تكن المرأة تريد ذلك بل تريد الزواج من
رجل آخر فيمنعونها عن ذلك (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) العضل : هو إمساك المرأة في البيت دون تزويج ، فإنه لغة
بمعنى المنع (لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) فقد كان أهل الجاهلية إذا لم يرغبوا في زوجاتهم لم يطلقوهن
وتركوهن ومنعوهن عن الزواج حتى تفتدي ببعض مهرها أو سائر أموالها (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) أي بمعصية ظاهرة من زنا
وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً
وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠)
____________________________________
أو غيره فإنه يحق
حينئذ لكم أن تضيقوا عليهن حتى يفتدين ببعض ما آتيتموهن (وَعاشِرُوهُنَ) أي عاشروا النساء ـ مطلقا ـ (بِالْمَعْرُوفِ) الذي يعرفه أهل العقل والدين (فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَ) فلا تعجلوا بالطلاق (فَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) من ائتلاف وحب في المستقبل ، أو أولاد صالحين ، أو نحو
ذلك. فإنه كثيرا ما تقع نفرة بين الزوجين وتنتهي بوئام وسلام ووداد وحب وألفة.
[٢١]
(وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) بأن أردتم طلاق امرأة وأخذ امرأة أخرى مكانها (وَآتَيْتُمْ) أي أعطيتم من باب المهر (إِحْداهُنَ) وهي المرأة السابقة (قِنْطاراً) ملء جلد ثور ذهبا (فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً) أي من ذلك المعطى لها مهرا ، فقد كان الرجل في الجاهلية
إذا أراد طلاق امرأة وأخذ أخرى مكانها ضيّق على زوجته الأولى أو بهتها بفاحشة حتى
يجبرها أن تفتدي نفسها فيجعل فداءها مهرا للزوجة الثانية (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) هو مصدر في مكان الحال ، وهذا استفهام استنكاري ، أي هل
تأخذون بعض مالها بالبهتان؟! (وَإِثْماً مُبِيناً) أي بالإثم الواضح.
وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً
غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ
سَبِيلاً (٢٢)
____________________________________
[٢٢]
(وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ) تعجّب من أخذ بعض مهر المرأة بهذا النحو المشين (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) هو كناية عن الجماع ، أي والحال أنكم اقتربتم منهن فذهب
المهر لما حصلتم عليه من البضع ، والإفضاء هو الوصول إلى شيء بالملامسة (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) والميثاق هو العهد الذي أخذته الزوجة من الزوج بالعقد لأن
العقد معناه مقابلة المهر بما تستحل من نفسها له ، وقد كان لازم العقد الإمساك
بالمعروف أو التسريح بالإحسان.
[٢٣]
(وَلا تَنْكِحُوا) أيها المؤمنون (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ) فقد كان أهل الجاهلية ينكحون زوجات آبائهم بعد وفاتهم ،
فنهى الله سبحانه عن ذلك سواء دخل الأب بها أم لا (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) قبل إسلامكم فلا تؤاخذون بذلك الذنب ، فإن الإسلام يجبّ ما
قبله ، يعني أن ذنب أخذكم نساء آبائكم قبل الإسلام معفوّ عنه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي زنا فإن زوجة الأب من محارم الابن فمقاربتها زنا (وَمَقْتاً) أي موجبا لمقت الله وغضبه (وَساءَ سَبِيلاً) فإنه سبيل الكفار والعصاة.
[٢٤] ثم ذكر
سبحانه سائر أصناف المحرمات من النساء ، ومن المعلوم أن التحريم يقوم بالطرفين
فكما تحرم المرأة على الرجل كذلك يحرم الرجل على المرأة ، وقد كانت هذه المحرمات ،
محللات عند بعض
حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ
____________________________________
الناس كالمجوس ،
ولذا صرح القرآن الكريم بتحريمها ، فقال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) وهي كل امرأة يرجع نسبك إليها بالولادة كالأم والجدة من
الطرفين (وَبَناتُكُمْ) وهي كل امرأة يرجع نسبها إليك بالولادة بنتا أو بنت أولادك
الذكور أو الإناث (وَأَخَواتُكُمْ) وهن اللاتي جمعك وإياهن رحم أمّ أو صلب ذكر (وَعَمَّاتُكُمْ) وهن أخوات لذكر يرجع نسبك إليه من طرف الأب ، كأخت الأب
وأخت الجد الأبي ، أو من طرف الأم كعمة الأم التي هي أخت لأب الأم (وَخالاتُكُمْ) وهنّ اللاتي يكن أخوات لأنثى يرجع نسبك إليها من طرف الأم
كأخت الأم وأخت الجدة الأمية ، أو من طرف الأب كأخت أم الأب التي هي خالة أبيك (وَبَناتُ الْأَخِ) بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخ (وَبَناتُ الْأُخْتِ) بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخت. وهذه السبعة هي
أصناف المحرمات بالنسب.
ثم بين سبحانه
المحرمات بالسبب فقال : (وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) بلا واسطة كأمك بالرضاع ، أو مع الواسطة كالأم بالرضاع
للأب ، والأم بالرضاع للأم وهكذا (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ
الرَّضاعَةِ) ولم يذكر الأصناف الأخرى من المحرمات بالرضاع كالعمة
والخالة ، إما لفهم ذلك من السياق أو لدخولهن في «أخواتكم» فإن العمة أخت الأب
والخالة أخت الأم ، وإذا تحققت حرمة الأخت تحققت حرمة بنت الأخ وبنت الأخت.
وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ
____________________________________
(وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ)
أم الزوجة مباشرة كانت أو لا ، كأم أب الزوجة ، وأم أم الزوجة ، وحيث أطلق سبحانه
، تبيّن أنه بمجرد العقد على المرأة تحرم أمها سواء دخل بالزوجة أو لا (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ)
الربائب : جمع «ربيبة» وهي بنت زوجة الرجل من غيره سواء كانت قبل هذا الزوج أم بعد
هذا الزوج ، وقيد «اللاتي» للغلبة فإن الغالب أن الرجل إذا تزوج بامرأة لها بنت
رباها في حجره ، والحجور جمع حجر. ثم إنه لا فرق في الربيبة بين أن تكون بلا واسطة
كبنت الزوجة ، أم مع الواسطة كبنت الربيبة ، أو بنت ابنها ، أو أخت بنتها (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَ)
أي حصل منكم جماع لهن ، فإن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على أمها ، وإنما تحرم لو
دخل بأمها ، فلو تزوج بامرأة ولم يدخل بها ، ثم فارقها بطلاق أو فسخ أو انقضاء مدة
في العدة أو نحو ذلك ، حل له أن يأخذ ربيبتها. وهذا هو الفارق بين «أم المرأة»
وبين «بنت المرأة» (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ)
في نكاح بناتهن ، بعد خروج الأمهات عن حبالتكم (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ)
حلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، أي زوجات أبنائكم ، سواء كان الابن بلا واسطة ،
أو مع الواسطة كابن الابن ، وابن البنت (الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ)
وذلك مقابل «الدعي» وهو من يتبناه الإنسان ،
وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً (٢٣)
____________________________________
فإنه لا يحرم على
الأب المتبني زوجة الابن الذي تبناه ، لقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ
أَبْناءَكُمْ) أما الابن الرضاعي فإنه بمنزلة الابن النسبي لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الرضاع لحمة كلحمة النسب» .
(وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي يحرم الجمع بين الأختين بأن تكونا في حبالته معا ،
ويجوز أخذ واحدة ثم إخراجها عن حبالته ونكاح الأخرى (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) فإن أعمالكم في الجاهلية بالنسبة إلى نكاح المحرمات غير
مؤاخذين عليها في الإسلام ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يغفر ذنوبكم السابقة (رَحِيماً) يرحم بكم فلا يجازيكم بسيئاتكم.
__________________
تقريب القران الى الأذهان
الجزء الخامس
سورة النساء
من آية (٢٥) الى (١٤٨)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين
وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ
____________________________________
[٢٥]
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) أي النساء اللاتي أحصنّ بالأزواج ، أي حرمت عليكم النساء
ذوات الأزواج ، يقال : أحصن الرجل زوجته ، أي حفظها من الفجور (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وهن الإماء ذوات الأزواج التي يسبيهن المسلمون ، فإن السبي
يقطع عصمتهن بأزواجهن الكفار ويحل للمسلم إيقاعهن (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) أي كتب الله ـ تحريم النساء المذكورات ـ عليكم كتابا ، فهو
منصوب على المصدر بفعل محذوف (وَأُحِلَّ لَكُمْ) أيها المؤمنون (ما وَراءَ ذلِكُمْ) المذكور فإن كل امرأة لا يقع عليها أحد العناوين المذكورة
سابقا قريبة كانت أو لا ، فهي محللة على الشخص أن يتزوجها (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) أي تطلبوا بأموالكم ـ التي تجعلونها مهرا لهن ـ نكاحهن في
حال كونهم (مُحْصِنِينَ) أي تحصنون إياهن بالزواج (غَيْرَ مُسافِحِينَ) السفاح هو الزنا ، بأن لا تبتغوا بالأموال السفاح كما
يفعله الزانون حيث يسافحون بالنساء في مقابل المال ، ففي ما وراء ذلك التحريم
المتقدم حلال أن تبتغوا النساء بالمال لكن من طريق الزواج لا عن طريق السفاح (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ) «ما» موصولة يراد
بها المرأة ، والضمير في «به» عائد إلى «ما» أي النساء اللاتي استمتعتم بهن (مِنْهُنَ) أي من النساء ، وهذا بيان «ما» والمراد الاستمتاع طلب
المتعة أي اللذة (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) أي : فالنساء اللاتي استمتعتم بهن من طريق الإحصان والزواج
يجب
فَرِيضَةً
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ
اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
____________________________________
عليكم إعطاؤهن
أجورهن. وهذه الآية وردت في نكاح المتعة ، والمعبّر عنه بالنكاح المنقطع ، كما ورد
بذلك الروايات ، والفرق بينه وبين الدائم أنه محدّد بمدة طالت أو قصرت ،
فإذا انتهى أمده انفسخ من نفسه ، بخلاف الدائم الذي يحتاج فسخه إلى الطلاق أو نحوه
، ويؤيد كون الآية في النكاح المنقطع لا الدائم ، ذكر كلمة الاستمتاع التي هي
ظاهرة في المتعة ، وذكر الأجور فإن المنصرف من الأجر ما يعطى لقاء الاستمتاع لا
النكاح الدائم ، ولا ينافي أن يكون السابق على هذه الجملة عاما يشمل الدائم
والمنقطع ، وهذه الجملة خاصة للمنقطع ، فإنه كثيرا ما يذكر الخاص بعد العام ،
فالمنقطع مصداق من مصاديق (مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) وفي ذلك فائدة لطيفة ، حيث تنبّه الآية على عدم الاحتياج
إلى الزنا والحال أن النكاح المنقطع بمكان من الإمكان (فَرِيضَةً) أي فرضت ووجبت الأجور فريضة فلا يجوز للرجل عدم إعطاء
الأجور للمستمتع بها.
(وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أيها المستمتعون (فِيما تَراضَيْتُمْ
بِهِ) أي في المقدار الذي تراضيتم به (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي المقدار السابق من المهر ، فإذا تراضيتم بزيادة المدة
بعقد جديد أو إنقاصها بالهبة ، بزيادة المهر أو نقصانه جاز لكما ذلك ، والحاصل أن
ما تبانيا عليه سابقا فريضة ، لا يجوز العدول عنها إلا برضا جديد (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالمصالح (حَكِيماً) فيما شرع من الأحكام ، التي منها المتعة التي تفيد
__________________
وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ
فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ
أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ
____________________________________
المسافرين
والغرباء ومن لا يتمكن من الدائم ، فإن ذلك وقاية للمجتمع من فتح أبواب الزنا
والسفاح واللواط والسحق وما أشبه إذا ما سد باب المتعة.
[٢٦]
(وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ) أيها المسلمون (طَوْلاً) أي من جهة الغنى والثروة ، بأن لم يكن له مال يكفيه (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) أي الحرائر (الْمُؤْمِناتِ) وإنما قيل لهن محصنات لإحصانهن أنفسهن عن البغاء كما قال
سبحانه : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) فالمرأة العفيفة «محصنة» بالكسر ، و «محصنة» بالفتح ،
بالاعتبارين ، والمعنى : أن الرجل لو كان فقيرا لا يقدر على مهر الحرة ونفقتها
فلينكح (مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) ينكح أمة ملكتها يمين أخيه المسلم (مِنْ فَتَياتِكُمُ) جمع فتاة وهي المرأة الشابة ، والمراد بها هنا الأمة ، فقد
ورد «أن الرسول نهى ـ تنزيها ـ أن يقول أحد : عبدي وأمتي بل يقول : فتاي وفتاتي» جبرا لخاطرهما (الْمُؤْمِناتِ) فإن مهر الأمة أقل وتكاليفها أيسر (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فليس المراد التنقيب عن حقيقة إيمان الأمة المراد تزوّجها
بل يكفي الظاهر ، أما الإيمان الراسخ القلبي فليس إلى ذلك سبيل بل الله أعلم به.
__________________
بَعْضُكُمْ
مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ
____________________________________
(بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)
فليس الرجل الحر بأعلى إيمانا من الأمة المؤمنة بل المؤمنون سواء كانوا أحرارا أو
عبيدا أمّة واحدة بعضهم من بعض ، من طبقة أعلى من طبقة الآخرين ، وإنما شرعت أحكام
العبيد والإماء لمصالح خاصة ، كما شرعت أحكام الرجال والنساء مختلفة لمصالح خاصة (فَانْكِحُوهُنَ)
أي تزوجوا بالفتيات المؤمنات (بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ)
أي سادتهن ومواليهن فإنه لا يجوز نكاحهن بدون رضى السادة (وَآتُوهُنَ)
أي أعطوا الفتيات المؤمنات (أُجُورَهُنَ)
أي مهورهن ، وإعطاء الفتيات لا يراد به إلا الدفع إلى تلك الجهة ، وإن كان المولى
يستحق المهر (بِالْمَعْرُوفِ)
من دون عطل وإضرار ، وليكن نكاحكم إياهن بإذن أهلهن في حال كونهن (مُحْصَناتٍ)
عفيفات (غَيْرَ مُسافِحاتٍ)
أي غير زانيات ، وإنما قيد بذلك لأن «النكاح» يطلق على الوطء ، كما يطلق على العقد
الشرعي ، قال سبحانه : (الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا
زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)
أي لا يزني بها ،
ولا تزني به ، وقد كان في الجاهلية من يجبر إمائه على الزنا ، فكان نكاحا ـ أي
جماعا ـ بأجر ، بإذن الأهل كما قال سبحانه : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)
ولعل ذلك لمقابلة
قوله سبحانه بالنسبة إلى الحرائر : «محصنين غير مسافحين».
__________________
وَلا
مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ
مِنْكُمْ
____________________________________
(وَلا مُتَّخِذاتِ
أَخْدانٍ)
أي لتكن الفتاة عفيفة غير متخذة لصديق ، فإن الأخدان جمع خدن وهو الصديق ، والحاصل
أن تكون الأمة التي تريدون الزواج بها غير زانية ولا صديقة لأحد ، وقد كنّ بعض
الإماء في الجاهلية كذلك ، فنهى الله سبحانه عن التزوّج بهن (فَإِذا أُحْصِنَ)
أي تزوجن فأحصنهن أزواجهن (فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ)
أي بالزنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ)
أي إن حدّهن نصف حدّ الحرة الزانية وهو خمسون جلدة ، وقد كان من حكمة الإسلام أن
جعل المحاربين مع المسلمين ـ إذا غلبوا عليهم ـ عبيدا وإماء ، لا أن يقتل الجميع
أو يسجنهم ، ثم جعل العبودية تمشي في أعقابهم ، حتى لا يجرأ أحد على محاربة
المسلمين خوفا من ذلك ، أو على الأقل يحدّ من نشاط الحروب ، فأيّ إنسان يسوّغ
العبودية؟ مع العلم أن كثيرا من الناس يستسيغون القتل والسجن. ثم بعد ذلك جعل
للعبيد أحكاما خاصة تشديدا تارة وتخفيفا تارة أخرى ليقابل التخفيف التشديد ، ثم
ليكون لهم بصورة عامة ميزة خاصة يعرفون بها عن الأحرار ، وتفصيل فلسفة الأمرين يطلب
من الكتب الخاصة بهذا الشأن .
(ذلِكَ) النكاح للإماء (لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) العنت هو
__________________
وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
يُرِيدُ
اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
____________________________________
الجهد والشدة ، أي
خاف أن يقع في جهد وشدة من جهة ترك الزواج ، أو خاف الوقوع في الزنا لشدة رغبته
الجنسية (وَأَنْ تَصْبِرُوا) فلا تتزوجوا بالإماء (خَيْرٌ لَكُمْ) فإنه لو اعتاد نكاح الإماء بقيت الحرائر بلا أزواج لقلة
الكلفة بالنسبة إلى الأمة ، وكثرة الكلفة بالنسبة إلى الحرة ، فيقبل الناس على
تزوّجهن ، وليس أمر العبيد والإماء والفروع المتصلة به قصة تاريخية لظروف خاصة ،
كما يقوله بعض من بهرته الثقافة الغربية ، ولو جاز ذلك في هذا الحكم لجاز في كل
حكم إسلامي ، ولم يبقى للإسلام اسم ولا رسم. (وَاللهُ غَفُورٌ) لذنوبكم (رَحِيمٌ) بكم فلا تيأسوا من رحمته لما اقترفتم من المحرمات المرتبطة
بهذا الباب بعد عزمكم على التوبة منها.
[٢٧] ثم بيّن
سبحانه أن هذه المحرمات إنما حرمت لمصلحة البشر لا اعتباطا فقال : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أحكام دينكم ودنياكم (وَيَهْدِيَكُمْ) يرشدكم (سُنَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ) السنن جمع سنة ، وهي طريقة الأنبياء عليهمالسلام والمرسلين وعباد الله الصالحين (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي يرجع عليكم بلطفه ومنّه حيث أنكم تعملون بطاعته ـ بعد
ما كنتم في زمان الجاهلية تعملون بالمعاصي والآثام ـ فبين لكم الأحكام لتعملوا بها
فيتوب عليكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمصالحكم (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى.
[٢٨]
(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) كرّر لفائدة المقابلة بقوله سبحانه :
وَيُرِيدُ
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
____________________________________
(وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) في مواقعة كل امرأة من غير نظر إلى الحلّ والحرمة والمصلحة
والمفسدة (أَنْ تَمِيلُوا) عن الحق (مَيْلاً عَظِيماً) أي انحرافا ، فإن اقتراف محرمات النكاح من أكبر الآثام. والآية
وإن كانت عامة لكل باطل ولكل ميل إلا أن قرينة السياق تخصّصها بما ذكرنا.
[٢٩]
(يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) في أمور دينكم ودنياكم ولذا أحلّ كل النساء إلا ما فيه
مضرة ، ويقبل توبتكم ، ولو أراد التشديد لم يقبل توبتكم ، وحرم عليكم أقساما أخرى
من النساء كما قال سبحانه : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) وفيه إفادة أن تحريم ما ذكر ليس تثقيلا وإنما هو تخفيف ،
فإن التخفيف قد يكون بالنسبة إلى الشيء وقد يكون بالنسبة إلى نتائجه ، وتحريم
المحرمات المذكورة تخفيف بالنسبة إلى النتائج لما تشتمل عليه المحرمات من وخامة
العاقبة في الدنيا والآخرة التي منها ضعف النسل بالنسبة إلى نكاح المحرمات كما ثبت
في الطب الحديث (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ
ضَعِيفاً) فهو لا يصبر على شهواته ويريد اقتراف آثام الزنا مما يضره
في دنياه وآخرته
[٣٠] ولما بيّن
سبحانه محرمات النساء مما يتعلق ب «الفرج» ، بيّن محرمات
__________________
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
____________________________________
الأموال مما يتعلق
ب «البطن» فقد ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن : «من وقى شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقى الشر كله» ، والمراد بلقلقه : لسانه وقبقبه : بطنه ، وذبذبه : فرجه.
فقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم أن الحكم وإن كان عاما للمؤمن وغيره إلا أن إصغاء
المؤمن فقط أوجب توجيه الخطاب إليه فقط (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) والمراد بالأكل مطلق التصرف ، وأتي بلفظ الأكل لشيوع هذا
النوع من التصرف ، فهو من استعمال الخاص وإرادة العام ، وكلمة «بينكم» إنما أتي
بها لإفادة أن الأكل بالباطل إنما يعود ضرره إليهم أجمع فليس الأكل لمال غيرهم ،
وإنما أكل لأموالهم فيما بينهم ، ويعود ضرره إلى مجتمعهم ، والباطل هو خلاف الحق
الذي لا يقرّه الشرع والعقل ، أما أخذ الخمس والزكاة وسائر الحقوق المالية
والواجبات فليس أكلا بالباطل (إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) الاستثناء منقطع لأنه ليس أكلا للمال بالباطل. وكثيرا ما يأتي
مثل هذا الاستثناء في الكلام فيقال : لا تجالس الأشرار إلا الأخيار ، ولا تأكل
المضر إلا المفيد ، وقوله «عن تراض» يفيد عدم جواز أكل المال مقابل التجارة
الجبرية بدون الرضا (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) أي لا يقتل بعضكم بعضا فإن القتل مهما وقع على العدو فإنه
واقع على الجنس البشري ، والمناسبة بين القتل وأكل المال ، أن الله سبحانه حرم
انتهاك الأعراض ، وأكل الأموال وإراقة الدماء ،
__________________
إِنَّ
اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
____________________________________
فحيث ذكر الأولين
، أشار إلى الثالث (إِنَّ اللهَ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً) ومن رحمته بكم أن جعل أموالكم وأعراضكم ودماءكم محترمة لا
يجوز لأحد أن يتصرف فيها.
[٣١]
(وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) القتل ، أو أكل المال والقتل ، أو انتهاك العرض وأكل المال
والقتل ، والسياق يؤيد المعنى الثالث ، وإن كان قرب اللفظ يؤيد المعنى الأول (عُدْواناً وَظُلْماً) فإنه تعدّ للحدود وظلم للنفس وللغير ، وفي ذلك إخراج للسهو
والنسيان والخطأ (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ) من أصلاه أي أدخله ، (ناراً) في الآخرة (وَكانَ ذلِكَ) الإدخال في النار لمن فعل ذلك (عَلَى اللهِ يَسِيراً) فلا يمنعه مانع ولا يسأل عما يفعل.
[٣٢] إن الإنسان
لا بد وأن تقع منه مخالفات ، وحيث أن المخالفات مختلفة : من كبيرة ، كقتل النفس ،
وصغيرة ككذبة عفوية ونحوها. لذا يختم الله سبحانه تلك الآيات المحذرة عن المحرمات
المذكورة بقوله سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) كانتهاك الأعراض وأكل أموال الناس بالباطل وإراقة دماء
الأبرياء (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ) ومعنى التكفير : الستر والغفران ، أن نغفر سائر سيئاتكم ،
ولا نؤاخذكم بما لا بد وأن يقع في الحياة
وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
____________________________________
(وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً) أي مكانا حسنا طيبا يكرم صاحبه فيه ، و «كريم» صفة الإنسان
، يطلق على المحل بعلاقة الحال والمحل ، والمراد ب «المدخل الكريم» الجنة.
[٣٣] وحيث سبق
الكلام حول أكل الأموال بالباطل ، جرى السياق في موضوع أدق وهو تمنّي بعض الناس أن
يكون نصيبهم كنصيب الآخرين ، والتمني قد يكون مقرونا بزوال النعمة من الآخر ، وهذا
هو الحسد المذموم الذي نهي عنه في هذه الآية ، وقد يكون طلبا لأن يكون للإنسان مثل
ما لأخيه وهذه هي الغبطة ، وهذه وإن كانت خلاف الأدب ـ بالنسبة إلى الأمور
الدنيوية ـ لأنها تكشف عن ضعة في النفس ، لكنها ليست بمحرمة.
وذكر صاحب «مجمع
البيان» في سبب النزول ما لفظه : «قيل : جاءت وافدة النساء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقالت : يا رسول الله! أليس الله رب الرجال والنساء وأنت
رسول الله إليهم جميعا ، فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكرنا ، نخشى أن لا يكون
فينا خير ولا لله فينا حاجة. فنزلت هذه الآية. وقيل : إن أم سلمة قالت : يا رسول
الله يغزوا الرجال ولا تغزوا النساء. فنزلت الآية. عن مجاهد ، وقيل : لما نزلت آية
المواريث قال الرجال : نرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن
في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء : إنا نرجو أن يكون
الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في
الدنيا. فنزلت الآية» .
__________________
وَلا
تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
____________________________________
وعلى أي حال فقد كان هناك تمني من أحد
الجانبين فنهى الله عن ذلك بقوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما
فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)
فإن التمني مع قطع النظر عن عدم جدواه يكشف عن ضعف النفس وعدم تبصر الإنسان
بالأمور إذ التفضيل لم يقع اعتباطا ، وإنما خلقة كل واحد من الرجال والنساء ،
وسائر الملابسات الاجتماعية ، أوجبت هذه المفاضلة من عليم حكيم ، فلا يقل أحدكم :
ليت ما أعطي فلانا من المال والجاه والتشريع كان من نصيبي (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا)
من المال والجاه والعمل (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ
مِمَّا
اكْتَسَبْنَ)
من الأمور المذكورة. ثم ليس كل ما اكتسبه الرجل له ، بل قسم منه لله سبحانه يجب
صرفه في سبيله من مال أو جاه أو طاقة ، ولذا قال : «مما اكتسبوا» وكذلك بالنسبة
إلى النساء. فهذا النصيب الذي قدره سبحانه هو الذي ينبغي لكل منهما أن يقنع به ولا
يتوقع أن يكون له مثل ما للصنف الآخر (وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ)
أن يعطيكم ما تريدون لا أن تحسدوا وتتمنوا زوال نعمة الآخرين وانتقالها إليكم فإنه
سبحانه هو القاسم والمعطي (إِنَّ اللهَ كانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)
فيعلم ما تضمرونه من التمني والحسد ، أو ما تنوون في قلوبكم من الالتجاء إليه
سبحانه في أن يوفر عليكم الناقص الذي تريدون كماله. ثم إن ظاهر قوله سبحانه : «للرجال
.. إلخ» أن التمني كان بالنسبة إلى الأمور الاكتسابية لا الأمور التكوينية.
وَلِكُلٍّ
جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ
عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيداً (٣٣)
____________________________________
[٣٤] ذكر سبحانه
أن للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ، أما القسم الآخر من الكسب
أي بعض ما اكتسب الرجال وبعض ما اكتسبن النساء ، فإنه من نصيب الوارث ، وليس ذلك
على وجه الفريضة وإنما على نحو القضية الطبيعة الغالبة جرت على أن يتنعم الإنسان
بقسم مما اكتسبه ويخلّف قسما آخر من كسبه للوارث (وَلِكُلٍ) من الرجال والنساء (جَعَلْنا مَوالِيَ) هو جمع مولى ، من ولي الشيء يليه ولاية ، وهو اتصال الشيء
بالشيء من غير فاصل ، يعني جعلنا للصنفين أشخاصا وارثين هم أولى في التصرف فيما
تركا إرثا ، وهؤلاء الموالي الوارثون يرثون (مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) كلّ حسب تشريع الله له قسما خاصا من الإرث ، فلكلّ من
الرجال والنساء حق في الكسب وحق في الإرث فلا يتمنى أحد ما لغيره فإن الله سبحانه
جعل ذلك.
(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) لعل المراد أن الذين تعاقدتم معهم بالأيمان لإعطائهم حصة
من تركتكم فاللازم إعطاؤهم نصيبهم المشروع من دون الثلث إذا كان عقد اليمين غير
ملزم ، وما زاد عن الثلث إذا كان العقد ملزما ، وعلى أي حال فليس لهؤلاء إرث ، إذ
لكل موالي خاصة فلا يزاد عليهم بعقد الأيمان (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أي حاضرا شاهدا ، فلا تخالفوا أوامره بجعل غير
الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ
____________________________________
الوارث وارثا بعقد
اليمين ، أو عدم إعطاء (الَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) نصيبهم المقرّر في الشريعة.
[٣٥] وحيث تقدم إن
لكلّ من الرجال والنساء نصيب ، أراد سبحانه أن يبيّن علة زيادة الرجل في نصيب
الإرث ، ونصيب الأمر والنهي ، على المرأة ، فقال : (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ) جمع قوّام وهو القائم بالأمر المسلّط على الشيء (عَلَى النِّساءِ) ومن المعلوم أن المراد قوامة الرجل في الجملة ، لا أن كل
رجل قريب قوام على كل امرأة قريبة (بِما فَضَّلَ اللهُ) أي أن القوامة بسبب تفضيل الله سبحانه (بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فإن الله سبحانه فضّل الرجل على المرأة عقلا وجسما وتحمّلا
ـ كما هو واضح وقد ثبت في العلم الحديث ـ ولم يكن تفضيل الله سبحانه اعتباطا فقد
خلقت المرأة لغاية غير ما خلق لها الرجل فمثلهما مثل «مركبتين» صغيرة تحمل الركاب
، وكبيرة تحمل الحديد والأخشاب (وَ) بسبب ما (أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوالِهِمْ) فإن نفقة الزوجة واجبة على الزوج ، ومن المعلوم أن هذا
الواجب يلزم أن يعوّض بحق فأعطي للزوج القوامة في قبال ما وجب عليه من النفقة ،
وكذلك بالنسبة إلى المهر.
(فَالصَّالِحاتُ
قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) وإذ ثبتت هذه القوامة ، فالنساء الصالحات الخيرات سيحافظن
على الهدوء والسكون والموافقة لأزواجهن ويتجنبن الشغب والتمرد والاستعلاء وتجاوز
الحدود
بِما
حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ
____________________________________
والنشوز ، والقنوت
بمعنى الإطاعة ، أي فهن مطيعات للأزواج يحفظنهم في حضورهم وغيابهم كما أن ذلك
مقتضى كونهن مولّى عليهن ، والمراد بالغيب حالة غيبوبة الزوج بخروج أو سفر أو
نحوهما ، فلا يخنّهم في أنفسهم أو أموالهم أو نحو ذلك ، ويكون هذا الحفظ منهن لهم
بسبب ما (حَفِظَ اللهُ) لهن من الكرامة والحقوق ، أو مستعينات بحفظ الله تعالى فإن
الإنسان لا يتمكن من حفظ شيء إلا إذا شاء الله حفظه ، أو بمقابلة حفظ الله ، كأن
يكون حفظ الله عوضا لحفظهن إياهم ، فالباء سببية ، أو استعانة أو مقابلة.
أما المرأة التي
لا تقنت وتريد الاستعلاء على الزوج ، ولا تراعي حقوق الرجل ، فلها حكم خاص بيّنه
سبحانه في قوله : (وَاللَّاتِي
تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) من نشز إذا ارتفع ، أي عصيانهن ، فكأنها ارتفعت عن حدّها (فَعِظُوهُنَ) من الوعظ ، بالنصح والإرشاد ، وما أشبهها (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) إن لم يفد الوعظ ، و «المضاجع» جمع مضجع ، وهو محل النوم
وفراشه ، وذلك بتحويل الظهر ، أو بعزل فراشه عن فراشها (وَاضْرِبُوهُنَ) وفي بعض الأخبار أن الضرب بالسواك ، ولا يخفى أن هذه
المراتب بالتدريج وإن كانت الواو العاطفة لا تفيد ذلك ـ كما قالوا ـ كما أن المرأة
كثيرا ما تتأدب بالهجر والضرب الخفيف لأنهما يبعثان فيها العاطفة نحو الزوج
ويتطلبان منها تحسين سلوكها ليرجع إليها قلب الزوج (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) ومن المقرّر في
فَلا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ
أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
____________________________________
الشريعة أن
الإطاعة الواجبة على المرأة ليست إلا عدم خروجها بدون إذنه ومطاوعتها له في
الاستمتاع بها متى أراد (فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي لا تطلبوا
لضررهن طريقا ، بإيذائهن وعدم القيام باللطف والعطف المترقب من الزوج ، بل سامحوهن
، فقد قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إن من حق المرأة على الرجل أن يغفر لها إذا جهلت» ، (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيًّا) فلا يتعال عليه أحد بقوته (كَبِيراً) فلا أكبر منه.
[٣٦]
(وَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الناس المحيطون بالزوجين (شِقاقَ بَيْنِهِما) أي المخالفة والعداوة بين الزوجين ، كأن كل واحد منهما في
شق وجانب ، غير شق الآخر وجانبه (فَابْعَثُوا حَكَماً
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) فإن الحكمين حيث يعرفان ملابسات الزوجين يتمكنان من فصل
الأمر على أحسن الوجوه ، وللحكمين الإصلاح وليس لهما الطلاق إلا برضى الزوج أو
وكالة سابقة (إِنْ يُرِيدا) يعني الحكمين (إِصْلاحاً) بينهما (يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما) والضمير عائد إلى الحكمين لقرب اللفظ ، وربما يقال : عائد
إلى الزوجين. (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً) بمصالح العباد (خَبِيراً) بما يضمره الحكمين ويفعلانه في أمر
__________________
وَاعْبُدُوا
اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي
الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ
الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ
____________________________________
الإصلاح والإفساد.
[٣٧] ثم يتوجه
البيان إلى العلاقات الإنسانية العامة بما فيها الأقربون وغيرهم ، بعد ما فرغ من
نظام الأسرة ، وربطها بعبادة الله سبحانه الذي أمر بذلك ، ويبيّن ما يجب على
الإنسان تجاه الخالق وتجاه المخلوق ، فقال : (وَاعْبُدُوا اللهَ) ومعنى العبادة منتهى الخضوع مما يطلب من العبد قبال سيده ،
فإن العبادة والعبد من مادة واحدة (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ) أي بالله (شَيْئاً) أي لا تجعلوا له شريكا من حجر أو مدر ، أو جماد أو نبات ،
أو ملائكة أو بشر ، فإنه هو الإله الواحد الذي لا شريك له (وَ) أحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) فإنهما واسطة خلقكم ، وكثيرا ما يقرن الإحسان إليهما
بعبادة الله سبحانه في القرآن الكريم ، لإفادة تأكيد لزوم الإحسان إليهما (وَ) أحسنوا (بِذِي الْقُرْبى) القربى كاليسرى من اليسر ، أي أصحاب القرابة ، وهذا تعميم
بعد التخصيص (وَالْيَتامى) وهم الذين مات آباؤهم ، أو الأعم منهم وممن ماتت أمه (وَالْمَساكِينِ) هم الفقراء بصورة عامة (وَالْجارِ ذِي
الْقُرْبى) ولمثله حقان : حق الجوار ، وحق القرابة (وَالْجارِ الْجُنُبِ) جنب بضم الأولين كعنق ، صفة بمعنى الغريب ، وكأنه باعتبار
أن كلّا من الطرفين في جنب (وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ) أي صاحبك الذي بجنبك ، سواء كان في مدرسة أو دكان أو سفر
أو حضر ، أو غيرها (وَابْنِ السَّبِيلِ) أي المنقطع عن بلده سواء كان ثريا أو لا ، ويسمى «ابن
السبيل» لأنه لا يعرف شيئا من
وَما
مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)
الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ
____________________________________
ملابساته إلا
السفر ، يقال ابن البلد وابن السبيل وابن العمل لمن يرتبط بهذه الأمور (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من العبيد والإماء.
وقد أطلق سبحانه
الإحسان إلى هؤلاء ليشمل مطلق صنوف الحفاوة والإكرام ، وقد كان تأكيد الإسلام
بالإحسان إلى هؤلاء تمشيا مع روحه العامة في توثيق صلة البشر بعضهم مع بعض ،
وجمعهم في رباط الود والحب والوئام (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) المختال : المتبختر المتكبر ، والفخور : الذي يفخر بمناقبه
كبرا واعتزازا وتطاولا. ذكر هذه الجملة هنا بمناسبة أن من أمره سبحانه بالإحسان
إلى الأصناف المذكورة كثيرا ما يتطاول ويتكبر ، فلا يخضع للإحسان ، كما هو المشاهد
إلى الآن ، فنهى سبحانه عن ذلك بعد ما أمر بالإحسان ليؤكده إثباتا ونفيا.
[٣٨] وحيث أن
الإحسان إلى هؤلاء كثيرا ما يحتاج إلى بذل المال ، ذم سبحانه الذين لا يبذلون
أموالهم في سبيل الله بقوله : (الَّذِينَ) صفة (مَنْ كانَ مُخْتالاً
فَخُوراً)(يَبْخَلُونَ) فلا ينفقون الأموال في سبيله سبحانه (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) وكأن هذا ملازم لصفة البخل فإن البخيل حيث جبل على حب
المال لا يتمكن أن يرى غيره ينفق ماله ، وقد تشتد هذه الصفة في البخيل حتى يبخل
على نفسه ، فلو أنفق عليه غيره نهاه وأمره بالكف. (وَيَكْتُمُونَ ما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإن
وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧)
وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
____________________________________
البخلاء يكتمون
أموالهم لئلّا يعرفون فيذمّهم الناس بعدم إنفاقهم في سبل المعروف ، أما ما اشتهر
من «استر ذهبك وذهابك ومذهبك» فإنه في محل الخوف لا مطلقا (وَأَعْتَدْنا) أي هيّئنا (لِلْكافِرِينَ) الذين يكفرون بنعم الله سبحانه ولا يعملون بما أمرهم الله
سبحانه من إنفاق أموالهم (عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويكسر كبرياءهم ، كما تكبّروا في الدنيا ولم يحسنوا
إلى من وجب الإحسان إليه ، اختيالا وافتخارا ، كما قال سبحانه : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ)
[٣٩] وهناك صفة أخرى ملازمة لعدم
الإحسان إلى الأصناف السابقة ، فإن المختال الذي لا يحسن ويبخل ، لا بد وأن يكون
إنفاقه رئاء وسمعة ، لأن كبرياءه يجبره على أن يشوب إنفاقه بما يلائم صفته. فقال
سبحانه : (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ)
وهذه الجملة عطف على قوله «الذين يبخلون» يعني أن إنفاقهم لأجل أن يراهم الناس ،
حتى يعظمون في نفوسهم ، ويمدحونهم بأنهم أهل خير وإنفاق ، والمراد بالرئاء المثال
، وإلا فالسمعة كذلك (وَلا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ)
حتى يكون حافزهم على الإنفاق أمر الله سبحانه ورضاه (وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ)
حتى يكون باعثهم على البذل رجاء الثواب وخوف العقاب.
ثم إنه كثيرا ما
يعبر بهذا التعبير عن عدم الإيمان الكامل ، لا مطلق الإيمان ، أو عدم الإيمان من
هذه الجهة ، وإن كان هناك إيمان من سائر
__________________
وَمَنْ
يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨)
وَما
ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
____________________________________
الجهات ، إذ أن
الإيمان الكامل والإيمان من جميع الجهات ، يقتضي أن يكون باعث كل حركة وسكون هو
الإيمان لا غيره ، وذلك كما يقال : فلان لا يطيع أباه ، إذا لم يطعه إطاعة كاملة ،
أو إطاعة من جميع الجهات ، فإنه لا يراد بذلك عدم الإطاعة مطلقا ، بل عدم الإطاعة
الكاملة من جميع النواحي.
(وَمَنْ يَكُنِ
الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً) مقترنا ، بأن صاحبه ولازمه وأتمر بأوامره في البخل والرياء
وعدم الإيمان (فَساءَ قَرِيناً) لأنه يدعوه إلى المعصية الموجبة لذهاب دينه ودنياه.
[٤٠]
(وَما ذا عَلَيْهِمْ) أي : أي شيء يكون عليهم وأي ضرر يتوجه إلى هؤلاء الذين لا
يؤمنون ولا ينفقون (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ)؟! فإنه بالعكس مما يظنون من أن الإيمان والإنفاق يسببان
أضرارا ومشاكل ، إذ الإيمان يوجب الهدوء والسكينة والاطمئنان وخير الدارين ،
والإنفاق يوجب تقدم المجتمع وازدهاره مما يعود إلى المنفق بأكثر مما أنفقه (وَكانَ اللهُ بِهِمْ) أي بهؤلاء ، سواء أنفقوا وآمنوا ، أم لا (عَلِيماً) فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
[٤١]
(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ) المثقال الثقل ، والذرة هي واحدة «الهباء» التي يرى إذا
دخل شعاع الشمس من الكوة ، فمن أنفق
وَإِنْ
تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
فَكَيْفَ
إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١)
يَوْمَئِذٍ
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ
____________________________________
فلا يظن أن إنفاقه
يذهب هباء ، فإن الله سبحانه يجازيه على إنفاقه ولا يظلمه قدر مثقال ذرة (وَإِنْ تَكُ) الذرة التي أتى بها العبد (حَسَنَةً) عملا خيرا (يُضاعِفْها) فإن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها (وَيُؤْتِ) لمن أحسن (مِنْ لَدُنْهُ) دلالة على صدق الوعد وعظمه حيث أنه من لدن صادق كريم (أَجْراً عَظِيماً) وهو الثواب الباقي أبد الآبدين.
[٤٢] وإذا كان
الله تعالى بهذه المثابة من العلم والعدل (فَكَيْفَ) بحال الناس الذين انحرفوا عن الجادة ، وكفروا وبخلوا وعصوا
(إِذا جِئْنا مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) يشهد على أعمالهم ، وهم أنبياؤهم ومن جعله الله سبحانه
واسطة بينه وبينهم في التبليغ وبلاغ الأحكام (وَجِئْنا بِكَ) يا رسول الله (عَلى هؤُلاءِ) القوم الذين أنت فيهم (شَهِيداً) تشهد على أعمالهم في ذلك الموقف الرهيب.
[٤٣]
(يَوْمَئِذٍ) أي في يوم القيامة (يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ) «الواو» إما
للتقسيم ، أي يود كل واحد منهما ، أو للجمع أي يود الكافر العاصي (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) أي يجعلون متساوين مع الأرض كما قال سبحانه : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُراباً)
__________________
وَلا
يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى
تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ
____________________________________
(وَ) في ذلك اليوم (لا يَكْتُمُونَ اللهَ) أي لا يخفون عن الله (حَدِيثاً) بل تشهد عليهم ألسنتهم وجوارحهم بكل ما عملوا من الكفر
والسيئات والشرور ، ففي مقابل تكبّرهم في الحياة يتمنون بلع الأرض لهم هناك ، وفي
مقابل كتمانهم الحق في الدنيا لا يتمكنون من الكتمان هناك.
