بسم الله الرّحمن الرّحيم

الإمام الكوثري

بقلم الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبو زهرة

وكيل كلية الحقوق وأستاذ الشريعة بجامعة القاهرة

(رحمهما‌الله تعالى)

١ ـ منذ أكثر من عام (١) فقد الإسلام إماما من أئمة المسلمين الذين علوا بأنفسهم عن سفساف هذه الحياة ، واتجهوا إلى العلم اتجاه المؤمن لعبادة ربه ، ذلك بأنه علم أن العلم عبادة من العبادات يطلب العالم به رضا الله لا رضا أحد سواه ، لا يبغي به علوّا في الأرض ولا فسادا ، ولا استطالة بفضل جاه ، ولا يريده عرضا من أعراض الدنيا ، إنما يبغي به نصرة الحق لإرضاء الحق جلّ جلاله. ذلكم هو الإمام الكوثري ، طيّب الله ثراه ، ورضي عنه وأرضاه.

لا أعرف أنّ عالما مات فخلا مكانه في هذه السنين ، كما خلا مكان الإمام الكوثري ، لأنه بقيّة السلف الصالح الذين لم يجعلوا العلم مرتزقا ولا سلّما لغاية ، بل كان هو منتهى الغايات عندهم ، وأسمى مطارح أنظارهم ، فليس وراء علم الدين غاية يتغيّاها مؤمن ، ولا مرتقى يصل إليه عالم.

لقد كان رضي الله عنه عالما يتحقّق فيه القول المأثور «العلماء ورثة الأنبياء» وما كان يرى تلك الوراثة شرفا فقط ، ليفتخر به ويستطيل على الناس ، إنما كان يرى تلك الوراثة جهادا في إعلان الإسلام ، وبيان حقائقه ، وإزالة الأوهام التي تلحق جوهره فيبديه للناس صافيا مشرقا منيرا ، فيعشو الناس الى نوره ، ويهتدون بهداه ، وأنّ تلك الوراثة تتقاضى العالم أن يجاهد كما جاهد النبيّون ، ويصبر على البأساء والضراء كما صبروا ، وأن يلقى العنت ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لقوا ، فليست تلك الوراثة شرفا إلا لمن أخذ في أسبابها ، وقام بحقها ، وعرف الواجب فيها ، وكذلك كان الإمام الكوثري رضي الله عنه.

٢ ـ إنّ ذلك الإمام الجليل لم يكن من المنتحلين لمذهب جديد ، ولا من الدعاة إلى أمر بديء لم يسبق به ، ولم يكن من الذين يسمهم الناس اليوم بسمة التجديد ، بل كان ينفر

__________________

(١) توفي الإمام الكوثري رحمه‌الله عام ١٣٧١ ه‍.

منهم ، فإنه كان متّبعا ، ولم يكن مبتدعا ، ولكني مع ذلك أقول : إنه كان من المجدّدين بالمعنى الحقيقي لكلمة التجديد ، لأن التجديد ليس هو ما تعارفه الناس اليوم من خلع للربقة وردّ لعهد النبوّة الأولى ، إنما التجديد هو أن يعاد إلى الدين رونقه ويزال عنه ما علق به من أوهام ، ويبيّن للناس صافيا كجوهره ، نقيّا كأصله ، وإنه لمن التجديد أن تحيا السّنّة وتموت البدعة ويقوم بين الناس عمود الدين.

ذلك هو التجديد حقا وصدقا ، ولقد قام الإمام الكوثري بإحياء السنة النبوية ، فكشف عن المخبوء بين ثنايا التاريخ من كتبها ، وبيّن مناهج رواتها ، وأعلن للناس في رسائل دوّنها وكتب ألّفها سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أقوال وأفعال وتقريرات ، ثم عكف على جهود العلماء السابقين الذين قاموا بالسنة ورعوها حقّ رعايتها ، فنشر كتبهم التي دوّنت فيها أعمالهم لإحياء السنة والدّين قد أشربت النفوس حبّه ، والقلوب لم ترنّق بفساد والعلماء لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة ، ولم يكونوا في ركاب الملوك.

٣ ـ لقد كان الإمام الكوثري عالما حقا ، عرف علمه العلماء ، وقليل منهم من أدرك جهاده ، ولقد عرفته سنين قبل أن ألقاه ، عرفته في كتاباته التي يشرق فيها نور الحق ، وعرفته في تعليقاته على المخطوطات التي قام على نشرها ، وما كان والله عجبي من المخطوط بقدر إعجابي بتعليق من علّق عليه ، لقد كان المخطوط أحيانا رسالة صغيرة.

ولكن تعليقات الإمام عليه تجعل منه كتابا مقروءا ، وإنّ الاستيعاب والاطّلاع واتساع الأفق ، تظهر في التعليق بادية العيان ، وكلّ ذلك مع طلاوة عبارة ، ولطف إشارة ، وقوّة نقد ، وإصابة للهدف ، واستيلاء على التفكير والتعبير ، ولا يمكن أن يجول بخاطر القارئ أنه كاتب أعجمي وليس بعربي مبين.

ولقد كان لفرط تواضعه لا يكتب مع عنوان الكتاب عمله الرسميّ الذي كان يتولاه في حكم آل عثمان ، لأنه ما كان يرى رضي الله عنه أنّ شرف العالم يناله من عمله الرسمي وإنما يناله من عمله العلمي ، فكان بعض القارئين ـ لسلامة المبنى مع دقة المعنى ولإشراق الديباجة وجزالة الأسلوب ـ لا يجول بخاطره أنّ الكاتب تركي بل يعتقد أنه عربي ، ولد عربيّا ، وعاش عربيّا ، ولم تظلّه إلا بيئة عربية.

ولكن لا عجب فإنه كان تركيّا في سلالته وفي نشأته ، وفي حياته الإنسانية في المدة التي عاشها في الآستانة ، أما حياته العلمية فقد كانت عربية خالصة ، فما كان يقرأ إلا عربيّا ، وما ملأ رأسه المشرق إلا النور العربيّ المحمديّ ، ولذلك كان لا يكتب إلا كتابة نقية خالية من كل الأساليب الدخيلة في المنهاج العربي ، بل كان يختار الفصيح من الاستعمال الذي لم يجر خلاف حول فصاحته ، مما يدلّ على عظم اطّلاعه على كتب اللغة متنا ونحوا وبلاغة ، ثم هو فوق ذلك يقرض الشعر العربي فيكون منه الحسن.

٤ ـ لقد اختصّ رضي الله عنه بمزايا رفعته وجعلته قدوة للعالم المسلم ، لقد علا بالعلم عن سوق الاتجار ، وأعلم الخافقين أنّ العالم المسلم وطنه أرض الإسلام ، وأنه لا يرضى

بالدّنيّة في دينه ، ولا يأخذ من يذل الإسلام بهوادة ، ولا يجعل لغير الله والحقّ عنده إرادة ، وأنه لا يصحّ أن يعيش في أرض لا يستطيع فيها أن ينطق بالحق ، ولا يعلي فيها كلمة الإسلام ، وإن كانت بلده الذي نشأ فيه ، وشدا وترعرع في مغانيه ، فإنّ العالم يحيا بالروح لا بالمادة ، وبالحقائق الخالدة ، لا بالأعراض الزائلة ، وحسبه أن يكون وجيها عند الله وفي الآخرة ، وأما جاه الدنيا وأهلها فظلّ زائل ، وعرض حائل.

٥ ـ وإنّ نظرة عبارة لحياة ذلك العالم الجليل ، ترينا أنه كان العالم المخلص المجاهد الصابر على البأساء والضرّاء ، وتنقّله في البلاد الإسلامية والبلاء بلاء ، ونشره النور والمعرفة حيثما حلّ وأقام. ولقد طوّف في الأقاليم الإسلامية فكان له في كل بلد حل فيه تلاميذ نهلوا من منهله العذب ، وأشرقت في نفوسهم روحه المخلصة المؤمنة ، يقدّم العلم صفوا لا يرنقه مراء ولا التواء ، يمضي في قول الحق قدما لا يهمّه رضي الناس أو سخطوا ما دام الذي بينه وبين الله عامرا.

ويظهر أن ذلك كان في دمه الذي يجري في عروقه ، فهو في الجهاد في الحقّ منذ نشأ ، وإنّ في أسرته لتقوى وقوّة نفس وصبر واحتمال للجهاد ، إنه من أسرة كانت في القوقاز ، حيث المنعة والقوّة وجمال الجسم والروح ، وسلامة الفكر وعمقه.

ولقد انتقل أبوه إلى الآستانة فولد على الهدى والحق ، فدرس العلوم الدينية حتى نال أعلى درجاتها في نحو الثامنة والعشرين من عمره ، ثم تدرّج في سلّم التدريس حتى وصل إلى أقصى درجاته وهو في سنة صغيرة ، حتى إذا ابتلي بالذين يريدون فصل الدنيا عن الدين ، لتحكم الدنيا بغير ما أنزل الله ، وقف لهم بالمرصاد ، والعود أخضر ، والآمال متفتحة ، ومطامح الشباب متحفّزة ، ولكنه آثر دينه على دنياهم ، وآثر أن يدافع عن البقايا الإسلامية على أن يكون في عيش ناعم ، بل آثر أن يكون في نصب دائم فيه رضا الله ، على أن يكون في عيش رافه وفيه رضا الناس ورضا من بيدهم شئون الدنيا ، لأن إرضاء الله غاية الإيمان.

٦ ـ جاهد الاتحاديين الذين كان بيدهم أمر الدولة لما أرادوا أن يضيّقوا مدى الدراسات الدينية ويقصّروا زمنها ، وقد رأى رضي الله عنه في ذلك التقصير نقصا لأطرافها ، فأعمل الحيلة ودبّر وقدّر ، حتى قضى على رغبتهم ، وأطال المدة التي رغبوا في تقصيرها ، ليتمكن طالب علوم الإسلام من الاستيعاب وهضم العلوم ، وخصوصا بالنسبة لأعجميّ بلسان عربيّ مبين.

٧ ـ وهو في كل أحواله العالم النّزه الأنف الذي لا يعتمد على ذي جاه في ارتفاع ، ولا يتملّق ذا جاه لنيل مطلب أو الوصول إلى غاية مهما شرفت ، فإنه رضي الله عنه كان يرى أن معالي الأمور لا يوصل إليها إلا طريق سليم ومنهاج مستقيم ، ولا يمكن أن يصل كريم إلى غاية كريمة إلا من طريق يصون النفس فيها عن الهوان ، فإنه لا يوصل إلى شريف إلا شريف مثله ، ولا شرف في الاعتماد على ذوي الجاه في الدنيا ، فإنّ من يعتمد عليهم لا

يكون عند الله وجيها.

٨ ـ سعى رضي الله عنه بجدّه وعمله في طريق المعالي حتى صار وكيل مشيخة الإسلام في تركيا ، وهو ممن يعرف للمنصب حقّه ، لذلك لم يفرّط في مصلحة إرضاء لذي جاه مهما يكن قويّا مسيطرا ، وقبل أن يعزل في منصبه في سبيل الاستمساك بالمصلحة.

والاعتزال في سبيل الحقّ خير من الامتثال للباطل.

٩ ـ عزل الشيخ عن وكالة المشيخة الإسلامية ، ولكنه بقي في مجلس وكالتها الذي كان رئيسا له ، وما كان يرى غضّا لمقامه أن ينزل من الرئاسة إلى العضوية ما دام سبب النزول رفيعا ، إنه العلوّ النفسيّ لا يمنع العامل من أن يعمل رئيسا أو مرءوسا ، فالعزّة تستمدّ من الحق في ذاته ، ويباركها الحقّ جل جلاله.

١٠ ـ ولكنّ العالم الأبيّ العفّ التّقيّ يمتحن أشد امتحان ، إذ يرى بلده العزيز وهو دار الإسلام الكبرى ، ومناط عزّته ، ومحطّ آمال المسلمين يسوده الإلحاد ، ثم يسيطر عليه من لا يرجو لهذا الدين وقارا ، ثم يصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ثم يجد هو نفسه مقصودا بالأذى ، وأنه إن لم ينج ألقي في غيابات السجن ، وحيل بينه وبين العلم والتعليم. عندئذ يجد الإمام نفسه بين أمور ثلاثة : إما أن يبقى مأسورا مقيّدا ، ينطفئ علمه في غيابات السجون ، وإنّ ذلك لعزيز على عالم تعوّد الدرس والإرشاد ، وإخراج كنوز الدّين ليعلّمها النّاس عن بينة ، وإما أن يتملّق ويداهن ويمالئ ، ودون ذلك خرط القتاد بل حزّ الأعناق ، وإما أن يهاجر وبلاد الله واسعة ، وتذكّر قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النّساء : ٩٧].

١١ ـ هاجر إلى مصر ثم انتقل إلى الشام ، ثم عاد إلى القاهرة ، ثم رجع إلى دمشق مرة ثانية ، ثم ألقى عصا التسيار نهائيا بالقاهرة ، وهو في رحلاته إلى الشام ومقامه في القاهرة كان نورا ، وكان مسكنه الذي كان يسكنه ضؤل أو اتّسع مدرسة يأوي إليها طلاب العلم الحقيقي ، لا طلاب العلم المدرسي ، فيهتدي أولئك التلاميذ إلى ينابيع المعرفة ، من الكتب التي كتبت وسوق العلوم الإسلامية رائجة ونفوس العلماء عامرة بالإسلام ، فردّ عقول أولئك الباحثين إليها ووجّههم نحوها ، وهو يفسّر المغلق لهم ، ويفيض بغزير علمه وثمار فكره.

١٢ ـ وإنّ كاتب هذه السطور لم يلق الشيخ إلا قبل وفاته بنحو عامين ، وقد كان اللقاء الرّوحيّ من قبل ذلك بسنين ، عند ما كنت أقرأ كتاباته ، وأقرأ تعليقه على ما يخرج من مخطوط ، وأقرأ ما ألّف من كتب ، وما كنت أحسب أنّ لي في نفس ذلك العالم الجليل مثل ما له في نفسي ، حتى قرأت كتابه «حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي» فوجدته رضي الله عنه خصّني عند الكلام في الحيل المنسوبة لأبي يوسف بكلمة خير.

وأشهد أني سمعت ثناء من كبراء وعلماء ، فما اعتززت بثناء كما اعتززت بثناء ذلك الشيخ الجليل ، لأنه وسام علمي ممن يملك إعطاء الوسام العلمي.

سعيت إليه لألقاه ، ولكني كنت أجهل مقامه ، وإني لأسير في ميدان العتبة الخضراء ، فوجدت شيخا وجيها وقورا ، الشيب ينبثق منه كنور الحق ، يلبس لباس علماء التّرك ، قد التفّ حوله طلبة من سورية ، فوقع في نفسي أنه الشيخ الذي أسعى إليه. فما أن زايل تلاميذه حتى استفسرت من أحدهم : من الشيخ؟ فقال : إنه الشيخ الكوثري ، فأسرعت حتى التقيت به لأعرف مقامه ، فقدّمت إليه نفسي ، فوجدت عنده من الرغبة في اللقاء مثل ما عندي ، ثم زرته فعلمت أنه فوق كتبه ، وفوق بحوثه ، وأنه كنز في مصر.

١٣ ـ وهنا أريد أن أبدي صفحة من تاريخ ذلك الشيخ الإمام ، لم يعرفها إلا عدد قليل :

لقد أردت أن يعمّ نفعه ، وأن يتمكّن طلاب العلم من أن يردوا ورده العذب ، وينتفعوا من منهله الغزير ، لقد اقترح قسم الشريعة على مجلس كلية الحقوق بجامعة القاهرة : أن يندب الشيخ الجليل للتدريس في علوم الشريعة ، من أقسام الدراسات العليا بالكلية ، ووافق المجلس على الاقتراح بعد أن علم الأعضاء الأجلاء مكان الشيخ من علوم الإسلام ، وأعماله العلمية الكبيرة.

ذهبت إلى الشيخ مع الأستاذ رئيس قسم الشريعة إبّان ذاك ، ولكننا فوجئنا باعتذار الشيخ عن القبول بمرضه ومرض زوجه ، وضعف بصره ، ثم يصرّ على الاعتذار ، وكلّما ألححنا في الرجاء لجّ في الاعتذار ، حتى إذا لم نجد جدوى رجوناه في أن يعاود التفكير في هذه المعاونة العلمية التي نرقبها ونتمنّاها ، ثم عدت إليه منفردا مرة أخرى ، أكرّر الرجاء وألحف فيه ، ولكنه في هذه المرة كان معي صريحا ، قال الشيخ الكريم ... إنّ هذا مكان علم حقّا ، ولا أريد أن أدرّس فيه إلا وأنا قويّ ألقي دروسي على الوجه الذي أحبّ ، وإنّ شيخوختي وضعف صحتي وصحّة زوجي ، وهي الوحيدة في هذه الحياة ، كلّ هذا لا يمكّنني من أداء هذا الواجب على الوجه الذي أرضاه.

١٤ ـ خرجت من مجلس الشيخ وأنا أقول أيّ نفس علويّة كانت تسجن في ذلك الجسم الإنساني ، إنها نفس الكوثرى.

وإنّ ذلك الرجل الكريم الذي ابتلي بالشدائد ، فانتصر عليها ، ابتلي بفقد الأحبة ، ففقد أولاده في حياته ، وقد اخترمهم الموت واحدا بعد الآخر ، ومع كل فقد لوعة ، ومع كل لوعة ندوب في النفس وأحزان في القلب. وقد استطاع بالعلم أن يصبر وهو يقول مقالة يعقوب : «فصبر جميل والله المستعان» ولكنّ شريكته في السرّاء والضراء أو شريكته في بأساء هذه الحياة بعد توالي النكبات ، كانت تحاول الصبر فتتصبّر ، فكان لها مواسيا ، ولكلومها مداويا ، وهو هو نفسه في حاجة إلى دواء.

ولقد مضى إلى ربّه صابرا شاكرا حامدا ، كما يمضي الصّدّيقون الأبرار ، فرضي الله عنه وأرضاه.

محمد أبو زهرة

ترجمة

الإمام الكوثري (١)

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد : فهذه نبذة مختصرة جامعة عن مؤلّف هذا الكتاب.

هو الإمام العلّامة المحدّث المحقّق الفقيه الأصولي المؤرّخ الصّوفي المتكلّم الشيخ محمد زاهد بن حسن بن علي الكوثري الحنفي.

ولد يوم الثلاثاء ٢٧ أو ٢٨ من شوال سنة ١٢٩٦ في قرية الحاج حسن (٢) أفندي وتلقى مبادئ العلوم على والده وعلى شيوخ دوزجة.

ثم انتقل إلى الآستانة سنة ١٣١١ فأخذ العلم عن كبار علمائها مثل : الشيخ العلّامة إبراهيم حقي الأكيني المتوفّى سنة ١٣١٨ ، والشيخ العلّامة علي زين العابدين الألصوني المتوفّى سنة ١٣٣٦ ، والشيخ حسن القسطموني المتوفّى سنة ١٣٢٩ ، والشيخ العلّامة يوسف ضياء الدين التكوشي المتوفّى سنة ١٣٣٩ ، وعمدته والده العلّامة حسن بن علي الكوثري المتوفّى سنة ١٣٤٥ عن مائة سنة رحمهم‌الله جميعا.

وقد تولّى عدة مناصب منها التدريس بجامع الفاتح وآخرها وكالة المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية.

وعند ما أطيح بالخلافة العثمانية وتولى عدوّ الله كمال أتاتورك سلطنة الدولة كان الشيخ من أشد المعارضين حتى حكم عليه بالإعدام ففرّ بدينه وهاجر إلى مصر ووصل إلى الإسكندرية سنة ١٣٤١ دون أن يودع أهله وسكن في القاهرة ثم رحل إلى الشام قبل أن يتمّ سنته الأولى من حين وصوله إلى مصر ، ثم زارها مرة أخرى في سنة ١٣٤٧ وكان مدة

__________________

(١) للتوسّع في ترجمته انظر الترجمة الوافية بعنوان «الإمام الكوثري» للأستاذ أحمد خيري في آخر مجموع «الفقه وأصول الفقه» من أعمال الإمام محمد زاهد الكوثري.

(٢) وهي قرية أنشأها والد المترجم رحمه‌الله وتقع على بعد خمس مراحل شرق الآستانة ، وتعرف الآن ببلدة دوزجة.

قيامه في الزيارتين بدمشق ما يقرب من سنة وعكف فيهما على المكتبة الظاهرية ينقب عن نفائس مخطوطاتها.

ثم ألقى عصا التسيار بمصر حتى توفي بها في يوم الأحد ١٩ من ذي القعدة سنة ١٣٧١ ه‍ رحمه‌الله رحمة واسعة.

وقد أجازه كبار علماء عصره من أمثال :

١ ـ العلّامة الشيخ يوسف الدجوي وقد سمع عليه الموطأ وقد توفي سنة ١٣٦٥.

٢ ـ والمحدّث العلّامة الشيخ أحمد رافع الطهطاوي المتوفّى سنة ١٣٥٥.

٣ ـ والمحدّث العلّامة الشيخ محمد جعفر الكتاني وقد سمع منه «الشمائل المحمديّة» بدمشق في رحلته الأولى سنة ١٣٤٢. وقد توفي سنة ١٣٤٥.

٤ ـ والعلّامة المحدّث الشيخ عبد الحي الكتاني المتوفّى سنة ١٣٨٢.

٥ ـ ومن كبار مشايخ الأزهر العلّامة محمد سالم الشرقاوي المعروف بالنجدي المتوفّى سنة ١٣٥٠.

٦ ـ والشيخ العلّامة محمد حبيب الله الشنقيطي المتوفّى سنة ١٣٦٣.

٧ ـ وأخوه العلّامة مفتي المدينة المنوّرة محمد الخضر الشنقيطي المتوفّى سنة ١٣٥٣.

٨ ـ ومولانا الشيخ العلّامة حكيم الأمة محمد أشرف علي التهانوي المتوفّى سنة ١٣٦٢.

وغيرهم من العلماء رحمهم‌الله جميعا.

وقد عرف عن المترجم رحمه‌الله تعالى التواضع وسعة الاطّلاع والحافظة القوية والإيثار والزهد والقوة في الحق ، والرد على المبتدعة ، وصون حمى الدين.

وتتلمذ عليه خلق لا يحصون قبل هجرته وبعدها واستجازه كبار معاصريه في العالم الإسلامي كما كان له سند عال.

وقد ترك رحمه‌الله تعالى مؤلفات كثيرة من شتى العلوم تشهد بعلومه وفضله ، منها ما هو مطبوع ، ومنها ما هو قيد الطبع :

١ ـ تأنيب الخطيب فيما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب.

٢ ـ النكت الطريفة في التحدّث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة.

٣ ـ إحقاق الحق بإبطال الباطل في مغيث الخلق.

٤ ـ الإشفاق على أحكام الطلاق.

٥ ـ نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى قبل الآخرة. وهو ضمن هذا المجموع الذي بين أيدينا.

٦ ـ من عبر التاريخ.

٧ ـ صفعات البرهان على صفحات العدوان.

٨ ـ محق التقوّل في مسألة التوسّل.

٩ ـ حسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي.

١٠ ـ بلوغ الأماني في سيرة محمد بن الحسن الشيباني.

١١ ـ الإمتاع بسيرة الإمامين محمد بن زياد وصاحبه محمد بن شجاع.

١٢ ـ لمحات النظر في سيرة الإمام زفر.

١٣ ـ الحاوي في سيرة أبي جعفر الطحاوي.

١٤ ـ الاستبصار في التحدّث عن الجبر والاختيار.

١٥ ـ تذهيب التاج اللجيني في ترجمة البدر العيني.

١٦ ـ أقوم المسالك في رواية مالك عن أبي حنيفة وأبي حنيفة عن مالك.

١٧ ـ التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز. وهو ثبته.

١٨ ـ نبراس المهتدي من اجتلاء أنباء العارف بالله دمرداش المحمّدي.

١٩ ـ إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسّل المريد.

٢٠ ـ المنتقى المفيد من العقد الفريد في علو الأسانيد.

٢١ ـ مقدمات وتعاليق وتقاريظ الإمام الكوثري ويحوي هذا الكتاب ما يقرب من ٦٠ مقدمة للشيخ على مختلف الكتب.

٢٢ ـ البحوث السّنيّة عن بعض رجال أسانيد الطريقة الخلوتية.

وغيرها من الكتب.

وأما كتبه المخطوطة : فمنها ما هو في حكم المفقود ومن أهم تلك الكتب :

١ ـ المدخل العالم لعلوم القرآن وهو من أهم كتبه.

٢ ـ إبداء وجوه التعدّي في كامل ابن عدي.

٣ ـ نقد كتاب الضعفاء للعقيلي.

٤ ـ التعقّب الحثيث فيما ينفيه ابن تيمية من الحديث.

٥ ـ رفع الريبة عن تخبطات ابن قتيبة.

٦ ـ الاهتمام بترجمة ابن الهمام.

٧ ـ تحذير الخلف من مخازي أدعياء السلف.

٨ ـ فصل المقال في تمحيص أحدوثة الأوعال.

٩ ـ عتب المغترين بدجاجلة المعمّرين.

وقد جمعت مقالاته التي كتبها في بعض المجلات ضمن كتاب «مقالات الكوثري» وهي حوالي ١١٧ مقالة.

كما حقّق رحمه‌الله تعالى ما يقرب من ٤٠ كتابا حلّاها بتعاليقه الوافية الممتعة.

وللتوسّع في ترجمته انظر الترجمة الوافية التى كتبها العلّامة الأديب البحّاثة الأستاذ :

أحمد خيري رحمه‌الله في كتابه «الإمام الكوثري» (١).

__________________

(١) وهذا الكتاب موجود في آخر مجموع «الفقه وأصول الفقه» من أعمال الإمام محمد زاهد الكوثري.

وممّن ترجم له :

١ ـ عزّت العطار الحسيني في مقدمة تأنيب الخطيب.

٢ ـ أحمد إبراهيم السراوي في مقدمة «طبقات ابن سعد» من الطبعة المصرية سنة ١٣٥٨.

٣ ـ الشيخ عبد الله الغماري في كتابه «سبيل التوفيق من ترجمة عبد الله بن الصديق» ذكره ضمن شيوخه.

٤ ـ الأعلام لخير الدين الزركلي رحمه‌الله ، وقد دسّ من بعض المنزهرين المعروفين بالدّسّ في كتب العلماء من ترجمة الإمام بعد وفاة المؤلف الزركلي رحمه‌الله جملة وتناوله بعض الفضلاء بالنقد في كتاب «الكوثري وتعليقاته».

٥ ـ الأستاذ زكي مجاهد رحمه‌الله في «الأخبار التاريخية».

٦ ـ محمود سعيد ممدوح في تراجم مشايخ الشيخ الفاداني «تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع» ، إلا أنه غمز الشيخ رحمه‌الله تبعا لمشايخه المغاربة المعروفين بذلك.

وأما الذين أثنوا على الإمام واعترفوا بعلمه وفضله فخلق لا يحصون عبّروا عن ذلك باللّسان والبنان فمن الذين أثنوا عليه :

١ ـ الشيخ العلّامة محمد يوسف البنوريّ رحمه‌الله تعالى في أول «مقالات الكوثري».

٢ ـ الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه‌الله في أول «المقالات» كذلك وترجمته له أثبتناها في أول هذا الكتاب.

٣ ـ الشيخ إسماعيل عبد رب النبيّ واعظ القاهرة في أول المقالات.

٤ ـ شيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه‌الله في كتابه العظيم «موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين».

٥ ـ الشيخ العارف بالله سلامة العزامي الشافعي رحمه‌الله في «البراهين الساطعة» و «فرقان القرآن ، بين صفات الخالق وصفات الأكوان».

٦ ـ والعلّامة الفقيه الشيخ أبو الوفاء الأفغاني في بعض كتبه. رحمه‌الله.

٧ ـ والشيخ عبد الرحمن المعلّمي في مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.

٨ ـ الشيخ عبد الغني عبد الخالق في مقدمة «مناقب الشافعي وآدابه» لأبي حاتم الرازي.

٩ ـ والعلّامة محمد يوسف موسى رحمه‌الله في بعض كتبه.

١٠ ـ وتلميذه الشيخ العلّامة عبد الفتاح أبو غدّة حفظه الله في كثير من كتبه.

١١ ـ والشيخ توفيق يحيى إسلام في مقدمة كتاب «قانون التأويل» للإمام الغزالي.

١٢ ـ الشيخ العلّامة مولانا نجم الدين الكردي النقشبندي ، في مقدمته لكتاب شيخه «فرقان القرآن» من الطبعة الثانية.

١٣ ـ والعلّامة الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني في مقدمة كتاب «التعليم» لمسعود بن أبي شيبة رحمه‌الله.

١٤ ـ والشيخ رضوان محمد رضوان في فهارس البخاري.

١٥ ـ الأستاذ حسام الدين القدسي في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «تبيين كذب المفتري».

١٦ ـ محمد منير الدمشقي رحمه‌الله في كتابه «نموذج من الأعمال الخيرية».

١٧ ـ الدكتور محمود الطناحي في كتابه «تاريخ نشر التراث».

١٨ ـ الدكتور العلّامة طه الدسوقي الحبيشي في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن جهيل الذي ردّ به على أغلاط ابن تيمية في الفتوى الحمويّة.

وقد كتبت بحوث في سيرته وعلمه منها :

١ ـ رسالة دكتوراه تقدم بها الطالب «حامد إبراهيم محمد» من الأزهر الشريف نوقشت في شهر ذي الحجة من عام ١٤٠٨ ه‍ ونال بها الطالب درجة الدكتوراه وكانت بعنوان «محمد زاهد الكوثري وجهوده الكلاميّة».

٢ ـ بحث قدّمه الطالب في الدراسات العليا محمد بن سعيد حوّى إلى جامعة الأردن بعنوان «الكوثري محدّثا».

٣ ـ رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الإلهيّات في أنقرة بعنوان «الكوثري محدّثا».

إلى غير ذلك من مآثر هذا الإمام العظيم التي لا ينكرها إلا من أصابته غشاوة أو عدمت بصيرته.

فتوى الشيخ محمود شلتوت في وفاة سيدنا

عيسى عليه الصلاة والسلام ، ورفعه ونزوله

منقولة عن كتابه «الفتاوى» ص ٥٢ ـ ٧٥

رفع عيسى عليه‌السلام

ورد إلى مشيخة الأزهر الجليلة من حضرة عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤال جاء فيه :

هل (عيسى) حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسنّة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر أنه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض أنه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟

وقد حوّل هذا السؤال إلينا فأجبنا بالفتوى التالية التي نشرتها مجلة الرسالة في سنتها العاشرة بالعدد ٤٦٢.

القرآن الكريم ونهاية عيسى :

أما بعد ، فإن القرآن الكريم قد عرض لعيسى عليه‌السلام فيما يتصل بنهاية شأنه مع قومه في ثلاث سور :

١ ـ في سورة آل عمران قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)) [آل عمران : ٥٢ ـ ٥٥].

٢ ـ وفي سورة النساء قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)) [النّساء : ١٥٧ ، ١٥٨].

٣ ـ وفي سورة المائدة قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)) [المائدة : ١١٦ ، ١١٧].

هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه.

والآية الأخيرة (آية المائدة) تذكر لنا شأنا أخرويا يتعلق بعبادة قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها. وهي تقرر على لسان عيسى عليه‌السلام أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ٧٢] وأنه كان شهيدا عليهم مدة إقامته بينهم ، وأنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن توفاه الله.

معنى التوفّي :

وكلمة (توفّي) قد وردت في القرآن كثيرا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها ، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السّجدة : ١١] ، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النّساء : ٩٧] ، (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : ٥٠] توفته رسلنا. ومنكم من يتوفى. حتى يتوفاهن الموت. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١].

ومن حق كلمة (تَوَفَّيْتَنِي) [المائدة : ١١٧] في الآية أن تجمل هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ، ويدركها من اللفظ والسياق الناطقون بالضاد.

وإذن فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه ، لما كان هناك مبرر للقول بأن عيسى حي لم يمت.

ولا سبيل إلى القول بأن الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى أنه حي في السماء ، وأنه سينزل منها آخر الزمان ، لأن الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.

معنى (رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨] وهل هو إلى السماء؟

أما آية النساء فإنها تقول : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء ، ويقولون : إن الله ألقى على غيره شبهه ، ورفعه بجسده إلى السماء ، فهو حي فيها وسينزل منها آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ، ويعتمدون في ذلك :

أولا : على روايات تفيد نزول عيسى بعد الدجال ، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال معه للجمع بينهما ، وقد نصّ على ذلك علماء الحديث ، وهي فوق ذلك من رواية وهب بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.

ثانيا : على حديث مروي عن أبي هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى وإذا صحّ هذا الحديث فهو حديث آحاد. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات.

ثالثا : على ما جاء في حديث المعراج من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما صعد إلى السماء وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل ، رأى عيسى عليه‌السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شرّاح الحديث في شأن المعراج وفي شأن اجتماع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأنبياء ، وأنه كان اجتماعا روحيا لا جسمانيا. «انظر فتح الباري وزاد المعاد وغيرهما».

ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما ترى فريقا منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعا جسديا بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] وهكذا يتخذون الآية دليلا على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث ، ويتخذون الحديث دليلا على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية.

الرفع في آية آل عمران :

ونحن إذا رجعنا إلى قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] في آيات آل عمران مع قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] في آيات النساء وجدنا الثانية إخبارا عن تحقيق الوعد الذي تضمنته الأولى ، وقد كان هذا الوعد بالتوفية الرفع والتطهير من الذين كفروا ، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خالية من التوفية والتطهير ، واقتصرت على ذكر الرفع إلى الله ، فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في الأولى جمعا بين الآيتين.

والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهّره من الذين كفروا.

وقد فسر الألوسي قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥] بوجوه منها ـ وهو أظهرها ـ إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك ، وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه‌السلام ، لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك.

وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصا وقد جاء بجانبه قوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم.

وقد جاء الرفع في القرآن كثيرا بهذا المعنى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النّور :

٣٦] ، (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [الأنعام : ٨٣] ، (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) [الشّرح : ٤] ، (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)) [مريم : ٥٧] ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة : ١١] الخ ...

وإذن فالتعبير بقوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] وقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] كالتعبير في قولهم لحق فلان بالرفيق الأعلى وفي (إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التّوبة : ٤٠] وفي (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] ، وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين تؤخذ كلمة السماء من كلمة (إِلَيْهِ) [البقرة : ١٧٨]؟

اللهم إن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح خضوعا لقصص وروايات لم يقم على الظن بها ـ فضلا عن اليقين ـ برهان ولا شبه برهان!

الفهم المتبادر من الآيات :

وبعد فما عيسى إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ناصبه قومه العداء ، وظهرت على وجوههم بوادر الشر بالنسبة إليه ، فالتجأ إلى الله شأن الأنبياء والمرسلين

فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيّب مكر أعدائه. وهذا هو ما تضمنته الآيات (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢] إلى آخرها ، بيّن الله فيها قوة مكره بالنسبة إلى مكرهم ، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع أمام مكر الله في حفظه وعصمته ، إذ قال : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم وأنه سيستوفي أجله حتى يموت حتف أنفه من غير قتل ولا صلب ، ثم يرفعه الله إليه.

وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سنّة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم ، ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم في القرآن ، ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مكرا؟ وكيف يوصف بأنه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه ، شيء ليس في قدرة البشر.

ألا إنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جاريا على أسلوبه ، غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)) [الأنفال : ٣٠].

رفع عيسى ليس عقيدة يكفر منكرها :

والخلاصة من هذا البحث :

١ ـ أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنّة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض.

٢ ـ أن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفّيه أجله ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا ، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ولكن وفاه الله أجله ورفعه إليه.

٣ ـ أن من أنكر أنّ عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وأنه فيها حي إلى الآن وأنه سينزل منها آخر الزمان فإنه لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي ، فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة ، بل هو مسلم مؤمن ، إذا مات فهو من المؤمنين يصلّى عليه كما يصلّى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ، ولا شية في إيمانه عند الله والله بعباده خبير بصير.

مناقشة

بعد نشر هذه الفتوى في مجلة «الرسالة» السنة العاشرة العدد ٤٦٢ قامت ضجة أحدثها قوم جمدوا على القديم ، وادّعوا الغيرة على الدين.

وقد رددنا على شبهات هؤلاء بالحجج العلمية الدامغة ونشرت ذلك «الرسالة» في الأعداد ٥١٤ ، ٥١٦ ، ٥١٧ ، ٥١٨ ، ٥١٩ من السنة الحادية عشرة.

وفيما يلي خلاصة لهذا الرد :

مبادئ مسلمة عند العلماء :

١ ـ حدّد الشارع العقائد ، وطلب من الناس الإيمان بها ، والإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل.

ومن الواضح أن هذا الاعتقاد لا يحصله كل ما يسمى دليلا ، وإنما يحصله الدليل القطعي الذي لا تعتريه شبهة.

٢ ـ وهذا الدليل القطعي يتمثل في شيئين :

الأول : الدليل العقلي الذي سلمت مقدماته ، وانتهت في أحكامها إلى الحس والضرورة ، فهذا ـ باتفاق ـ يفيد اليقين ، ويحقق ذلك الإيمان المطلوب.

الثاني : الدليل النقلي إذا كان قطعيا في وروده ، قطعيا في دلالته.

ومعنى كونه قطعيا في وروده : ألا يكون هناك أي شبهة في ثبوته عن الرسول ، وذلك كالقرآن الكريم الذي ثبت كله بالتواتر القطعي ، وكالأحاديث المتواترة عن الرسول ، إن ثبت تواترها.

ومعنى كونه قطعيا في دلالته ، أن يكون نصا محكما في معناه ، وذلك إنما يكون فيما لا يحتمل التأويل.

٣ ـ فإذا كان الدليل النقلي بهذه المثابة أفاد اليقين ، وصلح لأن تثبت به العقيدة.

ومن هنا نستطيع أن نقرر أن العلميّات التي لم ترد بطريق قطعي أو وردت بطريق قطعي ، ولكن لابسها احتمال في الدلالة ، فاختلف فيها العلماء ، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين ، والتي تعتبر حدا فاصلا بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون.

٤ ـ هذه المبادئ التي ذكرنا تنير سبيل البحث لمن يريد معرفة الحق فيما هو من العقائد وما ليس منها ، وهي مبادئ مسلمة عند العلماء يعرف كل مطلع على كتبهم ومناقشاتهم أنه لا نزاع فيها (١).

وعلى ضوء هذه المبادئ نستقبل قول الذين زعموا «أن رفع عيسى ونزوله آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنّة والإجماع».

ولنا في ذلك نظرات ثلاث : نظرة فيما ذكروا من آيات ، ونظرة فيما ساقوا من أحاديث ، والنظرة الثالثة فيما ادّعوا في هذا المقام من إجماع.

نظرة فيما ساقوا من آيات :

فأما الآيات التي تذكر في هذا الشأن فنحن نرجعها إلى ثلاثة أنواع :

النوع الأول : آيات تذكر وفاة عيسى ورفعه ، وتدل بظاهرها على أن الوفاة قد وقعت ، وهذه الآيات هي :

١ ـ قوله تعالى في سورة آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥].

٢ ـ قوله تعالى في سورة النساء : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [النّساء : ١٥٧] إلى قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٧ ، ١٥٨].

٣ ـ قوله تعالى في سورة المائدة : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧].

وقد تناولنا هذه الآيات في الفتوى ودرسناها دراسة علمية واضحة ، وعرضنا إلى آراء المفسرين فيها ، وبينّا أنه ليس فيها دليل قاطع على أن عيسى رفع بجسمه إلى السماء ، بل هي ـ على الرغم مما يراه بعض المفسرين ـ ظاهرة بمجموعها في أن

__________________

(١) راجع فصل «طريق ثبوت العقيدة» من كتابنا «الإسلام عقيدة وشريعة».

عيسى قد توفي لأجله ، وأن الله رفع مكانته حين عصمه منهم ، وصانه وطهّره من مكرهم. ولسنا في حاجة إلى أن نعيد شيئا مما ذكرناه (١).

النوع الثاني : آيات ما كان ليخطر بالبال أن لها صلة بموضوع البحث ، فلذا لم نفكر فيها ، وحسبنا الآن أن نمثل لهذا النوع بما قال أحدهم :

«ولك أن تضم إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران : ٤٥]. ففي قوله : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إشارة إلى رفعه إلى محل الملائكة المقربين».

والشيخ يريد السماء طبعا ، وهو لي للكتاب غريب ، فقد وردت كلمة «المقربين» في غير موضع من القرآن الكريم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)) [الواقعة : ١٠ ، ١١] ، (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)) [الواقعة : ٨٨ ، ٨٩] ، (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)) [المطفّفين : ٢٨] ، وإذن فليس عيسى وحده هو الذي يعيش بجسمه في السماء ، بل معه أفواج من عباد الله يعيشون فيها ويزداد عددهم يوما بعد يوم. وهكذا فليكن المنطق!

ثم يقول : «بل في قوله تعالى : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [آل عمران : ٤٥] إشارة إلى ذلك ، لأن الوجيه بمعنى ذي الجاه ، ولا أدل على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء».

__________________

(١) غير أنهم تمسكوا بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] بعد قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النّساء : ١٥٧] فقالوا : إن الرفع بعد نفي القتل هو رفع الجسم حتما ، وإلا لما تحققت المنافاة بين ما قبل «بل» وما بعدها ، ونحن نقول لهم إن المنافاة متحققة ، لأن الغرض من الرفع رفع المكانة والدرجة بالحيلولة بينهم وبين الإيقاع به كما يريدون. والمعنى : أن الله عصمه منهم فلم يمكنهم من قتله بل أحبط مكرهم وأنقذه وتوفاه لأجله فرفع بذلك مكانته. وقد قلنا في الفتوى : إن الآية بهذا تتفق تماما مع ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] وهذا احتمال قوي في الآية يمنع الزعم بأنها نص أو ظاهر في رفعه بجسمه حيا. ويقول الإمام الرازي في تفسيره : «ومطهرك : مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم. وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير ، وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته». ويقول في معنى قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] القول الثاني المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والبرهان» ثم يقول : واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] هو رفع الدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة» اه.

وهذا كلام لا يقال ، فإن وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيدة بالمعجزات البينات (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ٤٨ ، ٤٩] فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصة الرفع إلى السماء التي يرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيها في الدنيا من غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسون وجاهته؟ وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحا ليؤيدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها؟

النوع الثالث : آيتان قد اختلفت آراء المفسرين في بيان المراد منهما ، وجاء في بعض ما قيل : إنهما تدلان على نزول عيسى وهما :

١ ـ قوله تعالى في سورة النساء : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥١].

٢ ـ وقوله تعالى في سورة الزخرف : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : ٦١].

ما غاب عنا ، وقت أن كتبنا الفتوى ، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى ، وما غاب عنا ما ذكره المفسرون من الآراء والأفهام المختلفة فيهما ، وما كنا نحسب ـ ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكفر على مخالفه ـ أن أحدا يعرض لهاتين الآيتين وقد رأى فيهما ما رأينا من أقوال المفسرين المختلفة في ذاتها ، والمختلفة في ترجيحها ، فيقول إنهما نصّان قاطعان في نزول عيسى! ولذلك آثرنا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظهور درجتهما في الدلالة لكل من يقرأ شيئا من كتب التفسير. ولكنهم أبوا إلا أن يذكروا هاتين الآيتين ويزعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى ، فلسنا نجد بدا من أن نضع بين يدي القراء خلاصة لآراء المفسرين فيهما. ثم نقفي على ذلك بما نرى ليتبين الحق واضحا :

الآية الأولى : للمفسرين في هذه الآية آراء مختلفة وأشهرها رأيان :

الأول : أن الضمير في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) لعيسى. والمعنى : ما من أحد من أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا : أخبرت هذه الآية أن أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته ، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طلب منهم ، فلا بد أن يكون عيسى إلى الآن حيّا ، ولا بد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته ، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان.

الثاني : أن الضمير في (بِهِ) لعيسى ، وفي (مَوْتِهِ) للكتابي. والمعنى أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى. والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن ، ولا على نزوله في المستقبل ، لأن المراد أنهم يؤمنون عند معاينتهم الموت بأنه نبي الله وابن أمته.

هذان رأيان مشهوران في الآية عند المفسرين. ولكل منهما من يرجحه. وقد ساقهما ابن جرير ، وذكر الآثار التي تدل لكل منهما ثم قال : «وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال : تأويل ذلك ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. وإنما قلنا ذلك لأن الله جلّ ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة ، فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته لوجب ألا يرث الكتابيّ إذا مات إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام .. وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره. لأن من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد ..

وقد أجمع أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه ، وما جاء به من عند الله فمحكوم له بحكم ما كان عليه أيام حياته غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته ، فدلّ هذا على أن المعنى : إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وإن ذلك عند نزوله» (١).

ويريد ابن جرير بهذه العبارة أن الإيمان بعيسى يلزمه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، لأن رسالة محمد مما جاء به عيسى ، وعليه يكون من آمن بعيسى مؤمنا بمحمد فيكون مسلما له أحكام المسلمين في التوارث والصلاة عليه وغسله ودفنه في مقابر المسلمين .. الخ وهذا يخالف إجماع المسلمين على عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام للكتابي الذي يموت ، وإذا كان هذا يخالف الإجماع فقد بطل أن يكون معنى الآية ما ذكر ، وكان «أولى الأقوال بالصحة والصواب» في نظر ابن جرير هو الرأي الأول الذي لا يترتب عليه مصادمة الإجماع.

إلى هنا ، وقبل مناقشة ابن جرير فيما رجح به ، ليس في الأمر أكثر من أن مفسرا من بين المفسرين قد اختار رأيا من رأيين حكاهما عن أهل المأثور ورجح ما اختاره بما رأى ، ولكن القوم تلقّفوا هذا عن ابن جرير دليلا قاطعا على ما يزعمون من نزول عيسى. ونحن نلخص ردنا عليهم في النقط الآتية التي غفلوا أو تغافلوا عنها.

__________________

(١) عن ابن جرير ببعض تصرف.

١ ـ أن ابن جرير يذكر احتمالين في الآية ، ويذكر الآثار الدالة لكل منهما ويصل بالرأي الثاني إلى ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، فكيف يعد نصا قاطعا غير محتمل لأكثر من معنى ما خالف فيه ابن عباس ومجاهد وغيرهما؟

٢ ـ أن ابن جرير كما وجه الرأي الذي اختاره وجه الرأي الثاني أيضا «بأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه» وهذا فيما أرى هو الذي جعل ابن جرير يقتصد في التعبير عن ترجيح ما اختاره فيقول : «وأولى الأقوال» بدل أن يقول مثلا : والرأي الصحيح.

٣ ـ إن يكن ابن جرير قد رجح أحد المعنيين فقد رجح غيره من العلماء المعنى الآخر ومنهم الإمامان : النووي والزمخشري وغيرهما. قال ابن حجر في فتح الباري :

«ورجح جماعة هذا المذهب ـ يريد الثاني ـ بقراءة أبي بن كعب : «إلا ليؤمننّ به قبل موتهم» أي أهل الكتاب ، قال النووي : معنى الآية على هذا ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وابن أمته ، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النّساء : ١٨] ثم قال : وهذا المذهب أظهر ، لأن الأول يخص الكتابي الذي يدرك نزول عيسى ، وظاهر القرآن عمومه في كل كتابي في زمن نزول عيسى وقبله».

وقد ذكر صاحب الكشاف قريبا من هذا وأطال فيه ونقله عنه الإمام الرازي في تفسيره فليرجع إليهما من شاء.

بهذا يتبين :

١ ـ أن هذه الآية ليست نصّا في معنى واحد حتى تكون دليلا قاطعا فيه.

٢ ـ أن ما تمسك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مسلم له ، فقد بناه على أن المراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المعتبر الذي ينفع صاحبه وتترتب عليه الأحكام ، مع أنه إيمان ـ كما قرره العلماء ، ومنهم ابن جرير نفسه ـ لا يعتد به ولا يقام له وزن ولا تترتب عليه أحكام لأنه إيمان جاء في غير وقته.

٣ ـ أن من ينظر فيما تمسك به أصحاب المذهب الثاني : من العموم الواضح في قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [آل عمران : ١٩٩] ومن قراءة أبي «إلا ليؤمنن به قبل موتهم» ومن أن إيمان المعاينة لا ينفع صاحبه عند الجميع ، لا يسعه إلا أن

يخالف ابن جرير فيما ذهب إليه وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني : «وهذا المذهب أظهر».

والنتيجة الحتمية لهذا كله أن الآية ليست ظاهرة فيما يقتضي نزول عيسى فضلا عن أن تكون قاطعة فيه!

الآية الثانية :

للمفسرين في هذه الآية أيضا آراء مختلفة ، ومن هذه الآراء أن الضمير في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] راجع إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى القرآن ، ولكننا نستبعد هذا ونرى أن الضمير راجع إلى عيسى كما يراه كثير من المفسرين ، وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى. ومع ذلك نجد خلافا آخر يصوّره لنا بعض المفسرين بقوله : (وَإِنَّهُ) [البقرة : ١٣٠] أي عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] أي إنه بنزوله شرط من أشراطها ، أو بحدوثه بغير أب ، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث» (١).

ومن ذلك يتبين أن في توجيه كون عيسى علما للساعة ثلاثة أقوال :

الأول : أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة.

الثاني : أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة.

الثالث : أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور.

ولقد كان في احتمال الآية لهذه المعاني التي يقررها المفسرون كفاية في أنها ليست نصا قاطعا في نزول عيسى ، ولكننا لا نكتفي بهذا بل نرجح القول الثاني (وهو أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة) معتمدين في هذا الترجيح على ما يأتي :

١ ـ أن الكلام مسوق لأهل مكة الذين ينكرون البعث ويعجبون من حديثه ، وقد عنى القرآن الكريم في كثير من آياته وسوره بالرد عليهم ، واقتلاع الشك من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلا أو يؤمنون بها (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحجّ : ٥] ، (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحجّ : ٥] ، (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ)

__________________

(١) تفسير أبي السعود.

(اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) [الرّوم : ٥٠] وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)) [الزّخرف : ١١].

وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشك. أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى ، وهي أيضا في موضع الشك عندهم ، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شك فذلك طريق غير مستقيم ، لأنه استدلال على شيء في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!

٢ ـ ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعا على أن عيسى علم للساعة : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : ٦١] فإنه يدل على أن الكلام مع قوم يشكون في نفس الساعة ، والعلامة إنما تكون لمن آمن بها وصدق أنها آتية لا ريب فيها ، أما الذي ينكر وقوعها أو يشك فيها فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها ، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه ، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولا ليمكن أن يقال له بعد ذلك : هذا الذي آمنت به علامته كذا.

٣ ـ ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات ، ولم تصح إرادتها معنى ، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالا بها. فإذا طبّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا ، وأنه لا بد من تقدير في الكلام ، ثم وازنا بين النزول ، والخلق من غير أب ، وإحياء الموتى ، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات ، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له ، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة : (لا تشكّوا في الساعة ، فإن الذي قدر على خلق عيسى عن غير أب قادر عليها).

وبهذا يتبين :

أولا : أن الإخبار بنزول عيسى لا يصلح دليلا على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين لها من شك ويصح أن يقال عقبه : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : ٦١].

وثانيا : أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا ، لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها ، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها.

وثالثا : أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيّنّا.

* * *

أما بعد فهذه هي الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله. ولا شك أن القارئ المنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقها على المبادئ التي ذكرنا لا يخامره شك في أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن بنزول عيسى أو رفعه فضلا عما يفيد القطع الذي يكوّن العقيدة ، ويكفّر منكره كما يزعمون).

النظرة الثانية في الأحاديث :

والنظرة الثانية فيما ساقوا من أحاديث :

وموجز ما نقول فيها : أنها لا تخرج عن كونها أحاديث آحاد ، وأحاديث الآحاد مهما صحت لا تفيد يقينا يثبت عقيدة يكفر منكرها.

وإنه ليؤسفني أن أرى قوما تظاهروا بالانتساب إلى الدين والغيرة على أحاديث الرسول استباحوا لأنفسهم ـ في سبيل أغراضهم الدّنيا ـ أن يصطنعوا كل أساليب التلبيس والتمويه في شأن أحاديث عيسى التي لا يمكن أن يكون منها متواتر حتى على أوسع الآراء في تحققه ، وهي مع آحاديتها يكثر ويشتد في معظمها ضعف الرواة واضطراب المتون ونكارة المعاني ، فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان من الصحابة والتابعين ، وذكرت في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المتقدمين ، فإذا رأوا في بعضها ضعفا أو اضطرابا أو نكارة حاولوا التخلص من ذلك فقالوا : إن الضعيف فيها منجبر بالقوي ، وإن العدالة لا تشترط في رواة المتواتر. وهكذا يخلعون عليها ثوبا مهلهلا من القداسة لا رغبة في علم ولا غيرة على حق ، ولكن مكابرة وعنادا ، وإصرارا على التضليل ، وليقال على ألسنة العامة وأشباه العامة إنهم حفّاظ وإنهم محدثون!

* * *

بقي بعد هذا أمر لا بد من تقريره : وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطعية الدلالة ، فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ولم يجدوا مانعا من تأويلها : وقد جاء في شرح المقاصد بعد أن قرر مؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية ما نصه : ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة ... وأوّل بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي ، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك ، وفتنة الدجال بظهور الشر والفساد ، ونزول عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم باندفاع ذلك وبدوّ الخير والصلاح .. الخ».

ومن ذلك نرى أن السعد ـ صاحب المقاصد ـ لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله ، وإنما يقرر بصريح العبارة «أنه لا مانع من حملها على ظواهرها» فيعطي بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل. ثم يحدث عن بعض العلماء أنهم سلكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلا ، ويبين المعنى الذي حملوها عليه ، ولا شك أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد ـ كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله ـ أن ما تدل عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها فمن أدّاه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها فله ذلك ، ومن أدّاه نظره إلى تأويلها فله ذلك شأن كل ظني في دلالته.

ومما تقدم يتبين جليا «أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطعية ما ، لا من ناحية ورودها ولا من ناحية دلالتها».

النظرة الثالثة في الإجماع :

بقي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا من إجماع في هذا المقام.

وأحب أن أشير هنا إلى أن «الإجماع» الذي اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام قد اختلفت فيه المذاهب والآراء اختلافا بعيدا :

اختلفوا في حقيقته ، واختلفوا في إمكانه ، وتصور وقوعه.

ثم اختلفوا في حجيته. الخ مما يتبين لنا به أن حجيّة الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلا عن أن يكون الحكم الذي أثبت به معلوما بدليل قطعي فيكفر منكره.

ثم نقول : إن الذين ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به فيه سوى الأحكام الشرعية العملية ، أما الحسيات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا : «إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب ، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب ، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمها ، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه ، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع ، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه» (١) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ قطعية النصوص وظنيها في الورود والدلالة.

خلاف قديم وحديث في المسألة :

وعلى فرض أن أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول :

إن نزول عيسى قد استقرّ فيه الخلاف قديما وحديثا :

أما قديما فقد نصّ على ذلك ابن حزم في كتابه «مراتب الإجماع» حيث يقول : «واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بعده أبدا ، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه‌السلام : أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى ابن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه‌السلام» ، كما نصّ عليه أيضا القاضي عياض في شرح مسلم ، والسعد في شرح المقاصد ، وقد سقنا عباراته قريبا وهي واضحة جلية في أن المسألة ظنية في ورودها ودلالتها!

وأما حديثا فقد قرر ذلك كل من الأستاذين المغفور لهم : الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا ، والأستاذ الأكبر الشيخ المراغي.

فالشيخ محمد عبده رضي الله عنه يذكر وهو بصدد تفسير آية آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] «أن للعلماء هنا طريقتين : إحداهما وهي المشهورة أنه رفع بجسمه حيّا وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى ... والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها ، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه وهو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعده وهو

__________________

(١) التحرير.

رفع الروح ... الخ» ثم يذكر «أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث الرفع والنزول تخريجين : أحدهما أنها آحاد تتعلق بأمر اعتقادي ، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي وليس في الباب حديث متواتر ، وثانيهما تأويل النزول» بنحو ما سبق نقله عن شرح المقاصد (١).

وقد ورد على المغفور له السيد رشيد رضا سؤال من «تونس» وفيه «ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسمه من روحه؟ وما قولكم في الآية : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) [آل عمران : ٥٥] وإن كان حيا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني كما هي سنّة الله في خلقه؟» فأجابه السيد رشيد إجابة مفصّلة عما سأل عنه نقتطف منها ما يأتي :

قال بعد أن عرض للآيات وآراء المفسرين فيها «وجملة القول إنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء حيّا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه ، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هي عقيدة أكثر النصارى ، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين» ثم تكلم عن الأحاديث وقال : «إن هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى السماء» (٢).

أما المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فقد كتب بمناسبة السؤال الذي رفع إليه وكان سببا في فتوانا ، إجابة جاء فيها : «ليس في القرآن الكريم نص صريح قاطع على أن عيسى عليه‌السلام رفع بجسمه وروحه ، وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه. وقول الله سبحانه : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه ، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفع درجات عند الله كما قال في إدريس عليه‌السلام : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)) [مريم : ٥٧] وهذا الظاهر ذهب إليه بعض

__________________

(١) الجزء الثالث من تفسير المنار.

(٢) الجزء العاشر من المجلد الثامن والعشرين للمنار.

علماء المسلمين فهو عند هؤلاء توفاه الله وفاة عادية ثم رفع درجاته عنده ، فهو حي حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء. لكن جمهور العلماء على أنه رفعه بجسمه وروحه فهو حي الآن بجسمه وروحه ، وفسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوغ تفسير القرآن بها» ثم قال : «لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة ، والعقيدة لا تجب إلا بنص من القرآن أو بحديث متواتر» ثم قال : وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه‌السلام حي بجسمه وبروحه ، والذي يخالف في ذلك لا يعد كافرا في نظر الشريعة الإسلامية».

هذه نصوص صحيحة يقرر بها هؤلاء العلماء قديما وحديثا أن مسألة عيسى مسألة خلافية ، وأن الآيات المتصلة بها ظاهرة في موته عليه‌السلام موتا عاديا ، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تثبت عقيدة ، وهي مع هذا تحتمل التأويل وأنه لا يكفر المسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله ، فأين مع هذا كله ما يدعونه من إجماع (١)؟!

انتهت فتوى الشيخ محمود شلتوت

__________________

(١) من المهم مراجعة ما كتبناه عن ثبوت العقيدة بالقرآن والسنة والإجماع في فصل «طريق ثبوت العقيدة» من كتابنا «الإسلام عقيدة وشريعة».

مجمل ما تضمنته فتوى الشيخ

محمود شلتوت من آراء

تضمنت :

١ ـ أنّ توفية الله لسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥] توفية موت وانتهاء حياة.

٢ ـ أنّ رفع سيدنا عيسى عليه‌السلام (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] معناه رفع المكانة لا رفع الجسد إلى السماء.

٣ ـ أنّ الأحاديث الواردة في رفع سيدنا عيسى عليه‌السلام إلى السماء : (روايات مضطربة ، مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال فيه للجمع بينها ، وقد نصّ على ذلك علماء الحديث ، وهي فوق ذلك : من رواية وهب بن منبّه ، وكعب الأحبار ، وهما من أهل الكتاب ...).

٤ ـ أنّ علماء المسلمين القائلين بالرفع الذاتي لسيدنا عيسى عليه‌السلام : (اعتمدوا على حديث مرويّ عن أبي هريرة ، اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى ، وإذا صحّ هذا الحديث فهو حديث آحاد ، وقد أجمع العلماء على أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات).

٥ ـ أنهم اعتمدوا (على ما جاء في حديث المعراج من أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حينما صعد إلى السماء ، وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة ، فتفتح له ويدخل ، رأى عيسى عليه‌السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرّره كثير من شرّاح الحديث في شأن المعراج ، وفي شأن اجتماع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأنبياء ، وأنه كان اجتماعا روحيّا لا جسمانيّا).

٦ ـ أنّ الإجماع في الشريعة الإسلامية غير واقع ولا حاصل ...

٧ ـ أنّ (إجماع العلماء على أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات).

٨ ـ وغير هذا من التناقض والتهاتر والآراء الزائفة ...

وإليك من بعد هذا

كتاب الإمام الكوثري ردا على هذه الفتوى

نظرة عابرة

في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه‌السلام قبل الآخرة

وهو كتاب الإمام الكوثري

ردّا على فتوى الشيخ محمود شلتوت

التي وردت في الصفحات السابقة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد فإن مما يحزّ في نفس كل غيور على الدين الإسلامي أن يرى من تغدق عليه الأمة كلّ خير ، ليقوم بحراسة الدين وجمع كلمة المسلمين ، يسعى بكل ما أوتي من قوة البيان ، في التشكيك فيما توارثته الأمة في المسائل الاعتقادية والعملية والخلقية من صدر الإسلام إلى اليوم ، وتشتيت كلمتهم بمفاجأتهم بما يدعهم حيارى بين الأخذ بالجديد والاستمرار على القديم ، متهامسين فيما بينهم بما لا يرضي الله ورسوله.

وهو يحسب أنه في سبيل التجديد ، ظنا منه أن كلّ تجديد يرفع شأن الأمة ، مع أن التجديد النافع هو اكتشاف أمور جديدة من أسرار الكون واستخدامها في مرافق الحياة ، وإصلاح شئون المجتمع بإزالة أسباب الانحلال الخلقي والتذبذب الديني.

وهذا هو الذي يعلي شأن الأمة حقا ، ويغنيها عن أن تكون عالة على أمة سوى نفسها ، فيجعلها تقطع شوطا بعيدا في سبيل استعادة مجد الأجداد ، فلا تجد من يعاكس مثل هذا النهوض ، بل يلقى كلّ تشجيع وتقدير وثناء في كل ناد. وأما مساس دين الأمة والأحكام العملية والاعتقادية المستقرة من صدر الإسلام إلى اليوم ، بتحوير وتغيير ، باسم الإصلاح أو التجديد بين حين وآخر ، فلا يكون وسيلة خير أصلا.

وكتاب الله محفوظ كما أنزل ، وسنّة رسوله محوطة بسياج من عناية الحفّاظ في كل قرن ، ومسائل الوفاق والخلاف مدوّنة في كتب خالدة في جميع الطبقات ، لا يحوج شيء إلى شيء ، غير بعض عناية بالاطّلاع ، وهكذا جميع العلوم المتصلة بالقرآن الحكيم.

فدين يكون كتابه ، وسنّة رسوله ، ومسائله ، ومؤلّفاته كما وصفناه لا يحتاج إلى «لوثرية» ، ومن ظنّ خلاف هذا فقد جهل تاريخ دين الإسلام وتاريخ الدين النصراني ،

وأساء المقارنة بينهما ، وليس التلاعب بالمعتقد والأحكام العملية مما يرفع رأس الأمة عاليا ، بل ينكّس رأسها ، ويجعلها تذوق مرارة الانحلال في الاعتقاد والعمل والخلق.

فليعمل دعاة التجديد في الدين (معروفا) مع أنفسهم ، ومع الأمة ، وليقلعوا عن المساس بأحكام الدين ، وكفاهم أن يتوسّعوا في العلوم الإسلامية ، ويحافظوا على التراث كما هو ، غير ملموس بالتحوير والتغيير ، فينالون بذلك كلّ الثناء وكلّ الشكر.

وليس الدين مما يبدّل كل يوم ، وإن أبوا إلا تبديل الشّعار ، وتغيير الأحكام العملية والاعتقادية ، بشتى الوسائل ، تبعا لأهواء المتهوّسين ، فلا تتأخّر عنهم نقمة الله ومقت المسلمين.

وقد سبق أن تطاول بعض المشايخ على كثير من الأسس القويمة قبل عام (١) فردّ عليه أهل العلم بما يرجع الحقّ إلى نصابه ، والآن يعيد الكرّة! ويصرّ على إنكار رفع عيسى عليه‌السلام حيّا ونزوله في آخر الزمان ، على خلاف معتقد المسلمين ، بمقالات ينشرها في مجلة الرسالة ، يزداد فيها بعدا عن الجادة ، وعن أسس العلم ، وتشكيكا للعامة في العمل والاعتقاد.

ولا أدري أيّ حاجة كانت تدعوه إلى ذلك الإنكار ، أم أيّ فائدة كان يتصور أن تجنيها الأمة من وراء جنايته على اعتقادهم؟! فإن كانت بيّت مخالفتهم رغم قيام الأدلة ضدّ رأيه ، كان في إمكانه الإسرار بفتياه إلى المستفتي كما فعل شيخه (٢) ، وأما بعد أن جاهر بها وأعلن وأصرّ واستكبر ، فلا نوعد أن نبقى في عداد الشياطين الخرس عن إبطال الباطل ، فنردّ في فصول على تلبيساته وتشكيكاته بإذن الله سبحانه ، وهو ولي التوفيق.

__________________

(١) هو الشيخ محمود شلتوت ، المردود عليه بهذا الكتاب ، فقد كتب أكثر من مقال في مجلة الرسالة بعنوان (شخصيات الرسول) ، خلط فيه وبلط! فردّ عليه الإمام الشيخ الخضر حسين ، شيخ الأزهر فيما بعد ، وغيره من العلماء ، فيشير الإمام الكوثري هنا إلى مزالق الشيخ شلتوت في تلك المقالات وأمثالها.

(٢) هو الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر آنذاك.

أما سئموا من النزول؟!!

إصرار فاض على فتيا زائفة له في إنكار نزول عيسى عليه‌السلام ، أوجب مناصرة عقيدة المسلمين في المسألة ، ولو لا هذا لكنا في غنية عن هذا الحديث في مثل هذه الظروف.

ومن الناس من لا يجد موطئ قدم يقوى على حمل أثقاله ، فلا يزداد إلا نزولا وتورّطا كلما حاول النهوض من حيث كبا ، مثل الأستاذ المتهجّم ، فإنك تراه يزداد تورّطا وتخبّطا وانكسافا وانخسافا ، كلّما حاول الدفاع عن خروجه على المتوارث في العمل والعقيدة.

فها هو ذا قد كتب مقالا في العدد (٥١٤) من مجلة الرسالة ، يظهر منه أنه يريد أن يشغل الناس ـ إلى نزول عيسى عليه‌السلام ـ برأيه الشاذّ في النزول ، بعد أن أماتته حجج أهل الحق وأقبرته ، والدجّال الأعور لا يتأخّر عن الاعتراف بنزوله عليه‌السلام ، حين يرى نزوله بعينه السليمة مع عدم اعترافه بالوحي.

ومن أسوإ ما يصاب به المرء أن لا يشعر بما مني به في مناهضة عقيدة الجماعة ، فيزداد سقوطا بتمرّده واستكباره عن قبول الحق ، وبرميه جماعة أهل العلم بدائه ، قاعدا تحت المثل السائر : «أوسعتهم سبّا وأودوا بالإبل» ، وهو مطمئن إلى أننا لا نستطيع أن نساجله في ذلك ، وله الحقّ في هذا الاطمئنان.

ومما يدل على مبلغ تهيّج أعصابه إزاء وطأة الحق قوله عن حجج أهل الحق الرادين على باطله : إنها إنما نشرت في مجلات وصحف لا تقع عليها عين عالم!! كلمة ما أسخفها!! وبذلك يكون أقرّ على نفسه بأنه غير عالم ، لأنه من كتّاب مجلة نكتب فيها ، وكم كتب فيها وأثنى عليها ، ورأى الردود على شطحاته فيها ، فحاول الجواب عنها ، فهو يراها ثم يراها إلى أن تقوم قيامته ، وهذا الإقرار منه حجّة قاصرة لا تتعدّى شخص المقرّ ، وله أن يقرّ على نفسه بما يشاء.

وبعد أن اعترف هكذا بأنه غير عالم ، كيف يزجّ نفسه في مضايق البحوث العلمية؟ أم كيف يبيح لنفسه أن يحكم على أناس بأنهم جهلة؟!! وليس الحكم على أناس بأنهم جهلة من شأن الجاهل ، والجاهل إنما يعلم جهله العالم ، بيد أنّ الجاهل جهلا مكعّبا ـ بجهله للشيء ، وبجهله لجهله له ، وبحسبانه مع ذلك أنه يعلمه فوق علم كل عالم ـ لا يتحاشى عن تجهيل الأمة بأسرها من صدر الإسلام إلى اليوم ، في مسألة أجمعت الأمّة عليها ، وشذّ هو فيها عن جماعة أهل الحق.

وأما إن كان العالم في نظره هو من يستلهم الفقه من (لاهاي) ، ويستوحي العقيدة من (لاهور) (١) ، فلتلك المجلات والصحف كلّ الفخر إذا لم تقع عليها عين مثل هذا العالم.

وقد أنطقه الله في مفتتح مقاله آية تنطبق كلّ الانطباق على شخص الشاذّ نفسه ، لو فكّر وتدبّر.

الصحابة والتابعون وأئمة الفقه والحديث والتفسير والتوحيد كلّهم في جانب ، يؤيّدهم الكتاب والسنة والإجماع ، وذلك المتحامل في جانب يعضده متنبئ المغول في (قاديان) ، وفيلسوف (طرة) في سابق الأزمان!! منظر ما أروعه!! ومع ذلك كله يعدّ نفسه هو المحقّ التقيّ النقيّ الصالح الورع الوديع الحكيم ، ويفرض أنّ جماعة علماء المسلمين على توالي القرون هم المبطلون المتنطعون الحشوية!! فاعجب أن يتحدّث مثله عن الحجة والبرهان ، وقد داس تحت رجليه معايير العلم وموازين الفهم!! فسبحان قاسم المواهب.

فيجب أن يعلم أنّ إحالة من أحال المسألة عليه ـ كما فعل مثل ذلك في حمله على التجرؤ على السّنّة ـ لا تبرّر موقفه من حجج الشرع في نزول عيسى عليه‌السلام ، فها نحن أولاء نتعقّبه بإذن الله سبحانه خطوة فخطوة ، في جميع ما يبدئ ويعيد ، من انحرافاته عن الجادة ، ونريه بتوفيق الله وتسديده ما دام للحق سلطان ، كيف يكون زهوق الباطل تحت قوارع الحجج؟ إلى أن يقتنع بالحق.

رجل يقول : إنّ الشيطان ليس بكائن حيّ عاقل ، بل هو قوّة الشرّ المنبثّة في العالم! ـ كما هو رأي الباطنية ـ ويقسم السّنّة إلى أقسام ، تمهيدا للانسلاخ من معظمها بل كلّها ، تقرّبا إلى اللاهورية نفاة السنة ، ويستسهل إلغاء فريضة الظهر لمن صلّى العيد

__________________

(١) يعني بلد القادياني ، الذي جاءت فتوى الشيخ شلتوت على وفق دعواه!

يوم الجمعة علنا جهارا ـ تشكيكا للعامة في المتوارث ، ويدعو إلى القول بموت عيسى وعدم نزوله في آخر الزمان ـ موافقة ومناصرة للأحمدية أتباع متنبئ المغول في قاديان.

(ولم ينس الناس بعد ، ذلك الحديث المنشور لشيخه في (الصاعقة) و (الجامعة الإسلامية) و (الفتح) وتلك الفقرات في (تقرير البعثة الهندية ، عنهم!).

ويحمل زملاءه باسم الدين الإسلامي على تجويز إقعاد معبوده على ظهر بعوضة ، وإثبات القعود والقيام والمشي والحركة والتنقل والاستقرار المكانيّ والحدّ والجهة والمكان والبعد المكانيّ له تعالى ، كما هو معتقد الحشويّة.

(صغيرهم) يفعل ذلك كلّه ، ولا يخجل مما اقترف ، بل يجرؤ على نشر ذلك المقال المكتظّ بالعدوان على أهل الحق ، ويسمح له أن ينال من أسس الدين ، باسم حراسة الدين ، ويكافأ مكافأة الحرّاس الأمناء ، ويحمل فوق الأكتاف! هذا ما يتيه في تعليله العقل في بلد يكون العلم سائدا فيه.

وقد بلغت به الجرأة إلى حدّ أن يشهد على ما عند الله سبحانه ـ كأنه رسول من عند الله ـ فيقول فيمن ينفي رفع عيسى حيا ، ونزوله في آخر الزمان : إنه لا شية في إيمانه عند الله. فيكون ما عليه الجماعة من الاعتقاد المتوارث على ضدّ من ذلك طبعا ، وهذا قلب للأوضاع فظيع ، وجهل بأصول الاستدلال الشرعي شنيع. ولا أدري من أين أتاه هذا الوحي ضدّ اعتقاد جماعة المسلمين؟

وإني أوصي ذلك المتحامل أن لا يذهل عن مداولات الألفاظ التي يوجّهها إلى قرّة عيون المجاهدين ، وسيف المناظرين ، العلامة الأوحد مولانا شيخ الإسلام (١) ـ أمتع الله المسلمين بعلومه ، وأطال بقاءه في خير وعافية ـ وأن يبتعد عن إرسال الكلام جزافا نحوه ، لأنّ سماحته ليس من الطراز الذي تعوّد صاحب المقال التجرؤ عليه ، وهو القائم بالحجة في هذا العصر ، كما كان البرهان الأبناسيّ يقول ذلك في ابن الهمام ، فيذوب أمام صولته العلمية كلّ مبطل ، فلطمة أدبية منه تدع هذا المتهجّم مثلا في الآخرين.

__________________

(١) يعني به : شيخ الإسلام مصطفى صبري ، آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية ، وقد سكن مصر مهاجرا إليها ، ورد على بعض شذوذات الشيخ محمود شلتوت بقلمه البليغ الرفيع.

وما لصاحب المقال ولذلك المجهول في الجماعة؟! وهو نفسه غريق إلى (شوشته) في مخاضة لا يستطيع الخلاص منها ، ولا النهوض حيث وقع. فأوّل واجب عليه أن يخلّص نفسه مما تورّط فيه من الزيغ المبين ، لا أن يدافع دفاع الفضوليّ ويشهد بالنفي! عن مجهول يعلم نفسه ويعلمه غيره ، ولا شأن له به.

وطائفة لا تأبى الانصياع لتقرير يكتبه بطل الخروج على كل متوارث ، عن كتاب «النّقض» المكتظّ بوثنيات مشروحة في العددين (٤٤ و ٤٥ ، ١٣٦١ ه‍ من ـ مجلّة ـ الإسلام ، وتقرّر إباحة نشره ، وأن لا شيء في تداوله : لا محلّ لاستبعاد أن يوجد بينهم من يقول : «إنّ قوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب : ٤٠] عرضة الاحتمالات العشرة!! وحديث «لا نبيّ بعدي» خبر آحاد لا يفيد العلم ، والإجماع في إمكانه ووقوعه وإمكان نقله وحجّيّته : كلام!».

مع أن التقعّر بالاحتمالات العشرة لا يمتّ إلى أيّ إمام من أئمة الدين بأيّ صلة ، وإنما هو صنع يد بعض المبتدعة ، وتابعه بعض المتفلسفين من أهل الأصول ، فساير هذا الرأي مسايرون من المقلّدة ، كما محّص ذلك في موضعه ، والقول بظنية الدليل اللفظيّ مطلقا : باطل ، لأدلة مشروحة في موضعه.

ومن لا يكون له إلمام بالسنة ، ويكون له هوى في إبطالها بكل وسيلة ، يسهل عليه أن يقول في كلّ ما ثبت بالتواتر المعنوي : هذا خبر آحاد ، كما يقول الشيخ في حديث نزول عيسى عليه‌السلام ، وغيره في حديث «لا نبيّ بعدي» ، مع أنّ طرقهما في غاية الكثرة عند أهل العلم بالحديث.

وقد نصّ على تواتر حديث نزول عيسى عليه‌السلام ، ابن جرير والآبريّ وابن عطية وابن رشد الكبير والقرطبيّ وأبو حيان وابن كثير وابن حجر وغيرهم من الحفاظ ، وهم أصحاب الشأن ، وكذا صرّح بتواتره الشوكانيّ وصدّيق خان والكشميريّ في مؤلفاتهم.

ويسهل أيضا على كل من يسير وراء الهدّامين من اللامذهبية أن يقول في المسائل الإجماعية : إنّ الإجماع في إمكانه ووقوعه وإمكان نقله وحجّيّته كلام!! كما سبق ، فإذن لا كتاب ولا سنة ولا إجماع ، فليتقوّل من يشاء ما يشاء ، كلّ يوم باسم الشرع!!

وليس انتقاد بطل الإسلام (١) لأناس إلا بعد أن وضع إصبعه المشخّصة على نصوص كلامهم ، فلا يمكن لهم أن ينفلتوا من يده ، حيث يبني ردوده على الحقائق الملموسة ـ وفي كتابه الخبر اليقين ـ.

والضغينة التي يتخيلها بطل الشذوذ في كلام سماحته ، ما هي إلا بغض في الله ، وليس يحوم حول فكره السامي طائر العنصريات والإقليميات وسائر وجوه الجهالات ، التي وضعها المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تحت قدمه الشريفة ، لأن الإسلام لا يعرف عنصرا ولا إقليما ، وإنما يعرف إخاء شاملا على مبادئ سامية ، وهكذا العلم لا يخصّ بلدا ولا قبيلا ، بل هو نور شامل.

ولذا تجد سماحته من أبرأ الناس من مثل تلك الجاهلية الجهلاء ، بل يعدّ المبطل مبطلا كائنا من كان ، والباطل باطلا حيثما كان ، وإلا ما تحدّث عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بما تحدّث به عنه ، لأنه تركمانيّ الدم ـ من بني جنسه ـ كما كان الشيخ نفسه يصرّح بذلك ، ومن شهود هذا التصريح صاحب «المنار» في المجلد الثامن (ص ٣٧٩) ، ومعالي الوزير الحكيم الشيخ مصطفى عبد الرزاق باشا في مقدمة «العروة الوثقى».

وأما الشيخ محمد عبده فله مميزات معروفة ، وكان نادرة بين شيوخ عصره في الكتابة والإدارة وتصريف الشئون ، والقيام ببعض ما يعود على المجتمع بخير ، وقد أثنى عليه صديقه اللورد كرومر ، بسعة العلم واستنارة الذهن ، كما أثنى على مريديه بأنهم : «جديرون بكل تشجيع ومساعدة ، يمكن إمدادهم بهما ، لأنهم خلفاء المصلح الأوروبي الطبيعيون»!

وقال عن الشيخ عبده : «كان أحد زعماء الفتنة العرابية ، فلما جئت مصر سنة ١٨٨٣ كان مغضوبا عليه ، ولكن الخديو توفيق عفا عنه بما فطر عليه من مكارم الأخلاق ، وانقيادا لتشديد الإنكليز عليه في ذلك ، وعيّنه قاضيا (أهليا) ، فأحسن العمل وأدّى الأمانة حقّها».

وقال أيضا «إنني قدّمت لمحمد عبده كلّ تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة ... ولسوء الحظ كان على خلاف كبير مع الخديو ، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء ، لو لا أنّ الإنكليز أيّدوه بقوة»!

__________________

(١) يعني به : سماحة الإمام شيخ الإسلام مصطفى صبري.

وصدّق اللورد كرومر قول المستشار القضائي في الشيخ : «قام لنا بخدم جزيلة لا تقدّر ، في مجلس شورى القوانين ، في معظم ما أحدثناه أخيرا من الإصلاحات المتعلقة بالموادّ الجنائية وغيرها ، من الإصلاحات القضائية»!!

وقال اللورد أيضا : «وفي سنة ١٨٩٩ رقّي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن ، فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة ثمينة ، لتضلّعه من علوم الشرع الإسلامي ، مع ما به من سعة العقل واستنارة الذهن» ، ثم ذكر كمثال فتواه في تثمير الأموال في صناديق التوفير.

وقد طال أمد الصداقة بين الشيخ وبين اللورد كرومر ، فعرف كلّ منهما صاحبه ، فإذا انتقد مثله بعض نواحي الانتقاد في الشيخ ، لا يتّهم بغرض ، بل يعدّ منصفا ، ما غطّت صداقته على حقيقة أمر صديقه ، فدونك ما يقوله في «مصر الحديثة» ، على ما تجد في المجلد الحادي عشر من المنار (ص ٩٤) :

«وأخشى أن يكون صديقي محمد عبده في حقيقة أمره (لا أدريّا) ولو أنه يستاء منه لو نسبت إليه». ثم يأخذ عليه حديثه مع جمال الدين بشأن الخديو إسماعيل كما في (ص ٩٦) من المجلد المذكور. وأقرب الناس إلى الشيخ ما كان ينكر تساهل الشيخ في الإفتاء ، ويأخذ عليه أنجب تلاميذه المنفلوطيّ في «النظرات» فتحه لباب التأويل على مصراعيه (١) ، بل يستبعد كثير من الناس التجرؤ على المسائل المتوارثة ممن يرى قداسة الشرع.

والواقع أن للشيخ أطوارا في العلم والعمل والاتجاه ، فوجهته في عهد «العروة الوثقى» غير وجهته بعد اتصاله بزعيمه ، كما ذكره مصطفى عبد الرازق باشا في «الشباب». واتجاهه يوم رفع اللائحة إلى شيخ الإسلام العثماني غير اتجاهه فيما بعد ، وقد ذكرت صفحة منها في العدد (١٩ ـ ١٣٦٢ ه‍) من مجلة الإسلام ، ومن طالع «الواردات» و «العقيدة المحمدية» و «حاشية الدّوّاني على العضدية» و «فتاواه» وما نقل عنه في التفسير ، و «رسالة التوحيد» ، لا يصعب عليه فهم أطواره.

وتصوّره الخطاب إلى الحس في دين ، وإلى القلب في دين آخر ، وإلى العقل في دين الإسلام فقط : خيال شاعر يأباه قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) [الأنعام : ٨٣] وغيره من الآيات ، بل كلّ دين إلهي إنما يكون الخطاب فيه إلى العقل

__________________

(١) انظر في الجزء الأول من «النظرات» مقالة (يوم الحساب) ففيها نقد المنفلوطي لشيخه محمد عبده بأسلوب أدبي لاذع.

الذي سلطانه على المشاعر الظاهرة والباطنة على حدّ سواء ، ورأيه في تطوّر الأديان مثار جدل اليوم في الجامعة.

ولم يتحدث سماحة شيخ الإسلام إلا عن العلماء الذين تقاعسوا عن القيام بواجبهم ، ولا تكلّم عن المجلات والصحف عامة ، بل عن الصحف والمجلات المنحرفة عن الثقافة الإسلامية.

فإن كان كاتب المقال يجهل وجود انحراف عن الثقافة الإسلامية ، في صحف ومجلات تنشر هنا وهي بين يديه ، ويكتب في بعضها ، ـ وصلة منبر آرائه بإسماعيل أدهم (١) لا تزال ماثلة في الأذهان ـ فذلك لا يهمّنا ، وليس جهل ذلك بناع علينا ، وما الجري وراء الخرص والتظنّن والتشويه إلا شأن غيرنا.

وأما تقريظ كتاب معالي هيكل باشا مع نفيه المعجزات الكونية ، ومع ردّه الاحتجاج بالسنة ، فيجعل المؤلّف والمقرّظ في صفّ واحد ، وبيان حال المقرّظ في العدد (٤٢ ـ ١٣٦١ ه‍) ، على أن المعجزات كلّها قاهرة ، وقصر المعجزة القاهرة على القرآن الحكيم نفي لسائر المعجزات!

ومن الغريب أن صاحب المقال كلما تحدّث عن السّنّة يعطي الرادّين عليه حججا جديدة ، تدل على بعده الشاسع عن معرفة علوم الحديث ، وليس هو على علم من أنّ الخبر الذي تكثر رواته في كل طبقة ، بحيث تصل إلى حدّ التواتر ، لا يبقى للجرح والتعديل شأن في رجال أسانيده اتفاقا بين أهل العلم بالحديث ، وليس القول بأنّ هذا ضعيف منجبر ، أو حسن ، أو صحيح ، إلا بالنظر إلى سند خاص ورواية خاصة ، وأما الحديث الذي يرويه نحو ثلاثين صحابيا بطرق كثيرة تبلغ حدّ التواتر في كل طبقة ، فيعلو من أن تنال يد النقد طرقه واحدة واحدة ، بعد ثبوت التواتر بالنظر إلى مجموع الأسانيد والروايات.

فبهذا البيان يعلم أنّ هزء الشيخ في الكلام عن سبعين حديثا ـ أربعون منها صحاح وحسان ، والباقي منجبر (٢) ـ لا يجد موردا ، فيرتدّ إلى مصدره ، ومجاملة أهل الحق لا تنتظر ممن تعوّد مجاملة أهل الباطل.

__________________

(١) الملحد الزنديق ، وداعية الإلحاد في تأليف كتاب له خاص بالإلحاد. وانظر ترجمته في (الأعلام) للزركلي.

(٢) انظر في هذا كتاب إمام العصر محمد أنور شاه الكشميري ، واسمه : «التصريح بما تواتر في نزول المسيح» ، وهو مطبوع في الهند ولبنان ، وهو غاية الغايات في موضوعه.

وإذا رأيت من ظهرت للملإ مسايرته لأهواء أهل عصره يقول في الأباة الكرام الرادّين على باطله ، القائمين بالذب عن دين الله يوم خذله حرّاسه : «فتلك شنشنة عرفت من أمثال هؤلاء الذين مني الإسلام بهم في كل عصر ، ورأوا أنّ مسايرة الجماهير في أهوائهم وعقائدهم أجدى لهم وأسبغ للنعمة عليهم!» وعرفت دعوته ودعوتهم ، وخبرت محياه ومحياهم : عرفت مبلغ توخّي الصدق في قلمه ، وهكذا يكون الأدب الراقي!! ولسنا نعيش في كرة المرّيخ حتى تجهلنا الأمّة.

وأما توهّمه اتصالات بشأنه فصنع خياله! ومناصرة أهل الحق للحق في مثل هذا البلد الأمين لا تحوج إلى اتصالات ، لكنّ المريب يكون وهّاما ، رضي الله عن الذين يناصرون الحقّ حيثما كانوا.

وليس الشيخ بموفّق حتى في ضربه الأمثال وذكره النظائر ، على أمل أن تخفّف الوطأة عنه ، وهو كثير الأغلاط فيها أيضا ، فلكونها غريبة عن الموضوع ، لا نشتغل بتبيين تلك الأغلاط هنا ، حيث لا نسمح له أن يسرح في خارج البحث ، إلى أن ينفد ما في جعبته في الموضوع. ونكتفي بلفت نظره إلى أنه لا تنقذه من ورطته موافقة طائفة من غير المسلمين له ، فليقل ما يوافقه عليه المسلمون كائنا ما كان قوله ، وافقه اليهود مثلا أم لم يوافقوا ، لكن ليحذر كلّ الحذر مما يخالفه فيه المسلمون كمسألتنا هذه ، وهناك الطامّة.

العقيدة الدينية وطريق ثبوتها

بهذا العنوان مقال أيضا في العدد (٥١٦) يوسّع فيه كاتبه ـ بعد مقدمة غريبة عن الموضوع ـ دائرة البحث الجاري بينه وبين الذّابّين عن عقيدة أهل الحق في نزول عيسى عليه‌السلام ، فيحشر فيه ما لا صلة له به من آراء تكشف الغطاء عن علم الكاتب وفهمه واتجاهه أكثر من ذي قبل ، وتنيله شهرة ، لكن بما لا يرضاه لنفسه ، وقد انفرد بفهم معنى (العقيدة) ، وباكتشاف طريق ثبوتها في الإسلام ، وإن تأخّر هذا الفهم وهذا الاكتشاف إلى القرن الرابع عشر الهجري!! فلا بأس أن نستعرض هنا بعض آرائه الطريفة ، لنزيد كشفا عن مرمى كاتب المقال ووجهته.

فمنها قوله : «إنّ ما يجب الإيمان به يرجع إلى الأصول التي اشتركت فيها الأديان السماوية» ، فعلى هذا لا يعترف الكاتب بعقيدة خاصة في الإسلام ، ولا يقرّ بعقيدة فيه ما لم تكن متوارثة من الأديان السابقة!! فيكون هذا حجر الزاوية في بناء توحيد الأديان!! بل وضع أساس للاستغناء عن اللاحق بالسابق!!

مع أنه لا مصدر يوثق به في الاطلاع على جلية أحوال الأديان السابقة غير القرآن الحكيم والسنة النقيّة البيضاء. وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) [الشّورى : ١٣] وقوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران : ٦٤] للتدرّج بالمخاطبين إلى الدعوة المحمدية بحكمة. وليس الاشتراك في بعض الأسس يوجب الاشتراك في الجميع.

ومنها قوله : «إنّ الإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل». وهذا رأي ساقط ، لأنّ اعتقاد العامة لا عن دليل ، فيكونون غير مؤمنين على هذا الرأي!.

ومنها قوله : «إنّ الدليل العقليّ يفيد اليقين ، ويحقّق الإيمان المطلوب بالاتفاق بين العلماء» ، فيختصّ بأن يكون مصدر العقيدة ، لأنها لا تؤخذ مما اختلف فيه عنده ، والدليل النقليّ مختلف فيه في نظره كما سيأتي منه.

ومنها قوله : «إنّ الأدلة النقلية لا تفيد اليقين ، ولا تحصّل الإيمان المطلوب ، ولا تثبت بها وحدها عقيدة عند كثير من العلماء ، والذين ذهبوا إلى أنها تفيد اليقين ، وتثبت العقيدة ، شرطوا في الدليل النقليّ أن يكون قطعيّ الورود ، قطعيّ الدلالة» ، وذكر أمثلة للنوعين على رأي الفريق الثاني ، ثم قال : «ولا بد أن يعمّ العلم بالعقائد جميع الناس ، ولا يختصّ بطائفة دون أخرى ... ومن مقتضيات هذا العلم العامّ بها أن لا يقع خلاف بين العلماء في ثبوتها أو نفيها ، والعلميّات المختلف فيها ليست من العقائد».

فعلى هذا لا يكون أحد سالم العقيدة والإيمان ما لم يعتقد جميع الناس ما اعتقده هو ، وما لم تعلم كافّة البشر ما علمه هو ، فلا يمكن للأشعرية أو الماتريدية مثلا أن ينفردوا بعقيدة تكون حقا ، ما لم يشاركهم باقي الفرق فيها ، فتكون النّحل كلّها على قدم المساواة ، وتزول الحواجز بينها ، ويرتع الغنم مع الذئاب في مرتع واحد!! فتكون النّحل موحدة بفضل هذا الاجتهاد الجديد!!.

ومنها قوله : «إن ما اختلف فيه العلماء في باب العقليات ، والعلميّات ، كاختلاف الفقهاء في العمليات ، في عدم التضليل والتفسيق ، فضلا عن التكفير».

والعلماء في نظره أعمّ من علماء أهل الحق وزعماء سائر الفرق من أيّ نوع كان بدعتهم.

وهو يفرض أن الدليل القطعيّ البيّن عند هذا ، يكون بيّنا معلوما عند الجميع ، وأنّ الناس كلّهم سواسية في العلم والفهم!! فتتمّ بتلك المبادئ تصفية كتب العقائد في الإسلام ، وتنزيل مسائلها إلى عشر معشارها!! وفي ذلك الاقتصاد التامّ في العقيدة ، والاقتصاد مطلوب في كل شيء!!

هذا هو منزع صاحبنا ، فما يجب اعتقاده في نظره هو ما اتّفق عليه أرباب النّحل ، ويكون الناس أحرارا في اعتقاد ما يشاءون ، في مواضع الخلاف بين الفرق بدون أي لوم وتثريب!! وقد سبق منه تنويع السّنّة إلى أنواع (١) ، لا يكون للوحي شأن إلا في النّزر اليسير منها ، فتسقط أغلب السّنّة من أن تصلح للاحتجاج بها في باب العمل ، فضلا عن باب الاعتقاد ، رغم ما يقرّره فخر الإسلام في ذلك ، مع افتتان الكاتب بالنقل عنه فيما يهواه.

__________________

(١) وذلك في مقالاته التي كتبها بعنوان (شخصيات الرسول).

وهنا يضع قاعدة تمنع من أخذ الاعتقاد من مورد الخلاف ، وإفادة الدليل اللفظيّ اليقين مختلف فيها ، فلا يصحّ أن تؤخذ من الدليل اللفظيّ عقيدة ، على هذه القاعدة التي استقعدها هنا ، فيسقط الكتاب من مقام الحجّة في باب الاعتقاد ، كما تسقط أغلب السّنّة من مقام الاحتجاج بها في باب العمل عنده.

فمن يكون ملمّا بتاريخ الأديان والنّحل والمذاهب ، لا يتردّد لحظة أنه لا توجد طائفة ترى مجموع تلك الآراء ، فيظهر أنه ليس من طائفة من الطوائف المعروفة في كتب النّحل ، وإنما هو أمة وحده ، لا يمثّل بكلامه طائفة من تلك الطوائف ، بل يمثّل نفسه فقط ، كما قال الأستاذ العقاد في الأستاذ زكي مبارك.

ولا أرى بأسا في أن أتحدّث هنا عن الدليل اللفظي ، وعن المخطئ في العلميّات ، لخطورة ما فاه به كاتب المقال بشأنهما.

أما الدليل اللفظي فيفيد اليقين عند توارد الأدلة على معنى واحد ، بطرق متعددة وقرائن منضمة عند الماتريدية ، كما في «إشارات المرام» للبياضي وغيره ، وإلى هذا ذهب الآمدي في «الأبكار» ، والسعد في «شرح المقاصد» و «التلويح» ، والسيد في «شرح المواقف».

وعليه جرى المتقدمون من أئمة هذه الأمة وجماهير أهل العلم من كل مذهب ، بل الأشعريّ يقول : إنّ معرفة الله لا تكون إلا بالدليل السمعي. ومن يقول هذا يكون بعيدا عن القول بأن الدليل السمعي لا يفيد إلا الظن ، فيكون من عزا المسألة إلى الأشعرية مطلقا ، متساهلا بل غالطا غلطا غير مستساغ.

والواقع أن القول بأن «الدليل اللفظي لا يفيد اليقين إلا عند تيقّن أمور عشرة ودون ذلك خرط القتاد» : تقعّر من بعض المبتدعة ، وقد تابعه بعض المتفلسفين من أهل الأصول وجرى وراءه بعض المقلدة من المتأخرين ، وليس لهذا القول أي صلة بأي إمام من أئمة أهل الحق ، وحاشاهم أن يضعوا أصلا يهدم به الدين ، ويتّخذ معولا بأيدي المشككين ، والدليل اللفظي القطعي الثبوت ، يكون قطعي الدلالة في مواضع مشروحة في أصول الفقه.

وأما ما أجمله الفخر الرازي في «المحصّل» فقد أوضحه في «المحصول» و «نهاية العقول» ، واعترف فيهما بأن القرائن قد تعيّن المقصود ، فيفيد الدليل اللفظيّ اليقين ، فيفلت بذلك من أيدي المشككين إمكان التمسك بقول الرازي في «المحصل» في باب

التشكيك في القرآن الحكيم ، بل القول بمجرد الدليل العقلي في علم الشريعة بدعة وضلالة.

بل الأصل في علم التوحيد والصفات هو التمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ، ولزوم طريق السنة والجماعة في المباحثة مع الذين أقروا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يستعمل الدليل العقلي وحده مع غيرهم كما يقوله فخر الإسلام وغيره ، فلا يعوّل عند أهل الحق على اعتقاد لا يقره الكتاب والسنة ، فمن سعى في إبعادهما عنه فقد أبعد في الضلال.

وأما عدّ كاتب المقال لمسائل الخلاف في علم أصول الدّين بمنزلة الخلاف في مسائل الفقه في عدم التأثيم : فنزوع منه إلى رأي عبيد الله بن الحسن العنبريّ في تصويب المختلفين في العقائد. ومبلغ شناعة رأيه في ذلك يظهر مما بسطه ابن قتيبة في «مختلف الحديث» ص ٥٥.

وقد توسّع أئمة الأصول في نقض خيال الجاحظ في عدم تأثيم المختلفين في العلميّات والعمليّات بعد بذل الجهد منهم ، مع كون الصواب واحدا عنده في النوعين ، كما توسّعوا في التشنيع على العنبري في تصويب المختلفين مطلقا.

قال الغزالي في «المستصفى» : مذهب العنبري شرّ من مذهب الجاحظ ، فإنه أقرّ بأن المصيب واحد ، ولكن جعل المخطئ معذورا ، بل هو شرّ من مذهب السوفسطائية ، لأنهم نفوا حقائق الأشياء ، وهذا أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات ، فهذا لو ورد به الشرع لكان محالا ، بخلاف مذهب الجاحظ.

وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأوّلوه وقالوا : «أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير ، كمسألة الرؤية ، وخلق الأعمال ، وخلق القرآن ، وإرادة الكائنات ، لأن الآيات والأخبار فيها متشابهة ، وأدلّة الشرع فيها متعارضة ، وكلّ فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه‌السلام ، وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه ، فكانوا فيه مصيبين ومعذورين».

ثم قال الغزالي : «إن زعم أنهم فيه مصيبون ، فهذا محال عقلا ، لأنّ هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة ، فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا ، بل أحدهما ، والرؤية محالا وممكنا أيضا ، والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته ، أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو.

وإن أراد أن المصيب واحد لكنّ المخطئ معذور غير آثم ، فهذا ليس بمحال عقلا ، لكنه باطل بأدلة سمعية ضرورية ، واتّفاق سلف الأمة على ذمّ المبتدعة ومهاجرتهم ، وقطع الصحبة معهم ، وتشديد الإنكار عليهم ، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه ، فهذا من حديث الشرع دليل قاطع ... ، ولم ينته الغموض في الأدلة إلى حدّ لا يمكن فيه تمييز الشّبهة من الدليل» اه.

ولذا قال السعد في «التلويح» : «وإنما قال ـ يعني صدر الشريعة ـ (المخطئ في الاجتهاد لا يعاقب) لأن المخطئ في الأصول والعقائد يعاقب ، بل يضلّل أو يكفّر ، لأنّ الحق فيها واحد إجماعا ، والمطلوب هو اليقين الحاصل بالأدلة القطعية ، إذ لا يعقل حدوث العالم وقدمه ، وجواز رؤية الصانع وعدمه ، فالمخطئ فيها مخطئ ابتداء وانتهاء ، وما نقل عن بعضهم من تصويب كلّ مجتهد في المسائل الكلامية ، إذا لم يوجب تكفير المخالف ، كمسألة خلق القرآن ، ومسألة الرؤية ، ومسألة خلق الأفعال : فمعناه نفي الإثم ، وتحقّق الخروج عن عهدة التكليف لا حقّيّة كلّ من القولين» اه.

يريد بمنتهى كلامه الإشارة إلى رأي العنبري على تأويل إخوانه المعتزلة ، وقد فنّده الغزالي كما سبق.

وقال القاضي عياض في «الشفا» : «أجمع فرق الأمّة سواه ـ يعني العنبريّ ـ على أنّ الحقّ في أصول الدين واحد ، والمخطئ فيه آثم عاص فاسق ، وإنما الخلاف في تكفيره» ، وتوسّع القاضي هناك في نقل نصوص أهل العلم في المسألة ، ومنزلة القاضي عياض في علوم الرواية والدراية غير مجهولة عند من اطّلع على كتبه ، أو طالع «أزهار الرياض».

فثبت أنّ الخلاف في العقائد ليس كالخلاف في الفروع ، في عدم تأثيم المخطئ ، وعلى هذا اتفاق أهل الحق خلفا عن سلف ، بل اتفاق الفرق كلّها ، على ما سبق من القاضي عياض.

وأما ما وقع في كلام العز بن عبد السلام ، ففي مثل زيادة الصفات ، وحكم ذلك مشروع في شرح الدّوّاني على «العضدية» ، وفي كلام عبد الحكيم على «النّسفيّة» ، وغيرهما من الكتب المتداولة بأيدي طلبة العلم ، وكذا مسألة الاستطاعة قبل الفعل مبيّنة في كلام عبد الحكيم على «المقدمات الأربع». وهكذا أوضح علماء العقائد في كتبهم ما يكون التنازع فيه خطيرا أو غير خطير ، فلا يبيح ذلك إرسال الكاتب الكلام على عواهنه في عدم تأثيم المختلفين في العقائد إطلاقا.

على أنّ ابن عبد السلام له شطحات تسرّبت إليه من مطالعة بعض كتب ابن حزم ، التي أتى بها محيي الدين بن عربي إلى الشام ، فلا تزيد تلك الشطحات على أن تكون وهلة منه ، فلا يصحّ اتخاذها حجّة ، بل نرجو الله سبحانه أن يسامحه عليها.

وأما ابن حزم فعلى بعض ميل منه إلى رأي الجاحظ في المسألة ، يرى إكفار المعاند بعد إقامة الحجة عليه ولو بخبر الآحاد ، فلا يلقى صاحب المقال بغيته عنده بل عند العنبري فقط ، وقد أقيمت الحجة بتوفيق الله وتسديده على كاتب المقال ، من كتاب الله وسنّة رسوله المتواترة وإجماع أهل الحق.

وسبق أن أشرنا إلى أن الاحتمالات غير الناشئة من الدليل لا تخلّ بكون دلالة النصوص قطعية ، وذكرنا بعض ما ألّف في إثبات تواتر حديث النزول ، ونقلنا بعض نصوص أصحاب الشأن في تواتره وفي الإجماع على نزوله ، والمعاند بعد هذا يكون في موقف أخطر من التأثيم فقط ، ولذا صرّح السيوطيّ بتكفير منكر النزول في «الإعلام» المطبوع في ضمن «الحاوي» له ٢ : ١٦٦٠ ، وهو على القاعدة في إنكار ما تواتر في الشرع.

وليس أئمة هذه الأمة وعلماؤها من الصدر الأول إلى اليوم ، يجهلون معنى «العقيدة» ، وهم قد دوّنوا مسألة النزول في كتبهم في العقائد على توالي القرون ، قبل أن يخلق صاحب «الجوهرة» وصاحب «الخريدة» بدهور ، رغم أنف كلّ مكابر.

على أنّ مسألة نزول عيسى عليه‌السلام ليست من المسائل التي جرّت إليها المناقشات مثل الاستطاعة ، وخلق القرآن ، وزيادة الصفات ، بل هي ثابتة بنصوص الشرع مباشرة ، فلا يمكن لمن يدين بالكتاب والسنة والإجماع أن ينكرها ، فيكون لفّ الكاتب ودورانه واستقعاده لقواعد وصنوف مغالطاته إطالة للكلام بدون جدوى غير انكشاف حاله كلّ الانكشاف عند الجميع.

وحديثنا عن بضع تشكيكاته في الآيات يكون في فصل مفرد إن شاء الله تعالى ، وليس جهل الكاتب لدليل المسائل مما يوجب أن يجهله العالمون ، وتبجّحه بفهم معنى «العقيدة» لا يكسبه فخرا بعد أن جهل الدليل ، وجهل حصول العقد الجازم بالبرهان مرة ، وبالأدلة الإقناعية ، أو خبر الآحاد أو التقليد مرة أخرى.

قال علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري في «شرح أصول فخر الإسلام البزدوي» : «اعتقاد القلب فضّل على العلم ، لأنّ العلم قد يكون بدون عقد القلب ،

كعلم أهل الكتاب بحقّيّة النبيّ عليه‌السلام مع عدم اعتقادهم حقيّته ... ، والعقد قد يكون بدون العلم أيضا ، كاعتقاد المقلّد ، وإذا كان كذلك جاز أن يكون خبر الواحد موجبا للاعتقاد الذي هو عمل القلب ، وإن لم يكن موجبا للعلم.

قال أبو اليسر : الأخبار الواردة في أحكام الآخرة من باب العمل ، فإنّ العمل نوعان : عمل الجوارح ، واعتقاد القلب ، فالعمل بالجوارح إن تعذّر لم يتعذّر العمل ... العمل بالقلب اعتقادا» اه وذلك عند شرحه لقول فخر الإسلام : «وفيه ضرب من العمل أيضا وهو عقد القلب عليه ، إذ العقد فضّل عليه».

فظهر أنّ خبر الآحاد الصحيح قد يفيد اعتقادا جازما في أناس ، ولا يفيد البرهان العلميّ اعتقادا في آخرين ، فواحد يعتقد اعتقادا جازما بنزول عيسى عليه‌السلام ، بمجرّد أن سمع حديثا واحدا في ذلك من صحيح البخاري مثلا ، وآخر لا يعتقد ذلك ولو أسمعته سبعين حديثا ، وثلاثين أثرا من الصّحاح والسّنن والمسانيد والجوامع وسائر المدوّنات في الحديث ، مما يحصل التواتر بأقلّ منها بكثير ، فالناجي هو ذاك الواحد دون الآخر. ووجه الفرق بين الأنبياء والعلماء والعامّة من ناحية الجزم الحاصل لهم ، وطريق حصول الجزم لكل منهم : مشروحان في «تأنيب الخطيب» ، فليراجع هناك.

آيات في الرفع والنزول

وفي العدد (٥١٧) بعنوان «آيتان ...» مقال يتناسى فيه كاتبه ما قرّره في العدد السابق ، من أنّ مورد الخلاف لا يصلح أن يتّخذ مصدرا للعقيدة ، وأنّ الدليل النقليّ لا يفيد اليقين عند كثير من العلماء ، والذين قالوا بإفادته اليقين شرطوا شروطا إلى آخر ما ذكره في النوعين على رأي الفريق الثاني.

وأما الآن فيقول في مفتتح هذا المقال : إنه كان قرّر فيما سبق «أن القرآن كلّه قطعيّ الثبوت ، وأنه في دلالته نوعان : قطعيّ لا يحتمل التأويل ، وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر». فيتراجع هكذا عن القول بعدم إفادة الدليل النقلي اليقين عند كثير من العلماء ، فيتهاتر.

ولم أر بين الذين في أنفسهم مرض الخروج على الجماعة : من لا يتهاتر ، فإذا اعترف هكذا أنه يوجد بين الأدلة النقلية كثير مما يفيد اليقين ، فقد انهدم ما بناه ، واضطرّ إلى الرجوع لقول الجماعة بدون أن تنفع تمهيداته المهلهلة في شيء من مقاصده.

وقوله : «قطعيّ لا يحتمل التأويل» يدلّ على أنه غاب عنه أنّ احتمال التأويل احتمالا غير ناشئ من الدليل : لا يخلّ بكون الدلالة قطعية اتفاقا بين أهل العلم ، على ما هو مشروح في «المستصفى» و «التلويح» و «مرآة الأصول» وغيرها.

كما أنّ قوله : «وغير قطعي يحتمل معنيين فأكثر» يدلّ على أنه لا يميّز بين المجمل المحتمل لمعنيين على قدم المساواة ، وبين الظاهر المحتمل لمعنيين يكون أحدهما راجحا بنفسه أو بدليل ، والآخر مرجوحا في حكم العدم عند انتفاء ما يوجب الاعتداد به ، كما لا يميّز بين أقسام الوضوح التي إنما يكون احتمال التأويل في بعضها ، مع كون جميعها قطعيّة الدلالة عند عدم دليل يعضد الاحتمال الآخر اتفاقا.

وتلك الأقسام من الظاهر والنص والمفسّر والمحكم متداخلة ، وتغايرها بالمفهوم عند المتقدمين ، والتباين المعتبر بينها عند المتأخرين مشروح في محلّه ، ولا شأن لنا به هنا.

وظنيّة الظاهر إنما هي عند وجود ما يدلّ على الاحتمال الآخر ، وإلا فحكمه حكم النصّ في القطع بالمراد منه ، بل عند تضافر الظواهر الظنية على معنى ، يحصل القطع بذلك المعنى ، كما هو الحال في خبر الآحاد المفيد للظن ؛ فإنّ الأخبار إذا تواردت على معنى حصل اليقين بذلك المعنى.

ثم الظاهر : إما ظاهر بالوضع ، وإما ظاهر بالدليل ، كما في «التمهيد» لأبي الخطّاب محفوظ بن أحمد الكلواذي ، فتبيّن أن الظاهر ليس بقطعيّ مطلقا ، ولا ظنيّ مطلقا ، وأنّ الظواهر في الرفع والنزول قطعيّة لتضافر الأدلة وعدم وجود ما يدلّ على الاحتمال الآخر.

وبعد هذا الاستطراد اليسير أعود فأقول : إنّ الأساتذة القائمين بالذب عن عقيدة الجماعة ، لم يدعوا قولا لقائل في تبيين وجوه دلالة كتاب الله على المسألة ، فجزاهم الله عن العلم خيرا ، لكنّ الشيخ لما رأى أنّ قلمه طوع بنانه لا يتمرّد عليه فيما يريد أن يودعه الطّروس ، ولسانه لا يعاكسه فيما يشاء أن يفوه به ، والجماعة أطوع له من ظلّه : أصرّ على مخالفة الأمّة ، فأخذ يسترسل ويكتب ويتكلّم بكل هاجسة في نفسه ، ظنا منه أنّ الأعزل من الحجّة يكسب في معمعة الحجاج شيئا غير الموت الأدبي ، وأنه يتمكن ـ ولو إلى حين ـ من تغطية الحق وترويج الباطل بين فئام عهد انخداعهم بشغبه ومغالطته.

لكن خاب حدسه ، وضاع نفسه وسعيه في إظهار عقيدة المسلمين المتوارثة ، بمظهر اعتقاد الجماهير الجهلة الطّغام ، وتصويره للذابّين عنها بصورة عبدة المادّة النّفعيّين المجارين لأهواء العامّة الجهلة ، مما يدلّ على أنه ممن يرون دينا للعامة ، ودينا للخاصة ، وأنه إنما يحكي للناس عما يرى في مرآة ينظر هو فيها ، ولسنا نعيش في غير هذه الكرة حتى تجهلنا الأمّة وتجهله.

يكون المناضل عن عقيدة الجماعة على ضلال!! والخارج عليها المنشقّ على هدى!! فسبحان الفتّاح العليم ، هكذا يكون المنصف صاحب الضمير الحي ، والمصلح الموجّه للنّشء!! ولسنا نطمع في سكوته عن الباطل. وإسكاته بيد الله القاهر ، وإنما نريد صون المجتمع من تشكيكاته ، وقد فعلنا بتوفيق الله سبحانه.

ولا نزال نمضي على مناصرة الحق بإذنه جلّ شأنه ، رغم كل صعوبة قائمة ، حتى ظهر للملإ أنه لو ابتغى نفقا في الأرض أو سلّما في السماء ، ليأتي برواية صحيحة ، عن أحد من علماء أهل الحق من صدر الإسلام إلى عهد متنبئ المغول ، ينفي ما ينفي كاتب المقال لما وجد إلى ذلك سبيلا ، ليقال : إنّ له زميلا في الشذوذ ، فضلا عن أن يتصوّر احتمال أن يكون الحقّ في جانبه ولو بمقدار نسبة

الواحد إلى الألف.

فيكفي في سقوط كلامه ظهور أنه قال ما لم يقله أحد من العالمين رحم الله الإمام زفر بن الهذيل حيث قال : «إني لا أناظر أحدا حتى يسكت ، بل أناظره حتى يجنّ ، قالوا : كيف ذلك؟ قال : يقول بما لم يقل به أحد» ، كما رواه الصّيمريّ وغيره عنه.

وأكتفي في الحديث عن الآيات التي نحن بصدد بيانها ، بلمحة يسيرة إليها هنا ، حيث أغنى عن التوسع فيها ما سبق توضيحه بقلم الأساتذة الرادّين على باطله ، فأقول : إنّ قوله تعالى : (... وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٧ ، ١٥٨] نصّ في الرفع الحسي ، لأن حقيقة الرفع هي النقل من السّفل إلى العلو ، كما يقول أبو حيان الأندلسي في «البحر المحيط» ، ولا صارف عن الحقيقة حتى يجوز حمل الرفع هنا على رفع المكانة مجازا ، فيكون احتمال المجاز احتمالا غير ناشئ من دليل ، فيكون (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] نصّا في الرفع الحسّي بل في الآية ما يردّ احتمال المجاز ردّا باتا من وجوه :

أمّا أولا فإنّ السياق في تقرير بطلان ما قاله اليهود من قتله ، ببيان أنهم إنما قتلوا الشّبه ، فبرفعه الحسيّ يكون إنقاذ شخصه منهم ، فينسجم بذلك ما قبل «بل» بما بعدها ، ورفع المكانة مما لا ينافي القتل ، وكم من نبيّ قتل وهو رفيع المكانة ، فلا يصحّ دخول «بل» بينهما ، لانتفاء التضادّ بينهما.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم في «تفسيره» بسند صحيح إلى ابن عباس ، أنّ عيسى رفع من روزنة في البيت ، وساق ابن كثير السند في «تفسيره» ١ : ٥٧٤ وهذا ليس مما يعلم بالرأي ، فيكون في حكم المرفوع عند جماعة أهل العلم.

وأمّا ثانيا فإنّ حمل الرفع هنا على رفع المكانة لا يظهر له وجه اختصاص بهذا الموقف ، لأنّ أولي العزم من الرّسل يكون كلّ واحد منهم رفيع المكانة دائما.

وأمّا ثالثا فإنّ ذكر منتهى لرفع شخص بوصل (رَفَعَهُ اللهُ) [النّساء : ١٥٨] بلفظ (إلى) ، يقضي على احتمال المجاز بحمله على رفع المكانة ، لأنّ رفع المكانة ينافيه ذكر منتهى له قطعا ، وإدخال (إلى) على ضمير المتكلم من قبيل الإضافة للتشريف ، والمعنى إلى سمائي ومنزل ملائكتي ، كما يقول أبو حيان وغيره.

وأما رابعا فإنّ رفع المكانة لا يخصّ عيسى حتى يمتنّ الله به هنا ، بل يعمّه وسائر الأنبياء والمرسلين ، بل وسائر الأبرار والأخيار.

وأما خامسا فإن حمل الرفع على رفع روحه ، بحذف المضاف ـ كما وقع في فتيا الشيخ ـ أمر لا يخصّ عيسى أيضا ، مع كون الحذف خلاف الأصيل ، فلذا يكون الرفع لشخصه ، فيشمل الرّوح والجسد معا ، وأنت لا تجد أحدا من المفسرين يحمل الرفع هنا على رفع المكانة ، أو رفع الرّوح فقط ، لظهور دلالته القطعية على الرفع الحسّيّ هنا.

وهذا كلّه مع قطع النظر عن تواتر الأخبار في الرفع والنزول ، وإلّا فمن استذكر تواتر الأخبار في ذلك ، لا يسعه أن يتشكّك لحظة في هذا الأمر ولو لم يستحضر وجوه دلالة الكتاب على الرفع والنزول ، فكيف والكتاب والسنة المتواترة والإجماع متواردة متضافرة على عقيدة الجماعة في ذلك.

وأما قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] فنصّ أيضا في الرفع الحسيّ حتما ، لأن (إِلَيَ) تمنع من احتمال المجاز بحمله على رفع المكانة كما سبق ، مثل منع (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] من أن يكون (يَطِيرُ) [الأنعام : ٣٨] مجازا على ما فصّل في موضعه.

وكلمة الفخر الرازي في بعض الوجوه عند تفسير قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] لا تكون إلا سبق قلم منه ، لظهور بطلان ذلك رواية ودراية ، بما فصّلناه آنفا. وكم له ولغيره من وجوه لا وجه لها في النقل ولا في الدراية ، على أنه يجزم مع باقي المفسّرين بالرفع والنزول عند تفسيره للآيات كلّها ، فما ذا عليه بعد هذا لو غلط في وجه؟ سبحان من لا يسهو ولا يغلط.

وأما (مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥] فمن التوفّي وهو القبض والأخذ في أصل اللغة ، ويستعمل مجازا في معنى الإماتة كما يظهر من «أساس البلاغة» للزمخشري ، فيكون معنى الآية : إني قابضك من الأرض ورافعك إلى سمائي. وقال ابن قتيبة : قابضك من الأرض من غير موت.

وهذا المعنى منسجم مع باقي الآيات والأخبار فيكون نصا أيضا في رفعه حيا ، لأن احتمال المجاز لم ينشأ من دليل ، فيبقى قطعيّ الدلالة على الوجه الذي شرحناه ، ولو فرضنا اشتراك التوفّي بين الأخذ والإماتة والإنامة لكان لحقه البيان بقاطع من الآيات الأخر ، فيكون قطعيّ الدلالة على الرفع الحسيّ والأخذ من غير موت.

ولو فرضنا عدم لحوق بيان لا يتأتى حمله على الموت هنا ، لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال ، ومجاز في الاستقبال عندهم ، فلو حملناه على الحقيقة يكون المعنى : إني مميتك الآن. فيكون قصد اليهود حاصلا ، وقد نصّ القرآن الكريم على أنّ قصدهم لم يحصل. ولو حملناه على الاستقبال مجازا لا يكون مستقبل أولى من مستقبل إلا بدليل ، فيتعيّن المستقبل الذي حدّده باقي الأدلة ، وهو ما بعد نزوله إلى الأرض.

«والواو» لا تفيد الترتيب ، فيكون هذا من باب تقديم ما هو مؤخّر في الوقوع ، لأجل التقريع على مدّعي ألوهيته ، ببيان أنه سيموت ، وإليه ذهب قتادة والفراء وعليه يحمل ما رواه عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، جمعا بين الأدلة.

على أنّ ابن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس اتفاقا ، وقد قال فيه يعقوب بن سفيان : ضعيف الحديث منكره ، ليس محمود المذهب ، لا هو متروك ، ولا حجّة. فيكون مختلفا فيه ، وإن انتقى مسلم بعض حديثه.

ومعاوية بن صالح الحضرميّ الراوي عنه ، لم يكن يحيى بن سعيد القطان يرضاه ، وقد قال أبو حاتم : لا يحتجّ به ، وإن انتقى مسلم بعض حديثه.

وعبد الله بن صالح كاتب الليث الراوي عن الحضرمي ، كثير الغلط ، فلا يثبت بمثل هذا السّند هذا التفسير عن ابن عباس.

ووهب بن منبّه هو الذي يقول بموته ، ثم رفعه ، ثم إحيائه في السماء ، لكنه كثير الرواية عن كتب أهل الكتاب ، فلا يعوّل على ما لا يرويه عن المعصوم عند أهل العلم.

وقد صرّح محمد بن إسحاق بأنّ القول بموته قول النصارى ، وليس بين قول من قال : أنامه ثم رفعه ، وقول من قال : قبضه من الأرض ورفعه حيّا إلى السماء ، كبير فرق ، فيكون قول ابن حزم في «المحلّى» بموته ، ثم رفعه ، ثم إحيائه ونزوله ، مما لا تعضده رواية ولا دراية بل تكرير إيقاع الموت عليه مما ينافيه النصّ.

وفي «العتبيّة» عزو وفاته ثم نزوله إلى مالك ، ولعلّ ابن حزم انخدع بذلك. وقد سبق أن شرحنا حال «العتبيّة» في العدد (٣٤) ١٣٦١ ه‍ ، وليس في ذلك القول كبير خطورة غير ضعف مدرك الوفاة ، حيث كان مع الجماعة في الإيمان بالنزول ، كما صرّح بذلك في «الفصل» و «المحلّى».

وقال الآلوسيّ : والصحيح كما قال القرطبي : أنّ الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم ، وهو اختيار الطبري ، والرواية الصحيحة عن ابن عباس اه.

وقال ابن جرير بعد نقله روايات تفسير التوفّي بالنوم أو القبض أو الموت : «وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال معنى ذلك : أني قابضك من الأرض ، ورافعك إليّ ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ينزل عيسى ابن مريم» ، ثم ساق أحاديث في النزول ، ثم ردّ ردا مشبعا على من زعم تكرّر الإحياء والإماتة بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام.

وليس في قوله «وأولى الأقوال بالصحة» ما يحتجّ به على أن تلك الأقوال مشتركة في أصل الصحة ، كيف وقد ذكر بينها ما هو معزوّ إلى النصارى ، ولا يتصوّر أن يصحّ ذلك في نظره ، بل كلامه هذا من قبيل ما يقال : «فلان أذكى من حمار ، وأفقه من جدار» ، كما يظهر من عادة ابن جرير في تفسيره عند نقله لروايات مختلفة ، كائنة ما كانت قيمتها العلمية ، وقد يكون بينها ما هو باطل حتما ، فلا يكون لصاحب المقال إمكان التمسك بمثل تلك العبارة في تقوية الروايات المردودة.

وأما قوله تعالى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) [المائدة : ١١٧] فبمعنى قبضتني بالرفع إلى السماء ، كما يقال : توفّيت المال إذا قبضته ، وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور ، وروي عن أبي عليّ الجبّائيّ المعتزليّ ـ وهو من أجرأهم في الشذوذ ـ أنّ المعنى (أمتّني) ، وادّعى أنّ رفعه عليه‌السلام إلى السماء كان بعد موته ، وإليه ذهب النصارى كما قال الآلوسيّ ، وقال القرطبي : «قيل : هذا يدل على أنّ الله عزوجل توفّاه قبل أن يرفعه ، وليس بشيء ، لأنّ الأخبار تظاهرت برفعه ، وأنه في السماء حيّ» اه.

وقد سبق بيان حقيقة التوفّي بحيث لا يدع أدنى ريبة. وما يقال من أنّ المتبادر من التوفّي هو الموت ، فيمكن أن يسلّم ذلك بالنظر إلى اليوم ، لكن تطوّر اللغة في زمن متأخّر إلى معنى ، لا يستلزم أن يكون هذا المعنى مفهوما من اللفظ في تخاطب الصحابة رضي الله عنهم وقت نزول القرآن الحكيم ، ولو كان هذا المعنى مفهوما من لفظ التوفّي إذ ذاك ، لكان (حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢] لغوا في قوله تعالى : (اللهُ)

(يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢] ، وجلّ كلام الله من أن يقع فيه لغو. ولا تعويل في تفسير كتاب الله على تخاطب اليوم بل على التخاطب في عهد التنزيل كما لا يخفى.

والرسالة مثلا تستعمل بمعنى الواجب اليوم ، استعمالا شائعا منذ زمن غير بعيد ، فحاشا أن نفهم من الرسالة الواردة في نصوص الكتاب والسنة هذا المعنى بتلك المناسبة ، فنلغي معنى الوحي والرسالة من الله سبحانه ، لأنّ مسايرة التطوّر في اللغة في تطوير معاني الكتاب الحكيم ، تكون تحريفا للكلم عن مواضعه حتما.

وأما قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥٩] ، فالضميران في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) يعودان على عيسى ، لأنه المتحدّث عنه في السّياق ، ولأنّ عود أحدهما على غير ما يعود عليه الآخر فيه تشتيت للضمائر ، وهذا مما ينزه عنه الكتاب الكريم ، ولذا قال أبو حيان ـ وأنت تعرف منزلته في العربية ـ «والظاهر أنّ الضميرين في به ، وموته عائدان على عيسى ، وهو سياق الكلام ، والمعنيّ : من أهل الكتاب : الذين يكونون في زمان نزوله» ا ه ولا صارف عن الظاهر.

وقال ابن كثير : «وهذا القول هو الحقّ كما سنبينه بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى ، لأنه المراد من سياق الآي في بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلّم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبّه لهم ، فقتلوا الشّبه وهم لا يتبيّنون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه وأنه باق حيّ ، وأنّه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلّت عليه الأحاديث المتواترة» اه. ثم ساق أحاديث كثيرة في النزول ، في (١ ـ ٥٧٨) كما فعل مثل ذلك في باب الملاحم والفتن في أواخر «تاريخه» في القسم غير المطبوع منه (١).

وكلام ابن جرير واضح جدا في تعيين إرجاع الضميرين إلى عيسى رواية ودراية ، وكذا ما ذكرناه في العدد (٣٤ ـ ١٣٦١ ه‍) في هذا الصدد.

وقد صحّ عن أبي هريرة في «الصحيحين» إرجاعهما إليه ، كما صحّ عن ابن عباس في رواية محمد بن بشار ، عن ابن مهدي ، عن الثوري ، عن أبي حصين ، عن ابن جبير ، عنه عند ابن جرير وابن كثير ، وهذا سند كالجبل في الصحة ، بل الرواية مستفيضة عنه بطرق أخرى.

__________________

(١) ثم طبع هذا القسم من تاريخ ابن كثير باسم «النهاية» لابن كثير.

وأين هذا من سند فيه عتّاب بن بشير ، وخصيف ، أو سند فيه أبو هارون الغنوي إبراهيم بن العلاء وعكرمة ، أو جويبر والضحاك ، أو محمد بن حميد وأبو تميلة يحيى بن واضح وحسين بن واقد وعكرمة ، أو أبو حذيفة موسى بن مسعود وشبل وعبد الله بن أبي نجيح؟

ولا يلتفت في باب الرواية إلى غير الصحيح عند وجود الصحيح ، كما لا يلتفت إلى ما يوجب ترك موجب السياق أو إخراج اللفظ عن مدلوله الظاهر حيث لا صارف ، فعلم أن الاحتمال هنا لم ينشأ من دليل ، فلا يخلّ بكون الآية نصّا في النزول.

وميل الزمخشري إلى عود ضمير (مَوْتِهِ) [سبإ : ١٤] ، على الكتابي ، إنما نشأ من رواية شهر بن حوشب عنده ظنا منه أنها صحيحة ، لأنه لا تعويل على الرأي والدراية عند ثبوت الرواية عن المعصوم ، أو عمن تلقى من المعصوم ، لأنه «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» عند أهل الدين. ولو علم أنّ رواية محمد بن السائب الكلبي عن شهر مردودة عند أهل النقد لما عرّج عليها.

ثم قول النووي تعويلا على قراءة أبيّ بن كعب ، مخالف لمذهبه في القراءات الشاذة. وقراءة أبيّ هذه في سندها عتّاب بن بشير وخصيف ، وكلاهما ضعيف ، والقراءة الشاذة ما لم يصحّ سندها لا يحتجّ بها في باب التفسير عند أهل العلم.

ثم ترجيح إرجاع الضمير إلى الكتابيّ في (مَوْتِهِ) [سبإ : ١٤] لما في ذلك من المحافظة على عموم الإيمان لكل كتابي ، ففيه هدم مصر ، لبناء قصر! لأنّ فيه إخراج كلمة (قَبْلَ) من معناها ، بحمل الإيمان هنا على الإيمان أثناء الموت لا قبله ، وحمل الإيمان على خلاف المعنى المتبادر منه وهو الإيمان النافع ، على أنّ ما لا ينفع لا يسمّى إيمانا في الشرع ، وإلغاء ما أقسم الله عليه بقوله : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) [النّساء : ١٥٩].

وأما ترك العامّ على عمومه هنا ، فمن عدم التدبّر في الملابسات ، لأنّ لام جواب القسم ونون التأكيد مما يمحّض الفعل للاستقبال ، فيكون (لَيُؤْمِنَنَ) [النّساء :

١٥٩] بمعنى : أنه يؤمن كلّ كتابيّ موجود في زمن خاصّ من أزمنة المستقبل ، يعينه تقييده بلفظ (قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥٩] ، فيكون الكلام مصروفا إلى ما بعد نزول عيسى ، كقوله عليه‌السلام : «ينزل فيكم عيسى ابن مريم» ، فإنه بمعنى : أنه ينزل في الأمّة الموجودين بعد النزول ، لا الموجودين في زمنه عليه‌السلام.

والتخصيص بالقرائن والملابسات في الكتاب والسنة في غاية الكثرة ، فعلم أن الرواية والدراية تطابقتا على إرجاع الضميرين إلى عيسى عليه‌السلام.

وأما قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] فقد اعترف بطل الخروج على المتوارث بعود الضمير فيه على عيسى ، وعدم احتمال عوده على غيره ، لكن ظنّ أنه يجد في السّياق ما يمكّنه من صرفه عن وجهته ، ولم يعلم أن كون الخطاب للمشركين وأهل الجاهلية يضرّه ولا ينفعه ، لأنهم لا يقرّون بحدوث عيسى بدون أب ، ولا بإبرائه الأكمه والأبرص ، وإحيائه الموتى بإذن الله. وإنما هذا وذاك مما نصّ عليه القرآن الكريم وهم لا يؤمنون به ، فكيف يتصور إقامة الحجة عليهم بما لا يقرّون به؟

فتعيّن أنّ عود الضمير إلى عيسى ، باعتبار أنّ نزوله من أشراط الساعة ، فأصبح نصا في النزول لا يعدل عنه.

وقراءة «لعلم للسّاعة» بفتحتين قراءة عدة من الصحابة والتابعين كما في «البحر» وغيره ، لكن تغاضى عنها الشيخ مع صحة سندها ، حيث لم تكن هذه القراءة على هواه ، لأنها تعيّن عود الضمير إلى عيسى باعتبار أنّ نزوله من أشراط الساعة ، مع أنه كان شديد التمسك بالقراءة المنسوبة إلى أبيّ بن كعب ، مع الضعف في سندها كما سبق ، لأنه كان يعدّها من صالحه ، وهكذا يكون الهوى!

وقد جاء في صحيح ابن حبّان بسند صحيح بطريق مصدع ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] قال : نزول عيسى ابن مريم من قبل يوم القيامة.

فهل يمكن لمن يخضع لمعايير العلم أن يتعنّت بعد هذا كلّه في ردّ ما عليه الجماعة؟ وقد فهم أهل التفسير أمثال الزمخشري من إشارات آيات سوى ما تقدّم رفع عيسى ونزوله ، فهما يدلّ على يقظة بالغة. وفي إيضاح مداركهم طول نستغني عن الخوض فيها بصرائح الآيات المتقدمة.

فظهر مما سبق كلّ الظهور بطلان قول الشيخ : «ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة الظن بنزول عيسى أو رفعه ، فضلا عما يفيد القطع الذي يكوّن عقيدة ويكفّر منكره كما يزعمون».

واتضح أيضا أنّ نصوص القرآن الحكيم وحدها تحتّم عليه القول برفع عيسى حيّا ، ونزوله في آخر الزمان ، حيث لا اعتداد باحتمالات خيالية لم تنشأ من دليل ، كيف والأحاديث قد تواترت في ذلك ، واستمرّت الأمّة خلفا عن سلف على الأخذ بها ، وتدوين موجبها في كتب الاعتقاد من أقدم العصور إلى اليوم ، فما ذا بعد الحق إلا الضلال.

السنّة وثبوت العقيدة

وفي العدد (٥١٨) مقال بهذا العنوان يقول كاتبه في مفتتحه : إنه بيّن فيما سبق أنه «ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة الظنّ برفع عيسى ونزوله ، فضلا عما يفيد اليقين».

وقد علم القارئ الكريم بما قرّرناه في الفصل السابق بطلان هذا الزّعم من كل ناحية ، وأثبتنا أنّ في القرآن الحكيم نصوصا قاطعة تدل على الرفع والنزول ، وعلى هذا الفهم درج أئمة الأمّة وعلماؤها ولا سيما المفسّرين على تعاقب الدهور ، وإنما روي موته ثم رفعه عن وهب بن منبّه ومحمد بن إسحاق ، وهما إنما حكيا ذلك عن أهل الكتاب ، وذلك من ضرورة قولهم بقتله وصلبه.

وقد كذّب القرآن ذلك ، فلم يبق إلا قول أهل الحق : إنه رفع حيّا ، وسينزل قبل يوم القيامة ، ومن حمل التوفّي على الموت ، مثل قتادة والفرّاء جعل قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] من باب تقديم ما هو مؤخّر في الوقوع ، لنكتة ، كقوله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) [آل عمران : ٤٣].

وأما ابن حزم فقد قال بموته ، ثم رفعه ، ثم نزوله اغترارا منه بما في «العتبيّة» المشروح حالها في العدد (٣٤ ـ ١٣٦١ ه‍) من مجلة الإسلام ، وما فيها من عزو موته إلى مالك رواية ساقطة عند أهل النقد ، وحمل التوفّي على الموت إخراج للكلمة عن وضعها ، كما يعلم من كلام ابن قتيبة وابن جرير والزمخشري وغيرهم.

وبعد هذا الحمل لا بدّ من الحمل على التقديم والتأخير كما فعل قتادة والفرّاء ، جمعا بين الأدلة ، لأن الواو لا تفيد الترتيب ، ونسبة إنكار رفعه حيّا إلى المعتزلة مطلقا تساهل ، وإنما هو قول الجبّائي ، وهو كثير الشذوذ ، ومن جملة شذوذه أنه يرى عدم جواز الأخذ بخبر الآحاد عقلا ، فإذا أخذ كاتب المقال برأيه هذا يخلص من أخبار الآحاد بمرّة واحدة.

وما لفرد لا يصحّ أن ينسب إلى جماعته ، وها هو خطيب المعتزلة ولسانهم الناطق تراه في «الكشاف» يقرّ بالرفع والنزول على طول الخطّ ، وكذا الإماميّة عند دفاعهم عن خروج المهديّ ، فلا يكون منكر الرفع والنزول إلّا مفارقا للجماعة ، جاريا مع الهوى ، منابذا للكتاب والسنة ، ونبذ ما عليه الجماعة ، المستمدّ من الكتاب والسنة ، والميل إلى رأي مستمدّ من أهل الكتاب : إبعاد في الشذوذ ، وقد قال ابن أبي عبلة : الرأي الشاذّ إنما يحمله الرجل الشاذّ.

ثم ذكر الكاتب الفرق بين خبر الآحاد والخبر المتواتر ، بإطالة مستغنى عنها ، ونقل كلمات بعض أهل العلم في ذلك ببتر وتزيّد ، على أمل أن يجد فيها ما يغطّي على شذوذه ، والواقع أن من قال : إنّ خبر الآحاد يفيد العمل فقط ، يريد بالعمل ما يشمل عمل الجوارح وعمل القلب ـ وهو الاعتقاد ـ كما نصّ على ذلك البزدوي نفسه ، حيث قال في آخر مبحث خبر الآحاد :

فأمّا الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور ، ومن ذلك ما هو دونه ، لكنه يوجب ضربا من العلم ، على ما قلنا ، وفيه ضرب من العمل أيضا ، وهو عقد القلب عليه ، إذ العقد فضّل على العلم والمعرفة ، وليس من ضروراته ، قال الله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النّمل : ١٤] ، وقال تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] ، فصحّ الابتلاء بالعقد ، كما صحّ الابتلاء بالعمل بالبدن».

وبذلك يعلم وجه تدوين أخبار الآحاد في كتب الحديث في المغيّبات وأمور الآخرة ، كما يعلم أنه لا يوجد تلازم كلّيّ بين العلم والاعتقاد على ما سبق تفصيله ، فالآن قد ظهر من يفهم معنى «العقيدة» ومن لا يفهمه حقا. ومن تزبّب قبل أن يتحصرم ، يلقى ما يلقاه من تزعّم قبل أن يتعلّم.

ثمّ من قال : إنّ خبر الآحاد لا يفيد العلم ، يريد خبر الآحاد من حيث هو بالنظر إلى رأي جماعة ، وإلا فخبر الآحاد الذي تلقّته الأمّة بالقبول يقطع بصدقه ، كما نصّ على ذلك أبو المظفّر السّمعانيّ في «القواطع».

وقد حكى السّخاويّ في «فتح المغيث» عن جماعة من المحقّقين : إفادة خبر الآحاد العلم عند احتفافه بالقرائن ، بل قال جماعة : إنّ ما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم يفيد في غير مواضع النقد منه العلم ، لاحتفافه بالقرائن ، ومنهم الغزالي.

ثم العمل بخبر الآحاد ثابت بالدليل القطعيّ المفيد للعلم ، كما نصّ على ذلك أبو الحسن الكرخي ، والسمعانيّ في «القواطع» ، والغزاليّ في «المستصفى» ، وعبد العزيز البخاريّ في «شرح أصول فخر الإسلام».

والاعتقاد عمل قلبي يؤخذ من خبر الآحاد ، كما سبق من فخر الإسلام ، فيكون إنكار أخذ الاعتقاد من خبر الآحاد إنكارا للدليل القطعيّ المفيد للعلم الموجب للعمل بخبر الآحاد ، أعمّ من أن يكون عمل الجوارح ، وعمل القلب ـ وهو الاعتقاد ـ ما ذا يكون موقف الكاتب إزاء هذا؟ حتى على فرض أنّ خبر النزول خبر آحاد؟

فيعلم أن حفّاظ الأمة ما كانوا عابثين في تدوينهم لأخبار الآخرة والأمور الغيبية في كتبهم ، ولا كان الأئمة لاعبين في تدوينهم السمعيات في كتب العقائد ، رغم خيال هذا الكاتب.

ثم تأويل الغزاليّ لقول بعض المحدّثين : «إنّ خبر الآحاد يفيد العلم» بالعلم بوجوب العمل به ، لا يمكن تأويل كلام ابن حزم به ، لأنه ينافي صريح كلامه في «الإحكام» ١ : ١٢٤ ، حيث قال بعد سرد مقدّمات : «وإذا صحّ هذا فقد ثبت يقينا أنّ خبر الواحد العدل عن مثله مبلّغا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ مقطوع به ، موجب للعلم والعمل معا». ومعه في هذا الرأي أناس ذكرهم هناك ، والعالم البعيد عن الهوى لا يقتصر في النقل على ما يحسبه نافعا له بدون تمحيص ، بل يرى الحقّ هو النافع حيثما كان.

وحديث نزول عيسى على فرض أنه خبر آحاد ، مما اتّفق البخاريّ ومسلم عليه بدون نكير من أحد من حيث الصناعة الحديثية ، وتلقّاه الأمة بالقبول خلفا عن سلف ، واستمرّ علماء الأمة على اعتقاد مدلوله على توالي القرون ، فيتحتم الأخذ به.

هذا إذا فرض أنه خبر آحاد ، فكيف وهو متواتر قطعا ، على ما ذكرنا من نصوص أهل الشأن في ذلك ، فيكون إنكار ذلك بعد الإلمام بأطراف الحديث بالغ الخطورة ، نسأل الله السلامة.

والمتحقّق في مسألة الرفع والنزول هو الخبر المتواتر. وقد نصّ البزدويّ في آخر بحث المتواتر ، على أنّ منكر المتواتر ومخالفه يصير كافرا ، وذكر في صدد التمثيل للمتواتر «وذلك مثل القرآن ، والصلوات الخمس ، وأعداد الركعات ، ومقادير الزكوات ، وما أشبه ذلك». ونزول عيسى ليس بأقلّ ذكرا في كتب الحديث من مقادير الزكوات.

ثم قال البزدوي : «ومن الناس من أنكر العلم بطريق الخبر أصلا ، وهذا رجل سفيه لم يعرف نفسه ، ولا دينه ، ولا دنياه ، ولا أمّه ، ولا أباه». فيعلم من ذلك مبلغ إبعاد الكاتب في النّجعة حيث يقول : «وهكذا تجد نصوص العلماء من متكلّمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين ، فلا تثبت به العقيدة» ، ونجد المحقّقين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروريّ ، لا يصحّ أن ينازع أحد في شيء منه ، ويحملون قول من قال (كابن حزم في حسبان الكاتب) : «إنّ خبر الواحد يفيد العلم» على أن مراده العلم بمعنى الظن ، كما ورد ، أو العلم بوجوب العمل».

وأين اجتماع نصوص العلماء مع قول أمثال أبي حامد الأسفراييني ، وأبي إسحاق الأسفراييني ، والقاضي أبي الطيّب ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وشمس الأئمة السّرخسي ، والقاضي عبد الوهاب ، ورواية ابن خويزمنداد عن مالك ، وقول أبي يعلى ، وأبي الخطّاب ، وابن الزاغوني ، وابن فورك ، وغيرهم فيما اتّفق عليه البخاريّ ومسلم ، وفي الخبر المحتفّ بالقرائن ، أو خبر الآحاد مطلقا كما سبق.

والواقع أنّ فريقا قال : إنّ خبر الآحاد إنما يفيد العمل. وهو مذهب الجمهور ، لكن من جملة العمل اعتقاد القلب ، وفريقا قال : إنه يفيد العلم والعمل من غير شرط ، كابن حزم ، وفريقا قال : إنه يفيدهما جميعا عند احتفافه بالقرائن ، وليس قول فريق منهم في صالح كاتب المقال لو تدبّر ، لأنهم متفقون على أنه يفيد العمل القلبيّ ـ وهو الاعتقاد ـ وإفادته العمل مقطوع بها ، والكاتب ينكر هذه الإفادة القطعية.

ثم إنّ المكلّف إذا جزم بخبر آحاد يسمعه في أمر اعتقادي ، فقد تمّ إيمانه المنجي في الآخرة ، لأن المطلوب منه هو الاعتقاد الجازم كائنا ما كان طريق حصول ذلك له ، ولا يستوجب ذلك أن لا يكون في ذلك الأمر أدلّة سواه ، ولا هو بملزم أن يكون هو القائم بالحجّة في عصره ، وإن كان لكلّ مسألة اعتقادية حجج قطعية ، وقد قال عبد العزيز البخاري في «شرح أصول البزدوي» : ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحّتها توجب علم اليقين ، بطريق الضرورة ، وهو مذهب أحمد بن حنبل» ا ه.

وقول الإمام الشافعي رضي الله عنه : «أتراني خرجت من الكنيسة أو ترى عليّ زنّارا؟!!» لمن سأله أتأخذ بهذا الحديث؟ ـ في حديث من أخبار الآحاد ـ يدلّ على مبلغ تشدّده فيمن يعرض عن الحديث ، كما صحّ ذلك عنه بأسانيد في كثير من الكتب.

وأما تأويل الغزالي لقول من قال من بعض المشارقة : «إنّ خبر الواحد يفيد العلم» ، فلا يمشي في توجيه كلام ابن حزم ، لأنه مخالف لصريح قوله كما سبق ، وهذا كلّه على تقدير أنّ حديث نزول عيسى خبر آحاد كما يزعم الكاتب ، وإلا فتواتر هذا الحديث أمر مفروغ منه ، بنصوص أهل الشأن ، والمحتفّ بالقرائن قسيم لخبر الواحد عند الغزالي.

وأدهى من ذلك كلّه قول الشيخ المتهجم : «ومن هنا يتبيّن أن ما قلناه في الفتوى من (أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات) قول مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء.

هكذا سلب العقل عن جماعة علماء الأمّة الذين ليس بينهم من يرى رأيه ، وقوله هذا في فتياه بالطل بشقّيه ، كما أنّ تعليقه عليه هنا باطل بطلانا (مركّزا) ، لأنّ خبر الآحاد يفيد عقيدة اتفاقا ، كما ذكرنا نصوص أهل العلم في ذلك آنفا ـ وهم عقلاء ومن يرميهم بفقد العقل أيكون هو العاقل؟ ـ ولا ينافي ذلك ثبوتها بأدلة سواه.

ولو لا الاعتماد والاستناد على أخبار الآحاد في باب المغيّبات لكان حفّاظ الأمّة لاعبين في تدوين ما يتعلق بها في كتبهم ، ولكان علماء التوحيد هازلين حينما يقولون في كتبهم في الأمور الغيبية : صحّ الحديث في ذلك عن المعصوم ، ولا استحالة في حمله على ظاهره.

لأنه من المقرّر عند أهل الحق أنّ النصوص تحمل على ظواهرها ، ما لم يمتنع حملها على ظواهرها ، فإذا امتنع ظاهر النص أوّل إذ ذاك فقط ، فيذكرون الأخذ بالاظهر ما لم يمتنع الأخذ به امتناعا عقليا أو شرعيا.

ثم الغريب كل الغرابة أن يدّعي عن ذلك الحكم الباطل بشقّيه «أنه مجمع عليه» ، مع كونه لا يعير سمعا إلى حجّيّة الإجماع ، كما يعلم من كلامه في العدد (٥١٩) في الرسالة. وهذا مما تضحك منه الثّكلى لظهور بطلان الأصل بشقّيه ، فضلا عن ثبوت الإجماع عليه ، بل لا يصح نقل أحد الشقين عن أحد يعي ما يقوله ، بل القول «بأنّ ذلك ثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء» لا يصدر ممن يزن كلامه.

ثم الغريب ممن لا يرى الحجة في أحاديث الصحيحين والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات ، كيف يحتجّ بأقوال أناس من المتأخرين وبينهم من لم ينشف حبر ما كتبه بعد؟!! فابن الصلاح إن كان حجة عنده فيما يقوله في المتواتر ، يكون حجّة أيضا فيما يقوله في الصحيحين ، وهو يقول في مقدمته بالقطع بصحة أحاديثهما ، وحديث نزول عيسى مما اتّفقا على روايته ، فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون.

والواقع أنّ قول ابن الصلاح إنما هو في الواتر اللفظي ، فلا يمسّ كلامه كلامنا من قرب ولا بعد ، ثم ظنّه ندرة التواتر اللفظي خلاف الواقع كما توسّع في بيان ذلك الحفّاظ بعده أمثال الزين العراقي وابن حجر والسخاوي والسيوطي وغيرهم ، فأبانوا الدليل وأوضحوا السبيل ، ونقل نصوصهم هنا يخرجنا إلى التوسع فيما يعلمه صغار طلبة العلم.

ولا يستطيع أحد أن ينكر كثرة التواتر المعنوي باشتراك الأحاديث في معنى خاص ، والتواتر في حديث نزول عيسى عليه‌السلام ، تواتر معنوي حيث تشاركت أحاديث كثيرة جدا ، بينها الصّحاح والحسان بكثرة في التصريح بنزول عيسى ، مع اشتمال كل حديث منها على معاني أخرى ، وهذا ما لا يستطيع إنكاره أحد ممن شمّ رائحة علم الحديث.

وليس الاختلاف في شروط التواتر أو الإجماع مما يوهن أمر أحدهما لأن الاختلاف في شيء لا يوجب عدم الجزم بشيء فيه ، والاختلاف بعقل وبدون عقل شأن البشر ، وقد اختلف الناس في الله وفي رسوله وفي كل شيء ، ولم يمنع ذلك من الجزم بالحقائق بعد تمحيص الأقوال.

فالاستناد في توهين أمر الإجماع أو التواتر ، على الاختلاف في شرط قبول كلّ منهما ، لا يكون إلا من ضيق العطن وجمود القرحية ، وقد استقرّ عند أهل العلم بأدلة ناهضة ملموسة ، أنّ التواتر ليس في حاجة إلى عدد خاص من خمسة فما فوقها ، بل إلى مجرّد ورود الخبر عن أناس تحيل العادة تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات ، وهذا النوع من الخبر في غاية الكثرة لكثرة طرقه في دواوين الحديث.

وما نصّ أهل الشأن على تواتره يكون كثير الطرق في كتب الصحاح والسنن والجوامع والمسانيد والمصنفات والأجزاء والتواريخ ، ويكون كيان أسانيده من صحاح وحسان وضعاف من جهة قلة الضبط منجبر ضعفها بأدلة تدلّ على ضبط من رمي بقلة الضبط ، بموافقة الثقات الأثبات له في الرواية ، فتكون الضّعاف مغمورة بين تلك

الأخبار الكثيرة التي معظمها صحاح وحسان ، وأما كثرة الطّرق من أسانيد تالفة فقط ، فلا تفيد الحسن ولا الصحة فضلا عن التواتر.

وأمّا ما نصّوا على أنه متواتر ، فيبدأ تخريجه من الصحيحين وباقي السنن إلى سائر الصحاح والمسانيد والمصنفات ، فمن لا يطمئنّ قلبه إلى مثله في الدين ، لا يطمئنّ إلى شيء ولو تليت عليه الكتب المنزلة كلّها.

وليست كثرة وجود المتواتر تواترا معنويا موضع نزاع القوم ، ولا هذا مقابل قول ابن الصلاح ، بل مجرّد وجود الحديث في الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا ، بطرق كثيرة تحيل العادة تواطؤ رجالها على الكذب : يؤذن بتواتر الخبر قطعا عند كل حاظ بعقله ، تواترا لفظيا إذا اتّفقت ألفاظهم ، وتواترا معنويا إذا اختلفت ألفاظهم ، مع اتفاقها في معنى يكون قدرا مشتركا بين الجميع.

وهذا القسم هو الكثير جدّ الكثرة كما يظهر من كتب أهل الشأن ، ومعنى اجتماع تلك الكتب على تخرجي الحديث ـ في لفظ بعضهم ـ اجتماع عدد منها يحتوي تلك الطرق الكثيرة ، التي هي مدار الحكم بالتواتر ، لظهور بطلان حمل الكلام على الاستغراق الحقيقي ، لأنّ جمع كتب الحديث كلّها غير ميسور لأحد في دور من الأدوار ، فكفى جمع عدد من الكتب المشهورة المتداولة ، يحتوي تلك الطرق ، لظهور أنّ التعليق بالمحال ليس من عادة العلماء.

وكم من حديث لا يوجد في الموطأ أو المنتقى لابن الجارود مثلا ، ويكون موجودا في باقي الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع ، بسبب أنّ الموطأ والمنتقى يقتصران على أحاديث الأحكام ، مع كون باقي الكتب أشمل في الرواية ، والحديث المذكور لا يكون من باب الأحكام مثلا.

وتخطئة ابن الصلاح في دعوى ندرة التواتر مشروحة في «النّكت» و «شرح الألفية» للعراقي و «التدريب» للسيوطي وغيرها من الكتب المعروفة ، بحجج ملموسة. وعدّ الكاتب هذا القول أوسع المذاهب في المتواتر غلط بل هو الذي حقّقته الدلائل الناهضة ، ومذهب لا يشترط في عدد الرواة أكثر من خمسة يكون هو أوسع المذاهب في التواتر.

والظاهر أنه غاب عن كاتب المقال اختلاف الأقوال في الأعداد التي يجب تحقّقها في التواتر ، فيكون ما عليه الجماعة هو أعدل الأقوال ، فلا تقوم حجّة لسواه ،

فمحاولة الكاتب التمسّك باجتماع الكتب على تخريج الحديث ، وعدّه لذلك أوسع المذاهب للتخلّص من التواتر : مما يذهب هكذا أدراج الرياح عند من تدبّر ما ذكرناه.

ثم دعواه الإسراف في الحكم بالتواتر قديما وحديثا ، إبعاد في النّجعة ، وليس مثل هذه الدعوى المجردة مما يسمع من مثله ، بعد أن ساق أهل الشأن الطرق التي بها يحكمون على الحديث بالتواتر من كتب الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات وغيرها.

والمزاعم المجرّدة عن الدليل لا يهزم بها حق ، ولا ينصر بها باطل ، بل ترتدّ إلى زاعمها هزيما كما صدر ، ويقال لقائلها : «ما هكذا تورد الإبل يا بطل!».

وإن دلّت هذه الظاهرة منه على شيء ، إنما دلّت على أنه يريد التشكيك في السنة ودلالتها ، كما فعل مثل ذلك في دلالة الكتاب الكريم ، فنوصيه أن يقلع عن هذا ، ويحذر من المخاطرة بنفسه فيما لا قبل له به ، لأن الحقّ ظاهر لا يستره التمويه عن الأبصار ، والباطل مفضوح كائنا من كان ناصره ، وأوّل فخر لمن يقوم بالتدليل على تواتر خبر أن يسرد أسماء الصحابة الذين قاموا بروايته ، ثم التابعين ، ثم وثم طبقة فطبقة ، والاستياء من مثل هذا الجيش العرمرم ، شأن من يكون في صفّ الباطل وانهزم.

ولا أدري ما هو الداعي له إلى ذكر التعصّب المذهبي في خلع لقب التواتر على خبر الآحاد في نظره ، ونزول عيسى ليس اعتقاد أهل مذهب فقط ، بل المسألة إجماعية لا يوجد مذهب ينفيها ، فدونك «الفقه الأكبر» رواية حماد ، و «الفقه الأبسط» رواية أبي مطيع ، و «الوصية» رواية أبي يوسف ، و «عقيدة الطحاوي» ، يظهر منها أنّ اعتقاد نزول عيسى مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأتباعهم ، وهم شطر الأمة المحمدية.

وكذا مالك وأصحابه وأتباعه ، والشافعيّ وأصحابه وأتباعه ، وليس أحد منهم ينكر نزول عيسى ، ولأحمد بن حنبل كتابات بعث بها إلى أصحابه في بيان معتقد أهل السنة ، وفي جميعها هذه المسألة ، وتلك الرسائل مروية بأسانيدها عند أهل العلم ، مدوّنة في «مناقب أحمد» لابن الجوزي ، وفي «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى وغيرهما ، وكذا الظاهرية.

وتصريح ابن حزم بنزوله عليه‌السلام موجود في ٣ : ٢٤٩ من «الفصل» ، وفي ١ : ٩ وفي ٧ : ٣٩١ من «المحلى» ، بل المعتزلة كذلك كما يظهر من كلام الزمخشري ،

وكذلك الإماميّة كما يظهر من كلامهم في الدفاع عن خروج المنتظر ، فأين يكون التعصّب المذهبي في مثل هذه المسألة ، المخرج دليلها في الصحاح كلّها والسّنن كلّها والمسانيد كلّها ، ودان بها جميع الفرق؟

نعم هنا قوّة تمسك للأمّة بحكم قطعيّ ، لا يبغون عنه حولا إلى شبه اليهود والنصارى في المسألة. ولا حجّة في كلام بعض العصريين الذين تعوّدوا التساهل في كل شيء ، لأنهم صحفيّون قبل كل شيء ، لا خبر عندهم بأدلة المسألة ، ولا ورع يحجزهم عن الإفتاء فيما غاب عنهم دليله.

أفدني بربك ما هو الداعي هنا إلى ذكر الوضّاعين ، أو الأخبار الجارية على الألسن؟ وقد ألفت في القبيلين كتب خالدة ، يستفيد منها كلّ من يرغب في علوم السنة ، وليس خبر النزول من هذا الوادي ولا من ذاك الوادي كما سبق.

وطرق بحث المعجزات الحسية هنا تطوّع من الكاتب في صف نفاتها بدون أيّ مناسبة له هنا ، غير توسيع دائرة البحث ، ليبقى وهو يتكلّم ، نفع كلامه أم لم ينفع ، فيا نفاة المعجزات الحسية ، اعملوا (معروفا) لا تضنّوا على فخر الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ـ بمعجزات أثبتها القرآن لسائر الأنبياء.

وقد أجاد ابن كثير في «تاريخه» سرد المعجزات الثابتة لفخر المرسلين ، مما ثبت مثله للأنبياء قبله ، وتبيين أنه ما أوتي نبيّ قبله معجزة إلا وأعطي مثلها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، وقد نصّ أهل العلم على ما تواتر منها مباشرة ، وما تواتر القدر المشترك فيه فقط.

وإن كان كاتب المقال تسرّب إلى فكره شيء من تشكيكات البرنس قيتانو الإيطالي ، في تاريخه الكبير عن الإسلام ، فدواء ذلك كتاب الشيخ شبل النعماني وزميله الشيخ سليمان النّدوي في السّير ، وهما أجادا وأفادا.

والمعجزات الحسيّة يجدها الباحث في كتب الصحاح والسنن والسّير مع تبيين مراتبها ، كما يجدها في «الشفا» وشروحه ، و «المواهب» وشرحها إن كان يقتصد في البحث.

وأما تواتر أحاديث المهديّ والدجّال والمسيح ، فليس بموضع ريبة عند أهل العلم بالحديث ، وتشكّك بعض المتكلمين في تواتر بعضها ، مع اعترافهم بوجوب اعتقاد أنّ أشراط الساعة كلّها حقّ ، فمن قلّة خبرتهم بالحديث ، وهم معذورون في ذلك ، ما لم يعاندوا بعد إقامة الحجة عليهم في المسائل.

وكتاب «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدّجّال والمسيح» للشوكاني ، مطبوع في الهند ، وقد نقل منه صديق خان جملة صالحة في كتابه «الإذاعة لما كان وما يكون من أشراط الساعة» ، وهو أيضا مطبوع في الهند ، وهما ممن أقرّ لهم كاتب المقال بالإمامة والقدوة ، بل هما من أئمة هذا الشّاذّ.

وليس إلى مثل الكاتب المتهجم التحدّث عن مراتب الحديث ، وله رجال وللتشغيب رجال. ورمي من أجاد جمع الأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه‌السلام ، ونفع الأمة بعلمه ، بالتمويه والرّكض وراء الارتزاق ، مما لا يصدر من حرّ سلم قلبه من الدّغل.

ومما يقضى منه العجب أن يرمى ممّن خرق الإجماع وفارق الجماعة في المسألة : من ناصر معتقد جماعة المسلمين بالمكابرة والعناد والإصرار على التضليل!! ، ولا شك أنّ من عنده شيء من الوازع الدّيني أو الزاجر الخلقي ، يربأ بنفسه أن يقف في مثل هذا الموقف.

ثم لما رأى الكاتب انهزامه من كل جانب ، وتضييق الأدلة الخانقة لخناقه أراد أن يسلك في المسألة ما سلكه في تأويل الشيطان فيما سبق! فقال : «إنّ حديث النزول ليس بمحكم ، لا يحتمل التأويل حتى يكون قطعيّ الدلالة». والمحكم لا يمتاز عن أخواته من أقسام الوضوح إلا بعدم احتماله للنسخ ، وأما الخبر فلا يحتمل النسخ ، فيكون الظاهر والنصّ في هذا الموضوع في حكم المحكم.

وأما احتمال التأويل فاحتمال خياليّ لم ينشأ من دليل ، فلا يخلّ بكون الدليل قطعيّ الدلالة كما سبق بيانه مرات ، قال الغزالي في «المستصفى» ١ : ٣٥٧ «أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل ، فلا يخرج اللفظ عن كونه نصّا» ، ومثله في «التلويح» و «مرآة الأصول» وغيرها.

ثم قال الكاتب : «فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ، ولم يجدوا مانعا من تأويلها».

لكن لا يوجد بين علماء أهل الحق من يؤوّل النصوص ما لم تستحل معانيها الظاهرة ، ولذا تجد في كتب أهل الحق النصّ على أنّ «النصوص تحمل على ظواهرها ، والعدول عنها إلى معان يدّعيها أهل الباطن إلحاد وكفر ، وردّ النصوص كفر».

ثم نقل الكاتب عن «شرح المقاصد» نقلا مبتورا ما يظنّ به أنه يكون حجّة له في تأويل ما ورد في أشراط الساعة ، ولا سيما نزول عيسى عليه‌السلام ، مع إغفال ما يحقّق المسألة من كلام السعد في مواضع من «شرح المقاصد» ، فأنقل كلام السعد هنا مع إثبات ما أهمله الكاتب ، ليظهر ما إذا كان قول السعد في صالحه أم لا.

قال السعد في «شرح المقاصد» ٢ : ٢٢٦ «وبالجملة فالأحاديث في هذا الباب كثيرة ، رواها العدول الثقات ، وصحّحها المحدّثون الأثبات ، ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة ، لأنّ المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا.

وزعمت الفلاسفة أنّ طلوع الشمس من مغربها مما يجب تأويله : بانعكاس الأمور وجريانها على غير ما ينبغي ، وأوّل بعض العلماء النّار الخارجة من الحجاز : بالعلم والهداية سيّما الفقه الحجازيّ ، والنّار الحاشرة للناس : بفتنة الأتراك ، وخروج الدجّال : بظهور الشرّ والفساد ، ونزول عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح ...».

فصدر كلامه على القاعدة المتّبعة عند أهل الحق ، من حمل النصوص على ظواهرها ما دامت معانيها أمورا ممكنة ، ومؤوّل طلوع الشمس كما سبق لا يكون من أهل الشريعة ، وكذلك مؤوّل الأشراط على ما سبق ، لأنّ تلك التأويلات بعيدة كلّ البعد عن لغة التخاطب ، فتكون من قبيل التأويلات للباطنيّة ، وقد عرفت حكمها ، وليس شيء منها على قواعد التأويل المعروفة عند أهل العلم ، راجع «قانون التأويل» للغزالي.

فكأنّ الكاتب لم يدرس شيئا من كتب التوحيد عند أهله ، ليفهم مغزى كلام المتكلمين في السّمعيّات : هذه أمور ممكنة في العقل. يعنون أنه دلّ السمع على ثبوتها ، فوجب حملها عليها. ومنهم من يعبّر عن ذلك بقوله : لا يمتنع حملها على ظواهرها يعني عقلا ، فتعيّن حملها عليها شرعا ، لا بمعنى أنه لا مانع من حملها على ظاهرها شرعا ولا من عدم حملها.

وليس المقام يتسع لشرح الوجوب والامتناع والإمكان ووجه كون سلب الضرورة عن جانب العدم أعمّ من الوجوب في جانب الوجود ، وهذا من مبادئ المعارف لمن يشتغل بعلم أصول الدين ، ففهم الكاتب هنا يجلب إلى نفسه ضحك الضاحكين من صغار المتعلّمين.

ومما يحقّق عند القارئ مبلغ بعد الكاتب عن علم الكلام قوله تفريعا على كلام السعد المذكور : «ومن ذلك نرى أنّ السعد لا يقرّر وجوب حملها على ظواهرها ، حتى تكون من قطعيّ الدلالة الذي يمتنع تأويله ، وإنما يقرّر بصريح العبارة أنه لا مانع من حملها على ظواهرها. فيعطي بذلك حقّ التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل».

وعادة المتكلمين أن يفرّعوا وجوب الاعتقاد بمعنى الدليل الشرعيّ على عدم استحالة معناه المؤدية إلى التأويل ، وكم ترى السّعد نفسه يقول في السمعيات : «إنها أمور ممكنة نطق بها الكتاب والسنة ، وانعقد عليها إجماع الأمة ، فيكون القول بها حقا ، والتصديق بها واجبا» ، ومثله يتكرّر في «شرح النسفية» ، وفي «التجريد» للنصير الطوسي ، و «المواقف» للقاضي عضد الدين.

والذين ذكرهم السعد هنا بعد قوله : «عند أهل الشريعة» ، ليسوا من أهل الشريعة في نظره ، كما هو ظاهر ، والسعد هو الذي يقول في آخر «شرح المقاصد» : «ذهب العظماء من العلماء إلى أنّ أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء الخضر وإلياس في الأرض ، وعيسى وإدريس في السماء ، عليهم الصلاة والسلام».

كما يقول في ٢ : ١٩٨ : «وأما استحلال المعصية بمعنى اعتقاد حلّها فكفر ، صغيرة كانت أو كبيرة ، وكذا الاستهانة بها بمعنى عدّها هيّنة ترتكب من غير مبالاة ، وتجري مجرى المباحات ، ولا خفاء في أنّ المراد ما ثبت بقطعيّ ، وحكم المبتدع ـ وهو من خالف في العقيدة طريقة السنة والجماعة ـ ينبغي أن يكون حكم الفاسق ، لأنّ الإخلال بالعقائد ليس بأدون من الإخلال بالأعمال» ، يعني فيما هو غير مكفّر.

ثم قال : «وحكم المبتدع البغض والعداوة والإعراض عنه ، والإهانة والطّعن واللّعن وكراهية الصلاة خلفه».

ثم قال : «وطريقة أهل السّنّة أنّ العالم حادث ، والصانع قديم متصف بصفات قديمة ... لا شبيه له ، ولا ضدّ ، ولا ندّ ، ولا نهاية له ، ولا صورة ، ولا حدّ ، ولا يحلّ في شيء ، ولا يقوم به حادث ، ولا يصحّ عليه الحركة والانتقال ... وأنّه ليس في حيّز ولا جهة ... وأنّ أشراط الساعة من خروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابّة الأرض : حقّ ...» إلى آخر معتقد أهل السنة والجماعة المبسوطة هناك.

وبعد أن علمت نصوص كلام السعد ، في شتى المواضع من كتابه المذكور ، تعلم علما باتا أنّ مراده بقوله : «ولا يمتنع حملها على ظواهرها» بعد تقريره لثبوت الأحاديث ، لا يكون إلا بمعنى أنها أمور ممكنة عقلا دلّ السمع على ثبوتها ، فيجب التصديق بها.

ولم يكتف الكاتب بما سبق منه من التحريف الشائن ، حتى خيّر الناس في الإيمان بأحد طرفي النّفي والإثبات ، وهذا هو الجهل بعينه في باب الاعتقاد ـ وإن كان له سابقة في تقرير لزملائه ـ وختم كلامه بأنه تبيّن جليّا مما تقدّم «أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطعيّة ما ، لا من ناحية ورودها ، ولا من ناحية دلالتها».

هكذا يظنّ بنفسه أنه تمكّن من إبطال كتب السنة من صحاح وسنن ومسانيد وغيرها ، بشطبة قلم ، كما تمكّن في حسبانه أيضا من إلغاء كتب الكلام والتوحيد وما حوته في المسألة من أول عهد إلى اليوم ، وكتب السنة لا تزال بخير ، وكذا كتب التوحيد ما دام للإسلام عرق ينبض ، وإنما الضائع من أضاع نفسه بمناهضة الأمّة ، حتى أصبح مثلا في الآخرين. ولعل فيما ذكرناه في هذا الفصل كفاية في نقض ما في المقال المذكور ، والله سبحانه هو ولي الهداية.

الإجماع وثبوت العقيدة

وبهذا العنوان كلمة أيضا في العدد (٥١٩) ، تناول فيها الكاتب ثالث حجج الشرع عند أئمة الدين ، بالتشكيك بكل ما استطاع ، وبه يكون أتمّ رسالته في تهوين دلالة حجج الله من الكتاب والسنة والإجماع ، في نفوس المصغين إليه من العامّة وشبه العامّة.

ولست أدري ما هو الداعي له إلى هذا اللف والدوران ، وتقعيد القواعد في النيل من الأدلة المجمع عليها بين أهل الحق ، وكان يستطيع بدون ذلك أن يقول : إنّ في وفاة عيسى عليه‌السلام ونفي نزوله في آخر الزمان النّصّ الفلانيّ من الكتاب يدلّ على وفاته ونفي نزوله ، أو الدليل الفلانيّ من السنة أخرجه فلان وفلان ، يخالف ما اعتقده الجماعة في ذلك ، أو الرواية الفلانية عن فلان من أئمة الدين ، بالسند الفلاني تفيد وفاته ونفي نزوله ، لو كان شيء من ذلك موجودا في دواوين العلم.

لكن لو أجلب الكاتب بخيله ورجله ما استطاع سبيلا إلى رواية في وفاته ونفي نزوله عن أحد لم ينخدع بروايات أهل الكتاب ، فضلا عن أن يجد شبه دليل في الكتاب أو السنة ، إزاء نصوص كتاب الله وسنة رسوله المتواترة وإجماع علماء المسلمين ، الدالة على معتقد الجماعة في ذلك.

وكم قلنا : إنّ رواية ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، غير ثابتة ، للانقطاع وللكلام في رجال سندها ، بل صحّ واستفاض خلاف ذلك عنه ، فيجب حمل تلك الرواية على التقديم والتأخير ، لئلا تخالف ما صحّ واستفاض عنه ، إذا جعلنا لها شيئا من القيمة كما هو رأي قتادة والفرّاء.

وقول وهب بن منبّه بموته : لم يسنده إلى المعصوم ، وإنما نقله من أهل الكتاب ، ورواية محمد بن إسحاق تنصّ على أنّ القول بموته قول النصارى ، والجبّائي منخدع برواية أهل الكتاب ، وابن حزم على غلطه بعدم الفرق بين التوفّي والوفاة مصرّح باعتقاده نزوله في آخر الزمان ، حيث قال في «المحلّى» في ١ : ٩ : «إنّ عيسى

ابن مريم سينزل» ، وساق بسنده حديث النزول هناك ، وهكذا يقول أيضا في ٧ : ٣٩١ فيهون أمر خلافه ، وإن كان واهن المدرك.

وإنما الخلاف الخطر هو نفي نزوله عليه‌السلام ، وقد سبق منا بيان وجوه دلالة الكتاب على الرفع والنزول ، مع نقل نصوص الحفاظ على تواتر حديث النزول ، والإجماع على الاعتقاد بنزوله.

وممن قال ذلك الحافظ عبد الحق بن عطية الأندلسيّ وأبو حيّان الحافظ في تفسيريهما ، وفي «البحر المحيط» ٢ : ٤٧٣ : «قال ابن عطية وأجمعت الأمّة على ما تضمّنه الحديث المتواتر ، من أنّ عيسى في السماء حيّ ، وأنه ينزل في آخر الزمان» ، وفي «النهر المادّ من البحر» ٢ : ٤٧٣ بالهامش : «وأجمعت الأمّة على أنّ عيسى عليه‌السلام حيّ في السماء ، وسينزل إلى الأرض ، إلى آخر الحديث الذي صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك» ، وفي «البحر» أيضا ٣ : ٣٩١ «(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] هذا إبطال لما ادّعوه من قتله وصلبه وهو حيّ في السماء الثانية ، على ما صحّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث المعراج ، وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض».

ومن خلقه الله من غير أب إذا عاش في السماء عيشة الملائكة بدون حاجة إلى الأغذية بإذن الله سبحانه إلى اليوم الموعود ، ما استبعد ذلك مؤمن لا يكون في قلبه دغل.

وقد ذكر الذهبي في «تجريد أسماء الصحابة» عيسى عليه‌السلام في عداد الصحابة ، حيث رآه ليلة المعراج وهو حيّ ، وهكذا فعل ابن حجر أيضا في «الإصابة» ولا يخدش في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في أنّ الإسراء كان مناما ، فإنه إنما رواه محمد بن إسحاق عن بعض آل أبي بكر رضي الله عنه بدون سند ، وبالرواية عن مجهول بدون سند ، لا يثبت شيء عن عائشة ولا غيرها.

ومن لغط بأنّ الإسراء كان نوما لهذا الخبر بنى على غير أساس ، وإطباق كتب العقائد من الصدر الأول إلى اليوم على الرفع والنزول ، مما لا يدع مجالا للتشكيك في الإجماع على ذلك ، إلا عند من لا يبالي بالإجماع ولا بالمجمعين.

وليس الإجماع بالموضع الذي يراه فيه كاتب المقال ، بل يقول فيه ابن حزم في «مراتب الإجماع» : «إنّ الإجماع قاعدة من قواعد الملّة الحنيفيّة ، يرجع إليه ، ويفزع نحوه ، ويكفّر من خالفه» ، مع كونه من أشدّ الناس كلاما فيه ، والخلاف في شيء

ليس مما يزيل حقيقة ذلك الشيء من الوجود ، بل أهل البصيرة النافذة يمحصونه بين ضوضاء الأخذ والرد ، فيظهر الحقّ واضحا جليّا بعد التمحيص ، لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ولعلّ الحقّ في ذلك لا يعدو ما قلته في «الإشفاق على أحكام الطلاق» ، في صدد الردّ على من يقول من أبناء اليوم : إنّ الإجماع الذي يدّعيه الأصوليون ما هو إلا خيال ... ولا استقرّ رأي العلماء على قول مقبول في معنى الإجماع ـ في نفسه! ـ وكيف يحتجّ به ومتى؟».

ولا بأس أن أسوق هنا بعض ذلك ، دفعا لما عسى أن يعلق ببعض الخواطر من تشكيك ذلك المشكّك.

ومما قلت هناك : «هذا كلام لا يصدر ممن يعقل ما يقول ، وإن دلّ هذا الكلام على شيء ، فإنما دلّ على أنّ قائله ما درس شيئا من أصول الفقه ، ولو نحو «مرآة الأصول» ، أو «التحرير» ، على واحد من المبرّزين في العلم ، فضلا عن كتاب البزدوي ، وشروحه ، ولا اطلع على «بحر» البدر الزركشي ، ولا «شامل» الإتقاني ، فضلا عن «تقويم» الدّبوسي ، و «ميزان السمرقندي» ، و «فصول» أبي بكر الرازي.

ولم يطّلع أيضا على «فصول» الباجي ، و «محصول» أبي بكر بن العربي ... ، ولا «برهان» ابن الجويني ، ولا «قواطع» السمعاني ... ولا على «تمهيد» أبي الخطّاب ، و «روضة» الموفّق و «مختصرها» للطّوفي ، ولا «عمد» القاضي عبد الجبار ، و «معتمد» أبي الحسين البصري ، ولا «محصول» الرازي ، بل «تنقيحه» للقرافي ، بل اكتفى في هذا العلم الخطير بتقليب صفحات كتيّب للشوكاني أو القنّوجي ، شيخي التخبّطات في المسائل في الدّور الأخير ...

أو لم يعلم هذا المتقول أنّ حجيّة الإجماع مما اتّفق عليه فقهاء الأمّة جميعا ، وعدّوه ثالث الأدلة ، حتى إنّ الظاهرية على بعدهم عن الفقه ، يعترفون بحجّيّة إجماع الصحابة ، ولهذا لم يتمكّن ابن حزم من إنكار وقوع الطلاق الثلاث مجموعة ، بل تابع الجمهور في ذلك.

بل قد أطلق كثير من العلماء القول بأنّ مخالف الإجماع كافر ، حتى شرط للمفتي أن لا يفتي بقول يخالف أقوال جماعة العلماء المتقدّمين ، ولهذا كان لأهل العلم عناية خاصّة بمثل «مصنّف» ابن أبي شيبة ، و «إجماع» ابن المنذر ، ونحوهما من

الكتب التي تتبيّن بها مواطن الاتفاق والاختلاف في المسائل بين الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم.

وقد دلّ الدليل على أنّ هذه الأمّة محفوظة من الخطأ ، وأنّهم عدول شهداء على الناس ، وأنهم خير أمّة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وأنّ من تابعهم تابع سبيل من أناب ، ومن خالفهم سلك سبيل غير المؤمنين ، وناهض علماء الدين.

ولا أدري من أين أتت هذه الفوضى في التفكير ، ومن أين تسرّبت هذه السّموم الفاتكة إلى أذهان بعض المتفيهقين في هذا العصر؟ ... فإذا ذكر أهل العلم الإجماع ، فإنما يريدون به إجماع من بلغوا رتبة الاجتهاد من بين العلماء ، باعترافهم ، مع ورع يحجزهم عن محارم الله ، ليمكن بقاؤهم بين الشهداء على الناس.

فمن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد باعتراف العلماء له بذلك ، فهو خارج من أن يعتدّ بكلامه في الإجماع ، ولو كان من الصالحين الورعين ، وكذلك من ثبت فسقه أو خروجه على معتقد أهل السنة ، لا يتصوّر أن يعتدّ بكلامه في الإجماع ، لسقوطه من مرتبة الشهداء على الناس.

على أنّ المبتدع كالخوارج وغيرهم لا يعتدّون بروايات ثقات أهل السنة في جميع الطبقات ، فكيف يتصوّر أن يوحد فيهم من العلم بالآثار ما يؤهّلهم لدرجة الاجتهاد.

ثم أقلّ ما يجب على المجتهد المستجمع لشروط الاجتهاد ، باعتراف العلماء : أن يدلي بحجّته ، ويصارح الجمهور بما يراه حقا تعليما وتدوينا ، إذا رأى أهل العلم على خطإ في مسألة من المسائل ، حسب ما يراه هو ، لا أن ينقبع في داره ، أو ينزوي في رأس جبل بعيد عن أمصار المسلمين ، ساكتا عن بيان الحق ، والساكت عن الحق شيطان أخرس ، ناكثا عهد الله وميثاقه في تبيين الحق ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، فبمجرّد ذلك يلتحق بالفاسقين الساقطين عن مرتبة قبول الشهادة ، فضلا عن مرتبة الاجتهاد.

ومن المحال في جاري العادة بين هذه الأمّة ، نظرا إلى نشاط علماء المسلمين في جميع الطبقات لتدوين أحوال من له شأن في العلم ، وتسابقهم في كتابة العلوم وتسجيلها ، وإفشاء ما يلزم الجمهور علمه في أمر دينهم ودنياهم امتثالا منهم لأمر

تبليغ الشاهد للغائب ، ووفاء بميثاق تبيين الحق : أن لا تكون جماعة العلماء في كل عصر يعلمون من هم مجتهدو ذلك العصر ، الحائزون لتلك المرتبة العالية ، القائمون بواجبهم؟.

فإذا ذاع رأي رآه جمهرة الفقهاء في أي قرن من القرون ، من غير أن يعلم أهل الشأن مخالفة أحد من الفقهاء لهذا الرأي ، فالعاقل لا يشكّ في أنّ هذا الرأي مجمع عليه ، وهو الذي يعوّل عليه المحققون من أئمة الأصول ، وهذا مما لا يمكن أن تجري حوله الثرثرة : بأنّ في الإجماع كلاما من جهة حجيته ، وإمكانه ، ووقوعه ، وإمكان العلم به ، وإمكان نقله كما لا يخفى.

وليس معنى الإجماع أن يدوّن في كل مسألة مجلّدات تحتوي على أسماء مائة ألف صحابيّ مات عنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم ، بالرواية عن كل واحد منهم فيها ، بل تكفي في الإجماع على حكم صحّة الرواية فيه عن جمع من المجتهدين من الصحابة ، وهم نحو عشرين صحابيا فقط في التحقيق ، بدون أن تصحّ مخالفة أحد منهم لذلك الحكم ، بل قد لا تضرّ مخالفة واحد أو اثنين منهم ، في مواضع فصّلها أئمة هذا الشأن في محله ، وهكذا الأمر في عهد التابعين وتابعيهم.

ومن أحسن من أوضح هذا البحث بحيث لا يدع وجه شكّ لمتشكّك ، ذلك الإمام الكبير أبو بكر الرازيّ الجصّاص ، في كتابه «الفصول في الأصول» ، وقد خصّ فيه لبحث الإجماع وحده نحو عشرين ورقة من القطع الكبير ، وهو كتاب لا يستغني عنه من يرغب في العلم للعلم ، وكذا العلامة الإتقانيّ في «الشامل» شرح «أصول» البزدوي ، وهو في عشرة مجلّدات ، يذكر فيه نصوص الأقدمين بحروفها ، ثم يناقشهم فيما تجب المناقشة فيه ، مناقشة من له غوص.

ومن الإجماع ما يشترك فيه العامّة مع الخاصّة ، لعموم بلواهم ، كإجماعهم على أنّ الفجر ركعتان ، والظهر أربع ركعات ، والمغرب ثلاث ركعات ، ومنه ما ينفرد به الخاصّة وهم المجتهدون ، كإجماعهم على الحقّ الواجب في الزّروع والثمار ، وتحريم الجمع بين العمّة وبنت الأخ ، فلا تنزل مرتبة هذا الإجماع عن ذاك ، لأنّ المجتهدين لا يزدادون حجّة إلى حججهم بانضمام العوامّ إليهم.

فمن ادّعى أنّ من الإجماع ما هو قطعيّ يستغنى عنه بالكتاب المتواتر والسنة المتواترة ، وما دونه يتسكّع في الظن ، فقد حاول ردّ حجيّة الإجماع ، واتّبع غير سبيل المؤمنين ، وشرح ذلك في الكتب المبسوطة ، ولا يتحمّل هذا الموضع للإفاضة فيه.

وما ذا على الإجماع من كون بعض أنواعه ظنيّا؟ وجحد ما هو يقينيّ منه كفر ، وإنكار ما جرى مجرى الخبر المشهور منه ضلال وابتداع ، وجاحد ما دون ذلك كجاحد بعض ما صحّ من أخبار الآحاد على حدّ سواء.

أما قول محمد بن إبراهيم الوزير اليماني في الإجماع ، فبعيد عما يفقهه الفقهاء ، وهو ليّن الملمس في كتبه بالنسبة إلى أمثال المقبليّ ومحمد بن إسماعيل الأمير والشوكانيّ من أذياله الهدّامين ، لكن مع هذا اللين تحمل كتبه سمّا ناقعا ، وهو أول من شوّش فقه العترة النبوية ببلاد اليمن ، وكلامه في الإجماع يرمي إلى إسقاط الإجماع من الحجية ، وإن لم يصرّح تصريح الشوكانيّ في «جزء الطلاق الثلاث». انتهى ما نقلته من «الإشفاق».

وقول الشوكانيّ في جزئه المذكور «إنّ الحقّ عدم حجيّة الإجماع ، بل عدم وقوعه ، بل عدم إمكانه ، بل عدم إمكان العلم به ، وعدم إمكان نقله» متابعة للنّظّام على طول الخطّ : مما لا يستكثر من مثله في التجرّؤ على الأحكام ، وهو الذي لا يعترف بعدد محدود في نكاح النساء ، على خلاف الكتاب والسّنّة ، كما في «وبل الغمام» له. وتجد تفصيل الردّ عليه في «تذكرة الراشد» ، وإن كان هذا على خلاف ما في «نيل الأوطار» ، وله مراحل في الدعوة إلى بدعته.

وقد علّقنا على مواضع من «مراتب الإجماع» لابن حزم برمز (م) في الغالب ، ما يعيد الحقّ إلى نصابه في مواضع انحرافه عن الجادّة ، وهكذا فعلنا فيما علّقناه على «النّبذ» لابن حزم بتوفيق الله سبحانه.

وليس بين الأئمة المتبوعين كبير خلاف في الإجماع ، وما كلّ من تحدّث فيه تحدّث بما يقام لكلامه وزن ، والحقّ واضح لمن درس الإجماع من جميع نواحيه ، لكن ضعف المناعة الفقهية في متفقهة الأدوار الأخيرة ، جعلهم ضحايا للآراء الشاذّة التي تنشر هنا ، بسعي من أصحاب غايات ، وذلك ناشئ من الفوضى وقلة التبصّر في مناهج تفقيههم وإن كان القائمون بالأمر يصعب عليهم الاعتراف بذلك ، لكنّ الأمر واقع ، ما له من دافع.

ثم إنّ أضيق المذاهب في الإجماع هو مذهب الظاهرية ، المقتصرين على الصحابة في الإجماع ، ونزول عيسى عليه‌السلام مما نصّ عليه ثلاثون من الصحابة رضي الله عنهم ، وآثارهم الموقوفة عليهم مدوّنة في «التصريح» للكشميري كما سبق ، ولم يصحّ عن صحابيّ واحد القول بما يخالف ذلك.

وما أخرجه الطبراني في سنده مجالد ، فإذا لم يكن مثله إجماعا ، فلا يوجد في الدنيا إجماع ، ويقول أبو حامد الأسفراييني شيخ الطريقة العراقية في مذهب الشافعي ـ عن أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول ، وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر ، فيسكتون بدون أن يظهر منهم اعتراف ولا إنكار ـ إنّه إجماع وحجة مقطوع بها. فلا يكون لكاتب المقال متمسّك بما نقله من «رسالة» الشافعي رضي الله عنه ، حيث حمّله ما لا يتحمّله.

وردّ ما يروى عن أحمد في الإجماع : في «السيف الصقيل» ص ١١٠ ، ثم الخلاف في الاحتجاج بالإجماع في العلميّات ليس مما يوهن أمر الإجماع في موضوع بحثنا ، لأنّ ذلك في المسائل العويصة التي تضطرب فيها العقول ، وقد دلّلنا على أنّ الأخبار في النزول متواترة ، وثبوت تواترها ليس في حاجة إلى اعتراف صاحب المقال بتواترها ، بعد أن نصّ أصحاب الشأن على تواترها. والإجماع اليقينيّ على ما ثبت بالتواتر ، مما لا ينكره إلا مكابر.

ثم إنّ اعتقاد النزول عمل القلب ، فيكون التمسّك بالإجماع هنا تمسكا به في باب العمل ، فيكون الأخذ بالإجماع في هذا الموضع أمرا متفقا عليه بين العلماء.

وما نقله كاتب المقال عن «التحرير» لابن الهمام ، في أشراط الساعة وأمور الآخرة ، من لزوم استنادها على النقل دون الإجماع ، هو عين ما قاله صدر الشريعة في «التوضيح» ، لكن نظر فيه السعد المحقّق في «التلويح» وقال : إنّ النّقل قد يكون ظنّيّا فبالإجماع يصير قطعيا». وهذا كلام متين.

وابن الهمام هو الذي يقول في «المسايرة ، في العقائد المنجية في الآخرة» ، في عداد المكفّرات : «وكذا مخالفة ما أجمع عليه ، وإنكاره بعد العلم به». والخلاف في كون الإجماع مدركا مستقلا هنا ، لا في الاعتداد به إذا وقع ، وتوارد الأدلة على شيء مما يزيده قوّة.

وقال في «المسايرة» أيضا : وأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام ، وخروج يأجوج ومأجوج ، والدابّة ، وطلوع الشمس من مغربها حقّ» فما ذا بعد الحقّ إلا الضلال ، وقول ابن رشد الحفيد في الفرق بين العلميّات النظرية والعمليّات في باب الإجماع : منزع آخر ، ليس هذا موضع بسطه.

وأما قول الكاتب : «وعلى فرض أنّ أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه ، نقول : إنّ نزول عيسى قد استقرّ فيه الخلاف قديما وحديثا ، أمّا قديما فقد نصّ على ذلك ابن حزم في كتابه «مراتب الإجماع» ، حيث يقول : اختلفوا في عيسى عليه‌السلام : أيأتي قبل يوم القيامة أم لا ...؟. كما نصّ عليه أيضا القاضي عياض في شرح مسلم ، والسعد في «شرح المقاصد» ، وقد سقنا عبارته في البحث السابق ، وهي واضحة جليّة في أنّ المسألة ظنية في ورودها ودلالتها. وأمّا حديثا فقد قرّر ذلك ...» :

فخلو من صلاحية التّترّس به ، فإنّ ابن حزم لم يحك نفي النزول عن أحد من أهل الحق بسند صحيح ، حتى يقام له وزن ، وإنما هو توليد واستنتاج مما يحكى في موته ، ثم رفعه ، وقد محّصنا هذه الحكاية فيما سبق ، بل قال ابن رشد الكبير بعد أن قال : لا بد من نزوله لتواتر الأحاديث بذلك : «فما ذكره ابن حزم من الخلاف في نزوله : لا يصح» ، كما في «شرح» الأبيّ على «مسلم».

وأما لفظ القاضي عياض في «شرح مسلم» فهو «نزول عيسى عليه‌السلام ، وقتله الدّجّال : حقّ وصحيح عند أهل السنة ، للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله ، فوجب إثباته ، وأنكر ذلك بعض المعتزلة والجهمية» اه. وذلك البعض هو الجبّائي. ولو علم تواتر الخبر لما خالف ، على أنّ خلاف المبتدعة لا يخلّ بالإجماع في التحقيق كما سبق ، وجمهرة المعتزلة مع أهل الحقّ في المسألة ، على ما يظهر من كلام خطيبهم الزمخشريّ في «الكشاف».

وأما ما نقله السعد بعد ذكره قوله أهل الشريعة ، وبعد ذكره لزعم الفلاسفة : فبعيد عن أن يكون نقلا لخلاف يعتدّ به ، بل هو قول بعض من سار سير الباطنية في التأويل كما سبق ، ولذا أغفل ذكر اسمه ، ومن طريقة تأويله يظهر أنه من المبتدعة الذين لا يلتفت إليهم ، والتأويل من غير داع عقليّ ولا شرعيّ على خلاف لغة التخاطب : شأن الباطنية ومن سار سيرهم ، هذا هو قديمه.

وأما حديثه فالدكتور محمد توفيق صدقي (في المجلّد الحادي عشر من المنار ص ٣٦٧) ومن لفّ لفّه ، من أصحاب الصّحافة ، فبالنظر إلى أنّ هؤلاء ليس عندهم من العلوم الضرورية ، لمن يريد أن يتكلّم في هذا الموضوع ، ما يسوغ لهم الكلام فيه ، ضربنا عن ذكرهم صفحا ، على أنّ منازلهم في العلم والورع غير مجهولة عند الشعب الكريم.

وكفى في معرفة الدكتور مقالاته الصريحة في نفي الاحتجاج بالسنة مطلقا ، وقصر الاحتجاج على القرآن ، ومن جملة ما قاله في (١١ ـ ٣٧٠) : «واعلم أنّ المسلم لا يجب عليه الإيمان بأنه سيجيء يوم القيامة (هكذا) والظاهر أنّ هذه عقيدة سرت من النّصارى إلى المسلمين ، ولم يأت بها القرآن ، والأحاديث لا يؤخذ بها في العقائد إلا إذا تواترت ، وليس في هذه المسألة حديث متواتر».

فيعلم من ذلك أنه قدوة كاتب المقال ، كما أنه قدوة الحدثاء الذين تحدّثوا في المسألة على خلاف ما عليه الجماعة ، ولكاتب المقال قدوة آخر في الباب ، وهو ابن هود الدمشقيّ ، وكان أصحابه يعتقدون فيه أنه المسيح ابن مريم ، ويقولون : إنّ أمّة كان اسمها مريم .. ويعتقدون أنّ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل فيكم ابن مريم» ، هو هذا ، وأنّ روحانيّة عيسى تنزل عليه.

وابن تيمية بيّن لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى ، وأنّ ذلك الوصف لا ينطبق على هذا ، وكان منهم من يفسّر طلوع الشمس من مغربها : بطلوع كلامهم ، وبطلوع النّفس من البدن ، ونزول عيسى ابن مريم من السماء : بنزول روحانيّته أو جزئيته على هذا الشخص.

فإذا وصل التقوّل والتحريف إلى هذا الحد ، نشكر الله على سلامة الدين والعقل ، ونسكت ، نسأل الله الصون.

وبهذا يعلم من هو قدوة صاحب «المنار» في قوله المنقول في مقال الكاتب «وليس فيه نصّ صريح بأنه ينزل من السماء ، وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى ، وقد حاولوا في كلّ زمان من ظهور الإسلام بثّها في المسلمين». انظر إلى هذا الرأي التالف وهذه الجرأة البالغة من صاحب «المنار»!!

والقول بسعي النصارى في بثّ تلك العقيدة في المسلمين من ظهور الإسلام إذا قورن بصحة نزوله عليه‌السلام عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على لسان ثلاثين من أصحابه رضي الله عنهم ، بأسانيد في الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمصنفات وغيرها : علم مبلغ إيغال قائله في الباطل ، أينطق المصطفى صلوات الله وسلامه بما بثّه النصارى ويروج عليه؟ أم الصحابة يروج عليهم هذا الدّس؟ أم حفّاظ الأمّة وأئمتها يروج عليهم هذا البثّ وهذا الدّسّ فيروونها في كتبهم خالفا عن سالف بطريق التواتر ، ولا يتصوّر ما هو أبلغ من هذا المروق ، وها هي حجّة كاتب المقال!!

ومن يرى مثل هذا الرأي في أصحاب المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم ، ورواة السّنن عنهم طبقة فطبقة ، وفي كتب الحديث من صحاح وسنن ومسانيد وجوامع ومصنّفات وكتب التفسير بالرواية والدراية وسائر الكتب : فقد كشف النّقاب عن وجهه ، فلم يدع حاجة إلى المناقشة معه ، وليس شيخ الكاتب بالأمس بحجّة كشيخه اليوم. (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)) [الإسراء : ٨٤].

وفي هذا القدر كفاية إن شاء الله تعالى في تبيين الحقّ في المسألة ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وكان ختام تحريره في يوم الاثنين ١٨ جمادى الآخرة سنة ١٣٦٢ ه‍.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال القاضي الإمام السعيد ، سيف السنّة ، ولسان الأمة ، أبو بكر : محمد بن الطيب بن محمد رضي الله عنه.

الحمد لله ذي القدرة والجلال ، والعظمة والكمال. أحمده على سوابغ الإنعام وجزيل الثواب ، وأرغب إليه في الصلاة على نبيه محمد المختار وعلى آله الأبرار وصحابته الأخيار ، والتابعين لهم بإحسان [إلى يوم القرار] (١).

أما بعد : فقد وقفت على ما التمسته الحرة الفاضلة الديّنة ـ أحسن الله توفيقها ـ لما تتوخاه من طلب الحق ونصرته ، وتنكب الباطل وتجنبه. واعتماد القربة باعتقاد المفروض في أحكام الدين. واتباع السلف الصالح من المؤمنين ، من ذكر جمل ما يجب على المكلفين اعتقاده ، ولا يسع الجهل به ، وما إذا تدين به المرء صار إلى التزام الحق المفروض ، والسلامة من البدع والباطل المرفوض. وإني بحول الله تعالى وعونه ، ومشيئته وطوله ، أذكر لها جملا مختصرة تأتي على البغية من ذلك ، ويستغنى بالوقوف عليها عن الطلب ، واشتغال الهمة بما سواه. فنقول وبالله التوفيق :

إن الواجب على المكلف :

١ ـ أن يعرف بدء الأوائل والمقدمات التي لا يتم له النظر في معرفة الله عزوجل وحقيقة توحيده ، وما هو عليه من صفاته التي بان بها عن خلقه ، وما لأجل حصوله عليها استحق أن يعبد بالطاعة دون عباده. فأول ذلك القول في العلم وأحكامه ومراتبه ، وأن حده : أنه معرفة المعلوم على ما هو به ، فكل علم معرفة وكل معرفة علم.

٢ ـ وأن يعلم أن العلوم تنقسم قسمين : قسم منهما : علم الله سبحانه ، وهو صفته لذاته ، وليس بعلم ضرورة ولا استدلال ، قال الله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)

__________________

(١) تنبيه : الكلمات الموجودة بين أقواس مربعة هي من تصحيح الإمام الكوثري.

[النّساء : ١٦٦] وقال : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فاطر : ١١] وقال : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤] فأثبت العلم لنفسه ، ونص على أنه صفة له في نص كتابه.

والقسم الآخر : علم الخلق. وهو ينقسم قسمين : فقسم منه علم اضطرار ، والآخر علم نظر واستدلال : فالضروري ما لزم أنفس الخلق لزوما لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه ؛ نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس ، وما ابتدئ في النفس من الضرورات.

والنظري منهما : ما احتيج في حصوله إلى الفكر والروية ، وكان طريقه النظر والحجة. ومن حكمه جواز الرجوع عنه والشك في متعلقه.

وجميع العلوم الضرورية تقع للخلق من ستة طرق : فمنها : درك الحواس الخمس ، وهي : حاسة الرؤية ، وحاسة السمع ، وحاسة الذوق ، وحاسة الشم ، وحاسة اللمس وكل مدرك بحاسة من هذه الحواس من جسم ، ولون ، وكون ، وكلام ، وصوت ، ورائحة ، وطعم ، وحرارة ، وبرودة ، ولين ، وخشونة ، وصلابة ، ورخاوة فالعلم به يقع ضرورة. والطريق السادس : هو العلم المبتدأ في النفس ، لا عن درك ببعض الحواس ، وذلك نحو علم الإنسان بوجود نفسه ، وما يحدث فيها وينطوي عليها من اللذة ، والألم ، والغم ، والفرح ، والقدرة ، والعجز ، والصحة ، والسقم. والعلم بأن الضدين لا يجتمعان ، وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق ، وكل معلوم بأوائل العقول ، والعلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر ، أو نخل ، وأن اللبن لا يكون إلا من ضرع وكل ما هو مقتضى العادات.

وكل ما عدا هذه العلوم وهو علم استدلال لا يحصل إلا عن استئناف الذكر والنظر وتفكر بالنظر والعقل فمن جملة هذه الضرورات العلم بالضرورات الواقعة بأوائل العقول ، ومقتضى العادات التي لا تشارك ذوي العقول في علمها البهائم ، والأطفال والمنتقصون ؛ نحو العلم الواقع بالبديهة ، ومتضمن كثير من العادات ، ونحو العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الضدين لا يجتمعان ، وأمثال ذلك من موجب العادات وبداءة العقول التي لا يخص بعلمها العاقلون.

٣ ـ وأن يعلم أن الاستدلال هو : نظر القلب المطلوب به علم ما غاب عن الضرورة والحس ، وأن الدليل هو : ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يعلم باضطراره ، وهو على ثلاثة أضرب : عقلي : له تعلق بمدلوله ، نحو دلالة

الفعل على فاعله ، وما يجب كونه عليه من صفاته. نحو حياته ، وعلمه ، وقدرته ، وإرادته. وسمعي شرعي : دال من طريق النطق بعد المواضعة ، ومن جهة معنى مستخرج من النطق ، ولغوي : دال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ، ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ ، وقد لحق بهذا الباب : دلالات الكتابات والرموز ، والإشارات والعقود ، الدالة على مقادير الأعداد ، وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق. والدال هو ناصب الدليل : فالمدلول هو ما نصب له الدليل. والمستدل الناظر في الدليل ، واستدلاله نظره في الدليل وطلبه به علم ما غاب عنه.

٤ ـ وأن يعلم أن المعلومات على ضربين : معدوم وموجود ، لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما. فالمعدوم : هو المنتقى الذي ليس بشيء. قال الله عزوجل : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) [مريم : ٩] وقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١)) [الإنسان : ١] فأخبر أن المعدوم منتف ليس بشيء ، والموجود هو الشيء الكائن الثابت. وقولنا «شيء» إثبات ، وقولنا «ليس بشيء» نفي. قال الله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩] وهو سبحانه موجود غير معدوم.

وقول أهل اللغة : علمت شيئا ، ورأيت شيئا ، وسمعت شيئا ، إشارة إلى كائن موجود ، وقولهم : ليس بشيء هو واقع على نفي المعدوم ، ولو كان المعدوم شيئا كان القول ليس بشيء نفيا لا يقع أبدا إلا كذبا ، وذلك باطل بالاتفاق.

٥ ـ وأن يعلم أن الموجودات كلها على قسمين. منها : قديم لم يزل وهو الله تعالى ، وصفات ذاته التي لم يزل موصوفا بها ولا يزال كذلك. وقولهم : «أقدم ، وقديم» موضع للمبالغة في الوصف بالتقدم وكذلك أعلم وعليم ، وأسمع وسميع.

والقسم الثاني : محدث ، لوجوده أول ، ومعنى المحدث ما لم يكن ثم كان ، مأخوذ ذلك من قولهم : حدث بفلان حادث. من مرض ، أو صداع ؛ وأحدث بدعة في الدين ، وأحدث روشنا ، وأحدث في العرصة بناء ، أي فعل ما لم يكن من قبل موجودا.

٦ ـ وأن يعلم أن المحدثات كلها على ثلاثة أقسام : جسم ، وجوهر ، وعرض. فالجسم في اللغة هو : المؤلف المركب. يدل على ذلك قولهم : رجل جسيم وزيد أجسم من عمرو ، وهذا اللفظ من أبنية المبالغة ، وقد اتفقوا على أن معنى المبالغة في الاسم مأخوذ من معنى الاسم ؛ يبين ذلك أن قولهم : «أضرب» إذا أفاد كثرة الضرب

كان قولهم : ضارب مفيدا للضرب ، وكذلك إذا كان قولهم : المؤلف المركب مفيدا كثرة الاجتماع والتأليف ، وجب أن يكون قولهم جسم مفيدا كذلك.

والجوهر : الذي له حيز. والحيز هو المكان أو ما يقدر تقدير المكان عن أنه يوجه فيه غيره.

والعرض : هو الذي يعرض في الجوهر ، ولا يصح بقاؤه وقتين ، يدل على ذلك قولهم : «عرض لفلان عارض من مرض ، وصداع» إذا قرب زواله ، ولم يعتقد دوامه. ومنه قوله عزوجل : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] وقوله : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] فكل شيء قرب عدمه وزواله ، موصوف بذلك ، وهذه صفة المعاني القائمة بالأجسام ، فوجب وصفها في قضية العقل بأنها أعراض.

٧ ـ وأن يعلم أن العالم محدث ، وأنه لا ينفك علويه وسفليه من أن يكون جسما مؤلفا ، أو جوهرا منفردا ، أو عرضا محمولا. وهو محدث بأسره. وطريق العلم بحدوث أجسامه وحدوث أعراضه. والدليل على ثبوت أعراضه : تحرك الجسم بعد سكونه ، وتفرقه بعد اجتماعه ، وتغير حالاته ، وانتقال صفاته ، فلو كان متحركا لنفسه ، ومتغيرا لذاته لوجب تركه في حال سكونه ، وتغيره واستحالته في حال اعتداله ، وفي بطلان ذلك دليل على إثبات حركته ، وسكونه ، وألوانه ، وأكوانه ، وغير ذلك من صفاته ، لأنه إذا لم يكن كذلك لنفسه وجب أن يكون لمعنى ما تغير عن حاله واستحال عن وصفه.

والدليل على حدوث هذه الأعراض : ما هي عليه من التنافي والتضاد ، فلو كانت قديمة كلها لكانت لم تزل موجودة ، ولا تزال كذلك ، ولوجب متى كانت الحركة في الجسم أن يكون السكون فيه ، وذلك يوجب كونه متحركا في حال سكونه ، وميتا في حال حياته ، وفي بطلان ذلك دليل على طروق السكون بعد أن لم يكن ، وبطلان الحركة عند مجيء السكون ، والطارئ بعد عدمه ، والمعدوم بعد وجوده محدث باتفاق ؛ لأن القديم لا يحدث ولا يعدم ، ولا يبطل.

والدليل على حدوث الأجسام : أنها لم تسبق الحوادث ، ولم تخل منها ، لأننا باضطرار نعلم : أن الجسم لا ينفك من الألوان ، ومعاني الألوان من الاجتماع والافتراق ، وما لا ينفك من المحدثات ، ولم تسبقه كان محدثا. لأنه إذا لم يسبقه كان موجودا معه في وقته أو بعده ، وأي ذلك وجد وجب القضاء على حدوثه ، وأنه معدوم قبل وجوده.

٨ ـ وأن يعلم أن للعالم محدثا أحداثه. والدليل على ذلك وجود الحوادث متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر ، ولا يجوز أن يكون ما تقدم منها وتأخر متقدما ومتأخرا لنفسه ، لأنه ليس التقدم بصحة تقدمه أولى من التأخر بصحة تأخره ، فوجب أن يدل على فاعل فعله ، وصرفه في الوجود على إرادته وجعله مقصورا على مشيئته ، يقدم منها ما شاء ويؤخر ما شاء. قال الله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النّحل : ٤٠] ويدل على علمنا بتعلق الفعل بالفاعل في كونه فعلا كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بالفعل ، فإن تعلق الكتابة ، والصناعة بالكاتب والصانع كتعلق الكاتب في كونه كاتبا بالكتابة ؛ فلو جاز وجود فعل لا من فاعل ، وكتابه لا من كاتب وصورة وبنية محدثة لا من مصور ، لجاز وجود كاتب لا كتابة له ، وصانع لا صنعة له ، فلما استحال ذلك وجب أن يكون اقتضاء الفعل للفاعل ودلالته عليه كاقتضاء الفاعل في كونه فاعلا. لوجود الفعل وحصوله منه ، ومن صفات هذا الصانع تعالى أنه : موجود ، قديم ، واحد ، أحد ، حي ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلم ، سميع ، بصير ، باق (١) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] وسندل على ذلك فيما بعد إن شاء الله بعد البداية بفرائض المكلفين ، وشرائع المسلمين مما يقرب فهمه ولا ينبغي جهله ، ولا بد للمكلف من علمه والعمل [به] فإذا أتينا على هذه الجملة رجعنا إلى القول في التوحيد ، وإثبات أسماء الله تعالى وصفاته ، وذكر ما يجوز عليه وما يستحيل في صفته ، وما توفيقي إلا بالله.

٩ ـ وأن يعلم : أن أول نعم الله تعالى على خلقه الحيّ الدرّاك خلقه فيهم إدراك اللذات ، وسلامة الحواس ، ونيل ما ينتفعون به من الشهوات التي تميل إليها طباعهم ، وتصلح عليها أجسامهم ، ولو أحياهم ، وآلمهم ومنعهم إدراك اللذات لكانوا مستضرين بالآلام ، وبمثابة الأحياء المعذبين من أهل النار ، وهذه نعمة الله سبحانه على جميع الحيوان الحاس ، العاقل منهم والناقص ، والمؤمن والكافر.

١٠ ـ وأن يعلم أن أفضل وأعظم نعمة الله على خلقه الطائعين وعباده المؤمنين خلقه الإيمان في قلوبهم ، وإجراؤه على ألسنتهم ، وتوفيقهم لفعله ، وتمكينهم بالتمسك به. وخلق الإيمان ، والتوفيق له نعمة خصّ الله تعالى بها المؤمنين دون الكافرين ، ولذلك قال عزوجل : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) [البقرة :

__________________

(١) والبقاء ليس صفة حقيقة عند الباقلاني بل هو دوام الوجود (ز).

٦٤](وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النّساء : ٨٣](وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النّور : ٢١] وقال عزوجل : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] وقال تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الحجرات : ١٧] فلو كانت هذه النعمة له على الكافرين لم يكن لتخصيصه بها المؤمنين وامتنانه على المؤمنين وجه ، إذ كان قد أنعم بها على المردة والكفرة الضالين.

١١ ـ وأن يعلم : أن طرق المباين عن الأدلة التي يدرك بها الحق والباطل خمسة أوجه : (١) كتاب الله عزوجل و (٢) سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (٣) إجماع الأمة و (٤) ما استخرج من هذه النصوص وبنى عليها بطريق القياس والاجتهاد ، و (٥) حجج العقول. قال الله تعالى آمرا باتباع كتابه والرجوع إلى بيانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [محمّد : ٢٤] وقال عزوجل : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النّساء : ٨٢] وقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] وقال سبحانه : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النّحل : ٨٩] و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨].

وقال عزوجل في الأمر باتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤)) [النّجم : ٣ ، ٤] وقال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النّور : ٦٣].

وقال سبحانه في وصف عدالة أمة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر باتباعها ، والتحذير من مخالفتها : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] وقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠] وقال : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)) [النّساء : ١١٥].

وقال في الأمر بالقياس والحكم بالنظائر والأمثال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] وقال : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النّساء : ٨٣] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقاضيه معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أنفذه إلى اليمين لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق : «بم تحكم؟ قال : بكتاب الله عزوجل. قال :

فإن لم تجد؟ قال : بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي وأحكم. فقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله لما يرضي الله ورسوله». فأقره على الحكم والاجتهاد وجعله أحد طرق الأحكام.

وقال عزوجل في الأمر باتباع حجة العقل : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)) [الذّاريات : ٢١] وقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)) [الواقعة : ٥٨ ، ٥٩] وقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)) [آل عمران : ١٩٠] وقال : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)) [يس : ٧٨ ، ٧٩] وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : ٢٧] فأمرنا بالاعتبار والاستبصار ورد الشيء إلى مثله أو الحكم له بحسب نظيره ، وهذا هو الحكم ، المعقول والتقاضي إلى أدلة العقول.

١٢ ـ وأن يعلم : أن فرائض الدين وشرائع المسلمين ، وجميع فرائض المسلمين وسائر المكلفين على ثلاثة أقسام : فقسم منها : يلزم جميع الأعيان وكل من بلغ الحلم وهو : الإيمان بالله عزوجل ، والتصديق له ، ولرسله ، وكتبه ، وما جاء من عنده ، والعبادات على كل مكلف بعينه ، من نحو الصلاة ، والصيام ، وما سنذكره ونفصله فيما بعد إن شاء الله.

والقسم الثاني : واجب على العلماء دون العامة ، وهو القيام بالفتيا في أحكام الدين ، والاجتهاد ، والبحث عن طرق الأحكام ، ومعرفة الحلال والحرام ، وهذا فرض على الكفاية دون الأعيان ، فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة وكذلك القول في حفظ جميع القرآن ، وما تنفذ به الأحكام من سنن الرسول عليه‌السلام ، وغسل الميت ، ومواراته ، والصلاة عليه ، والجهاد ، ودفع العدو ، وحماية البيضة وما جرى مجرى ذلك مما هو فرض على الكفاية. فإذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة.

والقسم الثالث : من الواجبات من فرائض السلطان دون سائر الرعية : نحو إقامة الحدود ، واستيفاء الحقوق ، وقبض الصدقات ، وتولية الأمراء ، والقضاة ، والسعاة ، والفصل بين المتخاصمين ، وهذا وما يتصل به من فرائض الإمام وخلفائه على هذه الأعمال دون سائر الرعية والعوام وليس في فرائض الدين ما يخرج عما وصفناه ويزيد على ما قلناه.

١٣ ـ وأن يعلم : أن أول ما فرض الله عزوجل على جميع العباد. النظر في آياته ، والاعتبار بمقدوراته ، والاستدلال عليه بآثار قدرته وشواهد ربوبيته ؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار ، ولا مشاهد بالحواس ، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة ، والبراهين الباهرة.

والثاني : من فرائض الله عزوجل على جميع العباد ؛ الإيمان به والإقرار بكتبه ورسله ، وما جاء من عنده ، والتصديق بجميع ذلك بالقلب والإقرار به باللسان.

١٤ ـ وأن يعلم : أن الإيمان بالله عزوجل هو : التصديق بالقلب ، بأن الله الواحد ، الفرد ، الصمد ، القديم ، الخالق ، العليم ، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

والدليل على أن الإيمان هو الإقرار بالقلب والتصديق ؛ قوله عزوجل : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧] يريد بمصدق لنا. ومنه قوله عزوجل : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) [غافر : ١٢] أي تصدقوا. ويقال فلان يؤمن بالله وبالبعث ؛ أي يصدق بذلك. وكذلك قولهم : فلان يؤمن بالشفاعة والقدر ، وفلان لا يؤمن بذلك ، يعني به التصديق ، وينفي الإيمان به التكذيب. وقد اتفق أهل اللغة قبل نزول القرآن وبعث الرسول عليه‌السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب.

والإيمان بالله تعالى يتضمن التوحيد له سبحانه ، والوصف له بصفاته ، ونفي النقائص عنه الدالة على حدوث من جازت عليه.

والتوحيد له هو : الإقرار بأنه ثابت موجود ، وإله واحد فرد معبود ليس كمثله شيء ؛ على ما قرر به قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)) [البقرة : ١٦٣] وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

وأنه الأول قبل جميع المحدثات. الباقي بعد المخلوقات ، على ما أخبر به تعالى من قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)) [الحديد : ٣] والعالم الذي لا يخفى عليه شيء والقادر على اختراع كل مصنوع ، وإبداع كل جنس مفعول ، على ما أخبر به في قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢](وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٢٠].

وأنه الحيّ الذي يموت ، والدائم الذي لا يزول ، وأنه إله كل مخلوق ، ومبدعه ومنشئه ، ومخترعه ، وأنه لم يزل [مسميا] لنفسه [بأ] سمائه ، وواصفا لها بصفاته ، قبل

إيجاد خلقه ، وأنه قديم بأسمائه وصفات ذاته ، التي منها : الحياة التي بها بان من الموت والأموات ، والقدرة التي أبدع بها الأجناس والذوات ، والعلم الذي أحكم به جميع المصنوعات ، وأحاط بجميع المعلومات ، والإرادة التي صرف بها أصناف المخلوقات. والسمع والبصر اللذان أدرك بهما جميع المسموعات والمبصرات ، والكلام الذي به فارق الخرس والسكوت وذوي الآفات ، والبقاء الذي به سبق المكونات ، ويبقى به بعد جميع الفانيات ، كما أخبر سبحانه في قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [الأعراف : ١٨٠] وقوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النّساء : ١٦٦](وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فاطر : ١١] وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصّلت : ١٥] وقوله : (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذّاريات : ٥٨] فنصّ تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته ، وأخبره أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات ، كما قال عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) [الرّحمن : ٢٧] واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن ، في قوله عزوجل : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] وقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] وأنهما ليستا بجارحتين ، ولا ذوي صورة وهيئة ، والعينين (١) اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه‌السلام ، فقال عزوجل : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] وأن عينه ليست بحاسة من الحواس ، ولا تشبه الجوارح والأجناس ، وأنه سبحانه لم يزل مريدا وشائيا ، ومحبا ومبغضا ، وراضيا ، وساخطا ، ومواليا ، ومعاديا ، ورحيما ، ورحمانا. ولأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشيئته ، لا إلى غضب بغيره. ورضى يسكنه طبعا له ، وحنق وغيظ يلحقه ، وحقد يجده ، إذا كان سبحانه متعاليا عن الميل والنفور.

وأنه سبحانه راض في أزله عمن علم أنه بالإيمان يختم عمله ويوافي به. وغضبان على من علم أنه بالكفر يختم عمله ويكون عاقبة أمره ، وقد قال تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] و (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النّحل :

__________________

(١) وتثنية العين لم ترد في الكتاب ، وحديث الدجال ليس فيه إلا نفي النقص من الله سبحانه لا إثبات العينين له مع كونه خبر آحاد فيتعين الاقتصار على ما ورد في الكتاب وهو ما في الآيتين وإلا يكون في الأمر فتح باب التشبيه (ز).

٤٠] وقال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩](وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] في أمثال هذه الآيات الدالة على أنه شاء مريد ، وأن الله جلّ ثناؤه مستو على العرش ، ومستول على جميع خلقه كما قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] بغير مماسة وكيفية ، ولا مجاورة ، وأنه في السماء إله وفي الأرض إله كما أخبر بذلك.

وأنه سبحانه يتجلى لعباده المؤمنين في المعاد ، فيرونه بالأبصار ، على ما نطق به القرآن في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وتأكيده كذلك بقوله في الكافرين : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) [المطفّفين : ١٥] تخصيصا منه برؤيته للمؤمنين ، والتفرقة فيما بينهم وبين الكافرين ، وعلى ما وردت به السنن الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أخبر به عن موسى عليه‌السلام ، في قوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ولو لا علمه بجواز الرؤية بالأبصار لما أقدم على هذا السؤال.

١٥ ـ وأن يعلم : مع كونه تعالى سميعا بصيرا : أنه مدرك لجميع المدركات التي يدركها الخلق : من الطعوم ، والروائح ، واللين ، والخشونة ، والحرارة ، والبرودة ؛ بإدراك معين ، وأنه مع ذلك ليس بذي جوارح وحواس توجد بها هذه الإدراكات.

فتعالى [الله] عن التصوير والجوارح ، والآلات.

١٦ ـ وأن يعلم : أنه مع إدراك سائر الأجناس [من] المدركات وجميع الموجودات ، غير ملتذ ولا متألم بإدراك شيء منها ، ولا مشقة [له منها] ولا نافر عنها ، ولا منتفع بإدراكها [ولا متضرر] بها. ولا يجانس شيئا منها ، ولا يضادها ، وإن كان مخالفا لها.

١٧ ـ وأن يعلم : أنه سبحانه ليس بمغاير لصفات ذاته ، وأنها في أنفسها غير متغايرات ؛ إذ كان حقيقة الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر بالزمان ، والمكان والوجود والعدم. وأنه سبحانه يتعالى عن المفارقة لصفات ذاته ، وأن توجد الواحدة منها مع عدم الأخرى.

١٨ ـ وأن يعلم : أن صفات ذاته [هي التي] لم تزل ، ولا يزال موصوفا بها. وأن صفات أفعاله هي التي سبقها ، وكان تعالى موجودا في الأزل قبلها.

ونعتقد أن مشيئة الله تعالى ومحبته ورضاه ورحمته وكراهيته وغضبه وسخطه وولايته وعداوته [كلها] راجع إلى إرادته ، وأن الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة ، لا على

ما يقوله القدرية ، وأنه مريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه مما يتفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده ، وما يجعله منه كسبا لعباده ، من خير ، وشر ، ونفع ، وضر ، وهدى ، وضلال ، وطاعة ، وعصيان ، لا يخرج حادث عن مشيئته. ولا يكون إلا بقضائه وإرادته.

١٩ ـ وأن يعلم : أن كلام الله تعالى صفة لذاته لم يزل ولا يزال موصوفا به وأنه قائم به ومختص بذاته ، ولا يصح وجوده بغيره ، وإن كان محفوظا بالقلوب ومتلوا بالألسن ، ومكتوبا في المصاحف ، ومقروءا في المحاريب ، على الحقيقة لا على المجاز (١) وغير حال في شيء من ذلك ، وأنه لو حلّ في غيره لكان ذلك الغير متكلما به ، وآمرا وناهيا.

ومخبرا وقائلا : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : ١٤] وذلك خلاف دين المسلمين ، وأن كلامه سبحانه لا يجوز أن يكون جسما من الأجسام ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، وأنه لو كان كذلك لكان من جنس كلام البشر ، ومحدثا كهو : يتعالى الله سبحانه أن يتكلم بكلام المخلوقين.

٢٠ ـ [وأن] يعلم : أن كلامه مسموع بالآذان ، وإن كان مخالفا لسائر اللغات ، وجميع الأصوات ، وأنه ليس من جنس المسموعات ، كما أنه [مرئي] بالأبصار ، وإن كان مخالفا لأجناس المرئيات ، وكما أنه موجود مخالف لسائر الحوادث الموجودات ، وأن سامع كلامه منه تعالى بغير واسطة ولا ترجمان. كجبريل ، وموسى ، ومحمد عليهم‌السلام حق ، سمعه من ذاته غير متلو ولا مقروء ، ومن عداهم ممن يتولى الله خطابه بنفسه إنما يسمع كلامه متلوا ومقروءا ، وكذلك قال الله عزوجل : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النّساء : ١٦٤] وقال : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : ٢٥٣] وأن قراءتنا القرآن كسب لنا نثاب عليها ، ونلام على تركها إذ وجبت علينا في الصلوات. وأنه لا

__________________

(١) لأن القرآن يطلق على ما قام بالله من الألفاظ العلمية الغيبية ـ وهو غير مخلوق وغير حال في مخلوق ـ وعلى المكتوب بين الدفتين وعلى المحفوظ في القلوب من الألفاظ الذهنية ، وعلى الملفوظ بالألسن على سبيل الاشتراك اللفظي عنده ، والقرينة هي التي تعين المراد منها في كل موضع ، وما سوى الأول مخلوق ، وهذا البحث أنضج عند المتأخرين من أئمة الأشاعرة ، والتحقيق : أن وصف القرآن بما سوى الأول وصف للمدلول بصفة الدال ، كما في شرح المقاصد (ز).

يجوز أن يحكى كلام الله عزوجل ولا أن يلفظ به (١) لأن حكاية الشيء مثله وما يقاربه وكلام الله تعالى لا مثل له من كلام البشر ، ولا يجوز أن يلفظ به بتكلم الخلق لأن ذلك يوجب كون كلام الله تعالى قائما بذاته قديم ومحدث وذلك خلاف الإجماع والمعقول ، وأن كلام الله تعالى غير متبعض ولا متغاير ، وأن الصفة هي ما قامت بالشيء وأن الوصف قول الواصف الدال على الصفة خلاف ما يذهب إليه القدرية.

وأنه مقدر لأرزاق جميع الخلق ، وموقّت لآجالهم ، وخالق لأفعالهم ، وقادر على مقدوراتهم ، وإله ورب لها. لا خالق غيره ، ولا رزّاق سواه ، كما أخبر تعالى في قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الرّوم : ٤٠] وقال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] وقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وقال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠)) [النّحل : ٢٠].

وأن بيده الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، وأنه مقدّر جميع الأفعال ، لا يكون حادث إلا بإرادته ، ولا يخرج مخلوق عن مشيئته ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وأنه فعال لما يريد ، وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه ، كما قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) [الأعراف : ١٧٨](مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦].

وأنه موفق أهل محبته وولايته لطاعته ، وخاذل لأهل معصيته ، فدلّ ذلك كله [على] تدبيره وحكمته ، وأنه عادل [في] خلقه بجميع ما يبتليهم به ويقضيه عليهم من خير ، وشر ، ونفع ، وضر ، وغنى ، وفقر ، ولذة ، وألم ، وصحة ، وسقم ، وهداية ، وضلال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء : ٢٣](قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)) [الأنعام : ١٤٩].

وأنه سبحانه يعيد العباد ، ويحيي الأموات ، وأنه يقصد يوم القيامة لفصل القضاء ، ويجيء الملائكة صفا صفا ، و [يمد] الصراط ، ويزن الأعمال ، وأنه سبحانه قد خلق الجنة والنار.

__________________

(١) يعني لا يجوز أن يقال حكى كلام الله أو لفظ به في صدد الإفادة عن قراءته وتلاوته ، لأن الحكاية توهم المحاكاة وفيها شائبة المماثلة وهو سبحانه منزّه عنها ، وكذا اللفظ والتكلم بكلام الله لإيهام ذلك المشاركة ، تعالى الله عن ذلك ، على أن تلك العبارات مما لم يرد إذن من الشارع في إطلاقها على كلام الله (ز).

وما لا يتأتى الواجب إلا بفعله صار واجبا ؛ كالطهارة مع الصلاة ، والقراءة في الصلاة ، وإمساك جزء من الليل في الصيام ، وإدخال جزء من الرأس في غسل الوجه ، إلى غير ذلك مما لا يمكن تحصيل الواجب إلا به صار واجبا.

مسألة

وإذا صحّ وجوب النظر فالواجب على المكلف النظر والتفكر في مخلوقات الله ، لا في ذات الله ، والدليل عليه قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٩١] ولم يقل : في الخالق ، وأيضا قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)) [الغاشية : ١٧] فالنظر ، والتفكر ، والتكييف يكون في المخلوقات ، لا في الخالق ، وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفكروا في الله» (١) وأيضا قوله عليه‌السلام : «مثل الناظر في [قدر] (٢) الله كالناظر في عين الشمس ، فمهما ازداد نظرا ازداد حيرة». وأيضا : فإن موسى عليه‌السلام لما سأله اللعين فرعون عن ذات الله ، أجابه بأن مصنوعاته تدل على أنه إله ورب قادر ، لا إله سواه. إذا نظر فيها وتأمل ولم يحدد له الذات فلا يكفيها ؛ لأنه لما قال له : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : ٢٣] قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) [مريم : ٦٥] إلى أن كرر عليه السؤال وأجابه بمثل الأول ، إلى آخر الآيات (٢٥ ـ ٢٦ و ٢٨) كلها ، فمهما سأله عن الذات أجابه بالنظر في المصنوعات التي تدل على معرفته.

وقيل : سئل بعض أهل التحقيق عن الله عزوجل ما هو؟ فقال : إله واحد. فقيل له : كيف هو؟ فقال : ملك قادر ، فقيل له : أين هو؟ فقال : بالمرصاد. فقال السائل : ليس عن هذا أسألك؟ فقال : الذي أجبتك به هو صفة الحق ، فأما غيره فصفة الخلق. وأراد بذلك أن يسأله عن التكييف ، والتحديد ، والتمثيل ، وذلك صفة المخلوق لا صفة الخالق ، ولأن المتفكر إذا تفكر في خلق السموات والأرض وخلق نفسه وعجائب صنع ربه ، أدّاه ذلك إلى صريح التوحيد ؛ لأنه يعلم بذلك أنه لا بد لهذه المصنوعات من صانع ، قادر ، عليم ، حكيم (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية واللالكائي في شرح السنة بألفاظ متقاربة في المعنى (ز).

(٢) هكذا في الأثر ولم نجده مرفوعا فإذا كان النظر في قدر الله موجبا للحيرة فبالحري كون النظر في الله موجبا للحيرة ممنوعا (ز).

مسألة

ويجب أن يعلم : أن العالم محدث ؛ وهو عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى ، والدليل على حدوثه : تغيره من حال إلى حال ، ومن صفة إلى صفة ، وما كان هذا سبيله ووصفه كان محدثا ، وقد بيّن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا بأحسن بيان يتضمن أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة ، لما قالوا له : يا رسول الله : أخبرنا عن بدء هذا الأمر؟ فقال : «نعم. كان الله تعالى ولم يكن شيء ، ثم خلق الله الأشياء» فأثبت أن كل موجود سواه محدث مخلوق. وكذلك الخليل عليه‌السلام ، إنما استدل على حدوث الموجودات بتغيرها وانتقالها من حالة إلى حالة ؛ لأنه لما رأى الكوكب قال : هذا ربي ، إلى آخر الآيات (٦ ـ ٧٦ ـ ٧٩) فعلم أن هذه لما تغيرت وانتقلت من حال إلى حال دلت [على زنها] محدثة مفطورة مخلوقة ، وأن لها خالقا ، فقال عند ذلك : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩].

مسألة

وإذا صحّ حدوث العالم ؛ فلا بد له من محدث أحدثه ، ومصوّر صوّره ، والدليل على ذلك : أن الكتابة لا بد لها من كاتب كتبها ، والصورة لا بد لها من مصوّر صوّرها ، والبناء لا بد له من بان بناه. فإنا لا نشك في جهل من أخبرنا بكتابة حصلت بنفسها لا من كاتب ، وصناعة لا من صانع ، وحياكة لا من ناسج. وإذا صحّ هذا وجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها ، ومحدث أحدثها ، إذ كانت ألطف وأعجب صنعا من سائر ما يتعذر وجوده إلا من صانع.

دليل ثان : ويدل على ذلك أيضا : علمنا بتقدم الحوادث بعضها على بعض ، وتأخر بعضها عن بعض ، مع علمنا بتجانسها وتشاكلها ، فلا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدما لنفسه ؛ لأنه لو تقدم لنفسه لوجب تقديم كل ما هو من جنسه معه ، وكذلك المتأخر منها ، لو تأخر لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم أولى منه بالتأخر ، وفي علمنا بأن المتقدم من المتماثلات بالتقدم أولى منه بالتأخر ، دليل على أن له مقدما قدّمه ، وعاجلا عجّله في الوجود ، مقصورا على مشيئته.

ويدل على صحة ذلك أيضا : علمنا بأن الصور الموجودة ؛ منها ما هو مربّع ، ومنها ما هو مدوّر ، ومنها شخص أطول من شخص ، وآخر أعرض من آخر ؛ مع تجانسها ، ولا يجوز أن يكون المربّع منها ربّع نفسه ، ولا المطوّل منها طوّل نفسه ،

ولا القبيح منها قبّح نفسه ، ولا الحسن منها حسّن نفسه ، فلم يبق إلا أن لها مصوّرا صوّرها ؛ طويلة ، وقصيرة ، وقبيحة ، وحسنة ، على حسب إرادته ومشيئته.

ويدل على صحة ما ذكرناه : أن الموجودات لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها ، أنا وجدنا منها الموات والأعراض ، أعني الجمادات التي لا حياة فيها ، لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها ولا لغيرها ، لأن من شرط الفاعل أن يكون حيا ، قادرا ، فبطل كونها محدثة لنفسها بل لها محدث أحدثها.

ويدل على صحة ذلك أيضا : أنا وجدنا أنفس الموجودات في العالم ، الحيّ القادر العاقل المحصل ، وهو الآدمي ، ثم أكمل ما تكون. تعلم وتحقق أنه كان في ابتداء أمره نطفة ميتة ، لا حياة فيها ولا قدرة ، ثم نقل إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم من حال إلى حال ، ثم بعد خروجه حيا من الأحشاء إلى الدنيا. تعلّم وتحقّق أنه كان في تلك الحالة جاهلا بنفسه وتكييفه ، وتركيبه ، ثم بعد كمال عقله وتصوره وحذقه وفهمه لا يقدر في حال كماله أن يحدث في بدنه شعرة ولا شيئا ، ولا عرقا فكيف يكون محدثا لنفسه ومنقلا (١) لها في حال نقصه من صورة إلى صورة ومن حالة [إلى حالة] وإذا بطل ذلك منه في حال كماله كان أولى أن يبطل ذلك منه في حال نقصه ، ولم يبق إلا أن له محدثا أحدثه ، ومصورا صوّره ومنقلا نقله ؛ وهو الله سبحانه وتعالى.

مسألة

وإذا ثبت أن للعالم صانعا صنعه ، ومحدثا أحدثه ، فيجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون مشبها للعالم المصنوع المحدث ؛ لأنه لو جاز ذلك لم يخل : إما أن يشبهه في الجنس ، أو في الصورة ، ولا يجوز أن يكون مشبها له في الجنس ؛ لأنه لو أشبهه في الجنس لجاز أن يكون محدثا كالعالم المحدث ، أو يكون العالم قديما كهو. لأنه حقيقة المشتبهين المتجانسين : ما سدّ أحدهما مسد الآخر وناب منابه ، وجاز عليه ما يجوز عليه ، ولا يجوز أن يكون يشبه العالم في الصورة لأن حقيقة الصورة هي الجسم المؤلف ، والتأليف لا يكون إلا من شيئين فصاعد ؛ ولأنه لو كان صورة لا تحتاج إلى مصوّر صوّره ، لأن الصورة لا تكون إلا من مصوّر على ما قدّمنا بيانه ،

__________________

(١) هكذا في الأصل وهو بصيغة اسم الفاعل من التفعيل أي ناقلا لها ومصلحا من حال إلى حال (ز).

وقد بيّن ذلك تعالى بأحسن بيان فقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧] وقد سئل بعض أهل التحقيق عن التوحيد ما هو؟ فقال : هو أن تعلم أنه ما باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم.

وقال الجنيد رضي الله عنه : التوحيد إفراز القوم عن الحدوث ، فاحكموا أصول العقائد بواضح الدليل ولائح الشواهد.

وقال أبو محمد الحريري رضي الله عنه : من لم يقف على علم التوحيد يشاهده من شواهده ، زلّت به قدم الغرور في مهواة التلف.

وقال الجنيد : أول ما يحتاج إليه المكلف من عقد الحكمة : أن يعرف الصانع من المصنوع ، فيعرف صفة الخالق من المخلوق ، وصفة القديم من المحدث.

وسئل أبو بكر الزاهد رضي الله عنه عن المعرفة ما هي؟ فقال : المعرفة اسم ومعناه : وجود تعظيم في القلب ، يمنعك عن التعطيل والتشبيه.

وقيل لأبي الحسن البوشنجي : ما التوحيد؟ فقال : أن تعلم أنه غير مشبه بالذوات ولا بنفي الصفات.

مسألة

وإذا ثبت أن صانع الموجودات ومحدثها لا يجوز أن يكون يشبهها ، فيجب أن تعلم أن محدث العالم قديم ، أزلي لا أول لوجوده. ولا آخر لدوامه. والدليل على صحة ذلك : أنه لو لم يكن قديما كما ذكرنا لكان محدثا ، ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث أحدثه ؛ لأن غيره من الحوادث إنما احتاجت إلى محدث لأنها محدثة. ولو كان ذلك كذلك لاحتاج كل محدث إلى محدث آخر ، إلى ما لا نهاية له ولا غاية ، ولمّا بطل ذلك صحّ كونه قديما أزليا.

وبمثل هذا الدليل : يستدل على بطلان قول من زعم من أهل الدهر أن الحوادث لا أول لوجودها ، فافهمه ترشد ، إن شاء الله تعالى.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن صانع العلم جلّت قدرته واحد أحد ؛ ومعنى ذلك : أنه ليس معه إله سواه ، ولا من يستحق العبادة إلا إياه ، ولا نريد بذلك أنه واحد من [جهة العدد] وكذلك قولنا أحد ، وفرد وجود ذلك إنما نريد به أنه لا شبيه له ولا

نظير ، ونريد بذلك أن ليس معه من يستحق الإلهية سواه ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النّساء : ١٧١] ومعناه : لا إله إلا الله.

والدليل على أن صانع العالم على ما قررناه : قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] والدليل المعقول مستنبط من هذا النص المنقول ، فإنا نرى الأمور تجري على نمط واحد ، في السموات والأرض وما فيهما من شمس وقمر وغير ذلك. ولو كانا اثنين أو أكثر فلا بد أن يجري خلاف أو تغير من أحدهما على الآخر ، وقد بيّنه سبحانه وتعالى فقال : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤٣) [الإسراء : ٤٢ ، ٤٣].

وأيضا : فلو جاز أن يكونا اثنين أو أكثر فيريد أحدهما شيئا ويريد الآخر ضده ، فلا يخلو أن يتم مرادهما ، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر ، ولا يجوز أن يتم مرادهما ؛ لأن في إتمام مراد أحدهما عجز الآخر ، لأنه تم ما لا يريد ، وفي ذلك تعجيز لكل واحد منهما ؛ لأنه تم ما لا يتم مراد واحد منهما ، فقد ثبت عجزهما أيضا. ومن يكون عاجزا فليس بالإله ، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر ؛ فالذي تم مراده هو الإله ، والذي لم يتم عاجز ليس بالإله ، فلم يكن إلا إله واحد كما ذكرنا.

فإن قيل : فيجوز أن يختلفا في الإرادة. قلنا : هذا القول يؤدي إلى أحد أمرين :

إما أن يكون ذلك القول أحدهما للآخر لا ترد إلا ما أريد ، فيصير أحدهما آمرا والآخر مأمورا ، والمأمور لا يكون إلها ، والآمر على الحقيقة هو الإله ، أو يكون كل واحد منهما لا يقدر أن يريد إلا ما أراده الآخر ولو كان كذلك دل على عجزهما ؛ إذ لم يتم مراد واحد منهما إلا بإرادة الآخر معه وإذا ثبت هذا بطل أن يكون الإله إلا واحدا على ما قررناه.

مسألة

ويجب أن يعلم أن الباري جلّت قدرته حيّ. وهذه المسألة أول مسائل قول الشيخ (١) «موصوف بما وصف به نفسه في كتابه ، وعلى لسان نبيه فنقول الباري يوصف بالحياة».

__________________

(١) أي أبا الحسن الأشعري ، وقوله هذا تتفرع عنه مسائل كما بسط المؤلف (ز).

والدليل عليه قوله تعالى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله تعالى :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨]. وأيضا : فإن الفعل يستحيل وجوده من الموات الذي لا حياة له ، والله تعالى فاعل الأشياء ومنشئها ، فوجب أن يكون حيا.

مسألة

ويجب أن يعلم : أنه تعالى قادر على جميع المقدورات.

والدليل عليه قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٢٠] ولأنا نعلم قطعا استحالة صدور الأفعال من عاجز لا قدرة له ، ولما ثبت أنه فاعل الأشياء ثبت أنه قادر.

مسألة

ويجب أن يعلم : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات.

والدليل عليه قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النّساء : ١٦٦] وقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)) [غافر : ١٩] وقوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [آل عمران : ٢٩] وقوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.

وأيضا : فيدل على أنه عالم : صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام وإحكام وإتقان ، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها ، ومن جوّز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخط ، كان عن المعقول خارجا ، وفي عمل الجهل والجا.

ويدل على صحة ذلك أيضا : أنه حي ، قادر ، عالم ، أنا لو جوّزنا صدور أفعال محكمة متقنة من غير حي ، عالم ، قادر ، لم ندر لعل جميع ما يظهر لنا من أفعال الناس من الكتابة والصناعة وسائر الصنائع لعلها لنا منهم وهم أموات عجزة جهلة ، ولعل لنا في هذه المسألة المناظر عليها ميت عاجز.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الله مريد على الحقيقة لجميع الحوادث ، والمرادات ، والدليل عليه قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ١٨٥] وقوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الأنفال : ٦٧] وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النّساء : ٢٨] وقد قيل في بعض الآثار : أنه تعالى يقول : يا ابن آدم ؛ تريد وأريد ، ولا يكون إلا ما أريد.

ويدل على أنه مريد من جهة العقل : ترتيب الأفعال واختصاصها بوقت دون وقت ، ومكان دون مكان ، وزمان دون زمان ، وكذلك يدل على أنه أراد أن يكون هذا قبل هذا ، وهذا بعد هذا ، وهذا على صفة ، والآخر على صفة غيرها ، وهذا من مكان ، وهذا من مكان آخر ، إلى غير ذلك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أنه سميع لجميع المسموعات ، بصير لجميع المبصرات.

والدليل عليه قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] وقوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)) [الزّخرف : ٨٠] وقوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)) [المجادلة : ١] وقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤)) [العلق : ١٤] وأيضا : فإنه لو لم يوصف بالسمع والبصر لوجب أن يوصف بضد ذلك ، من الصمم والعمى ، والله يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الله تعالى متكلم ، وأن كلامه غير مخلوق ولا محدث. والدليل عليه قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : ٢٥٣] وقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النّساء : ١٦٤] وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) [الأنعام : ١١٥]. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الخالق على المخلوق». ولا تصف ببداية ولا نهاية ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : «أعيذكما بكلمات الله التامة العامة». ومحال أن يعوّذ مخلوق بمخلوق ، فثبت أنه عوّذ مخلوقا بغير

مخلوق ، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. ولأنه لو لم يكن متكلما لوجب أن يوصف بضد الكلام ؛ من الخرس والسكوت والعيّ ، والله يتعالى عن ذلك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الله سبحانه باق. ومعنى ذلك : أنه دائم الوجود.

والدليل عليه قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن : ٢٧] يعني ذات ربك. وأيضا قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] يعني ذاته ، ولأنه قد ثبت قدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الباري عالم بعلم قديم متعلق بجميع المعلومات ، ولا يوصف علمه بأنه مكتسب ولا ضروري ، وأنه قادر بقدرة قديمة شاملة لجميع المقدورات ، مريد بإرادة قديمة متعلقة بجميع الكائنات سميع بسمع قديم متعلق بجميع المسموعات ، بصير ببصر قديم متعلق بجميع المبصرات ، متكلم وكلامه قديم متعلق بجميع المأمورات والمنهيات ، والمخبرات. فعلمه سبحانه وتعالى لا يوصف بالضرورة والكسب ؛ لأن ذلك صفات علم الخلق. وقدرته لا توصف بالاستطاعة ؛ لأن ذلك صفات الخلق ، وسمعه لا يوصف بأنه يقوم بالحواس كسمع الخلق ، وبصره لا يوصف بأنه يقوم بالآماق كبصر الخلق ، وكلامه لا يوصف بالجوارح والأدوات ؛ لأن ذلك صفات كلام الخلق. بل صفات ذاته قديمة أزلية ، لم يزل موصوفا بها ، ولا يزال كذلك ، لا تشبه بصفات المخلوقين ، ولا يقال إنها هو ولا غيره ، ولا صفاته متغايرة في أنفسها.

والدليل على هذه الجملة قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وقوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٣ ، ٤] فكما [أن] ذاته لا تشبه ذوات الخلق ، فكذلك علمه لا يشبه علم الخلق ، ولا يوصف بصفة علم الخلق ، وكذلك قدرته وإرادته : لا تشبه قدرة الخلق ولا إرادتهم ، ولا يوصف شيء من صفاته بصفات الخلق ، فاعلم ذلك وتحققه توفّق للصواب ، بمشيئة الله تعالى.

والدليل على أن صفاته لا يقال لها هي هو : أنها لو كانت هي هو لكانت خالقة فاعلة مثله ، فلا يجوز أن يقال هي هو. ويدل على صحة هذا المعنى قول عليّ

عليه‌السلام في القرآن : ليس بخالق ولا مخلوق. لأنه لو جعله خالقا كان إلها ثانيا مع الله ، ولو جعله مخلوقا لوجب أن يكون الباري موجودا بلا كلام ثم خلق كلامه بعد ، وذلك لا يصح ؛ لأن صفات ذاته قديمة بقدم ذاته.

فإن قيل : فليس ثم إلا خالق أو مخلوق. قلنا : نعم ولكن خالق [قديم بصفات ذاته ومخلوق حادث] بصفات ذاته التي توجد بعد أن لم تكن ، وتعدم بعد أن كانت ، وصفات القديم لا تتصف بوجود بعد عدم ، ولا بالعدم بعد الوجود ، وإنما قلنا إن صفات ذاته ليست بأغيار له ، ولا هو غير صفاته ، ولا صفاته متغايرة في أنفسها ؛ لأن حدّ الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر ؛ إما بزمان أو بمكان ، وهذا يستحيل تصويره في الله تعالى وصفات ذاته. فافهم وتزيد التحقيق ، وفّقنا الله وإياك وجميع المسلمين آمين يا رب العالمين.

مسألة

فإن قيل : قد أثبتم أنه حي عالم قادر سميع بصير متكلم ، أفتقولون : إنه يغضب ويرضى ، ويحب ، ويبغض ، ويوالي ، ويعادي ، وأنه موصوف بذلك؟ قيل لهم : أجل ، ومعنى وصفه بذلك : أن غضبه على من غضب عليه ، ورضاه عمن رضي عنه ، وحبه لمن أحب ، وبغضه لمن أبغض ، وموالاته لمن والى ، وعداوته لمن عادى. أن المراد بجميع ذلك : إرادته إثابة من رضي الله عنه وأحبه وتولاه. وعقوبة من غضب عليه وأبغضه وعاداه ، لا غير.

ويدل على هذه الجملة : أنه يوصف بالغضب ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) [النّساء : ٩٣] وقوله تعالى : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)) [النّور : ٩] إلى غير ذلك من الآيات.

ويدل على أنه يوصف بالحب : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : ٢٢٢] وقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] وقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٤] إلى غير ذلك.

ويدل على أنه يوالي : قوله تعالى : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٦٨] وقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى من آذى لي وليا» إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.

ويدل على أنه يعادي : قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٩٨] وقوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] إلى غير ذلك من الآيات والآثار.

ويدل أنه يبغض : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يبغضهم الله تعالى : شيخ زان ؛ وبائع حلّاف ؛ وفقير محتال».

مسألة

فإن قيل : فما الدليل على أن غضب الله سبحانه ورضاه ، ورحمته ، وسخطه ، وحبه وعداوته ، وموالاته وبغضه إنما هو إرادته لإثابة من رضي عنه وأحبه ووالاه ونفعه ، وأن غضبه ، وسخطه ، وبغضه ، وعداوته إنما هو إرادة عقاب من غضب عليه وسخط وعادى وإيلامه وضرره؟

قيل له :

الدليل على ذلك : أن الغضب والرضا ونحو ذلك لا يخلو ؛ إما أن يكون المراد به إرادته النفع والضرر فقط ، أو يكون المراد به نور الطبع وتغيره عند الغضب ، ورقته وميله وسكوته عند الرضا ، فلما لم يجز أن يكون الباري جلّت قدرته ذا طبع يتغير وينفر ، ولا ذا طبع يسكن ويرق ، وأن هذه من صفات المخلوقين ، وهو يتعالى عن جميع ذلك : ثبت أن المراد بغضه ، ورضاه ، ورحمته ، وسخطه إنما هو إرادته وقصده إلى نفع من كان في معلومه أنه ينفعه ، وضرر من سبق في علمه وخبره أنه يضره لا غير ذلك.

مسألة

فإن قيل : فهل يجوز أن يوصف بالشهوة؟ قيل له :

إن أراد السائل بوصفه بالشهوة إرادته لأفعاله فذلك صحيح من طريق المعنى غير أنه أخطأ وخالف الأمة في وصف القديم بالشهوة ؛ إذ لم يرد بذلك كتاب ولا سنة ، لأن أسماءه تعالى لا تثبت قياسا ، وهو معنى قول الشيخ رضي الله عنه : (مدخل للعقل والقياس في إيجاب معرفته ، وتسميته ، وإنما يعلم ذلك بفضله من جهته). يعني : إما بنص كتاب ، أو سنة. وإن أراد هذا السائل أن يصفه بالشهوة التي هي [شوق] النفس وميل الطبع إلى المنافع واللذات فذلك محال ممتنع على القديم سبحانه وتعالى ، بما قدمنا ذكره من قبل.

مسألة

ويجب أن يعلم : [أن كل ما] يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه.

فمن ذلك : أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات ، والاتصاف بصفات المحدثات ، وكذلك لا يوصف بالتحول ، والانتقال ، ولا القيام ، ولا القعود ؛ لقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٤] ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث ، والله تعالى يتقدس عن ذلك فإن قيل أليس قد قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] قلنا : بلى ، قد قال ذلك ، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة ، لكن ننفي عنه أمارة الحدوث ، وتقول : استواؤه لا يشبه استواء الخلق ، ولا نقول إن العرش له قرار ، ولا مكان ، لأن الله تعالى كان ولا مكان ، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان.

وقال أبو عثمان المغربي يوما لخادمه محمد المحبوب : لو قال لك قائل : أين معبودك؟ ما ذا كنت تقول له؟ فقال : أقول حيث لم يزل ولا يزول. قال : فإن قال : فأين كان في الأزل؟ ما ذا تقول؟ فقال : أقول حيث هو الآن. يعني : إنه كما كان ومكان.

وقال أبو عثمان : كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة ، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي فكتبت إلى أصحابنا : إني قد أسلمت جديدا.

وقد سئل الشبلي عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فقال : الرّحمن لم يزل ولا يزول ، والعرش محدث ، والعرش بالرحمن استوى.

وقال جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : من زعم أن الله تعالى في شيء أو من شيء ، أو على شيء ، فقد أشرك ؛ لأنه لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان من شيء لكان محدثا ، والله يتعالى عن جميع ذلك.

وقال بعض أهل التحقيق : (ألزم الكل الحدث ، لأن القدم له ، فهو سبحانه لا يظله فوق ، ولا يقيه تحت ، ولا يقابله حدّ ، ولا يزاحمه [عدّ] ، ولا يأخذه خلف ، ولا يحده أمام ، ولا يظهره قبل ، ولا يفنيه بعد ، ولا يجمعه كل ، ولا يوجده كان ، ولا يفقده ليس ، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم. إن قلت متى : فقد سبق الوقت

كونه (١) وإن قلت : أين فقد تقدم المكان وجوده ، فوجوده إثباته ، ومعرفته توحيده (أن) تميزه من خلقه ما تصور في الأوهام فهو بخلاف [ذلك] كيف يحل به ما منه بدؤه. أو يتصف بما هو إنشاؤه ، لا تمقله العيون ، ولا تقابله الظنون ، قربه كرامته ، وبعده إهانته ، علوه من غير ترق ، ومجيئه من غير تنقل ، هو الأول ، والآخر والظاهر ، والباطن ، والقريب البعيد ، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الحوادث كلها مخلوقة لله تعالى ، نفعها وضرها ، إيمانها وكفرها ، طاعتها ، ومعصيتها.

والدليل على ذلك : قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافات : ٩٦] وأيضا فإن الله تعالى رد على الكفار لما ادعوا معه شركاء في الاختراع ، فقال تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الرّعد : ١٦] وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : ٢٢] ، فأخبر تعالى أنه خالق لسيرنا ؛ وهي الحركات والسكنات. وقال تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله خالق كل صانع وصنعته». وأجمعت الأمة على القول : بأن لا خالق إلا الله في الدارين ، كما أجمعوا أن لا إله غيره.

مسألة

ويجب أن يعلم أن الحوادث كلها تقع مرادة لله تعالى ، وأنه لا يتصور أن يوجد في الدنيا والآخرة شيء لم يرده تعالى ؛ من نفع ، وضر ، ورزق ، وأجل ، وطاعة ، ومعصية ، إلى غير ذلك من سائر الموجودات.

والدليل على ذلك : ما بيّنّاه من قبل ، وأنه خالق لها ، وإذا صح ذلك ترتب عليه أنه مريد لما خلق ، قاصد إلى إبداع ما اخترع ، ويدل على ذلك أيضا : قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] وقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥)) [الأنعام : ١٢٥]

__________________

(١) أي وجوده (ز).

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)) [الأنعام : ١١١] وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)) [يونس : ٩٩] وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣)) [السّجدة : ١٣] والآيات في هذا المعنى في القرآن لا تحصى عددا. وأيضا فإن الأمة قد أجمعت على القول بإطلاق هذه الكلمة : «ما شاء الله كان. وما لم يشأ لم يكن» وأيضا فإنه لو أراد شيئا وأراد غيره شيئا فوجد مراد غيره دون مراده كان ذلك دليل العجز والغلبة ، والله يتعالى عن ذلك.

وقال بعض أهل التحقيق : (والله ما قالت القدرية كما قال الله تعالى ولا كما قال النبيون ولا كما قال أهل الجنة ، ولا كما قال أهل النار ، ولا كما قال أخوهم إبليس) ؛ لأن الله تعالى قال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النّحل : ٩٣] وقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠].

وقال شعيب : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩] وقال موسى عليه‌السلام : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) [الأعراف : ١٥٥] وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعراف : ١٨٨] وقال أهل الجنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] وقال أهل النار : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) [المؤمنون : ١٠٦] وقال أيضا : (بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزّمر : ٧١] وقال إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] وقد قال تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) [الرّعد : ١١].

مسألة

واعلم : أنه لا فرق بين الإرادة ، والمشيئة ، والاختيار ، والرضى ، والمحبة على ما قدمنا. واعلم : أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال ، فمن رضي سبحانه عنه لم يزل راضيا عنه ، لا يسخط عليه أبدا ، وإن كان في الحال عاصيا ، ومن سخط عليه فلا يزال ساخطا عليه ولا يرضى عنه أبدا وإن كان في الحال مطيعا.

ومثال ذلك : أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضيا عن سحرة فرعون ، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال ، لكن لما آمنوا في المآل ؛ بان بأن تعالى لم يزل راضيا عنهم ، وكذلك الصديق ، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضيا عنهما في حال عبادة الأصنام ، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى.

وكذلك لم يزل ساخطا على إبليس ، وبلعم ، وبرصيص ، في حال عبادتهم ؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.

وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١٠١] فقال : هم قوم سبقت لهم العناية في البداية ، فظهرت لهم الولاية في النهاية.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن العبد له كسب وليس مجبورا (١) بل مكتسب لأفعاله ؛ من طاعة ومعصية ؛ لأنه تعالى قال : (لَها ما كَسَبَتْ) [البقرة : ١٣٤] يعني من ثواب طاعة (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] يعني من عقاب معصية. وقوله : (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الرّوم : ٤١] وقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشّورى : ٣٠] وقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)) [فاطر : ٤٥].

ويدل على صحة هذا أيضا : أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به ، أو الارتعاش ، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره ، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق ، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق ، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب ، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق.

__________________

(١) وبهذا يظهر أن كون العبد مجبورا في أفعاله ليس من مذهب الأشعري وأول من نطق بعزو ذلك إليه هو الفخر الرازي ، واهما في التخريج ، وادعاء ، كونه مجبورا من الخطورة بمكان (ز).

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الاستطاعة للعبد تكون مع الفعل (١) لا يجوز تقديمها عليه ولا تأخيرها عنه ، كعلم الخلق وإدراكهم ، لا يجوز تقديم العلم على المعلوم ، ولا الإدراك ، على المدرك.

والدليل على ذلك : قوله تعالى : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [الكهف : ١٠١] يعني قبولا عند الدعوة. يعني : أنه لم يكن لهم استطاعة عند مفارقة الدعوة ، فيحصل معها القبول ، وأيضا قوله تعالى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [الكهف : ٦٧] وقول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) [إبراهيم : ٤٠] فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكان يقول : قد جعلتك مقيما ، ولم يكن لسؤاله معنى ؛ لأنه سئل في شيء قد أعطيه وهو قادر عليه. وأيضا قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) [الفاتحة : ٥] فلو كانت الاستطاعة قبل الفعل لم يكن للسؤال فيها معنى ، ولأن القدرة الحادثة لو تقدمت على الفعل لوجد الفعل بغير قدرة ؛ لأنها عرض ، والعرض لا يبقى ، ولا يصح أن يوجد بعد الفعل. وأيضا : لأنه يكون فاعلا من غير قدرة ، فلم يبق إلا أنها مع الفعل.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الرؤية جائزة عليه سبحانه وتعالى ، من حيث العقل ، مقطوع بها للمؤمنين في الآخرة ؛ تشريفا لهم وتفضلا ، لوعد الله تعالى لهم بذلك.

والدليل على جوازها من حيث العقل : سؤال موسى عليه‌السلام ، حيث قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣]. ويستحيل أن يسأل نبي من أنبياء الله تعالى

__________________

(١) ومبنى ذلك : تجدد الأعراض ، لكن دليل التجدد غير تام ، ومذهب أبي حنيفة : تقدم الاستطاعة على الفعل ؛ بمعنى سلامة الآلات الصالحة للفعل والترك ، والمعتزلة مع أبي حنيفة في هذا ، وحاول الفخر الجمع بين الرأيين : بأن القوة العضلية سابقة ، والقدرة المستجمعة لشرائط التأثير مع الفعل ، فلا ينافي أحدهما الآخر في نظره ، لأن مجرد القوة العضلية غير كاف في صدور الفعل ما لم يرده سبحانه اتفاقا ، وإرادته تعالى هي تركه العبد يمضي فيما اختاره ، كما ذكره عبد القاهر البغدادي ، فلا تكون في ذلك سمة جبر ، ما دام فعل العبد مستندا إلى اختياره نفسه ، والقوة العضلية هي مدار التكليف ، وهي صالحة للفعل والترك ، والقدرة المستجمعة لشروط التأثير غير صالحة إلا لأحدهما ، فيكون الوجوب في هذا من قبيل الضرورة بشرط المحمول ، فلا يكون من الضرورة في شيء (ز).

مع جلالة قدره وعلو مكانه ما لا يجوز عليه سبحانه ، ولو لا أنه اعتقد جوازها لما سألها ، ولأنه تعالى علقها باستقرار الجبل ، ومن الجائز استقرار الجبل ، ويدل عليه أيضا : أنه موجود ، والموجود يصح أن يرى.

وأما الدليل على ثبوتها من طريق الكتاب والسنة : قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] واللقاء إذا قرن بالتحية لا يقتضي إلا الرؤية. وأيضا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : «الزيادة النظر إلى وجهه الكريم» وقد ذكر مرفوعا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] والمراد بقوله (ناضِرَةٌ) أنها مشرقة ، والمراد بقوله (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أنها لربها رائية ؛ لأن النظر إذا عدى بكلمة إلى اقتضى الرؤية نصا ، كقوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) [البقرة : ٢٥٩] وقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)) [الغاشية : ١٧] وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله «وزيادة» قال : هي النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف. وأيضا : فإن الصحابة لما سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل نرى ربنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته». وروي «لا تضامون في رؤيته» وروي «لا يلحقكم ضرر ولا ضيم في رؤيته». ومعنى ذلك : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبّه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي ؛ فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبّه الرؤية بالرؤية ؛ وأن الرائي المعاين للقمر ليلة البدر أربع عشرة لا يشك في أن الذي يراه قمر. فكذلك الناظر إليه سبحانه وتعالى في الجنة لا يشك أن الذي يراه سبحانه وتعالى بلا تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تحديد ، وهذا كما يقول القائل : أعرف صدقك كما أعرف النهار ، ورأيت زيدا كما رأيت الشمس. ويدل عليه أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يتجلى للخلق عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة» (١).

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الطاعة ليست بعلة الثواب ، ولا المعصية علة للعقاب ، ولا يجب لأحد على الله تعالى ، بل الثواب وما أنعم به على العبد فضل منه ، والعقاب عدل منه. ويجب على العبد ما أوجبه الله تعالى عليه ، ولا موجب ولا واجب على الله.

__________________

(١) لا يثبت ، والمصنف كثيرا ما يورد أحاديث ضعيفة (ز).

والحسن ما وافق الأمر من الفعل ، والقبيح ما وافق النهي من الفعل ، وليس الحسن حسنا من قبل الصورة ، ولا القبيح قبيحا من قبل الصورة.

والدليل على الفصل الأول : أنه لا واجب عليه لأحد من الخليقة ، وأن حقيقة الواجب ما استوجب من وجب عليه الذم بتركه ، والرد تعالى عن الذم علوا كبيرا.

ويدل على صحة ذلك أيضا قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) [الرّوم : ٤٥] فاعلم أن ذلك بفضله لا بالعمل. وأيضا قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) [النّساء : ٨٣] وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيدخل أحد منا الجنة بعمله؟ فقال : لا. فقيل ولا أنت؟ فقال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته ، فقال له بعض الصحابة : ففيم العمل؟ فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وإنما وعد الله سبحانه بالثواب وأوعد بالعقاب ، وقوله الحق ووعده الصدق ، فنصب الطاعات أمارة على الفوز بالدرجات ، والمعاصي أمارة على التردي في الهلكات ، وكل ذلك أمارة للخلق بعضهم على بعض ، لا له سبحانه وتعالى ؛ فإنه علم بالأشياء قبل كونها ، كما قال بعضهم : «تفرد الحق بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون ، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون».

والدليل على الفصل الثاني : وهو : أن الحسن ما وافق الأمر ، والقبيح ما خالف الأمر : أن لذة الجماع في الزوجة والأمة ، صورتها في الفرج [الحلال] كصورتها في الفرج الحرام ، إلا أن ذلك حسن في الملك بموافقة الشرع ، قبيح في غير ذلك بمخالفة الشرع. وكذا القتل : وصورته في القصاص كهي في القتل من غير قصاص ، إلا أن أحدهما حسن لمطابقة الشرع ، والآخر قبيح بمخالفة الشرع. وكذا الأكل في آخر يوم من شهر رمضان ، كصورة الأكل يوم الفطر ، إلا أن أحدهما حسن لموافقة الشرع ، والآخر قبيح لمخالفته ، وكذلك بالعكس : إمساك يوم من شهر رمضان ، كصورة الإمساك يوم الفطر ، إلا أنه في أحدهما حسن للموافقة ، وفي الآخر قبيح للمخالفة.

وجميع قواعد الشرع تدل على أن الحسن : ما حسّنه الشرع وجوّزه وسوّغه. والقبيح : ما قبّحه الشرع وحرّمه ، ومنع منه ، لا من حيث الصورة ، فتفهّم ذلك يخلصك من جميع ما يورده جهّال القدرية من شبههم التي تضل عقول العوام. فإذا ثبت هذا وتقرر : جاء منه أن الباري سبحانه وتعالى ليس فوقه آمر أمره ، ولا ناه نهاه ؛ حتى تتصف أفعاله تارة بالحسن لموافقة الأمر ، ولا بالقبح لمخالفة الأمر ، بل هو

المالك على الحقيقة ، يتصرف في ملكه كيف يشاء ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء : ٢٣].

مسألة

ويجب أن يعلم : أن أرزاق العباد وجميع الحيوان من الله تعالى ، فلا رازق إلا الله : حلالا كان أم حراما.

والدليل على ذلك قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرّعد : ٢٦] وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)) [الرّوم : ٤٠]. وقد أجمع المسلمون على إطلاق القول «لا رازق إلا الله» كما أجمعوا على أنه «لا خالق إلا الله».

ويدل عليه أيضا : أنه لو فرض نشوء صبي من حال كونه طفلا إلى بلوغه بين اللصوص وقطّاع الطريق وكان يتناول من طعامهم المسروق المنهوب ، ثم من بعد إدراكه والبلوغ سلك مسلكهم في السرقة والنهب والغارة إلى أن شاخ وهرم ولم يتناول لقمة من حلال قط ، فلو قال قائل : إن هذا الشخص لم يرزقه الله رزقا قط ، ولا أكل له رزقا ، كان هذا القائل معاندا للنص الوارد ، وخارقا لإجماع المسلمين. فدلت هذه الجملة : أن لا خالق إلا الله ولا رازق إلا هو.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن كل ما ورد به الشرع من عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ، وردّ الروح إلى الميت عند السؤال ، ونصب الصراط ، والميزان ، والحوض والشفاعة للعصاة من المؤمنين ، كل ذلك حق وصدق ، ويجب الإيمان والقطع به ؛ لأن جميع ذلك غير مستحيل في العقل.

وكذلك يجب القطع بأن الجنة والنار مخلوقتان في وقتنا ، وكذلك يجب القطع بأن نعيم أهل الجنة لا ينقطع ، وأن عذاب جهنم مخلد للكفار ، وإن من كان مؤمنا لا يخلد في النار.

والدليل على إثبات عذاب القبر : قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه : ١٢٤]. قال أبو هريرة : يعني عذاب القبر. وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». وقد قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، والغدو والعشي إنما يكون في الدنيا ، وأيضا ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : «أعوذ بالله من عذاب القبر».

والدليل على سؤال منكر ونكير قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم : ٢٧] يعني وفي الآخرة عند سؤال منكر ونكير. وأيضا : فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دفن ابنه إبراهيم جلس عند رأس القبر ، فتكلم بكلام ، ثم قال : «ابني قل أبي» ، وروي عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي الله عنه : «كيف بك يا عمر إذا جاءك فتانا القبر؟ فقال : أكون كما أنا الآن؟ فقال له : نعم. فقال له : إذا أكفيكهما». وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : رأيت أبي في النوم ، فقلت له يا أبت ؛ منكر ونكير حق؟ فقال : إي والله الذي لا إله إلا هو ، لقد جاءاني فقالا لي : من ربك؟ فأخذت عليهما وقلت لهما : لا أخلي عنكما حتى تعرفاني من ربكما ، فقال أحدهما للآخر : دعه فإنه عمر الفاروق سراج أهل الجنة.

ويدل على نصب الصراط : قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)) [مريم : ٧١] قيل في التفسير : هو العبور على الصراط. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينصب الصراط على متن جهنم دحض مزلة والأنبياء يقولون : سلّم. سلّم. والناس يمرون عليه ، فمنهم من يمر عليه كالبرق الخاطف ومنهم من يمر عليه كالجواد من الخيل. إلى آخره».

والدليل على نصب الميزان : قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] وقوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] وأيضا فإن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال لها : «أما عند مواطن ثلاثة فلا : الكتاب ، والميزان ، والصراط».

واعلم أن الموزون في الميزان هو صحائف الأعمال. وقيل في بعض الآثار : يشخص رجل يوم القيامة على رءوس الخلائق ، فيعرض عليه تسعة وتسعون سجلا مملوءة سيئات ، فيقال له احضر وزنك ، قيل : فيوضع في كفة قال : فيحار العبد ، فيقال له : هل تعلم لك خبيئة أو حسنة؟ قال : فيدهش ، فيقول : يا رب لا أعلم شيئا. فيقول تعالى : بل لك عندي خبيئة ، فيخرج له بقدر الإصبع ، فيقول : ما تغني هذه في جنب هذه السجلات ، فإذا فيها «لا إله إلا الله». اللهم ثبّتنا عليها بحولك وقوتك.

والدليل على الحوض : قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١)) [الكوثر : ١] قيل في التفسير : هو الحوض. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوضي كما بين أيلة إلى مكة ، له ميزابان من الجنة أكاويبه (١) كعدد نجوم السماء ، شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل ، وأطيب رائحة من المسك ، من كذب به اليوم لم يصبه الشرب يومئذ».

والدليل على ثبوت الشفاعة : قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] يدل على ثبوت الشفاعة لمن أراد سبحانه وتعالى ، ويدل عليه قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيرت بين أن يدخل شطر أمتي [الجنة] وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ؛ لأنها أعم وأكفأ ، أترونها للمؤمنين المتقين ، لا ، ولكنها للمؤمنين الخاطئين» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة ، ويقال للعالم قف أنت فاشفع لمن شئت».

والدليل على أن الجنة والنار مخلوقتان : قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] والمعدّ لا يكون إلا موجودا مهيئا. وأيضا قوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٢] إلى غير ذلك من الآيات. وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرضت عليّ ليلة الإسراء الجنة والنار» إلى غير ذلك من الأخبار.

والدليل على تخليد النعيم لأهل الجنة والعذاب لأهل النار : قوله تعالى في أهل الجنة : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البيّنة : ٨] والآي في ذلك كثير ، وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار ، فينظرون إليه فيقال لهم : هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم ، هذا الموت ، فيذبح ، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة : خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت».

والدليل على أنه لا يخلد في النار أحد من المؤمنين بذنب : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النّساء : ٤٨] وقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزّمر : ٥٣] وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان» فإن الكفار لا ينفعهم إحسان مع الكفر ، ولا يخرجون من النار ، وكذلك الموحد : لا

__________________

(١) جمع الجمع لأكواب ، هكذا في بعض الروايات ، وفي بعضها أكوابه. وفي بعضها : آنيته (ز).

تضره سيئة مع إثبات التوحيد ، ولا يخلد في النار. قيل : وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك ـ وهو التوحيد ، وقول لا إله إلا الله ـ ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك ـ وهو الشرك ـ فاغفر لي ما بين ذلك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الإيمان على ضربين : إيمان قديم ، وإيمان محدث ، فالقديم إيمان الحق سبحانه وتعالى ؛ لأنه سمّى نفسه مؤمنا ، فقال : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [الحشر : ٢٣] وإيمانه سبحانه وتعالى تصديقه لنفسه ، لقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] وكذلك تصديقه لأنبيائه بكلامه ، وكلامه قديم ، صفة من صفات ذاته.

والإيمان المحدث : إيمان الخلق ؛ لأن الله تعالى خلقه في قلوبهم ، بدليل قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] وقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧] ولأن إيمان العبد صفة للعبد ، وصفة المخلوق مخلوقة ، كما أن صفة الخالق قديمة ، أعني صفة ذاته ، وأيضا : فإن حدّ القديم هو : الذي لا حد لوجوده ، ولا آخر لدوامه ، وحدّ المحدث : ما لم يكن ثم كان ، فكما لم يجز أن تكون صفة القديم محدثة ، فكذلك لا تكون صفة المحدث قديمة ، وكيف تكون صفة المحدث قديمة ، وهي عرض لا يستقل إلا بحامل ، ولا يمكن قيامها بنفسها ، لأنه يستحيل وجود حركة من غير متحرك. وسكون من غير ساكن ، وعلم من غير عالم. وسواد من غير أسود إلى غير ذلك من صفات المحدثين.

واعلم أن حقيقة الإيمان هو : التصديق. والدليل عليه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف عليه‌السلام : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧] أي بمصدق لنا وأيضا : أن الرسول عليه‌السلام لما أخبر عن كلام البقرة والذئب ، فقال : «أنا أومن به وأبو بكر وعمر» يريد أصدّق. أيضا : قول أهل اللغة : فلان يؤمن بالبعث والجنة والنار ؛ أي يصدّق به. وفلان لا يؤمن بعذاب الآخرة ، أي لا يصدق به.

واعلم : أن محل التصديق القلب ، وهو : أن يصدق القلب بأن الله إله واحد ، وأن الرسول حق ، وأن جميع ما جاء به الرسول حق ، وما يوجد من اللسان وهو الإقرار وما يوجد من الجوارح وهو العمل ، فإنما ذلك عبارة عما في القلب ، ودليل

عليه. ويجوز أن يسمى إيمانا حقيقة على وجه ، ومجازا على وجه : ومعنى ذلك : أن العبد إذا صدق قلبه بما قلنا وأقر بلسانه ، وعملت جوارحه فهو المؤمن الحقيقي عند الله وعندنا. وأما من كذب بقلبه وأقرّ بالوحدانية بلسانه وعمل الطاعات بجوارحه فهذا ليس بمؤمن حقيقة ، وإنما هو مؤمن مجازا ، لأن ذلك يمنع دمه وماله في أحكام الدنيا ، لأنه مؤمن من حيث الظاهر ، وهو عند الله غير مؤمن.

والدليل على صحة ذلك : قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) [المنافقون : ١] فأخبر سبحانه بكذبهم ، ونحن نعلم وكل عاقل أنه ما كذب إقرار ألسنتهم ، وإنما كذب قلوبهم ، حيث أبطنوا خلاف ما أظهروا ، لأن الأخرس المصدق بقلبه إيمانه صحيح ، وإن كان لا يقدر على النطق والإقرار بلسانه ، وكذلك بالعكس من هذا ، فإن المؤمن المصدق بقلبه مؤمن عند الله تعالى ، وإن نطق بالكفر. يدلك على صحة ذلك : قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النّحل : ١٠٦] فأخبر أن نطق اللسان بالإيمان لا ينفع مع إصرار القلب على الكفر ، وإقرار اللسان بالكفر لا يضر مع تصديق القلب.

واعلم : أنا لا ننكر أن نطلق القول بأن الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان ، وعلى ما جاء في الأثر (١) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد بذلك أن يخبر عن حقيقة الإيمان الذي ينفع في الدنيا والآخرة ، لأن من أقر بلسانه ، وصدق بقلبه ، وعمل أركانه حكمنا له بالإيمان وأحكامه في الدنيا من غير توقف ولا شرط ، وحكمنا له أيضا بالثواب في الآخرة وحسن المنقلب ، من حيث شاهد الحال ، وقطعنا له بذلك في الآخرة ، بشرط أن يكون في معلوم الله تعالى أنه يحييه على ذلك ، ويميته عليه. ولو أقرّ بلسانه ، وعمل بأركانه ، ولم يصدق بقلبه ، نفعه ذلك في أحكام الدنيا ولم ينفعه في الآخرة ، وقد بيّن ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «يا معشر من آمن بلسانه ولمّا يدخل الإيمان في قلبه» وإذا تأملت هذا التحقيق وتدبرته وجدت بحمد الله تعالى. ومنه : أن الكتاب والسنة ليس فيهما اضطراب ولا اختلاف ، وإنما الاضطراب ، والاختلال ، والاختلاف في فهم من سمع ذلك ، وليس له فهم صحيح ، نعوذ بالله من ذلك.

وكذلك أيضا : لا ننكر أن نطلق أن الإيمان يزيد وينقص. كما جاء في الكتاب والسنة ؛ لكن النقصان والزيادة يرجع في الإيمان إلى أحد أمرين : إما أن يكون ذلك

__________________

(١) لم يصح مرفوعا ، وفي صحيح مسلم الإيمان أن تؤمن بالله الحديث ... (ز).

راجعا إلى القول والعمل ، دون التصديق ؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان ، فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان. وبيان ذلك : أن المصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه‌السلام إذا ترك صلاة أو صياما أو زكاة أو قراءة في موضع تجب فيه القراءة ، أو غير ذلك من الواجبات لا يوصف بالكفر بمجرد الترك مع كمال التصديق وثباته عليه. وبالضد من ذلك لو فعل جميع الطاعات. وأقر بجميع الواجبات ، وصدق بجميع ما جاء به الرسول إلا تحريم الخمر أو نكاح الأم ، ولم يفعل واحدا منهما ، فإنه يوصف بالكفر ، وانسلخ من الإيمان ، ولا ينفع جميع ذلك مع انخرام تصديقه في هذا الحكم الواحد ، فيجوز نقص الإيمان وزيادته من طريق الأقوال والأفعال ، ولا يجوز من طريق التصديق ، وقد بيّن ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه المسلم الخير» وكذلك قوله «حتى يأمن جاره بوائقه» وأراد بذلك الكف عن الأذى ، ولم يرد التصديق ، لأنه لو استحل أذاه لم يكن له إيمان لا زائد ولا ناقص. فافهم ذلك.

والأمر الثاني : في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان ، يتصور أيضا أن يكون من حديث الحكم لا من حيث الصورة ، فيكون ذلك أيضا في الجميع من التصديق والإقرار والعمل ، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعا إلى الجزاء والثواب ، والمدح والثناء ، دون نقص وزيادة في تصديق ، من حيث الصورة. وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد : ١٠] ولم يرد أن تصديق من آمن قبل الفتح يزيد على تصديق من آمن بعد الفتح ؛ لأن كل واحد منهما من حيث الصورة مصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه‌السلام ، لكن تصديق أولئك أكمل في الحكم والثواب ، والدرجة ، لأن هذا يصدق بشيء لا يصدق به الآخر.

وأما السنة : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبّوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» ومعلوم أن إنفاق مثل أحد ذهبا ما أنفقه أحد من الصحابة ، لكن إيمانهم ونفقتهم في الحكم والثواب ، والجزاء ، والدرجة أزيد وأكمل من نفقة غيرهم ، [فهي] وإن كانت في الصورة أكثر ، لكنها أنقص من حيث الحكم ، لا من حيث العين ، فاعلم حكم ذلك وتحققه ، ووازن هذا من أفعالنا اليوم ، وأنها تتصف بالزيادة من حيث الحكم دون العين. أن من صلى صلاة الظهر في بلد من البلاد غير

مكة والمدينة ، وأتى بجميع شرائطها ، وآخر صلى بمكة والمدينة على الوجه الذي صلّى عليه الآخر ، لا يقال : إن أحد الصلاتين أزيد من الأخرى من طريق الصورة والعين ، ولكن أحدهما أزيد من طريق الحكم ؛ في تحصيل الفضل والثواب ، ولهذا نظائر يطول تعدادها ، وقد تكون الزيادة بكثرة دلائل التصديق لا في التصديق.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا ، لأن معنى الإسلام الانقياد ، ومعنى الإيمان التصديق ، ويستحيل أن يكون مصدق غير منقاد ، ولا يستحيل أن يكون منقاد غير مصدق ؛ وهذا كما يقال : كل نبي صالح ، وليس كل صالح نبيا.

ويدل على صحة هذه الجملة قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] فنفى عنهم الإيمان وأثبت أن ذلك منهم إسلام لا إيمان. وأيضا : قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)) [الحجرات : ١٧] فغاير بين الإسلام والإيمان.

ويدل على صحة هذا القول أيضا أن الرسول عليه‌السلام فرق هو وجبريل بين الإسلام والإيمان حين سأله ، فقال له ما الإيمان؟ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره» فقال جبريل عليه‌السلام : صدقت. والمراد بجميع ذلك أن : تصدق بالله ورسوله ، إلى آخر ما ذكر ، ثم قال له : فما الإسلام؟ فقال : «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت وتغتسل من الجنابة» وهذا واضح في كونهما غيرين ، وأن محل الإيمان القلب ، وهو التصديق ، ومحل الإسلام الجوارح ، وهذا الحديث يقوي لك جميع ما ذكرت لك. وأن التصديق متى اختل منه شيء انخرم الإيمان ، والقول والعمل يزيد وينقص ، ولا ينخرم الإيمان مع التصديق بجميع ما جاء به الرسل عليهم‌السلام ، فعلى ما قررت لك لا يجوز أن نطلق. فنقول : إيمان أحدنا كإيمان جبريل ، ولا كإيمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كإيمان الصدّيق رضي الله عنه (١) ، بل نمنع من ذلك ، ونريد به أن إيمان هؤلاء أفضل وأكمل

__________________

(١) ومن يجعلهم سواسية في الإيمان ، يريد تساويهم في الاعتقاد الجازم فقط (ز).

وأرفع ، من طريق الحكم الذي بينت لك ، ومن طريق آخر ، وهو أنه قد بان لهؤلاء من دلائل الوحدانية أكثر مما بان لنا ، فلا نطلق التسوية بين إيمانهم وإيماننا ، ولا نريد بذلك أنا نصدق بعض ما جاء به الرسل عليهم‌السلام والصديق يصدق بالجميع ، بل لا يصح لأحد إيمان حتى يصدق بالجميع ، لكن إيمان الصدّيق أكمل وأفضل من الوجوه التي بينت لك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أنه لا يجوز أن يقول العبد «أنا مؤمن حقا» ويعني به في الحال ، ويجوز أن يقول «أنا مؤمن إن شاء الله» لأن ذلك يكون شكا في الإيمان ، ولأن الاستثناء إنما يصح في المستقبل ، ولا يصح في الماضي ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى في قوله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤] وكذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا غدا إن شاء الله نازلون بخفيف بني كنانة» ولأن المشيئة لله تعالى سابقة لكل موجود ، فلو لا المشيئة لما وجد الموجود ، فكما لا يجوز أن يستثنى في الحال فلا يجوز أن يقطع في المستقبل. فاعلم ذلك وتحققه.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الاسم هو المسمى بعينه وذاته ، والتسمية الدالة عليه تسمى اسما على سبيل المجاز.

والدليل عليه قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) [الرّحمن : ٧٨] ومعناه : تبارك ربك ، وأيضا قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : ١] ولا يشك عاقل أن المسبّح هو الله تعالى ، لا قول من يقول التسبيح ، ويدل عليه قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)) [يوسف : ٤٠] وقد علمنا أنهم ما كانوا يعبدون الأقوال والتسميات ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام. فأما قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» ، فالعدد في ذلك راجع إلى التسميات التي هي عبارات الاسم ، فالتسمية تدل على الذات حسب دلالة الكتابة على المكتوب ، فمن لا يميز

بين الاسم والتسمية وبين الكتابة والمكتوب وما جرى هذا المجرى فلا يحل الله له أن يفتي في دين الله تعالى ، نعوذ بالله من الجهل بالله تعالى وصفاته.

مسألة

ويجب أن يعلم : أنه يجوز لله تعالى إرسال الرسل وبعث الأنبياء ، خلافا لما تدّعيه البراهمة.

والدليل عليه أيضا : أنه مالك الملك يفعل ما يشاء ، مع ما سبق من أنه ليس في إرسال الرسل استحالة ، ولا خروج عن حقائق العقول ، فدل على جواز ذلك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن صدق مدعي النبوة لم يثبت بمجرد دعواه ، وإنما يثبت بالمعجزات ، وهي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة المطابقة لدعوى الأنبياء ، وتحديهم للأمم بالإتيان بمثل ذلك.

يبين لك ذلك : أن موسى عليه‌السلام جاء في زمان سحرة وسحر ، فتحداهم بقلب العصا حية ، فعلم المحققون منهم في السحر ، أن ذلك خارج عن قبيل السحر ؛ لعجزهم عن ذلك ، وخرقه لعادة السحر ، فسارعوا إلى الإيمان ، وهذا يدل على فضل العلم من أي نوع كان : فإنه أول من سارع إلى الإيمان السحرة ، لعلمهم بالسحر ، فكان في علمهم ذلك ـ وإن كان باطلا ـ فضل كبير على غيرهم من قومهم ممن لا يعلم السحر.

وكذلك عيسى عليه‌السلام : جاء في زمان قوم طبّ ومداواة ، فأحيا الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فأتى بما هو خارج عن قبيل الطب. خارقا للعادة فيه ، لا يقدر عليه مخلوق.

وكذلك : نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جاء في وقت فصاحة وشعر وخطب ونظم ونثر ، فأتاهم بما هو خارج عن عاداتهم في النظم والنثر ، وهو أفصح وأجزل وأوجز ، وتحداهم بالإتيان بمثله ، فوجدوا ذلك خارجا عن نظمهم ونثرهم وخارقا لعادتهم ، فعجزوا عنه فسارع من هداه الله إلى الإيمان به ، ولله الحمد والمنّة ، على الهداية والتوفيق.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى كافة الخلق ، وأن شرعه لا ينسخ ، بل هو ناسخ لجميع من خالفه من الملل.

والدليل على ذلك : ثبوت نبوته ، وصدق مقاله ، وقد أخبر بجميع ذلك.

واعلم أن أكبر معجزاته القرآن العربي ، وفيه وجوه من الإعجاز :

أحدها : ما اختص به من الجزالة ، والنظم والفصاحة الخارجة عن أساليب الكلام ، وتحدى به فصحاء العرب بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن الإتيان بمثله ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة ، ولم يتأت لهم ذلك في مدة ثلاث وعشرين سنة.

ومن وجوه الإعجاز في القرآن : اشتماله على قصص الأولين ، وما كان من أخبار الماضين ، مع القطع بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ، ولم يعهد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع زمانه تعاط لدراسة كتب ولا تعلّمها ، وقد نفى عنه سبحانه وتعالى ذلك بقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨].

ومن وجود الإعجاز : [أن] اشتمال القرآن على [ما لا يحصى من] علم غيوب متعلقة بالمستقبل ظاهر جلي ، مثل قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] ومثل قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] إلى غير ذلك ، من وجوه الإعجاز في القرآن كثير جدا.

وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات ومعجزات سوى القرآن : كانشقاق القمر ، واستنزال المطر ، وإزالة الضرر من الأمراض ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتسبيح الحصى في يده ، ونطق البهائم ، إلى غير ذلك من المعجزات والآيات الخارقة للعادة ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رزقنا الله شفاعته ، وحشرنا في زمرته.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن نبوات الأنبياء صلوات الله عليهم لا تبطل ، ولا تنخرم ، بخروجهم عن الدنيا وانتقالهم إلى دار الآخرة ، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم ، وحالة اشتغالهم ، إما بأكل أو شرب ، أو قضاء وطر. والدليل عليه : أن حقيقة النبوة : لو كانت ثابتة لهم في حالة اشتغالهم بأداء الرسالة دون غيرها من الحالات ، لكانوا في غيرها من الأحوال غير موصوفين بذلك.

وقد غلط من نسب [إلى مذهب] المحققين من الموحدين إبطال نبوة الأنبياء عليهم‌السلام بخروجهم من دار الدنيا. وليس ذلك بصحيح ، لأن مذهب المحققين : أن الرسول ما استحق شرف الرسالة بتأدية الرسالة ، وإنما صار رسولا واستحق شرف الرسالة والنبوة بقول مرسله : وهو الله تعالى : أنت رسولي ونبيي. وقول الله تعالى قديم لا يزول ولا يتغير.

والدليل على صحة هذا أيضا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل ، فقيل له : متى كنت نبيا؟ فقال : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فحاصل الجواب في هذا : أن شرف النبوة وكمال المنصب ثابت للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين الآن ، حسب ما كان ثابتا لهم في حال الحياة ، لم ينثلم ولم ينتقص ، سواء نسخت شرائعهم أو لم تنسخ ، ومن راجع نفسه ولم يغالط حسه عرف وتحقق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآن لم يخاطب شفاها ، ولا يأمرهم ولا يكلمهم من غير واسطة ، لكن حكم شريعته وصحة نبوته ثابت لم ينتقض ، لأجل خروجه من الدنيا ، ولم تزل مرتبته ، ولا انخرمت رسالته ، ولا بطلت معجزته فاعلم ذلك وتحققه.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدّم خلق الله أجمعين ، من الأنصار والمهاجرين ، بعد الأنبياء والمرسلين : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لقوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) [التّوبة : ٤٠] ولا أفضل من اثنين ثالثهما الله تعالى لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] وهو الصدّيق وأصحابه ، لما قاتل أهل الردة ، ولقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزّمر : ٣٣] قيل في أصح التفاسير : الذي جاء بالصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدق أبو بكر الصديق ؛ يؤكد صحة هذا التفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الناس لي كذبت ، وقال أبو بكر صدقت» ويدل عليه قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد : ١٠] والصديق رضي الله عنه أول من أنفق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤكد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أمنّ الناس عليّ في نفس ومال أبو بكر الصديق ، ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر».

ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي الدرداء «أتمشي أمام من هو خير منك ، والله ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ،

وليس في السماء ولا في الأرض بعد النبيين أو المرسلين خير من أبي بكر». وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة ، لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته ، وانقيادهم له ، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام مجيبا لقوله رضي الله عنه لما قال : أقيلوني ، فلست بخيركم. فقال : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لديننا ألا نرضاك لدنيانا. يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره ، واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا. وكان رضي الله عنه أفضل الأمة ، وأرجحهم إيمانا ، وأكملهم فهما ، وأوفرهم علما ، وأكثرهم حلما ، وبه نطق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر على إيمان أهل الأرض».

ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، لاستخلافه إياه ، وقد ورد في فضائله رضي الله عنه من الأحاديث ما لا يحصى ، ومن جملة ذلك : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان بعدي نبي لكان عمر ، إن الله ربط الحق بلسان عمر وقلبه» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كادت أنفاس عمر تسبق الوحي» لأنه كلمه في أسارى بدر ، وأن تضرب أعناقهم ، فنزل قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)) [الأنفال : ٦٧] فقال : «لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر» حين نزل قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)) [الأنفال : ٦٨] وقال : لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليك البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب وقال : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [التّحريم : ٥] فنزلت الآية في ذلك ، وفضله أكثر من أن يحصى.

وبعده : أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، لإجماع المسلمين أنه من جملة الستة الذين نص عمر عليهم. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عثمان أخي ورفيقي في الجنة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان لنا ثالثة زوجناكها يا عثمان» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوت الله تعالى أن يرفع الحساب عن عثمان ففعل» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يزيد في المسجد أضمن له الجنة؟» فزاد فيه عثمان وقال : «من يشتري رومة أضمن له الجنة» فاشتراها عثمان وجعلها للمسلمين. وقال : «من يجهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزه عثمان : تسعمائة وخمسين بعيرا ، وأتمها ألفا بخمسين فرسا.

وبعده أمير المؤمنين : علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ، وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فضائله أحاديث كثيرة منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فأعطاها لعلي عليه‌السلام.

مسألة

والدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة رضي الله عنهم على الترتيب الذي بيّنّاه : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلام الدين ، ومصابيح أهل اليقين ، شاهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويل ، وشهد لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم خير القرون ، فقال : «خير القرون قرني» فلما قدّموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور ، علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحدا تشهيا منهم ، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه.

قال الشريف الأجل الإمام جمال الإسلام : ووقع لي أنا دليل من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة : أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك [هو] قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)) [النّور : ٥٥] ووعده حق ، وخبره صدق ، لا يقع بخلاف مخبره ، فلا بد من أن يتم ما وعدهم به ، وأخبر أن يكون لهم ، ولا يصح إلا على هذا الترتيب : لأنه لو قدم عليّ عليه‌السلام لم تصر الخلافة فيها إلى أحد من الثلاثة ، لأن عليّا عليه‌السلام مات بعد الثلاثة. وكذلك لو قدم عثمان رضي الله عنه لم تصر الخلافة إلى أبي بكر وعمر ، لأن عثمان مات بعد موتهما ، ولو قدم عمر لم تصر الخلافة إلى أبي بكر لأن عمر مات بعده ، والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم فلم يصح أن تقع إلا على الوجه الذي وقعت. ولله الحمد على الهداية والتوفيق.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن ما جرى بين أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ، ونترحم على الجميع ، ونثني عليهم ، ونسأل الله تعالى لهم الرضوان ، والأمان ، والفوز ، والجنان. ونعتقد أن عليّا عليه‌السلام أصاب فيما فعل وله أجران. وأن الصحابة رضي الله عنهم إنما صدر منهم ما كان باجتهاد فلهم الأجر ، ولا يفسّقون ولا يبدّعون.

والدليل عليه قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩] وقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ)

(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨)) [الفتح : ١٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران [على] اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه.

ويدل على صحة هذا القول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن عليه‌السلام : «إن ابني سيّد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين ، وحكم لهم بصحة الإسلام. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون بين أصحابي هنات ونزغات يكفرها الله تعالى لهم ويشقى فيها من شقي». وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧)) [الحجر : ٤٧].

مسألة

ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عن الجميع وأرضاهم ، ونقر بفضل أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن ، وأنهن أمهات المؤمنين ، كما وصفهن الله تعالى ورسوله ، ونقول في الجميع : خيرا ، ونبدّع ، ونضلّل ، ونفسّق من طعن فيهن أو في واحدة منهن ، لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم ، فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقا مخالفا للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك.

مسألة

ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم ، والسكوت عنه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم وما شجر بين أصحابي» وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له : ما تقول فيما شجر بين الصدر الأول؟ فقال : أقول كما قال الله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر : ١٠] وسئل عن ذلك جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام فقال : أقول ما قال الله : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢]. وسئل بعضهم عن ذلك فقال : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)) [البقرة : ١٣٤]. وسئل عمر بن عبد العزيز عن ذلك فقال : «تلك دماء طهّر الله يدي منها أفلا أطهّر منها لساني ؛ مثل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل العيون ودواء العيون ترك مسها».

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الإمامة لا تصلح إلا لمن تجتمع فيه شرائط.

منها : أن يكون قرشيا ؛ لقوله عليه‌السلام : «الأئمة من قريش».

والثاني : أن يكون مجتهدا من أهل الفتوى ؛ لأن القاضي الذي يكون من قبله يفتقر إلى ذلك ، فالإمام أولى.

والثالث : أن يكون ذا نجدة وكفاية وتهد لسياسة الأمور ، ويكون حرا ورعا في دينه. وهذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عليه‌السلام :

«الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا» وكانت أيام الخلفاء الأربعة هذا القدر ، وفقنا الله للصواب ، وعصمنا من الخطأ والزلل بمنّه ورحمته.

* * *

فصل

اعلموا رحمنا الله وإياكم : أن أهل البدع والضلال من الخوارج ، والروافض والمعتزلة قد اجتهدوا أن يدخلوا على أهل السنة والجماعة شيئا من بدعهم وضلالهم فلم يقدروا على ذلك ، لذب أهل العلم ودفع الباطل ، حتى ظفروا بقوم في آخر الوقت ممن تصدى للعلم ولا علم له ولا فهم ، ويستنكف ويتكبر أن يتفهم وأن يتعلم ؛ لأنه قد صار متصدرا معلما بزعمه ، فيرى بجهله أن عليه في ذلك عارا وغضاضة ، وكان ذلك منه سببا إلى ضلاله وضلال جماعته من الأمة.

واعلم : أن أخبث من ذكرنا من المبتدعة ، وأكثرهم شبها وأعظمهم استجلابا لقلوب العوام : المعتزلة ، فجعلوا يتطلبون أن يضلوا من ذكرنا في مسألة القدر ، فلم يقدروا ، وكذلك في مسألة الرؤية ، فلم يقدروا ، وكذلك في مسألة الشفاعة والصراط والميزان ، وعذاب القبر ، وجميع ما أنكروه مما صحت فيه الآثار فلم يقدروا عليهم في شيء من ذلك ، ولم يظفروا به ، فجاءوا إلى مسألة القرآن وعقدهم فيه أنه مخلوق محدث موصوف بصفات المخلوقين ، فما قدروا أن يصرحوا بكونه مخلوقا ، فما زالوا يحسنوا لهم أمورا حتى قالوا : بأن القرآن يتصف بصفات الخلق ، وذلك أكبر عمدة لهم في كونه مخلوقا ، فرضوا منهم بأن يقولوا بخلق القرآن معنى وإن لم يصرحوا به نطقا. وكان أكبر غرض هؤلاء الجهلة ممن يتصدى للعلم وليس من أهل ذلك ، أن ينفروا العوام من أهل التحقيق والذين يعرفون مغزاهم في ذلك ، حتى لا يسمع

كلامهم ولا يتعلم منهم حتى ينقرضوا شيئا فشيئا ويتم لهم ما أرادوا في الجهال والعوام.

وأنا بحمد الله وعونه وحسن توفيقه أبين لك ذلك مسألة مسألة ، وأذكر لك شبههم في كل مسألة ، وهي أربع مسائل : مسألة القرآن وهي أهمها : و (الثانية) مسألة القدر والجرح والتعديل و (الثالثة) مسألة الرؤية و (الرابعة) مسألة الشفاعة.

مسألة

اعلم : أن الله تعالى متكلم ، له كلام عند أهل السنة والجماعة ، وأن كلامه قديم وليس بمخلوق ، ولا مجعول ، ولا محدث ، بل كلامه قديم صفة من صفات ذاته ، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات. ولا يجوز أن يقال كلام الله عبارة ولا حكاية ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق ، ولا يجوز أن يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق ، ولا غير مخلوق ، ولا أني أتكلم بكلام الله ، هذه جملة أنا أفضلها واحدا واحدا إن شاء الله تعالى.

مسألة

فأما الدليل على كون كلام الله قديما غير مخلوق ، فمن الكتاب قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] فصل بين الخلق والأمر ، فدل على أن الأمر غير مخلوق لأن كلامه أمر ونهي وخبر. وأيضا قوله تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) [الأحزاب : ٤] ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النّحل : ٤٠] ولو أن كلامه مخلوق لاحتاج في خلقه إلى قول يقول به «كن» واحتاج القول إلى قول ثالث ، والثالث إلى رابع ، إلى ما لا نهاية له ، وهذا محال باطل ، فثبت أن القول الذي تكون به الأشياء المخلوقة غير مخلوق ، وهو كلامه القديم.

ويدل عليه من السنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه». فلما كان فضل الله على خلقه بقدمه ودوامه ؛ لأنه غير مخلوق وهم مخلوقون ، فكذلك القول في كلامه ، فوجب أن يكون غير مخلوق ، وكلامهم مخلوقا.

ويدل عليه أيضا : أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القرآن فقال : «كلام الله غير مخلوق».

ويدل عليه أيضا : إجماع الصحابة ، وهو أن عليا عليه‌السلام لما أنكر عليه التحكم وكفر الخوارج فقال بحضرة الصحابة : والله ما حكمت مخلوقا ، وإنما حكمت القرآن. ولم ينكر ذلك منكر ، فدل على أنه إجماع ، ولأنه لو كان مخلوقا : لم يخل أن يكون خلقه في نفسه أو في غيره أو في غير شيء ، ولا يجوز أن يكون مخلوقا في نفسه لأن ذاته لا تقوم بها المخلوقات والحوادث يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ولا يجوز أن يكون خلقه في غيره ، لأنه لو كان خلقه في غيره لكان ذلك الغير إلها ، آمرا ، ناهيا قائلا : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)) [النّمل : ٩] وهذا محال باطل ، ولا يجوز أن يكون خلقه في غير شيء ، لأنه يؤدي إلى وجود كلام من غير متكلم وهذا محال. فإذا ثبت بطلان هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا أنه مخلوق ، بل هو صفة من صفات ذاته ، قديم بقدمه ، موجود بوجوده ، موصوف به ، فيما لم يزل وفيما لا يزال. ولا يجوز أن يباينه ، ولا يزايله ، ولا يحل في مخلوق ، ولا يتصف بالحول رأسا ، فاعلم ذلك وتحققه.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] وربما قرر عليك هذا السؤال والدليل ، كما قرره بشر المريسي على عبد العزيز المكي وهو : أنه قال له : أتقول إن القرآن شيء أو ليس بشيء؟ فقال : بل هو شيء فقال : يا أمير المؤمنين سلم أن القرآن مخلوق ، لأن الله تعالى قال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦].

والجواب أن يقال : في أول [الأمر أي] شيء أردت بقولك إنه شيء [فإن أردت] أنه موجود ثابت فنعم ، وإن أردت بقولك إنه شيء كالأشياء من حيث خروجه من العدم إلى الوجود كالأشياء الموجودة بعد العدم فلا نقول ذلك.

والموجود الثابت لا يدل على أنه مخلوق محدث ، فإن الله موجود ثابت دائم الوجود ليس بمخلوق. وأما الجواب على جملة (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فالمراد به الخصوص دون العموم فإنه (١) بعضه [قطعا] وأنه [غير] داخل في ذلك كما سمى نفسه ، فقال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢] ثم قال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ولا تدخل نفسه في ذلك ، وإنما المراد به كل نفس منفوسة مخلوقة كذلك قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] يعني مما يصح فيه الخلق والحدث ، وصفات ذاته قديمة بقدمه وموجودة بوجوده ، فلم تدخل في ذلك. ومثل هذا في

__________________

(١) أي فإن المراد بعض الشيء (ز).

القرآن كثير ، فإن الله تعالى قال فيما أخبر به عن داود وسليمان عليهما‌السلام : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : ١٦] ولم يؤتيا سماء ولا أرضا ، ولا شمسا ولا قمرا ولا جنة ، ولا نارا ، ولا ملائكة ، ولا عرشا ، ولا غير ذلك ، وإنما أراد أوتينا من كل شيء ينبغي لمثلنا. وكذلك قوله في قصة بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : ٢٣] ومعلوم أنها لم تؤت النبوة ، ولا تسخير طير ، إلى غير ذلك ؛ إنما أراد به الخصوص دون العموم ، لأنها ما دمرت هودا ، ولا السماء ، ولا الملائكة ، ولا الجبال ، إلى غير ذلك.

قال الشريف الأجل جمال الإسلام : ووقع لي جواب أخصر من هذا وأجود إن شاء الله وهو : أن يقول : الآية حجة عليكم ، وأن القرآن ليس بمخلوق ، وذلك أنه سبحانه وتعالى أفرد الخالق من المخلوق ، فسمّى نفسه خالقا ، وسمّى كل شيء دونه مخلوقا ، فالخالق بجميع صفات الذات ، غير مخلوق ، لأن الاسم هو المسمى ، على ما قررنا ، وهذا صحيح ، لأن الخالق هو الله العالم ، القادر ، المريد ، المتكلم ، وكلامه هو القرآن ، فدلّ على أنه غير مخلوق ، ولا داخل في الأشياء المخلوقة ، والذي يفهم من ذلك ؛ فإن كل عاقل يعلم أنه يصنع كل شيء غير ذاته بصفاتها من قدرته ، وحياته ، وعلمه ، وكلامه. وكذلك إذا قيل [آخذ] الملك اليوم كل أحد ، وصغر كل صفة وحقرها ومعلوم [أن ذاته ما دخلت] في المفعولين ولا دخلت صفاته في التحقير والتصغير فكذلك قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] يعني غير ذاته ، وذاته قديمة غير مخلوقة بجميع صفاتها ، فصحّ أن الآية حجة عليهم لا لهم.

فإن احتجّوا بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] فوصفه بالحدث والحدث هو الخلق. الجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الآية حجة عليهم ، لأنها تدل على أن من الذكر ما ليس بمحدث ، لأنه لم يقل ما يأتيهم من ذكر إلا كان محدثا. فثبت أن من الذكر ما هو قديم ليس بمحدث ، فيجب أن يكون القرآن ؛ لأن الإجماع قد وقع على أن كل ذكر غيره مخلوق ، فلم يبق ذكر غير مخلوق. غير كلامه ، سبحانه وتعالى.

الجواب الثاني : أن الذكر هاهنا يراد به وعظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وتوعده لهم وتخويفه ، لأن وعظ الرسل عليهم‌السلام يسمى ذكرا. يدل عليه قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١)) [الغاشية : ٢١] ويقال : فلان في مجلس الذكر ، يعني في مجلس الوعظ. الذي يحقق ذلك ؛ أن قريشا لم تلعب عند سماع القرآن ، ولكنها

كانت تفحم عند سماعه ، حتى قال عتبة : والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر ، وإن عليه لطلاوة ، وإن له لحلاوة. وفزعوا أيضا أن تفتتن عند سماعه نساؤهم وأولادهم ، حين كان يقرأ أبو بكر رضي الله عنه.

الجواب الثالث : أنه أراد ما يأتيهم من نهي محدث مجدد بعد نبي إلا استمعوه وهم يلعبون ، هل هذا إلا بشر ، وقد سمّى الله تعالى رسوله ذكرا بقوله : (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١)) [الطّلاق : ١١].

فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النّساء : ٤٧](وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨] فالجواب : أنه تعالى أراد عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين ، وما حكم به وقدره من أفعاله ، وهذا بمنزلة قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) [هود : ٤٠] يعني ما أمرنا به من زيادة الماء وإغراق الكافرين من قوم نوح عليه‌السلام ، ولم يعن (قولنا) وكذلك أيضا قال : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] يعني شأنه وأفعاله وطرائقه ، ولم يرد (قوله) وهذا بمنزلة قول القائل :

فقلت لها أمري إلى الله كله

وإني إليه في الإياب لراجع

يعني سري وأفعالي ، ولم يرد بذلك الأمر من القول ، وجمع هذا أمور ، وجمع الأمر من القول الأوامر ، ولو لا عجزهم وجهلهم لم يلجئوا إلى مثل هذا التمويه على العوام والجهال مثلهم. ولو نظروا إلى قوله تعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) [غافر : ٤٤] تعالى أنه أراد أفعالي وأموري ، دون أمره الذي هو قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصّلت : ٥٣] ورجعوا إليه.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزّخرف : ٣] والمجعول مخلوق ، بدليل قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] أي خلقنا ؛ فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن معنى ذلك : إنما سميناه قرآنا عربيا ، والجعل يكون بمعنى التسمية ، بدليل قوله عزوجل : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)) [الحجر : ٩١] يعني سموه ؛ فبعضهم سماه شعرا ، وبعضهم سحرا ، وبعضهم كهانة ، إلى غير ذلك. ولم يرد أنهم خلقوه. وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)) [الزّخرف : ١٩] يعني سموهم وحكموا عليهم

بذلك ، ولم يرد أنهم خلقوهم. وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠] يعني سموا. وكذلك قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)) [المائدة : ١٠٣] وفي القرآن مثل هذا كثير.

الجواب الثاني : أنه أراد : إنا جعلنا قراءته وتلاوته بلسان العرب ، وأفهمنا أحكامه. والمراد به باللسان العربي ، وتكون الفائدة في ذلك الفرق بينه وبين التوراة والإنجيل ، لأنه جعل تلاوة الكتابين المذكورين وإفهام أحكامهما باللسان العبراني والسرياني ، وجعل تلاوة هذا الكتاب وإفهام أحكامه والمراد به بلسان العرب ، ولو عرفوا الفرق بين التلاوة والمتلو لم يموهوا بمثل هذا التمويه.

والجواب الثالث : أن الجعل إذا عدي إلى مفعول واحد كان ظاهره الخلق ، وإذا عدي إلى مفعولين كان ظاهره الحكم والتسمية ، في أكثر الاستعمال. ولذلك لا يجوز أن يقول القائل : جعلت النجم والرجل ، ويسكت حتى يصله بقوله : جعلت النجم هاديا ودليلا ، وجعلت الرجل صديقا وصاحبا. فلما قال الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزّخرف : ٣] تعدى إلى مفعولين ، فيكون بمعنى الحكم والتسمية. فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : ١٠١] وقالوا : ما يغير ويبدل فهو مخلوق لا محالة ، قلنا : هذا جهل منكم أيضا ، وذلك أن التبديل والنسخ إنما يكون ويتصور في الرسم من خط أو تلاوة ؛ أو في حكم ، فيكون تقدير الكلام : وإذا بدلنا حكم آية أو تلاوة آية ، دون المتلو القديم الذي لا يتصور عليه تبديل ولا تغيير ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى وأخبر أن كلامه القديم لا يغير ولا يبدل.

دليل الأول : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : ١٠١] يعني حكم آية أو تلاوتها.

ودليل الثاني : قوله تعالى : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) [الأنعام : ٣٤] وقوله تعالى : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ١١٥] فأخبر تعالى أن التبديل يتصور في أحكام كلامه وتلاوة كلامه ، دون كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، ولو حققوا الفرق بين التلاوة والمتلو سلموا وجميع من وافقهم من الجهال الذين سلموا لهم وفق مذهبهم من خلق القرآن معنى ، ومنعوه نطقا ، نعوذ بالله من الجهل. وسنبين هذا الأمر إن شاء الله على الاستيفاء بالكمال ، في مسألة الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] وقالوا : ما جاز عليه الذهاب والعدم فإنه مخلوق.

فالجواب عن هذا السؤال مثل الجواب المتقدم ؛ لأن الذهاب والعدم إنما يكون في الحفظ والرسم ، دون المحفوظ الذي هو كلام الله تعالى. ويدل على هذا : أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قال : استكثروا من قراءة القرآن قبل أن يرفع. فقيل له : كيف يرفع وقد حفظناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ فقال : يسرى عليه فيذهب حفظه من الصدور ، ورسمه من المصاحف. وهذا صحيح ، لأن حفظ المخلوق مخلوق مثله ، وحفظه مخلوق مثله ، فيتصور عليه الذهاب والعدم بالنسيان والمحو. وأما المحفوظ والمكتوب (١) الذي هو كلامه القديم ، فلا يتصور عليه ذلك. فاعلم ذلك وتحققه.

فإن احتجوا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» قالوا : وما جاز أن ينتقل ويتحول ويسافر به فهو مخلوق. قلنا : كم هذا التمويه الذي تشبهون به على العوام وجهّال الناس ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد بهذا الكلام حمل المصحف الذي فيه كلام الله مكتوب ، ولم يرد بذلك نفس كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، وقد قرنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدل على أن المراد به المصحف دون غيره ؛ ألا تراه قال : «مخافة أن تناله أيديهم» ومعلوم أن الذي تناله أيديهم إنما هو المصحف دون غيره ، وقد بيّن عليه‌السلام ذلك في حديث آخر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض أصحابه : «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» يريد بذلك الصحف التي يكتب فيها القرآن ، دون نفس القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، لأنه صفة من صفات ذاته ، ولا يتصور على صفات ذاته اللمس ونيل الأذى.

فإن قالوا : أجمعنا على أن القرآن سور ، والسور آيات ، والآيات كلمات ، والكلمات حروف وأصوات ، وجميع ذلك يدل على كونه محدثا مخلوقا ؛ لأن السور معدودة محسوبة ؛ لها أول وآخر ، وكذلك الآيات والحروف ، وما دخله الحصر والعد وكان له أول وآخر فهو مخلوق ، وهذه الشبهة التي سخمت وجوه من وافقهم في

__________________

(١) وصف القرآن القائم بالله سبحانه بالمكتوب ، والمحفوظ والمتلو من قبيل وصف المدلول بوصف الدال مجازا كما حققه التفتازاني في شرح المقاصد على ما سبق (ز).

مقالتهم هذه من أهل السنة الجهال بطرق التحقيق ؛ حيث سلموا لهم مع زعمهم أنه كلامه ليس بمخلوق ، ما قرروه من هذه الشبهة ، وقالوا مثل قولهم : إن كلامه حروف وأصوات ، فإن لله وإنا إليه راجعون (١).

والجواب عن هذه الشبهة : أن يقال لهم : أما ما ذكرتم من الحصر ، والتحديد والتبعيض ، والحروف والأصوات ، فجميع ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين دون كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفات ذاته ؛ لأن جميع ما ذكرتم يحتاج إلى مخارج من لسان ، وشفتين ، وحلق ، والله يتعالى ويتنزه عن جميع ذلك. بل نقول إن كلامه صفة له قديمة لا يحتاج فيه إلى أداة من صوت. أو حرف أو مخرج. يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وكذلك ما ذكرتم من الحصر ، والعد ، والأول ، والآخر ، إنما ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين لكلامه وكتبتهم لكلامه دون كلامه الذي هو صفة ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى بأظهر بيان لمن كان له فهم صحيح ، لأنه تعالى قال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)) [الكهف : ١٠٩] وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)) [لقمان : ٢٧] ومعلوم أن الكاتب منا يكتب عدة مصاحف بمحبرة واحدة ، ويتلو التالي منا عدة ختمات ، فالمحصور والمعدود المحدود الذي يتصف بأول وآخر صفاتنا من تلاوتنا لكلامه ،

__________________

(١) قال السعد في شرح المقاصد : (انتظم من المقدمات القطعية والمشهورة قياسان ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى ، وهو أنه من صفات الله وهي قديمة ، والآخر حدوثه ، وهو أنه من جنس الأصوات ، وهي حادثة ، فاضطر القوم إلى القدح في أحد القياسين ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين ، فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله تعالى ، والكرامية كون كل صفة قديمة ، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف ، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا ، ولا عبرة بكلام الكرامية والحشوية ، فبقي النزاع بيننا وبين المعتزلة ، وهو في التحقيق عائد إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه ، وأن القرآن هو أو هذا المؤلف من الحروف الذي هو كلام حسي أولا. فلا نزاع لنا في حدوث الكلام الحسي ولا لهم في قدم النفسي لو ثبت) ثم قال السعد : (وعلى البحث والمناظرة في ثبوت الكلام النفسي وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل من مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر ثم استقر رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر) وهذا التحقيق هو مفتاح هذا البحث الطويل العريض. وقد أثبت المصنف الكلام النفسي بكل ما جلاه في موضعه ، وحدوث ما سواه مما في الأذهان والألسنة والخطوط جلي واضح عند أرباب العقول فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (ز).

وخطنا لكلامه ، وحفظنا لكلامه. فأما صفته التي هي كلامه على الحقيقة فلا تتصف بالزوال ، والحصر ، والعد ، والأول والآخر على ما أخبر سبحانه وتعالى على مقتضى التحقيق. لأن كل ما اتصف بالبداية والفراغ والحصر والعد فإنما هي صفة المخلوق لا صفة الخالق القديمة بقدمه الموجودة بوجوده ، التي لا يجوز أن تتقدم عليه ولا تتأخر عنه. فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من ضلالة الفريقين وتخلص من جهل الطائفتين.

مسألة

ويجب أن يعلم أن القراءة غير المقروء. والتلاوة غير المتلو (١) والكتابة غير المكتوب ، وهذا إنما خالف فيه من لا حس له ، ولا فهم ، ولا عقل ولا تصور ، ونحن بحمد الله نبيّن الفرق بين الأمرين من الكتاب والسنة ودليل العقول.

فأما الدليل من الكتاب فكثير جدا. أحدها : قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] فأخبر تعالى أن القرآن منه منزل موحى ، وأن الرسول يقرؤه ويعلّمه ، فالموحي المنزل المقروء هو كلام الله تعالى القديم وصفة ذاته ، والقراءة له فعل الرسول التي هي صفته. وأيضا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) [المائدة : ٦٧] ففعل الرسول البلاغ الذي هو القراءة. وقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) [القيامة : ١٦] وقوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجّ : ٥٢] وقوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] وقوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١)) [النّمل : ٩١](وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : ٩٢] فمعلوم أن هاهنا آمر أمر بشيئين ، وهو الله تعالى ، ومأمور وهو الرسول ، فأمره بالعبادة له ، فحصل هاهنا آمر ، ومأمور ، ومأمور به ، فالآمر هو

__________________

(١) اعلم أن المتلو في الحقيقة هو اللفظ ، والمكتوب هو أشكال الحروف ، والمحفوظ هو الحروف المتخيلة ، والمسموع هو الصوت ، وأما التلاوة ، والكتابة والحفظ ، والسماع بالمعاني المصدرية فإنما هي نسب بين التالي والمتلو ، والكاتب والمكتوب ، والحافظ والمحفوظ ، والسامع والمسموع ، فطرفا كل من هذه النسب مخلوقان ، وإنما القديم هو ما قام به سبحانه. وإطلاقنا المتلو والمحفوظ والمكتوب والمسموع ونحو ذلك على ما قام به سبحانه من قبيل وصف المدلول بصفة الدال ، كما ذكرت فيما علقت على الأسماء والصفات نص قول السعد في شرح المقاصد في ذلك (ز).

الله تعالى ، والمأمور الرسول ، والمأمور به العبادة ، فالمعبود غير العبادة التي هي فعل الرسول ، فكذلك التلاوة (١) غير المتلو ، لأن التلاوة فعل الرسول وهو المأمور بها ، والمتلو كلامه القديم ، ولم يأمره أن يأتي بكلامه القديم ؛ لأن ذلك لا يتصور الأمر به ولا يدخل تحت قدرة مخلوق ، إنما أمر بتلاوة كلامه ، كما أمر بعبادته ، وعبادته غيره ، فكذلك تلاوة كلامه غير كلامه ، فحصل من هذا : تال. وهو الرسول عليه‌السلام وتلاوته صفة له. ومتلو : وهو كلام الله القديم الذي هو صفة له. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : ٩٨]. ففرق بين القراءة والمقروء :

وأيضا قوله تعالى : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) [الكهف : ٢٧] فذكر قراءة ومقروءا ، وتلاوة ، ومتلوا ، وعند الجاهل أن ذلك شيء واحد. وأيضا فإنه أمر بالتلاوة والقراءة ، والأمر هو استدعاء الفعل ، والفعل صفة المأمور لا صفة الآمر ؛ ألا يرى أنه أمر بالعبادة ، والعبادة صفة العابد لا المعبود. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] فأخبر تعالى أنه لم يكن تاليا ، ثم جعله تاليا ولم يكن كاتبا ، ولم يجعله أيضا في الثاني كاتبا ، وقد جعل غيره تاليا لكلامه كاتبا له ، ومعلوم عند كل عاقل أن ما لم يكن ثم كان وهي التلاوة ؛ صفة للرسول لم يكن موصوفا بها ثم صار موصوفا بها ، غير كلام الله الذي هو صفة له لا يستحق غيره الوصف بها ولا يتصف بأنه لم يكن ثم كان ، ومعلوم أن الرسول كان تاليا قبل أن تكون أمته تالية ، وحافظا قبل أن تكون أمته حافظة ، ثم صارت أمته تالية حافظة لما أقرأها وحفظها ، فتلاوته فهو كلام الله القديم و [كذا] الذي تلته أمته بتلاوتها. فلا يخفى على عاقل أن التلاوة غير المتلو ، كما أن العبادة غير المعبود ، والذكر غير المذكور ، والشكر غير المشكور ، والتسبيح غير المسبح ، والدعاء غير المدعو إلى غير ذلك.

__________________

(١) ومما يجب الانتباه إليه هنا : أن التلاوة بالمعنى المصدري لها طرفان كما سبق ؛ جانب الفاعل وجانب الأثر المترتب عليه ، الذي يقال له الحاصل بالمصدر المبني للمفعول ، وهذا هو المتلو حقيقة. فالتالي والمتلو بهذا المعنى مخلوقان ، وأما ما دلّ عليه هذا الصوت المكيف فهو صفة لله قائمة به وقديمة قدم باقي صفاته الذاتية الثبوتية ، فليس مراد المصنف بالمتلو والمحفوظ والمكتوب ما هو أثر مترتب على المعنى المصدري للتلاوة والحفظ ، والكتابة بل مراده بها الصفة القائمة بالله التي لا ترتب ولا تقدم ولا تأخر فيها. وفي شرح المقاصد تفصيل ذلك (ز).

ويدل على صحة ذلك من السنة وأن القراءة والتلاوة صفة القارئ ، والمقروء المتلو صفة الباري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن يقرأ القرآن غضا فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» يعني ابن مسعود ، فأضاف القراءة إلى ابن مسعود ، والمقروء صفة الله تعالى ، والذي يدل على صحة هذا القول أنه يجوز أن يقال هذا الحرف قراءة ابن مسعود وليس قراءة أبيّ وغيره من القراء ولا يجوز أن يقال إن المقروء الذي يقرأه ابن مسعود غير المقروء الذي يقرأه أبي ، لأن القراءة تكون غير القراءة والقرآن الذي يقرأه هذا بقراءته هو القرآن الذي يقرأه هذا أنه شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وإن تغيرت القراءة له واختلفت. والذي يوضح لك هذا ويبينه تبيينا مستوفيا أن عمر رضي الله عنه لما مر على بعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف قراءة عمر فأنكر ذلك عليه وقال : قد قرأتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلاف هذه القراءة ولبّبه حتى أتى به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال : «خلّ عنه ؛ اقرأ يا عمر ، فقرأ فقال : هكذا أنزل ، ثم قال للآخر : اقرأ ، فقرأ بالقراءة التي سمعها عمر منه فقال : هكذا أنزل. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه». فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم باختلاف القراءتين وأن كل واحدة منهما تؤدي إلى ما تؤدي إليه الأخرى ، وهو المتلو المقروء القديم الذي لا يختلف ولا يتغير. وأيضا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدة طرق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم واتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ، ولكن بالألف عشر ـ الحديث ...».

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله» فأضاف القرآن إلى الله تعالى لأنه صفة من صفات ذاته ، وأضاف التلاوة إلى التالي لأنها صفته يؤجر عليها كما يؤجر على جميع أفعال طاعاته. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استقرءوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل» وهذا يدلك على الفرق بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضهم على أخذ القراءة للقرآن عن هؤلاء الأربعة لأنهم قد باينوا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم في جودة القراءة وصحتها والعلم بها ، وهذا المعنى صحيح لأن الغلط ، واللحن ، والتحريف ، والتصحيف إنما يقع في القراءة والتلاوة التي هي صفة القارئ ؛ فأما القرآن المقروء فهو كلام الله تعالى الذي قد أخبر أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولأن القراءة تتعوج فيقومها القارئ الماهر ، لأنها يجوز عليها التعويج والتغيير ؛ فأما كلام الله القديم فليس يوصف بالتعويج. دليله : قوله

تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] وأيضا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه ، وأبو بكر ؛ وعبد الله بن مسعود يقرأ ؛ فاستمع لقراءته ، فلما ركع ـ أو سجد ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد». فأضاف القراءة إلى عبد الله ، لأنها صفته وعبادته عليها يثاب ويؤجر ؛ والمقروء بها كلام الله القديم الأزلي ، وقد روي : «من سره أن يقرأ القرآن رطبا» وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر ، وعمر وإني أقرأ سورة النساء ، فكنت أسجلها سجلا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه» ، ومعلوم عند كل عاقل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما وصف بالغضاضة والطراوة والتسجيل قراءة ابن مسعود دون كلام الله تعالى المتلو المقروء ، لأنه لا يوصف بالشيء وضده ، فاعلم ذلك وتحققه ؛ ولأن صفة القراءة تارة تكون غضة رطبة من قارئ دون قارئ إنما ذلك راجع إلى صفات المحدثين الذين يتفاضلون في قراءتهم وأصواتهم فتكون قراءة بعضهم غضة رطبة ، وقراءة بعضهم فجة سمجة ، ويكون صوت أحدهم حادا حسنا ، وصوت آخر فجا جهورا عاليا ، فأما القرآن المقروء المتلو فلا يختلف في ذاته بأي قراءة قرئ ، وبأي تلاوة تلي ، وبأي صوت سمع. بل الأدوات ، والأصوات واللغات تختلف في الجودة والرداءة والخفاء والجهارة.

* * *

فصل

وقد روي من الأخبار والآثار عن سيد الأولين والآخرين وصحابته رضي الله عنهم في الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء ما لا يحصى عددا ونحن نذكر شيئا من ذلك يقوي جميع ما تقدم.

فمن ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعجمي ، والأعرابي. قال : فاستمع وقال : «اقرءوه فكل حسن ، سيأتي قوم يقومونه كما يقومون القدح ، يتعجلونه ولا يتأملونه».

وعن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقترئ يقرئ بعضنا بعضا فقال : «الحمد لله كتاب الله واحد فيه الأحمر والأسود اقرءوا اقرءوا قبل أن يجيء قوم يقومونه كما يقومون القدح ، ولا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأملونه» ، ففصل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذين الحديثين بين التلاوة والمتلو ، والقراءة

والمقروء ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنى بالأحمر العربي الفصيح ، وبالأسود الأعجمي ، فالعجمي يقع في قراءته اللكنة والتمتمة ويسلم من ذلك العربي الفصيح فاستمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءتهم المختلفة وحثّهم ورغّبهم في القراءة وأخبر أن كتاب الله واحد ليس بمختلف ولا متغاير ، ثم أعلمهم بمجيء قوم من بعدهم ممن يقوم القراءة تقويم القدح ، فعلم كل عاقل أن كلام الله القديم الأزلي ليس مما يعوج فيقوم ، وإنما العوج يقع في قراءة القارئ فيقوم.

ويدل عليه أيضا قول ابن مسعود رضي الله عنه : عجبت للناس وتركهم لقراءتي وأخذهم قراءة زيد بن ثابت ، وقد أخذت من فيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت غلام صاحب ذؤابة. فأضاف ابن مسعود قراءته إلى نفسه ، وأضاف قراءة زيد إلى نفسه ، وأخبر أن قراءته أكمل من قراءة زيد ؛ لأخذه لها من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغاير بين القراءتين ، ومعلوم عند كل عاقل أن المقروء والمتلو الذي يقرأه عبد الله هو المقروء المتلو الذي يقرأه زيد ، وإن كانت قراءة أحدهما غير قراءة الآخر.

ويدل عليه ما روي عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا وائل يحدث : أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال : إني قرأت المفصل كله في ركعة فقال عبد الله : هذّا كهذّ الشعر ، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرن بينهن. وعنه أيضا أنه قال له رجل : إني أقرأ المفصل في ركعة ، فقال عبد الله : هذّا كهذ الشعر ، إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع. ومعلوم أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يشبه كلام الله تعالى بهذا الشعر ، وإنما شبه قراءة القارئ دون كلام الباري. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد». وأيضا ما روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن متثبتا أو بإعراب كان له بكل حرف فضل أربعين حسنة». فكل عاقل يعلم ويتحقق أن القراءة المعربة غير القراءة الملحونة ؛ لأن من صحح قراءة الفاتحة صحت صلاته ، ومن ترك ذلك مع قدرته عليه بطلت صلاته. فأما كلام الله تعالى القديم فلا يتصف بالصحة وضدها بل هو صحيح على كل حال ، وإن وقع الفساد في القراءة.

وأيضا ما روي قتادة قال : قلت لأنس بن مالك كيف كانت قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : يمد صوته مدا. وأيضا ما روى عبد الله بن مغفل قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح وهو على ناقته أو جمله وهو يسير وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة. فمعلوم عند كل عاقل عارف أن الترجيع والمد ، واللين ، إنما تقع في القراءة التي هي صفة القارئ دون كلام الله القديم الأزلي ، ومن اعتقد أن الترجيع ،

والمد ، واللين الذي هو صفة القارئ ومد صوته ولينه راجع إلى الكلام القديم الأزلي فقد جهل الله تعالى وصفات ذاته ، وصرح بحدوث القرآن وخلقه. وأيضا ما روى النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن» وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النظر في كتاب الله عبادة» وروى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطوا أعينكم حظها من العبادة ، قالوا : يا رسول الله وما حظها من العبادة؟ قال : قراءة القرآن نظرا ، والاعتبار والتفكر فيه» وقال ابن مسعود : «النظر في المصحف عبادة» فقد اتضح بهذه الأخبار الفرق بين القراءة والمقروء ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل قراءتنا عبادة منا ، والعبادة منا صفتنا التي نثاب عليها ونؤجر ، وذلك أن الله تعالى وصف عبادته على الأعضاء ، وكل عضو من ابن آدم مخصوص بنوع من العبادة ، فالقلب مخصوص بالعلم بالله تعالى وبمعرفته وبحفظ كلامه ، والإيمان به وبكلامه ، ثم المعرفة غير المعروف ، والعلم غير المعلوم ، والإيمان غير المؤمن به ، والحفظ غير المحفوظ ، لأن العلم صفة العبد ، والمعلوم الرب تعالى ، وكذلك الإيمان صفة للعبد ، والمؤمن به هو الله تعالى. وكذلك الحفظ صفة العبد لم يكن يحفظ ثم صار حافظا ، والمحفوظ كلام الله القديم الذي لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان بل قديم موجود بوجود الحق سبحانه وتعالى ، موجود قبل الحفظ وبعده ، واللسان مخصوص من العبادة بالذكر لله تعالى والتسبيح له والدعاء له ، وقراءة كلامه ، ثم الذكر صفة الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى ، والتسبيح صفة المسبح ، والمسبّح هو الله تعالى ، والدعاء صفة الداعي والمدعو هو الله تعالى. كذلك القراءة صفة القارئ التي هي له عبادة وطاعة ، والمقروء كلام الله القديم الموجود قبل القارئ وقبل قراءته. فافهم إن كان لك فهم.

وعبادة العين : النظر في المصحف ، والتفكر في الآيات من كلام الله تعالى ، فالناظر إنما يثاب على نظره الذي هو صفة لا على المنظور فيه الذي هو صفة الله تعالى. ولهذا المعنى : أن من كان أكثر قراءة ونظرا وتفكرا كان أكثر ثوابا ممن نظر أقل من نظره ، وقرأ أقل من قراءته ؛ فالزيادة والنقصان إنما يكونان في أفعال العباد التي تتصف بالشيء وضده فأما القديم الذي هو كلام الله فلا يتصف بالشيء وضده. فاعلم ذلك وتأمله تهد إن شاء الله.

ويدل على الفرق بين القراءة والمقروء ، ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طرق عدة : أنه قال : «خذوا القرآن من أربعة : عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل» ثم خصّ عبد الله بن مسعود فقال : «من سرّه أن يقرأ القرآن

غضا رطبا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» يعني ابن مسعود. فالدليل من وجهين :

أحدهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّ هؤلاء الأربعة بجودة القراءة دون غيرهم من الصحابة ، وإن كان المقروء بقراءة هؤلاء هو المقروء بقراءة غيرهم ، ففاضل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين القراءة وقدّم بعضها على بعض ، وكلام الله القديم لا يجوز عليه الجودة والرداءة بل كله شيء واحد جيد لا يختلف ، وإن اختلفت القراءة له.

الثاني من الدليلين : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضاف القراءة إلى ابن مسعود دون القرآن الذي هو كلام الله تعالى فقال : «من سرّه أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن مسعود». فقراءة ابن مسعود صفة له ، والمقروء كلام الله صفة له لا لابن مسعود. وأيضا فإنه وصف قراءة ابن مسعود بأنها غضة رطبة وهذه صفة لا تقع إلا على صفة المحدثين ؛ لأن قراءة بعضهم تكون غضة رطبة ، مستحسنة تميل إليها القلوب ، وقراءة بعضهم فجة غليظة تنفر عنها الطبائع ، والمقروء بهذه هو المقروء بهذه ، وكذلك بعض القراءات مصححة معربة ، وبعضها ملحونة معوجة مفسدة ، والمقروء بهذه ، هو المقروء بهذه لأن القديم لا يتصف بالصحة تارة وبالفساد تارة أخرى ، إنما يتصف بالفساد تارة وبالصحة تارة أخرى صفة المخلوقين ، وهي قراءتهم دون المقروء والمتلو الذي هو كلام الله القديم.

* * *

فصل

وأما الدليل على أن الحروف والأصوات من صفات قراءة القارئ ، لا أنها من كلام الباري سبحانه وتعالى من الأخبار فكثير جدا ، لكن إن شاء الله أذكر من ذلك ما يقع به الكفاية لكل عاقل محصل.

فمن ذلك : ما روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل فقرأ يخفض طورا ويرفع طورا. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا ، فموضع الدليل من هذين الخبرين أنهما أضافا القراءة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأضافا الخفض والرفع بتفسير الحروف حرفا حرفا إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري ، وكل حديث أذكره لك بعد هذين الحديثين فتأمله ؛ فإني أذكرها سردا إن شاء الله ، فتجد في كل حديث ما يدلك على صحة ما أقول ، وهو : إضافة الصوت ، والحرف إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري القديم الأزلي.

فيدل على صحة ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع قراءته آية آية ، ولو شاء العاد أن يعدها أحصاها. وهذا يدلك على أن القراءة تنعد وتنحصر ، والمقروء القديم لا ينعد ولا ينحصر فافهم ذلك.

ويدل على ذلك أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت : أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع صوته بالقرآن؟ قالت : ربما رفع وربما خفض. ويدل عليه أيضا ما روي عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه.

ويدل عليه أيضا ما روي عن أنس أنه قال : ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه ، وحسن الصوت وكان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسن الوجه وحسن الصوت إلا أنه كان لا يرجّع. وأيضا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : «ما لك إذا قرأت لا ترفع صوتك» قال : إني أسمع من أناجي. وقال لعمار : «ما لك إذا قرأت تأخذ من هذه السورة ومن هذه السورة؟ فقال : سمعتني أخلط به ما ليس منه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكله طيب» فموضع الدليل : أن الرسول عليه‌السلام أضاف قراءة كل واحد وصوته إليه ، وذكر أنها قراءة مختلفة ، وأضاف إلى كل واحد صفته من القراءة والصوت ، ولم يضف إلى كلام الله تعالى شيئا من ذلك فافهم.

وأيضا ما روي عن أم هانئ رضي الله عنها قالت : كنت أسمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا علي عريشي. وأيضا ما روى جبير بن مطعم قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي بأصحابه المغرب ، فسمعته وهو يقرأ ، وقد خرج صوته من المسجد : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨)) [الطّور : ٧ ، ٨] فكأنما صدع قلبي ، ويقال إن هنا كان سبب إسلامه ، لأنه جاء يكلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى بدر ، فلما سمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحسن صوته قال : فكأنما صدع قلبي ، وكأني بالعذاب قد أحاط بي ، فصدقت وآمنت من ساعتي. وهذا الحديث أدل دليل على الفرق بين القراءة والمقروء ، وأن الصوت صفة الصائت والقارئ دون كلام الباري ، لأن الذي صدع قلبه وهداه إنما هو الذي فهمه من كلام الله تعالى الذي أوعد به المستكبرين ؛ فعلو الصوت من قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفة للرسول عليه‌السلام ، والذي صدق به قلبه هو ما فهمه من كلام الله تعالى الذي سمعه بواسطة قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلو صوته ،

لأن الأصوات والحروف لا تهدى ولا تشقى ، إذ لا تأثير لها في إحياء القلوب وإقبالها ، إنما الذي يحيي القلوب ويهديها كلام الله القديم الأزلي يدل عليه قوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشّورى : ٥٢] فالهادي الشافي المقروء لا القراءة ، والمفهوم من الصوت لا الصوت.

يدل على ذلك أيضا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله عزوجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا» قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال : «أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» فبيّن لك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كلام الله الذي هو القرآن هو الذي يهدي ويشقي لا قراءة القارئ.

وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا في الجنة إذ سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا؟ فقالوا : حارثة بن النعمان. كذلك البر. كذلك البر». وكان حارثة من أبر الناس بأمه ، وأضاف صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصوت إلى الرجل الصائت دون القرآن. ولو أني أتقصي الأخبار والآثار في الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء لاحتاج إلى مجلدات عدة ؛ لكن ذكرت من ذلك ما فيه كفاية بحمد الله لمن له عقل سليم وفهم صحيح ، فإذا تقرر هذا صحّ لك أن القراءة صفة القارئ ، والمقروء على الحقيقة كلام الباري ، وكذلك الحفظ صفة الحافظ ، والمحفوظ كلام الله تعالى ، وكذلك الكتابة صفة الكاتب وصنعته ، والمكتوب كلام الله تعالى ، كما أن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى. وكذلك العبادة من الصلاة ، والصوم ، والحج صفة للعابد وهي في أنفسها مختلفة الصفات متغايرة ، والمعبود بها واحد أحد ليس بمختلف ولا متغاير وهو الله تعالى. وفي هذا كفاية لمن سلم له التصور والفهم.

وأما الدليل من جهة العقل هو : أن يعلم أن القراءة تارة تكون طيبة مستلذة ، وتارة فجة تنفر منها الطباع ، وتارة رفيعة عالية ، وتارة منخفضة خفية ، وتارة يلحقها اللحن والخطأ ، وتارة تصح وتقوم ، وما جازت عليه الأشياء فلا يجوز أن يكون إلا صفة الخلق دون صفة الحق. وكذلك أيضا الكتابة تارة تكون مرتبة جيدة حسنة يمدح كاتبها. وتارة وحشية يذم كاتبها ، والإنسان إنما يمدح ويذم على فعله ، فصحّ أن

الكتابة صفة الكاتب ، والمكتوب بها كلام الله تعالى ، وأيضا فإن الكتابة يلحقها المحو يتصور عليها الغرق ، والحرق ، والتواء ، والتلف ، وكلام الله القديم لا يتصور عليه شيء من ذلك. وكذلك الحفظ ، والسمع تارة يوجد ، وتارة يعدم ، وما يجوز عليه الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فليس بصفة لله تعالى ، وإنما هو صفة المخلوق المربوب ، لكن المسموع من القرآن ، والمحفوظ منه ، والمقروء منه ، والمكتوب منه كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا مربوب. فافهم تصب إن شاء الله.

وأيضا فإن من حلف بالطلاق الثلاث أن لا يقوم من مقامه حتى يفعل فعلا يكون عبادة وطاعة لله تعالى ؛ فقرأ عشر آيات من القرآن ثم قام ولم يفعل شيئا غير ذلك لم يحنث في يمينه بإجماع المسلمين ، فصحّ أن قراءته فعله وعمله الذي صار به فاعلا ، عابدا ، طائعا. وأن المقروء بقراءته كلام الله تعالى القديم الذي ليس بفعل لأحد فافهم.

وأيضا : فإن قراءة القارئ تارة تكون طاعة وقربة ، وتارة تكون معصية وذنبا. فأما الطاعة فهي إذا قرأها وهو طاهر غير جنب وغير مرائي بها أحدا من الخلق ، ويكون معصية إذا قرأها وهو جنب مرائي ، وما يكون تارة طاعة وأخرى معصية كيف يكون صفة الحق؟ ـ تعالى عن ذلك ـ بل هو صفة الخلق ، لكن المقروء في الحالتين شيء واحد ، وهو كلام الله تعالى القديم لا يتصف بالشيء وضده. فافهم ، وفي بعض هذا مقنع لمن لم يكن يكابر الضرورات.

مسألة

ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة (١) كما قال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)) [الواقعة : ٧٧ ، ٧٨] وهو في مصاحفنا مكتوب على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)) [البروج : ٢١ ، ٢٢] لكن نحن نعلم وكل عاقل أن كلام الله الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ هو القرآن المكتوب في مصاحفنا شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وأن اللوح غير أوراق مصاحفنا ، وأن الخط الذي فيه غير الخطوط التي في مصاحفنا ، وأن القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ غير أقلامنا ،

__________________

(١) عند من يرى وجود الشيء في الأعيان والأذهان واللسان والكتابة ونحوها حقائق يشترك بينها لفظ الوجود اشتراكا لفظيا (ز).

وكذلك ما اختلف وغاير غيره واختص بمكان دون مكان وزمان دون زمان ، فهو مخلوق مربوب ، وكل ما هو على صفة واحدة لا يختلف ولا يتغير ولا يجوز عليه شيء من صفات الخلق ، فكذلك هو كلام الله تعالى القديم وجميع صفات ذاته [قديمة] وكذلك القرآن محفوظ بالقلوب على الحقيقة. كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] لكن نعلم قطعا أن زيدا الحافظ غير عمرو الحافظ ، وأن قلب هذا غير قلب هذا ، وأن حفظ هذا غير حفظ هذا. لكن المحفوظ لهذا بحفظه هو المحفوظ للآخر بحفظه ، وهو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، إذ هو صفة الله تعالى قديم غير مخلوق ، وكذلك نقول إنه مقروء بألسنتنا نتلوا بها على الحقيقة لكن نعلم أن زيدا القارئ غير عمرو القارئ ، وأن لسان زيد غير لسان عمرو ، وأن قراءة زيد غير قراءة عمرو ، ولكن المقروء لزيد هو المقروء لعمرو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، بل هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يجوز عليه صفات الخلق وهذا كما قال تعالى : (أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤] يعلمه زيد بعلمه ويعلمه عمرو بعلمه ، ويعبده زيد بعبادته ، ويعبده عمرو بعبادته ، ويدعوه زيد بدعائه ، ويدعوه عمرو بدعائه ويذكره زيد بذكره ، ويذكره عمرو بذكره ، ويسبحه زيد بتسبيحه ، ويسبحه عمرو بتسبيحه ، فزيد غير عمرو ، وذكره غير ذكر عمرو ، وعبادته غير عبادة عمرو ، ولكن المعبود لهذا هو المعبود لهذا ، والمذكور لهذا هو المذكور لهذا ، والمسبح لهذا هو المسبح لهذا ، والله تعالى القديم الواحد الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

مسألة

ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مسموع لنا على الحقيقة (١) لكن بواسطة وهو القارئ.

دليل ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التّوبة : ٦] واعلم : أن المسموع فهو كلام الله القديم صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قبل سماع السامع لها ، وإنما الموجود بعد أن لم يكن هو سمع

__________________

(١) على القول بالاشتراك بين الوجودات السابق ذكرها ، وأما على القول بأن القرآن اسم للنظم الدال لا من حيث تعين من قام به فيكون واحدا بالنوع ، كما هو قولهم في أسماء الكتب ، فيكون المقروء هو هو بدون إشكال الحدوث والقدم ، فما قام بالقديم قديم ، وما قام بالحادث حادث (ز).

السامع وفهم الفاهم لكلام الله تعالى يحدث الله تعالى له سمعا إذا أراد أن يسمعه كلامه ، وفهما إذا أراد أن يفهمه كلامه ، لأن المسموع لم يكن ثم كان عند السمع والفهم ، وهذا كما أن الله موجود قديم بوجود قديم ، وإذا خلق رجلا أو امرأة لعبادته وسهل له العبادة التي لم تكن ثم كانت فإنه يصير عابدا لله تعالى ، الذي هو موجود قديم دائم قبل العبادة وبعدها ، وإنما الذي لم يكن ثم كان هو العابد والعبادة ، فافهم الحق وحدوده.

مسألة

فحصل من هذا : أن الله تعالى يسمع كلامه لخلقه على ثلاث مراتب : تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب ، ونعني بالحجاب للخلق لا للحق كموسى عليه‌السلام أسمعه كلامه بلا واسطة (١) لكن حجبه عن النظر إليه ، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضا من ملك أو رسول أو قارئ ؛ وهو استماع الخلق من الرسول عند قراءته للصحابة وقراءة الصحابة على التابعين ، وكذلك هلم جرا إلى يومنا هذا ؛ يسمع كلام الله تعالى على الحقيقة لكن

__________________

(١) وفي شرح المقاصد : (اختصاص موسى عليه‌السلام بأنه كليم الله تعالى ، فيه أوجه ، أحدها ـ وهو اختيار الغزالي ـ أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف ، كما ترى ذاته في الآخرة بلا كم ولا كيف ، وهذا على مذهب من يجوز تعلق الرؤية والسماع بكل موجود حتى الذات والصفات ، ولكن سماع غير الصوت والحرف ، لا يكون إلا بطريق خرق العادة ، وثانيها : أنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة ، وثالثها : أنه سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا. وحاصله أنه أكرم موسى عليه‌السلام فأفهمه كلامه بصوت تولى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه ، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي ، وأبو إسحاق الأسفراييني ، وقال الأسفراييني : اتفقوا على أنه لا يمكن سماع غير الصوت إلا أن منهم من بتّ القول بذلك ، ومنهم من قال لما كان المعنى القائم بالنفس معلوما بواسطة سماع الصوت كان مسموعا ، فالاختلاف لفظي لا معنوي ا. ه) والصوت سواء كان من جهة أو الجهات كلها حادث مخلوق لا يقوم بالله سبحانه ، وفي طبقات الحنابلة لأبي الحسين بن أبي يعلى عند ترجمة الإصطخري في صدد ذكر عقيدة أحمد : (وكلم الله موسى تكليما من فيه ، وناوله التوراة من يده إلى يده) ومن هذا يعلم مبلغ ضلال هؤلاء المجسمة المتسترين بالانتساب إلى أحمد زورا وحاش لله أن يكون الإمام أحمد يثبت لله فما ، وما إلى ذلك من وجوه الضلال في العقيدة المعزوة إليه هناك ، كما ذكرت فيما علقت على الأسماء والصفات (ص ١٩٣) ولي إفاضة في ذلك في كثير من المواضع والله سبحانه هو الهادي (ز).

بواسطة ، فتارة يسمع كلامه من شاء من الخلق بغير واسطة ولا حجاب ، كتكليمه لنبينا عليه‌السلام ليلة المعراج. دليل الثلاثة قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [الشّورى : ٥١] وهو نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمعه الله تعالى كلامه ليلة المعراج من غير واسطة ولا حجاب ، لأنه تعالى في تلك الليلة قال : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)) [النّجم : ١٠] ولا يحمل الوحي هاهنا على الإلهام بل على السماع والإفهام ؛ أو من وراء حجاب ، كموسى عليه‌السلام أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن الرؤية ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فيسمع من يشاء كلامه بواسطة تبليغ الرسول أو قراءة القارئ. وهذه جملة بليغة في هذا المعنى إن شاء الله تعالى.

مسألة

ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال.

والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) [الشّعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥] فيجب أن تعتقدها هنا أربعة أشياء هنا : منزّل ، ومنزّل ، ومنزول عليه ، ومنزول به. فالمنزل هو الله تعالى لقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر : ٩] وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) [النّحل : ٤٤] والمنزل على الوجه الذي بيّنّاه من كونه نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال كلام الله تعالى القديم الأزلي القديم بذاته ، لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢)) [الشّعراء : ١٩٢] والمنزل عليه قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله تعالى : (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)) [الشّعراء : ١٩٤] والمنزول به هو اللغة العربية التي تلا بها جبريل ، ونحن نتلو بها إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) [الشّعراء : ١٩٥] والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر ، قول جبريل عليه‌السلام. يدل على هذا قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣)) [الحاقّة : ٣٨ ـ ٤٣] وقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

[التّكوير : ١٥ ـ ٢٩] وهذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن. وقالوا : ما هذا إلا قول البشر ، فرد عليهم بهاتين الآيتين وكذلك رد عليهم أيضا لما قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النّحل : ١٠٣] فحصل من هذا أن الله تعالى علّم جبريل عليه‌السلام القرآن. دليله قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)) [الرّحمن : ١ ، ٢] وجبريل عليه‌السلام علّم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليله قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥)) [النّجم : ٥] وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ مع جبريل حال قراءته فزعا منه أن يذهب عنه حفظه حتى نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] وبقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)) [القيامة : ١٦] معناه لا تعجل بقراءتك حتى يفرغ جبريل عليه‌السلام. ثم طمّن قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يحفظه إياه ويثبت حفظه في قلبه ، فقال : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧)) [القيامة : ١٧] يعني في صدرك حفظه. ووعده أن لسانه يقرؤه قراءة لا يحصل معها نسيان فقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦)) [الأعلى : ٦] يعني قراءة لا نسيان معها ، فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات لا يجوز أن تفارق الموصوف ، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها ، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها. فافهم ذلك. فجاء من ذلك أن جبريل عليه‌السلام علم كلام الله وفهمه ، وعلّمه الله النظم العربي الذي هو قراءته ، وعلّم هو القراءة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، ولم يزل ينقل الخلف عن السلف ذلك إلى أن اتصل بنا فصرنا نقرأ بعد أن لم نكن نقرأ ، فالقراءة أغيار لأن قراءة جبريل عليه‌السلام غير قراءة نبينا عليه‌السلام ، وقراءة نبينا عليه‌السلام غير قراءة أصحابه ، وقراءة أصحابه غير قراءة من بعدهم ، ثم كذلك هلم جرا إلى يومنا هذا ، يعلم كل عاقل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ قبل الصحابة ، ثم قرأت الصحابة ، ثم قرأ التابعون ثم كذلك إلى اليوم ، لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق هو المقروء بقراءة الرسول عليه‌السلام وقراءة الجميع. وهذا أمر واضح إن شاء الله تعالى.

مسألة

ويجب أن يعلم أن الله تعالى لا يتصف كلامه القديم بالحروف والأصوات ولا شيء من صفات الخلق ، وأنه تعالى لا يفتقر في كلامه إلى مخارج ، وأدوات ، بل يتقدس عن جميع ذلك ، وأن كلامه القديم لا يحل في شيء من المخلوقات.

والدليل على ذلك : أنه قد صحّ وثبت أن من شرط الصفة قيامها بالموصوف ، والدليل على صحة ذلك أولا : أن حد القديم ما لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه ، وأن القديم لا يدخله الحصر والعد ، ونحن نعلم وكل عاقل أن هذه الأشكال من الحروف لم تكن قبل حركة الكاتب وإنما يحدثها الله مع حركة الكاتب شيئا فشيئا. ثم هي مختلفة الصور والأشكال ، ويدخلها الحصر والحد ، وتعدم بعد أن توجد ، وكل ذلك صفة المحدث المخلوق لمن كان له عقل سليم. وأيضا فإن حروف الكلمة يقع بعضها سابقا لبعض فعند خط الكاتب «با» قد حصلت وثبتت قبل خطه «سينا» وكذلك السين حصلت وثبتت قبل خطه «ميما» وكذلك النطق إذا تلفظ بالباء حصلت قبل السين وما تقدم بعضه على بعض وتأخر بعضه عن بعض فهو صفة الخلق لا صفة الحق (١) : وكذلك الأصوات يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض ويخالف بعضها بعضا وكل ذلك صفة كلام الخلق لا صفة كلام الحق الذي هو قديم ليس بمخلوق. وأيضا فإن القول بقدم الأصوات والحروف يوجب القدم لجميع كلام الخلق ، وأصوات الناطق والصامت ، وهذا قول يؤدي إلى قدم جميع العالم أجمع ، وأيضا فإن الحروف التي يزعمون أنها قديمة وأنها صفة لكلامه تعالى لا يخلو إما أن تكون هذه الحروف التي تجري في كلام الخلق أو مثلها أو ضدها. فإن قالوا : إنها هي وجب قدم كلام الخلق ، وكذلك إن قالوا مثلها وجب ذلك أيضا ، لأن حد المثلين ما سدّ أحدهما مسدّ الآخر وناب منابه وساوقه من جميع الوجوه.

وإن قالوا : بل هي مضادة لهذه الحروف فقد يقولون القول [من غير] أن يكون [له] معنى وهذا بين الفساد.

ويدل على أن كلام الله القديم لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا ؛ ما روي عن ابن عباس أنه قال : لما سلط الله بختنصر على اليهود لما قتلوا يحيى عليه‌السلام سلطه عليهم فقتلهم وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. قال عزير عليه‌السلام في جملة مناجاته : (يا رب سلّط عليهم عدوا من أعدائك ، بطر رحمتك ، وأمن مكرك ، وهدم بيتك ، وحرق كتابك) فأوحى الله تعالى إليه من جملة ما أوحى أن بختنصر إنما أحرق

__________________

(١) قال المصنف في النقض الكبير ـ كما في الشامل لإمام الحرمين ـ : (من زعم أن السين من بسم الله بعد الباء ، والميم بعد السين الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن العقول وجحد الضرورة وأنكر البديهة. فإن اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوليته ، فإذا ادعى أنه لا أول له فقد سقطت محاجته وتعين لحوقه بالسفسطة ، وكيف يرجى أن يرشد بالدليل من يتواقح في جحد الضروري اه) راجع ما علقناه على السيف الصقيل (ص ٤٦٢) (ز).

من التوراة الخط ، والحروف ، والورق ، والدفتر ولم يحرق كلامي ، فأخبر تعالى أن كلامه ليس هو الحروف التي حرقت ولا أنه مما تناله الأيدي ولا تعتديه ولا يبلى ولا ينعدم ، ويؤكد هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جعل هذا القرآن في إهاب وألقي في النار لم يحترق» ولم يرد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الجلد ، والمداد والحروف المصورة لا تحترق ، وإنما أراد أن كلام الله تعالى هو القرآن لا يحترق في النار ولا يتصور عليه الحرق والعدم ، إنما يتصور ذلك على الأجسام والأشكال. فأما الكلام القديم فلا. والذي يدل على صحة هذا أنه ـ ونعوذ بالله تعالى ـ لو أخذ اليوم جبار عاص لله مصحفا فحرقه بالنار حتى صار رمادا ، أنقول إن كلام الله القديم احترق وانعدم؟ أم نقول إن كلامه باق ثابت لم يحترق ولم ينعدم ، وإنما احترق الورق ، والحروف المصورة بلا خلاف بين كل عاقل.

دليل آخر على حدث الحروف : وهو أن الأمة مجمعة على أن من قرأ كلام الله تعالى في صلاته لم تبطل صلاته ، ولا خلاف أن من قرأ حروف التهجي في صلاته بطلت صلاته ، فعلم بذلك أنها ليست بكلام الله تعالى.

دليل آخر على ذلك : وهو أن من قرأ القرآن وهو جنب أو امرأة حائض مع علمها بتحريم ذلك أنهما قد عصيا وفعلا ما لا يجوز لهما ، ولو تهجّى الجنب والحائض حروف الهجاء من أولها إلى آخرها لم يعصيا بذلك ، فعلم بذلك أن الحروف غير كلام الله تعالى. وإنما هي آلة يكتب بها كلام الله تعالى ويتلى بها كلامه ، وليست نفس كلامه. ويدل على ذلك أيضا ما روى علي رضي الله عنه أنه قال في جواب مسائل سأله عنها اليهود فقال : إن الله تعالى كلّم موسى عليه‌السلام بلا جوارح ، ولا أدوات ، ولا حروف ، ولا شفة ، ولا لهوات ، سبحانه عن تكيف الصفات. وأيضا ما روي عن علي عليه‌السلام أنه سئل هل رأيت ربك؟ وكان السائل له دعبل فقال في جوابه : لم أعبد ربا لم أره. فقال له : كيف رأيته؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويحك يا دعبل! إن ربي لا يوصف بالبعد وهو [قريب] ولا بالحركة ، ولا بقيام ، ولا انتصاب ، ولا مجيء ، ولا ذهاب ، كبير الكبراء لا يوصف بالكبر ، جليل الأجلاء لا يوصف بالغلظ ، رءوف رحيم لا يوصف بالرقة ، آمر لا بحروف ، قائل لا بألفاظ ، فوق كل شيء ولا يقال شيء تحته ، وخلف كل شيء ، ولا يقال شيء قدامه ، وأمام كل شيء ، ولا يقال له أمام ، وهو في الأشياء غير ممازج ولا خارج منها كشيء من شيء خارج ، (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان من شيء لكان محدثا.

ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمه‌الله ؛ فإنه قال : جلّت ذاته عن الحدود ، وجلّ كلامه عن الحروف ، فلا حد لذاته ، ولا حروف لكلامه. ويدل عليه أيضا ما حدّث به أبو بكر (١) النقاش في تفسيره عن آدم بن أبي إياس قال : رأيت في يد بكر بن خنيس كتابا فزدت فيه حرفا أو نقصت منه حرفا : فقال لي بكر بن خنيس : يا آدم من أمرك أن تفعل هذا؟ أما علمت أن الله تعالى لما خلق الألف انتصبت قائمة ، فلما خلق الباء أضجعت ، وقيل للألف لم انتصبت قائمة؟ قالت : أنتظر ما أومر. وقيل للباء لم أضجعت؟ قالت : سجدت لربي. فقال بكر : فأيهما أجل؟ الذي فعل ما لم يؤمر به ـ يعني الباء سجدت ولم تؤمر بالسجود ـ أو الذي انتظر ما يؤمر ـ يعني الألف ـ. قال آدم بن أبي إياس : فكأنه فضل الألف على الباء ودلالة هذا على وجهين :

أحدهما : أنه صرح في هذا بخلق الألف والباء.

والثاني : أنه فضل الألف على الباء ، والقديم لا يجوز أن يفضل بعضه على بعض ، ولا يوصف بالأبعاض وإنما الذي يبعض ويحدد تلاوة القديم لا نفس الكلام القديم : وأيضا ما ذكره في تفسيره بإسناد رفعه إلي كعب الأحبار أنه قال : إن أول ما خلق الله تعالى من الحروف الباء ، ويقال : كانت الألف والسين حرفين كاملين فرفعت السين فرفع الله الألف عليها.

وأيضا ما روي عن عبد الله بن سعيد أنه قال : عرضت حروف المعجم على الرّحمن تعالى وتقدّس وهي تسعة وعشرون حرفا فتواضع الألف من بينها فشكر الله تعالى له فجعله قائما ، وجعله أمام اسمه الأعظم ـ يعني الله ـ فإنه لم يسم به غيره.

ويدل عليه أيضا : أن حروف التوراة مخالفة لحروف الفرقان في الهيئة والصورة والعدد ، لأن حروف التوراة حروف عبرانية ، وكذلك القول في حروب الإنجيل والمقروء بالكل منهما وإن اختلفت الحروف شيء واحد ، لا يختلف ولا يتغير.

وأيضا فإن الحروف تحتاج إلى مخارج ، فحرف الشفة غير حرف اللسان ، وحرف الحلق غيرهما ، فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج وهو منزّه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون.

__________________

(١) محمد بن الحسن صاحب شفاء الصدور الكذاب المشهور (ز).

وأيضا فإن الحروف متناهية معدودة ، وكلام الله تعالى قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه كعلمه ، وقدرته ، ونحو ذلك من صفات ذاته. وقد أكد تعالى ذلك بغاية التأكيد ، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد ، بقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)) [الكهف : ١٠٩] وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه. إذ كل ما له نهاية له بداية ، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصور في حقه البداية. وبالجملة أن من خالف في هذا فلا أراه أهلا للكلام معه ، لأنه ينكر ما قد علم ضرورة ويكابر الحس ويعاند الحق ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.

مسألة

ويجب أن يعلم أن القراءة (١) غير المقروء ، وأنها صفة للقارئ ، والمقروء بها غير مخلوق بل هو من كلام الباري وكذلك الحفظ صفة القلب والمحفوظ غير مخلوق ، بل هو كلام الرب ، وكذلك السمع صفة السامع والمسموع به غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى ؛ وكذلك الكتابة صفة الكاتب والمكتوب بها من القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا صفة مخلوق ، وهذا كما تقول : إن الذكر غير المذكور ، لأن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور بذكره هو الله تعالى ، وكذلك العبادة صفة العابد من المخلوقين ، والمعبود غير العبادة بل هو الله تعالى ؛ وكذلك التسبيح صفة العبد المسبح ، والمسبح هو الله تعالى ، والذي يحقق هذه الجملة النفي ، والإثبات ، والوجود ، والعدم. فإنك تقول : قرأ زيد أمس. فقراءته أمس معدومة اليوم ، وقراءته اليوم غير قراءته أمس ، والمقروء أمس بقراءته أمس هو المقروء بقراءته اليوم. ثم تنفي تارة أخرى فتقول : لم يقرأ زيد يوما ولم يوجد منه قراءة ، والمقروء موجود ثابت لا يتصور عليه العدم ، بل هو ثابت قبل وجود زيد وقبل وجود قراءته ، وموجود ثابت في حال قراءته وبعد قراءته على وجه واحد لا يتصور عليه الشيء وضده وهذا كما تقول : عبد زيد ربه اليوم ولم يعبده أمس ، فعبادته اليوم غير عبادته أمس ، وعبادته أمس

__________________

(١) ليكن على ذكر منك ما علقناه على مواضع من هذا الكتاب وغيره من أن وصف القرآن القائم بالله المقروء والمكتوب ، والمخطوط ، والمسموع من قبيل وصف المدلول بوصف الدال عند السعد وغيره من المحققين (ز).

ليست موجودة اليوم ، لكن المعبود موجود قبل أمس وفي اليوم لا يجوز أن يوصف بالشيء وضده. وعلى هذا نفس المحفوظ ، والمسموع ، والمكتوب ، فإن الكتابة توجد بعد أن لم تكن ، والحفظ يوجد بعد أن لم يكن ، والسمع يوجد بعد أن لم يكن ؛ ويتصور على الحفظ العدم بالنسيان. ويتصور على السمع العدم بالصمم ؛ ويتصور على الكتابة العدم بالغسل بالماء وطول الزمان والحرق بالنار ، لكن المحفوظ من كلام الله تعالى ، والمكتوب ، والمسموع لا يتصور عليه العدم بوجه من الوجوه ، لأنه قديم كذاته تعالى في القدم ، ولا تقول كذاته تعالى من جميع الوجوه ، لأنه لو كان كذاته تعالى من جميع الوجوه لوجب أن يكون خالقا رازقا محييا مميتا.

* * *

فصل

[ويعلم من] جميع ما تقدم : أن القراءة تارة توصف بالصحة والحسن ، وتارة بالفساد والقبح. فيقال : قراءة فلان حسنة صحيحة جيدة ، ويقال : قراءة فلان قبيحة فاسدة ، فالقراءة تتصف بالشيء وضده ، لأنها صفة القارئ ، والمقروء بها لا يتصف بالشيء وضده ، لأنه صفة الباري. وكذلك أيضا القراءة تكون تارة طيبة مستلذة ، وتارة تأباها الطباع وتنفر عنها الأنفس ، لكن المقروء والمتلو من كلام الله تعالى لا يختلف ولا يتغير بتغير غيره. وكذلك الكتابة تكون تارة بالذهب ، وتارة بالفضة ، وتارة بالمسك والعنبر ، وتارة تنحت في الخشب ، وتارة تكون بقطع الآجر ، فكتابة الذهب غير كتابة الفضة ، وكذلك كتابة المسك غير كتابة العنبر ، لكن المكتوب وهو القرآن كلام الله بالذهب هو المكتوب بالفضة ، وكذلك المكتوب بالمسك هو المكتوب بالعنبر ، وما أعلم أحدا يخالف في هذا إلا أحد رجلين : إما جاهل غبي ليس له حس ولا تصور ، وإما منافق مداهن ، نعوذ بالله من الجميع ونسأله حسن التوفيق في الدنيا والآخرة.

فتحقق [من] جميع ما ذكرنا أن القراءة فعل من أفعال العباد ، والمقروء والمتلو لا يجوز أن يكون فعلا من أفعال العباد ، ولا نقول أيضا إنه من صفات الفعل لله تعالى بل هو من صفات الذات. يدل على صحة هذا القول أن رجلا لو حلف بالطلاق لأقمت من موضعي هذا حتى أفعل فعلا يكون طاعة من طاعات الله فقرأ آيات من القرآن ثم قام قبل أن يفعل شيئا آخر أنه قد برّ في يمينه ولم يحنث ، فعلم أن القراءة فعل القارئ الذي يثاب عليها تارة ويعاقب عليها أخرى ، والمقروء في حال

الطاعة هو المقروء في حال المعصية ، وهذا أمر قد اتضح بحمد الله تعالى لمن له أدنى عقل وتصور.

مسألة

ويجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يقول أحد إني أتكلم بكلام الله ، ولا أحكي كلام الله ولا أعبر كلام الله ولا أتلفظ بكلام الله ، ولا أن لفظي بكلام الله مخلوق ولا غير مخلوق ، بل الذي يجوز أن يقول : إني أقرأ كلام الله تعالى ، كما قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : ٩٨] وكما قال : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمّل : ٢٠] ويجوز أن يقول : إني أتلو كلام الله ، كما قال تعالى : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : ٩٢] ويجوز أن يقول إني أحفظ القرآن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفظ القرآن ثم نسيه ... الخبر». فكل ما نطق به الكتاب والسنة في القرآن جاز لنا أن نطلقه ، وما لا ينطق به كتاب ولا سنة فلا نطلقه في الله تعالى ، ولا في صفاته. فاعلم ذلك وتحققه.

وأيضا فإن زيدا إنما يكون متكلما بكلامه ، ولا يجوز أن يكون زيد متكلما بكلام عمرو ، وكذلك لا يكون زيد أسود سوادا من عمرو ، ومن عجيب الأمر أن المجسمة الحشوية لا يجوزون أن يتكلم زيد بكلام عمرو وعمرو مخلوق ، وكلامه مخلوق ، والمخلوق إلى المخلوق أقرب في الشبه والذات والصورة والحكم ، ويجوزون أن يقولوا : نتكلم بكلام الله تعالى وكلام الله غير مخلوق ولا يشبه كلام الخلق في الذات والحكم.

مسألة

ويجب أن يعلم أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه أمارات تدل عليه ، فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم ، وقد بيّن تعالى ذلك بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤] فأخبر تعالى أنه أرسل موسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل بلسان عبراني ، فأفهم كلام الله القديم القائم بالنفس بالعبرانية ، وبعث عيسى عليه‌السلام بلسان سرياني ، فأفهم قومه كلام الله القديم بلسانهم ، وبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان العرب ، فأفهم قومه كلام الله القديم القائم

بالنفس بكلامهم ؛ فلغة العرب غير لغة العبرانية ولغة السريانية غيرهما ، لكن الكلام القديم القائم بالنفس شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وقد يدل على الكلام القائم بالنفس الخطوط المصطلح عليها بين كل أهل خط ، فيقوم الخط في الدلالة مقام النطق باللسان ، وقد بيّن تعالى ذلك فقال : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)) [الجاثية : ٢٩] فقام الخط مقام النطق ، لما كان يدل على الكلام دلالة النطق ، لكن الخطوط تختلف بحكم الاصطلاح والمواضعة وقلة الحروف وكثرتها ، فحرف الإنجيل والتوراة كل واحد منها خلاف الآخر ، وكذلك حروف العرب وخطوطهم تخالف غيرها ، وكذلك حروف الهند وخطوطهم تخالف الجميع ، لكن لكل خط وحرف بين أهله يقوم لهم في الدلالة على الكلام القائم بأنفسهم مقام دلالة نطق ألسنتهم ، ويختصون بذلك في الفهم والاصطلاح عند كلام اللسان ، وعند رسم الحروف الخطوط ، حتى لا يفهم غيرهم ذلك إلا أن يتعلم لغتهم وخطوطهم ، فصحّ أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس دون غيره ، وإنما الغير دليل عليه بحكم التواضع والاصطلاح ويجوز أن يسمى كلاما إذ هو دليل على الكلام ، لا أنه نفس الكلام ، الحقيقي. وكذلك قد يدل على الكلام الحقيقي القائم بالنفس الرموز والإشارات ، وقد بيّن ذلك تعالى بقوله في قصة زكريا عليه‌السلام : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١] يعني أن لا تفهم الكلام القائم بنفسك باللسان ، وإنما أفهمه بالرمز والإشارة ففعل كما أمره تعالى ، فأخبر عنه فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)) [مريم : ١١] فأفهم أمره الذي هو الأمر بالتسبيح القائم في نفسه بالإشارة دون نطق اللسان ، وكذلك الأخرس الذي لا ينطق باللسان ولا يسمع الصوت ، إنما يفهمنا كلامه القائم بنفسه ، ونفهمه كلامنا القائم بأنفسنا بالإشارة دون نطق اللسان ، فحصل من هذه الجملة أن حقيقة الكلام على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقا ، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده وتارة إشارة ورمزا دون الحرف والأصوات ووجودهما ، فحقيق الكلام القائم بالنفس موجود عند الحرف والصوت ، لكن الخلق كلامهم مخلوق كهم وكلام الله ليس بمخلوق كهو ، سبحانه وتعالى. ونريد بقولنا كهو أن صفات ذاته لا توصف بالخلق والحدث ولا بشيء من الخلق والحدث ، كما أنه تعالى لا يوصف بالخلق والحدث. ولا بشيء من صفات الخلق

والحدث ، ولا نريد بقولنا كهو أنها خالقة رازقة. فافهم هذا التحقيق ، لأن المعتزلة تشنع وتقول : إذا كان الباري عالما بعلم ومتكلما بكلام والكل قديم (١) يجب أن يكون معه قدماء كثيرة في الأزل ، وإذا كانت كهو فيجب أن تكون خالقة رازقة آلهة كهو ، وهذا تمويه منهم على عقول العوام ، حتى ينفروهم عن أهل التحقيق والسنة والجماعة ، ويميلوا إلى باطلهم من نفي صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يوافقوهم في القول بخلق القرآن معنى ، وإن لم ينطقوا به ، وكذلك أن المعتزلة أكثر حجتهم على أن كلام الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن أنه بزعمهم حروف وأصوات فرضوا من هؤلاء العوام أن يصرحوا في كلام الله تعالى بما يوجب كونه مخلوقا ضرورة ، وإن لم يقولوا إنه مخلوق نطقا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب ؛ ما نذكر (٢) فمن ذلك قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) [المنافقون : ١] ونحن نعلم وكل عاقل أنه تعالى ما كذب المنافقين في ألفاظهم ، إنما كذبهم فيما تكنه ضمائرهم وتكنه سرائرهم. وأيضا قوله تعالى مخبرا عن الكفار : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة : ٨] فأخبر تعالى : أن القول بالنفس قائم وإن لم ينطق به اللسان ، والقول هو الكلام ، والكلام هو القول. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] قيل ما حدث به المرء نفسه مما يضمر فيها من قول أو فعل. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة : ٢٣٥] وأيضا قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النّحل : ١٠٦] فأسقط تعالى تلفظ المنافقين بالشهادة لرسوله ، وجعل حكم الكذب للقول الذي في النفس والكلام الذي في النفس دون نطق اللسان ، وأسقط حكم الكفر عن المكره على كلمة الكفر وجعل الحكم لصدق الكلام القائم في القلب ؛ فدلّ بهذه الآيات وما جرى

__________________

(١) وقول القاضي عضد الدين في الواقف : (لا ثبت في غير الإضافة) حاسم للنزاع بين الفريقين عند من أحاط خبرا بما يقوله ، وراجع حاشية الخيالي وعبد الحكيم على النسفية (ز).

(٢) لقد أحسن المصنف كل الإحسان في التدليل على الكلام النفسي بتوسع لا تجده في غير هذا الكتاب ؛ والنزاع بين الفريقين في إثبات ذلك ونفيه كما سبق (ز).