[٤٤] قد تقدم
الأمر بعبادة الله سبحانه فارتد السياق هنا إلى بعض مصاديق العبادة وهي الصلاة
والغسل فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) والنهي عنه «الاقتراب من الصلاة حال السكر» كالنهي عن نفس
الشيء «الصلاة حال السكر» لكن للمبالغة في التنزيه ، كما قال سبحانه : (لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) و «سكارى» جمع
سكران. ومن المعلوم أنه لا منافاة «تكوينا لا شرعا» بين السكر الخفيف والصلاة ،
وإنما السكر الشديد المزيل للعقل تماما لا يجتمع مع الصلاة (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) فإن الصلاة إنما شرعت للإقبال والسكران لا يعلم ما يقول
ولا يحضر قلبه فيما ينطق به لسانه ، و «حتى» هنا تصلح علة للحكم كما تصلح غاية
فإذا شرب أحد الخمر ـ والعياذ بالله ـ فلا يقبل على الصلاة إلا وقد زال أثرها بحيث
يعلم ما يقول (وَلا) تقربوا الصلاة (جُنُباً) بالإدخال أو الإنزال (إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ) أي في حال
__________________
حَتَّى
تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
____________________________________
السفر فإن الغالب أن
المسافر ـ قديما ـ كان لا يجد الماء فيصلي جنبا بتيمم إذ التيمم لا يرفع جميع أثر
الجنابة ولذا لو وجد الماء بطل تيممه ويلزم عليه الغسل (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) أي لا تقربوا الصلاة جنبا حتى تغتسلوا. والاغتسال : غسل
للرأس والرقبة ثم الطرف الأيمن ثم الأيسر مع النية ، أو الارتماس في الماء دفعة
واحدة مع النية (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى) جمع مريض ، والمراد به المرض الذي يضر معه الماء وإن كان
جرحا أو نحوه (أَوْ) كنتم (عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين وكان الإتيان بلفظة «على» لما يكون المسافر
عليه من الركوب على شيء وقد تقدم أن الكون على السفر لا يبيح بنفسه التيمم ، وإنما
لغلبة صعوبة الماء فيه ـ في السابق ـ (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ) أيها المريدون للصلاة (مِنَ الْغائِطِ) الغائط هو المكان المنخفض من الأرض ، وسمّي «البراز» به
لعلاقة الحال والمحل ، والمراد أن أحدكم لو قضى حاجته ثم أراد الصلاة (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) أي جامعتم معهن فإن الملامسة كناية عن الجماع (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) مرتبط بالثلاثة المتقدمة المسافر والمحدث والمجامع (فَتَيَمَّمُوا) أي اقصدوا (صَعِيداً) أي أرضا ، سواء كان عليها تراب أو لا (طَيِّباً) أي طاهرا حلالا إذ كل واحد من النجس والمغصوب خبيث غير
طيب. والتيمم هو معناه التقصد ثم غلب في الشريعة على الأعمال المخصوصة حتى إذا قيل
: «تيمم» لا يتبادر منه إلا الأعمال المخصوصة شرعا (فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) وقد
إِنَّ
اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ
____________________________________
دلت الشريعة على
أن كيفيته أن يضرب الإنسان بيديه معا وجه الأرض ـ ما لم يخرج عن اسم الأرضية لكونه
معدنا أو نحوه ـ ثم يمسح بهما جبهته من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى ، ثم يمسح
بباطن الكف اليسرى ظهر الكف اليمنى من الزند إلى رؤوس الأصابع ، ثم يمسح بباطن
الكف اليمنى ظاهر الكف اليسرى من الزند إلى رؤوس الأصابع. وهناك احتياط بالضرب
ثانيا ومسح اليدين. وقد ثبت في الطب الحديث أن الأرض تطهر الجراثيم في مرتبة أدنى
من تطهير الماء ، فقد كان من حكمة الشارع أن جعلها مطهرة في المشي عليها والتعفير
بها ، في النجاسة الخبثية ، والتيمم بها في النجاسة الحدثية (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) يعفو عن الذي له حرج في استعمال الماء ، ويظهر جمال العفو
إذا قايس الإنسان أحكامه سبحانه بأحكام الملوك والحكومات والسادة الذين لا يبالون
بالناس فهم يطلقون أوامرهم مهما كلف الأمر (غَفُوراً) يغفر الذنوب التي يتعرض لها الإنسان في تكاليفه ، وهذا
كالتسلية لمن أفلت منه ذنب لئلا ييأس من مغفرته سبحانه.
[٤٥] ثم يعود
السياق إلى الذين كفروا وعصوا الرسول وأن قسما من أهل الكتاب يبيعون أنفسهم
بالضلالة ويحرفون الكلم ويؤذون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (أَلَمْ تَرَ) أي ألا تتعجب يا رسول الله وتنظر (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ
الْكِتابِ) أي قسما منه ، وهم اليهود الذين أعطاهم الله التوراة وإنما
ذكر «نصيبا» لأنهم لم يعطوا الكتاب ـ أي الأحكام ـ كاملا ، وإنما أعطوا
يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ
هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا
____________________________________
قسما من الأحكام ،
والبقية الباقية للمسيح عليهالسلام والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (يَشْتَرُونَ
الضَّلالَةَ) يبيعون أنفسهم بالضلالة فعوض أن يصرفوا أعمارهم وطاقاتهم
ليشتروا الهداية بالإيمان بالرسول والعمل الصالح يبيعون أنفسهم وطاقاتهم مقابل
الكفر والأعمال السيئة ، والحال أنهم من أهل الكتاب ويعلمون الحق (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) أنتم المسلمون (السَّبِيلَ) فتنحرفوا عن جادة الهداية إلى السبل الملتوية المؤدية إلى
الهلاك والدمار.
[٤٦]
(وَاللهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدائِكُمْ) منكم فلا تتخذوا هؤلاء أولياء ظنا منكم أنهم أحباؤكم
واغترارا بظاهرهم وزعما بأنهم ظهركم وسندكم (وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا) أي أن ولاية الله لكم تغنيكم عن ولاية الكفار (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) فنصرته إياكم تكفي عن نصرة الكفار.
[٤٧] ثم ذكر
سبحانه بعض صفات هؤلاء الكفار الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) (مِنَ الَّذِينَ
هادُوا) واتخذوا اليهودية دينا (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ) جمع كلمة ، والمراد بها أحكام الله سبحانه (عَنْ مَواضِعِهِ) فيضعون الحلال مكان الحرام والحرام مكان الحلال وهكذا (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا) كلامك واحتجاجك يا محمد و (عَصَيْنا) أوامرك لأنا لا نعتقد بك نبيا صادقا. وربما
وَاسْمَعْ
غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ
____________________________________
يحتمل أن يكون
المراد عصيانهم عملا لا قولا فإن «القول» يراد به تارة الكلام وتارة العمل ، يقال
: «قال بيده كذا» أي أشار.
(وَ) يقول هؤلاء اليهود للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : (اسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ) يقصدون الدعاء على الرسول بأنه لا يسمع ، كما يقال : اسمع
لا أسمعك الله. فإنهم كانوا يقصدون بهذا الكلام السبّ والدعاء عليه ويظهرون أنهم
يريدون معنى آخر وهو : اسمع غير مأمور بالسمع ، فإنه يقال : الكلام للرجل العظيم
احتراما وإشعارا بأن أمره ب «اسمع» ليس أمرا فهو لا يؤمر بالاستماع لأنه أجلّ من
الأمر.
(وَ) يقول هؤلاء اليهود للرسول : (راعِنا) يقصدون بذلك السبّ باطنا ويظهرون أنهم يتأدبون حيث أن ظاهر
لفظة «راعنا» طلب المراعاة (لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ) من «لوى يلوي» إذا حرف وأمال ، والألسنة جمع لسان ، وليّ
اللسان قد يكون ظاهريا بأن يحرف لسانه ، وقد يكون باطنيا بأن يقول شيئا ظاهره أمر
، وهو لا يريد ظاهره (وَطَعْناً فِي
الدِّينِ) فإن الطعن في رئيس الدين طعن في الدين ، لوهنه بسبب وهن
رئيسه.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي أن هؤلاء
اليهود (قالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا) ما جئت به ، بأن صاروا متدينين بالإسلام (وَاسْمَعْ) بدون أن يضيفوا «غير مسمع» (وَانْظُرْنا) عوض قولهم «راعنا» مما فيه إيمان وأدب واستقامة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في دنياهم حيث ينعمون براحة المسلمين ورفاههم
وَأَقْوَمَ
وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ
____________________________________
وتقدمهم ، وفي
آخرتهم حيث يسعدون بجنات النعيم (وَأَقْوَمَ) أي أكثر عدلا واستقامة.
(وَلكِنْ لَعَنَهُمُ
اللهُ) أي أبعدهم عن رحمته ولطفه وفضله (بِكُفْرِهِمْ) فإن الإنسان إذا لم يقبل الإيمان بعد ما عرفه طرده الله
سبحانه عن فضله ، كما أن الأب إذا رأى ولده لا يقبل نصحه طرده عن ألطافه (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وهذا ليس استثناء من قوله
سبحانه (لَعَنَهُمُ اللهُ
بِكُفْرِهِمْ) بل من أصل الكتاب. وقد ذكرنا سابقا أن الاستثناء قد يراعى
فيه أصل المطلب من دون النظر إلى قيوده ، كقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) ، (وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) ومن المحتمل مراعاة القيد في «إلا قليلا» أي أن إيمان
هؤلاء ممكن تقبله حتى بعد لعن الله لهم إذا تيقظ ضميرهم ورجعوا عن الغفلة إلى
الحق.
[٤٨]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي نزل على نبيهم الكتاب السماوي والتزموا به ، وتخصيص
الخطاب بهم مع أن الأمر بالإيمان عام ، لكونهم محل الحوار والبحث (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) من الفرقان على رسولنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم في حال كونه (مُصَدِّقاً لِما
مَعَكُمْ) فإن القرآن
__________________
مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ
كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧)
إِنَّ
اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
____________________________________
يصدّق بالكتب
السماوية السابقة (مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَطْمِسَ وُجُوهاً) طمس الشيء إذهاب أثره (فَنَرُدَّها عَلى
أَدْبارِها) جمع «دبر» وهو الخلف ، والظاهر من الآية أنه في يوم
القيامة إذ تطمس فيه الوجوه من بعض الناس حتى تتساوى جميع أجزاء الوجه فلا نتوء
فيها ، ثم يجعل الوجه إلى الخلف ، كما ورد في بعض الأحاديث. وفي بعض الروايات : طمسها
عن الهدى وردها على أدبارها في ضلالتها (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) عاجلا قبل يوم القيامة فنجعل منهم القردة والخنازير (كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) وهم اليهود الذين اعتدوا في السبت باصطياد السمك (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) وفي بعض الأحاديث
: أنه في آخر الزمان يبتلى بعض الفساق بالمسخ ـ والعياذ بالله ـ (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) كائنا فلا تظنوا أنه لا يكون ذلك وإنما هذا مجرد تهديد
وتوعّد.
[٤٩] ولا يظن أهل
الكتاب أنهم إن بقوا على شركهم حتى ماتوا يشملهم غفران الله سبحانه فيبقوا على
كفرهم وشركهم (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فإن الإنسان إذا مات مشركا لم يكن له الخلاص (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) أي دون الشرك من المعاصي (لِمَنْ يَشاءُ) ممن يكون أهلا للغفران ، فلا يقاس الشرك بسائر المعاصي
والذنوب
__________________
وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً
(٥٠)
____________________________________
(وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ) أي يجعل له شريكا (فَقَدِ افْتَرى
إِثْماً عَظِيماً) فإنه افتراء على مقام الألوهية بأن له شريك ، وأي إثم أعظم
من ذلك.
[٥٠]
(أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله وهو استفهام تعجبي (إِلَى) اليهود (الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ) أي يمدحونها ويصفونها بالطهارة والزكاة والنزاهة فقد كانوا
يقولون عن أنفسهم أنهم نزيهون وأنهم أبناء الله وأحباؤه (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) فإن الطهارة بيد الله فمن شاء غفر ذنوبه وبرّأه من العيوب
ومن شاء لم يغفر ذنبه فيبقى في أدران المعصية ، إنه سبحانه هو الذي يختار أمة ما
ولا يختار أخرى (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) الفتيل هو ما في شق النواة من خيط ضعيف ، والمعنى أنه
سبحانه بعدم تطهيرهم لا يظلمهم وإنما ذلك بسبب عدم إيمانهم وعصيانهم.
[٥١]
(انْظُرْ) يا رسول الله ـ وليس المراد النظر بالعين بل ملاحظتهم ،
فإن النظر كما يقع بالعين كذلك يقع على ملاحظة الأشياء بسائر القوى والحواس ـ (كَيْفَ يَفْتَرُونَ) أي يفتري هؤلاء اليهود (عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ) في قولهم : نحن أبناء الله وشعبه المختار وأحباؤه ولن
تمسنا النار إلا أياما معدودة ، وإنهم المزكون من عنده ، وفي تحريفهم أحكامه (وَكَفى بِهِ) أي بكذبهم عليه سبحانه (إِثْماً) معصية (مُبِيناً) واضحا وأي عصيان أعظم من التجرؤ على ساحة الله سبحانه.
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
____________________________________
[٥٢] كانت اليهود
تفضل المشركين على المسلمين وقد قال كعب ـ وهو أحد رؤسائهم ـ لأبي سفيان : أنتم
والله أهدى سبيلا مما عليه محمد ، فنزل قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله وهو استفهام تعجبي (إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا) أي أعطوا (نَصِيباً مِنَ
الْكِتابِ) وهم اليهود الذين أنزل الله على نبيهم الكتاب فبقي بعضه في
يدهم (يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) هما صنمان لقريش ، فقد سجد كعب للصنمين استمالة لقلوب
المشركين (وَيَقُولُونَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي أبو سفيان وأصحابه (هؤُلاءِ) المشركون (أَهْدى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أي أن سبيل المشركين أحسن من سبيل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه ، فقد أوجب حقده على الإسلام أن يفضّل الكفار
الذين لا يعترفون حتى بموسى عليهالسلام على المسلمين الذين يشتركون معهم في كثير من الأصول
والفروع.
[٥٣]
(أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عن رحمته وطردهم عن الخير (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيراً) ينصره فيدفع اللعنة عنه وينجيه من عقاب يوم القيامة.
[٥٤] إن اليهود
الذين حكموا بأن المشركين أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، لا قيمة ولا وزن لحكمهم هذا
، فإنهم لا يملكون تفضيلا حتى يفضلوا الكفار على المؤمنين ، ولو فرض أنهم ملكوا
أتفه شيء من الأمور
أَمْ
لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ بِهِ
____________________________________
المادية لحرموا
الناس جميعا من أقل الأشياء وأبخسها (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ) استفهام إنكاري ، أي هل لهم شيء من ملك التفاضل حتى يهبوا
من يشاءون فضلا؟ كلا إنهم لا يملكون ذلك ، وإذا فرض أنهم ملكوا شيئا (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) النقير هو النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة.
[٥٥] ثم إن تفضيل
هؤلاء اليهود للمشركين ليس إلا حسدا للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه (أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ) الرسول وأصحابه المؤمنين (عَلى ما آتاهُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) حيث اختار الرسول للرسالة وهدى المؤمنين إلى الإيمان فلا
موقع للحسد ، فإن الفضل قد يؤتيه من يشاء وقد منّ سابقا على إبراهيم عليهالسلام وآل إبراهيم لا بالنبوة فحسب بل بالملك والنبوة (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) وقد ذكرنا سابقا أنه قد يقال : «آل فلان» ويراد الأعم منه
ومن آله ـ تغليبا ـ (الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ) علم الشرائع مما يفيد الدنيا والآخرة فهو أعم من الكتاب (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) حيث جعل بأيديهم أزمة الحياة وجعلهم ملوكا وأنبياء.
[٥٦]
(فَمِنْهُمْ) أي من الناس ، المعلوم من الكلام كقوله : (لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ) أو من آل إبراهيم عليهالسلام (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي
__________________
وَمِنْهُمْ
مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ
كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)
____________________________________
بإبراهيم عليهالسلام وصدق نبوّته. والمراد من آل إبراهيم «مرجع الضمير» إما
قومه الذين بعث إليهم ، أو عشيرته وأحفاده (وَمِنْهُمْ مَنْ
صَدَّ عَنْهُ) أي أعرض عن الإيمان أو عن إبراهيم عليهالسلام ، وهؤلاء اليهود كأولئك في أن بعضهم آمن بالرسول وبعضهم صد
عنه. (وَكَفى بِجَهَنَّمَ
سَعِيراً) أي يكفي هؤلاء الصادين سعير جهنم ، والمراد بالسعير :
الاشتعال واللهب.
[٥٧] ثم ذكر
سبحانه عاقبة كل واحد من المكذب والمصدق (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بدلائلنا التي أقمناها على رسولنا وما جاء به (سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) من «أصلى يصلي» يقال : أصلاه النار إذا ألقاه فيها (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) واحترقت بالنار (بَدَّلْناهُمْ
جُلُوداً غَيْرَها) أي جعلنا لهم جلودا جديدة مكان الجلود المحترقة (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ولا ينقطع عنهم ، والجلود الجديدة هي الجلود القديمة التي
خلقت من جديد ، إذ الشيء المحترق تتفرق أجزاؤه في الفضاء فيجمعها سبحانه ويعطيها
الصورة الجلدية من جديد ، هذا بالإضافة إلى أنه لو خلقت جلود جديدة لم يكن بذلك
بأس إذ المتألم هو الروح فلا يقال : بما استحق الجلد الجديد العذاب؟ (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) فلا يفوته شيء ولا يمتنع عليه شيء فإن العزة تلازمها
الغلبة والقدرة (حَكِيماً) يصنع
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ
وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
____________________________________
كل شيء بحكمة ويضع
الأشياء في مواضعها ، فليس تعذيب هؤلاء بهذه الكيفية خارجا عن نطاق قدرته ولا
مخالفا للحكمة والمصلحة.
[٥٨]
(وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله وما جاء به (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة (سَنُدْخِلُهُمْ) ولعل دخول ل «س» هنا و «سوف» هناك للدلالة على أن الجنة
أقرب إلى المؤمنين من النار إلى الكافرين ، فإن الكفار حيث أنهم يقضون برزخا مؤلما
يطول عليهم الأمد بخلاف المؤمنين الذين يقضون برزخا مريحا ، فإن الإنسان إذا كان
في راحة زعم أن الوقت انقضى بسرعة بخلاف من كان في تعب وأذية فإنه يطول عليه الوقت
(جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) البساتين ذات القصور التي تجري من تحت أشجارها أنهار الماء
(خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) كما أن الكفار خالدون في النار وكلما نضجت جلودهم بدلت
بغيرها (لَهُمْ فِيها) أي في الجنات (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من القذارات الخلقية والقذارات الخلقية (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا) هو الوقاية من نور الشمس ونحوه (ظَلِيلاً) أي ليس فيه حرّ ولا برد ، وهو مبالغة حسن الظل كقولهم : ليل
أليل.
[٥٩]
(إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ) أيها الناس (أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) تامة غير ناقصة ، ولعل الارتباط بين هذه الآية وما سبقها
أن أهل الكتاب خالفوا
وَإِذا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
____________________________________
ما أمروا به
وخانوا الأمانة الإلهية كما قال سبحانه : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) في حين أن الله تعالى يأمر بأداء الأمانة المادية ، فكيف
بأعظم الأمانات الروحية؟! كما أنهم حكموا بالجور حين قالوا : إن المشركين أهدى من
الذين آمنوا سبيلا ، بينما يحكم الله تعالى الحكم بالعدل (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) في أمور دينهم أو دنياهم (أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ) فلا تميلوا إلى ناحية دون ناحية لمجرد الهوى أو الرشوة أو
العاطفة أو ما أشبه (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ) أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء الأمانة والحكم
بالعدل وضمير «به» راجع إلى «ما» (إِنَّ اللهَ كانَ
سَمِيعاً) يسمع كلامكم (بَصِيراً) يبصر حركاتكم وأعمالكم ، فإنكم إذا خنتم الأمانة أو حكمتم
بالجور فإنه لا يذهب ذلك على السميع البصير.
[٦٠] وحيث بيّن
سبحانه ما يجب على الحاكم من العدل ، بيّن ما يجب على الأمة تجاه الحاكم العادل من
الطاعة والسمع ، وبيّن الحاكم الذي يحق له أن يحكم ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ) بالائتمار بأوامره والانزجار عن زواجره (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) قد تقدم سابقا أن إطاعة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هي إطاعة الله وإنما يذكران معا تبجيلا للرسول ولإفادة أن
أوامره كأوامر الله سبحانه (وَ) أطيعوا (أُولِي الْأَمْرِ) أي أصحاب
__________________
مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
____________________________________
السلطة الذين
بيدهم الأمر (مِنْكُمْ) وقد عيّن أولو الأمر في غير واحد من الأحاديث أنهم الأئمة
الهداة الاثني عشر عليهمالسلام وهم : علي أمير المؤمنين ، والحسن ، والحسين ، وعلي ،
ومحمد ، وجعفر ، وموسى ، وعلي ، ومحمد ، وعلي ، والحسن ، والمهدي . أما إطاعة العلماء المراجع فهي طاعة لأولي الأمر ، إذ هم
نوّابهم.
أما من زعم أن
المراد بأولي الأمر كل حاكم فهذا يستلزم التناقض ، فكيف يمكن الجمع بين من يبيع
الخمر ، والله سبحانه الذي يحرمها؟ وهكذا ... ولذا اشترطت الشيعة في النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام العصمة ، وفي العلماء العدالة.
(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ) أي حدثت بينكم المنازعة والمخاصمة (فِي شَيْءٍ) من أمور دينكم (فَرُدُّوهُ إِلَى
اللهِ وَالرَّسُولِ) حتى ترون أن القرآن والسنة مع أي جانب. ومن حسن الحظ أنه
ليس هناك شيء تحتاج إليه الأمة في أي دور أن مصير يخلو منه الكتاب والسنة ، إما
بالخصوص أو بالعموم. ومن المعلوم أن «الرد» الرجوع إلى أحاديث أهل البيت عليهمالسلام رجوع إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كما أن الرجوع إلى العلماء النواب لهم ، رجوع إليهم كما قال
عليهالسلام : «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا
فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» .
(إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أما الرجوع إلى غيرهما
__________________
ذلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ
____________________________________
فذلك من مقتضيات
الكفر كما قال سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، (ذلِكَ) الرجوع إلى الله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في صورة التنازع (خَيْرٌ) لكم لأن إرشاداتهما لصلاح دينكم ودنياكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي من جهة الأول والعاقبة ، فإن عاقبة الحق خير من عاقبة
الباطل. والعاقبة تسمّى تأويلا لأنها مآل الأمر ومرجعه ، ويحتمل أن يكون المراد :
أنه أحسن من تأويلكم إياه.
[٦١] ولما بيّن
سبحانه وجوب الرجوع في موارد النزاع إلى حكم الله والرسول أبدى التعجّب من الذين
يدّعون الإيمان ثم يرجعون في قضاياهم إلى أحكام مخالفة لأحكام الله والرسول بقوله
: (أَلَمْ تَرَ) يا رسول الله (إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ليعدّوا أنفسهم في زمرة المسلمين (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) فإنهم يظهرون الإيمان بكل رسل الله وكتبه اتباعا لقوله : (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ..) ، وهذا لتأكيد أنهم في سمات المؤمنين بكل مقوماتها (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا) أي يرفعوا مشاكلهم وقضاياهم المتنازع فيها (إِلَى الطَّاغُوتِ) مبالغة في الطغيان وكل حكم غير
__________________
وَقَدْ
أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً
بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما
أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ
صُدُوداً (٦١)
____________________________________
حكم الله سبحانه ،
فإنه للطاغوت ، لأن حكم الله هو العدل وما سواه زيغ وانحراف وطغيان ، فهم ينتحلون
الإيمان ويسلكون غير طريق الإيمان يريدون بذلك أن يوفروا على شهواتهم فيظهرون
الإيمان ليحقن دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، ويرجعون إلى الطاغوت ليعطي الحكم لهم
حينما علموا أن العدل لا يعطيهم الحكم ـ إذ هم على الباطل ـ (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) كما قال الله سبحانه : (فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا
انْفِصامَ لَها) ، (وَيُرِيدُ
الشَّيْطانُ) بما يزيّن لهم (أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلالاً بَعِيداً) عن الحق فإن مراجعة الطاغوت ضلال وزيغ.
جاء في «مجمع
البيان» : أنه كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي :
أحاكم إلى محمد ، لأنه علم أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يقبل الرشوة ولا يجوز في الحكم ، فقال المنافق : لا ،
بيني وبينك كعب بن الأشرف ، لأنه علم أنه يأخذ الرشوة . فنزلت الآية.
[٦٢]
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا) أي ائتوا للمحاكمة (إِلى ما أَنْزَلَ
اللهُ) من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) ليحكم بيننا (رَأَيْتَ) يا رسول الله (الْمُنافِقِينَ
يَصُدُّونَ) أي يعرضون (عَنْكَ صُدُوداً) أي إعراضا.
__________________
فَكَيْفَ
إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ
فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
____________________________________
[٦٣]
(فَكَيْفَ) يكون حال هؤلاء المنافقين (إِذا) اضطروا للرجوع إليك ، وكيف لا يخجلون في مراجعتك لتخليصهم
من مصائبهم ، بعد ما أعرضوا عنك في منازعاتهم؟! فيما إذا (أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) أي بسبب أعمالهم ، فإن الأعمال السيئة قد تورث المصائب
والنكبات (ثُمَّ جاؤُكَ) يا رسول الله يريدون منك إسعافهم في مصيبتهم معتذرين عن
مراجعتهم إلى الطاغوت من قبل (يَحْلِفُونَ بِاللهِ
إِنْ أَرَدْنا) أي ما أردنا في مراجعتنا إلى الطاغوت (إِلَّا إِحْساناً) إليك حتى لا نزاحمك ونأخذ من وقتك (وَتَوْفِيقاً) بين أمورنا ، ولم يكن لنا غرض في الإعراض عنك.
[٦٤]
(أُولئِكَ) المنافقون (الَّذِينَ يَعْلَمُ
اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) وإن قصدهم لم يكن الإحسان والتوفيق وإنما الإعراض عنك لأنك
تحكم بالحق ولا تقبل الرشوة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تظهر لهم القبول حتى يتمادوا في غيهم ويظنون أنهم
تمكنوا من إغوائك (وَعِظْهُمْ) بأن تبين لهم خطأ طريقتهم (وَقُلْ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ) أي قل لهم قولا يبلغ قرارة نفوسهم ، فإن من الأقوال ما
يقال ولا ينفذ إلى القلب لعدم وجود حرارة وحماس في القول ليعيه القلب ، ومن
الأقوال ما يقال وينفذ في النفس فكأن النفس محل إيداع القول (قَوْلاً بَلِيغاً) يبلغ نفوسهم.
وَما
أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤)
____________________________________
[٦٥]
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) فليس الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لمجرد الوعظ حتى يراجعه الناس مهما شاءوا ويراجعوا غيره
إذا لم يشاءوا مراجعته ، بل إن الرسول أرسل لإطاعة الناس له في جميع شؤونهم فهو
المأذون من قبل الله سبحانه في أن يطاع ، أي ليس لأحد أن يطيع أحدا جبرا إلا إذا
كانت السلطة ناشئة من قبل الله وإذنه ، وإلا فأية سيطرة لأحد على أحد ، مع العلم
أن الأشياء كلها ملك الله سبحانه.
ثم إن الله سبحانه
لا يقطع صلته بهؤلاء المنافقين بل يفتح لهم مجال الرجوع والإنابة (وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي هؤلاء المنافقون والعصاة (إِذْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) بالنفاق والمعصية ، فإن العصيان يعود ضرره إلى العاصي (جاؤُكَ) تائبين معتذرين (فَاسْتَغْفَرُوا
اللهَ) أي طلبوا غفرانه وعفوه (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ) بأن وجدهم أهلا لطلب المغفرة من الله لهم (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً) أي كثير التوبة. وقد تقدم أن معنى كون الله توابا : أنه
كثير الرجوع على عبده العاصي كلما تاب العبد ورجع (رَحِيماً) يرحمهم ويغفر ذنوبهم.
[٦٦] وهنا يتردد
سؤال هو أنه : كيف يقال عن هؤلاء أنهم «يزعمون أنهم آمنوا بك»؟ أليس إيمانهم
حقيقيا ، فإنهم آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر والتزموا بشرائع الإسلام من صلاة
وزكاة وصيام؟ والجواب :
فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)
____________________________________
(فَلا وَرَبِّكَ) أي ليسوا بمؤمنين ـ قسما بربك ـ يا رسول الله (لا يُؤْمِنُونَ) إيمانا مرضيا أمر به الله ورتب عليه الجنة والثواب (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي يجعلوك حاكما (فِيما شَجَرَ
بَيْنَهُمْ) أي فيما وقع بينهم من الخصومة (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً) أي لا يجدوا في قلوبهم صعوبة من قضائك ، كما هو شأن
المغلوبين في القضاء حيث لا يتقبلون الحكم بسهولة بل يظنون أن الحاكم بخسهم حقهم (مِمَّا قَضَيْتَ) وحكمت (وَيُسَلِّمُوا) أي ينقادوا لقضائك وحكمك (تَسْلِيماً) مطلقا بلا صعوبة ولا حرج يجدونه في نفوسهم.
فعن الإمام الصادق
عليهالسلام أنه قال : «لو أن قوما عبدوا الله وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة وصاموا شهر رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله : ألا صنع خلاف
ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم ، لكانوا مشركين ، ثم تلا هذه الآية» .
وفي بعض التفاسير
: إن الآية نزلت في الزبير وابن أبي بلتعة حيث تنازعا فحكم الرسول للزبير فخرجا
وقال ابن أبي بلتعة متهما الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنه قضى لابن عمته ، وعيّرهم بذلك يهودي فقال : كيف
تعتقدون أنه رسول الله ثم تتهمونه في قضاء قضاه ؟
__________________
وَلَوْ
أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما
يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦)
وَإِذاً
لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا
____________________________________
[٦٧] كيف أنهم
يجدون حرجا من قضاء قضاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والحال أنه يجب
إطاعة الرسول في كل شيء حتى لو أمر بأن يقتلوا أنفسهم ، كما أمر موسى قومه : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) فتابوا وفعلوا ما أمرهم به (وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنا) أي أوجبنا (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الذين يجدون حرجا في أنفسهم مما قضيت (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بأن يقتل بعضكم بعضا أو يقتل الشخص نفسه (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) بأن تهجروا مساكنكم إلى بلاد الغربة ، كما خرج قوم موسى
إلى التيه من منازلهم التي كانت في مصر (ما فَعَلُوهُ إِلَّا
قَلِيلٌ مِنْهُمْ) لما في ذلك من إهلاك النفس والمشقة (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما
يُوعَظُونَ بِهِ) من عدم الحرج في قضاء رسول الله واتباع أوامره وأحكامه (لَكانَ) فعلهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) في دنياهم وآخرتهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) فإن الإنسان كلما أطاع ثبّت دينه وقوّى ملكة عقيدته ، فإن
العقيدة بتكرار التعقّل وتكرار التذكّر والاستسلام تقوى وتشد ، فما أمروا به ليس
فيه جهد قتل النفس وإخراجها من الديار ، ومع ذلك فهو خير لهم وتثبيت لعقيدتهم
المؤدية لكل سعادة.
[٦٨]
(وَإِذاً) أي إذا فعلوا ما يوعظون به (لَآتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم (مِنْ لَدُنَّا) أي لدن أنفسنا. وهذه الكلمة تفيد تأكيد الوعد ، إذ أن الله
تعالى
__________________
أَجْراً
عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ
____________________________________
ليس عاجزا لا
يتمكن من إنجاز وعده ولا بخيلا أو مخلفا لوعده حتى لا يفي بما قال (أَجْراً عَظِيماً) أي كبيرا. وفي الأحاديث : إن نعيم الجنة بنحو «لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» .
[٦٩]
(وَلَهَدَيْناهُمْ
صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ثبّتناهم ، وقد تقدم في سورة الحمد (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أن المعنى «ثبتنا» ـ بالتقريب الذي سبق ـ أو المراد
هدايتهم صراط يوم القيامة الذي هو جسر على جهنم.
[٧٠] ثم ينتهي
السياق إلى القاعدة العامة التي توجب خير الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) باتباع أوامرهما ونواهيهما بصورة عامة (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِمْ) في الدنيا في المكانة الرفيعة في القلوب والذكر الرفيع
والنصرة ، كما قال سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ) الصديق هو الملازم للصدق في أقواله وأعماله ، أو هو
المداوم على التصديق بما يوجبه الحق (وَالشُّهَداءِ) الذين استشهدوا في سبيل الله ، ويسمى الشهيد شهيدا لشهادة
الملائكة والناس له بأنه من أهل الجنة (وَالصَّالِحِينَ) الفاعلين للصلاح الملازمين له (وَحَسُنَ أُولئِكَ)
__________________
رَفِيقاً
(٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى
بِاللهِ عَلِيماً (٧٠) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ
____________________________________
الأشخاص (رَفِيقاً) أي مرافقين لمن يطع الله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[٧١]
(ذلِكَ) التوفيق للإطاعة المعقب لكون رفقاء الإنسان النبيين وسائر
من ذكر (الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) أي تفضّل منه سبحانه لمن اهتدى بمثل هذه الهداية (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) أي يكفي الله سبحانه عالما بما يفعله الإنسان من خير وشر ،
فإنه إذا علم شيئا رتّب عليه الأثر.
[٧٢] وإذا انتهى
الكلام حول الإطاعة المطلقة لله والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يلتفت السياق إلى حكم شاق من أحكام الإسلام هو القتال
لتدريب المؤمنين على هذا العمل الجهادي العظيم ، وتقرير الواجب عليهم فقال سبحانه
: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا) ـ ذكرنا سابقا أن أحكام الإسلام عامة لكل شخص ، وتخصيص
المؤمنين بالخطاب لأنهم المستفيدون من ذلك ـ (خُذُوا حِذْرَكُمْ) يقال : خذ حذرك ، أي احذر وتأهب لملاقاة الأمر بالمكروه ،
أو المراد بالحذر : الأسلحة ـ مجازا ـ لأنه آلة الحذر فيكون من باب المجاز (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) أي أخرجوا إلى الجهاد. و «ثبات» جمع مفرده «ثبة» الجماعة
في فرقة ، أي ليكن خروجكم فرقة بعد فرقة ، كما تخرج السرايا سرية إلى هنا وسرية
إلى هناك ، أو جماعة إثر جماعة (أَوِ انْفِرُوا) واخرجوا (جَمِيعاً) في عسكر واحد.
[٧٣]
(وَإِنَّ مِنْكُمْ) أيها المسلمون (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي يتأخر عن الخروج استثقالا من الجهاد ، وإرادة للفرار ،
كما كان ذلك حال المنافقين فإنهم
فَإِنْ
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ
مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ
فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ
مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ
____________________________________
كانوا لا يريدون
الجهاد ، ولذا كانوا يستثقلونه رجاء الفرار (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ) من هزيمة أو قتل لبعض أفرادكم (قالَ) ذلك المنافق المبطئ وهو مسرور جذلا : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ
أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي شاهدا حاضرا في القتال ، حتى يصيبني ما أصابهم ، وهذا دائما
عادة المنافقين في كل حركة ، أنهم يبطّئون حتى يذهب الناس ، ويترقبون الأنباء حتى
إذا وجدوا في الذاهبين كسرا سرّوا بأنهم كانوا بعداء عن المعركة.
[٧٤]
(وَلَئِنْ أَصابَكُمْ) في جهادكم (فَضْلٌ مِنَ اللهِ) بالفتح والغنيمة (لَيَقُولَنَ) ذلك المبطئ متحسّرا ـ (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جملة معترضة ليست مقولة للقول ، وإنما هي حكاية حال
المنافق الذي لا يريد إلا النفع والمادة ، ولا يخلص للدين والدعوة ـ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) حاضرا في الجهاد ، لأنال مالا وفخرا (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) فإنه يتمنى الحضور لا لنصرتكم بل لأن يفوز هو بشرف الجهاد
وغنيمة الفاتحين.
[٧٥] لما تقدم ذكر
المنافقين الذين يبطّئون عن القتال ، بيّن سبحانه ما هو واجب المسلم بالنسبة إلى
هذا الأمر المهم فقال : (فَلْيُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل أمره وإعلاء كلمته (الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَياةَ
الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ
يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤)
وَما
لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ
وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ
الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ
____________________________________
الْحَياةَ
الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ)
أي يبيعون الحياة
القريبة الفانية بالحياة الآخرة الباقية ، فإن من أقدم على الحرب ، كان كمن باع
نفسه وكل ما يملك لأجل الآخرة (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) بأن تكون مقاتلته لأجل إعلاء أمر الله وتنفيذ حكمه (فَيُقْتَلْ) يستشهد (أَوْ يَغْلِبْ) يظفر على الأعداء (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً) فهو بين إحدى الحسنيين ، الاستشهاد والجنة ، أو الغلبة
والفتح.
[٧٦]
(وَما لَكُمْ) أيها المسلمون (لا تُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته وتطبيق حكمه في البلاد (وَ) في سبيل نصرة (الْمُسْتَضْعَفِينَ) بإنقاذهم من براثن الحكّام الجائرين والسادة الظالمين (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ) الذين بقوا محصورين في أيدي الجائرين ، فإنه يحق للمسلم أن
يقاتل لأجل أحد هذين الأمرين ، ولا يحق له أن يقاتل لأجل نشر السيطرة والاستثمار
والسيادة ـ كما هي العادة عند غير المسلم من المحاربين ـ و (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا
أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) أي المدينة التي هم فيها مما لا يجدون محيصا عنها ، فلا
يتمكنون من الخروج عنها لضعفهم ومنع الظالمين لهم من الخروج ، ولا لهم حول لدفع
ظلم الظالمين عن أنفسهم (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ) أي من عندك
وَلِيًّا
وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥)
الَّذِينَ
آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ
كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ
____________________________________
(وَلِيًّا) يلي أمورنا ويسير بنا بالعدل والإحسان (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) عندك (نَصِيراً) ينصرنا على الظالمين.
[٧٧] ثم شجع
سبحانه المجاهدين بأنهم أقوى من أعدائهم فإن (الَّذِينَ آمَنُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ولمرضاته وإعلاء كلمته (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) الذي هو طاغ متجاوز للحد ، فإن الذين كفروا لا يريدون
بقتالهم إلا الظلم والطغيان وإبقاء الأنظمة الفاسدة والعادات والتقاليد الزائفة (فَقاتِلُوا) أيها المؤمنون (أَوْلِياءَ
الشَّيْطانِ) وأحبّاءه الذين يتولّونه (إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطانِ) ومكره وحيلته في سبيل إبقاء أمره وتقوية جيشه (كانَ ضَعِيفاً) فيغلبه نصر الله وولاية للمؤمنين. ولا مجال لأن يقال :
فكيف نرى غلبة الكفار في كثير من الأحيان؟ فإن الجواب : إن ذلك لعدم توفر شروط
المقاتلة في المؤمنين ، إذ أن الله سبحانه لم يعد النصر مطلقا بل مشروطا بأن
يعدّوا لهم ما استطاعوا من قوة ، وأن يصدقوا في الجهاد والمثابرة إلى غير ذلك ،
نعم مع توفر الشروط لا يفيد الأعداء جمعهم وكثرتهم ، كما دلت التجارب على ذلك
وصدّق الخبر الخبر.
[٧٨] كان المسلمون
وهم بمكة يطلبون من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الإذن لهم في قتال الكفار حينما كانوا يلاقون منهم الأذى
ولما جاء دور القتال في المدينة تولى بعضهم ، كما هو العادة عند الناس غالبا حيث
أنهم يحرّضون الرؤساء على الإقدام فلما أن أقدموا كانوا أول المنهزمين (أَلَمْ تَرَ)
إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
____________________________________
يا رسول الله
استفهام تعجبي (إِلَى) المسلمين (الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ) بمكة ـ والقائل هو الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي أمسكوها واقبضوها عن القتال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) فإنه لا يجب عليكم الجهاد الآن ، وكان النهي عن الجهاد
لقلّتهم وعدم تمكنهم من مقابلة العدو ، وأنهم إن قاتلوا أبيدوا واجتثّت جذور
الإسلام ، بالإضافة إلى إرادة رسوخ الإيمان في قلوبهم ، فإن الإنسان مهما ابتلي
بالمشقات والشدائد يصفو جوهره وتصقل نفسه (فَلَمَّا) أتوا إلى المدينة و (كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتالُ) أي فرض عليهم (إِذا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ) أي من هؤلاء المسلمين الذين كانوا يطلبون الإذن بالقتال (يَخْشَوْنَ النَّاسَ) الكفار أن يقتلوهم إذا بارزوا (كَخَشْيَةِ اللهِ) كما يخافون من الله سبحانه أن يميتهم (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) إذ خوف الإنسان من الموت غالبا أقل من خوفه من القتل ، إذ
القتل يكتنف في الأغلب بالأهوال والمرعبات بخلاف الموت.
(وَقالُوا) أي قال هؤلاء الفريق : (رَبَّنا لِمَ
كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) أي لأي علة فرضت علينا أن نقاتل فعلا؟! (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ
قَرِيبٍ) أي لماذا لم تؤخر الأمر بالقتال إلى زمان آخر قريب ، حتى
نستعد للحرب. فقد ورد في بعض التفاسير : أنه كان بالنسبة إلى «حرب بدر» حيث كان
بعض المسلمين يكرهون ذلك لأنهم لم
قُلْ
مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
____________________________________
يستعدوا ويطلبون
التأخير إلى أجل قريب ليستعدوا.
(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : إن كان خوفكم من الحرب لأجل احتمال
القتل فما فائدة البقاء في الدنيا؟ إذ (مَتاعُ الدُّنْيا) أي ما يستمتع به في الدنيا (قَلِيلٌ) الأمد يفنى بعد مدة (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
لِمَنِ اتَّقى) المعاصي وعمل بالواجبات (وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) أي مقدار فتيل ، وهو ما في شق النواة فإذا قتلتم ، لا تهدر
أتعابكم وأعمالكم.
[٧٩] ثم لماذا
الفرار من القتال ، الخوف الموت؟ فإن الموت لا محالة يدرك الإنسان (أَيْنَما تَكُونُوا) من الأماكن (يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ) أي يلحقكم وينزل بكم (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي
بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) البروج جمع برج ، وهو القصر أو البناء المستحكم الذي يرصد
فيه للأعداء ويشرف منه على القادم والذاهب ، وال «مشيدة» هي التي شيدت وبنيت
بإحكام ، أي أن الموت لا يهاب البروج والقلاع والحصون والمراصد.
ثم وصف سبحانه
حالة هؤلاء الضعاف الإيمان من المسلمين الذين قالوا : (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) فإن دخائل نفوسهم تتلوّن ولا تبقى في جهة واحدة وإيمان
راسخ (وَ) ذلك لأنه (إِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ) من نماء وزرع وبركة وتقدم في الحرب وصحة وما أشبه (يَقُولُوا هذِهِ) الحسنة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فإنه المتفضل المحسن (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ) من غلاء وقحط وتأخر ومرض وما أشبه
يَقُولُوا
هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا
يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨)
ما
أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً
____________________________________
(يَقُولُوا هذِهِ مِنْ
عِنْدِكَ) يا رسول الله ، فإنه أصابنا بسببك ، كما حكى الله سبحانه
عن قدم ذلك ، حيث قال سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) .
(قُلْ) يا رسول الله لهم : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
اللهِ) فهو الذي يجدب وهو الذي يخصب وهو الذي يمرض وهو الذي يشفي
... وهكذا ، فليس مصدر الكوارث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (فَما لِهؤُلاءِ
الْقَوْمِ) أي ما شأن هؤلاء الضعاف الإيمان؟ (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي بعداء عن فهم ما نحدّثهم به من القرآن الحكيم.
[٨٠] وحيث تبين أن
مصدر الخير والشر هو الله سبحانه يبقى السؤال : ما هو سبب الشر؟ ولماذا يبتلي الله
تعالى الإنسان بالشر ، والحال أنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير؟ ويأتي الجواب
: (ما أَصابَكَ) أيها الإنسان (مِنْ حَسَنَةٍ) كالزرع والرّخص والصحة والغنى (فَمِنَ اللهِ) إنه يتفضل عليك بلا سبب ، وإن كان قسم منها أيضا بسبب
الأعمال الصالحة (وَما أَصابَكَ) أيها الإنسان (مِنْ سَيِّئَةٍ) قحط وغلاء ومرض وما أشبه (فَمِنْ نَفْسِكَ) فإن أعمالك الشريرة هي التي سببت ابتلاءك بالسيئات
والمصائب (وَأَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (لِلنَّاسِ رَسُولاً) فمهمتك تخصّ التبليغ ولا يرتبط وجودك بالمصائب والآفات ـ كما
__________________
وَكَفى
بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا
____________________________________
يزعم هؤلاء ـ بل
العكس ، إنك منبع الخير ومبعث الهداية والصلاح (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) أي يكفي كون الله شاهدا على رسالتك وأنك لا ترتبط بالشرور
، لا يقال : كيف يمكن إثبات أن الله يشهد على رسالته صلىاللهعليهوآلهوسلم والحال أن أحدا لم يسمع من الله ذلك؟ الجواب : لأنا نقول :
إن الشهادة التكوينية بإجراء المعجزة على يديه الكريمتين من أكبر أقسام الشهادة.
[٨١]
(مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ) في أوامره وزواجره ، التي منها أمره بالجهاد ـ كما سبق في
بعض الآيات ـ (فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لأن أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هو أمر الله سبحانه (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (وَمَنْ تَوَلَّى) وأعرض عن أوامر الرسول ، فلا يهمك ذلك يا رسول الله ولا
تذهب نفسك عليهم حسرات (فَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحفظهم عن المخالفة والتولي ، كما قال تعالى في آية أخرى :
(فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) .