مجراها أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وله الحكم في الصدق والكذب دون الحروف والأصوات التي هي أمارات ودلالات (١) على الكلام الحقيقي.

ويدل على ذلك من جهة السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه». وهذا في حق المنافقين ، فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب دون نطق اللسان ، وأن الحكم للكلام الذي في القلب على الحقيقة وأن قول اللسان مجاز قد يوافق قول القلب وقد يخالفه. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة» فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن العاصي إذا نوى بقلبه الندم على المعصية منها أن ذلك حقيقة التوبة ، وأن استغفار اللسان تبع لذلك ، فصحّ أن الكلام الأصلي الحقيقي المعنى القائم بالنفس.

وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تبارك وتعالى : إذا ذكرني عبدي في نفسه» فأثبت الذكر للنفس ، فالذكر والقول ، والكلام ، واحد ، فعلم أن حقيقة الكلام المعنى القائم في النفس.

ويدل على ذلك أيضا قول عمر رضي الله عنه : زورت في نفسي كلاما فأتى أبو بكر فزاد عليه. فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان ، وعمر كان من أجل هذا اللسان والفصاحة وهو أحد الفصحاء السبعة ، والعربي الفصيح يقول كان في نفسي كلام ، وكان في نفسي قول ، وكان في نفسي حديث ، إلى غير ذلك. وأنشد الأخطل :

لا تعجبنك من أثير خطبة

حتى يكون مع الكلام أصيلا

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

واعلم أن مذهب أهل الحق والسنة والجماعة أن كلام الله القديم ليس بمخلوق ، ولا محدث ، ولا حادث ، ولا خلق ، ولا مخلوق ، ولا جعل ، ولا مجعول ، ولا فعل ، ولا مفعول. بل هو كلام أزلي أبدي هو متكلم به في الأزل ، كما هو متكلم به فيما لا يزال. لا أول لوجوده ، ولا آخر له ، وأنه لا يقال إن كلامه حكاية ولا عبارة ولا إني أحكي كلام الله ، ولا إني أعبر كلام الله ، بل نقول : نتلو كلام الله ، ونقرأ كلام الله ، ونكتب كلام الله ، ونحفظ كلام الله ، وأنه يجب التفرقة بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو ، والكتاب والمكتوب ، والحفظ ، والمحفوظ ، ولا يجوز

__________________

(١) وهذا يعود إلى ما حققه السعد كما سبق (ز).

أن يطلق على كلامه شيء من أمارات الحدث من حرف ولا صوت ، ولا يقال إن القديم يجوز حلوله في المحدث كحلول الشيء في الشيء. وقد قدّمنا الأدلة على جميع ذلك وحققناه ، ومذهب المشبهة الحلولية المجسمة ؛ أن كلام الباري حروف وأصوات وأنه قديم ، وأن الحروف والأصوات التي توجد في كلام الخلق كلها قديمة ، لا أخصص بعضهما على بعض ، وهذا قول يفضي إلى قدم العالم عند كل محقق ، ومنهم من قال : بل الأصوات والحروف إذا ذكرنا الله تعالى بها أو تلونا به كلامه قديمة ، فإذا ذكرنا بها غير الله وأنشدنا بها شعرا كانت محدثة ، وهذا جهل عظيم وتخبط ظاهر ، لأن الشيء عندهم على هذا القول تارة يكون محدثا ثم يصير قديما ، وتارة قديما ثم يصير محدثا ، وليس في الجهل أعظم من هذا وكفى به ردا لقولهم. ومنهم من يقول : أصواتنا وحروفنا بالقرآن قديمة وبغير القرآن محدثة ، وهذا مثل القول الأول على الحقيقة وإن اختلفت العبادة ، وقد بيّنّا فساده ، ومنهم من حدث في هذا الوقت وبان له فساد الأقوال المقدّم ذكرها فقال بجهله : أقول إن القرآن بأصوات وحروف تكلم بها الله ، وإن كلامه حروف وأصوات ، لكن حروف قديمة وأصوات قديمة. لا تشبه هذه الحروف والأصوات المخلوقة التي تجري في كلام الخلق ، وهذا أيضا جهل من قائله ، ويؤدي أن لا يكون في المصاحف القرآن. لأن الحروف التي تكتب بها المصاحف هي هذه الحروف التي تجري في سائر ما يكتب ويؤدي إلى أن القرآن الذي نقرؤه ليس بقرآن ، لأن القرآن بحروف وأصوات قديمة ، ولا تشبه هذه الحروف والأصوات ، ونحن لا نسمع إلا صوتا مثل هذه الأصوات ، ولا نرى حرفا ولا نسمعه إلا مثل هذه الحروف ؛ وهذا القول يوجب أن لا يكون عندنا قرآن بالجملة أو يؤدي إلى أن يكون هذا القرآن بهذه الحروف والأصوات المعروفة غير ذلك القرآن الذي هو بحروف وأصوات قديمة ، لا تشبه هذه الحروف والأصوات ، والجميع فاسد باطل ، وسيأتي بطلان مقالتهم في هذا وغيره في جواب ما يزعمون أنه حجة لهم في هذا وغيره ، إن شاء الله تعالى.

وزعمت المشبهة أن القراءة هي المقروء ، والتلاوة هي المتلو ، وزعموا أن القديم يحل في المحدث (١) ويختلط به ، وتمسكوا في جميع ذلك بآيات وآثار زعموا أنها حجة لهم فيما صاروا إليه من هذه البدعة العظيمة التي جميعها يدل على أن كلام الله مخلوق محدث ، فاحتجوا في التلاوة هي المتلو ، وأن الله يسمى تاليا ، ولا فرق

__________________

(١) كما هو رأي السالمية (ز).

عندهم في أن يقال تال أو متكلم. قالوا : والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢٥٢] وبقوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) [القصص : ٣]. قالوا : فسمّى نفسه تاليا كما سمّى نفسه متكلما وقائلا ، والجواب عن هذا وما جرى مجراه من وجهين :

أحدهما : أنا نقول ما أنكرتم أن ما ذكرتم هو حجة عليكم ، وأن هاتين الآيتين قد دلتا على الفرق بين التلاوة والمتلو ، وأن التلاوة غير المتلو وذلك أنه قال : (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢٥٢] والحق هاهنا هو كلامه القديم الموجود بوجوده القديم بقدمه ، والتلاوة لم تكن موجودة ثم أوجدها ؛ والدليل على أن الحق هو كلامه القديم الموجود بوجوده قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)) [السّجدة : ٣] وأيضا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) [سبإ : ٢٣] فدلّ على أن الحق هو المتلو القديم ، وأن التلاوة صفة لا فعل ذات. والذي يحقق ذلك قوله تعالى ، قال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) [العنكبوت : ٤٨] فنفى قبل أن يكون تاليا ، ثم أحدث له تلاوة ولم تكن ثم كانت ، فالحق الذي هو المتلو موجود ثابت لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان.

والجواب الثاني : أن قوله «نتلو» يريد به بأمر من يتلو عليك ، وهو جبريل عليه‌السلام. إلا أن التلاوة لما كانت بأمره أضافها إلى نفسه ، وهذا صحيح ، يدل عليه الكتاب والمعنى الصحيح. فأما الكتاب ، فالدليل عليه قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : ١٠١] وقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) [الشّعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥] وصار هذا كقوله في قوم نوح : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١)) [الحاقّة : ١١] يعني السفينة ، فأضاف الحمل في السفينة إلى نفسه ، والحامل فيها نوح عليه‌السلام ، إلا أنه لما كان بأمره أضاف الحمل إليه ، والدليل على الحامل أنه كان نوحا عليه‌السلام ، قوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] وهذا أيضا كقوله تعالى في قصة مريم عليها‌السلام : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١] والنافخ كان جبريل عليه‌السلام إلا أنه لما كان نفخه بأمره أضاف ذلك إلى نفسه فلذلك أضاف التلاوة إلى نفسه لما فعلت بأمره. وكذلك قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) [النّحل : ٢٦] وجبريل عليه‌السلام الذي كان أتى البنيان ، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه

وكذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) [الأعراف : ٥٢] والذي جاءهم بالكتاب هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن لما كان مجيئه بالكتاب إليهم بأمره تعالى أضاف ذلك إلى نفسه ، والقرآن من هذا مملوء إذا تتبع. إنه يضيف الفعل إلى نفسه وإن كان الفاعل له غيره ، لما كان بأمره.

وأما الدليل من كلام العرب ، فإنه يقال : نادى الأمير في البلد ، فيضاف النداء إليه لما كان بأمره ، وإن كان المنادي غيره ، فصحّ ما قلناه.

ثم نقول لهم : أليس الله تعالى قال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] أتقولون : إن الله تعالى قاصّ؟ هذا قول لا يجوزه أحد من المسلمين ؛ لكن لما قصّ عليه جبريل عليه‌السلام بأمر الله تعالى أضاف القصص إلى نفسه ، لما كان بأمره ، وقد بيّن ذلك بقوله : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : ٣] فالقرآن كلامه وصفته ، وقصّ جبريل عليه‌السلام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن الذي تضمن قصص الأولين وأخبارهم. فإن احتجوا على أن القراءة هي المقروء بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قرأ الله (طه (١)) [طه : ١] و (يس (١)) [يس : ١] قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل هذا عليها» قالوا : فأضاف القراءة إلى الله تعالى. فالجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أنه ذكر أن القراءة وجدت قبل السموات والأرض بألفي عام ، ودل على أنها لم تكن موجودة ثم وجدت ، والمقروء القديم ليس لوجوده أولية ، بل هو موجود بوجوده تعالى ، فدلّ على الفرق بين القراءة والمقروء ، لأن المقروء موجود بوجوده تعالى.

والجواب الثاني : أنه أمر بعض الملائكة أن يقرأ (طه (١)) [طه : ١] و (يس (١)) [يس : ١] قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة ذلك قالوا : وأضاف القراءة إلى نفسه. لما كانت بأمره ، فصار هذا كقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢] والمتوفى هو ملك الموت ، بدليل قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السّجدة : ١١] لكن لما كان توفّيه لهم بأمره أضاف ذلك إلى نفسه.

* * *

فصل

ومما يقوي جميع ذلك من السنة : أن الفعل يضاف إلى الآمر به ، وإن كان لم يفعله بنفسه ، وإنما أمر بفعله ؛ ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا ؛ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يباشر الرجم بنفسه ، لكن لما أمر الصحابة جاز أن يضاف إليه.

وأيضا ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قطع يد سارق ثوب صفوان ومعلوم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما باشر القطع ، لكن أمر به ، فأضيف الفعل إليه لما صدر عن أمره. وكذلك روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جلد شارب الخمر أربعين ، ولم يباشر الجلد بنفسه ، لكن لما كان عن أمره جاز إضافة الفعل إليه. والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا. وأيضا يقال : جبى عمر رضي الله عنه خراج العراق ، ولم يباشر الجباية بنفسه ، لكن لما جبى بأمره جاز إضافة الفعل إليه. وكذلك يقال : افتتح عمر رضي الله عنه الشام والأمصار ، وهو لم يباشر ذلك بنفسه ، لكن الصحابة والجند بأمره ، فصحّ بهذه الجملة أن التلاوة فعل التالي ، لكن هي بأمر الله تعالى وإيجاده ، فصحّ أن يضاف إليه القراءة والتلاوة على هذا الوجه ، فأما المتلو والمقروء فليس بفعل لأحد بل هو كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته الذي ليس بمخلوق ولا يتصف بشيء من صفات الخلق.

* * *

فصل

ثم نقول لهؤلاء الجهلة الضّلال : كيف يجوز لكم أن تقولوا إن القراءة هي المقروء ، والتلاوة هي المتلو ، والله تعالى قد فصل بينهما ، وجعل القراءة فعل القارئ ، والمقروء هو القرآن الذي هو كلام الباري ، في غير موضع من كتابه.

أحدها : قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : ٩٨] فأفرد القراءة عن القرآن ، وأن القراءة فعل الرسول ، والمقروء ليس بفعل لأحد ، بل هو كلام الله القديم ، وهذا كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) [آل عمران : ٤١] فأفرد الذكر عن المذكور ، فالذكر فعل الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى القديم الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] وأيضا قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزّمّل : ٢٠] وقوله تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) [العنكبوت : ٤٥] وقوله تعالى : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : ٩٢] وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) [فاطر : ٢٩] وفي القرآن أكثر من ألف موضع يدل على الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء ، لمن له حس سالم ، وعقل ثابت. ومن القدر الذي قدمناه دليلان :

أحدهما : أنه تعالى ذكر تلاوة ، ومتلوا ، وقراءة ، مقروءا ، فبطل بذلك زعمهم أنه شيء واحد.

الثاني : أنه أمر بالقراءة ، والتلاوة ، والأمر هو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه. والصفة القديمة التي هي المقروء ، والمتلو لا يصح فيه الفعل ولا استدعاء الفعل ، فصحّ أن المأمور به استدعى غير المقروء ، والمتلو هي القراءة والتلاوة. فافهم هذا التقرير فإنه يوجب الفرق بين الأمرين ، ضرورة الإشكال فيه. ثم نقول لهم : القراءة قد اختلفت وتنوعت أنواعا ، أفتقولون إن المقروء الذي هو القرآن مختلف متنوع؟ فإن قالوا : نعم كفروا ، وإن قالوا : لا فقد ثبت أن الذي جاز عليه الاختلاف والتنوع غير الذي لم يجز عليه ذلك ، وأيضا فإن كل قراءة منسوبة إلى قارئها ، فيقال هذه قراءة أبي ، وهذه قراءة ابن مسعود ، وكذلك في سائر القراءات ، ولا يجوز أن ينسب المقروء الذي هو القرآن إلى أحد من الخلق ، فيقال هذا قرآن أبي ولا قرآن ابن مسعود ، فصحّ أن القراءة فعل القارئ ، فصحّ أن تنسب قراءة كل واحد إليه ، لأنها فعله الذي يثاب ويمدح عليها تارة ويعاقب ويندم عليها أخرى ، والمقروء بسائر القراءات كلام الله تعالى الذي ليس بفعل لأحد ، فصحّ الفرق بين الأمرين.

* * *

فصل

ثم نقول لهم : ما تقولون فيمن قال : إن قرأت بقراءة أبي جعفر يزيد القعقاع ـ شيخ نافع ـ فعبدي حر ، فقرأ بقراءة الجحدري عاصم ، أيعتق عبده أم لا؟ ليس فيه خلاف بين المسلمين. ولو قال إن قرأت مقروء ابن كثير فعبدي حر ، فقرأ بقراءة ابن عامر عتق عبده ، لأن المقروء شيء واحد ، وإن اختلفت القراءات.

* * *

فصل

ثم نقول : لو اجتمع مائة قارئ فقرءوا القرآن أليس عدة القراء مائة ، كل واحد منهم يثاب على قراءته ، فالثواب مائة ثواب على مائة قراءة ، أفتقولون : إن القرآن الذي قرءوه بقراءتهم مائة قرآن أم قرآن واحد ، فلا يقول عاقل إلا أنه قرآن واحد ، لكن القراءات متعددة ، فصحّ الفروق بين القراءة والمقروء.

* * *

فصل

ثم نقول لهم : إذا قرأ القارئ القرآن وحصل له الثواب ، أحصل له الثواب على فعل فعله أو على غير فعل؟ فإن قالوا : على غير فعل فعله وجب أن يكون هذا الثواب يحصل للساكت كما حصل للقارئ ، وهذا لا يقوله عاقل. وإن قالوا : على فعل فعله ، صحّ أن الذي فعل القراءة ، أو السماع إلى القراءة ، والمقروء المتلو الذي هو كلام الله ليس بفعل لأحد ، وكذلك المسموع ليس بفعل لأحد ؛ فصحّ الفرق بين الأمرين. فافهم.

وأيضا فإنه يجوز إذا أعرب القارئ القراءة ، ومكن ما يجب تمكينه ، ووقف فيما يجب الوقوف عليه ، وبدأ بما يجوز البداءة به ، وقطع ما يجوز القطع عليه ، ووصل ما يجوز وصله ، فجائز أن يقال فلان حسن القراءة ، جيد القراءة ، وإذا كان بالعكس من ذلك جاز أن يقال : فلان ليس بحسن القراءة ولا جيد القراءة ، ولا يجوز أن يقال لمقروء غير حسن ولا جيد ، بل المقروء حسن ، سواء كانت القراءة حسنة أو غير حسنة. فافهم الفرق بين الأمرين.

ثم نقول لهم خبرونا : أليس الله تعالى فرض علينا القراءة في الصلاة؟ فإذا قالوا : بلى. قلنا : أفرض علينا شيئا نفعله أو غير شيء نفعله؟ فإن قالوا : فرض علينا شيئا نفعله. قلنا : وما هو هذا الشيء؟ فلا بد أن يقولوا : القراءة. قلنا : فقد صحّ أن القرآن موجود قبل القارئ له وقراءته في الصلاة ، ثم أمره تعالى بأن يقرأ : أي يفعل فعلا يسمى قراءة ففعل العبد صفة العبد لا صفة الرب ، هذا بمنزلة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) [الأحزاب : ٤١] أليس المذكور غير الذكر الذي هو فعل الذاكر المأمور بفعله ، فكذلك القراءة فعل القارئ والمقروء القرآن ، ثم نقول لهم أليس كلام الله تعالى موجود بوجوده ، قديم بقدمه قبل أن يخلق خلقا ، فلا بد من نعم. فنقول : فهل يصح وجود القراءة من القارئ قبل وجوده؟ فلا بد من لا. فنقول : ما كان موجودا قبل القارئ فهو القرآن الذي هو كلام الله ، وما وجد من القارئ بعد أمره بالقراءة فهو فعله لا محالة ، وهذا قدر لا يخفى على بشر سليم العقل.

فإن احتجوا على أن الكلام القديم يوصف بالصوت والحرف ، بقوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التّوبة : ٦] قالوا : والذي يسمع إنما هو صوت وحرف ، وقد نسبه إليه ، فدل على أنه متكلم بصوت وحرف. فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن يقال لهم : ما أنكرتم أن تكون هذه الآية حجة عليكم ، وذلك أن كل عاقل يقول : إن المشرك لا يسمع كلام الله بلا واسطة ، وهي قراءة القارئ ، فلا بد من وجود القراءة التي هي حروف وأصوات ، فيحصل لهذا المشرك السماع حينئذ لكلامه تعالى ، فحصل معنا عند ذلك مسمع أسمع كلام الله بإسماع أوجده ، وهي قراءته التي هي حروف وأصوات ، ومسموع وهو كلام الله تعالى الذي لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا ، لأن الحروف والأصوات يتقدم بعضها على بعض ، وصار هذا بمنزلة من أسمعنا الله بذكره ، بأن قال : يا الله. قلنا : حصل معنا مسمع وهو الذاكر ، وإسماع أسمعنا به المسموع ، وهو المذكور ، فالإسماع يقع بحروف وأصوات ، فيجوز لكل أن يقول : إن الله المذكور هو حروف وأصوات (١).

الجواب الثاني : أن المراد بهذه الآية ما هو سماع الحروف والأصوات إنما المراد بهذه الآية : حتى يتدبر كلام الله ويفهم ما فيه. لعله يرجع عن شركه ويهتدي ، فالحروف والأصوات لا تهدى ، إنما الذي يهدى هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى. دليله : قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩].

جواب ثالث : وهو أن يقال لهم : إذا كان الكلام القديم أصواتا وحروفا.

والكلام المخلوق الذي من الشعر والخطب أصواتا وحروفا ، فقد صار الكلام القديم كالكلام المخلوق ، وهذا القول يوجب أن يكون كل كلام قديم أو محدث [سواء] لأن الحرف والصوت في قول القائل إذ أخبر عن قول اللعين فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النّازعات : ٢٤] فاعبدون ، فصورة الحروف في قول فرعون أنا ربكم ، كصورتها في قراءة القارئ (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] ، فصحّ أن الحروف والأصوات ليست [كلام] فرعون ، ولا الرب تعالى ، فالحرف والصوت يعبر به عن كلام فرعون ، ويقرأ به كلام الله تعالى ، فصحّ ، أن الحرف والصوت أداة يقرأ بها الكلام القديم ، لا أن الحرف والصوت نفس الكلام القديم.

جواب رابع : وهو أن يقال لهم : خبرونا عن قولكم إن الله تعالى متكلم بأصوات وحروف ، أهي هذه الحروف والأصوات الجارية الدائرة في سائر كلام الخلق ، أو غيرها؟ فإن قالوا : هي هذه فقد جعلوا جميع كلام الخلق قديما كله ؛ وإن قالوا : بل هي غير هذه الحروف والأصوات الجارية في كلام الخلق. قلنا : فصحّ

__________________

(١) يعني الاسم المسمى (ز).

حينئذ أن قراءة القراء للقرآن بحروف وأصوات غير الحروف والأصوات التي تعنون ؛ فإذن ليس عندنا كلام الله تعالى ، بل هو غائب عنا ، لأن أصوات القراء وحروفهم هذه هي المعهودة الجارية في كلام الخلق. وكذلك أيضا يجب أن لا يكون في المصحف قرآن ؛ لأن الحروف التي فيه هي الحروف المعهودة الجارية في خطوط الخلق ، وكل هذين القولين باطل ؛ فثبت أن الحروف والأصوات يقرأ بها الكلام القديم ويكتب بها الكلام القديم ، لا أنها نفس الكلام. ثم يقال لهم : خبرونا : أيصح خروج حرف من غير مخارج؟ فإن قالوا : لا. قلنا : فتقولون إن الباري ـ تعالى عن قولكم ـ ذو مخارج من شفة للفاء ؛ وحلق للحاء ؛ ولسان للثاء ؛ وإن قالوا : نعم جسموا بإجماع المسلمين (١) ؛ وإن قالوا : لا تحتاج الحروف إلى مخارج ؛ فقد كابروا الحس والعيان مع قولهم بصحة الخبر المروي بزعمهم ، وذلك أن كلامه منه خرج ، وكلامه عندهم حروف ، فيجب على قولهم أن يكون خروجها من مخارج ؛ وكل هذا القول كفر وضلال ، وسفه وحمق وجهل عظيم.

* * *

فصل

فإن احتجوا بقوله تعالى : (حم (١)) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] و (الم (١)) [البقرة : ١ ، آل عمران : ١ ، العنكبوت : ١ ، الروم : ١ ، لقمان : ١ ، السجدة : ١] ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقالوا بالإجماع إن هذا كلام الله ، فصحّ أن كلامه حروف ، قلنا : الجواب عن هذا من وجوه :

أحدها : إن أردتم بقولكم إنها كلام الله تعالى ، بما تزعمون من الإجماع أن نفس صورة الألف ، ولام ، وميم نفس الكلام القديم ، فلا قائل بهذا غير جهالكم الذين لا فهم لهم ولا عقل ، لأن هذا القول منهم يؤدي إلى أن الكافر المشرك يقدر أن يوجد القديم ويفعل القديم ، لأن كل كافر كاتب يقدر أن يكتب صورة ألف ويلفظ بألف ، ومن عظيم الجهل أن يكون عبد مخلوق مربوب يقدر أن يوجد القديم ويفعل

__________________

(١) فتعسا لمن عزا إلى أحمد ـ كما سبق ـ سماع موسى التوراة من الله من فيه ، كما في طبقات الحنابلة لأبي الحسين بن أبي يعلى في ترجمة الإصطخري ؛ وذكره ابن بدران أيضا في المدخل. نعوذ بالله من الخذلان (ز).

قديما ، هذا جهل ظاهر. وإن قلتم المفهوم من (الم (١)) [البقرة : ١] و (حم (١)) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشّورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] ونحو ذلك هو كلام الله تعالى عند نظر الناظر إليها ، وأن المسموع عند قراءة القارئ (الم (١)) [البقرة : ١] و (حم (١)) [الشّورى : ١] ونحو ذلك هو كلامه تعالى وهذا صحيح ، وصحّ بذلك أن الكلام القديم يفهم بالحروف المنظومة ، على اختلاف نظمها بين أرباب تلك الخطوط والأشكال كلام الله تعالى ، فكذلك صحّ أن القراءة هي حروف وأصوات بها يسمع كلام الله القديم على حسب اختلاف اللغات بين أربابها ، لا أنها نفس كلامه القديم. وقد اختلف المفسرون في هذه الحروف المقطعة في أوائل السور على ثمانية أقوال :

أحدها : أنها أسماء من أسماء القرآن ، كالذكر والفرقان ، وهذا قول قتادة وابن جريج.

الثاني : أنها اسم لكل سورة ذكرت في أولها ، وهذا قول زيد بن أسلم.

الثالث : أنها يعبر بها عن اسم الله الأعظم ، وهذا قول السدّي ، والشعبي.

والرابع : أنها أقسام أقسم بها الله تعالى ، وبه قال ابن عباس ، وعكرمة.

والخامس : أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، فالألف من أنا ، واللام من الله ، والميم من أعلم. فكان معنى ذلك أنا الله أعلم. وهذا قول ابن مسعود ، وسعيد بن جبير ونحوه عن ابن عباس أيضا ؛ والعرب قد تعبر عن الكلمة بحرف منها ، كقول القائل : قلت لها قفي. قالت : قاف. أي وقفت ، ومثله في كلام العرب كثير. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : (كهيعص (١)) [مريم : ١] الكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق.

السادس : أن كل حرف منها يدل على معان مختلفة ، فالألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم مفتاح اسمه مجيد ، والألف آلاء الله ، يعني نعمه ، واللام ملكه ، والميم مجده ، والألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون سنة ، آجال ذكرها.

والسابع : أنها حروف من حساب الجمل ، لما روي عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : مر أبو ياسر [ابن أخطب] ورسول الله يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ و ٢] فأتاه أخوه حييّ بن أخطب ، فأخبره ، فقال حييّ بن أخطب : وأقبل على اليهود ، فقال لهم : الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم

أربعون ، وهذه أحد وسبعون سنة ، ثم [ذهب حيي مع هؤلاء النفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و [قال رسول الله فهل معك غير هذه؟ قال نعم (المص (١)) [الأعراف : ١] قال : أثقل وأطول ، والألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه أحد وستون ومائة سنة ، ثم قال : هل معك غير هذه يا محمد؟ قال : نعم ، قال : ما ذا؟ قال : (الر) [يونس : ١ ، هود : ١ ، يوسف : ١ ، إبراهيم : ١ ، الحجر : ١] فقال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فهل مع هذا غيره؟ قال : نعم (المر) [الرّعد : ١] قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. قال : لقد التبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليل أعطيت أم كثير. ثم قاموا من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو يسار لأخيه حيي ولمن معه من اليهود : وما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة. قالوا : والله لقد تشابه علينا أمره ، قيل فنزلت فيهم (١) : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)) [آل عمران : ٧].

والثامن : أنها حروف هجاء ، أعلم الله بها العرب حين تحداهم ، أن تلاوة القرآن بحروف كلامهم هذه التي عليها بناء كلامهم ، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم ، إذ لم يخرج تلاوته عن مباني كلامهم.

جواب ثاني : وهو أنك تقول : إذا قلتم أن الحرف المفرد إذا أتى به في تلاوة كلام الله هو نفس كلام الله ، فما تقولون فيمن أسقط شيئا من كلام الله ، أيجوز ذلك أم لا؟ فلا بد من أن يقولوا لا يجوز. فيقال لهم : خبرونا عن جماعة من القراء من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان الذين قرءوا (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)) [الفاتحة : ٤] وهم الأكثر ، قد أسقطوا ألفا هي في قراءة غيرهم. لأن غيرهم يقرءون مالك بالألف. فإن قالوا : أخطئوا فلا يجوز لهم ذلك. وهو القول الصحيح الصواب. قلنا : فصحّ أن الألف ليس نفس كلام الله القديم ، لأنه لا يجوز لأحد أن

__________________

(١) والخبر ضعيف (ز).

يسقط منه شيئا (١) ، وإنما الألف صفة قراءة دون قراءة ، فالمقروء مع إثبات الألف هو المقروء مع إسقاط الألف شيء واحد ، لا يزيد بزيادة الحروف ولا ينقص بإسقاط الحروف ، والقراءة تزيد بزيادة الحروف وتنقص بإسقاط الحروف ، وقد قيل : إن من قرأ القرآن بقراءة ابن كثير كتب له أجر ختمة وثلث ، لأنه يزيد في الحروف أكثر من سائر القراء لأنه يقرأ لديه وإليه وعليه ، والكسرة عندهم تقوم مقام حرف ، وقرأ في التوبة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥ و ٢٦٦ ، آل عمران : ١٥ ، ١٣٦ ، ١٩٥ ، ١٩٨] وهذا يوضح لك أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات» أن الحروف عائدة إلى القراءة. وطول حروفها دون المقروء الذي هو كلام الله تعالى لا يزيد ولا ينقص. وسنذكر ذلك في الجواب عن هذا الخبر إذا احتجوا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

جواب آخر : وهو أنك تقول : خبرونا عن حروف كلام الله على زعمهم ، أهي ثمانية وعشرون حرفا أو أكثر أو أقل؟ فإن قالوا هي ثمانية وعشرون حرفا فقد جعلوا القديم مما يحله الحصر والعد والافتتاح والانتهاء [وهي] صفة المخلوقات لا صفة القديم. وإن قالوا : أكثر. قلنا : أكثر إلى ماله حد أو إلى ما لا حد له؟ فأي القولين قالوا كان باطلا ، لأن القرآن لا يخرج في الكتابة والتلاوة على أكثر من هذه الثمانية وعشرين حرفا ، فعلى قولهم يجب أن يكون معنا بعض القرآن لا كله ، لأن القرآن عندهم حروف يزيد على هذه الحروف ، ولعل الذي يكون معنا من القرآن أقله ، لا سيما إن قالوا إن الحروف القديمة لا يدخلها حصر ولا عد ، وهذا قول ساقط واه عند كل عاقل محصل ، فلم يبق إلا أن الحروف والأصوات أدوات نكتب بها ونتلو بها الكلام القديم ، وغير الكلام القديم ، لا أنها نفس الكلام. فافهم ذلك.

وجواب آخر : وهو أن تقول لهم : خبرونا أليس قد قرأ سائر القراء غير نافع وابن عامر في سورة الحديد في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الحديد : ٢٤] بإثبات الهاء والواو ، وقرأ نافع وابن عامر بإسقاط الهاء والواو ، فالذي أسقط من الهاء والواو كلام الله تعالى أو قراءة كلام الله تعالى ، فلا يجوز لعاقل أن

__________________

(١) وإسقاط الألف وإثباتها متواتران ، فيكونان كآيتين ، ولم يسقطها قارئ بنفسه ولا أثبتها قارئ آخر بنفسه ، فلا تكون في الجواب وجاهة كما سيأتي (ز).

يقول الهاء والواو كلام الله ؛ لأن من أسقط شيئا من كلام الله كفر (١) ولا خلاف بين المسلمين أنهما على الحق ، وربما رجحوا قراءتهما على غيرهما ، فلم يبق إلا أن الحروف آلة للقراءة تسقط تارة وتثبت أخرى ، والمقروء المتلو ثابت لا يحتمل النقصان ولا الزيادة ، لأنه قديم لكن المخلوق يجوز ثبوته تارة وإسقاطه أخرى.

* * *

فصل

فإن احتجوا على إثبات قدم الحروف ، وأن كلام الله القديم يتصف بالحروف ، بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنزل القرآن على سبعة أحرف».

فالجواب : أنه لا حجة في هذا الحديث من وجوه عدة ، لأنكم تخالفون هذا الحديث. لأن الرسول قال على سبعة أحرف ، وأنتم على ثمانية وعشرين حرفا ، فقد أسقطتم متن هذا الحديث ، ولم تقولوا به ، فلا حجة لكم فيه.

جواب آخر : وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل على سبعة أحرف» ولم يقل تكلم الله بحرف ، وأنتم إنما تريدون إثبات الحرف لكلامه ، لا نزول كلامه فلا حجة لكم فيه.

جواب آخر : وهو أن قوله عليه‌السلام على سبعة أحرف ، لم يرد بها حروف التهجي ، وإنما أراد بها غير ذلك ، بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسر ذلك بغير حروف التهجي ، لأنه قال : «على سبعة أحرف» ثم فسرها فقال : «أمر ، ونهي ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص» وقال بعض الصحابة والتابعين يعني على سبع لغات ، مما لا يغير حكما من تحليل ولا تحريم ، مثل قوله تعالى : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) [القصص : ٣١] فكانوا لا يفرقون بين قول التالي أقبل أو هلم ، أو يقال : لأن معانيها متفقة وإن اختلفت اللغات فيها ، وما جرى هذا المجرى ، وكانوا في صدر الإسلام مخيرين فيها ، فلما اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم عند جمع القرآن على أحدها ، وهو قوله (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) منع هذا الإجماع من غير أقبل إلى هلم وتعال. ونحو ذلك ، وقيل عن بعض الصحابة والتابعين : إن قوله على سبعة أحرف أراد بذلك على سبع لغات للعرب ، في صيغة

__________________

(١) والإسقاط والزيادة في مثل هذه المواضع متواتران ؛ فيكونان في حكم آيتين فلا وجاهة في هذا الجواب. وكفى باقي الأجوبة (ز).

الألفاظ في التلاوة وكيفية مخارجها ونقص حروفها وزيادتها ووجوه إعرابها ، كالذي اختلف فيه القراءات ، فقرأ بعضهم : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣] بغير الواو ، وقرأ آخرون بواو ، وقرأ بعضهم «فيكون» بالنصب في مواضع ، وقرأ آخرون فيكون بالرفع فيما نصبه الأولون ، وقرأ بعضهم : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] فنصب آدم ورفع كلمات وهو ابن كثير ، وقرأ آخرون برفع آدم ونصب كلمات ، إلى نحو هذا مما لا يحصى عددا ، فبطل احتجاجهم بالإجماع مما نقل عن الرسول والصحابة والتابعين أن أحدا منهم قال إنه أريد بالسبع حروف التهجي ، وإنما المراد به اختلاف القراءات دون غيرها ما روي أن عمر رضي الله عنه مرّ ببعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأه إياها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عمر : فكدت أن أساوره ، يعني أعجل عليه. فأبطش به ، ثم قال : لببته حتى أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأتنيها فقال : خلّ عنه. ثم قال : اقرأ ، فقرأ عليه القراءة التي سمعتها فقال : هكذا أنزل. ثم قال : اقرأ يا عمر ، فقرأت عليه القراءة التي أقرأنيها فقال : هكذا أنزل. ثم قال : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، الكل شاف كاف فاقرءوا ما تيسر منه» فأد هذا الحديث وجوها :

أحدها : أن الحروف واختلافه صفة القراءة التي يجوز فيها الاختلاف ، لا كلام الله القديم الذي لا يجوز فيه الاختلاف (١).

الثاني : أن عمر ما أنكر عليه أن القرآن المقروء بقراءته كلام الله ، إنما أنكر عليه القراءة التي هي صفة القارئ وظن أن هذه القراءة فاسدة وقراءته أعلمه الرسول عليه‌السلام أن كل واحدة من القراءتين جائزة ، وإن اختلفا ، لأن المقروء بها لا يختلف لاختلافها.

الثالث : أن الرسول أخبر أن القرآن يقرأ على سبع قراءات ، وأن تعدد القراءات لا يدل على تعدد القرآن ؛ لأن السبع المقروء بها واحد ، وهو كلام الله القديم ، الذي لا يشبه كلام الخلق ، ولا يختلف في حال من الأحوال ، وإن اختلفت القراءات. فافهم التحقيق ترشد إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) كان أحمد يقول : القرآن من علم الله وعلم الله غير مخلوق : فما تواتر من زيادة ونقص كلاهما أبعاض القرآن باعتبار الوجود العلمي ، فلا وجاهة في هذا الجواب (ز).

فصل

فإن احتجوا على أن الله تعالى متكلم بحروف ، بما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول ألم حرف ، لكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم حرف» قالوا : فدل على [أنه] تكلم بحروف ، فالجواب من وجوه :

أحدها : أن الحديث لا حجة فيه على ما تريدون ، لأنه لم يقل تكلم الله بحروف ، وإنما قال : من قرأ فله ؛ وهذا لا حجة فيه.

جواب آخر : وهو أن الأجر إنما يقع على الطاعة التي هي القراءة ، لا على القديم الذي هو كلام الله ، ونحن نقول : إن الحرف عائد إلى القراءة لا إلى المقروء ، والذي يحقق ذلك أنه إذا جلس اثنان حافظان لكلام الله تعالى وهما ساكنان ؛ أليس كل واحد منهما معه كلام الله في صدره ، كما أخبر تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] ولا يحكم بأن لكل واحد منهما حسنة ، وإن كان كلام الله موجودا معهما ؛ فإذا قرأ أحدهما وسكت الآخر ، أليس يحصل للقارئ بكل حرف عشر حسنات ، لوجود القراءة منه ، وليس للساكت منهما هذه الحسنات ، وإن كان معه كلام الله القديم على الوجه الذي ذكرنا ، وإنما زاد عليه هذا ، بأن وجدت منه القراءة التي هي حروف وفعل منه يسمى طاعة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل عبادات أمتي قراءة القرآن» فصحّ أن الثواب على الفعل الذي هو طاعة ، لا على الكلام القديم ، فكان الحرف صفة التلاوة لا صفة المتلو.

جواب آخر : وهو أنه قد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أضاف الحرف إلى التلاوة ، لا إلى كلام الله القديم ، وهو ما روى عبد الله بن مسعود أن الرسول قال : «تعلموا القرآن فإنه مأدبة الله فتعلموه واتلوه فإنكم تؤجرون على تلاوته بكل حرف عشر حسنات».

فأضاف الحرف إلى التلاوة لا إلى المتلو ، فصحّ ما قلناه ، وبطل ما توهم الجاهل أنه حجة له.

* * *

فصل

فإن احتجوا في إثبات الصوت لكلام الله تعالى ، وأنه متكلم بأصوات ، بما روي في الحديث : «إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه

من قرب» (١) الخبر ... قالوا : فقد أضاف الرسول عليه‌السلام الصوت إلى الله تعالى ، فصحّ ما قلناه ، الجواب من أوجه :

أحدها : أنك تقول أولا لا حجة لكم فيه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال تكلم الله بصوت ، ولا قال بصوت ، ولا قال كلام الله أصوات ، كما تزعمون بجهلكم ؛ وإنما قال نادى الله بصوت ، وليس الخلاف إلا أن كلامه أصوات ، فلا حجة لكم فيه.

جواب آخر : وهو أن هذا الحديث قد روي فيه ما يدل على [أن] الصوت من غير الله بأمره ، لأنه روي إذ كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، يأمر مناديا فينادي ، فصحّ أن النداء من غيره ، لكن لما كان بأمره أضيف النداء إليه ، كما يقال : نادى الخليفة في بغداد بكذا وكذا. ويقال : أمر الخليفة مناديا فنادى بأمره في بغداد بكذا وكذا ، ولا فرق بين الموضعين ، فإن كل عاقل يعلم أن الخليفة لم يباشر النداء بنفسه ، لكن لما كان بأمره جاز أن يضيفه إلى نفسه ، وأن يضاف إليه ، وإن لم يكن هن المنادي بنفسه ، ويصحح جميع ذلك القرآن ، قال الله : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢)) [ق : ٤١ ، ٤٢] فأضاف النداء إلى المنادي ، فصحّ أن الصوت صفة المنادي لا صفة الآمر بالنداء ؛ ومن عجيب الأمر أن الجهال لا يجوزون أن يكون النداء صفة المخلوق إذا كان رفيع القدر في الدنيا ، كالخليفة والأمير ، وينفون عنه ذلك ثم يجوزونه في حق رب العالمين.

جواب ثالث : وذلك أنا وكل محقق يقول : إن هذا الصوت ليس بموجود اليوم ، وإنما يكون يوم القيامة ، وكلام الله قديم بقدمه ، موجود بوجوده ، فصحّ أن هذا شيء لم يكن بعد ، وإنما يكون يوم القيامة ، ومن زعم أن صفة الله تعالى ليست بموجودة اليوم ، وإنما توجد يوم القيامة فقد جعل كلام الله تعالى مخلوقا لا محالة ، فصحّ بهذه الجملة أن الصوت ليس بصفة لكلام الله تعالى ، وإنما هو صفة للمنادي الذي يأمره الله تعالى بالنداء في ذلك اليوم.

__________________

(١) يريد به حديث جابر ، وفي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل ، وهو ضعيف. وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد ، وهو ممن لا يحتج بهم عند بعضهم ، ولذا علقه البخاري بقوله «ويذكر» على أن كون الإسناد مجازيا متعين بحديث الدار قطني «يبعث الله يوم القيامة مناديا بصوت يسمعه أولهم وآخرهم» .. الحديث. راجع ما علقناه على السيف الصقيل (٤٥٣) (ز).

جواب آخر : وهو أن كل ما أضيف إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صفة له ، فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك لا محالة ، لأن الخبر قد جاء بقول الله تعالى : «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، جعت فلم تطعمني ، عطشت فلم تسقني ، عريت فلم تكسني» فأضاف هذه الأشياء إليه في الخبر ، ومن زعم أنه يجوع ويعطش ، ويمرض ويعرى ، فقد كفر وأشرك لا محالة. وكذلك قال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣] على قراء من قرأ بالنون [المفتوحة] والنافخ إسرافيل. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : ٥٧] فأضاف الأذية إليه ، ومن زعم أن الأذية من صفته فقد كفر لا محالة ، فلم يبق إلا أن النداء والصوت حصل من الصائت المأمور ، لا من الآمر ، لكن لما كان بأمره جاز أن يضاف إليه ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) [الأعراف : ٥٢] وإنما جاء به محمد عليه‌السلام بأمره. وقال تعالى : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) [القمر : ٣٧] والطامس جبريل ، وميكائيل طمسا أعين قوم لوط ، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه وكذلك يقال : رجم وجلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما الراجم والجالد غيره ، لكن لما كان بأمره حسن أن يضاف إليه. فافهم الحق لتبطل به الباطل.

فإن احتجوا بما روي : أن الله تعالى إذا تكلم الله بالوحي ، وروي بالأمر من الوحي جاء له صوت كجر السلسلة على الصفا (١). فالجواب عن هذا من وجوه عدة :

أحدها : أن هذا هو الحجة عليكم ، لأن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت الذي في الخبر الأول ، لأن ذلك قال فيه «يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب» وهذا الصوت إنما يسمعه بعض الملائكة ، فصحّ أن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت ، ولو كان الصوت صفة قديمة لما اختلف ولا تغير لأن القديم لا يجوز عليه الاختلاف ، ولا التغير ، فلما اختلف وتغير دلّ أن ذلك صفة الخلق لا صفة الحق. فافهم.

جواب آخر : وذلك أنه قال : إذا تكلم الله بالوحي ، جاء له صوت ، ولم يقل إذا تكلم الله بصوت فالوحي غير الموحي ، لأن الموحي كلام الله تعالى ، والوحي إنزال كلام الله ، وإعلام كلام الله ، والذي يدل على صحة ذلك القرآن. وذلك أن الله تعالى فصل بينهما فقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً) [الشّورى : ٧] فالوحي إنزال القرآن ،

__________________

(١) والمحفوظ هو الموقوف ، كما ذكره الدار قطني في العلل ، ولا يحتج بالموقوف في باب الصفات ، والسكري في (خلق الأفعال) مختلط لا يحتج به عند ابن أبي حاتم ، وفي سند خبر الصوت عنعنة الأعمش وهو مدلس. راجع ما ذكرناه فيما علقناه على الأسماء والصفات (ز).

وإعلام القرآن ، وإفهام القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) [النّساء : ١٦٣] أي أنزلنا إليك وأفهمناك كلامنا القديم ، كما أنزلنا وأفهمنا من قبلك كلامنا القديم فالإفهام لم يكن ثم كان. وأما المفهوم الذي هو كلام الله القديم فهو موجود ثابت قبل الإفهام وبعده على صفة واحدة ، لا يختلف ولا يتغير.

جواب آخر : وهو أن هذا الحديث قد روي من طرق عدة ، وأضيف إليه الصوت المشبه بجر السلسلة إلى الخلق ، لا إلى كلام الحق ، فمن ذلك ما روى النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة من خوف الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخرّوا سجدا ، وأول من يرفع رأسه جبريل عليه‌السلام ؛ فتكلم الله من وحيه بما أراد ، فينتهي به جبريل عليه‌السلام على الملائكة ، كلما مرّ بسماء سأل أهلها ما ذا قال ربنا؟ فيقول جبريل الحق ، وهو العلي الكبير» فثبت أن الصوت المشبه بالسلسلة صوت رجفة السموات ، لأنهم سمعوا صوت رجفة السموات لا كلام الله تعالى ، ولهذا سألوا جبريل الله تعالى ما ذا قال ربنا ، فدلّ على أنهم لم يسمعوا كلامه ، وإنما سمعوا صوت رجفة السماوات ، التي شبهت بحر السلسلة ، لأنهم لو سمعوا ما سمع جبريل لفهموا كما فهم جبريل.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان» فأضاف الرسول عليه‌السلام هذا الصوت المشبه إلى صوت أجنحة الملائكة ، لا إلى كلام الله تعالى وحديث أبي هريرة هذا صحيح. أخرجه البخاري ، وحديث النواس أخرجه مسلم في كتابه ، وروى أبو الضحى مسروق ، عن عبد الله أنه قال : «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان» وفي رواية : «سمع أهل السماء للسماء صلصلة» وليس في شيء من هذه الروايات إذا تكلم الله سمعوا من الله صلصلة ، وإنما سمعوا من السماء إذا أحدث الله فيها رجفة ، وجعل ذلك علامة لأهل السموات. يعلمون بها أن الله تعالى تكلم بالأمر ، وأن المخصوص بسماع كلامه جبريل عليه‌السلام ، ولهذا سألوه ما ذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول : قال الحق. فيقولون : قال الحق. فيصفون الله تعالى بقول الحق ، لا بالصلصلة والصوت ، فصار هذا الحديث حجة عليهم لا لهم.

جواب آخر : وهو أنه قد روي من الأخبار والآثار ما لا يحصى عددا أن الصوت مخلوق ، وأنه صفة القارئ لا صفة الباري ، فمن ذلك ما روى ابن جريج عن الزهري أنه قرأ بين يديه (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [فاطر : ١] فقال : هو الصوت الحسن. فقال الأوزاعي رحمه‌الله أنه قال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، قيل : فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات تسبيحهم وصلاتهم.

وقال أبو العالية : قال موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومه : قدسوا بأصوات حسنة ، فإنه أسمع له ، فأضاف الصوت إلى المقدسين لا إلى المقدس. وقال مالك (١) بن دينار في قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٢٥] قال : يقيم الله داود عليه‌السلام عند ساق العرش ، فيقول : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم ، فيقول : كيف أمجدك به وقد سلبتنيه في دار الدنيا؟ قال : فيقول جلّ وعز : إني أرده عليك. قال : فيرده عليه ، فيزداد صوته حسنا ، فيأخذ في التمجيد ، فيستفرغ داود نعيم الجنان ؛ يعني يشتغل أهل الجنة بحسن صوته عن نعيمهم.

فالصوت الحسن المردود المسلوب الرخيم صفة داود عليه‌السلام التي يمجد بها ويقدس بها ، والممجد المقدس هو الله تعالى الخالق لداود ولصوته ولسائر الأصوات.

وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي المهاجرين والأنصار. وقال أبو عثمان النهدي رضي الله عنه : صلّى بنا أبو موسى صلاة الصبح فما سمعت بصوت ولا بربط أحسن صوتا منه. وتبين من هذه الآثار المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جعل الصوت صفة للقارئ لا لله تعالى ، فقد روي عنه في هذا المعنى ما لا يحصى عددا ، فمن ذلك : ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قام رجل من الليل فرفع صوته بالقرآن ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: «لقد أذكرني كذا. وكذا آية» قال أبو ذر : كان لي جار وكان يرفع صوته بالقرآن فشكوته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يقال له ذو البجادين فقال : «دعه فإنه أوّاه» وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتا بالقرآن ، فقرأ ليلة وفرسه مربوط عند رأسه ، وابنه نائم إلى جنبه ، فدار الفرس في رباطه ، فقرأ فدار الفرس في رباطه ، فانصرف وأخذ ابنه وخشي أن يطأه الفرس ، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ أسيد فإن الملائكة لم تزل تسمع صوتك» وروى ابن سابط قال : أبطأت عائشة رضي الله عنها على

__________________

(١) لم يرفعه إلى المعصوم (ز).

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما حبسك يا عائشة؟» قالت : يا رسول الله ، سمعت رجلا يقرأ ما سمعت من رجل يقرأ قراءة أحسن منها ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسمع صوته ، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك». روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع قراءة أبي موسى ذات ليلة فقال : «أبو موسى مزمار من مزامير داود» ومعلوم أنه شبه حسن صوته بالقراءة بالمزمار ، لا كلام الله القديم الذي لا يشبهه شيء من أصوات الخلق ولا نغماتهم. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ في ليلة هو وعائشة رضي الله عنها ، وأبو موسى يقرأ ، فقاما فاستمعا لقراءته ، ثم إنهما مضيا ، فلما أصبح لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لأبي موسى : «يا أبا موسى مررت بك البارحة ومعي عائشة فاستمعنا لقراءتك» فقال أبو موسى : يا نبي الله ، أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرا. قال : «لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود». وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن وإن كنت لم أر منازلهم حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار». وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه ، وهو أكبر حجة في نفي الصوت عن كلام الله القديم ، لأنه فصل الأصوات من القرآن ، فأضاف الأصوات إلى الأشعريين ولم يضفها إلى كلام الله الذي هو القرآن.

وقال شهر بن حوشب : قدم أبو عامر الأشعري على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من قومه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليدلني على حسن إيمان الأشعريين حسن أصواتهم بالقرآن» وفي هذه الأحاديث التي ذكرنا وأمثالها مما لا يحصى عددا : أن الأصوات صفة الصائتين لا صفة كلام رب العالمين ، وفي بعض ذلك مقنع وكفاية لم أراد الله له الهداية.

* * *

فصل

فإن قالوا : أليس تقولون إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة؟ قلنا : بلى. فإن قالوا : فليس يجوز أن يكون مسموعا على الحقيقة إلا ما كان صوتا أو حرفا.

فالجواب : أن هذا جهل عظيم ، وذلك أن أهل السنة والجماعة قد أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار على الحقيقة ، ولا يجوز أن يرى على الحقيقة إلا ما كان جسما وجوهرا وعرضا. أفتقولون : إن الله تعالى جسم ، وجوهر ، وعرض؟ فإن قالوا :

نعم. فقد أقروا بصريح الكفر للتشبيه ، وإن قالوا : يرى وليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض ولا يشبه شيئا من المرئيات. قلنا : فكذلك كلامه قديم ليس بمخلوق ومسموع على الحقيقة ، وليس بحروف ولا أصوات ، ولا يشبه بشيء من المسموعات ، فكما أنه يرى على الحقيقة ولا تكييف لكلماته. فاتقوا الله وقفوا عند حدوده ، ولا تكونوا ممن قال فيهم : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩]. وتمسكوا بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

ثم نقول لهم : أليس الله تعالى قد سمّى نفسه بانيا ، وهو بان على الحقيقة ، لأنه قال : (أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨)) [النّازعات : ٢٧ ، ٢٨] ولم نر بانيا على الحقيقة ، إلا بآلة من عدة وآجر ، وحجر وخشب وغير ذلك : أفتقولون إنه مفتقر في بناء السماء إلى ذلك ، حتى يكون قد بنى على الحقيقة. فإن قالوا : نعم ، كفروا لا محالة ، وإن قالوا : هو بناء منه على الحقيقة ولا يفتقر فيه إلى آلة وعدة. قلنا : وكذلك كلامه مسموع منه على الحقيقة بواسطة وغير واسطة ، ولا يفتقر في إسماعه إيانا إلى آلة من حروف وأصوات وغير ذلك.

* * *

فصل

فإن احتجوا بجهلهم أن الصفة القديمة تحل في الظروف والأوعية كحلول الشيء المخلوق في الشيء المخلوق. فتفسير هذا القول منهم ـ لو عقلوا ـ كان إقرارا منهم بخلق الله تعالى ، لأن القديم لا يتصور عليه النقلة ، والتحويل ، وتفريغ مكان ، وإشغال مكان ، وأمكنة ، وحصر ، وعد ، وإفساح ، وفراغ ، فإن أصروا على الجهل والضلال واستدلوا على حلول كلام الله القديم في المخلوقين بما يظنون حجة لهم ، وهو جرأة ، وحجة عليهم ، أقروا بقول إخوانهم من النصارى ، بل زادوا عليهم في سوء الاعتقاد ، وخبث المذاهب والمقال على ما سنبينه في ثاني الحال ، إن شاء الله.

فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو» قالوا : فصحّ أن الكلام القديم يصح عليه الحلول والنقلة والتحول ، فالجواب من وجوه عدة :

أحدها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد بذلك المصحف ، لأنه قد بيّن ذلك فقال «مخافة أن تناله أيديهم» ولم يرد أن كلام الله القديم انتقل ولا تحول من بلاد الإسلام إلى بلاد العدو ،

والمصحف قد يسمى قرآنا ، لأن فيه كتابة القرآن ، وقد روي ذلك صريحا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه كتب إلى عمرو بن حزم : «ولا يمس القرآن إلا على طهارة» فأراد بذلك :

المصحف الذي حلّ فيه كتابة كلام الله القديم لا يجوز عليه المس بالأيدي.

جواب آخر : وهو أنه أراد لا تسافروا بكتابة القرآن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] يعني أهل القرية (وَالْعِيرَ) [يوسف : ٨٢] يعني أهل العير. وقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النّساء : ٤٣] قال أكثر أهل العلم موضع الصلاة. وقد قال تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٦٠] أراد الملعون أهلها في القرآن. وكذلك قال : (وَالطُّورِ (١)) [الطّور : ١](وَالضُّحى (١)) [الضّحى : ١] وجميع الأقسام إنما معناها ورب الطور ورب الضحى ، وهذا كثير جدا في كلام العرب ، يحذفون لعلمهم بفهم أهل اللسان والبيان ذلك ، وأنهم ليسوا كأهل الجهل والهذيان ، والعرب تقول : بنو فلان تطؤهم الطريق ، يريدون يطؤهم أهل الطريق ، وأبين من هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : ٥٧] يريد أنبياء الله وأولياء الله.

وجواب آخر وهو : أنا نعلم ـ وكل عاقل يعلم ـ أن الرسول عليه‌السلام إنما أراد بالقرآن هاهنا شيئا محترما يتصون عليه من الأيدي ، ولم يرد نفس كلام الله القديم ، والذي يدل على صحة ذلك : أن الحافظ للقرآن : القرآن في صدره عندنا حفظا ، لا أن كلام الله القديم يحل في صدر الحافظ حلول الجسم في الجسم ، وعندهم ـ على حسب عقدهم ـ أنه حال في صدور الحافظ كحلول الشيء في الشيء ، ومع ذلك فإن الرسول ما نهى أحدا من الحفاظ أن يدخل بلاد العدو ، فلم يبق إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد مصاحف القرآن التي يتصور عليها نيل أيدي العدو ، ولم يرد أن القديم يحل في المخلوق حلول الجسم في الجسم ـ حاشاه من ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

فصل

فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو جعل هذا القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» قالوا : وقد أطلق عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن القرآن يجعل في الإهاب ، فدلّ على أنه حال. فالجواب أن أهل العلم رضي الله عنهم ذكروا في ذلك ثلاثة أقوال :

أحدها : أن هذا كان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليلا على صدقه ، وكان معجزة له ، وكان إذا كتب في جلد أو رقّ أو غير ذلك ثم ألقي في النار لم يحترق. ذلك الجلد أو الرق ، فيكون معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كانشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات ، ثم انقضى ذلك بعد موته : بدليل أن الرقق التي كتب فيها القرآن قد احترقت في زمن الصحابة وغيرهم.

الثاني : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار لم يحترق» أراد بذلك فضل حفظه القرآن ، وأنهم لأجل ما حفظوا من كلام الله تعالى وصار حفظه في صدورهم تصير عليهم النار بردا وسلاما ، فلا تحرقهم ، كما كانت على الخليل عليه‌السلام بإذن الله تعالى. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم الشفيع لصاحبه يوم القيامة» فيكون ببركة شفاعة القرآن لصاحبه وعمله به لا تتسلط النار على إهابه فتحرقه ، وهذا صحيح ؛ لأن الإهاب هو الجلد قبل الذبح ، أو قبل الدباغة.

دليل الأول : قول عائشة رضي الله تعالى عنها في مدح أبيها الصديق رضي الله عنه : «وحقن الدماء في أهبها».

ودليل الثاني : قوله عليه‌السلام : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فأما بعد الدباغ فلا يقال له إهاب ، وإنما يقال له أديم أو رق ، أو نحو ذلك.

الثالث : وهو الأصح والأجود : أن القرآن إذا كتب في إهاب أو غير ذلك ، وألقي في النار ، فإن القرآن لا يحرق ولا يتصور عليه الحرق ولا الغرق ولا العدم ، وإن تصور ذلك على الرق والجلد. والورق والخط والمداد. وهذا يوضح أنه مكتوب على الحقيقة. وليس بحال حلول الأجسام في الأجسام ؛ لأن المداد لما حلّ حلول الأجسام في الأجسام احترق مع الرق والورق ، والقرآن لما لم يكن حالا لم يتصور عليه العدم بحرق ولا غرق ولا غير ذلك ، وهذا واضح صحيح. يؤكد ذلك أنا إذا كتبنا اسما من أسماء الله تعالى في محل يتصور عليه الحرق والغرق والبلى والتمزق ، فإن عدم ببعض ما ذكر فإنما يعدم ويذهب المحل المكتوب فيه واللون المكتوب به. وأما المكتوب على الحقيقة وهو الرب تعالى فلا يتصور عليه شيء من العدم والذهاب ، كما أخبر تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

* * *

فصل

فإن احتجوا بخبر روي ؛ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفظ القرآن فاختلط بلحمه ودمه ...» قالوا : وهذا يدل على حلوله واختلاطه بلحوم الحفاظ ودمائهم في حال صغرهم. فالجواب عن هذا من أوجه :

أحدها : أن هذا الحديث يرويه إسماعيل (١) بن رافع ، وعمر (٢) بن طلحة ، وهما ضعيفان جدا ، لا يؤخذ بقولهما في هذا ولا غيره.

الثاني : أن الصبيان الحفاظ للقرآن كثير ، وكلام الله تعالى قديم ، وشيء واحد ، فإذا اختلط بدم صبي ولحمه على زعمهم وامتزج واختلط فكيف يمتزج بلحم آخر ودمه ؛ إذا الشيء الواحد إذا اختلط وامتزج بشيء استحال امتزاجه بغيره ، نعوذ بالله من هذا المذهب الذي يؤدي القول به إلى اختلاط الصفة القديمة وامتزاجها بدم المخلوقين ولحومهم ، ولعمري أن قول النصارى دون هذا ، لأن النصارى ؛ إنما تقول كلمة واحدة قديمة اختلطت بجسم واحد وهو جسم المسيح عليه‌السلام ، حتى صار الجسم لاهوتيا من أجل الكلمة ، ناسوتيا من جهة مريم عليها‌السلام ، فاختلط عندهم القديم بالمحدث اختلاط الماء باللبن ، فوافقتهم هذه المقالة الخبيثة ، وزادوا عليهم ، لأنهم قالوا : جسم واحد اختلط به القديم ، وهؤلاء يقولون اختلط القديم بألف ألف جسم وأكثر ، نعوذ بالله من هذا القول الذي لا يقوله من له مسكة من حس وعقل.

الجواب الثالث : أن هذا الحديث إن صح ، فمراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحفظ في الصغر أجود وأثبت من الحفظ في حال الكبر ، ويعني باختلاطه باللحم والدم جودة الحفظ ، لا اختلاط المحفوظ الذي هو كلام الله القديم. وصار هذا كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : ٩٣] يعني حب العجل ، لأن العجل لا يدخل ولا يحل في القلوب ، وإنما يدخل ويحل حبه. هذا أيضا كما يقال : التعليم في الصغر كالنقش في الحجر. والتعليم في الكبر كالنقش في المدر ، يريدون بذلك أن الحفظ في الصغر أثبت وأبقى منه في حال الكبر.

* * *

__________________

(١) قال النسائي : متروك (ز).

(٢) قال الذهبي : لا يكاد يعرف (ز).

فصل

فإن قيل : إذا كان القديم لا يحل في المصحف ؛ فما معنى تعظيمه وتوقيره عن الأدناس والأنجاس وأن لا يحمل إلا على طهارة.

فالجواب : أن هذا جهل وتخبط لأن توقير المحل والمكان لا يدل على حلول القديم الذي لا يتصور عليه الحلول فيه ، كما أنا نحرم المسجد ولا ندخله إلا على طهارة من غير جنابة ، ولا ندخل إليه شيئا نجسا ولا قذرا ، وننزهه عن البصقة والنخامة ، وإن كانت طاهرة توقيرا له وتعظيما. وإن كانت أرضه وتربته وأحجاره مخلوقة ، وخشبه وطينه مخلوقان ، لا أنه قديم ، ولا أنه حلّ فيه قديم ، وكذلك الطواف بالبيت لا يدخل بنجاسة إليه ، ولا يصح الطواف ، حتى يكون الطائف متطهرا من النجس والحدث ، ولا يدل هذا على أن البيت قديم ، ولا أنه حل القديم فيه ، كذلك الخطوط التي يكتب بها القرآن ، والصحف التي يكتب فيها نوقره ونعظمه وننزهه أن يمس إلا على طهارة ، ولا يقرب إليه شيء من الأنجاس ، بل نعظمه ونشرفه ، ولا يوجب ذلك كون المداد الأسود والصفرة والحمرة قديمة أو حل القديم فيها ، وهذا أمر واضح لمن له عقل وتحصيل. إذا تأمله ونظر فيه.

* * *

فصل

ثم يقال لهذه العصابة ـ هداهم الله من الضلال ـ ما تقولون فيمن أخذ قلما وورقة ومداد حبر ، وكتب ألف. لام. لام ، ها. أتقولون إن المكتوب على الحقيقة هو الله تعالى أم لا؟ فإن قالوا : ما هو المكتوب على الحقيقة. فقد خالفوا إجماع أهل السنة والجماعة. وإن قالوا : هو المكتوب على الحقيقة. قلنا : أفتقولون إن الله تعالى انتقل من العرش (١) وحل في هذه الورقة؟ فإن قالوا : نعم. كفروا بإجماع الأمة ، وجعلوا الباري تعالى يحويه أصغر الأماكن ، وإن قالوا : ليس بحال وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره. قلنا : فكذلك كلامه تعالى مكتوب في مصاحفنا محفوظ في صدورنا مقروء بألسنتنا متلو في محاريبنا غير حال في شيء من المخلوقات.

* * *

__________________

(١) على قولهم بالاستقرار المكاني على العرش (ز).

فصل

ثم يقال لهم : خبرونا إذا كتب كاتب في ورقة (فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)) [النّازعات : ٢١ ـ ٢٤] أفتقولون : إن الكاتب قديم ، أم كتابته قديمة ، أم الورق الذي كتب فيه قديم ، أم اللعين فرعون ، وقوله قديم ، فلا يجوز لعاقل أن يقول شيئا من هذه الأشياء قديم ، بل الكاتب مخلوق ، وكتابته مخلوقة ، والورقة مخلوقة ، والقلم مخلوق ، والحبر مخلوق ، وفرعون اللعين مخلوق ، وما ادعاه من الربوبية كذب مخلوق ، وإنما الذي هو ليس بمخلوق كلام الله تعالى القديم الذي هو خبر يشمل جميع المخبرات التي أخبرنا عن فرعون اللعين وقوله الكذب. فصحّ أن كلام الله القديم ليس بالخط ولا بالورق ولا بقول فرعون اللعين ، لأن قول فرعون اللعين كذب ، وكلام الله حق وصدق ، وكذلك إذا كتب الكاتب في ورقة (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الأنعام : ١٥٢] أتقولون : إن اليتيم وماله قديم ، والخط الذي كتب ذلك قديم ، والكاتب له قديم. لا. بل الجميع مخلوق ، وإنما القديم كلام الله الذي هو نهيه الذي يشمل جميع المنهيات ، وهو غير اليتيم والمال والكاتب والكتابة ، وإذا كتب كاتب : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : ٦٠](وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] أترى [أن] الكاتب قديم أو الكتابة قديمة ، أو الأكل والآكل ، والشارب والشرب ، والمصلي والصلاة ، والمزكي. والزكاة قديمة. لا والله ؛ ليس شيء من ذلك قديما ، وإنما القديم كلام الله تعالى ، الذي هو أمره الشامل لجميع المأمورات. فصحّ بهذه الجملة الفرق بين كلام الحق وكلام الخلق ، وإن كلامه تعالى قديم غير مخلوق ، ولا يتصف بشيء من صفات الخلق ، ولا يفتقر تعالى في كون كلامه صفة له قديمة غير مخلوقة ، إلى شيء من أدوات الخلق من لسان ، وشفة ، وحلق ، وحرف ، وصوت ، بل هو متكلم ، وله كلام ، صفة له قديمة غير مخلوقة ، ولا يجوز عليها شيء من صفات الخلق. فاعلم ذلك وتحققه ولا توفيق إلا بهدي من الله وفضل ورحمة ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

* * *

فصل

يتعلق بمسائل ثلاثة وفروعها : وهي :

مسألة الخلق والإرادة ، وأنه [لا] يكون من العباد شيء إلا وهو خلق الله تعالى ومراد له ، لا يجوز أن يخلق أحد غيره ، ولا يكون في ملكه إلا ما أراده.

الثانية : مسألة الشفاعة ، وأنها حق وصدق ، وأعلى الشفاعة عند الله شفاعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويشفع أيضا من أذن له في الشفاعة في العصاة ؛ من ملك ، ونبي ، ومؤمن.

الثالثة : مسألة الرؤية ، وأنها جائزة ، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تحديد ، كما جاء في الكتاب والسنة ، ودلّ عليه العقل أيضا ، وإنما ختمنا الكتاب بمسألة الرؤية ، لأنها أعلى العطايا وأسنى الكرامة من الله تعالى لعباده المؤمنين ، وليس فوقها مزيد ، بل هي الزيادة المذكورة في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

مسألة

اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الخالق وحده ، لا يجوز أن يكون خالق سواه ، فإن جميع الموجودات من أشخاص العباد وأفعالهم وحركات الحيوانات قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها خلق له تعالى لا خالق لها غيره ؛ فهي منه خلق وللعباد كسب ، على ما قدمنا بيانه بقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وأمثال هذه الآية من الأدلة على الفرق بين الخلق والاختراع والكسب ، فالواحد منا إذا سمي فاعلا فإنما يسمى فاعلا بمعنى أنه مكتسب ، لا بمعنى أنه خالق لشيء. وقالت المعتزلة ، والنجارية (١) ، والجهمية ، والروافض : إن أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة العباد ، وإن كل واحد منا ينشئ ما ينشئ ويخلق ما يفعل ، وليس لله تعالى على أفعالنا قدرة جملة ، ونعوذ بالله من الاعتقاد وسوء المقال.

والدليل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وبطلان قول من خالفهم من أهل الزيغ والبدع الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل ؛ فالدليل من الكتاب أكثر مما يحصى ، لكن أذكر منه ثلاثة تنبه اللبيب على بقيتها إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك قوله تعالى (٢) : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافات : ٩٦] فأخبر تعالى أنه خالق لأعمالنا على العموم ، كما أخبر أنه خالق لصورنا وذواتنا على العموم ، وهذا من أوضح الأدلة من الكتاب.

__________________

(١) لعل النجارية والجهمية مقحمتان في هذا الموضع بقلم الناسخ ، بل لا يعرف هذا في المعتزلة إلا من عهد الجبائي ، كما هو مشروح في موضعه (ز).

(٢) والكلام في هذا طويل في إيثار الحق (ز).

الثاني : قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] ومعلوم أن أفعالنا مخلوقة إجماعا ، وإن اختلفنا في خالقها ، وهو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق ، فدلّ على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى. فإن قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون مخلوقا. قلنا : قد احترزنا بحمد الله تعالى عن هذا السؤال بقولنا : إنه أخبر أنه خلق كل شيء مخلوق ، وكلامه وصفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنها غير مخلوقة ولا خالقة ؛ بل هي صفة الخالق ـ تعالى ـ قديمة بقدمه موجودة بوجوده قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال.

وجواب آخر يبطل هذا السؤال وهو : أنك تقول : إن الله تعالى مخاطب ، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب ، ألا ترى أن الواحد منا إذا قال دخلت الدار فضربت من فيها ، أو أخرجت من فيها ، أو أعطيت من فيها لا يدل ذلك على أنه دخل تحت الخطاب ، بأن يكون ضرب نفسه ، ولا أخرج نفسه ولا أعطى نفسه ، لأنه مخاطب ، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب وكذلك قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] هو مخاطب ، فلا يدخل تحت الخطاب بذاته ولا بصفاته جلّ عن ذلك وتعالى ، كما قال : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] قهر الكل ولم يدخل في القهر ذاته وصفاته. فافهم التحقيق لتدفع به كل بدعة وتمويه من أهل البدع إن شاء الله.

الثالث : قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)) [الرّوم : ٤٠] والدلالة من هذه الآية من أوجه :

أحدها : أنه قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [الرّوم : ٤٠] وهذا عام في ذواتنا وصفاتنا ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الرّوم : ٤٠] يعني ثم خلق أرزاقكم ، وعند المخالف أن العبد يخلق أفعاله ورزقه ، فهو خلاف ما أخبر الله تعالى به من كونه خالقا لنا ولأرزاقنا.

الوجه الثاني : من الدلالة : أنه قال : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] فكما لا يقدر أحد أن يخلق موته ولا حياته ، فكذلك لا يقدر أن يخلق فعله ورزقه ؛ من حركة ولا سكون ولا غير ذلك.

الثالث : سبحانه وتعالى نزّه نفسه عن عقدهم وخبثهم إذ أضافوا فعل شيء وخلقه إلى غيره ، فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] ثم أكد ذلك

بعده بمواضع فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] سبحانه وتعالى. وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧].

وأما الدليل من السنة فكثير أيضا ، غير أني أذكر منه خبرين ننبه العاقل الفطن على الاستدلال بأمثالهما من السنة :

الأول : ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق كل صنعة وصانعها» (١) وصنعة الصانع إنما هي بحركاته وأفعاله ، سواء كان في صنعة مباحة وطاعة ، ككتابة القرآن ، والحديث ، والفقه. أو محظورة ؛ من تصوير صور الحيوان ، أو عمل السلاح ليقتل به المسلمين. فصحّ بهذا الخبر أن الله جلّ وعلا خالق للفاعل منا ولفعله.

الخبر الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : «فرغ ربك من أربع : من الخلق ، والخلق ، والرزق ، والأجل فلو جهد الخلق على أن يؤتوك ما لم يقدره الله لم يقدروا على ذلك» وروي : «لو جهد الخلق على أن ينفعوك أو يضروك لم يقدروا على ذلك» والمخلوقات منها الضار والنافع ، في العاجل والآجل ، وقد جعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذلك إلى تقدير الله تعالى وخلقه له ، ولم يجعل إلى العباد شيئا من ذلك. فاعلمه وتحققه.

* * *

فصل

ويدل على صحة ما قلناه : إجماع المسلمين ، وأنهم يقولون : لا خالق إلا الله ، كما يقولون : لا رازق ، ولا محيي ، ولا مميت إلا الله تعالى. فنقول : فلا يكون الخلق من غيره ، وأثبتوه خالقا.

* * *

فصل

ويدل على صحة ما قلناه من جهة العقل. وأنه لا خالق إلا الله تعالى ، وهو كثير جدا ، لكن نختصر على قدر فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك : أن نقول لهم : إن قلتم إن الواحد منا يخلق أفعاله ، من طاعة ، أو معصية ، أو إيمان ، أو كفر فقد شركتم بيننا وبين الله تعالى في الخلق ، وأنه لا يتم خلقه

__________________

(١) أخرجه البخاري في خلق الأفعال (ز).

إلا بخلقنا. وذلك أن الجسم لا يخلو من حركة ، أو سكون ، أو كفر ، أو إيمان ، أو طاعة ، أو معصية ، فصحّ أن جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد وبين الرب ، وأنه لا يتم خلق أحدهما إلا بمخلوق الآخر ، وهذا شرك ظاهر ، نعوذ بالله منه.

دليل آخر من جهة العقل : وأنه لا خالق إلا الله ، لأن الخالق الصانع أقل ما يوصف به علمه بخلقه ، كما قال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤] ونحن نجد الواحد منا يفعل ما لا يعلم فعله فيه ، ولا يحصره ولا يعده بقدرة ، حتى إن الواحد منا يريد أن يتكلم صوابا فيرمى خطأ ، إلى غير ذلك ، فيفعل ما لا يعلمه ولا يريده ، وأيضا الواحد منا إذا خرج إلى المسجد حتى وصل إليه ، فعند المخالف أن كل خطوة خطاها خلقها وأنشأها ، ولو سئل عن عدد كل خطوة خطاها لم يدر ما يقول ولا يعلمه ولا يعرفه ؛ فلم يبق إلا أن الخالق لأفعالنا وأكسابنا هو الله تعالى الذي يعلمها ، كما قال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤].

دليل آخر من جهة العقل : وهو : من شرط الخالق للشيء أن يكون قادرا على خلق الشيء وضده ، فإن من يقدر على خلق الحياة يقدر على خلق ضدها ، وهو الموت ، وكذلك من يقدر على خلق التفريق في الجسم يقدر على خلق الاجتماع له ، حتى يعود كما كان جسما مؤلفا ، ولما وجدنا أحدنا لا يقدر على ذلك صحّ أنه غير خالق ، ولما وجدنا الخالق تعالى يقدر على خلق الشيء وضده دلّ على أنه هو الخالق لا خالق سواه ، وقد قيل عن الشيخ الإمام أبي بكر بن فورك (١) رضي الله عنه أنه كان مع إسماعيل المعروف بالصاحب في بستان ، وكان يعتقد شيئا من ذلك ، فأخذ سفرجلة وقطعها من الشجرة ، وقال له : ألست أنا قطعت هذه السفرجلة؟ فقال له رضي الله عنه مجيبا : إن كنت تزعم أنك خلقت هذه التفرقة فيها فاخلق وصلها بالشجرة حتى تعود كما كانت. فبهت وتحير ولم يقدر على جواب.

وبلغني أيضا أن بعض القدرية وقف على إحدى رجليه وشال الأخرى ، وقال : ألست أنا رفعت هذه وحططت هذه؟ فقال له بعض أهل السنة : إن كنت تزعم أنك خلقت الشيل في هذه المشتالة فاخلق الشيل في الأخرى حتى تصير مشتالة معها ، فبان له الحق ورجع عن قوله الباطل.

__________________

(١) زميل المؤلف في عهد طلبه العلم عند الباهلي ، وإن كانا متباعدي الدار في عهد إمامتها ونشرهما العلم ، ونوّه بجواب ابن فورك هنا كما بلغه تقديرا لصاحبه كما هو شأن الإخلاص في العلم (ز).

دليل آخر من جهة العقل : وهو أنك تقول : حقيقة الخلق والإحداث هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وإذا كان الواحد منا على زعمكم يقدر أن يخلق حركة معدومة حتى يخرجها من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق شيئا زائدا فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق له لونا غير لونه فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وفي هذا القول الخبيث التسوية بين قدرة الله تعالى وقدرة العباد ، وأنهم يقدرون على ما يقدر عليه. تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا.

* * *

فصل

نذكر فيها شبها يزعمون أن لهم فيها حجة ، وليس لهم حجة بحمد الله تعالى كما قال : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشّورى : ١٦] فإن احتجوا بقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السّجدة : ١٧] قالوا : فأثبت لنا العمل ، والعمل هو الفعل ، والفعل هو الخلق ، فالجواب : أنه تعالى أراد هاهنا بالعمل الكسب ، والعبد مكتسب على ما بيّنّا. يدل على ذلك : أنه قال في موضع آخر : (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التّوبة : ٨٢] نحن لا نمنع أن يكون سمى كسب العبد عملا له ، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا لفعله مخرجا له من العدم إلى الوجود ، وقد بيّنّا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلم يكن لهم في الآية حجة.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وبقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السّجدة : ٧] وبقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] فالجواب من أوجه :

أحدها : أنه يعني بقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] يعني أحسن المقدرين ، فعيسى عليه‌السلام يقدر الطين صورة ، والخلق يقدرون الصورة صورة ، لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود ، فقال تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أي المقدرين. فاعلم ذلك.

جواب آخر : وذلك أن الله تعالى هو الخالق لا خالق سواه ، لكن لما ذكر معه غيره قال : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره ، كما يقال : عدل العمرين ، وإنما هو أبو بكر وعمر ، لكن لما جمع بينهما سماهما باسم واحد ، وكذلك قول الفرزدق :

أخذنا بأكناف السماء عليكم

لنا قمراها والنجوم الطوالع

والقمر واحد ، لكن لما جمعه مع الشمس سماهما قمرين. وكأنه تعالى لما علم من الكفار ومنكم أن تجعلوا معه غيره خالقا قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] على زعمهم أن معه غيره ، وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : ٢٧] على زعمكم ، لأن عندهم أن النشأة أهون من الإعادة ، فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم والإنكار لقولهم إن معه خالقا غيره ، لا أنه أثبت معه خالقا غيره.

جواب آخر : وذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب : يراد بها إثبات الحكم لأحد المذكورين وسلبه الآخر من كل وجه ، وذلك في قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)) [الفرقان : ٢٤] فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة ، مع حسن المستقر ، وسلب ذلك عن أهل النار أصلا ورأسا ، لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر ولا حسن مقيل ، فكذلك قوله تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أثبت الخلق له وأنه هو المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل : العسل أحلى من الخل لا يريد أن للخل حلاوة بوجه ، بل يريد إثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل أصلا ، ورأسا ، فكذلك قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أثبت الخلق له دون غيره.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] فكيف يجوز أن يكون خالقا لكفر الكافرين ، وعصيان العاصين ، وفيه من التفاوت غير قليل.

فالجواب : أن هذا سوء فهم ، وذلك أن هذا أراد به سبحانه وتعالى خلق السموات في الصورة ، وأنه ليس فيها فطور ولا شقوق ، أجمع المفسرون على ذلك ، فلا حجة لكم فيها ، ثم إن أول الآية حجة عليكم ، لأنه قال : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وبين الموت والحياة تفاوت ، وهو خالق الجميع لا خالق لذلك غيره ، فكذلك كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وإن كان بينهما تفاوت في الحكم فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع وإحكام الخلق ، فصحّ أن الآية حجة عليهم لا لهم.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] فلو كان الله الخالق لوكزة موسى لقال : هذا من عمل الرّحمن ، الجواب من وجهين :

أحدهما : أن قول موسى هذا القول على وجه الأدب ، أي : إني أرتكب ما نهيت عنه من شره النفس ووسوسة الشيطان ، ألا تراه قال في ضلال السبعين من قومه

لما لم يكن له في ذلك كسب : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] فيجب على العبد عند خطئه وذنبه أن يرد اللوم والتقصير إلى نفسه وإلى وسوسة الشيطان ، ولا يرد ذلك إلى خلق الله تعالى وإرادته ، لأنه يصير كالمحتج عليه تعالى ، وليس لأحد عليه حجة : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)) [الأنعام : ١٤٩]. ومثل هذا قول أبيه آدم عليه‌السلام وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] فردا التقصير والنقص واللوم إلى أنفسهما ، لأن هذا موضع الأدب والتذلل ، لا موضع الاحتجاج ، ومثل هذا كثير.

الجواب الثاني : أن الإجماع منا ومنكم : أن الوكزة ليست خلق الشيطان ولا عمله ، بل هي عندنا من خلق الله تعالى واختراعه ، ولموسى عليه‌السلام كسب. وعلى عقدهم النحس أنها خلق موسى وعمله ، وليس لله فيها خلق ولا اختراع ولا عمل ، فبطل احتجاجهم بالآية ، ولم يبق إلا ما قلناه ، وهو أنه أراد بقوله : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠] أي زيّن ذلك وحسّنه لي ، والله المعين.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : ٧٩] فأوضح تعالى أن السيئة منا ، والحسنة منه ، فالجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه لا يصح لكم الاحتجاج معشر المعتزلة بهذه الآية بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب ؛ لأن ظاهرها فيه تعلق لمن يقول إن الخير خلق الله تعالى وفعله ، والشر خلقنا وفعلنا ، وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية ، لأنكم تقولون إن أحسن الحسن وخير الخير الإيمان والمعرفة. وتقولون ليس لله في هذا قدرة ولا خلق ، وإنما هو بقدرة العبد المؤمن وخلقه ، فلا حجة لكم فيها.

الجواب الثاني : أن صريح النص في أول هذه الآية حجة عليكم ، لأنه يقال : رد عليهم ، وأمر نبيه عليه‌السلام أن يرد عليهم ، بقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النّساء : ٧٨] ثم جهلهم وإياكم ، وأكد ذلك بقوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النّساء : ٧٨] فصارت الآية حجة واضحة عليكم لا لكم.

الجواب الثالث : قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : ٧٩] وهذا صحيح من وجهين :

أحدهما : أن مثله في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١] تقديرا لكلام يقولون ربنا

ما خلقت هذا باطلا. ومثله قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) [الأنعام : ٩٣] ومثله أيضا قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران : ١٠٦] تقدير الكلام (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦] فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران : ١٠٦] فكذلك هذا ، فتقدير الكلام فيه (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) [النّساء : ٧٨] فيقولون : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) [النّساء : ٧٩].

الوجه الثاني : أن هذه الآية إن لم تحمل على ما قلناه صار بعضها ينقص بعضا ويخالف بعضا ، وليس في كتاب الله تعالى مناقضة ولا اختلاف ، فصحّ ما قلناه ؛ لأنه قال في أول الآية : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النّساء : ٧٨] ثم يرجع في سياقها فيقول : لا إنما البعض مني والبعض من خلقي ، كلا والله ، بل ذكر ذلك في سياق الآية تجهيلا لقائله وردا عليه. فافهم الحق وادفع به الباطل.

فإن احتجوا فقالوا : وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا فوجب أن يكون خلقا لنا وفعلا لنا. قالوا : وبيان ذلك أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام ، وإذا أراد أن يقعد قعد. وإذا أراد أن يتحرك تحرك ، وإذا أراد أن يسكن سكن ، وغير ذلك ، فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته دلّ على أن أفعاله خلق له ، وفعل له ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا غير صحيح أولا ، فإنا نرى من يريد شيئا ويقصده ولا يحصل ما يريد ولا ما يقصد. فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض ، وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر ، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه ، إلى غير ذلك. فبطل ما ذكرتموه ، وصحّ أن فعله خلق لغيره ، يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى ، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة. والخلق من الخالق (١).

الجواب الثاني : أن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا يدل ذلك على أنه خلق لهم واختراع ، ألا ترى أن مشي الفرس والدابة يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو ، وتقريب ، واستطراف ، ووقوف ، إلى غير ذلك. ولا يقول

__________________

(١) وأما إرادة العبادة للفعل فهي مدار تكليفه ، وهي بيده. جعلها الله هكذا تحقيقا لمسئولية العبد عن أفعاله. وهي متقدمة تقدما ذاتيا على الخلق. كما جرت عادة الله على ذلك. فيكون اختيار العبد بعيدا عن سمة الجبر (ز).

عاقل إن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ، ولا غير ذلك من أفعالها ، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل يدل على أنه خلقه ، وكذلك أيضا السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير من يمين إلى شمال على حسب قصد الملاح ، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها فإن كابروا الحقائق وقالوا نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد ، وأن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات ، وهذا كفر صراح ، وإن قالوا : حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح وليس بخلق له. قلنا : فكذلك أفعال أحدنا قد تقع ، ولا نقول إنها تقع في كل حال على حسب قصده ، ولا يدل ذلك على أنه خلقها فاخترعها. يؤكد ذلك أن البياض يحصل في الناطف عند قصد الناطفي له ، ولا يقول أحد إن واحدا منا يقدر أن يخلق لونا لغيره ولا لنفسه ، فلا يمتنع أن يكون الفعل قد يحصل على حسب قصد أحدنا ، وليس هو خلقا له ولا موجودا له ، من العدم إلى الوجود. فاعلم ذلك.

يؤكد هذا أيضا أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه وغير ذلك ، ولا يقول أحد إن نمو الزرع خلقه الزارع ، ولا أنه خلق في الحبة أضعاف عددها [وكذلك] ما حصل فيه النمو من الفسيل والتين. وغير ذلك.

وكذلك سمن الدابة يحصل على قصد العالف لها والساقي ، ولا يقول أحد إن العالف والساقي هو الذي خلق الشحم والسمن في الدابة. وكذلك دود القز يحصل منه القز على حسب قصد القائم عليه والمربي له ، ولا يقال إن القز خلقه في الدود إلا الله تعالى ، وإن كان حاصلا على حسب إرادة القائم عليه وقصده ، وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده ، لا يدل على أنه هو خلقه بل الخالق له هو الله تعالى.

فإن قيل : فإذا لم يكن أحدنا خالقا لفعله ، فكيف يكون ملوما عليه ومعذبا به ويستحق عليه المدح والثواب أو الذم والعقاب؟ فالجواب :

إننا لا نقول إن المدح والثواب ، ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا ؛ حتى يوجب ذلك كونه خلقا له واختراعا ، بل نقول : إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى ، ويجب ويستحق بحكمه لا [بأن] يوجب الواجب عليه خلق [فعل] أوجبه عليه. ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين : أن الدية تجب على العاقلة. بقتل غيرها خطأ. وإن لم تفعل العاقلة شيئا يستحق به إيجاب ذلك عليها ، وإن ذلك الذي

فعلته خلق لها ، بل هو خلق لغيرها ، وهو الله تعالى عند المسلمين ، وخلق للقاتل على زعمكم ، أفصح أن الوجوب حصل بإيجاب الله وحكمه ، لا بخلق العاقلة وفعلها ، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة ، إنما تجب وتستحق بإيجاب الله تعالى وإرادته ، لا بكونها خلقا للفاعل ، فاعلم ذلك وتحققه.

وكذلك أيضا الأكل في الصيام ناسيا ، فعل العبد ، كما هو فعل له عند تعمده ، لكن الله تعالى حكم بأن أحدهما مبطل ومفطر ، ويذم ويعاقب عليه ، والآخر بالضد من ذلك ، وإن كان الجميع فعلا للعبد ، فصحّ أن ذلك إنما يكون بحكم الله تعالى ، لا بكون خلقا للفاعل ، فصحّ ما قلناه ، وبطل ما توهموه.

فإن قيل : من فعل الطاعة كان طائعا ، ومن فعل المعصية كان عاصيا ، فالجواب : أن هذا غير صحيح ، لأن كون الباري تعالى خالقا وفاعلا لا يوجب أن يتصف بالطاعة والمعصية ، لأن الطاعة صفة الطائع ، والمعصية صفة العاصي ، ولا يوجب ذلك وصف خالق الطاعة والمعصية بكونه طائعا عاصيا ، ألا ترى أن الأسود صفة لمن قام به السواد ، ولا يكون صفة لله تعالى ، وإن كان تعالى هو خالق السواد ، فكذلك التحرك صفة لمن له الحركة ، لا صفة من خلق الحركة والولد لمن له الولد ؛ لا لمن خلق الولد ، والحلاوة صفة العسل ، لا لمن خلق الحلاوة فيه. وكذلك الحموضة في الخل صفة للخل ، لا لمن خلق الحموضة فيه ، وكذلك الموت إذا خلقه الله في أحدنا صار ميتا ، واتصف بذلك ، ولا يوجب أن يتصف الخالق للموت بأنه ميت ، لما خلق الموت وفعله بالحي. فكذلك المعصية صفة من حلّت به المعصية ، والطاعة صفة لمن حلّت به الطاعة ، ولا يوجب ذلك وصف خالقها بأنه طائع ولا عاص.

فإن قيل : لا يجوز أن يكون الله خالق الظلم والجور والكذب ، لأن من فعل الظلم كان ظالما ، ومن فعل الجور كان جائرا. ومن فعل الكذب كان كاذبا والله تعالى يتنزه عن جميع ذلك ، فصحّ أن هذه الأشياء ليست بفعل له ، ولا خلق له.

فالجواب : أن هذا السؤال هو الأول بعينه ، والجواب عنه قد تقدم ، لكن نزيد هاهنا جوابا آخر : وذلك أنا نقول : ليس الأمر على ما يقع لكم ، بل نقول إن الله تعالى خلق الظلم ظلما للظالم به ، وخلق الجور جورا للجائر به ، وخلق الكذب كذبا للكاذب به ، كما أنه خلق الظلمة ظلمة للمظلم بها ، وخلق الضوء ضوء للمستضيء به ، وخلق الحمرة حمرة للأحمر بها ، وخلق السواد سوادا للأسود به ، وخلق السم

سما للمسموم به. فكما أن الله تعالى خلق الظلمة لليل والضياء للنهار ، والحمرة للأحمر ، والسواد للأسود ، والسم للحية ، ولا يوجب ذلك كونه ظلمة ولا ضياء ولا سوادا ولا حمرة ولا سما [له] فكذلك خلق الطاعة طاعة للطائع بها ، والكذب كذبا للكاذب به ، والجور جورا للجائر به ولا يوجب ذلك كونه جائرا ولا ظالما ولا كاذبا ، فصحّ ما قلناه وبطل ما قالوه.

جواب آخر : وذلك أن الظلم والكذب والجور ليس من حيث الصورة والفعل ، وإنما يكون كذبا إذا خالف الأمر ، وكذلك الجور والظلم ، وهذا كله يصح الوصف به لمن فوقه آمر أمره ، وناه نهاه ، وهم الخلق. وأما الخالق فليس فوقه آمر ولا ناه ، فلا يصح وصفه بشيء من هذا ، فاعلم ذلك وتحققه ، فإنه أصل قوي تدفع به جميع ظنونهم الفاسدة.

فإن قيل : لا يجوز أن يقال للجور والكذب هذا خلق الله ، بل يعرض عن ذلك ، ولا يقال. فصحّ أنه خلق لغيره.

فالجواب : أن هذا السؤال غير صحيح ، لأنك [إن] أردت الإطلاق في العموم ، فجائز بأن تقول : يا خالق المخلوقات ، ويا خالق الموجودات. ويا خالق كل شيء ، ويا خالق الضر والنفع. وإن أردت ذلك على الخصوص ، بأن تقول : يا خالق الكذب والجور ؛ فلا يجوز من طريق الأدب والإذن في ذلك ، كما أنا نقول يا خالق المخلوقات ، فيعم بذلك السموات ، والأرض ، والشمس ، والقمر ، والقردة ، والخنازير ، والكلاب ، والجعلان ، وغير ذلك من سائر المخلوقات ، فلا يجوز أن تقول على الانفراد يا خالق الأقدار والأنجاس ونحو ذلك من طريق الأدب ، وأنه لم يؤذن لنا في ذلك ، بل ندعوه بأسمائه الحسنى كما أمر ، فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠].

مسألة

اعلم أنه لا يجري في العالم إلا ما يريده الله تعالى ، وأنه لا يؤمن مؤمن ولا يكفر كافر إلا بإرادة الله تعالى ، ولا يخرج مراد عن مراده ، كما لا يخرج مقدور عن قدرته. وقالت المعتزلة ومن وافقهم من أهل البدع : إن الله تعالى لا يريد إلا الطاعة والإيمان ، فأما من كفر وعصى فقد أتى بما ليس بمراد لله تعالى ، وقالوا : إن كل واحد يفعل من الأفعال ما لا يريده الله تعالى ، حتى انتهى بهم القول إلى : أن البهائم تفعل أفعالا لم يردها تعالى ، وأنه لو أراد فعل غيرها منهم لم يحصل ذلك له وامتنع

عليه ، سبحانه وتعالى عما يشركون. ونحن براء إلى الله تعالى من جهلهم وبدعهم ، ونقول : إن مذهب أهل السنة والجماعة الذي ندين الله تعالى به أنه لا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع ، ولا يعصى عاص ، من أعلى العلى إلى ما تحت الثرى إلا بإرادة الله تعالى ، وقضائه ومشيئته.

ويدل على صحة ما قلناه الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل. فأما الكتاب : فأكثر من أن يحصى ، لكن نذكر منها ما فيه الكفاية ، ويدل العاقل على نظائره من أدلة الكتاب ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨)) [هود : ١١٨](إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] وهذه الآية أوضح دليل وأقوم حجة من وجوه عدة :

أحدها : أنه أخبر تعالى أنه لو شاء وأراد لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر والضلال ، وهذا خلاف قول المعتزلة ، لأنهم يقولون : إنه ما أراد إلا كونهم أمة واحدة على الإيمان ، بطل قولهم ببعض هذه الآية.

الثاني : أنه قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود : ١١٨](إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] فأخبر تعالى أنه خلقهم لما أراد من اختلافهم ، وأنه لم يرد أن يكونوا أمة واحدة.

الثالث : قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : ١١٩] فأخبر تعالى أن منهم من رحمه وأراد رحمته دون غيره ، فصحّ أنه لا يكون من عباده ولا يجري في ملكه إلا ما أراده وقضاه وقدره.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] فنصّ تعالى على أن الهدى بإرادته ، والضلال بإرادته ، وهذا نص واضح لا إشكال فيه.

ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] وجه الدليل : أنه تعالى خلق من الجن والناس قوما ليدخلوا النار ويكونوا أهلا لها ، ولا يكونون أهلا لها إلا بالكفر والطغيان والعصيان ، فعلم أن جميع ذلك بإرادته وقضائه وقدره.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] فأخبر تعالى أن الحجج والآيات لا تنفع ، وإنما تنفع المشيئة التي تتم بها الأشياء ، فمن شاء إيمانه آمن ، ومن شاء كفره لم يؤمن.

ويدل عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] وهذا نص في أنه أراد فتنة الكافر وإضلاله. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وهذا نص واضح يغني عن الشرح ، إلا أنه أخبر أنه ما شاء أن يؤمن أهل الأرض كلهم. وعند المخالف أنه قد شاء ذلك ، والله قد أكذبه في هذه الآية وأمثالها.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : ٤١] وهذا صريح في إرادته بقاءهم على كفرهم. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التّوبة : ٤٦] فأخبر تعالى أنه أراد قعود المنافقين عن الخروج إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، ولو أن أحدنا أراد أن يستقصي جميع ما في القرآن من الأدلة على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وإبطال بدعة القدرية مجوس هذه الأمة كما جاء في الأثر وقول الصحابة لطال ذلك ، وما وسعه كتاب (١).

ويدل على صحة قول أهل السنة والجماعة من الأخبار ، ما روي في الصحاح في محاجة موسى وآدم عليهما‌السلام ، حتى قال آدم : يا موسى أترى هذا الأمر قد قدر علي أولم يقدر؟ فقال موسى : بل قدر عليك. فقال له آدم : فكيف يكون فراري من أمر قدر علي؟ قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحج آدم موسى ، أي ظهر عليه في الحجة (٢) وهذا صريح من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جميع الرسل عليهم‌السلام أن جميع الأمور خيرها وشرها بقضاء الله وقدره ومشيئته.

ويدل عليه أيضا الخبر المروي في الصحاح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن أبيه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتاه الرجل فسأله عن الإيمان فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى» فقال : صدقت

__________________

(١) والأدلة المذكورة واضحة في عموم إرادة الله سبحانه. وليس في شيء منها إبطال اختيار العبد ليكون مجبورا في أفعاله ، وأما حديث القدرية مجوس هذه الأمة فقد ذكرنا كلام أهل الشأن فيه في مقدمة «التبصير» وفي سنده جعفر بن الحارث ، وهو منكر الحديث عند العقيلي ، وغلا ابن الجوزي والصنعاني فحكما بوضعه (ز).

(٢) ويرى ابن حزم كون موسى محجوجا ناشئا من جعله لو آدم على غير فعله لا من القدر ، كما في الإحكام (١ ـ ٢٦) فلا يكون الحديث من أدلة القدر عنده ، وإن كان في الكتاب والسنة كثير من الأدلة على القدر ، ولا يرى ابن حزم أيضا معنى الإجبار والإكراه في القضاء والقدر على خلاف ظن بعض الناس كما في الفصل (٣ ـ ٥١) (ز).

يا محمد ، ثم أخبرهم أنه جبريل عليه‌السلام ، فصحّ بإجماع الأنبياء والرسل والملائكة والصحابة أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره.

ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملة حديث : «فتقول الملائكة يا رب أشقي أم سعيد ، فيقضي الله عزوجل ويكتب الملك ، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» ثم أكد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» فعلم كل عاقل أن الله تعالى أسعد من شاء وكتبه سعيدا وأشقى من شاء وكتبه شقيا ، وأخبار الرسول وأقوال الصحابة في هذا المعنى كثيرة جدا لا تحصى ، وفي بعض ما ذكرنا كفاية.

ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة : إجماع المسلمين من الصحابة وهلم جرا إلى وقتنا هذا : أن الجميع منهم يطلق ، ويقول في الخلاء والملاء من غير نكير : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فوقع الإجماع من الخاص والعام أن الأمور كلها بمشيئة وقدر (١) من الله تعالى. وقيل أوحى الله إلى بعض الأنبياء : تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد ، فإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، وهذا نص واضح في أنه لا يكون في الدارين إلا ما أراد الله تعالى. وقد سئل بعض السلف فقيل له : بم عرفت ربك؟ قال : بنقض العزائم ، وفسخ الهمم ، وذاك أن الواحد منا يعزم على الأمر ويهم به ، فيجري عليه غير ما عزم عليه وهمّ به ، فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر قدر له غير ما قدر لنفسه ، والمريد أراد له غير ما أراد لنفسه ، فكان ما أراده العبد لنفسه. ولو شرعنا في ذكر ما روي عن السلف والخلف في هذا المعنى طال ولم يسعه كتاب (٢).

* * *

فصل

ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل أن الملك إذا جرى في ملكه ما لا يريد ، دلّ ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه ، والله تعالى موصوف

__________________

(١) وقدر الله في أفعال العباد الاختيارية على طبق علم الله بها ، وعلم الله بأفعال العبد باختياره لا ينافي اختياره فيها ، بل يحقق اختياره فيها ، فليس هناك شائبة جبر في التحقيق (ز).

(٢) أسباب الخذلان وأسباب التوفيق عند الله سبحانه تؤدي إلى تيسير النشر في أناس وتيسير الخير في أناس ، والأسباب التي يتلبس بها العبد تؤديه إلى مقتضاها وإن كانت تفاصيل ذلك مجهولة عند العبد ، فيعود الأمر إلى حسن اختيار العبد أو سوء اختياره (ز).

بصفات الكمال ، لا يجوز عليه في ملكه نقص ولا ضعف ولا عجز ، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده ، ويريده أضعف خلقه فيكون. كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون في ملكه إلا ما يشاء ، فثبت بحمد الله ومنّه مذهب أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل.

* * *

فصل

في ذكر آيات وسنة يحتجون بها والجواب عنها.

فإن قالوا : فما معنى قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] قلنا :

المراد به أنه لا يثيب على الفساد ولا يمدحه ولا يأمر به ، فإن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه ويمدحه فاعله عليه ، وليس كل ما يريده المريد يقال فيه أنه أحبه ، ألا ترى أن المريد يريد بذل ماله للسلطان الجائر من هدية ورشوة ليتقي بذلك شره ، ثم لا يقال إنه أحب ذلك ، وكذلك الرجل اللبيب يريد ضرب ولده وقرّة عينه ليؤدبه ، ثم لا يقال إنه أحب ذلك ، وكذلك يريد ربط جروحه وقطع سلعته وشرب المر من الدواء ، ولا يقال إنه أحب ذلك. وكذلك الحميم يريد ويبادر في الحفر لميته وتجهيزه وتغييبه تحت التراب ، ولا يقال إنه محب لذلك ولا يؤثره. فعلم أنه ليس كل ما أراده المريد أحبه ، وإنما يقال أحب الشيء إذا مدحه وأثنى عليه وأثاب عليه ، والله تعالى لم يمدح الفساد ولم يثن على المفسد ولم يثبه.

جواب آخر : وهو ما ذكره بعض أصحابنا وهو أن قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] يعني لا يحبه من أهل الصلاح والطاعة ، وهو كقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] يعني لعباده المؤمنين ، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قيل أليس قد قال الله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنعام : ١٤٨] فدلّ على أن الشرك ليس بمشيئة الله تعالى فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن سياق الآية حجة عليهم ، لأنه قال فيها : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)) [الأنعام : ١٤٩].

الجواب الثاني : أنهم إنما قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء ، لا على سبيل الإيمان ، وإنما قصدوا تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي

الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وهذا كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء ، لا على وجه الإيمان والاعتراف بأن الله قادر أن يطعمهم. فلذلك قالوا : ما في تلك الآية وجعلوه لهم حجة ، فجعله كذبا وأن حجتهم باطلة ، فصحّ ما قلناه.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذّاريات : ٥٦] فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه أراد بعض الجن والإنس. الذي يدل على صحة ذلك أن كثيرا من الجن والإنس يموت قبل أن يبلغ حد التكليف والعبادة ، وصار هذا كقوله تعالى لأصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الفتح : ٢٧] وأراد البعض لا الكل ، لأن منهم من مات قبل الدخول وقتل قبل الدخول. الذي يقوي ذلك ويصححه : أنه قال في آية أخرى : (فَرِيقاً هَدى) [الأعراف : ٣٠] يعني إلى الطاعة (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠] يعني عن العبادة والطاعة.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] وهم الذين لم يرد أن يطيعوه ، فأعلم ذلك.

والجواب الثاني : أن المراد بذلك أن لا يقروا بالعبادة طوعا أو كرها ، وهذا قول ابن عباس ، وهو حسن ، لأن الكل لا بد أن يقروا بذلك ؛ إما في الدنيا وإما في الآخرة.

جواب آخر : وهو أن المراد بذلك إلا لآمرهم وأنهاهم ، وهذا قول مجاهد.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : ١٧] فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن معنى هديناهم ، أي دعوناهم قاله [سفيان] وهذا صحيح ، لأن الهدى يكون بمعنى الدعاء ؛ قال الله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرّعد :

٧] أي داع يدعوهم إلى الهدى ، وقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشّورى : ٥٢] أي تدعو.

الجواب الثاني : (وَهَدَيْناهُمْ) [الأنعام : ٨٧] أي بيّنّا لهم سبيل الهدى ، قاله قتادة ، وهذا صحيح ، يدل عليه قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)) [البلد : ١٠] يعني بيّنّا له طريق الخير وطريق الشر. وقال الصديق رضي الله عنه لما كان هو والرسول

عليه‌السلام قاصدين إلى الهجرة من مكة إلى المدينة فكان الناس يقولون يا أبا بكر ، وكان معروفا فيسلمون عليه ويسألونه. من هذا الرجل الذي معك؟ فيقول : رجل يهديني السبيل ، يعني يعرفني الطريق ، وهو يريد رضي الله عنه سبيل الحق والدين.

الجواب الثالث : أعلمناهم الهدى من الضلالة.

جواب رابع : وهو أن المراد بذلك هدينا فريقا منهم وأضللنا فريقا دليل ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)) [النّمل : ٤٥] ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦)) [الأعراف : ٧٥ ، ٧٦] فصحّ ما قلناه ، وأنه هدى بعضا وأضلّ بعضا بنص القرآن ، فاعلم ذلك.

جواب خامس : وهو أن فريقا من ثمود آمنوا ثم ارتدّوا ، ففيهم نزلت الآية ، يدل عليه قوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : ١٧] يعني رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان.

فإن قيل : فما قولكم في قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] فصح أنه لا يريد الكفر ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه لو كان كما قلتم لكان يقول : ولا يرضى لأحد الكفر ، أو يقول :

ولا يرضى لكم الكفر ، فلما لم يقل ذلك لم يكن لكم حجة.

الثاني : أنه قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] وإذا أضافهم إليه بلفظ العبودية فإنما أراد بذلك خواص عباده المؤمنين دون الكافرين. ونحن نقول : إنه ما رضي للخواص الكفر ولا أراد لهم الكفر ، وإنما رضي لهم الإيمان. الذي يدل على صحة هذا : إن العباد إذا أضافهم إليه كان المراد بهم المؤمنين دون غيرهم ، قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] وأراد بذلك المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)) [الزّخرف : ٦٨] أراد المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)) [الإنسان : ٦] أراد المؤمنين دون الكفار ، وكذلك قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] أراد المؤمنين دون الكافرين ، فاعلم ذلك وتحققه.

الجواب الثاني : أن الرضا بالشيء هو المدح له والثناء عليه والإثابة عليه وكونه دينا وشرعا ، والله تعالى لا يرضى الكفر بمعنى أنه لا يمدحه ولا يثيب عليه ولا يرضى كونه دينا وشرعا ، دون إرادة وجوده وخلقه. فاعلم ذلك.

فإن قيل : أتقولون أن الله تعالى قضى المعاصي وقدّرها ، كما أنه خلقها ، قلنا له : أجل : نقول ذلك بمعنى أنه خلقه وأوجده على حسب قصده وإرادته ، ولا نقول إنه قضاه بمعنى أنه أمر به ، ولا رضيه دينا وشرعا ، وأنه يمدحه ويثيب عليه.

فإن قيل : فعلى كم وجه ينقسم القضاء؟ قيل له على وجوه كثيرة ...

منها : قضاء يكون بمعنى الخلق ، وذلك قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصّلت : ١٢] يعني خلقهن ، ويكون القضاء بمعنى التسليط. والخلق ، وهو قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) [سبإ : ١٤] يعني خلقنا وسلطنا عليه الموت ، ويكون بمعنى الإخبار والإعلام ، وهو قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) [الإسراء : ٤] يعني أعلمناهم وأخبرناهم ، ويكون القضاء بمعنى الأمر ، قال الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] ، ويكون القضاء بمعنى الحكم والإلزام ، يقال : قضى القاضي على فلان بكذا ، أي أوجبه عليه وألزمه إياه وحكم به عليه ، فإن الله تعالى قضى بالمعاصي والكفر ، بمعنى أنه أراده وخلقه ، وقدّره ، ولا يجوز أن يكون بمعنى أمر به واختاره دينا وشرعا ، ولا مدحه ، ولا يثيب عليه ، ولا فرضه فرضا على أحد ، بمعنى أنه أوجبه عليه ، فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من شبه المبتدعة وتلبيسهم على العوام ومن لا فهم له إن شاء الله.

فإن قيل : أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قلنا : هذا يحتاج إلى تفصيل ، فنحن نطلق الرضا بقضاء الله وقدره على الإطلاق ، بمعنى أنه لا يعترض على حكمه السابق وإرادته الأزلية ، ولا يتقدم بين يديه بالاعتراض بل نسلم لما أراد فينا وفي غيرنا ، ولا نعترض بما يفعل ، فنقول : نحن نوصي بقضاء الله الذي هو خلقه ، كما أخبرنا به ومدحنا على فعله ، ووعد عليه الثواب ، فنرضى بذلك ونريده لنا ولجميع إخواننا من المسلمين ، ولا نقول : إن قضاءه الذي هو بمعنى خلقه ، وإيجاده الذي هو خلقه مذموما قبيحا ؛ ذنبا معصية كفرا ، إنا نرضى بذلك دينا وشرعا ولا نحبه ولا نرضاه ولا نريده لنا ولا لأحد من إخواننا المسلمين ، فاعلم هذا التفصيل تسلم من شبه الأباطيل ومن خدع أهل التعطيل. يؤكد هذا أو يقرره أنا نقول وكل مسلم عند الإطلاق : إن

جميع الأشياء لله تعالى ، إنه خلقها وهي ملك له ، لا خالق ولا مالك لها غيره ، من والد ، وولد ، وزوجة ، وصاحبة ، فنطلق ذلك عند الإجمال. فأما عند التفصيل فنقول : إن لله الأسماء الحسنى. ونقول : إن له الجلال ، والجمال ، والقدرة ، والكمال ، ولا نقول : إن له الولد ، والوالد ، والصاحبة ، والزوجة ، والشريك. فاعلم ذلك. وكما نقول عند الإطلاق : إن كل مخلوق يبيد ويفنى ويزول ويضمحل ، ولا نقول عند التفصيل : إن حجة الله على خلقه والأعمال من الصلاة ، والصيام ، والحج ، إن ذلك يبيد ويفنى ويضمحل ، ونحو ذلك.

ثم نقول لهم يا جهلة : أليس الله تعالى قضى بموت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك موت جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، فلا بد أن يقولوا : بلى. فنقول لهم : أفترضون بذلك وأشباهه؟ إن قالوا : نعم. وكلنا نقول : إنه قضى ذلك ، قلنا : وكذلك نقول نحن أيضا : قضى كل موجود وخلقه وأراده عند الإطلاق ، وعند التفصيل لا نقول : إنا رضينا موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بمعنى إنا أحببنا ذلك ، وأنه سرنا ، فاعلم ذلك.

فإن قيل : أليس الله تعالى قد نهى عن الكفر والمعصية؟ قلنا : بلى قد نهى عن ذلك ، فإن قالوا : فلا يحسن أن يريد شيئا ويريد وجوده ثم ينهى عنه ، قلنا : الجواب من وجهين :

أحدهما : أن يقال لهم : أليس الله تعالى قد علم أن الكافر يكفر ، وأنه يوجد منه الكفر لا محالة ، فلا بد لهم من [أن يقولوا] نعم. فيقال لهم : فكيف نهاه عن أمر قد علم أنه يكون منه ولا بد من وجوده ، فلما جاز أن ينهى مع علمه أنه لا بد منه جاز أن ينهى عنه وإن أراده. فاعلم ذلك.

جواب آخر : وهو أن يقال لهم : أليس الله تعالى نهى عن إيلام الرسل والمؤمنين ، فلا بد من [أن يقولوا] نعم ؛ فيقال لهم : فيوجد فيهم الألم من الأمراض والموت أم لا؟ فلا بد من [أن يقولوا] نعم. فيقال لهم : فإذا جاز أن ينهي عن إيلامهم ، ثم يريد ذلك ويحسن منه. فكذلك في مسألتنا يريد وينهي حتى يثبت لنفسه كمال القدرة ونفاذ الأمر والمشيئة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء : ٢٣]. والجملة أن الأمر منا ، والنهي منا ، والفعل منا ، والإرادة منا إنما توصف تارة بكونها حسنة ، وتارة بكونها قبيحة ، إنما ذلك لمعنى ، وهو أن كل ما كان منا مخالفا لأمر الرب تعالى فهو قبيح ، وإن كانت صورته حسنة من حيث الحس والنظر والسمع ، ونحو ذلك ؛ وأن كل ما كان منا حسنا إنما كان ذلك لأنه موافق لأمر الرب

تعالى ، لا من حيث الصورة والحسن. فإذا صحّ هذا جئنا إلى أفعاله تعالى وإرادته وأمره ونهيه ، فوجدناه ليس فوقه تعالى آمر يأمره ولا ناه ينهاه ، فصحّ أن جميع أفعاله وأمره ونهيه حسن على كل حال لا يتصف بغير ذلك ، فاعلم هذه الجملة توفّق إن شاء الله تعالى وفّقنا الله وإياكم وجميع المسلمين.

* * *

الشفاعة

اعلم أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على صحة الشفاعة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الكبائر من هذه الأمة ، وقد قدّمنا المسألة وذكرنا الأخبار الواردة في الشفاعة أصلا ورأسا.

واعلم أن المعتزلة افترقت فرقتين ؛ فقوم منهم أنكروا الشفاعة أصلا ورأسا ، وردّوا الأخبار الصحيحة الواردة فيها وما دلّ عليه القرآن من ذلك. وقالت الفرقة الثانية : إن للأنبياء شفاعة ، وللملائكة ، لكن لثلاث فرق من المؤمنين.

فرقة منهم : أصحاب صغائر وليست لهم كبيرة من الذنوب. والفرقة الثانية : قوم عملوا الكبائر وتابوا منها وندموا عليها. والفرقة الثالثة : قوم من المؤمنين لم يعملوا ذنبا أصلا. فأما صاحب الكبيرة الذي مات من غير توبة فلا شفاعة له عندهم ، وكلا القولين باطل.

أما الفرقة الأولى : فجحدت صحة الأخبار الصحاح ؛ وأما الفرقة الثانية : فذهبت إلى محال من القول ، لأن الشفاعة عندهم فيمن لم يعمل كبيرة أو عمل وتاب لا معنى لها ، لأنها تكون بمعنى أن الشافع يقول : يا رب لا تظلم عبادك. فإنك قد وعدت أنك تغفر الصغائر مع اجتناب الكبائر ؛ وكذلك التائب من الكبيرة لا تظلمه ، فإنك قد وعدت بقبول التوبة ، والله أجل وأعلى من أن يسأل ويشفع إليه بظلم ، فبطل قولهم.

وأما من لم يذنب أصلا فعلى خبث عقدهم أنه قد وجب له على الله الثواب ، والجنة ، والنعيم المقيم ، فما معنى هذه الشفاعة له. فلم يبق إلا أنهم عاندوا الحق وضلّوا السبيل واستحوذ عليهم وسوسة المردة والشياطين ، حتى ردّوا القرآن والسنة وإجماع الأمة ، فنعوذ بالله منهم ومن خبث عقدهم.

فإن قالت هذه الفرقة الأخيرة منهم : تكون الشفاعة لمن ذكرنا من الثلاث فرق شفاعة في الثواب ، قلنا : وهذا ضلال أيضا ، لأن القرآن إنما نطق بشفاعة الملائكة في

وقاية المؤمنين شر ذنوبهم يوم القيامة ، ولم يذكر فيها زيادة الثواب ، وإنما أخبر عنهم يقولون : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) [غافر : ٩] فصحّ أن الشفاعة في الذنوب والسيئات أن يغفر لها ويتجاوز عنها ، لا ما ذكرتم يا فرقة الضلال.

فأما الأدلة على صحة الشفاعة ، فقد ذكرناها من الكتاب والسنة ، لكن نجدد هاهنا طرفا منها. أما من القرآن فقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] روي [عن] أنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري وجماعة من الصحابة لا يحصون عددا : أن ذلك في الشفاعة ، ثم ذكروا ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخبار يطول ذكرها وشرحها. وقد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وهذا فيه الحجة على الفريقين ممن أنكر الشفاعة أصلا ، ومن قال إنها لغير أهل الكبائر. وقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشفع إلى ربي فيحد لي حدا فأخرجهم من النار ، ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار» ثم ذكر الحديث إلى أن قال : «حتى لا يبقى أحد من أهل الإيمان في النار ، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» وهذا الحديث صريح في الحجة على كل من الفريقين من المعتزلة. وأخبار الشفاعة كثيرة جدا ، وقد قدّمنا منها ما فيه الكفاية وزيادة ، ولأن الشفاعة في أقل الدارين من أقل الشفعاء تكون في الذنوب وغيرها ، فما ظنك بالشفاعة في أعلى الدارين من أعلى الشفعاء عند الله عزوجل ، حتى ذكر في بعض الأخبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغبط بذلك المقام ، يغبطه به الأولون والآخرون ، ثم تكون الشفاعة فيمن لا كبيرة له ، وإنكار هذا جهل وعناد وطعن في القرآن وصحيح الأخبار.

* * *

فصل

نذكر فيه شبها لهم يرومون بذلك دفع الأخبار الصحاح المجمع على صحتها في صحة الشفاعة ، ونحن نجيب عنها بعون الله وحسن توفيقه. فإن قالوا : هذه الأخبار تعارض بمثلها ، فإنه قد روى الحسن البصري وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي» فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا عن الحسن لم يصح ، ولم يرد في [خبر] صحيح ولا في سقيم ، وإنما هو اختلاق وكذب ، ولا يعارض الآثار الصحاح المتفق على صحتها ، ثم لو جاز أن يكون قد روي فلم يسقط الصحيح المجمع على صحته بالضعيف السقيم الذي لا أصل له. مع إمكان الجمع بين الكل ، واستعمال الجميع ، فتحمل صحاح

الأخبار على ما قلنا ، ويحمل هذا الخبر على أنه أراد به الكبائر التي تخرج من الإسلام ، نحو الكفر بعد الإيمان ، أو استحلال ما حرّم الله ، أو تكذيب بعض الرسل أو بعض الكتب ، ويصير هذا كما قلنا إنا نجمع بين كل ما ذكر في القرآن ، وإن كان ظاهره يناقض بعضها بعضا عند الجهّال مثلكم ، فإنه تعالى قال : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥)) [المرسلات : ٣٥] ثم قال في موضع آخر : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧)) [الصّافات : ٢٧] فيحمل هذا على أنهم لا ينطقون عند الصراط ، والميزان ، والكتب ، ويسأل بعضهم بعضا بعد ذلك ، حتى لا نسقط شيئا من كتاب الله ولا ينقض بعضه ببعض فكذلك يحمل قوله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» في حق من يبقى على الإيمان حتى يخرج من دار الدنيا ، ويحمل ما ذكروا ـ لو كان صحيحا ـ على من خرج من الدنيا على غير إيمان ، ونكون أسعد وأولى ، لأنا نثبت الصحيح بتأويل لشيء باطل لا أصل له أن لو صحّ ، وهم يسقطون الصحيح المتفق على صحته بشيء باطل لم يصح.

فإن قيل : هذا لا يصح مع قوله عليه‌السلام : «لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي» والكافر بما ذكر به ثم ليس من أمته ، قلنا : بل يصح ذلك من وجهين :

أحدهما : أنه أراد بذلك من كان من أمتي ثم ارتد ، أو نحو ذلك ، فقد يجوز أن يسمى الشيء بما كان عليه أولا ، وإن كان في الحال لا يسمى به ، ألا ترى إلى ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبيذ : «ثمرة طيبة وماء طهور» يعني كان ثمرة طيبة وماء طهورا ، لا يريد أنه في الحال ثمرة ، وكذلك أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا : «ارجع فناد ألا إن العبد نام» ولم يرد أنه الآن عبد ، بل أراد أنه كان عبدا ، لأن الصديق أعتق بلالا قبل ذلك. يقال لعتيق الرجل : عبد بني فلان ، أي كان عبدا لهم ، ونحو ذلك كثير. ويحتمل أن يكون سماهم من أمته ، لأنهم كانوا في عصره ووقته وقرنه ، وكل قرن يسمى أمة ، ويكون ذلك فيمن كان آمن به في وقته ثم ارتد ، فمن ذكر من أهل الردة ، أو كان في وقته ولم يؤمن ، وسماه من أمته لأنه في قرنه وعصره. فصحّ ما قلناه وبطل تعلقهم بما لا أصل له.

فإن قيل : أليس قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تحسّى سما وقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا» ، وروي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة ، ومن تردى من جبل. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل الجنة مدمن خمر ، وعاق والديه» فهذه الأخبار معارضة لأخبار الشفاعة.

فالجواب عن هذه الأخبار : أن [منها] ما صح [و] منها [ما لم يصح] ويجمع بين الكل ، فتحمل هذه الأخبار على من فعل ذلك مستحلا لفعله ، أو فعله على وجه التكذيب للصادق فيما أخبر به أن هذا الفعل كبيرة حرام ، ونحو ذلك ، وهذا صحيح لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة». فقال أبو ذر : وإن زنا ، وإن سرق؟ فقال : «وإن زنا ، وسرق ، وقتل ، وشرب الخمر ، وإن رغم أنف أبي ذر» فصحّ ما قلناه ، وقبلنا جميع الأخبار الصحاح ولم نضرب بعضها ببعض ، ولا أسقطنا بعضها ببعض ، كما يفعل أهل البدع الذين ضاهوا اليهود في قولهم : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النّساء : ١٥٠].

فإن قيل : أليس عندكم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشفع إلا في مؤمن ، وقد وردت الروايات «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وكذلك روي أنه قال : «ليس منا من يأتينا بطينا ويأتي جاره خميصا» و «من غشنا فليس منا» و «لا إيمان لمن لا أمانة له» إلى غير ذلك ، فكيف يشفع الرسول عليه‌السلام فيمن ليس بمؤمن؟

فالجواب : أن يقال لهم : هذه الأخبار لا حجة فيها ولا تعارض أخبار الشفاعة ، فإنها محتملة لوجوه إذا صرفت إليها صحت ، ولم تكن معارضة لأخبار الشفاعة.

أحدها : أن يكون المراد لا يزني ولا يسرق حين يفعل ذلك ، وهو مؤمن : أي مستحل لذلك ، حتى يصح الجمع بين هذه الأخبار وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنا وشرب الخمر» ، أو يكون أراد بذلك إذا فعله على وجه التكذيب لتحريم هذه الأشياء ، والله تعالى لم يحرمها ، أو يكون المراد ليس بمؤمن كإيمان المؤمن الذي لم يكن منه سرقة ، ولا زنا ، ولا شرب خمر أي في البر ، والطهارة ، والعفة ونحو ذلك ، ويصير هذا كقوله : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» أراد الكمال. وهذا الفصل أفسد الحجج وأدحضها بحمد الله تعالى.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] قيل : معناه الرد على من أنكر أصل الشفاعة ، فأخبر تعالى أن ثم شفاعة ، لكن لمن أراد تعالى أن يشفع له وأذن في ذلك ، ولم يرد إلا لمن رضي سائر عمله ، لأن من رضي سائر عمله لا يحتاج إلى شفاعة ، ويحتمل أن يكون (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] يعني لمن كان معه عمل مرتضى. والمؤمن معه أفضل الأعمال التي ترضى ، وإن كان عاصيا فاسقا ، وهو التوحيد والتصديق ، وقوله : لا إله إلا الله. والذي لا يرضى عمله أجمع هو الكافر ، فصحّ ما قلناه.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] قلنا : معناه فالظلم بالشرك والكفر الذي لا ينفع معه طاعة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ولهذا لما نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢] حزن الصحابة رضي الله عنهم كذلك ، حتى قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه : يا رسول الله : وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هذا يا أبا بكر ، إنما الظلم الشرك هاهنا ، ألا ترى إلى قول لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]» فدلّ أن لا شفاعة تنفع الكافر. ولا حميم يدفع عنه ، والمؤمن بخلاف ذلك بحمد الله وإن كانت له سيئات. فاعلم ذلك.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)) [الزّخرف : ٧٥](وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] وقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النّساء : ٥٦] وقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)) [المدّثر : ٤٨].

فالجواب : أن نقول : أنتم وإخوانكم من الخوارج دأبكم أبدا أن تجعلوا آيات العذاب في أهل الإيمان والتوحيد ، وهي لأهل الكفر والضلال دون المؤمنين بحمد الله تعالى ؛ وهذه الآيات كلها في أهل الكفر ، والذي يدل على صحة هذا ما قدمنا من الأخبار الصحاح : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» وغير ذلك من الأخبار الصحاح.

وأيضا فإن القرآن نطق بذلك فإنه قال في أول هذه الآية : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)) [المدّثّر : ٤٢ ـ ٤٨] فصحّ أن لا شفاعة لهم لأجل كفرهم ، وصارت في النار ، وجدا لهم لأجل كفرهم وصارت الآية إلى آخرة حجة عليهم ، إلا أن الله تعالى أخبر أن ثم شفاعة ، وأنتم تقولون أن لا شفاعة ؛ غير أنه تعالى أخبر أنها لا تنفع للكافرين ، فدلّ على أنها تنفع المؤمنين.

فإن قيل : ما تقولون فيمن حلف بالطلاق الثلاث أنه يفعل فعلا ينال به شفاعة الرسول عليه‌السلام ، ويستحق به شفاعة الرسول ، أو قال : أفعل فعلا يجوز أن يشفع لي فيه الرسول مما أستحق من العقاب بما ذا تأمرونه؟ أتأمرونه بالمعصية أم بالطاعة؟ قلنا : الجواب من وجهين :

أحدهما : أنا نقول نأمره بالتمسك بالتوحيد والإيمان دون فعل الذنوب ، لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب ، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب ، وهذا كما أن زيدا يشفع في ذنب صديقه ، أو قريبه ، أو حبيبه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك ، لا يقال إنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب أو الخطأ الذي أخطأ ، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة أو القرابة المتقدمة أو السؤال المتقدم ، لا نفس الذنب ، ونأمره أيضا بفعل الطاعات حتى ينال بذلك شفاعة الرسول عليه‌السلام في الزيادة له من البر والنعيم ونحو ذلك.

الجواب الثاني : أنا نعارضكم بمثل هذا : لا تجدون أنتم عنه محيصا ، فنقول لكم : ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى : (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : ٢٢٢] فحلف رجل بالطلاق الثلاث ليفعلن فعلا يجب عليه فيه التوبة أو الاستغفار حتى يتوب منه ويستغفر ، ما تأمرونه؟ فإن قالوا : نأمره بالطاعة ، وفعل الخير. قلنا لهم : هذا لا يصح ؛ لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة أو الاستغفار من فعل الطاعة والخير بإجماع المسلمين. وإن قلتم : نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه فقد استحللتم ما حرّم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم : لا نأمره بفعل المعصية ولكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم : نحن أيضا نقول لمن حلف ليفعلن فعلا ، يجوز أن يشفع فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول عليه‌السلام ، نقول له تمسك بالطاعة والإيمان ، فإن ابتليت بشيء من المعاصي فقد خرجت من اليمين ، ويجوز أن يشفع لك الرسول ، لا أنا نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه.

* * *

رؤية الله تعالى

اعلم أن رؤية الله تعالى جائزة من جهة العقل ، وهي واجبة للمؤمنين في الآخرة من طريق الشرع ، وبها نختم الكتاب إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه ، وإنما ختمنا بها لأنها أعلى الأشياء وأجلها ، وبها يختم للمؤمنين المصدقين لها حتى يستحقروا كل نعيم في جنبها ، جعلنا الله من أهلها بمنّه وفضله ، إنه جواد كريم.

اعلم أن أهل السنة والجماعة قد جوّزوا الرؤية على الله تعالى شرعا وعقلا بلا خلاف بينهم على الجملة ، وإنما وقع الخلاف بينهم هل يكون ذلك ويجوز في الدنيا أم ذلك في الآخرة خاصة.

فكل الصحابة أجمعوا ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرى في الجنة ، يراه المؤمنون بلا خلاف في ذلك. واختلف الصحابة في الرسول عليه‌السلام هل رآه ليلة المعراج بالقلب أو بعيني الرأس على قولين : فكانت الصديقة عائشة رضي الله عنها في جماعة من الصحابة يقولون : رآه بقلبه دون عيني رأسه ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يقولون : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه ليلة المعراج بعيني رأسه. ونحن نقول بقول ابن عباس رضي الله عنهما ، فإذا تقرر هذا : فإن المعتزلة ، والنجارية ، والجهمية ، والروافض ، والخوارج : الكل منهم ينكرون الرؤية ولا يجوّزونها بوجه ، حتى قالوا : ولا يرى ولا يرى هو نفسه. وقد قدّمنا الأدلة على صحة الرؤية وجوازها فيما تقدم ، ولا بد أن نذكر هاهنا طرفا من الأدلة أيضا يؤكد ما تقدم ويقوّيه إن شاء الله.

ودليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع ممن يعد إجماعه إجماعا ، ودليل العقل.

فمن أدلة الكتاب قوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] وهذا السؤال إنما كان من موسى بعد النبوة ، والبعثة ، والرسالة ، لأن الله تعالى قال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ولا يخلو سؤال موسى عليه‌السلام هذا السؤال بعد النبوة والكمال من أحد أربعة أوجه : إما أن يكون سأل الرؤية بعد علمه بجوازها على ربه ، أو مع علمه باستحالتها على ربه ، أو سألها وهو شاك في ذلك ، أو سألها وهو ذاهل العقل لا يتفهم شيئا. فلا يجوز أن يكون سأل ذلك مع علمه بأنه يستحيل على ربه ، لأن من المحال أن يسأل النبي الكريم ربه ما يستحيل في حقه ، ولا يجوز عليه كما يستحيل في حقه سبحانه وتعالى ، ولا يجوز أن يكون سأل ذلك وهو شاك جاهل حكم هذه المسألة أو ذاهل لا يدري ، لأن هذه المسألة من مسائل أصول الدين ، وكيف يجوز على النبي الكريم عليه‌السلام الشك فيها أو الذهول ، أو غفلة القلب عنها. وإذا بطل جميع ذلك لم يبق إلا أنه عليه‌السلام سأل وهو معتقد جواز الرؤية عليه سبحانه وتعالى. فإذا اعتقد النبي الكريم جواز الرؤية لم يخل من أن يكون مصيبا أو مخطئا ، ولا يجوز أن يخطئ النبي الكريم في اعتقاده ، فلم يبق إلا أنه أصاب ، وهذا التقرير لا مخرج للمخالف عنه بوجه ولا سبب. فافهمه.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون موسى لم يسأل الرؤية ، وإنما سألها قومه وسألوه أن يسألها لهم ، أما أن يكون هو سألها لنفسه فلا.

فالجواب : أن هذا تعلل لا ينفعكم ولا ينجيكم مما قررنا وحققنا في اعتقاد موسى عليه‌السلام جواز الرؤية ؛ وذلك : أن موسى عليه‌السلام لو كان يعتقد استحالة جواز الرؤية لكان قد أنكر عليهم ذلك أشد الإنكار وجهلهم بذلك غاية الجهل. ولم يساعدهم على ذلك. ولا سأل ما جهلهم عليه ، ولما ساعدهم كما فعل لما قالوا : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] ولم يسأل ربه أن يجعل لهم إلها ، لأنه علم عليه‌السلام استحالة ذلك. فكيف يسأل له أو لهم الرؤية مع اعتقاده استحالة ذلك عليه سبحانه وتعالى ، فلم يبق إلا ما قلناه.

جواب آخر : وذلك أن هذا عدول عن الظاهر إلى غيره بغير دليل ، لأنه قال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فلا يحمل أرني أنظر ، على قومي ينظرون إليك ، فبطل ما قالوه ، وصار هذه بمنزلة قول من قول : قوله أي (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : ١٤] أي اعبد غيري ، وهذا لا يجوز ، فبطل قولهم.

فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] فنص على أنه لا سبيل إلى ما سأله فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا لا يمنع من جواز الرؤية ، لأن قوله لن تراني إنما تضمن عدم وجود الرؤية عند السؤال ، لا استحالة الرؤية على ما قررنا ، ولو أراد استحالة الرؤية لقال : لن يجوز أن تراني. وقد لا يوجد الشيء ولا يدل على استحالته ، ألا ترى أن أحدا لو سأل نبي زمانه أن يسأل ربه أن يرزقه ولدا ، فسأل نبي ذلك الزمان ، فأوحى الله تعالى لن يرزق هذا السائل ولدا ، هل يدل ذلك على أنه لا يجوز وجود الولد في حق هذا السائل ، ويستحيل ، بل هو جائز وإن منع من وجوده عقب السؤال ، على أن حرف لن لا يقتضي عدم جواز الرؤية في الدنيا والآخرة. ولو قرن بأبد. ألا ترى أنه تعالى قال في حق اليهود : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٩٥] يعني الموت ولم يقتض ذلك [أن لا يتمنوه] في الدنيا والآخرة ، لأنه أخبر تعالى أنهم يتمنون الموت في النار بقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزّخرف : ٧٧] يعنون الموت ، فإذا كان حرف لن مع اقتران أبد به لا يقتضي نفي ذلك في الدنيا والآخرة ، فكيف به إذا لم يقرن به أبد ، وأيضا الجواب يجوز فيه الاستثناء ، بأن كان يقول : لن تراني في الدنيا ولن تراني إلى وقت كذا وكذا ، كما قال أخو يوسف عليه‌السلام : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) [يوسف : ٨٠] ثم استثنى (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) [يوسف : ٨٠] فصحّ أن حرف لن لا يحيل عليه جواز الرؤية ، وإنما توجب أن لا توجد الرؤية في هذا الوقت دون جوازها فصحّ ما قلناه.

والجواب الثاني : أن الله تعالى علّق جواز الرؤية على أمر جائز ، ولو كانت مستحيلة لما علقها على أمر يجوز أن يوجد ، وهو استقرار الجبل ، فلما كان استقرار الجبل من الجائز دلّ على أن الرؤية جائزة.

فإن قيل : أليس قد قال موسى عليه‌السلام : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] قالوا : والتوبة إنما تكون من الخطأ ، فلما علم عليه‌السلام أنه أخطأ تاب ، فالجواب من أوجه :

أحدها : أن موسى عليه‌السلام لما رأى الآية من جعل الجبل دكا ، وصعوقه ، قال على جاري العادة من القول عند الفزع (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] وإن لم يكن سؤاله مستحيلا ، وهذا كما أن الواحد منا إذا سمع صوت الرعد العظيم ، أو رأى الظلمة العظيمة ، أو أمرا هائلا فزع عند ذلك إلى التوبة والاستغفار ، وإن لم يكن منه قبل ذلك معصية. أو سؤال مستحيل.

وجواب آخر : وهو أنه يحتمل أن موسى عليه‌السلام ذكر عند هول ما رأى فيه النفس ، فجدّد التوبة منها وأكدها ، وإن لم يكن منه في هذه الحالة ذنب يتاب منه.

جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : تبت إليك للشدة التي أصابته عند سؤال الرؤية ، وإن كانت الرؤية جائزة. كما أن الواحد منا إذا ركب البحر وناله شدة وخوف من هوله وأمواجه ، أو سافر فلقي في سفره ما أتعبه وشقّ عليه يقول : أنا تائب من ركوب البحر ومن السفر ، وإن كان ركوب البحر والسفر جائزا غير محرم. ولا مستحيل ، وكذلك مسألتنا مثله.

جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] من أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الجليل قبل الاستئذان فيه ، حتى يؤذن لي في السؤال ، ولهذا قيل عن موسى عليه‌السلام : إنه تأدب بعد ذلك ، فقال : يا رب أسألك في جميع أموري؟ قال : نعم يا موسى اسألني في جميع أمورك حتى ملح عجين أهلك.

جواب آخر : وهو أن موسى عليه‌السلام كانت إرادته وهمته تعجيل الرؤية له في الدنيا قبل الآخرة ، وكان مراد الله تعالى تأخير الرؤية له إلى الآخرة ، وأن لا يتقدم على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرؤية ، فكأنه قال : تبت عن مرادي وهمتي إلى مرادك. وهذا صحيح ، لأن التوبة هي الرجوع ، فكأنه رجع عن مراده إلى مراد ربه. فاعلم ذلك.

ويدل على صحة ما قدّمناه من قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقوله :

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) [المطفّفين : ١٥] والحجب للكفار عن رؤيته عذاب. فدلّ على أن المؤمنين غير محجوبين ، ولا يعذبون بعذاب الحجاب. فاعلم ذلك.

ويدل على ذلك أيضا الأخبار التي قدّمنا ذكرها عند سؤال الصحابة مع قوله عليه‌السلام في دعائه إنه قال : «اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضر ـ أو مضر ـ ولا فتنة مضلة» وهذا أيضا تصريح من الرسول عليه‌السلام في جواز الرؤية ، وأنها غير مستحيلة ، لأنه لا يسأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر مستحيل ، لا سيما بعد تقدم موسى عليه‌السلام في سؤال الرؤية ، وما كان منه ، فلو كانت غير جائزة أو مستحيلة لما سألها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما سألها دل على الجواز ، وبطل ما قال أهل العناد. وبالله التوفيق.

ويدل على صحة جواز الرؤية إجماع الصحابة على جوازها في الجملة ، وإنما اختلفوا هل عجلها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج أم لا؟ على قولين ، ولو لم يقع الاتفاق منهم على جوازها ، لما صحّ هذا الاختلاف ، فلما وقع هذا الاختلاف فقال بعضهم : عجل ذلك له في الدنيا قبل الآخرة. وقال البعض : لم يرد دليل على الجواز في الجملة وأنه متفق عليه ، وإلا كان يقول لمن قال بأنها لم تعجل : فكيف تجوز الرؤية وهي مستحيلة عليه ، فلما لم يقل ذلك أحد منهم دلّ على إجماعهم على جوازها. فاعلم ذلك.

ويدل على ذلك من جهة العقل : أنه تعالى موجود ، والموجود لا يستحيل رؤيته ، وإنما يستحيل رؤية المعدوم. وأيضا فإنه تعالى يرى جميع المرئيات ، وقد قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤)) [العلق : ١٤] وقال : (الَّذِي يَراكَ) [الشّعراء : ٢١٨] وكل راء يجوز أن يرى ؛ ولا يجوز أن تحمل الرؤية منه تعالى على العلم ، لأنه تعالى فصل بين الأمرين ، فلا حاجة بنا أن نحمل أحدهما على الآخر ، ألا ترى أنه سمى نفسه عالما ، وسمى نفسه مريدا ، ولا أن نحمل الإرادة على العلم ، كذلك لا نحمل الرؤية على العلم. فاعلمه.

جواب آخر : وهو أن الصحابة سألوا الرسول عليه‌السلام : هل نرى ربنا؟ فقال : «نعم» ولا يجوز أن يكون سؤالهم : هل نعلم ربنا أو يعلمنا ربنا ؛ فبطل قول من يحمل الرؤية على العلم ، ولهذا أجاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سترونه كما يرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترى الشمس ليس دونها سحاب» يعني لا تشكون في رؤيته كما لا يشك [من] رأى القمر والشمس فيها ، فشبّه الرؤية بالرؤية في نفي الشك عن الرائي ، ولم يشبه المرئي بالمرئى. فاعلم ذلك.

* * *

فصل

في ذكر الأجوبة عن آيات يحتجون بها ، وأخبار ، وشبه في نفي الرؤية.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] قالوا : فأخرج ذلك مخرج التمدح ، كما تمدح بقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام : ١٠١] فكيف يجوز أن يزول عن مدحته ، فالجواب عن هذه الآية من وجوه عدة :

أحدها : أن يقال لهم : ما أنكرتم على قائل يقول لكم ، لا حجة لكم في ذلك ، لأن التمدح إنما وقع في قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] لأن كون الشيء لا يدرك بالأبصار لا يدل على مدحه ، ألا ترى المعدوم لا تدركه الأبصار ، ولا يوجب كون ذلك مدحة له ، وكذلك عندكم العطور والروائح وأكثر الأعراض لا تدرك بالأبصار ، وليست بممدوحة ، لأنها لا تدركها الأبصار.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون متمدحا بأنه يدرك الأبصار وأنها لا تدركه؟ قيل لهم : لأن للوصفين الذين يتمدح بهما لا بد أن يكون في كل واحد منهما مدح بمجرده نحو قوله تعالى : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢٨ ، ٢٤٠ ، ٢٦٠ ، الأنفال : ١٠ ، ٤٩ ، التوبة : ٧١] و (عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النّحل : ٧٠] فكل واحد من الوصفين مدح في نفسه ، تجدد أو انضم إلى غيره ، ولما لم يكن كون المعدوم غير مدرك بالبصر مدحا له عندنا وعندكم بطل ما قلتم.

جواب آخر : وهو أن نقول الآية حجة عليكم وذلك قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] فحسب ، وإنما أراد أنه يدرك جميع المرئيات ، فأثبت تعالى أنه يرى الأشياء لأنه موجود ، قادر على الرؤية ، وسائر الأشياء الموجودة التي يجوز أن ترى ، لكن تمدح تعالى بأن كل راء يجوز أن يرى ، لكن هو تعالى مع جواز رؤيته منعنا من الإدراك له ، بأن يحدث في أبصارنا مانعا يمنعنا من رؤيته ؛ فالمدح وقع بكونه قادرا على ذلك دون غيره من الخلق ، فصار هذا بمنزلة تمدحه تعالى بكونه محييا مميتا ، أي لا يقدر على ذلك غيره ، وإن جاز أن يميت الحي ويحيي الميت ، فكذلك لا يمدح تعالى بأن يحدث مانعا في البصر من الإدراك ، وإن جاز أن يزيل ذلك المانع حتى نراه تعالى بلا كيف ، ولا شبه ، ولا تحديد. فاعلم ذلك.

جواب آخر : وهو أن المعتزلة لا يصح لهم الاحتجاج بهذه الآية ؛ لأن عند البصريين منهم أنه لم يعن بالإدراك الرؤية ، لأن البصر عندهم عرض ؛ فلا يدرك عند

البغداديين منهم : أنه تعالى لا يرى شيئا ، إنما المراد بالإدراك العلم ، فهو يعلم الأبصار عندهم ، والأبصار لا تعلمه ، فبطل احتجاج الجميع منهم بهذه الآية ، لأن عندهم لا يراد بالإدراك الرؤية ، فلا يصح لهم الاحتجاج بها في نفي الرؤية.

جواب آخر : وهو أن الآية لا حجة فيها ، لأنه قال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ولم يقل لا تراه الأبصار ، والإدراك بمعنى يزيد على الرؤية ، لأن الإدراك : الإحاطة بالشيء من جميع الجهات ، والله تعالى تعالى يوصف بالجهات ، ولا أنه في جهة ، فجاز أن يرى وإن لم يدرك ، وهذا كما قال تعالى في قصة اللعين فرعون : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) [يونس : ٩٠] يعني أحاط به من جميع جوانبه ، فالغرق لا يوصف بأنه يرى ، وإنما يوصف بأنه أحاط بالشيء. كذلك المؤمن يوصف بأنه يرى ربه ولا يدركه بالإحاطة ، وهذا كما نقول : إنا نعلم ربنا ، ولا نقول إنا نحيط بربنا ، فكما كانت الإحاطة معنى يزيد على العلم كذلك الإدراك معنى يزيد على الرؤية ، وهذا صحيح. لأنا نجمع بين قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمّد : ١٩] وبين قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] ونجمع بين قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وبين قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] فنقول : معلوم ولا يحاط به ، ومرئي ولا يدرك. فصحّ ما قلناه ، وبطل قول الغير.

جواب آخر : أن معنى الآية لا تدركه الأبصار في الدنيا ، وإن جاز أن تدركه في الآخرة ، ليجمع بين قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] وبين قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٣].

جواب آخر : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] يعني أبصار الكفار دون المؤمنين ، ليجمع بين قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وبين قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) [المطفّفين : ١٥] وهذا صحيح ؛ لأن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين ، كذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار.

جواب آخر : وهو أن أبصار الخلق لا تدركه في الدنيا والآخرة ؛ لأن هذه الأبصار جعلت للفناء ، وإنما يحدث لهم بصرا غير هذا البصر ، ويكون باقيا غير فان فيرى الباقي بالباقي ، وقد قيل : إنه تعالى يحدث لأوليائه حاسة سادسة غير هذه الحواس الخمس يرونه بها. وقال هذا القائل : الله أخبر في كتابه العزيز : أنه من أهل

الجنة ، وخبره حق لا يدفع بالشبهة ، ولا يمكن الجمع إلا بما قلناه من وجود حاسة يرى بها الله تعالى ، دون هذه الحواس. والله أعلم بالصواب.

جواب آخر : وهو أن يحمل (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] [على أنها لا تدركه] في جهة ، ولا تدركه جسما ولا صورة ولا متحيزا ولا حالا في شيء (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] على جميع هذه الصفات ، وتكون الحكمة فيه الرد على النصارى وأهل التشبيه ومن يقول بالجهة والحيز والصورة ، وغير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النّساء : ١٥٣] فأكبر الله هذا السؤال فأنكره.

قيل لهم : لا حجة لكم في ذلك ، لأن الله تعالى ما أكبر ذلك لكونه مستحيلا ، وإنما أنكره لأنهم سألوه ذلك على وجه التعنت ، ألا ترى أنه أنكر عليهم سؤالهم تنزيل الكتاب من السماء ، وليس ذلك بمستحيل ، وإنما أنكروا استكبارا وتعنتا منهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشكيكا للناس في نبوته ؛ لأن عندهم التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، وكل ذلك منزل من عند الله ، وإنما أرادوا بذلك التلبيس على العوام ، حتى لا يصدقوا بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتركوا ما أوجب الله عليهم من الإيمان به في التوراة والإنجيل ، كما قال تعالى : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] فإكباره تعالى سؤالهم ذلك لأجل هذه المعاني لا يكون ذلك مستحيلا. وهذا كما أنكر تعالى سؤال قريش لما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) [الإسراء : ٩٠ ، ٩١](أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) [الإسراء : ٩٣] وكل ذلك جائز غير مستحيل ، لكن أنكره عليهم وأكبره لما كان [ذلك] على وجه التعنت والتكذيب ، لما قد وضح من آياته وحججه ، وكذلك أنكر سؤالهم الرؤية لموسى عليه‌السلام على وجه التعنت ، لا لكونها مستحيلة.

فإن احتجوا بالخبر المروي عن عائشة رضي الله عنها لما قال لها ابن الزبير ـ وهو ابن أختها ـ يا أماه : هل رأى محمد ربه؟ فقالت : يا ابن أختي لقد قفّ شعر بدني ، والله تعالى يقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : ٥١] قالوا : فموضع الدليل من الخبر أنها أكبرت ذلك ونفت الرؤية عن الله تعالى ؛ فدلّ أن ذلك مستحيل في حقه سبحانه وتعالى. الجواب من أوجه :

أحدها : أن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة قد صرحوا بأن محمدا رأى ربه ليلة أسري به بعيني رأسه ، ولو كان ذلك مستحيلا لم يقع الخلاف فيه بين الصحابة ، كما لم يقع بينهم الخلاف في ما هو مستحيل على الله تعالى من الولد والزوجة والشريك ونحو ذلك. فلما وقع بينهم الخلاف في ذلك وانقرض عصرهم على ذلك ، دلّ على أن الرؤية جائزة غير مستحيلة. فبطل ما ذكر.

وجواب آخر : وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما خالفت فيما رأى به محمد ربه ، فعندها رآه بالقلب دون العين ، وعند غيرها من الصحابة رآه بالقلب والعين معا ، فقد وقع الإجماع منهم على جواز الرؤية عليه تعالى ، وإنما اختلفوا فيما به رآه ، لا أصل جواز الرؤية عليه ، لأن رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤية حقيقية لا رؤية مجاز ، بخلاف الواحد منا ، لأن رؤيته بالقلب قد تكون حقيقة وقد تكون تخيلا ومجازا ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عيناي ، ولا ينام قلبي» وقال عليه‌السلام : «إني أراكم من وراء ظهري» ورؤية الأنبياء عليهم‌السلام حقيقة بالقلب والعين.

دليلة : قصة إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصّافات : ١٠٢] فصحّ أن الإجماع قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم في جواز الرؤية على الله تعالى ، وإن وقع الخلاف بما رآه الرسول الله تعالى ليلة الإسراء ، فصار ذلك حجة على المخالف لا له.

جواب آخر : وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما أنكرت رؤية الباري بأبصار العيون في دار الدنيا ، لا على الإطلاق ، ولهذا روي عن أبيها وعنها رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة أنهم فسروا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] قالوا : الزيادة النظر إلى الله تعالى في الجنة ، وقد روي هذا مرفوعا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصحّ مذهب أهل السنة والجماعة بحمد الله تعالى ، وبطل شبه المخالف واندحض مكره. ولله المنّة والحجة البالغة (١).

__________________

(١) رؤية أهل الجنة لله سبحانه مجردة عند أهل الحق من المقابلة والمسافة ونحوهما من لوازم الجسمية ، على خلاف الرؤية في الشاهد ، بأدلة تنزه الله سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا ، وهذا موضع اتفاق بين الفريقين سوى الحشوية ، فيجب أن يكونا متفقين أيضا على حصول معرفة ضرورية بالله سبحانه لهم في الجنة فوق معرفتهم الاستدلالية الغيبية به تعالى في دار الدنيا ، كما هو الفرق بين الإيمان بالغيب والإيمان بالشهود. وما عدا ذلك شغب يأباه المحصلون. نسأل الله الصون من معاندة الحق ونسأله التوفيق وجمع الكلمة حول الصدق (ز).

فإن احتجوا فقالوا : لو جاز عليه سبحانه وتعالى الرؤية بالأبصار لوجب أن يكون جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو محدودا ، أو حالا في مكان ، أو مقابلا أو خلفا ، أو عن يمين ، أو عن شمال ، أو يكون من جنس المرئيات ؛ لأننا لم نعقل مرئيا بالبصر إلا كذلك ، فلما استحال عليه جميع هذه الوجوه بطل أن يكون مرئيا ، أو يجوز عليه الرؤية ، وهذا في تصورهم الفاسد من أعظم الحجج عندهم في نفي الرؤية عنه سبحانه وتعالى ، وهي عند أهل السنة والجماعة [من أسقط الحجج] فليس هو اليوم مرئيا لخلقه ومدركا لهم ، ولا تجوز الإشارة في وصفه تعالى.

فالجواب أن نقول لهم : هذه الحجة الباطلة تؤدي إلى إبطال الربوبية أصلا ورأسا ، أو تؤدي إلى إيجاب كون ربنا تعالى يشبه المخلوقات ، لأن من أنكر الصانع القديم يقول لنا : لو كان لنا صانعا لوجب أن يكون جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو ذا علة وطبع وآلة ، وغير ذلك ؛ لأنا لم نعقل صانعا إلا على هذه الأوصاف ، وأنتم تنفون عنه جميع هذه الأوصاف ، فبطل أن يكون ثم صانع ، بل تصنع نفسها أو يصنعها من هو على هذه الأوصاف ، وكذلك نقول : في العلم والحياة ، لأن العالم ، والحي ، لا يعقل إلا جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو ذا علة أو فكر ، أو روية وغير ذلك. وقد وقع الإجماع منا ومنكم أنه عالم ، وأنه حي ، وأنه معلوم بالقلب ، وأنه موجود ؛ ثم كونه عالما ومعلوما ، وموجودا يصح وصفه بجميع ذلك ، وإن لم يكن جسما ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، ولا ذا علة ، ولا محدودا ولا حالا في مكان ، بخلاف العالم منا ، والمعلوم منا ، والموجود منا ، فكذلك لا يستحيل أن يكون مرئيا وليس ذا جسم ولا جوهر ولا عرض ، فبطل زعمكم وصحّ الحق وظهر أمر الله وأنتم كارهون.

فإن احتجوا فقالوا : لو كان تعالى مرئيا ، أو تجوز عليه الرؤية لرأيناه الساعة لأن الموانع من الرؤية يستحيل وصفه بها ؛ لأنه لا يوصف بالدقة والرقة ، والحجاب والبعد ، وكل مانع من الرؤية ، فلو جاز أن يكون مرئيا لرأيناه الساعة لانعدام هذه الموانع في حقه.

فالجواب : أن جميع ما ذكرتم لا يمنع من الرؤية ، لأن الملائكة فيهم من الدقة ، واللطافة ، ما ليس في غيرهم ، وبعضهم يرى بعضا ، والميت يراهم عند النزع ، والرسول كان يرى جبريل عليه‌السلام ، فبطل أن تكون الدقة ، والرقة ، واللطافة ،

مانعة من الرؤية. وكذلك البعد لا يمنع الرؤية ، لأن السماء أبعد الأشياء منا والكواكب فيها ، لأن بيننا وبينها خمسمائة عام ، ونحن نراها ، ولم يمنعنا بعدها من رؤيتها ، وكذلك الحجاب لا يمنع من الرؤية ؛ لأن الله تعالى يرى ما تحت التحت ، ودونه ألف ألف حجاب [عند الخلق] وكذلك الهدهد يرى الماء من تحت الأرض ودونه حجاب وحجاب ، فبطل أن يكون جميع ما ذكرتم هو المانع من الرؤية ، حتى يجب أن نراه الساعة.

فإن قيل : فما المانع من الرؤية الساعة له تعالى؟ قلنا : إن المانع هو ما خلقه في أبصارنا من قلة الإدراك لبعض المرئيات دون بعض ، فإذا خلق فينا إدراكا رأينا مرئيا لم نكن نراه من قبل ؛ ألا ترى أن الواحد منا لا يرى اليوم ملك الموت إذا نزل بأخيه وأبيه ، ويراه إذا نزل به ، وليس ذلك إلا لأنه لم يخلق الله في بصره إدراكا له عند موت غيره ، وخلق في بصره إدراكا له عند موته. وكذلك الفرس ، والهر وكثير من الحيوان يرون الصورة والشخص في ظلام الليل وسواده ، ونحن لا نرى ذلك ؛ وما ذلك إلا لأن الله تعالى خلق في بصرها إدراكا حتى رأت ، ولم يخلق في أبصارنا إدراكا حتى نرى ، كما ترى ؛ فكذلك لم يخلق في أبصارنا إدراكا له في الدنيا حتى نراه ، ويخلق لنا إن شاء الله في جنته إدراكا حتى نراه ، كما وعدنا ووعده الحق الصدق الذي لا يخلف.

فإن قالوا : وإذا كان الأمر كذلك ، فجوّزوا أن يخلق الله لكم إدراكا ترون به ذرة ، ويخلق فيكم عدم إدراك فيل إلى جنبها. قلنا : هذا جائز في قدرته سبحانه وتعالى ، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفه في الصلاة لما عرضت عليه الجنة ، والنار ، ونظر إلى كل واحدة منهما في عرض الحائط ، وهما من أعظم المخلوقات ، وأصحابه كانوا يدركون الذرة على ثوبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولون ثوبه مع صغر ذلك ، ولم يدركوا ما أدرك. ولم يروا ما رأى ، ولا يقدح في هذا إنكار من أنكر من المعتزلة ، أن الجنة والنار لم تخلقا بعد ، لأن الكل منهم سلم إلى الرسول عليه‌السلام أنه قد رأى في هذه الحالة شيئا من الجنة والنار ، أو ما هو على صورهما ، يخلق منهما إذا خلقنا ، واختص هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم برؤية ما لم يره أصحابه ، وإن كانوا يرون الذرة لو دبّت على قميصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يروا ما هو أكبر منها وأعظم. وأبين من هذا : أن بعض الخلق يدرك صوتا خفيا جدا ، ولا يدرك صوتا عاليا جدا ، وإن وجد الصوتان في وقت واحد ، ومسافة واحدة ، وقد رأينا ذلك عيانا ؛ فإن بعض الطرش إذا تكلم عنده رجل

فأخفى صوته غاية الإخفاء ، وتكلم آخر عنده بصوت من أعلى الأصوات أدرك الصوت الخفي ، ولم يدرك الصوت العالي ؛ وليس ذلك إلا لما ذكرناه ، وهو أن الله تعالى خلق في سمعه إدراك الصوت الخفي ، ولم يخلق في سمعه إدراك الصوت العالي ، فكذلك يجوز أن يخلق في بصرنا إدراك الذرة الصغيرة ، ويخلق فيه مانعا من إدراك الفيل الكبير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤].

فإن قيل : فإذا كان كذلك فيجب أن يجوز أن يكون بحضرتنا ذرة ننظر إليها وندركها ، ويجوز أن يكون إلى جنبها فيلة وأجمال وأنهار جارية ، لأن ذلك جائز في المقدور ، أو نشك في ذلك ، ولعله يكون بحضرتنا ونحن لا نراه.

الجواب : أن هذا تخبط وجهل وقلة فهم ؛ لأنه لا يلزمنا أن يجوز أن يكون بحضرتنا كل ما هو جائز في مقدور الله تعالى ، ولا نشك فيه ، لأن ذلك لو لزم للزمنا أن نجوز أن يكون بحضرتنا وعندنا في الدنيا جنة ونار ، ونشك في ذلك ؛ لأن الله تعالى قادر على ذلك ، ولما لم يلزم ذلك لم يلزم ما ذكرتم ، وكذلك أيضا من الجائز في قدرته تعالى أن يخلق اليوم رجلا لا من ذكر ولا من أنثى ، ثم لا يجب علينا أن نجوّز أنه الآن عندنا موجود أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ، وكذلك أيضا يجوز في مقدوره تعالى أن يميت أهل بلدة نحن فيها كلهم ، ثم لا يلزم أن يجوز ذلك الآن أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ؛ فليس كل جائز يجب أن يكون بحضرتنا ، أو نشك فيه ؛ فبطل ما قلتم ، وصحّ الحق.

فإن احتجوا فقالوا : لو جاز أن يكون مرئيا لجاز أن يقال : يرى كله أو بعضه.

فالجواب : أن هذا محال من القول ؛ لأن إطلاق الكل والبعض إنما يجوز على من كان ذا كل أو بعض ، والله تعالى منزّه عن الوصف بالكل والبعض ، وهذا بمنزلة قائل يقول لنا : لو كان معلوما لجاز أن نقول : نعلم كله أو بعضه ، فنقول له : لا نقول نعلم كلّا ولا بعضا ، بل نقول نعلم واحدا أحدا فردا صمدا : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] فكذلك نقول : نرى واحدا أحدا فردا صمدا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

فإن قيل : لو كان أهل الجنة يرون ربهم تعالى ثم لا يرونه لكانت أحوالهم قد تناقصت وعادت من منزلة أعظم إلى منزلة أدون ، ولا يجوز أن تتناقض أحوال أهل الجنة.

فالجواب : أن الأمر ليس على ما يقع لكم ، لأن تناقص الأحوال أن يريد المرء حالة عالية فيبقى في حالة ناقصة ، أو يريد ملاذا فلا يصل إليها ، عالية كانت أو دون ذلك ، فأهل الجنة ـ بحمد الله تعالى ـ قد تكاملت حالتهم ، إذ كانوا بحيث إذا شاءوا رأوا ربهم ، وإذا شاءوا اشتغلوا بملاذهم ، ولا يكون ذلك نقصا في أحوالهم ولا يلزم على هذا التقرير أن يقال : فهذا نقص في حق أهل الجنة إذا شاءوا الخلوة بالتلذذ عن رؤية ربهم تعالى. قيل هذا يلزمكم أنتم دوننا ، لأنا نحن نقول : هم (لا يشاءون إلا ما شاء الله لهم) فهم به وله في كل أحوالهم ، فإذا شاء لهم الرؤية شاءوها وتلذذوا بها ، وإذا شاء لهم الخلوة شاءوها وتلذذوا بها ، ولا نقص عليهم في ذلك ، ولا يلزم ما قلتم.

جواب آخر : وهو أن أهل الجنة يجتمعون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينظرون إليه ، والاجتماع به والنظر إليه أعلى من الاجتماع بالحور والقصور ، والنظر إلى الحور والقصور ، ثم يشتغلون بالحور والقصور بعد نظره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن عادوا إلى قصورهم ونعيمهم ، وإن كان نظره أعظم وأعلى من ذلك ، فجاز مثل ذلك أيضا في جواز رؤية الباري ، وإن كانت أعلى الأشياء وأجلها ، فثبت ما قلناه ، وبطل التمويه بحمد الله.

فإن قيل : إذا كان مرئيا فخبّرونا ما هو؟ قيل لهم إن أردتم بقولكم : ما هو : أي ما صورته ، وجنسه ، وطوله ، وعرضه إلى غير ذلك مما لا يجوز عليه ، فليس بذي صورة ولا جنس ولا طول ولا عرض ، وقد قدّمنا الأدلة على أنه لا يشبه خلقه ولا يشبهونه. وإن أردتم بقولكم ما هو؟ ما اسمه؟ فاسمه : الله ، الرّحمن ، الرّحيم ، الحي ، القيوم ، وإن أردتم بقولكم ما هو صنعه؟ فصنعه : العدل ، الإحسان ، والإنعام ، والسموات والأرض وجميع ما بينهما ، وإن أردتم بقولكم ما هو؟ ما الدلالة على وجوده؟ فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره ، وإن أردتم بقولكم ما هو؟ أي أشيروا لنا إليه حتى نراه ، ولم أنها لا تصح إلا في المسجد؟ .....؟

جواب آخر : وهو أن هذه الأخبار تحمل عليه على وجه التغليظ والمبالغة في الزجر ، حتى يقف الناس عن هذه الأمور ولا يقدموا عليها ، وهذا كقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة. ولم يرد عليه‌السلام الإعراض عن الحكم أصلا بين الجد والإخوة ، فإنه قد حكم عدة نوب بقضايا مختلفة بين الجد والإخوة.

فإن قيل : فإذا كان مرئيا فكيف هو؟ قيل لهم : إن أردتم بقولكم كيف هو؟ على أي تركيب ، أو على أي صورة هو ، أو على أي جنس هو؟ فلا تركيب له ، ولا صورة ولا جنس فنخبركم عن ذلك ، وإن أردتم بقولكم كيف هو وعلى أي صفة هو؟ فهو قديم ، حي ، علام قادر ، متكلم ، سميع بصير ، مريد ، وإن أردتم بقولكم كيف هو؟ كيف صنعه إلى خلقه؟ فصنعه إليهم الإحسان ، والعدل ، والتفضل ، والامتنان ، فإن قيل إذا كان مرئيا فأين هو؟ قيل لهم : إن أردتم أين هو في وصف المنزلة والرفعة والجلال فهو كما وصف نفسه بقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] وبقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] وبقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزّخرف : ٨٤] وبقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)) [الفجر : ١٤] قيل لهم : الأين سؤال عن مكان وليس هو مما يحويه مكان ، لما قدّمنا من الحجج والبراهين بحمد الله الملك المنّان. وحسبي الله ونعم الوكيل.

تمّ الكتاب بعون الله

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

باب ما جاء في القرآن العظيم من ذلك

قال اللّه سبحانه وتعالى: و (يَبْقىٰ‌ وَجْهُ‌ رَبِّكَ)‌ [الرّحمن: ٢٧](١). قال المفسرون: يبقى ربك، وكذا قالوا في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ‌ وَجْهَهُ‌) [الأنعام: ٥٢] أي يريدونه، وقال الضحاك وأبو عبيدة: (كُلُّ‌ شَيْ‌ءٍ هٰالِكٌ‌ إِلاّٰ وَجْهَهُ)‌ [القصص: ٨٨] أي إلا هو.

وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة يختص باسم زائد على الذات. فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات، وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه، وقال ابن حامد: أثبتنا اللّه تعالى وجها ولا يجوز إثبات رأس. قال: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس.

ومنها قوله تعالى: و (لِتُصْنَعَ‌ عَلىٰ‌ عَيْنِي) [طه: ٣٩]، (وَاصْنَعِ‌ الْفُلْكَ‌ بِأَعْيُنِنٰا) [هود: ٣٧] (٢). أي بمرأى منا، وإنما جمع لأن عادة الملك أن يقول أمرنا ونهينا.

وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة (٣). فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما، وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين.

__________________

(١) قال الزمخشري في الكشاف: (وَجْهُ‌ رَبِّكَ)‌ [الرّحمن: ٢٧] ذاته، والوجه يعبّر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان.

(٢) يقول الزمخشري: بِأَعْيُنِنٰا [هود: ٣٧] في موضع الحال بمعنى اصنعها محفوظا وحقيقته ملتبسا بأعيننا كأن للّه معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ه‍‌ ويقول الرازي في أساس التقديس عند الكلام على العين: لا بد من المصير إلى التأويل وذلك هو أن يحمل هذه الألفاظ‍‌ على شدة العناية والحراسة، والوجه في حسن هذا المجاز أن من عظمت عنايته بشيء وميله إليه ورغبته فيه كان كثير النظر إليه فجعل لفظ‍‌ العين التي هي آلة لذلك النظر كناية عن شدة العناية.

(٣) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري توفي عام أحد عشر وثلاثمائة، يعد في أكابر المحدثين، كان يورع نفسه عن الخوض في مسائل الكلام وينهي أصحابه عنه، ثم اضطره بعض أهل النظر إلى الدخول في هذه المآزم فزلّت قدمه وخرج إلى وجوه غير معقولة سامحه اللّه (ز).

وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبوا عينين من دليل الخطاب في قوله صلى اللّه عليه وسلم: «ليس بأعور» (١) وإنما أريد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه.

ومنها قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ)‌ [ص: ٧٥] (٢) اليد في اللغة بمعنى النعمة والإحسان، ومعنى قول اليهود لعنهم اللّه تعالى: (يَدُ اللّٰهِ‌ مَغْلُولَةٌ‌) [المائدة: ٦٤] أي محبوسة عن النفقة؛ واليد القوة يقولون: له بهذا الأمر يد.

وقوله: (بَلْ‌ يَدٰاهُ‌ مَبْسُوطَتٰانِ) [المائدة: ٦٤] أي نعمته وقدرته(٣). وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ)‌ [ص: ٧٥] أي بقدرتي ونعمتي. وقال الحسن: (يدُ اللّٰهِ‌ فَوْقَ‌ أَيْدِيهِمْ)‌ [الفتح: ١٠] أي منته وإحسانه، هذا كلام المحققين.

وقال القاضي (أبو يعلى) اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين. وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه، وقال: لو لم يكن لآدم عليه الصلاة والسلام مزية على سائر الحيوانات بخلقه باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال: (بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥] ولو كانت القدرة لما كانت له مزية، ولو كانت القدرة لم تثن.

قلنا: بلى قالت العرب ليس لي بهذا الأمر يدان أي ليس لي به قدرة، قال عروة بن حزام:

فقالا شفاك اللّه واللّه ما لنا

بما ضمنت منك الضلوع يدان

__________________

(١) طالع الحديث الخمسين الآتي ترى مزيد تفصيل عن هذا الخبر.

(٢) يقول الزمخشري: أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدي له: يداك أوكتا وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك ا. ه‍‌ وقال الراغب الأصبهاني في مفرداته: قوله تعالى: (مِمّٰا عَمِلَتْ‌ أَيْدِينٰا) [يس: ٧١] وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥] عبارة عن توليه لخلقه باختراعه الذي ليس إلا له عزّ وجل، وخصّ‌ لفظ‍‌ اليد ليتصور لنا المعنى إذ هو أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا ليتصور لنا اختصاص المعنى لا لنتصور منه تشبيها، وقيل معناه بنعمتي التي رشحتها لهم، والباء فيه ليس كالباء في قولهم: قطعته بالسكين بل هو كقولهم: خرج بسيفه أي معه سيفه، معناه خلقته ومعه نعمتاي الدنيوية والأخروية اللتان إذا رعاهما بلغ بهما السعادة الكبرى.

وقال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥] أي بنفسي من غير توسط‍‌ كأب وأم.

(٣) في أساس التقديس لمجدد القرن السادس الفخر الرازي: والسبب في حسن هذا المجاز أن كمال حال هذا العضو إنما يظهر بالصفة المسماة بالقدرة فلما كان المقصود من اليد حصول القدرة أطلق اسم القدرة على اليد، ولأن آلة إعطاء النعمة اليد فإطلاق اسم اليد على النعمة إطلاق لاسم السبب على المسبب.

وقولهم: ميّزه بذلك عن الحيوان فقد قال تعالى: (خَلَقْنٰا لَهُمْ‌ مِمّٰا عَمِلَتْ‌ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً) [يس: ٧١] ولم يدل على تمييز الأنعام على بقية الحيوان.

قال تعالى: و (السَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ) [الذّاريات: ٤٧] أي بقوة ثم قد أخبر أنه قد نفخ فيه من روحه ولم يرد الوضع بالفعل والتكوين، والمعنى نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة إذ لا يليق بالخالق جلّ‌ جلاله سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، ولا له أعضاء وجوارح يفعل بها لأنه تعالى الغني بذاته؛ فلا ينبغي أن يتشاغل بطلب تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام مع الغفلة عما يستحقه الباري سبحانه من التعظيم بنفي الأبعاض والآلات في الأفعال، لأن هذه الأشياء صفة الأجسام.

وقد ظنّ‌ بعض الثلاثة أن اللّه تعالى يمسّ‌ حتى توهموا أنه مس طينة آدم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أن من جملة مخلوقاته جسما يقابل جسما فيتحد به ويفعل فيه، أفتراه سبحانه وتعالى جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى إلى أجسام بعيدة ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين‌؟ وقد ردّ قول من قال هذا بقوله تعالى: (إِنَّ‌ مَثَلَ‌ عِيسىٰ‌ عِنْدَ اللّٰهِ‌ كَمَثَلِ‌ آدَمَ‌ خَلَقَهُ‌ مِنْ‌ تُرٰابٍ‌ ثُمَّ‌ قٰالَ‌ لَهُ‌ كُنْ‌ فَيَكُونُ) (٥٩) [آل عمران: ٥٩].

ومنها قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ‌ اللّٰهُ‌ نَفْسَهُ‌) [آل عمران: ٢٨] وقوله تعالى: (تَعْلَمُ‌ مٰا فِي نَفْسِي وَلاٰ أَعْلَمُ‌ مٰا فِي نَفْسِكَ‌) [المائدة: ١١٦] قال المفسرون: ويحذركم اللّه إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقال المحققون: المراد بالنفس هاهنا الذات، ونفس الشيء ذاته.

وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا وهي صفة زائدة على ذاته، وهذا قول لا يستند إلا إلى التشبيه لأنه يوجب أن الذات شيء والنفس غيرها. ومنها قوله تعالى: (لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ) [الشّورى: ١١](١). ظاهر الكلام أن

__________________

(١) يقول الزمخشري في الكشاف: قالوا مثلك لا يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه، ونظيره: قولك للعربي العرب لا تخفر الذمم كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر ومنه قولهم: قد أيفعت لذاته وبلغت أترابه يريدون إيفاعه وبلوغه اه‍‌.

وقال الراغب: إن الندّ يقال فيما يشارك في الجوهر فقط‍‌ والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط‍‌ والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط‍‌ والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط‍‌ والمثل عام في جميع ذلك ولهذا لما أراد اللّه نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: (لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ) [الشّورى: ١١] وأما الجمع بين الكاف والمثل فقد قيل ذلك لتأكيد النفي تنبيها على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف فنفى بليس الأمرين جميعا وقيل المثل هاهنا بمعنى الصفة ومعناه: ليس كصفته صفة تنبيها على أنه وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليس تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر.

له مثلا فليس كمثله شيء وليس كذلك، إنما معناه عند أهل اللغة أن يقام المثل مقام الشيء نفسه يقول الرجل مثلي لا يكلم مثلك، وإنما المعنى ليس كهو شيء.

ومنها قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌) [القلم: ٤٢](١). قال جمهور العلماء: يكشف عن شدة وأنشدوا: وقامت الحرب على ساق(٢). وقال آخر: وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة الجدّ فيه شمّر عن ساقه فاستعيرت الساق في موضع الشدة وهذا قول الفراء وأبي عبيدة وثعلب واللغويين، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «أن اللّه عزّ وجل يكشف عن ساقه»(٣). وهذه إضافة إليه معناها يكشف عن شدته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى يكشف عنها يزيلها، وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير غضب وقال: يقولون يكشف عن ساقه وإنما ذلك من أمر شديد.

وقد ذكر أبو عمر الزاهد: أن الساق بمعنى النفس، قال: ومنه قول علي رضي اللّه عنه لما قالت الشراة لا حكم إلا للّه تعالى فقال: لا بد من محاربتهم ولو

__________________

(١) ومما قاله الرازي في تفسير هذه الآية: يوم يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب عظيم واللفظ‍‌ لا يدل إلا على ساق فأما إن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ‍‌ ما يدل عليه.

وفي محاسن التأويل للعلامة الجمال القاسمي رحمه اللّه: وقال أبو سعيد الضرير: أي يوم يكشف عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها فالساق بمعنى أصل الأمر وحقيقته استعارة من ساق الشجر.

(٢) قال البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) عند الاستشهاد بهذا الكلام من الشعر: عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ)‌ [القلم: ٤٢] فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب.

(٣) في صحيح البخاري: ثنا آدم ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة» الحديث، وقال الحافظ‍‌ ابن حجر: ووقع في هذا الموضع «يكشف ربنا عن ساقه» وهو من رواية سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم فأخرجها الإسماعيلي كذلك ثم قال: في قوله عن ساقه نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة بن زيد بن أسلم بلفظ‍‌ (يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ)‌ [القلم: ٤٢] قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ‍‌ القرآن في الجملة اه‍‌.

وقد أخذ ابن شاقلا على البخاري إخراجه حديث الساق في صحيحه لأنه من رواية ابن أبي هلال ويراه ليس من شرطه لضعفه. وقال ابن حزم أيضا: ابن أبي هلال ليس بالقوي قد ذكره بالتخليط‍‌ يحيى وأحمد بن حنبل (ز).

تلفت ساقي، فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم. وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يكشف لهم الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرون للّه سجّدا ويبقى أقوام في ظهورهم مثل صياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌ وَيُدْعَوْنَ‌ إِلَى السُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ‌ (٤٢)) [القلم: ٤٢]».

وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن الساق صفة ذاتية وقال: مثله يضع قدمه في النار. وحكي عن ابن مسعود قال: يكشف عن ساقه اليمنى فتضيء من نور ساقه الأرض، قلت: وذكره الساق مع القدم تشبيه محض، وما ذكره عن ابن مسعود محال ولا يثبت للّه تعالى صفة بمثل هذه الخرافات، ولا توصف ذاته بنور شعاعي تضيء به الأرض، واحتجاجه بالإضافة ليس بشيء لأنه إذا كشف عن شدته فقد كشف عن ساقه، وهؤلاء وقع لهم أن معنى يكشف يظهر وإنما المعنى يزيل ويرفع.

وقال ابن حامد: يجب الإيمان بأن للّه سبحانه وتعالى ساقا صفة لذاته فمن جحد ذلك كفر. قلت: لو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحا فكيف من ينسب إلى العلم فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم يردون الأمر إلى اللغة وهؤلاء أثبتوا ساقا للذات وقدما حتى يتحقق التجسيم والصورة.

ومنها قوله تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ عَلَى الْعَرْشِ)‌ [الحديد: ٤](١). قال الخليل بن

__________________

(١) يقول الآلوسي في تفسيره: والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور وفسر الاستواء بالاستقرار وروي ذلك عن الكلبي ومقاتل ورواه البيهقي في (الأسماء والصفات) بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وما روي عن مالك رضي اللّه عنه أنه سئل كيف استوى فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: «غير مجهول» أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه الاستقرار وهو غير مجهول. وقال في موضع آخر: وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن اللّه تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه، وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال: (ثُمَّ‌ إِنَّ‌ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ‌ (١٩)) [القيامة: ١٩] ولنبين للناس ما نزل إليهم، وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه اللّه مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون اه‍‌. وفيه توسط‍‌ في المسألة، وقد توسط‍‌ ابن الهمام في (المسايرة) وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصر بنا ابن عابدين الشامي في (رد المحتار) توسطا أخص من هذا التوسط‍‌ فذكر ما حاصله: وجواب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفي التشبيه، وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه، وإذا خيف

أحمد: العرش السرير وكل سرير لملك يسمى عرشا، والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام، قال تعالى: (وَرَفَعَ‌ أَبَوَيْهِ‌ عَلَى الْعَرْشِ‌) [يوسف: ١٠٠] وقال تعالى: (أَيُّكُمْ‌ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا) [النّمل: ٣٨]، اعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه: منها الاعتدال. قال بعض بني تميم: «فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم» أي اعتدلا، والاستواء تمام الشيء. قال اللّه تعالى: (وَلَمّٰا بَلَغَ‌ أَشُدَّهُ‌ وَاسْتَوىٰ)‌ [القصص: ١٤]، والاستواء القصد إلى الشيء. قال اللّه تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: ٢٩] أي قصد خلقها، والاستواء الاستيلاء على الشيء. قال الشاعر:

إذا ما غزا قوما أباح حريمهم

وأضحى على ما ملكوه قد استوى

وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء، وجميع السلف على إيراد هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.

وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا: استوى على العرش بذاته. وهذه زيادة لم ينقلوها إنما فهموها من إحساسهم وهو أن المستوي على الشيء إنما يستوي عليه ذاته. قال ابن حامد: الاستواء مماسة وصفة لذاته والمراد به القعود(١). قال: وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن اللّه تعالى على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه على العرش، وقال: والنزول انتقال.

__________________

ـ على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله:

فلما علونا واستوينا عليهم

جعلناهم مرعى لنسر وطائر

وقوله:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق (ز)

(١) قال الجلال الدواني في شرح العضدية: وقد رأيت في بعض تصانيف (ابن تيمية) القول به (أي بالقدم النوعي) في العرش اه‍‌ وقال الشيخ محمد عبده فيما علقه عليه: وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن اللّه استوى على العرش جلوسا، فلما أورد عليه أنه يلزم أن يكون العرش أزليا لما أن اللّه أزلي فمكانه أزلي، وأزلية العرش خلاف مذهبه قال إنه قديم بالنوع أي أن اللّه لا يزال يعدم عرشا ويحدث آخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلا وأبدا ولننظر أين يكون اللّه بين الإعدام والإيجاد هل يزول عن الاستواء فليقل به أزلا، فسبحان اللّه ما أجهل الإنسان وما أشنع ما يرضى لنفسه، ولست أعرف هل قال ابن تيمية بشيء من ذلك على التحقيق، وكثيرا ما نقل عنه ما لم يقله اه‍‌ (ز).

وعلى ما حكي تكون ذاته أصغر من العرش، فالعجب من قول هذا ما نحن مجسمة.

وقيل لابن الزاغوني: هل تجددت له صفة لم تكن بعد خلق العرش‌؟ قال: لا، إنما خلق العالم بصفة التحت فصار العالم بالإضافة إليه أسفل، فإذا ثبتت لإحدى الذاتين صفة التحت ثبت للآخر استحقاق صفة الفوق، قال: وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاته فيها فثبت انفصاله عنها ولا بد من بدء يحصل به الفصل فلما قال: (اِسْتَوىٰ) [البقرة: ٢٩] علمنا اختصاصه بتلك الجهة، قال: ولا بد أن يكون لذاته نهاية وغاية يعلمها.

قلت: هذا رجل لا يدري ما يقول، لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقرّ بأنه جسم، وهو يقول في كتابه: إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما تحيز، ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه، قلت: وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض، فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه.

فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذي، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسة والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدثه، وإن منعوا جواز هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدث الجواهر، ومتى قدرنا مستغنيا عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالا فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات.

وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه أو متحركا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاور أو باين فقد تناهى ذاتا، والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات، فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تحس بالأجرام.

وأما قولهم: «خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها» قلنا: ذاته المقدسة لا تقبل أن يخلق فيها شيء ولا أن يحل فيها شيء، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط‍‌ حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويعز علينا كيف ينسب هذا القائل إلى مذهبنا.

واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: (إِلَيْهِ‌ يَصْعَدُ الْكَلِمُ‌ الطَّيِّبُ‌ وَالْعَمَلُ‌ الصّٰالِحُ‌ يَرْفَعُهُ)‌ [فاطر: ١٠] وبقوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: ١٨] وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إما أن تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان(١). ثم إنه كما قال تعالى: (فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: ١٨] قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ‌) [الحديد: ٤] فمن حملها على العلم حمل خصمه الاستواء على القهر(٢).

وذهبت طائفة إلى أن اللّه تعالى على عرشه قد ملأه، والأشبه أنه مماس للعرش، والكرسي موضع قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم بقية.

* * *

فصل: فإن قيل فقد أخرج في الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه أنه ذكر المعراج فقال فيه: فعلا به إلى الجبار تعالى فقال وهو في مكانه: «يا رب خفّف عنا».

الجواب: أن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة انفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ‍‌ والمكان لا يضاف إلى اللّه تعالى إنما هو مكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه وفي هذا الحديث «فاستأذنت على ربي وهو في

__________________

(١) في التفسير الكبير للفخر الرازي: العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق، إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والآخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين، والذي هو فوق بالنسبة لأحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون في حيز معين (ز).

(٢) يقول الفخر الرازي في أساس التقديس: إن ظاهر قوله تعالى: (وَنَحْنُ‌ أَقْرَبُ‌ إِلَيْهِ‌ مِنْ‌ حَبْلِ‌ الْوَرِيدِ) [ق: ١٦] وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ‌ أَيْنَ‌ مٰا كُنْتُمْ‌) [الحديد: ٤] وقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمٰاءِ إِلٰهٌ‌ وَفِي الْأَرْضِ‌ إِلٰهٌ)‌ [الزّخرف: ٨٤] ينفي كونه مستقرا على العرش، وليس تأويل هذه الآيات لتبقى الآيات التي تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس اه‍‌ (ز).

داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه(١) ؛ وقد قال القاضي (أبو يعلى) في كتابه المعتمد: إن اللّه عزج وجل لا يوصف بالمكان.

ومن الآيات قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ‌ مَنْ‌ فِي السَّمٰاءِ) [الملك: ١٦](٢). قد ثبت قطعا أن الآية ليست على ظاهرها لأن لفظة (في) للظرفية، والحق سبحانه وتعالى غير مظروف وإذا منع الحس أن ينصرف إلى مثل هذا بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الخلق.

ومنها قوله تعالى: (يٰحَسْرَتىٰ‌ عَلىٰ‌ مٰا فَرَّطْتُ‌ فِي جَنْبِ‌ اللّٰهِ) [الزّمر: ٥٦] (٣). أي في طاعته وأمره لأن التفريط‍‌ لا يقع إلا في ذاته وأما الجنب المعهود من ذي الجوارح فلا يقع فيه تفريط‍‌.

__________________

(١) زاد البيهقي في كتابه الأسماء والصفات: (وهي الجنة).

(٢) قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: إن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء والسماء أصغر من العرش بكثير فيلزم أن يكون اللّه تعالى شيئا حقيرا بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال. وقال الزمخشري ووافقه الفخر: (من في السماء) في وجهان أحدهما من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ‍‌ ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه، والثاني أنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو بحاصب كما تقول لبعض المشبهة: أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل إذا رأيته يركب بعض المعاصي، وقال الرازي أيضا: والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان اللّه وتعظيم قدرته كما قال: (وَهُوَ اللّٰهُ‌ فِي السَّمٰاوٰاتِ‌ وَفِي الْأَرْضِ‌) [الأنعام: ٣] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، وقال أيضا: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله (من في السماء) هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام (ز).

(٣) يقول الزمخشري في كشافه: والجنب الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرط‍‌ في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، قال سابق البربري:

أما تتقين اللّه في جنب وامق

له كبد حرّى عليك تقطع

وقال السيد محمود الآلوسي في تفسيره (روح المعاني): وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عزّ وجل من الجنب بالمعنى الحقيقي، ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعوّل على ما في المواقف، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفي حرف عبد اللّه وحفصة (في ذكر اللّه) ه‍‌. وقال العلامة القاسمي في تفسيرها: أي في جانب أمره ونهيه إذ لم أتبع أحسن ما أنزل.

وقال ابن حامد: نؤمن بأن للّه سبحانه وتعالى جنبا بهذه الآية.

فوا عجبا من عدم العقول، إذا لم يتهيأ التفريط‍‌ في جنب مخلوق فكيف يتهيأ في صفة الخالق جلّ‌ جلاله، وأنشد ثعلبة:

«خليليّ‌ كفا واذكرا اللّه في جنبي» أي في أمري.

ومنها قوله تعالى: (فَنَفَخْنٰا فِيهِ‌ مِنْ‌ رُوحِنٰا) [التّحريم: ١٢](١). قال المفسرون: أي من رحمتنا، وإنما نسب الروح إليه لأنه بأمره كان.

ومنها قوله تعالى: (يُؤْذُونَ‌ اللّٰهَ‌) [الأحزاب: ٥٧] (٢). أي يؤذون أولياءه كقوله تعالى: (وَسْئَلِ‌ الْقَرْيَةَ‌) [يوسف: ٨٢] أي أهلها. وقال صلى اللّه عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» وقال الشاعر:

أنبئت أن النار بعدل أوقدت

واستبّ‌ بعدك يا كليب المجلس

ومنها قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: ٢١٠] (٣). أي بظلل وكذلك قوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: ٢٢] ذكر القاضي

__________________

(١) قال الشهاب الآلوسي: (وَنَفَخْتُ‌ فِيهِ‌ مِنْ‌ رُوحِي) [الحجر: ٢٩] تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمة نفخ ولا منفوخ، أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الظاهرة التي هي أمري.

(٢) قال الآلوسي: (إِنَّ‌ الَّذِينَ‌ يُؤْذُونَ‌ اللّٰهَ‌ وَرَسُولَهُ‌) [الأحزاب: ٥٧] أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له، وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد اللّه مغلولة، والمسيح ابن اللّه، والملائكة بنات اللّه، والأصنام شركاؤه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

(٣) ومما قاله جار اللّه الزمخشري: ويجوز أن يكون المأتي به محذوفا بمعنى أن يأتيهم اللّه ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: (فإن اللّه عزيز)، فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام‌؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث، ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب اللّه قوله تعالى: (وَبَدٰا لَهُمْ‌ مِنَ‌ اللّٰهِ‌ مٰا لَمْ‌ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ‌) [الزّمر: ٤٧] اه‍‌ وساق الفخر الرازي في هذا المعنى فصلا مشبعا ـ شأنه في تفسير آيات الصفات ـ إلى أن قال: إن قوله: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: ٢١٠] وقوله: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: ٢٢] إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ تَأْتِيَهُمُ‌ الْمَلاٰئِكَةُ‌ أَوْ يَأْتِيَ‌ أَمْرُ رَبِّكَ‌) [النّحل: ٣٣] فصار هذا المحكم مفسرا لذلك

(أبو يعلى) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال في قوله تعالى: (أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: ٢١٠] قال: المراد به قدرته وأمره، قال: وقد بيّنه في قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَ‌ أَمْرُ رَبِّكَ‌) [النّحل: ٣٣] ومثل هذا في التوراة «وجاء ربك» قال: إنما هي قدرته.

قال ابن حامد: وهذا خطأ إنما ينزل بذاته بانتقال. قلت: وهذا كلام في ذات اللّه تعالى بمقتضى الحس كما يتكلم في الأجسام.

قال ابن عقيل في قوله تعالى: (قُلِ‌ الرُّوحُ‌ مِنْ‌ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء: ٨٥] قال: من كفّ‌ خلقه عن السؤال عن مخلوق فكفهم عن الخالق وصفاته أولى وأنشدوا:

كيفية النفس ليس المرء يدركها

فكيف كيفية الجبار في القدم

* * *

باب ذكر الأحاديث التي سموها أخبار الصفات

اعلم أن في الأحاديث دقائق وآفات لا يعرفها إلا العلماء الفقهاء، تارة في نقلها وتارة في كشف معناها وسنوضح ذلك إن شاء اللّه تعالى:

الحديث الأول: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة

__________________

(٣) ـ المتشابه لأن كل هذه الآيات لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على بعض، وقال تعالى بعده: (وَقُضِيَ‌ الْأَمْرُ) [البقرة: ٢١٠] ولا شك أن الألف واللام للمعهود السابق فلا بد وأن يكون قد جرى ذكر أمر قبل ذلك حتى تكون الألف واللام إشارة إليه وما ذاك إلا الذي أضمرناه من أن قوله: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: ٢١٠] أي يأتيهم أمر اللّه، وأنهى كلامه بقوله: والذي هو أوضح عندي من كل ما سلف أنا ذكرنا أن قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ‌ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ‌ كَافَّةً) [البقرة: ٢٠٨] إنما نزلت في حق اليهود، وعلى هذا التقدير فقوله: (فَإِنْ‌ زَلَلْتُمْ‌ مِنْ‌ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْكُمُ‌ الْبَيِّنٰاتُ‌ فَاعْلَمُوا أَنَّ‌ اللّٰهَ‌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‌ (٢٠٩)) [البقرة: ٢٠٩] يكون خطابا مع اليهود، وحينئذ يكون قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌ وَالْمَلاٰئِكَةُ‌) [البقرة: ٢١٠]، حكاية عن اليهود، والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: لَنْ‌ نُؤْمِنَ‌ لَكَ‌ حَتّٰى نَرَى اللّٰهَ‌ جَهْرَةً‌ [البقرة: ٥٥]، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوزون على اللّه المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد عليه الصلاة والسلام.

رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «خلق اللّه تعالى آدم عليه الصلاة والسلام على صورته»(١).

للناس في هذا مذهبان: أحدهما السكوت عن تفسيره، والثاني الكلام في معناه.

واختلف أرباب هذا المذهب في الهاء إلى من تعود على ثلاثة أقوال:

أحدها: تعود إلى بعض بني آدم، قال: وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ برجل يضرب رجلا وهو يقول: قبّح اللّه وجهك ووجه من أشبه وجهك، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته».

وإنما خصّ‌ آدم بالذكر لأنه هو الذي ابتدئت خلقة وجهه على هذه الصورة التي احتذى عليها من بعده، وكأنه نبّه على أنك سببت آدم وأنت من ولده، وذلك مبالغة في زجره، فعلى هذا تكون الهاء كناية عن المضروب(٢). ومن الخطأ الفاحش أن ترجع إلى اللّه عزّ وجل لقوله: ووجه من أشبه وجهك فإنه إذا نسبه إليه سبحانه كان تشبيها صريحا.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن اللّه تعالى خلق آدم على صورته».

القول الثاني: أن الهاء كناية عن اسمين ظاهرين، فلا يصلح أن تصرف إلى اللّه عزّ وجل، لقيام الدليل أنه تعالى ليس بذي صورة، فعادت إلى آدم.

ومعنى الحديث أن اللّه تعالى خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما، لم

__________________

(١) يقول الراغب الأصفهاني: الصورة أراد بها ما خص الإنسان بها من الهيئة المدركة بالبصر والبصيرة، وبها فضله على كثير من خلقه، وإضافته إلى اللّه سبحانه على سبيل الملك لا على سبيل البعضية والتشبيه تعالى عن ذلك، وذلك على سبيل التشريف له كقوله بيت اللّه وناقة اللّه ونحو ذلك: ونفخت فيه من روحي.

(٢) مما أورده الرازي في تأويل هذا الخبر قوله: إن المراد منه إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى، مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريبا من السماء فالنبي عليه السلام أشار إلى إنسان معين (وهو المضروب) وقال: «إن اللّه خلق آدم على صورته» أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت البتة (ز).

ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه(١). هذا مذهب أبي سليمان الخطابي، وقد ذكره ثعلب في أماليه.

القول الثالث: أنها تعود إلى اللّه تعالى، وفي معنى ذلك قولان: أحدهما أن تكون صورة ملك، لأنها فعله وخلقه فتكون إضافتها إليه من وجهين: أحدهما التشريف بالإضافة كقوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ‌ لِلطّٰائِفِينَ‌) [الحجّ‌: ٢٦] والثاني ابتدعها لا على مثال سبق. والقول الثاني أن تكون الصورة بمعنى الصفة تقول «هذا صورة هذا الأمر» أي صفته، ويكون خلق آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة، فميّزه بذلك عن جميع الحيوانات، ثم ميّزه على الملائكة بصفة التعالي حين أسجدهم له، والصورة هاهنا معنوية لا صورة تخاطيط‍‌.

وقد ذهب أبو محمد بن قتيبة(٢) في هذا الحديث إلى مذهب قبيح فقال: «للّه تعالى صورة لا كالصور فخلق آدم عليها» وهذا تخليط‍‌ وتهافت، لأن معنى كلامه أن صورة آدم كصورة الحق تعالى.

وقال القاضي (أبو يعلى) يطلق على الحق تعالى تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته.

وهذا تخليط‍‌ لأن الذات بمعنى شيء، وأما الصورة فهي هيئة وتخاطيط‍‌ وتأليف، ويفتقر إلى مصور ومؤلف.

وقول القائل «لا كالصور» نقض لما قاله، وصار بمثابة من يقول «جسم لا كالأجسام» فإن الجسم ما كان مؤلفا فإذا قال «لا كالأجسام» نقض ما قال.

* * *

__________________

(١) ومن الوجوه التي سردها الفخر في هذا المقام قوله: أنه تعالى لما عظم أمر آدم بجعله مسجود الملائكة، ثم إنه أتى بتلك الزلة فاللّه تعالى لم يعاقبه بمثل ما عاقب به غيره فإن نقل إن اللّه تعالى أخرجه من الجنة وأخرج معه الحية والطاوس وغير تعالى خلقهما، مع أنه لم يغير خلقة آدم بل تركه على الخلقة الأولى إكراما له وصونا عن عذاب المسخ ه‍‌. وذهب البيهقي هذا المذهب (ز).

(٢) هو صاحب التصانيف أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة أحد أئمة الأدب، إخباري، قليل الرواية، قد يعتمد في التشبيه على ما يرويه من كتب أهل الكتاب، يتهم بالنصب، كذبه الحاكم ووثقه غيره، مات عام ست وسبعين ومائتين (ز).

الحديث الثاني: روى عبد الرّحمن بن عياش عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفيّ‌ فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات والأرض».

قال الإمام أحمد: أصل هذا الحديث وطرقه مضطربة وقد روي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أتاني آت في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ فقلت: لا أدري، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال: «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى‌؟ قلت: لا أعلم يا رب، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض».

وهذه أحاديث مختلفة وأحسن طرقها يدل على أن ذلك كان في النوم ورؤيا المنام وهم والأوهام لا تكون حقائق(١). وأن الإنسان يرى كأنه يطير أو كأنه قد صار بهيمة وقد رأى أقوام في منامهم الحق سبحانه على ما ذكرنا، وإن قلنا إنه رآه في اليقظة فالصورة إن قلنا ترجع إلى اللّه تعالى فالمعنى رأيته على أحسن صفاته من الإقبال عليّ‌ والرضا عني، وإن قلنا: ترجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فالمعنى رأيته وأنا على أحسن صورة(٢). وروى ابن حامد من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لما أسري بي رأيت الرّحمن تعالى في صورة شاب أمرد له نور يتلألأ وعن عن»(٣). وصفه لكم فسألت ربي أن يكرمني برؤيته وإذا كأنه عروس حين كشف عنه

__________________

(١) يقول الحافظ‍‌ ابن حجر في مثل هذا المقام: ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: «إن رؤيا الأنبياء وحي» فلا يحتاج إلى تعبير لأنه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، فقد تقدم في كتاب التعبير أن بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير أه‍‌ (ز).

(٢) بقي على المؤلف أن يتكلم على عجز الحديث، ونحن ننقل عن (أساس التقديس للفخر الرازي) ما بقي بالغرض: وأما قوله: «وضع يده بين كتفي» ففي وجهان: الأول: المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه. الثاني: أن يكون المراد من اليد النعمة، وأما قوله: «بين كتفي» فإن صحّ‌ فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة، وأما قوله: «فوجدت بردها» فيحتمل أن المعنى برد النعمة وروحها وراحتها، من قولهم: عيش بارد إذا كان رغدا، والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله عليه السلام في آخر الحديث «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» اه‍‌ (ز).

(٣) هكذا في الأصل المحفوظ‍‌ لدينا.

حجابه مستو على عرشه وهذا الحديث كذب قبيح ما روي قط‍‌ لا في صحيح ولا في كذب فأبعد اللّه تعالى من عمله، فقد كنا نقول ذاك منام فيذكر هذا ليلة الإسراء كافأهم اللّه عزّ وجل وجزاهم النار، يشبهون اللّه سبحانه وتعالى بعروس ما كتب هذا مسلم، وأما حديث البرد في الحديث الماضي فإن البرد عرض لا يجوز أن ينسب إلى اللّه عزّ وجل.

وقد ذكر القاضي (أبو يعلى) في كتابه الكناية (رأيت ربي في أحسن صورة) أي في أحسن موضع.

* * *

الحديث الثالث: روت أم الطفيل امرأة أبيّ‌ أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عزّ وجل في المنام في أحسن صورة شابا منورا في خضر، في رجليه نعلان من ذهب وعلى وجهه فراش من ذهب. هذا الحديث يرويه نعيم بن حماد. قال ابن عدي: كان يضع الحديث، وسئل الإمام أحمد فأعرض بوجهه عنه وقال: حديثه منكر مجهول. وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي جعدا أمرد عليه حلة خضراء» وهذا مروي. من طريق حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد، وكان يدس في كتبه هذه الأحاديث لا ثبوت لها ولا يحسن أن يحتج بها.

وقد أثبت القاضي (أبو يعلى) صفات للّه تعالى فقال: قوله شاب وأمرد وجعد وقطط‍‌ والفراش والنعلان والتاج، قال: ثبت ذلك تسمية لا نعقل معناها. ومن يثبت بالمنام وما صحّ‌ نقله صفات! وقد عرفنا معنى الشاب الأمرد، ثم يقول «ما هو كما نعلم» كمن يقول قام فلان وما هو بقائم، وقعد وما هو بقاعد، قال ابن عقيل: هذا الحديث نجزم بأنه كذب ثم لا تنفع ثقة الرواة إذا كان المتن مستحيلا وصار هذا كما لو أخبرنا جماعة من المعدلين بأن جمل البزاز دخل في خرم إبرة الخياط‍‌ فإنه لا حكم لصدق الرواة مع استحالة خبرهم.

* * *

الحديث الرابع: روي عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ليلة أسري بي رأيت كل شيء من ربي حتى رأيت تاجا مخوصا من لؤلؤ» هذا يرويه أبو القاسم محمد بن اليسع عن قاسم بن إبراهيم، قال الأزهري: كنت أقعد مع ابن اليسع ساعة فيقول: قد ختمت الختمة منذ قعدت وقاسم ليس بشيء، قال الدار قطني: هو كذاب كافأ اللّه تعالى من عمل هذا.

* * *

الحديث الخامس: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يجمع اللّه الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبعون ما كانوا يعبدون وتبقى هذه الأمة بمنافقيها فيأتيهم اللّه تعالى في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ باللّه تعالى منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا».

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيقال هل بينكم وبينه آية تعرفونها فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن»(١).

اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن اللّه سبحانه وتعالى لا يجوز عليه الصورة التي هي هيئة وتأليف؛ قال أبو سليمان الخطابي: معنى فيأتيهم اللّه تعالى أي يكشف الحجاب لهم حتى يرونه عيانا كما كانوا عرفوه في الدنيا استدلالا فرؤيته بعد أن لم يكونوا رأوه بمنزلة إتيان الآتي لم يكن شوهد قبل.

وقال بعض العلماء: يأتيهم بأهوال القيامة وصور الملائكة(٢). ولم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون من تلك الحال ويقول: إذا جاء ربنا عرفناه أي إذا أتانا نعرفه من لطفه وهي الصورة التي يعرفون فيكشف عن ساق أي عن شدة كأنه يرفع تلك الشدائد المهولة فيسجدون شكرا؛ وقال بعضهم: صورة يمتحنهم بها كما يبعث الدجال فيقولون نعوذ باللّه تعالى منك. وفي حديث أبي موسى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «أن الناس يقولون إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا فيقال: أو تعرفونه إذا رأيتموه‌؟ فيقولون: نعم، فيقال: كيف تعرفونه ولم تروه‌؟ فيقولون: إنه لا شبيه له، فيكشف الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرّون سجّدا» قال ابن عقيل: الصورة على الحقيقة تقع على التخاطيط‍‌ والأشكال وذلك من صفات الأجسام، والذي صرفنا عن كونه جسما من الأدلة القطعية قوله تعالى: لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ [الشّورى: ١١] ومن الأدلة العقلية

__________________

(١) لقدم الكلام على هذا الحديث عند تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌) [القلم: ٤٢].

(٢) باعتبار (في) بمعنى الباء، ونظيره قول ابن عباس في قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: ٢١٠] أي بظلل من الغمام على ما نقله الفخر الرازي في كتابه (أساس التقديس) (ز).

أنه لو كان جسما كانت صورته عرضا ولو كان حامل الأعراض جاز عليه ما يجوز على الأجسام وافتقر إلى صانع ولو كان جسما مع قدمه جاز قدم أحدنا. فأحوجتنا الأدلة إلى تأويل صورة يليق إضافتها إليه وما ذلك إلا الحال الذي يوقع عليها أهل اللغة اسم صورة فيقولون: كيف صورتك مع فلان، وفلان على صورة من الفقر؛ والحال التي أنكروها العسف والتي يعرفونها اللطف فيكشف عن الشدة، والتغير إنما يليق بفعله فأما ذاته فتعالت عن التغير، نعوذ باللّه أن يحمل الحديث على ما قالته المجسمة أن الصورة ترجع إلى ذاته وأن ذلك تجويز التغير على صفاته فخرجوه في صورة إن كانت حقيقة فذاك استحالة وإن كان تخيلا فليس ذاك هو إنما يريهم غيره.

* * *

الحديث السادس: روى مسلم في صحيحه من حديث المغيرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا شخص أغير من اللّه ولذلك حرّم الفواحش ولا شخص أحب إليه المدحة من اللّه».

لفظة «الشخص» يرويها بعض الرواة ويروي بعضهم «لا شيء أغير من اللّه» والرواة يروون بما يظنونه المعنى، وكذلك «شخص» من تغيير الرواة وقد يكون المعنى ليس منكم أيها الأشخاص أغير من اللّه لأنه لما اجتمع الكل بالذكر سمّى بأسمائهم والشخص لا يكون إلا جسما مؤلفا ومثل هذا قول ابن مسعود: وما خلق من جنة ولا نار أعظم من آية الكرسي؛ قال الإمام أحمد بن حنبل: الخلق يرجع إلى الجنة والنار لا إلى القرآن ويجوز أن يكون هذا من باب المستثنى من غير الجنس كقوله تعالى: (مٰا لَهُمْ‌ بِهِ‌ مِنْ‌ عِلْمٍ‌ إِلاَّ اتِّبٰاعَ‌ الظَّنِّ‌) [النّساء: ١٥٧] وأما الغيرة فقد قالت العلماء: كل من غار من شيء أسندت كراهته له، فلما حرّم الفواحش ووعد عليها وصفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالغيرة.

* * *

الحديث السابع: روى أبو موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض»(١).

__________________

(١) يقول السيوطي في الجامع الكبير: أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي في السنن والطبراني في الكبير وابن سعد.

وإنما أضيفت القبضة لأن أفعال المملوك تنسب إلى المالك وذلك أنه بعث من قبض كقوله تعالى: (فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ‌) [القمر: ٣٧] وقد روى محمد بن سعد في كتاب الطبقات أن اللّه تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض فخلق منه آدم فمن ثم قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ‌ خَلَقْتَ‌ طِيناً [الإسراء: ٦١].

* * *

الحديث الثامن: روى سلمان قال: إن اللّه لما خمّر طينة آدم وضرب بيديه فيه فخرج كل طيب في يمينه وكل خبيث في يده الأخرى ثم خلط‍‌ بينهما فمن ثم يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

وهذا مرسل، وقد ثبت بالدليل أن الحق سبحانه وتعالى لا يوصف بمس شيء، وإن صح فيضرب مثلا لما جرت به الأقدار، وقال القاضي (أبو يعلى): تخمير الطين وخلط‍‌ بعضه ببعض مضاف إلى اليد التي خلق بها آدم وهذا التشبيه المحض.

* * *

الحديث التاسع: روى عبيد بن حنين قال: بينا أنا جالس في المسجد إذ جاء قتادة بن النعمان فجلس فتحدث، ثم قال: انطلق بنا إلى أبي سعيد الخدري فإنه قد أخبرت أنه قد اشتكى، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد فوجدناه مستلقيا واضعا رجله اليمنى على اليسرى، فسلّمنا عليه وجلسنا، فرفع قتادة يده إلى رجل أبي سعيد الخدري وقرصها قرصة شديدة فقال أبو سعيد: سبحان اللّه يا ابن أم أوجعتني، قال ذلك أردت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه تعالى لما قضى خلقه استلقى ثم وضع إحدى رجليه على الأخرى ثم قال: لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا» قال أبو سعيد: لا جرم لا أفعله أبدا(١).

قال عبد اللّه بن حنبل: ما رأيت هذا الحديث في دواوين الشريعة المعتمد عليها؛ وأما عبيد بن حنين فقال البخاري: لا يصح حديثه في أهل المدينة. وفي

__________________

(١) روى الحافظ‍‌ البيهقي هذا الخبر في (الأسماء والصفات) وقال: فهذا حديث منكر ولم أكتبه إلا من هذا الوجه وفليح بن سليمان ـ أحد رواته ـ مع كونه من شرط‍‌ البخاري ومسلم فلم يخرجا حديثه هذا في الصحيح وهو عند الحفاظ‍‌ غير محتج به، عن يحيى بن معين يقول: فليح بن سليمان لا يحتج بحديثه، عنه يقول: فليح ضعيف، وعن النسائي أنه قال: فليح ليس بالقوي. قال الشيخ: فإذا كان فليح بن سليمان المدني مختلفا في جواز الاحتجاج به عند الحفاظ‍‌ لم يثبت بروايته مثل هذا الأمر العظيم اه‍‌. وذكر أيضا علة عدم اجتماع عبيد بقتادة (ز).

الحديث علة أخرى وهي أن قتادة بن النعمان مات في خلافة عمر رضي اللّه تعالى عنه وعبيد بن حنين مات سنة خمس ومائة وله خمس وسبعون سنة في قول الواقدي، فتكون روايته عن قتادة بن النعمان منقطعة، قال الإمام أحمد: ثم لو صحّ‌ طريقه احتمل أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدّث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم فلم يفهم قتادة إنكاره.

ومن هذا الفن حديث رويناه أن الزبير سمع رجلا يحدّث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستمع له الزبير حتى إذا قضى الرجل حديثه قال الزبير: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‌؟ فقال الرجل: نعم، قال: هذا وأشباهه مما يمنعان أن نحدّث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد لعمري سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابتدأ بهذا الحديث فحدّثناه عن رجل من أهل الكتاب حدّثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قلت: وغالب الظن أن الإشارة في حديث الزبير إلى حديث قتادة فإن أهل الكتاب قالوا: إن اللّه تعالى لما خلق السماوات والأرض استراح فنزل قوله تعالى: (وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌) [ق: ٣٨] فيمكن أن يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حكى ذلك عنهم ولم يسمع قتادة أول الكلام.

وقد روى عبد الرّحمن بن أحمد في كتاب السنة قال: رأيت الحسن قد وضع رجله اليمنى على شماله وهو قاعد فقلت: يا أبا سعيد تكره هذه القعدة‌؟ فقال: قاتل اللّه اليهود، ثم قرأ قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمٰاوٰاتِ‌ وَالْأَرْضَ‌ وَمٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ‌ أَيّٰامٍ‌ وَمٰا مَسَّنٰا مِنْ‌ لُغُوبٍ‌ (٣٨)) [ق: ٣٨] فعرفت ما عنى به فأمسكت. قلت: وإنما أشار الحسن إلى ما ذكرناه عن اليهود.

وقد صحّ‌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما أنهم كانوا يستلقون ويضعون رجلا على رجل، وإنما يكره هذا لمن لا سراويل له واللّه أعلم.

* * *

الحديث العاشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أن رجلا من المشركين سبّ‌ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحمل عليه رجل من المسلمين فقتله، وقتل الرجل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما تعجبون من نصر اللّه تعالى ورسوله لقي اللّه تعالى متكئا فقعد له».

هذا حديث مقطوع بعيد عن الصحة، ولو كان له وجه كان المعنى: فأقبل اللّه تعالى عليه وأنعم.

* * *

الحديث الحادي عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض»(١).

قلت: الواجب علينا أن نعتقد أن ذات اللّه عزّ وجل لا تتبعض ولا يحويها مكان ولا توصف بالتغير ولا بالانتقال، وقد حكى أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري أنه قال: القدم هم الذين قدمهم اللّه لها من شرار خلقه وأثبتهم لها، وقال أبو منصور الأزهري: القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار، يقال لما قدم قدم ولما هدم هدم، ويؤيد هذا قوله: «وأما الجنة فينشئ لها خلقا».

ووجه ثان أن كل قادم عليها يسمى قدما فالقدم جمع قادم، ومن يرويه بلفظ‍‌ (الرجل) فإنه يقال: (رجل من جراد) فيكون المراد يدخلها جماعة يشبهون في كثرتهم الجراد فيسرعون التهافت فيها.

وقال القاضي (أبو يعلى): القدم صفة ذاتية، قال ابن الزاغوني: يقول إنما وضع قدمه في النار ليخبرهم أن أصنامهم تحترق وأنا لا أحترق. وهذا إثبات تبعيض وهو من أقبح الاعتقادات.

ورأيت أبا بكر بن خزيمة قد جمع كتابا في الصفات(٢). وبوّبه فقال: باب إثبات اليد، باب إمساك السماوات على أصابعه، باب إثبات الرجل وإن رغمت المعتزلة، ثم قال: قال اللّه تعالى: (أَلَهُمْ‌ أَرْجُلٌ‌ يَمْشُونَ‌ بِهٰا أَمْ‌ لَهُمْ‌ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ‌ بِهٰا) [الأعراف: ١٩٥] فأعلمنا أن ما لا يد له ولا رجل فهو كالأنعام.

قال ابن عقيل: تعالى اللّه أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، وليس الحق تعالى بذي أجزاء وأبعاض فيعالج بها، ثم إنه أليس يعمل في النار أمر وتكوينه حتى يستعين بشيء من ذاته ويعالجها بصفة من صفاته وهو القائل: (كُونِي بَرْداً وَسَلاٰماً) [الأنبياء:

٦٩] فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن مكون الأملاك والأفلاك، وقد صرح

__________________

(١) يقول جار اللّه الزمخشري في كتابه (الفائق في غريب الحديث): وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع، فكأنه قال: يأتيها أمر اللّه فيكفها عن طلب المزيد فترتدع ه‍‌. وفي أساس البلاغة: من المجاز «فيضع قدمه عليها» أي فيسكنها ويكسر سورتها كما يضع الرجل قدمه على الشيء المضطرب فيسكنه.

(٢) وهو الكتاب الذي يسميه (كتاب التوحيد)، والإمام فخر الدين الرازي يقول عنه: (وهو في الحقيقة كتاب الشرك) (ز).

بتكذيبهم فقال تعالى: (لَوْ كٰانَ‌ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً‌ مٰا وَرَدُوهٰا) [الأنبياء: ٩٩] فكيف يظن بالخالق أن يردها، تعالى اللّه عن تجاهل المجسّمة.

* * *

الحديث الثاني عشر: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ضرس الكافر في النار مثل أحد وكثافة جلده اثنان وأربعون ذراعا بذراع الجبار»(١).

قال أبو عمر الزاهد: الجبار هاهنا الطويل، يقال نخلة جبارة(٢). قال القاضي (أبو يعلى) نحملها على ظاهرها، والجبار هو اللّه عزّ وجل. قلت: وا عجبا أذهبت العقول إلى هذا الحد! أو يجوز أن يقال: إن الذراع اثنان وأربعون مرة حتى يبلغ جلد الكافر ويضاف إلى الذات القديمة! تعالى اللّه علوا كبيرا.

* * *

الحديث الثالث عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن مجاهد أنه قال: إذا كان يوم القيامة يذكر داود عليه الصلاة والسلام ذنبه فيقول اللّه تعالى كن أمامي فيقول يا رب ذنبي ذنبي، فيقول كن خلفي فيقول يا رب ذنبي فيقول له خذ بقدمي، وفي لفظ‍‌ عن ابن سيرين قال: إن اللّه تعالى ليقرب داود حتى يضع يده على فخذه.

والعجب من إثبات ذلك للحق سبحانه وتعالى بأقوال التابعين وما تصح عنهم ولو صحت فإنما يذكرونها عن أهل الكتاب كما يذكر وهب بن منبه؛ قال القاضي (أبو يعلى) نحمله على ظاهره لأننا لا نثبت قدما وفخذا هو جارحة.

واعجبا لقد كملوا هيئة البدن بإثبات فخذ وساق وقدم ووجه ويدين وأصابع وخنصر وإبهام وصعود ونزول، ويقولون تحمل على ظاهرها وليست جوارح.

__________________

(١) يقول الشيخ إسماعيل العجلوني في كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس): رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا وأحمد والطبراني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا، والترمذي عن أبي هريرة (بألفاظ‍‌ متقاربة).

(٢) قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) في كلامه على هذا الحديث: ونحن نقول إن لهذا الحديث مخرجا حسنا إن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم أراده وهو أن يكون الجبار ههنا الملك. قال اللّه تعالى: (وَمٰا أَنْتَ‌ عَلَيْهِمْ‌ بِجَبّٰارٍ) [ق: ٤٥] أي بملك مسلّط‍‌ والجبابرة الملوك، وهذا كما يقول الناس: هو كذا وكذا ذراعا بذراع الملك يريدون: بالذراع الأكبر، وأحسبه ملكا من ملوك العجم كان تام الذراع فنسب إليه.

وهل يجوز لعاقل أن يثبت للّه تعالى خلفا وأماما وفخذا! ما ينبغي أن نحدّث هؤلاء لأنا قد عرفنا الفخذ فيقال: ليس بفخذ والخلف ليس بخلف، ومثل هؤلاء لا يحدثون فإنهم يكابرون العقول كأنهم يحدثون الأطفال.

* * *

الحديث الرابع عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «يضحك اللّه إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة» وفي أفراد مسلم من حديث ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبر عن آخر من يدخل الجنة وضحك، فقيل: مم تضحك‌؟ فقال: «من ضحك رب العالمين».

اعلم أن الضحك له معان ترجع إلى معنى البيان والظهور وكل من أبدى عن أمر كان مستورا قيل قد ضحك، يقال: «ضحكت الأرض بالنبات» إذا ظهر فيها وانفتق عن زهره، كما يقال «بكت السماء» قال الشاعر:

كل يوم بأقحوان جديد

تضحك الأرض من بكاء السماء

وكذلك الضحك الذي يعتري البشر إنما هو انفتاح الفم عن الأسنان، وهذا يستحيل على اللّه سبحانه وتعالى فوجب حمله على معنى أبدى اللّه تعالى كرمه وفضله. ومعنى «ضحكت لضحك ربي» أبديت عن أسناني بفتح فمي لإظهار ربي كرمه وفضله. وقد روي في حديث موقوف «ضحك حتى بدت لهواته وأضراسه» ذكره الخلال في كتاب السنة. وقال المروزي: قلت لأبي عبد اللّه: ما تقول في هذا الحديث‌؟ قال: «يشفع» ثم يقول: على تقدير الصحة يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون ذلك راجعا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم كأنه ضحك حين أخبر بضحك الرب جلّ‌ جلاله حتى بدت لهواته وأضراسه وهذا هو الصحيح لو ثبت الحديث؛ والثني أن يكون تجوزا عن كثرة الكرم وسعة الرضا كما جوّز بقوله: «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».

قال القاضي (أبو يعلى) لا يمتنع الأخذ بظاهر الأحاديث وإمرارها على ظواهرها من غير تأويل.

قلت: وا عجبا قد أثبت للّه تعالى صفات بأحاديث آحاد وألفاظ‍‌ لا تصح وقد أثبت الأضراس، فما عنده من الإسلام خبر.

* * *

الحديث الخامس عشر: روى القاضي (أبو يعلى) عن عبد اللّه بن عمر موقوفا أنه قال: «خلق اللّه تعالى الملائكة من نور الذراعين والصدر».

وقد أثبت به القاضي ذراعين وصدرا للّه عزّ وجل. وهذا قبيح لأنه حديث ليس بمرفوع ولا يصح، وهل يجوز أن يخلق مخلوق من ذات القديم! هذا أقبح مما ادعاه النصارى.

* * *

الحديث السادس عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يدنى المؤمن من ربه فيضع عليه كنفه فيقول تعرف ذنب كذا».

قال العلماء: يدنيه من رحمته ولطفه، قال ابن الأنباري: كنفه حياطته وستره، يقال: قد كنف فلان فلانا إذا حاطه وستره وكل شيء ستر شيئا فقد كنفه، ويقال للترس كنيف لأن يستر صاحبه.

قال القاضي (أبو يعلى) يدنيه من ذاته. وهذا قول من لم يعرف اللّه سبحانه وتعالى ولا يعلم أنه لا يجوز عليه الدنو الذي هو مسافة. وكذلك قوله: «إنه ليدنو يوم عرفة» أي يقرب بلطفه وعفوه.

* * *

الحديث السابع عشر: روى مسلم في أفراده من حديث معاوية بن الحكم قال: كانت لي جارية ترعى غنما لي، فانطلقت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة فصككتها صكة، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعظم ذلك عليّ‌ فقلت: ألا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فقال لها: «أين اللّه تعالى‌؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: رسول اللّه، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «اعتقها فإنها مؤمنة».

قلت: قد ثبت عند العلماء أن اللّه تعالى لا تحويه السماء ولا الأرض ولا تضمه الأقطار، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق جلّ‌ جلاله عندها.

* * *

الحديث الثامن عشر: رواه أبو رزين قال: قلت: يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه‌؟ قال: «كان في عماء ما تحته هواء ولا فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء»(١).

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير في تهذيب الآثار والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في العظمة (جمع الجوامع للسيوطي).

العماء السحاب، واعلم أن الفوق والتحت يرجعان إلى السحاب لا إلى اللّه تعالى و «في» بمعنى فوق، والمعنى: كان فوق السحاب بالتدبير والقهر. ولما كان القوم يأنسون بالمخلوقات سألوا عنها، والسحاب من جملة خلقه، ولو سئل عما قبل السحاب لأخبر أن اللّه تعالى كان ولا شيء معه، كما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «كان اللّه سبحانه وتعالى ولا شيء معه» ولسنا نختلف أن الجبار تعالى لا يعلوه شيء من خلقه بحال وأنه لا يحل في الأشياء بنفسه ولا يزول عنها، لأنه لو حلّ‌ بها كان منها ولو زال عنها لنأى عنها ..

* * *

الحديث التاسع عشر: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول من يدعوني فأستجيب له».

روى حديث النزول عشرون صحابيا، وقد سبق القول إنه يستحيل على اللّه عزّ وجل الحركة والنقلة والتغير، فيبقى الناس رجلين:

أحدهما: المتأول بمعنى أنه يقرب برحمته، وقد ذكر أشياء بالنزول فقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ‌ بَأْسٌ‌ شَدِيدٌ) [الحديد: ٢٥] وإن كان معدنه في الأرض، وقال تعالى: (وَأَنْزَلَ‌ لَكُمْ‌ مِنَ‌ الْأَنْعٰامِ‌ ثَمٰانِيَةَ‌ أَزْوٰاجٍ‌) [الزّمر: ٦] ومن لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في الجمل.

والثاني: الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه، والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من علو إلى سفل وهذا لا يجوز على اللّه عزّ وجل.

قال ابن حامد: هو على العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل. وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على اللّه تعالى. وقال القاضي (أبو يعلى): النزول صفة ذاتية ولا نقول نزول انتقال. وهذا مغالط‍‌ ومنهم من قال يتحرك إذا نزل. وما يدري أن الحركة لا تجوز على اللّه تعالى. وقد حكوا عن الإمام أحمد ذلك وهو

كذب عليه(١). ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته كانت صفته كل ليلة تتجدد(٢). وصفاته قديمة كذاته.

* * *

الحديث العشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي فقال: إني مجهود، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من يضيفه هذه الليلة‌؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول اللّه، فانطلق به إلى امرأته فقال: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، فقال: فعلليهم بشيء إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف فلما أصبح غدا على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «لقد عجب اللّه تعالى من صنيعكما بضيفكما الليلة».

وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «عجب اللّه من قوم جر بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة».

قال العلماء: العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان مما لا يعلمه فيستعظمه وهو لا يليق بالخالق جلّ‌ جلاله، لكن معناه: عظم قدر ذلك الشيء عند اللّه لأن

__________________

(١) حكى ذلك أبو يعلى في طبقاته عن أحمد بطريق أبي العباس الإصطخري، وهو كما قال المصنف نقل مفترى. وعجيب من ابن تيمية كتبه في معقوله ـ غير منكر ـ ما يرويه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب محمد بن كرام في مسائله عن أحمد وغيره في حقه سبحانه ... يتكلم ويتحرك .. اه‍‌. ونقل أيضا عن نقض الدارمي ـ ساكتا أو مقرا ـ الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط‍‌ ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط‍‌ ويقوم ويجلس إذا شاء لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك وكل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة أه‍‌ (أي ابن تيمية) حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم ه‍‌.

(٢) مما يقوله ابن حزم الظاهري في حديث النزول: هذا إنما هو فعل يفعله اللّه تعالى في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين، وهذا معهود في اللغة تقول: نزل فلان عن حقه لي بمعنى وهبه لي وتطوّل به علي، ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علق التنزل المذكور بوقت محدود وصحّ‌ أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حينئذ، وقد علمنا أن ما لم يزل فليس متعلقا بزمان البتة وقد بيّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض ألفاظ‍‌ الحديث المذكور ما ذلك الفعل وهو أن ذكر عليه السلام أن اللّه يأمر ملكا ينادي في ذلك الوقت بذلك، وأيضا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصحّ‌ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك الوقت لأهل كل أفق، وأما من جعل ذلك نقلة فقد قدّمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم اه‍‌ (ز).

المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده، ومعنى السلاسل أكرهوا على الطاعة التي بها يدخلون، وقال ابن الأنباري: معنى عجب ربك: زادهم إنعاما وإحسانا فعبر في هذا الحديث بالعجب عن ذلك.

* * *

الحديث الحادي والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «للّه أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها».

قال المصنف: لما كان مسرورا بشيء راضيا قيل له فرح، والمراد الرضا بتوبة التائب، ولا يجوز أن يعتقد في اللّه سبحانه وتعالى التأثر الذي يوجد في المخلوقين، فإن صفات الحق تعالى قديمة لا تحدث له صفة.

* * *

الحديث الثاني والعشرون: روى مسلم في أفراده من حديث أبي موسى قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إن اللّه تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط‍‌ ويرفعه، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»(١).

قوله: «حجابه النور» ينبغي أن يعلم أن هذا الحجاب للخلق عنه لأنه لا يجوز أن يكون محجوبا، لأن الحجاب يكون أكبر مما يستره وكما أنه لا يجوز أن يكون لوجوده ابتداء ولا انتهاء لا يصح أن يكون لذاته نهاية وإنما المراد أن الخلق محجوبون عنه كما قال تعالى: (كَلاّٰ إِنَّهُمْ‌ عَنْ‌ رَبِّهِمْ‌ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‌) (١٥) [المطفّفين: ١٥] وأما السبحات فجمع سبحة ويقال إن السبحة جلال وجهه ومنه قوله: «سبحان اللّه» إنما هو تعظيم له وتنزيه.

وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمنع إطلاق حجاب من دون اللّه تعالى لا على وجه الحد والمحاذاة. وهذا كلام مختلط‍‌ يرضى به العوام.

* * *

__________________

(١) يقول النووي في شرح صحيح مسلم: والتقدير: لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورا أو نارا وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته (ز).

الحديث الثالث والعشرون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل جمعة في رمال الكافور وأقربهم منه مجلسا أسرعهم إليه يوم الجمعة».

قوله: «في رمال الكافور» إشارة إلى الحاضرين ثمّ‌ في رمال الكافور وأقربهم منه أي أحظاهم عنده.

وفي حديث آخر: «المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرّحمن». وقال بعضهم: «يمين العرش» وفي حديث سوق الجنة: «ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره اللّه محاضرة» ويروى خاصره بالخاء المعجمة. وهذا يرويه يوسف بن عبد اللّه وهو خطأ والمخاصرة المصافحة. وقال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع أن يكون الحق تعالى في رمال الكافور. فقد أقرّ بالحصر، ثم قال: لا على وجه الانتقال. وهذا تلاعب، ثم قال: ولا يمتنع قربهم من الذات، وهذا يضيع معه الحديث، واستدل بقوله: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه تعالى» وقال: الخلوة عبارة عن القرب ويجوز القرب من الذات. وقد سبق ردّ هذا.

* * *

الحديث الرابع والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: جاء حبر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد إن اللّه يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع، وفي لفظ‍‌ والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال: وَمٰا قَدَرُوا اللّٰهَ‌ حَقَّ‌ قَدْرِهِ‌ [الأنعام: ٩١].

قلت: وظاهر ضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم الإنكار(١) ، واليهود مشبهة، ونزول الآية دليل على إنكار الرسول صلى اللّه عليه وسلم عليهم، وفي معنى هذا الحديث قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف يشاء» ولما كان القلب بين إصبعين ذليلا مقهورا دلّ‌ هذا على أن القلوب مقهورة لمقلبها.

وقال القاضي (أبو يعلى): غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع صفات راجعة إلى الذات لأنّا لا نثبت أصابع هي جارحة ولا أبعاض. وهذا كلام

__________________

(١) يستبعد ابن خزيمة ـ وهو ممن وقع في خطأ التشبيه ـ أن يكون ضحك الرسول صلى اللّه عليه وسلم إنكارا، وقد نقض الحافظ‍‌ ابن حجر زعمه هذا في الفتح (ز).

مخلط‍‌ لأنه إما أن يثبت جوارح وإما أن يتأولها. وأما حملها على ظاهرها فظاهرها الجوارح ثم يقول: ليست أبعاضا. فهذا كلام قائم قاعد ويضيع الخطاب لمن يقول هذا.

* * *

الحديث الخامس والعشرون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يطوي اللّه عزّ وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ...»(١). هكذا رواه مسلم وهي أتم الروايات؛ وقد ثبت بالدليل القاطع أن يد الحق سبحانه وتعالى ليست جارحة وأن قبضته الأشياء ليست مباشرة ولا له كف، وإنما قربه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الأفهام بما يدركه الحس، وأما رواية الشمال فضعيفة بالمرة، وقد صحّ‌ عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وكلتا يديه يمين مباركة»(٢). وهذا يوهن ذكر الشمال.

الحديث السادس والعشرون: رواه الإمام أحمد رحمه اللّه في مسنده من حديث أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ‌ لِلْجَبَلِ‌) [الأعراف: ١٤٣] قال: قال هكذا يعني أنه أخرج طرف الخنصر، وفي لفظ‍‌ فأومأ بخنصره فساخ. وروى ابن حامد (فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ‌ لِلْجَبَلِ‌) [الأعراف: ١٤٣] قال: خرج منه أول مفصل من خنصره.

هذا الحديث تكلم فيه علماء الحديث وقالوا: لم يروه عن ثابت غير حماد بن سلمة، وكان ابن العوجاء الزنديق قد أدخل على حماد أشياء فرواها في آخر عمره، ولذلك تجافى بعض أصحاب الصحيح الإخراج عنه، ومخرج الحديث سهل وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقربه إلى الأفهام بذكر الحسيات فوضع يده على خنصره إشارة إلى أن اللّه تعالى أظهر اليسير من آياته.

* * *

__________________

(١) في الذي بين أيدينا من نسخ صحيح مسلم زيادة «ثم يطوي الأرضين بشماله» (ز).

(٢) يقول القتيبي عند الكلام على هذا الحديث: إنما أراد بذلك معنى التمام والكمال لأن كل شيء فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش والتمام، وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من النقص، ويجوز أن يريد العطاء باليدين جميعا لأن اليمنى هي المعطية فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما وإلى هذا ذهب المرار حين قال:

وأن على الإوانة من عقيل

فتى كلتا اليدين له يمين (ز)

الحديث السابع والعشرون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عكرمة أنه قال: إذا أراد اللّه عزّ وجل أن يخوّف عباده أبدى عن بعضه إلى الأرض فعند ذلك تتزلزل وإذا أراد اللّه أن يدمدم على قوم تجلّى لهم.

قال القاضي (أبو يعلى): «أبدى عن بعضه» هو على ظاهره وهو راجع إلى الذات على وجه لا يفضي إلى التبعيض.

قلت: ومن يقول أبدى عن بعض ذاته وما هو بعض لا يكلم وإنما المراد أبدى عن آياته.

* * *

الحديث الثامن والعشرون: روى أبو الأخمص الجمحي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له: لعلك تأخذ موساك فتقطع أذن بعضها فتقول هذه نحر، وتشق أذن الأخرى وتقول صرم‌؟ قال: نعم، قال: «فلا تفعل فإن موسى اللّه تعالى أحد من موساك وساعد اللّه تعالى أشد من ساعدك».

قال القاضي (أبو يعلى): لا يمتنع حمل الخبر على ظاهره في إثباته الساعد صفة لذاته. قلت: المراد بالساعد القوة لأن قوة الإنسان في ساعده وكان ينبغي أن يثبت الموسى أيضا.

* * *

الحديث التاسع والعشرون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرّحمن».

قد ذكرنا صفة العين في الآيات المذكورة قبل الأحاديث، والمراد بالحديث أن اللّه تعالى يشاهد المصلي فليتأدب وكذلك قوله: «فإن اللّه تعالى قبل وجهه» أي يراه.

* * *

الحديث الثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال صلى اللّه عليه وسلم: «من هذه‌؟» قالت: فلانة تذكر من صلاتها فقال صلى اللّه عليه وسلم: «مه عليكم ما تطيقون فاللّه لا يمل اللّه تعالى حتى تملّوا» وفي لفظ‍‌ «لا يسأم اللّه تعالى حتى تسأموا».

قال العلماء: معنى الحديث لا يمل اللّه تعالى وإن مللتم كما قال الشاعر:

صليت مني هذيل بخرق

لا يملّ‌ الشرّ حتى يملوا

المعنى لا يملّ‌ وإن ملّوا وإلا لم يكن له فضل عليهم. وقال قوم: من ملّ‌ من شيء تركه، والمعنى لا يترك الثواب ما لم يتركوا العمل، وأما الملل الذي هو كراهة الشيء والاستثقال له ونفور النفس عنه والسآمة منه فمحال في حقه تعالى لأنه يقتضي تغيره وحلول الحوادث في حقه.

* * *

الحديث الحادي والثلاثون: روت خولة بنت حكيم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن آخر وطأة وطئها الرّحمن بوجّ‌».

وج: واد بالطائف وهي آخر وقعة أوقعها اللّه تعالى بالمشركين على يد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» مأخوذ من القدم وإلى هذا ذهب ابن قتيبة وغيره، قال القاضي (أبو يعلى) غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره وأن ذلك معنى بالذات دون الفعل لأنّا حملنا قوله ينزل ويضع قدمه في النار على الذات. وهذا الرجل يشير بأصولهم إلى ما يوجب التجسيم والانتقال والحركة وهذا مع التشبيه بعيد عن اللغة ومعرفة التواريخ وأدلة المعقول وإنما اغترّ بحديث روي عن كعب أنه قال: «وجّ‌ مقدس منه عرج الرب إلى السماء ثم قضى خلق الأرض» وهذا لو صحّ‌ عن كعب احتمل أن يكون حاكيا عن أهل الكتاب وكان يحكى عنهم كثيرا ولو قدرناه من قوله كان معناه أن ذلك المكان آخر ما استوى من الأرض لما خلقت ثم عرج الرب أي عمد إلى خلق السماء وهو قوله تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ وَهِيَ‌ دُخٰانٌ‌) [فصّلت: ١١] ويروى عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «لما أسري بي مرّ بي جبريل عليه الصلاة والسلام حتى أتى الصخرة فقال: يا محمد من هاهنا عرج ربك إلى السماء» وهذا يرويه بكر بن زياد وكان يضع الحديث على الثقات. فإن قيل قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: (اِسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: ٢٩] صعد، قلنا: صعد أمره إذا لا يجوز عليه الانتقال والتغير.

* * *

واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب:

أحدها: إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: ٢٢] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف.

المرتبة الثانية: التأويل، وهو مقام خطر(١).

__________________

(١) يقول في شرح المشكاة: قال النووي في شرح مسلم: في هذا الحديث (حديث النزول) وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان مشهوران: فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه اللّه سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين. وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك عما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ‍‌ عن ظاهره، وإنما اختلفوا هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته من غير أن نؤوله بشيء آخر وهو مذهب أكثر أهل الخلف وهو تأويل تفصيل ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح معاذ اللّه أن يظن بهم ذلك وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك لكثرة المجسمة والجهمية وغيرهما من فرق الضلال واستيلائهم على عقول العامة، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم ومن ثمة اعتذر كثير منهم وقالوا: لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك وقد علمت أن مالكا والأوزاعي وهما من كبار السلف أوّلا الحديث تأويلا تفصيليا وكذلك سفيان الثوري أوّل الاستواء على العرش بقصد أمره ونظيره: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: ٢٩] أي قصد إليها ومنهم الإمام جعفر الصادق، بل قال جمع منهم ومن الخلف: أن معتقد الجهة كافر كما صرّح به العراقي وقال إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني، وقد اتفق سائر الفرق على تأويل نحو (وَهُوَ مَعَكُمْ‌ أَيْنَ‌ مٰا كُنْتُمْ‌) [الحديد: ٤] (مٰا يَكُونُ‌ مِنْ‌ نَجْوىٰ‌ ثَلاٰثَةٍ‌ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ‌) [المجادلة: ٧] الآية (فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ‌ وَجْهُ‌ اللّٰهِ‌) [البقرة: ١١٥] وَنَحْنُ‌ أَقْرَبُ‌ إِلَيْهِ‌ مِنْ‌ حَبْلِ‌ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] و «قلب المؤمن بين إصبعين من أصبع الرّحمن» و «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» وهذا الاتفاق يبين لك صحة ما اختاره المحققون أن الوقف على (الرّٰاسِخُونَ‌ فِي الْعِلْمِ‌) لا الجلالة. قلت: الجمهور على أن الوقف على (إلا اللّه) وعدوا وقفه وقفا لازما وهو الظاهر لأن المراد بالتأويل معناه الذي أراده تعالى وهو في الحقيقة لا يعلمه إلا اللّه جلّ‌ جلاله ولا إله غيره، وكل من تكلم فيه تكلم بحسب ما ظهر له ولم يقدر أحد أن يقول إن هذا التأويل هو مراد اللّه جزما ففي التحقيق الخلاف لفظي ولهذا اختار كثيرون من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين من الأشياء التي تليق باللفظ‍‌ ويكلون تعيين المراد بها إلى علمه تعالى، وهذا توسط‍‌ بين المذهبين وتلذذ بين المشربين واختار ابن دقيق العيد توسطا آخر فقال: إن كان التأويل من المجاز البيّن الشائع سلوكه من غير توقف أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدمه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين. قلت: التوقف فيها لعدم ترجيح أحد الجانبين مع أن التوقف مؤيّد بقول السلف ومنهم الإمام الأعظم اه‍‌.

والمرتبة الثالثة: القول فيها بمقتضى الحس، وقد عمّ‌ جهلة الناقلين إذ ليس لهم حظ‍‌ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على اللّه تعالى وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس، وإليه أشار القاضي (أبو يعلى) بقوله: لا يمتنع أن يحمل التي وطئها الحق تعالى على أصولنا وأنه معنى يتعلق بالذات. وأصولهم على زعمه ترجع إلى الحس.

ولو فهموا أن اللّه تعالى لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا تغير ما بنوا على الحسيات، والعجب أنه يقر بهذا القول ثم يقول: «من غير نقلة ولا حركة» فينقض ما بنى.

ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش: إن اللّه تعالى قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش.

__________________

ـ ويقول في شرح المشكاة أيضا: والحاصل أن السلف والخلف مؤولون لإجماعهم على صرف اللفظ‍‌ عن ظاهره ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى اللّه تعالى وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين ه‍‌.

وفي (إشارة النبيه في كشف شبه أهل التشبيه إملاء الشيخ نجم الدين أبي الفتح نصر اللّه بن العز بن سعد اللّه بن نجم الكاتب البغدادي): وقد تأول العلماء والأدباء والشعراء قديما وحديثا ولذلك قول بعضهم:

أقول بالخد خال حين أذكره

خوف الرقيب وما بالخد من خال

أبكي إلى الشرق إن كانت منازلهم

يجانب الغرب خوف القيل والقال

ومن قال: (لا أقول بالتأويل ولا أشبه) فقد تأوّل لأنه إذا عدل عن معنى النزول عنده ومعنى اليمين في حديث «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» إلى غير ذلك فقد تأول فلا محيص لكم عن التأويل بحال اه‍‌.

ويقول العلامة الآلوسي في تفسيره عند الكلام على الوجه: والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف واللّه تعالى أعلم بمراده ه‍‌. وقال أيضا: وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى اللّه مثل قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ‌ لَكُمْ‌ أَيُّهَ‌ الثَّقَلاٰنِ‌) (٣١) [الرّحمن: ٣١]، وقوله صلى اللّه عليه وسلم: «الحجر الأسود يمين اللّه في أرضه فمن قبّله أو صافحه فكأنما صافح اللّه تعالى وقبّل يمينه» فأجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته كما قال السلف في اليمين اه‍‌.

وقد عقد ابن المعلم في كتابه (نجم المهتدي ورجم المعتدي) بابا سرد فيه جماهير المؤولين (فيما يظهر فيه وجه الكلام) من الصحابة والتابعين وغيرهم (ز).

قلت: ونحن نحمد اللّه إذ لم يبخس حظنا من المنقولات ولا من المعقولات، ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا، فعابنا الناس بكلامهم.

* * *

الحديث الثاني والثلاثون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إلى اللّه تعالى بمثل ما خرج منه»(١). وهو القرآن وفي حديث عفان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «فضيلة القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه إن القرآن منه خرج وإليه يعود» والمعنى وصل إلينا من عنده وإليه يعود فيرفع.

* * *

الحديث الثالث والثلاثون: روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف سنة فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم به».

هذا حديث موضوع يرويه إبراهيم بن المهاجر عن عمر بن حفص وأما عمر بن حفص فقال الإمام أحمد بن حنبل: حرقت أحاديثه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم بن حبان الحافظ‍‌: هذا متن موضوع.

* * *

الحديث الرابع والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك»(٢). وفي لفظ‍‌ أخرجه البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن الرحم شجنة من الرّحمن».

__________________

(١) الذي في الجامع الكبير للسيوطي: «ما تقرّب العباد إلى اللّه بشيء أحب إليه مما خرج منه» ابن السني عن زيد بن أرطأ عن أبي أمامة.

(٢) في شرح صحيح مسلم للإمام النووي: قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض فسمّى ذلك الاتصال رحما، والمعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة واصليها وعظيم إثم قاطعيها بعقوقهم (ز).

قال أبو عبيد: الشجنة كالغصن من الشجرة، ومعنى شجنة أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق ولا شجر تشجن إذا التف بعضها ببعض.

قلت: لا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين: إما أن يراد أن اللّه تعالى يراعي الرحم فيصل من يصلها ويقطع من قطعها ويأخذ لها حقها كما يراعي القريب قرابته كأنه يزيد في المراعاة على الأجانب أو أن يراد أن الرحم حروف الرّحمن فكأنه عظم قدرها بهذا الاسم ويؤكد هذا حديث عبد الرّحمن بن عوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «قال اللّه تعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» وقد ورد هذا الحديث بلفظ‍‌ لم يخرج في الصحاح «الرحم شجنة من الرّحمن تعلق بحقوي الرّحمن تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني» وفي لفظ‍‌ «الرحم شجنة آخذة بحقو الرّحمن» وفي لفظ‍‌ «لما خلق اللّه تعالى الخلق قامت الرحم فأخذت بحقو الرّحمن فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة». وهذه كلها أمثال ترجع إلى ما بيّنّا، ومعنى تعلقها بحقو الرّحمن الاستجارة والاعتصام(١).

قال أبو بكر البيهقي: الحقو الإزار، والمعنى تتعلق بعزه.

قال ابن حامد: يجب التصديق بأن للّه حقوا فتأخذ الرحم بحقوه، قال: وكذلك نؤمن بأن للّه تعالى جنبا لقوله تعالى: (عَلىٰ‌ مٰا فَرَّطْتُ‌ فِي جَنْبِ‌ اللّٰهِ‌) [الزّمر: ٥٦].

وهذا لا فهم له أصلا، كيف يقع التفريط‍‌ في جنب الذات، نعوذ باللّه من سوء الفهم.

* * *

الحديث الخامس والثلاثون: روى البخاري في صحيحه(٢) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما عذبته».

قال أبو سليمان الخطابي: وفي الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان للّه تعالى اختص فيهما، لا يشركه فيهما أحد ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما، لأن صفة

__________________

(١) قال في النهاية: والحقو فيه مجاز وتمثيل ومنه قولهم: عزت بحقو فلان إذا استجرت به واعتصمت اه‍‌ وفي أساس البلاغة: لاذ بحقويه إذا فزع إليه.

(٢) يقول العجلوني في كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس:

رواه مسلم وابن حبان وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة والحاكم (بألفاظ‍‌ متقاربة)، وممن أخرجه بلفظ‍‌ الترجمة القضاعي عن أبي هريرة والحكيم الترمذي عن أنس ه‍‌. ولم يذكر البخاري فليحرر.

المخلوق التواضع والتذلل، وضرب الإزار والرداء مثلا، يقول واللّه تعالى أعلم: كما لا يشرك الإنسان في ردائه وإزاره أحد كذلك لا يشركه في الكبرياء والعظمة مخلوق.

* * *

الحديث السادس والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ‌ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».

فذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا هي صفة زائدة عن الذات.

وهذا قول مبتدع ينوع به التشبيه، لا يفرق بين الذات والنفس وما المانع أن يكون المعنى: ذكرته أنا، وقد سبق هذا في الكلام على الآيات. والتقريب والهرولة توسع في الكلام(١). كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ‌ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا) [الحجّ‌: ٥١] لا يراد به المشي.

* * *

الحديث السابع والثلاثون: روى أبو سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى جميل يحب الجمال»(٢).

قال العلماء: الجميل: المجمل بتحسين الصور والأخلاق والإحسان والذي أراه أن الجميل الذي أوصافه تامة مستحسنة. وقد فسّر القاضي (أبو يعلى) بما لا يليق بالحق سبحانه وتعالى فقال: غير ممتنع وصفه بالجمال، فإن ذلك راجع إلى الذات، لأن الجمال في معنى الحسن قال: وقد تقدم قوله صلى اللّه عليه وسلم: «رأيت ربي في أحسن صورة».

* * *

__________________

(١) في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة عند الكلام على التقرب والهرولة: ونحن نقول: إن هذا تمثيل وتشبيه وإنما أراد: من أتاني مسرعا بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من إتيانه.

(٢) أثبت العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس هذا الحديث وقال رواه أحمد عن أبي ريحانة، ومسلم والترمذي عن ابن مسعود، وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني عن أبي أمامة وابن عمر وجابر، وابن عدي في الكامل عن ابن عمر.

الحديث الثامن والثلاثون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ اللّه تعالى من أهل الجنة والنار أقبل يمشي في ظلل من الغمام والملائكة، فيقف على أول درجة فيسلم عليهم فيردون عليه السلام فيقول: سلوني، فيقولون: ماذا نسأل، وعزتك وجلالك وارتفاعك في علو مكانك لو أنك قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم وسقيناهم ولم ينقص ما عندنا، فيقول تعالى بلى سلوني فيقولون: نسألك رضاك، قال تعالى: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيفعل هذا بأهل كل درجة حتى ينتهي إلى مجلسه.

هذا حديث مكذوب به على عمر. وبعد فكيف يثبت للّه تعالى صفة بقول عمر!. قال القاضي (أبو يعلى): يشهد لحديث عمر قوله تعالى: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: ٢١٠] ولم يدر أن المعنى يأتيهم اللّه بظلل من الغمام.

الحديث التاسع والثلاثون: روى عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن المقام المحمود، قال صلى اللّه عليه وسلم: «وعدني ربي عزّ وجل بالقعود على العرش».

هذا حديث لا يصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قال ابن حامد: يجب الإيمان بما ورد به من المماسة والقرب من الحق تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم في إقعاده على العرش، قال: وقال ابن عمر: (وَإِنَّ‌ لَهُ‌ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ) [ص: ٢٥] قال: ذكر الدنو منه حتى يمس بعضه. وهذا كذب على ابن عمر، ومن ذكر تبعيض الذات كفر بالإجماع.

* * *

الحديث الأربعون: روى الدارقطني من حديث أبي إسحاق عن عبد اللّه بن خليفة عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أن امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: ادع اللّه تعالى أن يدخلني الجنة فعظم الرب عزّ وجل فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأن له أطيطا كأطيط‍‌ الرحل الجديد إذا ركب من ثقله».

هذا حديث مختلف جدا وقد رواه أبو إسحاق عن ابن خليفة عن ابن عمر قال: إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط‍‌ كأطيط‍‌ الرحل، رواه ابن جرير أن عبد اللّه بن خليفة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصبعه فجمعها وإن له لأطيطا كأطيط‍‌ الرحل إذا ركب من ثقله» هذا على ضد اللفظ‍‌ الأول وكل ذلك من تخليط‍‌

الرواة وسوء الحفظ‍‌ والأليق فما يفضل منه مقدار أربع أصابع والمعنى أنه قد ملأه بهيبته وعظمته، ويكون هذا ضرب مثل لقدر عظمة الخالق جلّ‌ جلاله وقول الرواة: «إذا قعد» و «إذا جلس» من تغييرهم ومن تعبيرهم بما يظنونه كما قال القائل «ثم استوى على العرش» قعد، وإنما قلنا هذا لأن الخالق تعالى لا يجوز أن يوصف بالجلوس فيفضل ذلك الشيء لأن هذه صفة الأجسام.

* * *

الحديث الحادي والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن اللّه تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار». انفرد بلفظ‍‌ الصوت حفص بن غياث وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت وسئل الإمام أحمد عن حفص قال: كان يخلط‍‌ في حديثه.

وفي الحديث الصحيح: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفا». وفي حديث ابن مسعود: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا» وليس في الصحيح «سمع صوته أهل السماء».

* * *

الحديث الثاني والأربعون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لما كلم اللّه موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه، فقال له: يا موسى إني كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك، فلما رجع إلى بني إسرائيل قالوا: صف لنا كلام الرّحمن، قال: لا أستطيع، قالوا: قرّب لنا، قال: ألم تروا صوت الصواعق التي تقبل بأحلى كلام سمعتموه.

هذا حديث لا يصح، يرويه علي بن عاصم عن الفضل بن عيسى قال النسائي: علي بن عاصم متروك الحديث، وقال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب.

* * *

الحديث الثالث والأربعون: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أنه قال: الساجد يسجد على قدم الرّحمن. هذا قول تابعي وهو مثل للقرب من فضل اللّه تعالى. وأثبت القاضي (أبو يعلى) بهذا وصف قدم وأنه يسجد على قدمه حقيقة لا على وجه المماسة.

* * *

الحديث الرابع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجه في جنة عدن».

الرائي في جنة عدن لا المرئي لأنه لا تحيط‍‌ به الأمكنة.

وقال القاضي (أبو يعلى): ظاهر الحديث أن المرئي في جنة عدن. وهذا التجسيم المحض. ورداء الكبرياء ما له من الكبرياء والعظمة، وكأنه إن منعهم فلعظمته وإن شاء كشف لهم؛ وقد تكلمنا على الوجه في الآيات وقلنا المراد هو.

* * *

الحديث الخامس والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «لما قضى اللّه تعالى الخلق كتب في كتابه فهو عنده(١) فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ‍‌ «سبقت».

قال القاضي (أبو يعلى) ظاهر قوله «عنده» القرب من الذات.

واعلم أن القرب من الحق تعالى لا يكون بمسافة، إنما ذلك من صفة الأجسام، وقد قال تعالى: (مُسَوَّمَةً‌ عِنْدَ رَبِّكَ‌) [هود: ٨٣].

* * *

الحديث السادس والأربعون: روى عن بعض التابعين أنه قال: خلق اللّه آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده.

هذا لا يثبت عن قائله، وقد تكلمنا على قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥].

* * *

الحديث السابع والأربعون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (وَسِعَ‌ كُرْسِيُّهُ‌ السَّمٰاوٰاتِ‌ وَالْأَرْضَ‌) [البقرة: ٢٥٥] أنه قال: كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره.

رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس، ورفعه منهم شجاع بن مخلد(٢). فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط‍‌. ومعنى الحديث أن الكرسي

__________________

(١) يقول العلامة العيني في شرح صحيح البخاري: والعندية ليست مكانية بل هو إشارة إلى كمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم (ز).

(٢) يقول الحافظ‍‌ ابن حجر في (تقريب التهذيب): شجاع بن مخلد الفلاس أبو الفضل البغوي نزيل بغداد صدوق وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف فذكره بسببه العقيلي في الضعفاء (ز).

صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير، قال الضحاك: الكرسي الذي تجعل عليه الملوك أقدامهم، وقال القاضي (أبو يعلى): القدم قدم الذات وهي التي يضعها في النار.

الحديث الثامن والأربعون: حديث العباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، واللّه تعالى فوق ذلك».

هذا الحديث لا يصح، تفرّد به يحيى بن العلاء، قال الإمام أحمد: هو كذاب يضع الحديث.

وقد تكلمنا في الفوق في قوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: ١٨].

قال القاضي (أبو يعلى): المراد من الفوقية استواء الذات على العرش. وهذا الكلام أصله التجسيم.

* * *

الحديث التاسع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل اللّه إلا الطيب فإن اللّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل».

وفي لفظ‍‌ أخرجه مسلم «فتربو في كف الرّحمن حتى تكون أعظم من الجبل».

قال العلماء: هذا خطاب للناس بما يعلمونه ويفهمونه من الأخذ والتربية والنمو ، ولما كان التناول باليد والقبض بالكف خاطبهم بما يعقلون، وإنما جرى ذكر اليمين لأنها مرصدة لما عزّ من الأمور؛ ومعنى التربية المضاعفة.

* * *

الحديث الخمسون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ذكر الدجال فقال: «ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»(١).

__________________

(١) لفظ‍‌ الحديث في صحيح البخاري «أن اللّه ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه وأن المسيح الدجال أعور عين اليمنى» وقد قال الحافظ‍‌ ابن حجر: إن الإشارة إلى عينه صلى اللّه عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الإلهية

قال العلماء: إنما أراد تحقيق وصفه بأنه لا يجوز عليه النقص، ولم يرد إثبات جارحة، لأنه لا مدح في إثبات جارحة، بل كأنه قال: إلا ربكم ليس بذي جوارح يتسلط‍‌ عليها النقائص، وهذا مثل نفي الولد عنه لأنه يستحيل عليه التجزي. ولو كانت الإشارة إلى صورة كاملة لم يكن في ذلك دليل على الإلهية ولا القدم، فإن الكامل في الصورة كثير.

* * *

الحديث الحادي والخمسون: روى البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه تعالى قال: ما يزال عبدي يتقرب إليّ‌ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته».

قوله: «كنت سمعه وبصره» مثل، وله أربعة أوجه:

أحدها: كنت كسمعه وبصره فهو يحب طاعتي كما يحب هذه الجوارح.

الثاني: أن كليته مشغولة بي فلا يصغي إلى ما يرضيني ولا يبصر إلا عن أمري.

الثالث: أني أحصل له مقاصده كما ينالها بسمعه وبصره ويده اللواتي تعينه، وأما التردد فخطاب لنا بما نعقل.

* * *

الحديث الثاني والخمسون: روى جبير بن مطعم قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول اللّه جهدت الأنفس وجاع العيال وتهتكت الأموال وهلكت

__________________

ـ وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه ه‍‌. وقال الفخر الرازي في (أساس التقديس) عند الكلام على هذا الحديث: وأما هذا الخبر فمشكل لأن ظاهره يقتضي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أظهر الفرق بين الإله تعالى وبين الدجال بكون الدجال أعور وكون اللّه تعالى ليس بأعور وذلك بعيد، وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى وجب أن يعتقد أن الكلام كان مسبوقا بمقدمة لو ذكرت لزال هذا الإشكال، أليس راوي هذا الحديث هو ابن عمر ثم إن المشهور أن ابن عمر لما روى حديث «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» طعنت عائشة رضي اللّه عنها فيه وذكرت أن هذا الكلام من الرسول كان مسبوقا بكلام آخر واحتجّت على ذلك بقوله تعالى: (وَلاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ‌ وِزْرَ أُخْرىٰ) [الأنعام: ١٦٤] لو حكى لزال هذا الإشكال فكذا هاهنا أنه من البعيد صدور مثل هذا الكلام من الرسول اه‍‌.

الأنعام، فاستسق اللّه لنا فأستشفع باللّه عليك. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ويحك تدري ما تقول» وسبّح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجهه أصحابه ثم قال صلى اللّه عليه وسلم: «إنه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك ويحك أتدري ما اللّه، إن عرشه على سماواته هكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبة ـ وأنه ليئط‍‌ به أطيط‍‌ الرحل بالراكب».

ومعنى قوله: «أتدري ما اللّه» أي أتدري ما عظمة اللّه تعالى وجلاله ومعنى يئط‍‌ به أي يعجز عن عظمته وجلاله إذ كان معلوما أن أطيط‍‌ الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله فقرب بهذا النوع من عنده معنى عظمة اللّه وجلاله ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن لا يجعل شفيعا إلى من هو دونه في القدر، وقد ذكرنا فيما تقدم عن القاضي (أبي يعلى): يئط‍‌ من ثقل الذات، وهذا صريح التجسيم.

* * *

الحديث الثالث والخمسون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ : إِنَّ‌ اللّٰهَ‌ كٰانَ‌ سَمِيعاً بَصِيراً [النّساء: ٥٨] فوضع إصبع الدعاء وإبهامه على عينيه وأذنه.

قال العلماء: أراد بهذا تحقيق السمع والبصر منه فأشار إلى الجارحتين اللتين هما السمع والبصر، لا أن للّه سبحانه وتعالى جارحة.

* * *

الحديث الرابع والخمسون: روى أبو الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه عزّ وجل ينزل في ثلاث ساعات بقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن وهي داره التي لم يسكنها غيره وهي مسكنه ثم يقول طوبى لمن دخلك، ثم ينزل في الثالثة إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته فيقول بعزتي».

هذا الحديث يرويه زيادة بن محمد الأنصاري قال البخاري: وهو منكر الحديث وقال أبو حاتم بن حبان: يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، ونقول: على تقدير الصحة إنها مضافة إليه كما أضيف البيت إليه فهذا بيته وذاك مسكنه، وإنما قلت هذا لأن السكنى مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى.

* * *

الحديث الخامس والخمسون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثياته عزّ وجل».

الحثية: ملء الكف، والمراد التقريب بما نعقل، لا حقيقة الحثية.

* * *

الحديث السادس والخمسون: روى أبو أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه يجلس يوم القيامة على القنطرة بين الجنة والنار».

يرويه عثمان بن أبي عاتكة، وعن يحيى: ليس بشيء.

* * *

الحديث السابع والخمسون: روى القاضي (أبو يعلى) عن محمد بن كعب قال: كان الناس إذا سمعوا القرآن من في الرّحمن لم يسمعوه قط‍‌.

قال القاضي (أبو يعلى): ولا يمتنع أن يطلق الفم عليه.

قلت: وا عجبا يعني (في) الرّحمن فمه، فيثبت للّه تعالى صفة بقول تابعي لا تصح الرواية عنه، هذا من أقبح الأشياء.

فأما الحديث الذي قد سبق عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إليّ‌ بمثل ما خرج مني» فالمعنى: ظهر عنه، ولا يجوز أن يظن أنه كخروج جسم من جسم.

* * *

الحديث الثامن والخمسون: روينا عن سهل بن سعيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «دون اللّه تعالى سبعون ألف حجاب من نور وظلمة، وما من نفس تسمع شيئا من حسن تلك الحجب إلا زهقت».

هذا حديث لا أصل له.

* * *

الحديث التاسع والخمسون: رواه أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن للّه تعالى لوحا أحد وجهيه درة والآخر ياقوتة، قلمه النور فيه يخلق وبه يرزق، وبه يحيى وبه يميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء في يوم وليلة».

هذا حديث موضوع يرويه محمد بن عثمان، وهو متروك الحديث.

* * *

الحديث الستون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا رأيتم الريح فلا تسبّوه فإنها من نفس الرّحمن تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فاسألوا اللّه خيرها واستعيذوا باللّه من شرها».

النفس بمعنى التنفيس عن المكروب(١). ومثله ما روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إني لأجد نفس ربكم من جهة اليمن» يعني تنفيسه عن الكرب بنصرة أهل المدينة إياي، والمدينة من جانب اليمن وهذا شيء لا يختلف فيه المسلمون.

وقال ابن حامد: رأيت بعض أصحابنا يثبتون للّه تعالى وصفا في ذاته بأنه يتنفس، قال: وقالوا الرياح الهابّة مثل العاصف والعقيم والجنوب والشمال والصبا والدبور مخلوقة إلا ريحا من صفاته هي ذات نسيم خيالي وهي من نفس الرّحمن.

قلت: على من يعتقد هذا اللعنة لأنه يثبت جسدا مخلوقا، ما هؤلاء بمسلمين.

قال المصنف: ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم يعجبهم لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم المجسمة فقالوا : ليس هذا المذهب.

قلت: ليس مذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد ونفيت عنه كذب المنقولات وهذيان المقولات غير مقلد فيما أعتقده، وكيف أترك بهرجا وأنا أنقده وقلت:

سبقت بحمد اللّه من كان من قبلي

فقل للذي يرجو لحاقي على مهل

وإنكم لو تنقصون عتابكم

لعزّ على التفتيش أن تجدوا مثلي

ثم قصيدة مطولة وهي:

حمدت إلهي كيف لا وله الفضل

كما قد تولاني فذلت لي السبل

وأخرجني من بين أهلي مفهما

وعلّمني علما به قيمتي تغلو

وحركني للمكرمات أحوزها

فهمة نفسي دائما أبدا تعلو

وألهمني بالعلم حتى ملكته

فصار مرير الصبر عند فمي يحلو

وقد زاد عشقي للعلوم فأصبحت

كتمثال ليلى عند قيس فما يسلو

__________________

(١) يقول الزمخشري في أساس البلاغة: وما لي نفس أي فرج. وقال ابن قتيبة: وقد فرج اللّه عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب، قال تعالى: (فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ‌ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ‌ تَرَوْهٰا) [الأحزاب: ٩].

فما من علوم بثّها اللّه في الورى

إلى خلقه إلا ولي معها وصل

وصنفت ما قد صنف الناس جنسه

فيا قاصدي الإنصاف لي ميزوا وأبلوا

ولي من بديهات الكلام عجائب

تكر عليهم كلما طولت تحلو

وقد قادني علمي إلى الزهد في الدنا

وما جمعا إلا لعبد له فضل

نعم وتقاة اللّه أشرف خلة

ولا خير في قول إذا ضيع الفعل

قنوعي بما يكفي يقيني من الأذى

وبعد يقيني بالمقادير لا ذل

وأحسن من علم ترامى بأهله

إلى مين مخلوق يماثله الجهل

وأسكن قلبي حب كل محقق

عشقت كما قد تعشق الأعين النجل

وبغداد دار ليس يغبن أهلها

وما حبهم إلا لمن ما له شكل

وكل البلاد أشحنتها فضائلي

أقرّ بفضلي الدين والحزن والسهل

وذكرى وراء النهر بالفضل وافر

وفي المغرب الأقصى وما بلغت إبل

* * *

ولما نظرت في المذاهب كلها

طلبت الأسد في الصواب وما أغلو

فألفيت عند السبر قول ابن حنبل

يزيد على كل المذاهب بل يعلو

وكل الذي قد قاله فمشيد

بنقل صحيح والحديث هو الأصل

وكان بنقل العلم أعرف من روى

يقوم بأنباء وإن شأنه عضل

* * *

ومذهبه أن لا يشبه ربه

يتبع في التسليم من قد مضى قبل

فقام له الحساد من كل جانب

فقام على رجل الثبات وهم زلوا

وكان له أتباع صدق تتابعوا

فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا

وجاءك قوم يدعون تمذهبا

بمذهبه ما كل فرع له أصل

فلا في الفروع يثبتون لنصره

وعندهم عن فهم ما قاله شغل

إذا ناظروا قاموا مقام مقاتل

فوا عجبا والقوم كلهم عزل

قياسهم طردا إذا صدروا به

وهم من علوم النقل أجمعها عطل

إذا لم يكن في النقل صاحب فطنة

تشابهت الحيات وانقطع الحبل

ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة ال‍‌

ذي نقلوه في الصفات وهم غفل

وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد

فمال إلى تصديقهم من به جهل

وصار الأعادي قائلين لكنا

مشبهة قد ضرنا الصحب والخل

فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم

ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

لعمري لقد أدركت منهم مشايخا

وأكثر من أدركته ما له عقل

وما زلت أجلو عنهم كل خلة

من الاعتقاد الرذل كي يجمع الشمل

تسموا بألقاب ولا علم عندهم

فوائدهم لا حرم فيها ولا حل

موائدهم لا يلحق الخل بقلها

وإن شئت لا خل عليها ولا بقل

* * *

وأكثر حساد لنا أهل مذهبي

فلو قدروا أفتوا بأن دمي حل

تمنوا بجهل أن تزل بي النعل

ولم تمش في مجد بمثلي لهم رجل

ومنذ مضى شيخ الجماعة أحمد

إلى الآن لم يوجد لعالمكم مثل

لقد بات عندي ألف ألف يقوموا

سحابة وعظي كلهم صيب وبل

وروضات علمي كلها تمرح الجنا

وبستانهم إذ ما تأملته أثل

وكيف ترى تبرى الحسود وداؤه

إذا سئل الطب الخبير به يسلو

تفرد بالبغض القبيح مخالف

أليس اجتماع الناس لي شاهد عدل

تمّ‌ كتاب دفع شبه التشبيه للإمام ابن الجوزي

جاء في آخر (مجلس في نفي التشبيه من أمالي الحافظ‍‌ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه الشافعي): أنشدنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن منصور المؤمل لنفسه:

اللّه أكبر أن يكون لذاته

كيفية كذوات مخلوقاته

أو أن تقاس صفاتنا في كلما

نبديه من أفعالنا بصفاته

تبا لذي سفه يقول بأنه

جسم وأن سماتنا كسماته

لبديع صنعته عليه شواهد

تبدو على صفحات مصنوعاته

ذرا الأنام بقدرة أزلية

وأراده فيهم لتقديراته

ورأى بعين العلم ما تأتي به

لمحات أعينهم وما لم تأته

* * *

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ترجمة

الإمام الحصني مؤلف هذا الكتاب

إنا إنما نذكر ترجمة هذا الإمام رضي الله عنه ليعرف القارئ من ترجمته مقدار كتابه هذا فإنا نرى أن الكتب أشبه بالأبناء فمن لا والد له من الأبناء ضائع لا قيمة له حتى في نظر نفسه ومن له والد حقير كان حقيرا كوالده ومن جلّ والده جلّ ويزداد عظما كلما عظم والده هذا شيء لا نزاع فيه. وهكذا الكتب إذا رأى الناس كتابا لا يعرف مؤلفه ارتفعت ثقتهم به وظنوا به الظنون وإذا عرف المؤلف نظروا إليه وبمقدار عظمته في نفوسهم علما وعملا تكون ثقتهم بكتابه واستفادتهم منه. وأعدل حكم على الرجل هو الذي يصدر عليه من معاصريه الناظرين إليه المحيطين علما بكل أحواله مع ما في المعاصرة من منافسات ومنازعات وأحقاد يهيجها الحسد الذي يدفن الفضائل وينشر الرذائل فإذا صدر مع هذا حكم جليل من معاصر دلّ ذلك على أن الحقيقة أرفع وأسمى. رفع سؤال إلى علماء عصره رضي الله عنه عن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسمع ما قاله عنه أحد معاصريه قال ما نصه : فأجاب شيخنا وسيدنا ومولانا العارف الورع العابد الزاهد المحقق المدقق شيخ الإسلام ومفتي الأنام وعلم الأعلام الرباني والصدر النوراني. منقح الألفاظ. ومحقق المعاني. بحر العلوم. والمبرز على ذوي الفهوم. داعي الخلق للحق. الناصح لكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. بقية السلف. وزين الخلف. شافعي زمانه. وسيبويه أوانه. القطب الكبير. والغوث الشهير. والعلم المنير. والعلامة النحرير. والمجتهد الأخير. البحر الزاخر. والسيف الباتر. زبدة المتقدمين. وعمدة المتأخرين. ومفزع العباد. وحجة الله على العباد. وصمصامة أهل الزيغ والفساد. رحلة وقته. ووحيد عصره. وفريد دهره. نسيج وحده. جامع أشتات العلوم والفضائل. القائم في نصرة الحق بالبراهين والدلائل. قدوة أهل الأصول والفروع. وناثر فرائد المنقول والمسموع. الحسيب النسيب. والمتصل في الدين بالمصطفى الحبيب. الشيخ تقي الدين أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن

سعيد بن داود بن قاسم بن علي بن ناسي بن جوهر بن علي بن أبي القاسم بن عبد الله بن عمر بن موسى بن يحيى علي الأصغر بن محمد التقي بن حسن العسكري بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الحسيني الشافعي الأشعري الحصني قدس الله روحه. ونوّر ضريحه. وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه. وضاعف له جزيل هباته. وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته. ونفعنا بعلومه الجمة وفوائده. كما حلّى أجياد الدهر بقلائد فرائده. آمين. بجاه سيد الأولين والآخرين. اه من الفتاوى السهمية في ابن تيمية. بمجموعة ٣٣ دولاب ١٥ من مكتبة صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ محمد بخيت المطيعي حفظه الله وهو وصف لم يدع قولا لقائل في هذا الإمام الهمّام رضي الله عنه ورضي عنا به : ولد رضي الله عنه بدمشق سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة من الهجرة الشريفة وبها أخذ العلم عن أئمة عصره وأخذ عنه أئمة وكان من الزهد في الدنيا بدرجة لا تقل عن درجات سلف الأمة الصالحين وكان لتقواه وخشيته لربه وقورا مهيبا حتى عند الأكابر من ولاة الأمور وكان إذا رأى ما لا يرضاه ربه صدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ـ لم يقتصر في بث علومه على ما كان يلقيه من جواهر المعارف والآداب في دروسه حال حياته بل ألّف من الكتب الجليلة الكثيرة ما يجعل نفعه العلمي خالدا : فمن مؤلفاته شرح صحيح مسلم في ثلاثة مجلدات ، وشرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في الفقه الشافعي في خمسة مجلدات نافع جدا ، وشرح منهاج النووي في خمسة مجلدات كذلك ، وتفسير آيات متفرقات في مجلد ، وقواعد الفقه على المذهب الشافعي في مجلدين ، وتلخيص مهمات الإسنوي في مجلدين ، وتنبيه السالك على مضار المسالك في ستة مجلدات ، وأسنى المسالك لسير السالك في مجلد ، وقمع النفوس في مجلد ، وشرح أسماء الله الحسنى في مجلد ، وشرح الأربعين النووية في مجلد ، وسير نساء السلف العابدات في مجلد ، وتلخيص تخريج أحاديث الأحياء في مجلد ، وأهوال القبور في مجلد ، وتأديب القوم في مجلد ، وشرح الهداية في أوهام الكفاية في مجلد ، وشرح مختصر أبي شجاع في مجلد. قال السخاوي : حسن للغاية وقد طبع في العام الماضي فكاد يطرب الشافعية فرحا طلبة وعلماء ، وتقرر رسميا أن يقرأ بالأزهر لجلالته ، ودفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد وهو هذا الكتاب الذي يجل عن نظير في موضوعه كيف لا وقد أتي على بناء مخالفه من أساسه. مات رحمة الله عليه ليلة الأربعاء منتصف شهر جمادى الثانية سنة تسع وعشرين وثمانمائة وحملت

جنازته على أعناق الأفاضل وكان يوم وفاته يوما مشهودا لم يتخلف عنه أحد من أهل دمشق حتى الحنابلة الذين كانت له عليهم حملات ثم حملات. ومع كونه وصّى أن يخرج بجنازته بغلس ذهب من غفل عن جنازته من الناس إلى قبره وصلوا عليه غير مرة ودفن عند والده وأقاربه بالجهة الجنوبية للجامع الأموي سقى الله روضة ضمته غيوث فضله وإحسانه وكرمه ورضوانه. وقد عنى بترجمته كثير منهم المقريزي في العقود وابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب وابن حجر في أنباء الغمر ، والتقي ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية والرضي القري في بهجة الناظرين والسخاوي في الضوء اللامع وغيرهم فمن أراد أن يعرف من هو الإمام التقي الحصني علما وعملا فليرجع إلى تلك التراجم رضي الله عنه وعن جميع العلماء العاملين خصوصا من أسهروا عيونهم وأتعبوا أبدانهم ووقفوا أفكارهم على نصر دين ربهم والذود عن حياضه : إن أحبوا فلله وإن أبغضوا فلله جعلنا الله من محبيهم السالكين سبيلهم اللهم آمين اللهم آمين.

قال حضرة صاحب الفضيلة العلامة صاحب النسخة الفرعية ما نصه :

سبب تأليف هذا الكتاب

قال العلامة التقي محب السنة والذاب عنها بكل ما استطاع في هذا العصر الشيخ محمد زاهر الكوثري : في ظهر الأصل المقابل به بخط الحافظ محمد بن طولون.

فائدة : سبب تكلم المؤلف رحمه‌الله تعالى في ابن تيمية وأتباعه ما نقل له عن الشيخ العلامة ناصر الدين التنكزي أنه اجتمع ببعض من ينتسب للحنابلة قال : فرأيته يقول بمسألة التناسخ ولا يقطع لأطفال المسلمين بالجنة وسمع منه هذا القول شخص آخر ونقل للشيخ المؤلف أيضا أن شخصا قال عند هذا المبتدع المشار إليه : يا جاه محمد ، فقال : لا تقل يا جاه محمد ، وكذا نقل له عن شخص آخر قال ذلك عنده فقال : لا تقل يا جاه محمد فإنه قد بقي قفة عظام نعوذ بالله العظيم من هذه الزلة الجسيمة وسمع هذا الكلام أيضا ابن أخي الشيخ المؤلف فاجتمع مع عمه فتذاكرا ما وقع فيه الجاهل المشار إليه ثم قال : يا عم لو تكلمت في ذلك فقال : أنا مشغول بنفسي فقال : ما يخلصك هذا عند الله عزوجل كيف يتعرض هذا الجاهل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحط مرتبته ومراتب النبيين ويتكلم في الله بما لا يليق بجلاله وغير ذلك مما هو زندقة لا يخلصك هذا عند الله مع تمكنك من ردع هذا الزائغ عن تنزيه الله وتعظيم

رسول عليه الصلاة والسلام فقال المؤلف رحمه‌الله تعالى : ائتوني بشيء من كلام هذا الرجل انظر فيه فإذا تكلمت تكلمت على بصيرة ، فأتى بأشياء من كلامه فلما رأى كلامه تكلم بما تكلم رحمه‌الله : قال شيخنا النعيمي ومن خطه نقلت : نقلتها من خط شيخنا شهاب الدين بن قرا تلميذ المؤلف ملخصا (١) لها. انتهى ما وجدته بخط ابن طولون في ظهر الأصل المذكور. وترجمة المصنف مبسوطة في كتاب الضوء اللامع في القرن التاسع للحافظ محمد بن عبد الرّحمن السخاوي وفي طبقات الشافعية للتقي ابن قاضي شهبة وفي طبقات الرضى الغزي العامري وله مؤلفات ممتعة كشرحه على صحيح مسلم في ثلاث مجلدات وشرحه على التنبيه في خمس مجلدات وشرحه على المنهاج كذلك وطبع حديثا شرحه على مختصر أبي شجاع في مجلدين وكان من مفاخر الشافعية في عصره زهدا وعلما وسيرة وسنستوفي ترجمته إن شاء الله تعالى عند قيامنا بشرحه.

__________________

(١) فابن طولون هذا حافظ جليل له من المؤلفات ما يقرب من ستمائة مؤلّف وتوفي سنة ٩٥٣ سنة تسعمائة وثلاث وخمسين وشيخه عبد القادر النعيمي له مؤلفات جليلة وقد ترجم في الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة. وابن قرا هو الشهاب الخوارزمي المحدّث مترجم في الضوء اللامع ، قاله صاحب الأصل.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين ، وأكرم السابقين واللاحقين ، وسلّم ومجّد وكرم ، سبحان من بيده الضر والنفع ، والوصل والقطع ، والتفرقة والجمع ، والعطاء والمنع ، وفق من أحب لتنزيهه فحمى موضع نظره منه وكذا السمع ، وخذل من أبغض فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألفه من رديء الطبع ، فهب على الأول نسيم إسعاده وعلى الثاني ريح إبعاده ، لصدع قلبه بتمويه العدو فيا له من صدع ، تقدس وتمجد بعز كبريائه وجلاله ، وتفرد بأوصاف عظمته وكماله ، كما عمّ بجوده وإفضاله ونواله ، تقدّس وتبارك عن مشابهة العبيد ، وتنزّه عن صفات الحدوث.

فمن شبه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد ، ومن عطل ما ثبت له من صفاته بالأدلة القاطعة فهو عن الحق مائل ومحيد (١) ، وكلا القسمين سفيه وشقي وغير رشيد ، ومن ورائهما عذاب شديد.

ونال خلع الرضوان في دار الأمان من نزه مع تزايد الكرامات ولديه مزيد.

فشتان بين من هو راتع في رياض السلامة ونزل الكرامة في دار المقامة ، وبين المطرود المبعود (٢) وقد حق عليه الوعيد.

وبعد ، فإن سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة ما دهمني من الحيرة من أقوام أخباث السريرة ، يظهرون الانتماء إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد ، وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد. والعجب أنهم يعظمونه في الملأ ويتكاتمون إضلاله مع بقية الأئمة وهم أكفر ممن تمرد وجحد ، ويضلون عقول العوام وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني وإظهار التعبد والتقشف وقراءة الأحاديث ويعتنون بالمسند ، كل ذلك

__________________

(١) كان ينبغي أن يقول حائد : ولعله اختار ذلك مراعاة للسجع ، اه مصححه.

(٢) اسم المفعول مبعد فيقال فيه كما قيل فيما قبله ، اه مصححه.

خزعبلات منهم وتمويه وقد انكشف أمرهم حتى لبعض العوام وبهذه الأحرف يظهر الأمر إن شاء الله تعالى لكل أحد إلا لمن أراد عزوجل إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد. ومن قال بنفي ذلك أي بنفي خلود العذاب وسرمديته وهو ابن تيمية وأتباعه فقد تجرأ على كلام الغفور. قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)) [فاطر : ٣٦] وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)) [المائدة : ٣٧] والآيات في ذلك كثيرة عموما وخصوصا ومنها قوله تعالى : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥] والغرام المستمر الذي لا ينقطع فلو انقطع قدر نفس لا يسمى غراما.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] قال الإمام أحمد معناه جاء أمر ربك.

قال القاضي أبو يعلى : قال الإمام أحمد : المراد به قدرته وأمره وقد بيّنه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل : ٣٣] يشير إلى حمل المطلق على المقيد وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع وفي كلام علماء الأمة لأنه لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى.

ومثله حديث النزول وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الانتقال والحركة من صفات الحدث والله عزوجل قد نزّه نفسه عن ذلك ومن ذلك قوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] فإذا سأل العامي عن ذلك فيقال له الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى وإنما أجاب الإمام ربيعة بذلك وتبعه تلميذه مالك لأن الاستواء الذي يفهمه العوام من صفات الحدث وهو سبحانه وتعالى نزّه نفسه عن ذلك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذرة جاء الكفر بالقرآن.

قال الأئمة : وإنما قيل السؤال بدعة لأن كثيرا ممن ينسب إلى الفقه والعلم لا يدركون الغوامض في غير المتشابه فكيف بالمتشابه فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلا الله سبحانه والقرآن والسنة طافحان بتنزيهه عزوجل ومن أسمائه القدوس وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه وكذا في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١] إلخ ، لما فيها من نفي الجنسية والبعضية وغير ذلك مما فيه مبالغة في

تنزيهه سبحانه وتعالى وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي وكان من المحققين وكذلك أبو الحسن التميمي وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب وغيرهم من أساطين الأئمة في مذهب الإمام أحمد وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء فقال تحت السياط فكيف أقول ما لم يقل وقال في آية الاستواء هو كما أراد فمن قال عنه إنه قال في الاستواء إنه من صفات الذات أو صفات الفعل أو أنه قال إن ظاهره مراد فقد افترى عليه وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه مما فيه إلحاقه عزوجل بخلقه الذي هو كفر صراح لمخالفته كلامه فيما نزّه نفسه به سبحانه وتعالى عما يقولون.

ومنهم ابن حامد والقاضي تلميذه وابن الزاغوني وهؤلاء ممن ينتمي إلى الإمام ويتبعهم على ذلك الجهلة بالإمام أحمد وبما هو معتمده مما ذكرت بعضه وبالغوا في الافتراء إما لجهلهم وإما لضغينة في قلوبهم كالمغيرة بن سعيد وأبي محمد الكرامي لأنهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم وحرف المغيرة ومعه خمسة من أتباعه كما أذكره من بعد.

قال ابن حامد في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن : ٢٧] وفي قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] نثبت لله وجها ولا نثبت له رأسا.

وقال غيره : يموت إلا وجهه ، وذكروا أشياء يقشعر الجسد من ذكر بعضها.

قال أبو الفرج بن الجوزي : رأيت من تكلم من أصحابنا في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف وهم ثلاثة : ابن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني صنفوا كتبا شانوا بها المذهب وقد رأيتهم نزلوا إلى مرتبة فحملوا الصفات على مقتضى الحس فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات وعينين وفما ولهوات وأضراسا ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا : ما سمعنا بذكر الرأس وقالوا : يجوز أن يمس ويمس ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم ويتنفس ثم إنهم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والإضافات فسموا الصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها

صفات قالوا لا نحملها على ما توجبه اللغة مثل اليد على النعمة أو القدرة ولا المجيء على معنى البر واللطف ولا الساق على الشدة ونحو ذلك بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن فإن صرف صارف حمل على المجاز وهم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم وكفروا تقليدا وقد نصحت للتابع والمتبوع ثم أقول لهم على وجه التوبيخ : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل وأتباع وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول : (أقول ما لم يقل) هل بلغكم أنه قال إن الاستواء من صفة الذات المقدسة أو صفة الفعل فمن أين أقدمتم على هذه الأشياء وهذا كله ابتداع قبيح بمن ينكر البدعة ثم قلتم إن الأحاديث تحمل على ظاهرها. وظاهر القدم الجارحة وإنما يقال تمر كما جاءت ولا تقاس بشيء فمن قال استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات وذلك عين التشبيه فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم وأمروا الأحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما أنكر عليكم أحد ولا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ـ أعني الإمام أحمد ـ ما ليس منه فلقد كسوتم هذا المذهب شيئا قبيحا حتى لا يقال عن حنبلي إلا مجسم ثم زينتم مذهبكم بالعصبية ليزيد وقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم : لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة.

فالحاصل من كلام ابن حامد والقاضي وابن الزاغوني من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحق سبحانه وتعالى هي نزعة سامرية في التجسيم ونزعة يهودية في التشبيه وكذا نزعة نصرانية فإنه لما قيل عن عيسى عليه‌السلام أنه روح الله سبحانه وتعالى اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روح ولجت في مريم عليها‌السلام وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم وما ذاك إلا أنهم سموا الأخبار أخبار صفات وإنما هي إضافات وليس كل مضاف صفة فإنه سبحانه وتعالى قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] وليس لله صفة تسمى روحا فقد ابتدع من سمى المضاف صفة ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم ثم إنهم في مواضع يؤولون بالتشهي وفي مواضع أغراضهم الفاسدة يجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحس ويقولون ينزل بذاته وينتقل ويتحرك ويجلس على العرش بذاته ثم يقولون لا كما يعقل يغالطون بذلك من يسمع من عامي وسيئ الفهم وذلك عين التناقض ومكابرة في الحس والعقل لأنه

كلام متهافت يدفع آخره أوله وأوله آخره ، وفي كلامهم (ننزهه غير أننا لا ننفي عنه حقيقة النزول) وهذا كلام من لا يعقل ما يقول ومثل قول بعضهم المفهوم من قوله : «هو الله الحي القيوم» في حقه هو المفهوم في حقنا إلا أنه ليس كمثله شيء فانظر أرشدك الله كيف حكم بالتشبيه المساوي ثم عقبه بهذا التناقض الصريح وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى روية ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] أنه مستقر على العرش مع قولهم في قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] أن من قال إنه ليس في السماء فهو كافر ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في حيزين في آن واحد وفي زمن واحد ومن المعلوم أن في للظرفية ويلزم أنه سبحانه وتعالى مظروف تعالى عن ذلك.

وفي البخاري من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشقّ ذلك عليه حتى رئي في وجهه فقام فحكها بيده فقال : «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة» وفيه من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في جدار القبلة فحكها ثم أقبل على الناس فقال : «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلّى».

وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فقال : «ما بال أحدكم يستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه».

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» وفي رواية «والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وفي الصحيح «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني» وحديث المريض «أما لو عدته لوجدتني عنده».

وقال تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢] وقال تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠)) [القصص : ٣٠] وقال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥].

وفي الترمذي في حديث العنان وفيه ذكر الأرضين السبع وأن بين كل أرض والأخرى كما بين السماء والأرض ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم بحبل لوقع على الله سبحانه وتعالى» ومثل هذه الأدلة كثير وكلها قاضية بالكون السفلي دون العلوي.

واعلم أن الاستواء في الغلة على وجوه وأصله افتعال من السواء ومعناه أي السواء العدل والوسط وله وجوه في الاستعمال منها الاعتدال. قال بعض بني تميم : استوى ظالم العشيرة والمظلوم ، أي اعتدلا ، ومنها إتمام الشيء ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] ومنها القصد إلى الشيء ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩] أي قصد خلقها ، ومنها الاستيلاء على الشيء ، ومنه قول الشاعر :

ثم استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وقال آخر :

إذا ما غزا قوما أباح حريمهم

وأضحى على ما ملكوه قد استوى

ومنها بمعنى استقر ، ومنه قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٤] وهذه صفة المخلوق الحادث كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : ١٢ ، ١٣] وهو نزّه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع.

وقطع المادة في ذلك أن المسألة علمية وكفى الله المؤمنين القتال والجدال.

قال أبو الفرج بن الجوزي : وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.

قال عبد الله بن وهب : كنا عند مالك بن أنس ودخل رجل فقال : يا أبا عبد الله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] كيف استواؤه؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع. وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه. فأخرج.

كان ابن حامد يقول : المراد بالاستواء القعود. وزاد بعضهم : استوى على العرش بذاته فزاد هذه الزيادة وهي جرأة على الله بما لم يقل.

قال أبو الفرج : وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الله عزوجل على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه العرش ، ثم قال : والعجب من قول هذا ما نحن مجسمة وهو تشبيه محض تعالى الله عزوجل عن المحل والحيز لاستغنائه عنهما ولأن ذلك مستحيل في حقه عزوجل ولأن المحل والحيز من لوازم الأجرام ولا نزاع في ذلك وهو سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك لأن الأجرام من صفات الحدث وهو عزوجل منزّه عن ذلك شرعا وعقلا بل هو أزلي لم يسبق بعدم بخلاف الحادث.

ومن المعلوم أن الاستواء إذا كان بمعنى الاستقرار والقعود لا بد فيه من المماسة. والمماسة إنما تقع بين جسمين أو جرمين والقائل بهذا شبه وجسم وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقية كما أبطل دلالة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] ومن المعلوم في قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : ١٣] أنه الاستقرار على الأنعام والسفن وذلك من صفات الآدميين فمن جعل الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار والتمكن فقد ساوى بينه عزوجل وبين خلقه وذلك من الأمور الواضحة التي لا يقف في تصورها بليد فضلا عمن هو حسن التصور جيد الفهم والذوق وحينئذ فلا يقف في تكذيبه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وذلك كفر محقق.

ثم من المعلوم أن الاستواء من الألفاظ الموضوعة بالاشتراك وهو من قبيل المجمل فدعواه أنه بمعنى الاستقرار في غاية الجهل لجعله المشترك دليلا على أحد أقسامه خاصة فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضحكة لجعله القسم قسيما فمن تأمل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركب يحتجون بالأدلة المجملة التي لا دليل فيها قطعا عند أهل العلم ويتركون الأدلة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم بل بعضها نصوص كما قدمته في حديث النخامة وغيرها فتنبه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك.

ومن المعلوم أنه عزوجل واجب الوجود كان ولا زمان ولا مكان وهما أعني الزمان والمكان مخلوقان وبالضرورة أن من هو في مكان فهو مقهور محاط به ويكون مقدرا ومحدودا وهو سبحانه وتعالى منزّه عن التقدير والتحديد وعن أن يحويه شيء أو يحدث له صفة تعالى الله عما يصفون وعما يقولون علوا كبيرا.

فإن قيل ففي الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه أنه ذكر المعراج وفيه «فعلا بي الجبار تعالى فقال وهو في مكانه يا رب خفف عنا» .. الحديث ، فالجواب أن الحافظ أبا سليمان الخطابي قال : إن هذه لفظة تفرّد بها شريك

ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو مكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه.

وفي الحديث «فأستأذن على ربي وهو في داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه. وقد قال القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا يوصف بمكان فإن قيل يلزم من كلامكم نفي الجهات ونفيها يحيل وجوده فالجواب أن هذا السؤال ساقط فيه تمويه على الأغبياء يجرون الجهات المتعلقة بالآدميين بالنسبة إلى الله عزوجل عن ذلك. وأيضا إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلم فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرفي النقيض بمحال ويوضح هذا أنك لو قلت كل موجود لا يخلو أن يكون عالما أو جاهلا قلنا إن كان ذلك الموجود يقبل الضدين فنعم فأما إذا لم يقبلهما كالحائط مثلا فإنه لا يقبل العلم ولا الجهل ونحن ننزه الذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى كما نزّه نفسه عن كل ما يدل على الحدث وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وهم ولا يتخيله خيال والتصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك ، ومن هنا وقع الغلط واستدراج العدو فأهلك خلقا وقد تنبّه خلق لهذه الغائلة فسلّموا وصرفوا عنه عقولهم إلى تنزيهه سبحانه وتعالى فسلّموا.

ومن الأحاديث التي يحتجون بها حديث عبد الرّحمن بن عائش عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت أنت أعلم يا رب ، فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض» وهذا الحديث قال الإمام أحمد فيه أن طرقه مضطربة ، وقال الدارقطني كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح ، وقال البيهقي روي من أوجه كلها ضعيفة وأحسن طرقه يدل على أن ذلك كان في النوم ويدل على ذلك أنه روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أتاني آت في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري ، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلاة الصبح فقال : «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم يا رب ، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض» وروي من وجوه كثيرة فهي أحاديث مختلفة وليس فيها ما يثبت مع أن عبد الرّحمن لم يسمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى وجه التنزل فالمعنى راجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالمعنى رأيته على أحسن صفاته أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك. لأن الصورة يعبر بها ويراد الصفة كما في حديث خلق الله آدم على صورته تقول : هذه صورة هذا الأمر أي صفته فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصرة والإرادة مع أن أن هذا الحديث فيه علل منها أن الثوري والأعمش كان يدلس ولم يذكر أنه سمع الحديث من حبيب بن أبي ثابت ومنها أن حبيبا كان يدلس ولم يعلم أنه سمعه من عطاء وهذا كله يوجب وهنا في الحديث ومع ذلك فالضمير يصح عوده إلى آدم عليه‌السلام فالمعنى أن الله عزوجل خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه.

قال الإمام أبو سليمان الخطابي : وذكره تغلب في أماليه وقيل إن الضمير يعود إلى بعض بني آدم وخلق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث فالمشبه لا متمسك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه وتمسكه بها يدل على جهله وزندقته عافانا الله عزوجل من ذلك.

ومن ذلك حديث القدم «لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه» الحديث ، وهذا يرجع إلى المحكم ، قال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢].

وقال الحسن البصري : القدم في الحديث هم الذين قدمهم الله من شرار خلقه وأثبتهم لها. وقال البيهقي عن النضر بن شميل : القدم هنا الكفار الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار. وقال الأهري : القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار. وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدم وكل قادم عليها يسمى قدما والقدم جمع قادم كما يقال عيب وعائب. وروى الدارقطني حتى يضع قدمه أو رجله وفي هذه دلالة على تغيير الرواية بالظن مع أن الرجل في اللغة هي الجماعة ألا تراهم يقولون رجل من جراد فيكون المعنى يدخلها جماعة يشبهون الجراد في الكثرة.

قال ابن عقيل : تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة وهذا عين التجسيم وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن المكون تعالى الله عن تخايل الجسمية ، وذكر كلاما مطولا بالغا في التنزيه وتعظم الله تعالى.

وقد تمسك بهذا الحديث ابن حامد المشبه فأثبت لله سبحانه وتعالى صفات ، وزاد فروى من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما أسري بي رأيت الرّحمن على صورة شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت ربي

أن يكرمني برؤيته فإذا كأنه عروس حين كشف عنه حجابه مستو على عرشه» وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على الله عزوجل وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أعظم فرية ممن شبه الله عزوجل بأمرد وعروس ، وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجه ويقول : ليت ابن حامد هذا ومن ضاهاه لم ينسبوا إلى أنهم من أتباع الإمام أحمد فقد أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشين على المذهب والتعرض إلى الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم وحاشاه من ذلك بل هو من أعظم المنزهة لله عزوجل وقد خاب من افترى.

وقال بعض أئمة الحنابلة المنزهين : من أثبت لله تعالى هذه الصفات بالمعنى المحسوس فما عنده من الإسلام خبر تقدس الله عزوجل عما يقولون علوا كبيرا ، وخوضهم في ذلك كلام من لا يعرف الله عزوجل وكذا خوضهم في الأحاديث خوض من لا يعرف كلام الله تعالى ولا كلام أهل اللغة فيجرونها على المتعارف عند الخلق فيقعون في الكفر ، ونوضح ذلك إيضاحا مبينا يدركه أبلد العوام فضلا عن أذكياء الطلبة والعلماء الأخيار الذين جعل الله عزوجل قلوبهم معادن المعاني المرادة وكنوزها.

فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الضيف وفيه «لقد عجب الله من صنيعكما الليلة» وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجب ربك من قوم جيء بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة».

قال ابن الأنباري : معنى عجب ربك زادهم إنعاما وإحسانا فعبّر بالعجب عن ذلك.

قال الأئمة : لأن العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان فيستعظمه مما لا يعلمه وذلك إنما يكون في المخلوق وأما الخالق فلا يليق به ذلك فمعناه عظم قدر ذلك الشيء عنده لأن المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده ، فالمعنى في حديث الضيف عظم قدره وقدر زوجته عنده حتى نوّه بذكرهما في أعظم كتبه وعظّم قدر المجيء بهم في السلاسل حتى أدخلهم الجنة وجعلهم من أوليائه وأنصار دينه.

ومن ذلك حديث «لله أفرح بتوبة عبده» ومعناه أرضى بها ومنه (١) قوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٥٣] أي راضون ونحو ذلك مما هو كثير في القرآن

__________________

(١) أي من هذا الاستعمال ، اه مصححه.

وكذا الأحاديث ومنها حديث النزول وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له» إلى آخره ، وهذا الحديث رواه عشرون نفسا من الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم أنه يستحيل على الله عزوجل الحركة والتنقل والتغير لأن ذلك من صفات الحدث فمن قال ذلك في حقه تعالى فقد ألحقه بالمخلوق وذلك كفر صريح لمخالفة القرآن في تنزيهه لنفسه سبحانه وتعالى.

ومن العجب العجيب أن يقرأ أحدهم قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] مع أن معدنه في الأرض وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزّمر : ٦] فيا لله العجب من شخص لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في تفصيلها. وقد قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٤٨] وقال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) [الطّلاق : ١٠] فنسب الإنزال إلى هاتين الغايتين إليه سبحانه وتعالى.

وقد قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) [الأعراف : ١٨٦] أي ببدعته (فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] والعمه في البصيرة كما أن العمى في البصر والعمه في البصيرة منه الهلكة أعاذنا الله من ذلك.

وروى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا : أمروا هذه الأحاديث بلا كيف ، قال الأئمة : فواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة والحركة فإن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى آخر يفتقر إلى الجسمية والمكان العالي والمكان السافل ضرورة كما في قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النّحل : ٥٠] فإن الفوقية باعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلا في الأجرام والأجسام مركبة كانت أو بسيطة والرب سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك إذ هو من صفات الحدث.

وقال ابن حامد الراسم نفسه بالحنبلي : هو فوق العرش بذاته وينزل من مكانه الذي هو فيه فينزل وينتقل ، ولما سمع تلميذه القاضي منه هذا استبشعه فقال : النزول صفة ذاتية ولا نقول نزوله انتقال ، أراد أن يغالط الأغبياء بذلك. وقال غيره : يتحرك إذا نزل ، وحكوا هذه المقالة عن الإمام أحمد فجورا منهم بل هو كذب محض على هذا السيد الجليل السلفي المنزّه فإن النزول إذا كان صفة لذاته لزم تجددها كل ليلة وتعددها ، والإجماع منعقد على أن صفاته قديمة فلا تجدد ولا تعدد تعالى الله عما يصفون.

وقد بالغ في الكفر من الحق صفة الحق بالخلق وأدرج نفسه في جريدة السامرة واليهود الذين هم أشد عداوة للذين آمنوا.

ومنها حديث الأصابع وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع وفي لفظ : والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] وفي لفظ : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبا وتصديقا له.

قال الأئمة ومنهم أبو سليمان الخطابي : لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع بصحته مستند إلى أصل في الكتاب أو السنة المقطوع بصحتها (١) وما كان بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم مع نفي التشبيه.

وقال غيره : قد نفى الله تعالى التشبيه عنه في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١](وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى) [الزّمر : ٦٧] دفعا لما يتبادر إليه الفهم باعتبار المحسوسات.

قال الأئمة : معناه ما عرفوه حق معرفته. وقال المبرد : ما عظموه حق عظمته.

وقبضة الله عزوجل عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته ، واليمين في كلام العرب بمعنى الملك والقدرة كما قال تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)) [الحاقّة : ٤٥] أي بالقوة والقدرة. وأشعار العرب في ذلك أكثر جدا من أن تذكر وأشهر من أن تنشد وتبرز وتظهر.

وفي الحديث «الحجر الأسود يمين الله تعالى» وقال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] وقال أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب الإمام أحمد : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الحجّ : ٧٤] إذ جعلوا صفاته تتساعد وتتعاضد على حمل مخلوقاته وإنما ذكر الشرك في الآية ردا عليهم. وفي معنى هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف شاء» وفي ذلك إشارة إلى أن القلوب مقهورة لمقلبها.

__________________

(١) لو لاحظ المتكلمون في هذه المواضيع هذا الأصل لاستراحوا وأراحوا ، اه مصححه.

قال الخطابي : واليهود مشبهة ونزول الآية دليل على إنكار الرسول عليهم ولهذا ضحك عليه الصلاة والسلام على وجه الإنكار وليس معنى الأصابع معنى الجارحة لعدم ثبوته بل يطلق الاسم في ذلك على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه. وقال غيره : من حمل الأصابع على الجارحة فقد رد على الله سبحانه وتعالى في قوله : (سُبْحانَهُ) [البقرة : ١١٦] وأدخل نفسه في أهل الشرك لقوله تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] وهو عزوجل يذكر في كتابه المبين التحرس عما لا يليق دفعا وردا لأعدائه كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) [البقرة : ١١٦] وقال تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ) [الأنعام : ١٠٠] ونحو ذلك.

وآكد من ذلك قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)) [الجنّ : ٣] قدّم تنزيهه عزوجل أولا في هذه الآية والقرآن طافح بذلك ومنها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ «سبقت» قال القاضي المشبه تلميذ ابن حامد : ظاهر قوله عنده القرب من الذات وما قاله يستدعي القرب والمساحة وذلك من صفات الأجسام وقد عمي عن قوله تعالى : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [هود : ٨٣] ومن المعلوم أنك تقول عندي فوق الغرفة كتاب كذا وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة ثم إن هذا القاضي روى عن الشعبي أنه قال إن الله قد ملأ العرش حتى أن له أطيطا كأطيط الرحل وهو كذب على الشعبي.

وقال بعضهم : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] قعد عليه. وقال ابن الزاغوني : خرج عن الاستواء بأربع أصابع. ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلها صريحة في التشبيه والتجسيم لا سيما في مسألة الاستواء وهو سبحانه وتعالى متنزه عما لا يليق به من صفات الحدث ، ثم إن هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» إلخ ، وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحة لعبده ومع هذا يلزم التعدد بحسب المتقربين والتجزئة والتفرقة وغير ذلك مما لا يقوله حمار بل ولا جماد تعالى الله وتقدس عن ذلك.

قال ابن الجوزي : وهؤلاء وأتباعهم جهلوا معرفة ما يجوز على الله وما يستحيل عليه ، ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش إن الله قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش ، ثم قال : ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا فعابنا الناس بكلامهم ولو فهموا أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بما يوصف به الخلق لما بنوا أمورهم وقواعدهم على المحسوسات التي بها المساواة بينه وبين خلقه. وفي ذلك تكذيبه في تنزيهه وتقديسه نفسه عزوجل.

وقال أبو الوفاء بن عقيل : تحسب الجهلة أن الكمال في نسبة النقائص إليه فيما نزّه نفسه عنه عزوجل ، والذي أوقعهم في ذلك القياس المظنون وكيف يكون له حكم الدليل وقد قضي عليه دليل العقل بالرد.

قال أبو الفرج ابن الجوزي : والناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب : أحدها : إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف ، المرتبة الثانية : التأويل وهو مقام خطر ، المرتبة الثالثة : القول فيها بمقتضى الحس وقد عمّ جهله الناقلين إذ ليس لهم علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز على الله عزوجل وما يستحيل فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس ولو فهموا أن الله عزوجل لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا جارحة ولا تغير لما بقوا على الحسيات التي فيها عين التشبيه وهو كفر بالقرآن أعاذنا الله من ذلك ، ولا شك أن مذهب السكوت أسلم وقد ندم خلق من أكابر المتكلمين على الخوض في ذلك.

قال أبو المعالي الجويني في آخر عمره : (خليت أهل الإسلام وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه والآن رجعت إلى قولهم عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطفه وأموت على دين العجائز وإلا فالويل لابن الجويني).

قال أبو الوفاء بن عقيل : معنى دين العجائز أن المدققين بالغوا في البحث والنظر ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل فوقفوا مع المراسم واستطرحوا وقالوا لا ندري.

وسئل الإمام أحمد قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (هو كما أخبر لا كما يخطر بالبشر).

فانظر وفقك الله وأرشدك إلى الحق إلى هذه العبارة ما أرشقها وعلى أتباعه ما أشققها (١) اعتقاد قويم ومنهاج سليم.

قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي واسمه عبد الرّحمن بن علي لما رأى الحساد للإمام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه لتشييده بالكتاب والسنة انتموا إلى مذهبه ليدخلوا عليه النقص والخلل وصرف الناس عنه حسدا من أنفسهم فصرحوا بالتشبيه والتجسيم ولم يستحييوا من الخبير العليم. ونسبوه إليه افتراء عليه. ومن نظمه في ذلك :

ولما نظرت في المذاهب كلها

طلبت الأسد في الصواب وما أغلو

فألفيت عند السير قول ابن حنبل

يزيد على كل المذاهب بل يعلو

وكل الذي قد قاله فمشيد

بنقل صحيح والحديث هو الأصل

وكان بنقل العلم أعرف من روى

يقوم ......... (٢)

ومذهبه أن لا يشبه ربه

ويتبع في التسليم من قد مضى قبل

يشير إلى صاحبه الإمام الشافعي وغيره من علماء السلف كما أذكر :

فقام له الحساد من كل جانب

فقام على رجل الثبات وهم زلوا

وكان له أتباع صدق تتابعوا

فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا

وجاءك قوم يدعون تمذهبا

بمذهبه ما كل زرع له أكل

ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة

الذي نقلوه في الصفات وهم غفل

وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد

فمال إلى تصديقهم من به جهل

فصار الأعادي قائلين لكلنا

مشبهة قد ضرنا الصحب والخل

فقد فضحوا ذاك الإمام لجهلهم

ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

لعمري لقد أدركت منهم مشايخا

وأكثر ما أدركته ما له عقل

__________________

(١) لعله ما أشقها بحذف إحدى القافين أو بإبدال إحداهما فاء ، اه مصححه.

(٢) هكذا بياض بالأصل ويصح أن يتمم بنحو قولنا : إذا نام السوي وبه يخلو ، اه مصححه.

وحذفت أبياتا من هذه القصيدة لأني في هذه الورقات على سبيل الاقتصاد والرمز إلى منهج الحق والرشاد.

وسئل الإمام الشافعي قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك) وهذا شأن الأئمة يمسكون أعنّة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به.

وسئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك فقال : (من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر لأن هذا القول يؤذن أن لله سبحانه وتعالى مكانا ومن توهم أن لله مكانا فهو مشبه).

وسئل الإمام مالك عن الاستواء فقال : (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) فنفى العلم بالكيف فمن استدل بكلامه على أنه سبحانه وتعالى فوق عرشه فهو لجهله وسوء فهمه.

وقال الإمام مالك عند قوله : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النّحل : ٧٤] من وصف شيئا من ذاته سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] فأشار بيده إلى عنقه قطعت وكذا السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبّه الله بنفسه.

وقال مالك رضي الله عنه : (الاستواء معلوم) يعني عند أهل اللغة ، وقوله : (والكيف مجهول) أي بالنسبة إلى الله عزوجل لأن الكيف من صفات الحدث وكل ما كان من صفات الحدث فالله عزوجل منزّه عنه فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة ، وقوله : (والإيمان به واجب) أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه ، وقوله : (والسؤال عنه بدعة) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة فلم يحتاجوا إلى السؤال عنه فلما ذهب العالمون به وحدث من لم يعلم أوضاع لغتهم ولا له نور كنورهم شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عزوجل وفرح بذلك أهل الزيغ فشرعوا يدخلون الشبه على الناس ولذلك تعين على أهل العلم أن يبينوا للناس وأن لا يهملوا البيان لقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] فهذه (١) الأئمة

__________________

(١) لعله فهؤلاء ، اه مصححه.

التي (١) مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة فمن زعم أن بينهم اختلافا في ذلك فقد افترى على أئمة الإسلام والمسلمين والله حسبه وسيجزي الله المفترين.

وفي الصحيحين : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية» وقال عليه الصلاة والسلام : «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والنافرة والشاذة إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد» رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد ورجاله ثقات.

وسئل الإمام أحمد عن الشافعي فقال : (ما الذي أقول فيه وهو الذي أخرج من قشور التشبيه لبابها ، وأطلع على معارفها أربابها ، وجمع مذهبه أكنافها وأطنابها ، فالمحدثون صيادلة والشافعي طبيبهم ، والفقهاء أكابر والشافعي كبيرهم ، وما وضع أحد قلمه في محبرة إلا وللشافعي عليه منّة) وكان كثير الدعاء للشافعي ، قال له ابنه عبد الله : أي شيء كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ قال : (يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض).

وسئل بعض أئمة السلف عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فقال : (الرّحمن جلّ وعلا لم يزل والعرش محدث بالرحمن استوى ثم قال كل ما ميزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتم عقولكم فهو مصروف إليكم ومردود عليكم محدث ومصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة أو يدركه وهم أو يحيط به علم كلا كيف يحيط به علم وقد اتفق فيه الأضداد بقوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣] أي عبارة تخبر عنه ، حقيقة الألفاظ كلام ، قصرت عنه العبارات ، وخرست عنه الألسنة بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] تعالى الله وتقدّس عن المجانسة والمماثلة).

قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : معناها ليس له نظير. وقال أهل التحقيق : ذكر العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته إذ الذات ممتنعة عن الإحاطة بها والوقوف عليها ، كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)) [النّمل : ٢٦] فسبحانه هو المنزّه عن التشبيه القدوس المبرّأ عن الآفات ، والمسبح بجميع اللغات ، السلام السالم من نقائص المخلوقات ، الصمد

__________________

(١) لعله الذين ، اه مصححه.

السيد الذي لا يشبهه شيء من المصنوعات والمخلوقات ، الغني عن الأغيار ، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات ، الفرد الذي لا نظير له ، المنفرد بصفات الكمال والقدرة ، ومن بعض مقدوراته الكرسي والعرش والأرضون والسماوات ، شهد لنفسه بالوحدانية ونزهها بالآيات البينات فصفاته لا يوصف بها غيره ، ومن تعرض لذلك فقد طعن في كلامه ، وضاهى أهل العناد فاستوجب اللعن وأشد العقوبات.

قال البغداديون في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)) [البقرة : ١١٧] كل صنع صنعه ولا علة لصنعته ليس لذاته مكان لأنه قبل الكون والمكان ، وأوجد الأكوان بقوله كن أزال العلل عن ذاته بالدرك (١) وبالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو ، حي قيوم لا أول لحياته ، ولا أمد لبقائه ، احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك ، والدرك عن الاستنباط ، وانتهى المخلوق إلى مثله ، وأسنده الطلب إلى شكله اه.

وقولهم : كل صنع ، عبّروا بالمصدر عن اسم المفعول كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] ومن الجهل البين أن يطلب العبد المقهور بكن درك ما لا يدرك ، كيف وقد تنزّه عن أن يدرك بالحواس أو يتصور بالعقل الحادث والقياس من لا يدركه العقل من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل لنفسه فهو جسم وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان ، وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات. جلّت ذاته القديمة التي لم تسبق بعدم أن يكون لها صفة حادثة كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة ، قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)) [مريم : ٦٧].

وسأل بعض المخبثين (٢) الطوية للإمام العالم العلامة الجامع بين العلوم السنية ،

__________________

(١) قوله : بالدرك متعلق بمحذوف فيما يظهر تقديره وأعجز الخلق عن أن يحيطوا به بالدرك ، الخ ، والدرك الإدراك ، اه مصححه.

(٢) لعله خبيثي الخ ، وقوله للإمام : لعل اللام الأولى من تصرفات النسّاخ وهذا ظننا في كل ما تقدم أو يجيء في هذا الكتاب من الألفاظ التي تخالف اللغة ، لأن الإمام الحصني أجل من أن يخفى عليه مثل ذلك ، اه مصححه.

والمناهج العلية ، يحيى بن معاذ الرازي فقال له : أخبرنا عن الله ، فقال : إله واحد ، فقال له : كيف هو؟ قال : إله قادر ، قال : فأين هو؟ قال : بالمرصاد ، فقال السائل : لم أسألك عن هذا ، فقال : ما كان غير هذا فهو صفة المخلوق ، فأما صفته فالذي أخبرتك عنه.

فالسائل سأل عن الذات والكيفية فأجابه هذا الحبر بالصفات الجلالية القدسية وهذا أخذه من قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون اللعين لما قال له موسى عليه‌السلام : (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزّخرف : ٤٦] فسأله فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشّعراء : ٢٣] فقال موسى : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧)) [الدّخان : ٧] فضمن الجواب العدول عما سأل لأنه عدل فيه عن مطابقة السؤال لأن فرعون سأل عن ماهيته سبحانه وتعالى وموسى أجابه عن قدرته وصفاته فجاز له حين خلط في السؤال وأخطأ وسأل عما لا يمكن إدراكه العدول عن سؤاله فقال فرعون : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشّعراء : ٢٥] أنا أسأله عن شيء فيجيب عن غيره ، فقال موسى عليه‌السلام : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشّعراء : ٢٦] فلما قال موسى عليه‌السلام ذلك استشعر فرعون أنه أخطأ في السؤال فخشي أن يدرك ذلك جلساؤه فقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشّعراء : ٢٧] رماه بذلك حتى يتخلص ويصير موسى عليه‌السلام في مقام لا يلتفت إلى قوله ولا يؤخذ به ، فتأمل أرشدك الله عزوجل وهداك إلى الحق كيف أن ذلك معلوم عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم عدم العلم بالذات والكيف فلا أجهل ولا أعمى بصيرة من فرعون أهدى منه في معرفته بالعجز عن درك ذاته.

قال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة : (من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل).

وقال أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة : (من اعتقد في الله عزوجل ما يليق بطبعه كالعامي فهو مشبه فإنه عزوجل منزه عن كل ما يصفه الآدمي أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحدث تعالى وتقدس عن ذلك) فإيمان العامي لضعف علمه وعقله يقبل التشكيك (١).

__________________

(١) هذا الكلام ليس على عمومه فإن من العامة من يندهش العالم لمبلغ كمال إيمانه بالله عزوجل وقد يصدق ذلك في بعض العوام الذين لم ينشئوا في حجور أهل الدين ولم يختلطوا بهم وهو أندر من الكبريت الأحمر بين طبقات العوام ، اه مصححه.

قال ابن عباس : سبحانه وتعالى بخلقه يؤمنون به مجملا ويكفرون به مفصلا حملهم على ذلك زخرف العدو وإغواؤه رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)) [يوسف : ١٠٦] هم الذين شبّهوا الله بدسيسة عدم علمهم بغوائل النفس الأمّارة بالسوء وعدم تأملهم قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [الكهف : ٥١] وفي ذلك إشارة إلى عجز الخليقة أن تدرك بعض صفات ذواتها في ذاتها أو تدري كيف كنهها في أنفسها بعدم شهودهم خلق السماوات والأرض وخلق أنفسها فلم تملك أن تحتوي علم أنفسها في أنفسها فكيف تدري أو تدرك شيئا من صفات موجدها من العدم وبارئها ومالكها.

وقال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذّاريات : ٤٩](سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) [يس : ٣٦] وفي ذلك إشارة ظاهرة إلى عجزك عن إدراك كنه بعض المخلوقات على اختلاف ذواتها وصفاتها وفي بعضها ما لا يخطر على قلب بشر فكيف بالخالق الذي نزّه نفسه بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وهو سبحانه وتعالى مباين لخلقه من كل وجه لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه تقدّس أن يدركه حادث أو يتخيله وهم أو يتصوره خيال. كل ذلك محال. فهو الملك القدوس المنزّه في ذاته و

صفاته عن مشابهة مخلوقاته وأنت من مخلوقاته ، ركبك على منوال عجيب ، وجعلك في أحسن صورة وأعجب ترتيب ، مع تنقل تارات من ماء مهين فقال عزوجل : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤] الإنسان هنا هو آدم عليه‌السلام وسلالته لأنه سلة من كل تربة وكان عليه‌السلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي الإنسان (نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي حرز منيع وهو الرحم (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي دما (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي قدر ما يمضغ (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) وبين كل خلقتين أربعون يوما (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وهو نفخ الروح فيه. قاله ابن عباس ومجاهد والشعبي وغيرهم. وقيل : نبات الأسنان والشعر قاله قتادة. وقيل ذكرا أو أنثى قاله الحسن. وقيل غير ذلك (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي المصورين والمقدرين تنزّه سبحانه وتعالى بعد ذكر هذه الأطوار. المعنى أن من هذه من بعض مقدوراته يستحق التعظيم والتنزيه لأن هذه التارات والتنقلات إنشاء بعد إنشاء في غاية الدلالة على كمال القدرة ووصف الألوهية ثم الإنشاء الآخر أن شق الشقوق وخرق الخروق وأخرج

العصب وجعل العروق كالأنهار الجارية وركّبها على منوال غريب مع كونه خلقا سويا فأظهر يد القدرة والآيات الظاهرة وكمال الصنع والحكمة الباهرة وأودع فيه الروح والحركة والسكون والإدراك والتمييز ولغات الكلام والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة وغير ذلك مما يليق بهذا النوع الإنساني الحيواني إلى غير ذلك مما يطول عده ويعسر تقديره وحده (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

ولو قيل لك أخبرني عن قدر عروقك رقة وثخانة وطولا وقصرا أو عن حقيقة بعض ما في باطنك من أي نوع كان لعجزت عن بيان ذلك ولخرست ، وأنت وجميع هذا النوع الإنساني نتفة تراب جعله بشرا منتشرا فتعالى الله وتبارك أن يخوض في ذاته وصفاته إلا من عدم الرشاد ، وسلك سبيل الفساد والعناد ، وصيّر نفسه أخس العباد ، فمن حقق نظره واستعمل فكره وجد نفسه أجهل الجاهلين بعظمة هذا العظيم فلا يقدره أحد قدره ولا يعرفه سواه وإن قربه وأدناه ، فسبحانه ما أثنى عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه ، عجز الأنبياء والمرسلون عن ذلك.

قال أجلهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ومن تأمل كلام الله عزوجل وجده محشوا بتنزيهه تارة بالتصريح وتارة بالتلويح وتارة بالإشارات وتارة بما تقصر عنه العبارات وهؤلاء (١) العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين قربوا من درجة النبوة لأنهم دلوا الناس على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ويرجح مدادهم على دم الشهداء ويستغفر لهم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وهم أمناء الله عزوجل في أرضه وأحدهم على الشيطان أشد من ألف عابد وقد قيل في قوله تعالى : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] أي زدني علما بالقرآن ومعانيه وهؤلاء لهم علم لدني يرد على قلوبهم من غيب الهدى لها جولان في الملكوت فترجع إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يلقي إليها عالم علمه ومن ثمرة ذلك حصول الخشية وتزايد الخوف والعمل بالإخلاص والصدق والزهد وصون النفس عن مواطن الهلكة وإلا هلك وأهلك غيره ، ومثل العالم كمثل السفينة إذا انخرقت غرقت وغرق أهلها ، فواجب على العالم أن يحترز لئلا يهلك ويهلك غيره فيلقي الله بذنوبه وذنوب غيره فيضاعف عليه العذاب.

__________________

(١) معطوف على الأنبياء أي عجزوا كما عجز الأنبياء عن وصف ربنا عزوجل كما ينبغي له ويليق به ولو لا ما علمهم الله تعالى في دينه ما عرفوا ما عرفوا من وحيه وإنما قلنا بذلك العطف لأنه لم يجيء بعدهم حديث عنهم فليعلم ، اه مصححه.

قال محمد بن المنكدر وهو من سادة التابعين وكانت عائشة رضي الله عنها تحبه وتكرمه وتبره : الفقيه يدخل بين الله عزوجل وبين عباده فلينظر كيف يدخل. وصدق ونصح قدس الله روحه. وهذا شأن السلف بذلوا النصيحة للإسلام والمسلمين وكانوا شديدين على من خالف ولا سيما لما ظهر أهل الزيغ وتظاهروا بالتنويه بذكر آيات المتشابه وأحاديثه بالغوا في التحذير منهم ومن مجالستهم وكانوا يقولون هم الذين عنى الله عزوجل في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران : ٧] الآية وكذا قالت عائشة رضي الله عنها ، وكانوا يقولون إذا جلس أحد للوعظ والتذكير تفقدوا منه أمورا ولا تغتروا بكل واعظ فإن الواعظ إذا لم يكن صادقا ناصحا سليم السريرة من الطمع والهوى هلك وأهلك ، وذكروا أشياء ببعضها تنطفئ نار الشبه التي بها يموه أهل الزيغ ومن لا يقبلها فما ذاك إلا أن الله عزوجل يريد إهلاكه وحشره في زمرة السامرة واليهود والزنادقة ومن يرد الله عزوجل إضلاله فلا هادي له (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرّعد : ٤١](لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] قسم الخلق إلى شقي وسعيد ، فهو الفعال لما يريد ، فمن اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى ، ومن ابتع هوى نفسه الأمّارة وأهل الزيغ والضلالة وحاد عن سبيل من بهم يقتدي هلك في المرقى.

ولنرجع إلى قول السلف رضي الله عنهم : إذا جلس شخص للوعظ فتفقدوا منه أمورا إن كانت فيه وإلا فاهربوا منه وإياكم والجلوس إليه وإلا هلكتم من حيث طلبتم النجاة. قالوا ذلك حين ظهر أهل الزيغ والبدع وكثرت المقالات وذلك بعد وفاة عمر رضي الله عنه ، وحديث حذيفة رضي الله عنه يدل لذلك واللفظ لمسلم قال حذيفة : (كنا عند عمر رضي الله عنه فقال أيكم سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم : نحن سمعناه ، فقال : لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره ، قالوا : أجل ، قال : تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ، ولكن أيكم سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة رضي الله عنه : فأسكت القوم فقلت : أنا ، قال : أنت لله أبوك؟ قال حذيفة رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تعرض الفتن على القلوب كالحصير فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفاة فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» قال حذيفة رضي الله عنه : وحدثته أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر ، قال : قال عمر رضي الله عنه : اكسر لا أبا لك فلو أنه فتح

لعله كان يعاد ، قال : لا بل يكسر ، وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت حديثا ليس بالأغاليط).

قال أبو خالد : فقلت لسعيد : يا أبا مالك : ما «أسود مربادا»؟ قال : شدة البياض في السواد ، قلت : فما «الكوز مجخيا»؟ قال : منكوسا ، فقوله ليس بالأغاليط يعني أنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والفتن كل أمر كشفه الاختبار عن أمر سوء وأصله في اللغة الاختبار وشبهت بموج البحر لاضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدة عظمها وشيوعها ، وقوله «تعرض الفتن على القلوب» أي تلصق بعرض القلوب أي بجانبها كالحصير تلصق بجنب النائم وتؤثر فيه لشدة التصاقها وهذا شأن المشبهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثر وتحسن لعقولهم ذلك حتى يعتقدوا ذلك دينا وقربانا من الله عزوجل وما يقنع أحدهم حتى يبقى داعية وحريصا على (١) إفتان من يقدر على إفتانه كما هو مشاهد منهم ، وإلى مثل ذلك قوله : «أشربها» أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] أي حبه ، فقوله : «إن بينك وبينها بابا مغلقا» معناه أن تلك الفتن لا تفتح ولا يخرج منها شيء في حياتك ، وقوله : «يوشك» هو بضم الياء وكسر الشين معناه أنه يكسر عن قرب و «الرجل» هو عمر وقد جاء مبينا في الصحيح والحاصل أن الحائل بين الناس وبين الفتن هو عمر رضي الله عنه ما دام حيا فإذا مات دخلت ، ومبدأ الفتن هو الذين شرقوا (٢) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لعلمهم أن الدين لا يتم إلا بهما لأن عندهم علما بذلك وكانوا يظهرون الإسلام ويقرءون شيئا من القرآن وكانوا يرمزون إلى التعرض بالنقص حتى في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أن منهم من كان يؤم الناس ولا يقرأ في الجهرية إلا بعبس لما فيها من العتاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل ابن أم مكتوم وهم رضي الله عنه على (٣) قتاله وتظاهر شخص بسؤال ما الذاريات ذروا فقال عمر رضي الله عنه : اللهم أمكني منه ، فمرّ يوما فقيل له : هو ذا ، واسم الرجل صبيغ ، فشمّر عمر رضي الله عنه عن ذراعيه وأوجعه جلدا ثم قال : أرحلوه فأركبوه على

__________________

(١) يريد فتنة من يقدر على فتنته أو فتن أو فتون الخ ، اه مصححه.

(٢) أي غصوا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصاحبيه فلم يستطيعوا أن ينفذوا ما يضمرون من الكيد للإسلام في وجودهم لعلمهم الخ ، اه مصححه.

(٣) على موضع الباء ، اه مصححه.

راحلته ، فقال : طيفوا به في حيه ليعلم الناس بذلك (١) وكان رضي الله عنه شديدا في دين الله عزوجل لا تأخذه في الله لومة لائم وقد ذكرت نبذة يسيرة من سيرته في كتاب (قمع النفوس).

ولما كان أواخر القرن الأول اتسع الأمر من القصاص وتظاهر شخص يقال له المغيرة بن سعيد وكان ساحرا واشتهر بالوصاف وجمع بين الإلحاد والتنجيم ويقول إن ربه على صورة رجل على رأسه تاج وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء ويقول ما لا ينطق به ويقول إن الأمانة في قول الله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) [الأحزاب : ٧٢] هي أن لا يمنع على الخلافة ، وقوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] هو أبو بكر رضي الله عنه.

وقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر أن يحملها ويمنع عليا منها وضمن عمر أنه يعين أبا بكر بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة له بعده فقبل أبو بكر منه وأقدما على المنع متظاهرين ، ثم وصفهما بالظلم والجهل فقال : وحملها أبو بكر إنه كان ظلوما جهولا. وزعم أنه نزل في حق عمر رضي الله عنه : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) [الحشر : ١٦] الآية ، وكان يقول بتكفير سائر الصحابة رضي الله عنهم إلا لمن ثبت مع علي رضي الله عنه وكان يقول إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يختلفوا في شيء من الشرائع ، وكان يقول بتحريم إنكار المنكر قبل خروج الإمام ، وقال لمحمد الباقر : أقر أنك تعلم الغيب حتى أجبي لك العراق ، فانتهره وطرده ، وكذا فعل بجعفر الصادق ولد محمد الباقر فقال : أعوذ بالله ، وكان يقول : انتظروا محمد بن عبد الله الإمام فإنه يرجع ومعه ميكائيل وجبريل يتبعانه من الركن والمقام ، وكان له خبائث ، فلما كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن عبد الله القشيري فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه فهذا شأن أهل الزيغ.

واستمر الأمر على ذلك إلا أنهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار الكب (٢) على سماع الحديث ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس العوام ثم كثرت المقالات في زمن الإمام أحمد وكثر القصاص وتوجع هو وابن عيينة وغيرهما منهم وكان الإمام أحمد يقول : كنت أود لو كان قصاصا صادقا نصوحا طيب السريرة ، ونبغ في زمنه محمد بن كرام السجستاني وترافق مع الإمام أحمد

__________________

(١) ونفاه بعد ذلك رضي الله عنه ولم يرجعه حتى صدقت توبته ، اه مصححه.

(٢) يريد الإكباب ، اه مصححه.

وأظهر حسن الطريقة حتى وثقه هو وابن عيينة ، وسمع الحديث الكثير ووقف على التفاسير وأظهر التقشف مع العفة ولين الجانب ، وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط وعلى رأسه قلنسوة بيضاء ، ثم أخذ حانوتا يبيع فيه لبنا ، واتخذ قطعة فرو يجلس عليها ويعظ ويذكر ويحدث ويتخشع حتى أخذ بقلوب العوام والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده حتى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون ألفا ، وكان من غلاة المشبهة وصار يلقي على العوام الآيات المتشابهة والأخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوام وما ألفوه ففطن الحذّاق من العلماء فأخذوه ووضعوه في السجن فلبث في سجن نيسابور ثمان سنين ثم لم يزل أتباعه يسعون فيه حتى خرج من السجن وارتحل إلى الشام ومات بها في زعر ولم يعلم به إلا خاصة من أصحابه فحملوه ودفنوه في القدس الشريف وكان أتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفا على التعبد والتقشف وقد زيّن لهم الشيطان ما هم عليه وهم من الهالكين وهم لا يشعرون واستمر على ما هم عليه خلق شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا.

قال الله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨] قال سعيد بن جبير : هذه الآية نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ، المعنى أنه ركض في ميادين الباطل وهو يظنها حقا ، كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول عند هذه الآية : إن الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها والبدعة هي استحسان ما يسوق إليه الهوى والشبهة مع الظن بكونها حقا وهؤلاء ينزع من قلوبهم نور المعرفة وسراج التوحيد من أسرارهم ووكلوا إلى ما اختاروا فضلّوا وأضلّوا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] حتى ينكشف لهم الأمر كما قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزّمر : ٤٧] قيل : عملوا أعمالا ظنوا أنها في كفة الحسنات فإذا هي في كفة السيئات ، وهذه الآية قيل إنها في أهل البدع يتصور (١) ويعتقد مع تمام الورع والزهد وتمام الأعمال الصالحة وفعل الطاعات والقربات ما عاقبته خطرة. ومن ذلك أن يعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله ما هو خلاف الحق ويعتقده على خلاف ما هو به إما برأيه ومعقوله الذي يحاكي به الخصوم وعليه يعول وبه يغتر قد زين له العدو وحلاه له حتى اعتقده دينا ونعمة وإما أخذا بالتقليد ممن هذه حاله ، وهذا التقليد كثير في العوام لا سيما من يعضد بدعته واعتقاده بظاهر آية أو خبر وهو على وفق الطبع والعادة وقد أهلك اللعين بمثل هذا خلقا لا يحصون حتى أنهم يعتقدون أن الحق في

__________________

(١) أي أحدهم ، اه مصححه.

مثال ما هم عليه وأن غيرهم على ضلالة ومثل هؤلاء ومن اتبعوهم إذا بدا لهم ناصية ملك الموت انكشف لهم بطلان (١) ما اعتقدوه حقا باطلا وجهلا وختم لهم بالسوء وخرجت أرواحهم على ذلك وتعذر عليهم التدارك وكذا كل اعتقاد باطل ، ولا يفيد زوال ذلك كثرة التعبد وشدة الزهد وكثرة الصوم والحج وغير ذلك من أنواع الطاعات والقربات لأنها تبع لأمر باطل ولا ينجو أحد إلا بالاعتقاد الحق ، وقد قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] وهذه الآية صريحة في أنه ليس بين الحق والباطل واسطة والباطل هو الذهاب عن الحق مأخوذ من ضل الطريق وهو العدول عن سمته والحق هو الصراط المستقيم الذي في قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)) [الأنعام : ١٥٣] وصف الله تعالى صراطه وهو دينه بالاستقامة وأمر باتباعه ، والمستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه فمن اتبعه أوصله إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.

قال سهل : الصراط المستقيم هو الاقتداء والاتباع وترك الهوى والابتداع ، ثم إنه تعالى نهى عن اتباع السبل لما فيها من الحيدة عن طريق الاستقامة فقال : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] أي تميل بكم عن طريقه التي ارتضى وبه (٢) أوصي إلى سبل الضلالات من الأهواء فتهلكوا.

قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما الصراط المستقيم؟ فقال : ما تركنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جوادّ وعن يساره جوادّ وثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ، ثم تلا : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) [الأنعام : ١٥٣] الآية ، فأشار رضي الله عنه بالرجال الذين على الجوادّ إلى علماء السوء وأهل البدع ، وأشار بقوله : يدعون من مرّ بهم ، إلى الوعّاظ الذين هم سبب هلاك من قعد إليهم.

ولهذا بالغ السلف رضي الله عنهم في التحذير من مجالسة كل أحد وقالوا : إذا جلس للوعظ فتفقدوا منه أمورا فإن كانت فيه فاهربوا منه وإلا هلكتم من حيث ظننتم

__________________

(١) لعل لفظ بطلان من زيادة النساخ ، اه مصححه.

(٢) راعى في وصف الطريق بالتي جواز تأنيثها وراعى في رجوع الضمير إليها في به جواز تذكيره فليعلم ، اه مصححه.

النجاة منها إن كان مبتدعا فاحذروه واجتنبوه فإنه على (١) لسان الشيطان ينطق ومن نطق على لسان الشيطان فلا شك ولا ريب في إغوائه فيهلك لإنسان من حيث يظن السلامة وأيضا ففي المشي إليه ومجالسته تعظيم له وتوقير.

روى ابن عدي من حديث عائشة رضي الله عنها «من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» ورواه الطبراني في معجمه الأوسط ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن بشر وبهذا وغيره يجب التبري من أهل البدع والتباعد.

قال بعض السلف : (من بشّ في وجه مبتدع أو صافحه فقد حلّ عرى الإسلام عروة عروة).

وقال شخص من أهل الأهواء لأيوب السختياني رضي الله عنه : أكلمك كلمة؟ فقال : لا الله ولا نصف كلمة ، وكان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا.

قال رضي الله عنه : كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبكي حتى نرحمه وكان يقول : إذا بلغني موت أحد من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي ، وكان يقول : والله ما صدق عبد إلا سره ألا يراه أحد (٢).

وكان يونس بن عبيد يقول : احفظوا عني ثلاثا مت أو عشت : لا يدخلن أحد على سلطان يعظه أو يعلمه ، ولا يخلون بامرأة شابة وإن أقرأها القرآن ، ولا يمكن سمعه من ذي هوى ، وأشدها الثالثة لما فيها من الزيغ أعاذنا الله من ذلك. وكان يقول : ما يزال العبد بخير ما أبصر ما يفسد عمله. ويونس هذا تابعي من أصحاب الحسن البصري ، وكان أبو عبد الله الأصبهاني من عباد الله الصالحين ومن البكائين ولم يكن بأصبهان أزهد منه ولا أورع منه ، قال : وقفت على علي بن ماشاذة وهو يتكلم على الناس فلما جاء الليل رأيت رب العزة في النوم فقال لي : وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لأحرمنك النظر في الدنيا ، فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئا.

__________________

(١) على بمعنى عن أو الباء ، اه مصححه.

(٢) أي وهو يعمل الصالحات وهو كلام جليل فليفكر فيه القارئ طويلا لعله يتحقق به ، اه مصححه.

وقال الحميدي : سمعت الفضيل يقول : من وقر صاحب بدعة أورثه الله عمى قبل موته ، قيل : أراد أيضا عمى البصيرة.

واعلم أن الكلام على البدعة وأهلها فيه طول جدا وقد ذكرت جملة منه في (تنبيه السالك على مظان المهالك) ومنها : أن يكون الواعظ سيئ الطعمة فإنه إنما ينطق بالهوى لأن مثل هذا يوقع الناس في الحرام أو ربما اعتقدوا حله لأنهم يقتدون به في فعله بواسطة قوله.

ومنها : أن يكون رديء العقل أحمق فإنه يفسد بحمقه أكثر مما يصلح والأحمق هو الذي يضع الشيء في غير موضعه ويعتقد أنه يصيب. قال عيسى عليه‌السلام : أبرأت الأكمه والأبرص وأعياني الأحمق ، فالأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه للطريق فاسد فلا يكون له رؤية صحيحة في طريق الوصول إلى الغرض ويختار ما لا ينبغي أن يختار وهذا واجب الاجتناب بخلاف صاحب العقل الصحيح فإنه يثمر حسن النظر وجودة التدبير وثقافة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأدلة والأعمال وخفايا النفس الأمّارة وغرور الشيطان.

ومنها : أن يذكر الأدلة التي هي رجاء وتوسعة على النفوس ويسكت عن آيات الخوف والرهبة وكذا الأخبار والآثار لأنه بذلك يحل من القلوب الزواجر ويسهل ارتكاب المعاصي لا سيما إذا علم منه ارتكاب شيء ولو كان مكروها فإنه يوقع الناس في ورطة عظيمة.

قال : إذا عبث العلماء بالمكروه عبث العوام بالحرام وإذا عبث العلماء بالحرام كفر العوام معناه أنهم يعتقدون حله لارتكاب العلماء ذلك لأنهم القادة وعليهم المعول في التحليل والتحريم.

ومنها : أن يتعرض لآيات المتشابه وكذلك الأخبار ويجمعها ويسردها ويكرر الآية والخبر مرارا لأنه يوقع العامي في ما اعتاده وألفه فيجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه ويزينه الشيطان له بغروره لا سيما إن كان الواعظ ممن يظهر زهدا وورعا وشفقة على الناس فكم من شخص حسن الظاهر خبيث الباطن جميل الظاهر قبيح السرائر والضمائر ، والسلف رضي الله عنهم لهم اعتناء بشدة مجانبة هذا والتباعد عنه.

ومنها : أن يكون متهما بالرفض وبسب الصحابة رضي الله عنهم وهؤلاء نبّه مالك رضي الله عنه على أنهم من سلالة المنافقين وأوضح ذلك نور الله تعالى قلبه

فقال : أرادوا أن يقدحوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء فلم يجدوا مساغا فقدحوا في الصحابة لأن القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه وهؤلاء كفار لاستحلالهم سب أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ومنهم أقوام يلبسون على الناس بقراءة البخاري وغيره وهم لا يعتقدون البخاري ويسمونه فيما بينهم بالفشاري ولهم خبائث عديدة كل واحدة كفر محقق ، وبقي أمور لا أطول بذكرها فمن أراد الله به خيرا حماه عن مجالسة هؤلاء لأن القلب سريع الانقلاب وقبول الرخص والشبه فإذا علقت به الشبهة والريبة فبعيد أن يرتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه وأقل ما ينال القلب التردد والحيرة وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان فإن كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميا والمبتدع أدخلها عليه بقال الله عزوجل وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعيد أن يرجع ويتقشع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة لتحكم الشبهة بالدليل وهذا من الهالكين إلا أن يتداركه الله برحمته لأن عمدة الناس الكتاب والسنة والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضي فمن حق العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم وأن لا يغتر بتقشفهم وكثرة تعبدهم وزهدهم ووصفهم لأنفسهم فإن ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها وبها تتشرب القلوب لبدعتهم لا سيما من قلبه مشغوف بحب الدنيا إذا رئي زاهدا فيها مع إكبابه على الكتاب والسنة مع الورع والزهد والعفة والقناعة فلا شك ولا ريب أنه يرغب فيه غاية الرغبة ويميل إليه غاية الميل ولا يصده عنه صاد كما هو مشاهد من العوام ومحبتهم ورغبتهم لمن هو بهذه المثابة فتنبه لذلك فقد أوضحت طريق السلامة والتباعد عن مظان الهلكة فكم من شخص قصده صالح قد هلك بمثل هؤلاء إخوان الشياطين وهو لا يشعر وعليك بالاقتداء بالأطباء أعني أطباء القلوب وهم الأنبياء عليهم‌السلام لأنهم العالمون بأسباب الحياة الأخروية ثم أتباعهم الذين أخذوا عنهم وشاهدوا منهم ما لم يشاهده غيرهم. شعر :

من كان يرغب في النجاة فما له

غير اتباع المصطفى فيما بدا

فاتبع كتاب الله والسنن التي

صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى

فالدين ما قال النبي وصحبه

فإذا اقتديت بهم فنعم المقتدى

فسبحان الحليم الودود ، الممهل الكريم العميم الجود ، العالم بخفايا الضمائر ودبيب النملة على الصخرة في الليالي السود ، ويرى جريان الماء في العود ، القادر فكل ما سواه بقدرته موجود ، نزّه نفسه بنفسه لعجز خلقه عن ذلك ، فتعالى عن

الأشكال والأمثال والجهات والحدود ، صفاته قديمة ثابتة بالنقل والعقل فمن عطل وقع في الجحود ، وتنزيهه عن النقائص والأشباه محقق ومعلوم والتشبيه مذهب السامرة واليهود ، وكف الكف مشلولة بل مقطوعة وباب التشبيه مردود ومسدود ، فمن فتحه هجمت عليه نار الوعيد فأهلكته كما هلك فرعون ونمرود ، وأصحاب الأخدود وعاد وثمود ، فنسأل الله العافية من الفتن ومن أسبابها ومن النار ذات الوقود ، ونتوسل إليك بسيد الأولين والآخرين محمد كما توسل به أبو البشر فقبلته فهو أحمد المحمود ، صاحب الحوض المورود ، والمقام المحمود ، فهو أعظم الوسائل ولا يخيب من توسل به ولو كان من أهل الجحود.

قال الله تعالى : (وَكانُوا) [البقرة : ٦١] أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٢٥] أي بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَسْتَفْتِحُونَ) [البقرة : ٨٩] أي يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] وهم مشركو العرب كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو اللهم انصرنا بجاه النبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة ، فكانوا ينصرون وكانوا يقولون لأعدائهم كغطفان وغيرها من المشركين قد أظلّ زمان نبي يخرج بتصديق ما قلناه فنقتلكم معه قتل عاد وثمود.

فانظر أرشدك الله إلى قدره ودنو منزلته عند ربه كيف قبل عزوجل التوسل به من اليهود مع علمه سبحانه بأنهم يكفرون به ولا يوقرونه ولا يعظمونه بل يؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه فمن منع التوسل به فقد نادى على نفسه وأعلم الناس بأنه أسوأ حالا من اليهود. شعر :

أنت الملاذ لنا وأنت المرتجى

وبك اللياذ وأنت ملجأ من لجا

يا سيد الكونين يا من قد سما

معراجه فوق السماء وعرجا

يا سيد الثقلين والحكم الهدى

والمقصد الأسنى لأبواب الرجا

يا سيدا من أم باب مقامه

ألفاه خير مقام سؤل يرتجى

يا سيدا ما أمه من ضامه

ريب الزمان بخطبه الأنجا

يا سيدا جعل الإله وجوده

للعالمين المرتجى والملتجى

يا خاتم الرسل الكرام ومن به

رب البرية كل هم فرجا

غيره :

وكن مستجيرا بالذي نال رفعة

إلى عزها ذل الملوك الأكاسر

نبي له جاه عريض ومنصب

عظيم له تعزي العلى والمفاخر

جليل جميل راحم متعطف

فصيح مليح كامل الحسن باهر

ألا يا رسول الله يا غاية المنى

لقد نلت فخرا ما لأدناه آخر

أيا درة الأنباء يا جوهر الورى

هنيئا لنفس في هواك تتاجر

لقد ربحت في بيعها وتنعمت

وقد سعدت يا درها والجواهر

حبيبي رسول الله كن لي شافعا

أغثني أجرني يوم تبلى السرائر

بجاهك آمال الضعيف تعلقت

إذا نصب الميزان والعقل طائر

فكن شافعي عند الإله فإنه

حليم كريم غافر الذنب ساتر

مضى العمر في لهو وزهو وغفلة

وإني عن الفعل الحميد لقاصر

فيا رب داركنا بعفو ورحمة

فأنت جميل العفو للكسر جابر

وخذ بنواصينا وطهر قلوبنا

ومنّ بعفو منك فالعفو غامر

وصل على البدر الذي من جبينه

بدا الشمس والأقمار والنجم زاهر

نجزت هذه الأحرف المباركات على قارئها ومستمعيها المتأسين بأهل الحق التابعين للصفوة من أولي المعجزات المنزهين لرب العالمين والمعظمين لسيد الأولين والآخرين وسائر الأنبياء والمرسلين وسرج هذه الأمة من بعدهم كالصديقين وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وكنت قد عزمت على أن أقتصر على ذلك لأن في بعض ما ذكرته وقاية من المقت والمهالك ثم قيل لي وكرر علي أن أهل التشبيه والتجسيم والمزدرين بسيد الأولين والآخرين تبعا لسلالة القردة والخنازير لهم وجود وفيهم كثرة وقد أخذوا بعقول كثير من الناس لما يزينون لهم من الاطراء على قدوتهم ويزخرفون لهم بالأقوال والأفعال ويموهون لهم بإظهار التنسك والإقبال على كثرة الصلاة والصوم والحج والتلاوة وغير ذلك مما يحسن في قلوب كثير من الرجال لا سيما العوام المائلين مع كل ريح أتباع الدجال فانقادوا لهم بسبب ذلك وأوقعوهم في أسر المهالك فرأيت بسبب هذه المكائد والخزعبلات أن أتعرض لسوء عقيدتهم قمعا لهذا الزائغ عن طريق أهل الحق وهم الأئمة الأربعة المقتدى بهم والمعول عليهم في جميع الأعصار والأقطار لأنهم النجوم الذين بهم يهتدى وقد بالغ جمع من الأخيار من المتعبدين وغيرهم من العلماء أهل مكة وغيرها أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق هذه الأئمة ولو كان أحرفا يسيرة إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة

فاستخرت الله عزوجل في ذلك مدة مديدة ثم قلت : لا أبا لك ، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الإغواء والمهالك فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما عملت ، وإلا ألجمت بلجام من نار ومقت وها أنا أذكر الرجل وأشير باسمه الذي شاع وذاع ، واتسع به الباع ، وسار بل طار في أهل القرى والأمصار ، وأذكر بعض ما انطوى باطنه الخبيث عليه وما عول في الإفساد بالتصريح أو الإشارة إليه ولو ذكرت كثيرا مما ذكره ودونه في كتبه المختصرات لطال جدا فضلا عن المبسوطات وله مصنفات أخر لا يمكن أن يطلع عليها إلا من تحقق أنه على عقيدته الخبيثة ولو عصر هو وأتباعه بالعاصرات لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات.

قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس : لو اطلع الحصني على ما اطلعنا عليه من كلامه لأخرجه من قبره وأحرقه ، وأكد هؤلاء أن أتعرض لبعض ما وقفت عليه وما أفتى به مخالفا لجميع المذاهب وما خطئ فيه وما انتقد عليه وأذكر بعض ما اتفق له من المجالس والمناظرات وما جاءت به المراسيم العاليات وأتعرض لبعض ما سلكه من المكائد التي ظن بسببها أنه يخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الإهانات وهيهات فأول شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى إلى مذهب الإمام أحمد وشرع يطلب العلم ويتعبد فمالت إليه قلوب المشايخ فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه فأظهر التعفف فزادوا في الغربة فيه والوقوع عليه ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلق في مسوداته حتى ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة وأخذ يدوّن ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا وليس لذلك حقيقة فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد إلا أنه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلا حاذق عالم متفنن فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلا ذلك المتفنن الفطن ثم مع ذلك شرع يتلقى الناس بالإنس وبسط الوجه ولين الكلام ويذكر أشياء تحلو للنفس لا سيما الألفاظ العذبة مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فطلبوا منه أن يذكر الناس ففعل فطار ذكره بالعلم والتعبد والتعفف ففزع الناس إليه بالأسئلة فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة قال له عادوني فيها فإذا جاءه قال هذه مسألة مشكلة ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط فإني أتقلدها في عنقي فيقول أنا أوفي لك فيقول إن تكتم علي فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك فيفتيه بما فيه فرجه حتى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته أن لو عرض له عارض ثم إنه علم أن ذلك لا يخلصه

فكان إذا كان في بعض المجالس قال (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلانا وزيرا وفلانا محتسبا وفلانا دويدارا وفلانا أمير البلد فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب فكانوا يقومون في نصرته. ثم اعلم أن مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره فجعل له مخلصا منهم بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس فيقول له ما عقيدة إمامك فإذا قال كذا وكذا قال أشهد أنها حق وأنا مخطئ واشهدوا أني على عقيدة إمامك ، وهذا كان سبب عدم إراقة دمه ، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه وأنه قطع الجميع ، ألا ترون كيف خرج سالما حتى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير لا سيما من العوام ، فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكرا فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عزوجل في سجن الزندقة والكفر ومن قواعده المقررة عنده وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن حقا كان أو باطلا ولو بالأيمان الفاجرة سواء كانت بالله عزوجل أو بغيره وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز وهذا مذهب فرقة الشيعة فإنهم لا يرونه شيئا وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث واحدة خزعبلات ومكر وإلا فهو لا يوقع طلاقا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه سواء كان حثا أو منعا أو تحقيق خبر فاعرف ذلك ، وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترا وخديعة وقد وقفت على مصنف له في ذلك (١) وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له : يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة بقول ابن تيمية فقال : اشهد علي أني تبت وظهر لي أنه كذب في ذلك ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتقية فنسأل الله العافية من المخادعة فإنها صفة أهل الدرك الأسفل (٢) ثم اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه أنه يذكر في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئا من معتقده الفاسد فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير وأعمق من ذلك أنه يذكر أن ذلك

__________________

(١) هذا شيء مدهش جدا ولو لا أن الذي يحكيه الإمام الحصني المعروف بشحه على دينه ما وجد ما يحكيه إلى القلوب سبيلا ، اه مصححه.

(٢) لا يتردد عاقل في أن ما سيحكيه الإمام الحصني بعد فعل دجاجلة لا علماء فليقرأه العاقل وليعجب كيف يكون من هذه بلاياهم أئمة في دين الله ، اه مصححه.

الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد المسافة كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] ولهذا لم يزل فيهم التعازير والضرب بالسياط والحبوس وقطع الأعناق مع تكتمهم ما يعتقدونه والمبالغة في التكتم حتى إنهم لا ينطقون بشيء من عقائدهم الخبيثة إلا في الأماكن الخفية بعد التحرز وغلق الأبواب والنطق بما هم عليه بالمخافتة ويقولون إن للحيطان آذانا ، ومن جملة مكرهم وتحيلهم أن الكبير منهم المشار إليه في هذه الخبائث له أتباع يظهرون له العلم والعظمة والتعبد والتعفف يخدعون بذلك أرباب الأموال لا سيما الغرباء فيدفع ذلك الغريب أو غيره إلى ذلك الشيخ شيئا فيأبى ويظهر التعفف فيزداد ذلك الرجل حرصا على الدفع فلا يأخذ منه إلا بعد جهد فيأخذها ذلك الخبيث ولا عليه من اطلاع الله تعالى على خبث طويته ويدفع بعضها إلى أتباعه وإلى غيرهم ويتمتع هو وخواصه بالباقي ولهم يد وقدرة على ذلك ، ومن جملة مكرهم من هذا النوع أن يكسو عشرة مساكين قمصانا أو غيرها ثم يقولون انظروا هذا الرجل كيف يجيئه الفتوح فيؤثركم بها وغيركم ويترك نفسه وعياله وأصدقاءه وهكذا كان السلف ويكون قد أخذ أضعاف ما دفع وكثير من الناس في غفلة من هذا ولو لا أن ذلك من جملة النصيحة لما ذكرته ولما تعرضت له وكان ما في نفسي شاغلا عن ذلك إلا أنه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بسبب نجدة الحروري المبتدع (لو لا أن أكتم علما لما كتبت إليه) يعني جواب ما كتب إليه بأن يعلمه مسائل والقصة مشهورة حتى في صحيح مسلم.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» رواه غير واحد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه منهم أبو داود وكذا الترمذي وحسنه والحاكم وصححه.

ثم إن كان المال المدفوع زكاة فلا تبرأ الذمة بدفعه إليهم لأنهم ليسوا من أهلها فليتنبه لذلك فإنه قد يخفي مع ظهوره وقد تشكك في ذلك وتلاعب الشيطان به فلنأخذ بجانب الاحتياط منه فإنه طريق السلامة والله أعلم.

واعلم أني لو أردت أن أذكر ما هم عليه من التلبيسات والخديعة والمكر لكان لي في ذلك مزيد وكثرة ، وفيما ذكرته أنموذج ينبه بعضه على غيره لا بما لمن له أدنى فراسة وحسن نظر بموارد الشرع ومصادره التي أشار إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعضها صرح به تصريحا ظاهرا لا يخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر.

وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة».

وفي صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء وليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية».

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو على المنبر : «ألا إن الفتنة هنا ـ ويشير إلى المشرق ـ من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية «إن الفتنة هاهنا» ثلاثا ، وفي رواية : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيت عائشة رضي الله عنها فقال : «رأس الكفر هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان» وهذا المبتدع من حران الشرق بلدة لا تزال يخرج منها أهل البدع كجعد وغيره.

وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري وأنس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية هم شر الخلق طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قتلهم كان أولى بالله منهم» قالوا : يا رسول الله وما سيماهم؟ قال : «التحليق والتسبيد فإذا رأيتموهم فأنيموهم» أي اقتلوهم ، والتسبيد هو الحلق واستئصال الشعر وقيل ترك التدهن وغسل الرأس وغير ذلك ، والأحاديث في ذلك كثيرة وفي واحد كفاية لمن أراد الله عزوجل به الرشد والهداية فقد أوضحهم سيد الناصحين صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار أوصافهم وأماكنهم إيضاحا جليا لا خفاء فيه ولا جهالة فلا يتوقف في معرفتهم بعد ذلك إلا من أراد الله تعالى إضلاله وإذا تمهد لك هذا أيها الراغب في فكاك نفسك من ربقة عقائد أهل الزيغ الضالين المضلين والاقتداء بأهل السلامة في الدين.

فاعلم أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ : المتتبع ما تشابه في الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن

أراد الله عزوجل إهلاكه فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به (١) ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره لما فيه من تكذيب رب العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين وكذا الازدراء بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموفقين فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمة المتقون وما اتفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين فمنه ما دوّن في المصنفات ومنه ما جاءت به المراسيم العليات وأجمع عليه علماء عصره ممن يرجع إليهم في الأمور الملمات والقضايا المهمات وتضمنه الفتاوى الزكيات من دنس أهل الجهالات ولم يختلف عليه أحد كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رءوس الأشهاد في المجامع الجامعة حتى شاع وذاع واتسع به الباع حتى في الفلوات فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني (٢) ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون رحمه‌الله تعالى وقرئ على منبر جامع دمشق نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة ، صورته :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي تنزّه عن التشبيه والنظير ، وتعالى عن المثل فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] أحمده على ما ألهمنا من العمل بالسنة والكتاب ، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير ، وينزّه خالقه عن التحيز في جهة لقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : ٤] ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته وأمر بالتفكر في الآيات ونهى عن التفكر في ذاته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع ، وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيفي ما شرع ، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع.

وبعد فإن القواعد الشرعية ، وقواعد الإسلام المرعية ، وأركان الإيمان العلمية ، ومذاهب الدين المرضية ، هي الأساس الذي يبنى عليه ، والموئل الذي يرجع كل أحد إليه ، والطريق التي من سلكها فاز فوزا عظيما ، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما ، ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها ، ويؤكد دوامها ، وتصان عقائد هذه الأمة عن

__________________

(١) ليتأمل هذا جدا فإنه عجيب ، اه مصححه.

(٢) لفظ ناصر الدين صفة لموصوف محذوف قطعا ليستقيم الكلام والتقدير الصادر من السلطان ناصر الدين الخ ، اه مصححه.

الاختلاف ، وتزان بالرحمة والعطف والائتلاف ، وتخمد ثوائر البدع ، ويفرق من فرقها ما اجتمع.

وكان ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ، ومدّ بجهله عنان كلمه ، وتحدث بمسائل الذات والصفات ، ونص في كلامه الفاسد على أمور منكرات ، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون ، وفاه بما اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون ، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام ، وشهر من فتاويه ما استخف به عقول العوام ، وخالف في ذلك فقهاء عصره ، وأعلام علماء شامه ومصره ، وبث به رسائله إلى كل مكان ، وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان ، ولما اتصل بنا ذلك وما سلك به هو ومريدوه ، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه ، من هذه الأحوال وأشاعوه ، وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه ، حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم فقمنا في نصرة الله مشفقين من هذا النبأ العظيم ، وأنكرنا هذه البدعة ، وعزنا (١) أن يشيع عمن تضمنه ممالكه هذه السمعة ، وكرهنا ما فاه به المبطلون ، وتلونا قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)) [الصّافات : ١٨٠] فإنه سبحانه وتعالى تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣] فتقدمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى أبوابنا ، حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا ، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا قوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : ٧٤] ولما وصل إلينا الجمع أولو العقد والحل ، وذوو التحقيق والنقل ، وحضر قضاة الإسلام ، وحكام الأنام ، وعلماء المسلمين ، وأئمة الدنيا والدين ، وعقد له مجلس شرعي في ملأ من الأئمة وجمع ، ومن له دراية في مجال النظر ودفع ، فثبت عندهم جميع ما نسب إليه ، بقول من يعتمد ويعول عليه ، وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر معتقده (٢) وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون ، وآخذوه بما شهد به قلمه تالين (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزّخرف : ١٩] وبلغنا أنه قد استتيب مرارا فيما تقدم ، وأخره الشرع الشريف لما تعرض لذلك ، وأقدم ، ثم عاد بعد منعه ، ولم يدخل ذلك في سمعه ،

__________________

(١) هذه الفقرة محرّفة ومعناها ليس بظاهر والذي يظهر أن أصلها وعذنا أن يشيع عمن تضمه ممالكه هذه السمعة ، يستعيذ السلطان بالله أن يشيع عنه هو تلك السمعة لأن الرجل في مملكته ، اه مصححه.

(٢) ليحفظ هذا ثم ليحفظه المغرورون ، اه مصححه.

ولما ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي حكم الشرع الشريف أن يسجن هذا المذكور ، ويمنع من التصرف والظهور ، ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك ، وينهي عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك ، أو يعود له في هذا القول متبعا ، أو لهذه الألفاظ مستمعا ، أو يسري في التشبيه مسراه ، أو يفوه بجهة العلو بما فاه ، أو يتحدث أحد بحرف أو صوت ، أو يفوه بذلك إلى الموت ، أو ينطق بتجسيم ، أو يحيد عن الطريق المستقيم ، أو يخرج عن رأي الأئمة ، أو ينفرد به عن علماء الأمة ، أو يحيز الله سبحانه وتعالى في جهة أو يتعرض إلى حيث وكيف ، فليس لمعتقد هذا إلا السيف (١) ، فليقف كل واحد عند هذا الحد ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وليلزم كل واحد من الحنابلة بالرجوع عن كل ما أنكره الأئمة من هذه العقيدة ، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة ، ولزوم ما أمر الله تعالى به والتمسك بمسالك أهل الإيمان الحميدة ، فإنه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل ، ومثل هذا ليس له إلا التنكيل ، والسجن الطويل مستقره ومقيله وبئس المقيل ، وقد رسمنا بأن ينادي في دمشق المحروسة والبلاد الشامية ، وتلك الجهات الدنية والقصية ، بالنهي الشديد ، والتخويف والتهديد ، لمن اتبع ابن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه ، ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه ، ووضعناه من عيون الأمة كما وضعناه ، ومن أصر على الامتناع ، وأبى إلا الدفاع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم ، وأسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم ، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية ، ولا شهادة ولا إمامة ، بل ولا مرتبة ولا إقامة ، فإنا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد ، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضلّ بها كثيرا من العباد أو كاد ، بل كم أضلّ بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد ، ولتثبت المحاضر الشرعية ، على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير المحاضر بعد إثباتها على قضاة المالكية ، وقد أعذرنا وحذرنا ، وأنصفنا حيث أنذرنا ، وليقرأ مرسومنا الشريف على المنابر ، ليكون أبلغ واعظ وزاجر ، لكل باد وحاضر ، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه ، وكتب ثامن (٢) عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة (٣).

__________________

(١) لينظر هذا كذلك ، اه مصححه.

(٢) كذا بالأصل والمعنى ظاهر ولعل الأصل في ثامن وعشرين من شهر الخ وكذا ما يأتي يقال فيه ذلك ، اه مصححه.

(٣) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣] ، اه مصححه.

وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب عيون التواريخ وهو ابن شاكر ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي وكان من أتباع ابن تيمية وضرب الضرب البليغ لكونه قال لمؤذن في مأذنة العروس وقت السحر أشركت حين قال :

ألا يا رسول الله أنت وسيلتي

إلى الله في غفران ذنبي وزلتي

وأرادوا ضرب عنقه ثم جددوا إسلامه وإنما أذكر ما قاله لأنه أبلغ في حق ابن تيمية في إقامة الحجة عليه مع أنه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته والعجب أن ابن تيمية ذكرها وهو سكت عنها.

كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه

فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن علي الدمشقي في صحن الجامع الأموي عن أبيه قال : كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية فذكر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال : (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا) قال : فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي وبادروا إليه ضربا باللكم والنعال غير ذلك حتى أوصلوه إلى بعض الحكام واجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم فقالوا : ما الدليل على ما صدر منك؟ فقال : قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فضحكوا منه وعرفوا أنه جاهل لا يجري على قواعد العلم ثم نقلوه ليتحققوا أمره فقالوا : ما تقول في قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥]؟ فأجاب بأجوبة تحققوا أنه من الجهلة على التحقيق وأنه لا يدري ما يقول وكان قد غرّه بنفسه ثناء العوام عليه وكذا الجامدين (١) من الفقهاء العارين عن العلوم التي بها يجتمع شمل الأدلة على الوجه المرضي وقد رأيت في فتاويه ما يتعلق بمسألة الاستواء وقد أطنب فيها وذكر أمورا كلها تلبيسات وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحسن رؤية ظن أنها على منوال مرضي ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله (إن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)) [الحديد : ٤] فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا) هذه عبارته بحروفها ، فتأمل أرشدك الله تعالى هذا التهافت وهذه الجرأة

__________________

(١) كذا بالأصل وليس يخفى أن لفظ الجامدين حقها الجامدون وكذا العارون ، اه مصححه.

بالكذب على الله تعالى أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه فوق العرش ومحتجا بلفظ الاستواء الذي هو موضوع بالاشتراك ومن قبيل المجمل وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقق به جهله وفساد تصوره وبلادته وكان بعضهم يسميه حاطب ليل وبعضهم يسميه الدار الهدار وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة (١) عن شيخه الذي تلقاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرف بالإسلام وهو (٢) من أعظم الناس عداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل علي رضي الله عنه واحدا منهم تكلم في مجلسه كلمة فيها ازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد وقفت على المسألة أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ليزدروه بها وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء فتصدى لهم الجهابذة من العلماء وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي والعرفي وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق ولم يبق منهم إلا الضعفاء في العلم ودامت فيهم مسألة التفرقة حتى تلقاها ابن تيمية عن شيخه وكنت أظن أنه ابتكرها واتفق الحذاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصورها. عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.

ولنرجع إلى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه ذكره في الجزء العشرين قال : وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق فسئل ابن تيمية عن عقيدته فأملى شيئا منها ثم أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت مواضع أخرت إلى مجلس ثان ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب وحضر المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا ثم اتفقوا على أن كمال الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيمية ورضوا كلهم بذلك فأفحم كمال الدين ابن تيمية وخاف ابن تيمية على نفسه فأشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي فرضوا منه بذلك وانصرفوا ثم إن أصحاب ابن تيمية أظهروا أن الحق ظهر مع شيخهم وأن الحق معه فأحضروا إلى مجلس القاضي جلال الدين القزويني وأحضروا ابن تيمية وصفع ورسم بتعزيره فشفع فيه وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيمية ثم قال : ولما كان

__________________

(١) ظاهر أنها الفوقية وكذا ما يأتي بعد كالسياق أو التفرقة بين حياة الرسول ومماته ، اه مصححه.

(٢) ظاهر أن هذا اللفظ هم لا هو ، اه مصححه.

سلخ رجب جمعوا القضاة والفقهاء وعقد مجلس بالميدان أيضا وحضر نائب السلطنة أيضا وتباحثوا في أمر العقيدة وسلك معهم المسلك الأول فلما كان بعد أيام ورد مرسوم السلطان صحبة بريدي من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبابن تيمية وفي الكتاب (تعرفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين في عقيدة ابن تيمية) فطلبوا الناس وسألوهم عما جرى لابن تيمية في أيام نقل عنه فيها كلام قاله وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين وتحدثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب في هذا الأمر فأجاب فلما كان ثاني يوم وصل مملوك ملك الأمراء على البريد من مصر وأخبر أن الطلب على ابن تيمية كثير وأن القاضي المالكي قائم في قضيته قياما عظيما وأخبر بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية وأن بعضهم صفع فلما سمع ملك الأمراء بذلك انحلت عزائمه عن المكاتبة وسير شمس الدين بن محمد المهمندار إلى ابن تيمية وقال له قد رسم مولانا ملك الأمراء بأن تسافر غدا وكذلك راح إلى قاضي القضاة فشرعوا في التجهيز وسافر صحبة ابن تيمية أخواه عبد الله وعبد الرّحمن وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيمية وفي سابع شوال وصل البريدي إلى دمشق وأخبر بوصولهم إلى الديار المصرية وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهر بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء ، فتكلم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادعى على ابن تيمية في أمر العقيدة ، فذكر منها فصولا فشرع ابن تيمية فحمد الله تعالى وأثنى عليه وتكلم بما يقتضي الوعظ فقيل له يا شيخ إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلى وعظك وقد ادعي عليك بدعوى شرعية فأجب ، فأراد ابن تيمية أن يعيد التحميد فلم يمكنوه من ذلك بل قيل له أجب فتوقف وكرر عليه القول مرارا فلم يزدهم على ذلك شيئا وطال الأمر فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس أخويه معه فحبسوه في برج من أبراج القلعة فتردد إليه جماعة من الأمراء فسمع القاضي بذلك فاجتمع بالأمراء وقال يجب عليه التضييق إذا لم يقتل وإلا فقد وجب قتله وثبت كفره فنقلوه إلى الجب بقلعة الجبل ونقلوا أخويه معه بإهانة وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي وحضر القراء والمنشدون وأنشدت التهاني وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة فلما كان بعد أيام عرضها عليه فرسم ملك الأمراء بقراءتها والعمل بما فيها امتثالا للمراسيم السلطانية وكانوا قد بيتوا على الحنابلة كلهم بأن يحضروا إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموي بعد الصلاة وحضر القضاة كلهم بالمقصورة وحضر

معهم الأمير الكبير ركن الدين بيبرس العلائي وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري الذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم وقرئ عقيبه الكتاب الذي وصل على يديه وفيه ما يتعلق بمخالفة ابن تيمية في عقيدته وإلزام الناس بذلك خصوصا الحنابلة والوعيد الشديد عليهم والعزل من المناصب والحبس وأخذ المال والروح لخروجهم بهذه العقيدة عن الملة المحمدية ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدم وتولى قراءته شمس الدين محمد بن شهاب الدين الموقع وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذن وقرئ بعده تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة وأحضروا بعد القراءة الحنابلة مهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة واعترفوا أنهم يعتقدون ما يعتقده محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يفتي بها ابن تيمية وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء وحضر ابن تيمية وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى ولا قبل مرسوم السلطان ولا حكم الحكام بمنعه فأنكر فحضر خمسة نفر فذكروا عنه أنه أفتاهم بعد ذلك فأنكر وصمم على الإنكار فحضر ابن طليش وشهود شهدوا أنه أفتى لحاما اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا فقيل لابن تيمية اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا بغيرها فكتب بخطه أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها ، فقال القاضي نجم الدين بن صصري : حكمت بحبسك واعتقالك ، فقال له : حكمك باطل لأنك عدوي ، فلم يقبل منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق ، وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء أفرج عن ابن تيمية من حبسه بقلعة دمشق وكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر ونصف وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر من شعبان قدم بريدي من الديار المصرية ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيمية فاعتقل في قلعة دمشق وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنه قال : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وإن زيارة قبور الأنبياء لا تشد إليها الرواحل كغيرها كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ثم إن الشاميين كتبوا فتيا أيضا في ابن تيمية لكونه أول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأولين والآخرين فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطرا بأشياء وآخر القول إنه أفتى بتكفيره ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه كذلك المالكي وكذلك كتب غيرهم ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته ثم أراد النائب أن يعقد لهم مجلسا

ويجمع العلماء والقضاة فرأى أن الأمر يتسع فيه الكلام ولا بد من إعلام السلطان بما وقع فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعه وسيرها فجمع السلطان لها القضاة فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكتب عليها (القائل بهذه المقالة ضال مبتدع) ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره مجمعا عليه (١) ثم كتب كتاب إلى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في أمره ، وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان إلى نائب البلد وأمره أن يقرأ على السدة في يوم الجمعة فقرئ وكان قارئ الكتاب بدر الدين بن الأعزازي الموقع والمبلغ ابن النجيبي المؤذن ومضمون الكتاب بعد البسملة أدام الله تعالى نعمه ونوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهزها بسبب ابن تيمية فوقفنا عليها وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء وعقدنا بهذا السبب مجلسا بين أيدينا الشريفة ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء فذكروا جميعا من غير خلف أن الذي أفتى به ابن تيمية في ذلك خطأ مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقا وكتبوا خطوطهم بين أيدينا على ظاهر الفتوى المجهزة بنسخة ما كتبه ابن تيمية وقد جهزنا إلى الجناب العالي طي هذه المكاتبة فيقف على حكم ما كتب به القضاة الأربعة ويتقدم اعتقال المذكور في قلعة دمشق ويمنع من الفتوى مطلقا ويمنع الناس من الاجتماع به والتردد إليه تضييقا عليه لجرأته على هذه الفتوى فيحيط به علمك الكريم ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الأئمة الأربعة وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه فإنه في كل وقت يحدث للناس شيئا منكرا وزندقة يشغل خواطر الناس بها ويفسد على العوام عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم فيمنع ما ذلك وتسد الذريعة منه فليكن عمله على هذا الحكم ويتقدم أمره به وإذا اعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية فيتقدم منع من سلك مسالكه أو يفتي بهذه الفتاوى أو يعمل بها في أمر الطلاق أو هذه القضايا المستحدثة وإذا اطلع على أحد عمل بذلك أو أفتى به فيعتبر حاله فإن كان من مشايخ العلماء فيعزر تعزير مثله وإن كان من الشبان الذين يقصدون الظهور كما يقصده ابن تيمية فيؤديهم ويردعهم ردعا بليغا ويعتمد في أمر ما يجسم به مواد أمثاله لتسقيم أحوال الناس وتمشي على السداد ولا يعود أحد يتجاسر على الإفتاء بما يخالف الإجماع ويبتدع في دين الله عزوجل

__________________

(١) لينظر هذا المغرورون ، اه مصححه.