[٨٢] ثم حكى
سبحانه حال المنافقين الذين تقدم بعض أحوالهم من أنهم يبطّئون عن الجهاد ، ويقولون
: لو لا أخرتنا إلى أجل قريب ، وما أصابتهم من سيئة يطيروا بالرسول (وَيَقُولُونَ) هؤلاء : أمرك (طاعَةٌ) إنا مستعدون لتنفيذه ومستسلمون له (فَإِذا بَرَزُوا) أي خرجوا (مِنْ
__________________
عِنْدِكَ
بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما
يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)
____________________________________
عِنْدِكَ
بَيَّتَ) أي قدّر ليلا (طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) أي من هؤلاء المنافقين (غَيْرَ الَّذِي
تَقُولُ) فيتشاورون بينهم بالليل ليخالفوك وينقضوا أمرك (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي ما يتواطئون عليه ليلا ، من نقض أمرك ، فيجازيهم على
المخالفة والعصيان (فَأَعْرِضْ) يا رسول الله (عَنْهُمْ) فلا تؤاخذهم بأعمالهم حتى تنشق صفوف المسلمين ، فإنهم إن
ظهرت خباياهم شقوا الصفوف وخالفوا (وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللهِ) فهو الذي ينصرك ويعينك في جهادك الأعداء (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فمن وكل إليه سبحانه أمره أنجزه أحسن إنجاز وأكمله أحسن
إكمال.
[٨٣] فهل يظن
هؤلاء العصاة الذين يخالفون الرسول ويبيتون غير ما يقول ، أن الرسول يأمر وينهى عن
نفسه ، دون أن يكون كلامه من الوحي ، وأن القرآن من كلامه لا من كلام الله سبحانه
، ولذا يسهل مخالفته؟ فإن كان هذا ظنهم فهو خطأ محض ، إذ القرآن الذي يقرأه الرسول
إنما هو من عند الله ، لا من كلام الرسول (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) تدبرا عميقا حتى يعرفوا أنه فوق كلام البشر ولا يمكن للبشر
أن يأتوا بمثله (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) حتى لو كان من عند الرسول ـ على عظمته ـ (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) لأن البشر مهما أوتوا من الموهبة لا بد وأن تختلف
تعبيراتهم وتتفاوت أفكارهم حسب الأزمان
وَإِذا
جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ
إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
____________________________________
والظروف ، فعدم
الاختلاف في القرآن من جهة من الجهات ، أدل دليل على أنه ليس من كلام البشر وإنما
هو من عند إله حكيم.
[٨٤] ويعود السياق
إلى حالة هؤلاء المنافقين الذين تقدمت بعض صفاتهم ، فقال سبحانه : (وَإِذا جاءَهُمْ) أي جاء هؤلاء (أَمْرٌ) أي شيء (مِنَ الْأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ) من ظهور المؤمنين على عددهم الموجب للأمن ، أو انهزام
المسلمين الموجب للخوف ، ونحو ذلك من كل شيء يوجب أمنا أو خوفا (أَذاعُوا بِهِ) أي أفشوه في الأوساط ، فقد كانت الأخبار المختلفة تذاع
وتنشر في المدينة لغرض الدعاية للمسلمين أو عليهم ، فكان هؤلاء الضعاف الإيمان
يتلقفونها فورا ويأخذون في إشاعتها ، من دون نظر إلى عاقبة الأمر ، وإلى أن الخبر
هل هو صحيح أو لا. ومن الأمور الضرورية بالنسبة إلى الحركات أن تكون أخبارها طي
الدرس عند القادة ، ليروا هل من الصلاح إشاعتها أم لا إذ كثيرا ما يكون الخبر
مكذوبا وكثيرا ما تكون إشاعة خبر الأمن ، ضد المصلحة ـ ولو كان صحيحا ـ حينما
يقتضي الحال الحذر والاستعداد ، وكثيرا ما تكون إشاعة خبر الخوف ضد الصلاح ـ ولو
كان صادقا ـ حينما يقتضي الحال الأمن والأمان ، لئلّا يجبن الناس عن الاستعداد
والحركة.
(وَلَوْ رَدُّوهُ) أي أرجعوا ذلك الخبر الذي سمعوه (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ) والمراد به الأئمة عليهمالسلام ، والذين هم معيّنون من قبل الرسول والأئمة ، فإنه لا أولي
أمر إلا هؤلاء كما تقدم ذلك (لَعَلِمَهُ) أي : لعلم ذلك الأمر صدقه وكذبه وكون الصلاح في نشره أو
الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً
(٨٣) فَقاتِلْ
فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى
اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ
____________________________________
كتمانه (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) أي يستخرجونه (مِنْهُمْ) أي من أولي الأمر فلا يبقى الخبر مردّدا بين الصدق والكذب
، ولا بين الصلاح في إشاعته وعدمه ، ولم يكن محل للظنون والأوهام ولم ترج ـ بعد ـ الأكاذيب
لأنها تحت الرقابة. ولم يقل «لعلموه» للإشارة إلى علة علمهم وأنهم بسبب استنباطهم
يعلمونه.
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أيها المسلمون ، حيث يرشدكم إلى مواقع الزلل ومهاوي الخطأ (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) في ما يلقيه عليكم مما يوجب بلبلة صفوفكم وانشطار كلمتكم (إِلَّا قَلِيلاً) من الذين قويت عقولهم فلا يتبعون خطوات الشيطان ، حتى إذا
لم يكن رسول ، كما كان ذلك في زمن الجاهلية حيث أن بعضهم لم يكن يتبع الشيطان بما
أوتي من قوة في العقل وسداد في الرأي فليس المراد ـ لو لا فضل الله إطلاقا ـ بل
المراد الفضل الخاص.
[٨٥] وعند ما بيّن
القرآن سلوك القوم في الجهاد وأن الله هو الذي يتفضل على المؤمنين ، يتوجه السياق
إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلا : (فَقاتِلْ) يا أيها الرسول (فِي سَبِيلِ اللهِ) ولإعلاء كلمته وتنفيذ حكمه (لا تُكَلَّفُ إِلَّا
نَفْسَكَ) فإنك لا تضرّر بفعل المنافقين وإرجافهم وما يبدو منهم ،
فإنك لست مكلفا بأفعالهم وأعمالهم كما أنك لست مسئولا عن المؤمنين إلا بقدر نطاق
التبليغ والإرشاد (وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي حثّهم على القتال (عَسَى اللهُ) أي لعلّ الله (أَنْ يَكُفَ) ويمنع بسبب قتالك (بَأْسَ
الَّذِينَ
كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً
يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)
وَإِذا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
____________________________________
الَّذِينَ
كَفَرُوا)
أي شدة الكفار
وقوتهم بأن يغلّبك عليهم فيعودوا خائبين (وَاللهُ أَشَدُّ
بَأْساً) فأنتم بقوة الله وشدته تتقدمون وهو أشد من الكفار قوة (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي أشد من حيث العقوبة والنكال.
[٨٦] وحيث تقدم أن
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يكلّف إلا نفسه ، استدرك الأمر بأن ليس المراد بذلك أن
الإنسان الوسيط لا يكون له شيء بالنسبة إلى ما توسط فيه بل (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) أي يكون قد شفع صاحبه في الأمور الخيرية ، وذلك إما
بالتوسط ، أو بالتحريض أو بالإرشاد (يَكُنْ لَهُ) أي للشفيع (نَصِيبٌ) وحصة (مِنْها) أي من تلك الحسنة فإن الدال على الخير كفاعله (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) بأن توسط في الأمر السيئ أو حرّض أو دلّ على ذلك (يَكُنْ لَهُ) أي للشفيع (كِفْلٌ) أي نصيب (مِنْها) لأنه قد تعاون على الإثم والعدوان (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي مقتدرا فهو القادر في أن يعطي الشفيع نصيبا من الحسنة
أو كفلا من السيئة. أو معنى المقيت : المجازي ، أي يجازي على الأمرين.
[٨٧] وقد ناسب
الكلام الذي هو حول القتال والجهاد ، الكلام حول السلام والكف عن القتال ، لتقابل
الضدين بين الأمر ، ويأتي الجو عاما لا يخص سلام الحرب ، بل السلام المطلق ، فقال
سبحانه : (وَإِذا حُيِّيتُمْ) أيها المسلمون (بِتَحِيَّةٍ) والتحية : السلام ، يقال : «حيّ
فَحَيُّوا
بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)
اللهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧)
____________________________________
يحيي» إذا سلم (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) أي من تلك التحية. والآية عامة تشمل كل تحية. قال في «المجمع»
: «فلما أمر سبحانه بقتال المشركين عقبه بأن قال : من مال إلى السلم وأعطى ذاك من
نفسه وحيّ المؤمنين بتحية فاقبلوا منه» . (أَوْ رُدُّوها) بمقدارها فإذا قال أحد لك : «السلام عليكم» فالرد الأحسن
أن تقول : «السلام عليكم ورحمة الله» والرد المساوي أن تقول : «السلام عليكم» (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَسِيباً) أي حفيظا محاسبا ، فيحسب ردّكم إن كان بالأحسن أو بالمساوي
ليجازيكم عليه.
[٨٨]
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) فهو المالك المطلق ذو الصفات الكمالية (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ببعثكم بعد الممات ويحشرنكم (إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ) أي إلى موقف الحساب ليجازيكم بأعمالكم فما عملتم في دنياكم
من حرب وسلم أو غيرهما لا بد وأن تجازوا عليه هناك (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس محلا للريب وإن ارتاب فيه المبطلون ، أو أنه بالنظر
إلى الواقع ليس فيه ريب وشك ، فهو أمر واقع لا محالة منه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) فحديثه صادق لا خلف فيه ، وليأتينكم يوم القيامة وتجازون
بما عملتم في الدنيا.
[٨٩] ثم يرتد
السياق إلى الجهاد وما يتخلله من الاختلاف والانشقاق ويذكّر
__________________
فَما
لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ
أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلاً (٨٨)
____________________________________
الله سبحانه
المؤمنين بأنه لا ينبغي لهم أن يختلفوا في جهاد الكفار والمنافقين لأعذار واهية ،
فقال سبحانه : (فَما لَكُمْ) أيها المسلمون صرتم (فِي الْمُنافِقِينَ) أمر المنافقين (فِئَتَيْنِ) فئة تؤيد محاربتهم لأنهم كفار واقعا ، وفئة لا تؤيد لأنهم
أظهروا الإسلام في يوم ما (وَ) الحال أن (اللهُ أَرْكَسَهُمْ) أي ردّهم إلى حكم الكفر (بِما كَسَبُوا) أي بسبب كسبهم للنفاق والشقاق (أَتُرِيدُونَ) أي هل تريدون أيها المسلمون (أَنْ تَهْدُوا مَنْ
أَضَلَّ اللهُ)؟ أي : أتطمعون في هداية هؤلاء المرتدين ، وقد أضلهم الله؟
وقد تقدم أن معنى إضلال الله تركهم وضلالهم ، بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) فيتركه على كفره وضلاله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلاً) لإنقاذه ، وكيف يمكن إنقاذه وهو معاند يتعامى عن الحق
عمدا.
وقد روي عن الإمام
الباقر عليهالسلام : «أن هذه الآية نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا
للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة ، لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ، ثم
سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة ، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال
بعضهم : لا نفعل فإنهم مؤمنون ، وقال آخرون : إنهم مشركون. فأنزل الله فيهم هذه
الآية» .
__________________
وَدُّوا
لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
____________________________________
وهذا الأمر عام دائما في كثير من
الحركات فإن قسما من الذين يؤمنون لا بد وأن ينقلبوا ثم يختلف فيهم الباقون ، هل
أنهم خارجون حقيقة أم لا ، والآية تبين وجوب وحدة الصف أمام هؤلاء بعد ما ظهر منهم
الارتداد. ثم لا يخفى أن تعبير الآية بالمنافقين لا يدل على أنهم لم يكفروا إذ
النفاق أعم من الكفر ، ومن المحتمل أن الآية تريد بيان وجوب وحدة الصف أمام
المنافقين ، حتى يكون التجنب عنهم عاما وليقروا بالعزلة ، وهذا أقرب إلى ظاهر
الآية بمناسبة ما سبق من أحكام المنافقين كما أن صريح الرواية وظاهر الآية اللاحقة
(وَدُّوا
لَوْ
تَكْفُرُونَ)
يدل على المعنى الأول ، وأنه أريد بالنفاق الكفر.
[٩٠]
(وَدُّوا) أي أحبّ هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا عن الإسلام وأظهروا
الشرك (لَوْ تَكْفُرُونَ) أنتم أيها المسلمون (كَما كَفَرُوا) هم (فَتَكُونُونَ سَواءً) في الكفر ومثل هؤلاء لا ينبغي أن ينقسم المسلمون بالنسبة
إليهم قسمين (فَلا تَتَّخِذُوا) أيها المسلمون (مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) أحبّاء وأخلاء ، فإن المسلم لا يصادق الكافر كما قال
سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ) (حَتَّى يُهاجِرُوا) من دار الكفر إلى دار السلام (فِي سَبِيلِ اللهِ) وذلك يلازم الإيمان ، إذ الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن الإيمان الملازم للهجرة (فَخُذُوهُمْ
__________________
وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ
صُدُورُهُمْ
____________________________________
وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي أينما أصبتموهم من حلّ أو حرم ، ولا إشكال في محاربة
الجاني في الحرم ، أو المراد أينما كانوا من الأرض (وَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ وَلِيًّا) أي صديقا خليلا (وَلا نَصِيراً) أي ناصرا ينصركم على أعدائكم ، فإن الكافر لا ينصر المسلم
ولو نصره في الظاهر فإنه لا يؤمن شره.
[٩١] ثم استثنى
سبحانه عن وجوب مقاتلة هؤلاء من كان داخلا في حلف قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة
، فإن دخوله في ذلك الحلف يحقن دمه ، ومن لا يريد محاربة المسلمين وإنما يريد
معاهدتهم ، فقال سبحانه ـ مستثنيا من قوله «فخذوهم ..» ـ : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ) أي لهم مواصلة وأحلاف مع قوم (بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ) أي بين أولئك القوم (مِيثاقٌ). وفي الحديث : «أن هلال بن عويمر السلمي واثق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يتعرض هو لأحد أتاه من المسلمين ، ولا يتعرض الرسول
لمن أتى هلال بن عويمر. فأنزل الله هذه الآية ناهيا أن يمس من يأتي هلال من الكفار
بسوء» .
(أَوْ) الذين (جاؤُكُمْ) أي أتوا إليكم أيها المسلمون (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي ضاقت صدورهم ـ والسبب أن من يهمه أمر تنتفخ رئته لتجلب
أكبر قدر من الهواء ، ليرفّه على القلب الذي حمي بواسطة
__________________
أَنْ
يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
____________________________________
غليان الدم ،
فيضيق الصدر لتوسع الرئة ـ (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ
أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي تضيق صدورهم من قتالكم وقتال قومهم فلا يكونون لكم ولا
عليكم.
وفي «المجمع» ،
قال : «إنما عنى به بني أشجع ، فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن
دخيلة فأخرج إليهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أحمال التمر ضيافة ، وقال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة
وقال لهم : ما جاء بكم؟ قالوا : لقرب ديارنا منك ، وكرهنا حربك وحرب قومنا ـ يعنون
بني حمزة الذين بينهم وبينهم عهد ـ لقلّتنا فيهم ، فجئنا لنوادعك ، فقبل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك منهم ووادعهم فرجعوا إلى بلادهم» .
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَسَلَّطَهُمْ) أي سلط هؤلاء الكفار (عَلَيْكُمْ) بأن لم يلق في قلوبهم رعبكم أيها المسلمون حتى يخافوكم
فيسالموكم ، فقد كان هذا من فضل الله سبحانه أن يجعلكم محل هيبة ومنعة ، مع أن
عددكم وعددكم لا يقتضيان ذلك ، ولو لم يلطف بكم (فَلَقاتَلُوكُمْ) لكن حيث أنعم الله عليكم بذلك فلا تمدوا إليهم يد المحاربة
(فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ) هؤلاء الذين ذكروا وهم (الَّذِينَ يَصِلُونَ
إِلى قَوْمٍ ..) أو (جاؤُكُمْ حَصِرَتْ
صُدُورُهُمْ ..) (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ) أيها المسلمون (السَّلَمَ) يعني صالحوكم واستسلموا لكم
__________________
فَما
جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
(٩٠) سَتَجِدُونَ
آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا
إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا
____________________________________
فَما
جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) فلا تباح دماؤهم ، ولا أموالهم ، ولا أعراضهم.
وما في بعض
التفاسير من أن الآية منسوخة ، لم يظهر وجهه ، إذ الجملة الأولى لا تقبل النسخ فإن
المعاهدات تبقى إلى أمدها ، والجملة الثانية في مورد خاص ، ومثله لا يقبل النسخ.
[٩٢]
(سَتَجِدُونَ) أيها المسلمون جماعة (آخَرِينَ) ممن يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) أي يأمنوا من طرفكم (وَيَأْمَنُوا
قَوْمَهُمْ) أي يأمنوا من طرف قومهم الكافرين ، وهؤلاء (كُلَّما) أتوكم أظهروا الإسلام وإذا (رُدُّوا إِلَى
الْفِتْنَةِ) بأن رجعوا إلى قومهم ودعوهم إلى الكفر ـ وهو المراد
بالفتنة هنا ـ (أُرْكِسُوا فِيها) أي وقعوا فيها وارتدوا عن إسلامهم والإسلام لا يعترف بهكذا
أناس ، فإن مثلهم خطرون على سلامة المسلمين فلا بد وأن يحدد هؤلاء موقفهم ، إما أن
يعلنوا سلمهم العام واعتزالهم ـ حياديا ـ عن المشاركة في التحركات ضد المسلمين ،
ولا يشتركوا في حرب عليهم ، فهم في أمان من جانب الدولة الإسلامية ، وإما أن
يحاربهم المسلمون كسائر الكفار ، لا فضل لهم ولا حرمة (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ) أي لم يعتزل هؤلاء الكفار عن المؤمنين (وَ) لم (يُلْقُوا إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ) بأن يسالموكم ويصالحوكم (وَ) لم (يَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
وَما
كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً
____________________________________
أَيْدِيَهُمْ)
بأن لا يشاركوا في
حرب وتحرك ضدكم (فَخُذُوهُمْ) أي فأسروهم ، ولا تراعوا نفاقهم في إظهارهم الإسلام إذا
جاءوكم (وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي أينما وجدتموهم (وَأُولئِكُمْ) أي هؤلاء المذبذبون (جَعَلْنا لَكُمْ) أيها المسلمون (عَلَيْهِمْ سُلْطاناً
مُبِيناً) أي برهانا واضحا ، فإنه لا وسط بين الحرب والحياد ، فإن
أخذوا جانب الحياد فهو ، وإلا فالحرب حالهم حال سائر الكفار.
ومن المحتمل أن لا
يكون المراد من «يأمنوكم» إظهارهم الإسلام ، بل إظهارهم الموادعة والمسالمة ، وسوق
الآية إلى آخرها ـ على هذا المعنى واضح ـ وهذا هو الذي يؤيده
ما في بعض
التفاسير من : «أن الآية نزلت في عيينة بن حصين الفزاري ، أجدبت بلادهم فجاء إلى
رسول الله ووادعه على أن يقيم ببطن نخل ولا يتعرّض له ، وكان منافقا ملعونا ، وهو
الذي سماه رسول الله الأحمق المطاع». وعلى هذا يكون الفرق بينه وبين ما تقدم في
قوله سبحانه : (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ
أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أن الأولين جاءوا بحسن نية وصدق طوية ، بخلاف هؤلاء حيث
جاءوا نفاقا ومكرا ، فقبل من أولئك دون هؤلاء. [٩٣] هذا ما كان حول معارك المسلمين
مع غيرهم ، وحكم إراقة الدماء بالنسبة إلى الطرفين. أما المسلمون بعضهم مع بعض فلا
يحق لأحد أن يريق قطرة من دم أحد (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً)
وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
____________________________________
الاستثناء منقطع ،
أي لا يجوز لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا أن يخطأ في قتله ، كما لو أراد قتل حيوان
فأخطأ وأصاب الرمي مؤمنا ، أو نحو ذلك (وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً) فعليه أن يكفّر عن خطأ ب (تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) أي أن يعتق إنسانا عبدا مؤمنا ، ويقال للعبد : رقبة ،
بعلاقة الجزء والكل ، من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، كما يقال
للجاسوس : عين. (وَ) عليه (دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ) الدية من «ودى يدي» ، أي أعطى المال المقابل للدم ، ويجب
أن تكون «مسلمة» أي يسلمها إلى أهل المقتول كاملة غير منقوصة ، والمراد بكون الدية
عليه ، وجوب الدية في الجملة ، لا أنها عليه بالذات ، فإنها في الخطأ على «العاقلة»
وهذه الدية تقسم بين أولياء المقتول (إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا) أي يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل فلم يأخذوها
منه ، ولا يخفى أن أصل «يصدقوا» يتصدقوا ، فأدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما على
ما هو المعروف في باب التفعّل.
(فَإِنْ كانَ) المقتول (مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ) أي كان من طائفة هم أعداء للمسلمين ، بأن كانوا كفارا
محاربين (وَهُوَ) أي القتيل (مُؤْمِنٌ) وكان قتله له خطأ ـ كما يقتضيه العطف على الجملة الأولى ـ فعلى
قاتله كفارة هي (تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) أما الدية فلا تجب إذ ليس للمقتول أهل مسلمون. ومن المعلوم
أن الحربي لا يرث المسلم
وَإِنْ
كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى
أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها
____________________________________
(وَإِنْ كانَ) المقتول كافرا ليس بمسلم ولكنه كان (مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثاقٌ) ومعاهدة وقتله المسلم خطأ فعلى القاتل (دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) أي أهل المقتول (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) وذلك لأنه لا يجوز قتل المعاهد كما لا يجوز قتل المؤمن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) العبد ولا ثمنه فعليه صيام (شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ) أي متواليين فلا يصح التفريق في أيام الشهرين ، لكن إذا
صام شهرا ويوما كفاه في التتابع ، وجاز أن يصوم البقية بعد زمان غير متصل بالأول (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) أي شرع ذلك في القتل لأجل التوبة والرجوع من الله سبحانه
على العبد القاتل ، والقاتل وإن كان مخطئا مما يوجب عدم الذنب عليه ، إلا أن بعده
الطبيعي بسبب هذا العمل القبيح يعدّ ذنبا ، فإن بعض الأعمال لها آثار وضعية ، كمن
شرب الخمر جهلا ، فإنه يسكر وتصيبه الأمراض الملازمة للخمر (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) يعلم مصالحكم (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى.
[٩٤] قد تقدم حكم
القتل الخطأ (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) ظاهر الآية أن القتل وقع عمدا مقابل قتل الخطأ (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) أبد
وَغَضِبَ
اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ
____________________________________
الآبدين ، إلا أن
تدركه شفاعة أو عفو ، وهذا الاستثناء بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِ) والمراد في مثل هذه الصفات نتائجها ، وإلا فالله سبحانه
ليس محلّا للحوادث (وَلَعَنَهُ) أي طرده عن رحمته (وَأَعَدَّ لَهُ
عَذاباً عَظِيماً) وفي آية أخرى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) .
[٩٥] ثم أشار
القرآن الحكيم إلى بعض الاحتياطات اللازمة على المجاهدين ، لئلّا يقتلوا مسلما خطأ
، وذلك إثر وقوع حادثة وهي أن أسامة بن زيد وأصحابه بعثهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في سرية فلقوا رجلا قد انحاز بغنم له إلى الجبل وكان قد
أسلم فقال لهم : السلام عليكم ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فبدر إليه أسامة
فقتله واستاقوا غنمه ، فلما رجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبره بذلك ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أفلا شققت الغطاء عن قلبه ، لا ما قال بلسانه قبلت ولا
ما في نفسه علمت» ، ونزلت الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي خرجتم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، فإن الضرب
بمعنى السفر ، لأن المسافر يضرب برجله الأرض (فَتَبَيَّنُوا) أي ميزوا بين الكافر والمؤمن ليكون أمركم واضحا مبينا ولا
تفعلوا شيئا بدون التثبّت والتبيّن والتأني (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ
__________________
السَّلامَ
لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ
كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا
إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
____________________________________
السَّلامَ)
أي حياكم بتحية
الإسلام وأظهر لكم أنه مسلم واعتزلكم فلم يقاتلكم : (لَسْتَ مُؤْمِناً) حقيقة وإنما إيمانك صرف لقلقة لسان خوفا من القتل (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي هل تطلبون الغنيمة والمال ، حيث تنكرون إسلام من ألقى
إليكم السلام؟ فيكون الكلام على الاستفهام التوبيخي ، أي لماذا تقتلون مظهر
الإسلام لغنيمته الزائلة التي هي عرض الحياة الدنيا؟ أو أن الاستفهام ليس توبيخيا
بل على ظاهره ، أي إن كنتم تطلبون المال (فَعِنْدَ اللهِ
مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) جمع «مغنم» وهي الغنيمة في الدنيا بما ستحوزونه من الكفار
، وفي الآخرة ، وفسرت الغنيمة لغة بأنها الفائدة (كَذلِكَ) الذي ألقى إليكم السلام (كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) فإنكم كنتم كفارا كما كان هو كذلك (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بأن هداكم إلى الإيمان ، فكما لم يصح لأحد أن يقول : إن
إيمانكم عن خوف ، كذلك لم يصح لكم أن تقولوا : إن إيمان من ألقى إليكم السلام عن
خوف ، وإذا علمتم خطإكم في هذه المرة (فَتَبَيَّنُوا) من بعد. وقد كرّر اللفظ تأكيدا ، ولكي يقع الكلام موقع
القبول بعد قيام الحجة ، فكان «تبينوا» في الأول مجرد أمر و «تبينوا» هنا بعد
الدليل والبرهان على لزوم التبيّن عقلا (إِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فهو يعلم أعمالكم وبواعثها ، فراقبوا الله في كل عمل
تقومون به.
[٩٦] ثم يأتي
السياق ليبين فضل المجاهدين تحريضا على الجهاد وتحفيزا
لا
يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنى
____________________________________
للقاعدين على
النهوض (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين يقعدون في محلّهم ولا ينهضون لمقاتلة الأعداء (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) يعني القاعدين الذين ليس بهم ضرر يمنعهم عن الجهاد كالأعمى
والأعرج ونحوهما ، أما من بهم ضرر فهم معذورون ليس عليهم حرج. ولعل المفهوم من
الآية أن من به ضرر ، وكان مستعدا نفسيا أن يجاهد لو لا الضرر ، كان له أجر
المجاهدين حسب الحديث المأثور : «نية المؤمن خير من عمله» .
وعليه فإن هؤلاء
القاعدون لا يستوون (وَالْمُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) بأن أنفقوا أموالهم للجهاد وقدموا أنفسهم للقاء الكفار في
سبيل إعلاء كلمة الإسلام. وسمي الجهاد جهادا لما يستلزمه من الجهد والمشقة ، فإن
في بذل المال والنفس أعظم المشقات (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) إذ المجاهد يفضل على القاعد بالجهاد ، ولكن لكلّ منهما فضل
الإيمان والصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) أي المجاهد والقاعد ، فإن الجهاد فرض كفاية ، فإذا قام به
البعض سقط عن الآخرين ، ولذا فكلاهما موعود بالصفة الحسنى من الخير والسعادة وإن
كان المجاهد أفضل.
__________________
وَفَضَّلَ
اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥)
دَرَجاتٍ
مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً
____________________________________
وفي تفسير «الأصفى» ورد : «لقد خلفتم في
المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، وهم الذين صحت
نياتهم ونضجت جيوبهم وهوت أفئدتهم إلى الجهاد ، وقد منعهم من المسير ضرر أو غير
ضرر». أقول : كان هذا في غزوة تبوك.
(وَفَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)
فقد ورد : «إن فوق
كل برّ برّ إلا الجهاد في سبيل الله»
، كما ورد : «إن
الأجر على قدر المشقة» ، وورد : «ما أعمال البر كلها ... إلا كنفثة في بحر لجي» وكان قوله «أجرا عظيما» لدفع وهم ربما يتوهم من قوله «درجة»
فيقال : أنه لا فرق بين المجاهد والقاعد إلا درجة ، فيقال في الجواب : أنه لا
أهمية للدرجة في مقابل تعب الجهاد ومشقته فقد جعل الله له أجرا عظيما.
[٩٧] ثم بيّن
سبحانه الأجر العظيم بقوله : ذلك الأجر هو (دَرَجاتٍ مِنْهُ) أي من قبل الله سبحانه ، وهذا تعظيم للأمر ، فإن الدرجة لو
كانت من غيره لكانت هينة ، إذ الدنيا عرض زائل أما التي منه سبحانه فإنها شيء عظيم
باق. وفي الحديث : «إن الله فضل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة ، بين كل
درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر».
(وَمَغْفِرَةً) أي غفرانا لذنوب المجاهد (وَرَحْمَةً) أي يرحم الله
__________________
وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ
واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها
____________________________________
المجاهد بإعطائه
النعم الكثيرة (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) فيغفر للمجاهد ذنوبه السابقة ويرحمه برحمته الواسعة. قال
البعض : إن المراد بالدرجة الأولى علو المنزلة ، كما يقال : فلان أعلى درجة عند
الخليفة من فلان ، وأراد بالثانية الدرجات في الجنة التي بها يتفاضل المؤمنون.
[٩٨] ثم يأتي
السياق إلى طائفة أخرى من القاعدين الذين لم يعدهم الله الحسنى ، بل وعدهم العذاب
لأنهم هم السبب في ظلم الكفار لهم وسلبهم حقوقهم (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي تقبض الملائكة أرواحهم ، فإن لملك الموت أعوانا ، كما
ورد في السنة ، ودلت عليه هذه الآية (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي في حال كونهم ظالمين لأنفسهم ، لأنهم بقوا في دار
الهوان حيث يسومهم الكفار العذاب ويمنعوهم من الإيمان بالله والرسول ، وقد كان
بإمكان هؤلاء أن يهاجروا إلى دار الإيمان ويؤمنوا. ولعل الآية أعم منهم ومن
المؤمنين الذين بقوا في دار الكفر ولا يتمكنون من إظهار واجبات الإسلام والعمل بما
أوجبه الله سبحانه (قالُوا) أي قالت الملائكة لهم عند قبض أرواحهم : (فِيمَ كُنْتُمْ) أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم ، وهو استفهام تقريري
توبيخي (قالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) يستضعفنا أهل الشرك في بلادنا فلا يتركوننا لأن نؤمن ، أو
لا يتركوننا نعمل بالإسلام (قالُوا) أي قالت الملائكة لهم : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) حتى تخرجوا من سلطة الكفار ، وتتمكنوا من العمل بالإسلام
فَأُولئِكَ
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧)
إِلاَّ
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى
اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩)
____________________________________
وبشرائعه. (فَأُولئِكَ) الذين سبق وصفهم (مَأْواهُمْ) مرجعهم ومحلهم (جَهَنَّمُ وَساءَتْ
مَصِيراً) أي أنها مصير سيئ لعذابها وأهوالها.
[٩٩] ثم استثنى
سبحانه من هؤلاء من لا يتمكن من المهاجرة فإنه ليس مكلفا ، وإنما أمره إلى الله
تعالى (إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ) الذين استضعفهم الكفار في بلادهم (مِنَ الرِّجالِ) العجزة (وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ) وهاتان الطائفتان في طبيعتهم العجز عن الفرار والهجرة (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) أي علاجا لأمرهم وفكّا لأنفسهم من سلطة المشركين (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) للفرار والهجرة.
[١٠٠]
(فَأُولئِكَ) العاجزون من المستضعفين (عَسَى اللهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُمْ) أي لعلّ الله سبحانه يغفر لهم ذنبهم ، ودخول «عسى» في مثل
هذه الآية للدلالة على كون الأمر بيد الله سبحانه ، وأنه كان قادرا أن يأمرهم بما
يحرجهم من وجوب خروجهم وإظهار دينهم ، وإن بلغ بهم الأمر ما بلغ ، ولا يقال : إن
كان المراد بالمستضعفين الكفار فكيف يعفى عن الكفر؟ لأن الدليل العقلي والنقلي قد
دلّ على امتحان الضعفاء والعجزة والبله ومن إليهم في الآخرة ، وذلك بخلاف الكافر
المعاند الذي مصيره النار حتما (وَكانَ اللهُ
عَفُوًّا) يعفو عمن يشاء (غَفُوراً) يغفر
وَمَنْ
يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ
يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً
رَحِيماً (١٠٠)
____________________________________
الذنوب. ولعلّ
الفرق بين العفو والغفران : أن العفو غفران بلا ستر ، والغفران عفو مع الستر ، فإن
عدم العقاب لا يلازم الستر.
[١٠١] وقد يمنع عن
الهجرة خوف أن لا يجد الإنسان في محلّه الجديد ما يلائم مسكنه ومكسبه ، ولكنه ليس
إلا توهما ، فإن الأرض واسعة والكسب ممكن في كل مكان (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) لأمره سبحانه ومن أجله (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُراغَماً كَثِيراً) «المراغم» مصدر
بمعنى «المتحوّل» وأصله من الرغام وهو التراب (وَسَعَةً) أي في الكسب وسائر شؤون الحياة (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهاجِراً) يهجر وطنه ومحله ، وينقطع عنه (إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) والهجرة إلى الله بمعنى : إلى محل أمره ، والهجرة إلى
الرسول إما حقيقية كما في زمان حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإما مجازية كما إذا هاجر إلى بلاد الإسلام حسب أمر
الرسول (ثُمَّ يُدْرِكْهُ
الْمَوْتُ) أي يموت في طريقه (فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) لأنه خرج في سبيله وحسب أمره فأجره وثوابه عليه سبحانه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يغفر ذنوب المهاجر (رَحِيماً) يرحمه بإعطائه الثواب.
وفي الحديث : «من
فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض ، استوجب الجنة ، وكان رفيق
إبراهيم ومحمد عليهماالسلام» .
وقد ورد في بعض
التفاسير : أن السبب في نزول هذه الآية أنه لما
__________________
وَإِذا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ
الصَّلاةِ
____________________________________
نزلت آيات الهجرة
سمعها رجل من المسلمين كان بمكة يسمى «جندب بن حمزة» فقال : والله ما أنا مما
استثنى الله إني لأجد قوة ، وإني لعالم بالطريق ، وكان مريضا شديد المرض فقال
لبنيه : والله لا أبيت بمكة حتى أخرج منها ، فإني أخاف أن أموت فيها ، فخرجوا
يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات ، فنزلت الآية .
[١٠٢] ولما أمر
سبحانه بالجهاد والهجرة ، بيّن كيفية الصلاة في السفر والخوف إشفاقا على الأمة
ورحمة بهم وتفضلا عليهم ، والآية وإن كانت ظاهرة في الخوف فقط لأنه سبحانه قال : «إن
خفتم» لكن القيد على الغالب في ذلك الزمان عند نزول الآية ، وإنما الاعتبار بالضرب
في الأرض ، وقد ، كثر في القرآن الحكيم «القيد الغالبي» كقوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ) مع أن كونهن «في حجوركم» ليس بشرط ، وكقوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى
الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) وغيرهما.
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ) أي سافرتم أيها المسلمون (فِي الْأَرْضِ) ومن المعلوم أن السفر مشروط بأمور أخرى مذكورة في الكتب
الفقهية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ليس لفظ «ليس عليكم جناح» للإباحة كما هو الظاهر منه ، بل
في مقام دفع توهم «الحضر» ، كقوله : (فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فقد كان التمام واجبا ، وفي السفر ، حيث يتوهم بقاؤه على
الوجوب ،
__________________
إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)
____________________________________
نفى سبحانه وجوبه
وأجاز القصر ، وذلك لا ينافي وجوب القصر ، على ما دل الدليل عليه ، والمراد بالقصر
تنصيف الرباعية بأن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين ، فإذا تشهد التشهد الوسط
سلم ولم يقم للركعتين الباقيتين ، أما الصبح والمغرب فتبقيان على ما كانتا عليه (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي خفتم فتنة الذين كفروا ، والفتنة : العذاب والقتل وما
أشبه ، فإنهم إذا أرادوا الصلاة أربعا ، طال الأمد عليهم وأمكن أن يهجم عليهم
الكفار ويعذبوهم أو يقتلوهم ، فمنّ الله عليهم بالقصر ليقل الأمد ولا يبقى للكفار
ـ في ساحة الحرب ـ مهلة ينتهزونها للهجوم. ولصلاة السفر والخوف والمطاردة تفصيل
مذكور في الكتب الفقهية.
(إِنَّ الْكافِرِينَ
كانُوا) ليس معنى «كان» الماضي ، بل مجرد الربط كما في مثل : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا) وما أشبهها (لَكُمْ) أيها المسلمون (عَدُوًّا مُبِيناً) أي واضحا لظهور عداوتهم للمسلمين ، فإذا لم تقصروا من
الصلاة انتهزوا مدة انشغالكم بها فرصة للعدو أن يفتنكم.
[١٠٣] ثم بيّن
سبحانه صلاة الخوف إذا أرادوا أن يصلوها جماعة فإن المجاهدين ينقسمون إلى طائفتين
، طائفة تقتدي بالإمام ، وطائفة تبقى في الميدان ، فإذا سجد الإمام السجدتين من
الركعة الأولى ، تقوم الطائفة المقتدية للركعة الثانية وتأتي بها فرادى وتتشهد
وتسلم والإمام بعد
__________________
وَإِذا
كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ
وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
____________________________________
لم يركع ، فتذهب
هذه الطائفة إلى الميدان وتأتي الطائفة الثانية وتقتدي بالإمام في الركعة الثانية
، حتى إذا جلس الإمام للتشهد قامت وأتت بالركعة الثانية فرادى ولحقت بالإمام في
التشهد وأتمت الصلاة معه فتطول صلاة الإمام بمقدار صلاتيهما (وَإِذا كُنْتَ) يا رسول الله (فِيهِمْ) فيمن ضرب في الأرض لأجل الجهاد ـ ومن المعلوم أن الحكم لا
يخص الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بل هذا عام لكل إمام في المجاهدين يريدون الصلاة جماعة ـ (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ
طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) يقتدون بك في الصلاة ، وتقوم طائفة ثانية من المجاهدين في
وجه العدو (وَلْيَأْخُذُوا) أي الطائفة الذين يصلون معك (أَسْلِحَتَهُمْ) لئلا يستسهل أمرهم العدو فيهجم عليهم ، ويكونون عزلا فيحرج
موقفهم. وقد استثنى من كراهية حمل السلاح في الصلاة هذا الموضع ، ولم يبين أخذ
الطائفة المقاتلة أسلحتهم لوضوح ذلك. (فَإِذا سَجَدُوا) وقمت أنت للركعة الثانية ، أتموا صلاتهم فرادى وذهبوا مكان
الطائفة المقاتلة ، وهذا هو المراد بقوله سبحانه : (فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرائِكُمْ) وإنما قال بصيغة الجمع ولم يقل : «من ورائك» باعتبار صلاة
الطائفة الثانية مع الإمام ، وهذا لا ينافي قوله بعد ذلك (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) إذ المراد كونهم وراء المصلين باعتبار الأول (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ
يُصَلُّوا) وهم الذين كانوا في الميدان (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) أي
وَدَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ
بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
____________________________________
ليكونوا حذرين
متأهبين للقتال آخذين أسلحتهم ، ولعل إضافة كلمة «حذرهم» هنا بخلاف الجملة الأولى
، أن هجوم العدو على هؤلاء أقرب من هجومهم على الطائفة الأولى ، لأنه بمجرد
الانقسام إلى طائفتين وانسحاب طائفة من الحرب لأجل الصلاة لا يدرك العدو الأمر ،
ولذا لا يأخذ استعداده الكامل للهجوم ـ بظن كون الجميع في حال القتال ـ بخلاف
الأمر إذا طال الأمد وتبين الأمر ، وأن قسما من المسلمين رفعوا أيديهم عن الحرب
لأجل الصلاة. وإنما حكم بانقسام الجيش طائفتين لما بينه سبحانه بقوله : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من المحاربين لكم ، أي تمنوا (لَوْ تَغْفُلُونَ
عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) فلا تحملوها (وَأَمْتِعَتِكُمْ) فتبتعدون عنها (فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) أي يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم متشاغلون بأجمعكم
بالصلاة فيقضون عليكم قضاء مبرما حيث أصابوكم على غرّة بلا سلاح يقيكم ولا متاع
يمدكم ، ولذا فقد أمروا بأن ينقسموا طائفتين حالة الصلاة ويحملوا أسلحتهم وهم في
الصلاة (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) أي لا حرج ولا إيجاب لحمل السلاح (إِنْ كانَ بِكُمْ) أيها المجاهدون الذين تريدون الصلاة جماعة (أَذىً) وصعوبة (مِنْ مَطَرٍ أَوْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) فلا تحملوها في حال الصلاة للاستراحة بقدر الصلاة من ثقل
السلاح ، أما المريض فواضح أذية السلاح له ، وأما المطر فلأن هطوله يثقل على
وَخُذُوا
حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ
____________________________________
الإنسان ، فإذا
اجتمع مع السلاح كان أثقل وأتعب وهكذا بالنسبة إلى حمل الدرع الموحل حال السجود
ونحو ذلك (وَ) لكن إذا وضعتم سلاحكم لجهة الأذى ف (خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي احترسوا عن هجوم الكفار حتى إذا هاجموكم تكونون على
استعداد لا أن تكونوا غافلين (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ) أي هيأ لهم (عَذاباً مُهِيناً) أي يذلهم ، عذابا في الدنيا بأيديكم وفي الآخرة بالنار
والجحيم.
قال في «المجمع» :
وفي الآية دلالة على صدق النبي وصحة نبوته وذلك أنها نزلت والنبي بعسفان والمشركون
بضجنان فتوافقوا فصلى النبي وأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهمّ
المشركون بأن يغيروا عليهم ، فقال بعضهم : إن لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه
يعنون صلاة العصر ، فأنزل الله عليه هذه الآية فصلى بهم العصر صلاة خوف .
[١٠٤]
(فَإِذا قَضَيْتُمُ) أي أديتم أيها المجاهدون (الصَّلاةَ) المأتى بها على
نحو الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ
قِياماً وَقُعُوداً) أي في حال كونكم قائمين وقاعدين ، وهما جمعان ل «قائم
وقاعد» (وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي في حال الاضطجاع (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) وذهب الخوف (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) كاملة بحدودها وشروطها (إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ
__________________
عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي
ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً (١٠٤)
____________________________________
عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً) أي كتبت كتابا ، بمعنى فرضت فريضة (مَوْقُوتاً) أي ذات وقت محدد لأدائها.
[١٠٥] ثم كرر
سبحانه الحث على لزوم الجهاد فقال : (وَلا تَهِنُوا) من «وهن يهن» بمعنى ضعف ، أي لا تضعفوا ولا تكاسلوا (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي طلب الكفار ومحاربتهم (إِنْ تَكُونُوا) أنتم أيها المسلمون (تَأْلَمُونَ) مما ينالكم من الجرح والمشقة في الحرب (فَإِنَّهُمْ) أي القوم الكفار (يَأْلَمُونَ) مما ينالهم من الجرح والمشقة (كَما تَأْلَمُونَ) فكلاكما سواء في التألم (وَتَرْجُونَ) أنتم أيها المؤمنون (مِنَ اللهِ) أي من قبل الله سبحانه الفتح والظفر والثواب (ما لا يَرْجُونَ) هم ، فأنتم أولى وأحرى أن تطلبوهم وتجدّوا في قتالهم من
أولئك ، حيث ليس لهم وعد بالنصر ولا بالثواب (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) بكم فأنتم بعلم الله سبحانه ـ كما تعتقدون ـ وهم وإن كانوا
بعلم الله لكنهم لا يعتقدون بذلك (حَكِيماً) فأوامره ونواهيه عن تدبير وتقدير.
وورد أن المسلمين
قالوا يوم أحد للمشركين : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فقال أبو
سفيان : نحن لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للمسلمين : قولوا الله أعلى وأجل.
وروى القمي : أن
الآية نزلت بعد رجوع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من واقعة أحد ، فإن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لما رجع إلى المدينة نزل جبرائيل عليهالسلام فقال :
إِنَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ
اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥)
وَاسْتَغْفِرِ
اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦)
____________________________________
يا محمد إن الله
يأمرك أن تخرج في أثر القوم ولا يخرج معك إلا من به جراحة ، فأقبلوا يضمدون
جراحاتهم ويداوونها فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح .
[١٠٦] وبعد ذكر
جملة من الأحكام المتعلقة بالحرب والجهاد يرجع السياق إلى ما تقدم من لزوم العدل
في الحكم كما قال : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) فإن الجهاد لم يشرع إلا للعدل ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يبعث إلا لإقامة العدل (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي إنزالا مقارنا بكونه بالحق فإن الإنزال قد يكون بالباطل
إذا كان من غير المستحق ، أو إلى غير المستحق ، وبما هو باطل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ
اللهُ) من الشريعة العادلة (وَلا تَكُنْ) يا رسول الله (لِلْخائِنِينَ
خَصِيماً) أي لأجل الخائنين خصيما على الأبرياء بمعنى لا تأخذ جانب
الخائن على البريء فتعطي الحكم للمجرم.
[١٠٧]
(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أي اطلب غفرانه ، وهذا تنبيه للأمة حيث يريدون القضاء ،
فإن القضاء يحتاج إلى ستر الله سبحانه حتى لا يزل القاضي (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يستر العيوب ويرحم المسترحم.
__________________
وَلا
تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ
كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧)
____________________________________
وقد ورد في سبب
نزول هاتين الآيتين وما بعدهما ما مجملة : أن بني أبيرق المسمون بشيرا ومبشرا
وبشرا وكانوا منافقين نقبوا على عم قتادة بن النعمان فأخرجوا طعاما وسيفا ودرعا ،
فشكا قتادة ذلك إلى مؤمنا فخرج عليهم بالسيف ، وقال : أترمونني بالسرقة وأنتم أولى
بها مني وأنتم المنافقون تهجون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتنسبون الهجاء إلى قريش ، فداروه ، ثم جاء رجل من رهط بني
أبيرق وكان منطقيا بليغا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : إن قتادة عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف وحسب ونسب
فرماهم بالسرقة ، فاغتم رسول الله وعاتب قتادة عتابا شديدا فاغتم قتادة وكان
بدريا. فنزلت الآيات تبرّئ قتادة وتدين بني أبيرق ، فبلغ بشير ما نزل فيه من
القرآن ـ وأنه الخائن ـ فهرب إلى مكة وارتد كافرا .
[١٠٨]
(وَلا تُجادِلْ) يا رسول الله ، وكون النهي للرسول لا ينافي مقام العصمة إذ
النواهي تتوجه إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كما تتوجه إلى سائر المسلمين ، والأوامر تعنيه كما تعني
غيره (عَنِ الَّذِينَ
يَخْتانُونَ) اختان بمعنى خان ، أي لا تخاصم عن طرف الخائنين الذين
يخونون (أَنْفُسَهُمْ) فإن الإنسان إذا صرف نفسه في المعصية فقد خانها ، لأنها
وديعة يجب أن ترد ، وردّها بصرفها في الطاعة شيئا فشيئا حتى ينتهي الأمد ويأتي
الأجل (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً) هو «فعّال» من الخيانة (أَثِيماً) أي
__________________
يَسْتَخْفُونَ
مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ
ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨)
ها
أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
____________________________________
عاصيا ، ومعنى «لا
يحب» يكره ، لأنه لا واسطة ، فالعاصي مكروه والمطيع محبوب.
[١٠٩]
(يَسْتَخْفُونَ) من «استخفى» بمعنى كتم ، أي يكتمون أعمالهم السيئة (مِنَ النَّاسِ) فإن السرّاق في قصة ابن أبيرق كانوا يكتمون عملهم من الناس
خوف الفضيحة (وَلا يَسْتَخْفُونَ
مِنَ اللهِ) أي لا يكتمون عملهم الإجرامي من الله ، ومعنى الاستخفاء من
الله عدم العمل ، لا العمل مكتوما عنه ، إذ لا يخفى عليه سبحانه خافية ، وإنما
جاءت لفظة يستخفون للمقابلة نحو : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (وَهُوَ مَعَهُمْ) أي والحال أن الله تعالى معهم بالإحاطة والعلم فهو يعلم
أقوالهم وأعمالهم (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي يدبرون بالليل (ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ) فإن أبناء أبيرق دبروا بالليل أقوالا وطبخوها ليتظاهروا
بتلك الأقوال عند الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والمسلمين (وَكانَ اللهُ بِما
يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) فهو مطلع على أقوالهم محيط بأعمالهم ، ومعنى الإحاطة :
العلم الشامل بحيث لا يفوته شيء كالمحيط بالشيء الذي لا يخرج منه جانب من جوانب
الشيء المحاط.
[١١٠]
(ها أَنْتُمْ) «ها» للتنبيه هنا
وفي هؤلاء (هؤُلاءِ) أي أنتم الذين دافعتم و (جادَلْتُمْ عَنْهُمْ) أي عن أولئك المجرمين الذين سرقوا
__________________
فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
وَمَنْ
يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ
غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ
____________________________________
(فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) هنا حيث يمكن الإخفاء والمجادلة بما يظن الناس أنه حق وهو
في الواقع باطل (فَمَنْ يُجادِلُ
اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) استفهام إنكاري ، أي ليس هنالك من يجادل عنهم في محضر عدل
الله سبحانه الذي يطلع على السرائر والواقعيات (أَمْ مَنْ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) يتوكل عنهم في إنقاذهم من عملهم الذي صنعوه خفية. والاستفهام
في معنى الإنكار ، أي ليس هناك وكيلا يدافع عنهم ، ولعل الفرق بين «من يجادل» و «من
يكون» أن المجادل لا يلزم أن يكون وكيلا فقد يوكل الإنسان من يدافع عنه ، وقد
يدافع عنه شخص تبرعا.
[١١١] ثم بيّن
سبحانه أن لا يأس من روح الله ، وأن الآثم لا يظن أنه قد انقطعت الصلة ، بل باب
التوبة مفتوح (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً) بإتيان معصية تتعداه إلى غيره كالزنا والسرقة (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بمعصية لا تتعداه ، كشرب الخمر وترك الصلاة. ومن المعلوم
أن كل ظلم للنفس وكل سوء ظلم ، لكن حيث تقابلا في التعبير فرقنا بينهما بما لعله
المستفاد من السياق (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللهَ) يطلب غفرانه بما أمر من التوبة والتدارك ، إن كان للعصيان
له تدارك (يَجِدِ اللهَ
غَفُوراً رَحِيماً) يغفر ذنبه ويتفضل عليه بالرحمة والمنّ.
[١١٢]
(وَ) لا يظن الآثم أنه أضر الغير وربح نفسه ، بل بالعكس فإنه (مَنْ
يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)
____________________________________
يَكْسِبْ
إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) إذ كل خير يفعله الإنسان يعود إلى نفسه ، وكل عصيان يأتي
به يعود إلى نفسه ، و (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) بما يكسبه الإنسان (حَكِيماً) في عقابه وثوابه يضع الأشياء مواضعها ، فلا يظن أحد أنه
يعصي ثم يفرّ من عدل الله ، أو أنه ما الفائدة من الخير الذي لا يعود نفعه إليه؟
إنه سبحانه حكيم ، وقد تقدم أن الحكمة وضع الأشياء مواضعها.
[١١٣]
(وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) لعلّ الفرق بينهما كون الأول لا عن عمد ، والثاني عن عمد ،
وهذا الفرق إنما هو في المقام حيث تقابلا ، وإلا فالخطيئة تطلق على كل إثم. (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) من «رمى يرمي» أي ينسب ذنبه إلى إنسان بريء ، كما سبق في
قصة ابن أبيرق (فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتاناً) أي إثم البهتان ، وهو رمي الناس بالذنب كذبا (وَإِثْماً مُبِيناً) أي معصية واضحة ، فهو يتحمل إثمين إثم العمل وإثم البهتان.
وهذا لا ينافي ما احتملنا في الخطيئة إذ الخطأ ينقلب إثما إذا تمادى الإنسان في
توابعه ، ولم يتداركه.
[١١٤] في بعض
التفاسير : أن وفدا من ثقيف قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقالوا : يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا
بأيدينا ، وعلى أن نمتّع بالعزى سنة. فلم يقبل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم طلبهم ، وإنما قبل منهم
__________________
وَلَوْ
لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
____________________________________
الإسلام بجميع
شرائطه ، فأنزل الله سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بتأييدك من لدنه وتثبيتك على الصحيح الحق (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي قصدت وأضمرت جماعة من هؤلاء ـ والضمير عائد إلى المقدّر
، نحو : (وَلِأَبَوَيْهِ
لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ـ (أَنْ يُضِلُّوكَ) بأن تجيز لهم ما أرادوا. وقيل إن الآية من تتمة قصة ابن
أبيرق وما أراده المزكي من تزكية السرّاق وإلقاء التهمة على البريء.
(وَما يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ وبال كلامهم يعود إلى أنفسهم فهم يزيلون أنفسهم عن الحق
ويهلكونها ، لا أنهم يزيلونك ويهلكونك ، ثم المراد بقوله «لو لا» نفي تأثير ما همّ
به أولئك في الرسول لا نفي همّهم ، فالمراد : أنه لو لا فضل الله لأضلوك ، لا أن
المراد : لو لا فضل الله لهمت طائفة .. (وَما يَضُرُّونَكَ
مِنْ شَيْءٍ) فإنهم لا يضرونك ـ بكيدهم ـ في الدنيا لأن الله ناصرك ،
ولا في الآخرة (وَأَنْزَلَ اللهُ
عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ) أي علم وضع الأشياء مواضعها وتقدير الأشياء بأقدارها ،
فأنت العالم بالأشياء الحكيم في التطبيق ، فكيف يمكن إضلالك ـ كما همّ أولئك ـ فإن
الإضلال يحصل لمن لا يعرف الأشياء أو لا يتمكن من وضع الأشياء مواضعها
__________________
وَعَلَّمَكَ
ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
____________________________________
(وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ) من الأمور الخارجة عن نطاق الكتاب ، فإن الكتاب خاص بعلم
بعض الأشياء ـ حسب الظاهر ـ (وَكانَ فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكَ) يا رسول الله (عَظِيماً) وارتباط الآية بما قبلها على القول الأول ـ أي كونها حول
وفد ثقيف ـ كون القصتين من واد واحد حيث حفظ الله الرسول في قصة السرقة وفي قصة
الوفد حتى لا يقول ولا يعمل إلا بالحق.
[١١٥] وبمناسبة
الحديث عن المؤامرات التي تجري في السر ، ويتناجى في شأنها المبيّتون ، وحيث أن في
مثل هذه القضايا لا بد وأن تكثر النجوى وغالبها حول النقد والرد والطعن ، يذكر
القرآن حكم النجوى ، وأنه (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أي حديث بعضهم مع بعض سرّا وذكر «كثير» إما من باب المورد
، فإنه في مثل الموارد السابقة يكثر النجوى ، وإما أن المراد : الكثير من النجوى
لا خير فيه ، أما القليل الذي لا بد لكل أحد حيث عنده بعض الأسرار التي يجب
الإعلان عنها فلا بأس به ، لكن الظاهر المعنى الأول ، وأن المفهوم المطلق للنجوى
كما قال سبحانه : (إِنَّمَا النَّجْوى
مِنَ الشَّيْطانِ) (إِلَّا مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ) بأي قسم منها من المال على الفقراء ، أو الوقف ، أو
الإحسان (أَوْ) أمر ب (مَعْرُوفٍ) من أبواب البر الذي يعرفه الناس ـ ومنه سمي المعروف معروفا
مقابل المنكر
__________________
أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
____________________________________
الذي هو ما ينكره
الناس ـ (أَوْ) أمر ب (إِصْلاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ) فإن الحاجة غالبا تدعو إلى الإسرار بهذه الأمور لتكمل ولا
يمنع عنها مانع (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) أي النجوى في هذه الأمور ، أو المراد : من فعل أحد هذه
الأمور (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللهِ) أي طلب رضاه سبحانه (فَسَوْفَ) في القيامة (نُؤْتِيهِ) أي نعطيه (أَجْراً عَظِيماً) مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ كما هو
كذلك في كل طاعة ـ.
[١١٦] وحيث تقدم
في القصتين مخالفة الجماعتين للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما أرادوا ، بيّن سبحانه أن عاقبة المخالفة وخيمة (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالفه ، ومعنى المشاقة أي يكون كل واحد في شق غير شق
الآخر (مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ظهر له الحق وأن الرسول لا يقول ولا يعمل إلا بالحق ـ أما
من قبل التبيين فالمشاقّ معذور لعدم تمام الحجة عليه ـ (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي غير طريقهم الذي هو دينهم ، وهذا أعم من الأول ، وإن
كان في مخالفة الدين مشاقة للرسول بالنتيجة (نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى) أي نخلي بينه وبين معتقده وعمله فلا نجبره على الرجوع ،
لأن الدنيا للاختبار والامتحان والجبر ينافي ذلك ، كما قال سبحانه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) من «أصلاه
__________________
وَساءَتْ
مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ
ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦)
إِنْ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً
____________________________________
يصليه» أي أدخله
النار ، أي نتركه في الدنيا على حاله وندخله يوم القيامة النار (وَساءَتْ) جهنم (مَصِيراً) أي محلّا يصير إليه المجرمون.
[١١٧] وبمناسبة
ذكر مشاقة الرسول ، يبيّن سبحانه أنه لا يأس من رحمة الله تعالى ، فمن تاب كان
الله غفورا ، فإذا أخطأ أحد فليرجع إلى الله تعالى ، ليغفر ذنبه ويتوب عليه (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) إذا مات مشركا كما دل الدليل (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ) أي دون الشرك (لِمَنْ يَشاءُ) إن تاب وإن لم يتب فذلك رهن إرادته سبحانه ، والإرادة ليست
اعتباطا ، بل حسب النفسيات والأعمال والقابليات وما أشبه (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي يجعل له شريكا (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيداً) أي عن طريق الحق.
[١١٨] ثم يبيّن
سبحانه وجه ضلال المشركين بصورة فردية قبيحة فقال تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ) أي ما يدعون ويعبدون (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (إِلَّا إِناثاً) جمع أنثى ، فإنهم كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وأساف
ونائلة ، وكان لكل قبيلة صنم تعبده ، وكانوا يسمون الأصنام أنثى فيقولون : أنثى
قريش وأنثى تميم ، وكان الشيطان يكلمهم منها أحيانا ، كما أن قسما منهم كان يعبد
الملائكة ويقول : إنها بنات الله ، كما حكى سبحانه عنهم : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)
__________________
وَإِنْ
يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ
وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ
____________________________________
(وَإِنْ يَدْعُونَ) أي ما يدعون (إِلَّا شَيْطاناً
مَرِيداً) أي ماردا ، فإن «المريد والمارد والمتمرد» بمعنى واحد ،
وهو العاصي العاتي ، وكانت عبادتهم للشيطان عين عبادتهم للأصنام إذ هي من صنع
الشيطان وأمره فلا يستشكل بأنه كيف يجمع بين النفيين؟
[١١٩]
(لَعَنَهُ اللهُ) أي طرد الله الشيطان عن رحمته وقربه ، فهؤلاء يعبدون
ويطيعون المطرود عن رحمة الله (وَقالَ) الشيطان لله سبحانه حين طرده : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ) أي عبيدك (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي معلوما ، والمراد من اتخاذه لهم : إضلالهم وإغوائهم عن
الإيمان والعمل الصالح ، وقد كان الشيطان يعلم ذلك حين قال له سبحانه : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) و (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) .
[١٢٠]
(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن طريق الهداية ، وهذا إما عطف بيان لقوله «اتخذن» أو
المراد من الاتخاذ الاختصاص أي أختص بجملة من عبادك فأضلهم (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) من الأمنية أي أمنينهم طول البقاء في الدنيا وحب الرئاسة
والمال حتى يعصون (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالوسوسة والإلقاء في قلوبهم (فَلَيُبَتِّكُنَّ
آذانَ الْأَنْعامِ) من «بتك يبتك» بمعنى «قطع يقطع» فقد كان المشركون يقطعون
آذان الأنعام علامة على حرمة
__________________
وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ
اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
____________________________________
ركوبها وأكلها
وشرب لبنها ، وكان ذلك حراما إذ هو من المثلة وقد قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور» كما أن تحريمهم كان بدعة وتشريعا محرما (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللهِ) من التغييرات المحرمة كإخصاء العبد وفقء عين الدابة
والتمثيل بالأحياء والأموات وما أشبه ذلك. ويستفاد من الآية أن كل تغيير في الخلق
حرام إلا ما دل عليه الدليل.
وبعد ما ذكر
سبحانه بعض أقسام وساوس الشيطان التي كانت دارجة في ذلك الزمان وإلى زماننا هذا ،
جعل الكل في إطار عام ، وأعطى القاعدة الكلية المنطبقة على كل جزئي بقوله سبحانه :
(وَمَنْ يَتَّخِذِ
الشَّيْطانَ وَلِيًّا) يلي أموره ويطيع أوامره (مِنْ دُونِ اللهِ) قيد توضيحي للتهويل ، لا أنه من الممكن الجمع بين تولي
الشيطان وتولي الله سبحانه (فَقَدْ خَسِرَ
خُسْراناً مُبِيناً) أي خسرانا ظاهرا.
[١٢١]
(يَعِدُهُمْ) أي يعد الشيطان أولياءه النصر والسعادة إن اتبعوه (وَيُمَنِّيهِمْ) بالأماني الكاذبة الباطلة حتى يركنوا إلى الدنيا ويتركوا
الآخرة ويرجّحوا الشهوات على الأعمال الصالحة (وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) فكل وعوده غرور وكذب يغرّ به البسطاء الغافلين.
__________________
أُولئِكَ
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١)
وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً (١٢٢)
____________________________________
[١٢٢]
(أُولئِكَ) الذين اتخذوا الشيطان وليا وناصرا (مَأْواهُمْ) أي مرجعهم ومحلهم (جَهَنَّمُ وَلا
يَجِدُونَ عَنْها) أي عن جهنم ، فإنها «مؤنثة سماعية» (مَحِيصاً) أي مخلصا ومهربا ، من «حاص» بمعنى عدل وانحرف.
[١٢٣] هذا لمن
اتخذ الشيطان وليا ، أما من اتخذ الرحمن وليا (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بما يجب الإيمان به من أصول الدين (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الحسنة (سَنُدْخِلُهُمْ) قيل : إن «السين وسوف» بمعنى واحد ، وقيل : إن السين
للمستقبل القريب ، وتستعمل الكلمتان بالنسبة إلى الجنة باعتبارين : فباعتبار أن كل
آت قريب تستعمل السين ، وباعتبار فصل البرزخ الطويل تستعمل سوف (جَنَّاتٍ) جمع «جنة» وهي البستان ، سمي بها لكونها مستورة بالأشجار
من «جن» بمعنى ستر ، ومنه «الجنّ والجنين والجنّة» (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وقصورها (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) لا انقطاع لها ولا زوال (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا في حال كونه حقا ، أو متصفا بكونه
حقا ، لا خلف فيه ولا كذب (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً) أي من حيث القول ، فهو أصدق القائلين ، خبيرا ومخبرا ،
والاستفهام في معنى النفي ، أي لا أصدق من الله ، والسبب أن
لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ
____________________________________
الإنسان مهما أوتي
من الصدق ، فإنه قد يجهل وقد لا يقدر وقد يشتبه ، والله منزّه عن جميع ذلك.
[١٢٤] ثم يبين
السياق القاعدة الكلية للعمل والجزاء ، بعد ما بيّن ما لمن أشرك وما لمن آمن؟ فقال
سبحانه : (لَيْسَ) أمر الثواب والعقاب والسعادة والخسران (بِأَمانِيِّكُمْ) جمع «أمنية» بمعنى رغبة النفس ، فلا ينال الإنسان خيرا
بالأماني فيما إذا كان عمله خلاف ذلك ، والخطاب للمسلمين (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) في «المجمع» قيل : تفاخر المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل
الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم. فقال
المسلمون : نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب ، وديننا الإسلام. فنزلت
الآية ، فقال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء. فأنزل الله الآية التي بعدها (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ..) ففلح المسلمون .
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) فإن الذي ينفع عند الله هو العمل الصالح ، أما الأنساب
والأحساب وما أشبه فلا تنفع إلا بقدر ما يرجع إلى العمل أيضا كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «المرء يحفظ في ولده» ولذا من عمل عملا سيئا يجز به. وبما ذكرنا تبين أن حفظ نسب
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما يرجع إلى أتعاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام.
(وَلا يَجِدْ) العامل للسوء (لَهُ مِنْ دُونِ
اللهِ) غير الله
__________________
وَلِيًّا
وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤)
وَمَنْ
أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
____________________________________
(وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً) فلا أحد يتولى أمره وينصره.
[١٢٥] ولما كان
الأمر محتملا لأن يشمل أهل الكتاب إذا لم يعملوا سوءا طبقا للمفهوم من الآية
السابقة ، ذكر سبحانه أن من شروط قبول الأعمال الخيرة الإيمان الكامل (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي بعض الصالحات فإن الصالحات كلها لا يمكن أن يؤتى بها (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ولعل التنصيص هنا لإفادة العموم ، ولدفع وهم جري التقاليد
الجاهلية ، التي كانت تقضي بأكل الرجال ثمار الأعمال الطيبة للنساء ، وحرمان
النساء من الحقوق (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ـ بما في الكلمة من معنى ـ لا إيمان ببعض الأصول دون بعض (فَأُولئِكَ) العاملون المؤمنون (يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي قدر نقير ، وهو النكتة الصغيرة المنخفضة في ظهر النواة
التي منها تنبت.
[١٢٦] ثم بيّن
سبحانه فوائد الإيمان ومزاياه وأنه أحسن من جميع الطرق والمذاهب (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) الدين هو الطريقة التي يسلكها الإنسان في حياته لأجل نيل
السعادة ، والاستفهام في معنى الإنكار أي ليس أحد أحسن طريقة (مِمَّنْ أَسْلَمَ) وأخضع (وَجْهَهُ لِلَّهِ) والمراد بالوجه : الذات والنفس ، وإنما ذكر الوجه لأن خضوع
الوجه كاشف عن خضوع الذات ، ومعنى إسلام الوجه الإيمان بالله حيث أنه اعترف
وَهُوَ
مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ
خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
____________________________________
به وخضع له (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي يحسن العمل فيتبع الأوامر والنواهي ، وإنما لم يكن أحد
أحسن دينا من هذا الإنسان لأن الإيمان اعتراف بالحقيقة الكبرى ، والإحسان ، عمل
بما هو الأصلح ، إذ ما يقرره الإله العليم الحكيم أحسن مما يقرّره الإنسان الجاهل
ذو الطيش والسفه (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) أي طريقته (حَنِيفاً) أي في حال كون إبراهيم عليهالسلام مستقيما في الطريق عقيدة وعملا فإيمان وإحسان واتباع طريقة
صحيحة. وقد تكرر في الكتاب والسنة لزوم اتباع إبراهيم عليهالسلام لأن دينه لم يكن يتطرّق إليه التحريف الذي تطرق إلى كتابي
الكليم والمسيح عليهماالسلام بالإضافة إلى أن موسى وعيسى عليهماالسلام كانا بعد إبراهيم عليهالسلام وأنه عليهالسلام بصفته أب المسلمين العرب ، كان ذكره محفّزا لهم على
الإيمان ، إنه طريقة جدهم كما قال سبحانه : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (وَاتَّخَذَ اللهُ
إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) من الخلة ، بمعنى الحب والود لإبراهيم عليهالسلام بإطاعته لله صار خليل الله ، فما يمنع الناس أن يتبعوا
طريقة إبراهيم ، كي ينالوا حب الله ورضاه.
[١٢٧] وأخيرا فمن
الأحسن اتباع طريقة الإله الذي له كل شيء وهو العالم بكل شيء (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) فهو المالك لكل شيء ، وإذا أراد الإنسان اتباع طريقة للنفع
فليتبع طريقة من له كل نفع (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطاً) أي إحاطة علمية لا يعزب عنه شيء ،
__________________
وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ
____________________________________
وإحاطة بالقدرة ،
إذ المحيط بالشيء يقدر عليه.
[١٢٨] قد سبق قوله
سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وقد سبق الكلام في الآيات التالية حول هذا الموضوع مع شيء
من الاستطراد. ثم يأتي السياق ليبين بعض أحكام النساء ، فإنه من الحكم بين الناس
بما أراه الله سبحانه (وَيَسْتَفْتُونَكَ) يا رسول الله (فِي النِّساءِ) أي يسألونك الفتوى ـ وهو تبيين المشكل من الأحكام ـ فقد
سألوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الواجب لهن وعليهن وكيفية معاشرتهن (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي في النساء وإنما نسب الجواب إلى الله سبحانه لتقوية
إفادة أن الحكم لا يصح إلا من الله سبحانه ، فليس لأحد أن يحكم إطلاقا ، وقد سئل
مثل هذه الأسئلة في غير الأحكام فجاء الجواب بدون النسبة إليه تعالى ، نحو : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ
الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ) وهكذا.
(وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) عطف على «الله» أي أن الفتوى في باب النساء تأخذونه من
الله سبحانه بما سيأتي ، وتأخذونه بما تلي عليكم في القرآن سابقا ، فقد سبق في
ابتداء السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ، (وَآتُوا الْيَتامى
__________________
فِي
يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ
____________________________________
أَمْوالَهُمْ
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) والحاصل أن الفتوى ـ أي تبيين مسائل النساء ـ يأتي فيما
يقول الله وفيما سبق. (فِي يَتامَى
النِّساءِ) أي البنات الصغيرات اليتيمات (اللَّاتِي لا
تُؤْتُونَهُنَ) أي لا تعطوهن (ما كُتِبَ لَهُنَ) من الصداق فقد كان أهل الجاهلية لا يعطون اليتيمة صداقها
لتمنع هذه العادة فقوله «في يتامى» متعلق ب «ما يتلى» ، أي تأخذون الفتوى في أمر
النساء من الله ومما تلي عليكم سابقا في باب النساء اليتامى اللاتي تحرمونهن من
مهورهن (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَ) أي تريدون نكاحهن لأكل أموالهن. ثم إن قوله «وما يتلى» بصيغة
المضارع للاستمرار لا الاستقبال. (وَ) ما يتلى عليكم في (الْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدانِ) أي ما تقدم في باب أمر الأيتام ، وهو قوله سبحانه : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فإنه عام يشمل اليتيمات أيضا (وَ) ما يتلى عليكم في (أَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي بالعدل كما تقدم في قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وعلى هذا فقوله «وما يتلى» إلى «بالقسط» جملة واحدة ، عطف
على «الله».
والحاصل أن الله
يفتيكم ، وما تقدم في القرآن من آيات اليتامى
__________________
وَما
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ
يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ
الشُّحَّ
____________________________________
يفتيكم به أيضا ،
ثم جمع سبحانه الكل في إطار عام فقال : (وَما تَفْعَلُوا) أيها المؤمنون (مِنْ خَيْرٍ) عدل وإحسان بالنسبة إلى النساء (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) يعلمه ويجازيكم عليه بحسن الثواب.
[١٢٩] ثم توجه
السياق إلى بعض أحكام النساء إيفاء لقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) وذلك حكم خوف النشوز ، فقد كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع
بن خديج وكانت قد دخلت في السن وكانت عنده امرأة شابة سواها فطلقها تطليقة حتى إذا
أبقى من أجلها يسيرا ، قال إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك. قالت
: بلى راجعني وأصبر على الأثرة فراجعها ، فنزلت (وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها) أي من زوجها (نُشُوزاً) ارتفاعا عليها بأن لا يعاملها معاملة الأزواج ، بل يعاملها
وكأنه أرفع منها (أَوْ إِعْراضاً) أي يعرض عنها إطلاقا ، أو طلاقا ، وقد خافت لظهور أمارات
ذلك (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) أي على الزوجين (أَنْ يُصْلِحا
بَيْنَهُما) الضمير في «يصلحا» راجع إلى الزوجين ، أي يصطلحا فيما
بينهما (صُلْحاً) أي نوع من أنواع الصلح الجائز ، فتتنازل هي عن بعض حقوقها
ليبقى النكاح على حاله ولا تحصل الفرقة ، أو نحوها (وَالصُّلْحُ) بينهما ببقاء عقد الزواج والألفة (خَيْرٌ) من الافتراق والشقاق (وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَ) الشح البخل وعدم التنازل عن الحقوق ، أي أن الأنفس يخالطها
الشح ، فلا هي ترغب أن تتنازل عن بعض حقوقها لتبقى
وَإِنْ
تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ
تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا
كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ
____________________________________
الألفة ، ولا
الزوج مستعد لأن يعاشرها معاشرة صالحة لئلّا ينتهي الأمر إلى الطلاق (وَإِنْ تُحْسِنُوا) يحسن أحد الزوجين إلى الآخر (وَتَتَّقُوا) فلا تفعلوا ما يوجب سخط الله ، فإن الغالب أن يرتكب أحد
الطرفين الحرام ، فيما إذا حدث بينهما صدام (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم عليه. ولا مفهوم للآية بأنه «إن لم تحسنوا فلا
يعلم الله» كما هو واضح ، بل الشرط أتي به للتحريض والترغيب.
[١٣٠] ثم ذكر
سبحانه حكم تعدّد الأزواج ، وأنه لا يمكن التسوية بينهن في الحب والود ، فإذا كان
الميل القلبي يميل كليّا إلى جهة ، فاللازم حفظ العدالة بين الزوجات ، لئلّا يبقى
بعضهن كالمعلقة (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) أيها الرجال أبدا (أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ) عدالة في المودة والحب ، فإنه ليس بأيديكم ، ولا بد أن
تكون بعض النساء أقرب إلى قلوبكم من بعض (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) في العدالة القلبية (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ
الْمَيْلِ) إلى جانب امرأة من زوجاتكم المتعددات (فَتَذَرُوها) أي المرأة التي لا تميلون إليها (كَالْمُعَلَّقَةِ) التي علقت فلا هي مستريحة بالزوج ولا هي مستريحة بعدم
الزوج ، فتكون في عذاب وشقاء ، وإذا لم يكن باستطاعتكم العدالة فباستطاعتكم عدم
الميل الكلي.
وقد روي عن الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه كان يقسم بين نسائه ويقول :
وَإِنْ
تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)
وَإِنْ
يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ
____________________________________
«اللهم هذه قسمتي
فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» .
وقد ورد أنه سئل
الصادق عليهالسلام عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَواحِدَةً) فقال أما قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا) فإنه عني في النفقة ، وأما قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) فإنه عني في المودة ، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين
امرأتين في المودة .
(وَإِنْ تُصْلِحُوا) بالتسوية في القسمة والنفقة الواجبتين (وَتَتَّقُوا) باجتناب المحرمات ، وذلك بترك الميل الكلي الذي نهى الله
عنه (فَإِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً) يغفر ما صدر منكم من الذنوب (رَحِيماً) يرحمكم بلطفه ويسبغ عليكم فضله.
[١٣١]
(وَإِنْ يَتَفَرَّقا) فيما إذا لم يصطلح الزوجان ، بل طالبت هذه بكل حقوقها
وأراد الرجل الميل ، فخيّرها بين الطلاق والتنازل عن بعض حقوقها ، فاختارت الطلاق
، فتفرقا ووقع الافتراق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) من الزوجين (مِنْ سَعَتِهِ) أي سعة فضله ورحمته ، فليس بابه مرتجا في وجه أي من
الطرفين ، بل الرجل يستغني عن هذه المرأة بامرأة أخرى وعيشة أخرى ، والمرأة تستغني
عن هذا الرجل برجل آخر وسعادة هنيئة. وفي هذه الجملة لفتة مشرقة لجبر انكسار قلبي
الطرفين ، إذ من المعلوم أن كلّا منهما ينكسر قلبه حين الافتراق ، ولو كان هو
السبب
__________________
وَكانَ
اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١)
وَلِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
____________________________________
في الفراق (وَكانَ اللهُ واسِعاً) في فضله (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى ويفعل ويريد ، ونسبة السعة إليه يراد به
السعة في فضله «مجازا».
[١٣٢] ثم ذكر
سبحانه أنه يملك كل شيء فهو يقدر على إغناء الزوجين من فضله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) قد تقدم أن المراد ب «ما في» الأعم من الظرف والمظروف (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم (مِنْ قَبْلِكُمْ) إشارة إلى كون الوصية لم تزل من القديم (وَإِيَّاكُمْ) أي وصيناكم أيها المسلمون (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه ، فاعملوا بالأوامر والنواهي (وَإِنْ تَكْفُرُوا) كفرا في العقيدة بإنكار الأصول ، أو كفرا في الفروع
بالعصيان (فَإِنَّ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يضره كفركم ولا ينفعه إيمانكم وعملكم (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) لا يحتاج إلى إيمانكم ولا إلى أعمالكم وإنما أنتم تحتاجون
إلى ذلك (حَمِيداً) أي مستوجبا عليكم الحمد له لصنائعه الحميدة.
[١٣٣] ثم يؤكّد
غناه سبحانه وأن له كل شيء بقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ليس شيء لغيره ، فإذا قطع عنكم رحمته لا تحصلون
وَكَفى
بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ
قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا
فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً
(١٣٤)
____________________________________
على ما تريدون من
غيره (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) أي أنه أحسن وكيل وأكفى وكيل ، فلا يحتاج الإنسان إلى وكيل
آخر إذا وكله سبحانه في أمره. وقد قيل في وجه التكرار في الآيتين ثلاث مرات أن
الأولى : لإيجاب طاعته ، حيث له كل شيء والمالك تجب طاعته على المملوك ، والثانية
: لأن الخلق محتاجون إليه وهو الحميد المطلق ، فن ذلك لا يكون إلا لمن له كل شيء ،
والثالثة : لبيان أنه يكفي توكيله مطلقا ، فإن ذلك لا يكون إلا لمن يملك كل شيء.
[١٣٤]
(إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) إنه في غنى عنكم ، وقدرته تعمّكم فناء وإيجادا ، فإن أراد
أذهبكم وأفناكم وأهلككم (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أناسا آخرين يوجدهم من العدم (وَكانَ اللهُ عَلى
ذلِكَ قَدِيراً) يقدر على إنفاذه.
[١٣٥] ولقد كان
المنافقون يتبعون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للغنيمة وللتحفظ على دنياهم ، وحيث تقدم أن لله ما في
السماوات والأرض ، ذكّرهم بأن الإطاعة توجب خير الدنيا والآخرة ، فلم لا يسلكون
أنفسهم في سلكها (مَنْ كانَ يُرِيدُ
ثَوابَ الدُّنْيا) أي منافعها ، فإن الثواب من «ثاب» بمعنى رجع ، لأن الثواب
جزاء العمل الصادر من الإنسان ، يرجع إليه (فَعِنْدَ اللهِ
ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إذ يملك الجميع وبيده أزمة الكل ، فلم لا يطيعون حتى
ينالوا الأمرين (وَكانَ اللهُ
سَمِيعاً) لأقوالهم (بَصِيراً) بأعمالهم.
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ
وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ
غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما
____________________________________
[١٣٦] ولما ذكر
سبحانه أن عنده ثواب الدنيا والآخرة ، عقّبه بالأمر بالعدل وعدم الجور كي ينالوا
الثوابين ، وقد سبق الأمر بالعدل في قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) قد تقدم أن الخطاب إنما خصص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون
السامعون ، وإلا فالأوامر والنواهي عامة للجميع (كُونُوا قَوَّامِينَ) جمع «قوّام» وهو كثير القيام (بِالْقِسْطِ) هو العدل ، أي كونوا دائمين في القيام بالعدل ، بأن تكون
عادتكم على ذلك قولا وعملا ، ولعلّ في ذلك إشارة تنبيه إلى ما اعتاده الناس من
أنهم لا بد وأن يزيغوا عن العدل إذا تمادت بهم الأزمان ، ولذا نرى من الحكام من
يتنزّه عن الجور في أول أمره ثم إذا امتد به الزمان زاغ وانحرف (شُهَداءَ) جمع شهيد (لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ) أي اشهدوا بالحق ـ لأجل أمر الله ورضاه ـ ولو كانت الشهادة
في ضرركم ونفع الغير (أَوِ) على (الْوالِدَيْنِ) أي في ضررهما لنفع الغير ، إذا كان الحق مع الغير (وَ) على (الْأَقْرَبِينَ) أي من يتقرب إليكم بنسب ، فلا تميلوا عن الحق لنزوات
أنفسكم ، أو ملاحظة مصلحة الوالدين ، أو رعاية الأقربين (إِنْ يَكُنْ) المشهود له أو المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً) فلا تشهدوا للغني أو للفقير باطلا ، مراعاة لغناه أو شفقة
عليه لفقره (فَاللهُ أَوْلى
بِهِما) إنه
__________________
فَلا
تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ
اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى
رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي
____________________________________
سبحانه أولى
بالغني والفقير وأنظر لحالهما من سائر الناس ، ومع ذلك فقد أمركم بالشهادة على
الحق فلا بد من ملاحظة أمره ، لا مراعاة الغني لغناه والفقير شفقة عليه (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) أي هوى النفس في الحكم الجائر (أَنْ تَعْدِلُوا) أي لأن تعدلوا ، قالوا : وذلك كقولهم : «لا تتبع هواك
لترضي ربك» ، أو المعنى : «لا تتبعوا الهوى في أن تعدلوا من الحق» (وَإِنْ تَلْوُوا) من «لوى يلوي» ، بمعنى الانحراف ، أي أن تنحرفوا أيها
المؤمنون ـ في حال الحكم ـ عن الحق (أَوْ تُعْرِضُوا) عن الحق إطلاقا. ولعل الفرق أن «اللّيّ» الانحراف اليسير ،
و «الإعراض» الانحراف مطلقا (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيعلم الانحراف والإعراض ويجازيكم عليهما ، كما يعلم
إقامتكم للحق.
[١٣٧] ثم أنه
سبحانه بعد أن ذكر لزوم القيام بالقسط ، بيّن لزوم الإيمان الحقيقي عن قلب وعقيدة
، ولا يكون ذلك القيام بالقسط إلا إذا توفر في الإنسان ذلك الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في الظاهر ، فإن الخطاب موجّه إلى كل من أظهر شهادة أن لا
إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ومن المعلوم أن كثيرا منهم كانوا مؤمنين
لفظا فقط (آمَنُوا) إيمانا راسخا وعقيدة في الجوارح والجوانح (بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَ) آمنوا ب (الْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) وهو القرآن الكريم (وَالْكِتابِ الَّذِي
أَنْزَلَ
مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
____________________________________
أَنْزَلَ
مِنْ قَبْلُ)
أي جنس الكتاب ،
فإن من شرائط الإيمان ، الإيمان بكتب الله جميعا (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ) بأن يجحدهم أو يعاديهم أو ينزلهم عن المنزلة اللائقة بهم (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) وإن كان بجحد أحد من الرسل أو أحد من الكتب (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بأن جحد أو شك في الميعاد (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيداً) عن الحق كمن يضل الطريق ويبعد عنه كثيرا ، وذلك في قبال من
يعمل محرما أو ما أشبه ، فإنه قد ضل ضلالا ، لكن لا بذلك البعد.
[١٣٨] وبعد ما ذكر
سبحانه لزوم الإيمان واقعا ، بيّن حالة أولئك الذين لا يؤمنون إلا إيمانا سطحيا ،
ولذا يميلون مع كل جانب قوي ، فإذا قوى الإسلام آمنوا وإذا ضعف كفروا ، وهكذا
يراوحون بين الإيمان والكفر حتى يموتون وهم كفار لتغلّب الطبيعة الكافرة فيهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) إما كفر باللفظ أو بالقلب ، فإن كثيرا من الأشخاص الذين
يقدمون على الإيمان يقدمون عليه سطحيا ، وبمجرد هبوب ريح الكفر يكفرون قلبا ، وإن
بقوا في الظاهر مؤمنين (ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا) وهذا من باب المثال ، وإلا فليس للتكرار أربع مرات مزية لا
توجد في المرتين ، أو في الست ، أو ما أشبه (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) بأن تطبّعت قلوبهم بالكفر فلم يؤمنوا (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) لأنهم بقوا كافرين
وَلا
لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ
بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨)
الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ
____________________________________
و (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ
سَبِيلاً) أي طريقا إلى الجنة والخلاص ، كما قال سبحانه : (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا
طَرِيقَ جَهَنَّمَ) ويحتمل أن يكون المعنى : «أنه يخذلهم في الدنيا ولا يلطف
بهم عقوبة لهم على كفرهم ، فلا يهتدون إلى الحق بعد ما تكرر منهم الإيمان والكفر».
[١٣٩]
(بَشِّرِ) يا رسول الله (الْمُنافِقِينَ) الذين هم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ـ خلافا لما تقدم
من قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) والبشارة هنا مجاز للاستهزاء ، كما يقال للزنجي : كافور (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) يؤلمهم جسديا ونفسيا. ولعلّ هذه الآية تدل على كون الآية
المتقدمة في شأن المنافقين ، وأن المراد بالكفر ، الكفر القلبي الذي كانوا يراوحون
فيه بين الإذعان والكفر ، مع التحفظ على ظاهرهم في الإيمان.
[١٤٠] وبمناسبة
النفاق ، ذكر الله سبحانه أظهر ميزات المنافق ، فقال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ
أَوْلِياءَ) وأحباء من صميم القلب (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي لا يتخذون المؤمنين أولياء ، بل يعاملونهم معاملة
ظاهرية فقط لتأمين حياتهم ، وإنما قلوبهم مع الكفار وميلهم إليهم (أَيَبْتَغُونَ) أي هل يطلبون (عِنْدَهُمُ) أي عند الكفار (الْعِزَّةَ)
__________________
فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ
____________________________________
الدنيوية ، فإن
الغالب أن المنافق إنما ينافق تحفظا على دنياه ، أي على عزته المزعومة التي يجدها
في ضلال الكفر وبمؤاخاة وصداقة الكافرين (فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) إذ بيده الدنيا بجميع ما فيها ، فلو آمنوا حقيقة لكان لهم
من العزة ما ليس للمنافقين ، لأن دنياهم بالإضافة إلى عزتهم الظاهرية حاصلة عند
المؤمنين ، فإن المنافق منبوذ لا عزة له بين المؤمنين.
[١٤١] ثم ذكر
سبحانه خصلة أخرى للمنافقين ، فقد كانوا يجالسون أهل الكتاب ، فيسخر أولئك من
القرآن والرسول ، والمنافقون ساكتون حيث يوافقونهم قلبا ، بخلاف المؤمنين الذين لم
يكن أهل الكتاب يجرءون لمثل ذلك أمامهم ، وهذه صفة المؤمن والمنافق في كل زمان (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ) أي في القرآن في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بمعنى أنه إذا خاضوا في غيره حال مجالستهم (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) أيها المسلمون (آياتِ اللهِ يُكْفَرُ
بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) والفرق بينهما واضح فإن الكفر بها إنكارها ، والاستهزاء
بها السخر والاستهانة بها (فَلا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ) بل قوموا واذهبوا (حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الخوض في الحديث
__________________
إِنَّكُمْ
إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ
فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ
____________________________________
الدخول فيه كالخوض
في الماء ، و «حتى» للغاية ، وهي غير داخلة في المعنى ، يعني يجوز لكم مجالستهم
إذا خاضوا في حديث غير الكفر بالآيات والاستهزاء بها (إِنَّكُمْ) أيها المسلمون إذا جالستم الكفار وهم يكفرون ويستهزءون (إِذاً مِثْلُهُمْ) حيث لم تنكروا عليهم ، مع قدرتكم على الإنكار ، ومن رضي
بعمل قوم قلبا أو تظاهرا فهو منهم (إِنَّ اللهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ) الذين أبطنوا الكفر (وَالْكافِرِينَ) الذين أظهروا الكفر (فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعاً) لأن كليهما كافر ، وإن كان في الظاهر تجري أحكام الإسلام
على المنافق.
[١٤٢] ثم وصف
سبحانه المنافقين بما هي السمة الظاهرة لهم في كل حال وزمان (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) التربّص الانتظار والترقّب ، يعني أنهم ينتظرون لأموركم
ويراقبون أحوالكم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
فَتْحٌ مِنَ اللهِ) بالظفر والغلبة والغنيمة (قالُوا) أي أولئك المنافقون : (أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ) أيها المؤمنون ، فإنا آمنا وغزونا وصلينا وعملنا تحت لواء
الإسلام ، يريدون بذلك التحفظ على أنفسهم في مستوى المؤمنين جاها وغنيمة (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) بأن تقدم الكفار أو دارت الدائرة على المؤمنين (قالُوا) أولئك المنافقون للكافرين الذين كان لهم نصيب : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي نسيطر عليكم ونرشدكم مواقع
وَنَمْنَعْكُمْ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ
يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
إِنَّ
الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
____________________________________
صلاحكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ) بأس (الْمُؤْمِنِينَ) بدلالتكم على مواقع الهلكة ، وكنا نلقي الرعب في قلوب
المؤمنين منكم ، حتى نلتم أيها الكافرون ما نلتم بسببنا ، ولذا فلنا ما لكم ،
يريدون بذلك إشراك أنفسهم في جاه الكفار وأرباحهم (فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويعطي كلّا جزاءه ، ثم لا يظن المسلمون أن المنافقين
يتمكنون بنفاقهم أن يحدثوا ثغرة بينهم ، فإن الكافر لا يسلّط على المؤمن أبدا لا
في الحجة ولا في غيرها ، ما دام المؤمنون ملتزمين بشرائط الإيمان عقيدة وعملا (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ) أبدا (لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) نعم إذا خرج المؤمنون عن شرائط الإيمان عقيدة أو عملا ،
صار للكفار عليهم سبيل. وقد نرى في طول التاريخ أنه لم يتغلّب الكفار على المؤمنين
إلا إذا خرج المؤمنون عن طاعة الله ورسوله ، كما رأينا في قصة أحد حين ترك الرماة
مواقعهم ، وهذا لا ينافي تسلط بعض أفراد الكفار على بعض أفراد المؤمنين قتلا ونحوه
، لأن قضية «لن يجعل» طبيعية كسائر القضايا الواردة في مثل هذا المقام.
[١٤٣] ولما ذكر
سبحانه أن المنافقين يراوحون بين المؤمنين والكافرين لإرضاء كليهما ولأن يهيئوا
لهم حياة سعيدة مهما تقلبت الظروف والأحوال ، بيّن أن خداعهم هذا لا ينطلي على
الله سبحانه (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ) حيث يظهرون
الإيمان لحقن دمائهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ، بينما هم كفار غير مؤمنين (وَهُوَ خادِعُهُمْ) إذ
وَإِذا
قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ
إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ سَبِيلاً (١٤٣)
____________________________________
يلزمهم أحكام
المسلمين في الدنيا ويجازيهم جزاء الكافرين في الآخرة (وَ) من صفاتهم الظاهرة أنهم (إِذا قامُوا إِلَى
الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) جمع «كسلان» أي متثاقلين ، لأنهم لا يعتقدون بالصلاة حتى
يقوموا إليها قيام نشاط وفرح كما يقوم المؤمنون إليها (يُراؤُنَ النَّاسَ) أي أن أصل عملهم لأجل الرياء وأن يظهروا للمؤمنين أنهم
مسلمون لا لأجل الله ، ولذا لو تمكنوا من تركها تركوها (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) في مواقع الشدة والمحنة كما قال سبحانه : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا
اللهَ مُخْلِصِينَ) بخلاف المؤمنين الذين يعتقدون بالله فإنهم ذاكرون له
دائما.
[١٤٤]
(مُذَبْذَبِينَ) يقال : «ذبذبته» أي حركته ، أي أن المنافقين مترددين (بَيْنَ ذلِكَ) المجتمع المنقسم
إلى المؤمن والكافر (لا إِلى هؤُلاءِ) المؤمنين ، أي لا مع هؤلاء تماما (وَلا إِلى هؤُلاءِ) الكافرين ، ودخول كلمة «إلى» باعتبار أن من يكون مع قوم
ينتهي إليهم في حركاتهم وسكناتهم ، بخلاف المنافق الذي هو في الوسط لا ينتهي إلى
أحد الجانبين (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ) وإضلاله بترك لطفه الخاص به ، بعد ما أراه الطريق فلم
يسلكه ، وقد تقدم معنى الإضلال من الله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
سَبِيلاً) إلى الحق لأنه قد ران على قلبه ما كسبه من السيئات
والإعراض عن الإيمان بالله والعمل الصالح.
__________________
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
(١٤٥)
____________________________________
[١٤٥]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أي أنصارا وأخلاء يتولّون شؤونكم (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) بأن تتركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) السلطان : الحجة والمبين ، بمعنى الواضح ، فينكّل بكم حيث
انحرفتم عن طريقته إلى طريقة الكفار ، إن المنافقين قد اتخذوا الكافرين أولياء ،
فأنتم أيها المؤمنون لا تكونوا مثلهم ، لتتم عليكم الحجة فيصحّ عقابكم لأنه جاء
بعد البيان والإنذار ، والاستفهام بمعنى الإنكار ، أي لا تجعلوا لله سلطانا عليكم.
[١٤٦]
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) أي في الطبقة السفلى ، وذلك لأن المنافق شرّ من الكافر ،
إذ هو كافر بإضافة أنه في المسلمين فيطّلع على عوراتهم ويعين الأعداء عليهم. وفي
آية أخرى قال تعالى بالنسبة إلى المنافقين : (هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ) على نحو الحصر ، ولعلّ السبب في قبول المنافق بعد العلم
بباطنه رجاء زوال نفاقه ، وأنه لو وكل الأمر إلى الناس لأخذوا كثيرا من المؤمنين
بأنهم منافقين (وَلَنْ تَجِدَ) يا رسول الله (لَهُمْ) أي للمنافقين (نَصِيراً) من بأس الله وعقابه.
__________________
إِلاَّ
الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ
لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
____________________________________
[١٤٧]
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) من نفاقهم (وَأَصْلَحُوا) نياتهم وأعمالهم كسائر المؤمنين (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ) أي تمسكوا به وأخلصوا طريقهم لله ، بخلاف المنافق الذي
يبعّض في طريقته ، فبعضها لله وبعضها للأصنام (فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ) في دنياهم وآخرتهم (وَسَوْفَ) في الآخرة (يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
أَجْراً عَظِيماً) هو النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال.
[١٤٨] ولما ذكر
سبحانه أن المنافقين في الدرك الأسفل ، بيّن أنه ليس من حاجة له إلى عذاب أحد ،
وإنما ذلك لسوء صنيعهم ، فلو بدّلوا صنيعهم لكان خيرا لهم (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ) أيها الناس ، والاستفهام في معنى الإنكار ، أي لا حاجة إلى
عذابكم إذ لا ينتفع الله بذلك كما لا يتضرر بتركه (إِنْ شَكَرْتُمْ) نعمه سبحانه (وَآمَنْتُمْ) إيمانا صحيحا (وَكانَ اللهُ شاكِراً) لمن شكره ، ومعنى كونه شاكرا : أنه يفعل فعل الشاكر من
الحفاوة إلى المشكور له (عَلِيماً) بكم وبأعمالكم ، فلا يفوته شيء منها.
تقريب القران الى الأذهان
الجزء السّادس
من آية (١٤٩) من سورة النساء
إلى (٨٣) من سورة المائدة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين.
لا
يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ
اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨)
إِنْ
تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
____________________________________
[١٤٩] وحيث تقدم
الكلام حول النفاق وهو شيء ربما اشتبه فيه الناس ، ولذا نراهم يرمي بعضهم بعضا
بالنفاق ، بيّن سبحانه أنه لا يجوز أن يجهر الإنسان بالقول السيئ بالنسبة إلى أحد
إلا إذا كان الإنسان الجاهر مظلوما فإنه يحق له أن يجهر بظلامته فلا يحق لأحد أن
يبدي عورة غيره حتى فيما إذا علم ، فكيف بما لو ظن أو توهم؟ وفي آية أخرى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) بأن يقول القول السيئ بالنسبة إلى غيره جهرا أمام الناس ،
ومعنى «لا يحب» أنه يكره ذلك (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فإنه يحق له أن يذكر ظلامته أمام الناس (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) يسمع ما يجهر به الإنسان من القول السيئ في غيره (عَلِيماً) بصدق الصادق وكذب الكاذب فيجازي كلّا حسب جزائه.
[١٥٠] وإذ ذكر
تعالى جواز الجهر بالسوء لمن ظلم ، بيّن أن إبداء الخير وإخفاء السوء أحسن ، فإن
ذلك من صفات الله سبحانه العفوّ القدير ، الذي يعفو مع قدرته (إِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (خَيْراً) أي عملا حسنا جميلا لمن أحسن (أَوْ تُخْفُوهُ) أي تتركوا إظهار الخير ، أو المعنى : تعزموا عليه أي
تنووه. ولعل الثاني أقرب (أَوْ تَعْفُوا عَنْ
سُوءٍ) فلا تنتقموا ممن أساء إليكم مع قدرتكم على الانتقام ، ففي
المقام
__________________
فَإِنَّ
اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠)
أُولئِكَ
هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا
____________________________________
لا تجهروا بالقول
السيئ بالنسبة إلى من ظلمكم (فَإِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا) كثير العفو عن خلقه ممن أساء وظلم (قَدِيراً) على الانتقام منهم ، فما أجدر أن يتصف الخلق بصفة الخالق.
[١٥١] ولما ذكر
سبحانه في الآيات السابقة حال المنافقين ، أتم الكلام في الآيات التالية حول حال
الكافرين والمؤمنين ، فالناس ينقسمون أمام الدعوة الجديدة إلى مؤمن وكافر ومنافق
بين أولئك (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وإن كان كفرا برسول واحد ، والكفر إما بالإنكار أو نحو ذلك
(وَيُرِيدُونَ أَنْ
يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) لعلّهم طائفة أخرى حيث أنهم يؤمنون بالله ويكفرون بالرسل ،
فبهذه الصفة أنهم يفرقون بين الله بالإيمان وبين الرسل بالكفر (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) فإن هناك المنكر المطلق والذي لا ينكر الله ولكن ينكر
الأنبياء جملة ، والذي يبعّض في الأنبياء (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) الحق الواقع (سَبِيلاً) طريقا لا الإنكار المطلق ولا الإذعان المطلق ، وإنما
يفعلون ذلك لأغراض نفسية وتقاليد بالية.
[١٥٢]
(أُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ حَقًّا) أي حقيقة ، فلا يخرج إيمانهم ببعض عن كونهم كافرين ، كما
قد ينطبق على البعض الذين لا يعرفون معيار الكفر والإيمان ، فإن الكفر هو إنكار
أحد الأصول والإيمان هو الإقرار بها
وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا
____________________________________
أجمع (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) أي هيّئنا لهم (عَذاباً مُهِيناً) يهينهم ويذلهم.
[١٥٣]
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ) جميعا (وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) لفظ «أحد» إذا دخل عليه النفي أو كان في معناه أفاد العموم
، ولذا صحّ إدخال «بين» عليه وليس كذلك إذا كان للإثبات (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ) الله (أُجُورَهُمْ) في الآخرة (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً) يغفر ما صدر منهم من ذنب (رَحِيماً) يرحم بلطفه ورحمته.
[١٥٤] وإذ تقدم
الكلام عن الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ومن أظهر مصاديق أولئك أهل الكتاب
الذين آمنوا بالأنبياء السالفة ولم يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم بحجج واهية ، انتقل السياق إلى هؤلاء مبيّنا أنهم كاذبون
في زعمهم الإيمان بموسى عليهالسلام بأسئلة وأعمال بشعة ، (يَسْئَلُكَ) يا رسول الله (أَهْلُ الْكِتابِ) والمراد بهم هنا اليهود (أَنْ تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) كما نزل على موسى التوراة ، مكتوبا جملة ، لا أن تأتي
الآيات على نحو الوحي.
وفي بعض التفاسير
: أن كعب الأشرف وجماعة من اليهود قالوا : يا محمد إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من
السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة جملة
(فَقَدْ سَأَلُوا
__________________
مُوسى
أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ
فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ
____________________________________
مُوسى
أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ) فهل آمنوا بموسى عليهالسلام لما آتاهم الكتاب من السماء؟ كلا بل سألوه شيئا أكبر من
ذلك (فَقالُوا) له عليهالسلام : (أَرِنَا اللهَ
جَهْرَةً) حتى نشاهده بأعيننا (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ) بسبب ظلمهم وتجرّؤهم على ساحة قدس الله وجلاله ، فقد جاءت
صاعقة وأماتتهم جميعا ـ كما تقدم في سورة البقرة ـ (ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ) إلها عبدوه من دون الله سبحانه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) أي الأدلة الواضحة على الربوبية والنبوة ، من نجاتهم من
بني إسرائيل ، وتفريق البحر لهم ، وما رأوا من معجزات العصا وغير ذلك (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) بما تقدم في سورة البقرة من أمرهم بقتل بعضهم بعضا ، ولكن
لم ينفعهم ذلك أيضا بل بقوا معاندين قساة جفاة (وَآتَيْنا مُوسى) أي أعطيناه (سُلْطاناً مُبِيناً) أي حجة واضحة تبين صدقه ونبوته ، ومع ذلك لم يؤمنوا.
[١٥٥]
(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ
الطُّورَ) أي جبل الطور حيث اقتلع جزء منه ورفع فوق رؤوس بني إسرائيل
تخويفا لهم حتى يأخذوا الأحكام ويقبلوا التعاليم بسبب ميثاقهم أي عهدهم ، ولعل
المراد : حين إرادة
__________________
وَقُلْنا
لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ
____________________________________
أخذ الميثاق منهم (وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ) أي باب القرية (سُجَّداً) أي في حال السجود ، اسجدوا وادخلوا الباب (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا) أي تعتدوا (فِي السَّبْتِ) باصطياد السمك ، فقد كان ذلك محرما عليهم (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب المتقدم ذكرهم (مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا أكيدا بأن يسمعوا الأوامر وينزجروا عن النواهي.
وقد تقدم بعض الكلام حول الأمور المذكورة في سورة البقرة.
[١٥٦] ثم ذكر
سبحانه أن اليهود بأعمالهم القبيحة استحقوا عقاب الدنيا وعقاب الآخرة أما عقاب
الدنيا فتحريم الطيبات عليهم وأما عقاب الآخرة فالنار المهيأة لهم ، فقوله سبحانه
: (فَبِما نَقْضِهِمْ ..) إلى آخر الآيات» متعلق بقوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ
أُحِلَّتْ ..)(فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ) أي بسبب نقض اليهود معاهدتهم مع الله بأن يعملوا بكل ما في
التوراة من الأحكام فإنهم لم يعملوا بغالب أحكامها أصولا وفروعا (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) التي أقامها على صدق أنبيائه ككفرهم بأدلة نبوة عيسى عليهالسلام (وَقَتْلِهِمُ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) فإنهم كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا يقتلون
وفريقا يكذبون وكلمة «بغير حق» للتوضيح لا للتأكيد إذ قتل الأنبياء لا يكون بالحق
أبدا (وَ) بسبب (قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا
غُلْفٌ) جمع «أغلف» أي في غلاف من دعوتك يا محمد ، فلا نفهم ما
تقول ، كالشيء المغلف الذي لا يصل إليه شيء من الخارج ، فقد كانوا
بَلْ
طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)
وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦)
____________________________________
يقولون ذلك للرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى لا يدعوهم إلى الهدى. ثم جاء سبحانه بجملة معترضة في
الكلام ردا لقولهم «قلوبنا غلف» بقوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) فإن الإنسان إذا رأى الحق فأنكره وتكرر منه العصيان يكون
قلبه في معزل عن الحق ، وصار الإنكار كالملكة له فإنه يعرف الحق كلما رآه لكنه
ينكره ، لا لأنه لا يرى الحق ـ لأن قلبه في غلاف ـ وعلى هذا يكون معنى بكفرهم :
لسبب كفرهم (فَلا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلاً) إذ قلّما يرتدع من صار الإنكار ملكة له بسبب غيه وضلاله ،
ثم إن نسبة الطبع إلى الله تعالى إما حقيقة لأنه خلق القلب كذلك ، بحيث يصير الأمر
المتكرر ملكة له ، وإما مجازا يراد بذلك : تركهم وشأنهم.
[١٥٧]
(وَ) بسبب كفرهم بعيسى المسيح عليهالسلام أو المراد : الكفر المطلق ، كرّر تأكيدا أو هو إرهاص لقوله
(وَقَوْلِهِمْ عَلى
مَرْيَمَ) يريد بذلك أنهم صاروا كفارا بسبب هذه التهمة لعظمتها (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ) الصديقة المعصومة أم المسيح عليهاالسلام (بُهْتاناً عَظِيماً) حيث نسبوها إلى الزنا لما ولد عيسى عليهالسلام منها من غير أب.
عن «الكلبي» أن
عيسى عليهالسلام مر برهط فقال بعضهم لبعض : جاءكم الساحر ابن الساحرة.
فقذفوه بأمه فسمع ذلك عيسى فقال : اللهم أنت ربي ولم آتهم من تلقاء نفسي ، اللهم
العن من سبّني وسبّ والدتي فاستجاب الله دعوته فمسخهم خنازير .
__________________
وَقَوْلِهِمْ
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ
وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ
____________________________________
[١٥٨]
(وَ) بسبب (قَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) وهذا القول موجب لسخط الله تعالى لأنه عليهالسلام رسوله ، وقوله : (رَسُولَ اللهِ) إما قول اليهود على وجه الاستهزاء ، وإما قول الله تعالى ،
فليس «مقول قولهم» وإما أنه اعتراف منهم بأنه الرسول ، كما اعترف أهل الكوفة بأن
الحسين إمام وقتلوه لهوى النفس. ثم ردهم الله سبحانه بقوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) لأنهم كانوا يقولون : قتلناه صلبا (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) بأن ألقى الله شبه عيسى على بعض اليهود ، فقتلوا ذلك
الشبيه لعيسى عليهالسلام لا أنهم قتلوا نفس المسيح (وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي في المسيح عليهالسلام هل أنه قتل أم لم يقتل؟ (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) فإنهم صاروا فريقين : قسم يقولون قتلناه ، وقسم يقولون لم
نقتله وإنما قتلنا شبيها له ، ولم يكن قولهم عن يقين وإنما عن شك وتردد (ما لَهُمْ بِهِ) أي لهؤلاء القائلين بقتله (مِنْ عِلْمٍ إِلَّا
اتِّباعَ الظَّنِ) هذا الاستثناء منقطع ، فإنه كثيرا ما يستثني من أصل الكلام
لا من قيوده ، فكأنه قال هنا : «ما لهم من حالة نفسية حول هذا الموضوع إلا اتباع
الظن» فمن يقول قتلناه يظن ذلك لا أنه يستيقن. ولا يخفى أن الشك بمعناه اللغوي
يلائم الظن ، وليس الشك بمعنى تساوي الطرفين حتى ينافي الظن الذي بمعنى ترجيح أحد
الطرفين. (وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً) أي : باليقين والقطع لم يقتلوا عيسى.
[١٥٩]
(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ) أي إلى محل تشريفه وهو السماء ، فإنه قد ثبت
وَكانَ
اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)
وَإِنْ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا
____________________________________
في علم الكلام أنه
سبحانه لا محلّ له. ثم إن رفعه له إلى السماء يمكن أن يكون في بعض الكواكب فإنها ـ
كما في الحديث ـ «مدن كمدنكم» (وَكانَ اللهُ
عَزِيزاً) ذا عزة وسلطة يتمكن مما أراد وأمر (حَكِيماً) يضع الأشياء مواضعها وتقديراته عن حكمة وبصيرة.
[١٦٠]
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) أي ما من أحد من أهل الكتاب من اليهود (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) أي بالمسيح عليهالسلام (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي قبل موت المسيح عليهالسلام ينزل من السماء ويصلي خلف الإمام المهدي عليهالسلام فيؤمن به كل يهودي . ومن المعلوم أن المراد بكل يهودي من كان في ذلك الوقت ،
لا كل يهود العالم الذين ماتوا من قبل. وهذه العبارة عرفية فيقال : يعرف أهل البلد
الفلاني جميعهم حتى إذا خرجت منها ، يريد بذلك : من كان منهم فيها ، لا كل من مات
أو خرج قبل رحلته (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ) المسيح عليهالسلام (عَلَيْهِمْ) أي على اليهود (شَهِيداً) بأنه قد بلغ رسالات ربه ، وأنهم آذوه وطردوه ولم يقبلوا
منه.
وهناك احتمال أن
يعود الضمير «به» إلى محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي هو محل البعث مع الكفار ، وضمير «موته» إلى الكتابي ،
أي كل كتابي يؤمن بالرسول قبل أن يموت حين الاحتضار حيث ينكشف له الواقع.
[١٦١] ولما ذكر
سبحانه اليهود قال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا) أي بسبب
__________________
حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً
(١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا
عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١)
____________________________________
ظلم اليهود
لأنبيائهم ولأنفسهم ولغيرهم. بما تقدم من أقسام الظلم (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ) فقد أحلّ قسم من الطيبات لهم ، لكنهم لما ظلموا حرّم عليهم
تلك الطيبات جزاء على أعمالهم. والمحرمات هي ما بيّن في قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ..) ، (وَبِصَدِّهِمْ) أي بمنعهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ
كَثِيراً) عطف على قوله : «فبظلم» فإنهم كانوا يصدون عن سبيل الله
ويمنعون الناس عن التدين بدين المسيح ومحمد عليهماالسلام كما كانوا يحرفون التوراة حسب رغباتهم وأهوائهم.
[١٦٢]
(وَ) ب (أَخْذِهِمُ الرِّبَوا) وهو أخذ الزيادة من المقترض ، فقد كان حراما حتى في
شريعتهم ولكنهم لم يكونوا يأبهون بالشريعة (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي والحال أنهم كانوا قد نهوا عن أخذ الربا (وَ) ب (أَكْلِهِمْ أَمْوالَ
النَّاسِ بِالْباطِلِ) فقد كانوا يأخذون الرشوة في الحكم ويسيطرون على أموال
الآخرين بالمكر أو القوة (وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ) الذين لم يؤمنوا
بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (عَذاباً أَلِيماً) يؤلم أجسامهم وأرواحهم.
[١٦٣] ولما ذكر
سبحانه «للكافرين منهم» فهم أن بعضهم ليس كذلك ، وقد
__________________
لكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
____________________________________
بيّن ذلك سبحانه
بقوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) كعبد الله بن سلام وأصحابه الذين رسخوا في العلم وثبتوا
فيه وعرفوا العلم حق المعرفة (وَالْمُؤْمِنُونَ) يعني أصحاب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمحتمل أن المراد بهم : المؤمنون بموسى حقيقة ، مقابل
سائر اليهود الذين كان إيمانهم مزيفا كاذبا (يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا رسول الله من القرآن الحكيم (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من كتب موسى وعيسى عليهماالسلام بخلاف اليهود الذين لم يؤمنوا إطلاقا ، وكان إيمانهم
بالتوراة كذبا ، كما قال سبحانه : (مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً) .
وهنا قد يتساءل
البعض : أن اليهود إن كان في طبيعتهم الانحراف كما هو المشهور بين الناس والظاهر
من قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) وقوله : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) ومن أعمالهم مع أنبيائهم وبالأخص موسى عليهالسلام ، فكيف يمكن لهم التخلّي عن هذه الطبيعة؟ وكيف يقبلون
بالإسلام إذا أسلموا؟ وكيف يمكن التفريق بين من كفر منهم وبين من قال سبحانه عنه «لكن
الراسخون ..»؟
والجواب : أن
اليهود لهم جهتا انحراف : الأولى طبيعتهم المتحجرة ، والثانية دينهم الباطل الذي
يأمرهم بكل منكر ، وتقاليدهم
__________________
وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
(١٦٢)
____________________________________
البالية السخيفة.
ومن المعلوم أن اليهودي إذا أسلم روضت طبيعته وصقلت بالإسلام ، كالجبان الذي يشجع
نفسه حتى تصبح له ملكة الشجاعة ، والفاسق الذي يسلك الصلاح حتى تحصل له ملكة
العدالة. وكذلك تذهب تقاليده ودينه المحرّف فلا يكون حافز له على الاجرام والرذيلة
، بالإضافة إلى أن الانحراف ليس من طبيعة الكل مطلقا بل الأغلب ، كما لا يخفى.
(وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ) عطف على «الراسخون» أي الذين يقيمون الصلاة من اليهود فإن
لكل دين صلاة ، وإنما عطف بالنصب والقاعدة الرفع أي «المقيمون» لأنه نصب على المدح
، وهذا تفنّن في الكلام لإزالة الضجر النفسي الذي يحصل من سبك واحد. وقد كانت
إقامة الصلاة الدائمة من أقوى العوامل للإيمان بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنها مذكرة مستمرة توجب ملكة طيبة (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فقد كان كل دين يأمر بالزكاة بمعناها الأعم (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) إيمانا حقيقيا لا صوريا ـ كما كان عند غالب اليهود ـ (أُولئِكَ) المتصفون بهذه الصفات (سَنُؤْتِيهِمْ) في الآخرة (أَجْراً عَظِيماً) في جنات النعيم التي فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم
فيها خالدون.
ويمكن أن يكون
الكلام من قوله : «والمقيمين» استئنافا إلى أن الراسخين في العلم من اليهود
والمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ـ من المسلمين ـ أولئك نعطيهم الأجر العظيم ، فلا
يكون «المقيمين .. إلخ» من صفات اليهود الراسخين في العلم ، وربما يؤيد هذا الوجه
نصب
إِنَّا
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا
داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)
____________________________________
«المقيمين» كأنه
أراد بيان الانقطاع عما قبله وأنه في حكم الضمير في «سنؤتيهم» أي سنؤتي المقيمين
.. سنؤتيهم أجرا عظيما ، كباب الاشتغال.
[١٦٤] ثم ذكر
سبحانه أن مجادلات اليهود باطلة وأن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أوحي إليه كما أوحي من قبله إلى سائر الأنبياء ، وقولهم
بإنزال الكتاب عليهم بحيث قد كثر في الأنبياء السابقين من أوحي إليه ، قال تعالى :
(إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) يا رسول الله «الوحي» هو الإلقاء في القلب بواسطة ملك ، أو
ابتداء بدون ملك في اليقظة أو المنام (كَما أَوْحَيْنا إِلى
نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد نوح عليهالسلام. ثم ذكر بعض الأنبياء بالاسم تعظيما وإن كانوا داخلين في
عموم النبيين (وَأَوْحَيْنا إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) وقدّم إسماعيل لأنه أرفع شأنا في الإيمان ، وإن كان الثاني
أكبر سنا ـ كما هو المشهور ـ (وَيَعْقُوبَ) وهو حفيد إبراهيم
ابن إسحاق جدّ اليهود ، كما أن إسماعيل جد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَالْأَسْباطِ) أي : الأنبياء المبعوثون من أولاد يعقوب ، ويسمّون الأسباط
لأنهم أحفاد يعقوب كيوسف وغيره عليهمالسلام (وَعِيسى وَأَيُّوبَ
وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) ولم يذكر موسى عليهالسلام لأنه نزل عليه الكتاب من السماء الذي كان محل احتجاج
اليهود ـ كما تقدم ـ (وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) جمع «زبر» أي شيئا فشيئا ، ولم ننزل على هؤلاء الأنبياء
كتابا
وَرُسُلاً
قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)
رُسُلاً
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥)
____________________________________
كاملا بل إما وحيا
وإما جزءا ، كداود عليهالسلام.
[١٦٥]
(وَ) أرسلنا (رُسُلاً) بالوحي إليهم (قَدْ قَصَصْناهُمْ
عَلَيْكَ) كيونس عليهالسلام (مِنْ قَبْلُ) في سائر القرآن (وَرُسُلاً لَمْ
نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) فقد كان عدد الأنبياء ـ على المشهور ـ مائة وأربعة وعشرين
ألفا (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) فلم يكن كل ما أتاه بشكل الكتاب ، فموسى عليهالسلام الذي هو محل احتجاج اليهود كان الله قد كلمه ، والكلام قسم
من الوحي ، ولا يخفى أن كلام الله سبحانه إنما هو بخلق الصوت في الفضاء لأنه
سبحانه منزّه عن الجسمية ولوازمها.
[١٦٦]
(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ) لمن آمن وأطاع بالثواب (وَمُنْذِرِينَ) لمن كفر وعصى بالعقاب (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ) إرسال (الرُّسُلِ) بل لله الحجة البالغة ، والمراد بالناس الغالب لا الكل إذ
بعضهم لم تدركه الدعوة كما هو معلوم بالضرورة ، وصرحت بذلك بعض الأحاديث (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) مقتدرا للعقاب والثواب (حَكِيماً) يفعل الأفعال عن مصلحة وحكمة.
[١٦٧] إن اليهود
إن لم يشهدوا لك يا رسول الله بالنبوة بحجة مختلقة
__________________
لكِنِ
اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَظَلَمُوا
____________________________________
(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ
بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) وشهادة الله هي إجراء المعجزة على يد الرسول ولا يكون ذلك
إلا لله وحده ، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يوصل بالأسباب إلى مسبباتها
ولو كانت الأسباب ختوما وأورادا ، والمعجزة خرق لنواميس الطبيعة بمجرد إرادة
الرسول ومن آتاه الله ذلك. ولا يفرق بين الأمرين إلا أهل المعرفة ، فالرسول يتمكن
من إحياء الميت بينما لا يتمكن الساحر من ذلك وهكذا. (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) أي بعلمه أنك أهل للنبوة ، أو أنزله مقترنا بالعلم الذي من
لدنه ، أو أن الإنزال كان معلوما لله تعالى لا كما يأمر الآمر وهو غافل أو جاهل أو
ناس أو ساه ، والأول أقرب (وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ) بما أنزل إليك ، ولعل ذكر الملائكة تشريعي ، أي بشهادة
واقعية وإن لم يكن لها أثر ، أو أن الأثر نصرة الملائكة كما رأوا في يوم بدر وكما
ظهر بعض الآثار لنزول الملائكة (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) يشهد بأنك رسوله.
[١٦٨] ثم ذكر
سبحانه جزاء الكافرين بالرسول بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي منعوا الناس عن الإيمان ومنعوا الإسلام عن التقدم (قَدْ ضَلُّوا) طريق الحق (ضَلالاً بَعِيداً) متباعدا عن الطريق السوي.
[١٦٩]
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بالله ورسله وما جاءوا به (وَظَلَمُوا) أنفسهم
لَمْ
يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨)
إِلاَّ
طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
____________________________________
بالعصيان والناس
بالحرمان عن طريق الهداية (لَمْ يَكُنِ اللهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ) إذا ماتوا على الكفر ، كما يظهر القيد من سائر الآيات (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً) والمراد طريق الجنة.
[١٧٠]
(إِلَّا طَرِيقَ
جَهَنَّمَ) جزاء لما فعلوا من الكفر والظلم (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا زوال للعذاب ولا انقطاع. وقد يتساءل البعض : ولم العذاب
الدائم مقابل العمل الذي كانت له مدة محدودة له؟ والجواب : أن العذاب للشر الكامن
الذي كان له مظهر ، وذلك باق أبدا ، ولذا قال سبحانه : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا
عَنْهُ) ، (وَكانَ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيراً) لقدرته الكاملة وسلطانه المطلق.
[١٧١] ثم خاطب سبحانه
جميع الناس بوجوب الإيمان والتنكّب عن طريق الكفر بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ
الرَّسُولُ) محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (بِالْحَقِ) أي مجيئه بالحق ، أو بالدين الذي ارتضاه الله لعباده (مِنْ رَبِّكُمْ) أي من طرفه وجانبه ، فربكم هو الباعث له. وفيه تأكيد لوجوب
القبول (فَآمِنُوا) بما أتى به من الأصول ، وأتوا (خَيْراً لَكُمْ) أي خيرا تعود فائدته إلى أنفسكم (وَإِنْ تَكْفُرُوا) فلا تظنوا أن ذلك يضر الله تعالى (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
__________________
وَالْأَرْضِ
وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
يا
أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ
الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ
____________________________________
وَالْأَرْضِ) فلا ينقصه كفركم شيئا (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً) بمصالحكم ومفاسدكم ، فالرسول آت بما هو الصلاح لكم (حَكِيماً) في أمره ونهيه وتدبيره وتقديره.
[١٧٢] ثم توجه
السياق إلى أهل الكتاب الذين تقدم الكلام عنهم ، لكن هنا يراد بهم النصارى فقط ،
فقال سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) الغلو : هو مجاوزة الحد والارتفاع ، ومنه «غلا في دينه» أي
تجاوز الحد إلى الارتفاع ، فقد كان المسيحيون يقولون بتعدد الآلهة : الأب والابن
وروح القدس ، ويريدون بالأول هو الله ، وبالثاني المسيح ، وبالثالث جبرائيل عليهالسلام (وَلا تَقُولُوا عَلَى
اللهِ) أي لا تفتروا على الله بأن تقولوا : إن الله أمرنا بعبادة
آلهة ثلاثة ، أو المعنى : لا تقولوا بالنسبة إلى الله ما ينافي عظمته من قولكم إن
له شريكا (إِلَّا الْحَقَ) وهو أنه لا شريك له ولم يأمر إلا بذلك (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) قيل : إنما سمي بالمسيح لأنه كان يمسح الأرض ويسيح في
البلاد ، و «عيسى ابن مريم» بيان لقوله «المسيح» يعني أنه ابن مريم ، لا أنه ابن
الله ، و «رسول الله» خبر لقوله «المسيح» (وَكَلِمَتُهُ) أي كلمة الله ، وهذا تشبيه ، فكما أن المتكلم إذا قال
القول ، حدث منه في الخارج شبه إلقاء ، كذلك الله سبحانه يلقي الأشياء إلى الخارج فهي
كلماته ، ولذا يقال للمخلوقات «كلمات الله» و «إنما» هنا للحصر الإضافي مقابل
النبوة والألوهية.
أَلْقاها
إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ
لَهُ وَلَدٌ
____________________________________
(أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ)
أي أوجدها في رحمها الطاهرة بدون زواج واقتراب من رجل (وَرُوحٌ مِنْهُ)
سبحانه و «الروح» هي القوة ـ الطاقة ـ التي تتحرك وتحرك ، والمعنى : أن عيسى روح
من قبل الله سبحانه ، ولذا يقال له : «روح الله» ، ومن المعلوم أن الإضافة تشريفية
نحو : بيت الله.
(فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ) إيمانا صحيحا بالإذعان لوحدانيته ، وأنه لا شريك له ولا
ولد ، وأن المسيح رسوله الكريم (وَلا تَقُولُوا) أيها النصارى أن الإله (ثَلاثَةٌ) أب وابن وروح القدس (انْتَهُوا) عن هذا الكلام البشع ، وأتوا (خَيْراً لَكُمْ) في دنياكم وآخرتكم من التوحيد والتنزيه (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له فليس المسيح شريكا له في الألوهية ، فإن من كان
له شريك لا يصلح أن يكون إلها إذ الشركة تلازم التركيب ، والتركيب يلازم الحدوث ،
فإن كل مركّب لا بد له من مركّب وأجزاء سابقة ـ ولو رتبة ـ وما سبقه غيره ليس بإله
(سُبْحانَهُ) أي أسبّحه سبحانه ، بمعنى : أنزهه تنزيها (أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) كما قال المسيحيون من أن المسيح ابن الله ، فإنه لو أريد
بالولد المعنى المتعارف مما يستلزم الولادة ، فإن ذلك من صفات الممكن لا من صفات
الإله ، إذ لا يعتري الإله التغيير ، وإلا كان حادثا ، ولو أريد المعنى التشريعي
كما يقول الشخص الكبير لبعض
لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١)
لَنْ
يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
____________________________________
الناس ـ إذا أراد
تشريفهم ـ : «فلان ولدي» فإن ذلك لا يجوز بالنسبة إلى الله سبحانه إذ شؤونه كلها
توقيفية ، فقد أذن أن يقال : «فلان خليله» ولم يأذن أن يقال : «ابنه أو ولده».
والمراد بالآية هو المعنى الأول.
(لَهُ) أي الله تعالى (ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ) ومن يكون كل شيء ملكه ، لا يمكن أن يكون شيء ولدا له ، إذ
الولد من جنس الوالد ، وهو جسم فعل لله فليس له نظير ولا شبيه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في نفاذ أمره ، وهو وعيد للقائلين بالتثليث.
[١٧٣] ثم ذكر
سبحانه أن المسيح عليهالسلام يعترف بأنه عبد الله فلم يقول هؤلاء بأنه ابن الله أو شريك
الله؟ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ) أي لن يأنف عيسى عليهالسلام (أَنْ يَكُونَ عَبْداً
لِلَّهِ) بل اعترف هو عليهالسلام حين ولادته بذلك (قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ، (وَلَا الْمَلائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ) الذين قربهم سبحانه من ساحة لطفه. ولعل هذا إشارة إلى رد
من زعم أنهم أولاد الله كما حكى سبحانه بقوله : (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) ، (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) يأنف ويمتنع (عَنْ عِبادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ) فيرى نفسه أكبر وأعظم من أن يعترف لله بالعبودية
__________________
فَسَيَحْشُرُهُمْ
إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً
مُبِيناً (١٧٤)
____________________________________
(فَسَيَحْشُرُهُمْ
إِلَيْهِ جَمِيعاً) الحشر هو الجمع ، أي يجمعهم يوم القيامة جميعا ليجازيهم
باستكبارهم. و «إليه» ليس للمكان لأنه سبحانه منزّه عنه ، بل المراد : المحل
المعدّ لقضائه وجزائه.
[١٧٤]
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا) إيمانا صحيحا (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحات (فَيُوَفِّيهِمْ) أي يعطيهم عطاء كاملا تاما (أُجُورَهُمْ) التي وعد الله لهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) أي يزيدهم على ما كان قد وعدهم به من الجزاء على أعمالهم
الحسنة تفضّلا منه وكرما (وَأَمَّا الَّذِينَ
اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) عن عبادته وطاعته (فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) أي مؤلما (وَلا يَجِدُونَ
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) يتولى أمورهم وينجيهم من عذاب الله (وَلا نَصِيراً) ينصرهم.
[١٧٥]
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي حجة ودليل يدلّكم على الحق (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً
مُبِيناً) أي نورا واضحا وهو القرآن ، فكما أن النور يهدي الإنسان
إلى طريقه في ظلمات الليل ونحوه ، كذلك القرآن يهدي الإنسان إلى طريقه في ظلمات
الحياة ، وبهذا
فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ
____________________________________
المعنى يعني (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .
[١٧٦]
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ) إيمانا صحيحا كما أمر العقل والشرع (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي تمسكوا بالله في أمورهم ، أو أن الضمير «به» يرجع إلى
النور (فَسَيُدْخِلُهُمْ) يوم القيامة (فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) سبحانه يرحمهم بها ويتفضل عليهم بالجنة (وَفَضْلٍ) أي زيادة على ما استحقوا (وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ) أي يرشدهم إلى نفسه ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ، (صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي جادة مستقيمة ، فهم يصلون إلى الحقائق والسعادة في صراط
مستقيم ، حيث أنهم اتبعوا الدعوة ولبّوا الداعي. ومفهوم الآية : أن الذين كفروا
بالله واعتصموا بسواه فسيدخلهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ويضلهم ضلالا بعيدا.
وما في بعض الأخبار من تفسير «النور» بأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين عليهمالسلام فإن ذلك من باب أظهر المصاديق ، كما قد تكرّر بيانه.
[١٧٧] في حديث أن
جابر بن عبد الله الأنصاري كان مريضا فعاده رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسأل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قائلا : إن لي كلالة ـ أي أخوات ـ فكيف أصنع في مالي
بالنسبة إلى ميراثهن؟ فنزلت الآية (يَسْتَفْتُونَكَ) أي يطلبون منك الفتوى يا رسول الله ، ولهذه الآية ربط بما
سبق في حكم
__________________
قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
____________________________________
الكلالة (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) ، (قُلِ اللهُ
يُفْتِيكُمْ) أي يبيّن لكم الحكم (فِي) مسألة (الْكَلالَةِ إِنِ
امْرُؤٌ هَلَكَ) أي مات ، وليس معنى «الهلاك» ما يتبادر غالبا من كونه
هلاكا سيئا بل مطلقا ، كما قال في قصة يوسف عليهالسلام (حَتَّى إِذا هَلَكَ) ، (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ولا أبوان حتى لا يكون هناك من في الطبقة الأولى كما دل
عليه النص والإجماع (وَلَهُ أُخْتٌ) واحدة (فَلَها نِصْفُ ما
تَرَكَ) فرضا ، والنصف الآخر ردّا (وَهُوَ يَرِثُها) أي الأخ يرث الأخت ، لو كانت الأخت ميتة والأخ حيا يرث
جميع أموالها فرضا (إِنْ لَمْ يَكُنْ
لَها وَلَدٌ) ولا والدان ، وهذا مع قطع النظر عن الزوجين ، وإلا فهما
يرثان نصيبهما الأعلى والباقي للكلالة.
(فَإِنْ كانَتَا
اثْنَتَيْنِ) أي كان للرجل الميت أختان (فَلَهُمَا
الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) فرضا والثلث الآخر قرابة (وَإِنْ كانُوا) أي الكلالة التي ترث الميت (إِخْوَةً) أي جماعة أكثر من الاثنين (رِجالاً وَنِساءً) بعضهم أخوان وبعضهم أخوات (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لكل أنثى سهم واحد ولكل ذكر سهمان اثنان ، وهذا كله في
الأخوة من الجانبين
__________________
يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
____________________________________
أو من جانب الأب ،
أما الأخوة من جانب الأم فقد سبق حكمهم في أول السورة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ) الأحكام (أَنْ تَضِلُّوا) أي لئلا تضلوا ، أو كراهة أن تضلوا. بمعنى : تخطئوا الحكم
في مسألة الكلالة (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم الصالح والفاسد ولذا يكون أمره ونهيه وتقديره عن
حكمة وصلاح.
قال في «المجمع» :
وقد تضمنت الآية التي أنزلها الله في أول هذه السورة بيان ميراث الولد والوالد ،
والآية التي بعدها بيان ميراث الأزواج والزوجات والأخوة والأخوات من قبل الأم ،
وتضمنت هذه الآية التي ختم بها السورة بيان ميراث الأخوة والأخوات من الأب والأم ،
والأخوة والأخوات من قبل الأب عند عدم الأخوة والأخوات من الأب والأم. وتضمن قوله
سبحانه : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، أن تداني القربى سبب في استحقاق الميراث فمن كان أقرب
رحما وأدنى قرابة كان أولى بالميراث من الأبعد ، والله العالم .
__________________
(٥)
سورة المائدة
مدنية ـ آياتها ١٢١
سميت السورة بالمائدة
لاشتمالها على كلمة «المائدة» ، وحيث ختمت السورة المتقدمة ببيان الحكم بين الميت
والحي ، تبتدئ هذه السورة ببيان الحكم بين الأحياء ، فقال سبحانه :
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(١)
[١]
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقد كان لتكرار البسملة أول كل سورة تعليما للناس أنهم إذا
أرادوا أن يبتدءوا بعمل أن يقولوا هذه الجملة المباركة.
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ
الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ
____________________________________
[٢]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) سبق أن الأحكام عامة ، وإنما يخاطب المؤمنون بها لكونهم
المستفيدين منها (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) «الجمع المحلّى
بأل» يفيد العموم ، أي كل العقود و «عقود» جمع عقد ، وهو كل التزام وميثاق بين جانبين
، فتشمل عقود الناس بعضهم مع بعض والمعاهدات الدولية والمواثيق التي بين الله وبين
خلقه ، وحيث كانت المواثيق بين الله والخلق أولى العهود بالوفاء ، ابتدأ بها بقوله
سبحانه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) فإن الحلال والحرام وسائر الأحكام عقود بين الله والخلق ،
أن يعمل الخلق بالأوامر ويجزيهم الله عوض ذلك الجنة ، كما قال سبحانه : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بايَعْتُمْ بِهِ) ، والبهيمة من «الإبهام» يراد بها كل دابة ، والأنعام هي
الإبل والبقر والغنم وما أشبهها كالظبأ واليحمور ، وسميت بهيمة لأنها لا تميّز ،
والأنعام من «النّعم» لأنها من نعم الله على الخلق ، والمراد ب «الحلية» الحلية
ذبحا وأكلا وانتفاعا.
(إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) أي يقرأ عليكم مما هو محرم وهو قوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) ، (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال من «أحلت» أي أن التحليل في حال كونكم لا تحلّون الصيد
في حال الإحرام ، وهذا الحال استثناء يأتي بهذه الصورة كما تقول : «يجوز لك أن
تتصرف في أموالي في حال
__________________
إِنَّ
اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ
اللهِ
____________________________________
كونك لا يجوز لك
التصرف في النفائس منها» تريد أن الجواز في غيرها (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
ما يُرِيدُ) من تحليل وتحريم وسائر الأحكام مما يراه صلاحا.