من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه أحد إليه فالجناب العالي يعتمد هذه الأمور التي عرفناه إياها الآن وسد الذرائع فيها وقد عجلنا بهذا الكتاب وبقية فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين سبعمائة صورة الفتوى من المنقول من خط القضاة الأربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى :

الحمد لله هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة وما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه وقد نقل جماعة من العلماء أن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيلة وسنّة مجمع عليها وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء ويمنع من الفتاوى الغريبة ويجلس (١) إذا لم يمتنع من ذلك ويشهر أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.

وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي : لكن يحبس الآن جزما مطلقا. وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي : ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرّحمن القزويني فلما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه فغاروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيرة عظيمة وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته وللزائرين من أقطار الأرض واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه وأهانوه ووضعوه في السجن.

وذكر الشيخ الإمام العلامة شمس الدين الذهبي بعض محنته وأن بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة وكان سؤالهم عن عقيدته وعما ذكر في الواسطة وطلب وصورت عليه دعوى المالكي فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهرا ثم أخرج ثم حبس في حبس الحاكم وكان مما ادعى عليه بمصر أن قال : (الرّحمن استوى على العرش) حقيقة وأنه تكلم بحرف وصوت ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه (٢).

__________________

(١) ظاهر أن اللفظ ويحبس لا يجلس ، اه مصححه.

(٢) ليتأمل العاقل هذا ثم ليتأمله ، اه مصححه.

وذكر أبو حيان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ما صورته : (وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماه كتاب العرش (إن الله يجلس على الكرسي) وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق وكان من تحيله عليه أنه أظهر أنه داعية له حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه. ورأيت في بعض فتاويه أن الكرسي موضع القدمين وفي كتابه المسمى بالتدمرية ما هذا لفظه بحروفه بعد أن قرر ما يتعلق بالصفات المتعلقة بالخالق والمخلوق (ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قادر لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد لأن المفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا فكذلك لما وصف نفسه أنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن ظاهره غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا) هذه عبارته بحروفها وهي صريحة في التشبيه المساوي كما أنه جعل الاستواء على العرش مثل قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : ١٣] تعالى الله وتقدّس عن ذلك.

وقال في الكلام على حديث النزول المشهور (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعالان من ذهب) هذه عبارته الزائغة الركيكة وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه حريصا على ظاهرها واعتقادها وإبطال ما نزّه الله تعالى به نفسه في أشرف كتبه وأمر به عموما وخصوصا وذكره إخبارا عن الملأ الأعلى والكون العلوي والسفلي ومن تأمل القرآن وجده مشحونا بذلك وهذا الخبيث لا يعرج على ما فيه التنزيه وإنما يتتبع المتشابه ويمعن الكلام فيه وذلك من أقوى الأدلة على أنه من أعظم الزائغين ومن له أدنى بصيرة لا يتوقف فيما قلته إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب والسنة وتفيد القطع وتفيد ترتب الأحكام الشرعية لا سيما في محل الشبه.

قال بعض السلف رضي الله عنهم : الإعراض عن الحق والتسخط له علامة الركون إلى الباطل وطريق الحق دقيق وبعيد ، والصبر معه شديد ، والعدو لا يزال عنه يحيد ، وأثقال الحق لا يحملها إلا مطايا الحق.

وقال بعض السلف : داعي الحق داعي رشد ، ليس للشيطان فيه يد ، ولا للنفس فيه نصيب ، وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس ومتبعها هالك لا محالة لأنه عاص في صورة طائع ، ومبعد في صورة مقرب ، وصدق ونصح رضي الله عنه فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يحصون عدّا ، ولا يمكن ضبطهم حدا.

قال العلماء : إن وسوسة التشبيه من إبليس فالرد عليه وإبطال وسوسته أن يقول في نفسه كل ما تصور في صدري فالرب بخلافه فإنه لا يتصور في صدري إلا مخلوق له كيفية ومثل والرب سبحانه وتعالى لا مثل له ولا كيفية فما مثل في صدري فهو غير ربي فهو سبحانه وتعالى موحد الذات والصفات.

وسئل علي رضي الله عنه عن التوحيد والعدل فقال : (التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه).

وقال يحيى بن معاذ : (التوحيد في كلمة واحدة ما تصور في الأوهام فهو بخلافه).

وقال علي رضي الله عنه : (ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود).

وقال رضي الله عنه : (أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات المحدثة عنه فمن وصفه بحادث فقد قرنه ، ومن قرنه فقد؟؟؟ (١) ومن؟؟؟ فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عده).

قال المحققون : (من اعتقد في الله سبحانه وتعالى ما يليق بطبعه فهو مشبه لأنه سبحانه وتعالى منزّه عما يصفه به أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحديث).

وسئل ـ أعني عليا رضي الله عنه ـ : بم عرفت ربك؟ فقال : (عرفته بما عرف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس قريب في بعده بعيد في قربه فوق كل شيء ولا يقال تحته شيء وأمام كل شيء ولا يقال أمامه شيء وهو في كل شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره).

وقال أيضا رضي الله عنه : (عرّفنا الله سبحانه وتعالى نفسه بلا كيف وبعث سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغ القرآن وبيان المفصلات للإسلام والإيمان وإثبات الحجة وتقويم الناس على منهج الإخلاص فصدقته بما جاء به).

وقال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة : (من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل).

قال جعفر في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١] (هو الذي لم يعط لأحد من معرفته غير الاسم والصفة) وقيل هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته

__________________

(١) قوله :؟؟؟ هي ثناه ، اه مصححه.

وصفاته إلا هو وقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ (٢)) [الإخلاص : ٢] قيل هو الذي أيست العقول من أن تطلع عليه أو تدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه ، وقيل هو السيد الذي لا نهاية لسؤدده وقيل هو المصمود إليه في الحوائج وقيل هو الذي لا يستغني عنه شيء من الأشياء.

وقال ابن عباس رضي الله عنه : معناه الذي لا جوف له وقيل غير ذلك ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣)) [الإخلاص : ٣] نفي الجنسية والبعضية ، وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٤] نفي الشريك والنظير فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فتعالى أن تدركه الأوهام والعقول والعلوم بل هو كما وصف نفسه والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة كيف يكون ذلك وهو قديم الذات والصفات والتخيل إنما يكون في المحدثات.

وسئل الإمام العلامة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب فقال : كيف يستدل بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يشاهد ولا يعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل هذا من جهل الجاهلين بالآيات التي قلبوا بها حقائق الأمور فجعلوا الآيات صفات ومعنى الآيات العلامات ، وهو كلام إمام محقق وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك ، فسبحان الأحدي الذات العلي الصفات المنزّه عن الآلات ، المقدّس عن الكيفيّات ، المنزّه عن مشابهة المخلوقات ، تعالى عما يقوله من الإلحاقات ، كيف يقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات ، وهي من آياته البينات الظاهرات ، رفع السماوات وبسط الأرض وثبتها بالأوتاد الراسيات ، وأتحفها بالمزن الماطرات ، فزهت بأنواع النباتات المختلفات ، كذلك يحيي الموتى.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) [الحديد : ١٧] قال : أرباب البصائر وذوو التحقيقات : ليس كذاته ذات ، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلا من جهة موافقة اللفظ وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة وأن التكرار من حدوث الصفة جلّ ربنا أن يحدث له صفة أو اسم إذ لم يزل بجميع صفاته واحدا ولا يزال كذلك وكل أمور التوحيد والتفريد خرجت (١) من هذه الكلمة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] لأنه ما عبر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة لأن الحق لا ينبعث (٢) إقداره إلا على إقراره لأن كل

__________________

(١) أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة ، اه مصححه.

(٢) قوله : لا ينبعث هو لا تنعت الخ بدليل قوله بعد ذلك : لأن كل ناعت الخ ، اه مصححه.

ناعت مشرف على المنعوت وجلّ ربنا أن يشرف عليه مخلوق. احتجب عن خلقه بخلقه ثم عرفهم صنعه بصنعه وساقهم إلى أمره بأمره فلا يمكن الأوهام أن تناله ولا العقول أن تختاله (١) ولا الأبصار أن تمثله ، ولا الأسماع أن تستمله (٢) ، ولا الأماني أن تمتحنه ، هو الذي لا قبل له ولا مقصر (٣) عنه ولا معدل ، ولا غاية وراءه ولا مثل ، ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء ، ولا يستره حجاب ، ولا يقله مكان ولا يحويه هواء ، ولا يحتاطه (٤) فضاء ، ولا يتضمنه خلاء.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] قال ابن عباس رضي الله عنهما : (معنى الآية ليس له نظير) وقيل الكاف صلة أعني زائدة فالمعنى ليس مثله شيء وقيل المثل صلة فالمعنى ليس كهو شيء فأدخل المثل للتأكيد فمن الجهل البين أن يطلب العبد درك ما لا يدرك وأن يتصور ما لا يتصور كيف وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحواس ، أو يتصور بالعقل الحادث والقياس ، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل فهو جسم ولا (٥) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة ومن الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى الله عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدثين وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات ، جلت الذات القديمة الواجبة الوجود التي لم تسبق بقدم (٦) أن تكون كالصفة الحديثة.

قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)) [مريم : ٦٧] فهو سبحانه وتعالى احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الإدراك والأبصار فعجز الخلق عن الدرك والدرك عن الاستنباط وانتهى المخلوق إلى مثله وأسنده الطلب إلى شكله.

__________________

(١) يريد أن تتخيله ، اه مصححه.

(٢) لعلها تشمله أي هو ليس من جنس الأصوات فتسمعه الأسماع ، اه مصححه.

(٣) لعلها مفر ، اه مصححه.

(٤) لعل الأصل ولا يحيط به الخ ، اه مصححه.

(٥) قوله : ولا نهاية صوابه وله نهاية الخ كما هو ظاهر ، اه مصححه.

(٦) قوله بقدم هو بعدم كما هو واضح ، اه مصححه.

قال الصديق رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقال رضي الله عنه : سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته وكذلك علوه واستواؤه إذ الصفة تتبع الموصوف فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات فكذلك حقيقة صفاته فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحق من يشبه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)) [الإسراء : ٤٣] لأنه سبحانه وتعالى وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والأوهام السخيفة وقد قيل في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] أي ما وصفوه حق وصفه وقيل ما عظموه حق عظمته وقيل ما عرفوه حق معرفته وقيل غير ذلك.

قال بعض أهل المعاني والقلوب : لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والأولياء والصديقون ، ثم قال : ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه إلى غيره ولا تغفل عن ذكره ولا تفتر عن طاعته إذ ذاك (١) عرفت قدر ظاهر قدره وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو وصدق لأن الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقه من كمال صفاته وعظم ذاته ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)) [الصّافات : ١٨٠] وفي هذا غاية الحث على كثرة التنزيه ودوامه مع أمره لأكمل خلقه في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)) [الأعلى : ١] مع غير ذلك مما في أشرف الكتب مما أذكر بعضه. فقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : ١] أي قل سبحان ربي الأعلى والمعنى نزّه اسمه ربك واذكره وأنت له معظّم وقيل نزّه عن المعاني المفضية إلى نقصه وقيل نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به وقيل لفظ اسم زائد وفي الكلام حذف المعنى نزّه مسمى ربك الذي خلق فسوّى أي مخلوقه بأن خلقه مستويا بلا تفاوت فيه وفي أعضائه وغير ذلك من مخلوقاته فإن من هذا من بعض مصنوعاته يستحق التنزيه فكيف بمخلوقات أخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها وكلها على اختلاف أجناسها وأنواعها كل يسبّحه بلغته وبما يليق بجلاله.

قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] وقال : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ

__________________

(١) أي لو كنت كما ذكر تعرف قدر الخ ، اه مصححه.

وَتَسْبِيحَهُ) [النّور : ٤١] قال مجاهد : تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقه من كمال صفات عظم ذاته ، قيل : يفقه تسبيحهم العلماء الربانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنورون البصائر الذين يشاهدون كل شيء مرقوما عليه بقلم القدرة هو الملك القدوس.

وقال مجاهد : كل الأشياء تسبّح حيوانا وجمادا وتسبيحها سبحان الله وبحمده.

وروى ابن السني أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما تستقبل الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلا سبّح الله تعالى وحمده إلا ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم» فقيل : ما أغبياء بني آدم؟ فقال : «شرار الخلق».

وقال شهيب (١) بن حوشب : حملة العرش ثمانية أربعون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : ٢٣] فالملك اسم من أسمائه تعالى وكذا مليك وهو صفة مبالغة في الملك. قال تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] فالملك هو المستغني عن كل شيء ويفتقر إليه كل شيء ونافذ حكمه في مملكته طوعا أو كرها ، وقيل هو القادر على الإبداع والإنشاء والإعدام وهذا على الحقيقة لا يكون إلا لله عزوجل أبدع المكونات العلويات والسفليات الجليات والخفيات أبدعها بقدرته ورتبها على اختلاف أطوارها بحكمته فكل ما برز فهو مقهور الوجود بكن ، وكل ما انعدم فهو مقهور العدم بكن وبهذا يعلم أن إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازي إذ المملوك لا يكون مالكا لأن من هو تحت قهر الأغيار فهو كالعدم ولهذا لما تحقق أرباب القلوب أن الملك لله عزوجل تحققا قلبيا سكنت أنفسهم عن وصف الإضافات وتبرءوا من الحول والقوة حتى بالإشارات فلا يقول مني ولا لي حتى قيل لبعضهم ألك رب؟ فقال : أنا عبد وليس لي نملة ومن أنا حتى أقول لي ، فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشرية وهواها وفك ربقة رق خيالاتها الباطلة ومناها ومحض رق العبودية لمولاها فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذللون له ولهذا تتمات ليس هذا المقام مقامها إذ الغرض التنزيه.

__________________

(١) معروف هذا الاسم بشهر ، اه مصححه.

والقدوس من أسمائه عزوجل سمّى نفسه بذلك ليرشدك إلى تقديسه كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)) [الأنبياء : ٢٠] وفيه الحث على دوام التقديس فالقدوس قيل هو المنزّه عما لا يليق به من الأضداد والأنداد ، وقيل هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب وهاتان غير مرضيين عند المحققين.

قال حجة الإسلام الغواص الغزالي : وهذا في حق الباري سبحانه وتعالى يقارب ترك الأدب كما أنه ليس من الأدب أن يقال لملك ليس بحائك ولا بحجام لأن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص بل القدوس المنزّه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره وهم أو يسبق إليه فكر أو يهجس به سر أو يختلج به ضمير أو يسنح له خفي خيال وقد أجاد رضي الله عنه وهاهنا فائدة جليلة للمنزه والمشبه وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظا وافرا من تكرير هذا الاسم والإمعان في معناه فإن كان منزّها عطف ذلك عليه وقدّس نفسه وقلبه وبدنه أما نفسه فيطهرها من الأوهام المذمومة كالغضب والحقد والحسد والغش وسوء الظن والكبر وحب الشرف والعلو وحب الدنيا ولوازمها وغير ذلك ويبدلها بالأوصاف المحمودة فيطهرها أيضا عن العاهات والشهوات وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات إذ هي أزمة الشيطان يقود بها إلى ارتكاب الموبقات وأما القلب فيطهره بالعقد الصحيح المطابق الجازم وبالمبادرة إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي والأهواء وتحقيق الإخلاص نية وقولا وعملا وبالرضى بما جرى فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآت وذلك يرجع إلى ذوق حلاوة الإيمان القلبي لا العملي وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الأكوان ولا يرى الأغيار إلا على العدم الأصلي فلا يتحرك في ظاهره ولا باطنه حتى في أنفاسه إلا بالله عزوجل وأما البدن فيطهره بماء الجوع ويكفنه بدوام التقشف ويحنطه بالعزلة ويطيبه بدوام الذكر والفكر ويدفنه في لحد الخوف فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه وبقي معناه فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع ولاح له خزائن أسرار الآيات في معارج ترداد الآيات فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات فيثمر له ذلك الشوق إلى رؤية مطلوبه فلا شيء أشهى إليه من الموت لأنه لا سبيل إلى الوصول إلى محبوبه إلا به فمن أراد أن يجلسه في حضرة القدس على منابر التقديس فليجر على هذا التأسيس.

ومر إبراهيم بن أدهم قدس الله روحه بسكران مطروح على قارعة الطريق وقد تقيأ فنظر إليه وقال : بأي لسان أصابته هذه الآفة وطهر فمه ومضى فلما أفاق السكران أخبر بما فعله به إبراهيم فخجل وتاب وحسنت توبته فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأن قائلا يقول غسلت لأجلنا فمه فلا جرم أنا طهرنا لأجلك قلبه.

وأما المشبه والمجسم فلأنه بتكرار هذا الاسم يتعقل معناه فيضيء له نوره فينكشف له حجاب الضلال فإذا حقق المعنى المراد منه ظهر له نوره فأحرق حجاب الضلال فصفى قلبه للحق وزاح الباطل وقد وقع ذلك لبعض الغلاة في التشبيه والتجسيم مرّ يوما على هذه الآية (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : ٢٣] فكرر هذا الاسم وتعقل معناه فقال : والله إنا لفي ضلال مبين بيّن فبادر في الحال وأتى بالشهادتين وقال : والله لا يخلصني إلا استئناف العمل. فانظر أرشدك الله تعالى إلى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حق أهل التنزيه والتشبيه والله أعلم.

ثم تمام التقديس لا يحصل إلا بالتمكن بعد كمال التوحيد وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل فتوحيد الذات ينفي الحدوث وثبوت الأحدية ينفي الأضداد وثبوت الذات ينفي التشبيه ويحير العقل في بحر الإدراك وأما توحيد الأفعال فهو شهود القدرة في المقدور ثم الاستغراق في أنوار العظمة فيغيب بذلك عن الموجودات وتبقي القدرة بارزة بأسرار التوحيد ثم الاستغراق في أنوار المحو فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر.

ومن مقدوراته جلّ وعلا ما ذكره في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) [النّبأ : ٣٨] قال أبو الفرج بن الجوزي : روي عن علي رضي الله عنه في تفسيرها أن الروح ملك عظيم له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله عزوجل من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : الروح ملك عظيم أعظم من السماوات والأرضين والجبال والملائكة يسبّح كل يوم ألف ألف تسبيحة يخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا والملائكة بأسرهم يجيئون صفا.

قال ابن عباس : وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام فيغرزه في ظهر الكعبة ولو أذن الله عزوجل له أن يلتقم السماوات والأرض لفعل وقيل الروح هنا جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل هو ملك ما خلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه وقيل غير ذلك.

روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «رأيت على كل ورقة من السدرة ملكا قائما يسبّح الله عزوجل» ومراده سدرة المنتهى ، سميت بذلك لأنها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم ولا يعلم ما وراءها إلا الله عزوجل وهي شجرة نبق على يمين

العرش عندها جنة المأوى يأوي إليها الملائكة عليهم‌السلام وقيل أرواح الشهداء وقيل أرواح المتقين.

وقال الله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)) [الرّحمن : ٧٨] معنى (تَبارَكَ) جلّ وعظم ومعنى (ذِي الْجَلالِ) المستحق للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال جلّ أن يعرف جلاله غيره تنزّه وعظم شأنه عما يقول فيه المبطلون لأن كل شيء يثني عليه بقدرته وكل ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه ، والحق جلّ جلاله ذكره خارج عن أوهام الآدميين لأن الحادث ناقص بقهر الإيجاد والفناء والمعارف (١) دون الغايات الجلالية فسبحانه ما أثني عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه عجز الأنبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك قال : أجلّهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما (٢) الإكرام فمعناه ذو الإنعام والمنن على العام والخاص والطائع والعاصي ، ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالكريم في قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] قال عمر رضي الله عنه : لو قيل لي ما غرك بي لقلت جهلي بك غرني ، والكريم هو الذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى ، وقيل هو الذي إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالي لمن (٣) أعطي وكم أعطي ولا يضيع من لاذ به والتجا ، وقيل هو الذي يغني السائل عن الوسائل والشفعاء وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى ، وقيل هو الذي إذا أبصر خللا جبره وما أظهره وإذا أولى فضلا أجزله ثم ستره وقيل غير ذلك ، فمن تأمل القرآن الكريم وجده مشحونا بالتقديس والإجلال والتعظيم وناطقا بإضلال أهل الإلحاد والتجسيم والحيدة عن الصراط المستقيم وطريقة السلامة في ذلك أن من أشكل عليه شيء من المتشابه في الكتاب والسنة فليقل كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن الراسخين في العلم ومدحهم عليه في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : ٧] ويقول كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث : «وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» خرجه غير واحد منهم الإمام أحمد والنسائي وغيرهما ويقول كما قاله الشافعي آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله

__________________

(١) لم يظهر لي في هذه العبارة معنى فلتحرر ، اه مصححه.

(٢) ذو الإنعام ليس معنى الإكرام بل معنى ذو الإكرام فهنا لفظ ذو ساقط ، اه مصححه.

(٣) لعله بما أعطى الخ ، اه مصححه.

وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والراسخ في العلم هو من طولع على محل المراد منه وسئل مالك عن الراسخين في العلم فقال : العالم العامل بما علم المتبع له. وقال عمر بن عبد العزيز : انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : ٧] وقال بعضهم : للقرآن تأويل استأثر الله تعالى بعلمه لا يطلع عليه أحد من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ونحو ذلك ، والخلق متعبدون بالإيمان به ومتعبدون بالمحكم بالإيمان به وبالعمل به وقيل غير ذلك ثم اعلم أنه حق على اللبيب المعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمتمسك بالعروة الوثقى أن يثبت لله عزوجل ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته فإن المشبهة أثبتوا لله ما لم يأذن فيه بل نهى عنه وهي زيغة سامرية ويهودية والمعطلة سلبوه ما اتصف به وسفهوه ولقد أحسن أبو الحسن الأشعري في جوابه عن التوحيد حيث قال : إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات ، شعر :

الله أكبر أن يكون لذاته

كيفية كذوات مخلوقاته

أو أن تقاس صفاتنا في كل ما

تأتيه من أفعالنا بصفاته

أبدا عقول ذوي العقول بأسرها

متحيرات في دوام حياته

لبديع صنعته عليه شواهد

تبدو على صفحات مصنوعاته

فكل ما ترى عينك الباصرة فهو دلائل ظاهرة على (١) العالم مخلوق بتقدير شامل وتدبير كامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ، ولو جمعت عقول العقلاء عقلا واحدا ثم تفكروا بذلك العقل في جناح بعوضة حتى يجدوا تركيبا أحسن منه وأكمل لفنيت تلك العقول وانقطعت تلك الأفكار ولم تصل إلى درك ذرة من ذرات حكمته في تلك البعوضة على سبيل الكمال والتمام فما الظن بذي الجلال تبا ثم تبا لأهل الضلال والجهل وما اعتقدوه من النقص مع تنزيه البحار وشوامخ الجبال فسبحان من تسبحه البحار الطوافح والجبال الشم والسحب السوائح والأمطار الطوامح والأفكار والقرائح ، تقدس عن مثل وشبيه ، وتنزه عن نقص يعتريه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من سر أضمرته الجوانح ، تعالى عن الند المماثل والضد المكارح ، يفعل ما يشاء ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، هلك الجاهل والمكافح ، متكلم

__________________

(١) هنا لفظ أن محذوف كما هو ظاهر ، اه مصححه.

بكلام (١) مسموع بالآذان (٢) بغير آلات ولا أدوات ولا جوارح ، أين لهوات الحصى وحلقوم الجذع وجارحتهما فما أجهلك بقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النّمل : ١٣] نسب الأبصار إلى الآيات فأين الحذّق يا قامح.

ومن آياته إنزال القطر بقدرته ، وصبغ ألوان النبات والثمار بحكمته مع مخالفة الطعوم بمشيئته ، وإرسال الرياح لواقح. موصوف بالسمع والبصر يرى في الدجنة كما يرى في القمر ، من شبهه أو كيفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسنة ، وإن دليلهم لجلي واضح ، من شبهه أو مثل أو جسم فهو مع السامرة واليهود ومن حزبهم يوم تظهر المخبآت وتبلى السرائر وتبين الفضائح ، وإن قيل عنه في الدنيا إنه ولي صالح هلك الهالكون بآرائهم لأنه عمل غير صالح ، وفاز المنزّهون فيا لها صفقة رابح. هو الواحد المتوحد في صفاته الأزلي الجبار ، العظيم العزيز القهار ، تبارك وتعالى وتنزّه عن درك الخواطر والأفكار ، وسم كل مخلوق بميسم الافتقار ، وأظهر آثار قدرته في مخلوقاته ومن أظهرها السماوات والأرض والبراري والبحار ، والأعين والأنهار ، وجريانها على المدرار ، وتصريف السحاب المسخّر بين السماء والأرض واختلاف الليل والنهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣] يعلم حركات الأسرار ، ودبيب النملة السوداء في الظلمة على سواد الصخور والأحجار ، نوع هذا العالم الإنساني فمنهم شقي ومنهم سعيد وربك يخلق ما يشاء ويختار.

وصفاته كذاته والمشبهة والمجسمة أهل زيغ وكفار ، نزّه نفسه بنفسه وقدّسها فمن شبه أو عطل فمأواه النار ، ومن أناب ورجع قبله وإن ارتكب العظائم الكبار ، لأنه سبحانه وتعالى عزيز غفّار ستّار.

ومن بديع صنعته أن خلق اليوم وليلته ، وقمر السماء وشمسه ، وآدم عليه‌السلام وما مسه ، علم ذلك المنزّه فنزّه قدسه ، وجهله أعمى البصيرة المشبه فتصور فيه جنسه ، لأنه بجهله قاس الخالق جلّ وعلا على ما ألفه وأحسه ، فتراكم عليه غبار التشبيه فضاعت المحسة ، وأما المعطل فجحد صفاته فما أغباه وما أخسه ، وإذا كان الأمر كذلك فادفع المعطل بيديك النقية ، وألحق بالمشبه دفعه ورفسه.

__________________

(١) المراد بهذا الكلام هو القرآن لأنه الذي يسمع ، اه مصححه.

(٢) قوله : بغير آلات ، متعلق بمتكلم فليفهم ، اه مصححه.

مبحث الرد على ابن تيمية في قوله بفناء النار

واعلم : أنه مما انتقد عليه زعمه أن النار تفنى ، وأن الله تعالى يفنيها وأنه جعل لها أمدا تنتهي إليه وتفنى ، ويزول عذابها وهو مطالب أين قال الله عزوجل وأين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحّ عنه وقد سفّه الله تعالى في ذكره في كتابه العزيز كما سفّهه في تنزيهه لنفسه وأتى بأمور إقناعية (١) صادم بها النصوص الصريحة في دوام العذاب عليهم فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النّساء : ٥٦] تبدل في كل ساعة مائة مرة ، وقال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) [النّساء : ٥٦] أي شديد النقمة على من عصاه ، وقيل العزيز الشديد القادر القوي وقيل الغالب الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر وقيل الذي لا نظير له وقيل معناه المعز فيكون فعيل بمعنى مفعل كالأليم بمعنى المؤلم ونحوه.

وقال أهل المعاني وأرباب القلوب : العزيز من ظلت العقول في بحار تعظيمه وحارت الألباب دون إدراك نعته وكلّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ووصف كماله والقيام بشكر آلائه ، وقوله : (حَكِيماً) [الفتح : ٧] أي حكم على الأعداء بدوام العذاب كما حكم للأولياء بدوام النعيم فلا يعلم كنه حقيقة حكمته غيره فلا شيء من الأشياء إلا وفيه شيء من حكمته على وفقه لمناسبته (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النّمل : ٨٨] وقال تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)) [الحج : ١٩ ـ ٢٢] وقال : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النّبأ : ٣٠] وقال تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] وقال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)) [المائدة : ٣٧] وقال تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥] أي مقيما ملازما فكل عذاب يفارق صاحبه فليس بغرام والآيات في ذلك كثيرة جدا وأما السنة فطافحة بذلك وتدل على إخراج المؤمنين دون غيرهم حتى يخرج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ، وفي رواية مثقال ذرة من خير ، فأقول : يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أي وجب عليه الخلود. قال الله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ

__________________

(١) أي للعامة البله الذين لم يخالطوا المؤمنين أما من عرف دين الله عالما ومخالطه فمعاذ الله أن يقتنع بغير كلام ربه فليعلم ، اه مصححه.

الْخُلْدِ) [فصّلت : ٢٨] إلى غير ذلك ولأن العذاب يدوم بدوام سببه بلا شك ولا ريب وهو قصد الكفر وبقاء العزم عليه ولا شك أنهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمروا على كفرهم وكذلك المؤمن يستحق الخلود وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام «نية المؤمن خير من عمله» وفي معناه أقوال أخر فادعاء فناء النار بعد أمد نزعة يهودية ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] الآية ، أي قدرا مقدورا ، ثم يذهب عنا العذاب ، وكانت اليهود تقول إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام وقيل أربعين يوما الذي عبد آباؤنا العجل فيها وكانت تقول إن ربنا عتب علينا في أمر فأقسم ليعذبننا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا تحلّة القسم أربعين يوما. فالرجل ساع خلف سلفه كما تقدم وكما يأتي.

مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم

ومما انتقد عليه ، وهو من أقبح القبائح ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أول لها وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله فإن الحادث مسبوق بالعدم (١) والأول ليس كذلك وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال ونفى المجاز في القرآن وهو من الجهل أيضا فإن القرآن معجز ومحشو بالمجازات والاستعارات حتى أن أول حرف فيه أحد أنواع المجاز وتضمن هذا المصنف مع صغره شيئين عظيمين تكذيب الله عزوجل في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) [الحديد : ٣] فجعل معه قديما وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «كان الله ولا شيء معه» وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه : «كان الله ولم يكن شيء قبله وليس وراء ذلك زيغ وكفر فإن الدين ما قاله عزوجل» وقاله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال : «هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان ولم يكن شيء موجودا والآخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء ويبقى هو. والظاهر هو الغالب على كل شيء والباطن هو العالم بكل شيء ، هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، والأقوال في ذلك كثيرة ، ومنها قول أبي القاسم الجنيد نفي القدم عن كل أول بأوليته ونفى البقاء عن كل آخر بآخريته واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته لظاهريته وحجب الإدراك عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته. وقال أيضا : هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران

__________________

(١) لعله (والذي لا أول له ليس كذلك) ، اه مصححه.

الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب. وقال السيد الجليل محمد بن الفضل. الأول : ببره والآخر بعفوه والظاهر بإحسانه ، والباطن بستره ، ومن حق العبد أن يجعل له حظا من هذا الخطاب فيزين ظاهره بأنواع الخدمة ويزين باطنه بأنوار الهيبة ويحقق جميع أفعاله وحركاته وسكناته وسائر طاعاته وقرباته بالصدق والإخلاص لقوله عزوجل : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٢] وسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار عن معنى هذه الآية فقال : إن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن.

ومما انتقد عليه : تكذيبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به عن نبوته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال عليه الصلاة والسلام : «وآدم بين الروح والجسد» وفي رواية «وإن آدم لمنجدل في طينته وتكلم بكلام لبس فيه على العوام وغيرهم من سيئ الأفهام» يقصد بذلك الازدراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحط من قدره ورتبته ، وما فيه رفعه يسكت عنه يفهم ذلك منه كل عالم امتلأ قلبه بعظمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره وبما خصّه الله تعالى من مزايا المواهب الإلهية التي لم ينلها غيره.

وهذا الخبيث حريص على حط رتبته والغض منه تارة يقع ذلك منه قريبا من التصريح وتارة بالإشارة القريبة وتارة بالإشارات البعيدة التي لا يدركها إلا أهلها فمن ذلك وقد سئل على ما زعم أيما أفضل مكة أو المدينة فأجاب : مكة أفضل بالإجماع ، وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي وعليها خطه وأنا أعرف خطه ، وفي هذا الجواب دسائس وفجور ورمز بعيد فمن الفجور نسبته نفسه إلى الإمام أحمد والإمام أحمد وأتباعه برآء منه ومما هم (١) عليه وهو لا يلتفت إليه إلا إذا كان له في ذكره غرض أما إذا لم يكن فلا يلوي على قوله ويسفهه حتى فيما ينقله ويكفره فيما يعتقده إذا كان على خلاف هواه.

ومن مواضع تسفيهه الإمام أحمد مسألة الطلاق ، فإن الإمام أحمد قال : الذي أخبرنا بأن الطلاق واحدة أخبرنا بأن الطلاق ثلاث وعلى ذلك جرى الأئمة من جميع المذهب فإذا كان الإمام أحمد غير ثقة فبمن يوثق.

__________________

(١) هم هو ، اه مصححه.

وقال ـ أعني ابن تيمية ـ في الجواب عن المسألة المبسوطة والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة وبالغ في الثناء عليه فيا لله العجب من هذا الأعمى البصيرة الذي لا يحس بتناقض كلامه كيف يجعل الإمام أحمد فيما له فيه غرض أعلم الناس بالسنة ويسفهه فيما لا غرض له فيه وهذا ونحوه مما يأتي في غير الإمام أحمد من أئمة الحديث يعرفك ما في قلبه من الخبث وعمي بصيرته وأنه لا عليه فيما يقوله. ومن فجوره ادعاء الإجماع على ما يقوله ويفتي به كهذه الفتوى مع شهرة الخلاف في المسألة حتى إنه مشهور في أشهر الكتب المتداولة بين الناس وهو الشفاء فإنه ذكر الخلاف بين مكة والمدينة وإن مالكا وأكثر أهل المدينة قائلون بأن المدينة أفضل من مكة وقال : أهل مكة والكوفة مكة أفضل ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمّ سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما هو فالإجماع منعقد على أنه أفضل من مكة وسائر البقاع وممن حكى الإجماع القاضي عياض في الشفاء بعد أن حكى الخلاف في التفضيل بين مكة والمدينة فقال : ولا خلاف في أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وكذا ذكره الإمام هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وذكر الإمام أبو زكريا يحيى النووي في شرح مسلم ذلك فقال : قال القاضي عياض : أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وأقره على ذلك ، فسكوت الخبيث عن مثل ذلك دليل على خبث في باطنه في حق سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي هذه الفتوى رمز إلى عدم الاعتداد بقول عمر رضي الله عنه فإنه رضي الله عنه من القائلين بأن المدينة أفضل من مكة ويدل على ما قلته من الرمز (١) تخطئته في الطلاق وعدم الاعتداد بذلك كما رمز إلى تكفير الصديق رضي الله عنه في قوله في بعض تصانيفه من قال الله : ورسوله في أمر يلحقه فإنه يكون مشركا فإن الصديق رضي الله عنه لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أبقيت لأهلك؟» قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، ويؤيد ما قلته ما هو مشهور في كتبه وعند أتباعه لا ينبغي أن ينسب إلى غير الله تعالى ضر ولا نفع ولا أنه يغني وهذا من الدسائس أيضا فإنه يلبس به على كثير من الناس لا سيما الضعفاء في العلم وأصحاب الأذهان الجامدة فهي كلمة حق أريد بها باطل.

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التّوبة : ٧٤] وقال تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) [التّوبة : ٥٩] وغير ذلك فهذا نص القرآن العظيم على مثل هذا القول في

__________________

(١) هنا لفظ إلى محذوف ، اه مصححه.

الذين يقولون إنه شرك ففي قولهم قدح في القرآن وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإقراره الصديق رضي الله عنه على هذا القول الذي هو شرك (١) وهذا منهم كفر بيقين لأنه واجب وحتم لازم على كل أحد أن يؤمن بالقرآن وبما جاء به سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رب العالمين من غير شك ولا ارتياب.

قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)) [الفتح : ١٣] وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المائدة : ٩٢] وقال : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النّساء : ١٣٦] جمع بينهما بواو العطف للشركة ولا يجوز هذا في حق غيره عليه الصلاة والسلام ولما خطب عليه الصلاة والسلام أم سلمة رضي الله عنها فاعتذرت إليه بأعذار منها وأنا موتم مرملة في أربعة من الولد فقال لها من جملة قوله : «وأما ولدك فهم ولد أخي أبي سلمة وهم على الله وعلى رسوله» وقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥] واعلم أن ما ذكرته من الرمز إلى الصديق والفاروق رضي الله عنهما وأن فيه أشعارا بأنه رافضي هو كذلك ، وفي الرد على الرافضي أنه رافضي وهذا نبّه عليه الشيخ زين الدين القرشي والشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي. نعم وقفت على مصنف لطيف له ولم يتم وفيه ما يدل على ما قالاه وفي هذا الكتاب رمز إلى أنه من القائلين بتناسخ الأرواح (٢) وبعض أتباعه الذين هم رسل في التبعية يقع منه (٣) ما يدل على ذلك ، والله أعلم.

ومن الأمور الخبيثة التي وقفت عليها في فتاويه ما فيه أن بعض المكاسين مثاب في وظيفة المكس بل أبلغ من ذلك ، وأقبض عنان الكلام فيه لما أخشى مما يترتب

__________________

(١) يعني في زعمهم ، اه مصححه.

(٢) القول بتناسخ الأرواح كفر لأنه عبارة عن اعتقاد أن أرواح من يموتون تتصل بغيرهم فقد يكون روح الخواجة الذي مات اليوم روح أكبر عالم مرشد زاهد ورع بعد ذلك والعكس ، وقد يتصل روح الخنزير الذي مات بمحمد الذي ولد بعد ذلك ويعكس ، وقد يتصل بعد ذلك بكلب ثم يتصل بحمار ثم يتصل بنبي وهكذا إلى غير نهاية ، وهذا يقتضي أن لا بعث وأن لا جزاء ، فإن الروح لا يقف عند حد معلوم يجازى عليه بل قد يكون بحال يقتضي العذاب ويسبح بحال يقتضي النعيم ثم بحال لا يقتضي عذابا ولا نعيما وهكذا ، وهذا غير ما تنطق به الشرائع الإلهية كلها فهو مصادم للأنبياء ولما جاء به الأنبياء ، وكيف لا يكون ما هذا حاله كفرا وهذا المذهب لا دليل عليه من العقل مع كونه مع الشرع كما ذكرنا وذلك أن الأرواح ليست من عالم المحسوسات حتى نراها ونحكم عليها وهي لم تخبرنا عن نفسها بشيء فالجهالة بها مطلقة ، اه مصححه.

(٣) أي من ذلك البعض ، اه مصححه.

على التصريح من أهل المكس وتجرئهم عليه وقرر ما قاله بتقرير مقبول في شق وأهمل الآخر فلما وقفت على ذلك قب بدني وهجت على الكلام في ذلك وكان شخص من الحنابلة يدعى بعلاء الدين بن اللحام البعلبكي وكان عندهم عظيما وصنّف في مذهب الإمام فأتيته وهو في حلقة في الجامع الأموي وهم يقرءون عليه في بعض مصنفاته فسألته عن شيء يتعلق بمسألة تقرأ عليه في كتابه فما أجاب ثم أخرى فما أجاب ثم قلت : ما هذه المسألة التي ذكرها الشيخ تقي الدين بن تيمية في المكس فقال : وشرع يقرر ما قرره ابن تيمية فأخذت الشق الآخر وقررته فسكت ولم يجد جوابا فقلت : يلزم أحد شيئين إما بطلان ما قاله أو تكفيره فقال : هذه المسألة ما هي في فتاويه وأنا اختصرتها فهذه قاعدة من قواعدهم يبحثون مع الخصم فإن ظفروا به فلا كلام وإن ظفر بهم قالوا هذه ما هي في كلامه فهم خلف إمامهم في المكر والخديعة والكذب وقد خاب من افترى ، والله أعلم.

ومن الأمور المنتقدة عليه : وهو من أقبح القبائح وشر الأقوال وأخبثها مسألة التفرقة التي أحدثها غلاة المنافقين من اليهود وعصوا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر عليها أتباعهم الذين يظهرون الإسلام وقلوبهم منطوية على بغض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقدروا أن يتوصلوا إلى الغض منه إلا بذلك. وقد ذكر المسألة الأئمة الأعلام فاذكر بعض كلامهم فيها ثم أعود إلى تتميمه مستدلا بأمور سمعية وغيرها تفيد جلالته وعظامته وحياته في قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقاء حرمته على ما كان عليه في حياته ويقطع الواقف عليها أو على بعضها بأن القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة وأن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر في العلم لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشيخين وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأنه من الملحدين وجعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع ، ذكر ذلك في كتاب له سماه (الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم) وقد وقفت في كلامه على المواضع الذي كفر فيها الأئمة الأربعة (١)

__________________

(١) أحب أن لا يستغرب القارئ شيئا يراه منسوبا إلى هذا الرجل بعد تصريح العلماء عنه أنه يستخف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزدريه ويصغر من شأنه فإن الذي يجترئ على أسمى مقام في الوجود لا يتهيب ما دونه فليعلم ، اه مصححه.

وكان بعض أتباعه يقول إنه أخرج زيف الأئمة الأربعة يريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهذه الأئمة في جميع الأقطار والأمصار وليس وراء ذلك زندقة.

ولنرجع إلى قول بعض الأئمة فمنهم : الإمام العلامة شيخ شيوخ وقته أبو الحسن علي القونوي قال بعد ذكره أشياء لا أطول بذكرها وفيها دلالة على أن التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحاجات بعد وفاته كالتوسل به في حال حياته ثم قال : وهذا وأمثاله يرد على هؤلاء المبتدعة الذين نبغوا في زماننا ومنعوا التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جمع بعضهم كلاما يتضمن نفي عمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الوفاة ونقل طائفة منهم التفرقة بين حياته وحال وفاته فقال : (والتفريق بين الحياة والوفاة كان ثابتا عند الصحابة فلهذا استسقي أمير المؤمنين عمر بالعباس ولو لا هذا التفريق الواضح عندهم لما عدل عمر مع جلالته وكونه خليفة راشدا وكان يشاور أيضا ـ عن قبر رسول الله إلى غيره) ثم قال : (هذا لفظ المبتدع الجاهل التي قامت البينة عليه بأشياء من هذا القبيل وعزر على ذلك التعزير البالغ بالضرب المبرح والحبس وغير ذلك في شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة بالقاهرة وهذا الكلام من التفرقة بين الحالتين والاستناد فيه إلى استسقاء عمر بالعباس ليس له وإنما هو لشيخه فإنه لما أظهر القول بنفي التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أورد عليه حديث الاستسقاء ففزع إلى التفرقة المذكورة ولا متشبث في الحديث المذكور فإن عمر رضي الله عنه إنما قصد أن يقدم العباس ويباشر الدعاء بنفسه وهذا لا يتصور حصوله من غير الحي أي الحياة الدنيوية ، وأما التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا نسلّم أن عمر رضي الله عنه تركه بعد موته.

وتقديم العباس ليدعو للناس لا ينفي جواز التوسل به مع ذلك ، ثم قال : وهذا القول الشنيع والرأي السخيف الذي أخذ به هؤلاء المبتدعة من التحاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعدم حاشاه من ذلك ـ يلزمه أن يقال إنه ليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم وهو قول بعض الضّلال.

قال أبو محمد حزم في كتابه الملل والنحل : (حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو اليوم رسول الله لكن كان رسولا) ثم قال : (وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما عليه أهل الإسلام منذ كان أهل الإسلام إلى يوم القيامة) قال : (وإنما حملهم على هذا الرأي الخبيث قولهم الآخر الخبيث إن الروح عرض والعرض يفنى أبدا أو يحدث ولا يبقى وقتين) قال : (فروح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند هؤلاء بطل ولا روح له الآن عند الله وأما جسده ففي قبره تراب فبطلت نبوته ورسالته بموته عندهم فنعوذ بالله من هذا القول

فإنه كفر صراح لا تردد فيه ، ويكفي في بطلان هذا القول الفاحش الفظيع إنه مخالف لما أمر الله تعالى به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتفق عليه أهل الإسلام من الأذان في الجوامع والصوامع وأبواب المساجد جهارا في شرق الأراضي وغربها كل يوم خمس مرات بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ، كان يجب أن يقال على قولهم أشهد أن محمدا كان رسول الله وكذلك كان يجب أن يقال في ثاني الشهادتين في الإسلام وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النّساء : ١٦٤] وقال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩] وقال تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزّمر : ٦٩] فسماهم الله عزوجل بعد موتهم رسلا ونبيين والأصل الحقيقة وكذلك أجمع المسلمون وجاء به النص أن كل مصل فرضا أو نفلا يقول في تشهده السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولو كان بعد موته في حكم العدم لما صحّت هذه المخاطبة) هذا معنى كلام ابن حزم ثم قال : (إن ابن حزم أورد على نفسه إيرادات وأجاب عنها) قلت : وقد حذفتها أنا لأجل الإطالة ولا تسع عقول العوام وكثير ممن أشير إليه بالعلم أن يدركها ويدرك الجواب ، ثم قال : (وإنما أطلت النفس في هذه المسألة وإن كانت في غاية الوضوح لقرب العهد بهذيان من أظهر الخلاف فيها وأفسد به عقائد خلق كثير من العوام فلذلك استطرقت في هذا المقام بما يتعلق بهذه المسألة هذا المقدار اليسير من الكلام وللمقال فيها مجال واسع لكن إشباع القول في ذلك خارج عما نحن بصدده في هذا الكتاب والله تعالى أعلم).

وهذا الكتاب الذي أشار إليه ومنه نقلت يقال له (شرح التعرف لمذهب أهل التصوف) واعلم أرشدنا الله وإياك أيها الموفق المنزّه المعظم لسيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذريته الذين بهم تم الدين ولسائر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين إن في هذا الذي ذكره الأئمة كفاية لمن له أدنى فهم ودراية إلا أني وعدت بذكر شيء وخلف الوعد صعب شديد فأنا أذكر نبذة يسيرة وأرجو من الله عزوجل حصول البركة فيها وقد ذكرت في كتاب (تنبيه السالك على مظان المهالك) جملة كثيرة تتعلق بذلك وبغيره وسقت فيها فتواه المطولة والجواب عما قاله ذكرته في فضل الحج والله أعلم.

ومن الأمور المهمة معرفة الإنسان حاله في التوفيق والخذلان فمن الخذلان عدم إيمان الإنسان بالآيات والنذر كما قال تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] قيل : المعنى لا تصل العقول الخالية عن التوفيق إلى سبيل

النجاة وما يغني ضياء العقل مع الخذلان إنما ينفع نور العقل مؤيدا بنور التوفيق وعناية الأزل وإلا فإنه متخبط بإدراكه بعقله فإذا وعيت ما قلته ووقفت على بعض ما أذكره من الأدلة ولم تجد قلبك مؤمنا بها فاعلم أنك من أهل الخذلان ومرقوم في حزب الشيطان وتابع لأهل البدع عصاة الرّحمن.

قال كعب الأحبار : تجد الرجل يستكثر من أنواع البر ويحتاط في (١) صانع المعروف ويكابد سهر الليل وشدة ظمأ الهواجر وهو مع ذلك لا يساوي عند الله جيفة حمار يشير إلى أهل البدع والتبري منهم بحيث لا يمكن سمعه من ذي هوى ، لما صالح عمر رضي الله عنه أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح به عمر رضي الله عنه وبإسلامه.

قال له عمر : رضي الله عنه هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنتفع بزيارته قال : نعم يا أمير المؤمنين افعل ذلك ، فهذا ضريح في الندب إلى زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وشد الرحل وأعمال المطي إليه والكلام على هذا يأتي إن شاء الله تعالى.

بيان زندقة من قال إن روحه عليه الصلاة والسلام فنيت وأن جسده صار ترابا وبيان زيغ ابن تيمية وحزبه في جواب الفتوى التي زعم أنه سئل عنها :

فقال في جوابه : الحمد لله رب العالمين ، من استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات ، ويطلب منه قضاء الحاجات ، فيقول : يا سيدي الشيخ فلان أنا في حسبك أو في جوارك ، أو يقول عند هجوم العدو عليه : يا سيدي فلان ، يستوحيه أو يستغيث به ، أو يقول نحو ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته ، فإن هذا ظالم ضال مشرك ، وفي بعض النسخ كافر عاص لله تعالى باتفاق المسلمين فإنهم متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدّعي ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو غير ذلك ثم أكد ما قاله بقصة عمر والعباس في الاستسقاء تبعا لشيخه الجاري خلف سلالة اليهود ، وأنت أرشدك الله تعالى وبصّرك إذا تأملت ما قاله في هذا الجواب اقشعر جلدك وقضيت العجب مما فيه من الخبائث والفجور وادعاء اتفاق المسلمين وما فيه من الرمز إلى تكفير الأنبياء وتضليلهم والتلبيس على الأغبياء بقصة عمر رضي الله عنه وليت شعري من أي الدلالات أن من توجه إلى قبر سيد الأولين

__________________

(١) صانع المعروف صوابها صنائع ، اه مصححه.

والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوسل به في حاجة الاستسقاء أو غيرها يصير بذلك ظالما ضالا مشركا كافرا. هذا شيء تقشعر منه الأبدان ولم نسمع أحدا فاه بل ولا رمز إليه في زمن من الأزمان. ولا بلد من البلدان ، قبل زنديق حران ، قاتله الله عزوجل وقد فعل ، جعل الزنديق الجاهل الجامد قصة عمر رضي الله عنه دعامة (١) للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء بسيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين وحط رتبته في حياته وأن جاهه وحرمته ورسالته وغير ذلك زال بموته وذلك منه كفر بيقين وزندقة محققة فإنه عليه الصلاة والسلام حرمته وقدره ومنزلته عند ربه ما زالت ولم تزل وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على الله عزوجل على الدوام ، ومن تأمل القرآن العظيم وجده مشحونا بذلك وقد ذكرت جملة من ذلك في مولده عليه الصلاة والسلام وأشير هنا إلى نبذة يسيرة من ذلك ليتحقق السامع لها خبث هذا الزنديق وما انطوى عليه باطنه من الخبث بإبداله هذه الأنواع من التعظيم بالازدراء وما فاه به من الفجور والافتراء كما ترى :

سل عن فضائله الزمان لتخبرا

فنظير مجدك يا محمد لا يرى

ولقد جمعت مناقبا ما استجمعت

ما استعجمت يا سيدي فتفسرا

ما بين مجدك والمحاول نيله

إلا كما بين الثريا والثرى

فمن ذلك : أنه سبحانه وتعالى تولى عصمته بنفسه فقال تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وحقا عصمه عزوجل في ظاهره وباطنه حفظه في ظاهره من أن ينالوا ما همّوا به ورد كيدهم في نحورهم وحفظه في باطنه من الناس من أن يكون منه إليهم التفات أو يكون له بهم اشتغال صان سره عن موارد السكون إليهم وعن نزغات الشيطان وفلتات النفس.

ومنها : قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النّور : ٦٣] قيل : معناه لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا عبد الله ولكن فخّموه وعظّموه وشرّفوه وقولوا يا نبي الله يا رسول الله مع لين وتواضع ، قاله مجاهد وقتادة.

__________________

(١) قوله للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء الخ والصواب أن تقدم في وتؤخر إلى ليظهر معنى الكلام ، اه مصححه.

وقيل : معناه احذروا دعاء الرسول عليكم فإن دعاءه مستجاب لا يرد وليس كدعاء غيره ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل : معناه من ضيّع حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ضيّع حرمة الله عزوجل ومن ضيّع حرمة الله فقد دخل في ديوان الأشقياء ، وحرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حرمة الله تعالى بل من ضيّع حرمة الأولياء فقد عرض نفسه للهلكة.

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) [الأحزاب : ٤٥] أي عليهم بالتوحيد (وَمُبَشِّراً) [الأحزاب : ٤٥] أي لهم بالتأييد والمغفرة (وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩] أي محذرا إياهم الزيغ والضلالات (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : ٩] أي تعظموه تعظيما يليق به وبمرتبته.

قال الأئمة : لم يؤمن بالرسول من لم يعزه ويعز أوامره ويوقره ويوقر أصحابه رضي الله عنهم.

ومنها : قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) [الأعراف : ١٥٧] أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَزَّرُوهُ) [الأعراف : ١٥٧] أي وقروه (وَنَصَرُوهُ) [الأعراف : ١٥٧] بذلوا أنفسهم في نصرته وأموالهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧] وهو القرآن (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧] أي الفائزون حصر الفلاح فيهم ، فهذه الآيات موجبة لتوقيره وتعظيمه وتبجيله وتعريف قدره عند ربه.

ومنها : قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : ٨٠] قال عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء كلام طويل : «بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل الله عزوجل طاعتك طاعته».

وقال جعفر الصادق : معناه من عرفك بالنبوة والرسالة فقد عرفني بالربوبية والألوهية ، وقيل بطاعتك يصل العبد إلى الحق وبمخالفتك يقطع عنه ، وقيل غير ذلك ، ومن أحسنها من ألزم نفسه طاعته وصحح الاقتداء به أوصله إلى مقامات الأنبياء والصديقين والشهداء ، ألا ترى قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) [النّساء : ٦٩] الآية.

ومنها : وهو أبلغ مما تقدم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) [الفتح : ١٠] أي يا محمد (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] نفى سبحانه وتعالى الواسطة في المبالغة وقد تنبّه لذلك أرباب المعالي والقلوب العارفون بمراتبه عليه الصلاة والسلام وما وهبه الله تعالى من سني الأوصاف التي لا تليق بغيره ولا يقدر على حملها إلا هو ،

قالوا : (إن البشرية في نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارية (١) وأضافه دون الحقيقة) وهو كلام حكيم منوّر القلب.

وقال بعضهم : لم يظهر الحق سبحانه وتعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسمة وأشرفها وهو المصطفى فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ومنها قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) [الشّرح : ٤] قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر ، فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافرا.

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : «قال الله عزوجل إذا ذكرت ذكر معي» وقال قتادة رضي الله عنه : «رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة» وقيل : رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به والإقرار به ، وقيل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) [الشرح : ٤] ليعرف المذنبون قدر رتبتك لدي ليتوسلوا بك إلي فلا أرد أحدا عن مسألته فأعطيه إياها إما عاجلا وإما آجلا ولا أخيب من توسل بك وإن كان كافرا ، ألا ترى قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] وسيأتي الكلام على هذه الآية ، وقيل غير ذلك.

ولما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة قيل : بكت مكة لفقده بدموع الحرقة على الخد وقالت : وا أسفاه على من أنزل عليه (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١)) [البلد : ١] وهو مكة لحلولك فيه ومن جعل لا أصلية فالمعنى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١)) [البلد : ١] وأنت حال فيه بل أقسم بك وبحياتك وهذا يدل على علو قدره عند ربه ورفعته التي لم يفز بها غيره.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن جبريل عليه الصلاة والسلام قال : قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما من رواية أبي الجوزاء رضي الله عنه : ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ

__________________

(١) قوله عارية وأضافه دون الحقيقة لفظ أضافه بالضمير هو إضافة بالتاء ومعنى هذا الكلام غامض وكأن قائليه يريدون أن يقولوا إن حقيقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملكية وإن كانت صورته بشرية وهو معنى يكون مدحا إن سلّم أن حقيقة الملكية أفضل من حقيقة البشرية وليس لنا قسم آخر يراد إلحاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم به إلا الإلهية ولا يتصور أن يكون مرادا للقائلين فليعلم ، اه مصححه.

نفسا أكرم على الله من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا رأيت الله عزوجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)) [الحجر : ٧٢] والعمه في البصيرة والعمى في البصر.

وفي رواية عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما المعنى وعيشك يا محمد إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، وقال بعضهم : أقسم بحياة محمد لأن حياته كانت به وهو في قبضة الحق وبساط القرب وشرف الانبساط ومقام الاتفاق الذي لا يقوم به غيره فبحياتك يكون القسم فإن الكل زاغوا وما زغت ومالوا وما ملت حتى برأناك ونزلناك منزلة ما نالها غيرك ولا ينالها أحد سواك وقيل المعنى وحياتك التي خصصت بها بين الخلق فحيوا بالأرواح وحييت بنا ولهذا تتمة مهمة ذكرتها في المولد يتعين الوقوف عليها.

وقيل : أقسم الله عزوجل في الأزل بحياته ليظهر شرفه وعلو قدره ودنو منزلته عنده ليتوسل المتوسلون به إليه قبل بروزه إلى الوجود وفي حياته وبعد وفاته وفي عرصات القيامة ولهذا وغيره لم يزل أهل الإيمان يتوسلون به في حياته وبعد وفاته من غير نكير ، وكان أهل الكتاب لهم علم من ذلك فكانوا يتوسلون به قبل وجوده فيستجاب لهم كما قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أهل خيبر تقاتل غطفان كلما التقوا هزمت غطفان يهود فعاذت يهود بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق النبي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ، فكانوا إذا التقوا ودعوا بهذا الدعاء هزمت يهود غطفان ويهود غير منصرف للعلمية والتأنيث علم على (١) قبيلة فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به فأنزل الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] أي يدعون بك يا محمد ، إلى قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩].

وإذا كان عزوجل يستجيب لأعدائه بالتوسل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه سبحانه مع علمه عزوجل بأنهم يكفرون به ويؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه قبل وجوده وبروزه إلى الوجود وإرساله رحمة للعالمين فكيف لا يستجيب لأحبائه إذا توسلوا به بعد وجوده عليه الصلاة والسلام وبعثته رحمة للعالمين ، وإذا كان رحمة للعالمين فكيف لا يتوسل ولا يتشفع به.

__________________

(١) هي أمة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، اه صاحب الفرعية.

ومن أنكر التوسل به والتشفع به بعد موته وأن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادى على نفسه أنه أسوأ حالا من اليهود الذين يتوسلون به قبل بروزه إلى الوجود وأن في قلبه نزغة هي أخبث النزغات وهذا آدم عليه‌السلام توسل به كما هو مشهور.

ورواه غير واحد من الأئمة منهم الحاكم في مستدركه على الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب بحق محمد لما (١) غفرت لي فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال : يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال : يا آدم إنه لأحب الخلق إلي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولو لا محمد لما خلقتك».

قال الحاكم : صحيح الإسناد (٢). ورواه الطبراني وزاد «وهو آخر الأنبياء من ذريتك» ورواه الحاكم أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بزيادة بلفظ «أوحى الله إلى عيسى يا عيسى آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولو لا محمد ما خلقت الجنة والنار ، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن».

قال الحاكم في مستدركه : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ـ يعني البخاري ومسلم ـ فهذا الإمام الحافظ قد كفانا المئونة وصحح الحديث وقد رواه غير واحد من الحفاظ وأئمة الحديث بألفاظ ، منهم : أبو محمد مكي وأبو الليث السمرقندي وغيرهما أن آدم عليه‌السلام عند اقترافه قال : «اللهم بحق محمد عليك اغفر لي خطيئتي» ويروي نفيل «فقال الله : من أين عرفت محمدا؟ قال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله».

__________________

(١) أي إلا ، اه صاحب الفرعية.

(٢) لا التفات بعد هذا التصحيح من الحاكم وهو الحاكم إلى طعن طاعن في هذا الحديث وقد رأينا من يطعن فيه وفي أمثاله من الأحاديث التي يصححها الحاكم وهي دالة على سمو شرفه عليه الصلاة والسلام وعلو منزلته عند ربه كأن هذا الطاعن أوذي ممن يستخفون بشأنه عليه الصلاة والسلام فصدر منه ذلك الطعن طاعة لشعوره وهو لا يشعر أو يشعر وكأن هذه المسألة مسألة عظم حرمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفعة شأنه ـ موضع خلاف بيننا وبين هؤلاء الناس ونحن لا نسلم هذا الخلاف إلا بعد أن نسمع من هذه الشرذمة أن كلام الله تعالى مطعون في صدقه أيضا فإذا قالوها سكتنا عنهم ويكونون بذلك أراحوا واستراحوا وحسبنا الله ونعم الوكيل ، اه مصححه.

ويروي محمد عبدي ورسولي فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وغفر له.

وفي رواية الحافظ الآجري «فقال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك» قال : وكان آدم عليه‌السلام يكنى أبا محمد.

بدا مجده من قبل نشأة آدم

وأسماؤه في العرش من قبل تكتب (١)

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) [الكهف : ٨٢] قال : لوح من ذهب فيه مكتوب عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال : على باب الجنة مكتوب أني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسول الله لا أعذب من قالها.

وذكر السميطاري أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد وعلى جبينه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا أحمر مكتوب (٢) عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وفي بعض البوادي حيوان مكتوب على شقه الأيمن لا إله إلا الله وعلى شقه الأيسر محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وهو مرئي ظاهر لكل من له بصر وذكر غير ذلك.

فسيد الأولين والآخرين عظيم عند ربه نوّه بذكره في الأزل وفي الكون العلوي والسفلي ليعلم أنه الفاضل الكامل وأنه أعظم الوسائل.

قال أبو حميد : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له ما لك : لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله عزوجل أدّب أقواما فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الحجرات : ٢] الآية ، ومدح قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [الحجرات : ٣] الآية ، وذمّ قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)) [الحجرات : ٤] وإن حرمته

__________________

(١) أي كتبت والتعبير بالمضارع بحكاية الحال الماضية ، اه صاحب الفرعية.

(٢) يتعين نصب لفظ مكتوب لأنه وصف لمنصوب ، اه مصححه.

ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر فقال : يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك (١) الله عزوجل.

قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : ٦٤] القصة معروفة مشهورة ذكرها غير واحد من المتقدمين والمتأخرين بأسانيد جيدة ومنهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو الشفاء المشهور بالحسن والإتقان في سائر البلدان ، ومنهم الإمامة العلامة هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وقد اشتملت هذه القصة على تعظيمه بعد وفاته وأنه حي والتوسل به وحسن الأدب في حقه كما في حياته وأن في الآية الحث على المجيء إليه ليستغفر له ، وليس في الآية تعرض لزمن حياته دون الوفاة وكذا فهم العلماء مالك وغيره كما يأتي إن شاء الله تعالى.

العموم واستحبوا لمن زار قبره المكرم أن يتلو هذه الآية ويستغفر ويتوسل به ويطلب الشفاعة منه ولم نعلم أن أحدا طعن في قصة مالك إلا هذا الفاجر ابن تيمية فإنه لما كان فيها هذه الفضائل طعن فيها وقال إنها مكذوبة فإن هذا شأنه إذا وجد شيئا لا مساس فيه لما ابتدعه قال به وقبله ولم يطعن.

وإذا وجد شيئا على خلاف بدعته طعن فيه وإن اتفق على صحته ولا يذكر شيئا على خلاف هواه وإن اتفق على صحته لا سيما إذا كان آية أو خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل (٢) إلا أنه تعرض لتخصيصها وهي دعوى مجردة وعلى خلاف ما فهمه العلماء من العموم ووقع العمل عليه فمن ادعى التخصيص بغير دليل سمعي ظاهر الدلالة قطعنا بخطئه واتهمناه واستدللنا بذلك على استنقاصه سيد الأولين والآخرين الكامل المكمل ، وهو كفر بإجماع أهل التوحيد.

__________________

(١) قوله : فيشفعك الله ، السياق يقضي أن يكون فيشفعك فيشفعه لأنه هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشافع ، اه مصححه.

(٢) هذا المبدأ عليه أتباعه المفتونون به إلى اليوم يعرف ذلك منهم من يلتفت لحالهم أدنى التفاتة فالواجب على المسلم أن لا يعتبر تصحيحهم لحديث ولا تضعيفهم فإنهم للهوى يصححون ويضعفون وأحب أن يأخذ القارئ قول الإمام الحصني (ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل) على ظاهره دون أن يظن فيه أي مبالغة وليطرده في اتباعه كذلك ، اه مصححه.

وذكر القرطبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحثا على رأسه من ترابه ثم قال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ووعيت عن الله عزوجل فوعينا عنك وكان فيما أنزل عليك (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النّساء : ٦٤] الآية وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر قد غفر لك وهذه القصة غير قصة العتبى وقصة العتبى مشهورة في غاية الشهرة وقد ذكرها الأئمة في كتبهم قديما وحديثا وكنية العتبى أبو عبد الرّحمن واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو وكان من أفصح الناس وصاحب أخبار وصاحب رواية للآثار. حدّث عن أبيه وعن ابن عيينة وقد ذكر قصته خلائق منهم ابن عساكر في تاريخه وذكرها الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن) وذكرها غيرهما بالأسانيد.

وممن ذكرها الإمام العلامة المتفق على علمه ودينه وزهده أبو زكريا يحيى بن شرف النووي قدّس الله روحه ونوّر ضريحه قال في زيارة قبره : إنها من أعظم القربات وأفضل المساعي والطلبات وإذا انتهى إلى قبره وقف قبالة وجهه ويتشفع به إلى ربه ومن أحسن ما يقوله ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له.

قال العتبي : كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : ٦٤] وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال : فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقال : يا عتبى الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له ، وفي رواية غيره : الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي فخرجت فلم أجده فأفاد النووي قدس الله تعالى روحه أن أصحاب الشافعي استحسنوا ذلك وحكوه عن غيرهم وأفاد شمول الآية للحياة والممات وأنه يستشفع به إلى ربه وساق ذلك مساق ما هو متفق عليه ولم يتعرض لذلك أحد بالإنكار في سائر الأعصار وزدت أنا هذين البيتين لعلي يلحقني نصيب من شفاعته وهما :

وفيه كل خصال الحمد قد جمعت

فلذ به فهو من ترعى له الذمم

وهو الذي يرتجى في كل معضلة

وفي المعاد إذا زلّت بنا القدم

قصة الراهبين مع أبي عبد الله

وقال السيد الجليل قطاع المفاوز على قدم التوكل أبو عبد الله الفرحي قدّس الله سره ونوّر ضريحه : خرجت مرة أريد الزيارة من طريق المفاوز فوقعت في التيه فكنت فيه أياما حتى أشرفت على الموت فبينا أنا كذلك إذ رأيت راهبين (١) يسيران كأنهما خرجا من مكان قريب يريدان ديرا لهما بالقرب فملت إليهما فقلت : أين تريدان فقالا : لا ندري ، فقلت : من أين أتيتما ، قالا : لا ندري ، قلت : فتدريان أين أنتما؟ قالا : نعم نحن في ملكه وبين يديه ، قال : فأقبلت على نفسي أقول : لها راهبان يتحققان بالتوكل دونك ثم قلت : لهما أتأذنان لي في الصحبة؟ فقالا : ذاك إليك ، قال : فسرنا فلما أمسينا قاما إلى صلاتهما وقمت إلى صلاة المغرب فتيممت وصليت فنظرا إلي وقد تيممت فضحكا مني فلما فرغا من صلاتهما بحث أحدهما بيده فإذا بالماء قد ظهر إذا بطعام موضوع قال : فبقيت أتعجب من ذلك فقالا لي : ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وتوضأت وقاما فلم يزالا في صلاتهما وأنا في صلاتي حتى أصبحنا فصليت الفجر ثم قاما يسيران فساروا (٢) إلى الليل فلما أمسينا تقدم الآخر فصلّى بصاحبه ثم دعا بدعوات ثم بحث الأرض بيده فنبع الماء وظهر الطعام فقالا لي ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وشربنا وتوضأت للصلاة ثم نضب الماء وغار حتى لم يبق له أثر فلما كانت الليلة الثالثة قالا لي : يا مسلم الليلة توبتك ، قال : فاستحييت من قولهما وداخلني من ذلك هم شديد ، قال : فقلت في نفسي : اللهم إني أعلم أن ذنوبي لم تدع لي عندك جاها ولكني أسألك وأتوسل إليك بنبيك المكرم عندك إلا تفضحني عندهما ولا تشمت (٣) بنبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فإذا بعين خرّارة وطعام كثير ، قال : فأكلنا وشربنا ولم نزل على حالنا حتى بلغت النوبة الثانية إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت أولا وتوسلت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بطعام اثنين وشراب اثنين دون ما كان ، قال : فتقاصرت إلى نفسي وقصرت عن الأكل وأريتهما أني آكل فسكتا عني ، قال : وسرنا

__________________

(١) هذه القصة فيها خبئ خفي ولعل هذين الراهبين ملكان أو وليان لله تعالى أرسلهما سبحانه وتعالى للشيخ الفرحي لينتقل بحالهما من حاله إلى حال أرفع كما ترى في القصة ، وأما أنهما راهبان حقيقة فهذا ما لا يستطيع العقل فهمه فإنا لا نعرف أن الله تعالى يكرم إلا الصادقين من عباده المؤمنين فكيف يكرم بهذه الكرامة الباهرة التي تضمنتها القصة راهبين كافرين بسيد أنبيائه وهما يعرفانه حق المعرفة كما ترى من كلامهما ، فاعرف ذلك ، اه مصححه.

(٢) قوله : فساروا بالجمع ، هو : فسارا بالتثنية كما هو ظاهر ، اه مصححه.

(٣) أي تشمتهما ، اه مصححه.

حتى بلغت النوبة الثالثة إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت وتوسلت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوي حالي في أمر صدق توسلي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم علمي بأنه وسيلة من قبلي فإذا بطعام اثنين والماء مثل ذلك فغمني ذلك ، قال : فغلبتني عيناي من الهم خوف الشماتة بديننا فإذا بقائل يقول لي : أدركناك بالإيثار الذي خصصنا به محمدا من دون الأنبياء (١) وهي علامته وكرامة أمته من بعد إلى يوم القيامة.

قال : فلما بلغت النوبة الرابعة إلي قالا : بلى يا مسلم ما هذا؟ إنا نرى في طعامك وشرابك نقصا فلم ذلك؟ فقلت لهما : أو لم تعلما أن هذا خصّ الله عزوجل نبيه نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين الأنبياء وخصّ أمته به من بعده إن الله عزوجل يريد لي الإيثار وقد آثرتكما اقتداء بنبي المكرم فقالا : صدقت ، ثم قالا : نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، صدقت في قولك هذا ، خلق محمد في كتب الله المنزلة إن الله عزوجل خصّ محمدا وأمته بذلك ، قال : وحسن إسلامهما ، قال : ثم قلت لهما في الجمعة والجماعة فقالا : ذلك واجب ، قلت : نعم فاسألا الله تعالى وادعوا أن يخرجنا من هذا التيه إلى أقرب الأماكن فدعوا ، فبينا نحن نسير إذا نحن ببيوت قد أشرفنا عليها فإذا هي بيت المقدس ، قال : فدخلنا المسجد وأقمنا أياما ثم تجدد لي سفر ففارقتهما وقد ملئ قلبي فرحا بإسلامهما وبصحبة توسلي (٢) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه غيّاث الصادقين في محبة (٣) السالكين خلفه في صدقه مع ربه وصحة الاعتماد عليه. فانظر أرشدك الله كيف بصدق التوسل به جرى ما جرى من حصول الكرامات من نبع الماء وحصول الطعام والاهتداء لها ، فله عزوجل المنّة على ما أكرمنا به وعلى ما وهب الأولياء من آثار معجزاته.

وقال سفيان الثوري : بينا أنا أطوف بالبيت وإذا أنا برجل لا يرفع قدما ولا يضع أخرى إلا وهو يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا هذا إنك تركت التسبيح والتهليل وأقبلت على الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل عندك من هذا شيء؟ فقال لي : من أنت؟ قلت : سفيان الثوري ، فقال : لو لا أنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي

__________________

(١) أي خصصنا به أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دون أمم الأنبياء وإلا فالأنبياء جميعا أوائل أهل الإيثار صلى الله وسلّم عليهم جميعا ، اه مصححه.

(٢) قوله : وبصحبة توسلي ، صوابه وبصحة توسلي الخ ، اه مصححه.

(٣) قوله : في محبة السالكين ، صوابه في محبته. السالكين ، الخ ، اه مصححه.

ولما أطلعتك على سري ، ثم قال : خرجت أنا ووالدي حاجين إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة سيد الأنام حتى إذا كنا ببعض المنازل مرض والدي فعالجته فمات فلما مات اسودّ وجهه فغلبتني عيناي من الهم فنمت فإذا أنا برجل لم أر أجمل منه ولا أنظف ثوبا ولا أطيب رائحة منه فدنا من والدي وكشف عن وجهه وأمرّ يده عليه فعاد وجهه أبيض ثم ذهب فتعلقت بثوبه وقلت له : يا عبد الله من أنت الذي منّ الله عزوجل علي وعلى والدي بك في دار الغربة لكشف هذه الكربة؟ فقال : أو ما تعرفني أنا محمد بن عبد الله صاحب القرآن ، أما إن والدك كان مسرفا على نفسه ولكنه يكثر الصلاة علي فلما نزل به ما نزل استغاث بي وأنا غيّاث من أكثر الصلاة علي ، قال : فانتبهت فإذا وجه والدي قد ابيضّ. فانظر أرشدك الله عزوجل إلى جلاله وتعظيمه في حياته وبعد وفاته كيف أغاث من استغاث به حتى في البرزخ فهو عليه الصلاة والسلام كما قيل :

غياث لملهوف وغيث لآمل

وعين لظمآن وعون لذي جهد

له فوق إيوان الزمان مراتب

يقصر عنها الأنبياء أول المجد

فموسى وعيسى والخليل ونوحهم

يقولون طه منتهى السئول والقصد

حوى قصبات السبق من قبل آدم

وكهلا وأيام الطفولة في المهد

به طيبة طابت ولا غرو قد حوت

طبيب قلوب الخلق من مرض الجحد

فلولاه ما اشتاقت قلوب نفيسة

إلى الشيخ من أرض الحجاز ولا الرند

ولا ذكرت سلع ونعمان والنقا

ولا استعذبت من شدة الوجد للوجد

فسبحان من قرّبه وبجّله وعظّمه ومنحه وتوجه خلع الفضائل وجعله أعظم ما يتوجه به إليه وأعظم الوسائل.

روى الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع لي أن يعافيني الله ، فقال : «إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك» قال : فادعه ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم شفعه في» قال الترمذي : حديث حسن صحيح ورواه النسائي بنحوه ورواه البيهقي وزاد محمد بن يونس في روايته فقام وقد أبصر ، وفي رواية شعبة ففعل فبرئ ، وفي رواية : يا محمد إني توجهت بك إلى ربي فتجلى عن بصري ، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي ، قال

عثمان رضي الله عنه : فو الله ما انصرفنا ولا طال الحديث حتى جاء الرجل كأنه لم يكن به ضر (١). فهذا حديث صحيح صريح في التوسل والاستجابة وليس فيه أنه فعل ذلك في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس فيه التقييد بزمن حياته ولا أنه خاص بذلك الرجل بل إطلاقه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا التوسل مستمر بعد وفاته شفقة عليهم لأنه بهم رءوف رحيم ، ولاحتياجهم إلى ذلك في حاجاتهم ، ويدل على ذلك أن عثمان بن حنيف راوي الحديث هو وغيره فهموا التعميم ولهذا استعمله هو وغيره بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف رضي الله عنه ذكره في أول الجزء الخمسين من مسنده أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا ينظر في حاجته ، فلقي الرجل عثمان بن حنيف وشكا (٢) إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي (٣) حاجتك وتذكر حاجتك ، ورح حتى أرواح معك ، فذهب الرجل وفعل ما قاله عثمان بن حنيف له ثم إن الرجل أتى إلى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب فأخذ بيده حتى أدخله إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك ، فأعلمه بها فقضاها له ، وقال : ما ذكرت حاجتك إلا الساعة ، ثم قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما كان لك من حاجة فاذكرها ، ثم إن الرجل خرج من عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلقي عثمان بن حنيف رضي الله عنه فقال له : جزاك الله خيرا أما إنه ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في ، فقال عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له عليه الصلاة والسلام : «أو تصبر؟» فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات» قال عثمان بن حنيف : فو الله ما انصرفنا ولا طال الزمان حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. ورواه البيهقي بإسناده من طريقين فهذا من

__________________

(١) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : «وإن كان لك حاجة» فمثل ذلك ، اه مستنسخ النسخة.

(٢) قوله وشكى يرسم شكا بالألف ، اه مصححه.

(٣) قوله : فتقضي حاجتك ، ليس بظاهر معناه وقد راجعت الأصل فرأيت النص فتقضى حاجتي وتذكر حاجتك ، الخ وبه يتضح المعنى ، اه مصححه.

أوضح الأدلة على الاحتجاج بالتوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته كحياته كفعل (١) عثمان راوي الحديث ولفعل غيره في حياته وبعد وفاته وهم أعلم بالله عزوجل وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيرهم وإليهم ترجع الأمور في القضايا التي شاهدوها في زمنه وأخذوها عنهم رضي الله عنه (٢) ومن عدل عن ذلك فقد أفهم عن نفسه أن عنده ضغينة لهم وهذا من الواضحات الجليات التي لا ينكرها إلا صاحب دسيسة أعاذنا الله تعالى من ذلك.

وقال القاضي عياض في أشهر كتبه المتداولة بين الناس وهو (الشفاء) الفصل الثاني في حرمته بعد وفاته : وأما حرمته (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته وتوقيره وتعظيمه فهو لازم كما كان في حياته وذلك عند ذكره عليه الصلاة والسلام وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وتعظيم أهل بيته وصحابته واجب على كل مؤمن متى ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته فيأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ بعينه (٤) لو كان بين يديه ويتأدب بما أدّبنا الله عزوجل به.

وقال ابن حبيب : إذا دخلت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّ ركعتين بين الروضة والمنبر ثم اقصد القبر من تجاه القبلة وادن منه ثم سلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه عليه الصلاة والسلام مسلم (٥) ويعلم وقوفك بين يديه وكذا قاله غيره من الأئمة.

قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي : (أما زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فأحضر قلبك لتعظيمه ولهيبته وأحضر عظيم رتبته في قلبك واعلم أنه عالم بحضورك وتسليمك) وهذا الذي قالاه معروف مشهور لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يغضون أصواتهم في مسجده تعظيما له وتوقيرا.

وفي البخاري أن عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا سمعت دق الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطنبة لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الكاف في قوله كفعل لام ، اه مصححه.

(٢) قوله : وأخذوها عنهم رضي الله عنه تؤخر فيه عنهم وتقدم عنه كما هو ظاهر ، اه مصححه.

(٣) الصواب وحرمة ويحذف الضمير ، اه مصححه.

(٤) قوله بما كان يأخذ بعينه عبارة الشفاء بما كان يأخذ به نفسه الخ ، اه مصححه.

(٥) قوله مسلم بتشديد اللام أي راد عليك السلام الذي تسلمه عليه ، اه مصححه.

وروي أن عليا رضي الله عنه لما عمل مصراعي داره ما عملهما إلا بالمناصع توقيا لذلك ، والآثار بمثل ذلك كثيرة جدا ، وكذا الأخبار بعرض الصلاة عليه وكذا برد (١) روحه الشريفة العظيمة الكريمة على الله عزوجل ، وإذا ثبت ردها ثبتت حياته وإذا ثبتت حياته وجب القطع بصحة التوسل به.

في ابن ماجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفر منها. قال : قلت : يا رسول الله وبعد الموت؟ قال : «وبعد الموت فإن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق».

وقال عليه الصلاة والسلام : «إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» رواه النسائي وكذا الحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصحح : وقال عليه الصلاة والسلام : «ليس أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليه‌السلام» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد قال البيهقي : معنى قوله : إلا رد الله عليه روحه ، إلا وقد ردّ الله عليه روحه لأجل سلام من سلّم عليه واستمرت في جسده لأنه لا يبلى ولا تفتر صلاة المصلين عليه ولا سلام المسلّمين عليه من الثقلين وغيرهم.

وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تجعلوا قبري عيدا وصلّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما (٢) كنتم» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح ، والأحاديث في ذلك كثيرة.

وقال كعب الأحبار : ما من فجر يطلع إلا أنزل الله سبعين ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر الشريف يضربون بأجنحتهم ويصلّون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم وصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه.

__________________

(١) سيأتي للمصنف شرح الحديث الوارد بذلك وتوضيحه أن الوجود لا يخلو لحظة من مسلم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو دائما يرد السلام فهو دائما مردودة عليه روحه فهو دائما حي وشرح الحديث بأن جملة رد الخ حالية تحل إشكال الحديث كذلك وهناك أحاديث أخرى كثيرة تدل على حياة الأنبياء في البرزخ بلا قيد ولا شرط وهو أمر مجمع عليه بين علماء الأمة فليعلم ، اه مصححه.

(٢) توصل حيث بما ، اه مصححه.

وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني صاحب الترغيب عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى علي في يوم جمعة وليلة جمعة مائة من الصلاة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا وكل بذلك ملكا يدخله على قبري كما يدخل عليكم الهدايا إن علمي بذلك بعد موتي كعلمي به في حياتي».

وقال السيد الجليل سلمان بن شحيم قدس الله تعالى روحه : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله الذين يأتونك ويسلّمون عليك تفقه سلامهم؟ قال : «نعم وأرد عليهم».

وقال بعض المشايخ : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقلت : استغفر لي ، فأعرض عني ، فقلت : يا رسول الله استغفر لي ، فأعرض عني ، فقلت : يا رسول الله إن سفيان بن عيينة حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر أنك لم تسأل شيئا قط ، فقلت : لا ، فأقبل علي وقال : «غفر الله لك» وكان موهوب ابن الجزري الشافعي إماما عالما فاضلا مفيدا يشارك في سائر العلوم مشاركة جيدة مع العقل والدين والإيثار لأهل الضرورات وكان يتجر فكثر ماله فأراد الصاحب أن يتعرض له ، قال : فخفت منه خوفا شديدا فلما كان في بعض الليالي رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله إني خائف من الصاحب ، فقال : «لا تخف منه وقل له بعلامة كذا وكذا لا تؤذني فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع في» فلما انتبهت صليت الصبح وركبت دابتي ووقفت للصاحب في الطريق وهو طالع إلى القلعة ، قال : فسلّمت عليه وصحبته وقلت له : معي رسالة ، فقال : ممن؟ قلت : من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «قل له بعلامة كذا وكذا» فقال : صدقت أنت وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا اليوم أتشفع بك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمولى يرسم والمملوك يمتثل ومهما كان لك من الحوائج تعرفني بها أو لأحد أصحابك.

وطلب بعض أمراء الجور رجلا أراد منه شيئا وهدده تهديدا وتواعده (١) بالعقوبات فقال له الرجل : أنا أتشفع إليك بسيد الأولين والآخرين أن لا تتعرض لي بما لا يحل لك ، فلم يلتفت إليه ولا إلى قوله ، فلما أصبح الصباح طلب الأمير الرجل وأكرمه بعد أن فكّ عنه الطلب فقيل للأمير في ذلك فقال : رأيت البارحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهرني وهمّ بي وقال : «يتشفع بي إليك ولا تقبل فو الله لا يتشفع به أحد إلي إلا قبلت شفاعته» فإني خفت على نفسي الهلكة.

__________________

(١) الصواب حذف ألف تواعده ، اه مصححه.

وعن منصور بن عبد الله قال : سمعت ابن الجلاء يقول : دخلت مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبي شيء من الفاقة فتقدمت إلى القبر فسلّمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى ضجيعيه أبي بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ثم قلت : يا رسول الله بي فاقة وأنا ضيفك الليلة ، ثم تنحيت ونمت بين القبر والمنبر وإذا أنا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاءني ودفع إلى رغيف خبز فأكلت نصفه فانتبهت فإذا في يدي نصف الرغيف. ومن تتمة القصة أن قال ابن الجلاء إنه دام بعد ذلك أربعين سنة لم يحتج فيها إلى طعام الدنيا ولا إلى شرابها ببركة تلك الأكلة.

قال العلماء : الظاهر أن ما أتاه به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طعام الجنة لأن من أكل من طعام الجنة استغنى عن طعام الدنيا ، قالوا : وهذه رؤيا حق لما جاء في الحديث «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي».

ومثل هذا وقع للسيد الجليل أبي الخير الأقطع صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة قال : دخلت مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا بفاقة فأقمت خمسة أيام ما ذقت ذواقا فتقدمت إلى القبر وسلّمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت : أنا ضيفك يا رسول الله وتنحيت ونمت خلف القبر فرأيت في المنام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن شماله وعلي بين يديه فحركني ، وقال : قم قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فقمت إليه وقبلت بين عينيه فدفع إلي رغيفا فأكلت نصفه وانتبهت وإذا في يدي نصف رغيف ، قال العلماء : وإنما يبقي نصف الرغيف ليتحقق الأمر وتظهر الكرامة لأولياء الله عزوجل الذين سلكوا سبيله بصدق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم.

وقال ابن أبي ذرعة الصوفي : سافرت مع أبي ومع ابن حنيف إلى مكة وأصابتنا فاقة شديدة فدخلنا مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبتنا طاوين وكنت دون البالغ فكنت أجيء إلى أبي غير دفعة وأقول : أنا جائع ، فأتى والدي إلى الحضرة الشريفة ، وقال : يا رسول الله أنا ضيفك الليلة وجلس على المراقبة فلما كان بعد ساعة رفع رأسه وكان يبكي ساعة ويضحك ساعة فقال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضع في يدي دراهم وفتح يده فإذا فيها دراهم وبارك الله تعالى لنا فيها إلى أن رجعنا شيراز فكنا ننفق منها.

وقال السيد الجليل أبو العباس أحمد الصوفي : تهت في البادية ثلاثة أشهر وانسلخ جلدي فدخلت المدينة الشريفة وجئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّمت عليه وعلى صاحبيه ثم نمت فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقال لي : «يا أحمد جئت؟» قلت : نعم

وأنا جائع وأنا في ضيافتك ، فقال لي : «افتح كفيك (١)» ففتحتهما فملأهما دراهم فانتبهت وهما مملوءتان فقمت فاشتريت لي خبزا حواري وفالوذجا وأكلت وقمت للوقت ودخلت البادية ومثل هذا كثير وهؤلاء رجال صدق يقطعون البوادي على قدم التوكل لا يعتمدون على غيره ولا يأنسون بسواه وتقع لهم ألطاف وأمور عجيبة وقد ذكرت جملة من ذلك في كتاب (تنبيه السالك) في فصل الكرامات ، فمن أراد أن يقف على الغرائب والعجائب فلينظر فيه وفيما وهب لهم من الكرامات على مقدار طبقاتهم.

وخرج بعض المشايخ يريد الزيارة في جماعة من الفقراء ، قال : فلما وصلنا إلى شعب النعام أدركنا العطش وبيننا وبين المدينة مراحل ، قال : فاستغثت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصليت ونمت فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «مرحبا بك وبجماعتك» وضمني إلى صدره وقبّلني فقبّلت يده الكريمة وقدمه ، وقلت له : يا سيدي يا رسول الله أنا خائف على أصحابنا من العطش ، فقال : «لا تخف فإنا نسيّر لكم الماء وها نحن نعد لكم الضيافة» ورأيته عليه الصلاة والسلام مشمر الأكمام فجاءنا السيل في تلك الليلة وملأنا ركابنا فلما قدمنا المدينة تلقانا أحد خدام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : سلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشتهي أن أجتمع بك حتى أوفي لك بما أوصاني به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما سلّمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جئت إليه ، فقال لغلامه : جئ بالمائدة ، فجاء بها وعليها كل خير يراد فالتفت إلي وقال : كل ، هذا الذي أوصاني به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال لي : هذه ضيافتك يا فلان وسماني باسمي ، وما يبعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سماه كما وقع لغيره من الخدام من تسمية أقوام قصدوا زيارته من أرض شاسعة كما أخبرني به الشيخ محمد فولاذ في المسجد الأقصى وكان من الأخيار وكثير التعبد والإيثار وحجّ ماشيا ما يزيد على ثلاثة حجة ، قال لي : إذا جاء أوان الحج هاج بي الشوق إلى تلك المعاهد الشريفة وإلى زيارة سيد الأولين والآخرين فآخذ زادي على ظهري وإناء الماء وأسير مع الناس إلى جنب وأنا مشغول بحالي ، قال : فاتفق أني تحدثت أنا وخادم الضريح وتذاكرنا مواهب الله عزوجل لسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : يا شيخ محمد إني أخدم هذا الضريح ستين سنة فاتفق في يوم حار أني سمعت السرير يصرصر وسمعت صوته عليه الصلاة والسلام وهو يقول : «وعليك السلام يا فلان ويا فلان بن فلان» وسمّى ثمانية أنفس ، قال الخادم : فقمت من ساعتي وجئت الضريح وإذا بشخص كاد أن يموت من الهزال جالس عند

__________________

(١) الصواب ففتحتهما ، اه مصححه.

الضريح ، فسلّمت عليه وقلت : ما اسمك؟ فقال : فلان بن فلان لأحد الثمانية ، فقلت له : وأين رفقتك؟ فقال : عند باب الحرم ، قد عجزوا عن الوصول إلى الضريح ، قال : فعمدت إليهم فإذا ثلاثة من الذين سماهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : وأين بقيتكم؟ فقالوا : فارقناهم من وراء تلك الأكمة ، قال : فأخذت ما أحملهم عليه وماء وشيئا من الأكل ومضيت فوجدت الأربعة قد قضوا فجهزتهم ثم رجعت إلى الأربعة فأخذتهم وأكرمتهم وسألتهم من أين ورودهم فقالوا : من بلاد شاسعة تعاقدنا وتعاهدنا على زيارة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن لا نرجع عن ذلك ولو ذهبت أنفسنا ، فأما نحن فقد أعطانا الله عزوجل مرادنا وأما إخواننا الذين ماتوا عند الأكمة فنرجو أن الله عزوجل لا يخيب مسعاهم.

ووقع مثل ذلك كثيرا جدا وقد دوّنه الأئمة كابن أبي الدنيا وغيره وعقدوا له باب الاستغاثة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرّجوه بأسانيدهم على اختلاف الوقائع وفيها ما يتعلق بالصديق والفاروق رضي الله عنهما وها أنا ذا أتعرض لنبذة يسيرة جدا من غير الأسانيد لأنه اللائق بهذه الورقات فمن أراد الكثرة فعليه بالنظر في كتب الأئمة فإنها مجلدات والمهمل لذكرها قد نادى على نفسه بخبث طويته في حق أصفياء الله عزوجل وأوليائه ، أعاذنا الله من الزيغ والفتن ما ظهر منها وما بطن.

فمن ذلك : ما أخبر به أبو عبد الله الحسين وأبو علي بن سعيد بن نبهان وكان من فضلاء بغداد ورؤسائهم وغيرهما قالوا : أراد رجل الحج فأحضره الأمير مقلد فقال : يا فلان تريد الحج؟ قال : نعم ، قال : إذا حججت وأتيت المدينة فاقرأ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مني السلام وقل له لو لا صاحباك لزرتك قال الرجل : فحججت وأتيت المدينة ولم أقل الكلام عند القبر إجلالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما كان الليل نمت فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامي فقال لي : «يا فلان لم لم تؤد الرسالة من مقلد؟» فقلت : يا رسول الله أجللتك أن أقول في صاحبيك ذلك فرفع رأسه إلى رجل فقال له : خذ هذا الموسى واذبحه ، قال : ففعل ، قال : فوافيت العراق فسمعت أن الأمير مقلد ذبح على فراشه فلما قدمت المدينة ـ أي بغداد ـ سألت عنه فقيل إنه ذبح على فراشه فذكرت للناس الرؤيا التي رأيتها فشاعت إلى أن بلغت الأمير قرواس بن المسيب فأحضرني وقال : اشرح لي الحال ، فشرحت له ، فقال : أتعرف الموسى؟ قلت : نعم ، فأحضر طبقا مملوءا مواسي والموسى في الجملة فقال لي : أخرج الموسى ، فضربت بيدي وأخذت الموسى الذي رأيته بيد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ناوله الرجل فقال : صدقت هذا الموسى وجدته عند رأسه وهو مذبوح.

ومن ذلك ما أخبر به علي بن محمد قال : سمعت رضوان اليماني وكان من الأخيار وأهل السنة ، قال : كان لي جار في منزلي وفي سوقي وكان يشتم أبا بكر وعمر ، قال : فكثر الكلام بيني وبينه فلما كان ذات يوم شتمهما وأنا حاضر فوقع بيني وبينه كلام حتى ناولته وناولني فانصرفت إلى منزلي وأنا مهموم حزين ألوم نفسي ، قال : فنمت وتركت العشاء لشدة ما بي فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامي في ليلتي فقلت : يا رسول الله فلان جاري في منزلي وفي سوقي يسب صاحبيك ، قال : «من أصحابي؟» قلت : أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال لي : «خذ هذه المدية واذبحه بها» قال : فأخذتها وأضجعته فذبحته فرأيت كأن يدي أصحابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض أمسحها فانتبهت وأنا أمسح يدي فأسمع الصراخ من نحو داره فقلت : انظروا ما هذا الصراخ؟ قالوا : فلان مات فجأة ، فلما أصبحنا جئت أنظر إليه لعلمي أن رؤياه حق ، فنظرت فإذا خط موضع الذبح.

ومن ذلك ما أخبر به يحيى بن عطاف المعدل بالموصل قال : حكى لي شيخ دمشقي جاور بالحجاز سنين ، قال : جاورت بالمدينة الشريفة سنة مجدبة فخرجت إلى السوق لأشتري برباعي دقيقا فأخذ صاحب الدقيق مني الرباعي ، وقال : العن الشيخين حتى أبيعك الدقيق ، فامتنعت من ذلك فراجعني مرات وهو يضحك ، فضجرت وقلت : لعن الله من لعنهما ، فلطم عيني فرجعت إلى المسجد والدموع تسيل ، قال : وكان لي صديق زاهد عابد جاور بالمدينة سنين فسألني عن حالي فذكرت القصة فقام معي إلى التربة الشريفة ، وقال : السلام عليك يا رسول الله ، فلما جنّ علي الليل نمت فلما أصبحت صادفت عيني أحسن مما كانت وكأنها لم يصبها ضر ثم لم يكن إلا ساعة وإذا رجل مبرقع قد دخل من باب المسجد يسأل عني فدلّ علي فجاء وسلّم علي وقال : ناشدتك الله إلا جعلتني في حل فأنا الرجل الذي لطمتك فقلت : لا أو تذكر لي قصتك ، فقال : نمت فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقبل ومعه أبو بكر وعمر وعلي فتقدمت وقلت : السلام عليكم ، فقال علي رضي الله عنه : لا سلام الله عليك ولا رضي عنك أنا أمرتك أن تلعن الشيخين ، وجعل بإصبعيه كذا في عيني ففقأهما فانتبهت وأنا تائب إلى الله تعالى ، وأسألك التجاوز عن جرمي فحين سمعت قوله قلت : اذهب فأنت في حل من قبلي ، قال أبو النصر : فكان هذا الشيخ الدمشقي دينا صالحا ناسكا قدس الله تعالى روحه.

كان علي رضي الله عنه يقول : أنا وأبو بكر وعمر كنفس واحدة من أحبنا جميعا انتفع بمحبتنا ومن فرق بيننا في المحبة لقي الله تعالى يوم القيامة ولا حجة له.

وكان أيوب السختياني يقول : من أحب أبا بكر فقد أحب إمام الدين ، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله تعالى ، ومن أحب عليا فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد فقد برئ من النفاق ، ومن انتقص أحدا منهم فهو مبتدع مخالف السنة والسلف الصالح ، وأخاف أن لا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه سليما.

على هذا الاعتقاد درج السلف وبذلك اقتدى العلماء خلفا بعد خلف ومن ذلك ما أخبر به محمد بن عبد الله بن محمد الفقيه الحنبلي قال : اجتمع جماعة في الطريق قاصدين مكة في عرض السنة وكان أحدهم كثير الصلاة والتعبد فمات فأهمهم دفنه فنظروا إلى بيت شعر في الصحراء فقصدوه فإذا في البيت عجوز وفيه قدوم فسألوها أن تدفعه إليهم فقالت : تعاهدوني بالله عزوجل أنكم تردونها إلي فأعطوها ما أرادت ثم أخذوا القدوم فحفروا به قبرا وواروا الرجل ونسوا القدوم في القبر فذكروا العهود فدعتهم الضرورة إلى أن ينبشوا فإذا القدوم قد صار غلا من يد الرجل إلى عنقه فردوا عليه التراب فأخبروا العجوز الخبر فقالت : لا إله إلا الله رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامي فقال : «احتفظي بهذا القدوم فإنه غل لرجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما».

وأخبر العباس السني قال : قال لي أحد المشايخ المعمرين : كنت بجامع عمرو بن العاص ونحن في صلاة أراها صلاة الصبح فسمعت ضجيجا بصحن الجامع فلما فرغنا من الصلاة اجتمع الناس فرأوا رجلا مذبوحا فقال رجل من الحاضرين : أنا ذبحته فإني سمعته يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فحمل إلى السلطان فسأله عن القضية فقال : أنا ذبحته ، فأمر السلطان بالرجل أن يحبس وبالمقتول أن يدفن ، فحفروا له موضعا فوجدوا ثعبانا ثم حفروا له موضعا آخر فوجدوا فيه ثعبانا فأخبروا السلطان بذلك فقال : احفروا له قبرا ثالثا ، فحفروا فإذا فيه ثعبان ، فقال : ادفنوه ، وسرح القاتل ، قلت : وبلغني أنه لما دفن ابن تيمية قال شخص بعد ثلاثة أيام : قد اضطرب القول في هذا الرجل والله لأنظرن ما صنع الله به ، قال : فحفر قبره فوجد على صدره ثعبانا عظيما هاله منظره فكان الرجل يحذر الناس من اعتقاده ويعلمهم بما رأى ، والله أعلم.

وذكر ابن أبي الدنيا في كتابه (مجاني الدعوة) بسنده (أن (١) مؤذن عك) قال :

__________________

(١) هكذا وجدنا في الأصل ، اه مستنسخه.

جزت أنا وعمر إلى بكران وكان رجل يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنهيناه فلم ينه فقلنا : اعتزلنا فاعتزلنا فلما دنا خروجنا قلنا : لو صحبناه حتى يرجع إلى الكوفة فلفينا غلام له فقلنا له : قل لمولاك يعود إلينا ، فقال : إن مولاي قد حدث له أمر عظيم قد مسخت يداه يدي خنزير ، قال : فأتيناه فقلنا له : ارجع إلينا ، قال : إنه حدث في أمر عظيم وأخرج ذراعيه فإذا هما ذراعا خنزير ، قال : فصحبنا حتى أتينا قرية من قرى السواد كثيرة الخنازير فلما رآها صاح صيحة فمسخ خنزيرا وخفي علينا فجئنا بغلامه ومتاعه إلى الكوفة وشاع أمره أعاذنا الله تعالى من ذلك.

واعلم أن من الشيعة طائفة تقول إن خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي رضي الله عنه وأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ارتدا بعد الإسلام وقاتلا الناس.

ثم اعلم أن مما يتعلق بأمور الشيعة من هذا النوع وغيره كثير والمراد أن الاستغاثة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واللواذ بقبره مع الاستعانة به كثير على اختلاف الحاجات وقد عقد الأئمة لذلك بابا ، وقالوا : إن استعانة من لاذ بقبره وشكا إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى.

فمن ذلك ما أخبر به يوسف بن علي قال : ركبتني ديون فقصدت الخروج من المدينة الشريفة ثم جئت إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستغثت به في وفاء ديني فنمت فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار علي بالجلوس فاستيقظت فقيّض الله لي من وفى ديني.

وقال بعضهم : بلغنا أن أبا الليث يقرأ القرآن في المصحف من غير تعلم سبق منه للكتابة وكنت أنكر ذلك ، قال : فدخلت مكة فوجدته يقرأ القرآن في المصحف قراءة محمودة فسألته عن سبب ذلك فقال : كنت في مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبيت في المسجد وأخلو به فتشفعت إلى الله عزوجل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسهل على القرآن في المصحف ، قال : وجلست فأخذتني سنة فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «قد أجاب الله تعالى دعاءك فافتح المصحف واقرأ القرآن» قال : فلما أصبح الصباح فتحت المصحف وشرعت أقرأ القرآن فكنت أقرأ في الصحف فربما تتصحف علي الآية فأنام فأرى من يقول لي الآية التي تصحفت عليك كذا وكذا.

وذكر ابن عساكر في تاريخه أن أبا القاسم بن ثابت البغدادي رأى رجلا بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذّن الصبح عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال فيه : الصلاة خير من النوم ، فجاءه

خادم من خدم المسجد فلطمه حين سمع ذلك منه فبكى واستغاث بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله في حضرتك يفعل بي هذا الفعل ، قال : فضربه الفالج في الحال وحمل إلى داره فمكث ثلاثة أيام ثم مات.

وقال أبو العباس أحمد المقري الضرير التونسي : جعت بالمدينة ثلاثة أيام فجئت إلى القبر ، وقلت : يا رسول الله جعت ثم نمت ضعيفا فلكزتني جارية برجلها فقمت إليها فقالت : اعزم ، فقمت معها إلى دارها فقدمت لي خبز بر وتمرا وسمنا وقالت : كل أبا العباس فقد أمرني بهذا جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أبو العباس : فرجعت إلى بلادي فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمصر بعد رجوعي فقال : «أوحشتنا يا أبا العباس قراءتك» وكنت أكثر قراءة القرآن عند ضريحه.

قال الباجي : كم قرأت من ختمة عند قبره؟ قلت : ألف ختمة.

وقال أبو العباس أحمد : اللواتي كانت عندنا بمدينة فاس امرأة وكانت إذا أصابها أمر أو شيء يفزعها جعلت يدها على عينيها واستغاثت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتغاث فلما توفيت قال لي قريب لها : رأيتها في النوم فقلت لها : يا عمة ، أرأيت الملكين الفتانين؟ فقالت : نعم جاءاني فعند ما رأيتهما جعلت يدي على عيني وقلت : يا محمد ، فلما نزعت يدي عن وجهي فلم أرهما.

وهذه القصة ذكرها بعض الأئمة وعزاها ، وقال : إن الاستغاثة من بعيد به صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالاستغاثة به عند قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وساق عن أبي إسحاق الحسين قال : كنت بين مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشام فضل لنا جمل قال : وكان قد بلغني عن الشيخ أحمد الرفاعي أنه قال : من كانت له حاجة فليستقبل عبادان نحو قبري ويمشي سبع خطوات ويستغيث فإن حاجته تقضى ، قال : فلما استقبلت عبادان وقصدت الاستغاثة هتف بي هاتف : أما تستحي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتستغيث بغيره؟ قال : فتحولت نحو المدينة فقلت : يا سيدي يا رسول الله أنا مستغيث بك ، قال : فو الله ما استكملت ذلك إلا والجمال يقول لي : هذا الجمل قد وجدناه.

وسافر بعض الفقراء لقصد زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتاه في الطريق فاستغاث بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظهرت له قبة العباس رضي الله عنه وبينه وبين الموضع المذكور يومان أو نحوهما.

وقال أبو الحجاج يوسف بن علي قدس الله روحه : خرجت من مكة متوجها إلى المدينة على طريق المشاة فتهت في الطريق فاستغثت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بامرأة آتية من

نحو المدينة وهي تشير إلى أن أمشي على أثرها فلم أزل أمشي على أثرها إلى أن وصلت المدينة ، وقال : سمعت أبا عبد الله بن سالم يقول : رأيت في المنام كأني في بحر النيل وإذا بتمساح يريد أن يقفز علي فخفت منه وإذا بشخص وقع لي أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي : إذا كنت في شدة فقل أنا مستغيث بك يا رسول الله فكنت أفعل فأغاث ، فأراد بعض الأخوان السفر لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ضريرا فحكيت له الرؤيا وقلت له : إذا كنت في شدة فقل أنا مستغيث بك يا رسول الله ، فسافر في تلك الأيام فجاء إلى رابغ وهي غزيرة الماء وكان له خادم قد ذهب في طلب الماء ، قال : فبقيت القربة في يدي وأنا في شدة من طلب الماء فذكرت ما قلت لي وقلت : أنا مستغيث بك يا رسول الله ، فبقيت أنا كذلك وإذا بصوت يقول : زم قربتك ، وسمعت صرير الماء في القربة إلى أن امتلأت ولم أعلم من أين أتى القائل.

وقال : سمعت محمد السلاوي يقول : لما ودعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : يا حبيبي يا محمد يا سيد الكونين أنا أدخل الصحراء فإذا أخذتني شدة أدعو الله وأتوسل بك ، وجئت إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقلت لهما كذلك قال فبقيت في البرية سبعة أيام ووقعت في جب وفيه ماء فبقيت فيه من أول النهار إلى ما بعد الظهر فلم يبق إلا الموت ، قال : ففكرت ما كنت قلت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقلت : يا حبيبي يا محمد الذي كنت قلت لك وقلت كذلك لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، قال : فكأني بمن حولني وطلعت ببركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما.

وقال : أخبرني رجل من مدينة طرابلس قال : كنا جائين من الإسكندرية في مركب فهاج البحر علينا وأشرفنا على التلف والهلاك فقمت إلى الناس فقلت : استغيثوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه غيّاث ، فقلنا جميعا : الغياث يا رسول الله العفو يا رسول الله العفو يا رسول الله جانين مذنبين استجرنا بك أجرنا يا محمد الحبيب يا حبيبنا يا شفيعنا يا ولينا ، فنام رجل من أهل المركب مشهور بالخير والصلاح فرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذ بيده فقال : انج وأبشروا بالسلامة ، فلما أفاق الرجل بشرنا برؤياه فلما أصبح رجع البحر كالزيت وكأنه عقد بيضة وجئنا إلى طرابلس سالمين ببركته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : سمعت أبا الحسن العسقلاني يقول : ركبنا البحر في طلب جده فهاج علينا ورمينا ما معنا فيه وأشرفنا على التلف فجعلنا نستغيث بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقول : وا محمداه ، وكان معنا رجل مغربي صالح ، فقال لنا : ارفقوا بالحجاج إنكم سالمون ، رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله أمتك يستغيثون بك ، قال : فالتفت إلى أبي بكر الصديق

رضي الله عنه ، وقال : يا أبا بكر أنجدهم ، قال : فكأن عيني ترى أبا بكر رضي الله عنه وقد خاض البحر وأدخل يده في مقدم الحق ولم يزل يجذبها حتى دخل بها البر فلم تستغيثون فأنتم سالمون ، فسلّمنا ، ولم نر بعد هذا إلا خيرا ، ودخلنا البر سالمين والحمد لله رب العالمين.

ولما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء أول سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة ونصف سنة ونصف شهر ووقع ما وقع من السبي وحمل النساء والصبيان فلما مروا بالقتلى صاحت زينب بنت علي رضي الله عنهما مستغيثة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمداه هذا حسين بالعراء مزمل بالدماء مقطع الأعضاء ، يا محمداه ، فلما كان سنة ثلاث وأربعمائة أخذ أهل الكوفة جدري عظيم ثم عمي منهم ألف وخمسمائة كلهم من نسل من حضر قتل الحسين رضي الله عنه. وهذا من أعجب ما سمع ، واعلم أرشدك الله عزوجل أن مثل هذه القضايا كثيرة جدا وقد ذكر جماعة من الأئمة من ذلك أمورا عديدة عجيبة منهم البيهقي ومنهم أبو محمد عبد الحق ومنهم بعض الأئمة وذكر جملة مستكثرة في ذلك وعقد أبوابا في الاستغاثات بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنها باب في أصحاب العاهات وذكر منها جملة مستكثرة من ذلك على اختلاف أنواع العاهات كالعمى والصداع والزمانة ووجع البطن وغير ذلك ، وأنه عليه الصلاة والسلام يضع يده الشريفة على موضع العاهة فتزول ببركة يده الشريفة وتشفي وكأنه ما به وجع قلبه (١). ثم إنه مع ذلك قال : ولو تتبعت هذا الفن لحفيت الأقلام وجفّت المحابر وفنيت الطروس في تتبعه والدفاتر ، ثم قال : ولقد سألت بعض إخواننا المجتهدين وكان بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التجريد فقلت : هل استغثت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لجأت إليه في شيء قط مدة إقامتك في المدينة؟ فقال : كنت أستحي أن أسأله إذ كنت بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : سمعت الفقيه الإمام برهان الدين بن الطيب المالكي يقول : قال لي من أثق به وكان بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه أصابه الجوع فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني جائع ، وجلس بالقرب من حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتاه رجل من الأشراف فقال له : قم ، فقال : إلى أين؟ فقال : تأكل عندي شيئا ، فقام معه إلى بيته فقدم إليه جفنة فيها ثريد ولحم ودهن فأكل حتى شبع وأراد الانصراف فقال له : كل وازداد فلما أراد الانصراف قال له : يا أخي الواحد منكم يأتي من البلاد البعيدة ويقطع المفاوز والقفار ويترك الأهل والأوطان ويقطع البحار ويأتي إلى زيارة النبي العظيم على ربه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) الصواب قبله ، اه مصححه.

وتكون همته أن يطلب منه كسرة خبز يا أخي لو طلبت الجنة أو المغفرة أو الرضى مهما طلبته منه لنلته ببركة هذا النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

هذا وعدم السؤال يكون للأكابر لما يشاهدون في الحضرة النبوية من الإجلالات والكرامات العلوية وأنت أرشدك الله عزوجل إلى الحق وأزاح عنك الباطل إذا استحضرت بعض ما تقدم وعطفت على قول هذا الزائغ أن المسلمين متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدعى ولا يطلب منه سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك قطعت بفجوره وببهتانه وأنه من أخبث الناس طوية وأنه لا اعتقاد له وهذه عادته بادعاء الاتفاق وبالإجماع المقطوع به كما سيأتي عند ذكر شد الرحال وأعمال المطي وفي غير ذلك.

وقد تقدم توسل آدم عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن الله قبله بسبب التوسل وجعل هذا الزنديق آدم عليه‌السلام بتوسله بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظالما ضالا مشركا وليس وراء ذلك زندقة وكفر.

وروي عن أبي الجوزاء قال : قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت : امضوا إلى القبر واجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينها وبين السماء شيء ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام التفتق.

وروى البيهقي بسنده إلى الأعمش عن ابن صالح قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر رضي الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله هلك الناس

__________________

(١) هذا كلام جليل جدا فليتأمله القارئ ولا يستكثر على منزلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ربه إغاثة أي ملهوف فإنه تعالى يسمع له في الآخرة في الشفاعة العظمى التي تشمل كل خلق الله كافرهم كمؤمنهم فيحمده لذلك الأولون والآخرون من الخلق ، وإذا كان تعالى يكرمه بذلك في دار الجزاء وقد غضب غضبا لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله. فعدم كل ما يحكى في هذه الدار من أنواع إغاثته تعالى للمستغيثين به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة لذلك المقام المحمود. وهو تعالى يشفع في ذلك اليوم عباده الصالحين في أناس وجبت لهم النار فلا يدخلونها وفي أناس في النار فيخرجون منها ، فإغاثته إذن لمن يستغيث بهم في هذه الدار في أمور دون النار بملايين المرات ليست بالأمر البديع وإنما كتبت هذا لأني أعلم أن كثيرا من الناس لا يقع منهم موقع القبول ما يحكيه هذا الإمام رغم نقله عن أئمة تنحني رءوس أكابر الفضلاء عند ذكرهم فأنا في زمن لا يعرف أهله إلا الإنكار وهم لا يعلمون أنهم إنما ينكرون إما فضل الله على أحبابه أو قدرته على ما ينسب إليه من كرامة يكرم بها محبي أحبابه فليعلم ، اه مصححه.

استسق لأمتك ، فأتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقال : «ائت عمر فاقرأه مني السلام وأخبره أنهم مسقون وقل له عليك الكيس» قال : فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه وقال : يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. فهذا رجل مبارك قد أتى قبره عليه الصلاة والسلام وطلب الاستسقاء منه عليه الصلاة والسلام فلو كان ذلك جهلا وضلالا وشركا لمنعه عمر رضي الله عنه الذي احتج الزائغ باستسقائه بالعباس وقد تقدمت قصة عثمان بن حنيف وهي من الأمور المشهورة.

فسكوت هذا الزائغ القائل بمسألة الفرق تبعا لسلالة اليهود عن هذه الأمور الواضحة الجلية المشهورة والعدول إلى الفجور من أقوى الأدلة على خبث طويته. ومثل هذا لا يحل لأحد تقليده فيما يقوله ولا ينظر في كلامه إلا من يكون أهلا لمعرفة دسائس أهل البدع والزيغ وإلا هلك وأهلك فتنبّه لذلك وخذ حذرك وإلا هلكت من حيث ظننت السلامة.

وقوله : (ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو شيخا أو غير ذلك) قال الأئمة الأعلام النقاد أصحاب الأذهان الجيدة : هذا منه كفر لما فيه من حط رتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإجماع على أن من غمط من نبي في شيء من الأشياء كفر وأيضا ففيه ترفيع غير الأنبياء إلى رتبة الأنبياء وإلحاقهم بهم وفيه إشارة بعيدة ترجع إلى اعتقاد الشيعة (١) وهو أن النبوة عندهم تكتسب بالرياضات وتهذيب النفس وكتبهم مشحونة بهذا ، وهذا من فجورهم فإن النبوة إنما هي من الله عزوجل فمن نبأه الله عزوجل فهو النبي ومن أرسله فهو الرسول (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

ومن الأمور المنتقدة عليه قوله (زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها) وهذا ثابت عنه أنه قاله. وثبت ذلك على يد القاضي جلال الدين القزويني. فانظر هذه العبارة ما أعظم الفجور فيها من كون ذلك معصية. ومن ادعى الإجماع وأن ذلك مقطوع به فهذا الزائغ يطالب بما ادعاه من إجماع الصحابة رضي الله عنهم وكذا التابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى حين ادعائه ذلك. وما أعتقد أن أحدا يتجاسر على مثل ذلك مع أن الكتب المشهورة بل والمهجورة وعمل الناس في سائر الأعصار على الحث على زيارته من جميع الأقطار فزيارته من

__________________

(١) هذا ليس اعتقاد الشيعة وإنما هو اعتقاد الفلاسفة هكذا رئي على حاشية خط الشيخ ، اه صاحب الأصل.

أفضل المساعي وأنجح القرب إلى رب العالمين وهي سنة من سنن المرسلين ومجمع عليها عند الموحدين ولا يطعن فيها إلا من في قلبه مرض المنافقين ومن هو من أفراخ اليهود وأعداء الدين من المشركين الذين أسرفوا في ذم سيد الأولين والآخرين.

ولم تزل هذه الأمة المحمدية على شد الرحال إليه على ممر الأزمان من جميع الأقطار والبلدان سار في ذلك الزرافات والوحدان والعلماء والمشايخ والكهول والشبان حتى ظهر في آخر الزمان مبتدع من زنادقة حران لبس على أشباه الرجال ومن شابههم من سيئ الأذهان وزخرف لهم من القول غرورا كما صنع إمامه الشيطان فصدهم بتمويهه عن سبيل أهل الأيمان وأغواهم عن الصراط المستقيم إلى ثنيات الطريق ومدرجة النيران فهم برزيته في ظلمة الخطأ يعمهون وعلى منوال بدعته يهرعون ، وسأذكر لك ما تحقق به فجوره وبدعته وتضليل من مشى خلفه وهلكته وأبين ما أظهره من القول الباطل وما رمز إليه وأوضحه لكل من سمعه ووقف عليه ثم أردف ذلك بما يدل على المنهج من ذلك فلا يزيغ عنه بعد ذلك إلا هالك.

قال القاضي عياض في أشهر كتبه الذي شاع ذكره في سائر البلاد وقرئ في المجامع والجوامع على رءوس الأشهاد (فصل في حكم زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وفضل من زاره وكيف يسلم عليه ويدعو) : وزيارة قبره سنّة من سنن المرسلين مجمع عليها ومرغب فيها.

وروي عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري وكنت له شفيعا يوم القيامة».

وفي حديث آخر «من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي» هذه ألفاظه بحروفها.

وكذا ذكره الإمام العلامة هبة الله في كتاب توثيق عرى الإيمان فهذا نقل الإجماع على خلاف ما نقله هذا الزائغ الفاجر المبالغ في فجوره وعزوه إلى السلف ، وأما غير هذين الإمامين ممن نقل الندب إلى زيارته فخلق لا يحصون وسأذكر بعضهم على أنه ذكر في فتوى مطولة ما يناقض ما ادعاه من الإجماع والقطع هنا وقد ذكرت المسألة في (تنبيه السالك) وذكرت صورة الفتوى وجوابه ، وهذا جواب مطول وتعرضت لما فيه من الخلل وسوء الفهم وفجوره في النقل والعزو وها أنا ذا أذكر هنا

بعض الجواب وأبيّن ما فيه من الخطأ وعدم صحة الاحتجاج بما احتج به كحديث «لا تشد الرحال» ولا أدقق في الجواب لأن قصدي بيان جهله وأنه لا حجة له في الحديث جريا على القواعد التي عليها مدار الاستدلال صحة وبطلانا.

وأذكر ما ذكره في أحاديث الزيارة وما ادعاه فيها من الفجور وما رمز إليه في تكفير الأئمة الذين رووها وأنه قال قولا مفترى لم يسبقه إليه أحد ولا رمز ولا أشار إليه وبالله التوفيق.

فمن (١) ما ذكره في الجواب بلفظ قوله وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله : «من زار قبري بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني وابن ماجه.

فانظر أرشدك الله تعالى كيف جعل هذين الإمامين ممن لا يعرف الحديث وهو من أقبح البهتان ، وقد احتج بهذا الحديث خلائق من أئمة الحديث غير هذين الإمامين منهم القاضي عياض وصاحب توثيق عرى الإيمان وهو أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن) ذكره في الباب الذي عقده لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنهم ابن قدامة ذكره في كتابه المغني في فصل يستحب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستدل بحديث ابن عمر من طريق الدارقطني ومن طريق سعيد بن منصور ، وذكر أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه «ما من أحد سلّم عليّ عند قبري» وقوله : (وأما ما يذكره بعض الناس من قوله : «من حج ولم يزرني فقد جفاني» فلم يورده أحد من العلماء) وهذا أيضا من البهتان البيّن والجهل فقد روى هذا الحديث غير واحد من الأئمة بألفاظ متقاربة منهم الحافظ أبو عبد الله بن النجار في كتابه (الدرة الثمينة).

من حديث علي رضي الله عنه ومنهم الإمام الحافظ المتفق على حفظه وعلو قدره في هذا الشأن أبو سعيد عبد الملك النيسابوري خرجه في كتابه شرف المصطفى من حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني» رواه ابن عساكر من طرق ، وقوله : (وهو مثل «من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة).

__________________

(١) توصل ما بمن ، اه مصححه.

تنبه يا من أشير إليه بالعلم في قوله فإنه يشير به إلى أن الحديث الأول كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه سوّى بينهما ، وذكر الحديث الثاني توطئة لقصده الفاسد في إرادة تجاسره به والتمويه على العوام والضعفاء من الطلبة وهو شديد الاعتناء بهذا القصد الخبيث في الكلام على آيات الصفات وأحاديثها فليحذر الواقف على كلامه في آيات المتشابه وأحاديثه غاية الحذر فإن الخطأ فيها كفر بخلاف غيرها من مسائل الفروع.

وقوله : (وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبور الأنبياء بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يزور قباء وأجاب عن حديث «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب وأما الأولون فإنهم محتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (١) : «إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي» وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به).

انظر بصّرك الله تعالى ما في هذا الكلام من الإيهام والتدليس فإنه قال : قل ، وقد احتج الشيخ أبو محمد على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن النبي كان يزور قباء ولم يذكر راكبا وماشيا لأن الراكب قد شدّ الرحل وهو لا غرض له في ذلك ، وأيضا لم يذكر غير الشيخ أبي محمد وهو يوهم انفراده بذلك ولم ينفرد كما أذكره من بعد.

وقوله : (أجاب ـ يعني أبا محمد ـ عن حديث «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب) وهو يوهم أن ذلك لم يقله إلا الشيخ أبو محمد وهو من التدليس الذي هو كثير الاعتناء به. والمكر السيئ قوله : (أما الأولون ـ يعني القائلين بتحريم السفر وعدم جواز القصر في سفر المعصية ـ فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به) وهو يوهم أنهم احتجوا لتحريم (٢) قبور الأنبياء وقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به وهو من التدليس الفاحش وهو مطالب بأن الأولين صرحوا بأن شد الرحال وأعمال المطي إلى قبره وقبر الخليل إبراهيم عليهما الصلاة والسلام حرام ومعصية ولا تقصر فيه الصلاة وهذا لا يجده بل الموجود غيره والندب إلى ذلك كما يأتي إن شاء الله تعالى ، وقد خاب من افترى.

__________________

(١) أول الحديث «لا تشد الرحال» ثم المذكور هنا ، اه مصححه.

(٢) فيه حذف مضاف تقديره فزيارة قبور الخ ، اه مصححه.

ثم ما ذكره من انفراد الشيخ أبي محمد بأن الحديث محمول على نفي الاستحباب كذب وفجور وجهل فإنه لم ينفرد بذلك بل لا الحديث مسوق لتحريم زيارة القبور وإنما هو لبيان فضيلة المساجد الثلاثة دون غيرها لأن المساجد الثلاثة مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والعمل فيها يضاعف ما لا يضاعف في غيرها ، وليس لزيارة القبور تعلق بالحديث.

ولما تكلم الأئمة على هذا الحديث ومنهم الإمام العلامة أبو زكريا يحيى النووي رضي الله عنه في شرح مسلم قال : (في الحديث فضيلة المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شدها إلى مسجد غيرها ، وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا : يحرم شدها إلى غيرها وهو غلط ومر بيانه في باب سفر المرأة) فصرح بأن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة وصرح بأنه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها ولم يتعرض للزيارة البتة.

قلت : وجزم الشيخ محيي الدين رضي الله عنه بأن الشيخ أبا محمد جزم بالتحريم وهو ممنوع ، وإنما تردد في ذلك فقال : ربما يحرم وربما يكره والله أعلم.

وقال ـ أعني النووي ـ في شرح مسلم في باب سفر المرأة : واختلف في شد الرحال وأعمال المطي إلى غيرها لا الذهاب إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك.

فقال الشيخ أبو محمد الجويني : يحرم ، وهذا الذي أشار إليه عياض مختارا له والصحيح عند أصحابنا واختاره الإمام والمحققون لا يحرم ولا يكره والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى الثلاثة خاصة ، انتهى.

فذكر أولا أن جمهور العلماء إنما ذكروا ذلك في الفضيلة ، وذكر ثانيا أنه قول المحققين وأنه لا يحرم ولا يكره وأن المراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة خاصة ولم يصرح بقبور الأنبياء ، وقوله : وأن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى المساجد الثلاثة يفيد أن شد الرحل إلى غير الثلاثة فيه فضيلة إلا أنها غير تامة ، وإذا علمت ذلك وما قرره هذا العبد الصالح وما نقله استفدت منه أنه لا يجوز تقليد هذا الزائغ في نقله ، ولا يرجع إليه في تقريره لسوء فهمه وتدليسه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما تقطع به بصحة ما قلته بلا شك ولا تردد.

وأزيدك على ما ذكره النووي ما يؤكد ما قلته : قال ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغني (فصل : فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد) قال ابن عقيل : لا يباح له الترخيص لأنه منهي عن السفر إليها.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» والصحيح إباحته وجواز القصر فيه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتي قباء ماشيا وراكبا وكان يزور القبور ، وقال : «زوروها تذكركم الآخرة» وأما قوله : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فيحمل على نفي الفضيلة لا على التحريم ، وليس الفضيلة شرطا في إباحة القصر ولا يضر انتفاؤها ، انتهى.

وفيه من الفوائد أنه صرح بأن الصحيح أن ذلك في نفي الفضيلة وأن المنع إنما نسبه إلى ابن عقيل فقط ، فأين قول ابن تيمية وطوائف كثيرون من العلماء المتقدمين ، وابن قدامة واسع الباع في الاطلاع فكيف يقتصر على ابن عقيل وحده ويترك طوائف كثيرة من العلماء المتقدمين؟ وهذه كتب الحنابلة وغيرها مشهورة فأين النقل فيها عن المتقدمين؟ وهذا مما يعرفك أن ابن تيمية يكذب في الإجماع ، ومن تتبع ذلك وجده صحيحا وينقل في بعض الأحيان شيئا وهو كذب محقق ، وإذا نقل كلام الغير لم ينقله على وجهه وإن نقله على وجهه دسّ فيه ما ليس من كلام ذلك المنقول فاعلم (١) ذلك وتنبّه له واحذر تقليده تهلك كما هلك.

وقول ابن عقيل : لا يباح الترخص لزيارة القبور لأنه منهي عن السفر إليها لم يصرح بقبور الأنبياء ولا بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعلم مراده ، وعلى تقدير إرادته ذلك فهو مخطئ وضعيف الإدراك في الاستدلال ، ألا تراه اعتمد على الحديث ، وما قاله ابن عقيل ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن الحديث لا دليل فيه إلا عند عوام الفقهاء وأن من تمسك به فقد تمسك بما لا يفيد ، ولا بد من ذكر ألفاظ الحديث لتتم الفائدة ، وقد ورد بألفاظ مختلفة :

أشهرها : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى».

__________________

(١) هل الذي يبلغ في الخيانة في النقل إلى هذه الدرجة يعد من متوسطي المؤمنين فضلا عن أفاضل العلماء فضلا عن الأئمة المجتهدين وأنت تعلم أن العالم لا يكون عالما ويثق الناس بمؤلفاته إلا إذا كان أمينا أمانة لا يتطرق إليها الشك أصلا لأنه يتكلم في دين الله وأنا لا أدري من هذا حاله كيف مدحه بعض الناس لا سيما إذا لوحظ ما تقدم من تكفيره بإجماع علماء المذاهب الأربعة وقد أجاد وأفاد من قال إن ذلك المدح صدر ممن مدح في أوائل أمر هذا الرجل فإنه كان يتظاهر بما يمدح به ولكن لما تبين حاله لم يمدحه إلا من يوافقه على مشربه لا بل هذا ذمه كل الذم ونصحه وقول المؤلف المنقول أي عنه ، اه مصححه.

واللفظ الثاني : «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد» من غير لفظ الحصر.

اللفظ الثالث : «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء» وإيلياء بيت المقدس.

وهذه الروايات ذكرها مسلم في فضل المدينة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وذكر قبل ذلك في سفر المرأة من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» وهذا بصيغة النهي والثلاثة الأول بصيغة الخبر وبصيغة النهي ، رواه الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد إبراهيم ومسجد محمد ومسجد بيت المقدس» وهذا اللفظ رواه ابن راهويه في مسنده من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

هذا ما يتعلق بلفظ الحديث وأما ما يتعلق بمعناه وما يدل عليه فاعلم أن الاستثناء في الحديث مفرغ كما هو واضح ولا بد فيه من تقدير ، وهو شيئان :

أحدهما : «لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاث» ولا بد من تقدير أحد هذين ليكون المستثنى مندرجا تحت المستثنى منه ، والتقدير الأول وهو «لا تشد الرحال إلى مسجد» أولى من التقدير الثاني وهو «لا تشد الرحال إلى مكان» لأنه على التقدير الأول جنس قريب لما فيه من قلة التخصيص ، لأن التخصيص على تقدير إضمار الأمكنة أكثر فيكون مرجوحا ، ولو خطر بالبال تقدير العموم في الحديث لكان خيالا فاسد (١) المسافة وللقرينة اللفظية فيه ولدخول التخصيص بالأدلة السمعية والعملية الكثيرة جدا ، أما سياقه فلأن الحديث إنما ورد لبيان شرف هذه المساجد الثلاثة (٢) وخيرتها على غيرها من المساجد كما مر من أنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولهذا تضاعف الأعمال فيها ما لا تضاعف في غيرها ، والمتكلمون على الحديث إنما يتكلمون في ذلك ونحوه من لزوم النذر المتعلق بها دون الزيارات ، ولهذا لما تكلم بعض المتأخرين على الحديث وأدرج ذكر الزيارة اعترض عليه في ذكر الزيارة وقيل : لم يرد الحديث لذلك وإنما ورد لبيان شرف هذه المساجد دون غيرها وهذا كاف في بطلان الاحتجاج بالحديث لمنع زيارة القبور والزيادة على ذلك إنما هو على وجه التنزل ، فمن احتج بالحديث لمنع الزيارة ينبغي أن لا يرسم في حزب

__________________

(١) قوله : فاسد المسافة ، ينبغي أن يكون فاسد المشاقة كما هو ظاهر ، اه مصححه.

(٢) صوابه وخيريتها كما لا يخفى ، اه مصححه.

الفقهاء البتة لما قررنا وإن قلنا بعموم اللفظ فكذلك لأن وقائع الأعيان إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال وهذا في الاحتمال وإن كان فيه بعد.

فما ظنك بهذا الحديث الذي لا احتمال فيه من لفظه وهو قرينة ظاهرة قوية ولها شاهد ظاهر الدلالة كما أذكره إن شاء الله تعالى ولا سيما وقد دخله التخصيص بالأدلة السمعية والعملية مع كثرة المخصصات على اختلاف أنواعها ، فمنها ما هو فرض عين ، ومنها ما هو فرض كفاية ، ومنها ما هو مندوب ، ومنها ما هو قربة ، ومنها ما هو مباح. وصور هذه الأنواع لا تكاد تنحصر عدا.

فأما القرينة اللفظية فذكر المساجد الثلاث في الاستثناء وهو بعض المستثنى منه وهذا قوي جدا وإلى تكون بمعنى اللام إذ حروف الصلة ينوب بعضها عن بعض كما هو كثير في الكلام ، فالمعنى : لا تشد الرحال لمسجد إلا للمساجد الثلاثة ، ويؤيد هذا أن رجلا من التابعين قال لابن عمر رضي الله عنهما : أريد أن آتي الطور ، قال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسجد الأقصى ودع عنك الطور فلا تأته.

فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلم إلا في شد الرحال إلى المساجد دون غيرها وهو أعلم بالحديث وموارده ومصادره ، وعلى منواله تكلم العلماء في شد الرحال بالنسبة إلى المساجد ، وكذا ذكر القاضي عياض في كتابه الإكمال ولم يتعرض لزيارة الموتى أصلا وليس في الحديث تعرض لمنع الزيارة البتة ، وبهذا وغيره يعرف أن دعوى أن الحديث يدل على منع الزيارة من كلام الجهلة العارين عن العلوم التي بها يصح الاستدلال والاستنباط وعلى سوء الفهم وبلادة الذهن وجموده وأن مثل هذا لا يحل لأحد تقليده ولا الأخذ بقوله لتحقق جهله ببعض ما قررنا (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النّور : ٤٠] ومثل هذا لا يزال يتخبط في ظلمة جهله هو وأتباعه ، وبالله التوفيق.

وقوله في جواب الفتوى (ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالسمع) إلى آخره ، فقوله وجب الوفاء عند الشافعي يوهم أن الشافعي جازم بذلك وليس كذلك بل هو قول مرجوح عند الشافعي ، وعلل بأن مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسجد الأقصى لا يقصدان

بالنسك فأشبها سائر المساجد ، وقوله : ولو نذر أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاثة لم يجب ذلك باتفاق الأئمة ، وهذا أيضا ليس بصحيح وما رأيت أجرأ منه على الفجور ولا أكذب في دعوى الاتفاق والإجماع ، وقصده بذلك الترويج على الأغمار ولا عليه من غضب الجبار ، وفي كلامه مسألتان :

الأولى : إذا نذر أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه من غير المساجد الثلاث. وقد حكي الاتفاق على أنه لا يجب الوفاء بذلك وهو البهتان البين ففي ذلك قولان آخران أحدهما : يجب الوفاء مطلقا ، والثاني : أن نذرها في الجامع تعين وإلا فلا.

المسألة الثانية : إذا نذر أن يسافر إلى غير هذه المساجد الثلاثة فإنها لا تجب عليه باتفاق الأئمة ، ثم أردف ذلك بقوله : وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاث ، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من المساجد الثلاث).

فانظر إلى هذه الجرأة والفجور بقوله : حتى نص العلماء ، والمسألة فيها خلاف ، وقد قال الإمام محمد بن مسلمة المالكي إذا قصد مسجد قباء لزمه لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا ، بل قال الليث بن سعد : إذا نذر المشي إلى أي مسجد كان لزمه سواء في ذلك المساجد الثلاثة وغيرها.

وقال الإمام ابن كج من كبار أصحابنا : إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعندي أنه يلزمه وجها واحدا ولو نذر المشي إلى مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففيه قولان : أحدهما لا يلزمه ، والثاني : يلزمه فعلى هذا لا بد من ضم عبادة ، قيل : يلزمه صلاة وقيل اعتكاف ولو لحظة ، والصحيح أنه يتخير في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الصلاة وبين زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة وهي أخص من القربة ، وجعلها تقوم مقام الصلاة التي هي أفضل عبادات البدن والمساجد موضوعة لها بالأصالة.

وقوله : (وقالوا لأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولإجماع الأمة).

قلت : لما وقف بعض الأئمة على هذا الكلام الباطل قال : هذا من البهت الصريح ، وصدق رضي الله عنه لما أذكره وفيه أيضا تدليس من الفجور ، بيان التدليس

قوله : قالوا : فإنه يوهم أن هذا الذي قاله لم يقله من عند نفسه وإنما نقله عن أئمة المسلمين وأنه مجمع عليه وهذا شأنه يدلس في الإغراء ليحمل الناس على عقيدته الفاسدة المفسدة لأنه لو عزاه إلى نفسه لما انتظم له ذلك لعلم الحذّاق النقاد بسوء فهمه وكثرة خلطه مما عرفوه منه في بحثه وتدوينه إذا انفرد ، فقوله : (لأن السفر إلى قبور الأنبياء) يشمل قبر الخليل والكليم وقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهم ، وقوله : (والصالحين) يشمل قبور الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم وهو مطالب بتصحيح ما عزاه إلى أئمة المسلمين وأنه مجمع عليه وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا بل المنقول خلاف ذلك كما تراه ، وقوله : (إن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين) هذا من الفجور والإفك المبين.

ولم تزل الناس على زيارة قبر الخيل والكليم وغيرهما في سائر الأعصار من جميع الأمصار.

وهذا بلال مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سافر من الشام إلى المدينة الشريفة لزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وممن ذكر ذلك الحافظ ابن عساكر والحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه (الإكمال في ترجمة بلال) وقال فيه : ولم يؤذن لأحد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يروى إلا مرة واحدة في قدمة قدمها إلى المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب إليه الصحابة رضي الله عنهم ذلك فأذن لهم ولم يتم الأذان وقيل إنه أذن لأبي بكر رضي الله عنه في خلافته اه.

وممن ذكر ذلك أيضا إمام الأئمة في الحديث أبو الحجاج الشهير بالمزي (١) وسبب سفر بلال رضي الله عنه لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقال له : «ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني يا بلال؟» فانتبه من نومه حزينا وجلا خائفا ، فقعد على راحلته من حينه وقصد المدينة فأتى قبره عليه الصلاة والسلام فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما إليه فجعل يضمهما ويقبلهما ثم قالا له : يا بلال نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف ، فلما أن قال الله أكبر ارتجت المدينة ، فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها ، فلما قال أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله خرجت العواتق من خدورهن وقالوا : أبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك اليوم.

__________________

(١) المزي بكسر الميم وتشديد الزاي نسبة إلى قرية بالشام ، اه مستنسخ الأصل.

فهذا بلال من سادات الصحابة رضي الله عنهم قد شدّ رحله من الشام وسافر لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام فقط ، وأعلم بذلك الحسن والحسين ، وطار بذلك الخبر في المدينة وكان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم ينكر عليه ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم.

ولو كان السفر لزيارة قبره مخالفا للسنة ولإجماع الأمة لأنكروا عليه لأنهم ينكرون أدنى شيء من المخالفات ولا سيما عمر وهو أمير المؤمنين وأشد الناس في الإنكار وأبطشهم يدا وأحدهم لسانا ووقوفا مع الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم.

وأيضا فمن الشائع الذائع أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يبرد البريد من الشام لأجل السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، ذكر هذا غير واحد منهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو (الشفاء) وذكره الإمام هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وذكره الإمام العلامة ابن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن) وذكره الإمام أبو بكر أحمد بن النبيل في مناسك له لطيفة جردها من الأسانيد والتزم فيها الثبوت ولفظه : وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السلام ثم يرجع ، وهذا الإمام أبو بكر قديم توفي في سنة سبع وثمانين ومائتين ، فهذا السيد الجليل عمر بن عبد العزيز يبعث الرجل لأجل السلام فقط لا لقصد آخر ، وكان ذلك في زمن صدر التابعين ، وكان سفر بلال في زمن صدر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر ذلك أحد ، فدلّ على أن السفر لأجل زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأجل السلام عليه مجمع عليه بين الصحابة والتابعين فأين دعوى ابن تيمية أن ذلك مخالف للسنة ولإجماع الأمة ، وقد تقدم قول عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار ألا تسافر لتزور قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتتمتع بزيارته ، فقال : نعم يا أمير المؤمنين أفعل. وهذا أو بعضه كاف في إبطال دعوى ابن تيمية وإثبات فجوره وأتبرع بزيادة وأقتصر غاية الاقتصار.

قال بعض الأئمة : وأما زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينكرها أحد ولم يقع في السفر إليها نزاع ولم يزل سفر الحجيج إليه في السلف والخلف ، وصدق رضي الله عنه ، وهذه كتب العلماء من جميع المذاهب مصرحة بذلك ، وقد تقدم قول القاضي عياض : زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنّة من سنن المرسلين ومجمع عليها ومرغّب فيها ، واحتج بحديث ابن عمر وأنس رضي الله عنهم ، وقد ذكر غير القاضي عياض ما ذكره. وإذا تقرر ذلك ففي ذكرى ما أتبرع به مع غاية الاقتصار تتحقق أن ابن تيمية من أعظم الكذبة والفجار ، وقد انكشف لك ذلك كما انكشف ضوء النهار.

فمن ذلك ما ذكره القاضي أبو الطيب وهو من أئمة الشافعية قال : ويستحب أن يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن يحج ويعتمر ، اه وكيف يزور من غير سفر سواء كان راكبا أو ماشيا.

وقال المحاملي في كتابه التجريد : ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اه.

وقال الحليمي في كتابه المنهاج عند ذكر تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر جملة ثم قال :

وهذا كان من الذين رزقوا مشاهدته وصحبته ، وأما اليوم فمن التعظيم بيان تعظيمه وزيارته.

وقال الماوردي في كتابه الحاوي : أما زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمأمور بها ومندوب إليها ، وقال في كتابه الأحكام السلطانية في باب الولاية على الحجيج وذكر كلاما يتعلق بأمير الحاج ثم قال : وإذا قضى الناس الحج أمهلهم الإمام الأيام التي جرت عادتهم بها ، فإذا رجعوا سار بهم على طريق المدينة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليجمع بين حج بيت الله عزوجل وزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رعاية لحرمته وقياما ببعض حقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحسنة. فتأمل هذه العبارة من هذا الإمام وما اشتملت عليه من الفوائد الجليلة.

وقال الإمام العلامة المتفق على دينه وكثرة علومه وعلو قدره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : ويستحب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر القاضي حسين نحوه وكذا الروياني ، ولا حاجة إلى الإطالة بذكر من قال بزيارة قبره عليه الصلاة والسلام سواء في ذلك قبل الحج أو بعده ، وذكر السير إليه كثير من أصحاب الشافعي ، من جملتهم : السيد الجليل أبو زكريا يحيى النووي قدس الله روحه ، قال في كتابه المناسك وغيرها (فصل في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : سواء كان ذلك على طريقه أم لا فإن زيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهم القربات وأربح المساعي وأفضل الطلبات ، اه. وإذا عرفت هذا فأتبرع إليك بزيادة أخرى مع زيادة فائدة.

قالت الحنفية : إن زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أفضل المنوبات والمستحبات بل تقرب من درجة الواجبات ، وممن صرح بذلك الإمام أبو منصور محمد الكرماني في مناسكه ، والإمام عبد الله بن محمود في شرح المختار.

وقال الإمام أبو العباس السروجي : وإذا انصرف الحاج من مكة شرّفها الله تعالى فليتوجه إلى طيبة مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيارة قبره فإنها من أنجح المساعي وكلامهم في ذلك يطول ، وأتبرع بزيادة هي أبلغ في تكذيب هذا الفاجر لأنها من كلام أئمة الحنابلة.

قال ابن الخطاب محفوظ الكلواذي الحنبلي في كتابه الهداية في آخر باب صفة الحج : استحب له زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه وفيه فائدة وهي استحباب شد الرحل إلى زيارة الصديقين رضي الله عنهما.

وقال الإمام ابن أحمد في الرعاية (١) الكبرى : ويستحب لمن فرغ من نسكه زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما وذلك بعد فراغ الحج وإن شاء قبله.

وذكر نحو ذلك غيرهم ومنهم الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام وعقد له بابا في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام ، واستدل بحديث ابن عمر وأنس رضي الله عنهم. وذكر ابن قدامة في المغني فصلا في ذلك ، فقال : يستحب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستدل بحديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ولا أطول بذكري من ذكره من أئمة الحنابلة تبعا لإمامهم رضي الله عنهم ، وأتبرع بزيادة لفوائد جمة ومهمة.

فمن ذلك ما في كتابي (٢) تهذيب الطالب لعبد الحق الصقلي عن أبي عمران المالكي أن زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجبة ، وقال عبد الحق في هذا الكتاب : رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها أبو محمد بن أبي زيد قيل له في رجل استؤجر بمال ليحج به وشرطوا عليه الزيارة فلم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من ذلك ، فقال : يرد من الأجرة بقدر مسافة الزيارة وهي مسألة حسنة.

وفي كتاب النوادر لابن أبي زيد فائدة أخرى ، فإنه بعد أن حكى في زيارة القبور من كلام ابن حبيب ومن المجموعة عن مالك ، ومن كلام القرطي بإسكان الراء وبالطاء المهملتين ، ثم قال عقبة (٣) : ويأتي قبور الشهداء بأحد ويسلّم عليهم كما يسلّم على قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى صاحبيه وفي الكتاب المذكور.

ويدل على التسليم على أهل القبور ما جاء في السنة والتسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مقبورين.

__________________

(١) هي الدعاية بالدال ، اه مصححه.

(٢) صوابه كتاب كما هو واضح ، اه مصححه.

(٣) هي عقبه بالقاف لا بالتاء ، اه مصححه.

وقال العبدي المالكي في شرح الرسالة : إن المشي إلى المدينة لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من المشي إلى الكعبة وبيت المقدس ، وصدق وأجاد رضي الله عنه لأنه أفضل البقاع بالإجماع.

فهذه نبذة يسيرة والنقول في ذلك كثيرة جدا وفيها الإجماع على طلب الزيارة بعدت المسافة أو قصرت وعمل الناس في ذلك في جميع الأعصار من جميع الأقطار ، فكيف يحل لأحد أن يبدعهم بالقول الزور ويضلل أئمة أمة المختار ، بل من المصائب العظيمة أن يوقع وفد الله تعالى في جريمة عظيمة وهي عصيانهم بشد رحالهم لزيارة قبره عقب ما رجوه من المغفرة وبتركهم الصلاة التي هي أحد أركان الدين لأنهم إذا لم يجز لهم القصر وقصروا فقد تركوا الصلاة عامدين ، ومن تركها متعمدا قتل إما كفرا وإما حدا ، ولا يصدر هذا إلا ممن هو شديد العداوة لوفد الله تعالى ولحبيبهم الذين (١) يرتجون بزيارتهم له استحقاق الشفاعة التي بها نجاتهم.

وسأذكر عقب هذا الأدلة الخاصة بالحث على زيارته وأتعرض لما قدح فيها وفي الأئمة رواتها ومنه تعلم أن هذا الخبيث لا دين له يعتمد عليه فتراه واضحا جليا لا تشك فيه ولا ترتاب فنسأل الله تعالى العافية مما يرتكبه هذا الزائغ الفاجر الكذاب ، وأن يذيقه أشد العذاب ، على ما أفسد في هذه الأمة وسيلقى أشد الحساب.

وقوله (إنما (٢) ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها) أعوذ بالله من مكر الله عزوجل.

انظر أدام الله لك الهداية وحماك من الغواية إلى فجور هذا الخبيث كيف جعل الأحاديث المروية في زيارة قبر خير البرية كلها ضعيفة ، ثم أردف ذلك بقوله باتفاق أهل العلم بالحديث ، ولم يجعل الأئمة الذين أذكرهم من أهل الحديث ، والعجب أنه روي عنهم في مواضع عديدة من كتبه ، وهذا من جهله وبلادة ذهنه وعماءة قلبه من أنه لا يعلم تناقض كلامه ونقضه بذلك ، ثم إنه لم تخمد نار خبثه بما ذكره من الفجور حتى أردف ذلك بأن الأحاديث المروية في زيارة القبر المكرم موضوعة ـ يعني أنها كذب ـ وهذا شيء لم ير أحد من علماء المسلمين ولا من عوامهم فاه به ولا رمز إليه لا من في عصره ولا من قبله قاتله الله تعالى.

__________________

(١) الذي بالإفراد ، اه مصححه.

(٢) صوابه إن ما ، اه مصححه.

ولقد أسفرت هذه القضية عن زندقته بتجريه على الإفك على العلماء وعلى أنه لا يعتقد حرمة الكذب والفجور ولا يبالي بما يقول ، وإن كان فيه عظائم الأمور.

وإذا عرفت هذا فينبغي أيها المؤمن الخالي من البدعة والهوى أن لا تقلده فيما ينقله ولا فيما يقوله ، بل تفحص عن ذلك وتسأل غير أتباعه ممن له رتبة في العلوم وإلا هلكت كما هلك هو وأتباعه (١).

ولنذكر بعض الأحاديث الواردة في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام ، وأذكر من رواها وأحذف الأسانيد لأنها لا تليق بهذه الأوراق وقد رويت من طرق بلغت بها منزلة الصحيح أو قاربت أو منزلة الحسن وأذكر من صحح بعضها وأبين أنه من الأئمة الأعلام بالحديث وأنه يعتمد تصحيحه وبالله التوفيق.

فمن الأحاديث في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي» رواه غير واحد من أئمة الحديث منهم الدار قطني والبيهقي وغيرهما والحديث مروي بهذا اللفظ في عدة نسخ معتمدة وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وخرجه أبو اليمن في كتابه إيجاف (٢) الزائر ، وأطراف المغنم للسائر ، في زيارة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرجه الحافظ ابن عساكر في تاريخه في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام بعد وفاته كان كمن زاره في حياته ، وخرجه العقيلي وغيره فلا نطول بذكر من رواه من أئمة الحديث المعتبرين وهو مروي من طرق تبلغ الحسن.

قال أئمة الحديث : والحديث أو الأحاديث وإن لانت أسانيد مفرداتها فمجموعها يقوي بعضها بعضا ويعتبر الحديث حديثا حسنا ويحتج به وممن ذكر ذلك أبو زكريا النووي ذكره في شرح المهذب في كتاب الحج وهي فائدة جليلة ينبغي معرفتها ليعلم بها جهل هذا الفاجر المبالغ في فجوره.

وقوله عليه الصلاة والسلام : «وجبت له شفاعتي» معناه : حقت ، ولا بد منها بوعده الصادق. وفي ذلك بشارة عظيمة لزوار قبره الشريف وهي أن من زاره محتسبا مات على التوحيد ، وهذه البشارة العظيمة من ثمرة زيارة قبره المكرم.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام : «وجبت له شفاعتي» تحقيق لما قلته لأجل إضافة الشفاعة إليه ولأنه عليه الصلاة والسلام مشفع لا ترد شفاعته لا في حياته ولا بعد وفاته ولا في عرصات القيامة.

__________________

(١) لعلك في دهشة مما مر مفصلا من تعمد كذب هذا الرجل في نقوله وأحكامه حتى تعدى كذبه الخلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اه مصححه.

(٢) لا أدري أهو إيجاف كما ذكره أم إتحاف ، اه مصححه.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من زار قبري حلّت له شفاعتي» رواه الحافظ البزار في مسنده ، وهو بهذا اللفظ في نسخة معتمدة. وسمعها الحافظ أبو الحسين الصدفي على الإمام أبي عبد الله مورتش (١) سنة ثمانين وأربعمائة. ومعنى «حلّت» وجبت ، وقد عزّى عبد الحق هذا الحديث إلى البزار والدار قطني.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي» رواه الدار قطني في سننه وغيرها.

وفي رواية «ومن مات بأحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة» ورواه غير واحد وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وروي من طرق. ورواه الحافظ ابن عدي في كتابه الكامل بزيادة : قال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني» وذكر البيهقي في سننه أنه ذكره ابن عدي وخرجه هو بدون هذه الزيادة وخرجه الحافظ ابن عساكر.

من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» زاد السهمي «وصحبني».

ورواه الحافظ ابن الجوزي بهذه الزيادة : وقال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني» رواه ابن عدي في كتابه الكامل وغيره وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وخرجه الدار قطني في أحاديث مالك التي ليست في الموطأ وهو كتاب ضخم.

وقال ابن الجوزي : إن هذا الحديث موضوع ، وقد نسب ابن الجوزي في ذلك إلى السرف فاعرف ذلك.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من زار قبري أو زارني كنت له شفيعا أو شهيدا» رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة ورواه البيهقي وابن عساكر من جهة الطيالسي.

وروي بزيادة : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سوار بن ميمون أبو الفرج العبدي قال : حدثني رجل من آل عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من زار قبري» أو قال : «من زارني كنت له شفيعا» أو «شهيدا».

«ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين يوم القيامة».

__________________

(١) هو فرتس كما في الأصل ، اه مصححه.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة» رواه أبو جعفر العقيلي وغيره ، ومنهم الحافظ ابن عساكر.

وفي رواية السحاي (١) قال : حدثنا هارون بن قرعة عن رجل من آل الخطاب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة ومن سكن المدينة وصبر على بلائها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة ومن مات في أحد الحرمين بعث في الآمنين يوم القيامة» ومن هو في جواره فهو في الآمنين لا محالة صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من حجّ حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلّى في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه».

ورواه الحافظ أبو الفتح الأزدي في فوائده ، وهذا أبو الفتح اسمه محمد بن الحسين وكان حافظا من أهل العلم والفضل ، وصنّف كتابا في علم الحديث.

ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وابن السمعاني في الأنساب وأثنى عليه محمد بن جعفر بن غيلان وذكره في الحفاظ وحسن المعرفة بالحديث.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من زارني محتسبا كنت له شفيعا أو شهيدا» وفي رواية «من زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة» وهو من رواية أنس رضي الله عنه ورواه غير واحد.

وممن ذكره ابن الجوزي في كتابه مثير الغرام الساكن وهو من طريق ابن أبي الدنيا ، وروي من طرق.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من زارني ميتا فكأنما زارني حيا ومن زارني وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر» رواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجار في كتابه (الدرة اليتيمة في فضائل المدينة).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زار قبري حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا» خرجه العقيلي.

ورواه ابن عساكر من جهته إلا أنه قال : «من زارني في المنام كان كمن زارني في حياتي» وهي فائدة جليلة.

__________________

(١) في الأصل السحامي ، اه مصححه.

وعن علي كرّم الله وجهه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني» رواه الحسين بن يحيى بن جعفر في كتاب أخبار المدينة.

ورواه الحافظ أبو عبد الله ابن النجار في كتابه الدرة اليتيمة «من لم يزرني فقد جفاني».

ورواه الحافظ أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري في كتابه شرف المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا الكتاب في ثمان مجلدات. وأبو سعيد هذا له مصنفات في علوم الشريعة ، توفي سنة ست وأربعمائة بنيسابور وقبرهن بها مشهور ويتبرك به ، وكان ينتفع بكلامه وبوعظه وتنجلي بكلامه القلوب قدّس الله روحه ونوّر ضريحه.

وقال عليه الصلاة والسلام : «من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة».

وفي رواية «من جاءني زائرا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي» رواه غير واحد من الأئمة الحفاظ المشهورين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ومنهم الطبراني في معجمه الكبير ومنهم الدار قطني في أماليه ومنهم أبو بكر ابن المقري في معجمه ومنهم العلامة الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن. ذكره في كتابه المسمى بالصحاح المؤثرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

يا هذا انتبه لما أذكره.

قال في خطبة كتابه هذا : أما بعد فإنك سألتني أن أجمع لك ما صحّ عندي من السنن المأثورة التي نقلها الأئمة من أهل البلدان الذين لا يطعن فيهم طاعن مما نقلوه فتدبرت ما سألتني عنه فوجدت جماعة من الأئمة قد تكلفوا ما سألتني من ذلك وقد وعيت جميع ما ذكروه وحفظت عنهم أكثر ما نقلوه واقتديت بهم وأجبتك إلى ما سألتني من ذلك وجعلته أبوابا في جميع ما يحتاج إليه في أحكام المسلمين ، فأول من نصب نفسه لطلب الصحيح البخاري وتابعه مسلم وأبو داود والنسائي ، وقد تصفحت ما ذكروه وتدبرت ما نقلوه فوجدتهم مجتهدين فيما طلبته ، فما ذكرته في كتابي هذا مجملا فهو مما أجمعوا على صحته ، وما ذكرته بعد ذلك مما اختاره أحد الأئمة الذين سميتهم فقد ثبتت حجته في قبول ما ذكره ونسبته إلى اختياره دون غيره ، وما ذكرته فيما ينفرد به أحد أهل النقل للحديث فقد بينت علته ودللت على انفراده دون غيره ، وبالله التوفيق ، اه.

فانظر أرشدك الله تعالى هذا الاتفاق من هذا الإمام والحرص على تحقيق ما وضعه في كتابه لم يقنع بوضع البخاري ومسلم وغيرهما مع جلالتهم بل تتبع ما وضعوه حتى وضع في كتابه وهذا شأن الأئمة الخائفين من الله عزوجل من أن يقع منهم زلل في الإخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إنه رضي الله تعالى عنه ذكر في هذا الكتاب في كتاب الحج في باب ثواب من زار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جاءني زائرا لم ينزعه إلا زيارتي كان حقا على الله أن أكون له شفيعا يوم القيامة» ولم يذكر في هذا الباب غير هذا الحديث.

وهذا حكم منه بأن هذا الحديث مجمع على صحته بمقتضى الشرط الذي شرطه في الخطبة وهو رضي الله عنه إمام جليل حافظ متقن كثير الحديث واسع الرحلة سمع بالعراق وخراسان وما وراء النهر وسمع بالشام ومصر وسمع من خلائق من أئمة الحديث والأجلاء أهل الدين وهو من القدماء ، أصله بغدادي ، وسكن مصر ومات بها في نصف المحرم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة رحمة الله تعالى عليه وعلى أمثاله ، وإذا كان هذا حديث صحيح (١) فكيف يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجعله ضعيفا فضلا عن أن يجعله كذبا وأقل درجات الثقة الخائف أن يقول صححه فلان ، وأما القول بوضعه وبتكذيب هذا الإمام وأمثاله فلا يصدر إلا من زنديق محقق الزندقة بهذه القرينة وغيرها عائذا بالله عزوجل من ذلك.

وإذا تقرر لك ذلك فانظر أرشدك الله تعالى وعافاك هذا الخبيث الطوية كيف طعن في هذه الأئمة الأعلام في علوم الحديث الذين بهم يقتدى وعليهم يعوّل وعند ذكرهم تتنزل الرحمة ، ورماهم بالوضع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطعن في هذه الأخبار المروية عن هذه الأئمة. وهذا شأنه قاتله الله تعالى كلما جاء إلى شيء لا غرض له فيه طعن فيه وإن كان مشهورا ومعمولا به بين الأئمة ولا عليه لا من الله عزوجل ولا من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا من الناس وتنبه لشيء عظيم رمى به هذه الأئمة وهو أن من قاعدته أن من كذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متعمدا كفر فعليه من الله عزوجل ما يستحقه ، وهذا وغيره يدل على أن عنده ضغينة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولصاحبيه وكذا لأمته ليفوت عليهم هذا الخير الذي رتبه على زيارة قبره عليه أفضل الصلاة والسلام فاحذروه واحذروا تزويق مقالته المطوي تحتها أخبث الخبائث فإنها لا تجوز إلا على عامي أو بليد الذهن كالحمار يحمل أسفارا أو خال من العلوم وأخبار الناس وبالله تعالى التوفيق ، والله أعلم.

__________________

(١) يكتب حديثا صحيحا لأنه خبر كان ، اه مصححه.

قال عليه الصلاة والسلام : «إن بين يدي الساعة دجاجلة (١) فاحذروهم» رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.

وقوله : وفي الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا» قالت عائشة : ولو لا ذلك لأبرزوا قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحاري لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذ مسجدا ويتخذ قبره وحدثنا ، الخ.

تأمّل بصّرك الله تعالى وفهّمك كيف بعد تضليل هذه الأئمة وفجوره بادعاء أن هذه الأحاديث المتعلقة بالزيارة كذب كيف أردف ذلك بهذا الحديث محتجا به على منع زيارة القبر الشريف وفيه من أقوى الأدلة على تدليسه وسوء فهمه ، إذ الحديث ليس فيه تعرض للزيارة البتة وإنما فيه منع اتخاذ القبور مساجد ، ونحن لم نتخذ قبره المكرّم المعظّم مسجدا ولا نصلي فيه ولا إليه بل نزوره وندعوا مع الأدب والخشوع والسكينة ورؤية العظمة لعلمنا بأنه يسمعنا ويجيبنا ، وعلى ذلك جرت عادة المؤمنين.

قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه قد افتتح الصلاة فسلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم انصرف ، وقوله : فهم دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحاري لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذ مسجدا فيتخذ قبره وحدثنا.

هذا أيضا من التدليس منه وسوء الفهم على عادته ، وما قاله باطل يموه به على الضعفاء من الطلبة وغوغاء الناس ، وإنما دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها لما روي لهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدفنون حيث يقبضون وكان ذلك بعد اختلافهم أين يدفن فقال بعضهم : يدفن في مسجده ، وقال بعضهم : مع إخوانه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : عندي من ذلك علم ، فذكر لهم أن النبي يدفن موضع يقبض ، فلما روي لهم الحديث دفنوه موضع قبضه ، وهذا من القضايا المشهورة في غاية الشهرة ، ولا نعلم أن أحدا قال إنهم دفنوه موضع قبضه للمعنى الذي ذكره وهذا شأنه إن وجد شيئا يوافق هواه وخبث طويته ذكره ووسع الكلام فيه وزخرفه وإن وجد شيئا عليه أهمله أو حمله على محمل يعرف به أهل النقل جهله وتدليسه عند تأمله في بعض المواضع يعرف من غير تأمل.

__________________

(١) هذا إخبار من المصنف إلى أن هذا الرجل دجال وهو يؤيد ما سبق لنا من أن أفعاله أفعال دجاجلة ، اه مصححه.

وقوله : وكانت الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد لا يدخل للصلاة هناك ولا يتمتع بالقبر ولا دعاء هناك ، هذا أيضا من الجسارة التي يزخرف بها على العوام وأشباههم من سيئ الأفهام من الطلبة ، فإن هذا لا يدل على مراده من منع الزيارة بل كلامه يدل على الزيارة بلا هذه الأفعال إلا الدعاء ، فليس كما قال ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ومع ذلك ليس مجمعا عليه كما زعمه وأوهمه كلامه فإن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه زار والتزم القبر فأنكر عليه مروان بن الحكم فوبخه أبو أيوب.

وقال في كلامه ما معناه ابكوا على هذا الأمر إذا وليه غير أهله (١) ذكر ذلك أبو الحسين في كتابه أخبار المدينة.

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه وضع يده على موضع مقعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه (٢) وكان رضي الله عنه يتردد إلى الأماكن التي كان يتردد إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبراحلته لأجل التبرك ، وقد تقدمت قصة بلال رضي الله عنه لما شدّ رحله لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام فلما وصل الضريح المكرم جعل يمرغ وجهه عليه ويبكي (٣). وقوله : ولا دعاء هناك ، قضية سياقه أن الإجماع على أنه لا يدعو عند القبر وهي دعوى عريضة ، ثم أكد ذلك بقوله : إنما يفعلونه في المسجد ، ثم أردف ذلك بقوله : وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا

__________________

(١) في ذلك جواز ضم قبور الصالحين وأبو أيوب الأنصاري الذي ضم ضريح سيد الوجود صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أبو أيوب وكفى ، اه مصححه.

(٢) في ذلك جواز التبرك بآثار الصالحين أيا كانت حتى الخشب الذي كانوا يجلسون عليه وابن عمر هو ابن عمر ، اه مصححه.

(٣) انظر تمريغ سيدنا بلال وجهه على ضريح خير الخلق وبلال هو بلال تجده صورة طبق الأصل لما يحصل من كثير من الزائرين اليوم والزائرات للصالحين من أهل البيت وغيرهم ويقوم ويقعد كثير من المتنطعين لذلك ولا يرضون لفاعله غير الشرك بالله ليحكموا بذلك على بلال الذي يعد من أجلاء الصحابة وهو مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلم أولئك المتنطعون أن ذلك أثر وجد في النفوس لا يشعرون هم به يحمل أهله على التبرك بما يجاور حبيب ربهم وهو من باب قول القائل :

أمر على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدار

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

هذا قصد أولئك المؤمنين في لمسهم ضريح الصالح من العباد لا العبادة كما يتوهم مظلمو القلوب مسيئو الظن بالمؤمنين فليعلم ، اه مصححه.

الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر ، ثم قال : وأما وقت السلام فقال أبو حنيفة : يستقبل القبلة ولا يستقبل القبر.

وقال أكثر الأئمة : يستقبل القبر عند السلام خاصة ولم يقل أحد من الأئمة إنه لا يستقبل القبلة عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة عن مالك ومذهبه بخلافها ثم أردف هذا بأمور يجسر بها على الأغمار يتخيل الواقف عليها من العوام حسم باب الزيارة لقبره عليه الصلاة والسلام.

والحاصل من كلامه أنه لا يدّعي عند القبر بالاتفاق ولا يستقبل القبر عند الدعاء بالإجماع ، وأن الحكاية التي وقعت بين مالك وأبي جعفر المنصور كذب ، سبحانك هذا بهتان عظيم.

وهذا من الفجور الذي لا أعلم أحدا فاه به ولا رمز إليه لا من العلماء ولا من غيرهم.

أما قضية مالك مع المنصور فقد ذكرتها في الكلام على التوسل فإنها صحيحة بلا نزاع ، وأما الدعاء عند القبر فقد ذكره خلق ومنهم الإمام مالك ، وقد نصّ على أنه يقف عند القبر ويقف كما يقف الحاج عند البيت للوداع ويدعو وفيه المبالغة في طول الوقوف والدعاء.

وقد ذكره ابن المواز في الموازية فأفاد ذلك أن إتيان قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والوقوف عنده والدعاء عنده من الأمور المعلومة عند مالك وأن عمل الناس على ذلك قبله وفي زمنه ، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لأنكره فضلا عن أن يفتي به أو يقره عليه.

وقال مالك في رواية ابن وهب : إذا سلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلّم ولا يمس القبر بيده ، نعم في المبسوطة لا أرى أنه يقف عنده ويدعو ولكن يسلّم ويمضي.

وإنما ذكرت كلام المبسوطة لأن من حق العالم الذي يؤخذ بكلامه أن يذكر ما له وما عليه لأن ذلك من الدين.

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله السامري في كتاب المستوعب في باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإذا قدم مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استحب له أن يغتسل لدخوله ثم يأتي مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقدم رجله اليمنى في الدخول ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره.

ثم ذكر كيفية السلام والدعاء وأطال ومنه : اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك عليه الصلاة والسلام (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النّساء : ٦٤] الآية ، وإني قد أتيتك مستغفرا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حال حياته اللهم إني أتوجه إليك بنبيك» وذكر دعاء طويلا ثم قال : وإذا أراد الخروج عاد إلى القبر فودّع ، وهذا أبو عبد الله من أئمة الحنابلة ، وساق هذا الكلام سياق المتفق عليه.

ومن جملة ما أفاد أنه يتوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتوجه به بعد وفاته كما في حياته وأن الآية عامة وشاملة للحياة وبعد الوفاة فتنبّه لذلك. وكذلك ذكره أبو منصور الكرماني من الحنفية أنه يدعو ويطيل الدعاء عند القبر المكرم.

وقال الإمام أبو زكريا النووي في مناسكه وغيره فصل في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذكر كلاما مطولا ثم قال : «فإذا صلّى تحية المسجد أتى القبر فاستقبله واستدبر القبلة على نحو أربعة أذرع من جدار القبر وسلّم مقتصدا لا يرفع صوته» وذكر كيفية السلام ثم قال : «ويجتهد في إكثار الدعاء ويغتنم هذا الموقف الشريف» الخ.

فهذه نقول الأئمة بتطويل الدعاء عند القبر المكرّم وقد خاب من افترى ، وكل أحد تلحقه الخيبة على قدره.

وقوله : وهذا كله محافظة على التوحيد فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح : ٢٣] وقد أضلّوا كثيرا.

قالوا : كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اعتكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها ، وقد ذكر ذلك المعنى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما وذكره ابن جرير الطبري في تفسيره وغيره عن غير واحد من السلف ، الخ.

وأنت أيها اللبيب أرشدك الله عزوجل وزادك بصيرة وفهما إذا تأملت هذا الاستدلال منه قطعت بجهله وبخلطه في خبطه وعلمت بذلك سوء فهمه وخيالاته الفاسدة ، ومن نفس الدليل تعلم ذلك ، فإنه تخيل بذهنه الجامد وخياله الفاسد أن منع الزيارة والسفر إليها من المحافظة على التوحيد ، وأن الزيارة تؤدي إلى الشرك وعبادة الأوثان ، وهذا خيال فاسد لأن اتخاذ الصور مساجد وعيدا ، والعكوف وتصوير الموتى فيها هو المحذور والمؤدي إلى الشرك عند تطاول الزمان ، وهذا هو الممنوع منه كما

هو مصرّح به في الأحاديث الصحيحة في قوله عليه الصلاة والسلام : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام لما أخبر بكنيسة بأرض الحبشة قال : «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوّروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عزوجل» فهذا هو الذي حذّر منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما الزيارة والسلام على الميت والدعاء له وعنده فلم يؤدّ إلى ذلك ولا له تعلق بتلك الأمور ، ومن تخيل ذلك فهو من سوء فهمه في هذا الأمر الواضح ولو كان يؤدي إلى ذلك لما شرعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبلغ من ذلك لما أمره الله عزوجل بالخروج إلى قبور الشهداء الذين أكرمهم بالشهادة حين نزل عليه جبريل عليه‌السلام وأمره بأمر الله تعالى بالخروج إلى بقيع الغرقد بل كان نهاه أن لو أراد الخروج ، وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام قال : «زوروا القبور» كما رواه مسلم وغيره بزيادة إلى غير ذلك مما علمهم عليه الصلاة والسلام كيفية الزيارة كما جاء في الأحاديث في زيارتها قولا وفعلا.

وتواتر ذلك وأجمع عليه المسلمون حتى أن منهم من أوجب زيارتها لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : «زوروا القبور» فلو كانت الزيارة من الأمور التي تؤدي إلى الشرك كاتخاذها مساجد وعيدا والتصوير ونحو ذلك لم يشرعه الله عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا شرعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله وبفعله ، وقد أطلعه الله عزوجل على ما أراد من غيبه وبعثه بدينه القويم وهو الصراط المستقيم ، ولا فعلها الصحابة رضي الله عنهم الذين هم من أصفياء الله تعالى ، بل كانوا أحرص الناس على ذلك خوفا من إعادة ما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإماتته ودفنه واندراس أثره ، والله أعلم.

وأنت أيها العاقل الفطن إذا تصورت ما نقلته لك وتعقلته بذهنك الصحيح علمت وتحققت أنه ليس لأحد أن يحرم إلا ما حرم الله تعالى ورسوله وأنه لا يحل له التهجم على موارد الشرع ومصادره بخيالاته الفاسدة وأنه بذهنه الجامد أدرك ما لم يدركه الصحابة رضي الله عنهم ولو فتحنا هذا الباب وتتبعنا هذه الخيالات الفاسدة لهدمنا أمورا كثيرة من الدين ولا نحلت عراه عروة عروة وتبدلت بعد الجهالة ولمات الدين ، وذلك من الخسران المبين ، شعر :

فالقول ما قال النبي وصحبه

فإذا اقتديت بهم فنعم المقتدى

واعلم أن من جملة ما احتج به على منع زيارة قبره عليه الصلاة والسلام حديث «اللهم لا تجعل قبري وحدثنا وعيدا اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وهذا من أظهر الأمور على عمى قلبه وطمس بصيرته كيف يتخيل متخيل فضلا عن أن يعتقد معتقد أن قبره المكرّم المعظّم يصير وثنا ، كلا والذي رفع ذكره وأعلى قدره وعظّمه وملأ كتابه بذلك لا يمكن تصور ذلك ، وكيف يتصور وهو لا ترد له دعوة ولو في حق غيره فكيف بما هو في حقه ، وهذا من المعلوم الشائع الذائع عند المتسع الباع ، ولو عددت لك نقطة من ذلك مع الاقتصاد لضاقت القراطيس والألواح ، ولما أدرك غبار مباديه ولما لاح.

دعا عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته فما دعا على أحد إلا استجيب له. وإذا كان هذا قد ناله ببركة دعوته فكيف بدعائه لنفسه لا سيما في هذا الأمر الفظيع.

ومرض أبو طالب فعاده عليه الصلاة والسلام فقال : ادع ربك أن يعافيني ، فقال : «اللهم اشف عمي» فقام في الحال كأنما نشط من عقال ، فقال له : يا ابن أخي أيطيعك ربك؟ فقال : «يا عماه لئن أطعت الله عزوجل ليطعنك».

ودعا عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة رضي الله عنها أن لا يجيعها ، قالت رضي الله عنها : فما جعت بعد.

ودعا عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه أن يكفيه الحر والبرد فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف وفي الصيف ثياب الشتاء ولا يصيبه حر ولا برد.

ودعا عليه الصلاة والسلام لابن عباس فقال : «اللهم فقهه في الدين وعلم التأويل» فكان كذلك ، وكان بعد ذلك يسمى الحبر وترجمان القرآن.

ودعا لعبد الرّحمن بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه فما اشترى شيئا إلا ربح فيه.

ودعا عليه الصلاة والسلام لعروة بن أبي الجعد فكان لو اشترى التراب لربح فيه.

ودعا عليه الصلاة والسلام لعبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه بالبركة ، قال عبد الرّحمن : فلو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا.

وندت له عليه الصلاة والسلام ناقة فدعا بردها فجاءها إعصار ريح حتى ردها عليه. فانظر كيف من كساه خلع القرب والمنزلة عنده أن جعلها سائسة بعيره. والإعصار أحد الأعاصير وهو الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود.

وفي حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي رضي الله عنه فلم يصلّ العصر حتى غربت الشمس ، فقال عليه الصلاة والسلام : «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس» قالت أسماء رضي الله عنها : فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الجبال وذلك بالصهباء بخيبر. وقيل : رجعت حتى بلغت نصف المسجد.

ومثل هذا كثير جدا وقد ذكرت جملة من ذلك في فصل الحج في كتاب (تنبيه السالك على مظان المهالك).

يا من أمد أبا هر بمزودة

فأوقرت منه للغادين أحمال

جئناك نطوي الفجاج المقفرات على

عيسى لها في السرى وجد وإرقال

قال أبو هريرة رضي الله عنه : أصاب الناس مخمصة فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل من شيء؟» فقلت : نعم شيء من التمر في المزود ، قال : «فأتني به» فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها ودعا بالبركة ثم قال : «ادع عشرة» فأكلوا حتى شبعوا ثم عشرة كذلك حتى أطعم الجيش كلهم وشبعوا ، ثم قال : «خذ ما جئت به وأدخل يدك واقبض منه ولا تكفئه» فقبضت على أكثر ما جئت به فأكلت منه وأطعمت حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه فانتهب مني فذهب.

وفي رواية : فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا أوسقا في سبيل الله تعالى ، فقد تحققت بهذا فضلا عن غيره وهو مثل الرمال كثرة يا صحيح الذهن وقوي الإيمان به أنه لا يكون قبره وثنا البتة ، بل في الحديث الصحيح قد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب أو مثل هذا السيد المعظم المكرم لا يتوسل به ولا تشد الرحال إليه ، قاتل الله العزيز من قاله وضاعف العذاب عليه.

جدير بنا نسعى إليه وندلج

فذاك الذي يسعى إليه ويدلج

جعلنا إليه في الحياة احتياجنا

ونحن إليه في القيامة أحوج

جميع الورى والرسل تحت لوائه

ومن ذا له عن جاه أحمد مخرج

أو لهذا السيد الجليل المبجل لا يشد إليه رحل ولا يتوسل به قائل الله قائله وجعله على رضف جهنم يتمايل.

زكا قدره من ذا يجاريه في العلا

وأعلامه في ذروة العز تركز

زحاما ترى للرسل تحت لوائه

وكل نبي باللوا يتعزز

زعيم بتعجيل الشفاعة عند ما

أولو العزم عنها في القيامة تعجز

زفير لظى عنا يرد بجاهه

إذا هي من غيظ علينا تميز

زكاة على الأبدان تسعى لقبره

فسيروا وزوروا فالغنائم تحرز

فمن زاره نال السعادة كلها

ومن مات عجزا ذاك والله أميز

فمن توسل به عليه الصلاة والسلام إنما توسل به لعلو قدره ورتبته ، وارتفاع منزلته وكمالها عند ربه وعظيم إجلاله وفضله على جميع خلقه ، كما أخبر هو عن نفسه ، فإنه سيد الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين وأحب الخلق إليه أجمعين.

ذلك شائع وذائع في الأقدمين والآخرين حتى في أعدائه المبطلين.

قديما بدا قبل النبيين فضله

وإن قدموا بعثا ففي الفضل أسبق

قضى الله أن لا يلحق الرسل لاحق

ولا أحد منهم بأحمد يلحق

قطعنا بأن لا يخلق الله شبهه

قديما ولا في آخر الخلق يخلق

قل الحق هل تدري لأحمد مشبها

فبادر وقل لا لا فإنك تصدق

قرأنا أحاديثا صحاحا بأنه

عليه لواء الحمد في الحشر يخفق

قياما له الأملاك والرسل تحته

ومن حوله صفوا وحفوا وأحدقوا

قوي ولكن لين في أناسه

رفيق ولكن بالمساكين أرفق

قريب لأرباب الحوائج ما ترى

لأحمد حجابا ولا الباب يغلق

وكيف لا يكون كذلك وهو كما قيل فيه :

أكرم العالمين أصلا وفصلا

وجلالا وسيد البطحاء

خص بالحوض والشفاعة في الحشر

لكل الورى ورفع اللواء

والمقام المحمود والسبق للنا

س دخولا في الجنة الفيحاء

ثم يعطي وسيلة هي أعلى

درجات الجنان ذات البقاء

هو جاري وعدتي ونصيري

وعمادي في شدتي ورخائي

وليس هذا خاصا بي وبفقري بل هو كما قيل فيه :

له المقام الذي ما ناله أحد

والفخر والمجد والإحسان والحسب

وهو الشفيع الذي تنجى شفاعته

كل الأنام إذا ما مسها العطب

محمد خير خلق الله قاطبة

وهو الذي لفخار المجد يكتسب

نوّه به يا منادي الحي إن به

تزول عن قلبي الآلام والكرب

عان له مقلة تشتاق تنظره

ومهجة بلهيب الشوق تلتهب

وكيف لا تلتهب وقد شاهدت ما شاهدت مما لا يمكن النطق به ولا أفوه ، وكيف كيف أسلوه.

رعى الله بالبطحاء أيامنا التي

مضت كوميض البرق ثم تولت

وحيا قبابا بين سلع إلى قبا

لعزتها يحلو خضوعي وذلتي

نعمت بها لكن كأحلام نائم

كأن لم تزرها العيس حتى تولت

فهل لي إلى تلك العوالم عودة

ولو دونها بيض الصوارم سلت

وألثم إجلالا ثراها وأجتلي

شموسي في أرجائها وأهلتي

سقى الله ذات الظل من دارة الحمى

حتى نهلت منه رباها وعلت

وسحت على أعلام سلع مديمة

غمائم بالنوء الروى استهلت

فتلك لعمر الله دار أحبتي

وسكانها كل المراد وبغيتي

ألا ليت شعري هل أزور قبابها

فتحمد فيها العيس شدي ورحلتي

وأنشد في أكنافها مترنما

لمن نظم مدحي فيه بيت قصيدتي

ألا يا رسول الله أنت وسيلتي

إلى الله إذ ضاقت بما رمت حيلتي

وإن شئت قلت

إلى الله في غفران ذنبي وزلتي

فالتوسل به عليه الصلاة والسلام لم يزل منذ آدم عليه‌السلام لا يتوقف فيه أحد ولا يطعن إلى أن ظهر بعض زنادقة اليهود وغلاتهم في بغضه عليه الصلاة والسلام ، قال : وإنه بموته بطلت حرمته وجاهه فلا يتوسل به ولا يقال يا جاه محمد ، وتم ذلك بتوارث سلالتهم معتقدين ذلك مصرّين عليه.

ثم زاد هذا الخبيث أن التوسل به شرك وقرره بتقرير ألحقه بقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزّمر : ٣] وذلك يدل على أن من أجهل الجهلة ، فإن التوسل به عليه الصلاة والسلام معناه : أسأل الله عزوجل برسوله وأتشفّع إليه به فهو سائل لله عزوجل لا لغيره ولا يلزم من التوسل به أو بشخص والتشفع إليه به أن يكون عبده ولا اتخذه إلها وربا من دون الله ولا جعله شريكا في الإلهية ، ومن جعل

التوسل بشخص مثل هؤلاء (١) فهو من جهله وسوء فهمه وعدم تعقله ما يقول ، ومثل هذا لا يحل لأحد أن يقلده ولا ينظر في كلامه إلا من له رتبة التمييز بين الحق والباطل وإلا هلك وهو لا يشعر.

وقد قال عليه الصلاة والسلام : «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم» قالوا : يا رسول الله قد عرفنا أن حياتك خير لنا فكيف وفاتك خير لنا؟ قال : «أما حياتي فإنكم كلما أحدثتم حدثا أحدث الله لكم المخرج منه بي فإذا متّ فلا أزال أنادي من قبري ربي أمتي حتى ينفخ في الصور ثم لا أزال أجاب أربعين سنة حتى ينفخ الأخرى وتعرض علي أعمالكم فما كان من حسن شكرت الله عليه وما كان من سيئ دعوت الله أن يغفره» رواه الإمام العلامة هبة الله في كتابه توثيق عرى الإيمان ، ورواه غيره.

فهو عليه الصلاة والسلام رحمة لنا في حياته وبعد وفاته فكيف لا يتوسل به إليه ولا نعمل البزل القناعيس نحوه وإليه ، وذلك مما أجمع أهل التوحيد عليه ، وأجمعوا على تكفير من قال بخلاف ذلك. صرح به أئمة الأمة وأولهم مالك.