[٣]
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) الشعائر جمع شعيرة ، وهي الأمر المرتبط بشيء كأنه من
علائمه ومزاياه ، فشعائر الحج : الأمور المرتبطة بالحج ، وشعائر الله الأمور
المرتبطة بالله ، ولعل اشتقاقها من «الشعر» بمعنى ما ينبت من الإنسان ، كأن
الشعيرة تلازم الشيء تلازم الشعر ، أو تلازم الشعار ـ الذي هو الثوب الذي على
الجسد مقابل الدثار الذي هو الثوب الفوقاني ـ لبدن الإنسان. والشعائر في الآية ـ لكونها
مطلقة ـ تشمل كل شيء كان أو أصبح من الأمور المرتبطة بالله مما لم ينه عنه ،
فمعالم الحج من الشعائر ، كما أن تشييد القباب على أضرحة الأئمة الطاهرين من
الشعائر. والمراد من عدم إحلال الشعائر : خرق حرمات الله.
وقد ورد عن الإمام
الباقر عليهالسلام أنه قال : «نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له
الحطم ، وقيل أنه أتى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وسأله عن معالم الإيمان ، ثم أخبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنه دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ، ولما وصل إلى سرح
ساقه معه بها وأقبل في القابل حاجا قد قلد هديا ، فلما قصد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم معاقبته نزلت الآية» يريد بذلك «آمّين البيت الحرام».
__________________
وَلا
الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا
____________________________________
(وَلَا) تحلوا (الشَّهْرَ الْحَرامَ) بأن تقاتلوا فيه ، والأشهر الحرم هي : رجب وذو القعدة وذو
الحجة والمحرم (وَلَا) تحلوا (الْهَدْيَ) وهو الشيء الذي يهديه الحاج إلى بيت الله الحرام للذبح من
إبل أو بقر أو غنم ، والمراد : لا تحولوا دون بلوغ ذلك إلى محله (وَلَا) تحلوا (الْقَلائِدَ) وهي جمع قلادة ، ما يقلد به الهدي من الإبل ، وهو أن يقلد
في عنقها شيء ليعلم أنه هدي لا يجوز تحليتها إذ بعد تقليدها تكون لله ولا يجوز
الرجوع فيها (وَلَا) تحلوا حال كونكم (آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرامَ) جمع «آمّ» على وزن «مادّ» من «أمّ» بمعنى قصد أي لا
تتعرضوا لمن قصد البيت الحرام لأداء الحج (يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي يطلبون بقصدهم الحج الفضل ـ أي الزيادة في الثواب أو
المال أو غيرهما ـ من الله ورضاه مقابل من قصد الحج للإفساد فإن صده جائر.
(وَإِذا حَلَلْتُمْ) عن الإحرام (فَاصْطادُوا) الصيد الذي حرمه الإحرام ، والأمر هنا للجواز لأنه في مقام
توهم الحضر ، وهذا دفع لما تقدم من قوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فقد كان السياق لبيان المحرمات ، ولذا أتت الآية الثانية
لبيان سائر المحرمات مما أشير إلى بعضها في الآية الأولى وهو (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ).
ثم إنه لما أنهى
سبحانه عن تحليل تلك الحرمات ، بيّن أن هذه الحرمات لا فرق فيها بين من اعتدى
عليكم وبين من لم يعتد عليكم ،
وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ
تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى
الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
(٢)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
____________________________________
بقوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنّكم من «جرمني فلان على أن صنعت كذا» أي حملني (شَنَآنُ) أي بغضاء وعداوة (قَوْمٍ) لكم ب (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي منعوكم عنه كما في عام الحديبية.
(أَنْ تَعْتَدُوا) عليهم بتحليل المحرمات المذكورة بالنسبة إليهم (وَتَعاوَنُوا) أيها المسلمون (عَلَى الْبِرِّ) أي الخير واجبا كان أو غير واجب (وَالتَّقْوى) وهو اجتناب المحرمات ، بأن يعين بعضكم بعضا في الأعمال
الخيرية وترك الآثام (وَلا تَعاوَنُوا) أيها المسلمون (عَلَى الْإِثْمِ) فإذا أراد أحد منكم أن يعمل إثما فلا تعينوه (وَالْعُدْوانِ) أي الظلم والتعدي ، وهذا مرتبط بقوله : «أن تعتدوا» فقد
جرت العادة أن يتعاون الناس على الإثم والظلم ، ولذا نهى الله المسلمين عنه (وَاتَّقُوا اللهَ) اجتنبوا مخالفته وعصيانه (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) لمن خالفه وعصاه.
[٤] وفي سياق المحرمات
المرتبطة بالحج ـ غالبا ـ ذكر سبحانه قسما آخر من المحرمات وهو ما استثناه سبحانه
في الآية السابقة بقوله : (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) فقال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) أيها المسلمون (الْمَيْتَةُ) وهي التي لم تمت بسبب شرعي من ذبح ونحر وغيره ، وذلك مختلف
ففي
وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
____________________________________
الأنعام مثلا
تحتاج التذكية إلى فري الأوداج وسائر الشرائط ، وفي الصيد رميه ، وفي السمك موته
خارج الماء ، وهكذا .. والمراد بالتحريم : أكلها ، فإن التحريم الشرعي يراد منه :
بحسب الأمر المتوقع منه ، فتحريم الحرير يراد به لبسه ، وتحريم الأم يراد به
اقترابها ، وتحريم المسكن يراد به سكناه (وَالدَّمُ) وهو ما بيّنه سبحانه في آية أخرى بقوله : (دَماً مَسْفُوحاً) ، أما المقدار المتبقي في اللحم فلا حرمة فيه (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وخصّص بالذكر مع كثرة تحريم اللحوم لاعتياد الناس أكله
وظنهم طيبه.
ثم لا يخفى أن
المحرمات تنقسم إلى قسمين : قسم لما فيه من الإضرار.
أما ما يذكره بعض
الناس ـ الآن من العلم الحديث ـ من إمكان التخلص من أضرار لحم الخنزير بالتعقيم ،
فليس بمحرم إذا عقّم.
فالجواب عنه : أنه
أي دليل لعدم وجود أضرار أخرى فيه بعد التعقيم لم يكشف عنها العلم إلى الآن ، كما
لم يهتد العلم طيلة أربعة عشر قرنا لهذا الضرر الذي اكتشف الآن.
وقسم حرم لجهة
معنوية ، كالذي لم يسمّ عليه اسم الله سبحانه ، وهذا لا يتوقف تحريمه على الضرر
الجسدي بل يحرم لانحرافه عن الميزان المستقيم.
(وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ) الإهلال بالشيء الابتداء به (بِهِ) أي
__________________
وَالْمُنْخَنِقَةُ
وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ
ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
____________________________________
الذبيحة التي ذكر
اسم غير الله عليها عند الذبح ـ كما تقدم في سورة البقرة (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي ما خنقت بأي نحو كان (وَالْمَوْقُوذَةُ) الوقذ هو الضرب ، أي التي ضربت حتى ماتت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التردي : الوقوع من مكان عال ، والمراد بها : التي وقعت من
مكان عال فماتت ، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون الحيوان بهذه الكيفيات (وَالنَّطِيحَةُ) وهي التي ينطحها غيرها فتموت (وَما أَكَلَ
السَّبُعُ) فريسة السبع : وهي التي أكل الحيوان المفترس بعضها وأبقى
بعضا ، فإنه يحرم أكل الباقي (إِلَّا ما
ذَكَّيْتُمْ) التذكية لغة هي «تمام الشيء» والمراد بها هنا : تحليل
الحيوان بإجراء السنن الشرعية عليه من كون الذابح مسلما ، والتوجه إلى القبلة
بالذبيحة ، وكون آلة التذكية من حديد ، وذكر الله حالة الذبح ، وفري الأوداج
الأربعة ، والمراد : الاستثناء من (ما أَكَلَ السَّبُعُ) وإن كان الحكم عاما أي أنه لو أدركتم ما أكله السبع
فذكيتموه فهو حلال.
وإدراكها ما عن
الباقرين عليهماالسلام حيث قالا : «إن أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك
أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه» .
(وَما ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ) جمع «نصاب» وهي الحجارة التي كانوا يعبدونها ، أي التي
تذبح باسم الأوثان تقرّبا إليها (وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا
__________________
بِالْأَزْلامِ
ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ
____________________________________
بِالْأَزْلامِ) الاستقسام طلب القسمة ، والأزلام جمع «زلم» وهو القدح أي
السهام ، فقد كان أهل الجاهلية يشترون جزورا ثم يكتبون على سهام عشرة أسماء خاصة ،
فلسهم حصة واحدة ، ولسهم حصتان ، وهكذا إلى سبعة حصص ، ويتركون ثلاثة أسهم لا حصة
لها ، ثم يجتمعون عشرة أشخاص فيخرج سهم باسم شخص ويعطى بمقدار حصة السهم لذلك
الشخص وهكذا .. بعد ما كانوا يقسمون الجذور ثمانية وعشرين قسما ، أما ثمن الجزور
فقد كان على من يخرج باسم السهام التي لا حصة لها. وهذا نوع من القمار فحرمه
الإسلام.
(ذلِكُمْ) أي الاستقسام بالأزلام أو جميع ما سبق من المحرمات ،
إتيانها (فِسْقٌ) والفسق هو الخروج عن الطاعة وارتكاب المعصية (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ دِينِكُمْ) قال في «مجمع البيان» : ليس يريد يوما بعينه ، بل معناه : «الآن
يئس الكافرون من دينكم» . وروى القمي : إنه يوم نصب الإمام عليهالسلام وهذا هو الأوفق بما تواترت به النصوص وذكره المفسرون من
شأن نزول آية الإكمال ، فقد كان الكفار يترقبون أن يترك الرسول الأمر سدىّ حتى إذا
قبض ولم يقم له خلف انقضوا على الإسلام يهدمونه ، فلما نصب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الإمام يئسوا من ذلك حيث كانوا يعلمون كفاية الإمام وقدرته
العظيمة ، ولذا لما مات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلم الكفار والمنافقين باغتصاب الخلافة انقضوا على
الإسلام يريدون
__________________
فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
____________________________________
اقتلاع جذوره وقد
علم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك حين وصى الإمام بالصبر وإلا قامت حروب داخلية وخارجية
تذهب بالإسلام.
وهنا يتساءل البعض
: كيف أن الإمام لما نهض بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون؟ والجواب : أن
الظروف التي تقدمت على نهضة الإمام غيّرت معالم الإسلام ، ولذا احتاج الإمام إلى
إرساء قواعد الدين من جديد ، وذلك مما يوجب اضطرابا واختلافا شأن الأنبياء حين
يدعون أممهم إلى الخير ، لكن الخطر الخارجي كان حين ذاك بعيدا حيث أن الكفار
انكمشوا وقوي الإسلام ـ ولو الصوري منه ـ والحروب الداخلية لم تكن تؤثر شيئا
بالنسبة إلى انعكاس كفة الإسلام والكفر ، لتميل الكفة الثانية على حساب خفة الكفة
الأولى.
(فَلا تَخْشَوْهُمْ) أن يظهروا على دين الإسلام كما كنتم تخشونهم من قبل (وَاخْشَوْنِ) في أن ترتكبوا العصيان وتخالفوا أمر الله والرسل. (الْيَوْمَ) أي يوم الغدير (أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ) بنصب علي عليهالسلام خليفة من بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فإن نعمة الإسلام دون نعمة الإيمان بالولاية ناقصة (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فإن الإسلام ذو درجات ، واليوم رقيتم الدرجة القصوى فرضي الله
عن المسلمين بالحال التي وصلوا إليها ، و «الرضى» هنا ليس في مقابل السخط بل في
مقابل النقص الأثري ، كما أن من يريد بناء دار إذا بلغ منتصفها يقول : لم أرض بعد
، أي لم يكمل رضاي ، وإنما يقول : رضيت الآن ، إذا تم بناء الدار.
فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣)
____________________________________
وقد كان ذلك عند نصب الرسول للإمام أمير
المؤمنين خليفته الرسمي بعد منصرفه من حجة الوداع بمحضر مائه وعشرين ألف من
الأصحاب من الرجال والنساء ، فصعد المنبر وخطب خطبة طويلة ثم قال : «من كنت مولاه
فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله»
وهو آخذ بكف علي. ونزل عن المنبر وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ،
وبقوا هناك ثلاثة أيام حتى تمت البيعة ثم قفلوا راجعين إلى المدينة.
(فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل المحرمات المذكورة (فِي مَخْمَصَةٍ) وهي «القحط» يسمى بذلك لإيجابه خمص البطون جوعا (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي في حال كون المضطر لم يمل (لِإِثْمٍ) فإن «الجنف» بمعنى الميل ، فلا يفرط في الأكل ، كأن يكون
محتاجا إلى شرب نصف رطل من الخمر ـ مثلا ـ فيشرب رطلا ، وكذا بالنسبة إلى الميتة
وسائر المحرمات (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ) يستر هذه السيئة الذاتية بمعنى عدم العقاب عليها (رَحِيمٌ) يرحم الناس فلا يجبرهم على الترك حتى عند أشد الضرورات.
[٥] وبعد بيان قسم
من المحرمات ، يأتي السياق لبيان قسم من المحللات لتتعادل الكفتان ، وقد ورد في
سبب نزول هذه الآية : أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بقتل الكلاب ، فسئل عن الاستثناء ، فنزلت الآية تحلل ما يصطاده
__________________
يَسْئَلُونَكَ
ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ
____________________________________
الكلاب المعلمة
والتي فيها نفع ، ونهت عن إمساك ما لا نفع فيه وأمرت بقتل الكلب العقور وما يضر
ويؤذي (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من المأكولات بقرينة السياق (قُلْ) يا رسول الله : (أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ) والطيب هو الشيء الذي لا خبث فيه مما لا ينفر منه الطبع ،
وإذن الشارع في بعض المأكولات دون بعض لهذا الميزان ، وإن لم يعرف العرف أن هذا
طيب وهذا خبيث ، فما أباحه الشارع فهو طيب وإن ظنّه العرف خبيثا ، وما حرمه الشارع
فهو خبيث وإن ظنّه العرف طيبا.
(وَ) أحل لكم صيد (ما عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوارِحِ) وحذف المضاف أي «صيد» لدلالة قوله : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، و «الجوارح» جمع جارحة ، سمي بذلك الكلب وسائر السباع
لأنها تجرح الصيد ، ثم خصّص سبحانه عموم الجوارح بقوله : (مُكَلِّبِينَ) أي في حال كونكم أصحاب كلاب معلّمة ، يقال : «كلّب الكلب»
إذا علّمه الصيد (تُعَلِّمُونَهُنَ) أي الكلاب الجارحة.
(مِمَّا عَلَّمَكُمُ
اللهُ) فإن الله قد علمكم تعليمهن ، ولعل الإتيان بضمير «هن» الذي
هو للمؤنث العاقل لانسجام سياق التعليم والتعلم مع ذلك ، وإلا فالقاعدة «تعلموها»
كما أن فائدة (مِمَّا عَلَّمَكُمُ
اللهُ) لإيقاظ الضمير وتوجيهه إلى الله سبحانه ، فإن القرآن
الحكيم يربط الأحكام والقصص بذاك الرباط العام وهو معرفة الله وسوق النفس إليه في
كل مقام ومناسبة (فَكُلُوا) أيها الصائدون (مِمَّا أَمْسَكْنَ) أي
عَلَيْكُمْ
وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ
(٤)
____________________________________
حفظن واصطدن تلك
الكلاب (عَلَيْكُمْ) أي لأجلكم لا لأنفسهن ، فإن ذلك حرام (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي على «ما أمسكن» حين إرسال الكلب. ولا يخفى أن بهذا
القيد أي «مكلبين» خرج صيد سائر الجوارح إذا لم يدرك الإنسان ذكاته.
روى الحضرمي عن
الإمام الصادق عليهالسلام قال : سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب؟ فقال
: «لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب». فقلت : فإن قتله؟ قال : «كل ، فإن الله يقول
: (وَما عَلَّمْتُمْ
مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ثم قال عليهالسلام : «كل شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب
المعلمة فإنها تمسك على صاحبها» وإنما تعدى الإمساك ب «على» لإفادة الإمساك ثقلا ومشقة ،
أو يتضمن معنى «الرد» فالكلب يرد بعض الحيوان لصاحبه وقد أكل بعضه ، كما قال
سبحانه : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ
زَوْجَكَ) .
(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم فلا تتناولوا ما حرمه (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فإن الإنسان وإن ظنّ طول المدة في الدنيا وأنه بعيد جزاؤه
، لكن لا تمض إلا مدة يسيره وإذا به يرى نفسه أمام الحساب. قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا وكأن الآخرة لم تزل لهم
دارا» .
__________________
الْيَوْمَ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ
وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
____________________________________
[٦]
(الْيَوْمَ) الذي تمّ فيه بيان كل الأحكام ، ونوجز المحللات فنقول : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهذا عام يشمل الطيب من المآكل والمناكح والمساكن والملابس
وغيرها بقرينة «والمحصنات» بخلاف الآية السابقة التي كانت خاصة بالمأكل بحكم
السياق ، وهذه الآية تدل على كون الأصل في كل الأشياء الحلّ إلا ما خبث ، ومن
المعلوم أن الخبث لا يميّز إلا بالشرع أو بالعقل نادرا (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي الذين أرسل لهم الكتاب السماوي كاليهود والنصارى
والمجوس (حِلٌّ لَكُمْ) والطعام إما المراد به الحبوب ، كما هو المروي والمتعارف
إلى اليوم ، فإن كلمة «باعة الأطعمة» أو ما أشبهها تنصرف إلى باعة الحبوب ، أو
المراد به العام لكل طعام ، وقد استثني من ذلك الذبائح ، لقوله سبحانه : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ، وألحق به غيره إجماعا ، كما استثني ما لامسة الكتابي
برطوبته لأنهم مشركون لقوله سبحانه : (فَتَعالَى اللهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، وفي آية أخرى حكم بنجاسة المشرك بقوله سبحانه : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ، وتفصيل البحث في الفقه .
وهنا سؤال يفرض
نفسه وهو : ما الفائدة من هذا التنصيص والحال أن طعام غير أهل الكتاب حلّ أيضا؟
والجواب : إنه من باب المورد والقيد الغالب لابتلاء المسلمين به غالبا ، كما يدل
على ذلك (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ) ومن المعلوم أن طعام المسلم حلّ حتى
__________________
وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
____________________________________
للمشرك الوثني ،
ثم لو قلنا : إن الجملة عامة لكل طعام ، فهل معنى حلية طعامنا لهم الحلّية بالنسبة
إلينا أي أن طعامهم حل لنا ، أو الحلية بالنسبة إليهم أي يجوز لهم أن يطعموه؟
الظاهر الثاني ، وإن كان لا يبعد الأول لأن قاعدة «ألزموهم بما التزموا به» تقتضي
كون الحرام عندهم من أطعمتنا كذبائحنا بالنسبة إلى اليهود مثلا ، لا يجوز لهم أن
يطعموه. وفي الكلام مناقشة.
(وَ) أحلت لكم (الْمُحْصَناتُ) أي العفيفات اللاتي أحصن أنفسهن عن الحرام (مِنَ) النساء (الْمُؤْمِناتِ) بأن تنكحوهن ، أما الزانيات غير العفيفات فالمشهور بين
العلماء جواز نكاحهن بالسّنّة ، ولا مفهوم للآية حتى يمنع عن ذلك ، لما ثبت في
الأصول من عدم حجية مفهوم اللقب وإنما خصّصن لأنهن من «الطيبات». (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) أي أعطوا الكتاب (مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم اليهود والنصارى والمجوس ـ والمجوس أهل كتاب على الأصح
ـ وقد اختلف العلماء في جواز نكاحهن نكاحا دائما بعد كون المشهور جواز نكاحهن
منقطعا ، ولو قلنا بعدم جواز الدائم فهو تخصيص بالسنّة ، وقد ثبت جواز تخصيص
الكتاب بالسنة الواردة (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) أي أعطيتموهن مهورهن ، وليس معنى «الإعطاء» الإعطاء الفعلي
بل ذلك وإن كان في المستقبل ، ولا مفهوم للآية بالنسبة إلى الحكم الوضعي حتى يكون
: «من لا يريد الإعطاء إطلاقا
مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ
____________________________________
ولم يعط تحرم عليه
المرأة المزوجة» بل المراد : الحكم التكليفي ، أي أن ذلك حرام لا يجوز وهذا تحريض
للإعطاء.
في حال كونهم (مُحْصِنِينَ) بالمسلمة أو الكتابية ، بأن كان اقترابكم منهن بالإحصان
والنكاح (غَيْرَ مُسافِحِينَ) تأكيد لقوله «محصنين» والسفاح هو الزنا (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) الخدن هو الصديق ، وهو أن ينفرد الرجل بالمرأة يزني بها
دائما فهي وهو خدنان ، أي أنه لا يجوز للرجل بالنسبة إلى المسلمة والكتابية ذلك
كما لا يجوز العكس. وقد تقدم شبه هذا في سورة النساء ، ومعنى الآية جملة : أن
مقاربة المرأة المسلمة العفيفة والكتابية العفيفة يجوز لكم ويطيب ، وأعطوا مهورهن
، لكن اللازم أن يكون الاقتراب بالنكاح لا بالسفاح أو باتخاذهن أخدانا كما يكثر
الأمران عند غير المسلمين.
ثم إن ما ذكرناه
من المحرمات والمحللات كلها من مقتضيات الإيمان الواجب التمسك به (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) تعبير آخر عن المعصية والخروج عن الطاعة ، ولعل الإتيان
بهذه اللفظة هنا لإفادة أن الكفر ـ في باب المحللات والمحرمات ـ ليس بالأصول وإنما
هو بالفروع ، وقد تقدم في بعض الآيات أن الكفر قسمان : كفر بالأصول هو الموجب
لخروج الإنسان عن كونه مسلما ، وكفر بالفروع ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ كَفَرَ) ، وقال (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ، وهو الموجب لكون
__________________
فَقَدْ
حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ
(٥) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
____________________________________
الإنسان فاسقا (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) معنى «الحبط» عدم استحقاق الثواب على العمل كما قال سبحانه
: (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، (وَهُوَ) الكافر بالإيمان (فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ) اللذين خسروا أنفسهم حيث استحقوا العقاب حين استحق سائر
المطيعين الثواب.
[٧] وفي سياق ذكر
الطيبات والملاذ الجسدية يأتي دور الطيبات والملاذ الروحية التي من أكثرها طيبا
ولذة الصلاة بما لها من طهارة (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي أردتم إياها فان المريد لشيء يقوم إليه ليأتي به ، ألا
ترى أن الناس يقعدون إلى أشغالهم فإذا أذّن المؤذن قاموا إلى الصلاة ليأتوا بها (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) من قصاص الشعر إلى الذقن طولا ، وما اشتملت عليه الإبهام
والوسطى عرضا ، بالماء الطاهر المباح ، غسلا طبيعيا ، من الأعلى إلى الأسفل (وَ) اغسلوا (أَيْدِيَكُمْ) ولما كان المنصرف من «اليد» : تمام اليد إلى الكتف ، أخرجه
بقوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) فإن الغسل يستثني منه غسل العضد ولذا لا يستفاد من «إلى»
هذه كونها غاية للغسل بل المستفاد كونها غاية للمغسول ، فإنك لو قلت لمصاب بالمرض
: ادهن رجلك إلى الركبة. لم يستفد عرفا منه لزوم كون التدهين من الإصبع إلى الركبة
بل استفيد كون الفخذ خارجا عن التدهين ، وعلى هذا فاللازم الابتداء من الأعلى لأنه
الغسل الطبيعي الذي وردت به السنة (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ)
__________________
وَأَرْجُلَكُمْ
إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
____________________________________
«الباء» للتبعيض
أي : بعض رؤوسكم ، وهو الربع المقدم من الرأس من المفرق إلى قصاص الشعر (وَ) امسحوا (أَرْجُلَكُمْ) والمراد بهما ظهرهما (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهما قبتا القدمين ، وإنما قرء بالنصب مع أنه معطوف على
المجرور باعتبار المحل ، وقد كان الترتيب المجزي قطعا في باب الوضوء غسل الوجه ثم
اليد اليمنى ثم اليسرى ثم مسح الرأس ثم الرجل اليمنى ثم اليسرى ، والمسح ببقية بلل
الوضوء.
(وَإِنْ كُنْتُمْ
جُنُباً) «الجنب» لفظ يقع
على المفرد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث ، بلفظ واحد ، هو من «البعد» ، كأن
الإنسان إذا اعترته هذه الحالة يبتعد من النظافة ، وحصول الجنابة بالإنزال أو
الإدخال (فَاطَّهَّرُوا) من «تطهر» ثم أدغمت التاء في الطاء وجيء بهمزة الوصل
لامتناع الابتداء بالساكن ، والتطهير هو الاغتسال بالارتماس في الماء مرة واحدة ،
أو الترتيب بغسل الرأس والرقبة ثم الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) لا تتمكنون من استعمال الماء للوضوء (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين ـ وقد سبق أن ذكر السفر لغلبة عدم وجود الماء
فيه ـ (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) و «الغائط» هو
المحل المنخفض من الأرض وسمي البراز به بعلاقة الحال والمحل وذلك كناية عن الحدث (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وهو كناية عن الجماع (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) هذا مرتبط بالسفر والحدث واللمس
فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ
اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
____________________________________
(فَتَيَمَّمُوا) معنى الآية بالجملة : إن مريد الصلاة يلزم عليه الوضوء
والغسل إن كان جنبا. وإن كان مريضا يضره الماء أو مسافرا أو مجامعا ، ولم يجد
الماء للغسل أو الوضوء فليتيمّم ويبقى قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فإنه ليس في مرتبة تلك الأمور ، ولعل الإتيان به لمراعاة
غلبة التخلي عند إرادة الصلاة.
وقد سبق أن التيمم
مصدر باب التفعل بمعنى القصد ، أي اقصدوا (صَعِيداً) أي أرضا (طَيِّباً) ليس بنجس ولا مغصوب (فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ) الباء للتبعيض ، أي بعض وجوهكم ، وهو من قصاص الشعر إلى
طرف الأنف الأعلى (وَأَيْدِيَكُمْ) من الزند إلى رؤوس الأصابع (مِنْهُ) أي مبتدءا بالمسح من ذلك الصعيد ، فاللازم أن يضرب باليدين
على الأرض ثم يمسح بها ليصدق «منه».
(ما يُرِيدُ اللهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) من ضيق فأمره بالوضوء والغسل والتيمم ليس لأجل التضييق
عليكم (وَلكِنْ يُرِيدُ) الله سبحانه (لِيُطَهِّرَكُمْ) وينظفكم من الأدران والأوساخ الظاهرية والباطنية ، أما
تطهير الغسل والوضوء من الأدران فظاهر ، وأما تطهير التيمم فقد ثبت في العلم
الحديث أن التراب يقتل الجراثيم بمرتبة أضعف من مرتبة الماء (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بإرشادكم إلى مصالحكم كلها بعد ما أرشدكم إلى أكبر النعم
وهو الإيمان (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) إياه بما أنعم
وَاذْكُرُوا
نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ
سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
____________________________________
عليكم وأرشدكم إلى
مصالحكم وما يقربكم منه سبحانه.
[٨]
(وَ) إذ أتم سبحانه نعمته عليكم ف (اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَ) اذكروا (مِيثاقَهُ الَّذِي
واثَقَكُمْ بِهِ) أي عهده الذي عاهدكم به من الإيمان والسمع والطاعة ، فقد
أخذ سبحانه ميثاق الأمم على يد الأنبياء (إِذْ قُلْتُمْ) بعد ما آمنتم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فعليكم حسب المعاهدة السمع والطاعة وعلى الله الإسعاد في
الدنيا والآخرة ، والله سبحانه فعل ما عليه فعليكم أن تفعلوا ما عليكم (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا أوامره ونواهيه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) في «ظلال القرآن» قال : و «ذات الصدور» أي صاحبة الصدور
الملازمة لها اللاصقة بها ، وهي كناية عن النيات المقيمة والأسرار الدفينة
والمشاعر التي لها صفة الملازمة للقلوب والاستقرار في الصدور وهي على خفائها هناك
مكشوفة لعلم الله والله بها عليم.
[٩] ثم يرجع
السياق إلى لزوم الجادة وعدم الاعتداء ـ كما سبق ـ في قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
أَنْ صَدُّوكُمْ) ، كما تجد مثل ذلك كثيرا في القرآن الحكيم حيث يلطف الجو
بذكر الصلاة ونحوها ثم يرجع إلى المطلب السابق بعد ما لطف الجو وربطه بالطابع
الإلهي العام وأخرج الكلام عن كونه مملّا. ثم إن ما يأتي هو من الميثاق الذي واثق
الله
__________________
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
وَعَدَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
عَظِيمٌ (٩)
____________________________________
عباده به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي كثيري القيام لأمر الله سبحانه ورضاه (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل في كل أمر من الأمور (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : عداؤهم لكم (عَلى أَلَّا
تَعْدِلُوا) في الحكم عليهم وعند مخالطتهم ، فإن الإنسان إذا عادى شخصا
لا يعدل بالنسبة إليه ـ غالبا ـ انتقاما وشفاء لما في صدره من الضغينة عليه ، ولذا
كان من أسس الإسلام قول الحق في الرضى والغضب (اعْدِلُوا هُوَ) أي العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وليس المفهوم : أن الجور قريب إلى التقوى ، فإن التفضيل في
مثل المقام ينسلخ عن معناه اللغوي (وَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب نواهيه والإتيان بأوامره (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم على
أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
[١٠]
(وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله وما جاءوا به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) وذلك يلازم ترك السيئات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وجملة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) في موضع نصب مفعولا ل «وعد» ولعلّ سر الإتيان بالجملة ،
إفادة أن المطلب مقطوع به ، فإن الجملة الاسمية تفيد اليقين.
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ
أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
____________________________________
[١١]
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) فلم يؤمنوا إيمانا صحيحا (وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) براهيننا وأدلتنا التي أقمناها على التوحيد وسائر الأصول (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الذين يصاحبون النار ويخلدون فيها.
[١٢] ثم ذكّر
المؤمنين بنعمة من نعمه سبحانه وأنه كيف وفي لهم بميثاقه حيث أنقذهم من كيد
أعدائهم (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَ) أي قصد وأراد (قَوْمٌ أَنْ
يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) والمراد ب «بسط اليد» إيذاؤهم وقتلهم واستئصالهم. قال
القمي يعني : أهل مكة من قبل فتحها ، فكف أيديهم بالصلح يوم الحديبية . وقيل : إن المراد بذلك العموم ، أي من أراد السوء
بالمسلمين. وقيل : المراد بالقوم خصوص بني النظير حيث أرادوا قتل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبر بذلك فنجى صلىاللهعليهوآلهوسلم من كيدهم. وقيل غير ذلك (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ) أي منعهم من الفتك بكم بل نصركم عليهم (وَاتَّقُوا اللهَ) بامتثال أوامره واجتناب زواجره (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) يكلون إليه سبحانه أمورهم ويجعلونه نصيرا وظهيرا لهم.
__________________
وَلَقَدْ
أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ
الزَّكاةَ
____________________________________
[١٣] لو كانت
الآية السابقة حول بني النظير ـ وهم من اليهود ـ لكان الارتباط بين الآيتين واضحا
، إذ بيّن سبحانه هنا أنهم خانوا الأنبياء مع ما تفضل الله عليهم بكل خير ونعمة ،
فكيف لا يريدون خيانة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! ويحتمل أن يكون الارتباط من جهة الميثاق فيريد سبحانه أن
يذكر المسلمين حتى لا يكونوا كاليهود الذين خانوا ونقضوا الميثاق بعد أخذه منهم إذ
قد سبق قوله : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي
واثَقَكُمْ بِهِ) (وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) العهد الأكيد الذي أخذه الله منهم على لسان أنبيائه (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيباً) من «النقب» وهو الكشف ، فكأن النقيب ـ وهو كفيل القوم ـ ينقب
عن أسرارهم ويكشف ضمائرهم ليسير بهم نحو الخير والصلاح في المجتمع. أي أمرنا موسى
بأن يبعث من الأسباط الاثني عشر ، اثنى عشر رجلا كالطلائع يتحسّسون ويأتون بني
إسرائيل بأخبار أرض الشام وأهلها الجبارين ، فاختار من كل سبط رجلا يكون لهم نقيبا
ـ أي أمينا كفيلا ـ فرجعوا يثنون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدة بأسهم وعظم
خلقهم إلا رجلين منهم ، بن يوقنا ويوشع بن نون (وَقالَ اللهُ إِنِّي
مَعَكُمْ) أي قال لبني إسرائيل ، وكونه معهم بمعنى أنه يؤيدهم
وينصرهم ويهديهم (لَئِنْ أَقَمْتُمُ
الصَّلاةَ) يا معشر بني إسرائيل (وَآتَيْتُمُ
الزَّكاةَ) أي أعطيتموها
__________________
وَآمَنْتُمْ
بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً
____________________________________
(وَآمَنْتُمْ
بِرُسُلِي) الذين يأتون من بعد موسى عليهالسلام ولذا أخّر الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي عظمتموهم ، أو نصرتموهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) أي أنفقتم في سبيله ، فإنه كالقرض الذي يعطى ثم يؤخذ ،
والمراد بكونه «حسنا» أن لا يكون فيه منّ ولا أذى ولا دواع غير الله سبحانه (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ) أي أذهبن ، ومعنى «التكفير» التغطية ، أي أغطي بالغفران (سَيِّئاتِكُمْ) التي صدرت منكم ، وهو جواب (لَئِنْ أَقَمْتُمُ
الصَّلاةَ)(وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت قصورها وبساتينها (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ
ذلِكَ) أي بعد أخذ الميثاق (مِنْكُمْ) يا بني إسرائيل (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ) أي أخطأ وسط الطريق ، فإن سواء كل شيء وسطه.
[١٤]
(فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ) أي بسبب نقض اليهود ميثاقهم الذي كان بيني وبينهم حيث أنهم
تركوا الصلاة ومنعوا الزكاة وكذبوا بالرسل وقتلوهم (لَعَنَّاهُمْ) أي طردناهم عن ساحة القرب وقطعنا رحمتنا عنهم حيث جعلنا
بعضهم قردة وخنازير وجعلناهم مشردين مطرودين دائما لا تقوم لهم قائمة (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق
يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ
تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ
____________________________________
وتميل نحو الظلم
والكفر. وجعله سبحانه قلوبهم قاسية ، بمعنى : تركه اللطف بهم حتى تردّت ملكة
أخلاقهم ، كمن يعصي أستاذه في أوامره فيترك تدريسه وتهذيب أخلاقه حتى يصبح جاهلا
ذا أخلاق سيئة.
(يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ) جمع كلمة (عَنْ مَواضِعِهِ) وتحريفهم الكلم على قسمين : قسم بمحو بعض التوراة ، وقسم
بتأويله على غير المعنى المقصود منه.
(وَنَسُوا حَظًّا) أي قسما (مِمَّا ذُكِّرُوا
بِهِ) أي من الأحكام التي ذكّرناهم بها في التوراة فإنه قد فقد
بعض التوراة مما لا يعلّمونه للناس ، أو المراد من «النسيان» أنه صار كالمنسي
عندهم من جرّاء عدم العمل ، فإن النسيان يطلق على ما أهمله الإنسان يقال : «نسيني»
أي أهملني ، وقال سبحانه : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) ، (وَلا تَزالُ) يا رسول الله (تَطَّلِعُ) باستمرار (عَلى خائِنَةٍ
مِنْهُمْ) أي طائفة خائنة ، أو نفس خائنة ، إذا قالوا قولا خالفوه
وإذا عاهدوا عهدا نقضوه ـ كما أراد بنو النظير الغدر به والخيانة بعد الميثاق ـ (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) إما استثناء من الجميع أو من الجملة الأخيرة ، فإن «قليلا
منهم» ليسوا كذلك كعبد الله بن سلام ، أو إن «قليلا منهم» لا يخون (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي عن
__________________
وَاصْفَحْ
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
وَمِنَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ
____________________________________
هؤلاء (وَاصْفَحْ) أي تجاوز ، فإنك لست منتقما ، وأن ذلك ليس من شأنك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فإن العفو والصفح إحسان ، والإحسان محبوب حتى بالنسبة إلى
المجرم.
[١٥] هذا كان شأن
اليهود ، أما النصارى فليسوا أحسن حالا من اليهود في بعض الجهات (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) قولا باللفظ لا اعتقادا بالقلب ، كما تقول : فلان يقول إني
مسلم ، تريد بذلك أنه ليس بمسلم حقيقة بل مسلم قولا (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل واتباع
أوامر الله (فَنَسُوا حَظًّا
مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) كما نسي اليهود ذلك من ذي قبل (فَأَغْرَيْنا) التسليط والتحرّش والتحريض (بَيْنَهُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فإنهم انقسموا إلى أقسام وأخذ بعضهم يعادي بعضا عداء لا
مثيل له ، حتى إن عداء بعضهم بلغ إلى حد لم يبلغ عداؤهم لليهود والمسلمين
والوثنيين ، وقد شهد التاريخ قديما مذابح في فرق النصارى ومعاداة الكاثوليك والبروتستانت
والأرثوذكس فعلا لا يحتاج إلى برهان ، وهذه إحدى معجزات القرآن الحكيم ، كإخباره
عن ذلّة اليهود (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) .
__________________
وَسَوْفَ
يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
يا
أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا
كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
____________________________________
وهنا سؤال وهو :
كيف يكون إلى يوم القيامة ، وفي زمان المهدي عليهالسلام الكلّ يسلم وجهه إلى الله؟ ثم إن يوم القيامة إنما يكون
بعد موت الناس عشرات السنوات؟
والجواب : إن هذا
معناه : بقاء العداوة ما بقوا ، يعبّر عن استمرار الشيء إلى الآخر بمثل هذا
التعبير.
(وَسَوْفَ) في يوم القيامة (يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) أي يخبرهم سبحانه (بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ) ويقف التعبير إلى هذا الحد ليرسم صورة من التهديد ، كما
تقول للمجرم : غدا أنبئك بما عملت اليوم ، تريد بذلك تهديده بالعقاب القاسي.
[١٦] ثم خاطب
سبحانه أهل الكتاب بصورة عامة لهدايتهم سواء السبيل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أيها اليهود والنصارى ـ ولعل المجوس أيضا داخلون في الخطاب
ـ (قَدْ جاءَكُمْ
رَسُولُنا) محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) من أحكام الله سبحانه التي عارضت مصالحهم فأخفوه عن الناس
إبقاء على كيانهم وانحرافهم (وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ) ممّا استوجبوه من العقاب ، أو يعفو عن بعض الأحكام التي
أوجبت عليهم العقوبة ، كما قال سبحانه :
(فَبِظُلْمٍ مِنَ
قَدْ
جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
يَهْدِي
بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
____________________________________
الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) ، فالفرصة سانحة الآن لتتداركوا ما فات منكم.
(قَدْ جاءَكُمْ) يا أهل الكتاب (مِنَ اللهِ نُورٌ) هو الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فكما أن النور الخارجي يهتدى به إلى الأمور المحسوسة في
الظلمة ، كذلك النور المعنوي يهتدى به إلى دروب الحياة في ظلمات الأهواء والجهل (وَكِتابٌ مُبِينٌ) هو القرآن ، فإنه واضح لا لبس فيه ولا غموض.
[١٧]
(يَهْدِي بِهِ) أي بكل واحد من «النور والكتاب» ، كما قال سبحانه : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ) أي كل واحد منهما (اللهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ) أي من اتبع رضوان الله ـ أي رضاه ـ بقبول القرآن ونبوة
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (سُبُلَ السَّلامِ) أي طرق السلامة في كل شيء ، السلامة في الدين ، والسلامة
في الدنيا ، والسلامة في الآخرة للفرد والمجتمع (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فإن الحياة ظلمات لا يدري الإنسان كيف يسير في دروبها ،
وبالقرآن والنبي يهتدي إلى الحق وينير طريقه (بِإِذْنِهِ) بإذن الله ولطفه (وَيَهْدِيهِمْ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يوصلهم إلى
__________________
لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ
____________________________________
سعادة الدنيا
والآخرة.
[١٨] إنه يهدي إلى
الصراط المستقيم في العقيدة لا الاعتقاد بأن المسيح هو الله أو الاعتقاد بأن لله
أبناء (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فإنه سواء جعلوه إلها واحدا أو شريكا له ، فقد كفروا ، إذ
إنكار الله سبحانه والتشريك معه كلاهما كفر (قُلْ) يا رسول الله في إبطال قولهم : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي من يقدر على أن يدفع أمرا من أوامر الله وإرادة من
إرادته (إِنْ أَرادَ أَنْ
يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) إن النصارى يعترفون بذلك ، وأنه بإمكان الله أن يهلك كل
أولئك ، فكيف يجتمع هذا الاعتراف مع الاعتقاد بألوهية المسيح؟ إن الإله لا يمكن
لأحد مخالفة أمره التكويني فكيف يتمكن أحد إهلاكه؟
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) فكيف يمكن أن يكون له شريك مع أن كل شيء يتصور فهو ملك لله؟
وهل يمكن أن يكون إله مملوك؟ (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إن شاء خلق من غير ذكر ولا أنثى كآدم وحواء عليهماالسلام ، وإن شاء خلق من ذكر وأنثى كسائر الناس ، وإن
وَاللهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
____________________________________
شاء خلق من أنثى
دون ذكر كالمسيح عليهالسلام ، فليس في خلقه دلالة على ألوهيته كما زعمت النصارى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ليست قدرته منحصرة في شيء أو أشياء خاصة حتى إذا كان قد
خلق بذلك الشكل «بشكل عيسى» دل على أنه ليس من خلقه.
[١٩]
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فإن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لما حذّرهم نقمة الله وعذابه قالوا : نحن أبناؤه ، والابن
الحبيب لا يخاف من نقمة الأب الودود (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المفترين : (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) الله (بِذُنُوبِكُمْ)؟ حيث تعترفون بما حكى القرآن عنهم : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ، فإن كنتم أبناء أحباء لم يكن معنى للعذاب ، ولعل المراد
من «المستقبل» : الماضي ، أي لم عذبكم سابقا بذنوبكم حيث جعل منكم القردة
والخنازير وأشباه ذلك؟ (بَلْ أَنْتُمْ) أيها اليهود والنصارى (بَشَرٌ مِمَّنْ
خَلَقَ) تعالى إن أحسنتم جوزيتم وأن أسأتم جوزيتم كما يجازى غيركم
من الناس (يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) من العاصين (وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) منهم ، لأنه لا بنوّة ولا عواطف خاصة بين الله وبينكم (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) فليس
__________________
وَما
بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ
تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
____________________________________
شيء من نفس الله
حتى لا يملكه سبحانه ـ كما تدعون أنتم من كونكم أبناءه ـ (وَما بَيْنَهُما) من سائر المخلوقات والمراد بالسماء هنا : الكواكب وما يرى
في ناحيتها ـ كما هو المنصرف ـ حتى يتصور ما بينهما ، لا جهة العلو (وَإِلَيْهِ) سبحانه (الْمَصِيرُ) المرجع والمآل ، فليس هناك غيره يملك شيء أو يرجع إليه في
أمر.
[٢٠]
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ) الأصول والفروع (عَلى) حين (فَتْرَةٍ مِنَ
الرُّسُلِ) أي انقطاع منهم ، فلم يكن قرب بعثة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نبي ، وقد كنتم في جهالة وضلالة ، والآن جاء المعلم المنقذ
الهادي. ولعل سر «تبيين الأمر» وبوضوح أن الدنيا لا تستقيم إلا بهدى السماء ، فإنه
لما انقطع الوحي في الفترة ساد العالم خراب وفوضى لا مثيل لها ، وبذلك يكون تجربة
عملية ، وإنما جاء الرسول لئلّا تحتجوا و (أَنْ تَقُولُوا) يوم القيامة : (ما جاءَنا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) حتى نهتدي ونصلح (فَقَدْ جاءَكُمْ
بَشِيرٌ) لمن آمن واتقى بالجنة (وَنَذِيرٌ) لمن كفر أو عصى بالنار (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على أن يرسل الرسول ، فليس لشخص أن يقول : كيف يكون
هذا رسول؟
[٢١] ويرجع السياق
إلى قصة بني إسرائيل الذين نقضوا كل المعاهدات والمواثيق ولم يفوا لموسى نبيهم
المعترف به ، فكيف يفون لغيره ممن
وَإِذْ
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ
فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ
____________________________________
لا يعترفون به
عنادا وحسدا؟! (وَ) اذكر (إِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) فقابلوها بالإطاعة واتباع الأحكام (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) فقد كان سبعون نبيا في عهد موسى عليهالسلام. ولعل سر كثرة الأنبياء عليهمالسلام في تلك الأزمنة كون البشر في مثل حال الأطفال الذين
يحتاجون إلى عدد من المربين ، بخلاف عهدي عيسى عليهالسلام والرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث نضج البشر أكثر فأكثر ، كالكبار الذين لا يحتاجون إلّا
إلى مرشد واع.