وكان ابن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأن شد الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقصر فيه الصلاة ويصرح بقبر الخليل وقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاء بريدي من مصر باعتقاله على ذلك فاعتقل وكان على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيم الجوزية الزرعي وإسماعيل بن كثير الشركويني فاتفق أن ابن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقى على منبر في الحرم ووعظ ، وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة وقال : ها أنا راجع ولا أزور الخليل ، ثم جاء إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ ، وذكر المسألة بعينها حتى قال : فلا يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام إليه الناس وأرادوا قتله فحماه منهم والي نابلس ، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرفون صورة ما وقع منه فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه ولم يعزره لأجل ابن تيمية.

ولما كان يوم الجمعة رابع شعبان جلس القاضي جلال الدين بعد العصر بالمدرسة العادلية وأحضر جماعة من جماعة ابن تيمية كانوا معتقلين في سجن

__________________

(١) هنا محذوف هو المفعول الثاني لجعل تقديره شركا ليستقيم الكلام ، اه مصححه.

الشرع فادّعى على إسماعيل بن كثير صاحب التاريخ أنه قال : إن التوراة والإنجيل ما بدلا وإنهما بحالهما كما أنزلا وشهدوا عليه بذلك وثبت في وجهه فعزر في المجلس بالدرة وأخرج وطيف به ونودي عليه بما قاله ثم أحضر ابن قيم الجوزية وادعى عليه بما قاله في القدس الشرف وفي نابلس فأنكر فقامت عليه البينة بما قاله فأدب وحمل على جمل ، ثم أعيدوا في السجن ، ولما كان يوم الأربعاء أحضر ابن قيم الجوزية إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه (١) فما كان جوابه إلا أن قال : إن القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي ، فأعيد إلى الحبس إلى أن أحضر الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعذر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد والصالحية وردوه إلى الحبس ولم يزل هذا في أتباعه.

وحضر شخص إلى دمشق يقال له أحمد الظاهري وكان قد حفظ آيات المتشابه وأحاديثه فكان يسردها على العوام وآحاد الناس من الفقهاء فعظّمه أتباع ابن تيمية وأكرموه. ثم إنه توجه إلى القاهرة فشرع يسرد الإياب والأحاديث لعلم به الإمام العلامة الشيخ سراج الدين البلقيني فطلبه وأعلم به برقوق فأخذوه وقيّدوه وكانوا يضربونه بالسياط أول النهار ثم يستعملونه في العمارة ، فإذا كان آخر النهار أعادوا عليه الضرب ، ثم بلغني أن آخر الأمر أن ضربوا عنقه.

وكان الشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي ممن يعتقد كفر ابن تيمية وله عليه الرد ، وكان يقول بأعلى صوته في بعض المجالس : معذور السبكي ـ يعني في تكفيره ـ والحاصل أنه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم والازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبغيض الشيخين وبإنكار الأبدال الذين هم خلفوا الأنبياء ولهم دواهي أخر لو نطقوا بها لأحرقهم الناس في لحظة واحدة ، فنسأل الله تعالى العافية ودوامها إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

(وجرسوا) ابن القيم وابن كثير وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسألة الطلاق ، والله أعلم.

واعلم أني اقتصرت على الكلام على هذه الفتوى لإشاعتها بين العوام وفيها

__________________

(١) هذه قيمة ابن قيمة يراها القارئ مجسمة أمامه في هذا السياق فليعرفها ولا يغتر ، اه مصححه.

التعرض لمنع الوسيلة ومنع شد الرحال إلى قبر سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستدلاله لما قاله بالتجسير والتمويهات التي بيّنّا بطلانها وفسادها ، وأن ذلك من أظهر الأمور على فجوره في النقل والإغراء ، وأن لا يحل أن يقلده ولا يأخذ عنه ولا ينظر في كلامه ولا يسمعه إلا من يكون له رتبة التمييز بين الحق والباطل وإلا هلك وهو لا يشعر (١).

ثم من الأمور المهمة المقرّبة إلى الله عزوجل وإلى رسوله وإلى وزيريه رضي الله عنهما بسط الألسن والأيدي فيهم جريا على ما درج عليه العلماء والسلاطين منذ أثار هذا الخبيث هذه الخبائث ، وأن يعلن بالتوسل بسيد الأولين والآخرين ، وأن يعتني بإظهار شد الرحال وإعمال المصلى والأقدام إلى خير خلقه وحبيب القلوب ، ومن بذكره تنجلي الكروب ، ويهتز الطروب ، وبالصلاة والسلام عليه تذهب الذنوب ، التي بسببها حصل الإبعاد عن المزار وبعد الدار.

روى زيد بن أسلم أن عمر خرج ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول :

على محمد صلاة الأبرار

صلّى عليه الطيبون الأخيار

قد كنت قوّاما بكّاء في الأسحار

يا ليت شعري والمنايا أطوار

هل تجمعني وحبيب (٢) الدار

تعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : فجلس عمر رضي الله عنه يبكي شوقا إلى حبيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتتصعد أنفاسه من نار الشوق لو لا دموع المحبين تطفئ نار الشوق لاحترقت أكبادهم بأنفاسهم.

__________________

(١) هذا حكم من هذا الإمام الكبير على كل من يتبع ابن تيمية بأنه هالك في دينه وانظر معنى الهلاك في مثل هذا المقام ومن هنا نحن نرثي لإخواننا الموجودين والغابرين الذين اغتروا بهذا الرجل المسكين ووراءه ساروا وكان بودنا أن يرى إخواننا الموجودون هذا الكتاب ليعرفوا منه قيمة هذا الرجل ثم بعد ذلك ينظروا لأنفسهم والحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به كثيرا من خلقه ، اه مصححه.

(٢) وحبيبي ، اه مصححه.

يا خليليّ قد بلغت القصدا

وعرفت الغرام هزلا وجدا

خلياني من ذكر سلمى ونجد

ودعاني من حب سلمى وسعدى

أنا لي في حشاشتي حب بدر

أقسم الدهر أنه لا يبدي

نار وجدي بحبه في ازدياد

وغرامي به تزايد جدا

كلما رمت أن نفسي عنه

نتسلى أبت ولا تتهدى

وتراها إذا ترنم حاد

برباها تذوب شوقا ووجدا

لا تلمها إذا بدت بحنين

وأنين يقد ذا القلب قدا

فلها معهد وأنس قديم

ليس يفنى وإن تطاول عهدا

كان الصديق رضي الله عنه من المشغوفين بمحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال سيف بن عمرو : كان سبب موت الصديق رضي الله عنه وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمدا عليه فما زال جسمه يتحرق حتى مات ، والكمد : الحزن المكتوم.

كنت (١) السواد لناظري

وعليك كنت أحاذر

من شاء بعدك فليمت

فعليك يبكي الناظر

والحمد لله أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين ورضي الله عن الصديقين والصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، آمين آمين.

__________________

(١) أحفظ هذين البيتين هكذا :

كنت السواد لناظري

فعمي عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد سيد العالمين وعلى آله خير أمة أخرجت للناس وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. انتهت هذه التعليقات في اليوم الثامن عشر من شهر رجب سنة ١٣٥٠ ه‍ على يد كاتبها الذي يرجو قارئها دعوة صالحة إن رأى فيها خيرا ونحن جميعا نبتهل إلى ربنا الغفور الرّحيم الشكور الكريم أن يفرغ غيوث رحماته وكراماته على جدث يضم هذا الرجل الغيور على دينه القائم في نصره كالأسد يذود عن عرينه الإمام أبي بكر تقي الدين الحصني وأن يجمعنا معه في دار كرامته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، آمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ترجمة السبكي

هو : علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي أبو الحسن تقي الدين شيخ الإسلام في عصره ، وأحد الحفّاظ المفسرين المناظرين ، وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات.

مولده : ولد في «سبك من أعمال المنوفية» سنة ٦٨٣ ه‍ ـ ١٢٨٤ م.

رحلاته العلمية : انتقل من سبك إلى القاهرة ، ثم إلى الشام وولي قضاء الشام سنة ٧٣٩ ه‍ واعتل فعاد إلى القاهرة فتوفي فيها.

من تصانيفه : «الدر النظيم في التفسير ـ لم يكمله» ، «مختصر طبقات الفقهاء» ، «إحياء النفوس في صنعه إلقاء الدروس» ، «الإغريض في الحقيقة والمجاز والكنية والتعريض» ، «التمهيد فيما يجب فيه التحديد ـ ط. في المبايعات والمقاسمات والتمليكات وغيرها» ، «السيف الصقيل ـ ط. رأيته بخطه في ٢٥ ورقة في المكتبة الخالدية بالقدس في الرد على قصيدة نونية تسمى الكافية في الاعتقاد منسوبة إلى ابن القيم» ، «المسائل الحلبية وأجوبتها ـ خ. في فقه الشافعية» ، «السيف المسلول على من سبّ الرسول ـ خ» ، «مجموع فتاوى ـ ط» ، «شفاء السقام في زيارة خير الأنام ـ ط» ، و «الابتهاج في شرح المنهاج ـ فقه». ورأيت مجموعة ـ خ ـ بخطه في مجلد ضخم تشتمل على رسائل كثيرة له ، منها : الأدلة في إثبات الأهلة ، والاعتبار ببقاء الجنة والنار ، وفتاوى وغير ذلك. ورأيت مجموعة أخرى كلها بخطه «في الرباط ٦ ، ٣ أوقاف» تشتمل على تسع رسائل منها : المجاورة والنشاط في المجاورة والرباط .. الخ وقد استوفي ابنه تاج الدين أسماء كتبه ، وأورد ما قاله العلماء في وصف أخلاقه ، وسعة علمه.

وفاته : توفي بالقاهرة سنة ٥٦ / ١ ه‍ ـ ١٣٥٥ م (١).

__________________

(١) انظر : الأعلام للزركلي ٤ / ٢ ، ٣ طبعة : دار العلم للملايين ـ بيروت ، الخطط التوفيقية لابن المبارك ١٢ / ٧ طبعة : الأميرية ببولاق سنة ١٣٠٥ ه‍ ، غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري ١ / ٥٥١ طبعة : السعادة بمصر سنة ١٩٣٣ ، الدرر الكامنة ٣ / ٦٣ ـ ٦٤ الطبعة الأولى ـ الهند سنة ١٣٤٩ ه‍ ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٦ / ٤٢ ـ ٤٤ طبعة عيسى الحلبي الأولى سنة ١٣٨٦ ه‍ ـ سنة ١٩٦٧ م ، ٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨ نفس الطبعة.

التعريف بكتاب

«السيف الصقيل»

في أثناء القرن السابع الهجري رحل من حران إلى الشام بيت علم وفضل ، خوفا على أنفسهم من التتر واستوطنوا دمشق. وكان منهم طفل صغير من مواليد حران حمله أبوه معه فيما حمل من أهله ، فألحقه بمدرسة من مدارس دمشق. ذلك الصغير ، هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المعروف بابن تيمية. وعبد السلام كان من خيرة العلماء ، له في مذهب أحمد تصانيف ، وله منتقى الأخبار الذي شرحه الشوكاني وأسماه : نيل الأوطار. فأقبل ذلك الصغير على العلم وظهرت عليه مخايل الذكاء ، وتفقه في مذهب أحمد كأسرته الحنابلة ، وقرأ في كثير من الفنون والعلوم ، وظهرت عليه مخايل الذكاء ، واشتهر بجودة الحفظ وقوة الذاكرة ، وتصدّر للفتيا وإلقاء الدروس في سن مبكرة ، وظهرت عليه آثار النسك والعبادة ، فأحبته العامة وأثنت عليه الخاصة ، وبالغ في الدعاء إلى السنة ومجانبة البدعة. وقد آنس من نفسه قوة ذهن وشدة عارضة فلم يحفل بالرجوع إلى شيوخ الوقت وأكابره ، ورفعت إليه الأسئلة والاستفتاءات ، فأجاب وأفتى ، وهو مرموق في كل ذلك بعين التجلّة من الجميع. حتى إذا قارب سن الأربعين سن الكمال عادة ، بدأ النقص يظهر فيه ، فبدأ يسير على طريق الكرامية والحشوية (١) ، ويحيي بدعة القول بالجهة والمكان والأجزاء لله.

__________________

(١) وهناك صورة مجملة عن الكرامة والحشوية ، حتى تستبطن حقيقتها ، وتختبر عودها ، وتنظر في أصلهما فيحكي لنا الإيجي أنهما فرعان لشجرة حنظل واحدة ، هي شجرة التشبيه. تشبيه الخالق بالمخلوق. وإن اختلفوا في طريقته فمنهم مشبهة غلاة الشيعة ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس والهجيمي ومنهم مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام. ويؤكد الرازي على أن اليهود أكثرهم مشبهة. وأن ظهور التشبيه في الإسلام قد بدأ من الروافض مثل بيان بن سمعان الذي كان يثبت لله تعالى الأعضاء والجوارح ، وهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي ، ويونس بن عبد الرّحمن القمي ، وأبو جعفر الأحوال الذي كان يدعى شيطان الطاق. وهؤلاء رؤساء علماء الروافض ، ثم تهافت في ذلك المحدثون ممن لم يكن لهم نصيب من علم المعقولات.

وقيام الحوادث من الصوت وغيره بذاته تعالى. وأخذ يشيع أن القول بذلك هو الإسلام والإيمان والدين والتوحيد ، وأن ذلك هو مذهب أحمد بن حنبل (١) وأن من

__________________

ـ ويصور لنا الشهرستاني بعض معتقداتهم ، وبعد أن يورد أصولهم فيقول : إن جماعة من الشيعة الغالية ، وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل : الهشاميين من الشيعة. ومثل مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجمي وغيرهم من الحشوية. قالوا : معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن. وأما مشبهة الحشوية ، فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجيمي : أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة. وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة. وحكى عن داود الجواربي أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك. وقد أورد كثيرا من هذه المعتقدات الفاسدة الأشعري في مقالاته ، وكذا البغدادي في فرقه ... ثم إن الإمام الرازي رتب فرقهم الخمسة هكذا : ١ ـ الحكمية : وهم أصحاب هشام بن الحكم. ٢ ـ الجواليقية : أتباع هشام بن سالم الجواليقي الرافضي. ٣ ـ اليونسية : أتباع يونس بن عبد الرّحمن القمي. ٤ ـ الشيطانية : أتباع شيطان الطاق. ٥ ـ الحوارية أصحاب داود الحواري. وكذا أورد طوائف الكرامية وقال : وأقربهم الهيصمية وفي الجملة ، فهم كلهم يعتقدون أن الله تعالى جسم وجوهر ومحل للحوادث ، ويثبتون له جهة ومكانا. ونقول : والحشوية ـ كما سبق ـ من أهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر الأحاديث التي تشعر بالتشبيه ، وسبب تسميتهم بهذا الاسم كما يقول الكوثري ـ في مقدمته على تبين كذب المفتري ـ : أن الحسن البصري كان يلازم مجلسه نبلاء أهل العلم ، وقد حضر مجلسه يوما أناس من رعاع الرواة. ولما تكلموا بالسقط عنده قال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها ، فسموا الحشوية. ومنهم أصناف المجسمة والمشبهة. والحشوية بفتح الشين ويصح إسكانها ، لقولهم بالتجسيم ، لأن الجسم محشو.

انظر : مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٠٥ ، الفرق بين الفرق للبغدادي ص ٦٥ ، والموافق للإيجي ص ٤٢٩ ، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين للفخر الرازي ص ٩٧ ـ ١٠١ ، تبين كذب المفتري لابن عساكر الدمشقي ص ١١.

(١) يقول الرازي : اعلم أن جماعة من المعتزلة ينسبون التشبيه إلى الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين. وهذا خطأ. فإنهم منزهون في اعتقادهم عن التشبيه والتعطيل ، ولكنهم كانوا لا يتكلمون في المتشابهان مع جزمهم بأن الله تعالى لا تشبيه له وليس كمثله شيء. وأقول بعد ذلك : فلا يخدعنك عن دينك قول من يقول : إن كل حنبلي مجسم ، فتظن أن الإمام أحمد كان هو أو فقهاء أتباعه كذلك ـ فالمجسمة إن كانوا حنابلة ففي الفروع لا في الأصول ـ وقد روى الإمام أبو الفضل التميمي شيخ الحنابلة ، والحافظ ابن الجوزي وغيرهما من أعيان المذهب عن الإمام أحمد ما عليه الجماعة من تنزه الحق عن الجسمية ولوازمها. روى البيهقي في مناقب الإمام أحمد بسنده عن أبي الفضل أنه قال : «أنكر أحمد على من قال بالجسم وقال : إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة. وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف. والله تعالى خارج عن ذلك كله فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية. ولم يجيء في الشريعة ذلك فبطل».

خالف ذلك فهو معطل ملحد عدو للدين منابذ للإسلام والمسلمين ، فأحيا بذلك بدعة الحشو بعد ما ماتت أو كادت ، حتى لقد رآه ابن بطوطة ـ في بعض رحلاته ـ يخطب على المنبر ، وتلا حديث النزول ثم قال : ينزل كنزولي هذه ونزل درجة ، فأنكر عليه بعض الحاضرين ، فهاج العامة على المنكر وضربوه ضربا شديدا. بل لقد تعصب له بعض الحنابلة أولا ، حتى إذا استطار ، في الناس ضرره جعلوا يوجهون إليه النصائح بالمشافهة والمكاتبة. وحسبك نصحة الحافظ الذهبي له ـ وهي مثبتة في ذيل تكملة السيف الصقيل الذي بين يديك ـ وهو شيخ الحنابلة والحديث ـ وكان قبل ذلك يكثر الثناء عليه بل يطريه ـ فيقول : «كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما» ثم قال : إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد ... الخ وستأتيك بتمامها». ونقول : لقد برع في الاحتيال لنشر آرائه المخالفة للمعقول والمنقول ، وبرز في نصر بدع الكرامية ، وإحياء ما اندرس من شبههم وشبه غيرهم ، وترى ذلك في منهاجه الذي يرد به على الروافض وفي الحقيقة لقد خالف فيه منهاج السنة ، فأثبت بأنه لا أول للحوادث وأنه لا ابتداء لها ، وأن ذلك هو مذهب الصحابة والتابعين ، وتراه مع ذلك .. في تناقض واضح ـ ينقل خلاف الصحابة والتابعين في أول مخلوق ، هل هو العرش أو القلم أو الماء؟!! وفي صفحة واحدة دون خالجة من الخجل!!

وله في ثلب الكرام طريق غريبة ماكرة ، تجد ذلك في كيديه للانتصار للأئمة الأربعة وإن حفل نصفه الأول بالثناء عليهم فقد انسرب مكره بهم في النصف الثاني تمهيدا لجرأة العامة عليهم وكذلك كان صنيعه مع إمامي أهل السنة أبي الحسم الأشعري وأبي منصور الماتريدي. ولا عليك فإن جاءك خلاف بين الأشاعرة والحنابلة فلا تشك أنه هو وأتباعه فقط. ولم يسلم من لسانه إمام من أئمة أهل السنة فارجع إلى موافقة معقولة تجده قد وقع في إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي ووصفهما بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى!! .. ولكن هل تركه علماء عصره على هذه الضلالات؟ ونبادر إلى القول بأن علماء عصره على اختلاف مذاهبهم قد تصدوا له ، فهذا هو علامة عصره تقي الدين الحصني في كتابه «دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد» يقول : أخبرنا أبو الحسن على الدمشقي عن أبيه قال : «كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية ، فذكر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال : واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا : قال : فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي ، وبادروا إليه ضربا باللكم والنعال .. حتى أوصلوا إلى بعض الحكام واجتمع

في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم فقالوا : ما الدليل على ما صدر منك؟ فذكر آية الاستواء فضحكوا منه ، وعرفوا أنه جاهل ...» وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول. ونقل عن صلاح الدين الكتبي ويعرف بالتريكي في الجزء العشرين من تاريخه ما قام به العلماء في جهاد هذا الرجل. وذكر قبل ذلك صورة المرسوم الذي أصدره السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، وذكره أيضا العلامة الكوثري بنصه. ناقلا له مما رآه بنفسه من خط ابن طولون في تكملته للسيف الصقيل. ومع هذا فقد ترك بعد موته أئمة ابتداع عبّوا من حياضه الآسنة وعلى رأسهم الإمام ابن رفيل الشهير بابن القيم ـ وكان أبوه قيم المدرسة الجوزية ولذلك يقولون أحيانا : ابن قيم الجوزية ، يعنون بها تلك المدرسة ـ كان أتبع لشيخه ابن تيمية من ظله ، وقد أفنى عمره في خدمة بدع أستاذه بفنون من التلبيس ، فيؤلف في السيرة النبوية ، وفي الفوائد الصوفية وفي المواعظ ، ويدس في خلال ذلك من حشو شيخه وأضاليله ما استطاع ثم يعود إلى ما يعرفه العلماء ، وكثيرا ما يحكي المسألة المجمع عليها بين العلماء إجماعا ظاهرا فيذكر فيها خلافا فيقول : قالت طائفة بذلك ويحتج لها ويطيل الاحتجاج. وقالت طائفة أخرى ويطول الاحتجاج بما يظنه حجة من أوهام شيخه. كما وقوع الطلاق الثلاث المجموع ثلاثا وغيرهما كثير وقلما يسلم له كتاب من تشعيب ودس وتهويش ، وقد جمع شواذ شيخه في قصيدة سخيفة نونية بلغها ستة آلاف بيت تقريبا (١). وكان إخوانه وتلاميذه يخفونها خوفا من أهل العلم وأهله ، حتى وقعت في يد شيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن علي السبكي ، فكتب عليها كتابة سماها : السيف الصقيل في الرد على ابن رفيل ـ وقد وضع العلامة الكوثري تكملة لهذا السيف وأجاد كل الإجادة ـ وهو الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم ـ ومن قرأ هذه المنظومة النونية وقرأ كتب ابن تيمية ـ وهو من أهل العلم ـ لا يرتاب في أنه نسخة منه ، فإنه يرمي من تقدمه من محققي أهل العلم وأكابر العلماء بأنهم أعداء الإسلام ، وذلك لأنهم لم يقولوا بما قال به ابن تيمية من التجسيم والتشبيه ، وإن كان ابن الجوزي قد أثخن أهل التجسيم والتشبيه بالجراح في كتابه القيم : دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه في الرد على المجسمة والمشبهة بتحقيق : محمد زاهد الكوثري وتصدير العلامة محمد أبي زهرة وتقديم الدكتور : جمعه الخولي بما يشفي الصدر ويثلج

__________________

(١) وعدد أبياتها على التحقيق ستة آلاف بيت إلا واحدا وخمسين بيتا.

النفس. وكذلك فإن العلامة ابن زاهد الكوثري قد أنصف أهل السنة من هذا وشيخه ومن تبعهما في كتابه : التكملة وهو ضميمة للسيف الصقيل بما يبهج الخاطر ويرد الظلامة ويسفر بنور الإصباح. ولا يغرنك كتاب ابن القيم : «غزو الجيوش الإسلامية ، للمعطلة والجهمية» فإنه جمع فيه ما تشابه من الآيات والأحاديث ، لا فرق بين صحيحها وسقمها وموضوعها ليثبت بذلك ـ في زعمه ـ الجهة لله تعالى عما يقول. وقد عنى بالمعطلة والجهمية كل من نزّه الله تعالى عن الجهة وغيرها. من لوازم الأجسام!!

ولا يقع في وهمك أن ابن القيم قد رجع عن هذه الأباطيل ، كما تأكد لديك ثبات شيخه عليها إلى وفاته فإن ابن رجب ـ في طبقات الحنابلة ـ سمعها أي هذه المنظومة من لفظ ابن القيم عام وفاته أي أنه استمر على هذا العقد الباطل إلى أواخر عمره.

والله ولي التوفيق.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

التقديم للكتاب

الحمد لله القدوس المتعال ، المنزّه عن النظير والمثال ، جلّت ذاته وعلت صفاته عن أن يحوم حول اكتناهها وهم أو خيال ، والعقول عن إدراك تلك المطالب في عقال ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث لتتميم مكارم الخلال ، منقذا لهذه الأمة من مخالب الوثنية وصنوف الضلال ، وهاديا إلى مراضي مولاه ذي الجلال والجمال ، وعلى آله خير الآل وأصحابه أصحاب كرائم الخصال.

انقشاع ظلمات الجاهلية بمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وبعد ، فلا يخفى على من درس تاريخ الدين الإسلامي أن الله سبحانه بعث خاتم رسله في بيئة عريقة في الوثنية ، وقد أحدقت بتلك البيئة أمم يدينون بالإشراك والتشبيه وأنواع من التخريف والتمويه ، فبمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم انقشعت تلك الظلمات الجاهلية ، واستنارت بصائر الذين آمنوا به بأنوار التعاليم الإسلامية ، حتى داسوا تحت أرجلهم تقاليد الوثنية ونبذوا تلك الأساطير الهمجية وخمدت عزائم أعداء الدين ، وفترت مواصلتهم العداء إلى حين.

تحين الأعداء الفرص للكيد بالمسلمين

لكنهم كانوا يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين ، وتشويه تعاليم هذا الدين في الأخلاق والعمل والاعتقاد ، حتى تذرعوا بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشتى الوسائل إلى بذر بذور الفساد كلما ظنوا أن الفرصة سانحة ، يلبسون في كل عصر ما يرونه أنجع في مخادعة الجمهور ، وأغشى على بصائر الخاصة والدهماء وأشد فتكا بهم في صميم دينهم. إلى أن تمكنوا من إضلال طوائف في الأطراف ورغم هذا بقيت بيضة الإسلام ـ بحمد الله جلّ شأنه ـ مصونة الجانب تحت كلاءة الله سبحانه ورعايته ، حيث لم يمكنهم من إبادة خضراء الملة ، ولا من إحداث أحداث جوهرية في صميم الدين

الإسلامي تشتت شمل الجماعة ، بل بقي الإسلام في جوهره ـ بفضل الله جلّ جلاله ـ وضّاء المنار واضح المنهاج ، نيّر الطريقة ، بادي المعالم لمن ألقى إلى تعاليمه السمع وهو شهيد.

وغاية ما تخيل الأعداء أن يتمكنوا منه أن يوقفوا نموه العظيم الذي كان ظهر في الصدر الأول ، ويعرقلوا رقى معتنقيه السريع بعد أن بهر أبصار أولي الأبصار في أوائل انتشاره ، لكن أبى الله إلا أن يتم نوره.

وكان أخطر هؤلاء الأعداء على الدهماء وأبعدهم غورا في الإغواء أناسا ظهروا بأزياء الصالحين بعيون دامعة كحيلة ، ولحي مسرحة طويلة ، وعمائم كالأبراج ، وأكمام كالأخراج ، يحملون سبحات كبيرة الحبات ، ويتظاهرون بمظهر الدعوة إلى سنة سيد السادات مع انطوائهم على مخاز ورثوها عن الأديان الباطلة ، والنحل الآفلة ، وكان من مكرهم الماكر أن خلطوا الكذب المباشر بالتزيد في تفسير مأثور أو في حديث صحّ أصله عند الجمهور ، باعتبارهم ذلك أنجع في إفساد دلالة كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أفهام أناس قرب عهدهم من الجاهلية ولم تتكامل بعد عقولهم ولا نضجت أفكارهم.

وكم أضلّ رواة من هذا القبيل طوائف من سذج المسلمين منذ عهد التابعين حيث اندسوا بين الصالحين من رواة الأعراب ومواليهم لإدخال ما اختلقوه من الأخبار بين مرويات هؤلاء الأخيار ، حتى يتم إفساد دين المسلمين عليهم ، ولكن أبى الله إلا أن يرد كيدهم في نحرهم حيث أقام جهابذة يسعون في إبعاد مختلقاتهم عن مرتبة الاعتداد في جميع الطبقات ، على أن في عقول الذين أسلموا إسلاما صحيحا من النور ما يشق لهم الطريق إلى تعرف دخائل المرويات من نفس تلك الروايات ، وإن لم تخل طبقة من طبقات الرواة من أغرار انخدعوا بها وتعصبوا لها ، لأن الفاتنين كانوا راعوا في رواياتهم عقول هؤلاء ومداركهم في جاهليتهم تيسيرا لزلل أقدامهم وتدهورهم في هاوية إغوائهم.

انخداع سذج الرواة

فالرواة السذج إذا انخدعوا بمثل هذا التمويه يكون عندهم بعض عذر ، ومن الذي لا ينخلع قلبه؟ إذا سمع السنة والدعوة إلى السنة من متقشف متظاهر بالورع الكاذب على تقدير جهل السامع بما وراء الأكمة؟ فيجب أخذ هؤلاء بالرفق لتدريجهم إلى الحق من باطل تورطوا فيه باسم السنة.

ومن محققي أهل السنة من يشير إلى أن العامي إذا بدر منه ما يوهم ظاهره التشبيه يرجي من فضل الله أن يسامحه حيث يعلو التنزيه من الجهة ونحوها عن

مداركه. وأما من جمع بين الرواية والدراية على زعمه وألف في ذات الله وصفاته ، وصدر منه مثل هذا فلا يوجد بين علماء أهل السنة من يعذر مثله بل أطبقت كلماتهم على إلزامه مقتضى كلامه ، وليس لعالم عذر في الميل إلى شيء من التشبيه والقرمطة لظهور سقوطهما لكل ناظر. قال القاضي أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم : «ما لقيت طائفة إلا وكانت لي معهم وقفة عصمني الله منها بالنظر ـ بتوفيقه ـ إلا الباطنية والمشبهة فإنهما زعنفة تحققت أنه ليس وراءهما معرفة فقذفت نفسي كلامهما من أول مرة» اه. بل لا يتصور أن يميل إلى أحدهما عاقل إلا إذا كان له غاية إلحادية ، وأنى يستعجم على عالم باللسان العربي المبين ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدلالة على تنزيه الله جلّ شأنه من الجسمية والجسمانيات والمادة والماديات ، بخلاف العامي الذي هو قريب العهد من الجاهلية.

فضل علماء أصول الدين في حراسة الدين

جزى الله علماء أصول الدين عن الإسلام خيرا ، فإن لهم فضلا جسيما في صيانة عقائد المسلمين بأدلة ناهضة مدى القرون أمام كل فرقة زائغة ، وإنما يكون التعويل في كل علم على أئمته دون من سواهم ، لأن من يكون إماما في علم كثيرا ما يكون بمنزلة العامي في علم آخر ، فإذا لا يعول في العقائد إلا على أئمة أصول الدين لا على الرواة البعيدين عن النظر ، وكم بينهم من يرثي لمداركه حيث يقل عقله عن عقول الأطفال وإن بلغ في السن مبلغ الرجال. ومن طالع ما ألفه بعض الرواة على طول القرون من كتب في التوحيد والصفات والسنة والردود على أهل النظر يشكر الله سبحانه على النور الذي أفاضه على عقله حتى نبذ مثل تلك الطامات بأول نظرة.

محاولة ابن تيمية بعث الحشوية من مرقدها

وقد استمرت فتن المخدوعين من الرواة على طول القرون مجلبة لسخط الله تعالى ولاستسخاف العقلاء من غير أن يخطر ببال عاقل أن يناضل عن سخافات هؤلاء ، إلى أن نبغ في أواخر القرن السابع بدمشق حراني تجرد للدعوة إلى مذهب هؤلاء الحشوية السخفاء متظاهرا بالجمع بين العقل والنقل على حسب فهمه من الكتب بدون أستاذ يرشده في مواطن الزلل ، وحاشا العقل الناهض والنقل الصحيح أن يتضافرا في الدفاع عن تخريف السخفاء إلا إذا كان العقل عقل صابئ والنقل نقل صبي ، وكم انخدع بخزعبلاته أناس ليسوا من التأهل للجمع بين الرواية والدراية في شيء وله مع خلطائه هؤلاء موقف في يوم القيامة لا يغبط عليه. ومن درس حياته

يجدها كلها فتنا لا يثيرها حاظ بعقله غير مصاب في دينه ، وأنّى يوجد نص صريح منقول أو برهان صحيح معقول يثبت الجهة والحركة والثقل والمكان ونحوها لله سبحانه؟ وسيمر بك سرد بعض مخازيه مع نقضها إن شاء الله تعالى.

وكل ما في الرجل أنه كان له لسان طلق ، وقلم سيّال ، وحافظة جيدة ، قلب ـ بنفسه بدون أستاذ رشيد ـ صفحات كتب كثيرة جدا من كتب النّحل التي كانت دمشق امتلأت بها بواسطة الجوافل من استيلاء المغول على بلاد الشرق ، فاغترّ بما فهمه من تلك الكتب من الوساوس والهواجس ، حتى طمحت نفسه إلى أن تكون قدوة في المعتقد والأحكام العملية فوفاه في القبيلين بما لم يفه به أحد من العالمين مما هو وصمة عار وأمارة مروق في نظر الناظرين فانفضّ من حوله أناس كانوا تعجلوا في اطرائه بادئ بدء قبل تجريبه وتخلوا عنه واحدا إثر واحد على تعاقب فتنه المدونة في كتب التاريخ ولم يبق (١) معه إلا أهل مذهبه في الحشو من جهلة المقلدة ، ومن ظن أن علماء عصره صاروا كلهم إلبا واحدا ضده حسدا من عند أنفسهم فليتهم عقله وإدراكه قبل اتهام الآخرين ، بعد أن درس مبلغ بشاعة شواذه في الاعتقاد والعمل وهو لم يزل يستتاب استتابة إثر استتابة ، وينقل من سجن إلى سجن إلى أن أفضى إلى ما عمل وهو مسجون فقبر هو وأهواؤه في البابين بموته وبردود العلماء عليه وما هي ببعيدة عن متناول رواد الحقائق.

مسايرة ابن القيم لابن تيمية في فتنته

وكان ابن زفيل الزرعي المعروف بابن القيم يسايره في شواذه كلها حيا وميتا ، ويقلده فيها تقليدا أعمى في الحق والباطل ، وإن كان يتظاهر بمظهر الاستدلال لكن لم يكن استدلاله المصطنع سوى ترديد منه لتشغيب قدوته دائبا على إذاعة شواذ شيخه ، متوخيا في غالب مؤلفاته تلطيف لهجة أستاذه في تلك الشواذ ، لتنطلي وتنفق على الضعفاء ، وعمله كله التلبيس والمخادعة والنضال عن تلك الأهواء المخزية حتى أفنى عمره بالدندنة حول مفردات الشيخ الحراني. تراه يثرثر في كل واد ، ويخطب بكل ناد بكلام لا محصل له عند أهل التحصيل ، ولم يكن له حظ من المعقول ، وإن كان كثير السرد لآراء أهل النظر. ويظهر مبلغ تهافته واضطرابه لمن طالع (شفاء العليل) له بتبصر ، ونونيته وعزوه من الدلائل على أنه لم يكن ممن له علم بالرجال ولا ينقد الحديث حيث

__________________

(١) وثناء بعض المتأخرين عليه لم يكن إلا عن جهل بمضلات الفتن في كلامه ووجوه الزيغ في مؤلفاته ومنهم من ظن أنه دام على توبته بعد ما استتيب فدام على الثناء ولا حجة في مثل تلك الأثنية ، وأقواله الماثلة أمامنا في كتبه لا يؤيدها إلا غاو غوى ، نسأل الله السلامة.

أثنى فيهما على أناس هلكى ، واستدل فيهما بأخبار غير صحيحة على صفات الله سبحانه. وقد ذكره الذهبي في المعجم المختص بما فيه عبرة ، ولم يترجم له الحسيني ولا ابن فهد ولا السيوطي في عداد الحفاظ في ذيولهم على طبقات الحفاظ ، وما يقع من القارئ بموقع الإعجاب من أبحاثه الحديثية في زاد المعاد وغيره فمختزل مأخوذ مما عنده من كتب قيمة لأهل العلم بالحديث «كالمورد الهني شرح سير عبد الغني للقطب الحلبي» ونحوه ولو لا محلى ابن حزم وإحكامه ومصنف ابن أبي شيبة وتمهيد ابن عبد البر لما تمكن من مغالطاته وتهويلاته في أعلام الموقعين. وكم استتيب وعزر مع شيخه وبعده على مخاز في الاعتقاد والعمل تستبين منها ما ينطوي عليه من المضي على صنوف الزيغ تقليدا لشيخه الزائغ وسيلقى جزاء عمله هذا في الآخرة ـ إن لم يكن ختم له بالتوبة والإنابة ـ كما لقي بعض ذلك في الدنيا.

نماذج من أقوال أصحاب

ابن القيم وأضداده والمتحايدين

قال الذهبي في المعجم المختص عن ابن القيم هذا : عنى بالحديث بمتونه وبعض رجاله وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره ، وفي النحو ويدريه ، وفي الأصلين. وقد حبس مدة لإنكاره على شد الرحيل لزيارة قبر الخليل (إبراهيم عليه‌السلام) ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم لكنه معجب برأيه جريء على الأمور اه.

قال ابن حجر في الدرر الكامنة : غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله بل ينتصر له في جميع ذلك ، وهو الذي هذّب كتبه ونشر علمه .. واعتقل مع ابن تيمية بالقلع بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة ، فلما مات أفرج عنه وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية وكان ينال من علماء عصره وينالون منه اه.

قال ابن كثير كان يقصد للإفتاء بمسألة الطلاق حتى جرت له بسببها أمور يطول بسطها مع ابن السبكي وغيره .. وكان جمّاعا للكتب فحصل منها ما لا يحصر حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم .. وهو طويل النفس في مصنفاته يتعانى الإيضاح جهده ، فيسهب (١) جدا ، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف في ذلك ، وله في ذلك ملكة قوية ، ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لها .. وجرت له محن مع القضاة منها في

__________________

(١) الإسهاب : الإطناب ، وهو عكس الإيجاز.

ربيع الأول طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل فأنكر عليه وآل الأمر إلى أنه رجع عما كان يفتي به من ذلك اه. وقال : التقى الحصني : كان ابن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأن شد الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقصر فيه الصلاة ، ويصرح بقبر الخليل وقبر النبي صلى الله عليهما وسلم. وكان على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيم الجوزية الزرعي وإسماعيل بن كثير الشركويني ، فاتفق أن ابن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقى على منبر في الحرم ووعظ وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة : وها أنا راجع ولا أزور الخليل. ثم جاء إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى قال فلا يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام إليه الناس وأرادوا قتله فحماه منهم والي نابلس ، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرفون صورة ما وقع منه فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه ولم يعزره لأجل ابن تيمية .. ثم أحضر ابن قيم الجوزية وادعى عليه بما قاله في القدس الشريف وفي نابلس فأنكر ، فقامت عليه البينة بما قاله فأدب وحمل على جمل ثم أعيد في السجن ثم أحضر إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه فما كان جوابه إلا أن قال إن القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي ، فأعيد إلى الحبس إلى أن أحضر الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعزر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد والصالحية وردوه إلى الحبس ـ وجرسوا ابن القيم وابن كثير وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسألة الطلاق اه.

قال ابن رجب : قد امتحن وأوذي مرات وحبس مع الشيخ تقي الدين في المدة الأخيرة بالقلعة منفردا ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ اه.

وقد سقت هنا نماذج من كلمات أصحابه وأضداده والمتحايدين في حقه في هذا الكتاب ، وأرجو أن الحق لا يتعدى ما دللت عليه في حقه فيما كتبناه.

أحق الناس بالرثاء

وأحق الناس بالرثاء وأجدرهم بالترحم من أفنى عمره في سبيل العلم منصاعا لمبتدع يرديه من غير أن يتخير أستاذا رشيدا يهديه ، ومثله إذا دوّن أسفارا لا يزداد بها إلا بعدا عن الله وأوزارا ، وهو الذي يصبح متفانيا في شيخه الزائغ بحيث لا يسمع إلا بسمعه ولا يبصر إلا ببصره في جميع شئونه ، ويبقى في أحط دركات الجهل من

التقليد الأعمى ، ولو فكر قليلا لكان أدرك أن من السخف بمكان وضعه لشيخه في إحدى كفتي الميزان ليوازن به جميع العلماء والفقهاء من هذه الأمة في كفته الأخرى فيزنهم ويغالبهم به فيغلبهم في علومهم! وهذا ما لا يصدر من حاظ بعقله ، ولا سيما بعد التفكير في تلك المخازي من شواذه. نعم يمكن أن يكون عنده أو عند شيخه بعض تفوق في بعض العلوم على بعض مشايخ حارته أو أهل خطه أو قريته أو مضرب خيام عشيرته ، لكن لا يوجب هذا أن يصدق في ظنه في حق نفسه أن جو هذه الأرض يضيق عن واسع فهومه ، وعرض هذه البحار لا يتسع لزاخر علومه.

أخطر ما يطغى من صنوف الاستغناء

ومن الآفات المردية التي تعتري الإنسان وتقذف به إلى هاوية الخسران طغيانه حينما يرى نفسه على شيء من الاستغناء بمال أو جاه أو علم ، لكن المال عرض زائل ، والجاه الدنيوي قلما يدوم على حال ، وعلم الإنسان مهما اتسع فما أوتي من العلم إلا قليلا ، وتلك الخلال لو روعيت حدودها لكانت أكبر عون للمرء على إحراز مرضاة الله سبحانه ، وأما إذا اتخذها أداة طغيان فإذ ذاك تنقلب تلك النعم مجلبة لسخط الله عزوجل ومقت الخلق ، فيصبح ذلك الطاغي من الأخسرين أعمالا في الدارين ، وليعلم أن ضرر العلم ـ إذا زاغ صاحبه ـ دونه كل ضرر ، فإن الطاغي بالمال يزول ضرره بزوال ماله ، كصاحب الجاه الذي لا يدوم جاهه ، وأما صاحب العلم الذي لعب به الشيطان وخلّد كتبا فيما طغى به فهمه وطاش قلمه ، فيدوم ضرره ويتضاعف وزره ما دامت آثاره دارجة يضل بها أناس ، فإذا هي أخطر تلك الآفات ، ولا يخفف عن مؤلفها العذاب إلا بإعراض الناس عن كتبه المغوية بتنبيه أهل العلم المهتدين على ما حوته من صنوف الزيغ والضلال ، فيكون في الكشف عن مواطن الغواية من أمثال تلك الكتب تخفيف لعذاب مؤلفيها ، وصون للأمة عن الوقوع في مهاويها. وقد عنى الموفقون من علماء هذه الأمة بنقض أمثال تلك الكتب لتلك الغاية النبيلة قديما وحديثا ومن هلك بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

ردود السبكي على ابن تيمية

والكلام في رده على نونية ابن القيم

وللحافظ التقي السبكي فضل مشكور وعمل مبرور في الرد على ابن زفيل وشيخه في شواذهما المردية ، ومن جملة مؤلفاته في هذا الصدد «رده على نونية ابن القيم» وقد نقل السيد محمد المرتضى الزبيدي في شرح الإحياء عند الكلام على

إمامي أهل السنة عن هذا الرد المسمى «السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل» جملة نافعة من مقدمته. والتقي السبكي أوجز في رده مكتفيا بلفت النظر إلى كلمات الناظم الخطرة في الغالب بدون أن يناقشه فيها كثيرا ، باعتبار أن الاطلاع عليها يكفي بمجرده في نبذها وتضليل قائلها ، ولو كان السبكي يرى ابن القيم يستأهل المناقشة لأوسع في الرد عليه ، لأنه كان أنظر أهل عصره ـ كما قال الإسنوي وغيره من المحققين ـ لكنه كان يعده في غاية من الغباوة فاكتفى في غالب الأبحاث بلفت نظر عامة العلماء إلى أهوائه البشعة ، والتقي السبكي من ألطف أهل العلم لهجة وأنزههم لسانا مع من يرد عليهم. لكن حيث إن الناظم أسرف في ضلاله وإضلاله اضطر التقي في رده عليه إلى بعض إغلاظ في حقه صونا لمن عسى أن يندع بتلبيساته ، وقرعا للعبد بالعصا ، وهو معذور في ذلك بل إغلاظه ليس بشيء في جنب ما تقول به ابن القيم في حق جمهور أهل الحق.

ودونك نونيته التي ردّ عليها السبكي وهي أصدق شاهد لما قلنا.

ونونية ابن القيم هذه من أبشع كتبه وأبعدها غورا في الضلال وأشنعها إغراء للحشوية ضد أهل السنة ، وأوقحها في الكذب على العلماء كما ترى إيضاح ذلك في مقدمة «السيف الصقيل» فلا نزاحم السبكي في شرح بشاعة طريقته فيها إلا أنا نشير هنا إلى أن ابن القيم كلما تراه يزداد تهويلا وصراخا باسم السنة في كتابه هذا يجب أن تعلم أنه في تلك الحالة متلبس بجريمة خداع خبيث وأنه في تلك الحالة نفسها في صدد تلبيس ودس شنيعين ، وإنما تلك التهويلات منه لتخدير العقول عن الانتباه لما يريد أن يدسه في غضون كلامه من بدعه المخزية كما يظهر من مطالعة النونية بتبصر ويقظة.

وإنما اختار طريق النظم في ذلك ليسهل عليه أن يهيم في كل واد ، ولو لا أنها طبعت مرارا وتكرارا ممن لا بغية له من طبعها غير عدد من القرش يملأ به الكرش. قام بذلك الدين أم قعد ، بدون أن يقوم أحد من العلماء المعاصرين بالرد عليها ، لكان إهمال الرد عليها أنسب ، لكن لم يبق بعد تكرر طبعها مع تقاعس أهل العلم عن ردها مساغ للإهمال ، فوجب تقويض دعائهما بنشر كتاب السبكي مع تعليق كلمات عليه في مواضع رأيناها في حاجة إلى التعليق ، وقد سميت ما علقته «تكملة الرد على نونية ابن القيم».

والله سبحانه ولي النفع وعليه توكلت وإليه أنيب ..

محمد زاهد بن الحسن الكوثري

عفا عنهما

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة الكتاب للمؤلف

قال الإمام الحجة أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي رضي الله عنه :

يا عالما بكل شيء ، قادرا على كل شيء ، ارحم عبدا جاهلا بكل شيء ، عاجزا عن كل شيء ، خلق ضعيفا تنتوشه الآفات من جميع الجهات ويستغرقه احتياجه على ممر الأنفاس واللحظات ، مدته في الدنيا قصيرة لو صرفها كلها في طاعة ربه ، وعلم نافع به سلامة قلبه كان موفقا يقتصر على خويصة نفسه وهذا يحتاج إلى مدد إلهي في دنياه في صحة جسمه وكفايته وكفاية من يتعلق به في القوت وما يتعلق به ودفع الأذى عنه ، وفي دينه بسلامة قلبه من العقائد الفاسدة ، وإقباله على الله تعالى وسلامة جوارحه من المعاصي وقيامها بما افترض الله عليها ، وسلامته في قلبه وجسمه من شياطين الإنس والجن ونفسه وهواه وفي علمه فلا يشتغل من العلوم إلا بما ينفع وهو القرآن والسنة والفقه وأصول الفقه والنحو ويأخذها عن شيخ سالم العقيدة ويتجنب علم الكلام والحكمة اليونانية ، والاجتماع بمن هو فاسد العقيدة أو النظر في كلامه.

وليس على العقائد أضر من شيئين : علم الكلام والحكمة اليونانية ، وهما في الحقيقة علم واحد ، وهو العلم الإلهي لكن اليونان طلبوه بمجرد عقولهم ، والمتكلمون طلبوه بالعقل والنقل معا وافترقوا ثلاث فرق إحداها غلب عليها جانب العقل وهم المعتزلة (١) والثانية غلب عليها جانب النقل

__________________

قول أبي الحسن الطرائفي في المعتزلة :

(١) وعنهم يقول أبو الحسين محمد بن أحمد الطرائفي الشافعي المتوفى سنة ٣٧٧ ه‍ في كتاب الرد على أهل الأهواء والبدع : «وهم أرباب أنواع الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم ، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل والمنصفون في مناظرة الخصوم ، وهم عشرون فرقة يجتمعون على أصل واحد لا يفارقونه وعليه يتولون وبه يتعادون وإنما اختلفوا في الفروع وهم سمّوا أنفسهم معتزلة ، وذلك عند ما بايع الحسن بن علي

وهم الحشوية (١) والثالثة ما غلب عليها أحدهما بل بقي الأمران مرعيين عندها على حد سواء وهم الأشعرية وجميع الفرق الثلاث في كلامها مخاطرة إما خطأ في بعضه وإما سقوط هيبة ، والسالم من ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون وعموم الناس

__________________

ـ عليه‌السلام معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس ـ وذلك أنهم كانوا من أصحاب علي ـ ولزموا منازلهم ومساجدهم ، وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة» اه ثم ذكر أئمتهم من البصريين والبغداديين وسرد بعض آرائهم في عدة أوراق. وهو من محفوظات الظاهرية بدمشق تحت رقم ٥٩ في التوحيد ولتقديمهم فضل الدفاع عن الدين الإسلامي والرد على الزنادقة والنصارى واليهود ، لكن تحكيمهم للعقل وكثرة احتكاكهم بفرق الزيغ أديا بكثير منهم ولا سيما المتأخرين إلى صنوف من البدع الرديئة كما أشرت إلى ذلك في مقدمة ما كتبته على «تبيين كذب المفتري».

(١) ومنهم أصناف المشبهة والمجسمة ، وسبب تسميتهم حشوية أن طائفة منهم حضروا مجلس الحسن البصري بالبصرة وتكلموا بالسقط عنده فقال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة ـ أي جانبها ـ فتسامع الناس ذلك وسموهم الحشوية بفتح الشين ، ويصح إسكانها ـ لقولهم بالتجسيم لأن الجسم محشو ـ راجع شفاء الغليل للشهاب الخفاجي ، وذيل لب اللباب في تحرير الأنساب للشيخ المحدث أبي العباس أحمد العجمي ، ومقدمة ما كتبنا ، على تبيين كذب المفتري. والحشوية هم الذين حادوا عن التنزيه وتقوّلوا في الله بأفهامهم المعوجة وأوهامهم الممجوجة ، وهم مهما تظاهروا باتباع السلف إنما يتابعون السلف الطالح دون السلف الصالح ولا سبيل إلى استنكار ما كان عليه السلف الصالح من إجراء ما ورد في الكتاب والسنة المشهورة في صفات الله سبحانه على اللسان ، مع القول بتنزيه الله سبحانه تنزيها عاما بموجب قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] بدون خوض في المعنى ولا زيادة على الوارد ولا إبدال ما ورد بما لم يرد. وفي ذلك تأويل إجمالي بصرف الوارد في ذات الله سبحانه عن سمات الحدوث من غير تعيين المراد وهم لم يخالفوا في أصل التنزيه الخلف الذين يعينون معنى موافقا للتنزيه بما يرشدهم إليه استعمالات العرب وأدلة المقام وقرائن الحال على أن الخلف يفوضون علم ما لم يظهر لهم وجهه كوضح الصبح إلى الله سبحانه.

فالخلاف بين الفريقين هين يسير وكلاهما منزّه ، وإنما السبيل على الذين يحملون تلك الألفاظ على المعاني المتعارفة بينهم عند إطلاقها على الخلق ويستبدلون بها ألفاظا يظنونها مرادفة لها ويستدلون بالمفاريد والمناكير والشواذ والموضوعات من الروايات. ويزيدون في الكتاب والسنة أشياء من عند أنفسهم ويجعلون الفعل الوارد صفة إلى نحو ذلك فهؤلاء يلزمون مقتضى كلامهم وهم الحشوية. فمن قال إنه استقر بذاته على العرش وينزل بذاته من العرش ، ويقعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرش معه في جنبه وإن كلامه القائم بذاته صوت وإن نزوله بالحركة والنقلة وبالذات وإن له ثقلا يثقل على حملة العرش ، وأنه متمكن بالسماء أو العرش ، وأن له جهة وحدا وغاية ومكانا ، وأن الحوادث تقوم به وأنه يماس العرش أو أحدا من خلقه ونحو ذلك من المخازي فلا نشك في زيغه وخروجه وبعده عما يجوز في الله سبحانه. وهذا مكشوف جدا فلا يمكن ستر مثل تلك المخازي بدعوى السلفية ، والذين يدينون بها هم الذين نستنكر عقائدهم ونستسخف أحلامهم ، ونذكرهم بأنهم نوابت حشوية.

الباقون على الفطرة السليمة. ولهذا كان الشافعي رضي الله عنه ينهى عن الاشتغال بعلم الكلام ويأمر بالاشتغال بالفقه فهو طريق السلامة ، ولو بقي الناس على ما كانوا عليه في زمن الصحابة كان الأولى للعلماء تجنب النظر في علم الكلام جملة ، لكن حدثت بدع أوجبت للعلماء النظر فيه لمقاومة المبتدعين ودفع شبههم حذرا من أن تزيغ بها قلوب المهتدين.

الأشعرية أعدل الفرق

والفرقة الأشعرية هم المتوسطون في ذلك وهم الغالبون من الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة وسائر الناس.

وأما المعتزلة فكانت لهم دولة في أوائل المائة الثالثة ساعدهم بعض الخلفاء ثم انخذلوا وكفى الله شرهم.

وهاتان الطائفتان الأشعرية والمعتزلة هما المتقاومتان وهما فحولة المتكلمين من أهل الإسلام ، والأشعرية أعدلهما لأنها بنت أصولها على الكتاب والسنة والعقل الصحيح.

وأما الحكمة اليونانية فالناس مكفيون شرها ، لأن أهل الإسلام كلهم يعرفون فسادها ومجانبتها للإسلام.

وأما الحشوية فهي طائفة رذيلة جهال (١) ينتسبون إلى أحمد وأحمد مبرّأ منهم. وسبب نسبتهم إليه أنه قام في دفع المعتزلة وثبت في المحنة رضي الله عنه ، نقلت عنه كليمات ما فهمها هؤلاء الجهال فاعتقدوا هذا الاعتقاد السيئ وصار المتأخر منهم يتبع المتقدم ، إلا من عصمه الله وما زالوا من حين نبغوا مستذلين ليس لهم رأس ولا من يناظر وإنما كانت لهم في كل وقت ثورات ويتعلقون ببعض أتباع الدول ويكفي الله شرهم ، وما تعلقوا بأحد إلا كانت عاقبته إلى سوء وأفسدوا اعتقاد جماعة شذوذ من الشافعية (٢) وغيرهم ولا سيما بعض المحدثين الذين نقصت عقولهم أو غلب عليها من

__________________

(١) وهم طوائف كالكرامية والبربهارية والسالمية ولابن الجوزي كتاب (منهاج الوصول إلى علم الأصول) وكتاب (دفع شبه التشبيه بكف التنزيه) أجاد الرد عليهم فيهما ، وسبق أن نشر الثاني ، ومن جملة ما يقوله ابن الجوزي فيه :

فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم

ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

وهو بديع في بابه حجة على من سايرهم من الحنابلة.

(٢) على طول القرون لكن كفى شرهم نظار أهل الحق من الشافعية ولسنا في صدد سرد أسمائهم هنا ونشير عرضا إلى بعضهم فيما نعلق على هذا الكتاب.

أضلهم فاعتقدوا أنهم يقولون بالحديث. ولقد كان أفضل المحدثين في زمانه بدمشق ابن عساكر (١) يمتنع من تحديثهم ولا يمكنهم أن يحضروا مجلسه وكان ذلك أيام نور الدين الشهيد وكانوا مستذلين غاية الذلة.

ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له فضل ذكاء واطلاع ولم يجد شيخا يهديه وهو على مذهبهم وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه ويجد أمورا بعيدة فبجسارته يلتزمها فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى (٢) وأن الله سبحانه ما زال فاعلا وأن التسلسل ليس بمحال فيما مضى كما هو فيما سيأتي وشق العصا ، وشوش عقائد المسلمين وأغرى بينهم ولم يقتصر ضرره على العقائد في علم الكلام حتى تعدى وقال إن السفر لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصية (٣) وقال إن الطلاق الثلاث لا يقع وإن

__________________

(١) وقد سبق أن نشر «تبيين كذب المفتري في الذبّ عن الأشعري» له مع مقدمة لنا عليه في بيان الحالة العامة عند البعثة النبوية ولمعة في نشأة الفرق وتعليقات على مواضع من الكتاب كنت كتبتها ففيها وفي الكتاب كثير مما يتعلق بالحشوية ، ولابن عساكر أيضا مجلس في إثبات التنزيه وآخر في نفي التشبيه ، وكتاب في (بيان وجوه التخليط في حديث الأطيط) وكتاب في (سرد الأسانيد في حديث يوم المزيد) يبين فيها وجوه الضعف في أحاديث الأطيط وروايات يوم المزيد.

(٢) اتفقت فرق المسلمين سوى الكرامية وصنوف المجسمة على أن الله سبحانه منزّه من أن تقوم به الحوادث وأن تحل به الحوادث وأن يحل في شيء من الحوادث بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة ، ودعوى أن الله لم يزل فاعلا متابعة منه للفلاسفة القائلين بسلب الاختيار عن الله سبحانه ، وبصدور العالم منه بالإيجاب ، ونسبة ذلك إلى أحمد والبخاري وغيرهما من السلف كذب صريح وتقوّل قبيح ، ودعوى أن تسلسل الحوادث في جانب الماضي غير محال لا تصدر ممن يعي ما يقول فمن تصور حوادث لا أول لها تصور أنه ما من حادث محقق ، وأن ما دخل بالفعل تحت العد والإحصاء غير متناه ، وأما من قال بحوادث لا آخر لها فهو قائل بأن حوادث المستقبل لا تنتهي إلى حادث محقق إلا وبعده حادث مقدر ، فأين دعوى عدم تناهي ما دخل تحت الوجود في جانب الماضي من دعوى عدم تناهي ما لم يدخل تحت الوجود في المستقبل؟ على أن القول بالقدم النوعي في العالم من لازمه البين عدم تناهي عدد الأرواح المكلفة فأنى يمكن حشر غير المتناهي من الأرواح وأشباحها في سطح متناه محدود على هذا التقدير؟ فيكون القائل بعدم تناهي عدد المكلّفين قائلا بنفي الحشر الجسماني بل بنفي الحشر الروحاني أيضا حيث إن هذا القائل لا يعترف بتجرد الروح فيكون أسوأ حالا من غلاة الفلاسفة النافين للحشر الجسماني وفي شواذ ذلك الزائغ كتب خاصة ترد عليه في بدعه الأصلية والفرعية ، ولاستقصاء ذلك موضع آخر.

(٣) وضبطت فتواه بخطه بهذا المعنى وثبت ذلك ثبوتا شرعيا وشهد بذلك الإمام جلال الدين القزويني صاحب التلخيص والإيضاح وألّف قاضي قضاة المالكية تقي الدين أبو عبد الله محمد الإخنائي في الرد عليه (المقالة المرضية في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية) كما ألّف في

من حلف بطلاق امرأته وحنث لا يقع عليه طلاق. واتفق العلماء على حبسه الحبس الطويل فحبسه السلطان (١) ومنع من الكتابة في الحبس وأن يدخل إليه أحد بدواة ومات في الحبس. ثم حدث من أصحابه من يشيع عقائده ويعلم مسائله ويلقي ذلك إلى الناس سرا ويكتمه (٢) جهرا فعمّ الضرر بذلك حتى وقفت في هذا الزمان على قصيدة نحو ستة آلاف بيت يذكر ناظمها فيها عقائده وعقائد غيره ويزعم بجهله أن عقائده عقائد أهل الحديث (٣). فوجدت هذه القصيدة تصنيفا في علم الكلام الذي نهى العلماء عن النظر فيه لو كان حقا ، فكيف وهي تقرير للعقائد الباطلة وبوح بها وزيادة على ذلك وهي حمل العوام على تكفير كل من سواه وسوى طائفته فهذه ثلاثة أمور هي مجامع ما تضمنته هذه القصيدة.

فالأول من الثلاثة حرام لأن النهي عن علم الكلام إن كان نهي تنزيه فيما تدعو

__________________

ـ الرد عليه مؤلف شفاء السقام في تلك المسألة بل جمع الحافظ الصلاح العلائي طرق حديث الزيارة في الرد عليه أيضا بطلب ابن الفركاح ولم يستمر على مشايعته بعد ذلك إلا مكسرو الحشوية تحت الخفاء ، وكم استتيب وأخذ خطه بالتوبة ثم نقض مواثيقه. راجع (نجم المهتدي) و (دفع الشبه) و (الدرر الكامنة).

(١) الملك الناصر محمد بن قلاوون ولم يكن له عداء شخصي نحو ابن تيمية أصلا كما اعترف بذلك أشياع ابن تيمية لكن لما رأى توالى فتنه واتفق علماء المذاهب ضده ومعهم قاضي قضاة الحنابلة لم يسعه إلا أن يصدر مرسوما لأهل دمشق ومرسوما لسائر البلدان أسوة بما أصدره بمصر ضد هذا الزائغ. ونصوص تلك المراسيم مدوّنة في (نجم المهتدي) و (عيون التواريخ) و (دفع الشبه) بألفاظ متقاربة في المعنى وفي الاطلاع عليها عبرة بالغة. وقد تليت تلك المراسيم على المنابر نصحا للأمة وإفهاما لها أن ذلك الرجل مجسم زائغ اعتقادا وعملا فلا يجوز الاغترار به.

(٢) ويظهر من ذلك أن نونية ابن القيم لم تكن تذاع في ذلك العهد إلا سرا وكفى هذا سعيا بالفساد ولا يحسبن القارئ أن ابن القيم ربما يكون تاب وأناب عن هذه العقيدة الزائغة التي احتوتها تلك القصيدة فإنه يرى في ترجمته من طبقات الحنابلة لابن رجب أن ابن رجب سمعها من لفظ ابن القيم عام وفاته وهذا من الدليل على أنه استمر على هذا المعتقد الباطل إلى أواخر عمره. وعدد أبياتها ستة آلاف بيت إلا واحدا وخمسين بيتا.

(٣) وبيّن أهل الحديث من القدرية والخوارج وصنوف الشيعة والمجسمة من كرامية وبربهارية وسالمية رجال لا يحصيهم العد كما لا يخفى على من له إلمام بعلم الرجال فليس لهم عقيدة جامعة فيكون عزو عقيدة إلى جماعة الحديث مخادعة وتمويها على العقول ، فإن كان يريد تخصيص هذا الاسم بصنوف المجسمة فهذه التسمية إنما تكون تسمية ما أنزل الله بها من سلطان ، وإنما التعويل على أهل الحديث في روايتهم الحديث فقط فيما لا يتهمون به ، وأما علم أصول الدين فله أئمة معروفون وبراهين مدوّنة في كتبهم ، وأهل الحديث المبرءون من البدع يسيرون سيرهم.

الحاجة إلى الرد على المبتدعة فيه فهو نهي تحريم فيما لا تدعو الحاجة إليه فكيف فيما هو باطل.

والثاني من الثلاثة : العلماء مختلفون في التكفير به إذا لم ينته إلى هذا الحد أما مع هذه المبالغة ففي بقاء الخلاف فيه نظر.

وأما الثالث فنحن نعلم بالقطع أن هؤلاء الطوائف الثلاثة الشافعية والمالكية والحنفية وموافقيهم من الحنابلة مسلمون ليسوا بكافرين ، فالقول بأن جميعهم كفار وحمل الناس على ذلك كيف لا يكون كفرا وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما». فالضرورة أوجبت العلم بأن بعض من كفرهم مسلم والحديث اقتضى أن يبوء بها أحدهما فيكون القائل هو الذي باء بها.

مجامع الزيغ في نونية ابن القيم

وها أنا أذكر مجامع ما تضمنته القصيدة ملخصا من غير نظم وناظمها (١) أقل من أن أذكر كلامه لكني تأسيت في ذلك بإمام الحرمين في كتابه المسمى بنقض كتاب السجزي ، والسجزي هذا كان محدثا له كتاب مترجم بمختصر البيان وجده إمام الحرمين حين جاور بمكة شرّفها الله ، اشتمل كتاب السجزي هذا على أمور منها أن القرآن حروف وأصوات. قال إمام الحرمين : وأبدى من غمرات جهله فصولا وسوى على قصبة سخافة عقله نصولا ، ومخايل الحمق في تضاعيفها مصقولة وبعثات الحقائق دونها معقولة. وقال إمام الحرمين أيضا : وهذا الجاهل الغر المتمادي في الجهل المصر ، يتطلع إلى الرتب الرفيعة بالدأب في المطاعن في الأئمة والوقيعة. وقال إمام الحرمين أيضا : صدر هذا الأحمق الباب بالمعهود من شتمه فأفّ له ولخرقه فقد والله سئمت البحث عن عواره وإبداء شناره. وقال الإمام أيضا : وقد كسا هذا التيس الأئمة صفاته. وقال الإمام أيضا : أبدى هذا الأحمق كلاما ينقض آخره أوله في الصفات وما ينبغي لمثله أن يتكلم في صفات الله تعالى على جهله وسخافة عقله. وقال الإمام أيضا : قد ذكر هذا اللعين الطريد المهين الشريد ، فصولا وزعم أن الأشعرية يكفرون

__________________

(١) وهو ابن زفيل الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية كان بمتناول يده من كتب الفرق التي كانت دمشق امتلأت بها بعد نكبة بغداد ونكبة البلاد الشرقية باستيلاء المغول عليها ما يزداد به غواية إلى غوايته وقد حشر في مؤلفاته ما لم يفهمه ولم يهضمه من أقوال ارباب النحل شأن من خاض في المسائل النظرية الخطرة من غير أستاذ رشيد فحصل في تفكيره ما يحصل في معذة الشره المتخوم فأصبحت مؤلفاته محشر الأقوال المتناقضة ولم ينخدع بها إلا من ظن أن العلم هو حشد المصطلحات من غير نظام يربط بعضها ببعض وبدون تمحيص الحق من الباطل.

بها فعليه لعائن الله تترى ، واحدة بعد أخرى ، وما رأيت جاهلا أجسر على التكفير وأسرع إلى التحكم على الأئمة من هذا الأخرق ، وتكلم السجزي في النزول والانتقال والزوال والانفصال والذهاب والمجيء فقال الإمام : ومن قال بذلك حلّ دمه وتبرّم الإمام كثيرا من كلامه معه (١).

تأسي السبكي بإمام الحرمين

في الرد على بعض جهلة أهل الحديث

وها أنا أيضا أقتدي بالإمام في كلامي مع هذا الجاهل متبرما لكن خشية على عقائد العوام تكلمت.

والسجزي الذي ردّ عليه الإمام أعرف ترجمته محدث (٢) لا يصل ناظم هذه القصيدة إلى عشرة في الحديث ولكن الإنسان يضطر إلى الكلام مع الجهّال والمبتدعين صيانة لعقائد المسلمين وليت كلامي كان مع عالم أو مع زاهد أو متحفظ في دينه صين في عرضه قاصد للحق ولكنها بلوى نسأل الله حسن عاقبتها وبعد أن كنت قصدت الاقتصار على اختصار مجامعها عنّ لي هنا أن أستوعب كلماتها لأطفئ جمراتها.

__________________

(١) وعن هذا السجزي يقول أبو جعفر اللبلي الأندلسي في فهرسته : وكذلك اللعين المعروف بالسجزي فإنه تصدّى أيضا للوقوع في أعيان الأئمة وسرج الأمة بتأليف تالف وهو على قلة مقداره وكثرة عواره ينسب أئمة الحقائق وأحبار الأمة وبحور العلوم إلى التلبيس والمراوغة والتدليس وهذا الرذل الخسيس أحقر من أن يكترث به ذما ولا يضر البحر الخضم ولغة كلب.

ما يضر البحر أمسى زاخرا

أن رمى فيه غلام بحجر

فمما ذكر هذا المنافق الحائد بجهله عن الحقائق أن من ذهب الأشعرية أن النبوة عرض من الأعراض والعرض لا يبقى زمانين وإذا مات النبي زالت نبوته وانقطعت دعوته ، وهذه من جملة حكاياته وتقولاته المستبعدة اه وسيأتي الرد على هذا الهذيان. وقد وفاه اللبلي الكيل صاعا بصاع.

(٢) ومن الغريب أن السجزيين مهما علت منزلتهم في الرواية يقل بينهم جدا من يكون طاهر الذيل ناصع الجبين من فحش التشبيه ووصمة التجسيم كما لا يخفى على من بحث مؤلفاتهم بتبصر وأرى ذلك من عدوى مرض شيخ المجسمة أبي عبد الله محمد بن كرام السجزي الذي بتقشفه كان سحر ألباب أهل سجستان وتاريخه في غاية من الشهرة. وهذا السجزي هو أبو نصر الوائلي. مؤلف الإبانة المتوفى سنة ٤٤٤ وصاحبه السعد الزنجاني بمكة مثله في التشبيه مع أنهما ينتحلان مذهب الشافعي. ومن هذا الطراز الآجري صاحب كتاب الشريعة قبلهما ويرثي لحال من يميل إلى التشبيه مع جلالة مقداره في الحديث ونحن لا نعول على الرجل إلا في العلم الذي يتقنه دون سائر العلوم فكم بين أهل الحديث من هو أنزل منزلة من العامي في علم أصول الدين والفقه وكذلك سائر العلماء في غير علومهم.

فصل

مناظرة خيالية بين المشبه والمنزه ... إلخ

قال : «جمع مجلس المذاكرة بين مثبت للصفات والعلو ومعطل» إلى أن قال : «من كلام المثبت أن كهيعص وحمعسق وق ون كلام الله حقيقة وأن الله تكلم بالقرآن العربي الذي سمعه الصحابة».

مراده بذلك أن كلام الله حرف وصوت وهذا الجاهل لا يفرق بين كلام الله واللفظ الدال عليه (١).

ثم قال : «ومن قال ليس لله في الأرض كلام فقد جحد رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» هذا الكلام يحتمل وجهين (٢) لا نطول بهما ، ثم قال : «إن الله فوق سماواته». يقول له : أين قال الله أو رسوله إنه فوق سماواته؟ وأنت قلت في صدر كلامك

__________________

(١) بل بين الكلام اللفظي والكلام النفسي وفي أوائل تفسير (روح المعاني) بسط لطيف في الكلام النفسي بحيث لا يدع شكا لمرتاب. وبعد أن انتهى الألوسي فيه من الكلام في الكلام النفسي قال : ومن أحاط بذلك اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة (الموفق) وابن قاضي الجبل والطوفي (سليمان بن عبد القوي) وأبي نصر (السجزي) وأمثالهم صرير باب أو طنين ذباب ... وقد انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولو لا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء :

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم

ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

فمن رام تقويمي فإني مقوّم

ومن رام تعويجي فإني معوج

على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفتوة وعليه الفتوى والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما اه.

(٢) لعله يريد وجود الكلام النفسي ووجود الكلام اللفظي فنفي وجود الثاني في الأرض نفي لوجود كتاب الله وشرعه في الأرض وهو كفر صراح ولا قائل بذلك من فرق المسلمين. وأما زعم وجود الكلام النفسي القائم بالله في الأرض فقول بالحلول كقول النصارى في الكلمة ، وقد كفر غير واحد من أئمة السنة ، السالمية على قولهم بأنه تعالى يقرأ على لسان كل قارئ ، تعالى الله عما يأفكون. وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك بنوع من البسط فيما علقناه على التبيين وفي (لفت اللحظ إلى ما في الاختلاف في اللفظ).

«نقول ما قاله ربنا» وأين قال ربنا : إنه بائن من خلقه. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، فقد نسبت إلى قول الله ما لم يقله ، ومن هو المعطل الذي عنيته فإنا لا نعرف اليوم أحدا معطلا يتظاهر بين المسلمين بل ولا معتزليا ولا فيلسوفا يتظاهر بقول الفلاسفة (١) فلعلك عنيت الأشعرية فإنهم القائمون اليوم من أكثر المذاهب ثم قال (٢) : «فلما سمع المعطل منه ذلك أمسك ثم أسرها في نفسه وخلا بشياطينه وبنى جنسه وأوحى بعضهم إلى بعض أصناف المكر والاحتيال وراموا أمرا يستحمدون به إلى نظرائهم من أهل البدع والضلال وعقدوا مجلسا بيتوا فيه ما لا يرضاه الله من القول وراموا استدعاء المثبت ليجعلوا نزله ما لفقوه من الكذب وتمموه فلم يتجاسروا وخذلهم المطاع فمزق ما كتبوه من المحاضر ، فسعى في عقد مجلس عند السلطان فلم يذعنوا فطالبهم بإحدى ثلاث : مناظرة فأبوا ، فدعاهم إلى مكاتبة فأبوا ، فدعاهم إلى المباهلة (٣) بين الركن والمقام فلم يجيبوا فحينئذ عقد المثبت لله مجلسا بينه وبين خصمه وما كان أهل التعطيل أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون».

هذا كله مقصوده به والله أعلم طوائف الأشعرية الشافعية والمالكية والحنفية الذين كانوا مقاومين لابن تيمية فهم الذين يسميهم المعطلة ، وكان مراده بالمثبت ابن تيمية والعاقد للمجلس فيما بينه وبين خصمه إما ابن تيمية وإما هذا النحس المتشبع بما لم يعط.

__________________

(١) هذا بالنظر إلى عهد المؤلف ، فإن العلماء كانوا قائمين بواجبهم إذ ذاك يوقفون المبتدعة الذين يحاولون الاعتداء على حريم قدس الدين عند حدهم وما ألف في الرد على هذا الزائغ وشيخه من الكتب في ذلك العصر يعد بالعشرات فضلا عن باقي أهل الضلالة. وأما اليوم فقلّما تجد بين العلماء من يسهر على السنة النقية البيضاء والدين الحنيف فاتسع المجال لتمويه الضلال. وأدعو الله سبحانه أن يوقظ أهل الشأن من سباتهم العميق ويرشدهم إلى حراسة الشرع من اعتداء المعتدين.

(٢) مما اختص به ناظم القصيدة من بين دعاة الحشوية تصوير مناظرات في مسائل يدس في غضون كلام الطرفين ما يشاء من وسائل استدراج الضعفاء إلى ضلاله وهذه طريقة الأقدمين من أعداء الدين بعثها من مرقدها هذا الناظم ليصل إلى إضلالهم بطريقة روائية خيالية فمن مشى على الاستسلام له فيما يراه من مناظراته الخيالية في هذا الكتاب وفي شفاء العليل وأعلام الموقعين ونحوها فإنه معرّض للانحلال وسنكشف الستار عن وجوه تضليله وتدجيله بحول الله وتوفيقه.

(٣) راجع الآية ٦١ من سورة آل عمران.

فصل

أمثال مضروبة للمعطل والمشبه والموحد

قال : «وهذه أمثال حسان مضروبة للمعطل والمشبه والموحد».

مقصوده بالمعطل الجماعة الأشعرية ، وبالموحد نفسه وطائفته ، والمشبه لا وجود له عنده. ومقصود غرمائه بالمشبه هو وطائفته وبالموحد أنفسهم ، والمعطل لا وجود له الآن عندهم ، لأن المعطل هو المنكر للصانع ، والمشبه هو الذي شبهه بخلقه وهذا على ظاهره لا يوجد من يقول به لكن بما يلزم عنه ، ولا شك أن لزوم التشبيه له أظهر من لزوم التعطيل لغرمائه ، وإذا امتحن الإنسان نفسه قطع بأن الأشعري ليس بمعطل وأن هذا النحس مشبه ولا ينجيه إنكاره باللسان وقد اعترف على نفسه بأن من شبه الله بخلقه فقد كفر. واندفع في ضرب الأمثلة بما لا نطول به.

فصل

من قصيدته النونية

قال في قصيدته التي أهدت الجري إليه وفرقت سهام النبال عليه :

«إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فعليك إثم الكاذب الفتان

جهم بن (١) صفوان وشيعته الألى

جحدوا صفات الخالق الديان

بل عطلوا منه السماوات العلى

والعرش أخلوه من الرّحمن»

أما جهم فمضى من سنين كثيرة ولا يعرف اليوم أحد على مذهبه فعلم أن مراد هذا الناظم بالجهمية الأشعرية من الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة فليعلم

__________________

(١) جهم بن صفوان زائغ باتفاق بين أهل السنة والمعتزلة ، يقول بنفي الخلود في الجنة وفي النار ، وتابعه ناظم القصيدة في شطر هذا المعتقد حيث يقول : لا خلود للكفار في النار تبعا لشيخه وهو كفر عند جمهور أهل الحق. وكان جهم منبوذا لم يبق بعد قتله من تابعه أصلا ومن يقال فيه من المتكلمين إنه جهمي من قبيل النبز بالألقاب ، وقد توسعت في بيان ذلك بعض توسع فيما علقته على الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة وليس بين المعتزلة فضلا عن الأشاعرة من ينفي أن الله سبحانه عالم قدير سميع بصير ... إلى آخر تلك الصفات الواردة في الكتاب والسنة المشهورة حتى يصح رميهم بجحد الصفات وجل الإله سبحانه من أن يكون له مكان يحويه فلا يقال إن السماء ظرف له ولا إن العرش مستقر ذاته فأين في كتاب الله مثل ذلك أو تفسير الاستواء بالاستقرار إنما هو قول مقاتل بن سليمان شيخ المجسمة وقول الكلبي الزائغ.

اصطلاحه وكل ما ينسبه إلى الجهمية فمراده بها هؤلاء ، والمعتزلة يشاركون الأشعرية في ذلك لكن ما منهم أحد موجود في هذه البلاد وإن كان موجودا فلا ظهور له ، فكل ما قال هذا الناظم عن جهم في هذه القصيدة فمراده ، الذي مذهبه مذهب الأشعري.

فصل

تخيل الناظم في أفعال العباد ... الخ

قال :

والعبد عندهم فليس بفاعل

بل فعله كتحرك الرجفان

كذب هذا الجاهل في قوله : إن العبد عندهم ليس بفاعل. ولكن مراده بذلك قولهم : إنه لا يخلق فعله. وليس بخالق والله سبحانه هو خالق أفعال العباد ، فاعتقد هذا الجاهل (١) بسبب ذلك أنهم يقولون إنه ليس بفاعل. وكون العبد ليس بخالق حق ، وكونه ليس بفاعل باطل ، والفاعل من قام به الفعل والفعل قائم بذات العبد ، والخالق من أوجد الفعل ولا يوجده إلا الله. وقوله : كتحرك الرجفان جهل منه فإنه لم يفرق بين الجبر ومذهب الأشعري ثم قال :

والله يصليه على ما ليس من

أفعاله حر الحميم الآن

استمر هذا الجاهل على جهله وكذبه. وكذلك قوله : «ولكن يعاقبه على أفعاله» ثم قال : «والظلم عندهم المحال لذاته» نعم إن الله لا يظلم مثقال ذرة (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصّلت : ٤٦] وكيف يتصور الظلم والكل ملكه ثم قال : «أنى ينزه عنه ويكون

__________________

(١) أقل ما يقال في هذا الناظم أنه جاهل ، فإذا طالعت ما ذكره في شفاء العليل عن كسب العبد تجده ينقل عن نظامية إمام الحرمين قوله في أفعال العباد فيسايره إلى أبعد حد ثم يتراجع فيقع في أحط دركات الجبر ثم يقع في المعتزلة وقيعة لا مزيد عليها ثم تجده يسبقهم في التجرؤ. والحاصل أنه جمّاع لآراء الناس من غير أن يعقلها على وجوهها فيتخبط تخبط من به مس ، وهو يصور مناظرات خيالية بين سني وجبري وأخرى بين سني وقدر ، في شفاء العليل يدس في خلالها أمورا ينقض بعضها بعضا وذلك كله من سوء فهمه وضغطه لذهنه بشتى الأنظار التي هو غير مستأهل لتحقيقها وتمحيص الحق من بينها فتتشوه الحقائق في ذهنه وتكتسي أسمج الصور كما هو شأن ما ينعكس في المرايا المحدبة والمقعرة وشأن من اختلت بصيرته ، نسأل الله العافية.

مدحا ذلك التنزيه» قلنا : يا جاهل اجترأت على الله وعلى عباده فلم تفرق بين الفعل والخلق وظننت بجهلك أنهما سواء وأنه لا يعاقب على فعله ، وقلت : «ما هذا بمعقول لذي الأذهان» وأي ذهن لك حتى تعقل به وأنت عن تعقّل أحكام الربوبية بمعزل؟ وهل مثلك ومثل من هو أكبر منك إلا كمثل الخفاش بالنسبة إلى ضوء النهار؟.

فصل

قال :

وكذاك قالوا ما له من حكمة (١)

هي غاية للأمر والإتقان

انظر هذه الجراءة والكذب والبهت على العلماء وما قال إنهم نسبوه إلى الله ثم قال :

«ما ثم غير مشيئة قد رجحت

مثلا على مثل بلا رجحان»

أبصر هذا الفدم البليد الفهم ساء سمعا فساء إجابة كأنه سمع كلام الأشعرية فما فهمه وظن أنهم يقولون إن الأفعال كلها سواء بالنسبة إلى كل شيء وإن المشيئة رجحت بعضها على بعض مع تساويها وإنه ما ثم غير المشيئة وجعل المشيئة هي المرجحة ولم يذكر القدرة والتبس عليه الرجحان الحاصل في الفعل بالرجحان الذي هو موجب للفعل أو باعث عليه ، ومن لا يكون اشتغل بشيء من العلوم كيف يتكلم في هذه الحقائق؟ ثم قال :

«هذا وما تلك المشيئة وصفه

بل ذاته أو فعله قولان»

__________________

(١) ولا قائل بذلك مطلقا بين فرق المسلمين ، الذين علموا من الدين بالضرورة أن الله عزيز حكيم ، وأما كون أفعال الله سبحانه غير معلّلة بالأغراض فليس من نفي الحكمة في شيء بل من قبيل التهيب والاحتراز من القول بأن هناك غرضا يحمل الله سبحانه على الفعل استحصالا لذلك الغرض الذي لا يحصل إلا بذلك الفعل. ولا يخفى أن هذا مما يجب الاحتراز منه لعدم ورود إطلاق مثل ذلك في الكتاب والسنة ولما في ذلك من الاستكمال بالغير. وأما قول محققي أهل الفقه بوجود حكم ، مصالح فيها ترجع إلى العباد سواء عقلناها أو لم نعقلها فليس فيه ما يوجب التهيب بل هو محض الصواب هذا عند القائلين بأن الله فاعل بالاختيار كما هو الحق وأما الذين يعدونه فاعلا بالإيجاب كالفلاسفة فلا يتصورون هناك لا غرضا ولا حكمة وليس المراد هنا بالوجوب الضرورة بشرط المحمول. ومن الغريب أن ابن القيم قائل بالإيجاب حتى تراه يدافع عن أن الحوادث لا أول لها ومع ذلك يرى أنها معللة بالأغراض وما هذا إلا تهاتر.

ليتني ما شرعت في الكلام مع هذا ... ينبغي أن يطالب بالقولين على هذه الصورة وبالقول بأنه ما تلك المشيئة وصفه وإنما سمع كلاما إمام من كلامهم وإما من شيخه فما فهمه هو أو ما فهمه شيخه وعبّر عنه بهذه العبارة الرديئة ، وإن أراد بهذا البيت المعتزلة فقد خلط كلام المعتزلة بكلام الأشعرية.

ثم قال :

وكلامه مذ كان غيرا كان مخلوقا له

هذا بالنسبة إلى المعتزلة ثم قال :

«قالوا وإقرار العباد بأنه

خلاقهم هو منتهى الإيمان»

لم يقولوا كذلك ، أما أولا فلأنه لا بد من الشهادتين ، وأما ثانيا فمنتهى الإيمان يشعر بالإيمان الكامل ولم يقل بهذا أحد ، وأما ثالثا فقوله «فالناس في الإيمان شيء واحد» ليس مما يحسن (١) وأما رابعا فكما ذكره عن أبي جهل وغيره (٢) أنه لم يكن فيهم منكر للخالق ، يكفي في الرد عليه أن كل من سمعه يتخذه ضحكة.

__________________

(١) لأنه إن أراد أن الناس متساوون في الإيمان فهذا باطل لأن من الناس من هو مؤمن ومن هو كافر وإن أراد أن المؤمنين متساوون في الإيمان فلا يصح ذلك أيضا فإن منهم من هو كامل الإيمان باستكمال العمل ومنهم من هو غير كامل الإيمان بإخلاله بالعمل وإن كانوا متساوين في المؤمن به وفي الجزم المنافي لتجويز النقيض ، على أن طريق حصول هذا الجزم مختلف في المؤمنين فيتفاوت إيمانهم باعتبار عدم قبوله الزوال أصلا أو قبوله الزوال ببطء أو بسرعة ، فالعامي الجازم معرّض لزوال الإيمان بأدنى تشكيك والعالم الجازم بالبراهين يمكن زوال إيمانه بطروء شبهة ، وإيمان الأنبياء لا يحتمل الزوال أصلا لأن طريق حصوله الوحي والمشاهدة.

(٢) من عبدة الأوثان واليهود والنصارى وفرعون وقارون وهامان ونحوهم. ولو تذكر ابن القيم قول يوسف عليه‌السلام ـ كما حكى القرآن الكريم ـ (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] وقول إبراهيم عليه‌السلام ـ كما حكى القرآن الكريم ـ : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦)) [الصافات : ٨٦] وقول الكفار حينما دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كلمة التوحيد ـ كما حكى القرآن الكريم ـ : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] وقولهم في التلبية (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك) لا ستحيا أن يفوه بذلك وبقوله :

هل كان فيهم منكر للخالق ال

رب العظيم مكون الأكوان

فليبشروا ما فيهم من كافر

هم عند جهم كاملو الإيمان

فأين توحيد الربوبية والألوهية من توحيد الخالقية والرازقية؟ على تقدير تسليم شمول آية توحيد الخالقية لهم بل الضمير في (ولئن سألتهم) بعيد عن العموم. ومعتقد المؤمنين : أنه لا رب ولا إله ولا خالق ولا رازق سوى الله عزوجل. وهذا هو إيمان المؤمنين على رغم تقول الزائغين المائلين إلى الخوارج المستهجنين لمعتقد المؤمنين.

فصل

قال : «وقضى ـ يعني جهما ـ وشيعته الذين هم الأشعرية بزعمه بأن الله كان معطلا ، والفعل ممتنع بلا إمكان ثم استحال وصار مقدورا له من غير أمر قام بالديان» مقصوده أن الله ما زال يفعل وهذا يستوجب (١) القول بقدم العالم وهو كفر.

فصل

استنكار الناظم إعادة المعدوم ... إلخ

قال : «وقضى الله بأن يجعل خلقه عدما ويقلبه وجودا ويعيد ذا المعدوم. هذا المعاد وذلك المبدأ لذي جهم وقد نسبوه للقرآن هذا الذي قاد ابن سينا والألى قالوا مقالته إلى الكفران لم تقبل الأذهان ذا ، وتوهموا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عناه بالإيمان ، هذا كتاب الله أنى قاله أو عبده أو صحبه أو تابع ، بل صرح الوحي بأنه مغير الأكوان وتحدث الأرض وتشهد أفيشهد العدم».

أجمع المسلمون على أن الله قادر على أن يعدم الخلق ثم يعيده وعلى أن إنكار ذلك كفر وجمهور المسلمين على أن الواقع ذلك لقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦)) [الرّحمن : ٢٦] و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقيل إن الأجسام تتفرق ثم تعاد وقوله (أفيشهد العدم) أنحن قلنا تشهد وهي عدم إنما تشهد بعد الإعادة فانظر كلام هذا الجاهل وقوله (لم تقبل الأذهان ذا) إن كان ينكر إمكانه (وكونه مقدورا لله) فهو كافر وإن لم ينكر إلا وقوعه فهو مذهب ضعيف. ثم قال «هذا الذي جاء الكتاب وسنة الهادي به ، ما قال إن الله يعدم خلقه طرا كقول الجاهل الحيران» أقول : قد قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] ولو كانت الإعادة جمع الأجزاء بعد تفريقها أو الإتيان بغيرها لم تنطبق على الآية فإن الآية تقتضي أن جميع ما بدأ به الخلق يعيده وإنما يكون كذلك إذ أعدمه ثم أعاده بعينه ، والله قادر على ذلك. وقال تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : ٢٧] وإنما كان أهون بالنسبة إلى الشاهد

__________________

(١) وهذا الاستلزام بيّن وما يقال من أن لازم المذهب ليس بمذهب إنما هو فيما إذا كان اللزوم غير بيّن ، فاللازم البيّن لمذهب العاقل مذهب له وأما من يقول بملزوم مع نفيه للازمه البيّن فلا يعد هذا اللازم مذهبا له لكن يسقطه هذا النفي من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام وهذا هو التحقيق في لازم المذهب فيدور أمر القائل بما يستلزم الكفر لزوما بيّنا بين أن يكون كافرا أو حمارا.

لأن الإعادة في الشاهد فعل على مثال وهو أهون من الابتداء لأنه فعل على غير مثال مع اشتراكهما في الإخراج من العدم إلى الوجود. وعند هذا المتخلف ما أخرج المعاد من العدم إلى الوجود بل من صفة إلى صفة يتعالى الله عن قوله فهذا القول منه بما دلّ عليه من أن الإبراز من العدم إلى الوجود في الإعادة غير مقدور ، كفر إلا إذا تأول على الوقوع مع الموافقة على الإمكان وليس ظاهر الكلام ففي قبول قوله إذا ادعاه نظر لأن هذا يتكرر وتكرير هذه الأمور يشبه الزندقة.

فصل

زعم الناظم قيام الله بالحوادث

قال : «وقضى بأن الله ليس بفاعل فعلا يقوم (١) به بلا برهان» مقصود الناظم أن الله يفعل فعلا في ذاته فيكون محلا للحوادث ، تعالى الله عن قوله ، فنسب إلى جهم خلاف قوله وأنه قول بلا برهان. وهذا الناظم لا يعرف حقيقة البرهان ثم قال : «والجبر مذهبه» إن أراد نفس جهم فهو ليس بموجود والكلام معه ضياع ، وإن أراد الأشعري فقد كذب في قوله (إن الجبر مذهبه) ثم قال : «لكنهم حملوا ذنوبهم على رب العباد» هذا كذب أيضا عليهم فإن الجبرية يقولون إن الله تعالى يعذب من يشاء بذنب وبغير ذنب ، له ذلك (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] وقوله :

«وتبدءوا منها وقالوا إنها

أفعاله ما حيلة الإنسان»

__________________

(١) قال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر البغدادي في كتاب (الأسماء والصفات) : إن الأشعري وأكثر المتكلمين قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرا أو أدّت إلى كفر ، كمن زعم أن لمعبوده صورة أو أن له حدّا ونهاية أو أنه يجوز عليه الحركة والسكون ... ولا إشكال لذي لب في تكفير الكرامية مجسمة خراسان في قولهم إنه تعالى جسم له حد ونهاية من تحته وأنه مماس لعرشه وأنه محل الحوادث وأنه يحدث فيه قوله وإرادته اه (راجع الفتاوى الحلبيات في أجوبة المؤلف عن ٦٤ مسألة سأله عنها الشهاب الأذرعي) وكثيرا ما ترى الناظم يلهج بقيام الأفعال الحادثة بالله تعالى وينطق بلوازم الجسمية والتشبيه بكل صراحة وفي مثله قال القائل :

كم تزرع التشبيه في

سنخ القلوب فما انزرع

فاهجر دمشق وأهلها

واسكن ببصرى أو زرع

فهناك يمكن أن يص

دق ما تقول ويستمع

وحق أمصار المسلمين أن لا تروج فيها أمثال تلك الأباطيل ، وإن ترج فإنما تروج في مثل بصرى بلد ابن زكنون أو زرع بلد الناظم أو تلك القفار التي لا يشع فيها نور غير نور الشمس.

ما يتبرأ منها على هذه الصورة إلا ملحد ، والذي يعتقد ذلك يقول إنه تعالى يفعل ما يشاء وأطال الناظم في هذا كثيرا بجهل وصبية أو تقليد لمن هو مثله ثم قال :

«وكذاك أفعال المهيمن لم تقم

أيضا به خوفا من الحدثان

فإذا جمعت مقالتيه أنتجا

كذبا (وزورا واضح البهتان)»

يعني أن فعل العبد فعل الله وفعل الله ما هو في ذاته إنتاجا بجهله ما يقوله وهو قوله :

«فهناك لا خلق ولا أمر ولا

وحي ولا تكليف عبد فان»

ما هذه إلا قحة وبلادة يأخذ ما يتوهمه لازما فيستنتج وينكر على الناس إلزامه التجسيم اللازم ، ثم قال :

«فانظر إلى تعطيله الأوصاف (١) وال

أفعال والأسماء للرحمن»

يا جاهل من قال بحدوث الأفعال كيف يلزمه التعطيل؟ ثم قال :

«ما ذا الذي في ضمن ذا التعطيل

نفى ومن جحد ومن كفران»

إذا رجعنا إلى الخلاف بينك وبينه وجدناك كاذبا عليه ليس في القول بحدوث الأفعال لا نفي ولا جحود ولا كفران ، ثم قال :

«لكنه أبدى المقالة هكذا

في قالب التنزيه للرحمن»

«وأتى إلى الكفر العظيم فصاغه

عجلا ليفتن أمة الثيران»

الله عند لسان كل قائل. الرجل إنما قال ذلك في قالب التنزيه ولم نعلم نحن باطنه فمن أين لك أنه قصد خلافه وصاغ الكفر عجلا ثم قال :

«فرآه ثيران الورى فأصابهم

كمصاب إخوتهم قديم زمان»

__________________

(١) والناظم المسكين قائل بحوادث لا أول لها انخداعا منه بشبه أوردها الفلاسفة في بحث الحدوث غير متصور اتصاف الله سبحانه بصفاته العليا قبل صدور الأفعال منه تعالى. واستنكار شيخه «كان الله ولم يكن معه شيء» مما استبشعه ابن حجر في فتح الباري جد الاستبشاع. وحدوث الأفعال فيما لا يزال لا يلزم منه تعطيل الصفات أصلا لا في زمن حدوث الأفعال ولا في غيره وهو تعالى سريع الحساب وشديد العقاب قبل خلق الكون وقبل النشور وهل يتصور عاقل أن يحاسب الله خلقه أو يعاقبه قبل أن يخلقهم؟ وهذا يهد مزاعم الناظم الذي يجري الصفات على مجرى واحد ، فالله القادر مختار يفعل ما يشاء متى شاء.

إن أراد طائفة لا وجود لها فما في ذكرها من فائدة ، وإن أراد خصماءه من الأشعرية ونحوهم فيا لها من مصيبة جعلهم ثيرانا إخوة اليهود ثم قال :

«عجلان قد فتنا العباد بصوته

إحداهما وبحرفه ذا الثاني»

وذكر أبياتا إلى آخرها ، والله أعلم أنه يقصد بها ربط قلوب الناس على أنه لا مسلم إلا هو وطائفته وسائر الناس كفار كاليهود الذين عبدوا العجل فيا ترى من أحق بشبه من عبد العجل؟ المجسم أم غيره؟

فصل

ثم قال :

«يا أيها الرجل المريد نجاته

(اسمع مقالة ناصح معوان)

واضرب بسيف الوحي كل معطل

ضرب المجاهد فوق كل بنان

«من ذا يبارز فليقدم نفسه

أو من يسابق يبد في الميدان»

ويلك من أنت؟ أو أنت تعرف المبارزة أو حضرت قط مبارزة أو ميدانا؟ ثم قال :

«لا تخش من كيد العدو ومكرهم

فقتالهم بالكذب والبهتان

فجنود أتباع الرسول ملائك

وجنودهم فعساكر الشيطان»

انظر كيف يقول عن خصومه وهم هداة العالم إنهم عساكر الشيطان وإن قتالهم بالكذب والبهتان ثم قال : «فإذا رأيت عصابة الإسلام قد وافت» يعني عصابة طائفته فانظر دلالته على كفر غيره «فإذا دعوك لغير حكمهما» يعني الكتاب والسنة «فلا سمعا لداعي الكفر والعصيان» فانظر إلى إيهامه العوام أن خصومه يدعون إلى غير الكتاب والسنة. ثم قال :

«واسمع نصيحة من له خبر بما

عند الورى من كثرة الجولان

ما عندهم والله خير غير ما

أخذوه عمن جاء بالقرآن»

نعم ولكنهم فهموه وأنت ما فهمته ثم قال :

«والكل بعد فبدعة أو فرية

أو بحث تشكيك ورأي فلان»

كأنه يصف طائفته.

فصل

عقد مجلس خيالي .. كلامه في وحدة الوجود

وهذا أول عقد مجلس التحكيم. قال :

واحكم إذا في رفقة قد سافروا

يبغون فاطر هذه الأكوان

فترافقوا في سيرهم وتفارقوا

عند افتراق الطرق بالحيران

فأتى فريق ثم قال وجدته

هذا الوجود بعينه وعيان

فهو السماء بعينها وهو الغمام بعينه وهو الهواء بعينه ، هذي بسائطه ومنه تركبت هذي المظاهر (١) يلبسها ويخلعها وتكثر الموجود كالأعضاء في المحسوس أو كالقوى في النفس. هذه مقالة ، أو كتكثر الأنواع في جنس فيكون كليا وجزئياته هذا الوجود (٢)

__________________

(١) فتكون المظاهر على ما صوّره الناظم محلا له تعالى ، تعالى الله عن ذلك ، وأما كون الشيء مجلى لشيء فلا يفيد كونه محلا له ، فإن الظاهر في المرآة مثلا خارج عنها بذاته قطعا بخلاف الحال في محل ، فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول فإن الظهور يجامع التنزيه بخلاف الحلول عند أشياع الشيخ الأكبر ، وأما كونه كلّا والكون جزءا له على ما ذكره الناظم فعلى خلاف ما اشتهر عنهم أن العالم أعراض مجتمعة في عين واحد كالثلج مع الماء ، تعالى الله عما يأفكون ، والواجب تعالى عندهم هو الوجود المحض المجرد عن الماهية القائم بذاته المتعين بذاته المطلق حتى عن قيد الإطلاق بمعنى أنه واحد شخصي موجود بوجود هو نفسه فلا يكون المطلق عندهم بمعنى الكلي حتى يرد على ذلك ما أورده السعد في شرح المقاصد من تسعة أوجه ، وأول من نطق بوحدة الوجود في الإسلام ـ فيما نعلم ـ هو جهم بن صفوان ، ولذلك ذهب إلى الجبر ، فكم فتح هذا الرأي من أبواب للإباحة والزندقة على شرار الخلق ، وإما القول بأن الممكن الوجود كلا موجود بالنظر إلى واجب الوجود لاحتياجه إليه بدءا ودواما فليس من الخطر في شيء كالقول بأن ذلك حالة خيالية تطرأ للسالك المقبل إلى الله بكليته ثم تنجلي كما ذكره السعد في شرح النسفية والناظم في كثير من كتبه ومن الصوفية من يتصور مسألة الوجود بحيث لا يخل بالتكليف والتنزيه ويقول إنه طور وراء طور العقل ولا كلام لنا فيما هو وراء طور العقل.

(٢) ولا وجود للكلي إلا في ضمن جزئياته فيكون الواجب هو العالم وهو عين مذهب الطبيعيين على تصوير الناظم خذلهم الله. على أن هذا التصوير يخالف ما قرره ابن سبعين في بدء العرف فليراجع. وترى شيخ الناظم ينسب إلى الصدر القونوي القول بأنه الموجود المطلق لا بشرط شيء وإلى ابن سينا القول بأنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق فيعده نافيا للصانع باعتبار أن ما هو بشرط الإطلاق لا وجود له إلا في الأذهان ، لكن الفلاسفة ، ومنهم ابن سينا ، يرون أن الواجب هو الوجود المقيد بقيد التجرد ، بمعنى اللاعروض ، وهو مبدأ الكون كله ، فعلم أن شيخ الناظم لم يحك كلام ابن سينا على الوجه ، وتغابى عن فهمه كما سبق مثل ذلك. ورأى الصدر القونوي يظهر من مفتاحه. والحاصل أن بحث وحدة الوجود بحث خطر متشعب والموفق من وقاه الله شره ، وممن توسع في رد ذلك القاضي عضد الدين في المواقف.

فهذان قولان الأول نص الفصوص وما بعده قول ابن سبعين وما القولان عند العفيف التلمساني الذي هو غاية في الكفر إلا من الأغلاط في حس وفي وهم وتلك طبيعة الإنسان والكل شيء واحد» وأطال في أقوالهم.

فصل

قال :

«وأتى فريق ثم قال وجدته

بالذات موجودا بكل (١) مكان

هو كالهواء بعينه لا عينه

ملأ الخلاء ولا يرى بعيان

والقوم ما صانوه عن بئر ولا

قبر ولا حش ولا أعطان

وعليهم رد الأئمة أحمد

وصحابه من كل ذي عرفان

فهم الخصوم لكل صاحب سنة

وهم الخصوم لمنزل القرآن»

هؤلاء أيضا ليس علينا منهم.

فصل

ثم قال :

«وأتى فريق (٢) ثم قارب وصفه

هذا ولكن جد في الكفران

فأسر قول معطل ومكذب

في قالب التنزيه للرحمن

__________________

(١) وهذا بظاهره قول بالتجسيم كقول من يقول إنه مستقر على العرش ، وإن كان مراده أنه لا يوصف بمكان دون مكان ، بل نسبته إلى الأمكنة على حد سواء لتعاليه عن الجهات ، فهو قول متكلمي أهل السنة والمعتزلة ، ولعل هذا اللفظ لفظ من حكى هذا المذهب تشنيعا ، وأما إن كان بيانا لمذهب جهم على خلل في اللفظ فهو داخل في الفريق القائل بوحدة الوجود ، فلا وجه لإفراده بكل حال. ونسبة كتاب (الرد على الجهمية) الذي فيه الرد على هؤلاء إلى أحمد نسبة كاذبة ، وراويه الخضر بن المثنى مجهول ، وقد أنصف الذهبي حيث قال : وفي النفس شيء من صحة هذه النسبة. ويقول الناظم في عزوه : إن الخضر المذكور عرفه الخلال. لكن لو كان بمثل هذا القول تزول الجهالة لما وجد بين الرواة مجهول أصلا ، على أن نظرنا إلى الخلال وغلامه ليس كنظر الناظم وشيخه إليهما فضلا عمن دونهما في السند من مقلدة الحشوية بل في متن (الرد على الجهمية) ما يجل مقدار أحمد عن أن يفوه بمثله جزما.

(٢) وهم أهل السنة خصوم كل مجسم وزائغ ، وهم يقولون إنه لا يقال إن الله في داخل العالم ، كما لا يقال إنه في خارج العالم ، ولا إنه مستقر على العرش لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة ، ولأن ذلك شأن الأجسام ، ومن جوّز في معبوده الدخول والخروج والاستقرار فهو عابد وثن ، ويؤيدهم البراهين والآيات الواردة في التنزيه. وليس للمشبهة شبه شبهة في ذلك كما سيأتي رغم أنف هذا الناظم الزائغ.

إذا قال ليس بداخل فينا ولا

هو خارج عن جملة الأكوان

بل قال ليس ببائن عنها ولا

فيها ولا هو عينها ببيان

كلا ولا فوق السماوات العلى

والعرش من رب ولا رحمان

والعرش ليس عليه معبود سوى

العدم الذي لا شيء في الأعيان

بل حظه من ربه حظ الثرى

منه وحظ قواعد البنيان

لو كان فوق العرش كان كهذه ال

أجسام سبحان العظيم الشأن»

يعني أن هذا من قولهم ، ثم قال :

«ولقد وجدت لفاضل منهم مقا

ما قامه في الناس منذ زمان»

في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس» قد كان يونس في قرار البحر ومحمد صعد السماء وجاوز السبع الطباق ، وكلاهما في قربه من ربه سبحانه إذ ذاك مستويان.

فاحمد إلهك أيها السني إذ

عافاك من تحريف ذي بهتان

والله ما يرضى بهذا خائف

من ربه أمسى على الإيمان

هذا هو الإلحاد حقا بل

هو التحريف محضا أبرد الهذيان

والله ما بلى المجسم قط ذي ال

بلوى ولا أمسي بذي الخذلان

أمثال ذا التأويل أفسد هذه ال

أديان حين سرى إلى الأديان

والفاضل الذي أشار إليه (١) .... وتفسيره للحديث المذكور بما قاله صحيح ،

__________________

(١) وهنا بياض في أصل المؤلف والمراد بذلك الفاضل هو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم ابن فرح القرطبي في تذكرته رواية عن القاضي أبي بكر بن العربي عن غير واحد من أصحاب إمام الحرمين عنه ما معناه : أن ذا حاجة حضر عنده وشكا من دين ركبه فأشار إليه بالمكث لعل الله يفرج عنه وفي أثناء ذلك حضر غني يسأله عن الحجة في تنزه الله سبحانه عن الجهة فقال إمام الحرمين : الأدلة على هذا كثيرة جدا ، منها نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفضيله على يونس عليه‌السلام. فصعب فهم وجه دلالة ذلك على الحضور ، فسأله السائل عن وجه الدلالة فقال إمام الحرمين : حتى تقضي حاجة هذا ـ مشيرا إلى صاحب الدين ـ فتولى قضاء دينه ، ثم أجاب الإمام قائلا : إن هذا الحديث يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عند سدرة المنتهى لم يكن بأقرب إلى الله من يونس عليه‌السلام وهو في بطن الحوت في قعر البحر ، فدل ذلك على أنه تعالى منزّه عن الجهات. وإلا لما صحّ النهي عن التفضيل ، فاستحسنه الحاضرون غاية الاستحسان ولفظ البخاري «لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى» والمعنى واحد وذكره القاضي عياض في الشفاء على لفظ المؤلف ، ومن أطلق الكفر على إثبات الجهة في غاية من الكثرة بين الأئمة ، ومن الدليل على تنزه الله سبحانه عن الجهة حديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» أخرجه النسائي وغيره.

وقد سبقه إليه إمام دار الهجرة نجم العلماء أمير المؤمنين في الحديث ، عالم المدينة أبو عبد الله مالك بن أنس حكى ذلك الفقيه الإمام العلامة قاضي قضاة الإسكندرية ناصر الدين بن المنير المالكي (١) الفقيه المفسر النحوي الأصولي الخطيب الأديب البارع في علوم كثيرة في كتابه (المقتفي في شرف المصطفى) لما تكلم على الجهة وقرر نفيها ، قال : ولهذا المعنى أشار مالك رحمه‌الله في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى» فقال مالك : إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع إلى العرش ، ويونس عليه‌السلام هبط إلى قابوس البحر ، ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جلّ جلاله نسبة واحدة! ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه الصلاة والسلام أقرب من يونس بن متى وأفضل مكانا ، ولما نهى عن ذلك. ثم أخذ الفقيه ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لأن العرش في الرفيق الأعلى ، فهو أفضل من السفل ، فالفضل بالمكانة لا بالمكان ، فانظر أن مالكا رضي الله عنه ـ وناهيك به ـ قد فسر الحديث بما قال هذا المتخلف النحس ، إنه إلحاد ، فهو الملحد عليه لعنة الله (٢) ما أوقحه وما أكثر تجرأه؟! أخزاه الله.

فصل

الفوقية الحسية ... إلخ

ثم قال :

وأتى فريق ثم قارب وصفه

هذا وزاد عليه في الميزان

قال اسمعوا يا قوم لا تلهيكم

هذي الأماني هن شر أماني

أتعبت راحلتي وفتشت ، ما دلني أحد عليه إلا طوائف بالحديث تمسكت تعزى

__________________

(١) صاحب «البحر الكبير في نخب التفسير» الذي يقول عنه بعض المحققين إنه لم يؤلف في التفسير مثله وهو من مفاخر المالكية في القرن السابع بل من مفاخر علماء الإسلام طرا ، ويوجد بدار الكتب المصرية جزء من هذا التفسير وكتابه المقتفي يتوسع في بيان الإسراء.

(٢) ترى المؤلف على ورعه البالغ يستنزل اللعنات على الناظم في كثير من مواضع هذا الكتاب ، وهو يستحق تلك اللعنات من حيث خروجه على معتقد المسلمين بتلك المخازي ، لكن الخاتمة مجهولة ، فالأولى كف اللسان الآن عن اللعن. وأما استنزل المؤلف اللعنة عليه فكان في حياة الناظم وهو يمضي على زيغه وإضلاله عامله الله بعدله.

مذاهبها إلى القرآن ، قالوا : الذي تبغيه فوق عباده (١) فوق السماء وفوق كل مكان وهو الذي حقا على العرش استوى وإليه يصعد كل قول طيب وإليه يرفع سعي ذي الشكران ، والروح والأملاك منه تنزلت وإليه تعرج وإليه أيدي السائلين توجهت ، وإليه قد عرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإليك قد رفع المسيح حقيقة وإليه يصعد روح كل مصدق ، لكن أولو التعطيل منهم أصبحوا مرضى بداء الجهل والخذلان.

تسمية الناظم أهل الحق بحزب جنكز خان

فسألت عنهم رفقتي أصحاب جهم حزب (٢) جنكسخان. من هؤلاء؟ قال مشبهة

__________________

(١) والوارد في القرآن الكريم (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] ومن الخرق أن يظن من قوله تعالى عن القبط : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف : ١٢٧] ركوب القبط على أكتاف بني إسرائيل مع إمكان ركوب جسم على جسم ، وكيف يتصور ذلك في الله تعالى المنزّه عن الجسم ولوازم الجسمية واعتبار ذات الله فوق عباده فوقية مكانية إلحاد ليس من مدلول الآية في شيء وكون ذاته جلّ جلاله فوق إحدى السماوات فوقية مكانية وفوق كل مكان فوقية مكانية مثل ما سبق في الزيغ ، وأين في القرآن ما يوهم ذلك؟ على أن القول الأخير موافقة منه لمن يقول إن ذاته جلّ شأنه بكل مكان وكفى هذا تهاترا. وإن كان يريد بالاستواء الاستقرار تبعا لمقاتل بن سليمان شيخ المجسمة فقد استعجمت عليه الآية الكريمة وتباعد عن بلاغتها أيما تباعد وقد أوضحت ذلك في (لفت اللحظ إلى ما في الاختلاف في اللفظ) ونسبة الصعود إلى الأعراض والمعاني من الدليل في أول نظر على أنه مجاز من القبول وما ذا من نزول الملائكة من السماوات وعروجهم إليها. وإليه تعالى قصد السائلين ، لكن رفعهم الأيدي إلى السماء ليس في شيء من الدلالة على استقرار وجود ذاته في السماء وإنما ذلك لمجرد أن السماء قبلة الدعاء ومنزل الأنوار والأمطار والخيرات والبركات (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) [الذّاريات : ٢٢] وسمت الرأس مما يتبدل آنا فآنا كما يعرف ذلك صغار التلاميذ في المدارس ، فهل ذات معبود الناظم في تنقل دائم لا يبرح سمت رأسه؟! وما حال سائر الداعين في أقطار الأرض؟ وهذا هو الجهل المطبق. لم يكن إسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليغشى مكان الله ـ سبحانه عن المكان ـ بل أسرى به ربه ليريه من آياته الكبرى كما نصّ على ذلك القرآن ومقام عيسى عليه‌السلام يظهر من حديث المعراج ، فويح الناظم ما أجهله بالسنة ، نعم يوجد بين النصارى من يزعم أن الابن رفع إلى السماء وجلس في جنب أبيه ، تعالى الله عما يقول المجسمة وإخوانهم النصارى واليهود علوا كبيرا ، وصعود الأرواح إلى السماء من الذي يراه صالحا لاتخاذه دليلا على التجسيم؟.

(٢) انظر هذا الحشوي كيف يجعل أهل السنة المنزّهين لله عن الجسم والجسمانيات من حزب جنكزخان الذي اكتسح معالم الإسلام من بلاد الصين إلى حدود الشام غربا وإلى نهر ولجا وما والاها من بلاد البلغار القديم شمالا ذلك الكافر العريق في الكفر ، المسود لتاريخ البشرية بعظائمه الهمجية. ولم تزل أعين المسلمين تفيض دما على تلك الكوارث التي قضت على تلك العلوم الزاهرة وعلى هؤلاء العلماء النبهاء حرّاس الشريعة الغرّاء ، حتى أصبح مثل النظام يجد

مجسمة (١) فلا تسمع ترابهم والعنهم واحكم بسفك دمائهم فهم أضل من اليهود والنصارى ، واحذر تجادلهم ب «قال الله وقال الرسول» وهم أولى به ، فإذا ابتليت بهم فغالطهم على التأويل للأخبار والقرآن ، وعلى التكذيب للآحاد.

هذان أصلان أوصى بهما أشياخنا أشياخهم ، وإذا اجتمعت بهم في مجلس فابدأ بإيراد وشغل زمان لا يملكوه عليك بالآثار وتفسير القرآن ، فإن وافقت صرت مثلهم ، وإن عارضت صرت زنديقا كافرا ، وإن سكت يقال جاهل ، فابدأ ولو بالفشر والهذيان

__________________

ـ مجالا للكلام ، بمثل هذه المخازي ، كأنه وشيخه كانا يحاولان القضاء على البقية الباقية من الإسلام ، ومن علوم الإسلام ، إتماما لما لم يتم بأيدي المغول ، لكنهما قضيا على أنفسهما ومداركهما قبل أن يقضيا على السنة باسم السنة وعلى عقول الناس باسم النظر عاملهما الله سبحانه بعدله.

(١) يسعى الناظم بكل قواه في تهوين أمر التجسيم أسوة بشيخه ، لكن القائلين بقدم الجسم طائفتان ليس بين طوائف البشر أسخف أحلاما من كلتا الطائفتين. إحداهما الطبيعيون وقد تسمى الملاحدة والزنادقة والدهرية والمعطلة وهم القائلون بنفي الصانع ، وهم كما يقول المطهر المقدسي أقل الناس عددا وأفيلهم رأيا ، وأشرهم حالا وأوضعهم منزلة ، يقولون بقدم أعيان العالم والأجسام وتولد النبات والحيوان من الطبائع باختلاف الأزمنة والثانية المجسمة وقد تسمى الحشوية والمشبهة على اختلاف بينهم فيما يختلقونه في الله من السخافات والحماقات ، تعالى الله عما يصفون ، وهم مشاركون لهؤلاء في القول بجسم قديم قدما ذاتيا إلا أنهم يؤلهونه ويتعبدونه بخلاف هؤلاء ، سواء أطلقوا لفظ الجسم عليه أم لم يطلقوا بعد أن قالوا بمعنى الجسم الشاغل للفراغ ، الذاهب في الجهات ، حيث خاضوا في ذات الله سبحانه بعقولهم الضئيلة التي تعجز عن اكتناه ذوات المخلوقات وإنما علمهم بالمخلوقات عبارة عما تخيلوه بشأنها من إحساسهم بأغراضها ، فكيف يجترءون على تخيل الحوم حول حمى الخالق جلّ وعلا.

قال ابن تيمية في التأسيس في رد أساس التقديس المحفوظ في ظاهرية دمشق في ضمن المجلد رقم ٢٥ من الكواكب الدراري ، وهذا الكتاب مخبأة ووكر لكتبهم في التجسيم وقد بينت ذلك فيما علقته على المصعد الأحمد (ص ٣١) : «فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع لم ينطق بأن الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة اه».

وقال في موضع آخر منه : «قلتم ليس هو بجسم ، ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شيء وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية ، تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناهى ... فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة اه». وفي ذلك عبر للمعتبر ، وهل يتصور لمارق أن يكون أصرح من هذا بين قوم مسلمين؟.

هذا الذي ـ والله (١) ـ وصانا به أشياخنا فرجعت عن سفري وقلت لصاحبي : عطّل ركابك ما ثمّ شيء غير ذي الأكوان ، لو كان للأكوان رب خالق كان المجسم صاحب البرهان أو كان رب بائن عن ذا الورى ، كان المجسم صاحب الإيمان. فدع التكاليف واخلع عذارك ما ثم فوق العرش من رب ، ولم يتكلم الرّحمن بالقرآن لو كان فوق العرش رب لزم التحيز ولو كان القرآن عين كلامه حرفا وصوتا (٢) كان ذا جثمان ، فإذا

__________________

(١) ثم انظر كيف يحلف كذبا على هذه المحاورة الخيالية فهل يتصور أن يصدر منه مثل ذلك لو كان يخاف مقام ربه في ذلك اليوم الرهيب ، وسيأتي ما يقضي على مزاعمه في استقرار معبوده على العرش ـ جلّ إله المسلمين عن مثل هذه الوثنية ـ كما سيأتي القضاء على مزاعمه في الحرف والصوت قضاء لا نهوض لها بعده إن شاء الله تعالى.

(٢) واعتقاد الصوت في كلام الله خطر جدا ، وكان الإمام عز الدين بن عبد السلام ابتلي بالمبتدعة الصوتية في عهد الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل الأيوبي ، وكان الملك الأشرف هذا يميل إليهم ويعتقد فيهم أنهم على صواب حيث كان يخالطهم منذ صغره حتى منع العز المذكور من الإفتاء بسبب هذه المسألة كما هو مشروح ، مفصّل في مطلب الأديب لأبي بكر بن علي الحسيني السيوطي ، وفي طبقات التاج ابن السبكي وطبقات التقي التميمي ، وفي خلاصة الكلام في مسألة الكلام للشيخ محمد عبد اللطيف بن العز المذكور ـ وقد نقلت الرسالة الأخيرة من خط المؤلف ـ واستمر منعه من الإفتاء إلى أن ركب الإمام الكبير جمال الدين الحصيري ـ شارح الجامع الكبير ، وشيخ الفقهاء في عصره ـ وتوجه إلى الملك الأشرف وأفهمه أن الحق مع العز وقال له إن ما في فتياه هو اعتقاد المسلمين وكل ما فيها صحيح ومن خالف ذلك فهو حمار. وكان الجمال الحصيري عظيم المنزلة عند الملك لجلالة قدره عند جماهير أهل العلم ، فأطلق الإفتاء للعز ومنع الصوتية من مزاعم الحرف والصوت في كلام الله سبحانه.

فتاوى في الرد على القائلين بالحرف والصوت

وأرى من النصح للمسلمين أن أنقل هنا أجوبة الإمام العز بن عبد السلام والإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن الحاجب المالكي ، والإمام علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي مؤلف «جمال القراء وكمال الإقراء» حينما استفتوا في هذه المسألة. ومكانتهم السامية في العلم معروفة.

ونص السؤال والأجوبة كما هو مدوّن في «نجم المهتدي ورجم المعتدي» للفخر بن المعلم القرشي ، كالآتي :

صورة السؤال : ما يقول السادة الفقهاء رضي الله عنهم في كلام الله القديم القائم بذاته؟ هل يجوز أن يقال إنه عين صوت القارئ وحروفه المقطعة ، وعين الأشكال التي يصورها الكاتب في المصحف؟ وهل يجوز أن يقال إن كلام الله القديم القائم بذاته حروف وأصوات على المعنى الظاهر فيها وإنه عين ما جعله الله معجزة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وما الذي يجب على من اعتقد جميع ذلك وأذاعه وغربه ضعفاء المسلمين وهل يحل للعلماء المعتبرين إذا علموا أن ذلك قد ـ

__________________

ـ شاع أن يسكتوا عن بيان الحق في ذلك وإظهاره والرد على من أظهر ذلك واعتقده؟ أفتونا مأجورين.

صورة جواب الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه‌الله :

القرآن كلام الله صفة من صفاته قديم بقدمه ، ليس بحروف ولا أصوات ومن زعم أن الوصف القديم هو عين أصوت القارئين وكتابة الكاتبين فقد ألحد في الدين وخالف إجماع المسلمين ، بل إجماع العقلاء من غير أهل الدين ولا يحل للعلماء كتمان الحق ولا ترك البدع سارية في المسلمين ، ويجب على ولاة الأمر إعانة العلماء المنزهين الموحدين ، وقمع المبتدعة المشبهين المجسمين ، ومن زعم أن المعجزة قديمة فقد جهل حقيقتها ، ولا يحل لولاة الأمر تمكين أمثال هؤلاء من إفساد عقائد المسلمين ، ويجب عليهم أن يلزمهم بتصحيح عقائدهم بمباحثة العلماء المعتبرين ، فإن لم يفعلوا ألجئوا إلى ذلك بالحبس والضرب والتعزير ، والله أعلم.

كتبه عبد العزيز بن عبد السلام

وصورة جواب الإمام جمال الذين أبي عمرو عثمان بن الحاجب المالكي :

من زعم أن أصوات القارئ وحروفه المتقطعة والأشكال التي يصورها الكاتب في المصحف هي نفس كلام الله تعالى القديم فقد ارتكب بدعة عظيمة وخالف الضرورة وسقطت مكالمته في المناظرة فيه ، ولا يستقيم أن يقال إن كلام الله تعالى القديم القائم بذاته هو الذي جعله الله معجزة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك يعلم بأدنى نظر ، وإذا شاع ذلك أو سئل عنه العلماء وجب عليهم بيان الحق في ذلك وإظهاره ويجب على من له الأمر وفقه الله أخذ من يعتقد ذلك ويغريه ضعفاء المسلمين وزجره وتأديبه وحبسه عن مخالطة من يخاف منه إضلاله إلى أن يظهر توبته عن اعتقاد مثل هذه الخرافات التي تأباها العقول السليمة ، والله أعلم.

كتبه عثمان بن أبي بكر الحاجب

وصورة جواب الإمام علم الدين أبي الحسن علي السخاوي :

كلام الله عزوجل قديم صفة من صفاته ليس بمخلوق ؛ وأصوات القراء وحروف المصاحف أمر خارج عن ذلك ، ولهذا يقال صوت قبيح وقراءة غير حسنة وخط قبيح غير جيد ، ولو كان ذلك كلام الله لم يجز ذمه على ما ذكر لأن أصوات القراء به تختلف باختلاف مخارجها والله تعالى منزّه عن ذلك ، والقرآن عندنا مكتوب في المصاحف متلو في المحاريب محفوظ في الصدور غير حالّ في شيء من ذلك ، والمصحف عندنا معظّم محترم لا يجوز للمحدث مسه ، ومن استخفّ به أو ازدراه فهو كافر مباح الدم ، والصفة القديمة القائمة بذاته سبحانه وتعالى ليست المعجزة ، لأن المعجزة ما تحدّى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطالب بالإتيان بمثله ومعلوم أنه لم يتحدهم بصفة الباري القديمة ، ولا طالبهم بالإتيان بمثلها ، ومن اعتقد ذلك وصرّح به أو دعا إليه فهو ضال مبتدع ، بل خارج عما عليه العقلاء إلى تخليط المجانين ، والواجب على علماء المسلمين إذا ظهرت هذه البدعة إخمادها وتبيين الحق والله أعلم.

علي السخاوي

انظر يا رعاك الله كيف كان العلماء يتكاتفون في قمع البدع وإحقاق الحق على اختلاف مذاهبهم في تلك العصور الزاهرة بخلاف غالب أهل العلم في زماننا هذا فإن لهم منازع وراء اختلاف

__________________

ـ المذاهب لا يهمهم ذيوع الباطل وقد خانوا دينهم الذي ائتمنهم الله عليه ، وبه يعيشون ، ويوم الخائنين يوم رهيب.

وكانت تلك الفتنة بالشام في النصف الأول من القرن السابع الهجري ، وقد وقع مثلها في النصف الأخير من القرن السادس بمصر ، وفتنة القاهرة معروفة بفتنة ابن مرزوق وابن الكيزاني وكلاهما من حشوية الحنابلة ، وظن التاج ابن السبكي بن الكيزاني من الشافعية فترجم له في طبقاته تبعا لابن خلكان ، فلا بأس في الإشارة هنا إلى فتاوى علماء ذلك العصر في حقهما.

وصورة الاستفتاء في شأنهما :

ما قولكم في الحشوية الذين على مذهب ابن مرزوق وابن الكيزاني اللذين يعتقدان أن الله سبحانه يتكلم بحرف وصوت ، تعالى الله عن ذلك ، وأن أفعال العباد قديمة ، هل تنفذ أحكامهم على أهل التوحيد وعامة المسلمين وهل تقبل شهاداتهم على المسلمين أم لا؟.

جواب الإمام شهاب الدين أبي الفتح محمد بن محمود الطوسي الشافعي (صاحب الوقائع مع ابن نجية الحنبلي):

تقبل شهادة عدولهم على أصحابهم ولا تسمع شهاداتهم على أهل الحق من الموحدين ولا ينفذ حكم قاضيهم على الموحدين فإنهم أعداء الحق ، والله أعلم.

كتبه محمد الطوسي

وجواب الإمام يوسف الأرموي :

ما نصّ عليهم أعلاه اقترفوا حوبة عظيمة يجب عليهم القفول عما اعتقدوه وهم كفار عند أكثر المتكلمين وكيف يسوغ قبول أقوالهم؟ ويجب على من إليه الأمر إحضارهم واستتابتهم عما هم عليه ، فإن تابوا وإلا قتلوا ، وحكمهم في الاستتابة حكم المرتد في إمهاله ثلاثة أيام ولا يقتل في الحال.

كتبه يوسف الأرموي

وجواب الخطيب أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحموي :

من اعتقد أن أفعال العباد قديمة فقد قال قولا يلزم منه القول بقدم العالم ومن قال بقدم العالم فهو كافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته والله أعلم.

كتبه محمد بن إبراهيم الحموي

واستفتاء آخر صورته :

ما قول الفقهاء الأئمة قادة علماء هذه الأمة أدام الله إرشادهم ووفق إصدارهم وإيرادهم في الحشوية الذين على مذهب ابن مرزوق وابن الكيزاني. اللذين يعتقدان أن الله سبحانه متكلم بحرف وصوت ، وأن أفعال العباد قديمة ، هل تقبل شهاداتهم على أهل الحق الموحدين الأشعرية ، وهل تنفذ أحكام قضاتهم على الأشعرية أم لا؟

جواب الإمام أبي المنصور ظافر بن الحسين الأزدي المالكي :

لا تقبل شهادة من يقول إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت لأنهم مرتكبون كبيرة هي أعظم من سائر المعاصي كالزنى وشرب الخمر لأنها كبيرة تتعلق بأصل من أصول الدين.

كتبه ظافر بن حسين الأزدي

__________________

ـ وجواب شارح المهذب أبي إسحاق إبراهيم العراقي :

جوابي كذلك.

كتبه إبراهيم العراقي

وجواب الخطيب محمد بن إبراهيم الحموي :

من قال إن الله متكلم بحرف وصوت فقد قال قولا يلزم منه أن الله جسم ومن قال إنه جسم فقد قال بحدوثه ومن قال بحدوثه فقد كفر ، والكافر لا تصح ولا تقبل شهادته ، والله أعلم.

كتبه محمد بن إبراهيم الحموي

وجواب الشيخ جمال الدين بن رشيق المالكي :

لا تقبل شهادتهم ولا يجوز أن يولوا الحكم ولا غيره من المناصب الدينية لأنهم بين جاهل يصر على جهله بما يتعين عليه اعتقاده من صفات الله سبحانه وبين عالم معاند للحق ، ومن هذه صفته يتعين تأديبه وزجره عما صار إليه بأبلغ الأدب ، ومن جملته رد الشهادة وبالله التوفيق.

كتب حسين بن عتيق بن رشيق

وجواب الشيخ محيي الدين محمد بن أبي بكر الفارسي :

من قال إن الله سبحانه متكلم بالصوت والحرف فقد أثبت الجسمية وصار بقوله مجسما ، والمجسم كافر ، ومن قال إن أفعال العباد قديمة فقد كذب الله تعالى في قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافات : ٩٦] ومكذب الله بصفة الإصرار كافر ولا تثبت عدالتهم ولا تقبل شهادتهم ولا تجوز الصلاة خلفهم ، ويجب على الإمام وعلى نوابه في الأقاليم استتابتهم ، فإن لم يرجعوا عما هم فيه من الكفر يعاقبهم على كفرهم أو يقبل الجزية منهم أذلاء لا كاليهود والنصارى بل كفرهم أشنع وأبشع من مقالة النصارى واليهود ، أما اليهود فشبهوه بالحادث صفة ، وأما النصارى فقالوا إنه جوهر شريف والمجسمة يثبتون الجسم لله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وكتب محمد الفارسي :

وفي تلك الفتاوى ما ينزجر به من يخاف مقام ربه من تلك البدع الشنيعة وبها يعلم أيضا أن أبا عمرو عثمان بن مرزوق الحنبلي وأبا عبد الله الكيزاني الحنبلي مشتركان في إثارة البدع المذكورة بمصر ولا مانع من أن يكون بينهما بعض اختلاف في فرع من فروع تلك البدع ، ومن حاول تبرئة أحدهما منها فلا حجة عنده أصلا ، وقد تكلف ابن رجب في طبقاته تبرئة ابن مرزوق عن ذلك بدون جدوى بعد أن أقرّ بذلك الناصح الحنبلي وابن القطيعي الحنبلي ، ولو كان ابن رجب رأى تلك النصوص من فتاوى علماء عصر ابن مرزوق وابن الكيزاني المنقولة عن خطوطهم المحفوظة في خزانة الملك الظاهر بيبرس لما سعى في تبرئة ساحته من تلك البدعة الشنيعة.

ونسبة القول بتلك البدعة إلى ابن الكيزاني في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي لا تبرئ ابن مرزوق منها على أن ابن رجب قال بعد ذلك : ثم وجدت لأبي عمرو بن مرزوق مصنفا في أصول الدين ، ورأيته يقول فيه إن الإيمان غير مخلوق ، أقواله وأفعاله وإن حركات العباد مخلوقة ، لكن القديم يظهر فيها كظهور الكلام في ألفاظ العباد اه.

انتفيا ما الذي يبقى من إيمان؟ فدع الحلال مع الحرام لأهله ، فهما السياج فاخرقه ثم ادخل واقطع علائقك التي قد قيدت هذا الورى لتصير حرا (١) لست تحت

__________________

ـ هذا طراز آخر في التخريف يدل على أنه قائل بالحلول على مذهب السالمية ، ومثله لا يمكن ترقيع كلامه. ووقعت بين الفتنتين فتنة عبد الغني المقدسي الحنبلي في الصوت ونحوه كما في ذيل الروضتين لأبي شامة فليراجع هناك ، وما حدث في القرن الخامس ببغداد في عهد أبي نصر بن القشيري من فتنة الحشوية فمشهور جدا. والمحضر الذي رفعه أبو إسحاق الشيرازي والحسين بن محمد الطبري ومحمد بن أحمد الشاشي والحسين بن أحمد البغدادي وعزيزي بن عبد الملك شيذلة ، وغيرهم من أئمة ذلك العصر عن تلك الفتنة بخطوطهم إلى نظام الملك ، مسجل في تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص ٣١٠) فيراجع هناك ليعلم مبلغ سعي الحشوية في إثارة الفتن في كل قرن وذلك مما يعرق به جبين الدهر خجلا من تخريفاتهم التي يتبرأ منها العقلاء كلهم. وأما ما أحدثوه من الفتن في أوائل القرن الرابع من الدعوة إلى القول بإجلاس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرش في جنبه تعالى فمدوّن في كتب التاريخ. والمرسوم الذي أصدره الراضي العباسي ضد البربهاري الداعي إلى تلك البدعة مسجل في تاريخ ابن الأثير بنصه وفصه فليراجع القارئ الكريم هذا وذاك ليعلم نصيب الحشوية من العقل والدين وكلا الكتابين بمتناول الأيدي فنستغني عن نقل نصوص عنهما ، وفي كل ما تقدم عبر ، ويا لها من عبر ، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.

رد حديث الأوعال

(١) انظر هذا الخبث المضاعف ، يصور الناظم أن القول بعدم استقرار الإله جلّ شأنه على العرش استقرار تمكن وبعدم كون كلام الله القائم بذاته حرفا وصوتا حادثين في ذاته تعالى يكون انحلالا عن الدين وانسلاخا من التكاليف ، ولست أشك أن من يجترئ على هذا التصوير ويدور في خلده مثل هذا التفكير أمام جماهير أهل الحق المعتقدين للتنزيه من فجر الإسلام إلى اليوم في مشارق الأرض ومغاربها على طول القرون لا يكون إلا منطويا على الانسلاخ الذي يرمي به أهل الحق ، قاتله الله ما أجرأه على الله وما أوقحه! فمن الذي نفى أن للعالم مدبرا وأن القرآن كلام الله أنزل به الروح الأمين على قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ومن الذي يجهل أن الملء والتخلية من شأن الأجسام نفيا وإثباتا ولم يرد الملء في سنة صحيحة حتى يجوز إطلاقه عليه سبحانه ، على أن تنزهه سبحانه عن الجسمية ولوازم الجسمية مما أجمع عليه أهل الحق ، ولم يشك فيه سوى من عنده نزعة الوثنية ، ولفظ بائن من خلقه لم يرد في كتاب ولا سنة ، وإنما أطلق من أطلق من السلف بمعنى نفي الممازجة ردا على جهم لا بمعنى الابتعاد بالمسافة ، تعالى الله عن ذلك. كما صرح بذلك البيهقي في الأسماء والصفات ، وأما لفظ أنه فوق العرش فلم يرد مرفوعا إلا في بعض طرق حديث الأوعال ـ من رواية ابن منده من التوحيد ـ وعبد الله بن عميرة في سنده مجهول الحال ، ولم يدرك الأحنف فضلا عن العباس. وسماك انفرد به عن عبد الله هذا ، في جميع الطرق ، ويحيى بن العلاء في رواية عبد الرزاق عن سماك يقول عنه أحمد : كذاب يضع الحديث. وتصحيح بعض الحشوية لبعض طرق حديث الأوعال لا يزيل ما به سندا ومتنا ، بل خبر الأوعال ملفق من الإسرائيليات كما نصّ عليه أبو بكر بن

أوامر ولا نهي ولا فرقانا ، لكن جعلت حجاب نفسك إذا تى ، فوق السماء من ديان ، لو قلت ما فوق السماء مدبر والعرش تخليه من الرّحمن ، والله ليس متكلما بالقرآن لحللت طلسمه وفزت بكنزه وعلمت أن الناس في هذيان ، لكن زعمت أن ربك بائن من خلقه وأنه فوق العرش والكرسي وفوقه القدمان وأنه يسمع خلقه ويراهم من فوق وأن كلامه منه بدا وإليه (١) يعود ووصفته بالسمع والبصر والإرادة والقدرة وكراهة ومحبة وحنان ، وأنه يعلم كل ما في الكون ، وأنه كلم موسى ، والنداء صوت بإجماع النحاة ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرى به (ليلا إليه) فهو منه داني وأنه يدنيه يوم القيامة حتى يرى قاعدا معه على العرش وأن لعرشه أطيطا (٢) وأن الله أبدى بعضه للطور ، وأن له وجها وله يمين ، بل زعمت يدان ، وأن يديه للسبع العلى والأرض (يوم الحشر) قابضتان (٣) وأن يمينه ملأى من الخير ، وأن العدل في الأخرى وأن الخلق طرا عنده

__________________

ـ العربي في شرح سنن الترمذي وأنت تعرف مبلغ براعته في الحديث ونقده وتحسين الترمذي بالنظر إلى تعدد طرقه بعد سماك ، وهذا مصطلح له وقوله : غريب إشارة إلى انفراد سماك عن ذلك المجهول ولا شأن للمجاهيل والوحدان والمنقطعات في إثبات الصفات أصلا ولم يثبت عن القدمين حديث مرفوع ، وقول ابن عباس لإفادة أن الكرسي صغير بالنسبة إلى العرش ككرسي قد وضع لقدمي القاعد على السرير كما قال ابن الجوزي. ورواية من رواه بلفظ (قدميه) تحريف للرواية وتقييد الرؤية بلفظ (من فوق) من كيس المجسم بدون كتاب ولا سنة. ووصفه سبحانه بالصفات الواردة في الكتاب والسنة لم ينفه أحد من أهل الحق ، كما لم ينف أحد منهم كلام الله لموسى بلا كيف. والإقعاد معه على العرش يروى عن مجاهد بطريق ضعيفة وتفسير المقام المحمود بالشفاعة متواتر تواترا معنويا وأنى ما ينسب إلى مجاهد من ذاك؟ وقد صرح غير واحد من الأئمة ببطلان ما يروى عن مجاهد ، ويرى بعض النصارى رفع عيسى عليه‌السلام وإقعاده في جنب أبيه وهذا هو مصدر هذا التخريف.

(١) قال ابن المعلم القرشي : وهذا الحديث أوردوه بإسناد فيه محمد بن يحيى بن رزين ، قال أبو حاتم البستي كان كذابا دجالا يضع الأحاديث اه. وزيادة على ما سبق سيأتي الكلام على الصوت فانتظره ، ودعوى الإجماع في أن النداء صوت كذب كما سيأتي.

(٢) ويغنينا عن إبداء وجوه التخليط في حديث الأطيط ما ألفه الحافظ ابن عساكر في ذلك ، وإبداء بعضه للطور بمعنى إبداء بعض آيه على أنه مما أدخل على حماد بن سلمة ، تعالى الله سبحانه عن الأبعاض والأجزاء رغم أنف المجسمة. ويأتي الكلام على قبض السماوات.

قبض السماوات والأرض

(٣) قال البخاري في تفسير قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزّمر : ٦٧] إن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض» اه. وهذا هو أصل الحديث وهو مروي بأسانيد كثيرة جدا وهو الموافق لكتاب الله سبحانه ، واليمين : القدرة كما هو مبسوط في أساس التقديس ، وحاشا

يهتز فوق أصابع (١) الرّحمن وأن قلب العبد بين اثنتين من أصابعه ، وأنه يضحك عند

__________________

ـ أن يكون قبض الله من قبيل احتواء الأنامل على شيء ، وما زاد على ذلك في الروايات من أنه يأخذ السماوات بيده اليمنى ويأخذ الأرض بشماله ـ وحاشا أن يكون له شمال وكلتا يديه يمين ـ فمن تصرفات الرواة أثناء النقل بالمعنى كما لا يخفى على أهل هذه الصناعة المستحضرين لأحاديث الباب ومبلغ اضطرابها سندا ومتنا.

وأما حديث الحبر اليهودي فيوضع أجزاء الكون على إصبع فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه لا يدل على تصديق ذلك وإن ظنه بعض الرواة تصديقا ـ في بعض الطرق ـ بل يدل على الإنكار والاستهجان. وقد برهن ابن الجوزي في دفع الشبه وابن حجر في الفتح على أن ذلك إنكار لا تصديق رغم توهم ابن خزيمة كونه تصديقا لزيغ مشهور في معتقده ، كما سيأتي بيانه ، بل نزول قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزّمر : ٦٧] أي تحت تصرف مالك يوم الدين لا يجري لأحد سواه حكم في ذلك اليوم (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزّمر : ٦٧] أي بقدرته لا حساب على سكانها بخلاف أهل الأرض فإنهم محاسبون (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] عقب حديث حبر اليهود دليل واضح على الإنكار على أن إثباتهم الأصابع الحسية بالوجه السابق إشراك. قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] فمن الذي يظن أن ذلك بالمماسة؟ وكذلك القبض ، وإن هذى الشيخ محمد المنبجي الحنبلي تلميذ ، الناظم في جزء (إثبات المماسة) بما شاء من صنوف الهذيان ، وكل ذلك من بلايا ابن تيمية حيث لفق الروايات في هذا الصدد وقال ما شاء أن يقوله في الأجوبة المصرية وذكر ما ورد في بعض طرق الحديث وهو (قبض كفيه فجعل يقبضهما ويبسطهما) ثم قال : «وهنا شبه القبض والبسط بقبضه وبسطه» اه. وهذا تشبيه صريح من ابن تيمية (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧] ومغالطة مكشوفة ، واللفظ المذكور لم يقع إلا في بعض الروايات ، والاضطراب في الحديث سندا ومتنا زيادة ونقصا ظاهر جدا لمن اطلع على طرقه بحيث لا يصح الاستدلال به ولا سيما في مثل هذا المطلب وعلى فرض ثبوت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض كفيه وبسطهما أثناء الخطبة لم ينسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أنه قال : هكذا يقبض ويبسط حتى يصح كلام ابن تيمية ، بل البسط غير موجود فيما يروى عما يفعله سبحانه عند قيام الساعة حتى يظن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قبض كفيه وبسطهما أنه أراد تشبيههما بقبض الله وبسطه ، على أن الخطيب كثيرا ما تصدر منه حركات وإشارات أثناء الخطبة ، وحملها على معان لم ينطق هو بها تقويل للخطيب ما لم يقله ، ومن الظاهر جدا أن الأرض تحتوي على الأنجاس والأرجاس فكيف يتصور أن يكون قبض الله كقبض أحد من خلقه حقيقة بحيث يستلزم ذلك القبض على الأخباث والأرواث ، تعالى الله عن ذلك. وهذا مما لا يتصوره من يخاف مقام ربه ولو كان جاهلا باستحالة الجسمية على الله سبحانه. ولا نتعرض هنا لرواية كاتب الليث في الخبزة ولعل فيما ذكرنا كفاية.

الأصابع في كلام الجبر

(١) لم يرد في حديث وضع السماوات على إصبع إضافة الأصابع إلى الرّحمن أصلا وهذا كذب وتصرف في الحديث بالتحريف والتغيير قال القاضي أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم :

تقابل الصفين من عبده يأتي فيبدي نحره لعدوه ، ويضحك عند ما يثب الفتى من فرشه لقراءة القرآن ، ومن قنوط عباده إذا جدبوا ، وأنه يرضى ويغضب ، وأنه يسمع صوته (١)

__________________

ـ وأما ذكر الأصابع فصحيح ولكن لم ترد مضافة إليه تعالى وإنما ورد أنه يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع ثم يهزهن ... الحديث ، ومن أين لهم أن أصابع الوضع المطلقة هي أصابع التقليب المضافة إليه؟ اه على أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن قال الحبر ذلك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] يدل على إنكار ما قاله الحبر كما قال ابن حجر في شرح البخاري ردا على ابن خزيمة ـ وتوحيد ابن خزيمة من أهيف الكتب ، راجع تفسير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] من تفسير الفخر الرازي ـ وما أخرجه الضياء الحنبلي من حديث الخنصر فباطل بالمرة وفيه من العلل ما بين في موضعه وليس في حديث الترمذي رفع حديث طرف الإبهام إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على انفراد حماد بن سلمة به ، بل نسبة ذلك إلى سليمان بن حرب أو حماد ، قال ابن العربي : وتمثيل سليمان بن حرب وأمثاله ما تجلّى للجبل بالأنملة لا ينظر إليه لأنه كلام غير معصوم ولا واجب الاتباع فالأمر هين والمخرج عنه سهل بيّن اه. فيا سبحان الله ما أجهل هذا الناظم بلسان قومه كيف يفهم من اليد معنى الجارحة ومن الضحك إبداء النواجذ ، راجع القواصم لابن العربي ، ودفع الشبه لابن الجوزي ، والأسماء والصفات للبيهقي ، وقد روى القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة والقاضي عياض في الشفاء عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه أنه كان يرى قطع يد من أشار بيده إلى عضو من أعضائه عند ذكر شيء ورد في الله سبحانه حيث إن الإشارة إلى عضو عند ذاك تشبيه ، تعالى الله عن ذلك ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث القبض باليمين والشمال فلم يخرجه البخاري لاضطراب عبد العزيز بن سلمة في سنده لأنه يرويه مرة عن أبيه عن ابن مقسم عن ابن عمر كما وقع في رواية سعيد بن منصور وأخرى عن أبيه عن عبيد بن عمير عن ابن عمر ، كما في رواية القعنبي ، وتارة أخرى عن أبيه عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما في رواية يحيى بن بكير ، فدلت تلك الأسانيد المختلفة على أن عبد العزيز لم يضبط السند كما يجب ، وحال المتن توازي حال السند ومسلم حيث ترجح عنده روايته بطريق ابن مقسم بالنظر إلى متابعة يعقوب بن عبد الرّحمن القاري لعبد العزيز في روايته عن سلمة عن ابن مقسم خرجه في صحيحه ، لكن ما يحتاج إلى متابع يكون منحط الرتبة في الصحة بل من أحاط بأسانيد هذا الخبر في توحيد ابن خزيمة وحلية أبي نعيم يعده مضطرب السند والمتن معا. على أن ما يقع في المنبر أمام الجمهور تتوفر فيه الدواعي إلى روايته فكيف ينفرد برواية مثله راو واحد ، وإن صح الاحتجاج بمثل ذلك فإنما يصح عند ـ عدم المعارض ـ في الأعمال فقط دون الاعتقاد على أن تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] عند ذكر حديث الحبر في الصحيح تعارضه إذا لم يحمل خبر مسلم على المجاز فيوجد بين أهل العلم من لا يستدل بمثله في الأعمال فضلا عن الاعتقاد ومع هذا كله لا يحتج بما دون المشهور من الأحاديث في ذات الله وصفاته عند جمهور أهل الحق فكيف يحتج بذلك الحديث في باب الاعتقاد وقد بيّنّا بعض ما فيه.

(١) وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادي غير الله حيث يقول «... فينادي بصوت إن الله يأمرك ...» فيكون الإسناد مجازيا عل أن الناظم ساق في حادي الأرواح بطريق الدار قطني حديثا فيه «يبعث الله يوم

ويشرق نوره يوم الفصل ويكشف ساقه (١) ويبسط كفه ويمينه تطوى السماء وينزل (٢) في الدجى في الثلث الأخير والثلث الثاني وأن له نزولا (٣) ثانيا يوم القيامة للقضاء وأنه يبدو جهرة لعباده حتى يرونه ويسمعون كلامه وأن له قدما (٤) وأنه واضعها على النيران وأن الناس كل منهم يخاصر (٥) ربه ، بالخاء والصاد والحاء والضاد وجهان محفوظان

__________________

ـ القيامة مناديا بصوت ...» وهذا نص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الإسناد في الحديث السابق مجازي وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع ثمت.

الكلام على الساق والنزول والمجيء ووضع القدم

(١) وفي القرآن (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] بدون ضمير وذلك استعارة عن الشدة كما ذكره الفراء وابن قتيبة وابن الجوزي ، وذكر الإسماعيلي في مستخرجه أن رواية حفص بن ميسرة «يكشف ربنا عن ساق» بدون ضمير وروايته بالضمير منكرة. راجع ما كتبناه على دفع الشبه لابن الجوزي ، ومن عادة الحشوية حمل المجاز المشهور على الحقيقة باختلاق رواية حول ذلك وإلقائها على ألسنة الرواة. وتصرفات المجسمة هنا من هذا القبيل.

وإني أنقل للقارئ بلية من بلايا المجسمة تفهمه إلى أي حد يصل جنون هؤلاء ، وقد رأينا في بعض كتب روافضهم أن فاطمة رضي الله عنها تحمل قميص حسين عليه‌السلام في يوم القيامة وتقول لله سبحانه وهو جالس على عرشه هذا ما فعلته الأمة بابني سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكشف الله سبحانه إذ ذاك عن ساقه فإذا هي مربوطة برباط ويقول ما ذا أنا فاعل إزاء هذا وهم قد فعلوا بي ما ترونه؟ ويعللون هذا بما فعله نمروذ من توجيهه الرمي إلى السماء ليقتل إله إبراهيم عليه‌السلام فاهمين أن سهمه أصاب ساق الله فبقيت مربوطة من أثر الجرح في ذلك اليوم. فهل رأى القارئ كفرا أشنع من هذا وأبعد من هيبة الرب سبحانه وتقديره حق قدره وأدل على ذهاب العقول؟ قاتلهم الله.

(٢) قال ابن حزم في الفصل : إن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصحّ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا في ذلك الوقت لأهل كل أفق وأما جعل ذلك نقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالتجسيم اه وفي بعض طرق الحديث ما يعين أنه إسناد مجازي ، ففي سنن النسائي «إن الله يأمر ملكا ينادي ...» وفي شرحي البدر العيني وابن حجر على البخاري بسط واف في المسألة.

(٣) ولفظ التنزيل (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] قال أحمد : أمره ، وقد بيّنه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل : ٣٣] رواه ابن حزم وأبو يعلى وابن الجوزي. قال الخلال في السنة بسنده إلى حنبل عن عمه الإمام أحمد أنه سئل عن أحاديث النزول والرؤية ووضع القدم ونحوها فقال : «نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى».

(٤) وضع القدم مجاز مشهور عن التسكين وعن الردع والقمع. راجع أساس البلاغة والفائق ودفع شبه التشبيه وأساس التقديس. والأخيران مهمان جدا في الرد على الحشوية ، وهما مطبوعان يسهل تناولهما ففيهما غنية عن التوسع بأكثر مما ذكر.

(٥) قال ابن العربي : أما حديث المخاصرة فضعيف ، راجع العواصم ، فكم في سنن الترمذي ومسند ـ

في الترمذي والمسند وغيرهما من كتب التجسيم ، ووصفته بصفات حي فاعل بالاختيار ، وذلك الأصلان أصل التفرق في الباري فكن في النفي غير جبان أو لا فلا تلعب بدينك تثبت بعض الصفات وتنفي بعضها فأنكر الجميع أو فرّق بين ما أثبته ونفيته ، فذروا المراء وصرحوا بمذاهب القدماء وانسلخوا من الإيمان أو قاتلوا مع أمة التشبيه والتجسيم تحت لواء ذي القرآن أو لا فلا تتلاعبوا بعقولكم وكتابكم وبسائر الأديان ، فجميعها قد صرحت بصفاته وكلامه وعلوه والناس بين مصدق أو جاحد أو بين ذلك أو حمار ، فنزّه وأنف الجميع ولقب مذهب الإثبات بالتجسيم وأحمل على الأقران ، فمتى سمحت لهم بوصف واحد حملوا عليك فصرعت فلذاك أنكرنا الجميع مخافة التجسيم إن صرنا إلى القرآن ولذا خلعنا ربقة الأديان من أعناقنا ولنا ملوك قاوموا الرسل في آل فرعون وقارون وهامان ونمروذ وجنكسخان ولنا الأئمة أرسطو وشيعته ما فيهم من قال : إن الله فوق العرش ، ولا إن الله يتكلم بالوحي ، ولهذا رد فرعون على موسى إذ قال موسى ربنا متكلم فوق السماء وأنه ناداني ، وكذا ابن سينا لم يكن منكم ولا الطوسي قتل الخليفة والقضاة والفقهاء إذ هم مجسمة ، ولنا الملاحدة الفحول أئمة التعطيل ولنا تصانيف مثل الشفاء ورسائل إخوان الصفاء والإشارات قد صرحت بالضد مما جاء في التوراة والإنجيل والفرقان ، وإذا تحاكمنا فإليهم لا إلى القرآن ، يا ويح جهم وابن درهم ومن قال بقولهما ، بقيت من التشبيه فيه بقية ينفي الصفات مخافة التجسيم ويقال : إن الله يسمع ويرى ويعلم ويشاء وإن الفعل مقدور له والكون ينسبه إلى الحدوث ويصرخ بنفي التجسيم والله ما هذان متفقان ، لكننا قلنا محال كل ذا حذرا من التجسيم والإمكان» اه.

تصوير الناظم أهل الحق أسوأ تصوير

انتهى كلام هذا الملحد تبا له وقطع الله دابر كلامه. انظر هذا الملعون كيف أقام طوائف الشافعية والمالكية والحنفية الذين هم قدوة الإسلام وهداة الأنام في صورة الملاحدة الزنادقة المقرين على أنفسهم باتباع فرعون وهامان وأرسطو وابن سينا ، المقدمين كلامهم على القرآن ، وأنهم أتباع أصحاب جنكسخان ، وأن رائده ، لعنه الله ولعنه ، سألهم عما يقوله أهل الحديث فنسبوهم إلى ما نسبوهم إليه ، وأنه لذلك انحلّ

__________________

ـ أحمد من أحاديث ضعيفة والناظم هو الذي يسميهما بالتجسيم ، قال ابن الجوزي هذا يرويه يوسف بن عبد الله وهو خطأ.

عن الأديان وخلع ربقة الإيمان وأبرز ذلك في صورة مقامة وخيال ليرتسم به في ذهن من يقف عليه من العوام والجهّال أن الطوائف المذكورة ، على هذه الصفة.

وإذا كانت علماء الشريعة وقادة الأمة بهذه الصفة كيف يقبل قولهم في الدين؟ أو ما ذا تكون قيمة فتاويهم عند المسلمين؟ فما أراد هذا إلا أن يقرر عند العوام أنه لا مسلم إلا هو وطائفته التي ما برحت ذليلة حقيرة ، وما أدري ما يكون وراء ذلك من قصده الخبيث ، فإن الطعن في أئمة الدين طعن في الدين وقد يكون هذا فتح باب الزندقة ونقض الشريعة ويأبى الله ذلك والمؤمنون.

وجماعة من الزنادقة يكون مبدأ أمرهم خفيا حتى تنتشر ناره ويشتعل شناره ، نسأل الله العافية.

فينبغي لأئمة المسلمين وولاة أمورهم أن يأخذوا بالحزم ويحسموا مادة الشر في مبدئه قبل أن يستحكم فيصعب عليهم رفعه. ثم إن هذا الوقح لا يستحي من الله ولا من الناس ، ينسب إلى طوائف المسلمين ما لم يقولوه فيه وفي طائفته ، وأن شيوخهم وصوهم بذلك ، وهو يزعم بكذبه أنه متمسك بالقرآن وأين قال الله في القرآن (إنه فوق السماء) وأين قال (إنه بائن من خلقه) وأين قال (إنه فوق العرش) بهذا اللفظ وأين قال (إن القدمين فوق الكرسي) وأين قال (إنه يسمع خلقه ويراهم من فوق) وأين قال (إن محمدا قاعد معه على العرش) إلى بقية ما ذكره جميعه.

والمتبع للقرآن لا يغيره ولا يغير لفظه بل يتمسك به من غير زيادة ولا نقصان ، وكذلك الأحاديث الصحيحة يقف عند ألفاظها ولا يزيد في معناها ولا ينقص.

كذب الناظم على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وهكذا أكثر ما ذكره لم يجئ لفظه في قرآن ولا سنة ، بل هو زيادة من عنده قد كذب فيها على الله (١) وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهمها على خلاف الحق ونسب إلى علماء

__________________

(١) جرت سنة العلماء في تصانيفهم أن أحدهم إذا نقل عن أحد العلماء نقلا ينص على أنه نقله بنصه أو مع شيء من التصرف بالزيادة فيه أو النقص منه ، يفعلون ذلك حرصا على صفة الأمانة التي يهوي إلى الدرك الأسفل من الحقارة والصغار من حفظ عنه أنه أخلّ بها في تافه من الأمور ، فهم يحرصون على تلك الصفة صفة الأمانة في النقل عن العلماء إخوانهم فاهمين أنهم لو خانوا في النقل عنهم (وهم ينقلون عنهم دينا يدين به العباد) لهووا في هاوية من النقص لا قرار لها ولا تقوم لهم قائمة بعدها ، وهم إذا حفظوا عن واحد مما ينتسب إلى العلم شيئا من

المسلمين البرآء من السوء كل قبيح ، وجعل ذلك طريقا للخروج من الدين والانسلاخ من الإيمان وانتهاك الحرام ، وعدم اعتقاد شيء فهل وصلت الزنادقة والملاحدة والطاعنون في الشريعة إلى أكثر من هذا؟ بل هذا ، وإيهامه الجهال أنه هو المتمسك بالقرآن والسنة ، لينفق عندهم كلامه ويخفي عنهم سقامه.

__________________

ـ الإخلال بتلك الأمانة سقط من نظرهم وأكنّوا له في صدورهم من الازدراء به كعالم ما يجعله في نظرهم كأنه مسخت إنسانيته وأصبح مخلوقا آخر من المخلوقات التي لا يقع في النفوس أنها تكون في وقت من الأوقات مصدرا لأي معنى ينتفع به بنو الإنسان من الناحية الأدبية ، هذا نظرهم لمن يخون في النقل عن رجل مثلهم ما قال الله ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه معصوم.

وإذا كان الأمر كذلك في هذا فليقل لي حضرات إخواننا المساكين المغرورين بابن القيم كيف يدومون على غرورهم به وإمام عظيم من أئمة المسلمين يقول عنه بعبارة صريحة فصيحة بيّنة لا تحتمل التأويل ، لا يقولها فقط بلسانه بل يكتبها في كتاب تبقى فيه على ممر الدهور يقرؤها البعيد والقريب والصغير والكبير والعالم والجاهل والمؤمن والكافر يقول تلك الكلمة هذا الإمام النادر المثال في فضله وزهده وورعه وعلمه وهو يعلم أنه مسئول عنها عند ربه ولي أمره في دنياه وفي أخراه ، وأي كلمة هذه الكلمة هي قوله : إن ابن القيم كذب على الله ورسوله ـ ليقل لي حضرات المغرورين بابن القيم كيف يكون نظرهم إليه في الحقارة والصغار وهم يسمعون إماما كبيرا لا ينسب إمامهم إلى الخيانة في النقل عن فريق العلماء جميعا بل ينسبه إلى الخيانة في النقل عن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عنه إنه يكذب عليهما ويسند إليهما ما لم يقله كتاب ولا سنة أمع هذا يبقون على غرورهم وإفراطهم في تعظيم ذلك الرجل الذي يقول عنه الإمام السبكي بحق : إنه ما زاد عنه الزنادقة والملاحدة والطاعنون في الشريعة في الخروج على الإسلام والمسلمين ، أنا لا أتوهم بعد اطلاع هؤلاء المساكين على حال هذا الرجل أن يبقى في قلوبهم مثقال ذرة من التعظيم له والعطف عليه ، كيف لا وهم مؤمنون والله يقول في كتابه الكريم عن كل من اتصف بالإيمان : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة : ٢٢] وإني أعيذهم بالله من احترام رجل لا يزيد عنه في الخروج على الإسلام والمسلمين لا الزنادقة ولا الملاحدة ولا الطاعنون في الشريعة ، إني أرجو إخواننا المغرورين بابن القيم أن يفهموا أن كذب صاحبهم على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصول الإسلام ليعلموا هذا جيدا ثم ليوقنوا أن الذي يكذب في الأصول هين جدا عنده أن يكذب في الفروع وإذن ترتفع بكل معناها عن ابن القيم فلا يجوز لمسلم أن يعتمد عليه في نقل لا في أصول ديننا ولا في فروعه وهو على هذه الحالة سيئة واحدة من سيئات شيخه الكبير إمامكم العظيم لا في هذا ولا عشر نظركم ابن تيمية. ما ثبت له يثبت لشيخه بالأولى ثم بالأولى. وبناء على هذا أؤكد عليكم أن تنظروا إلى كل كتاب خطته براعة هذا الرجل وشيخه نظر من لا أثر للثقة في قلبه بهما وبما يكتبانه وإلا فمثلكم حينئذ مثل من يرى اللص بعينه يسرق العظائم من أموال الناس ثم في الوقت عينه يقول ما أصلحه وما أجله وما أوثق دينه.

فصل

قال : «في قدوم ركب الإيمان وعسكر القرآن» قال :

«وأتى فريق ثم قال : ألا اسمعوا قد جئتكم من مطلع الإيمان :

من أرض طيبة ، من مهاجر أحمد. سافرت في طلب الإله فدلني الهادي عليه ، ومحكم القرآن مع فطرة الرّحمن وصريح عقل شهدوا بأن الله منفرد بالملك والسلطان وهو الإله الحق».

هذا صحيح.

ثم قال : «لا معبود إلا وجهه» هذا عندنا صحيح وأما عنده فالوجه غير الذات فكيف يصح؟

ثم قال : «والناس بعد فمشرك أو مبتدع وكذلك شهدوا بأن الله ذو سمع وذو بصر هما صفتان».

هذا نحن نقوله لكن لو طولب بالشهادة بأنه ذو سمع وذو بصر أين يجدها (١) في ألفاظ القرآن والسنة ولو كان كذلك لم يكن بيننا وبين المعتزلة نزاع فيه.

قال : «وعموم قدرته (٢) يدل بأنه هو خالق الأفعال للحيوان».

اعتقادنا أنه سبحانه خالق أفعال الحيوان ولكن كيف يدل عموم القدرة على ذلك بل لذلك أدلة أخر. واستدلال هذا القدم بعموم القدرة من عدم شعوره.

ثم قال : «هي خلقه حقا وأفعال لهم حقا ولا يتناقض الأمران!».

__________________

(١) بل الواجب على من يهاب مقام ربه أن لا يطلق عليه تعالى ما لم يرد إطلاقه عليه في الكتاب والسنة المشهورة مع الاقتصار على الوارد فعلا كان أو صفة أو مفردا أو مجموعا ، فلا يقال له عينان ولا هو مستو. فإبدال الفعل صفة ، والمجموع مثنى ، وإبدال اللفظ بما يظن مرادفا له مما يجب أن يتهيبه كل مسلم. بل قال إمام الحرمين : أجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عزوجل لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع وأجمع المحققون على أن الظواهر يصح تخصيصها أو تركها بما لا يقطع به من أخبار الآحاد والأقيسة وما يترك بما لا يقطع به كيف يقطع به؟ اه.

(٢) وكم من شيء مقدور عليه لم يدخل في حيز الوجود فمن أين يدل عموم القدرة على أنه خالق أفعال الحيوان؟ بل الدليل على ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافات : ٩٦] وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] وكم لنا من براهين عقلية على ذلك لكن الناظم بالغ الجهل ظاهر البلادة حتى في مثل هذه المسائل الظاهرة لصغار المتعلمين وحق مثله أن يقرع إيقافا له عند حده فالمصنف معذور إذا قال عنه إنه حمار أو تيس.

عجب قد تقدم إنكاره على جهم وشيعته قولهم : إن العبد ليس بفاعل فما هذا التناقض (١) ولعله نقل الكلامين تقليدا ولم يفهم معناهما فلذلك وقع التناقض بينهما ويكونان من كلامين.

ثم قال : فحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرّحمن ، واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد وقال شفى القلوب بلفظه».

وقال الناظم : «إن الجبرية والمكذبين بالقدر نظروا نظر الأعور» والكلام في ذلك يطول وليس هذا من أهله (٢) ولا هو متعلق به بل كلامه فيه فضول فيما لا يعنيه.

فصل

قال : «أيكون أعطي الكمال وما له ذاك الكمال أيكون (٣) إنسان سميع مبصر متكلم وله الحياة والقدرة والإرادة والعلم والله قد أعطاه ذاك وليس وصفه فأعجب من البهتان بخلاف نوم العبد وجماعه وأكله وحاجة بدنه إذ تلك ملزومات كون العبد محتاجا وتلك لوازم النقصان وكذا لوازم كونه جسدا نعم ، ولوازم الأحداث والإمكان يتقدس عنها وعن أعضاء ذي جثمان».

__________________

(١) نفى عن العبد كونه فاعلا في مذهب الجهمية يعني الأشاعرة فيما سبق وأثبته هنا مذهبا لهم ، وعدّ اعتبار العبد فاعلا مناقضا لاعتبار أن الله خالق لفعل العبد! مع أن التناقض في كلامه نفسه كما شرحنا حيث نفى عنهم سابقا ما أثبته لهم هنا ، وأين التناقض بين كون الله خالقا وبين كون العبد فاعلا؟ فتدبر.

(٢) نرجو حضرات المغترين بهذا الناظم ونلح في الرجاء أن يقفوا هنا طويلا ليفهموا مقدار قدوتهم الذي لا يرضون أن يكون بجانبه أحد من علماء الأمة في العلم ، فها هم أولاء يسمعون الشيخ السبكي وهو الإمام الجليل في تقواه وفضله يقرر بصراحة أن ابن القيم ليس بأهل للكلام معه في مسألة من المسائل العادية ، وإني أعود فأرجوهم أن يتأملوا طويلا في كلمة هذا الإمام الكبير رضي الله عنه.

(٣) دليل اتصاف الله سبحانه بصفات الكمال من الكتاب والسنة والمعقول معروف عند أهله ، وأما الطريق الذي سلكه الناظم في ذلك فليس في شيء من الأداء إلى ما يتوخاه ، وإنما سلك هذا الطريق الغير النافذ ليخيل إلى العامة أن صفات الله من قبيل صفات العبد فلا مانع من أن يكون الباري ينظر بعين ويسمع بأذن ... إلى آخر تلك المخازي كما هو مذهبه في إثبات الصورة له تعالى مع أن تلك الصفات في العبد بآلات وجوارح فهي في العبد مقرونة بالنقائص والاحتياج ، تعالى الله عن ذلك ، فليتنبه إلى دسائس الناظم.

عدم تمييز الناظم بين اللازم والملزوم

الجسدية والحدوث والإمكان يلزم منها ثلاثتها الاحتياج والنقص ، فالنوم والجماع والأكل لوازم لذلك لا ملزومات (١) وتقديسه عن الأعضاء مع إثباته قدمين كيف يجتمعان.

تخبط الناظم في الصوت

قال : «والله ربي لم يزل متكلما ، هو قول ربي كله لا بعضه لفظا ومعنى ، ما هما خلقان».

أما كونه لم يزل متكلما وقوله مع ذلك إنه لفظ وإنه غير مخلوق فكلام من لا يدري ما يقول (٢).

قال : «لكن أصوات العباد مخلوقة ، فإذا انتفت الوساطة كتكلم الله لموسى فالمخلوق نفس السمع (٣) إلا المسموع ، هذي مقالة أحمد ـ يعني ابن حنبل ـ ومحمد ـ يعني البخاري ـ».

__________________

(١) يا حضرات المغترين بابن القيم ، اعملوا معروفا مع أنفسكم وانظروا كيف لا يميز صاحبكم اللازم من الملزوم ، أيكون حاله هكذا في الجهل ويصل غروركم به إلى أن تعتقدوا أنه الإمام الذي لا يساميه بل لا يدانيه إمام.

(٢) لأن اللفظ لا بد من أن يكون باعتبار وجوده الخارجي متعاقب الحروف فلا يتصور العاقل في مثله قدما ، نعم ليس للفظ باعتبار وجوده العلمي والنفسي تعاقب فيكون قديما كما قال بذلك أحمد وتابعه ابن حزم ، وهو الموافق لتحقيق القوم في الكلام النفسي ، إلا أن وجوده أصلي بخلاف العلم فإنه بالإضافة إلى المعلوم. والناظم ليس بقائل بما قال به أحمد كما يظهر من مواضع من نظمه فيكون قائلا بما هو غير معقول.

(٣) لا فرق بين موسى عليه‌السلام وبين غيره في خلق السمع فيهما ، وأما المسموع فإن كان يريد به الصوت المكيف فكذلك ، وإن كان يريد ما هو قائم بالله فجلّ الإله أن يقوم به عرض سيّال. والوارد في الكتاب أنه تعالى كلّم موسى ـ بدون ذكر الصوت أصلا ـ والتكلم لا يستلزم الصوت قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] إذ لا صوت في الوحي إلى القلب والصوت في الثالث صوت الرسول دون المكلم فليكن الكلام من وراء حجاب كذلك وهو الذي حصل لموسى ، فمهما كان النبي بسماعه صوت الرسول إليه يعد أن الله كلمه فلا يكون أي مانع من أن يعد موسى كلمه ربه إذ نودي من الشجرة ، فأي زائغ يتصور حلول الله في الشجرة حتى يقول : إن الذي سمعه صوت الله؟ تعالى الله أن يكون كلامه صوتا ، والآية قاضية على جميع الأوهام في هذا البحث لمن أحسن التدبر فيها.

قلنا نعم نوافقه على ذلك على قول الأشعري إن الكلام النفسي يسمع ولا يلزم أن يكون هناك حرف وصوت ومن اعترف بكلام الله تعالى وأن موسى سمعه ولم يقل إنه حرف أو صوت أو غير ذلك بل وقف عند حده وعجزه وجهله ونزّه الله تعالى عن صفات خلقه ، سلم.

ثم قال في بيت الأخطل :

يا قوم قد غلط النصارى في الكلمة

ونظير هذا من يقول كلامه معنى قديم غير محدث والشطر مخلوق وتلك حروفه ناسوته (١).

أبصر هذه الجراءة وتشبيهه أقوال العلماء بأقوال النصارى وجهله وكذبه بأن الحروف كالناسوت. والمعنى قائم بذات الرب سبحانه وتعالى والألفاظ بالقارئ لا يتحد أحدهما بالآخر ولا يحل فيه كما يقول النصارى تعالى الله عن قولهم.

فصل

قال : «الكلام قيل بغير مشيئة ، وإنه معنى إما واحد وإما خمسة معان ، وقيل : إنه لفظ مقترن فالسين مع الباء ، والذين قالوا بمشيئة صنفان أحدهما جعله خارج ذاته وهو قول الجهمية ومتأخري المعتزلة والثانية في ذاته وهم الكرامية ، وهم نوعان أحدهما جعله مبدوءا به حذرا من التسلسل فلذلك قالوا له أول والآخرون كأحمد ومحمد قالوا : لم يزل متكلما (٢) بمشيئة وإرادة.

__________________

(١) لم يفهم الناظم كلام القوم فشنع كما شاء ، قاتل الله البلادة ما أفتكها.

ظنّ الناظم أن المراد بالمعنى معنى النظم فبنى عليه ما شاء ، مع أن مرادهم بالمعنى هنا هو القائم بالله الشامل للدال ومدلوله باعتبار وجودهما العلمي كما نصّ عليه أحمد في رده على ابن أبي دؤاد ، كما ذكر في كتاب السنة وغيره ، فلا يكون للفظ الخارجي دخل أصلا في القدم على مذهب إمامه نفسه ، نعم يوجد من يسير سير النصارى في الحلول بين الذين تكلموا في القرآن وهو من يقول إن الصوت من المصوت قديم وإن الله تعالى قرأ على لسان كل قارئ كما ذهب إلى ذلك السالمية ، تعالى الله عما يقول الظالمون. والناظم من أقرب المبتدعة إليهم.

(٢) افترى الناظم عليهما تمويها وتحميلا على لفظ مجمل ما لا يحتمله وهما كباقي أهل السنة يقولان : إن الله متصف بصفة الكلام أزلا كاتصافه بباقي صفاته الأزلية وهو يتكلم متى شاء ، وهما بعيدان من المماحكات الزائفة ، والله سبحانه سريع الحساب وشديد العقاب أزلا ولا يستلزم ذلك قدم البعث وهو سبحانه لم تحدث له صفة بخلق الخلق وهو خالق أزلا قبل أن يخلق الخلق.

وتعاقب (١) الكلمات».

هذا هو الذي ابتدعه ابن تيمية والتزم به حوادث لا أول لها ، والعجب قوله مع ذلك إنه قديم ، وحين النطق بالباء لم تكن السين موجودة ، فإن قال النوع قديم وكل واحد من الحروف حادث عدنا إلى الكلام في كل واحد من حروف القرآن ، فيلزم حدوثها وحدوثه ، فالذي التزمه من قيام الحوادث بذات الرب لا ينجيه بل يرديه ، وهذا آفة التخليط والتطفل على العلوم وعدم الأخذ عن الشيوخ.

كلام واف في أحاديث الصوت

ثم قال : «واذكر حديثا في صحيح محمد ذاك البخاري فيه نداء الله (٢) يوم معادنا بالصوت».

__________________

(١) فيكون محلا للحوادث ، تعالى الله عن ذلك ، وابن تيمية تابع الكرامية في ذلك وأربى عليهم في الزيغ بدعوى القدم النوعي في الكلام ، مع أنه لا وجود للكلي إلا في ضمن الأفراد ، فلا معنى لوصف النوع بالقدم بعد الاعتراف بحدوث كل فرد من أفراده وقد أطال العلامة قاسم بن قطلوبغا الحافظ فيما كتبه على المسايرة الكلام في ذلك فلا نطيل الكلام بما هو في متناول أيدي صغار التلاميذ. والناظم من أتبع الناس لابن تيمية في سخافاته ، وقد نقل ابن رجب في طبقاته عن الذهبي في حق ابن تيمية أنه أطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها اه ، فيدور أمره بين أن يكون مصابا في عقله أو دينه ، فتبا لمن يتخذ مثله قدوة.

(٢) إن كان يريد حديث جابر عن عبد الله بن أنيس «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ...» الحديث ، فهو حديث ضعيف علقه البخاري بقوله ويذكر عن جابر دلالة على أنه ليس من شرطه ومداره على عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف باتفاق ، وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد وعنه قالوا إنه ممن لا يحتج به. وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في الحديث المذكور ، وأما إن كان يريد حديث أبي سعيد الخدري «يقول الله يا آدم يقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك ...» الحديث ، فلفظ ينادي فيه على صيغة المفعول جزما بدليل «إن الله يأمرك» ولو كان على صيغة الفاعل لكان إني آمرك كما لا يخفى على أن لفظ (صوت) انفرد به حفص بن غياث وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت ، وسئل أحمد عن حفص هذا فقال كان يخلط في حديثه كما ذكره ابن الجوزي ، فأين الحجة للناظم في مثله؟ على أن الناظم نفسه خرج في حادي الأرواح ـ وفي هامشه إعلام الموقعين ـ (٢ ـ ٩٧) عن الدار قطني من حديث أبي موسى «يبعث الله يوم القيامة مناديا بصوت يسمعه أوله وآخرهم إن الله وعدهم ...» الحديث ، وهذا يعين أن الإسناد مجازى على تقدير ثبوت الحديثين فظهر بذلك أن الناظم متمسك في ذلك بالسراب والمؤلف تساهل في الرد عليه وفي (القواصم والعواصم) لابن العربي ما يقصم ظهر الناظم في (٢ ـ ٢٩) منه.

اللفظ الذي في البخاري (فينادي بصوت) وهذا محتمل لأن يكون الدال مفتوحة والفعل لم يسم فاعله وأن يكون مكسورة فيكون المنادي هو الله تعالى فنقله عن البخاري نداء الله ليس بصحيح ، والعدالة في النقل أن ينقل المحتمل محتملا ، وإذا ثبت أن الدال مكسورة فلم يقول إن الصوت منه؟ فقد يكون من بعض ملائكته أو من يشاء الله.

ثم قال : «أيصح في عقل وفي نقل (١) نداء ليس مسموعا لنا».

أما العقل فلا مدخل له في ذلك وأما النقل فقد قال تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣)) [مريم : ٣].

ثم قال : «والله موصوف بذاك حقيقة هذا الحديث ومحكم القرآن».

ليس في الحديث ومحكم القرآن أنه حقيقة.

قال : «ورواه عندكم البخاري المجسم بل رواه مجسم فوقاني».

هذا بهت لنا في أن البخاري مجسم عندنا والله ما اعتقدنا فيه ذلك ولا في أحمد الذي عناه بالفوقاني ولكن هذا بهت لنا وإساءة على البخاري ومن فوقه.

ثم قال : «واذكر حديثا لابن مسعود صريحا إنه ذو أحرف».

هو حديث في الترمذي : من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة وقال حسن صحيح ووقفه بعضهم على ابن مسعود ، وعلى كل تقدير الحرف في قراءة القارئ ، وقد تقدم من هذا الناظم أن الصوت فعل القارئ فلا وجه لاحتجاجه هنا ، ولابن مسعود حديث آخر أنه على سبعة أحرف ، والمراد نزوله بها ثم قال : «وانظر إلى السور التي افتتحت بأحرفها لم يأت قط بسورة إلا أتى في أثرها خبر عن القرآن».

هذا منتقض بسورة «كهيعص» والعنكبوت والروم و «ن».

فصل

قال : «إنه يلزم من نفي صفة الكلام نفي الرسالة» (٢).

__________________

(١) النداء طلب الإقبال عند النحاة واللغويين فيجري مجرى القول وكم في الكتاب والسنة مما يدل على القول والكلام بدون صوت كما نسرد بعض ذلك عند التدليل على الكلام النفسي وقول صاحب القاموس : النداء الصوت تسامح منه ، وكم له من مسامحات معروفة عند أهل العلم.

(٢) وقد نصّ الله سبحانه على أن تكليم الله سبحانه منحصر في الوحي إلى القلب وإرسال ملك يبلغ كلامه ، والكلام وراء حجاب وليس في واحد منها صوت للمكلم سبحانه فمن أين يلزم

وهو جهل منه وإن كنا لا ننفي صفة الكلام.

فصل

وقال : «إنه يلزمهم تشبيه الرب بالجماد الناقص».

وهذا بلادة (١).

فصل

قال : في إلزامهم (٢) أن كلام الخلق حقه وباطله عين كلام الله سبحانه بخلقه أفعال العباد.

ما هذا إلا ...

فصل

في التفريق بين الخلق والأمر قال : «وكلاهما عند المنازع واحد».

المنازع هم المعتزلة ، ولسنا منهم ، لكن قوله : إنهما عندهم (٣) واحد ليس بصحيح.

__________________

ـ من نفي ما أثبته المجسمة من حرف وصوت في الرسالة بل عدّ الإله سبحانه محلا للأعراض هو المستلزم لنفي الصانع فضلا عن الرسالة ، قاتل الله هذه الفئة السخيفة ، ما أجهلهم بما يجوز في الله وما لا يجوز.

(١) اكتفى بوصفه بالبلادة لئلا يوقع عليه الحكم بالكفر لو كان يعقل ما يقول ، لأن إثبات الحرف والصوت لله تشبيه له بالإنسان وتشبيه الله بمخلوق كفر والصوت عرض سيّال محال أن يقوم بالله سبحانه بل هو متكلم بكلام نفسي ليس له صوت.

(٢) وجه هذا الإلزام لا يظهر إلا لمن هو على شاكلة الناظم في تخيل ما هو غير معقول ولو ألزم القائلين بالحرف والصوت أن التالي قد يكون لاحنا قبيح الأداء فلا يتصور في صفة الله سبحانه مثل ذلك فيبطل القول بأن كلام الله حرف وصوت لكان قوله هذا ملزما حقيقة وأما إلزام الناظم هنا فقلب للحقيقة بل هذيان ظاهر وأمام هذا لم يسع المصنف إلا أن يخرج الناظم من عداد العقلاء ومن الصعب جدا على العالم خطاب من لا يفهم.

(٣) وهم يفرقون بين الأمر التكليفي والأمر التكويني ، وقد ذكروا فيما ألّفوه في أصول الفقه ما هو موجب الأمر التكليفي. وقوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] يحتمل معاني ومن أجلاها أنه هو الذي خلق الخلق وإليه فقط أن يأمرهم بما يشاء وأولو الأمر إنما يستمدون الأمر من أمره تعالى فلا يكون للآية دخل في هذا البحث أصلا وإن كان بعضهم يلهج بذلك.

فصل

قال : «والله أخبر في الكتاب بأنه منه».

قلنا : الذي في الكتاب (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) [الزّمر : ١] ... ، ونحوه وليس فيها الكتاب منه.

ثم قال : «والمجرور ب (من) (١) نوعان : عين ووصف قائم بالعين ، فالعين خلقه والوصف قام بالمجرور».

قوله قائم بالعين ليس بصحيح فقد يكون قائما بنفسه (؟).

فصل

وقيعة الناظم وشيخه في ابن حزم

قال : «وأتى ابن حزم فقال ما للناس قرآن ولا اثنان بل أربع كل يسمى بالقرآن وذاك قول بين البطلان. هذا الذي يتلى والمرسوم والمحفوظ والمعنى القديم فالشيء شيء واحد لا أربع فدهى ابن حزم (٢) ملة القرآن».

هذا لم يفهم كلام ابن حزم ، مراد ابن حزم أن القرآن هو المعنى وهو واحد له وجود في نفسه ويتلى ويرسم ويحفظ فيوجد في اللفظ والخط والصدر ويطلق على الثلاثة أيضا قرآن فاللفظ مشترك بين الأربعة.

__________________

(١) يريد أن ما سبق على المجرور ب «من» إما أن يكون عينا أو وصفا ، فالعين مخلوقه تعالى ، قال : والوصف قائم به تعالى لكن في العبارة ارتباك ، وكذا عبارة المصنف فليحرر.

(٢) ومن المضحك المبكي وقيعة الناظم وشيخه في ابن حزم وهو إمامهما في غالب المسائل الفرعية التي شذّا بها عن الجماعة وأنت تراهما يطعنان فيه طعنا مرا في المسائل الاعتقادية ، وهو أقرب إلى الحق منهما في غالب تلك المسائل ولا سيما في مسألة القرآن وهو من المنزهين دونهما وهو عدو لدود للمجسمة حتى إنهم تراهم ينبزون هذا الظاهري بالقرمطة ، وفي الفصل أبحاث جيدة تتعلق بقمع أهل التجسيم لعلها تكون كفارة عن بعض قسوته وشذوذه ومخالفاته لجمهور العلماء وقول ابن حزم بكون القرآن مشتركا بين تلك الأربعة موافق لكتاب الله ، قال الله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] وقال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)) [البروج : ٢١ ، ٢٢] وقال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩] فصدور العلماء واللوح المحفوظ ولسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخلوقة مع ما فيها ، فالقديم هو ما قام بالله سبحانه دون ما في الصدور والألواح والألسنة ، وهذا في غاية من الظهور. وغلط ابن حزم إنما هو في قوله بعموم المشترك هنا.

ثم قال ما معناه : «إن اللفظ يطلق على المصدر ويطلق على الملفوظ وألفاظ العباد كذلك ، فالأول مخلوق والثاني (١) غير مخلوق وهو القرآن وعلى ذلك حمل كلام أحمد (٢) والبخاري».

الكلام اللفظي

قلنا أما المصدر فمخلوق بلا شك (٣) وهو فعل العبد وأما الملفوظ من فم العبد فهو الصوت الخارج منه ، المخلوق لله تعالى ، وقولنا له كلام الله كما يقال إذا قرأ المحدث (إنما الأعمال بالنيات) هذا كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذ قرئ كتاب ملك علينا نقول هذا كتاب الملك.

فصل

قال : في مقالة الفلاسفة والقرامطة :

هذا لا يتعلق بنا فعليهم غضب الله ، ولكن غرضه أن يخلط الحق بالباطل حتى يروج (٤) الباطل.

__________________

(١) يعني الملفوظ ، فإن كان يريد وجوده العلمي في علم الله فقدمه بهذا الاعتبار موضع اتفاق ، وإن كان يريد الصوت الصادر من فم اللافظ فهو حادث قطعا ، وأنى يتصور القدم لعرض محسوس المبدأ والمقطع ومذهب الناظم اعتبار كلام الله صوتا صادرا من الله حادثا شخصا قديما نوعا ، تعالى الله عن ذلك. ولم يقل به أحد قبل شيخ الناظم وتابعه الناظم المسكين كما يظهر من مواضع في هذا الكتاب فقوله (والثاني غير مخلوق) لا يصح بالنظر إلى الصوت وهو ظاهر والله سبحانه هو الهادي.

الخلاف بين أحمد والبخاري في اللفظ

(٢) والمعروف بين أهل العلم أن البخاري كان يقول بحدوث اللفظ ـ يعني لفظ التالي الدال دون تعرض للمعنى المدلول عليه وضعا أو عقلا ـ وأحمد يبدع من يقول ذلك وتبديع هذا وقول ذاك متواردان على شيء واحد ، والحق مع البخاري في تلك المسألة وإن كان الذهلي وأصحابه جميعا هجروه على ذلك ، راجع كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم وليس بقليل بين أهل العلم الذين يقولون بأن المعنى المصدري أمر نسبي من قبيل الحال فعندهم أن اللافظ هو العبد وهو مخلوق الله والملفوظ هو الصوت المكيف الخارج من فم العبد وهو مخلوق الله تعالى أيضا واللفظ بالمعنى المصدري نسبة بين اللافظ والملفوظ فلا يتعلق به الخلق عندهم وقول الناظم والمصنف بخلقه على مذهب نفاة الحال. وتفصيل هذا البحث فيما كتبناه على الاختلاف في اللفظ.

(٣) يعني عند نفاة الحال ، راجع شرح المواقف.

(٤) هل يعد من علماء الإسلام بل من عامة المسلمين من يروج الباطل هو يعلم أنه باطل؟.

فصل

قال : في الاتحادية :

هو من النمط الذي قبله.

ثم قال : «هذي مقالات الطوائف كلها فاعطف على الجهمية المغل الذين خرقوا سياج العقل والقرآن شرد (١) بهم من خلفهم واكسرهم». ثم ذكر مذاهب المعتزلة ومذاهب الأشعرية وهما اللذان يسميهما الجهمية.

ثم قال : هذا الذي قد خالف المعقول والمنقول والفطرات للإنسان ، أما الذي قد قال إن كلامه ذو أحرف قد رتبت ببيان وكلامه بمشيئة وإرادة كالفعل منه كلاهما (٢) سيان فهو الذي قد قال قولا يعلم العقلاء صحته بلا نكران ، فلأي شيء كان ما قلتم أولى؟ ولأي شيء كفرتم أصحاب هذا القول؟ فدعوا الدعاوى وابحثوا معنا وارفوا مذاهبكم إن أمكن».

ليت شعري من هو الذي من العقلاء يعلم صحة كلام ذي أحرف مترتبة مفعول قديم ولكن هذا صبي العقل غره ، هجام على الحقائق بهواه.

__________________

(١) التشريد المذكور في الآية مأمور أن يوقعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكفار. ولينظر القارئ كيف يأمره حضرة الناظم أن يوقعه بجماعة المسلمين الأشاعرة وغيرهم من أجل أنهم لا يوافقونه في ضلاله.

(٢) هذا إنما يصح في الكلام اللفظي الحادث باعتبار وجوده الخارجي وأما باعتبار وجوده العلمي فقديم ، كما سبق ، قال أبو بكر الباقلاني في النقض الكبير : «من زعم أن السين من باسم الله بعد الباء والميم بعد السين الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن المعقول وجحد الضرورة وأنكر البديهة ، فإن اعترف بوقوع شيء فقد اعترف بأوليته ، فإذا ادعى أنه لا أول له فقد سقطت محاجته وتعين لحوقه بالسفسطة ، وكيف يرجى أن يرشد الدليل من يتواقح في جحد الضروري اه» راجع الشامل لإمام الحرمين ونجم المهتدي لابن المعلم القرشي. وفي شعب الإيمان للحليمي «ومن زعم أن حركة شفتيه أو صوته أو كتابته بيده في الورقة هو عين كلام الله القائم بذاته فقد زعم أن صفة الله قد حلّت بذاته ومسّت جوارحه وسكنت قلبه ، وأي فرق بين من يقول هذا وبين من يزعم من النصارى أن الكلمة اتحدت بعيسى عليه الصلاة والسلام اه» ليحفظ القارئ هذا ثم أرجوه أن يقرأ قول الموفق الحنبلي صاحب المغني في مناظرته المسجلة في المجموعة المحفوظة تحت رقم ١١٦ بظاهرية دمشق ونصه «قال أهل الحق : القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقالت المعتزلة هو مخلوق ، ولم يكن اختلافهم إلا في هذا الموجود دون ما في نفس الباري مما لا ندري ما هو ولا نعرفه».

وعن الموفق هذا يقول شيخ الناظم : ما حلّ دمشق مثله بعد الأوزاعي وأنت ترى كلامه في المسألة وإذا كان هذا حال الموفق فما ذا تكون حال الناظم وشيخه؟.

ثم قال : «فاحكم ـ هداك الله ـ بينهم لا تنصرن سوى الحديث وأهله هم عسكر القرآن. فنقول هذا القدر قد أعيا على أهل الكلام وقاده أصلان ، أحدهما : هل فعله (١) مفعوله أو غيره ، قولان والقائلون بأنه عينه فروا من الحدث في الصفات وحقيقة قولهم تعطيل الخالق عن فعله إذ فعله مفعوله لكنه ما قام به فعلى الحقيقة ما له فعل إذا المفعول منفصل عنه. والقائلون بأنه غيره طائفتان : إحداهما قالت قديم قائم بالذات ، سموه تكوينا ، وهم الحنفية. والآخرون رأوه حادثا قام بالذات ، وهم نوعان : أحدهما جعله مفتتحا به حذرا من التسلسل وهو قول الكرامية ، والآخرون أهل الحديث كأحمد (٢) بن حنبل قال : إن الله لم يزل متكلما إن شاء ، جعل الكلام صفة فعل قائمة بالذات لم يفقد من الرّحمن ، وكذاك نص على دوام الفعل وكذا ابن عباس وجعفر الصادق و (عثمان بن سعيد) الدارمي وصدق فالحياة والفعل متلازمان

__________________

(١) إن كان المراد بالفعل ما هو بالمعنى المصدري من قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] فليس في فرق الإسلام من ينفي الفعل بهذا المعنى عن الله سبحانه بل إثباته موضع اتفاق بين الفرق كلها وإن كان يريد ما هو مبدأ هذا المعنى فهو صفة قديمة غير الإرادة والقدرة عند طوائف من أهل الحق وهي المسماة عندهم بصفة التكوين ، وأما الأشاعرة فيرجعونها إلى القدرة وللقولين حظ من النظر وأما إن كان المراد بالفعل الفعل الحاصل بالمصدر أعني الأثر المترتب على التكوين أو القدرة فلا شك أنه مفعول الله ومخلوقه وغير قائم به أصلا ، فأفعال الله بهذا المعنى هي مخلوقاته حتما ، ودعوى قيامها بالله لا تصدر ممن يعي ما يقول ومن المجسمة أناس يظنون أن أفعال الله تكون بالحركة كأفعال العباد وتصدر منه بالعلاج والمزاولة مع أن الجوارح والآلات إنما وضعت للعباد ليتوصلوا بها إلى قصدهم وهي كلها نقص وآفات ، وأما من له الحول والقوة جلّ جلاله فإنما هو إذا أراد شيئا قال له كن فيكون بدون آلة ولا جارحة ولا علاج ولا مزاولة. يريد الشيء فيحدث. وبهذا البيان ظهر ما في كلام الناظم من الاختلال ووجوه الضلال.

(٢) نسبة القول بقيام الفعل الحادث بالله سبحانه إلى أحمد وجعفر الصادق وابن عباس رضي الله عنهم نسبة كاذبة وفرية مكشوفة. وقول أحمد (إن الله لم يزل متكلما إن شاء) بمعنى أن الكلام صفة قديمة وأنه تعالى يكلم أنبياءه متى شاء بدون حرف ولا صوت بالوحي ومن وراء حجاب أو بإرسال رسول «وهو متكلم خالق قبل أن يكلم الرسل ويخلق الخلق» كما صرح بذلك غلام الخلال من قدماء الحنابلة في المقنع ، وأما عثمان بن سعيد الدارمي السجزي مؤلف النقض على المريسي فكان فيما سبق لا يخوض في صفات الله سبحانه كما هو طريقة السلف ، ثم انخدع بالكرامية وأصبح مجسما مختل العقل عند تأليفه النقض المذكور ، وهو حقيق بأن يكون قدوة للناظم ونسجل هنا على الناظم اعتقاده قيام الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى واعتقاده أن هذه الحوادث لا أول لها ، وإني ألفت نظر حضرة القارئ إلى هذه العقيدة وهل تتفق مع دعوى أنه إمام دونه كل إمام؟ بل هل تتفق هذه العقيدة مع دعوى أنه في عداد المسلمين فقط؟.

وكل حي (١) فعال إلا إذا عرضت آفة أو قسر ، أولست تسمع قول كل موحد (يا دائم المعروف قديم الإحسان) أوليس فعل الرب تابع وصفه وكماله؟ أفذاك ذو حدثان؟ وكماله سبب الفعال وخلقه أفعالهم سبب الكمال الثاني ، أوما فعال الرب عين كماله؟ أفذاك ممتنع على المنان أزلا إلى أن صار فيما لم يزل ممكنا؟ تالله قد ضلّت عقول القوم إذ قالوا بهذا ، وتخلف التأثير بعد تمام موجبه محال والله ربي لم يزل ذا قدرة ومشيئة وعلم وحياة وبهذه الأوصاف تمام الفعل فلأي شيء تأخر فعله مع موجب (٢) قد تم والله عاب على المشركين عبادتهم ما ليس بخالق ولا ينطق ، والله إله حق دائما ، أفعنه الوصفان (٣) مسلوبان أزلا ، هذا المحال إن كان رب العرش لم يزل إله الخلق ، فكذا لم يزل متكلما فاعلا ـ والله ـ ما في العقل ما يقضي لذا بالرد بل ليس في المعقول غير ثبوته ، وما دون المهيمن حادث ليس القديم سواه والله سابق كل شيء ما ربنا والخلق مقترنان والله كان وليس شيء (٤) غيره لسنا نقول كما يقول

__________________

الرد على عثمان بن سعيد في إثباته الحركة

(١) ليست حياة الله كحياة العباد ولا فعله تعالى كأفعالهم ، وإدخال الله سبحانه في مثل هذه الكلية لا يصدر إلا ممن هو مريض القلب بمرض التشبيه ، وعثمان بن سعيد هذا يصرح في نقضه المنقوض بأن كل حي فعّال متحرك ويثبت لله الحركة ويظهر من ذلك كيف يتصور فعل الله ، والناظم يقتدي بمثل هذا المحذوف ، ولعل القارئ ازداد بصيرة وعلم من هذا الكلام بأن الحوادث لا أول لها في نظر هذا الناظم لأن حياة الله لا أول لها فيكون فعله لا أول له ، وهذه المسألة من المسائل التي كفّر علماء الإسلام الفلاسفة بها فليعرفه المغرورون بابن القيم ثم ليعرفوه.

الرد على قول الناظم بالإيجاب

(٢) وهذا تصريح منه بأن الله سبحانه فاعل بالإيجاب انخداعا منه بقول الفلاسفة القائلين بقدم العالم وقد أتى أهل الحق بنيانهم من القواعد ، وإن كان الناظم المسكين بعيدا عن فهم أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء. ثم يناقض الناظم نفسه ويثبت لله الاختيار وهو في الحالتين غير شاعر بما يقول ، تعالى الله عما يقول. وأرجو أن يفهم القارئ هنا معنى لا بد من اعتقاده وهو أن القائل بأن الله فاعل بالإيجاب في ناحية ودين الإسلام كله في ناحية ، وأي مسلم يستطيع أن يقول إن ربنا مرغم على فعل ما يفعله.

(٣) ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق وهكذا كما نقله الطحاوي عن فقهاء الملة لكن أين للمجسم المسكين أن يفهم هذه الحقائق.

(٤) والمسلمون جميعهم يعتقدون أن حياة الله لا افتتاح لها ، وقد تقدم للناظم أنه يقول : إن كل حي فعال وإن الحياة والفعل متلازمان. ومعنى هذا أن الفعل لا افتتاح له أيضا فإذن كيف يتفق قوله هذا السابق مع قوله هنا : «كان الله وليس شيء غيره» فليعرف ذلك أهل الغرور بابن القيم ثم ليعرفوه.

اليوناني بدوام هذا العالم المشهود والأرواح في أزل وليس بفان ، واندفع في ذكر النصير الطوسي لعنه الله فهو معذور فيه ، لكنه لا فرق بينه وبين القائلين بقدم العالم إلا أنه لا يقول بقدم هذه الأجسام المشاهدة والأرواح وهذه الأجسام والأرواح كالحوادث اليومية التي أجمع كل عاقل على حدوثها ، فلو جاء زنديق وقال إنه لم يزل أجسام وأرواح خلقا من قبل خلق وإنه كان قبل هذه السماوات سماوات غيرها لا إلى نهاية ، وأرواح غير هذه الأرواح لا إلى نهاية لم يكن بينه وبين هذا الناظم فرق إلا أن هذه في غير ذاته تعالى ، وما قاله الناظم ، بحدوثه في ذاته سبحانه وتعالى والتسلسل عنده جائز فبم ينكر على الزنديق الذي يدعي ذلك؟ وأي فرق بين قوله وقوله؟ فإن التزم جوازهما فأي فرق بينهما وبين جرم هذه السماء (١)؟ وقوله (تخلف التأثير بعد تمام موجبه) ففيه اعتراضان : أحدها أن المؤثر خلاف الفاعل بالاختيار والله تعالى فاعل بالاختيار والثاني قوله (بعد تمام موجبه) إن أراد الإيجاب الذاتي فهو قول الفلاسفة والله فاعل بالاختيار ، ومن ضرورة الفعل بالاختيار تأخر الفعل عن الاختيار ، والتأخر يقتضي الحدوث فكيف يتخلص عن هذه اللكنة. [وإن أراد الوجوب عن الله فسياق العبارة ينافيه].

فصل

القول في تجويز التسلسل في الماضي

قال : «فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل قلنا صدقتم وهو ذو إمكان كتسلسل التأثير في مستقبل ، وهل بينهما (٢) فرق؟ وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم والأشعري وابن الطيب الباقلاني وجميع أرباب الكلام الباطل فرقوا وقالوا ذلك فيما لا يزال حق وفي الأزل ممتنع لأجل تناقض الأزلي والأحداث ، فانظر إلى التلبيس في ذا الفرق ترويجا على العوران والعميان ما قال ذو عقل بأن ذا أزلي لذي ذهن ولا أعيان بل كل فرد فهو مسبوق بفرد ونظيره كل فرد ملحوق بفرد فالآحاد تفنى والنوع (٣) لا يفنى أزلا

__________________

(١) ولعل المصنف لم ير جزء (حوادث لا أول لها) لابن تيمية إذ قوله فيه خطر جدا.

(٢) لو كان الناظم سعى في تعلم أصول الدين عند أهل العلم قبل أن يحاول الإمامة في الدين لبان له الفرق بين الماضي والمستقبل في ذلك ، ولعلم أن كل ما دخل في الوجود من الحوادث متناه محصور وأما المستقبل فلا يحدث فيه حادث محقق إلا وبعده حادث مقدر لا إلى غير نهاية بخلاف الماضي كما سبق وسيأتي كلام أبي يعلى وغيره في ذلك.

(٣) عدم فناء النوع في الأزل بمعنى قدمه ، وأين قدم النوع مع حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلا

وأبدا وتعاقب الآنات ثابت في الذهن كذا في العين ، فإن قلتم الآنات حادثة فيقال ما ذا تعنون بالآنات؟ هل تعنون مدة من حين إحداث السماوات؟ ونظنكم تعنون ذاك ولم يكن قبلها شيء من الأكوان ، هل جاءكم في ذاك من أثر ومن نص ومن نظر ومن برهان؟ إنا نحاكمكم إلى ما شئتم منها أوليس خلق الكون في الأيام أوليس ذلكم الزمان بمدة ، فحقيقة الأزمان (١) نسبة حادث لسواه ، واذكر حديث السبق بخمسين ألف سنة سابقة ، وعرش الرب فوق الماء من قبل السنين بمدة وزمان والحق أن العرش كان قبل القلم والذين لم يقولوا بدوام فعله (٢) عموا عن القرآن والحديث ومقتضى العقول وفطرة الرّحمن والبرهان وأسسوا أصل الكلام وبنوا قواعدهم عليه وقادهم قسرا إلى التعطيل ، نفى القيام لكل أمر حادث بالرب خوف تسلسل الأعيان

__________________

ـ ممن به مس بخلاف المستقبل وقد سبق بيان ذلك ، وقال أبو يعلى الحنبلي في المعتمد : «والحوادث لها أول ابتدأت منه خلافا للملحدة اه». وهو من أئمة الناظم فيكون هو وشيخه من الملاحدة على رأي أبي يعلى هذا فيكونان أسوأ حالا منه في الزيغ نسأل الله السلامة.

الرد على كلام الناظم في الزمان

(١) بل الزمان متجدد معلوم يقدر به متجدد مبهم إزالة لإبهامه عند المتكلمين ، وجوهر مجرد عند بعض الفلاسفة ، وعرض غير قار الذات عند جمهورهم أو هو الفلك الأعظم أو حركته أو مقدار تلك الحركة عند طوائف منهم ، وقول الناظم لا يطابق واحدا منها والكلام في الزمان والمكان طويل الذيل مبسوط في موضعه ، فكأن الناظم يريد أن يقول : إن الزمان كان موجودا قبل هذه السماوات بدليل تلك الأحاديث فلا مانع من وجود حوادث لا أول لها متعاقبة في الماضي في آنات متعاقبة لا أول لها ، وهو قول الدهرية نفاة الصانع. فيا ترى ما ذا يريد من كون العرش قبل القلم فإن كان أراد أن يجعل لله عرشا يستقر عليه أزلا إما بقدم العرش قدما نوعيا ، كما روى الدواني عن ابن تيمية أو قدما شخصيا لورود «أول ما خلق الله القلم» فحاشاه أن يستقر على عرش استقرار تمكن حادثا كان العرش أو غير حادث. تعالى الله عن هذا وذاك. ولأهل العلم كلام واف في الأحاديث الواردة في أول ما خلق الله تعالى ولا غرض لنا يتعلق بذلك هنا. والعرش هو المخلوق الثالث عند محققي أهل العلم بالحديث.

(٢) القول بدوام فعله تعالى في جانب الماضي قول بحوادث لا أول لها ، وقد سبق تسخيف ذلك مرات ، قال القاضي أبو يعلى الحنبلي : «لا يجوز وجود موجدات لا نهاية لعددها سواء كانت قديمة أو محدثة خلافا للملحدة ، والدلالة عليه أن كل جملة لو ضممنا إليها خمسة أجزاء مثلا لعلم ضرورة أنها زادت ، وكذلك عند النقص ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون متناهية بجواز قبول الزيادة والنقصان عليها ، لأن كل ما يأتي فيه الزيادة والنقصان وجب أن يكون متناهيا من جهة العدد اه» راجع المعتمد المحفوظ تحت رقم ٤٥ من التوحيد في ظاهرية دمشق وهذا بالنظر إلى الماضي كما سبق فتبا لمن يكون أسوأ حالا في هذه المباحث من أبي يعلى المذكور حاله في دفع شبه التشبيه لابن الجوزي.

فيسد ذاك عليهم بزعمهم إثبات الصانع إذا أثبتوه بخلاف الأجسام ، هذي نهايات أقدام الورى في ذا المقام الضيق فمن يأتي بفتح ينجي الورى من الحيرة» انتهى كلامه في هذا الفصل.

وقد صرح بقبائح منها إمكان التسلسل ومنها نسبة أكابر علماء الأشعرية إلى التلبيس ومنها نسبة ذلك إلى القرآن والسنة وأنه لم يجيء أثر ينص على العدم المتقدم وقد جاء (كان (١) الله ولا شيء معه) والشيء يشمل الجسم والفعل والنوع والآحاد.

فصل

قال : «هذا (٢) الدليل هو الذي أرادهم ما زال أمر الناس معتدلا إلى أن دار في الأوراق فرفعت لوازمه قواعد الإيمان وتركوا حق الأدلة وهي في القرآن ودليلهم لم يأت به الله ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل حدث على لسان جهم وحزبه».

ينبغي أن يقال لهذا الردى انتصب للدليل حتى يرى ما عنده.

فصل

قال في الرد على الجهمية المعطلة القائلين بأنه ليس على العرش إله يعبد ولا فوق السماوات إله يصلّى له ويسجد.

هذا المدبر يأخذ الكلام يقلبه كما يقلب الحقائق ، فإنه جعل مصب كلام خصومه إلى نفي الإله وهم أثبتوا الإله ونفوا كونه فوق العرش وقوله (المعطلة) يوهم به أنهم معطلة العالم من الصانع وهو يريد به معطلة الخالق من قيام الفعل الحادث به فما أكثر تلبيسه (٣) وتدليسه ومراده بالجهمية (المعتزلة والأشعرية) وليس أحد من

__________________

(١) أخرجه ابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة عن بريدة وفي رواية ولا شيء غيره.

(٢) وهو القول بأن الجسم لا يخلو من حادث في الاحتجاج على حدوث العالم وانتهائه إلى محدث واجب الوجود منزّه عن الجسمية والجسمانيات ، وهو حجة الله التي آتاها إبراهيم مهما تقولت المجسمة وهذت في ذلك ، وقد اعترف بتلك الحجة مثل ابن حزم مع كونه ظاهريا فما للناظم لا يتابعه في ذلك وهو يتابعه في شواذه الباطلة؟ فلعله اتخذه قدوة في الباطل دون الحق.

(٣) وكيف يرضى العقال أن يعد من العلماء ـ وهم أمناء الله في أرضه ـ رجلا كثير الغش لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثرة يتعجب منها أئمة الإسلام وليس هذا الغش في أمر من أمور الدنيا ولو كان هذا لهان الأمر ولكنه غش في صميم الإسلام فليعرف ذلك المغرورون بابن القيم ثم ليعرفوه.

المعتزلة اليوم عندنا ظاهرا فلا كلام له إلا مع الأشعرية الذين أكثر الخلق يقتدون بهم ، يريد تنقيصهم والطعن فيهم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

قال : «والله كان وليس شيء (١) غيره وخلق البرية ، فسل المعطل هل هي خارج ذاته أو فيها أو هو عينها لا رابع ، ولذلك قال محقق القوم الذي رفع القواعد هو عين الكون فهو الوجود بعينه إن لم يكن فوق الخلائق إذ ليس يعقل بعد إلا أنه فيها كمقالة النصراني فاحكم على من قال ليس بخارج ولا داخل بأنه أوقع عليه (٢) حد المعدوم ، فإن زعم أن ذاك في الجسم ، والرب ليس كذا فيقال هذا دعوى واصطلاح اليونان».

إن أراد بالدعوى نفي الجسمية عن الرب وبالاصطلاح ذلك فقد أظهر ما في نفسه ، وإن أراد أن النفي إنما يصدق في الأجسام والظاهر أنه مراده فلا يقال فيه اصطلاح.

قال : «والشيء يصدق نفيه عن قابل وسواه ولذا ينفي عنه الظلم المحال والنوم والسنة والطعم والولادة والزوجة ، والله وصف الجماد بأنه ميت أصم ، ونفى عنه الشعور والنطق والخلق وهو لا يقبل ، ولو سلم أن هذا شرط كان في الضدين لا في النقيضين ونفيكم لقبولهما يزيل الإمكان وهو كنفي قيامه بالنفس أو بالغير فإذا المعطل

__________________

(١) وهذا يناقض القول بحوادث لا أول لها ودوام الفعل في جانب الماضي ، والناظم كم ينقض غزله وله هوى في إكفار الأمة بكل وسيلة ، ولا أدري ما ذا يكسب هذا المتهوس إذا لم يبق من الأمة مسلم سوى مكسري الحشوية. وبين الصوفية أتقياء أبرار يراعون أدق أوامر الشرع في جميع شئونهم ويرون في الوجود ما لا يتنافى مع التكاليف الشرعية كما أن بين المتصوفة زنادقة إباحية ، وإجراء الكلام في حق الفريقين بمجرى واحد ليس من الإنصاف في شيء وكفى أن ينسب إليهم بعض بدع بدون تسرع في إكفارهم ، وقال العلامة يوسف البحري من أجلّة أصحاب السيد مرتضى الزبيدي فيما علقه على (المجموع في المشهود والمسموع) : إن الواجب له عز الوجوب والعظمة والكبرياء فهو منزّه عن اللواحق المادية والتعطيلات الإلحادية وإن الممكن له ذل الإمكان وحقارة الاحتياج إليه محقور مقهور محتاج إليه تعالى في وجوده وبقائه وجميع أطواره فلا ينقلب الواجب ممكنا ولا الممكن واجبا ، بل الواجب خالق قادر غني والممكن مخلوق عاجز محتاج ، فلا يكون أحدهما عين الآخر ، وهذا بديهي وبه نزلت الكتب السماوية وجاء به الأنبياء والمرسلون ودعوا الناس إلى اعتقاده وقامت عليه البراهين واتحدت كشوف الأولياء مع طريق النظر في هذا المطلب اه ثم شرح كيف يضمحل الوجود الإمكاني في نظر المقبل إلى الله بكليته.

(٢) من يعلم هذا البجباج النفاج أنواع التقابل والفرق بين الضدين والنقيضين؟ ومن يفهمه أن الخروج والدخول ضدان لا نقيضان قد يرتفعان عما ليس بجسم بخلاف النقيضين؟.

قال إن قيامه بالنفس أو بالغير باطل إذ ليس يقبلهما إلا جسم أو عرض فكلاكما ينفي الإله حقيقة ما ذا يرد عليه من هو مثله في النفي صرفا والفرق ليس بممكن لك والخصم يزعم أن ما هو قابل لهما كقابل لمكان فافرق أو أعط القوس باريها وخل الفشرة وكثرة الهذيان».

فهذا فشار كبير ممن لا يعرف الضدين ولا النقيضين ولا الإمكان ولا الامتناع ، يا سبحان الله الدخول والخروج نقيضان أو نفي الوصف بهما يزيل الإمكان أو ينفي الإله؟ هذا خلط.

فصل

قال : في سياق هذا الدليل على وجه آخر إن نفي المعطل كون الإله خارج الأذهان بالغ في الكفر وإن أقر ، فإن قال إنه عين الأكوان قال بالاتحاد وجحد ربه ، وإن قال غيرها ، فإن قال الخلق في ذاته أو ذاته فيهم فهو قول النصارى ، وإن قال قائم بنفسه فهو وغيره مثلان أو ضدان أو غيران وعلى التقادير (١) الثلاثة لو لا التباين لم يكن شيئان فلذا قلنا إنكم باب من الاتحاد».

أسمع جعجعة ولا أرى طحنا آخره مطالبة بأن ما ليس في حيز كيف يكون موجودا.

__________________

(١) يلوك لسانه مصطلحات أهل المعقول من غير أن يفهم مرادهم ليظهر عند الحمقى بأنه جامع بين المعقول والمنقول ، فالغيران إذا اشتركا في تمام الماهية فهما مثلان ، وإلا فإن كانا وجوديين أمكن تعقل أحدهما مع الذهول عن الآخر فهما ضدان ، والتباين عندهم باعتبار الصدق أو التحقق لا بمعنى البينونة المفيدة إشغال هذا حيزا غير حيز ذاك ، والحاصل أنه جعل القسم قسيما وحمل التباين على التباعد بالمسافة وإشغال كل حيزا غير حيز الآخر ، وحاول أن يستنتج من الدعوى المجردة ما يدعيه ، ولو كان المسكين درس الطوالع مثلا قبل أن يخوض في هذه المباحث عند عالم كالأصبهاني لما فضح نفسه بهذيان المحمومين ، وحق للمصنف أن يقول في ثرثرة الناظم أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. لأن معنى كلام الناظم : إن نفى المعطل الإله في خارج الأذهان فهو كافر ، وإن أقر بوجوده بأن قال إنه عين الكون فهو اتحادي ملحد ، وإن قال إنهما مثلان أو ضدان أو غيران بدون اختلاف في الجهات فهو قائل بالاتحاد أيضا. فيا ترى هل لهذا التخريف من معنى عند أهل البصيرة؟

فصل

نصوص عن ابن تيمية في الفوقية الحسية

قال : «ولقد أتانا عشرة أنواع من المنقول في فوقية (١) الرّحمن مع مثلها أيضا يزيد بواحد ، ها نحن نسردها بلا كتمان».

أخذ هذا الخلف السوء يذكر ما قاله شيخه في كتاب العرش وكأنه المقصود بهذا النظم فإنه أطال فيه.

قال : «هذا ومن عشرين وجها يبطل التفسير ب (استولى) لذي العرفان قد أفردت بمصنف لإمام هذا الشأن بحر العالم (٢) الحراني».

__________________

(١) شيخ الناظم يريد بالفوقية الفوقية الحسية كما صرح به فيما رد به على الرازي حيث قال : «إن العرش في اللغة السرير وذلك بالنسبة إلى ما فوقه كالسقف بالنسبة إلى ما تحته ، فإذا كان القرآن جعل لله عرشا وليس هو بالنسبة إليه كالسقف علم أنه بالنسبة إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره وذلك يقتضي أنه فوق العرش اه». ومثل هذه الفوقية لا يقول به إلا مجسم ، ونقل البيهقي في مناقب أحمد عن رئيس الحنابلة وابن رئيسها أبي الفضل التميمي أنه قال : «أنكر أحمد على من قال بالجسم وقال : إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجيء في الشريعة ذلك فبطل» انتهى.

فالناظم وشيخه متقولان على الشرع وعلى اللغة وعلى إمامهما فضلا عن باقي الأئمة ، عاملهما الله بعدله.

(٢) بل هو وارث علوم صابئة حران حقا ، والمستلف من السلف ما يكسوها كسوة الخيانة والتلبيس. وعن هذا الحراني ـ الذي اتخذه الناظم إماما ـ يقول ابن حجر في الدرر الكامنة في ترجمته : «واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم ، قديمهم وحديثهم ، حتى انتهى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخطأ في شيء فبلغ الشيخ إبراهيم الرقى الحنبلي فأنكر عليه فذهب إليه واعتذر واستغفر وقال في حق عليّ كرّم الله وجهه أخطأ في سبعة عشر شيئا ثم خالف فيها نص الكتاب ، منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين ، وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة حتى إنه سبّ الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه. وذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال : كنزولي هذا ، فنسب إلى التجسيم. وافترق الناس فيه شيعا ، منهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية التي ردّ عليها ابن جهبل والواسطية وغيرهما من ذلك ، كقوله : إن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وإنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال : أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله تعالى ، ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستغاث به. لأن في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أشد الناس عليه في ذلك النور البكري ، فإنه لما عقد له المجلس

__________________

ـ بسبب ذلك ، قال بعض الحاضرين : يعزر فقال البكري : لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصا يقتل وإن لم يكن تنقيصا لا يعزر ، ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي كرّم الله وجهه ما تقدم ، ولقوله إنه كان مخذولا حيثما توجه وإنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها وإنما قاتل دون الرئاسة لا للديانة ، وأن عثمان رضي الله عنه كان يحب المال. ولقوله أبو بكر رضي الله عنه أسلم شيخا لا يدري ما يقول وعليّ كرّم الله وجهه أسلم صبيا والصبي لا يصح إسلامه على قول. ونسب قوم إلى أنه كان يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدا لطول سجنه وله وقائع شهيرة ، وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا اه».

والدرر الكامنة من محفوظات دار الكتب المصرية وقد طبعت حديثا بمعرفة دائرة المعارف بحيدرآباد الدكن وليس بين هؤلاء من ذكره بالإمامة والقدوة في الدين ومن اتخذه إماما إنما اتخذه إماما في الزيغ والشذوذ من غير أن يتهيب ذلك اليوم الذي يدعى فيه كل أناس بإمامهم ، فليعتبر بذلك من ظن أن ابن حجر العسقلاني في صف المثنين على إمامته على الإطلاق. وهذا كلام ابن حجر في هذا الزائغ مع أنه لم يطلع على جميع مخازيه. ومن أثنى عليه من أهل السنة في مبدأ أمره قبل انكشاف الستر عن بدعه الطامة إنما أثنى عليه تشجيعا له على العلم لما كانوا يرون فيه في مبدأ نشأته من القابلية للعلم كما كانوا يفعلون مثل ذلك مع كل ناشئ لكن لما تشعبت هموم ابن تيمية وتوزعت مواهبه في مختلف الأهواء وضاع صوابه بين أمواج البدع التي ارتضاها لنفسه تراجع كل من أثنى عليه من هؤلاء على توالي فتنه بين الأمة وتعاقب أهوائه المخزية وانقلبوا ضده ، ولو لا مغامراته في شتى العلوم التي يكفي واحد منها ليختص فيه أذكى العلماء لربما برع في علم يتفرغ له بعزيمة صادقة لكن جنى على نفسه بتشتيت مساعيه وراء أهواء بشعة فأصبح في موضع هزء البارعين كلما اختبروه في علم من العلوم التي يدعي الإمامة فيها ومن أمثلة ذلك أن صفي الدين الأرموي المشهور كان طويل النفس في التقرير إذا شرع في وجه يقرره لا يدع شبهة ولا اعتراضا إلا وقد أشار إليه في التقرير بحيث لا يتم التقرير إلا ويعز على المعترض مقاومته ، وكان حضر حينما جمعت العلماء لأجل النظر في المسألة الحموية ، ولما عقد المجلس لأجل امتحان ابن تيمية عما أورده في الحموية أخذ الصفي الأرموي يقرر المسألة على طريقته البارعة ليقطع الطرق على ابن تيمية من جميع الوجوه فبدأ ابن تيمية يعجل عليه على عادته ويخرج من شيء إلى شيء على أمل أن ينفق عليه تشغيبه لكن سقط في يده حيث قال له الصفي الأرموي : ما أراك يا بن تيمية إلا كالعصفور حيث أردت أن أقبضه من مكان يفر إلى مكان آخر اه. وما ابن تيمية في نظر مثل الأرموي إلا كعصفورة في العلم وإن اتخذه الجهلة الأغرار إماما بأن نبذوا الأئمة المتبوعين وراء ظهورهم حيث راجت عليهم ثرثرته الفارغة ، ولا غرو فإن كل ساقطة لاقطة والطير على أشكالها تقع.

والمسألة الحموية هذه تتضمن القول بالجهة وحبس ابن تيمية بعد هذا المجلس بسبب هذه المسألة ونودي عليه في البلد وعلى أصحابه وعزلوا من وظائفهم ، وهذه المسألة هي التي ردّ عليها العلامة ابن جهبل ردا مشبعا ، وقد علمت بذلك قيمة علم ابن تيمية عند البارعين من أهل العلم. وهاهنا لا بد من التنبيه على شيء وهو أني كنت كتبت فيما علقت على دفع الشبه لابن

قول أبي حيان في ابن تيمية

المصنف المذكور هو كتاب العرش لابن تيمية (١) وهو من أقبح كتبه ، ولما

__________________

ـ الجوزي في (ص ٤٧) : (بل يروي عن نفسه أعني ابن تيمية) أنه نزل درجة وهو يخطب على المنبر في دمشق وقال : «ينزل الله كنزولي هذا» على ما أثبته ابن بطوطة من مشاهداته في رحلته. وقال الحافظ ابن حجر في (الدرر الكامنة) : ذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال : «كنزولي هذا» فنسب إلى التجسيم اه. وهنا انتهى ما علقته على الموضع المذكور.

وأما ما زاد على ذلك وهو : «ويقول بعض علماء دمشق بأنه رأى هذه الخطبة في مخطوط قديم بزيادة (لا) قبل (كنزولي) والله أعلم. فزيادة منة الأستاذ الناشر اعتمادا على ما سمعه من الشيخ بدران الدوماني كأنه لم يكن يعرف مبلغ اجترائه على المجازفات وإرسال الكلام بدون ميزان ولم تكن الجماعة تعتقد أن نزول الله كنزول ابن تيمية حتى يكون لهذا الكلام معنى ما ولأجل ما زيد في كلامي هنا نكت الشيخ خضر الشنقيطي رحمه‌الله على في (استحالة المعية) وأنا بريء من تلك الزيادة ، سامحه الله.

صيغة استتابة ابن تيمية في الاستواء والصوت

وخطوط كبار العلماء

(١) وقد استتيب مرات في أمور خطرة وهو ينقض مواثيقه وعهوده في كل مرة وأوردت هنا صورة من صيغ استتابته كما هي مسجلة في (نجم المهتدي) لتكون عبرة للمعتبر وهي هذه :

«الحمد لله. الذي أعتقده أن القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت وليس هو حالا في مخلوق أصلا ، لا ورق ولا حبر ولا غير ذلك ، والذي أعتقده في قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] أنه على ما قال الجماعة الحاضرون وليس على حقيقته وظاهره ، ولا أعلم كنه المراد به ، بل لا يعلم ذلك إلا الله ، والقول في النزول كالقول في الاستواء أقول فيه ما أقول فيه ، لا أعرف كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله وليس على حقيقته وظاهره كما قال الجماعة الحاضرون ، وكل ما يخالف هذا الاعتقاد فهو باطل ، وكل ما في خطي أو لفظي مما يخالف ذلك فهو باطل ، وكل ما في ذلك مما فيه إضلال الخلق أو نسبة ما لا يليق بالله إليه فأنا بريء منه ، فقد برئت منه وتائب إلى الله من كل ما يخالفه. كتبه أحمد بن تيمية ، وذلك يوم الخميس سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة.

وكل ما كتبته وقلته في هذه الورقة فأنا مختار في ذلك غير مكره. كتبه أحمد بن تيمية حسبنا الله ونعم الوكيل».

وبأعلى ذلك بخط قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ما صورته : اعترف عندي بكل ما كتبه بخطه في التاريخ المذكور ، كتبه محمد بن إبراهيم الشافعي. وبحاشية الخط : أعترف بكل ما كتب بخطه ، كتبه عبد الغني بن محمد الحنبلي ، وبآخر خط ابن تيمية رسوم شهادات هذه صورتها : كتب المذكور بخطه أعلاه بحضوري واعترف بمضمونه ، كتبه أحمد بن الرفعة.

وقف عليه الشيخ أبو حيان (١) ما زال يلعنه حتى مات بعد أن كان يعظمه. قال :

__________________

ـ صورة خط آخر : أقر بذلك ، كتبه عبد العزيز النمراوي.

صورة خط آخر : أقر بذلك كله بتاريخه ، علي بن محمد بن خطاب الباجي الشافعي.

صورة خط آخر : جرى ذلك بحضوري في تاريخه ، كتبه الحسن بن أحمد بن محمد الحسيني.

وبالحاشية أيضا ما مثاله : كتب المذكور أعلاه بخطه واعترف به ، كتبه عبد الله بن جماعة.

مثال خط آخر : أقر بذلك وكتبه بحضوري ، محمد بن عثمان البوريجي.

وكل هؤلاء من كبار أهل العلم في ذلك العصر ، وابن الرفعة وحده له (المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي) في أربعين مجلدا وفي ذلك عبر. ولو لا أن ابن تيمية كان يدعو العامة إلى اعتقاد ضد ما في صيغة الاستتابة هذه بكل ما أوتي من حول وحيلة لما استتابه أهل العلم بتلك الصيغة وما اقترحوا عليه أن يكتب بخطه ما يؤاخذ به إن لم يقف عند شرطه ، وبعد أن كتب تلك الصيغة بخطه توج خطه قاضي القضاة البدر ابن جماعة بالعلامة الشريفة وشهد على ذلك جماعة من العلماء كما ذكرنا ، وحفظت تلك الوثيقة بالخزانة الملكية الناصرية ، لكن لم تمض مدة على ذلك حتى نقض ابن تيمية عهوده ومواثيقه ، كما هي عادة أئمة الضلال ، وعاد إلى دعوته الضالة ورجع إلى عادته القديمة في الإضلال وكم له من فتن في مختلف التواريخ في سني ٦٩٨ و ٧٠٥ و ٧١٨ و ٧٢١ و ٧٢٢ و ٧٢٦ وهي مدوّنة في كتب التواريخ وفي كتب خاصة ، ومجرد تصور شواذه التي ألممنا ببعضها في هذا الكتاب يدل المسترشد المنصف على ما ينطوي عليه من الزيغ وإضلال الأمة ، والله سبحانه ينتقم منه.

والغريب أن أتباع هذا الرجل يسيرون وراءه ويتشبهون به في إثارة القلاقل والفتن بين الأمة بمواجهتها بالحكم على أفرادها بالشرك والزيغ والكفر وعبادة الأوثان والطواغيت ، يعنون أحباب الله الأنبياء والأولياء يقولون إن من يزورهم يكون عابد الأوثان والطواغيت ومن هذا الطراز في زمننا كثير نراهم بأعيننا ونسمعهم بآذاننا ، طهّر الله الأرض منهم وأراح العباد من شرهم.

(١) قال أبو حيان الأندلسي الحافظ في تفسير قوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماه كتاب العرش «إن الله يجلس على الكرسي وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تحيل عليه محمد بن عبد الحق وكان من تحيله أنه أظهر أنه داعية له حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه» كما ترى في النسخ المخطوطة من تفسير أبي حيان وليست هذه الجملة بموجودة في تفسير الحبر المطبوع ، وقد أخبرني مصحح طبعه بمطبعة السعادة أنه استفظعها جدا وأكبر أن ينسب مثلها إلى مسلم فحذفها عند الطبع لئلا يستغلها أعداء الدين ، ورجاني أن أسجل ذلك هنا استدراكا لما كان منه ونصيحة للمسلمين.

وقد علمت العواتق في خدورهن حكاية هجر أبي حيان لابن تيمية لهذا السبب بعد أن كان تسرع في إطرائه ، وإطراؤه مدوّن في الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي وأما تقول بعض المداهنين بأنه إنما كان هجره لوقوعه في سيبويه حيث قال : أكان سيبويه نبي النحو وقد غلط في كيت وكيت. فرجم بالغيب أما تصريح أبي حيان صاحب القصة ، نعم هذا تهور وقلة أدب من ابن تيمية وما هي قيمة نحوه في جانب استبحار سيبويه وأبي حيان في النحو ، وإن كان لكل إمام غلطات معدودة في علمه لكن وقوعه في سيبويه في جنب الوقوع في الله سبحانه ليس

«منها استوى (١) في سبع آيات بغير لام ولو كانت بمعنى استولى لجاءت في موضع».

وهذا الذي قاله ليس بلازم فالمجاز قد يطرد وحسنه أن لفظ استوى أعذب وأخصر وليس هذا من الاطراد الذي يجعله بعض الأصوليين من علامة الحقيقة ، فإن ذلك هو الاطراد في جميع موارد الاستعمال والذي حصل هنا اطراد استعمالها في آيات فأين أحدهما من الآخر ، ثم إنّ استوى وزنه افتعل فالسين فيه أصلية واستولى وزنه استفعل فالسين فيه زائدة ومعناه من الولاية فهما مادتان متغايرتان في اللفظ والمعنى ، والاستيلاء قد يكون بحق وقد يكون بباطل والاستواء لا يكون إلا بحق والاستواء صفة للمستوي في نفسه بالكمال والاعتدال ، والاستيلاء صفة متعدية إلى غيره فلا يصح أن يقال استولى حتى يقول على كذا ، ويصح أن يقول استوى ويتم الكلام ، فلو قال استولى لم يحصل المقصود ، ومراد المتكلم الذي يفسر الاستواء بالاستيلاء التنبيه على صرف اللفظ عن الظاهر الموهم للتشبيه واللفظ قد يستعمل مجازا في معنى لفظ آخر ويلاحظ معه معنى آخر في لفظ المجاز لو عبر عنه باللفظ الحقيقي لاختل المعنى وقد يريد المتكلم أن الاستواء من صفات الأفعال كالاستيلاء المتمحض للفعل من كل وجه ويكون السبب في لفظة الاستواء عذوبتها واختصارها فقط دون ما ذكرناه ولكن ما ذكرناه أحسن وأمكن مع مراعاة معنى الاستيلاء. وانظر قول الشاعر :

قد استوى قيس على العراق

من غير سيف ودم مهراق

__________________

ـ بشيء مذكور فحمل هجره الدائم على خلاف ما ذكره الهاجر ليس شأن من يخاف الله ، ويتوخى مراضيه. بل ذلك شأن المخدوعين المفتونين.

(١) ويقال لهذا المتعلم بل لو كان (استوى) بمعنى (جلس) لأتى لفظ (جلس) في أحد المواضع السبعة.

ومما يقصر المسافة في الرد على الحشوية التي تدعي التمسك بالظاهر أن قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى) [البقرة : ٢٩] صيغة فعل مقرونة بما يدل على التراخي وذلك يدل على أن الاستواء فعل له تعالى متقيد بالزمن وبالتراخي شأن سائر الأفعال وعدّ ذلك صفة إخراج للكلام عن ظاهره وهذا ظاهر جدا ولم يرد (المستوى) في عداد أسماء الله الحسنى لا في الكتاب ولا في السنة حتى يصح إطلاقه على الذات العلية على أن يكون صفة أو علما. وقد أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا تحدث له صفة فلا مجال لعد ذلك صفة وقد ذكرت وجه حسن الاستعارة التمثيلية في الآية (في لفت اللحظ إلى ما في الاختلاف في اللفظ) ولعل القارئ المنصف يكاد يعد ذلك متعينا ولا حاجة إلى إعادة من هناك ، فليراجع ثمت.

ولو أتى بالاستيلاء لم يكن له هذه الطلاوة والحسن ، والمراد بالاستواء كمال الملك هو مراد القائلين بالاستيلاء ، ولفظ الاستيلاء قاصر عن تأدية هذا المعنى ، فالاستواء في اللغة له معنيان أحدهما استيلاء بحق وكمال فيفيد ثلاثة معان ولفظ الاستيلاء لا يفيد إلا معنى واحدا ، فإذا قال المتكلم في تفسير الاستواء الاستيلاء مراده المعاني الثلاثة وهو أمر يمكن في حق الله سبحانه وتعالى فالمقدم على هذا التأويل لم يرتكب محذورا ولا وصف الله تعالى بما لا يجوز عليه والمفروض المنزه لا يقدم على التفسير بذلك لاحتمال أن يكون المراد خلافه وقصور أفهامنا عن وصف الحق سبحانه وتعالى مع تنزيهه عن صفات الأجسام قطعا ، والمعنى الثاني للاستيلاء في اللغة الجلوس والقعود ، ومعناه مفهوم من صفات الأجسام لا يعقل منه في اللغة غير ذلك والله تعالى منزّه عنها ، ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسم (١) المنكر له فيؤاخذ بإقراره ولا يفيد إنكاره واعلم أن الله تعالى كامل الملك أزلا وأبدا ، ولكن العرش وما تحته حادث ، فإن قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] لحدوث العرش لا لحدوث الاستواء.

فصل

قال : «وثانيها لفظ العلي والأعلى (٢) والعلو بمطلقه عام ونفيه نقص وعلوه فوق

__________________

(١) والإقرار بتجويز الجسمية بكل صراحة موجود في كلام شيخه فيما ردّ به على الفخر الرازي كما سبق ، بل لصاحب الفرج بعد الشدة الشيخ محمد المنبجي الحنبلي من أخص تلاميذ الناظم رسالة في الرد على من ينفي المماسة بكل وقاحة ، وما تخفي صدور هؤلاء أكبر فالمؤمن الرشيد يجب عليه أن يتوقى من الوقوع في هاويتهم والمسألة مسألة كفر وإيمان وسننقل نصوصا من الكتابين المذكورين في مواضع تحذيرا للمغترين.

(٢) العلو ومشتقاته من صفات التنزيه تعالى الله عما يصف به المجسمة ، والحمل على علو المكان نزعة وثنية ، قال ابن تيمية في التأسيس : «والباري سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة كما أن التقدم على الشيء قد يقال إنه بمجرد الرتبة كما يكون بالمكان مثل تقدم العالم على الجاهل وتقدم الإمام على المأموم فتقدم الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو قبلية حقيقية وكذلك العلو على العالم قد يقال إنه يكون بمجرد الرتبة كما يقال العالم فوق الجاهل وعلو الله على العالم ليس بمجرد ذلك بل هو عال عليه علوا حقيقيا وهو العلو المعروف والتقدم المعروف اه». فهل يشك عاقل أن ابن تيمية يريد بذلك الفوقية الحسية والعلو الحسي ، تعالى الله عما يأفكون ، واستعمال العلو ومشتقاته في اللغة العربية بمعنى علو الشأن في غاية من الشهرة رغم تقول المجسمة.

الخليقة كلها فطرت عليه الخلق» فيقال أسماء الله قديمة فإن لزم من العلى والأعلى كونه فوق جسم لزم قدم العالم والذي فطرت عليه والبديهة التعظيم إلى أعلى غاية.

فصل

كلمة ابن تيمية في العلو والفوقية والرد عليه

قال : «وثالثها صريح الفوق (١) مصحوبا بمن وبدونها أحدهما قابل للتأويل والأصل الحقيقة والمجرور لا يقبل التأويل وأصح لفائدة جليل قدرها إن الكلام إذا أتى بسياقه يبدي المراد أضحى كنص قاطع».

فيقال المجرور أولى بالتأويل لأن قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النّحل :

٥٠] يحتمل أن المراد خوفا من فوقهم وليس في سياق الكلام ما يبدي المراد الذي ادعاه فأين الفائدة؟ والفوقية بمعنى القهر وعلو القدر متفق عليها والجهة هي عين النزاع ويلزم منها قدم الجهة.

فصل

قال : «ورابعها عروج الروح والملائكة في سورتي السجدة والمعارج قالوا هما بزمان وعندي يوم واحد عروجهم فيه إلى الديّان فالألف مسافة نزولهم وصعودهم إلى السماء الدنيا والخمسون ألف من العرش إلى الحضيض الأسفل».

فيقال له في الآيتين (إِلَيْهِ) [البقرة : ١٧٨] فعلى قوله يكون الله في مكانين أحدهما في السطح التحتاني من السماء الدنيا لأنه نهاية الألف والثاني في العرش ثم إن المسافة

__________________

(١) ينص شيخه في كتابه المذكور على أن المراد بالفوقية الفوقية الحسية فكأنه لم يتل في كتاب الله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] و (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] والمراد بالفوقية فوقية العزة والقهر والتنزه. «والله فوق ذلك» في حديث الترمذي بمعنى أنه يعلو عن مدارك البشر بدليل ما في سنن الترمذي أيضا من حديث «لو دليتم» قال ابن جهبل : الفوقية ترد لمعنيين : أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل بمعنى أن أسفل الأعلى من جانب رأس الأسفل ، وهذا لا يقول به من لا يجسم ، وثانيهما بمعنى المرتبة كما يقال الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الأمير ، وكما يقال : جلس فلان فوق فلان والعلم فوق العمل والصياغة فوق الدباغة. قال تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزّخرف : ٣٢] ولم يطلع أحدهم فوق أكتاف الآخر وقال تعالى عن القبط : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف : ١٢٧] وما ركبت القبط أكتاف بني إسرائيل ولا ظهورهم اه. فظهر بذلك بطلان التمسك بكلمة فوق في الآيات والأحاديث في إثبات الجهة له تعالى الله عن مزاعم المجسمة.

إذا فصلت على أن بين السماء والأرض خمسمائة عام وكذا ثخانة كل سماء وما بين كل سماء وسماء لا يبلغ هذا المقدار وهذا لا يتعلق بغرضنا ، والمتعلق بغرضنا إلزامه بظاهر قوله : (إِلَيْهِ) [البقرة : ١٧٨] مع التزامه أن الغاية في المكان وكون ما بين السماء والأرض خمسمائة عام روي بطرق ضعيفة وفي الترمذي من رواية العباس في حديث الأوعال إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة وهو يوافق قول أهل الهيئة وهذا يرجح أنهما يومان : أحدهما في الدنيا إلى العرش ألف سنة والثاني يوم القيامة خمسون ألف سنة من الشدة وقد جاء أن في الجنة مائة درجة بين كل درجتين مائة عام في رواية وفي رواية كما بين السماء والأرض (وكلاهما في الترمذي والفردوس أعلى الجنة وفوقه العرش فهذه المسافة أكثر من عشرة آلاف سنة) (١).

فصل

قال : «وخامسها صعود كلامنا (٢) والصدقة والحفظة والسعي والمعراج (٣) وعيسى وروح المؤمنين ودعاء المضطر ودعاء المظلوم».

وقال في المعراج : «وقد دنا منه إلى أن قدرت قوسان».

وقد علم كل واحد اختلاف المفسرين في قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)) [النّجم : ٨] فكيف يستدل به وعيسى في السماء الرابعة ليس على العرش ، ورفع الصدقة والكلام وشبههما من المعاني ليس بالانتقال من مكان إلى مكان لأن المعاني لا تنتقل.

فصل

حديث النزول

قال : «وسادسها وسابعها النزول (٤) والتنزيل».

__________________

(١) ما بين القوسين في هامش الأصل.

(٢) قال ابن جهبل : الصعود كيف يكون حقيقة في الكلام؟ مع أن الصعود في الحقيقة من صفات الأجسام فليس المراد إلا القبول اه وهذا ظاهر جدا.

(٣) قال ابن جهبل : لم يرد في حديث المعراج أن الله فوق السماء أو فوق العرش حقيقة ولا كلمة واحدة من ذلك وهو لم يسرد حديث المعراج ولا بين وجه الدلالة منه حتى نجيب عنه فلو بين وجه الدلالة لعرفنا كيف الجواب اه.

(٤) قاتل الله الجهل ، ما أفتكه ، فمن الذي يجهل استمرار الثلث الأخير من الليل في البلاد باختلاف

وتنزيل القرآن لنزول جبريل به من جهة العلو.

فصل

قال : «وثامنها رفيع الدرجات وفعيل بمعنى المفعول».

ما بقي من تخلف هذا النحس إلا أن يجعل لله سلما يصعد وينزل في درجاته ، تعالى الله عما يقول. يحمل على اللفظ فوق ما يحتمله ويفهم منه غير مراده فسحقا له.

فصل

«وتاسعها فوق السماء (١)».

فصل

قال : «وعاشرها الملائكة الذين هم عند الرّحمن وكتّاب رحمته عنده فوق العرش وسائر الأشياء ليست كذلك».

من هم الملائكة الذين هم معه في المكان وجبريل يتأخر عن المكان الذي وصل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

فصل

الإشارة إلى رفع الأيدي إلى السماء

قال : «وحادي عشرها إشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإصبعه في الموقف لله (٢)».

__________________

ـ المطالع حتى يحمل النزول إلى السماء الدنيا على النزول الحسي ، وقد حمل حماد بن زيد النزول في الحديث على معنى الإقبال ومن أهل العلم من حمل الحديث على أن الإسناد فيه مجازي من قبيل الإسناد إلى السبب الآمر ويؤيده حديث أبي هريرة في سنن النسائي وفيه «ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له». وليس في استطاعة من يخاف الله غير أن يفوض معنى النزول إلى الله مع التنزيه أو أن يحمل الحديث على المجاز في الطرف أو في الإسناد ، بل الأخير هو المتعين لحديث النسائي المذكور فيخرج حديث النزول من عداد أحاديث الصفات بالمرة عند من فكر وتدبر تعالى الله عن النقلة التي يقول بها المجسمة.

(١) يريد حديث الرقية وفي لفظ الناظم تغيير للفظ الحديث وسيأتي بيان ذلك والرد عليه.

(٢) أين في الحديث ذكر الإشارة إلى الله؟ وهكذا تكون أمانة مثل الناظم وشيخه في النقل؟ وهل صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة عرفات سوى أن رفع إصبعه ثم نكبها إليهم وهل في ذلك دلالة على أن رفعه كان ليشير به إلى جهة الله سبحانه؟ تعالى الله عن ذلك. والخطيب يرفع يده وينكبها

جوابه : إن القلب متوجه إلى الرب العالي قدرا وقهرا على كل شيء والإشارة إلى جهة العلو التي هي محل ملكه وسلطانه وملائكته والعليين عن خلقه ، وقبلة دعائه ومنزل وحيه وهكذا رفع (١) الأيدي في الدعاء.

فصل

قال : «وثاني عشرها وصفه تعالى بالظاهر وفسر في الحديث (أنت الظاهر فليس فوقك شيء)».

يقال لهذا المدبر إن كان الظاهر يقتضي الفوقية الحسية فاسم الباطن يقتضي التحتية الحسية ـ تعالى الله.

فصل

دعوى الناظم في الرؤية بدون مقابلة

قال : «وثالث عشرها إخباره أنا نراه في الجنة وهل نراه إلا من فوقنا (٢) ودعوى

__________________

ـ كيف يشاء في أثناء خطبته. وجعل ذلك حجة في شيء لا يصدر إلا ممن في قلبه مرض على أن الأرض كرية فالواقف في شرق الأرض تكون أخمصه في مقابلة أخمص الواقف في غرب الأرض ، ومن ضرورة ذلك أن يكون سمتا رأسيهما إلى جهتين متعاكستين فتكون إشارة أحدهما إلى جهة تعاكس الجهة التي يشير إليها الآخر ، وهكذا ، وكرية الأرض منصوصة في الكتاب والسنة كما في فصل ابن حزم والمنكر لذلك ليس بمنكر لقول أهل الهيئة فقط ، ولا للمحسوس فقط. ونسي الناظم الاستدلال في هذا الصدد بالإشارة في التشهد؟!

(١) ورفع الأيدي إلى السماء لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات لأن الأنوار إنما تنزل منها والأمطار ، وإذا ألف الإنسان حصول الخيرات من جانب مال طبعه إليه فهذا المعنى هو الذي أوجب رفع الأيدي إلى السماء وقال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢)) [الذّاريات : ٢٢] ذكره ابن جهبل فيما رد به على العقيدة الحموية لابن تيمية وهذا الرد يحق أن يكتب بماء الذهب ، ومن حاول الرد عليه من الحشوية فقد وقع على أم رأسه وكتاب ابن جهبل حقه أن يفرد بالطبع من طبقات ابن السبكي ـ ونسخة مخطوطة من كتاب ابن جهبل هذا توجد بمكتبة (لاله لى) باسطنبول.

(٢) قال : «إذ رؤية لا في مقابلة من الرائي محال ليس في الإمكان». وهذا صريح في أنه لا يرى رؤية لا يكون المرئي فيها في مقابلة الرائي فلا يكون أصرح من هذا في القول بالتجسيم ومن جملة ما يهذي به الناظم في شفاء العليل (١٥٩) : «كيف يصح عند ذي عقل ، مرئي يرى بالأبصار عيانا لا فوق الرائي ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه ولا أمامه» اه وهذا مثل ما هنا وهو من أبعد الناس عن نفي الرؤية فيكون مجسما صريحا ، ورؤية الله كما يرى القمر في ليلة البدر يقول عنها ابن قتيبة في (الاختلاف في اللفظ) لم يقع التشبيه فيها على

سواها مكابرة ولذا قال محقق منكم للمعتزلة ما بيننا خلف فاحملوا معنا على المجسمة إذ قالوا يرى كما يرى القمران فيلزمهم العلو وليس فوق العرش رب هذا الذي والله مودع كتبهم».

ينبغي أن يحضر هذا النحس ويلزم بأن يخرج من كتبهم أنه ليس فوق العرش رب ولن يجده في كتبهم أبدا وتوهمه أنه لا يرى إلا من فوق لقصور عقله. ونقله اتفاقنا مع المعتزلة لعدم فهمه بل بيننا وبينهم وفاق وخلاف فقوله : ما بيننا وبينكم خلف كذب علينا.

فصل

بسط الكلام في السؤال ب «أين» في حديث الجارية

قال : «ورابع عشرها أين الله في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث معاوية بن الحكم وفي تقريره لمن سأله رواه أبو رزين».

أقول : أما القول فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجارية «أين (١) الله؟ قالت : في السماء» وقد تكلم

__________________

ـ حالات القمر من التدوير والمسير والحدود وغير ذلك وإنما وقع التشبيه في أن إدراكه يوم القيامة كإدراكنا القمر ليلة البدر لا يختلف في ذلك كما لا يختلف في هذا ، والعرب تضرب بالقمر المثل في الشهرة والظهور اه فعار على الناظم وشيخه أن يغيب عنهما ما لم يغب عن مثل ابن قتيبة ، لكن الهوى يعمي ويصم ، وكلامهما ينبئ عن تشبيه المرئي بالمرئي بل عادة ابن تيمية تهوين شأن التشبيه حتى تجده يقول فيما ردّ به على الرازي (٢٤ ـ الكواكب) «ليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين ولا الأكابر من أتباع التابعين ذم المشبهة وذم التشبيه ونفي مذهب التشبيه ونحو ذلك وإنما اشتهر ذم هذا من جهة الجهمية اه» كأنه لم يتل قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧] وهو الذي يروي عن ابن راهويه في موضع آخر من ذلك الكتاب «من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلقه فهو كافر بالله العظيم» ويروى أيضا مثله عن نعيم بن حماد في موضع آخر وهو من أئمتهم بل يروى عن الإمام أحمد نفسه «لا يشبهه شيء من خلقه» في موضع آخر من كتابه المذكور وهذا مما يدل على وقاحته البالغة وقلة دينه ، وهل أدل على قلة عقل الرجل من تناقضه في كتاب واحد؟ والله ينتقم منه.

(١) وراوي هذا الحديث عن ابن الحكم هو عطاء بن يسار وقد اختلفت ألفاظه فيه ففي لفظ له «فمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده إليها وأشار إليها مستفهما من في السماء ...» الحديث ، فتكون المحادثة بالإشارة على أن اللفظ يكون ضائعا مع الخرساء الصماء فيكون اللفظ الذي أشار إليه الناظم والمؤلف لفظ أحد الرواة على حسب فهمه لا لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومثل هذا الحديث يصح الأخذ به فيما يتعلق بالعمل دون الاعتقاد ، ولذا أخرجه مسلم في باب تحريم الكلام في الصلاة ـ

__________________

ـ دون كتاب الإيمان ـ حيث اشتمل على تشميت العاطس في الصلاة ومنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، ولم يخرجه البخاري في صحيحه وأخرج في جزء خلق الأفعال ما يتعلق بتشميت العاطس من هذا الحديث مقتصرا عليه دون ما يتعلق بكون الله في السماء بدون أي إشارة إلى أنه اختصر الحديث وليس في رواية الليثي عن مالك لفظ «فإنها مؤمنة». وأما عدم صحة الاحتجاج به في إثبات المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنزه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات ، قال الله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢] وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى ، وقال تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى ، فهاتان الآيتان تدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيه سبحانه عن المكان والزمان ، كما في أساس التقديس للفخر الرازي ، ولأن الحديث فيه اضطراب سندا ومتنا رغم تصحيح الذهبي وتهويله راجع طرقه في كتاب العلو للذهبي وشروح الموطأ وتوحيد ابن خزيمة حتى تعلم مبلغ الاضطراب فيه سندا ومتنا ، وحمل ذلك على تعدد القصة لا يرضاه أهل الغوص في الحديث والنظر معا في مثل هذا المطلب. فالروايات على رجل مبهم محمولة على ابن الحكم ، ولم يصح حديث كعب بن مالك ولا حديث يروى عن امرأة ، فمالك يرويه عن عمر بن الحكم غير مقر بأن يكون غلطا فيه ، ومسلم عن معاوية بن الحكم ولفظهما كما سبقت الإشارة إليه مع نقص لفظ «فإنها مؤمنة» في رواية مالك. ولفظ ابن شهاب في موطأ مالك عن أنصاري ـ وهو صاحب القصة في الرواية الأولى ـ (فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت : نعم ، قال : أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت : نعم) وأين هذا من ذاك؟ وستعرف حال الذهبي في أواخر الكتاب فلا تلتفت إلى تهويله وتحريفه في هذا الباب فلعل لفظ (أين الله) تغيير بعض الرواة على حسب فهمه. والرواية بالمعنى شائعة في الطبقات كلها وإذا وقعت الرواية بالمعنى من غير فقيه فهناك الطامة ، وصاحب القصة لم يكن من فقهاء الصحابة ولا له سوى هذا الحديث في التحقيق ، بل كان أعرابيا يتكلم في الصلاة. على أن (أين) تكون للسؤال عن المكان وللسؤال عن المكانة حقيقة في الأول ومجازا في الثاني أو حقيقة فيهما ، قال أبو بكر ابن العربي في شرح حديث أبي رزين في العارضة : المراد بالسؤال بأين عنه تعالى المكانة ، فإن المكان يستحيل عليه ، وأين مستعملة فيه ، وقيل إن استعمالها في المكان حقيقة وفي المكانة مجاز وقيل هما حقيقتان ، وكل جار على أصل التحقيق مستعمل على كل لسان وعند كل فريق اه. وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى : يقال مكان فلان في السماء بمعنى علو حاله ورفعته وشرفه ، فلعل الجارية تريد وصفه بالعلو ، وبذلك يوصف كل من شأنه العلو اه فيكون معنى «أين الله» ما هي مكانة الله عندك ومعنى «في السماء» أنه تعالى في غاية من علو الشأن ، يتحد هذا المعنى مع معنى «أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت نعم» فإن قيل فليكن لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو «أين الله ولفظ الراوي هو «أتشهدين ...» رواية بالمعنى على الصورة السابقة فالجواب أنه لم يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلقين الإيمان طول أداء رسالته السؤال بأين أو ذكر ما يوهم المكان ولا مرة واحدة في غير هذه القصة المضطربة بل الثابت هو تلقين كلمة الشهادة ، فاللفظ الجاري على الجادة أجدر بأن يكون لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أن المحقق

الناس عليه قديما وحديثا والكلام عليه معروف ولا يقبله ذهن هذا الرجل لأنهم شاء على بدعة لا يقبل غيرها؟ وأما حديث أبي رزين (١) ففي سنن الترمذي عنه قال :

__________________

ـ السيد الشريف الجرجاني أجاز في شرح المواقف أن يكون السؤال للاستكشاف عن معتقد الجارية هل هي عابدة وثن أرضي أم هي مؤمنة بالله رب السماوات.

ومن أهل العلم من يعد العامي معذورا في اللفظ الموهم اعتدادا بأصل اعتقاده بالله سبحانه وإن أوهم بعض إيهام في وصفه تعالى ، وإليه يشير القرطبي في المفهم في شرح حديث الجارية في صحيح مسلم ، قال ابن الجوزي : قد ثبت عند العلماء أن الله لا تحويه السماء ولا الأرض ، ولا تضمه الأقطار ، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق جلّ جلاله عندها اه وعلى تقدير ثبوت لفظ «أين» فالمعنى الذي ذكره الباجي وابن العربي معنى لا حيدة عنه أصلا وجلالة مقدار هذين الإمامين في الحديث واللغة وأصول الدين والفقه لا يجحدها إلا الجاهلون وقول ذلك الصحابي الذي كان يبغي فوق السماء مظهرا ، من الأدلة على ما أشار إليه الباجي.

توهين حديث أبي رزين

(١) وأما حديث أبي رزين ففي سنده حماد بن سلمة مختلط ، وكان يدخل في حديثه ربيباه ما شاءا وليس في استطاعة ابن عدي ولا غيره إبعاد هذه الوصمة عنه ، ويعلى بن عطاء تفرّد به عن وكيع بن حدس أو عدس ، وهو مجهول الصفة ، وهو تفرد عن أبي رزين ، ولا شأن للمنفردات والوحدان في إثبات الصفات فضلا عن المجاهيل وعمن به اختلاط ، فليتق الله من يحاول أن يثبت به صفة لله. وقد سئم أهل العلم من كثرة ما يرد بطريق حماد بن سلمة من الروايات الساقطة في صفات الله سبحانه ، وقد روى أبو بشر الدولابي الحافظ عن ابن شجاع عن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن مهدي أنه قال : «كان حماد بن سلمة لا يعرف بهذه الأحاديث حتى خرج خرجة إلى عبدان فجاء وهو يرويها ، فلا أحسب إلا شيطانا خرج إليه في البحر فألقاها إليه اه». وما ذا يجدي تحمس ابن عدي في الدفاع عنه والرد على محمد بن شجاع الإمام افتراء منه عليه؟ وابن شجاع هذا مات في صلاة العصر وهو ساجد ولا مغمز في علمه وثقته وورعه إلا أنه كان يقف في القرآن ولا يقول إنه مخلوق أو غير مخلوق لعدم ورود هذا وذاك نصا في الكتاب والسنة ، وألّف كتابا في الرد على المشبهة وهذا ذنب لا يغتفر عندهم. وإنما يدل هذا التحمس على خبيء لابن عدي الذي لم يتعلم من العربية ما يقوم به لسانه ويصونه من اللحون الفاضحة ، وأنّى لمثله أن يقوم فكره حتى يتخذ قدوة؟ وكان ابن شجاع يحذر الرواة من الأخذ بروايات تالفة أدخلها الوضّاعون على بعض شيوخ الرواية فيرد عليه عثمان بن سعيد الدارمي المجسم قائلا كيف يجد الوضّاعون سبيلا إلى الإدخال على شيوخ في الرواية؟ وابن عدي يعكس الأمر ويجعل الذي يدخل عليهم هو ابن شجاع بدون أي دليل وبدون سوق أي سند كما هو شأن المتقولين وله مع ثقات الرواة وأئمة الأمة في الفقه الذين تكلم فيهم موقف في يوم القيامة ، لا يغبط عليه ، والعقيلي على تعنته لم يذكره في كتابه ـ وحديث إجراء الخيل كان ذائعا بين شيوخ الرواية من الحشوية حتى يشكو من ذلك ابن قتيبة مر الشكوى في (الاختلاف في اللفظ) وهو معاصر لابن شجاع ، وكذلك خرجه أبو علي الأهوازي بسنده بطريق حماد بن سلمة. وقول الحاكم (أنبأنا إسماعيل بن محمد الشعراني أنه قال : بلغت عن محمد بن شجاع

قلت : يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : «كان في عماء ما تحته

__________________

ـ عن حبان بن هلال عن حماد بن سلمة) لا يمكن اتخاذه حجة في كون هذا الخبر مرويا عن حماد بن سلمة بطريق ابن شجاع منفردا به لأن بين الشعراني وبين ابن شجاع نحو مائة سنة فلا يقل الساقط من الرجال من بينهم عن نحو ثلاثة ، هكذا يفضح الله من يتطاول على الأئمة. راجع ما علقناه على تبيين كذب المفتري في (ص ٣٦٩) ومن اطلع على كتاب (نقض عثمان بن سعيد على الجهمي العنيد) الجاري طبعه يعرف سبب مقت الحشوية لهذا الإمام الجليل ، بل يكفي في معرفة حال حماد ابن سلمة الاطلاع على كتب الموضوعات المبسوطة ، في باب التوحيد منها خاصة فيرى فيها القارئ أخبارا تالفة رويت بطريقه بكثرة بل ما سرده ابن عدي نفسه في الكامل في ترجمة حماد هذا من الأحاديث التالفة المروية بطريقه كاف في معرفة سقوط ما يروى بطريقه في الصفات بل سقوط ابن عدي المتحمس دونه.

منها روايته عن قتادة عن عكرمة ... أن محمدا رأى به في صورة شاب أمرد ...) وفي لفظ (... جعدا أمرد عليه حلة خضراء ...) إلى غير ذلك من الألفاظ الفاضحة ، وقد روى ابن عساكر بطريق أبي القاسم السمرقندي عن قتادة (الأعمى) : إني ما حفظت عن عكرمة إلا بيت شعر ، وهذا دليل على أنه لم يرض روايته الحديث ، وأما ما يروى عن أحمد من سماع قتادة عن عكرمة عدة أحاديث فلا يثبت عن أحمد لأنه بطريق رواة من المجسمة القائلين بإقعاد الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنبه على العرش ، تعالى الله عن ذلك ، وقد توسع الفخر بن المعلم القرشي في رد ما يروى عن عكرمة في هذا الصدد ثم قال «فمعاذ الله أن يرى ربه على صورة أصلا فكيف على صورة قد ذكر مثلها أو أكثرها عن المسيح الدجال» اه.

فمن التهور البالغ قول ابن صدقة «من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق» بل من يقول به هو الزنديق ، ويأسف المرء أن يرى بعض تلك الروايات التالفة مدونا في كتاب (أخبار الصفات) للدارقطني. وابن المعلم القرشي يؤكد أنه مدسوس في كتاب الدارقطني وليس ببعيد بالنظر إلى أن راويه عنه العشاري والراوي عنه ابن كادش ، وستعرف قيمتهما في أواخر ما علقناه على هذا الكتاب. ويظهر مما رفعه أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه إلى نظام الملك من المحضر ـ في فتنة الحشوية ببغداد ضد ابن القشيري ـ اتخاذ رواية حماد هذه دينا فليراجع المحضر المذكور في (تبيين كذب المفتري) لابن عساكر (ص ٣١٠) وفيه ما نصه «... وأبوا إلا التصريح بأن المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل ، وأنه ينزل بذاته ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد بشعر قطط وعليه تاج يلمع وفي رجليه نعلان من ذهب ...» تعالى الله عما يشركون. وفي مرسوم الخليفة العباسي الراضي الذي أصدره في فتنة البربهاري ما نصه «... وتارة إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وهيئتكم الرذلة على هيئته وتذكرون الكف والأصابع والرجل والنعلين المذهبين والشعر القطط والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ...» كما في الكامل لابن الأثير (٨ ـ ٩٨) إلى غير ذلك من الفضائح المكشوفة ، وحديث أم الطفيل أنكره أحمد والنسائي فلا يمكن أن يصح مثل تلك الرواية لا يقظة ولا مناما ، راجع دفع الشبه لابن الجوزي و (نجم المهتدي) والله ولي الهداية.

هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه (١) على الماء» قال الترمذي قال أحمد يعني ابن منيع راوي الحديث قال يزيد يعني ابن هارون شيخ أحمد : العماء أي ليس معه شيء. انتهى كلام الترمذي.

وفي رواية (كان في عما) بالقصر ومعناه ليس معه شيء وقيل هو كل أمر لا يدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف والفطن ، قال ابن الأثير : ولا بد في قوله (أين كان ربنا) من مضاف محذوف فيكون التقدير أين كان عرش ربنا ويدل عليه قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] قال الأزهري : نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة أي نجري اللفظ على ظاهره من غير تأويل ، وقوله من غير أن نكيفه بصفة صريح في التنزيه والعلماء في المتشابهات يؤمنون بها إما بأن يتأولوها وإما بأن يسكتوا مع التنزيه وهذا المدبر يصدق بعضها ببعض ليقوي الشبهة ويمكن الريبة من قلوب الناس لعنه الله (٢).

فصل

قال : «وخامس عشرها الإجماع من (٣) رسل الله ، حكى إجماعهم عبد القادر

__________________

(١) قال أبو بكر ابن العربي في العارضة : والذي عندي أنه أراد بالعرش الخلق كله و (على الماء) بمعنى يمسكه بقدرته لا بعمد ترافده ولا أساس يعاضده ، فإنها كانت تكون مفتقرة إلى أمثالها إلى غير نهاية وذلك غير محصول فترده أدلة العقول اه وهو معنى بديع جدا لمن ألقى السمع وهو شهيد. واستعمال العرش بمعنى الملك شائع ، راجع كتاب أصول الدين لعبد القاهر البغدادي.

(٢) ولعن كل من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وأنت قد جربت أن الإمام السبكي رحمه‌الله لا يستنزل اللعنات على الناظم إلا عند كلماته الخطرة جدا ، عامله الله بعدله.

تفنيد زعم الإجماع على الفوقية الحسية

(٣) فيا للعار والشنار على من يهون إجماع المسلمين فيما يستدلون به عليه من المسائل الفرعية كيف يزعم إجماع رسل الله على محال؟ وتجد في الكتب المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر كثيرا مما يرده علماء أصول الدين في الاعتقاد كما تجد فيها كثيرا من الأحاديث الملفقة الموضوعة فلا يعول على مثل تلك الكتب في مثل هذا المطلب ، وقد قال ابن حجر المكي في فتاويه إن ذكر الجهة ونحوها مدسوس في كتب الشيخ عبد القادر ، وذكر مثله اليافعي قبله في نشر المحاسن ، وكذلك النجم الأصفهاني قبل اليافعي ، وهم لا يعتدون بروايات أمثال الذهبي والناظم وشيخه وابن رجب عنه في هذا الصدد لأنهم أظناء عندهم فيما يتعلق بالجهة ، ومن المقرر عند أهل السنة أن أهل البدع لا تقبل رواياتهم فيما يؤيدون به بدعهم ، فالقائلون بصلاح

__________________

ـ الشيخ عبد القادر ـ وهم الجمهور ـ يبرءونه من تلك البدع ويعدونها مدسوسة في كتبه ولا يوجد بين أهل الحق من يعترف له بالصلاح مع فرض ثبوت تلك المخازي عنه ، فعلى فرض ثبوتها عنه فلا حب ولا كرامة ، ومخارق حفيده عبد السلام المتربي لديه تدعو الباحث إلى غاية من الاحتياط في حقه ، وقد أشار الحافظ أبو شامة المقدسي في ذيل الروضتين إلى ما جرى بينه وبين أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي والوزير العالم ابن يونس الحنبلي نسأل الله السلامة. وبين المتصوفة من يلهج كثيرا بمرتبة الإطلاق ومراتب التنزل في المظاهر أخذا من مذهب السالمية لكن أئمة أصول الدين ليسوا على تصديق التجلي في الصور الذي يقول به هؤلاء بل يعدون ذلك والحلول على حد سواء ، فمن حاول الجمع بين أقوال المتكلمين والمتصوفة والحكماء والحشوية في ذلك كالبرهان الكوراني فإنما حاول المحال والانسلاخ من قيد العقل والنقل معا ، نسأل الله العافية ، وليس بقليل بين الأئمة من جاهر بإكفار القائلين بالجهة كما نقلت نص ذلك من شرح مشكاة المصابيح للعلامة ناصر السنة علي القاري فيما علقته على «دفع شبه التشبيه» لابن الجوزي (ص ٥٧) وشأن من يخاف الله سبحانه أن ترتعد فرائصه في موطن جاهر فيه بعض الأئمة المتبوعين في أصول الدين ؛ بالإكفار.

بسط الكلام في رد القول بالجهة

ولم يرد لفظ الجهة في حديث ما بل قال أبو يعلى الحنبلي في «المعتمد في المعتقد» : ولا يجوز عليه الحد ولا النهاية ولا قبل ولا بعد ولا تحت ولا قدّام ولا خلف لأنها صفات لم يرد الشرع بها وهي صفات توجب المكان اه ولعله آخر مؤلفاته بدليل أن امتحانه في الصفات كان سنة ٤٢٩ قبل وفاته بنحو ثلاثين سنة فمن أثبت له تعالى جهة فقد أثبت له أمثالا وأشباها مع أنه لا مثل له ولا شبيه له تعالى ، قال الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧] فلعائن الله على من يثبت له تعالى ما لم يثبت له الكتاب ولا السنة من الجهة ونحوها ، وأما ابن رشد الحفيد ففيلسوف ظنّين يسعى في إثارة وجوه من التشكيك حول آراء المتكلمين من أهل السنة لينتقم منهم بسبب ردودهم على الفلاسفة إخوانه ولا سيما من أبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي ، فمن طالع فصل المقال ومناهج الأدلة لابن رشد وخاصة في بحث قدم العالم قدما زمانيا وعلم الله بالجزئيات والبعث الجسماني يتيقن ما قلنا في حقه على أنه يقول في فصل المقال (ص ١٣) : إن هاهنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله ، فإن كان تأويله في المبادي فهو بدعة ، وهاهنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر في حقهم ، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم. ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول اه.

وهذا الكلام يهد على رأس ابن تيمية وتلميذه ما يريدان أن يبنيا على كلامه ولو علما مغزى كلامه لأبيا كلا الإباء أن يحوما حول كلامه في مثل هذه الأبحاث. فما يكون كفرا في حق طائفة عند ابن رشد يكون إيمانا في حق طائفة أخرى عنده وبالعكس وهذا هو الذي يحتج ابن تيمية في التأسيس وغيره بقوله في الجهة من غير أن يعقل مغزى كلامه الطويل في مناهج الأدلة. وأما ما وقع في كلام ابن أبي زيد وابن عبد البر مما يوهم ذلك فمؤول عند محققي

__________________

ـ المالكية ولو كان ابن عبد البر لم يكتف بالطلمنكي في أصول الدين ورحل إلى الشرق كالباجي لم يقع في كلامه ما يوهم ولم يقع ذكر الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في لفظ صحابي أو تابعي ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله وصفاته من الفرق سوى أقحاح المجسمة وأتحدى من يدعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح فلن يجد إلى ذلك سبيلا فضلا عن أن يتمكن من إسناده إلى الجمهور بأسانيد صحيحة ، وأول من وقع ذلك في كلامه ممن يدعي الانتماء إلى أحد الأئمة المتبوعين ـ فيما أعلم ـ هو أبو يعلى الحنبلي المتوفى سنة ٤٥٨ حيث قال عند إثباته الحد له تعالى في كتابه (إبطال التأويلات لأحاديث الصفات) : «إن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة له وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلذلك لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها اه». تعالى الله عما يقول المجسمة علوا كبيرا وهو عين ما ينسب إلى المانوية الحرانية من تلاقي النور من جهة الأسفل مع الظلمة وعدم تناهيه من الجهات الخمس ـ سبحانك ما أحلمك ـ ثم تابعه أناس من الحنابلة في نسبة الجهة إلى الله سبحانه منهم أبو الحسن علي بن عبيد الله الزاغوني الحنبلي المتوفى سنة ٥٢٧ ووقع بعده في غنية الشيخ عبد القادر وقد سبق رده ، وإثبات ذلك له تعالى ليس بالأمر الهين عند جمهور أهل الحق بل قال جمع من الأئمة إن معتقد الجهة كافر كما صرح به العلم العراقي ، وقال إنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني اه فانظر قول ابن تيمية في التسعينية (ص ٣) : أما قول القائل ، الذي نطلب منه أن ينفي الجهة عن الله والتحيز فليس في كلامي إثبات لهذا اللفظ لأن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتا بدعة اه ، وهذه مغالطة ، فإن ما لم يثبته الشرع في الله فهو منفي قطعا ، لأن الشرع لا يسكت عما يجب اعتقاده في الله ، وقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] نص في نفي الجهة عنه تعالى إذ لو لم تنف عنه الجهة لكانت له أمثال لا تحصى ، تعالى الله عن ذلك ـ ثم انظر قوله في منهاجه (١ ـ ٢٦٤) : فثبت أنه في الجهة على التقديرين اه» لتعلم كيف رماه الله بقلة الدين وقلة الحياء في آن واحد. وأما ما ينقله الذهبي وغيره من الحشوية من تفسير القرطبي في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] من أنه قال : وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله فتساهل منه في العبارة ، فإنه لم يرد لفظ الجهة في عبارة السلف ولا في كتاب الله ، ولو أراد ورود هذا اللفظ لكذبه كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآثار المروية عن السلف لأن الوارد لفظ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] و (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] ونحو ذلك بدون تعرض للتكييف بالجهة ، وهكذا الوارد في السنة وآثار السلف ويعين قوله «كما نطق به كتابه» أن مراده الفوقية والعلو بلا كيف وذكر الجهة سبق قلم منه فلا يكون متمسك للحشوية فيما ذكره القرطبي في تفسيره كيف وهو القائل فيه : ـ

__________________

ـ «متى اختص بجهة يكون في مكان وحيز فيلزم الحركة والسكون اه» وهو القائل أيضا في (التذكار في أفضل الأذكار) ص ١٣ : «يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض إذ لو كان في شيء لكان محصورا أو محدودا ولو كان ذلك لكان محدثا وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق اه».

تناقض ابن تيمية في الجهة وكذبه

وفي (ص ٢٠٧) من الكتاب المذكور : «ثم متبعو المتشابه لا يخلو اتباعهم من أن يكون لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسّم وصورة مصوّرة ذات وجه وغير ذلك من يد وعين وجنب وإصبع ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، والصحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عبّاد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد. اه». فبذلك تبين أن تمسك الحشوية بقول القرطبي السابق من قبيل الاستجارة من الرمضاء بالنار وبه يظهر مذهب المالكية فيمن يقول بذلك كما يظهر قول الشافعية فيه من كفاية الأخيار للتقي الحصني ، حيث قال فيها بعد أن أشار إلى كلام الرافعي في كتاب الشهادات : «جزم النووي في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة.

قلت : وهو الصواب الذي لا محيد عنه اه».

ومن حذّاق النظار من استدل على بطلان القول بالجهة بقوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] باعتبار أن فيه استدلالا على بطلان التعدد ببطلان لازمه الذي هو انحياز الإله إلى جهة. راجع شعب الإيمان للحليمي. وفي الإكمال شرح مسلم للقاضي عياض «ثم من صار من دهماء الفقهاء والمحدثين وبعض متكلمي الأشعرية وكافة الكرامية إلى الجهة أول (في) ب (على). ومن أحال ذلك ـ وهم الأكثر ـ فلهم فيها تأويلات ... وقد أجمع أهل السنة على تصويب القول بالوقف من التفكر في ذاته تعالى لحيرة العقل هنالك ، وحرمة التكييف. والوقف في ذلك غير شك في الوجود ولا جهل بالموجود فلا يقدح في التوحيد بل هو حقيقته. وقد تسامح بعضهم في إثبات جهة تخصه تعالى أو أشار إليه بحيز يحاذيه ، وهل بين التكييفين ـ أي التكييف المحرم إجماعا والتكييف بالجهة ـ فرق؟! وبين التحديد في الذات والجهة فرق؟! وقد أطلق الشرع أنه القاهر فوق عباده وأنه استوى على العرش فالتمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في العقل غيره وهي قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] «عصمة لمن وفقه الله تعالى» اه. وقد تعقبه الأبي تعقبا شديدا ، وقال ما نسب من القول بالجهة إلى الدهماء ومن بعدهم من الفقهاء والمتكلمين لا يصح ولم يقع إلا لأبي عمر في الاستذكار والتمهيد ولابن أبي زيد في الرسالة وهو عنهما متأول. ثم نقل عن الفقهاء التونسيين كابن عبد السلام وابن هارون والفاسيين كالسطي وابن الصباغ اتفاقهم على إنكار ذلك في مجلس الأمير أبي الحسن ملك المغرب. راجع شرح مسلم (٢ ـ ٢٤١) للأبي.

أقول : إنما ذكر القاضي عياض من صار من الدهماء إلى القول بالجهة وأين في ذلك نسبة ذلك

وأبو الوليد [ابن رشد الفيلسوف] وأبو العباس (١) الحراني [ابن تيمية] وله اطلاع ، لم

__________________

ـ إلى الدهماء على أن لفظ الجهة لم يقع في كلام أبي عمر ولا في كلام ابن أبي زيد وإن كان ظاهر كلامهما يوهم ذلك وقد تأول كلامهما المالكية ليكونا مع الجمهور في هذه المسألة الخطرة ولو ترك كلامهما على الظاهر لهويا في هاوية التجسيم وذلك عزيز عليهم أيضا ، وقول القاضي عياض ليس يشمل المشارقة حيث لم يرحل إلى الشرق وإنما قوله بالنظر إلى معنى كلام بعض الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أهل بلاده من أصحاب الطلمنكي وابن أبي زيد وأبي عمر بل لا أذكر وقوع لفظ الجهة في كلام أحد منهم ، وإنما جرى ابن رشد الفيلسوف في المناهج على التساهل بذكر ما لم يجر على لسانهم باعتباره معنى كلامهم كما سبق ، والحاصل أن التكييف غير جائز إجماعا ـ ويمكن جمع جزء في الآثار الواردة في المنع من التكييف والتشبيه ـ ولا شك أن القول بالجهة تكييف لم يقع إلا في عبارات أناس هلكى ، وأما تأويل القائلين بالجهة ما يوهم كونه في السماء بمعنى على السماء ، كما ذكر القاضي عياض ، فلا ينجيهم من ورطة التجسيم لأن (في) في قوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] لم تزل تفيد تمكين المصلوب في الجذع كتمكين المظروف في الظرف ، وكذلك قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ١١] فحمل لفظ (في) على معنى (على) لا يجدي في الإبعاد عن التمكن وإنما التأويل الصحيح ما أشار إليه الباجي من استعمال العرب لفظ «هو في السماء» يعنون علو شأنه ورفعة منزلته بدون ملاحظة كونه في السماء أصلا كقول الشاعر :

علونا السماء مجدنا وجدودنا

وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

وظاهر أنه لم يرد إلا علو الشأن. وليس قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] من هذا القبيل بل الظاهر أن المراد خاسف سدوم وعد «في السماء» بمعنى على السماء ثم جعل على السماء بمعنى «على العرش» باعتبار أن السماء مأخوذة من السمو ، غفلة عن شمولها للسقف والسحاب على هذا التقدير غير المتبادر وتخصيصها بالعرش عن هوى مجرد كما لا يخفى. وفيما ذكرناه كفاية لأهل التبصر.

مخالفات ابن تيمية

(١) يوجد من يذكره بلقب شيخ الإسلام ـ وللمبتدعة افتتان بهذا التلقيب لزعمائهم ـ إيهاما للضعفاء في العلم أن ما يدعو إليه هذا الزائغ هو الإسلام الصحيح ويخاف على من يستمر على تلقيبه به بعد أن عرف مخالفاته لشرع الإسلام ومن ذكره بهذا اللقب من أهل السنة إنما ذكره قبل أن يجاهر ذلك المبتدع ببدعه المعروفة ، وأما من استمر على هذا التلقيب من المتأخرين فإنما استمر جهلا ببدعه التي نقلناها من أوثق المصادر أو ظنا من أنه تاب وأناب وحافظ على عهوده وقد توسعنا في بيان ذلك فيما علقناه على ذيول طبقات الحفاظ. على ترجمة العلاء البخاري فليراجع هناك ، ولعل في كتبنا ولا سيما في هذا الكتاب ما يقنع المنصف في أمر هذا الزائغ.

ومما قال المصنف في حقه في فتاويه (٢ ـ ٢١٠) في أثناء رده على فتيا له في الوقف : «وهذا الرجل كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه ـ كما في هذه المسألة ـ ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره ـ

يكن من قبله لسواه من متكلم».

ونحن نقطع أيضا بإجماعهم (على التنزيه) أما يستحي من ينقل إجماع الرسل على إثبات الجهة والفوقية الحسية لله تعالى؟ وعلماء الشريعة ينكرونها؟ أما تخاف منهم أن يقولوا له إنك كذبت على الرسل؟.

فصل

قال : «وسادس عشرها إجماع أهل العلم (١) ابن عباس ومجاهد ومقاتل والكلبي

__________________

ـ وخروجه عن الحد جدا ، وهو كان مكثرا من الحفظ ولم يتهذّب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارة واتساع خيال وشغب كثير ، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة ، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه ، وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته لأن تلك أمة قد خلت ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم ولكن للناس ضرورات إلى الجواب في بعض المسائل كهذه المسألة ...» اه. وهذا مما يزيدك معرفة بالرجل ، ومن جملة هذيانات هذا الزائغ قوله في (المحصل) للفخر الرازي :

محصل في أصول الدين حاصله

من بعد تحصيله أصل بلا دين

أصل الضلالات والشك المبين فما

فيه فأكثره وحي الشياطين

هذا رأي الرجل في معتقد أهل السنة ولأهل العلم ردود عليه وكنت قلت في معارضته :

محصل في أصول الدين حصله

من اهتدى فغدا محصن الدين

أس الهداية والحق الصراح فمن

يرتاب فيه قفا إثر الشياطين

كما قلت فيما سبق في معارضة بعضهم :

إن كان تنزيه الإله تجهّما

فالمؤمنون جميعهم جهمى

جلّ الإله عن الحوادث أن تح

ل به وعن جهة وعن كم

بخلاف زعم زعيمكم سفها فإن

تابعتموه فكلكم تيمى

والله سبحانه ولي الهداية.

الرد على الناظم في دعوى الإجماع على الفوقية المكانية

(١) الناظم يروي عن إمامه أحمد بن حنبل في أعلام الموقعين أن من ادعى الإجماع فهو كاذب. فكيف ساغ له أن يروي هنا الإجماع على الفوقية على خلاف البراهين العقلية والنقلية القائمة. فابن عباس ومجاهد لم يرو عنهما ما يوهم ذلك إلا أناس هلكى لا تقبل أقوالهم في حيض النساء فضلا عن المسائل الاعتقادية ، ومقاتل بن سليمان المروزي شيخ أهل التجسيم في عصره وقد أفسد جماعة من المراوزة. والكلبي هالك عند أهل النقد ، وأبو العالية رفيع الرياحي فسر الاستواء بالارتفاع ، كما ذكره ابن جرير بطريق أبي جعفر الرازي ، وهو متكلم فيه حتى عند الناظم. وروى الفريابي عن مجاهد تفسير استوى بقوله : علا بطريق ورقاء عن ابن أبي نجيح

__________________

ـ عنه. والكلام فيهما مشهور. ولذا ذكر هذا وذاك البخاري من غير سند ، ومع ذلك أين الدلالة في هذا وذاك على الفوقية المكانية؟ وأبو عبيدة معمر بن المثنى الشعوبي ما ذا تكون قيمة كلامه في مثل هذه الأبحاث؟ والأشعري إن كنتم تعتقدون فيه أنه قائل بالفوقية المكانية فما سبب طعن الحشوية كلهم فيه؟ وإنما له رأيان : أحدهما عدم الخوض في الصفات مع إثبات ما ثبت في الكتاب والسنة بدون تشبيه ولا تمثيل والآخر تأويل ما يجب تأويله بما يوافق التنزيه إذا عن ضرورة ، وليس في هذا ولا في ذاك القول بالفوقية المكانية ، وتأليف الإبانة كان في أوائل رجوعه عن الاعتزال لتدريج البربهاري إلى معتقد أهل السنة ، ومن ظن أنها آخر مؤلفاته فقد ظن باطلا. وقد تلاحقت أقلام الحشوية بالتصرف فيها ولا سيما بعد فتن بغداد فلا تعويل على ما فيها مما يخالف نصوص أئمة المذهب من أصحابه وأصحاب أصحابه. وابن درباس غير مأمون في روايتها لأنه أفسده شيخه في التصوف مع تأخر طبقاته .. والبغوي الشافعي إنما نقل في تفسيره ما يروى عن مثل مقاتل بن سليمان والكلبي تعويلا على قول أهل النقد فيهما ، ودلالة على أن هذا القول قول أهل الزيغ. ومالك قائل بالاستواء بلا كيف ، وكذا الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد وابن المبارك ، وهم براء مما يوجد في روايات عبد الله بن نافع الصائغ والعشاري والهكاري وابن أبي مريم ونعيم بن حماد والإصطخري وأمثالهم. و (اعتقاد الشافعي) المذكور في ثبت الكوراني كذب موضوع مروي بطريق العشاري وابن كادش ، وسيأتيان في أواخر الكتاب. وابن خزيمة على سعته في الفقه والحديث جاهل بعلم أصول الدين وقد اعترف بذلك هو نفسه كما في الأسماء والصفات للبيهقي (ص ٢٠٠) وكتاب التوحيد له يعده الرازي كتابا في الشرك. ويستخف عقله وفهمه في تفسير قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وينقل جزءا من سخفه ويرد عليه ردا مشبعا فيجب الاطلاع عليه ، ومن الشافعية من يعد من الشافعية كل من تلقى بعض شيء من بعض الشافعية ، وهذا ليس بصواب لأن كل متأخر يأخذ عمن تقدمه على أي مذهب كان المتقدم كما لا يخفى على من درس أحوال الرجال. وابن خزيمة هذا وإن تلقى بعض شيء من المزني في شبيبته لكن لم يكن شافعيا بل ثبتت مساعدته لمحمد بن عبد الحكم في تأليفه ذلك الرد القاسي على الشافعي. وعلى فرض أنه شافعي لا محاباة في المعتقد أيا كان مذهب من زاغ عن السبيل. وهذا المسكين ممن إذا أصاب مرة في المعتقد يخطئ فيه مرات ، فليسمح لي ساداتنا العلماء أن أعجب غاية العجب من طبع مثل كتاب التوحيد هذا بين ظهرانيهم بدون أن يقوم أحد منهم بالرد عليه كما يجب. أيقظ الله أصحاب الشأن لحراسة السنة وابن خزيمة الذي يروي عنه الطحاوي غير ابن خزيمة صاحب كتاب التوحيد وليعلم ذلك.

والإجماع الذي يرويه ابن عبد البر إنما يصح في العلو والفوقية بمعنى التنزه والقهر والغلبة لا بمعنى إثبات المكان له تعالى. وأبو بكر محمد بن وهب شارح رسالة ابن أبي زيد مسكين مضطرب بعيد عن مرتبة الحجة. وقد ذكرنا ما يتعلق بابن أبي زيد فيما علقناه على تبيين كذب المفتري وقد أغنانا ذلك عن تكرير الكلام. ورأى القاضي أبي بكر بن العربي فيه مدوّن في القواصم ، وأبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي صاحب الفصول مجسّم صريح كأبي الخير يحيى العمراني ، وقد كفانا مئونة الرد عليهما ما قاله فيهما ابن السبكي واليافعي

__________________

ـ الشافعيان. وعثمان الدارمي السجزي صاحب النقص ـ وهو غير صاحب المسند ـ قد سبق القول فيه ، وهو يثبت الحركة لله تعالى كحرب بن إسماعيل السيرجاني. وقد نقلت فيما كتبت على شروط الأئمة الخمسة ما قاله الحافظ الرامهرمزي في حرب السيرجاني هذا. وخشيش بن أصرم صاحب كتاب الاستقامة يعرف أهل الاستقامة مبلغ انحرافه ، ومن جملة ما هذى به قوله : فإن زعمت الجهمية فمن يخلفه إذا نزل؟ قيل لهم : فمن خلفه في الأرض حين صعد؟ اه. ولا ينجيه من ورطته كونه من مشايخ أبي داود كما لا ينجي عمران بن حطان كونه من رجال البخاري. وعبد الله بن أحمد إذا ثبت عنه كتاب السنة المنسوب إليه فلا حب ولا كرامة. وابن أبي حاتم أقرّ على نفسه بأنه يجهل علم الكلام كما في الأسماء والصفات للبيهقي (ص ١٩٩) وحق مثله أن لا يخوض في أمثال هذه المباحث وأن يهجر قوله إذا خاض ، ومحمد بن أبي شيبة صاحب كتاب العرش مشبه كذاب ، ومن جملة تخريفاته في كتابه المذكور : أن الله تعالى أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش اه تعالى الله عن تخريفات المجسمة. وابن أبي داود كفانا مئونة الرد عليه كلام أبيه فيه. وابن أسباط لا يحتج به في الرواية فكيف يعول على مثله في الصفات. سامح الله اللالكائي والطلمنكي إسماعيل التيمي فإنهم تكلموا في غير علومهم. والباقون كلهم بخير خلا ما أدخل على ابن سلمة ولن يثبت عن هؤلاء سوى أنهم كانوا يقولون : إنه تعالى استوى على العرش بلا كيف وإنه القاهر فوق عباده بلا كيف وأين هذا مما يدعو إليه الناظم؟.

تنبيه : روى الناظم في أعلام الموقعين عن أحمد : أن من ادعى الإجماع فهو كاذب ثم حكى هو نفسه في الكتاب نفسه في (١ ـ ٥٦ و ١١٤ ، ٢٧٥ ، ٣٨٩) وفي (٢ ـ ٣٣ و ٤٨ و ٥٣ و ٢٤١ و ٢٩٠) وغيرها الإجماع والقول بالإجماع في مسائل عن أحمد وغيره ومثل هذا التناقض لا يصدر إلا من مثل الناظم. وذكر أيضا في عدة من كتبه في صدد الرد على من يقول بإجماع الصحابة على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه لم يرو ذلك عن عشر الصحابة بل عن عشر عشرهم بل عن عشر عشر عشرهم بل لا تطيقون أن ترووه عن عشرين نفسا منهم. وهو يرمي بذلك إلى أن إجماع الصحابة لا ينعقد إلا برواية نص عن مائة ألف صحابي مات عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذا تخريف لم يقل به أحد قبل الناظم لأن الظاهرية يكتفون باتفاق فقهاء الصحابة إلا أنهم يكثرون عدد الفقهاء منهم ويبلغون عددهم إلى نحو مائة وخمسين صحابيا على خلاف الواقع ـ ثم يناقض نفسه فيقول في إعلام الموقعين (٣ ـ ٣٧٩) : «إن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر ، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة وقالت طائفة منهم هو حجة وليس بإجماع ، وقالت شرذمة من المتكلمين (من أتباع النظام) وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون إجماعا ولا حجة ، وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم هل اشتهر أم لا؟ فاختلف الناس هل يكون حجة أم لا فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة ، هذا قول جمهور الحنفية ، صرح به محمد بن الحسن وذكر عن أبي حنيفة نصا وهو مذهب مالك وأصحابه ، وتصرفه في موطئه دليل عليه وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه واختيار جمهور أصحابه وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد أما القديم فأصحابه مقرون به ، وأما الجديد فكثير منهم

ورفيع وأبو عبيدة والأشعري والبغوي ومالك والشافعي والنعمان ويعقوب وأحمد وابن المبارك وابن خزيمة وقال يقتل من ينكره وحكى ابن عبد البر إجماع أهل العلم أن الله فوق العرش وابن وهب وحرب الكرماني وحكى الإجماع ابن أبي زيد والكرجي في التصنيف الذي شرحه وتفسير عبد بن حميد والنسائي وعثمان الدارمي وابن أصرم وعبد الله بن أحمد والأثرم (وأبو حاتم وابنه ومحمد بن أبي شيبة) وابن أبي داود وابن أسباط وسفيان وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والبخاري والطبري اللالكائي الشافعي وإسماعيل التيمي والطبراني والطلمنكي والطحاوي والباقلاني وابن كلاب والطبري في التفسير والداني وابن سريج وأبو الخير العمراني صاحب البيان وسواهم والله قطاع الطريق أئمة تدعو إلى النيران ما في الذين حكيت عنهم آنفا من حنبلي واحد بضمان ، بل كلهم والله شيعة أحمد ، فأصوله وأصولهم سيان ، أتظنهم لفظية جهلية هم أهل العقول فتقذفون أولاء بل أضعافهم من سادة العلماء كل زمان بالجهل والتشبيه والتجسيم والتبديع والتضليل والبهتان ، يا قومنا الله في إسلامكم لا تفسدوه لنخوة الشيطان ، يا قومنا اعتبروا بمصارع من مضى في هذه الأزمان لم يغن عنهم كذبهم ومحالهم وقتالهم بالزور والتدليس عند الناس والحكام والسلطان وبدا لهم أنهم على البطلان ما عندهم شكاية ما يشتكي إلا عاجز ، لبستم معنى النصوص وقولنا أسأتم الظن بأئمة الإسلام ما ذنبهم ما الذنب إلا للنصوص لديكم إذا جسمت».

انتهى كلام هذا المدبر ، وقد تقدم النقل عن مالك رحمه‌الله بخلاف ما قاله ولكنه اغترّ هنا بما رواه الحسن بن إسماعيل الضراب (١) في كتابه الذي صنفه في فضائل مالك رضي الله عنه بأسانيده إلى مالك رضي الله عنه أنه أتاه رجل فقال يا أبا

__________________

ـ يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدا اه». ثم ذكر وجه النظر. وهذا القول هو الصواب لكن الناظم يناقض هذا حينما يؤول كلام أحمد المذكور على خلاف تأويل الجمهور في (١ ـ ٣٣) من إعلام الموقعين وعند ما يشذ عن الجماعة في مسائل كالطلاق ونحوه في كثير من كتبه ويهون أمر الإجماع بل ينكره ويتابعه الجهلة الأغرار من أبناء الزمن وفي ذلك عبرة بالغة نلفت إليها أنظار المنصفين والحق أن الناظم ليس له أصل يبني عليه وإنما يلبس لكل ساعة لبوسها كما هو شأن أصحاب الأهواء والله ولي الهداية. والحق أن تكذيب أحمد لمن يدعي الإجماع على تقدير ثبوته عنه لا بد من حمله على ادعاء من لم يتأهل لنقل الإجماع في مسألة وإلا لتناقض كلامه وعمله.

(١) هو أبو محمد محدث مصر المتوفى سنة ٣٩٢ ، راجع إكمال ابن مأكولا ، وأنساب ابن السمعاني ، وحسن المحاضرة ، والشذرات.

عبد الله ، الرّحمن على العرش استوى ، كيف استوى (١) فأمسك عنه مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال : الكيف منه غير معقول والاستواء فيه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإني لأحسبك ضالا ، ثم أمر به فأخرج. وفي رواية : فإني أخاف أن يكون شيطانا.

رد المصنف على الناظم في الفوقية

وهذا الكلام صحيح إن صحّ عن مالك ، فإنه ليس فيه إلا الإيمان بآية استوى على العرش كما نطق به القرآن وأن كيفيته غير معقولة ، والسائل عنها ضال مبتدع شيطان ، وفي ذلك قطع بأن الاستواء على ظاهره المعلوم عند الناس من أنه القعود ، فإن ذلك معقول وليس فيه تصريح بفوقية الذات ولا يلزم من قولنا استوى على العرش أن يكون هو على العرش إلا بعد أن نثبت أن الاستواء هو القعود والجلوس كما في المخلوق ، وجلّ الله عن ذلك ، فهذا الرجل لم يفهم كلام مالك ولا كلام غيره من العلماء الكثيرين الذين حكى عنهم كلهم. وإنما يؤثر عنهم كلام مقتد بالكتاب يراد به معنى صحيح مع التنزيه ، وما لا يوهم التشبيه ولا يقتضيه.

روايات الضراب عن مالك

وقد روى الضراب في هذا الكتاب قال : حدثنا عمر بن الربيع حدثنا أبو أسامة حدثنا ابن أبي زيد عن أبيه عن حبيب (٢) كاتب مالك قال : سئل مالك بن أنس عن قول

__________________

(١) قال أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم : المطلوب هنا ثلاثة معان : معنى الرّحمن ومعنى استوى ومعنى العرش ، فالرحمن معلوم والعرش في العربية جاء لمعان ولفظ استوى معه محتمل خمسة عشر معنى في اللغة ، فأيها تريدون أو أيها تدعون ظاهرا منها ، ولم قلتم إن العرش هاهنا المراد به مخلوق مخصوص فادعيتموه على العربية والشريعة ... فقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] إن علمنا معناه آمنا قولا ومعنى ، وإن لم نعلم معناه قلنا كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة ، فكيف لو رأى من يفسر تعلقه بالله لا يقال إنه بدعة بل أشد من البدعة عنده ، فكيف لو سمع من يقول : إن الله فوقه ، فكيف بمن يعين فوقية الذات فكيف بمن يقول إنه يحاذيه ويليه تبا له اه راجع (٢٤ ـ ٢٦) في الجزء الثاني من الكتاب المذكور. وقد توسع ابن المعلم المحدث في (نجم المهتدي) في بيان محتملات الآية الخمسة عشرة التي أشار إليها أبو بكر ابن العربي فليراجع هناك.

(٢) وعلى روايته في تفسير النزول عن مالك عوّل القاضي عياض في المشارق ، وقد تكلم في حبيب هذا أهل النقد إلا أن مالكا رضي الله عنه كان شديد الانتقاد للرجال وقوله هو القول

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة» قال : ينزل أمره كل سحر وأما هو فهو دائم لا يزول وهو بكل (١) مكان. وروى الضراب أيضا في هذا الكتاب بإسناده إلى عبد الرّحمن بن القاسم قال : سئل مالك عمن يحدث الحديث الذي قالوا : إن الله خلق آدم على صورته ، وإن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة ، وإنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد ، فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث بها أحد ، فقيل له : إن ناسا من أهل العلم يتحدثون بها ، فقال : من هم؟ قيل : ابن عجلان عن أبي الزناد ، فقال : لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالما وذكر أبا الزناد فقال : لم يزل عاملا لهؤلاء حتى مات وكان صاحب عمل يتبعهم ، ورواه الضراب أيضا من طريق ابن وهب عن مالك. وروي أيضا عن طريق الوليد بن مسلم قال : سألت مالكا والأوزاعي وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقالوا : ارووها كما جاءت؟ فانظر كلام مالك وكلام غيره ، لم يصرحوا ولم يبيحوا إلا روايتها لا اعتقاد ظاهرها الموهم للتشبيه ومالك شدد (٢) في روايتها إلا ما يعلم صحته فيروى مع التنزيه كالقرآن ، وهذا النحس وأمثاله يروون في ذلك الجفلاء

__________________

ـ الفصل في رجال المدينة فلا يطمئن القلب إلى إن يكون كاتبه وقارئ موطئه على جمهور المتلقين من مالك غير مرضي عنده.

(١) وظاهر هذا الكلام غير مراد قطعا ، بل المراد أنه لا يوصف بمكان دون مكان حيث تنزه عن الأمكنة ، ومن هذا القبيل ما يروى عن بعضهم أن علمه بكل مكان ، وحاشا أن يكون المراد بهما حلول ذاته أو صفته في الأمكنة ، تعالى الله عما يظن به الجاهلون. وأما قول الترمذي في حديث لهبط على الله (وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا : إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف في كتابه) فقد تعقبه ابن العربي في العارضة وقال : إن علم الله لا يحل في مكان ولا ينتسب إلى جهة ، كما أنه سبحانه كذلك لكنه يعلم كل شيء في كل موضع وعلى كل حال فما كان فهو بعلم الله لا يشذ عنه شيء ولا يعزب عن علمه موجود ولا معدوم ، والمقصود من الخبر أن نسبة الباري من الجهات إلى فوق كنسبته إل تحت إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته اه.

وما يرويه سريج بن النعمان عن عبد الله بن نافع عن مالك أنه كان يقول : الله في السماء وعلمه في كل مكان. لا يثبت ، قال أحمد : عبد الله بن نافع الصائغ لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا فيه ، قال ابن عدي : يروي غرائب عن مالك ، قال ابن فرحون : كان أصم أميالا يكتب. راجع ترجمة سريج وابن نافع في كتب الضعفاء وبمثل هذا السند لا ينسب إلى مثل مالك مثل هذا ، وقد تواتر عنه عدم الخوض في الصفات وفيما ليس تحته عمل كما كان عليه عمل أهل المدينة على ما في شرح السنة للالكائي وغيره.

(٢) بل قال أبو بكر ابن العربي في العارضة : روى عن مالك وغيره أنه إذا روى هذه الأحاديث (أحاديث القبض ونحوه) لو أحد مثل بجارحة قطعت اه.

لأن لهم بدعة لا يبغون عنها حولا ، وكل هؤلاء الذين نقل عنهم كلامه إما متأول أراد به قائله معنى صحيحا غير ما أراده هذا المبتدع ، وإما مختلق عليه وحقه أن يسبر ، فمن سمي من المتأخرين لم يكن له بصر بالحقائق فزلّ كما زلّ شيوخ (١) هذا المبتدع وقادته ممن لم يكن قدوة.

فصل

قال : «وسابع عشرها إخباره سبحانه في القرآن عن موسى ، وفرعون أنكر التكليم والفوقية العليا. ولنا مائتا دليل على أنه فوق السماء (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) [النّساء : ٦٥] ـ بالله ـ هل حدثتكم قط أنفسكم بذا فسلوا أنفسكم عن الإيمان ، لكن رب العالمين وجنده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث بالفرقان هم يشهدون بأنكم أعداء من ذا شأنه أبدا بكل زمان ولأي شيء كان أحمد (٢) خصكم أعني

__________________

قول اليافعي في الحشوية

(١) من حشوية الحنابلة قال العفيف اليافعي في (مرهم العلل المعضلة في دفع الشبه والرد على المعتزلة) في الجزء الثالث منه : «ومتأخرو الحنابلة غلوا في دينهم غلوا فاحشا وتسفهوا سفها عظيما وجسموا تجسيما قبيحا وشبهوا الله بخلقه تشبيها شنيعا وجعلوا له من عباده أمثالا كثيرة حتى قال أبو بكر بن العربي في العواصم : أخبرني من أثق به من مشيختي أن القاضي أبا يعلى الحنبلي كان إذا ذكر الله سبحانه يقول فيما ورد من هذه الظواهر في صفاته تعالى : «ألزموني ما شئتم ، فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة». قال بعض أئمة أهل الحق وهذا كفر قبيح واستهزاء بالله تعالى شنيع وقائله جاهل به تعالى لا يقتدي به ولا يلتفت إليه ولا متبع لإمامه الذي ينتسب إليه ويتستر به بل هو شريك للمشركين في عبادة الأصنام ، فإنه ما عبد الله ولا عرفه ، وإنما صوّر صنما في نفسه ، فتعالى الله عما يقول الملحدون والجاحدون علوا كبيرا اه».

ومثل ما نقله ابن العربي عن أبي يعلى هذا منقول في كتب الملل والنحل عن داود الجواربي ، تعالى الله عن ذلك. ثم قال اليافعي : «ولقد أحسن ابن الجوزي من الحنابلة حيث صنّف كتابا في الرد عليهم ، ونقل عنهم أنهم أثبتوا لله صورة كصورة الآدمي في أبعاضها ، وقال في كتابه هؤلاء قد كسوا هذا المذهب شيئا قبيحا حتى صار لا يقال عن حنبلي إلا مجسم ، قال : وهؤلاء متلاعبون وما عرفوا الله ولا عندهم من الإسلام خبر ولا يحدثون ، فإنهم يكابرون العقول وكأنهم يحدثون الصبيان والأطفال ، قال : وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام وفضحوا التابع والمتبوع .. انتهى». والكتاب الذي أشار إليه اليافعي هو (دفع شبه التشبيه) وهو مطبوع فليراجع.

(٢) وإنما خصوم أحمد هم الذين انتموا إليه كذبا وخالفوه في التنزيه ، وقال الحافظ ابن شاهين (رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء : جعفر بن محمد الصادق وأحمد بن حنبل) رواه ابن عساكر بطريق أبي ذر الهروي راوية الجامع الصحيح يريد الروافض والمجسمة.

ابن حنبل الرضى الشيباني ولأي شيء كان أيضا خصمكم شيخ الوجود العالم الحراني (١)».

__________________

(١) ونحن معاشر أهل الحق لا نبالي بعداء مثله من المبطلين ولا تزال تطن في آذان رواد الحقائق شواذ ابن تيمية السخيفة باطلاعهم عليها في مؤلفاته نفسه وفيما رواه ثقات أهل العلم عنه وكلمته فيما رد به على الرازي في المجلد رقم ٢٥ من الكواكب الدراري بظاهرية دمشق حيث قال : «لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته فكيف على عرش عظيم» آية من آيات خرقه وحمقه فليصادق من شاء من الخرقى مثله على عدائه لأهل الحق والمراسيم الملكية الصادرة في حقه بعد محاكمته أمام جماعة كبار العلماء في عصره مسجلة في كتب التاريخ وكتب خاصة مثل عيون التواريخ ونجم المهتدي ودفع الشبه وغيرها ، ولا بأس أن أسجل هنا صورة منها بالنقل من خط الحافظ شمس الدين بن طولون وهي كما رأيتها بخطه رحمه‌الله : «نسخة مثال شريف سلطاني ملكي تاريخه ثامن عشري رمضان سنة ٧٠٥.

أحد المراسيم الصادرة في حق ابن تيمية

الحمد لله الذي تنزّه عن الشبيه والنظير ، وتعالى عن المثال فقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنة والكتاب ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير ونزّه خالقه عن التحيز في جهة لقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : ٤] ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة بما سلك طريق مرضاته وأمر بالتفكر في آلائه ونهى عن التفكر في ذاته ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان ـ ورفع وشيد بهم قواعد الشرع وما شرع ، وأحمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع. وبعد ، فن العقائد الشرعية وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العلية ومذاهب الدين المرضية هي الأساس الذي يبنى عليه والموئل الذي يرجع كل أحد إليه والطريق الذي من سلكها فقد فاز فوزا عظيما ، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما ، فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها ويؤكد دوامها وتصان عقائد هذه الملة عن الاختلاف وتزان بالائتلاف وتخمد نوائر البدع ويفرق من فرقها ما اجتمع ، وكان التقي ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ومدّ عنان كلمه وتحدث في مسائل الصفات والذات ، ونص في كلامه على أمور منكرات وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون وفاه بما تجنبه السلف الصالحون وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام ، وشهر من فتاويه ما استخف به عقول العباد وخالف في ذلك فقهاء عصره وعلماء شامه ومصره وبعث برسائل إلى كل مكان وسمّى فتاواه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان فلما اتصل بنا أنه صرح في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم ، قمنا في الله مشفقين من هذا النبأ العظيم. وأنكرنا هذه البدعة وعزّ علينا أن يشيع عمن تضم ممالكنا هذه السمعة ، وكرهنا ما فاه به المبطلون ، وتلونا قوله سبحانه وتعالى عما يصفون ، فإنه جلّ جلاله تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣] وتقدمت مراسيمنا باستدعاء التقي ابن تيمية إلى أبوابنا عند ما سارت فتاواه في شامنا ومصرنا ، وصرّح فيها بألفاظ

__________________

ـ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [الكهف : ٧٤] ولما وصل إلينا تقدمنا بجمع أولي العقد والحل وذوي التحقيق والنقل وحضر قضاة الإسلام وحكام الأنام وعلماء الدين ، وفقهاء المسلمين وعقدوا له مجلس شرع في ملأ من الأئمة وجمع ، فثبت عند ذلك جميع ما نسب إليه بمقتضى خط يده الدال على سوء معتقده ، وانفصل ذلك الجمع وهم عليه وعلى عقيدته منكرون وآخذوه بما شهد به قلمه قائلين (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزّخرف : ١٩] وبلغنا أنه استتيب مرارا فيما تقدم وأخره الشرع لما تعرض إليه وأقدم ثم عاد بعد منعه ولم تدخل تلك النواهي في سمعه ولما ثبت عليه ذلك في مجلس الحكم العزيز المالكي حكم الشرع الشريف أنه يسجن هذا المذكور ويمنع من التصرف والظهور ، ومن يومنا هذا نأمر بأن لا يسلك أحد مسلك المذكور من المسالك ، وننهي عن التشبه به في اعتقاده مثل ذلك ، أو يعود له في هذا القول متبعا أو لهذه الألفاظ مستمعا ، وأن يسري في التجسيم مسراه ، أو يفوه بحد العلو مخصصا كما فاه أو يتحدث إنسان في صوت أو حرف أو يوسع القول في ذات أو وصف أو ينطق بتجسيم أو يحيد عن الصراط المستقيم أو يخرج عن رأي الأئمة وينفرد به عن علماء الأمة أو يحيز الله تعالى في جهة أو يتعرض إلى حيث وكيف ، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا إلا السيف ، فليقف كل واحد على هذا الحد ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، وليلزم كل الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة والخروج من هذه التشبهات الشريدة ولزوم ما أمر الله به والتمسك بأهل المذاهب الحميدة ، فإنه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل ، وليس له غير السجن الطويل مستقرا ومقيلا ، فقد رسمنا أن ينادي في دمشق المحروسة والبلاد الشامية وتلك الجهات مع النهي الشديد والتخويف والتهديد أن لا يتبع التقي ابن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه ، ومن تابعه منهم تركناه في مثل مكانه وأحللناه ووضعناه عن عيون الأمة كما وضعناه ، ومن أعرض عن الامتناع وأبى إلا الدفاع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم وإسقاطهم من مراتبهم ، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا قضاء ولا إمامة ولا شهادة ولا ولاية ولا إقامة ، فإننا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد وأبطلنا عقيدته التي ضلّ بها العباد أو كاد ، ولتثبت المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك ولتسير إلينا المحاضر بعد إثباتها على قضاة الممالك ، فقد أعذرنا حيث أنذرنا ، وأنصفنا حيث حذرنا ، وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر ليكون أبلغ واعظ وزاجر وأجمل ناه وآمر ، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه ، الحمد لله ، صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم».

انتهى ما رأيته بخط الحافظ ابن طولون في المجموعة الحسبية التي كان فيها الدرة المضية والمقالة في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية للتقي الأخنائي والاعتبار في بقاء الجنة والنار ودفع شبه من شبه وتمرد وغيرها ، ونص المرسوم المقروء على الجمهور على منبر جامع القاهرة بعد صلاة الجمعة وعلى منبر جامع الفسطاط بعد العصر سلخ رمضان مدوّن في نجم المهتدي لابن المعلم القرشي. وما قرئ على منبر جامع دمشق بعد وصول ابن صصرى القاضي من مصر به في اليوم السادس عشر من شهر ذي القعدة سنة سبعمائة وخمس مدوّن في دفع الشبه للتقي الحصني وما نقلناه هنا من المراسيم التي قرئت على منابر البلاد الشامية وألفاظ تلك المراسيم كلها متقاربة في المعنى وفي ذلك كله عبر بالغة ، فما ذا علينا من عداء مثل هذا

وبالغ هذا الخبيث في الأقذاع والسفاهة بما هو صفته ونسي قول فرعون كما حكى القرآن الكريم : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وتجرأ على علماء المسلمين بما لو نقلناه لطال ولا يحتمل الإبطال.

فصل

قال : «وثامن عشرها تنزيهه سبحانه عن موجب النقصان ، فلأي شيء لم ينزه نفسه عن الفوقية».

فنقول قد قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١].

فصل

قال : «وتاسع عشرها إلزام المعطل لأي شيء لم يصرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفي هذا (١)».

ثم استمر هذا السفيه على سفهه.

فصل

قال : «والعشرون نصوص الاستواء (٢) سبع والفوق ثلاث والعلو خمسة والنزول

__________________

ـ الفاتن المفتون ، ومن أحاط علما بما نقلناه في هذا الكتاب وغيره من نصوص عباراته وتأكد من الأصول صدق النقل واستمر على مشايعته وعلى عده شيخ الإسلام فعليه مقت الله وغضبه ، ومن اشتبه في شيء مما نقلناه فنحن على استعداد أن نسهل عليه سبيل الاطلاع على الأصول إن كان لا يكفيه ما يراه بنفسه في منهاجه ومعقوله ونحوهما من كتبه المطبوعة والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.

(١) ما للنقائص من آخر ، فهل تدون مجلدات في نفي كل نقيصة عنه تعالى بالرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] والمحتاج إلى الإثبات هو المثبت دون المنفي ، وكلمة هذا الرجل هذه تقول إن الله تعالى مثبت له من النقائص ملايين الملايين مما لم ينص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفيه بلفظ خاص ، وهل يقول هذا عاقل فضلا عن فاضل فضلا عن إمام يعتقد تابعوه أنه وحيد الأمة فضلا وعلما.

(٢) ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن الاستواء لم يذكر في تلك الآيات إلا بصيغة الفعل المقرونة بأداة التراخي في بعضها ، وذلك نص على أن الاستواء فعل من أفعال الله سبحانه لا صفة ذات له تعالى ، وجلّ الإله أن تحدث له صفة بعد أن لم تكن ومن قال إنه مستو نطق بما لم يأذن الله به كائنا من كان ومن زاد وقال استوى بذاته بمعنى استقر فهو عابد وثن خيالي إن لم يكن عاميا.

أكثر من سبعين نصا ، والسماء منفطر به لم يسمح المتأخرون بنقله جبنا (١) وضعفا بل قاله المتقدمون».

هذا الرجل كما قال الله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) [آل عمران : ٧].

فصل

قال : «والحادي والعشرون إتيان رب العرش ومجيئه (٢) من أين يأتي لا يأتي إلا

__________________

(١) وروى الحشوية في تفسيره ألفاظا وهي (ممتلئ به) و (مثقلة به) و (مثقلة به موقرة) و (يئط من ثقل الذات) وركبوا لها أسانيد فمن أثبت لله سبحانه ثقلا لم يدع ما لم يفه به في التجسيم ، والناظم استنكر إمساك المتأخرين عن ذلك حتى باح بما في نفسه ، ويحاول شيخه أن يجعل قول كعب الأحبار في ذلك مما يمكن أن يكون سمعه من الصحابة ، فحاشاهم عن ذلك ، وفي جزء المنبجي تلميذ الناظم في هذا الصدد مخاز ، ومن علم الحالة العامة عند مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عراقة البيئة في الوثنية ومنازع الأمم المحدقة بها في التشبيه والتجسيم كما أشرت إلى بعض ذلك في مقدمة تبيين كذب المفتري لا يصعب عليه معرفة وجه اندساس أعداء الدين بين الجمهور من عهد التابعين لبعث ما عندهم من صنوف الزيغ بين أعراب الرواة وبسطاء مواليهم حتى وجدت تلك الأساطير من يذيعها بين الأمة خلفا عن سلف ، قاتلهم الله ، ولو لا قيام علماء أصول الدين في كل قرن بكشف الستار عن وجوه هؤلاء المخذولين لاستفحل أمرهم وله الحمد في الآخرة والأولى ، وهذا الناظم وشيخه قد جددا الكرة بسلاح جديد بتلبيس معتقدهما الزائغ بلباس النظر والتفلسف تارة على طريقة صاحب المعتبر أبي البركات البغدادي اليهودي وبلباس الرواية والأثر تارة أخرى وأمرهما كما ترى مكشوف مفضوح في الحالتين بفضل الله وتوفيقه ولا عذر للمنخدعين بهما بعد ما سردناه في هذا الكتاب.

نص أحمد في المجيء

(٢) قال ابن حزم : روينا عن الإمام أحمد في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] إنما معناه وجاء أمر ربك كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل : ٣٣] والقرآن يفسر بعضه بعضا. وهكذا نقله ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير ، وقال البيهقي في مناقب أحمد أنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو بن السماك قال حدثنا حنبل بن إسحاق قال سمعت عمي أبا عبد الله يعني أحمد يقول : احتجوا علي يومئذ ـ يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين ـ فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم إنما هو الثواب قال الله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] إنما تأتي قدرته ، وإنما القرآن أمثال ومواعظ.

قال البيهقي وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها ، وإنما هو عبارة عن ظهور آيات قدرته ، فإنهم لما زعموا أن القرآن لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ ، فعبّر عن إظهاره إياها بمجيئه اه.

من العلو».

ما كفاه إثبات الفوقية حتى أثبت الحركة في الإتيان.

فصل

في الإشارة إلى ذلك من (١) السنة».

قال :

«لما قضى الله ربنا الخليقة

كتبت يداه كتاب ذي إحسان»

أين لفظ كتبت يداه؟

قال :

«ولقد أشار نبينا في خطبة

نحو السماء بإصبع وبنان»

__________________

ـ وقال اليافعي بعد أن ساق ذلك : قال العلماء وقد يقتضي الحذف من التعظيم والتفخيم ما لا يقتضيه الذكر ، وشواهده من الكتاب كثيرة كقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣] و (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] وقد أجمع المسلمون على تقدسه تعالى عن التأذي والضرر ، أي يحاربون عباد الله وأولياءه ويوضحه قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) [النّحل : ٢٦] ليس المراد الإتيان بذاته بالاتفاق وإنما هو أمره ويشهد له قوله تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٢٤] اه. والناظم وشيخه يدعيان الانتماء إلى أحمد ولا يتابعانه في التنزيه كما رأيت نصوص أهل العلم عن أحمد فلا ينخدعن الموفق بثرثرتهما المفضوحة وتهويلهما المصطنع وإنما ذلك وقاحة منهما قاتلهما الله ، ما أجرأهما على الله تعالى.

معنى كتب ربكم على نفسه بيده

(١) قد أجمع أهل الحق على أنه لا يجوز إثبات صفة الله سبحانه بدون دليل يفيد العلم ولهم في ذلك أدلة ناصعة قال أبو سليمان الخطابي في (الناصحة) لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا على الأحاديث المشهورة التي قد ثبتت صحة أسانيدها وعدالة ناقليها اه. ثم أقام النكير على قوم من أهل الحديث تعلقوا برواية المفاريد والشواذ في الصفات ، ونكتفي بهذه الإشارة هنا. ولم يقع كتبت يداه في الصحيح عند ذكر حديث «سبقت رحمتي غضبي» ، وأما ما في ابن ماجه فبطريق ابن عجلان وقد ضعفه البخاري ولم يكن مالك يرضاه في الصفات فلا حجة في رواية مثله على أن لفظه «كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق رحمتي سبقت غضبي» قال الله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] فكتب إذا تعدّى بلفظ على يكون بمعنى أوجب ، فيكون معنى الحديث أوجب على نفسه بذاته لا بإيجاب أحد سواه ، واستعمال (بيده) بمعنى بذاته شائع كثير ، والإيجاب على النفس بمعنى الوعد والوجوب عن الله لا الوجوب على الله. فليس هناك خط ولا مخطوط ، ومن الدليل على ما قلنا أن الخط حادث مخلوق فكيف يتصور أن يكون قبل الخلق خلق فلا تغفل مع الغافلين.

تقدم جوابه.

قال : «ولقد أتى في رقية المرضى نص بأن الله فوق (١) سمائه وخبر رواه العباس أن الله فوق العرش (٢).

واذكر حديث حصين (٣) بن المنذر الثقة الرضى أعني أبا عمران إذ قال : ربي في

__________________

(١) ولفظ الحديث «ربنا الله الذي في السماء تقدّس اسمك» يدور هذا اللفظ بين أن يكون بمعنى أنه تقدس اسمه في السماء لأن أهل السماء كلهم منزّهون بخلاف أهل الأرض وبين أن يكون بمعنى أنه في السماء واستحالة الثاني تعين الأول والناظم غير اللفظ وادعى أنه نصّ تحريفا للكلم على أن في سنده زيادة ابن محمد وهو منكر الحديث والناظم يستدل بالمنكر في الصفات مع تغيير نص الرواية والحديث مخرج في سنن أبي داود.

(٢) في رواية عبد الرزاق (والله فوق ذلك) ولفظ فوق العرش إنما وقع في بعض الروايات كما سبق على أن الحديث انفرد به سماك. وشيخه عبد الله بن عميرة لم يدرك الأحنف كما نصّ عليه البخاري فضلا عن أن يدرك عباسا مع كونه مجهول الصفة ، وتحسين الترمذي باعتبار أنه مروي عن سماك بطرق لا بمعنى أنه محتج به حيث قال حسن غريب ثم ذكر وقفه عن شريك عن سماك فتكون في رفعه علة أيضا ، ويحيى بن العلاء في مسند عبد الرزاق متروك ، هكذا تكون حجج الناظم في السنة لا يبالي أن يكون الحديث من المفاريد أو أن يكون فيه منكر أو مجهول أو انقطاع. دعنا من تخريج الضياء وقد عرف الناس مذهبه في الصفات وقال ابن العربي في العارضة عن حديث الأوعال هذا : وروى غير ذلك ولم يصح شيء منه وإنما هي أمور تلفقت من أهل الكتاب ليس لها أصل في الصحة وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنشد قول أمية بن أبي الصلت :

رجل وثور تحت رجل يمينه

والنسر للأخرى وليث مرصد

ولم يصح اه.

سخف عثمان بن سعيد في التمسك بحديث

حصين في الفوقية

(٣) غلط الناظم في اسم والد حصين كما يظهر من الكتب المؤلفة في الصحابة ، وإسلام حصين صاحب القصة مختلف فيه ووصفه بالثقة الرضى مطلقا مجازفة وأقل ما يقال فيه إنه لم يكن ثقة ولا رضي حين المحادثة على تقدير ثبوت الخبر ولسنا في صدد استقصاء جهالات الناظم ويريد بحديث حصين ما رواه أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن حصين قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي : «كم تعبد اليوم إلها؟ فقال : ستة في الأرض وواحدا في السماء ، قال : فأيهم تعده لرغبتك ورهبتك؟ قال : الذي في السماء. قال : يا حصين ، أما إنك لو أسلمت علّمتك كلمتين ينفعانك ، فلما أسلم قال : يا رسول الله علّمني الكلمتين ، قال : «قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي». وأخرجه عثمان بن سعيد السجزي الدارمي عن ابن منيع إلى «الذي في السماء» فقط في كتاب النقض محتجا به على إثبات الحد والنهاية والمكان له تعالى حتى قال : فلم ينكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الكافر إذ عرف أن إله

السماء لرغبتي ولرهبتي أدعوه كل أوان ، فأقره الهادي البشير صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقل أنت المجسم قائل مكان واذكر شهادته لمن قال ربي في السماء (١) بالإيمان وشهادة المعطل له بالكفران ، وحديث (٢) الأطيط ، وحديث النزول (٣) وحديث (٤) ابن رواحة ،

__________________

ـ العالمين في السماء فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله من المريسي وأصحابه ... وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدّوه بذلك .. وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية اه» راجع معقول ابن تيمية في هامش منهاجه (٢ ـ ٣٠) تجده ينقل ذلك عنه بنصه وفصه بدون استنكار ، والناظم أتبع له من ظله في كل صغير وكبير (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النّور : ٤٠] وعثمان الدارمي هذا مجسم قح كما ترى وهو إمام الناظم وشيخه وإسلام عمران بن حصين أيام خيبر وهذه المحادثة وقعت قبل الهجرة وحصين مشرك ولا يكون من التقرير في شيء ما يشاهده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المشرك وسكت عليه ، وكيف يتصور عاقل أنه أقره على ما يدّعيه الناظم؟ إذ من المحال أن يقره على ستة في الأرض ، على أن عرضه الإسلام يدل على استنكار ما قاله حصين وعلى أنه كان على شر وضلال فيما قال ، وشبيب بن شيبة ضعفه النسائي وغيره وبمثل هذا السند لا يستدل في الأعمال فضلا عن الاستدلال به في المعتقد ، وأما ما أخرجه ابن خزيمة في التوحيد فبلفظ آخر زيد فيه كلمة إنقاذا للموقف لكن في سنده عمران بن خالد وحاله أسوأ من أن يقال : إنه ضعيف بل هو مكشوف الأمر والروايتان مختلفتان فلا تجمعان ولا تلفقان ولا ينقذ هذا الموقف بمثل ذلك الترقيع ، فليتق الناظم رب العالمين من أن يسوق في صفات الله سبحانه أمثال تلك الروايات.

(١) وليس في رواية يحيى الليثي عن مالك لفظ «فإنها مؤمنة» في حديث الجارية وقد سبق بيان اضطراب هذا الحديث سندا ومتنا وعدم صلاحية مثله للاحتجاج إلا في الأعمال دون المطالب الاعتقادية وقد حمل الشريف الجرجاني لفظ «أين» في الحديث على السؤال الاستكشافي ، ومن أهل العلم من قال إن العامي الذي يعلو عن مداركه التنزيه عن المكان يؤخذ بالرفق ويعذر لهذا الحديث بخلاف من عنده بعض إلمام بالعلم ، وجعل ابن رشد الحفيد لصاحب البرهان شأنا غير شأن العامي في ذلك ، وقد سبق بسط ذلك كله.

(٢) قال الذهبي في كتاب العلو : لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت اه. وقد ألّف الحافظ أبو القاسم بن عساكر جزءا سماه (بيان التخليط في حديث الأطيط) بيّن فيه وجوه التخليط في روايات الأطيط فلا حاجة لتكلف التأويل بعد ثبوت بطلان تلك الروايات.

(٣) وقد سبق بيان ما فيه كفاية في هذا الصدد فلا نعيد الكلام بدون موجب.

الشعر المنسوب إلى ابن رواحة

(٤) يشير به إلى ما ينسب إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه من أنه أنشد :

شهدت بأنّ وعد الله حقّ

وأن النار مثوى الكافرينا

وأنّ العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

إيهاما لامرأته أنه يتلو القرآن دفعا لما اتهمته به من نيله جارية له حتى قالت زوجته آمنت بالله وكذبت عيني اه وهذه قصة تذكر في كتب المحاضرات والمسامرات دون كتب الحديث

والمعراج (١) وقريظة (٢) ، وصعود الروح (٣) عند الموت ، وسخط الله (٤) على المرأة

__________________

ـ المعتمدة ولم ترد في كتب أهل الحديث بسند متصل ولو من وجه واحد وأما ما وقع في الاستيعاب من قول ابن عبد البر (رويناه من وجوه صحاح) فسهو واضح من الناسخ وأصل الكلام (من وجوه غير صحاح) فسقط لفظ (غير) فتتابعت النسخ على السهو إذ لم يجد أهل الاستقصاء سندا واحدا يحتج بمثله في هذه القصة بل كل ما عندهم في هذا الصدد أخبار منقطعة وما يكون في عهد ابن عبد البر مرويا بطرق صحيحة كيف لا يكون مرويا عند من بعده ولو بطريق واحد صحيح؟ وهذا يعين ما قلناه من سقوط لفظ (غير) في الكتاب. ولم يتمكن الذهبي بعد بذل جهده من ذكر سند واحد غير منقطع في القصة وأفعال الصحابة كلها جد ، وجلّ مقدار مثل هذا الصحابي عن أن يوهم صحابية أنه يتلو القرآن بإنشاده الشعر لها. وإيهام كون الشعر من القرآن ليس مما يقر عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمتن الخبر نفسه يدل على البطلان. على أن الحافظ ابن الجوزي ذكر في كتاب الأذكياء أنه قال :

وفينا رسول الله يتلو كتابه

كما انشق مرموق من الصبح ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

وأين هذا الشعر من ذاك الشعر والحكاية هي هي. ولا مجال لتعدد القصة لأن المرأة لا تخدع بمثل ذاك مرتين.

(١) نحيل الناظم في حديث المعراج الذي يريد أن يستدل به هنا على ما كتبه هو نفسه في زاد المعاد في الأوهام الواقعة في حديث شريك في المعراج وقد بسط أهل العلم أغلاطه فيه.

حديث بني قريظة

(٢) يعني ما يروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لسعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة بأن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة» وفي سنده النسائي محمد بن صالح التمار ليس بقوي ، قال أبو بكر بن العربي في القواصم : لم يصح اه على أن حكم الله يطلع عليه الملائكة باطلاعهم على اللوح المحفوظ فيكون معنى كون حكمه في السماء كون حكمه في اللوح المحفوظ الذي هو في السماء.

(٣) أخرجه أحمد وابن خزيمة وفيه لفظ «حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الرب». وليس السند إليهما كالسند إلى الأصول الستة ، وقد أعرض عن تخريجه أصحاب الأصول الستة وهذا اللفظ منكر والظاهر أنه من تغيير بعض الرواة وقد أجمع المسلمون على أن الله سبحانه لا تحويه السماء ولا الأرض وأنه منزّه عن المكان ، قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه : إذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد ردّ بأمور أحدها أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا اه. وأما هذا فمخالف للكتاب والسنة والمعقول في آن واحد.

(٤) ولفظ مسلم «كان الذي في السماء ساخطا عليها» وليس في هذا اللفظ التصريح بما يرمي إليه الناظم ، ومثل هذا الحديث من أخبار الآحاد يحمل على المحكمات وليس في الحديث. ذكر الرب سبحانه وحمله عليه تقول وعلى فرض حمله عليه ليس معنى كونه في السماء الاستقرار والتمكن فيها باتفاق بل معنى ذلك علو الشأن ، كما سبق.

التي تهجر زوجها ، وحديث جابر في أهل الجنة إذا بنور (١) ساطع فإذا هو الرّحمن.

وحديث فضل (٢) يوم الجمعة ، وأمين (٣) من في السماء ، وأذكر حديث أبي رزين (٤) وبطوله ساقه ابن إمامنا والطبراني وأبو بكر بن زهير واذكر كلام مجاهد في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) [الإسراء : ٧٨] ... في سبحان في ذكر تفسير المقام

__________________

حديث جابر

(١) أخرجه ابن ماجه بطريق العباداني وهو منكر الحديث وفضل الرقاشي ممن لا يكتب حديثه وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وأقرّ الذهبي بكونه ضعيف الإسناد وبمثله يحتج الناظم!.

(٢) غير صالح للاحتجاج بالمرة ولا سيما في مثل هذا المطلب ولابن عساكر الحافظ جزء سماه (القول في جملة الأسانيد الواردة في حديث يوم المزيد) وبيّن فيه وجوه الوهي فيها وقال إن لهذا الحديث عن أنس عدة طرق في جميعها مقال. وفي بعض طرق الحديث ما يخيل إلى الناظر أنه في احتفاء بأحد رجالات العرب تعالى الله عما اختلقه أعداء الدين وركبوا له أسانيد ما أنزل الله بها من سلطان.

(٣) وهو أمين من في الأرض من المؤمنين وأمين سكان السماوات كلهم فما ذا في هذا الحديث مما يرمي إليه الناظم.

(٤) سبق الكلام في حديث أبي رزين ، ونود أن نعلم هل كان الناظم يعتقد صحة جميع ما في كتاب السنة المنسوب إلى عبد الله بن أحمد ، فإذا ذاك يسقط التابع والمتبوع وجلّ مقدار أحمد أن يصح عنه جميع ما في الكتاب المذكور ومن طالعه من أهل العلم لا يتردد أنه ليس بكتاب يحتج بجميع ما فيه ومن جملة ما فيه : رآه على كرسي من ذهب يحمله أربعة : ملك في صورة رجل ، وملك في صورة أسد وملك في صورة ثور وملك في صورة نسر ، في روضة خضراء دونه فراش من ذهب. ومنها : كلمه بصوت يشبه الرعد. ومنها : أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل منك ، ومنها : أن الرّحمن ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش ومنها (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمّل : ١٨] مثقل وممتلئ به. ومنها : أنه ليقعد عليه فما يفضل منه إلا قيد أربع أصابع. ومنها فأصبح ربك يطوف في الأرض ... إلى آخر ما تجده في النسخة المطبوعة من كتاب السنة. وقوله «نازل على جبل منك» يذكرنا ما أخرجه أبو إسماعيل الهروي في الفاروق عن كعب : إن الله نظر إلى الأرض فقال إني واطئ على بعضك فاستبقت له الجبال وتضعضعت الصخرة فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه فقال هذا مقامي ... اه. وهذا الهروي المخرف يروي في ذم الكلام عن بعض قادته أنه لا تحل ذبائح الأشعرية لأنهم ليسوا بمسلمين ولا بأهل كتاب اه ، والله ينتقم منه. وأما الطبراني فمن المعروف عند أهل النقد أنه من الذين يروون الحديث الموضوع والضعيف بدون بيان كونه موضوعا أو ضعيفا بل ينسب إليه تصحيح حديث عكرمة في الرؤية على صورة شاب مرد ... فلا حب ولا كرامة.

لأحمد (١) إن كان تجسيما ، فإن مجاهدا هو شيخهم بل شيخه الفوقاني ولقد أتى ذكر الجلوس به».

هذه الأحاديث كلها قد ذكرها الأئمة وذكروا تأويلاتها من قديم الزمان وإلى الآن.

فصل

بحث ممتع في التأويل

في جناية التأويل (٢) على ما جاء به الرسول.

__________________

(١) مروي عنه بطرق ضعيفة وتفسيره بالشفاعة متواتر معنى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنى يناهضه قول تابعي على تقدير ثبوته عنه؟ ومن يقول إن الله سبحانه قد أخلى مكانا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عرشه فيقعده عليه في جنب ذاته فلا نشك في زيغه وضلاله واختلال عقله رغم تقول جماعة البربهارية من الحشوية وكم آذوا ابن جرير حتى أدخل في تفسيره بعض شيء من ذلك مع أنه القائل :

سبحان من ليس له أنيس

ولا له في عرشه جليس

ولو ورد مثل ذلك بسند صحيح لردّ وعد أن هذا سند مركب فكيف وهو لم يرفع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصلا بل نسب إلى مجاهد بن جبر ، نعم لا مانع من أن يكون الله سبحانه يقعده على عرش أعده لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القيامة إظهارا لمنزلته لا أنه يقعد ويقعده في جنبه ، تعالى الله عن ذلك. إذ هو محال يرد بمثله خبر الآحاد على تقدير وروده مرفوعا فكيف ولم يرد ذلك في المرفوع حتى قال الذهبي : لم يثبت في قعود نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرش نص بل في الباب حديث واه. وقال أيضا : ويروى مرفوعا وهو باطل. فما ذكره ابن عطية من التأويل وسايره الآلوسي فليس في محله لأن أصحاب الاستقراء لم يجدوه مرفوعا حتى نحتاج إلى محاولة التأويل بما يمجه الذوق ومن ظن أنه يوجد في مسند الفردوس ما يصح في ذلك لم يعرف الديلمي ولا مسنده وأرسل الكلام جزافا. جزى الله الواحدي خيرا حيث ردّ تلك الأخلوقة ردا مشبعا وكذا ابن المعلم القرشي وأما ما يروى عن أبي داود أنه قال من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم. فبطريق النقاش صاحب شفاء الصدور وهو كذاب عند أهل النقد وقال ابن عبد البر إن لمجاهد قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس والثاني تأويل (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٣] بانتظار الثواب. وفتنة أبي محمد البربهاري ببغداد في الإقعاد وصمة عار يأبى أهل الدين أن يميلوا إليها لاستحالة ذلك وتضافر الأدلة على تفسير المقام المحمود بالشفاعة وإنما هذه الأسطورة تسربت إلى معتقد الحشوية من قول بعض النصارى بأن عيسى عليه‌السلام رفع إلى السماء وقعد في جنب أبيه ، تعالى الله عن ذلك فحاولوا أن يجعلوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما جعله النصارى لعيسى عليه‌السلام كسابقة لهم ، تعالى الله عن ذلك ، فعليك أن تتهم من يقول إني أتهم من ينفي حديث الإقعاد في جنب الله عزوجل.

(٢) من كلام العرب ما يفهم منه مراد المتكلم بمجرد سماعه بدون احتياج إلى التدبر ومنه ما لا يفهم المراد منه إلا بعد التأمل فيما يؤول إليه ذلك الكلام والتأويل تبيين ما يؤول إليه الكلام

__________________

ـ بعد التدبر فمن نفى التأويل جملة وتفصيلا فقد جهل الكتاب والسنة ومناحي كلام العرب في التخاطب. وأبو يعلى الحنبلي المسكين ـ من أئمة الناظم ـ ألّف كتابا سماه (إبطال التأويلات في أخبار الصفات) أتى فيه بكل طامة حتى قال عنه أبو محمد رزق الله التميمي الحنبلي : لقد بال أبو يعلى على الحنابلة بولة لا يغسلها ماء البحار. كما ذكره سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان ، ولفظ ابن الأثير في الكامل أفظع وأما لفظ ابن الجوزي في دفع الشبع فرواية بالمعنى ، وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي في دفع شبه التشبيه كثيرا من مخازيه بل في تأسيس ابن تيمية نقول كثيرة من كتاب (إبطال التأويلات) منها إثبات الحد له تعالى من الجانب الأسفل ، تعالى الله عن ذلك. ويأسف الإنسان كل الأسف أن يضل مثل أبي يعلى هذا الضلال وما ذلك إلا من عدوى خلطائه ، فلو كان والده الذي كان من أخص أصحاب أبي بكر الرازي الجصاص رأى ما آل إليه أمر ابنه اليتيم عنه لبكى بكاء مرا وتبرأ منه ومن عقائده. ومما زاد في ويلات الكتاب اعتداده بكل خبر غير مميز بين المختلق وغيره. ولأبي يعلى هذا كتاب المعتمد في المعتقد وهو قريب إلى السنة ونرجو أن يكون هذا آخر مؤلفاته ليكون قاضيا على ما سلف منه وإلا فيا للعار والنار من مسايرة الأشرار ، فمن أول في كل موضع فهو قرمطي كافر ، ومن أبي التأويل في كل آية وحديث فهو حجري زائغ كابن الفاعوس الحنبلي الذي لقب بالحجري حيث كان يقول إن الحجر الأسود يمين الله حقيقة قال أبو بكر بن العربي عن الظاهرية :

قالوا الظواهر أصل لا يجوز لنا

عنها العدول إلى رأي ولا نظر

بينوا عن الخلق لستم منهم أبدا

ما للأنام ومعلوف من البقر

وقد قال ابن عقيل الحنبلي «هلك الإسلام بين طائفتين : الباطنية والظاهرية والحق بين المنزلتين وهو أن نأخذ بالظاهر ما لم يصرفنا عنه دليل ونرفض كل باطن لا يشهد به دليل من أدلة الشرع» وللغزالي جزء لطيف سماه قانون التأويل وهو يقول فيه عند البحث فيما إذا كان بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر : «والخائضون فيه تحزّبوا إلى مفرط بتجريد النظر إلى المنقول وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلا والمنقول تابعا وإلى من جعل المنقول أصلا والمعقول تابعا وإلى من جعل كل واحد أصلا» : ثم شرح هؤلاء الأصناف الخمسة شرحا جيدا لا يستغني عنه باحث ، حفظنا الله سبحانه من الإفراط والتفريط وسلك بنا سواء السبيل وفي الاطلاع على جزء الغزالي هذا فوائد في هذا الصدد.

قول ابن حجر في التأويل

وأما قول ابن حجر في فتح الباري «إنه لم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن أحد من الصحابة بطريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك ـ يعني المتشابهات ـ ولا المنع من ذكره ومن المحال أن يأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغ ما أنزل إليه ربه وينزل عليه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] ثم يترك هذا الباب فلا يميز ما يجوز نسبة إليه تعالى وما لا يجوز مع حثه على التبليغ عنه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليبلغ الشاهد الغائب» حتى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وما فعل بحضرته فدلّ على أنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الذي أراده الله تعالى منها ووجب تنزيهه عن

__________________

ـ مشابهة المخلوقات بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم فقد خالف سبيلهم وبالله التوفيق اه».

فليس مما يستطيع الحشوي أن يتخذه سندا في ترويج مزاعم المشبهة ـ رغم محاولة بعضهم ذلك لأن في سياق كلامه ما يحتم التفويض مع التنزيه وهو مذهب جمهور السلف وليس أحد من أهل العلم يمنع من إجراء المتشابه في الكتاب والسنة المشهورة على اللسان بدون خوض في المعنى فمن خاض وحمل على ما ينافي التنزيه فهو الذي خالف سبيلهم ، بل الصحابة كلهم أجمعوا على تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقات في ذاته وصفاته وأفعاله ومن ضرورة ذلك صرف الألفاظ المستعملة في الخلق عن معانيها المتعارفة بينهم إلى معان تتسامى عنها عند نسبة تلك الألفاظ إلى الله سبحانه على مقتضى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وهو تأويل إجمالي وأما تعيين تلك المعاني المتسامية تفصيلا بقرائن قائمة فمما يختلف مبلغ انتباه أهل العلم إليه على اختلاف ما آتاهم الله من الفهم فمن بان له وجه الكلام كوضح الصبح يسلك طريق التبيين بل يدخل هذا المتشابه في حقه في عداد المحكم ـ وذلك كالنظري بالنسبة إلى الحدسي وكم من نظري مستصعب عند أناس يكون حدسيا مكشوفا عند أناس آخرين ـ فأحاديث النزول مثلا إبعادها عن معان توجب التشبيه والنقلة موضع اتفاق بين أهل الحق سلفا وخلفا وحملها على المجاز في الطرف أو على الإسناد المجازي استعمال عربي صحيح وموافق للتنزيه وقد يترجح عند بعضهم الأول وعند بعضهم الثاني ، ولكن الذي صحّ عنده رواية الإنزال أو اطلع على صحة حديث أبي هريرة في سنن النسائي «إن الله عزوجل يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له» يجزم بإرادة الإسناد المجازي في باقي الروايات فيخرج حديث النزول في نظره من عداد المتشابه ويدخل في عداد المحكم حيث رده إليه.

تحقيق ابن دقيق العيد

قال الإمام المجتهد ابن دقيق العيد : «إن كان التأويل من المجاز البين الشائع فالحق سلوكه من غير توقف ، أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه ، وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين اه».

وهذا كلام نفيس جدا ينبئ عن علم جم ، وصراحة في بيان الحق ، وتوسط حكيم بخلاف كلام الذين يسعون في إرضاء الطوائف بكلام معقد متشابه يفتح باب التقول لمن بعدهم من الزائغين في المتشابهات ، وأين هؤلاء من ابن دقيق العيد في التروي والأمانة والصراحة والتحقيق والجمع بين الأصلين والفقه والحديث؟ وعن ابن دقيق العيد هذا يقول ابن المعلم : (كان مبارزا لأهل البدع من الحشوية والصوتية والقائلين بالجهة ... منكرا عليهم بيده ولسانه ولفظه وجنانه يغري ويؤلب عليهم ولا يدع لهم رأسا قائمة إلا اقتطعها ولا شجرة يخشى شرها إلا اقتلعها) فتبين من ذلك أن المسلم في سعة من التفويض والتأويل فالأول في حينه أسلم والثاني بشرطه أحكم فلا يتصور أن ينقل التصريح بوجوب التأويل التفصيلي عن الصحابة لأنه لو نقل لوجب التأويل التفصيلي على العالم والجاهل على حد سواء وهذا مما يبرأ منه الشرع الحنيف.

__________________

صنيع الصحابة في التأويل

ـ وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم لا يخوضون في المعضلات حرصا منهم على معتقد الذين قرب عهدهم بالجاهلية وتدريبا لهم على الأعمال النافعة دون المماحكات الفارغة ، لأن الخوض فيها يضر ولا ينفع في شخص دون شخص وفي وقت دون وقت ـ وعمل الفاروق رضي الله عنه في صبيغ معروف ـ ولم يتقاعس الصحابة عن الإجابة عند حدوث ضرورة كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما مع نافع بن الأزرق فلا يكون المؤول بشرطه مخالفا للصحابة رضي الله عنهم بل مقتديا بهم ، وقد سرد المحدث النظار الفخر بن المعلم القرشي الشافعي في (نجم المهتدي) في باب خاص منه نماذج كثيرة من التأويلات المروية عن الصحابة والتابعين وقد اكتظت كتب التفسير بالرواية بما روى عنهم في هذا الصدد ، وكانت الصحابة يفهمون بسليقتهم كلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن يصعب عليهم فهم ما يستعصي فهمه على كثير ممن تأخر زمنه عن زمن الوحي ، ولم يقع في كلام أحد منهم شيء ينافي التنزيه أصلا وأما ما وقع في بعض الروايات مما يوهم ذلك فمن تغيير أعراب الرواة وأعاجمهم والرواية بالمعنى من غير فقهاء الرواة في حاجة إلى التنقيب والنظر وحيث كان غالب ألفاظ الروايات ألفاظ الرواة ـ على حسب فهمهم المعاني ـ لا يعول محققو علماء العربية في اللغة على ألفاظ الحديث المروي بالمعنى فكيف يتصور أن يتخذ علماء أصول الدين ألفاظ هؤلاء الرواة ـ على حسب أفهامهم ـ حجة في دين الله من غير نظر فيما إذا كان مخالفا للتنزيه والبراهين القائمة؟ والحاصل أن التفويض مع التنزيه مذهب جمهور السلف لانتفاء الضرورة في عهدهم والتأويل مع التنزيه مذهب جمهور الخلف حيث عنّ لهم ضرورة التأويل لكثرة الساعين في الإضلال في زمنهم ، وليس بين الفريقين خلاف حقيقي لأن كليهما منزّه ومن أهل العلم من توسط بين هؤلاء وهؤلاء كما أشرت إليه.

وأما المشبهة فتراهم يقولون : نحن لا نؤول بل نحمل آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها. وهم في قولهم هذا غير منتبهين إلى أن استعمال اللفظ في الله سبحانه بالمعنى المراد عند استعماله في الخلق تشبيه صريح وحمله على معنى سواه تأويل على أن الأخبار المحتج بها في الصفات إنما هي الصحاح المشاهير دون الوحدان والمفاريد والمناكير والمنقطعات والضعاف والموضوعات مع أنهم يسوقون جميعها في مساق واحد في كتب يسمونها التوحيد أو الصفات أو السنة أو العلو أو نحوها.

اضطراب الحشوية

ومن الأدلة القاطعة على رد مزاعم الحشوية في دعوى التمسك بالظاهر في اعتقاد الجلوس على العرش خاصة قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة : ١٨٦] وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] وقوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩] وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [فصّلت : ٥٤] وقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] إلى غير ذلك مما لا يحصى في الكتاب والسنة المشهورة مما ينافي الجلوس على العرش وأهل السنة يرونها أدلة على تنزه الله سبحانه عن المكان كما هو الحق فلا يبقى

__________________

ـ للحشوية أن يعملوا شيئا إزاء أمثال تلك النصوص غير محاولة تأويلها مجازفة أو العدول عن القول بالاستقرار المكاني فأين التمسك بالظاهر في هاتين الحالتين؟ وهكذا سائر مزاعمهم على أن من عرف أقسام النظم باعتبار الوضوح والخفاء وأقرّ بكون آيات الصفات وأخبارها من المتشابه كيف يتصور في هذا المقام ظاهرا يحمل المتشابه عليه؟ وإنما حقه أن يحمل المتشابه في الصفات على محكم قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] بالتأويل الإجمالي ومن الحشوية من يزعم أن الآية المذكورة متشابهة ليتنكب الحمل المذكور ، بل منهم من بلغ به الكفر إلى حد أن يقول (له ساق كساقي هذه والمراد بالآية نفي المماثلة في الإلهية لا في كل أمر) كما تجد ذلك في ترجمة العبدري الظاهري في تاريخ ابن عساكر. وهذا كفر بواح ، فتلاوة المشبه الآية المذكورة لا تفيد بمجردها التنزيه بالمعنى الذي يفهمه أهل الحق من الآية فلا تغفل ولا تنخدع فمن المضحك المبكي تمسكهم مرة في نفي العلم بالتأويل بقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] باعتبار الوقف على الاسم الكريم مع دعوى الحمل على الظاهر ، وزعمهم أخرى أن التأويل بمعنى التفسير مع الوقف على (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران : ٧] مدّعين أنهم يعلمون تأويل المتشابه باعتبار أنهم من الراسخين في العلم ومجترئين على النطق بكلمات في المتشابهات لا ينطق بمثلها من يخاف مقام ربه ، وأما أهل الحق فلا يدعون معرفة جميع التأويل بل يفوضون علمه إلى الله ويردون المتشابه إلى المحكم جملة وتفصيلا ولا يحملون لفظ التأويل في تلك الآية على خلاف معناه المعلوم من السياق بل يحمل بعض المحققين منهم النفي في الآية ـ بالوقف على لفظة (اللهُ) كما هو المؤيد دراية ورواية ـ على سلب العموم دون عموم السلب بالنظر إلى أن التأويل مصدر مضاف فيكون من ألفاظ العموم فبانصباب النفي على العموم يكون المعنى : ما يعلم غيره تعالى بنفسه جميع التأويل وهذا لا يمانع معرفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع التأويل بتعليم الله سبحانه وحيا ولا يمنع أهل العلم من الأمة من السعي في معرفة ما دون الجميع من التأويل كما هو حكم رفع الإيجاب الكلي ، ومنهج كثير من السلف الذين اختاروا الوقف على لفظة (اللهُ) فضلا عن الخلف وبهذا تعرف قيمة ما أطال به ابن تيمية الكلام في تفسير سورة الإخلاص متظاهرا بالمسايرة مع الخلف مخادعة منه في صدد توهين الوقف على لفظة (اللهُ) مع إخراج التأويل عن معناه ليتمكن من حمل المتشابهات على معتقد الحشوية ، فإذا تدبرت كلامه الطويل هناك تحت نور هذا البيان تجده يضمحل ويذهب هباء ومن الطريف تأويل التأويل ممن ينكر التأويل ويدعي الأخذ بالظاهر.

ثم إني أوصي الشحيح بدينه أن لا يلتفت إلى كلام مثل البرهان الكوراني (وله أمثال) ممن ضاع صوابه بين نزعات متضاربة من حشوية وتصوف وفلسفة وكلام حيث أطلق عنان الهذيان في التلفيق بينها من غير أن يستبحر في علم منها والكلام بعد الاستطراف المجرد موقع في التخريف ومصداق ذلك في (الأمم لإيقاظ الهمم) له في (ص ٢٣ ـ ٢٦) منه فما يرويه فيه عن كتب تنسب إلى الأشعري على خلاف ما هو مدوّن في كتب أصحابه وأصحاب أصحابه ليس بموضع تعويل لمنافاته لنقل الكافة ولإبادة الحشوية لكتبه في فتن بغداد ولتصرفهم في البقية الباقية التي يذيعونها بما يخالف نقل الكافة ولعدم روايتها سماعا بطريق أهل السنة ، كما بينت

فذكر أن التأويل أصل كل بلية ثم قال : «والتأويل الصحيح هو تفسيره وظهور معناه كقول عائشة يتأول القرآن وحقيقة التأويل معناه الرجوع إلى الحقيقة لا خلف بين أئمة التفسير في هذا ، تأويله هو عندهم تفسيره بالظاهر (١) ما قال منهم قط شخص واحد تأويله صرف عن الرجحان ولا نفي الحقيقة».

__________________

ـ ذلك في موضع آخر. وأما ما يرويه عن عبد الغني المقدسي بسنده عن الشافعي من الاعتقاد فباطل موضوع وفي سنده العشاري وأبو العز بن كادش وسيأتي حالهما في أواخر الكتاب وعبد الغني نفسه ليس ممن يقبل قوله في الصفات ، راجع ذيل الروضتين. فلا يعول على مثل هذا السند إلا مثل الكوراني.

التجلي في الصور

وقول الكوراني بالتجلي في الصور مجون في مجون وجنون ليس فوقه جنون ، وقال أبو بكر ابن العربي في القواصم والعواصم (٢ ـ ٢٨) فيمن يحمل حديث «... فيأتيهم في صورة ثم يأتيهم في صورة أخرى ...» على التبدل والانتقال والتحول : إنه ليس من أهل القبلة بل حكم بخروجه أصلا وفرعا من الملة. وحمل الصورة على ظاهرها فضيحة ليس فوقها فضيحة ـ والله هو الهادي.

(١) وحمل التأويل على معنى التفسير في باب المتشابهات تحريف للكلم عن مواضعه وملاحظة ظاهر للمتشابه جهل يأباه كثير من العامة فضلا عن الخاصة وقد رضي الناظم لنفسه بهذا الجهل وأنى يتصور ظاهر في متشابه؟ فالظاهر في اللغة يقابل الخفي فلا يتصور حيث لا يكون المدلول عليه واضحا فلا يعقل أن يلاحظ هذا المعنى في المتشابه الذي هو غاية في الخفاء ، وأما في أصول الفقه فهو بمعنى الراجح من الاحتمالين بالوضع أو بالدليل وهو من أقسام الوضوح المقابل للخفاء الذي من أقسامه المتشابه فلا يتصور اجتماعهما في لفظ ويطلق الظاهر أيضا على ما يدل على المراد بإحدى الدلالات المعتبرة عند أهل اللسان فيكون مقابلا للباطن الذي ابتدعه القرامطة ، ولا شأن لهذا المعنى في هذا المبحث ، وقد يطلق الظاهر بمعنى المستفيض المشهور وهو مراد من يقول من أهل السنة (بإجراء أخبار الصفات على ظاهرها) حيث يريد إجراء اللفظ المستفيض عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفات الله على اللسان كما ورد مع التفويض أو التأويل على ما سبق ، وهذا المعنى هو المراد في قول الفقهاء (هذا ظاهر الرواية) يعنون أنه المروي عن صاحب المذهب بطريق الاستفاضة والشهرة. وفيما علقت على الاختلاف في اللفظ (ص ٤٥) : «أما ما يروى عن بعض السلف من إجراء أحاديث الصفات وإمرارها على ظاهرها فليس بمعنى الظاهر المصطلح في أصول الفقه الذي يبقى حين ترجح الاحتمال الآخر بالدليل كالنجم عند شروق الشمس ولا بمعنى ما يظهر للعامة من اللفظ بل بالمعنى المقابل للغريب الذي ينفرد بلفظه راو في إحدى الطبقات فيكون بمعنى تجويز إمرار اللفظ على اللسان وإجرائه عليه إذا كان اللفظ مرويا بطريق الظهور والشهرة في جميع الطبقات كما وقع إطلاق الظاهر بهذا المعنى في كلام الإمام مالك رضي الله عنه وغيره وقد يغالط بعضهم في ذلك فيضل ويضل فلزم التنبيه على ذلك اه».

قال الله تعالى في المتشابه : (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران : ٧] فكيف يكون تأويله تفسيره بالظاهر والمتشابه لا ظاهر له وقوله ما قال منهم أحد إن التأويل صرف عن الرجحان : كذب بل خلق قالوا ذلك وينطلق التأويل أيضا على تدبر القرآن وتفهم معناه.

فصل

فيما يلزم مدعى التأويل.

ثم قال : «دليل صارف واحتمال اللفظ وتعيين المقصود».

هذا كثرة كلام في أمر سهل مفروغ منه.

فصل

«في طريقة ابن سينا (١) وذويه من الملاحدة في التأويل».

ذكر ابن سينا والملاحدة هنا للتنفير وإلا لما جاء بابن سينا والملاحدة معنا.

قال : «ويقول تأويلي كتأويل الفوقية والصفات والعلو تأويله أشد من تأويل القيامة وحدوث العالم».

ليس مقصود هذا الناظم إلا أن يفظع مقالات خصومه من الفقهاء وأهل العلم ويجعلها في قلوب العامة أقبح من مقالات الفلاسفة لتشتد نفرتهم عنها واندفع في مخارق وسفه ودعاوى لا حقيقة لها.

__________________

تبديع الفلاسفة وإكفارهم

(١) ذكر الغزالي مخالفته لما عليه أهل الحق في نحو عشرين مسألة أكفره بثلاث منها وبدعه في الباقي في كتاب التهافت فقدم العالم وإنكار الحشر الجسماني ومسألة العلم بالجزئيات هي المكفرات عنده لكن الناظم وشيخه قائلان بالقدم النوعي ولا يقولان بإعادة الأجزاء المعدمة بل ولا يجمع الأجزاء المفرقة ـ راجع تفسير سورة الإخلاص لشيخه ـ وقولهما في العلم بالمتجددات معروف ـ راجع ما سننقله من مفردات ابن تيمية من ذخائر القصر ـ فهما من أوقع الناس في شبكة التفلسف عن جهل ، على أن قول ابن رشد في تهافت التهافت ومناهج الأدلة وقول الرازي في المطالب العالية وقول الدواني في شرح العضدية مما يثير اهتمام الباحث بتلك المسائل. وقد صرح ابن سيناء في بعض كتبه بأن العقل لا يدرك غير الحشر الروحاني وأما البعث الجسماني فطريق معرفته وحي الرسل وليس في هذا إنكار للبعث الجسماني.

فصل

قال : «هذا وثمّ بلية مستورة ورث المحرف من اليهود وأنى إلى حزب الهدى وأعطاهم شبه اليهود قال استوى استولى وذا من جهله عشرون (١) وجها تبطله أفردت بتصنف تصنيف حبر عالم رباني وشبه النون التي زادتها اليهود في حطة بلام تعطيل الجهمية».

وهذا من الخرافات.

فصل

قال : «ومن العجائب قولهم فرعون مذهبه العلو وفرعون قال إن موسى كاذب إذا ادعى فوقية الرّحمن».

أين ادعى موسى فوقية الرّحمن؟.

فصل

قال : «تركيب استوى مع حرف الاستعلاء نص في العلو بوضع كل لسان».

نص في العلو أما في الذات فلا ، فقولك : استوى قيس على العراق. لا يستلزم أن يكون إذ ذاك في العراق بل ملكه فيها وعليها.

فصل

كله دعاوى وفقاقيع فارغة.

فصل

فيه إنكار المجردات (٢).

__________________

(١) وقد سبق إبطال جميع تلك الوجوه ، والمصنف ذكر فيما سبق وجه حسن استعمال استوى مجازا عن استولى بحيث لا يدع لقائل مقالا ، على أن الاستعارة التمثيلية في هذا المقام أقعد وأوقع فيكون المجاز على هذا التقدير في المركب دون أن يسري في مفرداته كما هو مدوّن في محله وقد أشرت إلى اختيار ذلك فيما علقته على الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة (ص ٤١).

تجرد الروح

(٢) القول بتجرد الروح مما ذهب إليه إمام الهدى أبو منصور الماتريدي والحليمي والراغب والغزالي والبيضاوي وغيرهم من كبار علماء السنة وبه يزول كثير من الإشكالات ، وإن خفيت أدلة ذلك على جمهور المتكلمين فضلا عن مكسري الحشوية.

فصل

سوى فيه بينهم وبين المنافين والقرامطة وجعل المجسمة مقابل الجميع ، وأن ما ثم إلا التجسيم أو التعطيل وقد تقدم مثله ، وإنما زاد التكرير والتفظيع ليزرع الريبة في القلوب.

فصل

قال : «الاستواء ونحوه والمشيئة ونحوها كلاهما من صفات الأجسام ـ وطلب الفرق بينهما ـ والله لو نشرت شيوخك كلها لم يقدروا أبدا على فرقان».

انظر هذا الجلف الجاري على ما لا يعلم ، وكل عاقل يعلم أن الاستواء بمعنى القعود أقرب إلى صفات الأجسام من المشيئة والقدرة.

قال : «قال زعيمهم في الفرق هذه الصفات بالعقل والقرآن فيقال إن نفي العقل التجسيم فانفوها وانسلخوا من القرآن وإن أثبته فلم الفرار؟ وإن نفاه في وصف وأثبته في وصف فما الفرق؟.

انظر هل بعد هذا الكلام شيء في التجسيم (١)؟.

فصل

كله سفاهة.

فصل

حكى مذاهب خصومه بأقبح ما يكون ثم قال : «جربت هذا كله ووقعت في

__________________

نص من ابن تيمية في الحد والجسم

(١) وشيخه أصرح منه وأجهر صوتا في ذلك حيث يقول فيما ردّ به على أساس التقديس : «ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات ـ يريد ما يشمل المجيء ونحوه ـ ولا سلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ، ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة اه». وهذا صريح جدا لعلك لا تحوجني إلى شرح ذلك ، راجع الكواكب الدراري لابن زكنون الحنبلي المحفوظ بظاهرية دمشق ففي المجلد رقم ٢٤ و ٢٥ و ٢٦ منه رده على أساس التقديس وفيه فوق ما تقدم التصريح بأنه يمكنه التزام قدم بعض الأجسام يريد الباري سبحانه فهل يتصور أن ينطق مبتدع مارق بأصرح من هذا في وسط المسلمين والناظم متقلد مذهبه بدون تفكير والله سبحانه ينتقم منهما بما أثارا من الفتن بين العوام.

تلك الشباك وكنت ذا طيران حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني حبر أتى من أرض حران فيا أهلا بمن قد جاء من حران» (١).

__________________

(١) وكم أضلّ من خلطائه ولهم معه موقف يوم القيامة لا يغبط عليه وهو الذي جاهر بقيام الحوادث بذاته تعالى ـ بعزو ذلك إلى أئمة أبرياء من مثل هذا الإلحاد ـ وبالقدم النوعي ، وبالجهة والحركة والثقل وتجويز الجسمية والاستقرار في جانب الله سبحانه مع التطاول على كثير من الأئمة والشذوذ عما عليه جمهور أهل العلم في كثير من المسائل الفرعية ، والرد على كبير العلماء وصغيرهم حتى الصحابة وتلبيس ذلك بمذهب السلف خيانة وكذبا ، ومما يجب التنبه إليه أن من وجوه تحيل الناظم وشيخه ومن على شاكلتهما من المتشبعين بما لم يعطوا تتبع ما دون ضد الأئمة المتبوعين من مؤاخذات في مسائل واتخاذ تلك المؤاخذات وسيلة للتهجم عليهم كلما شاءوا لأجل أن يظهروا بمظهر أنهم من السعة في العلم بحيث تضيق علوم الأئمة عن علومهم ويجب هجر آراء هؤلاء إلى أهوائهم ، هذا شأنهم في أئمة علوم الشرع وهكذا صنيعهم مع علماء باقي العلوم بدون تفرغ العلم ، ولا شك أن كل عالم مهما علت منزلته في علمه لا بد وأن تقع منه هفوات تكون مدوّنة في كتاب لأحد نقاد هذا العلم المتفرغين للتمحيص فيه خاصة إذ لا عصمة لغير الأنبياء عليهم‌السلام ، فمن تعوّد أن يجمع تلك المؤاخذات من مظانها كالباب الخاص في مصنف أبي شيبة في مخالفات أبي حنيفة لأحاديث صحيحة صريحة في نظر صاحب المصنف ، وكتاب إبراهيم ابن علية في مالك وكتاب محمد بن عبد الحكم في حق الشافعي ، وكتاب الكياهراسي في مفردات أحمد وكتاب الأهوازي في الأشعري ونحوها ، وأخذ يتحامل على الأئمة بتوجيه تلك المؤاخذات إليهم متظاهرا بأنها من بنات أفكاره داسا في غضون كلامه ما شاء من الأباطيل يظن به من لا بصر له بالحقائق من العامة أن له من العلم ما يجعله فوق الأئمة فهما وتحقيقا وإحاطة مع أنه لابس ثوبي زور ، وقد ردّ على غالب تلك المؤاخذات في كتب خاصة بحيث لا تقوم لها قائمة لكن الذي يجهل ذلك ينخدع بخزعبلاته ويقع في المهالك إذا تقاعس علماء أهل الحق عن البحث والتنقيب والرد على الشذاذ بمثل أسلحتهم كما يجب ، والله سبحانه يتولى هدانا بمنّه وكرمه وأيقظنا جميعا من رقدتنا وألهمنا طريق حراسة مذاهب أهل الحق في الأصول والفروع وأشعرنا عظم المسئولية في الآخرة ووقانا شر التساهل في ذلك إنه سميع مجيب.

قال الحافظ ابن طولون في «ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر» عند ذكره سبب انتقال الشيخ عبد النافع بن عراق من المذهب الحنبلي إلى المذهب الشافعي بعد أن جعله والده حنبليا : «قال الحافظ صلاح الدين العلائي (وقل من أفضله عليه من متأخري الشافعية في الجمع بين الفقه والحديث كما يجب) ذكر المسائل التي خالف فيها ابن تيمية الناس في الأصول والفروع. فمنها ما خالف فيها الإجماع ، ومنها ما خالف الراجح في المذاهب : فمن ذلك يمين الطلاق قال بأنه لا يقع عند وقوع المحلوف عليه بل عليه فيها كفارة يمين ، ولم يقل قبله بالكفارة فيها واحد من فقهاء المسلمين البتة ودام إفتاؤه بذلك زمانا طويلا وعظم الخطب ووقع في تقليده جم غفير من العوام وعمّ البلاء ، وأن طلاق الحائض لا يقع وكذلك الطلاق في طهر جامع فيه زوجته ، وأن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة ، وكان قبل ذلك قد نقل إجماع المسلمين في هذه المسألة على خلاف ذلك ، وإن من خالفه فقد كفر ، ثم إنه أفتى بخلافه وأوقع خلقا

__________________

ـ كثيرا من الناس فيه ، وأن الصلاة إذا تركت عمدا لا يشرع قضاؤها ، وأن الحائض تطوف في البيت من غير كفارة وهو مباح لها ، وإن المكوس حلال لمن أقطعها ، وإذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم يكن باسم الزكاة ولا على رسمها ، وأن المائعات لا تنجس بموت الفأرة ونحوها فيها ، وأن الجنب يصلي تطوعه بالليل بالتيمم ولا يؤخره إلى أن يغتسل عند الفجر وإن كان بالبلد. وقد رأيت من يفعل ذلك ممن قلده فمنعته منه ، وسمعته حين سئل عن رجل قدّم فراشا لأمير فيجنب بالليل في السفر ويخاف إن اغتسل عند الفجر أن يتهمه أستاذه فأفتاه بصلاة الصبح بالتيمم وهو قادر على الغسل (ومسألة أبي يوسف غير هذه) ، وسئل عن شرط الواقف قال غير معتبر بالكلية بل الوقف على الشافعية يصرف إلى الحنفية وعلى الفقهاء إلى الصوفية وبالعكس ، وكان يفعل هكذا في مدرسته فيعطي منها الجند والعوام ولا يحضر درسا على اصطلاح الفقهاء وشرط الواقف بل يحضر فيها ميعادا يوم الثلاثاء ويحضره العوام ويستغني بذلك عن الدرس ، وسئل عن جواز بيع أمهات الأولاد فرجحه وأفتى به.

ومن المسائل المنفرد بها في الأصول مسألة الحسن والقبح التي يقول بها المعتزلة (بل أربى عليهم بتحكيم العقل في الخلود راجع المعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي في المسألة وكلام ابن تيمية فيها حتى تعلم مبلغ مجازفته وتهوره) فقال بها ونصرها وصنف فيها وجعلها دين الله بل ألزم كل ما يبنى عليه كالموازنة في الأعمال (فيا ليته حينما حكم العقل حكم العقل السليم ولم يحكم عقل نفسه الظاهر اختلاله جدا بما فاه به في ذات الله وصفاته ، تعالى الله عما يقول الجاهلون).

وأما مقالاته في أصول الدين فمنها أن الله سبحانه محل للحوادث ، تعالى الله عما يقول علوا كبيرا ، وأنه مركب مفتقر إلى (اليد والعين والوجه والساق ونحوها) افتقار الكل إلى الجزء ، وإن القرآن محدث في ذاته تعالى ، وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوق دائما فجعله موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار ـ سبحانه ما أحلمه ـ ومنها قوله بالجسمية والجهة والانتقال ـ وهو منزّه عن ذلك ـ وصرح في بعض تصانيفه بأن الله بقدر العرش لا أكبر ولا أصغر تعالى الله عن ذلك ، وصنّف جزءا في أن علم الله لا يتعلق بما لا يتناهى كنعيم أهل الجنّة وأنه لا يحيط بغير المتناهي وهي التي زلق فيها الإمام ـ يعني ابن الجويني في البرهان ـ ومنها أن الأنبياء غير معصومين وأن نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ليس له جاه ولا يتوسل به أحد إلا وأن يكون مخطئا ، وصنف في ذلك عدة أوراق ، وأن إنشاء السفر لزيارة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصية لا تقصر فيها الصلاة وبالغ في ذلك ، ولم يقل به أحد من المسلمين قبله ، وإن عذاب أهل النار ينقطع ولا يتأبد (وجزء التقي السبكي في الرد عليه مطبوع) ومن أفراده أيضا أن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما بل هي باقية على ما أنزلت وإنما وقع التحريف في تأويلهما وله فيه مصنف (هذا يخالف كتاب الله والتاريخ الصحيح ، وما في البخاري عن ابن عباس من الكلام الطويل في ذلك بين صدره وعجزه كلام مدرج ، ما أسنده أحد وفيه الإيهام فلا يصح أن يتمسك به أحد على خلاف كتاب الله وخلاف ما صحّ عن ابن عباس نفسه في البخاري نفسه) آخر ما رأيت وأستغفر الله من كتابة مثل هذا فضلا عن اعتقاده انتهى ما نقله ابن طولون عن الصلاح العلائي». وصاحب هذه الطامات هو الذي يرحب به النظام ويتخذه قدوة فتبا لهذا التابع وهذا

فصل

قال : «ومن العجائب قولهم حشوية (١) سمى به ابن عبيد» فيه سفه.

فصل

قال : «كم ذا مجسمة ، وإذا سببتم بالمحال فسبنا بأدلة وحجاج ذي برهان فحقيقة التجسيم إن يك عندكم وصف الإله بصفاته العليا فتحملوا عنا الشهادة واشهدوا في كل مجتمع وكل مكان أنا مجسمة بفضل الله وليشهد بذلك معكم الثقلان».

نقول له : أنت أبديت لنا اعتقادك ووصفت بأمور يمتحن فيها كل عاقل منصف إذا عرضت على خال من الأغراض كلها من امرأة أو صبي أو أعجمي أو عربي عامي وعموم الناس هل يفهمون من الاستواء والقعود والنزول والمجيء والإتيان والوجه (٢)

__________________

ـ المتبوع. ومما ذكره ابن رجب في مفرداته ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه ، وجواز المسح على كل ما يحتاج في نزعه من الرجل إلى معالجة باليد أو بالرجل الأخرى ، وعدم توقيت المسح على الخفين مع الحاجة ، وجواز التيمم خشية فوت الوقت لغير المعذور وفوت الجمعة والعيدين وأنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره ولا لسن الإياس ، وأن قصر الصلاة يجوز في قصير السفر وطويله ، وأن البكر لا تستبرئ ولو كانت كبيرة وأنه لا يشترط الوضوء لسجود التلاوة ، وأنه يجوز المسابقة بلا محلل ، واستبراء المختلعة بحيضة وكذا الموطوءة بشبهة والمطلقة آخر ثلاث تطليقات وغيرها اه فكم له من شواذ نحو ما تقدم. وقد ذكر ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثية كثيرا من شواذ ابن تيمية وقال عنه : «عبد خذله الله وأخزاه وأصمّه وأعماه» وقد حاول الشيخ نعمان الألوسي بإشارة صديق خان الذي كان له به صلة مادية متينة الرد عليه في (جلاء العينين) متوخيا تبرئة ساحة ابن تيمية من غالب تلك الشواذ لكن سقط في يده حيث فضحت هذه المرحلة من الدعاية لابن تيمية بطبع كتب له فيما بعد تصرح بما نفى هو عنه بل ربما تطبع له كتب أخرى مثل (التأسيس في رد أساس التقديس) بالنظر إلى أن بعض صنائع الحشوية نقله حديثا فيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المسلمين وفيما ذكرناه كفاية في لفت النظر إلى نماذج من مفرداته والشيخ نعمان المذكور ناقض نفسه حيث يناقض كلامه في الكتاب المذكور ما سطره هو في (غالية المواعظ) لكن قاتل الله المادة ما دخلت في شيء إلا أفسدته وهو ليس بأمين على طبع تفسير والده ولو قابله أحدهم بالنسخة المحفوظة اليوم بمكتبة راغب باشا بإصطنبول ـ وهي النسخة التي كان المؤلف أهداها إلى السلطان عبد المجيد خان ـ لوجد ما يطمئن إليه. نسأل الله السلامة.