وهنا نكتة لا بد
من ذكرها وهي أن الانهزامية الغربية التي غزت نفوس المسلمين جعلتهم يفكرون فيما
يخص الأنبياء عليهمالسلام والأمم كما فكر «دارون» وتلاميذه القائلون ب «نظرية التطور»
مع العلم أن القرآن والسنة يكذّبون ذلك وأن أول بشر على وجه الأرض كان نبيا أوتي
النبوة من بين جميع أولاده وزوجته الذين بعث إليهم نبيا. وهكذا تسلسلت الأمم كلما
ابتعدوا عن النبي توحشوا وكلما اقتربوا إليه ارتقوا في مدارج الإنسانية. وبنو
إسرائيل كانوا أمة بعيدة عن الإنسانية والفضيلة ـ بأنفسهم ـ لا أن من هم قبلهم
كانوا أكثر توحشا كما يقول أصحاب «نظرية التطور» ويتصورون كذبا واختلافا وتقليدا
أن إنسان الغاب وقبله تطور من القرد ، ومن حسن الحظ أن علماء الغرب نقدوا رأي «دارون»
وأقاموا أدله على بطلانه ، لكن المنهزمين عندنا لا زالوا في هزيمتهم النكراء
يلعقون قصاع «دارون».
(وَجَعَلَكُمْ
مُلُوكاً) فقد كان فيهم الملوك والساسة والقادة (وَآتاكُمْ)
ما
لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
قالُوا
يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
____________________________________
أي أعطاكم (ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ) من إنزال المنّ والسلوى والتفضيل على سائر الأمم الذين في
زمانهم ، بجعلهم من نسل الأنبياء ، ولبث الأنبياء فيهم ، وجعلهم ملوكا ، وإغراق
أعدائهم إلى غيرها.
[٢٢]
(يا قَوْمِ ادْخُلُوا
الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) وهي أرض الشام التي قدست وطهّرت من الشرك وبوركت بكثرة
الأشجار والأنهار وطيب الهواء وكثرة الأنبياء فيها ، وقد كانوا في مصر عبيدا وها
هم قد نجوا من أعدائهم ، ويريد الله بهم أن يدخلوا الشام ليكونوا فيها سادة وملوكا
(الَّتِي كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ) فيها السيادة
والسعادة (وَلا تَرْتَدُّوا
عَلى أَدْبارِكُمْ) أي لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) سعادة الدنيا وثواب الآخرة ، بسبب تخيّركم الأمكنة المريحة
لكم في الدنيا ، وعدم سماع أمر الله الموجب لحرمانكم من الثواب في الآخرة.
[٢٣]
(قالُوا يا مُوسى
إِنَّ فِيها) في الأرض المقدسة (قَوْماً جَبَّارِينَ) شديدي البأس والبطش (وَإِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها) أي الأرض المقدسة (حَتَّى يَخْرُجُوا) أي يخرج الجبارون (مِنْها) هم بأنفسهم بدون تعب أو نصب أو قتال (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) فيها.
قالَ
رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبابَ
____________________________________
قال في «المجمع» ـ بتخليص ـ : قال
المفسرون : لمّا عبر موسى وبنوا إسرائيل البحر وهلك فرعون ، أمرهم سبحانه بدخول
الأرض المقدسة ، فلما نزلوا على نهر الأردن خافوا من الدخول ، فبعث موسى من كل سبط
رجلا وهم الذين ذكرهم الله في قوله : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ
اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)
، فعاينوا من عظم
شأنهم وقوتهم شيئا عجيبا فرجعوا إلى بني إسرائيل فأخبروا موسى عليهالسلام
بذلك ، فأمرهم أن يكتموا ذلك فوفى اثنان منهم يوشع بن نون وكالب بن يوقنا وعصى
العشرة وأخبروا بذلك وفشا الخبر في الناس ، فقالوا : إن دخلنا عليهم تكون نساؤنا
وأهالينا غنيمة لهم ، وهموا بالانصراف إلى مصر وهموا بيوشع وكالب أن يرجموهما
بالحجارة ، فاغتاظ لذلك موسى وقال : (إِنِّي لا أَمْلِكُ
إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)
، فأوحى الله إليهم : «إنهم يتيهون في الأرض أربعين سنة وإنما يخرج منهم من لم يعص
الله في ذلك». فبقوا في التيه أربعين سنة في ستة عشر فرسخا وهم ستمائة ألف مقاتل
لا تتخرّق ثيابهم وتثبت معهم وينزل عليهم المن والسلوى ، ومات النقباء غير يوشع
وكالب ، ومات أكثرهم ونشأت ذريتهم فخرجوا إلى حرب أريما وفتحوها .
[٢٤]
(قالَ رَجُلانِ) هما يوشع وكالب (مِنَ الَّذِينَ
يَخافُونَ) الله تعالى فيتبعون أوامره وزواجره (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بالدين والعقل (ادْخُلُوا) يا بني إسرائيل (عَلَيْهِمُ) أي على هؤلاء الجبارين (الْبابَ) أي باب
__________________
فَإِذا
دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى
إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ
____________________________________
المدينة (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ) أي الباب (فَإِنَّكُمْ
غالِبُونَ) فقد كان أخبرهم موسى عليهالسلام بالنصر (وَعَلَى اللهِ
فَتَوَكَّلُوا) في نصرة الله لكم على الجبارين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيمانا حقا ، فإن من توكل على الله كفاه.
[٢٥]
(قالُوا) أي قال بنو إسرائيل لموسى عليهالسلام : (يا مُوسى إِنَّا لَنْ
نَدْخُلَها) أي لن ندخل المدينة (أَبَداً ما دامُوا
فِيها) أي ما دام الجبارون في المدينة ، فقد خافوا منهم ولم يثقوا
بوعد الله النصر لهم (فَاذْهَبْ) يا موسى (أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقاتِلا) الجبارين. ولعل مرادهم ليس ما ينافي نزاهة الله عن التجسيم
، بل قصدوا أن الرب يدفع عنهم ، كما قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، وقال : (وَجاءَ رَبُّكَ) ، ولذا لم ينكر موسى عليهالسلام مقالتهم ، أو أنهم قصدوا التجسيم وأنكر موسى لكن القرآن لم
يحك ذلك لأنه ليس بصدد بيان الواقعة بكل مزاياها (إِنَّا هاهُنا
قاعِدُونَ) ننتظر تطهير المدينة من الجبارين حتى ندخلها ، أما أن
نحارب الجبارين فلا طاقة لنا بذلك ولا نقدم عليه.
[٢٦]
(قالَ) موسى عليهالسلام معتذرا لله عن مخالفة قومه مخاطبا الله سبحانه :
__________________
رَبِّ
إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
____________________________________
(رَبِّ إِنِّي لا
أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هارون فأنا وحدي الذي أطيع أوامرك وكذلك أخي هو الذي
يطيعني ويسمعني إذا أمرته بشيء ، أما هؤلاء فليسوا كذلك ، أما يوشع عليهالسلام ومن كان على شاكلته فلعلهم لم يكونوا حاضرين إذ ذاك عند
هذا الحوار (فَافْرُقْ) أي افصل اللهم (بَيْنَنا) أنا وأخي (وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين لا يطيعون الأوامر. والمراد ب «الفرق» عدم إجراء حكم
واحد عليهم في الدنيا والآخرة ، فإنهما عليهماالسلام قد باينا قومهما بالإطاعة حين عصى أولئك.
[٢٧]
(قالَ) الله تعالى لموسى عليهالسلام : وإذ عصوني ولم يؤمنوا بوعدي (فَإِنَّها) أي الأرض المقدسة (مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِمْ) دخولها ، أي نمنعهم عنها (أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَتِيهُونَ) من «تاه» إذا ضلّ ولم يهتد الطريق إلى مقصده (فِي الْأَرْضِ) فإنهم كانوا يمشون إلى الليل فإذا أرادوا في اليوم الثاني
السفر رأوا أنفسهم في مكانهم السابق (فَلا تَأْسَ) أي لا تحزن (عَلَى الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ) وأنهم كيف تاهوا أربعين سنة ووقعوا في هذه الصعوبة.
[٢٨] إن حال
اليهود في نقض العهود وارتكاب الفواحش بلا مبرر حال ابني آدم عليهالسلام هابيل وقابيل ، فإن الله أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم
الله الأعظم إلى هابيل وكان قابيل أكبر ، فبلغ قابيل فغضب فقال : أنا
وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ
مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ
إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ
____________________________________
أولى بالكرامة
والوصية. فأمرهما أن يقرّبا قربانا بوحي من الله إليه ففعلا ، فتقبّل قربان هابيل
حيث أخلص وقدم خير ماله ، ولم يتقبّل قربان قابيل حيث أساء النية وقدم شر ماله.
ولما رأى قابيل أن قربانه لم يقبل حسد وعمد إلى هابيل ووضع رأسه بين حجرين فشدخه
فمات ، ولم يدر ماذا يصنع بجثته ، فجاء غرابان فقتل أحدهما الآخر ودفن جثته ،
فتعلم قابيل فدفن جثة هابيل (وَاتْلُ) أي أقرأ (عَلَيْهِمْ) أي على اليهود يا رسول الله (نَبَأَ) أي خبر (ابْنَيْ آدَمَ) هابيل الصالح وقابيل الطالح (بِالْحَقِ) أي تلاوة بالحق والصدق ، فليس فيه كذب (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) القربان هو ما يقصد به التقرّب إلى الله تعالى (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) وهو هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ) وهو قابيل ، قالوا : وكانت علامة القبول أن تأتي نار من
السماء فتأكل ما تقبل ، فأكلت النار قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل (قالَ) قابيل الذي لم يتقبّل قربانه لهابيل عليهالسلام : (لَأَقْتُلَنَّكَ) حسدا وعنادا (قالَ) هابيل عليهالسلام : وما ذنبي؟ (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ولعل هذا كان تنبيها له لأن يتقي الله حتى يحبوه بكرامته ،
ولم يكن تبجّحا قطعا.
[٢٩] ثم قال هابيل
عليهالسلام لقابيل : (لَئِنْ بَسَطْتَ) أي مددت (إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي) أي تريد قتلي (ما أَنَا بِباسِطٍ) أي ماد (يَدِيَ إِلَيْكَ
لِأَقْتُلَكَ) فإن
إِنِّي
أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨)
إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ
وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
____________________________________
من يريد قتل إنسان
ظلما لا يجوز للمظلوم إلا المدافعة لا قتل الظالم ، إلا إذا توقف الدفاع عليه. أو
المراد : إن أردت قتلي ظلما فإني لست أريد قتلك كذلك (إِنِّي أَخافُ اللهَ
رَبَّ الْعالَمِينَ) في أن أقتل أحدا ظلما.
[٣٠]
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ) أي ترجع أنت يا قابيل (بِإِثْمِي) أي إثم قتلي (وَإِثْمِكَ) أي وزرك الذي عليك من غير جهة القتل ، ومعنى «الإرادة» هنا
مجازي لأنه إرادة الفاعل ، فإن الإنسان إذا أراد شيئا يقول : أردت ، وإذا لم يرد أن
يفعله وأراد غيره فعله يقول : أردت أن يفعله غيري. فالتعبير بالإرادة هنا للمقابلة
نحو قوله : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ، فقولنا : «أريد أن تذنب» يراد به «أني لا أذنب بل أنت
تحمل الذنب» لا أنه إرادة حقيقية من المتكلم لذنب المخاطب ، فلا يقال : كيف يصح أن
يريد هابيل عليهالسلام أن يأثم قابيل؟! (فَتَكُونَ) أنت يا قابيل (مِنْ أَصْحابِ
النَّارِ) الملازمين لها (وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم.
[٣١]
(فَطَوَّعَتْ) أي شجعت (لَهُ) أي لقابيل (نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ) هابيل (فَقَتَلَهُ) قالوا : قتله غيلة (فَأَصْبَحَ) قابيل (مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين
__________________
فَبَعَثَ
اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ
قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ
سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
____________________________________
خسروا الدنيا
والآخرة.
[٣٢] وحين قتله لم
يدر كيف يصنع بجثته لأنه لم ير من قبل ذلك ميتا (فَبَعَثَ اللهُ
غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) أي يطلب ويفتش ويثير التراب ليدفن غرابا آخر قد قتله ، إذ
جاء غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فدفنه (لِيُرِيَهُ) أي يري الغراب قابيل (كَيْفَ يُوارِي) أي يستر (سَوْأَةَ) أي جثة (أَخِيهِ) وإنما سمي البدن «سوءة» لأنه ساءه وكره أن يرى بدنه
المقتول (قالَ) قابيل لما رأى فعل الغراب : (يا وَيْلَتى) أي يا ويلي و «الويل» بمعنى الهلاك ، أي : يا هلاكي احضر
فهذا أوانك ، نحو : يا عجبا (أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ) في العلم بكيفية الخلاص من جثة الميت (فَأُوارِيَ) أي استر بالتراب (سَوْأَةَ أَخِي) ثم دفنه (فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ) على قتله ، ولم يكن ندم توبة ، وإنما ندم فعل ، فلا يقال :
كيف يعاقب وقد تاب؟
قال ابن عباس :
لما قتل قابيل هابيل أشاك الشجر ، وتغيرت الأطعمة ، وحمضت الفواكه ، وأمرّ الماء ،
واغبرّت الأرض ، فقال آدم : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل
هابيل ، فانشأ يقول :
تغيرت البلاد
ومن عليها
|
|
فوجه الأرض
مغبرّ قبيح
|
مِنْ
أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً
بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
وَمَنْ أَحْياها
____________________________________
تغير كل ذي لون
وطعم
|
|
وقلّ بشاشة
الوجه الصبيح
|
[٣٣] ولما حكى سبحانه قصة ابني آدم
وأظهر بشاعة الجريمة ، ذكر جملة من الحدود على الجرائم ، وابتدأ بالقتل للمناسبة ،
فقال تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) «أجل» في اللغة
بمعنى الجناية ـ على أحد الوجوه ـ يقال : «أجل عليهم شرا» أي جنى. أي من ابتداء
تلك الجناية. ف «من» ابتدائية وذلك إشارة إلى قتل قابيل هابيل أي من وقت تلك
الجناية قررنا الحكم الآتي وهو أن «من قتل نفسا» الآية. وبعض المفسرين يفسر «أجل»
بالمعنى المتعارف ، فالمعنى : من أجل الاعتداء الذي لا موجب له ولا مبرر على
المسالمين المتورعين الذين لا يريدون شرا ولا مدافعة (كَتَبْنا) أي فرضنا (عَلى بَنِي
إِسْرائِيلَ) وليس الحكم خاصا بهم وإنما أتى بذكرهم لأنهم مورد البحث
والكلام ، وأنهم الذين عاكسوا أحكام الله وقتلوا أنبيائه.
(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْساً) أي إنسانا قتلا ظلما (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي : لا بمقابل نفس حتى يخرج قتل القاتل نفسا من موضوع
الحكم (أَوْ فَسادٍ فِي
الْأَرْضِ) أي لم يكن المقتول مفسدا حتى يستحق بذلك أن يقتل (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) أنه باعتدائه على حياة نفس واحدة بلا مبرر كان كمن اعتدى
على الحياة كلها (وَمَنْ أَحْياها) لا إحياء من
فَكَأَنَّما
أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ
إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
____________________________________
العدم ، بل إحياء
بمعنى التحفظ على حياتها وإنقاذها من الهلاك (فَكَأَنَّما أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً) حيث أن تحفظه على حياة نفس واحدة يكون كتحفظه على الحياة
كلها ، لأن الحياة كلّ سار في كلّ حي ، فالتعدي على فرد تعدي على الكل ، كما أن
التحفّظ على فرد تحفّظ على الكل (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ) أي أتت إلى بني إسرائيل ـ الذين يدور الكلام حولهم ـ (رُسُلُنا) أنبياؤنا إليهم (بِالْبَيِّناتِ) أي الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتهم.
(ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد مجيء الرسل إليهم (فِي الْأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ) أي يجاوزون الحد ، فقد كانوا يستحلون المحارم ويسفكون
الدماء.
[٣٤] وبمناسبة قتل
النفس بغير حق ، ذكر سبحانه حكم من يسعى في الأرض فسادا. وقد ورد في شأن نزول هذه
الآية : أن قوما من بني ضبة قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مرضى فبعثهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من
ألبانها فلما برءوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كانوا في الإبل وساقوا الإبل ، فبعث
إليهم عليا عليهالسلام فأسرهم ، فنزلت هذه الآية ، فاختار رسول الله القطع ، فقطع
أرجلهم وأيديهم من خلاف.
__________________
إِنَّما
جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ
____________________________________
وفي بعض الروايات
: أنها نزلت في قطاع الطرق. ولا منافاة بين الأمرين (إِنَّما جَزاءُ
الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) أي يحاربون أوليائه فإن محاربة المتعلقين بشخص هو محاربة
ذلك الشخص ، كقوله تعالى : (يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، (وَرَسُولَهُ) أي يحاربون رسوله. وهذا أيضا كذلك فإن محاربة أولياء
الرسول محاربة للرسول (وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) بالإفساد وشهر السلاح للإخافة. ولا يخفى أنه لو لم نقل
بعموم الآية لكل من صدق عليه هذا الموضوع ، كان اللازم أن يحمل على قطاع الطريق ،
لما ورد به الروايات ، وكأنه اعتبر محاربة الناس وإخافتهم محاربة لله والرسول.
(أَنْ يُقَتَّلُوا) تقتيلا ، وإنما عدّى ب «التفعيل» لأن المراد منه قتلهم
كلهم ، وباب «التفعيل» يدلّ على التكثير كما قال تعالى : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) ، أي غلقت كل باب (أَوْ يُصَلَّبُوا) بالمشنقة و «أو» هنا للتخيير ، كما ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام ، والاختيار إلى الإمام في ذلك (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ) بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، فيكون قطع كل واحدة
خلاف الجهة التي يقع فيها قطع الأخرى (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الْأَرْضِ) أي من بلد إلى بلد حتى يتوب
__________________
ذلِكَ
لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
____________________________________
ويرجع وقوله
سبحانه «إنما» معناه : أن جزاءه ذلك فحسب ، لا جزاء له سواه (ذلِكَ) الذي ذكر أنه يفعل بهم (لَهُمْ خِزْيٌ فِي
الدُّنْيا) أي عقوبة وفضيحة (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) في النار.
[٣٥]
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) فإن التوبة قبل الوقوع في يد حاكم الشرع تقبل ، أما لو وقع
ثم تاب فإنه لا تقبل توبته بالنسبة إلى درء الحد ، بل يجري عليه الحد (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ذنبهم (رَحِيمٌ) لا يعاقبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
[٣٦] ثم يتوجه
القرآن الحكيم إلى تربية الوجدان إلى جنب تربية الخارجين عن طاعته بالسيف والعقاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ) بإتيان أوامره واجتناب زواجره (وَابْتَغُوا) أي اطلبوا (إِلَيْهِ
الْوَسِيلَةَ) السبب الذي يقرّبكم إليه سبحانه : من فعل الخيرات والأعمال
الصالحة (وَجاهِدُوا فِي
سَبِيلِهِ) الخارجين عن طاعته (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) أي رجاء أن تفلحوا ، فإن الرجاء قائم في الفوز والفلاح ما
دمتم تتقون وتجاهدون.
[٣٧] ولا تكونوا
كالذين كفروا ، الذين لم يتقوا ولم يجاهدوا ولا طلبوا
إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ
مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ
يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ
____________________________________
رضاه سبحانه
والوسيلة إليه (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من المال والجاه (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) بأن كان لهم ضعف ما في الأرض ، وهذا من باب المثل ، وإلا
فالمراد كل شيء ، فإن اللفظ قد يأتي للكثرة لا للتحديد نحو : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً) ، (لِيَفْتَدُوا بِهِ) بما في الأرض ومثله ، بمعنى : أن يجعلوه فداء لهم وبدلا (مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ) حتى ينجوا كما اعتادوا الفداء والخلاص في الدنيا (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) الفداء (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) مؤلم موجع.
[٣٨]
(يُرِيدُونَ) أي يريد الذين كفروا ويتمنون (أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ
النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) حيث أن عذابهم دائم لا انقطاع له ولا مدة (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم ثابت لا يزول.
[٣٩] وهنا يرجع
السياق إلى بيان الحدود التي افتتحت بقصة ابني آدم (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ) ذكر سبحانه كلّا على حدة حتى لا يظن أن
__________________
فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ
____________________________________
الحكم لا يشمل
السارقة ، وقدم السارق لأنه الغالب ، وفي آية الزنا قدّم الزانية لامتهان بعض
النساء للزنا (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) الأربع أصابع من اليد اليمنى ، واليد تطلق على مجموع العضو
، وإلى المرفق ، وإلى الزند ، وعلى الأصابع فقط. ولم يقل «يداهما» لما استحسن في
العربية من أنه متى اجتمع تثنيتان وهو قوله «أيديهما» مضافة إحداهما إلى الأخرى
جيء بالأول بلفظ الجمع ، كقوله سبحانه : (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) ، ولعل الأصل أن الجوارح في الإنسان أكثر من واحد فتكون في
إنسانين جمعا ، و «الفاء» إنما أتت في «الخبر» دلالة على الترتب والجزاء. وللقطع
شروط مذكورة في الفقه (جَزاءً بِما كَسَبا) من السرقة (نَكالاً مِنَ اللهِ) أي عقوبة على ما فعلاه (وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) يأخذ بعزته ويحكم بذلك بحكمته.
[٤٠]
(فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ) بأن ندم عن السرقة (وَأَصْلَحَ) صار صالحا (فَإِنَّ اللهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ) ويغفر ذنبه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يغفر لمن تاب ويرحم عباده العصاة إذا ندموا وأقلعوا.
[٤١] إن ما ذكر من
عقاب الله وغفرانه مقتضى سلطته المطلقة (أَلَمْ تَعْلَمْ)
__________________
أَنَّ
اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ
لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
____________________________________
أيها الإنسان (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) له التصرف في الجميع كما يشاء (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استحق العقاب (وَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ) حسب حكمته البالغة (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء.
[٤٢] وفي سياق
بيان الحدود وذكر مساوئ اليهود يتعرض القرآن الحكيم إلى قصة زنا وقعت في اليهود
وراجعوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في حكمها. فقد روي عن الإمام الباقر عليهالسلام ما ملخصه : «أن امرأة شريفة من خبير زنت وقد كان حكم زنى
المحصن في التوراة الرجم ، لكنهم راجعوا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رجاء أن يخفّف عنهم ويأخذوا بذلك ، فأفتاهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرجم ، وذكر أنه حكم التوراة أيضا ، لكن جماعة من
علمائهم أنكروا ذلك فجعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم «ابن صوريا» أعلمهم
حكما فاعترف هو أن الحكم في التوراة هو الرجم وأنهم حرّفوا حكم التوراة فوضعوا
مكانه أن يجلد أربعين جلدة ثم يسوّد وجهه ويطاف على حمار مقلوبا ، تشهيرا به!» .
وفي بعض التفاسير
: أنه كان بين بني النضير وقريضة معاهدة في باب القتل على خلاف حكم التوراة ، فقد
كان حكم التوراة القتل للقاتل ، ولكن كانت معاهدة بين القبيلتين أنه إن قتل بنو
قريضة من بني النضير قتل القاتل ، وإن قتل بنو النضير من بني قريضة أخذت الدية ،
__________________
يا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ
الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
____________________________________
فأراد بنو قريضة
المراجعة إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحكم ليحكم لهم بحكم التوراة وقال «ابن أبي» المنافق
الصديق لهم : إن حكم محمد بما ترضون ـ يريد خلاف حكم التوراة ـ فارضوا به وإلا فلا
تقبلوه .
أقول : ومن
المحتمل كون الآية إشارة إلى القصتين ، وعلى أي حال فالله سبحانه يسلّي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في مخالفة المنافقين واليهود له فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ) أي لا يوجب حزنك وغمك (الَّذِينَ
يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي يسرعون للدخول فيه بالقيام على خلافك وعدم قبول حكمك (مِنَ) المنافقين (الَّذِينَ قالُوا
آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) جمع «فوه» بمعنى «الفم» أي أن إيمانهم لفظي وبمجرد
الشهادتين ، لا عن قلب وعقيدة ، والمقصود ابن أبي كما تقدم (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) بل بقيت على كفرها وضلالها.
(وَمِنَ الَّذِينَ
هادُوا) أي اليهود والمراد بمسارعة اليهود في الكفر تركهم لأحكام
التوراة وتمسكهم بالأحكام المخالفة لما أنزل الله فإنه كفر في مرتبة اليهودية وإن
كان اليهود كفارا من أصلهم وبمقتضى بقائهم على اليهودية (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي هؤلاء اليهود ـ أو مع المنافقين ـ مبالغون في سماع
الكذب وقبول ما يفتريه أحبارهم
__________________
سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ
يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا
وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ
____________________________________
وشياطينهم (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوكَ) يا رسول الله ، إنهم خاضعون لقول غيرك ممن لم يأتوك
لتحكيمك في قصة الزنا أو في قصة القتل (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ) جمع «كلمة» أي كلام الله تعالى (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي من بعد أن وضعه الله سبحانه في مواضعه ، كما حرفوا حكم
زنا المحصن الذي هو الرجم إلى الجلد ، وكما حرفوا حكم القتل قصاصا إلى الدية (يَقُولُونَ) أي يقول المنافقون واليهود بعضهم لبعض (إِنْ أُوتِيتُمْ) أي أعطاكم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (هذا) وهو الجلد في
الزنا والدية في القتل (فَخُذُوهُ) واقبلوه (وَإِنْ لَمْ
تُؤْتَوْهُ) هذا الحكم ، بل حكم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بما في التوراة من رجم الزاني وقتل القاتل (فَاحْذَرُوا) عن قبول قوله.
ثم توجه الخطاب
إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تسلية له عن نفاق المنافقين وتحريف اليهود قال سبحانه : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي امتحانه ، فقد أراد الله سبحانه اختبار اليهود
والمنافقين في هذه القضية ليتبيّن عنادهم وغيّهم وأنهم لا يرجعون إلى حكم الله ،
ويظهر كذبهم في قولهم أنهم متدينون (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ
مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تستطيع يا رسول الله أن تدفع عنه من أمر الله شيئا ،
بل إرادته نافذة وحكمه ماض (أُولئِكَ)
الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ
____________________________________
المنافقون واليهود
(الَّذِينَ لَمْ
يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من الكفر ، فلم يلطف بهم اللطف الخاص ـ كما يلطف بسائر
المؤمنين ـ حتى تتطهر قلوبهم من أدران الكفر ، إن الله سبحانه بيّن لهم الدلائل
ونصب لهم الحجج لكنهم أبوا من الرضوخ ولذا قطع الله تعالى لطفه عنهم.
(لَهُمْ) أي للمنافقين واليهود (فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) فضيحة وذلة ، أما المنافقون فلظهور نفاقهم عند المؤمنين مما
يوجب التنفّر منهم ، وأما اليهود فبضرب الذلة عليهم إلا بحبل من الله وحبل من
الناس (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، واليهود معلوم
حالهم هناك.
[٤٣]
(سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ) تكرار لتصوير واقعهم البشع فإن الإنسان إذا أراد أن يؤكد
شيئا قاله أكثر من مرة حتى يقع في نفس السامع موقع القبول (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) جمع «أكال» مبالغة ل «آكل» أي كثير والأكل للرشوة وسائر
أقسام الحرام ، (فَإِنْ جاؤُكَ) يا رسول الله ليجعلوك حكما فيما بينهم في قصة الزنا والقتل
(فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بحكم الله سبحانه (أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ) وقد جاز الإعراض لأنهم كانوا يعلمون بالحكم حيث كان مثبتا
في التوراة فلم يكن الإعراض يسبب سحق حكم الله
وَإِنْ
تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
____________________________________
سبحانه وجهالة
المجتمع به (وَإِنْ تُعْرِضْ
عَنْهُمْ) فلم تحكم بينهم (فَلَنْ يَضُرُّوكَ
شَيْئاً) إذ النفع والضرر بيد الله سبحانه لا بيد غيره (وَإِنْ حَكَمْتَ) يا رسول الله (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي هو إجراء حكم الله من رجم الزاني المحصن
وقتل القاتل شخصا ما (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين الذين يعدلون في حكمهم.
[٤٤] إن أمر هؤلاء
اليهود عجيب فإنهم لا يعترفون بك رسولا ومع ذلك يحكمونك في قضيتهم وذلك ليس إلا
أنهم يريدون فرارا من حكم التوراة إلى حكم يطابق أهواءهم (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) أي يجعلونك حكما يا رسول الله (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) أي والحال أن لديهم التوراة التي يعترفون بها كتابا (فِيها حُكْمُ اللهِ) بالنسبة إلى الزنا والقتل (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التحكيم ، أو من بعد حكمك فلا يقبلون حكمك أيضا (وَما أُولئِكَ) اليهود والمنافقون الذين حكّموك ، ثم تولوا (بِالْمُؤْمِنِينَ) بالتوراة أو بحكمك ، وإنما يظهرون الإيمان كذبا واختلاقا.
[٤٥] ثم بيّن
سبحانه أن التوراة التي أعرض عن حكمها في قصة الزنا والقتل كتاب سماوي يجب العمل
به ، ومن المعلوم أنه ليس المراد بذلك
إِنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا
____________________________________
التوراة المحرّفة
التي بأيدي اليهود اليوم ، فقد كان قسم من التوراة محفوظا عن التحريف إلى زمان
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما أن المعلوم أن المراد كون التوراة في وقتها هدى ونور
، أما إذا جاء أهدى منها وأكثر نورا ونسخ قسما من أحكامها لم يعمل بالمنسوخ منها ،
وذلك كما لو قلنا : أن القرآن هدى ونور ، يراد المجموع من حيث المجموع ، لا أنه
يعمل به حتى بالنسبة إلى الآيات المنسوخ حكمها على تقدير تسليم النسخ في القرآن.
(إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً) يهتدي به الناس إلى سبل الحق (وَنُورٌ) ينير دروب الحياة المظلمة ـ ولعل العطف للبيان ـ (يَحْكُمُ بِهَا) أي بالتوراة (النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا) لله وأذعنوا لحكمه ، ومن جملة أولئك الأنبياء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي حكم على طبقها في قصة الزاني والقاتل (لِلَّذِينَ هادُوا) أي أن الحكم إنما كان للذين هادوا أما غيرهم من النصارى
والمسلمين فإنما يحكم بينهم حسب معتقدهم. وقد ثبت في الشريعة جواز الحكم لكل أهل
كتاب بكتابهم. قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة
بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل
القرآن بقرآنهم» ، كما ثبت قولهم عليهمالسلام : «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» .
__________________
وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ
فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ
____________________________________
لكن من المعلوم أنه ليس كل الأحكام كذلك
، بل من الأحكام ما لا يجوز أن يحكم بها ، والقاعدة الكلية : أنه كل ما أجاز
الإسلام أن يحكم به الحاكم على طبق دياناتهم جاز ذلك ، وكل ما لم يجز كان اللازم
الرجوع إلى حكم الإسلام.
(وَ) يحكم بالتوراة (الرَّبَّانِيُّونَ) وهم المتدينون فإن «رباني» منسوب إلى «الرب» من غير قياس (وَالْأَحْبارُ) جمع «حبر» بالكسر و «حبر» بالفتح ، وهو العالم ، أي أن
الأنبياء والأتقياء والعلماء يحكمون بالتوراة ، وإنما يحكم هؤلاء بالتوراة بسبب ما
(اسْتُحْفِظُوا) أي استدعوا (مِنْ كِتابِ اللهِ) أي حيث أن الله سبحانه جعلهم حافظين للكتاب وائتمنهم عليه
في أن يحكمون بموجبه (وَكانُوا عَلَيْهِ
شُهَداءَ) أي أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على أن ما
في الكتاب حق وصدق. والحاصل أن هؤلاء يحكمون بالتوراة لأنه وديعة عندهم وهم يشهدون
بصدقه.
وحيث بيّن سبحانه
أن التوراة يحكم بها أولئك الصفوة وأنهم محل وديعة والشهداء على صحته ، بيّن أن
مقتضى ذلك أن يكون الإنسان المتصف بهذه الصفات شجاعا في إظهار أحكامه فلا يخون ولا
يكتم ولا يخشى الناس (فَلا تَخْشَوُا
النَّاسَ) في إظهار أحكام التوراة ومنها مسألة رجم الزاني وقتل
القاتل (وَاخْشَوْنِ) في ترك أمري
وَلا
تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ
فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ
____________________________________
وتحريف حكمي فإن
النفع والضرر بيدي (وَلا تَشْتَرُوا) بمقابل آياتي وأحكامي (ثَمَناً قَلِيلاً) حيث أنكم إذا كتمتم الأحكام لأجل الرشوة والرئاسة كنتم كمن
يعطي السلعة ليأخذ المال ، وكل شيء من المال والرئاسة في مقابل حكم الله ثمن قليل
لأنه يزول وينتقل وتبقى تبعة التحريف والكتمان والحكم بخلاف ما أنزل الله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ) لعلّ وجه الإتيان بالنفي دون أن يقول «ومن حكم بغير ما
أنزل الله» ليشمل الحاكم بالخلاف والساكت الكاتم ، فإن من يعلم حكم الله ويسكت
ويكتم يكون مصداقا ل (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ)(فَأُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ) ومن المعلوم أن عدم الحكم كفر عملي لا كفر اعتقادي ، إلا
إذا رجع إلى الجحود لأصل من أصول الدين ، وإنكار ضروري من ضروريات الإسلام ، ويسمى
كافرا لأنه ستر الحق ، فإن الكفر لغة بمعنى الستر.
[٤٦]
(وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ) أي على بني إسرائيل (فِيها) أي في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ) تقتل بمقابل النفس فإذا قتل الإنسان شخصا عمدا ، قتل
القاتل في قبال ذاك ، ولعل هذه الآية تؤيد كون الآيات السابقة كانت بشأن قصة بني
النضير وبني قريضة ـ كما تقدم ـ (وَالْعَيْنَ) مفقوءة (بِالْعَيْنِ) أو معمية بها (وَالْأَنْفَ) مجدوعة (بِالْأَنْفِ) أما
وَالْأُذُنَ
بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (٤٥)
____________________________________
ذهاب حاسة الشم
فلعله خلاف الظاهر وإن كان الحكم كذلك إذا أمكن (وَالْأُذُنَ) مصلومة (بِالْأُذُنِ) وفي ذهاب السمع ما تقدم (وَالسِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِ) ولذلك كله شرائط مذكورة في كتب الفقه .
(وَالْجُرُوحَ) فيها (قِصاصٌ) فمن جرح إنسانا جرح كما جرح ، ويدخل فيه الشفة والذّكر
والبيضتان واليدان والرجلان وسائر أقسام الجروح. و «القصاص» مشتق من «قص» بمعنى
اتّباع الأثر ، كأن المجروح يتبع أثر الجارح فيجرحه (فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ) أي بالقصاص بأن عفا عنه وأسقطه وتنازل عن حقه (فَهُوَ) أي التصدّق (كَفَّارَةٌ) أي حط عن الذنوب (لَهُ) أي للمتصدق المجروح. قال الإمام الصادق عليهالسلام : «يكّفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره» .
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) تقدم الكلام فيه (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) الظلم هو ظلم النفس وظلم الغير ، وقد اختلف التعبير هنا عن
الآية السابقة «الكافرون» والآية الآتية «الفاسقون» لإفادة أن من لم يحكم بما أنزل
الله يتصف بصفات ثلاث لأنه قد ستر حكم الله وكتمه فهو «كافر» إذ الكافر بمعنى
الساتر ، كما تقول : الزارع كافر ، لأنه يستر
__________________
وَقَفَّيْنا
عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)
____________________________________
الحبة تحت الأرض ،
ولأن الكافر قد ظلم نفسه لأنه عصى الله سبحانه في كتمان حكمه وظلم المترافعين
والمجتمع لأن حكم الله هو الحق وسواه انحراف وزيغ فهو «ظالم» وأنه قد خرج بحكمه
ذاك أو سكرته عن الحق عن الجادة المستقيمة فهو «فاسق» إذ الفسق بمعنى الخروج
والمروق.
[٤٧] ولما ذكر
سبحانه اليهود ، اتجه الكلام إلى ذكر النصارى مبيّنا أن الأنبياء من سلسلة واحدة
وأن كتبهم كلها هدى ونور ، وأن بعضها يصدّق بعضا (وَقَفَّيْنا) من «التقفية» أصله «القفو» بمعنى اتباع الأثر يقال : قفيته
بكذا أي اتبعته به (عَلى آثارِهِمْ) أي آثار الأنبياء حيث قال سبحانه : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)(بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي أتبعنا على آثار النبيين عيسى ابن مريم فقد بعثناه
رسولا من بعدهم (مُصَدِّقاً) أي في حال كون المسيح عليهالسلام يصدّق (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما تقدمه (مِنَ التَّوْراةِ) بيان «ما» ويقال للسابق الزماني : «بين يديه» تشبيها
بالسابق المكاني الذي هو «بين يدي الإنسان» أي في قباله (وَآتَيْناهُ) أي أعطينا عيسى عليهالسلام (الْإِنْجِيلَ) أي أنزلناه عليه (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) تقدم معنى ذلك (وَمُصَدِّقاً) أي في حال كون الإنجيل مصدقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ التَّوْراةِ) فقد كان عيسى عليهالسلام يصدق التوراة ، وكتابه الإنجيل يصدقها أيضا (وَهُدىً) أي أن الإنجيل كتاب هداية وإرشاد (وَمَوْعِظَةً) أي واعظا (لِلْمُتَّقِينَ) الذين
وَلْيَحْكُمْ
أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ
____________________________________
يتقون الآثام ،
فهو يحذّرهم من العقاب ويرشدهم ويحرضهم على الثواب. وقد كرر التصديق والهداية ،
تأكيدا وتركيزا.
[٤٨]
(وَلْيَحْكُمْ) أي يجب أن يحكم (أَهْلُ الْإِنْجِيلِ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) من الأحكام والدلالات التي منها التبشير بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ووجوب اتّباعه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أن الديانات كلها من عند الله ، وأن الأنبياء كلهم
سفراء له وحده ، وأن الكتب كلها منزلة من عند الله ، فمن الضروري أن يحكم الأنبياء
بالكتب المنزلة ويتبع الناس الأنبياء والكتب ، أما ما حرّف منها فليس من الله ،
كما أن ما نسخ منها فاللازم تركه واتباع الناسخ عوضه.
[٤٩] ولما أتم
الكلام حول التوراة والإنجيل ـ وهما الكتابان المتداولان في أيدي الناس ـ ذكر
سبحانه القرآن الحكيم (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن الحكيم (بِالْحَقِ) كتابا بالحق لأنه ليس فيه باطل ، أو إنزالا بالحق ، حيث
كان المنزل والمنزل عليه لهما الحق في ذلك ، فالمنزل إله يحق له التنزيل والتشريع
، والمنزل إليه رسول يحق له الأخذ والقبول (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) اللام للجنس أي أن القرآن يصدق ما سبقه من كتب الأنبياء (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي أن القرآن مهيمن على الكتاب المتقدم ، ومعنى الهيمنة
السيطرة ، فإن
فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ
الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً
____________________________________
القرآن الحكيم
كشاهد مسيطر يدل على مواقع الخطأ والصواب من الكتب السابقة ، كل ما حرفوه دل عليه
وكل ما زادوا أو أنقصوا منهما أشار إليه ، وذلك لأن القرآن يبيّن كليات العقائد
وأصول العبادة والمعاملة والأخلاق ، وفي الكتب السابقة مواقع كثيرة قد زاغت عن
الحق بأيادي أثيمة ، يدل عليها القرآن ويشير إليها (فَاحْكُمْ) يا رسول الله (بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الكتب السالفة ، أو بين اليهود (بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام ، ومنها في رجم زنا المحصن ، وقتل القاتل (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي ما يشتهون من خلاف حكم الله ، فقد أحبوا أن يحكم الرسول
بخلاف الحق ، فيفتي بجلد المحصن الزاني ، ودية القاتل (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) أي لا تزغ عما جاءك ، فإن معنى اتباع أهوائهم : الزيغ عن
الحق. وكثيرا ما يشبه فعل معنى فعل آخر فيتعدى الفعل الأول بما يتعدى به الفعل
الثاني ، كما ذكره «المغني».
ولما كان المقام
يوهم اتحاد الديانات من جميع الحيثيات حيث أن الآيات السابقة أفادت تصديق كل نبي
وكتاب لما سبقه ، فأية حاجة إذا لإيمان اليهود والنصارى بالنبي والقرآن ، تعرّض
السياق إلى اختلاف الشرائع والمناهج في الخصوصيات والمزايا وإن اتحد الجميع في
الأصول والجوهر (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ) أي لكل أمة منكم أيها اليهود والنصارى والمسلمون جميعا
جعلنا (شِرْعَةً) أي طريقة (وَمِنْهاجاً) «الشرعة» أول
الطريق ، و «المنهاج» الطريق المستقيم الذي يلزمه
وَلَوْ
شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ
فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ
بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
____________________________________
الإنسان في حياته
ليسير عليه ، وكأن وجه تقديم «جعلنا» على «منكم» أن المقام مقام الجعل ، لا مقام
ذكر الأمم. وقد تقرر في علم البلاغة أن المقدم من الألفاظ هو الذي سيق له الكلام ،
يقال : «زيد جاء» إذا كان المقام مقام ذكر زيد وأعماله ، ويقال : «جاء زيد» إذا
كان المقام مقام ذكر الجائين. (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ) أيها الأمم الثلاث (أُمَّةً واحِدَةً) بأن لا ينزل عليكم إلا كتابا واحدا ولا يرسل إلا رسولا
واحدا (وَلكِنْ) جعلكم على شرائع مختلفة (لِيَبْلُوَكُمْ) أي يمتحنكم (فِي ما آتاكُمْ) أي فيما فرضه عليكم وأعطاكم وشرع لكم حتى يتبين من يقبل
الرسول اللاحق ومن لا يقبل ، ومن يعمل بأوامره عملا تاما ومن لا يعمل (فَاسْتَبِقُوا) أيتها الأمم (الْخَيْراتِ) أي ليبادر بعضكم بعضا في تحصيل الخيرات والعمل بما أمر
الله (إِلَى اللهِ
مَرْجِعُكُمْ) ومصيركم (جَمِيعاً) أيتها الأمم. وإنما سمي «مرجعا» تشبيها للمعقول بالمحسوس ،
وإلا فلا مكان لله سبحانه حتى يكون مبدءا ومرجعا (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) من أمور دينكم. وفي الإجمال ما لا يخفى من التهويل ـ كما
يقول الملك لبعض رعيته : أعلمك بما صنعت ـ ثم يجازيكم حسب أعمالكم وعقائدكم.
[٥٠] ثم كرر
سبحانه وجوب الحكم بين اليهود بما أنزل الله ، وقد كرر ذلك
وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ
____________________________________
لأنهم حكّموه صلىاللهعليهوآلهوسلم في قصتين قصة الزنا وقصة القتل (وَأَنِ احْكُمْ) عطف على قوله في الآية السابقة «فاحكم» أو عطف على «الكتاب»
أي أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك «أن احكم» (بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وما يشتهون من خلاف الحكم (وَاحْذَرْهُمْ) يا رسول الله ، أي احذر اليهود (أَنْ يَفْتِنُوكَ) أي يضلوك (عَنْ بَعْضِ ما
أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) بأن تفتي بغير ما أنزل الله. فقد ورد أن اليهود عرضوا على
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام خاصة ،
منها حكم الرجم في الزاني المحصن ، وهذا التحذير للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس معناه أنه كان يعمل على الخلاف ، وإنما هو لبيان الحكم
، كما يخاطب بقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) ، ونحوه (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الحق ولم يقبلوا قولك وحكمك (فَاعْلَمْ) يا رسول الله (أَنَّما يُرِيدُ
اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فإن التمرد على الله ورسوله يوجب نكال الله سبحانه ،
وتمردهم عن حكمك موجب لأن يسخط الله عليهم فيأخذهم ببعض ما سلف من ذنوبهم ، أو نفس
التمرد نكال سببه بعض ذنوبهم السابقة.
روي أن رجلا قال
للإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : إني حرمت صلاة الليل؟ قال الإمام : «أنت رجل قيدتك ذنوبك»
.
__________________
وَإِنَّ
كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
(٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
____________________________________
(وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة الله ، وهذا تسلية للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يغتم لعدم نفوذ حكمه.
[٥١]
(أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) استفهام إنكاري ، أي هل يبغي هؤلاء اليهود حكم الجاهلية ،
والمراد بها جاهلية البشر التي لا يرجع حكمهم فيها إلى قانون ثابت بل تحكم الأهواء
والقبليات والعصبيات وما أشبه ، فكل من يبتغي حكما غير حكم الله فإنه يبتغي حكم
الجاهلية ، حتى إذا كان الحكم أكثرية «برلمانية» (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ حُكْماً) أي ليس هناك حكما أحسن من حكم الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بالله واليوم الآخر ، فإنهم يعلمون أن حكم الله أحسن
الأحكام لأنه خال من جميع الانحرافات التي تصيب حكم البشر.
[٥٢] وبعد ما بيّن
سبحانه انحراف اليهود وضلالهم ، ذكر سبحانه هنا عدم جواز اتخاذ اليهود أو النصارى
أولياء. وقيل في سبب النزول : أنه لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من
الناس فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا ، وقال آخر :
أنا ألحق بفلان النصراني فآخذ منه أمانا ، فنزلت الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) فلا تصادقوهم مصادقة الولي لوليه والحميم لحميمه (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فإن بعضهم ينصر بعضا ويعينه عليكم ، وقد ظهر انطباق كلامه
سبحانه على الخارج طيلة أربعة
وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
____________________________________
عشر قرنا فإن
اليهود والنصارى لم يزالا ينصر أحدهما الآخر على المسلمين على ما بينهما من العداء
والبغضاء (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ) أي يصادقهم وينتصر بهم ويجعلهم أولياء له (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فإنه كافر عملا ، من أهل النار ، وهو خطر على المسلمين ،
فالذين تولّوا الكفار كانوا من أخطر الناس على المسلمين ، وكانوا في زمرة الكفار
ينصرونهم وينتصرون بهم (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بعد ما علموا وعرفوا ، فإنه سبحانه لا
يلطف بهم ألطافه الخفية.
[٥٣] وبعد هذا
القرار الجازم ، الذي دل عليه منطق التاريخ السابق على الإسلام ، حيث أن كل موال
لا بد وأن يكون هواه مع من يوالي ، لا مع مجتمعة ، والذي قد نهي عنه صريحا (فَتَرَى) يا رسول الله (الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق. قال ابن عباس : إن المراد بذلك عبد الله بن
أبي ، أن عبادة بن الصامت الخزرجي أتى إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله إن لي أولياء من اليهود ، كثير عددهم
، قوية أنفسهم ، شديدة شوكتهم ، وأنا أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم ولا مولى لي
إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي : لكن لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف
الدوائر ولا بد لي منهم.
ثم أنه شبّه النفاق
بالمرض لأن كليهما موجب لانحراف الإنسان ، فالمرض يوجب انحراف مزاجه ، والنفاق
يوجب انحراف سلوكه
يُسارِعُونَ
فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي
أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
____________________________________
المنبعث من انحراف
روحه (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في تولي أهل الكتاب واتخاذهم أولياء ، ولعل الإتيان
بلفظة «يسارعون» لإفادة أنهم يوالونهم قبل ظهور علائم الاحتياج إليهم «من هزيمة
المسلمين» فإنهم يحتاطون باتخاذهم أولياء لئلا يأتي يوم يحتاجون إليهم ، وذلك أسوأ
حالا ممن يوالونهم إذا ظهرت علامة هزيمة في المسلمين (يَقُولُونَ) أي قائلين لتبرير موقفهم (نَخْشى أَنْ
تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي دوران الفلك الموجب لغلبة الكفار على المسلمين فإنا
نتخذهم من الآن أولياء لنكون في أمان إذا دارت الدائرة (فَعَسَى اللهُ) أي لعل الله (أَنْ يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ) للمسلمين بأن يفتحوا بلاد الكفار ويكون الغلب لهم على
الكفار (أَوْ أَمْرٍ مِنْ
عِنْدِهِ) غير الفتح من إعزاز المسلمين وتكثير عددهم وجلاء الكفار (فَيُصْبِحُوا) أي يصبح هؤلاء المنافقون الذين والوا الكفار خوف غلبتهم
ودوران الدائرة على المسلمين (عَلى ما أَسَرُّوا
فِي أَنْفُسِهِمْ) من موالاة اليهود وتمني الغلبة لهم. ولعل ذكر «أسروا» مع
أنهم أعلنوا عن ولائهم خوف الدائرة ، لإفادة أنهم كانوا قد أسروا أشياء كثيرة في
أنفسهم ، كما هو شأن النفاق والمنافقين (نادِمِينَ) وليس ندمهم من جهة الحق ، بل من جهة أنهم خسروا الطرفين ،
طرف المسلمين لأنهم عرفوا نفاقهم ، وطرف الكفار لأنهم هزموا.
وَيَقُولُ
الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
____________________________________
[٥٤]
(وَ) إذ قسم الله الفتح للمؤمنين ، أو أتاهم بأمر من عنده (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صادقا ،
يقولون متعجبين من نفاق المنافقين واجترائهم على الله بالأيمان الكاذبة : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) أي : هل هؤلاء المنافقون الذين انكشفت حقائقهم هم الذين
حلفوا بالله (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي جهدوا جهد أيمانهم ، بمعنى : حلفوا بأغلظ الأيمان (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي مع المؤمنين في صدق الإيمان والمناصرة؟ كيف حلفوا بتلك
الأيمان المغلظة ، وقد ظهر نفاقهم خلال المعركة الحاسمة الموجبة لترجيح كفة
المسلمين؟ فإن النفاق لا يظهر جيدا إلا في المعارك والمخاوف. وهناك حيث عرف
المسلمون حقيقتهم تعجبوا من إيمانهم المزيف ، وأيمانهم المغلظة الكاذبة التي
أرادوا بها دعم إيمانهم وإدخال أنفسهم في زمرة المؤمنين (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) جملة مستأنفة ، أي أن المنافقين ضاعت أعمالهم الإيمانية
بسبب النفاق ، أو : أنهم ضاعت مساعيهم في مصانعة الطرفين بسبب انهزام الكفار فلا
ظهر لهم ، وكشف باطنهم للمسلمين فيتجنبون عنهم (فَأَصْبَحُوا
خاسِرِينَ) دنيا وآخرة.
[٥٥] ثم بعد ما
بيّن مضرّة النفاق ، توجه السياق إلى المؤمنين مبيّنا لهم أنهم إن ارتدوا فلا
يظنوا أن ذلك يضر دين الله سبحانه فقد وكلّ الله بدينه في كل دور أناسا يقومون بشرائط
الإيمان ، فالمرتد إنما يضر نفسه لا أنه يضر دين الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)
فَسَوْفَ
يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا
يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ
____________________________________
ارتدادا إلى الكفر
، أو إلى النفاق ، فإن انقلاب الباطن عن الإسلام هو نوع من الارتداد أيضا (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) فهو ذو صلة بهم وهم ذووا صلة به سبحانه. ولعل الإتيان
بكلمة «سوف» لئلّا يظنون أن في تأخير الأمر انقطاعا وانفصاما للإيمان ، بل قد
يتأخر مجيء الصلحاء بعد ارتداد قسم من الناس عن الإيمان (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أذلة من «الذّل» بكسر الذال : ضد الصعوبة ، وقد يكون من «الذّل»
بضم الذال : ضد العزة (أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكافِرِينَ) أي يكونون ليّنين على المؤمنين ، غلاظ شداد على الكافرين.
وإنما كان ذلك مدحا لأن اللّين مع الكافر موجب لبقاء الكفر ، بخلاف إظهار الشدة
الذي يوجب حصر الكفر على نفسه وانكماشه ، وعدم تعديه إلى المؤمنين الضعاف ، كما
قال سبحانه في آية أخرى : (أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، (يُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته (وَلا يَخافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ) فإن الجهاد يلازم لوم اللائمين من المؤمنين ومن الكافرين ،
أما «من الكافرين» فواضح ، وأما «من المؤمنين» فلأن الآراء غالبا ما تختلف بسبب
لوم بعضهم لبعض كما هو المشاهد المحسوس ، وكثيرا من الناس يمنعه الجهاد والإقدام
لوم اللائمين لا صعوبة الجهاد.
وقد نزلت هذه
الآية في علي أمير المؤمنين عليهالسلام وأصحابه الأكرمين ، وإن كانت عامة بحسب اللفظ ، كما هو شأن
آيات القرآن غالبا.
__________________
ذلِكَ
فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
(٥٤)
____________________________________
ولعل وجه قوله : «يأتي» مع أن الإمام
عليهالسلام كان حاضرا وقت النزول ، اعتبار الوصف أي قوله «يجاهدون». تقول : «سوف
آتي بشخص يفعل كذا» تريد أن الفعل «سوف» يأتي لا الشخص.
(ذلِكَ) المذكور في أوصاف القوم من محبة الله لهم ومحبتهم لله
ولينهم مع المؤمنين وشدتهم على الكافرين وجهادهم بدون خوف اللوم (فَضْلُ اللهِ) حيث تفضل عليهم بهذه الصفات وهداهم إلى الحق (يُؤْتِيهِ) أي يعطي هذا الفضل (مَنْ يَشاءُ) ممن كان قابلا وأهلا (وَاللهُ واسِعٌ) فضله فلا يخاف نفاده إن أعطى أحدا (عَلِيمٌ) بموضع فضله وجوده.
[٥٦] ولما ذكر
سبحانه أنه لا يجوز أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ، بيّن ولي المؤمنين وأن
اللازم أن يتخذوا الله ورسوله ومن نصبه الله وليا. وقد أجمع المفسرون بأن هذه
الآية نزلت في علي أمير المؤمنين عليهالسلام . وقد يقال أن الأئمة الأحد عشر عليهمالسلام ليسوا بمشمولين للآية ، لدلالة «إنما» على الحصر؟ والجواب
من وجهين :
الأول : إن الآية
حصرت الأمر في وقت النزول ، وكانت ولايتهم عليهمالسلام بعد ذلك.
والثاني : وهو
الأصح أن ولاية الأئمة من ولاية علي عليهالسلام ، كما لو قال : والي بلدكم فلان ، فإن من عينه الوالي
للأمور كان امتدادا لولاية فلان.
__________________
إِنَّما
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)
وَمَنْ
يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
الْغالِبُونَ (٥٦)
____________________________________
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ) فالله له الولاية المطلقة والسلطنة الكاملة من جميع الجهات
عليكم (وَرَسُولُهُ) محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) المتصفون بكونهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي الصدقة (وَهُمْ راكِعُونَ).
وقد روت العامة
والخاصة أن هذه الآيات نزلت في علي أمير المؤمنين عليهالسلام لما تصدّق بخاتمه وهو في الركوع. وفي بعض الأخبار أنه كان
تصدق قبل ذلك أيضا في صلاة أخرى بحلّة قيمتها ألف دينار أرسلها النجاشي إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأهداها إلى علي عليهالسلام.
[٥٧] ثم ذكر
سبحانه أنه في تولي هؤلاء النجاح والغلبة ، فمن ظن أن في تولي غيرهم النجاح فقد
اشتبه ، ودل التاريخ أنه كلما التزم المسلمون بهؤلاء نجحوا وتقدموا ، وكلما تولوا
غيرهم خسروا وتأخروا (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ) أي يتخذه الله سبحانه وليا يأتمر بأوامره وينتهي عن زواجره
(وَرَسُولَهُ) يقتدي به في أعماله وأقواله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) علي والأئمة من ولده عليهمالسلام ـ حسب النزول ـ أو كل مؤمن حسب العموم ، في مقابل اتخاذ
الكفار أولياء (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) جنده وجماعته (هُمُ الْغالِبُونَ) على من سواهم من الأحزاب والجنود ، وفي قطع قوله : (فَإِنَّ حِزْبَ
__________________
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ
هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ
____________________________________
اللهِ) عن الجملة السابقة ، إذ لم يقل «فإنهم الغالبون» ، إفادة
أن المتولي يعدّ من حزب الله وجماعته ، فليس الأمر من ناحية العبد فقط ، بل من
ناحية الله أيضا.
[٥٨] قد نهي
المسلمون عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، ثم الآن يأتي السياق لينهى عن اتخاذ
أي كافر أو كتابي ـ ولو لم يكن يهوديا أو نصرانيا ـ وليا. وقد ورد في سبب النزول
أن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم كان رجال من المسلمين
يوادّونهما فنزلت هذه الآية ، ولو كان الأمر كذلك فالمراد ، بمن ذكر في الآية أعم
من المنافق (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً) أي سخرية وتلاعبا ، وذلك بأن أظهروا الإسلام باللسان
وأبطنوا الكفر بالجنان ، أو المراد جعله سخرية ولعب يستهزئون به (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أنزل عليهم الكتاب (مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم أهل الأديان السابقة على الإسلام (وَ) من (الْكُفَّارَ) المراد بهم الأعم من المنافقين ـ كما سبق ـ ولا يخفى أن
الكفار أعم من أهل الكتاب ، لكن إذا ذكروا في كلام كان المراد بالكفار غيرهم (أَوْلِياءَ) تتولونهم كاتخاذ المؤمنين لله ورسوله أولياء (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوه (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) بالله وبما أمر به.
[٥٩]
(وَإِذا نادَيْتُمْ) أيها المؤمنون (إِلَى الصَّلاةِ) إي دعوتم إليها
اتَّخَذُوها
هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ
____________________________________
(اتَّخَذُوها) أي اتخذوا الصلاة (هُزُواً وَلَعِباً) مهزلة وتلاعبا فيتضاحكون ويتغامزون بينهم ـ كما هي عادة
منافقي اليوم أيضا ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي ذلك الاستهزاء بالصلاة بسبب أن الكفار (قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) منافع الصلاة وأنها موجبة للنجاة من النار.
[٦٠] وجاء قوم من
اليهود يسألون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : أؤمن بالله وما أنزل إلى
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق .. إلى أن ذكر عيسى عليهالسلام فلما سمعوا ذلك منه جحدوا نبوته وقالوا : ما نعلم أهل دين
أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينا شرّا من دينكم ، فنزلت (قُلْ) يا رسول الله لأهل الكتاب : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) أي تسخطون علينا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) إيمانا لا يشوبه كفر ـ كإيمانكم ـ (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) يعني القرآن الحكيم (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلُ) على جميع الأنبياء (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ
فاسِقُونَ) فإن فسقكم ـ أي خروجكم ـ عن دين الله هو سبب نقمتكم علينا.
وهذا كقولهم : «هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر» ، أو : «إلا أني كريم وأنت
بخيل» ، فهو من باب الازدواج يحسن في الكلام لتعميم المقابلة ، فهو عطف على قوله :
«أن آمنا».
[٦١]
(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المستهزئين : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) أي إن كان إيمانا شرا عندكم فأنا أخبركم بشر من
مَثُوبَةً
عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً
وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ
قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
____________________________________
ذلك (مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) أي جزاء من عنده سبحانه ، وسمّي «مثوبة» استهزاء بهم ،
وإنما سمّي ما عند المؤمنين شرا ـ وإن لم يكن ما للمؤمنين إلا الخير ـ للمقابلة في
الكلام (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) أي طرده عن رحمته ، فلعنة الله لكم من شر إيماننا نحن (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) بسبب عصيانه وتمرده عن الحق (وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ) جمع «قرد» ، كما قال سبحانه : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) ، (وَالْخَنازِيرَ) بأن مسخهم على صور هذين الحيوانين النجسين (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على قوله : «لعنه الله» والطاغوت هو العجل الذي عبدوه (أُولئِكَ) اليهود الذين هذه صفاتهم (شَرٌّ مَكاناً) أي أن مكانهم في سقر الذي هو شر من مكان المؤمنين الذين
نقموا منهم ، وقد ذكرنا أن هذا الكلام من باب المشاكلة اللفظية وإلا فليس في مكان
المؤمنين شر (وَأَضَلُ) أي أكثر ضلالا (عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ) أي وسط الطريق.
[٦٢] وحيث ابتدأ
الكلام بعرض المنافق وأهل الكتاب في صف واحد ، ذكر سبحانه صفة من صفات المنافقين ،
وأنهم كيف لا يؤثّر فيهم الوعظ والإرشاد (وَإِذا جاؤُكُمْ) أي جاءكم المنافقون (قالُوا آمَنَّا) إيمانا كإيمانكم (وَ) لكنهم في دعواهم تلك كاذبون ، إذ (قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ
__________________
وَهُمْ
قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
وَتَرى
كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)
____________________________________
وَهُمْ
قَدْ خَرَجُوا بِهِ) أي بالكفر ، كأن «الكفر» مادة يحملونها معهم فهم قد دخلوا
بهذه المادة حينما دخلوا في المجلس ، ثم خرجوا بهذه المادة كما دخلوا ، لم تؤثر
فيهم الموعظة والبلاغ ، حيث كانت قلوبهم مع إخوانهم الكافرين لا معكم حتى تؤثر
فيهم الموعظة (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِما كانُوا
يَكْتُمُونَ) أي يخفون من الكفر والنفاق.
[٦٣] ثم إن هؤلاء
الكفار يجمعون مع كفرهم صفات أخرى ذميمة هي من مستلزمات الانحراف ، أشار إليها
بقوله تعالى : (وَتَرى) يا رسول الله (كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الكفار وهم الرؤساء وذووا الجاه والمنصب (يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) فيسابق بعضهم بعضا في فعل الإثم والتعدي على الناس ، إنهم
حيث لم يؤمنوا بالله وكانت ديانتهم ـ المزعومة ـ صورية كان همّهم تحصيل أكثر ما
يمكن من المال والجاه ، لذا يتسابق بعضهم بعضا في ذلك ، إن الإثم لا أهمية له في
نظرهم إذ لم يعمر قلوبهم الإيمان ، والتعدي من شأن من يريد إعمار دنياه (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) كل مال حرام من رشوة وربا وأكل أموال اليتامى وأكل أموال
الناس بالباطل (لَبِئْسَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) فإن أعمالهم توجب خزي الدنيا والآخرة.
[٦٤] وهنا يتوجه
السياق إلى العلماء والمتدينون منهم ، كيف يسكتون على هذه المنكرات البشعة التي
ظهرت في اليهود؟ وما شأنهم إذا سكتوا عن
لَوْ
لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
وَقالَتِ
الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا
____________________________________
كل تلكم الجرائم (لَوْ لا) كلمة تحضيض بمعنى «هلّا» أي : لماذا لا (يَنْهاهُمُ) أي ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان (الرَّبَّانِيُّونَ) جمع «رباني» وهو منسوب إلى الرب على غير القياس ، أي
الإلهيون الذين يتورعون من خوف الله سبحانه (وَالْأَحْبارُ) جمع «حبر» بالفتح والكسر ، وهو العالم (عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) وهو ما يقوله الإنسان بغير حق من كذب وغيبة ونميمة وتحريف
وغيرها (وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ) من الربا والرشوة وغيرهما ، و «السحت» هو أشد أنواع الحرام
(لَبِئْسَ ما كانُوا) أي كان هؤلاء الربانيون والأحبار (يَصْنَعُونَ) فإن سكوتهم عن الباطل ومجاملتهم لأهله نوع من الصنع.
[٦٥] ثم بيّن
سبحانه مثلا ل «قولهم الإثم» بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) لا ينفق رزقا ولا يعطي شيئا ، كأنهم قالوا ذلك تبريرا
لبخلهم ، فإن الله لو كان لا ينفق فأجدر بهم أن لا ينفقوا ، وقيل : إن سبب نزول
هذه الآية : أن اليهود كانوا من أكثر الناس مالا وسعة ، فلما جاء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكذبوه ضيق الله عليهم فقال أحد اليهود : إن يد الله
مغلولة ، فرد الله عليهم (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) دعاء عليهم بأن تغل أيديهم عن الخير ، أو إخبار عنهم بأن
اليهود بخلاء لؤماء ، أي أنهم غلت أيديهم ، لا الله سبحانه (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) لعنهم الله وطردهم عن رحمته بسبب هذه المقالة.
بَلْ
يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ
الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
____________________________________
(بَلْ يَداهُ) أي يدا الله سبحانه (مَبْسُوطَتانِ) كناية عن جوده وعطائه ، وإنما جاء بذكر اليد للمقابلة ،
وذكر «يداه» لإفادة تمام معنى الجود (يُنْفِقُ كَيْفَ
يَشاءُ) فليس في تضييقه على اليهود دليل على أنه مغلول اليد بل
إنما ينفق سبحانه كيف يشاء حسب الحكمة والمصلحة. ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن
وفضحهم يزيد كثيرا من اليهود انحرافا (وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ) أي كثيرا من اليهود ، وإنما لم يذكر كلهم لأن بعضهم لا
يعنيه الأمر ، وبعضهم يسبب القرآن هدايتهم (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) «ما» فاعل «يزيدن»
و «كثيرا» مفعول مقدم أي طغيانهم وكفرهم يزداد بسبب القرآن ، أما أن كفرهم يزداد
فلأنه كلما أنكروا آية وحكما ازدادوا كفرا وسترا للحق وأما أن طغيانهم يزداد ،
فلأنهم يقاومون الدعوة أكثر فأكثر كلما رأوا تقدمها أكثر.
(وَأَلْقَيْنا
بَيْنَهُمُ) أي بين اليهود (الْعَداوَةَ
وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فإن طبيعتهم المتخمرة بحب الذات واعتقاد أنهم شعب الله
المختار وبخلهم في الأموال ، لا بد وأن توجد بينهم العداوة والحزازة ـ ما داموا
يهودا يعتقدون بهذه الاعتقادات السخيفة ـ فإن أسباب النزاع في العالم يدور حول
المنصب والمادة غالبا ، وهذان كامنان في كل يهودي ، وقد دل التاريخ على صدق ذلك ،
فاليهود دائما متحاربون متباغضون ، حتى في فلسطين اليوم تقوم الأحزاب اليهودية
والمنظمات
كُلَّما
أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(٦٥)
____________________________________
بأبشع أنواع
العداوة والبغضاء فيما بينها وقد مر سابقا تفسير (إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ) وأنه كناية عن بقاء الحكم ما دام اليهود موجودين (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ
أَطْفَأَهَا اللهُ) أي كلما أرادوا محاربة المسلمين هزمهم الله ونصر المسلمين
عليهم ، وقد دل التاريخ على ذلك ، فقد غلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على يهود بني «قريضة» و «النضير» و «خيبر» و «فدك» وغيرهم
مع كثرة عددهم وعددهم ، وبعد ذلك لم يتمكن اليهود من محاربة المسلمين ، حتى في
يومهم هذا في فلسطين إنما يستندون إلى «حبل من الناس». ثم ما هي إلا فترة حتى
تراها قد انقشعوا انقشاع الضباب (وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَساداً) فهم المفسدون دائما ، حيث يريدون العلو على الناس ، وجمع
الأموال ، ومن المعلوم أن ذلك لا يتهيأ لهم إلا بالفساد (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي يكرههم ، لملازمة «كراهته» ل «عدم حبه» ، فإن كل مصلح
محبوب وكل مفسد مكروه.
[٦٦]
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) إيمانا بما أنزل الله وتقوى من معاصي الله (لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي سترنا سيئاتهم الماضية ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله (وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي التي فيها أنواع النعم والكرامة.
وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ
أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
____________________________________
[٦٧]
(وَلَوْ أَنَّهُمْ) أي أهل الكتاب (أَقامُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) أي عملوا بما فيهما بدون تحريف وزيادة ونقيصة (وَ) أقاموا (ما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ) أي القرآن ، وكونه منزلا إليهم باعتبار نزوله بين أوساطهم
وفي زمانهم (لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ) أي السماء ، فإنه سبحانه ينزل «السماء مدرارا» لمن آمن
واتقى (وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ) بإعطاء الأرض خيرها وبركتها ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ، (مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ) أي من هؤلاء «أهل الكتاب» جماعة معتدلون في العمل لا غلو
عندهم ولا تقصير ، كما نجد أن كل أمة بعضهم معتدلون ، وبعضهم متطرفون ، أو المراد
بهم : الذين آمنوا بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإطلاق «منهم» على أولئك باعتبار الماضي (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) أي أن أكثرهم متطرفون يعملون الأعمال السيئة.
[٦٨]
(يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هذه الآية نزلت بمناسبة استخلاف الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عليا خليفة من بعده ـ كما أجمع عليه المفسرون ـ وقد كان
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يخشى المنافقين من
ذلك ، فبين
__________________
وَإِنْ
لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ
اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ
____________________________________
سبحانه عظم الأمر
بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي لم تبلغ خلافة علي عليهالسلام (فَما بَلَّغْتَ
رِسالَتَهُ) لأن كل الرسالة رهن هذا التبليغ ، وذلك واضح إذ عدم
الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سدى ، وقد أمنه الله سبحانه مما كان يخشى منه
فقال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) أي يحفظك (مِنَ النَّاسِ) فلا يتمكنون من الفتنة والانقلاب والإيذاء مما كان يخشاه
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وحين ذاك ، وعند منصرف الرسول من حجة الوداع في وسط الصحراء ، أمر بنصب
منبر له وخطب خطبة طويلة بليغة ، ثم أخذ بكف علي عليهالسلام وقال : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» ، وأنشد حسان :
يناديهم يوم
الغدير نبيهم
|
|
بخمّ وأسمع
بالرسول مناديا
|
(إِنَّ
اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الذين يكفرون ببلاغك ، ومعنى «لا يهديهم» أنه لا يلطف بهم
اللطف الزائد بعد ما أعرضوا عن الحق عنادا واستكبارا ، ولعل الارتباط بين الآية
وطرفيها أنه كما أن الناس مأمورون بالقبول ، فالرسول مأمور بالبلاغ ، مع تلطيف جو
الكلام ، بتغيير الأسلوب في وسط المطلب ، تفنّنا في البلاغ ، وتنشيطا للأذهان ،
كما تقدم في آيات أخرى مشابهة.
[٦٩]
(قُلْ) يا رسول الله لأهل الكتاب : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لَسْتُمْ
عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ
____________________________________
لَسْتُمْ
عَلى شَيْءٍ) من الدين الصحيح الذي ارتضاه الله لعباده (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ) بالعمل بما فيهما بدون تحريف أو تحوير (وَ) تقيموا (ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن ، وقد سبق وجه قوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وأنه لجهة نزول القرآن في أوساطهم (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) فعوض أن يهتدوا بالقرآن يزيدهم طغيانا حيث كلما رأوا
القرآن صمموا على مقابلته وكفروا بكل ما ينزل منه ، ولا يخفى أن نسبة الزيادة إلى
القرآن مجازا ، وإلا فهوى أنفسهم هو الذي يزيدهم كفرا (فَلا تَأْسَ) أي فلا تحزن يا رسول الله (عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ) الذين كفروا بعد ما علموا الحق ، وأعرضوا عن الهدى بعد أن
رأوه وعرفوه.
[٧٠] وحيث تقدم أن
الله لا يهدي القوم الكافرين ، مما كان يوهم أن الكفار غير قابلين للهداية ، ذكر
سبحانه أنهم إن آمنوا ـ الملازم لإمكان الإيمان منهم ـ كان لهم ما لغيرهم من
المؤمنين من الأجر والمثوبة (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا) إيمانا ظاهرا بالشهادتين (وَالَّذِينَ هادُوا) أي اليهود (وَالصَّابِئُونَ) وهم قسم من المسيحيين أو غيرهم ـ كما تقدم في سورة البقرة
ـ ورفع «الصابئون» مع أنه عطف على المنصوب ب «إن» للإلفات إلى أن الصابئ الذي لا
يرجى فيه خير إن آمن قبل ، فكيف بغيره؟! فهو معطوف على
وَالنَّصارى
مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
____________________________________
محل اسم «إن» حيث
كان مبتدأ قبل دخول الناسخ (وَالنَّصارى) ليس اعتبارا بأسمائهم وصبغتهم العامة في النجاة والثواب ،
بل (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) إيمانا حقيقيا من القلب ، لا يشوبه شرك ونحوه (وَعَمِلَ صالِحاً) أي عمل عملا صالحا (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الآخرة فواضح ، وأما
في الدنيا فلأن الخوف الحقيقي والحزن الواقعي هو الذي لا يرجى دفعه وتداركه ،
بينما خوف هؤلاء وحزنهم ليس كذلك ، فإن خوف المؤمن ليس كخوف الكافر ، وكذلك
بالنسبة إلى الحزن.
[٧١] إن اليهود لم
يكن لهم إيمان صادق من يومهم الأول ، فكيف تأس عليهم يا رسول الله إن لم يؤمنوا بك؟!
ف (لَقَدْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عهدهم الأكيد حول الإيمان بالله وأنبيائه واتباع أوامره (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) يهدونهم إلى الحق ، لكنهم نقضوا الميثاق وخالفوا الأوامر
وتجرءوا على أبشع جريمة ف (كُلَّما جاءَهُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) ولا تميل إلى ما جاء به ، بأن لم يكن يوافق مرادهم (فَرِيقاً) من الرسل (ذَّبُوا) كالمسيح عليهالسلام ، حيث نسبوهم إلى الكذب وأنهم ليسوا من قبل الله سبحانه (وَفَرِيقاً) من الرسل (يَقْتُلُونَ) كزكريا عليهالسلام.
وَحَسِبُوا
أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ
عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
____________________________________
[٧٢]
(وَحَسِبُوا) أي ظن هؤلاء اليهود الذين كذبوا الأنبياء عليهمالسلام وقتلوهم (أَلَّا تَكُونَ
فِتْنَةٌ) أي لا يسبب قتل الأنبياء عليهمالسلام وتكذيبهم فتنة ، كما هو شأن كل من يقدم على جرم كبير يظن
أن الأوضاع تبقى على ما يشتهي ، منتهى الأمر أن ما صدر عن بعض شهواته يزول ويمحى
عن الوجود مع أن الأمر بالعكس ، فإن بقاء المجتمع سليما من الأخطار والآفات إنما
هو بانتهاج تعاليم الأنبياء ، فإذا أزيح النبي عن القيادة والتوجيه إما بقتله أو
تكذيبه ، فإنه سوف تحل بالمجتمع أشد الكوارث ، وتقع أعظم الفتن (فَعَمُوا وَصَمُّوا) عن مناهج الرشد ، بقتلهم الأنبياء وتكذيبهم ، فإن الإنسان
يبصر طريقه ويسمع الحق الذي ينفعه ما دام هناك نور يضيء ، ومرشد يدعو ، أما إذا
أزال النور ، وأزاح المرشد ، فإنه يعمى عن طريقه حتى يقع في المهالك ، ويصم عن
الحق حتى تحلّ به الكوارث (ثُمَّ تابَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) بإرسال أنبياء آخرين ، والمراد «التوبة» على هذا الجنس لا
خصوص من قتل منهم الأنبياء (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) أيضا عن الحق ، بأن تركوا تعاليم الأنبياء وأخذوا يتيهون
في الضلالة (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إذ بعضهم آمن واهتدى ، ولفظة «كثير» بدل «بعض» عن «كل» لا
فاعل ثان (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما
يَعْمَلُونَ) فيجازيهم على ما اقترفوا من الآثام واحتقبوا من الاجرام.
[٧٣] هكذا كان حال
اليهود ، حيث كفروا بعد أن أرشدهم الله الطريق ، أما النصارى فإنهم كإخوانهم
اليهود في العمى عن الحق بعد الرشاد
لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ
الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ
____________________________________
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهؤلاء قالوا : إن الله اتحد بالمسيح فصار شيئا واحدا ،
ولا يخفى أن الاتحاد غير معقول إذ لو بقي الشيئان اثنين بعد الاتحاد لم يكن اتحاد
وإن عدم أحدهما ، كان الله ، بينما المسيح بنفسه اعترف بأنه عبد الله (وَ) الحال أنه (قالَ الْمَسِيحُ يا
بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فإنا جميعا عبيده (إِنَّهُ مَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ) ويجعل له شريكا ، سواء اعترف به وبالشريك ، أم اتخذ إلها
غيره ، فإنه أيضا من جعل الشريك لله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فلا يدخله فيها أبدا (وَمَأْواهُ) أي مصيره (النَّارُ وَما
لِلظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالشرك (مِنْ أَنْصارٍ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه.
[٧٤] وهناك قسم
آخر من النصارى جعلوا الآلهة ثلاثة (لَقَدْ كَفَرَ) النصارى (الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي أحد آلهة ثلاثة ، وهم : «الأب» أي الله ، و «الابن» أي
المسيح ، و «روح القدس» ، قالوا : هذه الثلاثة واحد ، وذاك الواحد ثلاثة ، وحين
يسألون : كيف يمكن ذلك وهو تناقض؟ يقولون : إنه فوق مستوى عقولنا ، ولا يلزمنا
معرفة الكيفية.
وَما
مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ
إِلَى اللهِ
____________________________________
وهناك سؤال هو أنه
ما الفرق بينكم أنتم المسلمون حيث تقولون بأن الله لا يدرك كنهه ، وبين الذين
قالوا إن مشكلة التوحيد والتثليث فوق مستوى عقولنا؟
والجواب : إن
الفرق من أوضح الواضحات ، إذ أولئك يقولون بما لا يمكن ولا يعقل ، وما لا يدرك (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس للكون إلا إله واحد هو الله سبحانه (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) أي لم يرجع هؤلاء النصارى القائلون بالتثليث (عَمَّا يَقُولُونَ) أي عن مقالتهم ، وقولهم بالتثليث (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة ، وإنما لم يقل «ليمسنهم» لإفادة أنهم
بمقالتهم هذه يكونون كفارا ، تأكيدا لما سبق من قوله : «لقد كفر» وهذا من أساليب
البلاغة ، يقال : «اترك هذا الأمر وإلا لسجنت الفاعل له» عوض أن يقول : «لسجنتك»
لإفادة أن علة السجن هو الإتيان بذلك العمل.
[٧٥] ثم استفهم
سبحانه استفهاما تعجبيا ، وقد تقرأ في الأصول أن أمثال هذه الاستفهامات والتعجبات
إنما هي إنشاء مفهوم الاستفهام والتعجب وأمثالهما ، لداعي آخر من ترغيب وإنكار وما
أشبه ، فليس استفهامه ولا تعجبه عن جهل وتعجب كما هو عندنا (أَفَلا يَتُوبُونَ) هؤلاء اليهود والمسيحيون (إِلَى اللهِ) ويرجعون عن عقائدهم السخيفة
وَيَسْتَغْفِرُونَهُ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
____________________________________
وأقوالهم المفتعلة
(وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) لما مضى من كفرهم وعصيانهم (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) يغفر لهم إن تابوا أو استغفروا ، ويرحمهم بفضله إن رجعوا
وآبوا.
[٧٦] وبعد ما ذكر
سبحانه أقوال المسيحيين حول المسيح ، بيّن تعالى واقع المسيح وأنه ليس كما زعموا (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أي ليس المسيح عليهالسلام وذكر «ابن مريم» ، لنفي كونه ابن الله ـ في العبادة ـ (إِلَّا رَسُولٌ) فليس هو بإله (قَدْ خَلَتْ) أي مضت وسبقت (مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ) فهو رسول كأحدهم ، فكما ليس أولئك بآلهة ، ليس هذا بإله (وَأُمُّهُ) مريم عليهاالسلام (صِدِّيقَةٌ) كانت كثيرة التصديق بالله وآياته ، فليست هي إله كما زعم
جماعة من المسيحيين فقالوا بالأب والأم والابن (كانا) المسيح وأمه (يَأْكُلانِ الطَّعامَ) وذلك من صفات المخلوق لا الإله ، إذ آكل الطعام محتاج إلى
الطعام ، وله جوف ، وله أجزاء ، وله حالات ، وكل ذلك ينافي كونه إله (انْظُرْ) يا رسول الله (كَيْفَ نُبَيِّنُ
لَهُمُ) ونوضح لهؤلاء النصارى (الْآياتِ) الدالة على عدم كون المسيح إلها (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق ، يقال : «أفكه يأفكه إفكا» إذا
صرفه ، و «أنى» بمعنى «أين» أي أنهم أين يصرفون عن الحق الموضّح بالآيات؟!
قُلْ
أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً
وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
قُلْ
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا
أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ
سَواءِ
____________________________________
[٧٧]
(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء النصارى الذين يعبدون المسيح ويجعلونه
إلها (أَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ) أي غير الله (ما لا يَمْلِكُ
لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فإن شيئا في الوجود لا يملك ضر أحد ولا نفعه إلا بإذن الله
، ومن أضرّ أو نفع بالوسائل الطبيعية ـ كالقاتل والمعطي ـ أو بالوسائل الغيبية
كالأنبياء والأئمة ، فإنما ذلك حيث جعل الله المسببات تابعة لأسبابها الخاصة ،
وسلط الفاعل على الأسباب ، فهي ترجع أيضا إليه سبحانه (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم وحركاتكم ، فاحذروا مخالفته ، كي لا تقعوا في
عقوبته ونكاله.
[٧٨]
(قُلْ) يا رسول الله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) إما عام يشمل اليهود والنصارى ، فالمراد بغلو اليهود :
قولهم عزيز ابن الله ، وقولهم أن المسيح ليس نبيا ، فإنه غلوّ معكوس ، أو المراد
به النصارى فقط (لا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ) بأن تقولوا : المسيح هو الله ، أو ثالث ثلاثة ، أو إنه ابن
الله (غَيْرَ الْحَقِ) عطف بيان ، إذ كل غلوّ هو غير الحق (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ
ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) فإن أسلافكم لو ضلوا في اعتقادهم وغلوا ، فلما ذا تتبعونهم
أنتم ، إنهم كانوا من قبل وقد مضوا ، فما بالكم أنتم تقتفون أثرهم الباطل (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) من الناس فأوقعوهم في ضلال الكفر والشرك (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ
(٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا
يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
____________________________________
السَّبِيلِ)
أي الجادة
المستقيمة. والتكرار إنما هو لاختلاف المتعلق ، فقد تعدّى أحدهما إلى «من قبل»
وتعدى الآخر إلى (عَنْ سَواءِ
السَّبِيلِ) أو المراد ب «القوم» كبارهم الذين كانوا قبل النبي قائلين
بألوهية عيسى ، وأدركوا فلم يؤمنوا ، فإنهم ضلوا من قبل بعثة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لقولهم بالتثليث ، وضلوا بعد بعثته لكفرهم به صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[٧٩]
(لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) فاللعنة عليهم من قديم الزمان حيث لم ينفكّوا يعملون
القبائح ويكفرون بالأنبياء وينسبون إلى الله ما لا يليق به (عَلى لِسانِ داوُدَ) النبي عليهالسلام في الزبور (وَ) على لسان (عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ) في الإنجيل ، فقد لعنهم داود عليهالسلام لما اعتدوا في السبت فصاروا قردة ، ولعنهم عيسى عليهالسلام لما كفروا بعد فصاروا خنازير (ذلِكَ) اللعن إنما
استحقوه (بِما عَصَوْا) أي بسبب عصيانهم (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي يتجاوزون حدود الله سبحانه.
[٨٠] ثم بيّن
سبحانه بعض عصيانهم واعتدائهم بقوله : (كانُوا) أي كان بنو إسرائيل (لا يَتَناهَوْنَ) أي لا ينهى بعضهم بعضا (عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ) فقد تفشت فيهم المنكرات ولم يكن ينهاهم علماؤهم ، فاستحق
الجميع العقاب ، أولئك بإتيان المنكر ، وهؤلاء بسكوتهم عن فاعليه (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) من إتيان المنكر وعدم التناهي عنه.
تَرى
كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ
أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)
وَلَوْ
كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ
____________________________________
[٨١]
(تَرى) يا رسول الله أن تلك الطبيعة العاتية العاصية موجودة فيهم
إلى الآن ، فإن (كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل ـ اليهود ـ (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يتخذون الكفار أولياء لهم ، فقد كان اليهود يتولون كفار
مكة ويقولون : (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) ، في حين يجب على المؤمن أن يعادي الكافر الذي لا يعترف
بالله وقوانينه (لَبِئْسَ ما
قَدَّمَتْ لَهُمْ) أي لهؤلاء اليهود (أَنْفُسُهُمْ) أي بئس ما قدموا لمعادهم من الأعمال السيئة (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) محله الرفع ب «بئس» فهو كزيد في قولك : «بئس رجلا زيد» أي
بئس السخط الذي قدموه لأنفسهم (وَفِي الْعَذابِ هُمْ
خالِدُونَ) فالسخط يؤذي روحهم ، كمن يعلم أن السلطان غاضب عليه ،
والنار تؤذي جسمهم كما قال سبحانه في عكس ذلك : (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ) ، فإن أهل النار يعذبون عذابين ، وأهل الجنة ينعمون
نعيمين.
[٨٢]
(وَلَوْ كانُوا) أي هؤلاء اليهود (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) إيمانا صادقا (وَ) يؤمنون ب (النَّبِيِ) محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِ) من القرآن الحكيم
__________________
مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا
نَصارى
____________________________________
(مَا اتَّخَذُوهُمْ) أي لم يتخذوا الكفار (أَوْلِياءَ) لهم ، أو المراد : أنهم لو آمنوا بموسى وكتابه إيمانا
صادقا ، لم يتخذوا الكفار أولياء ، إذ الإيمان بهما يمنع من ولاية الكافرين ، فهم
كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون بموسى وكتابه (وَلكِنَّ كَثِيراً
مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن طاعة الله ورسوله وكتابه ، فإنما يدعون الإيمان
باللسان ، وقلوبهم خالية من الإيمان.
[٨٣] ثم ذكر
سبحانه فرقا بين اليهود والنصارى ، وأن اليهود طبيعتهم العامة العناد والاستكبار
والعداوة ، وأن النصارى ليسوا بتلك المثابة ، إذ فيهم بعض المنصفين من العلماء ،
وما أصدق قوله سبحانه ، فإننا نرى ذلك إلى اليوم ، فقد نجد كثيرا من المسيحيين
يسلمون ، ولا نجد إلا الشاذ النادر من اليهود يسلمون (لَتَجِدَنَ) يا رسول الله (أَشَدَّ النَّاسِ
عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للمسلمين (الْيَهُودَ) فإنهم من أعدى أعداء المسلمين (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي المشركين ، فإنهم في صف اليهود ـ وبعدهم في الرتبة ـ عداوة
للمسلمين.
(وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ) أقرب الناس (مَوَدَّةً لِلَّذِينَ
آمَنُوا) أي حبّا للمؤمنين (الَّذِينَ قالُوا
إِنَّا نَصارى) فإنهم وإن كانوا نصارى بصرف
ذلِكَ
بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
____________________________________
اللفظ (قالُوا إِنَّا نَصارى) ، لا أنهم على تعاليم المسيح ودينه حقيقة ، لكنهم من أقرب
الناس حبا للمسلمين (ذلِكَ) أي سبب كونهم أقرب (بِأَنَّ مِنْهُمْ) أي من النصارى (قِسِّيسِينَ) أي علماء من «القس» بمعنى نشر الحديث (وَرُهْباناً) أي الزهاد أصحاب الصوامع من «رهب» بمعنى خاف (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن اتّباع الحق والانقياد إليه إذا علموه. وبهذه الصفة خرج
من لم يكن كذلك من النصارى ، فإن القيد يخصّص المطلق.
__________________
الفهرس
المقدمة.......................................................................... ٥
كيفيّة الإعجاز................................................................. ١٠
الشيعة والاهتمام البالغ بالقرآن
الکریم............................................. ١٨
بعض مفسّري الشيعة........................................................... ٤٠
المصادر....................................................................... ٧٦
المقدمة........................................................................ ٨٠
المدخل........................................................................ ٨١
كتاب كل عصر ومصر......................................................... ٨١
تطبيق الفكر والعمل على القرآن.................................................. ٨٩
فلسفة كاملة عن الحياة.......................................................... ٩٥
سورة البقرة................................................................... ١٠٢
سورة آل عمران............................................................... ٣١٠
سورة النساء.................................................................. ٤٣٩
سورة المائدة.................................................................. ٥٩٥
الفهرس...................................................................... ٦٨٠
|