(١) فهل تلقيب عمرو بن عبيد لابن عمر رضي الله عنه بالحشوي إفكا وزورا على تقدير ثبوت ذلك عنه يمنع من تلقيب الحسن البصري لطوائف المجسمة حشوية حقا وصدقا ، فاضحك ثم اضحك على عقل من يأبى هذا التلقيب وهو متلبس بهذه الوصمة الشنيعة بشهادة نفسه.

(٢) ليس بخاف على ملم باللغة العربية وبمناحي الكلام في اللسان العربي المبين أن لكل كلمة مع

واليد والساق والجنب والعين والانتقال في الدرجات وغير ذلك مما قد ذكرته معنى الجسم ويرسم ذلك في نفسه أولا فإن قال إنه لا يفهم منها إلا معنى الجسم فيكفيك إثما عند الله إضلال مثل هؤلاء وحملهم على اعتقاد التجسيم الذي تزعم أنت بلسانك أنك لا تقول به فالمحقق منك إضلال أكثر العالم ، وأما أنت في نفسك فإن كذبت في إنكارك التجسيم فقد جمعت إلى فساد الاعتقاد الكذب ، وإن صدقت في زعمك فقد لبست عليك نفسك وخيلت لك فرقا أو كان عندك فرق الله أعلم به ، هذا في الباطن الذي أمره إلى الله في الآخرة وأما في الدنيا فإن في قبول قولك عندنا نظرا فإن قبل أو لم يقبل ـ وإن كنا لم نقل بالتكفير ولا بالقتل ـ فلا أقل من القدر الذي ينكف به ضررك عن المسلمين. وهذه الأشياء التي ذكرناها هي عند أهل اللغة أجزاء لا أوصاف ، فهي صريحة في التركيب والتركيب للأجسام ، فذكرك لفظ الأوصاف تلبس وكل أهل اللغة لا يفهمون من الوجه والعين (١) والجنب والقدم إلا الأجزاء ولا

__________________

ـ صاحبتها شأنا ليس لها مع كلمة أخرى ، فمن جمع ما فرقه الله سبحانه في كتابه من الصفات العليا أو فرق ما جمعه فقد خان الله حيث جعل صفات الله سبحانه عرضة لتقولات المتقولين من أصحاب الأهواء وكذلك ما ورد في السنة من الصفات والأفعال. وكم بين المجسمة من ألّف فيما يسمونه التوحيد أو السنة أو الصفات أبوابا في اليد والعين والساعد والأصبع واليمين والذراع والكف والجنب والقدم والحقو والصدر ونحوها. جمعا لما تفرق في الروايات المختلفة لمختلف الرواة لهوى في نفوسهم ، وليس تفريق المجموع جمع الفرق في هذا الباب من شأن من يخافه سبحانه ، وأنت علمت معاني تلك الصفات على مذهب أهل الحق.

قول السلف في العين واليد

(١) ومن ذكر من السلف أن العين واليد صفتان تبرأ بهذا اللفظ عن القول بالجارحة بل يكون قائلا بأن المراد بالعين معنى قائم بالله وكذلك اليد لكن لا أعين ذلك المعنى المراد بأن أقول إنه الرؤية أو الحفظ ، والقدرة أو النعمة أو العناية الخاصة لكون تعيين المراد من بين المحتملات الموافقة للتنزيه تحكما على مراد الله وتسميته لهما صفتين تدل على أنه جازم بأنهما ليستا من قبيل أجزاء الذات تعالى الله عن ذلك ، ومن قال وله يد بها يبطش وعين بها يرى جعلهما من قبيل الجوارح وخالف السلف الصالح. وقد قال الترمذي عند الكلام على حديث «يمين الرّحمن ملأى سخاء ...» وهذا حديث قد روته الأئمة نؤمن به كما جاء من غير أن يفسر أو يتوهم ، هكذا قال غير واحد من الأئمة منهم الثوري ومالك بن أنس وابن عيينة وابن المبارك أنه تروى هذه الأشياء ويؤمن بها فلا يقال كيف اه».

خداع الناظم وشيخه

وأين هذا من عمل الناظم وشيخه؟ نعم قد يقع في كلامهما ذكر الوجه والعين واليد وغيرها بأنها صفات لكن السياق والسباق في كلامهما يناديان أنهما أرادا بها أجزاء الذات لا المعاني

يفهم من الاستواء بمعنى القعود إلا أنه هيئة وضع المتمكن في المكان ولا من المجيء والإتيان والنزول إلا الحركة الخاصة بالجسم ، وأما المشيئة والعلم والقدر ونحوها فهي صفات ذات وهي فينا ذات أمرين أحدهما عرض قائم بالجسم ، والله تعالى منزّه عنه ، والثاني المعاني المتعلقة بالمراد والمعلوم والمقدور وهي الموصوف بها الرب سبحانه وتعالى وليست مختصة بالأجسام فظهر الفرق.

فصل

قال : «يا وارد القلوط» (١).

فأتى ببضعة عشر بيتا من هذا القبيل فهل سمع أحد بأن هذا كلام أهل العلم ، وما دعاني إلى الوقوف على هذا الوسخ؟ ينبغي أن يأتي له (مجلى) مثله يتكلم معه زيبق المشاعلي أو غرير المرقد أو أهل جعفر أو عماد فكيف بابن حجاج؟.

فصل

فيه أكثر من تسعين بيتا ... وقال في أواخره :

من قال بالتعطيل فهو مكذب

بجميع رسل الله والفرقان

إن المعطل لا إله له

سوى المنحوت في الأذهان

وكذا إله المشركين نحتته الأي

دي ما في نحتهم سيان

لكن إله المرسلين هو الذي

فوق السماء مكون الأكوان

__________________

ـ القائمة بالله سبحانه كما يقول السلف ، واصطلحا في الصفة على معنى ، يجامع الجزء على خلاف المعروف بين أهل العلم وإلا لما بقي وجه لتشددهما ضد أهل الحق.

وشيخ الناظم يقول في الأجوبة المصرية : «إن الله يقبض السماوات والأرض باليدين اللتين هما اليدان» فما ذا يجدي بعد هذا التصريح أن يسميها صفات؟ والله سبحانه هو الهادي.

معنى القبضة عند الخلف

وأهل العلم من الخلف يحملون القبض على أنه مجاز عن إخراج السماوات من الإظلال والأرض من الإقلال وإيقافهما عن أن تكونا صالحتين لتناسل المتناسلين كما يشير إلى ذلك البيضاوي وهو القابض الباسط أي الموقف عن المسير متى شاء والمجرى للأمور كما يشاء.

راجع العارضة في شرح الأسماء الحسنى. والسلف يفوضون مع التنزيه ، وأما حمل القبض على القبض الحسي فقول بالتجسيم والجارحة ، تعالى الله عن ذلك.

(١) لفظة عامية لا ينطق بها من العوام إلا من هو بالغ الوقاحة فضلا عن أهل العلم فنأبى شرح هذه الكلمة القذرة المنتنة.

المعطل في الأصل من ينفي الصانع

وهذا الرجل يسمي خصومه معطلة لأنهم نفوا الصانع الذي يقول هو به ويصفه بتلك الصفات بزعمه ويجعلهم يعبدون إلها آخر ويكفرهم كالمشركين العابدين للأصنام ، فيا خيبة المسلمين إن كان يكفر بعضهم بعضا ، ولم لا يقول هذا الجاهل إن الكل يقرون بالله ووحدانيته ويغلط بعضهم في وصفه ولا يخرجهم ذلك الغلط عن الإسلام؟ وإن كان ولا بد من الإخراج فمن أولى به؟ ومن أولى بعبادة ما نحته ذهنه؟ من ركب أجزاء مقصودة معقولة أو من قال أعبد إلها واحدا أنا عاجز عن معرفته وعن كنه ذاته فهو كما وصف به نفسه ، وفوق ما يصف به عباده ، وعقلي يقصر عن سبحات وجهه وعلمي يضل في علمه ويتضاءل دون عظمته وملكوت سلطانه وقدرته وقهره لا شريك له سبحانه وتعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] كل ما تصوره الذهن فالله بخلافه لو اجتمعت عقول العالمين كلها لم تبلغ معرفة حقيقة ذاته ولا كنه صفاته ، وإنما علموا منها ما دلهم على التوحيد وأمر السيد العبيد وأنعم عليهم بالرسول أرشدهم إلى ما فيه صلاحهم وأنزل عليهم كتابا كلفهم فيه بتكاليف إن عملوا بها وصلوا إلى دار السلام. فلا ينبغي لهم الاشتغال بغيرها ـ فاشتغالهم بغيرها فضول ـ وإن فكروا فكروا في آلائه لا في ذاته ، فإن هناك تضل العقول ، وانظر إلى هذه الصفات التي يثبتها هذا المبتدع لم تجيء قط في الغالب مقصودة وإنما في ضمن كلام يقصد منه أمر آخر وجاءت لتقرير ذلك الأمر ، وقد فهمها الصحابة ولذلك لم يسألوا عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها كانت معقولة عندهم بوضع اللسان وقرائن الأحوال وسياق الكلام وسبب النزول ومضت الأعصار الثلاثة التي هي خيار القرون على ذلك حتى حدثت البدع والأهواء فيجيء مثل هذا المتخلف يجمع كلمات وقعت في أثناء آيات أو أخبار فهم الموفقون معناها بانضمامها مع الكلام المقصود فجعلها هذا المتخلف في أمثاله مقصودة وبالغ فيها فأورث الريب في قلوب المهتدين ، وانظر إلى أكثرها لا تجده مقصودا بالكلام بل المقصود غيره إما بسياق قبله أو بسياق بعده ، أو بأن يكون المحدث عنه معنى آخر والمحدث به ويكون ذلك مذكورا على جهة الوصف المقوي لمعنى ما سيق الكلام لأجله ، وما مثل المشتغلين بذلك وبالكلام إلا مثل سرية أتاها كتاب السلطان يأمرهم بما يعتمدونه في الغزاة التي ندبهم لها ويوصيهم بأمور مهمة لما بين أيديهم وينهاهم عن أمور وينبههم على مكان لعدوهم وعدوه حتى يحترزوا عن غوائلها فأخذوا يتأملون في ذلك الكتاب ويفكرون فيمن كتبه وفي حروفه ومتى كتب وأين كان السلطان حين كتبه وعلم عليه ، وهل كان

في القلعة أو في غبرها وربما كان فيهم من لم ير السلطان قط فصار يسأل عن صفته وشغلوا الزمان بذلك وبسؤال حامل الكتاب عنه وبالفكرة فيه واشتغلوا به عما هم بصدده من الجهاد الذي أمرهم به وعن تلك الأمور التي وصاهم بها في الكتاب وأمرهم بها ونهاهم عنها وما كفاهم ذلك حتى أداهم اختلافهم في صفة السلطان وفي أين كان لما كتب ومن كتب الكتاب عنه إلى أن قال كل فريق منهم عن الآخر الذي وصفه بخلاف ما وصفه به رفيقه إنه أنكر السلطان وقال إنه لا سلطان له فهل يكون لهؤلاء عقل ، اللهم إنا نسألك أن لا تضل عقولنا ولا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وتحفظ علينا ديننا يا مقلّب القلوب يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك.

فصل

أكثر من مائة بيت كلها إغراء بخصومه والله ينتقم لهم منه ثم إنه يناقض قوله فينكر على خصومه تكفيره فلم لا ينكر على نفسه تكفيرهم بعين ما كفروه به.

فصل

مختصر في معناه.

فصل

قريب منه.

فصل

قال :

اسمع سرا عجيبا كا

ن مكتوما منذ زمان(١)

جيم وجيم ثم جيم معها

مقرونة مع أحرف بوزان

فيها لدى الأقوام طلسم متى

تحلله تحلل ذروة العرفان

فإذا رأيت الثور فيه تقارن ال

جيمات بالتثليث شر قران

__________________

(١) هذا من الدليل على أنه من ورثة علوم الصابئة عبدة الأجرام العلوية كاد أن يبوح بما عنده من عزائم الكواكب كما فعل عبد السلام الجيلي ، راجع ترجمته من طبقات ابن رجب وذيل الروضتين لأبي شامة الحافظ.

دلت على أن النحوس جميعها سه

م الذي قد فاز بالخذلان

جبر وإرجاء وجيم تجهم

فتأمل المجموع في الميزان

فاحكم لطالعها لمن حصلت له

بخلاصه من ربقة الإيمان

وأخذ يذكر مفاسد المذاهب الثلاثة «وقياد الجبر (١) إلى الكفر والبهتان والإرجاء كذلك بالجد في العصيان وشتم الرسل ومن أتوا من عنده والسجود للصنم ، فإذا أضفت إلى الجيمين جيم تجهم أين الصفات والجهم أصلها جميعا والوارثون له أصحابها لا شيعة الإيمان لكن نجا أهل الحديث المحض أتباع الرسول وتابعوا القرآن».

فصل

قال : «وسل المعطل ما ذا يقول لربه».

وساق ما يقولونه كله بقبح وأنهم يخاطبون به الله يوم القيامة ، وعن طائفته ما يولونه ومخاطبتهم به وهاتان طائفتان من المسلمين يعرفون عظمة الله تعالى ، وكل أحد قد بذل جهده وطاقته فيما اعتقده ويخاف ويفرق ، ويوم القيامة يكون أشد خوفا يوم لا يتكلم إلا الرسل ويود كل من دونهم أن ينجو كفافا ، فتصوير مخاطبة الله تعالى بذلك في ذلك الموقف العظيم إنما يصدر عن قلب فارغ.

فصل

في تحميل أهل الإثبات للمعطلين شهادة تؤدى عند رب العالمين.

قال : «يا أيها الباغي على أتباعه قد حملوك شهادة فاشهد بها إن كنت مقبولا لدى الرّحمن فاشهد عليهم إن سئلت بأنهم قالوا إله العرش والأكوان فوق السماوات

__________________

(١) والجبر الذي يريده الناظم هو قول الأشعري إن العبد كاسب والرب سبحانه هو الخالق وحده ، وأين الجبر في ذلك؟ نعم جهم بن صفوان كان يقول بالجبر ، لكن ليس له من يتابعه بعده ، وأما الإرجاء الذي يريده فهو القول بأن الإيمان هو الاعتقاد الجازم كما نص عليه الحديث الصحيح «الإيمان أن تؤمن بالله ...» ومن جعل الأعمال من أركان الإيمان حقيقة فقد تابع الخوارج من حيث يعلم أو لا يعلم ، وأما التجهم الذي يذكره فمراده به نفي حلول الحوادث في الله سبحانه وتنزيهه تعالى عن قيام الحوادث به سبحانه كما هو مذهب أهل الحق فظهر أنه ينبز بتلك الألقاب السيئة جمهور أهل الحق افتراء منه عليهم وإلا فلا وجود للجبرية حقيقة ولا للإرجاء بالمعنى البدعي ولا للجهمية في عصر الناظم والله سبحانه ينتقم منه.

العلى حقا على العرش استوى والأمر ينزل منه وإليه يصعد ما يشاء وإليه صعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعيسى ابن مريم والأملاك تصعد دائما من هنا إليه وروح العبد بعد الموت وأنه متكلم بالقرآن سمع الأمين كلامه منه هو قول رب العالمين حقيقة لفظا (١) ومعنى وأنهم وصفوا الإله بكل ما جاء في القرآن وأن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص (٢) يفيد علم اليقين».

فمن ينازع في ذلك؟ وإن أراد الآحاد أو الذي جوزت اللغة احتمال لفظه فحكمه عليه بإفادة علم اليقين جهل منه.

قال : «وإنهم قابلوا التعطيل والتمثيل بالنكران أن المعطل والمثل ما هما متيقنين عبادة الرّحمن ذا عابد المعدوم لا سبحانه أبدا وهذا عابد الأوثان وأنهم يتأولون حقيقة التأويل وأن تأويلاتهم صرف عن المرجوح (٣) للرجحان وأنهم حملوا النصوص على

__________________

(١) قد سبق إبطال القول بالفوقية الحسية والنزول الحسي والجلوس على العرش ونحوها مما هو معتقد المجسمة إبطالا لا مزيد عليه ، وقوله هنا في الكلام إعادة لزعمه الحرف والصوت في كلام الله وقد سبق إبطال ذلك أيضا ومن الغريب أن يؤلف مثل الموفق بن قدامة (الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم) وكفى ما سبق في إبطاله. وابن بطة صاحب الإبانة فضح نفسه بأن يزيد في رواية حديث موسى عليه‌السلام «من ذا العبراني الذي يكلمني من الشجرة؟» ليجعل كلام الله من قبيل كلام الخلق فجمع بين الاختلاق وسوء المعتقد وابن بطة هذا من أئمة الناظم ولست في صدد استقصاء أهل الكذب والزيغ من أئمته وبين هذا المتأخر زمنا وعلما كلمات جوفاء في تزويق مزاعم الحشوية في تلك المسائل ، ومن ظنّ به أنه أتى بشيء جديد غير الجمع بين الحشوية والتصوف السالمي الهاذي بالتجلي في الصور فقد ولى فهمه وأدبر علمه وكم من مصاب في عقله ودينه يتكلم في هذه الأبحاث بدون علم ولا فهم ولا تقى ، نسأل الله المعافاة.

(٢) قول الرسول القطعي الثبوت والقطعي الدلالة نص يفيد علم اليقين من غير خلاف ، وأما ما هو ظني الدلالة منه فلا ، كما تقرر في الأصول ودعوى إفادة خبر الآحاد العلم من هواجس الظاهرية إلا إذا كان متحفا بقرائن ، وقد بيّنّا الحق في ذلك في تعليقاتنا المهمة على شروط الأئمة فليراجع هناك. والحشوية يحشرون في كتبهم في المعتقد المنقطعات والوحدان وروايات المجاهيل والضعفاء والوضّاعين ويقولون عنها إنها قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع إنها مما لا يحتج به في باب الاعتقاد أصلا بل لا يتمسك بها في باب الأعمال أيضا ، وتوثيق مثل ابن حبان لرجل لا يخرجه من الجهالة عند من يعرف مصطلح ابن حبان في التوثيق. وإنما الحجة في باب الاعتقاد هي الكتاب المنزل والصحاح المشاهير من الحديث.

(٣) صرف اللفظ عن الاحتمال المرجوح إلى الراجح مما لا معنى له لأن اللفظ منصرف بنفسه إلى الراجح من الاحتمالين ، واللفظ ظاهر بالنسبة إلى الراجح مطلقا سواء كان بالوضع أو بالدليل كما ذكره أبو الخطاب في التمهيد في أصول الحنابلة فما يرى مرجوحا بالنظر إلى الوضع فقط

الحقيقة لا على المجاز إلا إذا اضطروا للمجاز بحس أو برهان وأنهم لا يكفرونكم بما قلتم من الكفران إذ أنتم أهل الجهالة عندهم لستم أولي كفر ولا إيمان» (١).

فالبالغ المكلف الذي بلغته الدعوة إما كافر وإما مؤمن فكيف ينتفيان عنه والجهل ليس عذرا في ذلك.

قال : «لا تفرقون حقيقة الكفران بل لا تفرقون حقيقة الإيمان إلا إذا عاندتم ورددتم قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل قول فلان فهناك أنتم أكفر الثقلين وأشهد عليهم أنهم فاعلون حقيقة والجبر عندهم محال هكذا نفي القضاء».

قد أشهد على نفسه بالفوقية وباللفظ والله يعلم ما تصوره قلبه منهما وبمعنى التأويل وأين هذا من التابعين الذين قيل فيهم ما منهم إلا من يخاف النفاق على نفسه كانوا مع صحة الاعتقاد والاجتهاد في العمل يخافون النفاق ، ونحن اليوم مع البعد ـ وشتان ما بيننا وبينهم ـ بيننا من يتجاسر هذه الجسارة ويدل هذا الإدلال.

فصل

في عهود المثبتين مع الله رب العالمين

قال : «يا ناصر الإسلام اشرح لدينك صدر كل موحد وانصر به حزب الهدى فو حق نعمتك التي وليتني وأريتني البدع المضلة لأجاهد لك عداك ما أبقيتني ولأجعلن لحومهم ودماءهم في يوم نصرك أعظم القربان».

هذا يقتضي أنه يعتقد كفرهم وسفك دمائهم ، وقد حملهم في الفصل الذي قبل هذا شهادة أنه لا يكفرهم فيناقض كلامه وقال هناك إنهم جهال لا كفار ولا مؤمنون فلعله يرى أنهم كالبهائم لكنه صرح هنا بأنهم أعداء الله وغير الكافر ليس عدو الله.

__________________

ـ قد يكون راجحا بالنظر إلى الدليل فيكون اللفظ حينذاك ظاهرا في احتمال قد ترجح بالدليل حيث لا يكون هذا الاحتمال مرجوحا عند قيام الدليل على الرجحان فقولهم بالظهور في جانب الوضع إنما هو بالنظر إلى حالة عدم قيام دليل مرجح للاحتمال المقابل. والحاصل أن الظاهر بالوضع هو ما لا يقارنه دليل يرجح الاحتمال الآخر فلا ظاهر بالوضع عند ترجح الاحتمال الثاني بالدليل ، فإطلاق الظاهر على ما بالوضع عند قيام الدليل المرجح للاحتمال الثاني ما هو إلا تسامح فليعرف ذلك.

(١) وهذا بظاهره قول بالمنزلة بين المنزلتين كما هو معتقد المعتزلة الذين هم من أبغض خلق الله إليه. وإخراج أهل الحق من الإيمان محض هذيان.

فصل

افتراؤهم المثلث على الأشعرية

قال :

إنا تحملنا الشهادة بالذي

قلتم نؤديها لدى الرّحمن

ما عندكم في الأرض (١) قرآن

كلام الله حقا يا أولي العدوان

كلا ولا فوق السماوات العلى رب (٢) مطاع ولا في القبر (٣) عندكم من يرسل فالروح عندكم عرض قائم بجسم الحي ، وكذا صفات الحي قائمة به مشروطة بالحياة ، فإذا انتفت الحياة انتفى مشروطها ورسالة المبعوث مشروطة بها كصفاته بالعلم والإيمان فإذا انتفت تلك الحياة فكل مشروط بها عدم».

قوله ما في الأرض قرآن شهادة زور ونحن نطلق القرآن على ما في المصحف وهو إن كان لا يطلقه عليه لزمه ما ألزمنا وإن كان يقول إنه في المصحف حقيقة فهو قد قال فيما تقدم إن الصوت من العبد مخلوق فالخط بطريق الأولى وعندنا أن القرآن مكتوب في المصاحف ولهذا يحرم على المحدث حمل المصحف ومتلو بالألسنة ومحفوظ في الصدور.

__________________

(١) تلك الثلاثة هي أقانيم اختلاقهم على الأشعري وأصحابه ، لهج بها أبو نصر الوائلي السجزي صاحب الإبانة وابن مت صاحب ذم الكلام ومن تابعهما في البهت على أئمة الدين. ومن قال إن القرآن القائم بالله في الأرض فهو حلولي زائغ وهذا ظاهر جدا.

(٢) نعم هم لا يعتقدون صنما متمكنا بمكان وإنما يؤمنون بإله العالمين الذي ليس كمثله شيء ، وله الأسماء الحسنى ، تعالى الله عما يقول الجاهلون من الجاهلية بعد الإسلام.

(٣) وقال إمام الحرمين فيما ردّ به على السجزي ، السابق ذكره في مقدمة المصنف : ما كنت أظن أن هذا الجاهل يبلغ حمقه وخرقه هذا المبلغ (وهو زعمه أن من مذهب الأشعرية أن النبوة عرض لا يبقى زمانين وإذا مات النبي زالت نبوته (وهذا الذي حكاه لم يقل به قائل ولم ينقله قبله ناقل ولو سئل هذا الأحمق عن النبوة وحقيقتها ومعناها لتبلد في غمه وتردد في غيه ولم يتمسك إلا بدهش الحيرة كما نسب إليها غيره فليست النبوة عرضا من الأعراض باتفاق من المحققين وإطباق من المحصلين ـ ثم ذكر الدليل على أن النبوة ليست عرضا ثم قال ـ فبطل المصير إلى أن النبوة عرض ووجب القضاء بأن النبوة هي حكم الله تعالى برسالة رسول وإخباره عن سفارته وأمره إياه بتبليغ الشرائع وشرع الأحكام وقد حكم الله تعالى بنبوة الأنبياء عليهم‌السلام في حياتهم وبعد مماتهم وكونهم مرسلين ، وعلم ذلك منهم في السابقة والعاقبة فهذا مذهب أهل الحق ودينهم ، فعلى من يصفهم بغير ذلك لعنة الله ولعنة الملائكة والناس أجمعين. انتهى ما ذكره إمام الحرمين وهو نص ما نقله اللبلي عنه.

فصل

في حياة الأنبياء

قال :

ولأجل هذا رام ناصر قو

لكم ترقيعه يا كثرة الخلقان

قال الرسول بقبره حي (١).

__________________

(١) الناظم وشيخه ينفيان التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبار تفرقتهما بين حالتيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حال حياته وحال وفاته وبإخراجهما للحديث الصحيح في التوسل عن دلالته الصريحة بالرأي عن هوى ، وقد أقام قاضي قضاة الشافعية العلامة علاء الدين القونوي الشافعي النكير على ابن تيمية بعنف في هذه المسألة في كتابه (شرح التعرف) وهو من محفوظات التيمورية ، وعدّ ذلك مأخوذا من اليهود مع أنه كان من المثنين عليه قبل هذه الحادثة ، وفي الاطلاع على شرح التعرف هذا تنوير للمسألة. وقد أغنانا عن بسط ذلك هنا ما نقله التقي الحصني منه في كتاب (دفع الشبه) وهو مطبوع. وفي كتاب الروح للناظم كثير مما ينافي ما ذكره هنا ، والناقض شأن من أصيب في عقله أو دينه ، نسأل الله السلامة والمعافاة. وأما كلمة ابن حزم في الفصل فاغترار منه بتقولات الرواة من الحشوية في حق الأشعري كما بينت ذلك فيما علقته على تبيين كذب المفتري لابن عساكر.

فتيا الأئمة في إنكاره شد الرحل لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وقد بلغ بالناظم وشيخه الغلو في هذا الصدد إلى حد تحريم شد الرحل لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعد السفر لأجل ذلك سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة فأصدر الشاميون فتيا في ابن تيمية وكتب عليها البرهان ابن الفركاح الفزاري نحو أربعين سطرا بأشياء إلى أن قال بتكفيره ووافقه على ذلك الشهاب بن جهبل ، وكتب تحت خطه كذلك المالكي ، ثم عرضت الفتيا لقاضي قضاة الشافعية بمصر البدر بن جماعة فكتب على ظاهر الفتوى : الحمد لله ، هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة وما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه ، وقد نقل جماعة من العلماء أن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيلة وسنّة مجمع عليها ، وهذا المفتي المذكور ـ يعني ابن تيمية ـ ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الغريبة ، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك ويشهد أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به. وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.

وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي لكن يحبس الآن جزما مطلقا.

وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي ويبالغ في زجره حسبما تندفع تلك المفسدة وغيرها من المفاسد.

وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي ، راجع دفع الشبه (٤٥ ـ ٤٧) وهؤلاء الأربعة هم قضاة المذاهب الأربعة بمصر أيام تلك الفتنة في سنة ٧٢٦ والنهي عن شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة في الحديث باعتبار أنه لا مضاعفة لثواب المصلي في غيرها ولا علاقة له أصلا

__________________

ـ بمثل زيارة القبور ، وهذا ظاهر جدا فمعنى الحديث النهي عن شد الرحل إلى مساجد غير المساجد الثلاثة التي يضاعف فيها الثواب حيث لا داعي إلى تجشم المشاق والاستثناء المفرغ بقدر فيه المستثنى منه بقدر أدنى ما يصحح الاستثناء لأن التقدير ضرورة فلا يزيد على القدر الضروري في تصحيح الكلام ـ وما زاد على ذلك ليس مما يعتبره أهل العلم كما لا يخفى على أن شد الرحل لأجل العلم أو الجهاد أو التجارة أو الاعتبار أو استعادة الصحة ونحو هذا لا يتصور أن يتناوله النهي في الحديث فلا يصح تقدير المستثنى منه من أعم ما يتناول المستثنى ومن تصور خلاف ذلك فقد غلط غلطا فاحشا واستعجم عليه الحديث.

والأحاديث في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غاية من الكثرة وقد جمع طرقها الحافظ صلاح الدين العلائي في جزء كما سبق وعلى العمل بموجبها استمرت الأمة إلى أن شذّ ابن تيمية عن جماعة المسلمين في ذلك ، قال علي القاري في شرح الشفا : «وقد فرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أفرط غيره حيث قال كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة وجاحده محكوم عليه بالكفر ولعل الثاني أقرب إلى الصواب لأن تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفرا لأنه فوق تحريم المباح المتفق عليه ... اه».

فسعيه في منع الناس من زيارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على ضغينة كامنة فيه نحو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيف يتصور الإشراك بسبب الزيارة والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه عبده ورسوله» وينطقون بذلك في صلواتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقل تقدير إدامة لذكرى ذلك. ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كل شئونهم ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شيء ولم يعدوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل ، كيف وقد أنقذهم الله من الشرك وأدخل في قلوبهم الإيمان وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودماءهم لحاجة في النفس ولم يخف ابن تيمية من الله في رواية عد السفر لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي ، وحاشاه عن ذلك ـ راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته بزيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوسل به كما هو مذهب الحنابلة ـ وإنما قوله بذلك في السفر إلى المشاهد المعروفة في العراق لما قارن ذلك من البدع في عهده وفي نظره.

نص ابن عقيل الحنبلي في تذكرته

وإليك نص عبارته في التذكرة المحفوظة بظاهرية دمشق تحت رقم ٨٧ في الفقه الحنبلي. «فصل : ويستحب له قدوم مدينة الرسول صلوات الله عليه فيأتي مسجده فيقول عند دخوله باسم الله اللهم صلّ على محمد وآل محمد وافتح لي أبواب رحمتك وكف عني أبواب عذابك ، الحمد لله الذي بلغ بنا هذا المشهد وجعلنا لذلك أهلا ، الحمد لله رب العالمين. ثم تأتي حائط القبر فلا تمسه ولا تلصق به صدرك ، لأن ذلك عادة اليهود واجعل القبر تلقاء وجهك وقم مما يلي المنبر وقل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ... إلى آخر ما تقوله في التشهد الأخير ، ثم تقول اللهم أعط محمدا الوسيلة والفضيلة

وذكر أربعين نبيا في إنكار ذلك وقد صنف البيهقي (١) جزءا في حياة الأنبياء ولكن هذا المدبر بعيد عن التوفيق.

فصل

قال : «فإن احتججتم بالشهيد».

وذكر غيره أشياء من حججنا.

فصل

قال في الجواب : «إن الشهيد حياته منصوصة مع النهي عن أن ندعوه ميتا ، ونساؤه حل لنا من بعده وما له مقسوم وهو مع ذلك حي فارح قلتم فالرسل أولى».

فانظر إلى قلب الدليل عليهم ما قلب شيئا قلب الله قلبه.

قال : «ورؤيته موسى مصليا في قبره في القلب منه حسيكة هل قاله؟ ولذلك

__________________

ـ والدرجة الرفيعة والمقام المحمود الذي وعدته ، اللهم صلّ على روحه في الأرواح وجسده في الأجساد كما بلغ رسالاتك وتلا آياتك وصدع بأمرك حتى أتاه اليقين ، اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : ٦٤] وإني قد أتيت نبيك تائبا مستغفرا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي الرحمة ، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي ، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي ، اللهم اجعل محمدا أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين اللهم كما آمنا به ولم نره وصدقناه ولم نلقه فأدخلنا مدخله واحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربا صافيا رويا سائغا هنيا لا نظمأ بعده أبدا غير خزايا ولا ناكثين ولا مارقين ولا مغضوبا علينا ولا ضالين واجعلنا من أهل شفاعته. ثم تقدم عن يمينك فقل السلام عليك يا أبا بكر الصديق ، السلام عليك يا عمر الفاروق ، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرا ، اللهم (اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ...) [الحشر : ١٠] وتصلي بين القبر والمنبر في الروضة وإن أحببت تمسح بالمنبر وبالحنانة وهو الجذع الذي كان يخطب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما اعتزل عنه حنّ إليه كحنين الناقة ، وتأتي مسجد قباء فتصلي لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقصده فيصلي فيه ، وإن أمكنك فأت قبور الشهداء وزرهم وأكثر من الدعاء في تلك المشاهد حتى كأنك تنظر إلى مواقفهم واصنع عند الخروج ما صنعت عند الدخول».

ويقال عن كتاب الفنون لابن عقيل الحنبلي هذا إنه في ثمانمائة مجلد ويقول الذهبي عنه إنه لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب. ومن هو نظير ابن عقيل هذا بين الحنابلة في الجمع والتحقيق؟ وأنت رأيت نص عبارته في المسألة على خلاف ما يعزو إليه ابن تيمية.

(١) وجزء البيهقي في حياة الأنبياء مطبوع فاستغنينا به عن الكلام في ذلك.

أعرض البخاري عنه عمدا والدار قطني أعله ورأى أنه موقوف على أنس لكن تقلد مسلما ، لكن هذا ليس مختصا به روى ابن حبان صلاة العصر في قبر الذي مات مؤمنا فتمثل الشمس التي قد كان يرعاها لأجل الصلاة عند الغروب يخاف فوت صلاته فيقول للملكين تدعاني حتى أصلي العصر قالا ستفعل ذلك بعد الآن ، هذا مع الموت المحقق لا الذي حكيت لنا بثبوته القولان.

وثابت البناني دعا أن لا يزال مصليا في قبره وحديث ذكر حياتهم بقبورهم لما يصح ، وظاهر النكران ونحن نقول إنهم أحياء عند ربهم كالشهيد». يعني وننكر حياتهم في قبورهم.

قال : «هذي نهايات لأقدام الورى في ذا المقام الضنك والحق فيه ليس تحمله عقول بني الزمان لغلظة الأذهان ولجهلهم بالروح هل في عقولهم أن الروح في أعلى الرفيق مقيمة بجنان ، وترد أوقات السلام عليه وأجواف الطير الخضر مسكنها لدى الجنات ، من ليس يحمل عقله هذا فاعذره على النكران للروح شأن غير ذي الأكوان ، وهو الذي حار الورى فيه فلم يعرفه غير الفرد في الأزمان ، هذا وأمر فوق ذا لو قلته بادرت بالإنكار والعدوان فلذلك أمسكت العنان ولو أرى ذاك الرفيق جريت في الميدان ، وقولي إنها مخلوقة وليست كما قال أهل الإفك لا داخلة فينا ولا خارجة عنا ـ والله ـ لا الرّحمن أثبتم ولا أرواحكم ، عطلتم الأبدان من أرواحها والعرش عطلتم من الرّحمن.

استشكال معرفة الروح صحيح لكنه ما أظنه يفهمه وإنما قاله تقليدا وإنكاره حياة الأنبياء ليس له عليه حامل صحيح (١).

__________________

حياة الأنبياء

(١) وعن أنس مرفوعا «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون» رواه أبو يعلى الموصلي والبزار قال الهيثمي ورجال أبي يعلى ثقات. والحياة البرزخية الثابتة للأنبياء فوق الحياة الثابتة للشهداء ويغنينا عن الكلام في حياة الأنبياء جزء البيهقي المطبوع ، نعم انقطعت حاجتهم إلى الأكل والشرب من مآكل هذه الدار ومشاربها ، ولذلك صحّ وصفهم بالموت (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) [الزّمر : ٣٠] وحامل الناظم على إنكار حياتهم البرزخية هو التذرع بذلك إلى تحريم التوسل بهم عن هوى وفي دفع الشبه للتقي الحصني ووفاء الوفاء للنور السمهودي وغيرهما أحاديث وآثار كثيرة في الندب إليه ، وليس هذا موضع سرد لتلك الأحاديث وله موضع آخر وفي المطالب العالية للرازي وفي شرح المقاصد للتفتازاني وفيما علقه الشريف الجرجاني على شرح المطالع ما يسكن إليه صدور المقتدين بأئمة أصول الدني من البيان في هذه المسألة ، وكنت بسطت

__________________

ـ المسألة قبل سنين متطاولة في (إرغام المريد) الذي كنت ألفته سنة ١٣٢٠ ولا بأس في أن أورد هنا بعض ما كنت نقلته فيه ، مما قاله الفخر الرازي والسعد التفتازاني ، والشريف الجرجاني في هذا الصدد فإنهم أئمة في أصول الدين يميزون بين الحق والباطل والتوحيد والإشراك حق التمييز ، ولا يرميهم أحد من أهل الحق بنزعة تخالف مذهب أهل الحق في هذه المسألة ومن الغريب رمي أهل التجسيم لأهل الحق بالإشراك بوسيلة التوسل وفيما ننقله عن أئمة أصول الدين في هذا الصدد قمع من يرمي أهل الحق بدائه وهم من أبعد الناس عن الإشراك بخلاف من يقول بالجهة والتحيز وسائر لوازم الجسمية تعالى الله عن ذلك.

نصوص من المطالب العالية للفخر الرازي

قال الإمام فخر الدين الرازي بعد بسط مقدمات في الفصل الثامن عشر من كتابه المطالب العالية وهو من أمتع مؤلفاته في علم أصول الدين : «وإذا عرفت هذه المقدمات فنقول إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل الجوهر شديد التأثير ووقف هناك ساعة وتأثرت نفسه من تلك التربة حصل لنفس الزائر تعلق بتلك التربة وقد عرفت أن لنفس الميت تعلقا بتلك التربة أيضا فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر الحي ولنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة بسبب اجتماعهما على تلك التربة فصارت هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من واحدة منهما إلى الأخرى فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي من المعارف البرهانية والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة من الخضوع لله تعالى والرضى بقضاء الله ، ينعكس منه نور إلى روح ذلك الإنسان الميت وكل ما حصل في نفس ذلك الإنسان الميت من العلوم المشرفة والآثار العلوية الكاملة فإنه ينعكس منه نور إلى روح هذا الزائر الحي ، وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سببا لحصول المنفعة الكبرى والبهجة العظمى لروح الزائر ولروح المزور ، فهذا هو السبب الأصلي في مشروعية الزيارة ، ولا يبعد أن يحصل فيها أسرار أخرى أدق وأحق مما ذكرناه ، وتمام العلم بالحقائق ليس إلا عند الله اه».

وأما بقاء النفس مدركة لبعض الجزئيات فقد بينها الرازي في الفصل الخامس عشر من الكتاب المذكور. وقال الرازي أيضا في تفسيره : «إن الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية ، المشتاقة إلى الاتصال بالعالم العلوي ، بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة ومنازل القدس ، ويظهر منها آثار في أحوال هذا العالم فهي المدبرات أمرا ، أليس الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها اه».

وقال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد عند إثبات إدراك بعض الجزئيات للميت ردا على الفلاسفة : «لما كان إدراك الجزئيات مشروطا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط وعندنا لما لم تكن الآلات شرطا في إدراك الجزئيات إما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء ، ولا سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا ، ولهذا

فصل

قال : «ما معناه منجنيق المعطلة ما يدعونه من التركيب ، وللتركيب ستة معان أحدها : التركيب من متباين كتركيب الحيوان من هذه الأعضاء وتركيب الأعضاء من الأركان الأربعة ، الثاني : تركيب الجوار من اثنين يفترقان ، الثالث : التركيب من متماثل يدعى الجواهر الفردة ، الرابع : الجسم المركب من هيولى وصورة عند الفيلسوف والجواهر الفرد ليس ممكنا ، الخامس : التركيب من ذات وأوصاف سموه تركيبا وليس بتركيب ، السادس : التركيب من ماهية ووجودها ، واختلفوا هل الذات الوجود أو غيره فيكون تركيبا محالا أو يفرق بين الواجب والممكن حتى أتى من أرض آمد ثور كبير (١) ، بل حقير الشأن قال الصواب الوقف فقصاراه أن شك في الله».

جوابه أنه لم يشك في الله في الوجود هل هو زائد أو لا ولا يجوز أن يقال له

__________________

ـ ينتفع بزيارة القبور والاستغاثة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات ، فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا بالبدن وبالتربة التي دفنت فيها ، فإذا زار الحي تلك التربة وتوجهت تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات اه».

وقال العلامة الشريف الجرجاني في أوائل حاشية شرح المطالع معلقا على ما ذكره شارح المطالع في صدد بيان الحكمة في التوصل والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن قيل هذا التوسل إنما يتصور إذا كانوا متعلقين بالأبدان وأما إذا تجردوا عنها فلا إذ لا جهة مقتضية للمناسبة ، قلنا يكفيه أنهم كانوا متعلقين بها متوجهين إلى تكميل النفوس الناقصة بهمة عالية فإن أثر ذلك باق فيهم ولذلك كانت زيارة مراقدهم معدة لفيضان أنوار كثيرة منهم على الزائرين كما يشاهده أصحاب البصائر اه». ورأيت بخط الحافظ الضياء المقدسي الحنبلي في كتابه ـ الحكايات المنثورة ـ المحفوظ تحت رقم ٩٨ من المجاميع بظاهرية دمشق أنه سمع الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول إنه خرج في عضده شيء يشبه الدمل فأعيته مداواته ، ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه ، وفي تاريخ الخطيب (١ ـ ١٢٣) بسنده إلى الشافعي رضي الله عنه قال : «إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره كل يوم ـ يعني زائرا ـ فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضى اه».

فمن الذي يستطيع أن يعد هؤلاء قبوريين يتعبدون الضرائح؟!.

(١) سيف الدين الآمدي المعروف بين الفرق ببالغ الذكاء ذنبه عند الحشوية أنه نشأ حشويا ثم هداه الله إلى مذهب الأشاعرة ولأجل ذلك يرى متقشفو الحشوية من تمام ورعهم اختلاق حكايات في حقه ويسعى ابن تيمية جهده في مناقشته في معقوله ، ويقوم الذهبي بحظه في الاختلاق عليه في ميزانه. وتآليفه الخالدة في أصول الدين وأصول الفقه والجدل هي آية كونه ثورا كبيرا في نظر الناظم فليعتبر.

ثور ولا أنه حقير الشأن ، وقد اعترف في التركيبين الأخيرين بالامتناع فيسأل من أهل اللغة هل القدم واليد والجنب أعضاء (١) أو صفات.

فصل

قال : «ودلالة الأسماء مطابقة وتضمن والتزام فالمطابقة يفهم منها ذات الإله والوصف والتضمن دلالته على أحدهما واللازم دلالته على الصفة التي اشتق الاسم منها كالرحمن ، فالذات والرحمة مدلولاه تضمنا ودلالته على الحياة بالالتزام».

مقصوده بهذا المبالغة في القول بالتركيب في المعنى (٢) وإن أنكره باللفظ فيما تقدم ، ومدلول الرحمن في اللغة ذو الرحمة وهو شيء واحد لا مركب وإن كان

__________________

(١) فإن اعترف بعد السؤال من أهل اللغة بأنها أعضاء يكون المركب منها من القسم الأول فيكون عابد جسم ذي أعضاء وإن لم يعترف بأنها أعضاء بل قال إنها مجازات عن صفات ثابتة له تعالى فقد ترك مذهبه وكان جهاده في غير عدو ولكن أنى يعترف بأنها مجازات مع الغلو المشهود في نحلته؟ ومن ألطف النكت الجارية مجرى الإلزامات الظاهرة على المجسمة ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره (٧ ـ ١٤٨) حيث قال : إن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها وإما أن يزيد عليها ، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] وأن يثبت له جنبا واحدا لقوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكلتا يديه يمين» وأن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] فيكون الحاصل من هذه الصورة مجرد رقعة الوجه ويكون عليها عيون كثيرة وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور ولو كان هذا عبدا لم يرغب أحد في شرائه فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة؟! وإن كان الثاني وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن بل يزيد وينقص على وفق التأويلات فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر ولا بد له من قبول دلائل العقل اه.

(٢) لأن كلام أهل العربية في الدلالات الثلاث (دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج اللازم التزام) والاجتراء على إجراء ذلك في الأسماء المقدسة مبالغة في القول بالتركيب في المعنى بإثبات الجزء في دلالتها كما قال المصنف على أن ابن حزم قطع على الحشوية سيل التقول بالمرة بأن قال إن الأسماء الحسنى أسماء أعلام للذات العلية لا تدل على الصفات باعتبار أن الله سماها أسماء. فضاقوا ذرعا من كلامه هذا جدا وليس هذا موضع توسع لبيان ما له وما عليه ، وكفى للبصير مجرد الإشارة إليه.

يقتضي أن له رحمة وكذا ضارب ، مدلوله شيء له الضرب ولا نقول بأن الضرب بعض مدلوله وإن كان قاله بعض الأصوليين من جهة تركيب العقل ما دلّ عليه اللفظ لا من جهة أن الواضع وضعه لهما كما أشعر به كلام هذا الفدم ، واستعماله في الأسماء المقدسة جرأة جرأتها عقيدة سوء ميّالة إلى معنى التركيب.

فصل

قال : «الملحدون ثلاثة : المشركون وإخوانهم الاتحادية ، والثاني : المعطلة يقولون ما ثم غير الاسم عطل حرف ثم أول وافقها واقذف بتجسيم وبالكفران للمثبتين ، فإن احتجوا عليك فقل مجاز فإن غلبت عن المجاز فقل الألفاظ لا تفيد اليقين فإن غلبت عن تقريره فقل العقل مقدم على النقل ، والثالث : منكر الخالق الصانع لا يوحشنك غربة بين الورى قل لي متى سلم الرسول وصحبه وتظن أنك وارث لهم ولا جاهدت في الله حق جهاده».

هذا الرجل قال قبل ذلك إنه لم ينكر أحد الخالق وقد ناقض هنا وجعل القسم الثاني من الملحدة خصماءه ووصفهم بما قال ، وهم هداة الأمة.

فصل

في النوع الثاني من توحيد المرسلين المخالف لتوحيد المعطلين والمشركين.

قال : «وهو أن لا تعبد غير الله ، فالمشركون اتخذوا أندادا يحبونهم كحب الله ، ولقد رأينا من فريق يدعي الإسلام شركا جعلوا له شركاء سووهم به في الحب بل زادوا لهم حبا ـ والله ـ ما غضبوا إذا انتهكت محارم ربهم حتى إذا ما قيل في الوثن الذي يدعونه ما فيه من نقصان فأجارك الرحمن من غضب ومن حرب ومن شتم ومن عدوان وضرب وتعزير وسب وتسجان ، قالوا تنقصت الأكابر والأمر ـ والله العظيم ـ يزيد فوق الوصف ، وإذا ذكرت الله توحيدا رأيت وجوههم مكسوفة الألوان ، وإذا ذكرت بمدحة شركاءهم يستبشرون ـ والله ـ ما شمّوا روائح دينه». انتهى ثناؤه على المسلمين قبّحه الله.

فصل

في صفة العسكرين وتقابل الصفين واستدارة رحى الحرب العوان وتصاول الأقران.

أبصر كيف يوقع الملعون العداوة بين المسلمين.

فذكر جماعة ثم قال : «وخيار عسكرهم فذاك الأشعري الفدم» أو القرم «ذاك مقدم الفرسان».

سواء أقال الفدم أو القرم قد جعله من عسكر الملحدين.

قال : «لكنكم ما أنتم على إثباته صفوا الجيوش وعبئوها وابرزوا للحرب واقتربوا من الفرسان فهم إلى لقياكم بالشوق كي يوفوا بنذرهم من القربان ، تبا لكم لو تستحون لكنتم خلف الخدور كأضعف النسوان ، من أين أنتم والحديث وأهله ما عندكم إلا الدعاوى والشكاوى وشهادات على البهتان هذا الذي والله نلنا منكم قبح الإله مناصبا ومآكلا قامت على البهتان والعدوان».

أيكون أقبح من هذا الإغراء.

فصل

في الهدنة بين المعطلة والاتحادية حزب جنكسخان

قال : «يا قوم صالحتم نفاة الذات ولأجل ذا كنتم مخانيثا لهم».

ينبغي أن يعرض عن كلام هذا المتخلف.

فصل

في مصارع المعطلة بأسنة الموحدين

قال : «وإذا أردت ترى مصارع من خلا من أمة التعطيل وترى وترى وترى فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني أعني أبا العباس (١) واقرأ كتاب

__________________

كلمة صاحب الدرة المضيئة في ابن تيمية

(١) وعن هذا الشيخ الذي يطريه الناظم يقول صاحب الدرة المضيئة : «قد أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد ، بعد أن كان متسترا بتبعية الكتاب والسنة ، مظهرا أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة ، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع ، وشذّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع ، وقال بما يقتضي الجسمية والتراكيب في الذات المقدسة وبأن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى وأن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات ، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم بالقول بأنه لا أول للمخلوقات ، فقال

العقل ، والنقل ، والمنهاج (١) ، والتأسيس وغيرها وقرأت أكثرها عليه فزادني ـ والله ـ في علم وفي إيمان ، هذا ولو حدثت أنه قبلي يموت لكان غير الشأن وله المقامات الشهيرة أبدى فضائحهم (٢) وبين جهلهم وأصارهم تحت نعال أهل الحق ، كانت نواصينا بأيديهم فصارت نواصيهم بأيدينا وغدت ملوكهم مماليكا والفدم يوحشنا وليس هنا كم فحضوره ومغيبه سيان».

وهذا الفصل تسعون بيتا ما ذا تضمن من الكذب الذي يدل على أن قائله خرق جلباب الحياء.

فصل

يزيد على مائة وعشرين بيتا مما يهيج ويوقع العداوة وليس فيه قط إفادة.

__________________

ـ بحوادث لا أول لها فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديما ، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها الأمة وكل ذلك وإن كان كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع فإن متلقي الأصول عنه وفاهم ذلك منه هم الأقلون والداعي إليه من أصحابه هم الأرذلون ، وإذا حققوا في ذلك أنكروه. وأما ما أحدثه في الفروع فأمر قد عمّت به البلوى .. وقد بثّ دعاته في أقطار الأرض لنشر دعوته الخبيثة وأضل بذلك جماعة من العوام ومن العرب والفلاحين ... ولبس عليهم ... اه».

والدرة المضية هذه مطبوعة ضمن المجموعة السبكية ونسخة مخطوطة منها موجودة في مكتبة أياصوفيا في إصطنبول. ومثل هذا الضال المضل اتخذه الناظم قدوة في فتنه عاملهما الله تعالى بعدله ولم يكن بغض علماء أهل الحق لهما إلا بغضا في الله شأنهم مع كل زائغ ، ومن حمل ذلك على الحسد لم يعرف سيرة الرادين عليه ولا مبلغ زيغ الناظم وشيخه فمثل هذا القول ينبئ عن جهل قائله أو زيغه.

(١) مطبوع في هامش منهاجه ، وأما التأسيس في رد أساس التقديس فقد فضح ابن تيمية به نفسه وهو في ضمن الكواكب الدراري لابن زكنون الحنبلي في المجلدات (رقم ٢٤ و ٢٥ و ٢٦) بظاهرية دمشق وقد سبق أن وصفت الكواكب فيما علقته على المصعد الأحمد لابن الجزري فلو قام بطبع التأسيس أحدهما لما بقي من أهل البسيطة أحد لم يعلم دخائل ابن تيمية. وقد نقلت منه نصوصا كثيرة فيما علقت على هذا الكتاب كما سبق في مواضع على أن مبلغ زيفه ظاهر من الكتابين المذكورين لمن ألقى السمع وهو شهيد ، ويتبجح بهما هذا الزائغ كتبجحه بالتأسيس ، هكذا شأن مقلدة الزائغين يثنون على الزيغ ويزدادون غواية. وقد أشرت إلى بعض ما في منهاجه ومعقوله في «الإشفاق على أحكام الطلاق» فليراجع هناك.

(٢) كلا بل فضح نفسه وأذنابه وقادته وأصارهم تحت نعال أهل الحق بجهله وخرقه ولم يزل ينقل من محبس إلى محبس ومن هوان إلى هوان حتى أفضى إلى ما عمل وخلف شواذه وصمة الأبد ، لكن قاتل الله الوقاحة تحاول قلب الحقائق.

فصل

في كسر الطاغوت الذي نفوا به الصفات

ثمانية وثمانون بيتا كلها تهييج وإشلاء وسفاهة.

من جملتها :

فتعين الإلزام حينئذ على قو

ل الرسول ومحكم القرآن

وجعلتم أتباعه ما نسترا خو

فا من التصريح بالكفران

«والله ـ ما قلنا (١) سوى ما قاله فجعلتمونا جنة والقصد مفهوم فنحن وقاية القرآن».

ما يحس أن يتخيل أحد في مسلم أنه يقصد الرد على القرآن والرسول.

ثم قال : «والله لو نشرت لكم أشياخكم عجزوا.

إن كنتم فحولا فابرزوا

ودعوا الشكاوى حيلة النسوان

وإذا اشتكيتم فاجعلوا

الشكوى إلى الوحيين (٢) لا القاضي ولا السلطان

فصل

في مبدأ العداوة بين الموحدين والمعطلين

قال : «يا قوم تدرون العداوة بيننا من أجل ما ذا؟ إنا تحيزنا إلى القرآن والنقل

__________________

(١) اتق الله لا تحلف به كذبا هذا الكذب المكشوف أين قال الله أو قال رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله متمكن على العرش تمكن استقرار أو إن الحوادث تقوم به؟ أو إن الحوادث لا أول لها وإن من لم يقل ذلك معطل ملحد وإنه في جهة العلو من رءوس العباد أو إنه تكلم بحرف وصوت إلى آخر تلك المخازي أو أين قال الله أو قال رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن المنزهين لله من المادة والماديات والجسم والجسمانيات من حزب جنكزخان.

(٢) إن كان يريد بهما الكتاب والسنة فقد ظهر ظهورا لا مزيد عليه بما بسطناه في هذا الكتاب من تحاكمنا إليهما أننا على الحق وخصومنا على الزيغ والضلال المبين ، وإن كان يريد بهما وحي شياطين الجن ووحي شياطين الإنس على ما هو الظاهر من تلبيساته فلسنا نتحاكم معه إلى الطواغيت (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشّعراء : ٢٢٧] ولا بأس أن أهمس في أذنه وآذان أشياعه أنه لم يبق في غالب البلاد سلطان لأحكام الشرع يخاف الفاتنون جانبه بسبب تلك الفتن الدامية التي كانت الحشوية يثيرونها على طول القرون في أخطر أيام الإسلام حتى تركوا الشرع لا سلطان له إلا على قلوب المسلمين حقا وأصبح الإسلام بالحالة التي نراها والله سبحانه وتعالى ينتقم من هؤلاء الفاتنين الدائبين على السعي في تفريق كلمة المسلمين وتوهين سلطان الدين وأعاد إلى الدين سلطانه ، إنه قريب مجيب.

الصحيح والعقل الصريح فاشتد ذاك الحرب بين فريقنا وفريقكم وتأصلت تلك العداوة من يوم أمر إبليس بالسجود فأتى التلاميذ الوقاح فانظر إلى ميراثهم ذا الشيخ هذا الذي ألقى العداوة بيننا».

فصل

في أن التعطيل أساس الزندقة

قال : «من قال إن الله ليس بفاعل فعلا يقوم (١) به وليس أمره قائما به وليس فوق عباده ، فثلاثة لا تبقى من الإيمان حبة خردل وقد استراح من القرآن والرسول وشريعة الإسلام وتمام ذاك جحوده للصفات وتمامه الإرجاء وتمامه قوله في المعاد» (٢).

فصل

في بهت أهل الشرك والتعطيل

قال : «قالوا تنقصتم رسول الله ، وا عجبا ، ونظيره قول النصارى إنا تنقصنا المسيح».

هذه الفصول كلها كما ترى.

__________________

(١) كم يكرر النظام قيام الفعل به تعالى وهو الذي دعاه وشيخه إلى القول بحوادث لا أول لها وهذا من الخطورة بمكان ، قال الإمام أبو منصور عبد القاهر في أصول الدين : وأما جسمية خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب لقولهم بأن الله له حد ونهاية من جهة السفل ، ومنها يماس عرشه ولقولهم بأن الله محل للحوادث وإنما يرى الشيء برؤية تحدث فيه ويدرك ما يسمعه بإدراك يحدث فيه ولو لا حدوث الإدراك فيه لم يكن مدركا لصوت ولا مدركا لمرئي وقد أفسدوا بإجازة حلول الحوادث في ذات الله تعالى لأنفسهم دلالة الموحدين على حدوث الأجسام بحلول الحوادث اه. وأنت عرفت مذهب الناظم في تلك المسائل.

(٢) ثم قال :

وتمام هذا قولكم بفناء دا

ر الخلد فالداران فانيتان

مع أن الناظم يقول في كثير من كتبه بنفي الخلود للكفار في النار وبهذا حكم على نفسه بالكفر ، انظر كلامه فيمن لا يرى قيام الحوادث بالله والفوقية المكانية له تعالى. وجعل العمل جزءا من الإيمان حقيقة مؤد إلى تكفير مرتكبي الكبائر كما هو مذهب الخوارج. ونفي قيام الأفعال الحادثة به تعالى بعده نفي الصفات والله ينتقم منه.

فصل

قال : «ولنا الحقيقة من كلام إلهنا ونصيبكم منه المجاز الثاني وخيامنا مضروبة بمشاعر الوحيين وخيامكم (١) مضروبة في التيه فالمكان كل ملدد حيران ، هذه شهادتهم على محصولهم عند الممات والله يشهد أنهم أيضا كذا ولنا المسانيد والصحاح ولكم تصانيف الكلام ونقول : قال الله قال رسوله في كل تصنيف وكل مكان لكن تقولون : قال أرسطو وقال ابن الخطيب (٢) وقال ذو العرفان شيخ لكم يدعى ابن سينا ، وخيار ما تأتون قال : الأشعري وتشهدون (٣) عليه بالبهتان ، والكفر عندكم خلاف شيوخكم ووفاقهم فحقيقة الإيمان».

انتهى ، يكفيه أن ينسب القائلين عند موتهم بالعجز عن حقيقة الإدراك إلى الكفر وهي كلمة الصّدّيق الأكبر (إن العجز عن حقيقة الإدراك إدراك).

__________________

(١) بل أهل السنة هم الذين جمعوا بين الكتاب والسنة وآثار السلف والبراهين العقلية التي هي من حجج الله سبحانه ، من غير إهمال شيء منها ، مراعين مراتب الأدلة ووجوه الدلالة وإنما مذهب السلف عدم الخوض في الصفات مع التنزيه العام وهم من أبعد الناس عن حمل ما في كتاب الله وما صحّ في السنة على ما يوهم التشبيه فإذا تكلموا إنما يتكلمون بما يوافق التنزيه وهم الذين يقولون فيما صحّ لفظه : «أمروه كما جاء بدون تفسيره بل تفسيره قراءته بلا كيف ولا معنى» كما تواتر ذلك عن السلف ولا سيما عن أحمد وقد ذكرنا بعض نصوص لهم في ذلك ، وأما أصحاب الناظم فهم الذين جمعوا بين الإسرائيليات والجاهليات وأنواع الخرافات والأخبار الموضوعات كما يظهر من كتبهم في العلو والسنة والتوحيد والنحل أين في الصحاح والسنن (ينزل بذاته) و (يستوي على العرش استواء استقرار وجلوس) و (يتحرك) و (يتكلم بصوت)؟ فلو وقفوا حيث وقف الكتاب والسنة والبرهان العقلي وأبوا الخوض في الصفات بعقولهم الضئيلة لكانوا على الهدى لكنهم حادوا وزادوا ، قاتلهم الله ما أوقحهم وأشنع إفكهم على أهل الحق.

عظم شأن الفخر الرازي في الرد على الحشوية

(٢) هو الإمام فخر الدين الرازي ، سيف الله المسلول على المجسمة وهو من أبغض أهل العلم إليهم لأنه تمكن ببيانه الواضح وبرهانه الدامغ من إزالة شرور المجسمة من بلاد الشرق كما أجهز على المجسمة الذين أووا إلى الشام بكتابه (أساس التقديس) وهو كتاب يحق أن يكتب بماء الذهب وأن يجعل من كتب الدراسة في بلاد تشيع فيها مخازي المشبهة وهو كاف في قمعهم ، والله سبحانه يكافيه على ذلك ، وتفسيره الكبير من أهم الكتب في الرد على الحشوية وفي ذلك ما يكون كفارة لما بدر منه من بعض أغلاط ، سامحه الله وأعلى منزلته في الجنة.

(٣) ومذهبه هو ما في كتب أصحابه وأصحاب أصحابه كأبي منصور عبد القاهر البغدادي والقشيري وابن الجويني ونحوهم وقد أفنى الحشوية مؤلفات الإمام في فتن بغداد وتصرفوا فيما بالأيدي من كتبه ودسوا ما شاءوا ، قاتلهم الله.

فصل

أنكر فيه على خصومه تكفيرهم إياه وقال : «اسمع إذن يا منصفا حكميهما وانظر إذن هل يستوي الحكمان ، هم عندنا قسمان أهل جهالة ومعاند فالمعاند كافر والجاهل نوعان أحدهما متمكن من العلم فهو فاسق وفي كفره قولان ، والوقف عندي فيهم لست الذي بالكفر أنعتهم ولا الإيمان ، والله أعلم بالبطانة منهم لكنهم مستوجبون عقابه قطعا لأجل البغي والعدوان ، النوع الثاني عاجز عن بلوغ الحق مع قصد وإيمان وهم ضربان أحدهما قوم دهاهم حسن ظنهم بشيوخهم فمعذورون إن لم يظلموا أو يكفروا والآخرون طالبون للحق لكن صدهم عن علمه شيئان أحدهما طلب الحقائق من سوى أبوابها فأولاء بين الذنب والأجرين فانظر إلى أحكامنا فيهم وأحكامهم فينا».

انتهى كلامه ، وهو كلام من يعتقد أن خصومه خارجون بتكفيره وخصومه يقولون لا تكفر أحدا من أهل القبلة.

فصل

في أذان أهل السنة بصريحها جهرا على رءوس منابر الإسلام

قال : «شبهتم الرّحمن بالأوثان (١) في عدم الكلام هم أهل تعطيل وتشبيه معا

__________________

(١) ناحت العجل بل من قال إن كلام معبوده حرف وصوت قائمان به فهو الذي نحت عجلا : «لا يحل لمسلم أن يعتقد أن كلام الله صوت وحرف لا من طريق العقل ولا من طريق الشرع ، فأما طريق العقل فلأنه الصوت والحرف مخلوقان محصوران ، وكلام الله يجل عن ذلك كله وأما من طريق الشرع فلأنه لم يرد في كلام الله صوت وحرف من طريق صحيحة ولهذا لم نجد طريقا صحيحة لحديث ابن أنيس وابن مسعود اه».

وأنت تعلم مبلغ استبحار ابن العربي في الحديث وجزء الصوت للحافظ أبي الحسن المقدسي لا يدع أي متمسك في الروايات في هذا الصدد لهؤلاء الزائغين ومن رأى نصوص فتاوى العز بن عبد السلام وابن الحاجب والجمال الحصيري والعلم السخاوي ومن قبلهم ومن بعدهم من أهل الحق كما هو مدوّن في نجم المهتدي ودفع الشبه وغيرهما يعلم مبلغ الخطورة في دعوى أن كلام الله حرف وصوت قائمان به تعالى وقد سبق نقل بعض النصوص منها ولا تصح نسبة الصوت إلى الله إلا نسبة ملك وخلق لكن هؤلاء السخفاء رغم تضافر البراهين ضدهم ودثور الآثار التي يريدون البناء عليها يعاندون الحق ويظنون أن كلام الله من قبيل كلام البشر الذي هو كيفية اهتزازية تحصل للهواء من ضغطه باللهاة واللسان ، تعالى الله عن ذلك ، ويدور أمرهم بين التشبيه بالصنم أو التشبيه بابن آدم (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩].

بالجامدات تسعون وجها يبطل المعنى الذي قلتم هو النفس (١) للقرآن».

ولا وجه واحد. (وتسعون إلى آخره ساقطة من المطبوع).

قال : «وإليه قد عرج الرسول حقيقة».

__________________

الكلام النفسي

(١) وقد صحّ عن أحمد فيما جاوب به المتوكل وغيره كما هو مذكور في كتاب السنة وعيون التواريخ وغيرهما أنه كان يقول : القرآن من علم الله وعلم الله غير مخلوق فالقرآن غير مخلوق وهذا دليل على أنه كان يريد بالقرآن ما هو قائم بالله ، وتابعه ابن حزم في الفصل. فقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف : ٧٧] فقال : إما بدل من أسر أو استئناف بياني وعلى التقديرين تدل الآية على أن للنفس كلاما لقوله في نفسه ـ كما حكى القرآن الكريم ـ (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف : ٧٧] وكذلك قوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [الزّخرف : ٨٠] وفي الحديث السر ما أسرّه ابن آدم في نفسه وقوله تعالى (... يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] أي يقولون في أنفسهم بدليل السياق وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) [الأعراف : ٢٠٥].

كل ذلك من أدلة الكلام النفسي وحديث أم سلمة في الطبراني في رجل سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا :

إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن» وما في الحديث القدسي «فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» من أدلة الكلام النفسي أيضا وقد أقرّ الذهبي بحجية الأخير في ذلك في كتاب العلو له ، ومن الدليل على ذلك أيضا قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) [المجادلة : ٨] فقوله تعالى (بِأَلْسِنَتِهِمْ) [النّساء : ٤٦] و (بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] في قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١] و (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] لم يجعل القول باللسان مجازا حتى يظن المجازية في القول في النفس تمسكا بلفظ (فِي أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] كما توهم بعض أهل الأهواء وقول عمر الفاروق «زورت في نفسي كلاما» أشهر من نار على علم ، فمن ردّ أن يكون كلام في النفس رد على تلك الأدلة الصريحة والحامل لأهل الحق على القول بالكلام النفسي هو إجماع التابعين على القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق فخرّجوا إجماعهم هذا على هذا الوجه المعقول وإلا لما صحّ قولهم. وتسفيه أحلام التابعين جميعا لا يصدر إلا عن مجازف فالفرق بين ما هو قائم بالخلق والمعنى القائم بالله سبحانه هو المخلص الوحيد في هذه المسألة فاللفظي حديث والنفسي قديم كما أشار إلى هذا وإلى ذاك إمام الأئمة أبو حنيفة وتابعه أهل الحق. ويتضح بهذا البيان الواضح أن قول بعض زهّاد الحشوية في هذا البحث : «نحن نستدل في الحرف والصوت بقوله تعالى : (كهيعص (١)) [مريم : ١] ونحوه وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجمع الله الخلائق يوم القيامة ..» وخصومنا يستدلون بقول الأخطل النصراني «إن البيان لفي الفؤاد» بتحريف البائن إلى الكلام» هواء بعيد عن الحقيقة بعد الأرض عن السماء وهراء لا يصدر إلا من السفهاء ومثل هذا السفه حمل بعض الشافعية أن يشترط في مدرسة بناها بدمشق أن لا يطأ أرضها يهودي ولا نصراني ولا حشوي حنبلي كما في الدارس في تاريخ المدارس وقانا الله شر الغلو.

جسدا له خوار يحمل أشياعه على تعبده ، قال أبو بكر ابن العربي في العارضة :

أين في القرآن إليه؟

«قال والله أكبر من أشار رسوله حقا إليه بإصبع وبنان».

أين في الحديث إليه؟

«قال والله فوق العرش والكرسي».

أين في القرآن إن الله فوق العرش؟.

فصل

في تلازم التعطيل والشرك

«قال : واعلم بأن الشرك والتعطيل مذ كانا هما لا شك مصطحبان أبدا فكل معطل هو مشرك».

سواء أراد بالتعطيل الإنكار للذات أو إنكار الصفات أو بعضها هو مباين للشرك.

قال : «والناس في ذا ثلاث طوائف : إحدى الطوائف مشرك بإلهه فإذا دعاه دعا إلها ثاني ، وثانيها : جاحد يدعو سوى الرّحمن ، هو جاحد للرب يدعو غيره شركا وتعطيلا له قدمان».

هذا ما يستقيم يا هذا.

قال : «وثالث هذه الأقسام خير الخلق فمعطل الأوصاف ذو شرك كذا ذو الشرك فهو معطل الرّحمن».

فصل

قال :

لكن أخو التعطيل شر من

أخي الإشراك بالمعقول والبرهان

والله لا معقول ولا برهان وأخذ يبينه بما لا يصح وإن كان فيه شيء كثير من الصحيح لا يحصل به مقصوده بل يلبس به.

ثم قال :

لكن أخو التعطيل ليس لدي

ه إلا النفي أين النفي من إيمان

فصل

في مثل المشرك والمعطل

قال :

أين الذين قد قال في ملك عظي

م لست فينا قط ذا سلطان

فذكر ثمانية أبيات من هذا الخطاب الذي قد خرق حجاب الهيبة ثم قال : «هذا وثان قال أنت مليكنا إذ حزت أوصاف الكمال ولقد جلست على سرير الملك متصفا بتدبير عظيم الشأن».

هذا تصريح بالجلوس (١). (وفي المطبوع وقد استويت).

__________________

(١) يعجب المصنف كيف يصرح الناظم بالجلوس. ولأحد تلامذته الأخصاء جزء في إثبات المماسة ردا على من ينزه الله سبحانه عن ذلك وما ينطوي عليه هؤلاء أفظع بكثير من فلتات لسانهم فلو كانوا بين قوم على معتقدهم لكنت تراهم يصرحون بكل ما تكن صدورهم. قال ذلك التلميذ ـ أعني محمدا المنبجي ـ صاحب الفرج بعد الشدة في الجزء المذكور : قال الخلال في كتاب السنة : حدثنا أحمد بن الحسين الرقي حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح حدثني أي عن سعيد بن الحارث عن عبيد بن حنين قال : بينما أنا جالس في المسجد إذ جاءني قتادة بن النعمان يحدث وثاب إليه الناس ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله لما فرغ من خلقه استوى على عرشه واستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال إنها لا تصلح لبشر». قال الحافظ الذهبي. وغيره إسناده على شرط البخاري ومسلم اه.

ولعلك علمت بذلك قيمة كتاب السنة للخلال ، وفي ذلك الجزء من المخازي ما يضاهي ما نقلناه آنفا ، ولابن بدران الدشتي جزء في إثبات الحد والجلوس لله سبحانه ويسوق فيه الحديث المذكور بطرق كما ذكرت ذلك فيما علقت على ذيول طبقات الحفاظ قاتلهم الله ما أجرأهم على الله. ولعلك علمت بذلك أيضا قيمة تهويلهم بأنهم يتابعون السنة كما علمت قيمة تصحيحهم للروايات المطابقة لزيغهم.

تنبيه : الذهبي يبعد عن رشده ويفقد صوابه إذا جاء دور الكلام على أحاديث في الصفات أو في فضائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أهل بيته عليهم‌السلام وكذلك حينما يترجم لشافعي من الأشاعرة أو حنفي مطلقا رغم تظاهره بالإنصاف والبعد عن التعصب في كثير من المواضع على سعة علمه في الحديث ورجاله. فهل يتصور من عالم يعقل ما يقول أن يصحح مثل هذا الحديث الذي بطلانه أظهر من الشمس في ضحوة النهار؟ فطالب الحق لا يعير سمعا لأقواله فيما ذكرناه. وهو شافعي الفروع إلا أنه مجسم اعتقادا رغم تبرّيه منه في كثير من المواضع وعنده نزعة خارجية وإن كان أهون شرا بكثير من الناظم وشيخه في ذلك كله ، ومن لا يكون متساهلا في أمر دينه ، لا يثق بكلام مثله فيما ذكرناه بعد أن عرف دخائله. والتاج ابن السبكي أطراه غاية الإطراء حيثما ترجم له في طبقات الشافعية الكبرى أداء لحق التلمذة عليه لكن لم يمنعه ذلك من ـ

__________________

ـ الإشارة إلى ما ينطوي عليه من البدع والأهواء في مواضع من كتابه حيث قال في الكتاب المذكور (١ ـ ١٩٧) : وأما تاريخ شيخنا الذهبي فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط ، لا آخذه الله فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين ـ أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق ـ واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين ومال فأفرط على الأشاعرة ومدح فزاد في المجسمة اه حتى عده لا يعول على تراجمه لهؤلاء ، وقال أيضا في حقه (٢ ـ ٢٤٩) من الكتاب المذكور : وتأتي أنت تتسكع. في ظلم التجسيم الذي تدعي أنك بريء منه وأنت من أعظم الدعاة إليه وتزعم أنك تعرف هذا الفن ـ يعني علم أصول الدين ـ وأنت لا تفهم منه نقيرا ولا قطميرا اه.

حال الذهبي ـ ما له وما عليه

وقال أيضا في ترجمة ابن جرير ناقلا عن الحافظ صلاح الدين العلائي أنه قال عن الذهبي ما نصه : «لا أشك في دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله عن الناس ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه حتى أثّر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا إلى أهل الإثبات فإذا ترجم واحدا منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن ، وإذا أذكر أحدا من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ويكثر من قول من طعن فيه ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده دينا وهو لا يشعر ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها وكذلك يفعل في أهل عصرنا إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته والله يصلحه ... ونحو ذلك وسببه المخالفة في العقائد ، انتهى».

قال التاج ابن السبكي عقب ما تقدم ما نصه : «والحال في شيخنا الذهبي أزيد مما وصف وهو شيخنا ومعلمنا غير أن الحق أحق أن يتبع وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه وأنا أخشى عليه يوم القيامة عند من لعل أدناه عنده أوجه منه فالله المسئول أن يخفف عنه وأن يلهمهم العفو عنه وأن يشفعهم فيه ، والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله ولم يكن يستجري أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه ، وأما قول العلائي عن دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله فقد كنت أعتقد ذلك وأقول عند هذه الأشياء ربما أعتقدها دينا ، ومنها أمور أقطع بأنه يعرف بأنها كذب وأقطع بأنه لا يختلقها وأقطع بأنه يحب وضعها في كتبه لتنشر وأقطع بأنه يحب أن يعتقد سامعها صحتها بغضا للمتحدث فيه وتنفيرا للناس عنه مع قلة معرفته بمدلولات الألفاظ ومع اعتقاده (أن ذلك) مما يوجب نصر العقيدة التي يعتقدها هو حقا ، ومع عدم ممارسته لعلوم الشريعة غير أني لما أكثرت بعد موته النظر في كلامه عند الاحتياج إلى النظر فيه توقفت في تحرّيه فيما يقوله ولا أزيد على هذا غير الإحالة على كلامه» ... إلى آخر ما قاله فليراجع باقي كلامه من أراد المزيد على ما نقلنا.

وقال التاج أيضا في طبقاته وهو يترجم لإمام الحرمين ما نصه : «وقد كان الذهبي لا يدري شرح البرهان ، ولا هذه الصناعة ، ولكنه يسمع خرافات من طلب الحنابلة فيعتقدها حقا

__________________

ـ ويودعها تصانيفه» هذا قدر عقلية الذهبي وقدر تحرّيه عند صاحب الطبقات ، ولعل القارئ يرى هذه العقلية من أسخف العقليات كيف لا وهي عقلية ترى الخرافات حقا تودع في المصنفات ويبني عليها ما يتخذه عباد الله دينا ، ورجل هذا حاله أي قدر يكون قدره عند أولي النهي ، الذين عرفوا دخائله.

ولسنا نطيل النقل للقارئ في شأن سقوط كلام هذا الرجل في علماء الحنفية والمالكية والشافعية وهم قادة الأمة وأدلاؤها إذا ادلهم ليل المشكلات وكفى القارئ في هذا الرجل قول ابن السبكي السابق (والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله) فإن هذا معناه القضاء على الرجل وإسقاطه من عداد العلماء الذين يحترم قولهم ، ليتأمل القارئ طويلا في قول التاج ابن السبكي السابق أيضا (ولم يكن يستجري أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أن لا ينقل عنه ما يعاب عليه) فإن هذا معناه أن الرجل كان يعلم حق العلم أنه قال في تلك الكتب ما يوقن أنه ليس بحق ، ولذلك كان يحرص على أن لا يطلع الناس عليه لئلا يفتضح بأكاذيبه البعيدة عما عليه العلماء الذين يكتب عنهم ، وأرجو وألح في الرجاء أن لا يغفل القارئ عن قول صاحب الطبقات السابق في هذا الرجل من أنه (كان قليل المعرفة بمدلولات الألفاظ) ومن من العقلاء يرضى أن يسقط نفسه فيعد من زمرة العلماء رجلا يصل به الجهل إلى درجة قلة المعرفة بمدلولات الألفاظ؟ كما أرجو القارئ أيضا وأشدد في هذا الرجاء أن يلتفت لقول صاحب جمع الجوامع (إن الذهبي لم يمارس علوم الشريعة) ومن فقد رشده وضاع صوابه حتى يستطيع أن يعد من العلماء رجلا لم يمارس الشريعة فليعلم حق العلم ليراعي حق الرعاية. ولا ينسى القارئ أن ما تقدم شهادة تلميذ هو إمام فهو أعرف بشيخه ولعل هذا يكفي في دفع ما ربما يقوله بعض المغرورين بالذهبي أو ينقله عن بعض المغرورين.

وقد أشرت إلى حاله في مواضع مما علقت به على ذيول طبقات الحفاظ وزغل العلم.

ومما يزيدك بصيرة في هذا الباب اجتراء الذهبي على حذف لفظ «إن صحت الحكاية عنه» من كلام البيهقي في الأسماء والصفات (ص ٣٠٣) عند ما نقل كلامه في كتاب العلو (ص ١٢٦) في صدد نسبة القول بأن الله في السماء ، إلى أبي حنيفة ليخيل إلى السامع أن سند هذه الرواية لا مغمز فيه مع أن نوحا الجامع ربيب مقاتل بن سليمان المجسم ، في السند هالك مثل زوج أمه ، وكذلك نعيم حماد ربيب نوح ، وقد ذكره كثير من أئمة أصول الدين في عداد المجسمة فأين التعويل على رواية مجسم فيما يحتج به لمذهبه؟ وليس بقليل ما ذكره الذهبي في حقهما في ميزان الاعتدال على أنه لو سبق التفاف نحو عشرة آلاف شخص حول بدعه امرأة أتت من ترمذ إلى الكوفة للدعوة إلى مذهب جهم لكان لهذا النبأ شأن عظيم في كتب الأنباء والرواية ولما انفرد بمثل ذلك الخبر يحيى بن يعلى المجهول عن نعيم بن حماد الهالك عن نوح الجامع لكل شيء غير الصدق ولا كان انفرد أحمد بن جعفر بن نصر عن يحيى المذكور ولا أبو الشيخ بن حيان صاحب كتاب العظمة الذي يحوي كل هاتف وقد ضعفه بلديه الحافظ العسال ، وقد أشار البيهقي بقوله «إن صحت الحكاية» إلى ما في الرواية من وجوه الخلل. وعند ما حذف الذهبي هذا اللفظ يظن من لا خبرة عنده بالرجال أن الإله في السماء قول فقيه الملة إمام شطر هذه

__________________

ـ الأمة بل ثلثيها في جميع القرون مع بطلان رواية ذلك عنه بالمرة. ولأبي حنيفة كلمة في الفقه الأبسط رواية أبي مطيع عنه وهي «من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض كفر» وعلّل الأصحاب ذلك بأن هذا القائل جوّز المكان في حقه تعالى وهو كفر؟ وما طبع في الهند باسم شرح الفقه الأكبر للماتريدي إنما هو شرح أبي الليث على الفقه الأبسط مع سقم النسخة الهندية ، وبدار الكتب المصرية نسخة خطية جيدة من شرح أبي الليث. وقد زاد أبو إسماعيل الهروي في الفروق على تلك الكلمة ما شاء من كيسه مما يوافق مذهبه في التجسيم كذبا وزورا بسند مركب ، ونقل الذهبي في كتاب العلو جملة ذلك بدون أن يذكر سند الهروي في روايته تعمية وترويجا للباطل ، وكذا فعل الناظم في عزوه ـ راجع شرح أبي الليث وشرح البزدوي وإشارات المرام في عبارات الإمام للبياضي ، ودفع الشبه للتقي الحصني وشرح الفقه الأكبر لعلي القارئ فيما نقله عن ابن عبد السلام ولم يراقب الله من زاد على الكلمة السابقة ما أشرنا إليه كما وقع في بعض نسخ الكتاب المذكور من عهد ذلك الهروي. وقد روى الذهبي في كتاب العلو أيضا عن الدار قطني الأبيات المعروفة عند المجسمة بسند يقول فيه أنبأنا أحمد بن سلامة عن يحيى بن بوش أنبأنا ابن كادش أنشدنا أبو طالب العشاري أنشدنا الدار قطني : حديث الشفاعة في أحمد ، إلى أحمد المصطفى بسنده الأبيات (وآخرها كما في بدائع الفوائد لابن القيم ٤ ـ ٣٩) :

فلا تنكروا أنه قاعد

ولا تجحدوا أنه يقعد

فأحمد بن سلامة الحنبلي شيخ الذهبي مات سنة ٦٧٨ والذهبي ابن خمس ، ويحيى بن أسعد بن بوش الحنبلي الخباز المتوفى سنة ٥٩٣ وأحمد بن سلامة ابن أربع كان أميا لا يكتب ، وأبو العز بن كادش أحمد بن عبيد الله المتوفى سنة ٥٢٦ من أصحاب العشاري اعترف بالوضع ويقال ثم تاب ، راجع الميزان. وحكم مثله عند أهل النقد معروف ، وأبو طالب محمد بن علي العشاري الحنبلي المتوفى سنة ٤٥٢ مغفل يتقن ما يلقن ، وقد راجت عليه العقيدة المنسوبة إلى الشافعي كذبا ، وكل ذلك باعتراف الذهبي نفسه في الميزان وغيره ، فهل يصح عزو تلك الأبيات إلى الدار قطني بمثل هذا السند؟ وقال الذهبي أيضا في العبر في ترجمة أبي يعلى الحنبلي : (صاحب التصانيف وفقيه العصر كان إماما لا يدرك قراره ولا يشق غباره وجميع الطائفة معترفون بفضله ومغترفون من بحره). وأنت علمت حال أبي يعلى مما ذكره ابن الجوزي في دفع الشبه ، ومما نقلناه عن كتبه في هذا الكتاب ومما ذكره ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ٤٢٩ ، وترى الذهبي كثيرا ما يقول في رد ما أخرجه الحاكم في المستدرك في فضائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام : أظنه باطلا. بدون ذكر أي حجة ، وقد ذكر ابن الوردي في تاريخه أنه آذى كثيرا من الأحياء بتدوين ما كان يسمعه من أحداث يجتمعون به.

وفيما ذكرنا كفاية في معرفة حال الذهبي نسأل الله السلامة ، ومع ذلك هو أهون شرا من الناظم وشيخه كما سبق ، وله رسالة إلى ابن تيمية ينصحه فيها ويمنعه من المغالاة ، وسبق نشرها مع زغل العلم له. وترى الذهبي مع ثنائه البالغ في حق ابن تيمية في كثير من كتبه يقول عنه : «وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده وأنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية اه كما في الدرر الكامنة ، ويقول عنه أيضا : إنه أطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها اه» نقله ابن رجب عنه في طبقاته. ويقول عنه أيضا في زغل العلم

قال :

«إن المعطل بالعداوة معلن

والمشركون أخف في الكفران»

ما لمن يعتقد في المسلمين هذا إلا السيف (١).

فصل

في أسبق الناس دخولا إلى الجنة

قال : «وروى ابن ماجه أن أولهم يصافحه (٢) إله العرش ذو الإحسان فاروق دين الله».

__________________

ـ (ص ١٧) ... وقد تعبت في وزنه وتفتيشه حتى مللت في سنين متطاولة ، فما وجدت الذي أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رئاسة المشيخة والازدراء بالكبار ، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور ... وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر ، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون فلا تكن في ريب من ذلك اه».

ويقول عنه أيضا في (ص ٢٣) من زغل العلم : «... وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منورا مضيئا على محياه سيما السلف ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق من الناس ، ودجالا أفّاكا كافرا عند أعدائه ، ومبتدعا مضلا محققا بارعا عند طوائف من عقلاء الفضلاء ، وحامل راية الإسلام ، وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عموم عوام أصحابه اه». وهذه الكلمات نقلها السخاوي عنه أيضا في (الإعلان بالتوبيخ) ومن الخطأ الفاحش عزوها إلى (قمع المعارض) للسيوطي اغترارا بوضع رقم التعليق في (القول الجلي) غلطا عند كلمة (قمع المعارض) مع تصحيف (زغل العلم) إلى (رجل العلم) بعد أسطر في الطبعتين مع أن أصل التعليق كان على (زغل العلم) المصحف إلى (رجل العلم) كما نبهت على ذلك فيما علقته على الزغل المطبوع وإن لم ينفع تنبيهي عند أناس لا يوقظهم من سباتهم العميق غير نفخة الصور ونسبة (زغل العلم) إلى الذهبي ليست بموضع ريبة أصلا ، وهو من المخطوطات المحفوظة في التيمورية بدار الكتب المصرية وسنأتي إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب بصورة رسالة الذهبي التي بعث بها إلى ابن تيمية ينصحه في شواذه ويكفي ما ذكرناه هنا في تبيين نظر الذهبي لابن تيمية مع أنه من أهل مذهبه المنخدعين به فنسجل للذهبي هذه الحسنات كتسجيلنا لسيئاته المذكورة مراعاة للعدل فيما له وفيما عليه وإيقاظا للمغترين به ، والله ولي الهداية.

(١) لأن ذلك زندقة مكشوفة ومروق ظاهر وإصرار على اعتقاد الإيمان كفرا قبحه الله كيف يعتقد في المشركين أنهم أخف في الكفر من المؤمنين المنزّهين والشيخ الإمام المصنف رضي الله عنه رجل معروف بالورع البالغ واللسان العفيف والقول النزيه لا تكاد تسمع منه في مصنفاته كلمة تشم منها رائحة الشدة ، ولينظر القارئ حاله هذا مع قوله في ابن القيم «ما له إلا السيف» إنه إن فكر في هذا قليلا علم العلم القاطع أن هذا الناظم بلغ في كفره مبلغا لا يجوز السكوت عليه ولا يحسن لمؤمن أن يغضي عنه ولا أن يتساهل فيه.

(٢) قاتله الله ، حديث موضوع يستدل به وشأن هذا الخبر في السقوط فوق أن يقال بين رجاله

فصل

في عدد الجنات

قال : «سبحان من غرست يداه (١) جنة الفردوس ويداه أيضا أتقنت لبنائها ، هي في الجنان كآدم لكنما الجهمي ليس لديه من ذا الفضل شيء فهو ذو نكران». إنما ينكر العضو والجارحة فإن كنت أنت تثبتها فاعرف.

قال : «ولد عقوق عقّ والده ولم يثبت بذا فضلا عن الشيطان».

ما يستحيي يكذب على الناس.

قال : «ولقد روى حقا أبو الدرداء ذاك عويمر أثرا عظيم الشأن يهتز قلب العبد عند سماعه طربا بقدر حلاوة الإيمان ما مثله أبدا يقال برأيه فيه النزول (٢). ثلاث ساعات : فإحداهن ينظر في الكتاب ، الثاني : يمحو ويثبت ما يشاء بحكمة ، والساعة الأخرى إلى عدن أهله هم صفوة الرّحمن والساعة الأخرى إلى هذه السماء يقول هل من تائب ندمان».

الظاهر أنه ما ساق أبوابا في صفة الجنة إلا ليذكر هذا الحديث وأيضا ليسكت الناس بسماع صفات الجنة فيقبلون على هذه القصيدة ويعكفون عليها فيفتنهم ، أسأل الله العافية ويحق له اسم الحشوي لأن الباطل محشو في هذه القصيدة اللحناء.

قال : «وروى ابن ماجه مسندا عن جابر بينا هم في عيشهم إذا بنور ساطع رفعوا رءوسهم فرأوه نور الواحد وإذا بربهم تعالى فوقهم (٣) قد جاء للتسليم وقال السلام

__________________

ـ ضعيف بل بينهم ضعيف ومنكر الحديث وآخر قدري خلا استحالة المتن وابن كثير أهون شرا من الناظم حيث أنكره جدا في جامع المسانيد (قال المنبجي الحنبلي في إثبات المماسة) : قال ابن تيمية والمعروف عند أئمة أهل السنة وعلماء أهل الحديث أنهم لا يمتنعون عن وصف الله أنه يمس ما شاء من خلقه بل يروون في ذلك الآثار ويردون على من نفاه. انتهى ذكره في الأجوبة المصرية). قاتله الله ، ما أجرأه على الله.

(١) خلق الله آدم بعناية خاصة وبدون سببية والد وأم هذا المعنى المجازي يعقله كل من عنده ذوق العربية وأما الخبر الذي يشير إليها الناظم ففي سنده ابن علي زيد بن جدعان لا يحتج به.

(٢) هذا الخبر الموقوف ليس بثابت عن أبي الدرداء فضلا عن ثبوت رفعه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري ، قال البخاري : هو منكر الحديث وقال ابن حبان يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، نقله ابن الجوزي ، ولعلك علمت بذلك مبلغ قيمة ما يحتج به هذا البجباج النفاج.

(٣) قال الذهبي : إسناده ضعيف ، وقال ابن الجوزي : موضوع ، وقال العقيلي : أبو عاصم العباداني ـ في سنده ـ منكر الحديث لا يتابع عليه. وأما فضل الرقاشي في السند فممن لا يكتب حديثه وبمثل هذا الخبر يحتج الناظم في تكييف الرؤية.

عليكم جهرا ومصداقه (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)) [يس : ٥٨] من رد ذا فعلى رسول الله رد». الذي يحمله على محمل صحيح لا يرده والذي يحمله على صفات الأجسام هو الذي يرد ما يجب.

فصل

في يوم المزيد (١)

قال : «فيرون ربهم تعالى جهرة ويحاضر الرّحمن واحدهم محاضرة الحبيب يقول يا ابن فلان ، هل تذكر اليوم الذي قد كنت فيه مبارزا بالذنب قالوا يحق لنا وقد كنا إذا جلساء رب العرش».

فصل

كله فيما للعبد عند ربه في الآخرة ولو كان مفردا بالتصنيف كان حسنا ، ولكن إدخاله في قصيدة انتصب فيها للحكم بين الحشوي وخصومه وإسعار الحرب بينهم لأي معنى؟.

فصل

رجع فيه إلى ما كان عليه مما في نفسه وذكر خصومه وفصول معه ذكر فيها فرق المعادين له.

فصل

ختم به الكتاب فيه شيء يسير ولكن هذا آخر كلامنا في ذلك والله المستعان.

قال المؤلف : شرعت فيه يوم السبت الرابع والعشرين من صفر سنة ٧٤٩ وفرغت منه يوم السبت مستهل ربيع الأول من السنة (٢) والحمد لله وحده

__________________

(١) جمع طرقه أبو بكر بن أبي داود ذلك الكذاب الزائغ وسبق بيان أن ابن عساكر ألّف جزءا في توهين طرقه فتذكر. ولفظ الجلساء لم يقع إلا في بعض الطرق الواهية لحديث يوم المزيد ، راجع جزء ابن عساكر.

خاتمة السيف الصقيل

(٢) فيكون تأليف السبكي لهذا الكتاب قبل وفاة ابن القيم بنحو سنتين. هذا وكنا وعدنا عند الكلام على الذهبي أن نأتي في آخر الكتاب بصورة رسالة بعث بها الذهبي إلى ابن تيمية يحذره فيها عواقب إصراره على الشذوذ عن جمهور العلماء في مسائل أصلية وفرعية وقد ظفرنا بها بخط

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

حسبنا الله ونعم الوكيل.

تمّ السيف الصقيل

__________________

ـ التقي ابن قاضي شهبة منقولا عن خط البرهان ابن جماعة المنقول من خط الحافظ أبي سعيد الصلاح العلائي المنسوخ من خط الشمس الذهبي نفسه ، وخط التقي ابن قاضي شهبة معروف وتوجد كتب بخطه في دار الكتب المصرية والخزانة الظاهرية بدمشق منها قطعة من طبقات الشافعية بدار الكتب المصرية ، ومنها ما انتقاه من التاريخ الكبير للذهبي مما يتعلق بتراجم الشافعية بالخزانة الظاهرية ففي إمكان الباحث الذي لا يعرف خط ابن قاضي شهبة أن يتأكد من خطه المقارنة بين الصورة الزنكوغرافية المنشورة هنا ، المأخوذة عن الرسالة المذكورة المحفوظة بدار الكتب المصرية وبين خطه المحفوظ في الدار والخزانة المذكورتين وإلى تلك الرسالة أشار السخاوي حيث قال في الإعلان بالتوبيخ : «ورأيت له رسالة كتبها لابن تيمية هي في دفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة» وذلك في صدد الدفاع عن الذهبي ردا على من ينسبه لفرط التعصب كما ذكرت في صدر الرسالة عند نشرها مع الزغل قبل سنين.

مقدمة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية

وقبل الرسالة لا بد من ذكر مقدمة هنا ليكون القارئ على بينة من أمر ابن تيمية وهي أن ابن تيمية هذا ولد بحران ببيت علم من الحنابلة وقد أتى به والده الشيخ عبد الحليم مع ذويه من هناك إلى الشام خوفا من المغول ، وكان أبوه رجلا هادئا أكرمه علماء الشام ورجال الحكومة حتى ولّوه عدة وظائف علمية مساعدة له ، وبعد أن مات والده ولّوا ابن تيمية هذا وظائف والده بل حضروا درسه تشجيعا له على المضي في وظائف والده وأثنوا عليه خيرا كما هو شأنهم مع كل ناشئ حقيق بالرعاية. وعطفهم هذا كان ناشئا من مهاجرة ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس ـ وهو الذي تولى الخلافة بمصر فيما بعد ـ ومن وفاة والده بدون مال ولا تراث بحيث لو عيّن الآخرون في وظائفه للقي عياله البؤس والشقاء ، وكان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمد بن الجريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم ، لكن ثناء هؤلاء غرّ ابن تيمية ـ ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم ـ فبدأ يذيع بدعا بين حين وآخر وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها ، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح فتخلوا عنه واحد إثر واحد على توالي فتنه ، كما سبق. والذهبي كان من أشياعه ومتابعيه إلا في مسائل ، لكنه لما وجد أن فتنه تأخذ كل مأخذ ولم يبق معه سوى مقلدة الحشوية والمنخدعين به وهم شباب بدأ يسعى في تهدئة الفتنة ، مرة يكتب إلى أضداده لأجل أن يخففوا لهجتهم معه ـ كما فعل مع السبكي على رواية ابن رجب ولم نطلع على غير صدر الجواب على تقدير صحة ذلك الصدر ـ ومرة يكتب هذه الرسالة إلى ابن تيمية نفسه.

نص رسالة الامام الذهبي

إلى شيخ الإسلام ابن تيمية

نص الرسالة

ولا تخلو قراءة هذا الخط من بعض صعوبة على بعض القراء فإليك الرسالة بالحروف المعتادة مع عنوانها :

رسالة كتب (١) بها الشيخ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية كتبتها (٢) من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة رحمه‌الله وكتبها هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد بن العلائي وهو كتبها من خط مرسلها الشيخ شمس الدين.

الحمد لله على ذلتي ، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي. واحفظ عليّ إيماني. وا حزناه على قلة حزني ، وا أسفاه على السنة وذهاب أهلها. وا شوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء. وا حزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات. آه على وجود درهم حلال وأخ مونس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. وتبا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه. إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك! إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تذكروا موتاكم إلا بخير ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك : إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جهاد. بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد فاز وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم ، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. يا رجل بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام. إياكم والغلوطات في الدين كره نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال : «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» وكثرة

__________________

(١) بتضمين (بعث).

(٢) والكاتب هو التقي ابن قاضي شهبة وقد ذكر في طبقات الشافعية أنه اطلع على مجاميع وفوائد بخط البرهان ابن جماعة.

الكلام بغير زلل تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام ، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب. والله قد صرنا ضحكة في الوجود فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد بعقولنا ، يا رجل قد بلعت (سموم) الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات. وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله في البدن. وا شوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر وخشية بتذكر وصمت بتفكر. وآها لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. بلى عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة. كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما بالله خلونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب وجدّوا في ذكر بدع كنا نعدها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار ، ومن لم يكفر فهو أكفر من فرعون. وتعد النصارى مثلنا ، والله في القلوب شكرك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد. يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال لا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانيا. لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم الفهم ، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل ، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك. إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار. إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار. إلى كم تعظمها وتصغر العباد إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد. إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح ـ والله ـ بها أحاديث الصحيحين. يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار أو بالتأويل والإنكار. أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل. بلى ـ والله ـ ما أذكر أنك تذكر الموت بل يزدري بمن يذكر الموت فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتى أقول : والبتة سكت. فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك عند أعدائك وأعداؤك ـ والله ـ فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر. قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا (فرحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي) فإني كثير العيوب عزيز الذنوب. الويل لي إن أنا لا أتوب ، ووا فضيحتي من علّام الغيوب ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.

وهنا انتهت صورة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية وفيها عبر بالغة. وليكن هذا آخر تكملة الرد على نونية ابن القيم وبها يكون إن شاء الله تعالى (تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم).

لما ذا يقال للناظم ابن القيم

وقد عرف الناظم بابن القيم حيث كان أبوه قيم المدرسة الجوزية الحنبلية التي أنشأها محيي الدين ابن الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي بسوق القمح المعروفة اليوم بالبزورية بدمشق ، والغالب أن يقال له ابن قيم الجوزية لئلا يلتبس بابن القيم الكبير المصري الراوي عن الفخر الفارسي فإنه معمر مقدم ، وبذلك يعلم أن من يقول عنه (ابن القيم الجوزي) واهم وهما قبيحا وإنما هو (ابن قيم الجوزية) كما قلنا ـ ويجد القارئ الكريم في كتابنا هذا الرد على ابن تيمية كما يجد فيه الرد على ابن القيم باعتبار أن الثاني إنما يردد صدى الأول في أبحاثه كلها دون أن تكون له شخصية خاصة بل هو ظل الأول في كل آرائه وجميع أهوائه فانتظمهما الرد ولعل فيما رددنا به عليهما كفاية للمنصف وقطعا لعذر كل متعسف. وأما من تعوّد أن يقول : (عنزة وإن طارت).

خاتمة تكملة الرد

فليس خطابي معه (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤] وكان فراغي من إعادة النظر في الكتاب بمنزلي في آخر العباسية بمصر القاهرة ـ حرسها الله تعالى ـ ضحوة يوم الخميس المصادف لليوم الثالث من رجب سنة ١٣٥٦ وأسأل الله سبحانه أن ينفع به المسلمين وأن يجعله ذخرا لي يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم إنه المجيب البر التوّاب الرّحيم ، وأنا الفقير إلى عفو الله ومسامحته «محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري» خادم العلم بدار السلطنة العثمانية سابقا عفا الله عن سيئاته ورفع منزلته ومنازل ذويه في الآخرة وأغدق عليه وعلى قرابته ومشايخه سحب رحمته ورضوانه وغفر لهم ولسائر المسلمين أجمعين.

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كلمة عن العالم والمتعلم

ورسالة أبي حنيفة إلى البتيّ

والفقه الأبسط ورواتها

الحمد لله ، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد رسول الله ، وآله وصحبه وكل من هدى هديه وتابع نور هداه. أما بعد فإن (العالم والمتعلم) رواية أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، والرسالة التي بعث بها أبو حنيفة إلى عالم البصرة عثمان بن مسلم البتي المتوفى سنة ١٤٣ ه‍ رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة ، والفقه الأكبر رواية أبي مطيع عن أبي حنيفة المعروف عند أصحابنا بالفقه الأبسط ، والفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه ، والوصية في عقيدة أهل السنة رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة فتلك الرسائل هي العمد عند أصحابنا في معرفة العقيدة الصحيحة التي كان عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الغر الميامين ، ومن بعدهم من أهل السنة على توالي السنين.

وإمام الهدى أبو منصور الماتريدي رضي الله عنه وعن سائر الأئمة بني توضيح الدلائل ، على مسائل تلك الرسائل ، كما جرى على ذلك الإمام المجتهد أبو جعفر الطحاوي في كتابه «بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن» رضي الله عنهم المعروف بعقيدة الطحاوي ، فيتبين من ذلك مبلغ أهمية تلك الرسائل عند الباحثين ، وتوجد نسخ مخطوطة منها في مكتبة الفاتح بالآستانة ودار الكتب الملكية بالقاهرة ، وسبق أن نشرت كلها في مجموعة بالآستانة قبل مدة أكثر من قرن كامل فأصبحت تلك الطبعة بنفاد نسخها في حكم ما لم يطبع ، وطبعت الوصية مع شروحها مرات ، وكذلك الفقه الأكبر رواية حماد وشروحه.

وسبق أن طبع (العالم والمتعلم) رواية أبي مقاتل في الهند قبل نحو عشر سنين بمعرفة إخواننا الأعزاء هناك لكنه خلو من السند مع بعض مخالفة لما عندنا من النسخ ، وطبع في الهند وفي مصر شرح الفقه الأكبر رواية أبي مطيع ـ وهو المعروف بالفقه الأبسط تمييزا له عن رواية حماد بن أبي حنيفة ـ لكن نسب الناشر هذا الشرح سهوا إلى الإمام أبي منصور الماتريدي مع ظهور أن الشرح ليس له ، بما جرى من نقول عن كثير ممن تأخر زمنه عن زمنه ، وهو توفي سنة ٣٣٢ ه‍ في رواية قطب الدين الحلبي الحافظ.

والواقع أن هذا الشرح لأبي الليث السمرقندي المتوفى سنة ٣٧٣ ه‍. والطابع لم يتحر صحة الأصل ، فلعل أحد الطابعين يتولى إعادة نشر الشرح من أصل وثيق فيعيد الحق إلى نصابه. وعدة نسخ مخطوطة من الشرح باسم أبي الليث موجودة في دار الكتب المصرية. راجع المجموعتين ٣٤٩ ، ٣٩٣ ورقم ١٩٥ في علم الكلام بدار الكتب المصرية ففيها التصريح بنسبته إلى أبي الليث السمرقندي.

وحيث مسّت الحاجة إلى تحقيق ونشر الثلاثة الأول : العالم والمتعلم ، ورسالة أبي حنيفة إلى البتي في الإرجاء ، والفقه الأبسط ، تقديما للأهم على المهم ، فإني أتحدث أولا عن أسانيد تلك الكتب عند أصحابنا فأقول :

أما كتاب العالم والمتعلم رواية أبي مقاتل عن أبي حنيفة فيرويه الموفق المكي في المناقب (١ ـ ٨٤ و ٩٧) : كتابة عن أبي حفص عمر بن محمد النسفي عن أبي علي الحسن بن عبد الملك النسفي عن جعفر بن محمد المستغفري عن أبي عمرو محمد بن أحمد النسفي عن الإمام أبي محمد الحارثي البخاري عن محمد بن يزيد عن الحسن بن صالح عن ابن مقاتل عن أبي حنيفة (ح) (١) وعن أبي حامد محمد بن أبي الربيع المازني المقري. قراءة عن أبي العلاء حامد بن إدريس عن أبي المعين ميمون بن محمد النسفي ، عن أبي طاهر المهدي بن محمد الحسيني ، عن أبي يعقوب يوسف بن منصور اليساري ، عن أبي الفضل أحمد بن علي السليماني البيكندي ، عن أبي سعيد حاتم بن عقيل الجوهري ، عن الفتح بن أبي علوان ومحمد بن يزيد قالا أنبأنا الحسن بن صالح عن أبي مقاتل عن أبي حنيفة «ح» وبعلو عن أبي حفص

__________________

(١) علامة تحول السند إلى سند آخر.

النسفي عن أبي يعقوب السياري بسنده. وفي نسخة دار الكتب المصرية يرويه ابن قاضي العسكر أبو الحسن علي بن خليل الدمشقي عن أبي الحسن برهان الدين علي بن الحسن البلخي ، عن أبي المعين النسفي ، عن أبيه محمد النسفي ، عن عبد الكريم بن موسى البزدوي النسفي ، عن أبي منصور الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني وعن محمد بن مقاتل الرازي وهما عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله وأبي عصمة عصام بن يوسف البلخيين وهما عن أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عن الجميع.

وقد طالت ألسنة بعض النقلة على أبي مقاتل كطول لسانهم على أبي حنيفة وأصحابه متذرعين في ذلك برميهم إياه بالرأي والإرجاء والتجهم ونحو ذلك مما يعلو تحقيق الحق والباطل منه على مداركهم حتى تراهم يرمونه بالكذب من غير حجة ، وكل من قال بخلاف رأيهم فهو كذاب لقوله بما هو خلاف الواقع في نظرهم على جلالة قدره عند أصحابنا رضي الله عنهم. لا آخذ الله المخلفين على هذا العدوان الصارخ ، فإن كان لا بد من النقل عن غير أصحابنا في التعويل على المرء ، فدونك كلام أبي يعلى الخليلي في (الإرشاد) في أبي مقاتل : (مشهور بالصدق غير مخرج في الصحيح وكان يفتي وله في الفقه محل وتعنى بجمع حديثه خلف بن يحيى قاضي الري) ، عمّر كثيرا وعاش إلى أن مات سنة ثمان ومائتين وما وقع في اللسان من سنة ٢٥٨ ه‍ كتاريخ لوفاته فسبق قلم ، وإقامة ل (٥) بدل الصفر.

وأما رسالة أبي حنيفة إلى الإمام عثمان البتي عالم البصرة فسندها في نسخة دار الكتب المصرية برواية الإمام حسام الدين حسين بن علي بن الحجاج السغناقي ـ شارح الهداية ـ عن حافظ الدين محمد بن محمد بن نصر البخاري عن شمس الأئمة محمد ابن عبد الستار الكردري عن برهان الدين المرغيناني ـ صاحب الهداية ـ عن ضياء الدين محمد بن الحسين بن ناصر الدين اليرسوخي عن علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي ـ صاحب تحفة الفقهاء ـ عن أبي المعين النسفي عن أبي زكريا يحيى بن مطرف البلخي عن أبي صالح محمد بن الحسين السمرقندي عن أبي سعيد سعدان بن محمد بن بكر البستي عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى البلخي عن محمد بن سماعة التميمي عن أبي يوسف عن الإمام الأعظم رضي الله عنهم.

وأما الفقه الأبسط فسنده في نسخة دار الكتب المصرية (١) برواية أبي بكر الكاساني ـ صاحب البدائع عن العلاء السمرقندي ـ صاحب تحفة الفقهاء ، عن أبي المعين النسفي ـ صاحب تبصرة الأدلة ، عن أبي عبد الله الحسين بن علي المعروف بالفضل ـ وله نحو مائة وعشرين مؤلفا إلا أنه متكلم فيه ، عن ابن مالك نصران بن نصر الختلي عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي عن الإمام الأعظم. وفي مشتبه الذهبي رواية نصران الختلي عن علي بن الحسن الغزال. (ح) وروى أبو المعين أيضا عن يحيى بن مطرف عن أبي صالح محمد بن الحسين عن أبي سعيد سعدان بن محمد بن بكر بن عبد الله البستي الجرمقي عن علي بن أحمد الفارسي السابق ذكر سنده ، رضي الله عن الجميع ، وأبو مطيع : تكلموا فيه على عادتهم ورموه بالتجهم والإرجاء والرأي قال الذهبي : كان ابن المبارك يعظمه ويبجله لدينه وعلمه. تفقه به أهل تلك الديار. كان بصيرا بالرأي علامة كبير الشأن اه. قال ابن حجر : روى عنه محمد بن مقاتل وموسى بن نصر وكانا يبجلانه اه. وكانت وفاته سنة ١٩٩ ه‍ عن ٨٤ سنة رحمه‌الله. واختلاف المذاهب يؤدي في بعض النفوس إلى اختلاف القول في المرء وهذا مما يوسف له نسأل الله السلامة.

وأما الفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه فله شروح كثيرة. وقد طبع مرات في كثير من العواصم كما طبع كثير من شروحه ، وأما سنده ففي النسخة الخطية المحفوظة ضمن المجموعة رقم (٢٢٦) بمكتبة شيخ الإسلام العلامة عارف حكمت بالمدينة المنورة زادها الله تكريما ، ففي أولها شد الشيخ إبراهيم الكوراني في الكتاب إلى علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى عن ابن مقاتل (محمد بن مقاتل الرازي) عن عصام بن يوسف عن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه رضي الله عن الجميع ، وفي مكتبة شيخ الإسلام هذه نسختان من الفقه الأكبر رواية حماد قديمتان وصحيحتان فيا ليت بعض الطابعين قام بإعادة طبع الفقه الأكبر من هاتين النسختين مع المقابلة بنسخ دار الكتب المصرية.

__________________

(١) راجع المجموعتين «٦٤ م» و «٢١٥ م» بدار الكتب المصرية ، وأما رواية عبد الله الأنصاري الهروي الفقه الأكبر هذا ، في كتابه الفاروق ففيها تزيد وتحريف الكلمة للإمام الأعظم على هوى الحشوية ومخالفة لروايات الآخرين فسنفضح دخيلة هذه الخيانة في موضعها إن شاء الله تعالى (ز).

ففي بعض تلك النسخ : وأبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماتا على الفطرة ، و (الفطرة) سهلة التحريف إلى (الكفر) في الخط الكوفي ، وفي أكثرها. (ما ماتا على الكفر) ، كان الإمام الأعظم يريد به الرد على من يروي حديث (أبي وأبوك في النار) ويرى كونهما من أهل النار. لأن إنزال المرء في النار لا يكون إلا بدليل يقيني وهذا الموضوع ليس بموضوع عملي حتى يكفي فيه بالدليل الظني.

ويقول الحافظ محمد المرتضى الزبيدي شارح الإحياء والقاموس في رسالته (الانتصار لوالدي النبي المختار). وكنت رأيتها بخطه عند شيخنا أحمد بن مصطفى العمري الحلبي مفتي العسكر العالم المعمر. ما معناه : إن الناسخ لما رأى تكرر (ما) في (ما ماتا) ظنّ أن إحداهما زائدة فحذفها فذاعت نسخته الخاطئة ، ومن الدليل على ذلك سياق الخبر لأن أبا طالب والأبوين لو كانوا جميعا على حلة واحدة لجميع الثلاثة في الحكم بجملة واحدة لا بجملتين مع عدم التخالف بينهم في الحكم. وهذا رأي وجيه من الحافظ الزبيدي إلا أنه لم يكن رأى النسخة التي فيها (ما ماتا) وإنما حكى ذلك عمن رآها ، وإني بحمد الله رأيت لفظ (ما ماتا) في نسختين بدار الكتب المصرية قديمتين كما رأى بعض أصدقائي لفظي (ما ماتا) و (على الفطرة) في نسختين قديمتين بمكتبة شيخ الإسلام المذكورة. وعلي القاري بنى شرحه على النسخة الخاطئة وأساء الأدب سامحه الله. وكتب الرجال شحيحة في ذكر بعض الوفيات ، فعلي بن أحمد الفارسي توفي عن سن عالية سنة ٣٣٥ ه‍ ونصير بن يحيى البلخي من أصحاب أبي سليمان الجوزجاني وأبي مطيع توفي سنة ٢٦٨ ه‍ وقد ناهز التسعين ، ومحمد بن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن توفي سنة ٢٤٨ ه‍ وعصام بن يوسف توفي سنة ٢١٠ ه‍ عن ٨٤ سنة ، ووفيات بعض هؤلاء في نوازل أبي الليث السمرقندي ، وقد وقع في بعض النسخ المطبوعة والمخطوطة وفي بعض ما طبع لي (أبو مقاتل) و (نصر) بدل (ابن مقاتل) و (نصير) غلطا فوجبت الإشارة إلى ذلك ، وهذا ما عنّ لي ذكره قبل تلك الرسائل المروية عن فقيه الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه وعن أصحابه وسائر أئمة الفقه وعلماء هذه الأمة أجمعين.

محمد زاهد الكوثري

العالم والمتعلم

رواية أبي مقاتل عن أبي حنيفة

رضي الله عنهما

بتحقيق

محمد زاهد الكوثري

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال أبو الحسن علي (١) بن خليل الدمشقي المعروف بابن قاضي العسكر أنبأنا أبو الحسن برهان الدين علي بن الحسن البلخي عن أبي المعين ميمون بن محمد المكحولي النسفي عن أبيه عن عبد الكريم بن موسى البزدوي عن أبي منصور محمد الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني ، عن أبي سليمان موسى الجوزجاني وعن محمد بن مقاتل الرازي كلاهما عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وعصام بن يوسف البلخي وهما عن أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن الإمام أبي حنيفة فيما أجابه على أسئلته أنه قال :

* * *

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمد سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وعلى عباد الله الصالحين ، أما بعد فأوصيك بتقوى الله وطاعته ، وكفى بالله حسيبا وجازيا. ورزقنا الله حياة طيبة ومنقلبا كريما ، وقد أجبتك فيما سألت عنه ولو لا كراهية التطويل وأن يكثر لك شرحت لك الأمور التي أجبتك بها. ثمّ لا آلوك ونفسي خيرا والله المستعان وعليه التكلان.

قال المتعلم ـ وهو أبو مقاتل ـ : أتيتك أيها العالم ـ وهو أبو حنيفة ـ لانتفع بمجالستك لما أتيقن من فضلك ، وأرجو أن ينفعني الله تعالى بك. فأفتني عافاك الله إن أنا سألتك ، لتستحق بذلك الثواب من الله سبحانه إنّي ابتليت بأصناف من الناس وسألوني عن أشياء لم أهتد لجوابها ، ولم أترك الحق الذي بيدي. وإن عجزت عن

__________________

(١) روى عنه الحافظ الشريف الدمياطي. وعنه الحافظ عبد القادر القرشي وأسانيد أصحاب الإثبات إليه معروفة (ز).

جوابهم ، وعرفت أنّ للحق من يعبر عنه ، وليس الحق بمنقوض والباطل مزهوق به ، وكرهت أيضا لنفسي الجهالة بأصل الدين وما انتحل من الحق وأن تكون منزلتي في أصل ما أدعي كمنزلة الصبي المتعلم الذي لا علم له بأصل ما يتكلم به ، أو كمنزلة المبرسم أو المجنون الذي يهذي بما ينقض على نفسه ويشين به نفسه ، فأجبت أصلحك الله تعالى أن أكون عالما بأصل ما انتحل من الحق وأتكلم به حتى إذا جاءني مارد يتمرد علي ، أو يريد أن يزيلني عن الحق لم يطق ، وإن جاءني متعلم أوضحت له وأكون على بصيرة من أمري.

وقال العالم : نعم ما رأيت في ابتحاثك عما يغنيك ، واعلم أن العمل تبع للعلم كما أن الأعضاء تبع للبصر ، فالعلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير ، ومثل ذلك الزاد القليل الذي لا بد منه في المفازة مع الهداية بها أنفع من الجهل مع الزاد الكثير ، ولذلك قال الله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزّمر : ٩] و (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرّعد : ١٩].

قال المتعلم : لقد زدتني في طلب العلم رغبة ، فأما قول الأصناف فإني سأبدأ بأدناهم منزلة عندي إن شاء الله تعالى ، فأخبرني بالحجج عليهم رأيت أقواما يقولون لا تدخلن هذه المداخل فإن أصحاب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخلوا في شيء من هذه الأمور وقد يسعك ما وسعهم. وأن هؤلاء زادوني غما ، ووجدت مثلهم كمثل رجل في نهر عظيم كثير الماء كاد أن يغرق من قبل جهله بالمخاضة فيقول له آخر : اثبت مكانك ولا تطلبن المخاضة.

قال العالم رحمه‌الله : أراك قد أبصرت بعض عيوبهم والحجة عليهم ، ولكن قل لهم إذا قالوا ألا يسعك ما وسع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى يسعني ما وسعهم لو كنت بمنزلتهم ، وليس بحضرتي مثل الذي كان بحضرتهم ، وقد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا ، فلا يسعنا أن لا نعلم من المخطئ منا والمصيب؟ وأن لا نذب عن أنفسنا وحرمنا. فمثل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلا يتكلفون السلاح ، ونحن قد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا ، مع أن الرجل إذا كفّ لسانه عن الكلام فيما اختلف فيه الناس وقد سمع ذلك لم يطق أن يكف قلبه ، لأنه لا بد للقلب من أن يكره أحد الأمرين أو الأمرين جميعا. فأما إن يحبهما وهما مختلفان فهذا لا يكون ، فإذا مال القلب إلى الجور أحبّ أهله. وإذا أحبّ القوم كان منهم ، وإذا مال القلب إلى الحق وأهله كان لهم وليا ، وذلك بأن تحقيق الأعمال والكلام لا يكون إلا من قبل القلب ، وذلك أن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لم يكن عند الله مؤمنا. ومن آمن بقلبه ولم يتكلم بلسانه كان عند الله مؤمنا.

قال المتعلم : هو كما قلت ولكن بين لي هل يضرني إذا لم أعرف المخطئ من المصيب؟.

قال العالم رحمه‌الله : لا يضرك في خصلة ، ويضرك بعد في خصال غير واحدة فأما الخصلة التي لا تضرك فإنها أنك لا تؤاخذ بعمل المخطئ ، وأما الخصال التي تضرك فواحدة منها اسم الجهالة يقع عليك لأنك لا تعرف الخطأ من الصواب ، والثانية عسى أن ينزل بك من الشبهة ما نزل بغيرك ولا تدري ما المخرج منها لأنك لا تدري أمصيب أنت أم مخطئ فلا تنزع عنها ، والثالثة لا تدري من تحب في الله ومن تبغض فيه لأنك لا تدري المخطئ من المصيب.

قال المتعلم : لقد كشفت عني الغطاء وجعلت أرى البرة في مذاكرتك : ولكن أرأيت إن كان رجل يصف عدلا ، ولا يعرف جور من يخالف ولا عدله أيسعه ذلك وأن يقال إنه عارف بالحق أو هو من أهله؟.

قال العالم رحمه‌الله : إذا وصف عدلا ، ولا يعرف جور من يخالفه فإنه جاهل بالجور والعدل. واعلم يا أخي أن أجهل الأصناف كلها وأرداهم منزلة عندي لهؤلاء ، لأن مثلهم كمثل أربعة نفر يؤتون بثوب أبيض فيسألون جميعا عن لون ذلك الثوب فيقول واحد من هؤلاء الأربعة : هذا ثوب أحمر ، ويقول الآخر هذا ثوب أصفر ، ويقول الثالث ثوب أسود ، ويقول الرابع ثوب أبيض فيقال له ما تقول في هؤلاء الثلاثة أصابوا أم أخطئوا؟ فيقول : أما أنا فقد أعلم أن الثوب أبيض وعسى أن يكون هؤلاء قد صدقوا ، وكذلك هذا الصنف من الناس يقولون إنا نعلم أن الزاني ليس بكافر. وعسى أن يكون الذين يرون أن الزاني إذا زنى نزع منه الإيمان كما ينزع السربال كان صادقا ولا تكذبه. ويقولون إن من مات ولم يحج فقد أطاق الحج فنحن نسميه مؤمنا ونصلي عليه ونستغفر له ونقضي عنه حجه ولا نكذب من يقول : مات يهوديا أو نصرانيا ، ينكرون قول الشيعة ويقولون قولهم ، وينكرون قول الخوارج ويقولون قولهم. وينكرون قول المرجئة ويقولون قولهم ويرون تحقيق ذلك وتزييف أقوال هؤلاء الأصناف الثلاثة ، ويروون في ذلك روايات يزعمون أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالها. وقد علمنا أن الله عزوجل إنما بعث رسوله رحمة ليجمع به الفرقة ، وليزيد الألفة. ولم يبعثه ليفرق الكلمة ، يحرش المسلمين بعضهم على بعض. ويزعمون أنه إنما جاء الاختلاف بهذه الروايات لأن منها ناسخا ومنسوخا فنحن نروي كما سمعناه. فويح لهم ما أقل اهتمامهم بأمر عاقبتهم حيث ينتصبون للناس فيحدثونهم بما قد علموا أن بعضه منسوخ ، والعمل بالمنسوخ اليوم ضلالة. فيأخذ به الناس فيضلون. وقد نعلم أن

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن ليفسر الآية الواحدة على نوعين فما كان من القرآن ناسخا فسره لجميع الناس ناسخا ، وكذلك المنسوخ فسره لجميع الناس منسوخا. وأما الأخبار والصفات التي قد كانت فإنه ليس في شيء منها منسوخ ، وإنما دخل الناسخ والمنسوخ في الأمر والنهي.

قال المتعلم : جزاك الله عني الجنة ، فنعم المعلم أنت إنك فتحت لي بابا من العلم لم أهتد له. وقد بيّنت لي من أقاويل هؤلاء القوم ما لا أبالي أن لا أزداد بصيرة في ضعف قولهم وعجز رأيهم. ولكن أخبرني بالرد على الصنف الثاني في قولهم إن دين الله كثير ، وهو العمل بجميع ما افترض الله والكف عن جميع ما حرم الله.

قال العالم رضي الله عنه : ألست تعلم أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لم يكونوا على أديان مختلفة لم يكن كل رسول منهم يأمر قومه بترك دين الرسول الذي كان قبله لأن دينهم كان واحدا. وكان كل رسول يدعو إلى شريعة نفسه وينهى عن شريعة الرسول الذي قبله لأن شرائعهم كثيرة مختلفة. ولذلك قال الله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المائدة : ٤٨]. وأوصاهم جميعا بإقامة الدين وهو التوحيد وأن لا يتفرقوا لأنه جعل دينهم واحدا فقال : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) (١) وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشّورى : ١٣].

وقال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)) [الأنبياء : ٢٥]. وقال جلّ وعلا : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الرّوم : ٣٠]. أي لا تبديل لدينه. فالدين لم يبدل ولم يحول ولم يغير ، والشرائع قد غيرت وبدلت لأنه رب شيء قد كان حلالا لأناس قد حرمه الله عزوجل على آخرين. ورب أمر أمر الله به أناسا ونهى عنه آخرين. فالشرائع كثيرة مختلفة. والشرائع هي الفرائض مع أنه لو كان العمل بجميع ما أمر الله به والكف عن جميع ما نهى الله عنه دينه لكان كل من ترك شيئا مما أمر الله تعالى به أو ركب شيئا مما نهى الله عنه تاركا لدينه ولكان كافرا. وإذا صار كافرا ذهب الذي بينه وبين المسلمين من

__________________

(١) وللدين إطلاق يشمل الأحكام العلمية كقوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) [التّوبة : ١٢٢] وقوله عليه‌السلام : «إذا أراد الله بعبد خيرا فقّهه في الدين» فالدين الاستسلام لحكم الدليل القائم. فدليل الاعتقاد قائم دائما فيستسلم له دائما ودليل الأحكام العملية قابل للنسخ فما لم يقم دليل للنسخ فهو قائم الحكم وكذا الناسخ (ز).

المناكحة والموارثة واتباع الجنائز وأكل الذبائح وأشباه هذا لأن الله تعالى أوجب ذلك كله بين المؤمنين من أجل الإيمان الذي به حرم الله تعالى دماءهم وأموالهم إلا بحدث. وإنما أمر الله تعالى المؤمنين بالفرائض بعد ما أقروا بالدين فقال سبحانه : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١]. وقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) [الأحزاب : ٤١] وأشباه هذا. فلو كانت هذه الفرائض هي الإيمان لم يسمهم مؤمنين حتى يعملوا بها وقد فصل الله تعالى الإيمان من العمل فقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة : ٢٥]. وقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [البقرة : ١١٢] أي مع إيمانه. وقال : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩] فجعل الإيمان غير العمل. فالمؤمنون من قبل إيمانهم بالله يصلون ويزكون ويصومون ويحجون ويذكرون الله وليس من قبل صلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجهم بالله يؤمنون. وذلك بأنهم آمنوا ثم عملوا فكان عملهم بالفرائض من قبل إيمانهم بالله. ولم يكن إيمانهم من قبل عملهم بالفرائض. ومثل ذلك أن الرجل إذا كان عليه الدين وهو يقر بالدين ثم يؤدي. وليس يؤدي ثم يقر بالدين. وليس إقراره من قبل أدائه ولكن أداؤه من قبل إقراره. والعبيد من قبل إقرارهم لمواليهم بالعبودية يعملون لهم. وليس من قبل عملهم يقرون لهم بالعبودية. وذلك أنه كم من إنسان يعمل لآخر. ولا يكون بذلك مقرا له بالعبودية. ولا يقع عليه اسم الإقرار بالعبودية. وآخر قد يكون مقرا بالعبودية ولا يعمل فلا يذهب عنه اسم إقراره بالعبودية.

قال المتعلم : لحسن ما فسرت ولكن أخبرني ما الإيمان؟

قال العالم رضي الله عنه : الإيمان هو التصديق والمعرفة واليقين والإقرار والإسلام ، والناس في التصديق على ثلاثة منازل ، فمنهم من يصدق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه ومنهم من يصدق بلسانه ويكذب بقلبه ومنهم من يصدق بقلبه ويكذب بلسانه.

قال المتعلم : لقد فتحت لي مسألة لم أهتد إليها فأخبروني عن أهل هذه المنازل أهم عند الله مؤمنون؟

قال العالم رحمه‌الله : من صدق بالله وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه فهو عند الله وعند الناس مؤمن. ومن صدق بلسانه وكذب بقلبه كان عند الله كافرا وعند الناس مؤمنا ، لأن الناس لا يعلمون ما في قلبه. وعليهم أن يسموه مؤمنا بما ظهر لهم من

الإقرار بهذه الشهادة وليس لهم أن يتكلفوا علم ما في القلوب. ومنهم من يكون عند الله مؤمنا وعند الناس كافرا وذلك بأن الرجل يكون مؤمنا بالله ويظهر الكفر في حالة التقية بلسانه فيسميه من لا يعرف أنه يتقي كافرا وهو عند الله مؤمن.

قال المتعلم : لقد وضحت عدلا. ولكن أراك قد كثرت الإيمان في قولك إن الإيمان هو التصديق والمعرفة والإقرار والإسلام واليقين.

قال العالم رحمه‌الله : أصلحت الله لا تكونن منك العجلة ، وتثبت في الفتيا وإن أنكرت شيئا مما أذكره لك فسل عن تفسيره إن كنت مناصحا. فربّ كلمة يسمعها الإنسان فيكرهها فإذا أخبر بتفسيرها رضي بها. ولا تكونن كالذي يسمع الكلمة فيكرهها ثم يتفوه بها إرادة الشين فيذيعها بين الناس. ولا يقول عسى أن يكون لهذه الكلمة تفسير ووجه هو عدل ولا أعلمه أفلا أسأل صاحبي عن تفسيرها أو لعلها كلمة جرت على لسانه ولم يتعمد لها فينبغي لي أن أتثبت ولا أفضح صاحبي ولا أشينه حتى أعلم ما وجه كلامه.

قال المتعلم : ثبّتك الله ووفقك وأدام لك صالح الذي أعطاك قد عرفت الذي قلت : فلا تؤاخذني بما كان مني إني متعلم ولكن أخبرني عما وصفت من التصديق والمعرفة والإقرار والإسلام واليقين ما منزلتهن وتفسيرهن عندك؟.

قال العالم رحمه‌الله : إن هذه أسماء مختلفة ومعناها واحد هو الإيمان وحده وذلك بأن يقر بأن الله ربه ويصدق بأن الله ربه ويتيقن بأن الله ربه ويعرف بأن الله ربه فهذه أسماء مختلفة ومعناها واحد كالرجل يقال له يا إنسان ويا رجل ويا فلان وإنما يعني القائل بها واحدا وقد دعاه بأسماء مختلفة.

قال المتعلم : رحمك الله لو لا ما أعرف من نفسي من قلة العلم وعجز الرأي لم أقصد إليك. فإن رأيت مني ما تكره ودخلت عليك مئونة فلا تلمني. فإن مئونة معالجة مرض المريض على الطبيب ومئونة عمى الأعمى على البصير كذلك ينبغي للعالم أن يحتمل مئونة الجاهل. وقد عرفت أن من الكلام كلاما يفزع منه الجاهل إذا سمعه فإذا فسر له اطمأن. ولحسن ما فسرت الإيمان والتصديق واليقين والإخلاص ولكن أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول : إن إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل. وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله عزوجل منا.

قال العالم رضي الله عنه : قد علمت أنهم كانوا أطوع لله منا وقد حدثتك أن الإيمان غير العمل فإيماننا مثل إيمانهم لأن صدقنا من وحدانية الرب وربوبيته وقدرته

وبما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل فمن هاهنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة لأننا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب آيات الله ولم نعاينه نحن.

قال المتعلم : جعلك الله من الفائزين ما أحسن ما وصفت وقد عرفت الآن أن إيماننا مثل إيمان الملائكة وتصديقنا مثل تصديقهم ويقيننا مثل يقينهم ولكن أخبرني من أين هم أشد خوفا وأطوع لله منا؟ ومن أين قالت الجهال إذا رأوا من إنسان زلة أو جزعا عند مصيبة أو جبنا من عدو أو حرصا على الهوى هذا من ضعف اليقين.

قال العالم رحمه‌الله : أما قول الجهّال هذا من ضعف اليقين فإنما قالوا ذلك لجهالتهم بتفسير اليقين. واليقين بالشيء هو العلم بالشيء حتى لا يشك فيه فليس أحد من أهل الشهادة يشك في الله وكتبه ورسله ، وإن ركب ما ركب وإنما نقيس أمر الناس بأمر أنفسنا. لأنه ربما كانت منا الزلة أو الجزع عند المصيبة أوجبن من عدو فلا يدخل علينا شك في الله ولا في شيء مما جاء من عند الله فغيرنا عندنا بمنزلة أنفسنا. وأما قولك من أين هم أشد خوفا أو أطوع لله منا فذلك لخصال فواحدة منها أنهم كما فضلوا بالنبوة والرسالة فضلوا كذلك بالخوف والرعبة وجميع مكارم الأخلاق على من سواهم ، والخصلة الأخرى أنهم عاينوا من الملائكة والعجائب ما لم نعاين ، والخصلة الثالثة أنهم كانوا لا يجزعون عند المصيبة ، والرابعة أنهم كانوا يعاينون ما ينزل بغيرهم من العقوبة على المعصية وكان ذلك أيضا مما يحجزهم عن المعاصي.

قال المتعلم : لقد وقفت على ما وصفت فلم تزل تصف عدلا وتقول عرفا ولكن أحب أن تأتيني بقياس فيما وصفت من يقيننا ويقينهم وخوفنا وخوفهم وجرأتنا وجرأتهم كيف ذلك؟ فإن الجاهل إذا كان مهتما بأمر عاقبته ويريد أن يتعلم ووصفت له أمرا لم يفطن له فأثبته لقياس كان أجدر أن يفطن له.

قال العالم رحمه‌الله : نعم ما رأيت في طلب القياس ، وهكذا يصنع من أراد أن ينتفع بالمذاكرة فيما بينه وبين صاحبه إذا لم يعرف ما قيل له التمس القياس ، واعلم أن القياس الصواب يحقق لطالب الحق حقه ، ومثل القياس مثل الشهوة العدول لصاحب الحق على ما يدعي من الحق ولو لا إنكار الجهال للحق لم يتكلف العلماء القياس والمقايسة. فأما ما طلبت من القياس في أن يقيننا ويقين الملائكة واحد وخوفهم أشد من خوفنا بأنه كيف يكون ذلك؟ فأخبرك أن القياس في ذلك كرجلين عالمين بالسباحة لا يفوق أحدهما صاحبه في شيء من الأمور فانتهيا إلى نهر كثير

الماء شديد الجرية فأحدهما على دخوله أجرأ والآخر أجبن أو كرجلين بهما مرض واحد وأتيا بدواء واحد شديد المرارة فأحدهما على شربة أجرأ والآخر أجبن.

قال المتعلم : لحسن ما فسرت لكن أخبرني إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم ، فإن كان ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم فما فضلهم علينا؟ وقد استوينا في الدنيا بالإيمان واستوينا في الآخرة في ثواب الإيمان فإن كان ثواب إيماننا دون ثواب إيمانهم أليس هذا ظلما ، إذ كان إيماننا مثل إيمانهم ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم.

قال العالم رضي الله عنه : لقد أعظمت المسألة ، ولكن تثبت في الفتيا ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم ، لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل؟ ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة. لأن الله تعالى كما فضّلهم بالنبوة على الناس كذلك فضّل كلامهم وصلاتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء ، ولم يظلمنا ربنا إذ لم يجعل ثوابنا مثل ثوابهم وذلك أنه كان إنما يكون الظلم لو نقصنا حقنا فأسخطنا. فأما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا وأعطانا حتى أرضينا ، فإنّ ذلك ليس بظلم ، والأنبياء والرسل لهم الفضل في الدنيا على جميع الناس. لأنهم هم القادة ، وهم أمناء الرّحمن. ولا يدانيهم أحد من الناس. في عيادتهم وخوفهم وخشوعهم وتحملهم المؤنات في ذات الله تعالى وكذلك إنما أدرك الناس بإذن الله الفضل بهم. فلهم مثل أجور من يدخل الجنة بدعائهم.

قال المتعلم : لقد وصفت العدل فأوضحت فجزاك الله الجنة ولكن أخبرني هل تعلم من المعاصي شيئا يعذب الله عليه (البتة) غير الشرك أو تزعم أنها كلها مغفورة فإن زعمت أن بعضها مغفور فما المغفور منها؟.

قال العالم رضي الله عنه : ما أعلم شيئا من المعاصي يعذب الله عليه غير الشرك وما أستطيع الشهادة على أحد من أهل المعاصي من أهل القبلة أن الله يعذبه البتة عليها غير الإشراك بالله. وقد علمت أن بعضها مغفور ، ولا أعرفها لقول الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النّساء : ٣١] فلست أعرف جميع الكبائر ولا السيئات التي تغفر والتي لا تغفر لأني لا أدري لعل الله يغفر ما دون الشرك من المعاصي كلها لأنه قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النّساء : ٤٨]. فلست أدري لمن يشاء المغفرة منهم ولمن لا يشاء.

قال المتعلم : ألست تدري أنه لعل الله يغفر للقاتل ويعذب صاحب النظرة أو ليسا عندك بمنزلة واحدة في الرجاء لهما؟.

قال العالم رحمه‌الله : قد أعلم أنه إن كان الله يغفر للقاتل فإنّ صاحب النظرة أجدر أن يغفر له ، وإن عذب على النظرة فهو على القتل أجدر أن يعذّب ، لأنه تعالى قال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] وصاحب النظرة إذا لم يقتل كان أتقى من القاتل ، وأما ما ذكرت من الرجاء لهما فإنّهما لا يستويان عندي لأني لصاحب الذنب الصغير أرجى مني لصاحب الذنب الكبير ، والقياس في ذلك رجلان ركب أحدهما البحر والآخر ركب نهرا صغيرا ، وأنا أتخوف عليهما الغرق ، وأرجو لهما النجاة جميعا غير أني على صاحب البحر أخوف أن يغرق مني على صاحب النهر الصغير ، وأنا لصاحب النهر الصغير أرجى بالنجاة مني لصاحب البحر ، وكذلك أنا على صاحب الذنب الكبير أخوف مني لصاحب الذنب الصغير ، وأنا لصاحب الذنب الصغير أرجى مني لصاحب الذنب الكبير وأنا في ذلك أرجو لهما وأخاف عليهما على قدر أعمالهما.

قال المتعلم : ما أحسن ما تقيس ولكن أخبرني عن الاستغفار لصاحب الكبيرة أفضل أو الدعاء عليه أو أنت بالخيار فيما بين الدعاء عليه باللعنة والاستغفار فبيّن لي هذا كله.

قال العالم رضي الله عنه : الذنب على منزلتين غير الإشراك بالله تعالى فأي الذنبين ركب هذا العبد فإنّ الدعاء له بالاستغفار أفضل وإن دعوت عليه باللعنة لم تأثم ، وذلك بأنه إذا ركب ذنبا منك وعفوت عنه ولم تدع عليه كان أفضل وإن ركب ذنبا فيما بينه وبين خالقه بعد أن كان لم يشرك بالله فرحمته ودعوت له بالمغفرة لحرمة الشهادة كان هذا أفضل وإن دعوت عليه بالهلاك لم تأثم. وذلك بأنك تقول يا رب خذه بذنبه ، وإنما تكون آثما إذا أنت قلت يا رب خذه بغير ذنب ، فالاستغفار أفضل لخصلتين أما إحداهما فلأنه مؤمن ، والأخرى لأنك لا تستيقن أنّ الله معذبه ، ولو استيقنت أن الله معذبه لكان حراما عليك الاستغفار له ، وقد نهى الله عزوجل أن يستغفر لمن أوجب له النار ، والذي يستغفر الله لمن قال الله أنه يعذبه فيسأل ربه أن يخلف قوله كالذي يقول : يا رب لا تمتني واحدة ، وقد قال الله عزوجل : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] فالدعاء لأهل هذه الشهادة بالمغفرة أفضل لحرمة هذه الشهادة والإقرار بها ، لأنه ليس بشيء يطاع الله فيه أفضل من الإقرار بهذه الشهادة ، وجميع ما أمر الله تعالى به من فرائضه في جنب الإقرار بهذه الشهادة أصغر من البيضة

في جنب السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهنّ. فكما أن ذنب الإشراك أعظم كذلك أجر الشهادة أعظم ، وقد ذكر الله عزوجل في تعظيم ذنب الإشراك ما لم يذكره في تعظيم شيء من الأعمال السيئة ، فإنه قال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. ولم يقل مثل ذلك في شيء من الأعمال السيئة. وقال تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحجّ : ٣١] وقال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)) [مريم : ٩٠ ، ٩١] ولم يقل شيئا من هذه الآيات في القتل وما هو دونه.

قال المتعلم : ما تزيدني إلا رغبة في مذاكرتك فجزاك الله عن جميع المؤمنين خيرا ما أحسن قولك ورأيك وسيرتك في محسنهم ومسيئهم! وأعرفك بفضلهم وأرحمك بهم! ولكن أخبرني هل يفضل أهل العدل بعضهم بعضا في قولهم في أهل القبلة؟

قال العالم رضي الله عنه : أما أهل العدل فقولهم في تعظيم حرمات الله واحد غير أن بعضهم أفضل من بعض في العلم والحجج في تعظيم حرمات الله تعالى والدعاء إليه وتحمل المؤنات فيه وشدة الاهتمام بفساد الأمة والبحث عن تعظيم حرماتهم والذب عنهم كمثل عسكر بحضرة العدو ، وقد اجتمعت كلمتهم وأيديهم على عدوهم غير أن بعضهم يفوق بعضا في العلم بالقتال والحروب والمكايدة وبذل السلاح والمال والتحريض للأصحاب على القتال.

قال المتعلم : لعمري ما أعرف من القياس (أوضح من هذا) ولكن أخبرني هل يكون المؤمن إذا ارتكب الكبائر لله عدوا؟.

قال العالم رضي الله عنه : إن المؤمن لا يكون لله عدوا وإن ركب جميع الذنوب بعد أن لا يدع التوحيد. وذلك بأن العدو يبغض عدوه ويتناول عدوه بالمنقصة والمؤمن قد يرتكب العظيم من الذنب. والله مع ذلك أحب إليه مما سواه وذلك أنه لو خيّر بين أن يحرق بالنار أو يفتري على الله من قلبه لكان الإحراق بالنار أحب إليه من ذلك.

قال المتعلم : إن كان الله أحب إليه مما سواه فلم يعصيه؟ وهل يكون أحد يحب أحدا فيعصيه فيما يأمره؟.

قال العالم رحمه‌الله : نعم قد يحب الولد والده وربما عصاه ، وهذا المؤمن : الله أحب إليه مما سواه وإن عصاه ، وإنما يعصيه لأنّ الشهوة ظاهرة غالبة ، وإنما تغلب عليه الشهوات فإنه ربما كان الرجل عاملا لسلطان فينزع عن عمله فيعذب بأنواع من العذاب ثم إذا ترك رجع إلى عمله إن قدر عليه ، والمرأة تلقى ما تلقى في نفسها ثم إذا قامت طلبت الولد.

قال المتعلم : قلت ما يعرف من غلبة الشهوة لأنه كم من عابد صرعته الشهوة وآدم وداود عليهما‌السلام منهم (١) ولكن أخبرني عن هذا المؤمن أيركب المعصية وهو يعلم أنه يعذب عليها؟.

قال العالم رحمه‌الله : ما يركبها وهو يعلم أنه يعذب عليها لكنه يركبها لخصلتين أما إحداهما فإنه يرجو المغفرة ، وأما الأخرى فإنه يأمل التوبة قبل المرض والموت. قال المتعلم : أو يقدم الرجل على ما يخاف أن يعذب عليه؟

قال العالم رحمه‌الله : نعم ربما يقدم الرجل على ما يخاف أن يضره من طعام أو شراب أو قتال أو ركوب بحر ، ولو لا ما يرجوه من النجاة من الغرق إذا ركب البحر ، والظفر إذا قاتل ما أقدم على القتال ولا ركب البحر.

قال المتعلم : قد صدقت لأني أعرف من نفسي أني ربما أكلت الطعام يؤذيني فإذا فرغت ندمت ووطنت نفسي على أن لا أعود إليه. فإذا رأيته لم أصبر عنه ، ولكن أخبرني عن الكفر ، فإنّ الكفر له اسم وله تفسير.

قال العالم رحمه‌الله : إن الكفر له اسم وله تفسير وتفسيره الإنكار والجحود والتكذيب. وذلك أن الكفر بالعربية ، والعرب وضعوا اسم الكفر على الإنكار ، والله تعالى إنما أنزل الكتاب بلسان عربي ، ومثل ذلك أنه إذا كان للرجل على آخر دراهم وقد حلّت فتقاضاها فإن أقرّ بالحق ولم يقضه قال صاحبه ماطلني ولا يقول كافرني ، وإن هو أنكرها وجحدها قال كافرني ولم يقل ماطلني ، وكذلك المؤمن إذا ترك فريضة من غير أن يكفر بها سمي مسيئا ؛ وإن تركها كفرا بها سمي كافرا جاحدا بفرائض الله تعالى.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا عدل معروف أن يسمى الرجل جاحدا بما يجحد ومصدقا بما يصدق ، ومسيئا بما يسيء ، ومحسنا بما يحسن. ولكن أخبرني عمن يصف التوحيد غير أنه يقول أنا كافر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) هكذا في الأصل ولو كان المتعلم أرعى للأدب لكان أنسب (ز).

قال العالم رضي الله عنه : هذا لا يكون (١) وإن كان سميناه كافرا بالله كاذبا بما يقول أنه يعرف الله تعالى ويستدل على كفره بالله بكفره بمحمد لأن من كفر بالله كفر بمحمد. وليس من قبل كفره بمحمد كفره بالله كما أن النصارى من كفرهم بالواحد الذي ليس له ولد زعموا أن الله تعالى ثالث ثلاثة. وكذلك اليهود من كفرهم بالغني الذي لا يفتقر والجواد الذي لا يبخل والرب الذي ليس له ولد والملك الذي ليس له شبيه زعموا أنّ الله فقير ويد الله مغلولة وعزير ابن الله والله تعالى على مثال صورة ابن آدم ؛ وكذلك الذين اتخذوا النيران وسجدوا للشمس والقمر. وقد قال الله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) [العنكبوت : ٤٧] وقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)) [النّساء : ٦٥] فمن زعم أنه يعرف الله ويكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم استدللنا على إنكاره للرب بكفره بمحمد. ومثل ذلك لو أن رجلا زعم أنه يطيق أن يحمل عشرين قفيزا. ونحن نراه يعجز عن حمل القفيزين عرفنا أنه إذا عجز عن حمل القفيزين فهو في العشرين أعجز ومثل هذا لو أن رجلا قال : إني أعرف أن الله تعالى حق غير أني لا أقر بأن هذا الإنسان مخلوقه لعرفنا أنه كاذب فيما يزعم لأنه لو كان يعرف الله لعرف أن كل شيء سواه مخلوقه. ومثل ذلك رجل بحضرته السراج ونار ضخمة وهما عنده بمنزلة واحدة في الدنو فزعم أنه يبصر السراج ولا يبصر النار المشتعلة في الحطب الضخم لعرفت أنه كاذب لأنه لو كان يبصر السراج لكان لتلك النار الضخمة أبصر.

قال المتعلم رحمه‌الله : قد فرجت عني ولكن أخبرني عمن يزعم لرسول الله أنا أعرف أنك رسول الله ولكن أشتهي أن أقتلك.

قال العالم رضي الله عنه : هذه من مسائل المتعنتين. وهذا محال لو كان يعرف أنه رسول الله لم يشته قتله ولا موته ولا أذاه. ومثل ذلك كالرجل الذي يزعم لآخر أنك أحب إلي من جميع الناس. ولكن أشتهي أن أقتلك بيدي وآكل لحمك. وليس أحد من الناس يزعم أنه يوحد الله تعالى ويؤمن بمحمد ويتناول رسول الله بمنقصة كأن يزعم أنه كان أعرابيا وكان فقيرا يريد به عيبه وانتقاصه فلو كان يعرف الله ويعرف أن محمدا رسوله لكان الله ورسوله أجل في عينيه من أن يتناول رسوله بذكر شيء يريد به عيبه وانتقاصه. وقد قال الله عزوجل في تعظيم منزلة الرسول : (مَنْ يُطِعِ

__________________

(١) يعني هذا لا يقع ، وإن وقع سميناه كافرا (ز).

الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : ٨٠] لأنه جعل الرسول قائدا لجميع خلقه من الجنّ. والإنس. وأمينا على فرائضه وسننه. ولذلك قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧].

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد أتيتني بالنور فنوّر الله طريقك يوم القيامة ولكن أخبرني عمن يزعم أنه يعرف الله ويقول أنا أشتهي أن أزعم أن لله ولدا.

قال العالم رضي الله عنه : سبحان الله فهل كان هذا وذا إلا واحدا. هذا رأسا ما سألت من قبل من مسائل المتعنتين. ولكن كيف تقول في ميت إنه يحتلم فكم لا يكون ميت يحتلم. فكذلك لا يكون موحد يشتهي أن يقول لله ولد.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري كما قلت إنه من مسائل المتعنتين. وهذا محال من الكلام. ولكن أخبرني عن النفاق اليوم. أليس هو النفاق الأول والكفر اليوم هو الكفر الأول. وكيف النفاق الأول؟.

قال العالم رضي الله عنه : نعم النفاق اليوم هو النفاق الأول والكفر اليوم هو الكفر الأول. كما أن الإسلام اليوم هو الإسلام الأول. فأخبرك عن ذلك النفاق الأول إنما كان التكذيب والجحود بالقلب وإظهار التصديق والإقرار باللسان. وكذلك هو اليوم فيمن كان وقد نعتهم عزوجل في كتابه فقال : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] فقال الله عزوجل ردا عليهم وتكذيبا لهم : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وليس تكذيبهم بأن ما قالوا كذب. ولكن إنما كذبهم بأنهم ليسوا في الإقرار والتصديق كما يظهرون بألسنتهم.

وفيهم قال الله عزوجل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)) [البقرة : ١٤] أي بمحمد وأصحابه بما نظهر لهم بألسنتنا من الإقرار والتصديق.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري عدل معروف ولكن أخبرني من أين سمى الله الناس مؤمنين وكفارا. ومن أين نحن نسميهم مؤمنين وكفارا؟.

قال العالم رضي الله عنه : سماهم مؤمنين وكفارا بما في القلوب لأنه تعالى يعلم ما في القلوب ، ونحن نسميهم مؤمنين وكفارا بما يظهر لنا من ألسنتهم من التصديق والتكذيب والزي والعبادة ، وذلك بأنا لو انتهينا إلى قوم لا نعرفهم غير أنهم في المساجد ، مستقبلين إلى القبلة يصلون سميناهم مؤمنين ، وسلمنا عليهم وعسى أن

يكونوا يهودا أو نصارى ، وكذلك كان المنافقون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان المسلمون يسمونهم مؤمنين بما يظهرون لهم من الإقرار ، وهم عند الله كفار بما في القلوب من التكذيب ، فمن هاهنا أنا نسمي أناسا مؤمنين بما يظهر لنا منهم ، وعسى أن يكونوا عند الله كفارا ، وآخرين نسميهم كفارا بما يظهرون لنا من زي الكفار من غير أن يكون فيهم شيء من زي المؤمنين وعسى أن يكونوا عند الله تعالى مؤمنين من قبل إيمانهم بالله ، ويصلون من غير أن نعلم ذلك منهم. فلا يؤاخذنا الله سبحانه وتعالى بذلك ؛ لأنه لم يكلفنا علم القلوب والسرائر ، وإنما كلفنا ربنا أن نسمي الناس مؤمنين ونحبهم ونبغضهم على ما يظهر لنا منهم ، والله أعلم بالسرائر ، وهكذا أمر الكرام الكاتبين أن يكتبوا ما يظهر لهم من الناس ، وليسوا من القلوب بسبيل لأن ما في القلوب لا يعلمه أحد إلا الله أو رسول يوحى إليه فمن ادعى علم ما في القلوب بغير وحي فقد ادعى علم رب العالمين ، ومن زعم أنه يعلم بما في القلوب وغير القلوب ما يعلم رب العالمين فقد أتى بعظيمة واستوجب النار والكفر.

قال المتعلم رحمه‌الله : قد وصفت العدل. ولكن أخبرني من أين جاء أصل الإرجاء وما تفسيره ومن الذي يؤخر ويرجأ أمره؟.

قال العالم رضي الله عنه : جاء أصل الإرجاء من قبل الملائكة حيث عرض الله عليهم الأسماء ثم قال لهم : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) [البقرة : ٣١] فخافت الملائكة الخطأ إن تكلموا بغير علم تعسفا فوقفت وقالت : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] ولم يبتدعوا. كالرجل الذي يسأل عن الأمر الذي هو به جاهل ، فيتكلم فيه ولا يبالي ، فإن لم يصب فهو مخطئ ، وإن أصاب فهو غير محمود ، لأنه قال تعسفا بغير علم. ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦]. أي لا تقل ما لم تعلمه يقينا وقال : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦]. فلم يرخص لرسوله أن يتكلم أو يعادي أو يقذف إنسانا بالبهتان بالظن من غير يقين. فكيف يصنع أناس يعادون ويعيبون آخرين ، بالظن من غير يقين ، وتفسير الوقوف أنه إذا سئلت عن أمر لا تعلمه من حرام أو حلال أو أنباء من كان قبلنا قلت : الله أعلم به. إذا جاء ثلاثة نفر بحديث لا نعلمه ولا نطيق علم ذلك بالتجارب والمقاييس ترد علم ذلك إلى الله تعالى وتقف. ومن تفسير الإرجاء أنه إذا كنت في قوم على أمر حسن جميل وفارقتهم على ذلك ثم بلغك أنهم صاروا فريقين يقاتل بعضهم بعضا فانتهيت إليهم ، وهم على الأصل الذي فارقتهم عليه وقتل بعضهم بعضا فتسألهم فيقول كل واحد من الفريقين إنه هو المظلوم ، وليس

عليهم ولا لهم شهود من غيرهم ، وقد ترى القتل بينهم وليس المظلوم والظالم منهم يبين ، وهما خصمان لا تجوز شهادة بعضهم على بعض فينبغي لك أن تعلم أنهما ليسا كلاهما بمصيبين ، وقد قتل بعضهم بعضا ، فإما أن يكونا مخطئين أو أحدهما مخطئ والآخر مصيب ، ومن الإرجاء أن ترجئ أهل الذنوب ولا تقول إنهم من أهل النار أو من أهل الجنة فإنّ الناس عندنا على ثلاثة منازل : الأنبياء من أهل الجنة ومن قالت الأنبياء إنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة ، والمنزلة الأخرى للمشركين نشهد عليهم أنهم من أهل النار ، والمنزلة الثالثة للموحدين نقف عليهم فلا نشهد أنهم من أهل النار ولا من أهل الجنة ، ولكنا نرجو لهم ونخاف عليهم ونقول كما قال الله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التّوبة : ١٠٢] فنرجو لهم لأن الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النّساء : ٤٨] ونخاف عليهم بذنوبهم وخطاياهم.

قال المتعلم رحمه‌الله : ما أعدل هذا القول وأبينه وأقربه من الحق ولكن أخبرني هل أحد من الناس توجب له الجنة إن رأيته صوّاما قوّاما غير الأنبياء صلوات الله على نبينا وعليهم ومن قالت له الأنبياء؟.

قال العالم رضي الله عنه : لا أوجب الجنة إلا لمن أوجبه النص ، وكذلك النار.

قال المتعلم رحمه‌الله : فما قولك في أناس رووا : (إن المؤمن إذا زنى خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص ثم إذا تاب أعيد إليه إيمانه (١) أتشك في قولهم أو تصدقهم. فإن صدقت قولهم دخلت في قول الخوارج وإن شككت في قولهم شككت

__________________

(١) أخرجه الحاكم بلفظ قريب من هذا لكن في سنده عبد الله بن الوليد التجيبي وقد ضعفه الدار قطني وقال لا يعتبر بحديثه ، وليّنه ابن حجر ، ولم يدرك ابن حجيرة الكبير ففيه انقطاع ، ولم يشر إلى ذلك الذهبي ، وليس التجيبي ولا ابن حجيرة الصغير بشاميين كما توهم الحاكم على أن حديث أبي ذر «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» وحديث عبادة في المبايعة. وآخره «... ومن فعل شيئا من ذلك ـ أي الزنى والسرقة ـ فعوقب به في الدنيا فهو كفارة ومن لم يعاقب فهو إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عذّبه) في غاية الصحة فلا يناهضهما حديث الحاكم وأما حديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» عن أبي هريرة فمؤول عند الجمهور لمخالفة ظاهر معناه للإجماع والكتاب والسنة على ما في فتح الباري (١٢ ـ ٤٧) على أن في سنده يحيى بن عبد الله بن بكير وهو ممن لا يحتج به أبو حاتم وقد ضعفه النسائي فلا يناهض ما سبق بل أنكر بعض أهل العلم من السلف أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله كما حكى ابن حجر رواية عن ابن جرير الطبري. وأما حديث عكرمة فحديث خارجي فلا يقبل فيما يؤيد به مذهبه (ز).

في أمر الخوارج ، ورجعت عن العدل الذي وصفت وإن كذبت قولهم قالوا أنت تكذب بقول نبي الله عليه الصلاة والسلام فإنهم رووا ذلك عن رجال حتى ينتهي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.

قال العالم رضي الله عنه : أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء ردي عليهم تكذيبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما يكون التكذيب لقول النبي عليه‌السلام أن يقول الرجل أنا مكذب لقول نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما إذا قال الرجل : أنا مؤمن بكلّ شيء تكلم به النبي عليه الصلاة والسلام غير أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتكلم بالجور ولم يخالف القرآن ، فإن هذا القول منه هو التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن ، ولو خالف النبي القرآن ، وتقول على الله غير الحق لم يدعه الله حتى يأخذه باليمين ، ويقطع منه الوتين ، كما قال الله عزوجل في القرآن : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)) [الحاقّة : ٤٤ ـ ٤٧] ونبي الله لا يخالف كتاب الله تعالى ، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله.

وهذا الذي رووه خلاف القرآن (١) لأنه قال الله تعالى في القرآن : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [النّور : ٢] ولم ينف عنهما اسم الإيمان. وقال الله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النّساء : ١٦]. فقوله منكم لم يعن به اليهود ولا النصارى وإنما عنى به المسلمين. فرد كل رجل يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف القرآن ليس ردا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تكذيبا له. ولكن رد على من يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالباطل. والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله عليه‌السلام وكذلك كل شيء تكلم به نبي الله عليه الصلاة والسلام سمعناه أو لم نسمعه فعلى الرأس والعينين. قد آمنا به ونشهد أنه كما قال نبي الله. ونشهد أيضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه ، ولم يقطع شيئا وصله الله. ولا وصف أمرا وصف الله ذلك الأمر بغير ما وصف به النبيّ. ونشهد أنه كان موافقا لله في جميع الأمور. لم يبتدع ولم يتقول على الله غير ما قال تعالى ولا كان من المتكلفين. ولذا قال الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : ٨٠].

__________________

(١) قال الخطيب في (الفقيه والمتفقه) : إذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور. أحدها أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما خلاف العقول فلا. والثاني أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ والثالث ... (ز).

قال المتعلم رحمه‌الله : لحسن ما فسرت. ولكن أخبرني عمن يزعم أن شارب الخمر لا يقبل منه صلاة أربعين ليلة أو أربعين يوما. وبيّن لي ما هذا الذي يبطل الحسنات ويهدمها؟.

قال العالم رضي الله عنه : إني لست أدري تفسير الذي يقولون إنّ الله لا يقبل من شارب الخمر صلاة أربعين ليلة أو يوما ، فلست أكذبهم ما داموا لا يفسرونه تفسيرا لا نعرفه مخالفا للعدل. لأنا قد نعرف أن من عدل الله أن يأخذ العبد بما ركب من الذنب أو يعفو عنه. ولا يأخذه بما لم يرتكب من الذنب ، وأن يحسب له ما أدى إليه من الفرائض ويكتب عليه ذنبه. ومثل ذلك لو أن رجلا أدّى من زكاة ماله خمسين درهما. وقد كان عليه أكثر من ذلك فإنما يؤاخذه الله بما لم يؤد ويحسب له ما قد أدى. وكذلك إذا صام وصلّى وحجّ وقتل فإنه يحسب له حسناته ويكتب عليه سيئاته ولذلك قال الله عزوجل : (لَها ما كَسَبَتْ) [البقرة : ١٣٤] يعني من الخبر (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] يعني من الشر. وقال : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [آل عمران : ١٩٥] وقال : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] وقال : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس : ٥٤] وقال : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطّور : ١٦] وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزّلزلة : ٧ ، ٨] وقال : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)) [القمر : ٥٣]. فهو تبارك وتعالى يكتب الصغير من الحسنات والسيئات ، وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)) [الأنبياء : ٤٧]. فمن قال لا ، بهذا القول فإنه يصف الله تبارك وتعالى بالجور وقد أمن الله الناس من الظلم حيث قال : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الأنبياء : ٤٧](وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس : ٥٤] وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزّلزلة : ٧ ، ٨] ، وقد سمّى نفسه شكورا لأنه يشكر الحسنة. وهو أرحم الراحمين. وأما الحسنات فإنه لا يهدمها شيء غير ثلاث خصال. أما الواحد فالشرك بالله لأن الله تعالى قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥] والأخرى أن يعمل الإنسان فيعتق نسما أو يصل رحما أو يتصدق بمال يريد بهذا كله وجه الله. ثم إذا غضب أو قال في غير الغضب امتنانا على صاحبه الذي كان المعروف منه إليه : ألم أعتق رقبتك؟ أو يقول لمن وصله : ألم أصلك؟ وفي أشباه هذا يضرب به على رأسه. ولذلك قال الله عزوجل : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] والثالثة ما

كان من عمل يرائي به الناس فإن ذلك العمل الصالح الذي راءى به لا يتقبله الله منه فما كان سوى هذا من السيئات فإنه لا يهدم الحسنات.

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد وصفت الذي هو العدل ولكن أخبرني عمن يشهد عليك بالكفر ما شهادتك عليه؟

فقال العالم رضي الله عنه : شهادتي عليه أنه كاذب : ولا أسميه بذلك كافرا ؛ ولكن أسميه كاذبا ؛ لأن الحرمة حرمتان حرمة تنتهك من الله تعالى ؛ وحرمة تنتهك من عبيد الله سبحانه : فالحرمة التي تنتهك من الله عزوجل هي الإشراك بالله والتكذيب والكفر ؛ والحرمة التي تنتهك من عبيد الله ؛ فذلك ما يكون بينهم من المظالم. ولا ينبغي أن يكون الذي يكذب على الله وعلى رسوله كالذي يكذب عليّ لأن الذي يكذب على الله وعلى رسوله ذنبه أعظم من أن لو كذب على جميع الناس ، فالذي شهد علي بالكفر ، فهو عندي كاذب ، ولا يحل لي أن أكذب عليه لكذبه علي ؛ لأن الله تعالى قال : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] قال لا يحملنكم عداوة قوم أن تتركوا العدل فيهم.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذه صفة معروفة ولكن كيف تقول في رجل يشهد على نفسه بالكفر؟.

قال العالم رضي الله عنه : إني أقول ليس ينبغي لي أن أحقق كذبه على نفسه وذلك لأنه لو قال لنفسه إنه حمار لا ينبغي لي أن أقول صدق غير أنه إن قال : إنه بريء من الله أو قال : لا أومن بالله ولا برسوله سميته كافرا وإن سمّى نفسه مؤمنا.

وكذلك إذا وحّد الله وآمن بما جاء من عند الله سميته مؤمنا وإن سمّى نفسه كافرا.

قال المتعلم رحمه‌الله : أراك فيه أحسن قولا منه في نفسه. وأنت أحق بذلك ولكن أخبرني أرأيت إن قال لي : إني بريء من دينك أو مما تعبد؟.

قال العالم رضي الله عنه : إن قال لي هذا لم أعجل ولكني أسأله عند ذلك أتبرأ من دين الله؟ أو تبرأ من الله فأي القولين قاله سميته كافرا مشركا. فإن قال : لا أبرأ من الله ولا أبرأ من دين الله ولكن أبرأ من دينك لأن دينك هو الكفر بالله وأبرأ مما تعبد لأنك تعبد الشيطان. فإني لا أسميه كافرا. لأنه إنما يكذب علي.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري هو قول أهل الورع والتثبت. ولكن أخبرني أليس من أطاع الشيطان وطلب مرضاته فهو كافر وعابد الشيطان؟.

قال العالم رضي الله عنه : أو علمت ما أردت بهذه المسألة أن المؤمن إذا عصى الله تعالى ليس يكون بمعصيته تلك مطيعا للشيطان طالبا لمرضاته يتعمد ذلك وإن وافق عمله للشيطان طاعة ورضا.

قال المتعلم رحمه‌الله : أخبرني عن العبادة ما تفسيرها؟

قال العالم رضي الله عنه : اسم العبادة اسم جامع يجتمع فيه الطاعة والرغبة والإقرار بالربوبية. وذلك أنه إذا أطاع الله العبد في الإيمان به دخل عليه الرجاء والخوف من الله فإذا دخل عليه هذه الخصال الثلاث فقد عبده ولا يكون مؤمنا بغير رجاء ولا خوف ولكنه رب مؤمن يكون خوفه من الله أشد وآخر يكون خوفه أقل. وكذلك من أطاع أحدا رجاء ثوابه أو مخافة عقابه من دون الله فقد عبده. ولو كان العمل بالطاعة وحدها في كل شيء عبادة لكان كل من أطاع غير الله تعالى فقد عبده.

قال المتعلم رحمه‌الله : ما أحسن ما قلت ولكن أخبرني أرأيت من خاف شيئا أو رجا منفعة شيء هل يدخل عليه الكفر؟.

قال العالم رضي الله عنه : الخوف والرجاء على منزلتين وإحدى المنزلتين من كان يرجو أحدا أو يخافه يرى أنه يملك له من دون الله ضرا أو نفعا فهو كافر. والمنزلة الأخرى من كان يرجو أحدا أو يخافه لرجائه الخير أو مخافة البلاء من الله تعالى عسى الله أن ينزل به على يدي آخر أو من سبب شيء فإن هذا لا يكون كافرا لأن الوالد يرجو ولده أن ينفعه ويرجو الرجل دابته أن تحمل له. ويرجو جاره أن يحسن إليه ويرجو السلطان أن يدفع عنه ، فلا يدخل عليه الكفر. لأنه إنما رجاؤه من الله عسى أن يرزقه من ولده أو من جاره ويشرب الدواء عسى الله أن ينفعه به فلا يكون كافرا ، وقد يخاف الشر ويفر منه مخافة أن يبتليه الله به. والقياس في ذلك موسى عليه الصلاة والسلام الذي اصطفاه الله تعالى برسالته وخصه بكلامه إياه حيث لم يجعل بينه وبين موسى رسولا قال : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشّعراء : ١٤] وسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث فرّ إلى الغار فلم يدخل عليهم الكفر. وكذلك أيضا يخاف الرجل من السبع أو الحية أو العقرب أو هدم بيت أو سيل أو أذى طعام يأكله ، أو شراب يشربه ، فلا يدخل عليه الكفر ولا الشك ولكن إنما يدخل الجبن.

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد قلت ما نعرف ، ولكن أخبرني عن المؤمن ما شأنه يهاب هذا المخلوق ما لا يهاب الله؟.

قال العالم رضي الله عنه : ليس شيء أهيب إلى المؤمن من الله ، وذلك لأنه ينزل به المرض الشديد في جسمه أو تنزل به المصيبة الموجعة من الله تعالى ، فلا يقول في سر وعلانية بئس ما صنعت يا رب ، ولا يحدث نفسه بذلك ولا يزداد له إلا ذكرا ، ولو نزل عشر عشير ذلك ، من بعض ملوك الدنيا لتناوله وجوّره بقلبه ولسانه عند أهل ثقته ، حيث لا يسمع ذلك الملك كلامه ، فالمؤمن يراقب الله تعالى في السر والعلانية وفي الحر والبرد ، وملوك الدنيا لا يراقبون في السر والعلانية ، ولا في الكره والرضا ، ولأنه ربما أصابته الجنابة في ليلة باردة فهو يقوم على كره منه حيث لا يعلم أحد ما نزل به غير الله تعالى فيغتسل مخافة من الله أو يصوم في الحر الشديد وقد أصابه الجهد الشديد من العطش وليس بحضرته أحد فهو يراقب الله تعالى ويتصبر ولا يجزع لمخالفته ، والرجل إنما يهاب الملك ما دام بحضرته ، فإذا توارى عنه لم يهبه فمن هاهنا عرفنا بأنه ليس شيء بأهيب إلى المؤمن من الله تعالى.

قال المتعلم رحمه‌الله : قلت لعمري هذا ما نعرفه من أنفسنا. ولكن أخبرني عمن جهل الإيمان والكفر ما هو؟.

قال العالم رضي الله عنه : إن الناس إنما يكونون مؤمنين بمعرفتهم وتصديقهم بالرب جلّ وعلا. ويكونون كفارا بإنكارهم بالرب تعالى. فأما إذا أقروا للرب بالعبودية وصدقوا بوحدانيته وبما جاء منه ولم يعلموا ما اسم الإيمان واسم الكفر لا يكونون بهذا كفارا بعد أن علموا أن الإيمان خير ، والكفر شر ، كالرجل الذي يؤتى بالعسل والصبر. فيذوق منهما ويعلم أن العسل حلو. والصبر مر من غير أن يعلم ما اسم العسل؟ وما اسم الصبر؟ ولا يقال له جاهل بالحلاوة والمرارة. ولكن يقال له جاهل باسمهما. كذلك الذي لا يعلم ما اسم الإيمان والكفر. غير أنه يعلم أن الإيمان خير والكفر شر. فلا يقال له : إنه جاهل بالله ولكن يقال له : إنه جاهل باسم الإيمان والكفر.

قال المتعلم رحمه‌الله : أخبرني عن المؤمن إن عذّب هل ينفعه إيمانه؟ وهل يعذّب بعد إيمانه وفيه الإيمان؟.

قال العالم رضي الله عنه : سألت عن مسائل لم تسأل مثلهن في مسألتك. وأنا أفتيك فيهن إن شاء الله. أما قولك إن عذّب المؤمن فهل ينفعه إيمانه وفيه الإيمان إن عذّب؟ نعم ينفعه إيمانه لأنه يرفع عنه أشد العذاب. وأشد العذاب إنما يكون على الكافر. لأنه لا ذنب أعظم من الكفر. وهذا المؤمن لم يكفر بالله ولكن عصاه في

بعض ما أمر به فيعذّب إن عذّب على ما عمل. ولا يعذّب على ما لم يعمل كالرجل الذي قتل ولم يسرق إنما يؤاخذ بالقتل. ولا يؤاخذ بالسرقة. وكذلك قال الله تعالى : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس : ٥٤]. والمريض ما كان مرضه أقل كان أهون عليه. والذي يعذّب في الدنيا ويرفع عنه أشد العذاب ويعذّب بلون واحد فهو أهون عليه من أن يعذّب بلونين. وكذلك المؤمن إن عذّب على ذنب واحد فهو أهون من أن يعذّب على ذنبين.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري ما نعرف من العدل ولكن أخبرني من أين صار كفر الكفار واحدا وعبادتهم كثيرة مختلفة من حيث صار إيمان أهل السماء ومن آمن من أهل الأرض إيمانا واحدا وفرائضهم كثيرة مختلفة.

قال العالم رضي الله عنه : وذلك لأن فرائض الملائكة غير فرائضنا. وفرائضهم وفرائض الأولين غير فرائضنا. وإيمان أهل السماء وإيمان الأولين وإيماننا واحد لأننا آمنا وعبدنا الرب عزوجل وحده وصدقنا جميعا ، فكذلك الكفار كفرهم وإنكارهم واحد وعبادتهم مختلفة ، وذلك لأنك لو سألت اليهودي من تعبد؟ يقول الله أعبد وإذا سألته عن الله قال هو الذي عزير ولده وهو الذي على مثال البشر ، ومن كان بهذه الصفة لم يكن مؤمنا بالله. وإذا سألت النصراني من تعبد؟ قال الله الله أعبد. وإذا سألته عن الله قال هو الذي في جسد عيسى وفي بطن مريم. يجتن في شيء ويحيط به شيء ، ويلج في شيء ، ومن كان بهذه الصفة لم يكن مؤمنا بالله. وإذا سألت المجوسي من تعبد؟ يقول الله أعبد فإذا سألته عن الله؟ قال هو الذي له الشريك والولد والصاحبة ومن كان بهذه الصفة لم يكن مؤمنا بالله فجهالة هؤلاء كلهم بالرب جلّ وعز وإنكارهم واحد. ونعوتهم وصفاتهم وعبادتهم كثيرة مختلفة. كمثل ثلاثة نفر قال أحدهم : إن عندي لؤلؤة بيضاء ليس في العالم مثلها ، فأخرج حبة من عنب سوداء فحلف أنها لؤلؤة. وخاصم الناس في ذلك. وقال آخر : عندي اللؤلؤة المرتفعة التي ليس في العالم مثلها ، فأخرج سفر جلة فحلف على ذلك وخاصم الناس أنها لؤلؤة. وقال الثالث : اللؤلؤة اليتيمة هي التي عندي ، وأخرج قطعة من مدر فجعل يحلف على ذلك ، ويخاصم الناس عليها أنها لؤلؤة ، وكل هؤلاء اجتمعت جهالتهم باللؤلؤة لأنه ليس أحد منهم يعرف اللؤلؤة ، وصفاتهم كثيرة مختلفة ، فتعرف بذلك أنك لا تعبد موصوفهم ولا معبودهم لأنهم يصفون الثلاثة والاثنين وإنما يعبدون الذي يصفونه ، وأنت تصف الواحد فمعبودك غير معبودهم ، ومعبودهم غير معبودك ولذلك قال الله عزوجل : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣)) [الكافرون : ١ ـ ٣].

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد عرفت الذي وصفت أنه كما وصفت ولكن أخبرني من أين يكون هؤلاء جهّالا بالرب لا يعرفونه وهم يقولون الله ربنا؟.

قال العالم رضي الله عنه : قد أعرف الذي يقولون ، إنهم يقولون إن الله ربنا وهم في ذلك لا يعرفونه لقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥)) [لقمان : ٢٥] يقول تعالى : أكثرهم يقول هذا القول بغير علم كالصبي الذي ولدته أمه أعمى فيذكر الليل والنهار والصفرة والحمرة من غير أن يعرف شيئا من ذلك. وكذلك الكفار قد سمعوا اسم الله تعالى من المؤمنين وهم يقولون ما سمعوا من غير أن يعرفوه ، ولذلك قال الله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [النّحل : ٢٢].

قال المتعلم رحمه‌الله : هو كما وصفت لكن أخبرني عن الرسول أمن قبل الله تعالى عرفته. أو تعرف الله من قبل الرسول. فإن زعمت أنك إنما تعرف الرسول من قبل الله فكيف يكون ذلك؟ والرسول هو الذي يدعوك إلى الله تعالى.

قال العالم رضي الله عنه : نعم نعرف الرسول من الله تعالى لأن الرسول وإن كان يدعو إلى الله تعالى ، ولم يكن أحد يعلم بأن الذي يقول الرسول حق يقذف الله في قلبه التصديق والعلم بالرسول ، ولذلك قال الله عزوجل : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ولو كانت معرفة الله من قبل الرسول لكانت المنّة على الناس في معرفة الله من قبل الرسول لا من قبل الله ولكن المنّة من الله على الرسول في معرفة الرب عزوجل والمنّة لله على الناس بما عرفهم الله من التصديق بالرسول بل ينبغي أن نقول إن العبد لا يعرف شيئا من الخير إلا من قبل الله.

قال المتعلم رحمه‌الله : قد فرجت عني ولكن أخبرني عن تفسير الولاية والبراءة هل يجتمعان في إنسان واحد.

قال العالم رضي الله عنه : الولاية هي الرضا بالعمل الحسن ، والبراءة هي الكراهية على العمل السيئ ، وربما اجتمعا في إنسان واحد ، وربما لم يجتمعا فيه فهو المؤمن الذي يعمل صالحا وسيئا ، وأنت تجامعه وتوافقه على العمل الصالح وتحبه عليه وتخالفه وتفارقه على ما يعمل من السيئ وتكره له ذلك ، فهذا ما سألت عن الولاية والبراءة يجتمعان في إنسان واحد. والذي فيه الكفر ليس فيه شيء من الصالحات ، وأنك تبغضه وتفارقه في جميع ذلك والذي تحبه ولا تكره منه شيئا فهو الرجل المؤمن الذي قد عمل بجميع الصالحات واجتنب القبيح فأنت تحب كل شيء منه ، ولا تكره منه شيئا.

قال المتعلم رحمه‌الله : ما أحسن ما قلت. ولكن أخبرني عن كفر النعم ما هو.

قال العالم رضي الله عنه : كفر النعم أن ينكر الرجل أن تكون النعم من الله ، فإن أنكر شيئا من النعم فزعم أنها ليست من الله فهو كافر بالله ، لأن من كفر بالله كفر بالنعم ، قال الله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [النّحل : ٨٣] يقول إن الكفار يعرفون أن الليل ليل ، والنهار نهار ، ويعرفون الصحة والغنى ، وجميع ما يتقلبون فيه من السعة والراحة أنها نعمة غير أنهم ينسبون ذلك إلى معبودهم الذي يعبدونه ، ولا ينسبونه إلى الله الذي منه النعم ، ولذلك قال الله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [النّحل : ٨٣] أي ينكرون أن تكون من الله الواحد الذي ليس كمثله شيء.

والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

تمّ العالم والمتعلم ولله الحمد

رواية أبي مطيع عن أبي حنيفة

رضي الله عنهما

هو الفقه الأكبر رواية أبي مطيع عرف بالفقه الأبسط تمييزا له عن الفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه ، وراويه أبو مطيع هو الحكم بن عبد الله البلخي صاحب أبي حنيفة حدّث عن ابن عون وهشام بن حسان وعنه أحمد بن منيع وخالد بن سالم الصفار وجماعة تفقه به أهل تلك الديار ، قال الذهبي : كان بصيرا بالرأي علامة كبير الشأن ولكنه واه في ضبط الأثر وكان ابن المبارك يعظمه ويجله لدينه وعلمه اه. وطال كلام النقلة فيه يرمونه بالإرجاء والتجهم والرأي راجع الميزان.

توفي سنة ١٩٩ ه‍ عن أربع وثمانين سنة تغمده الله برضوانه (ز).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. روى الإمام أبو بكر محمد بن محمد الكاساني. عن أبي بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي. قال : أخبرنا أبو المعين ميمون بن محمد المكحولي النسفي أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي الكاشغري الملقب بالفضل. قال : أخبرنا أبو مالك نصران بن نصر الختلي عن علي بن الحسن بن محمد الغزالي عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارسي حدثنا نصير بن يحيى الفقيه. قال : سمعت أبا مطيع الحكم بن عبد الله البلخي يقول :

سألت أبا حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله تعالى عنه وعنهم عن الفقه الأكبر (١) فقال : أن لا تكفر أحدا من أهل القبلة بذنب. ولا تنفي أحدا من الإيمان. وأن تأمر بالمعروف. وتنهى عن المنكر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك. ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا توالي أحدا دون أحد ، وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله تعالى.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.

قال أبو مطيع : قلت : فأخبرني عن أفضل الفقه. قال أبو حنيفة : أن يتعلم الرجل الإيمان بالله تعالى والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأمة واتفاقها. قال : فأخبرني عن الإيمان. فقال (٢) : حدثني علقمة بن مرثد عن يحيى بن يعمر قال : قلت

__________________

(١) يريد به العلم المتعلق بتصحيح الاعتقاد. وهو أفضل الفقه عنده ، والفقه على إطلاقه يشمل ما يقوّم الاعتقاد والعمل والخلق عند أبي حنيفة ، ولذا يعرف الفقه بأنه معرفة النفس ما لها وما عليها (ز).

(٢) ولأبي حنيفة أسانيد في هذا الحديث منها روايته عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود (ز).

لابن عمر رضي الله عنهما أخبرني عن الدين ما هو؟ قال : عليك بالإيمان فتعلمه. قلت : فأخبرني عن الإيمان ما هو؟ قال : فأخذ بيدي فانطلق بي إلى شيخ فأقعدني إلى جنبه فقال : إن هذا يسألني عن الإيمان كيف هو؟ فقال : والشيخ كان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عمر : كنت إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا الشيخ معي إذ دخل علينا رجل حسن اللمة متعمما نحسبه من رجال البادية فتخطى رقاب الناس فوقف بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ما الإيمان؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وتؤمن بملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى. فقال : صدقت ، فتعجبنا من تصديقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جهل أهل البادية. فقال : يا رسول الله ، ما شرائع الإسلام؟ فقال : إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا والاغتسال من الجنابة. فقال : صدقت. فتعجبنا لقوله بتصديقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه يعلمه. فقال : يا رسول الله وما الإحسان؟ قال : أن تعمل لله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فقال : صدقت. فقال : يا رسول الله متى الساعة؟ فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل. ثم مضى فلما توسط الناس لم نره.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا جبريل أتاكم ليعلمكم معالم دينكم» (١).

قال أبو مطيع : قلت لأبي حنيفة رحمه‌الله : فإذا استيقن بهذا وأقرّ به فهو مؤمن؟ قال : نعم إذا أقرّ بهذا فقد أقرّ بجملة الإسلام وهو مؤمن. فقلت : إذا أنكر بشيء من خلقه فقال : لا أدري من خالق هذا؟ قال : فإنه كفر لقوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢]. فكأنه قال : له خالق غير الله ، وكذلك لو قال : لا أعلم أن الله فرض علي الصلاة والصيام والزكاة فإنه قد كفر. لقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] ولقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] ولقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)) [الرّوم : ١٧ ، ١٨] فإن قال : أؤمن بهذه الآية ، ولا أعلم تأويلها ولا أعلم تفسيرها فإنه لا يكفر ، لأنه مؤمن بالتنزيل ومخطئ في التفسير. قلت له : لو أقرّ بجملة الإسلام في أرض الشرك ولا يعلم شيئا من الفرائض والشرائع ولا يقر بالكتاب ولا بشيء من شرائع الإسلام إلا أنه مقر بالله تعالى

__________________

(١) ورد حديث جبريل على ألفاظ مختلفة متقاربة في المعنى وليس هذا.

وبالإيمان ولا يقر بشيء من شرائع الإيمان فمات أهو مؤمن؟ قال : نعم (١) قلت له : ولو لم يعلم شيئا ولم يعمل به إلا أنه مقر بالإيمان فمات. قال : هو مؤمن. قلت لأبي حنيفة : أخبرني عن الإيمان. قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتشهد بملائكته وكتبه ورسله وجنته وناره وقيامته وخيره وشره وتشهد أنه لم يفوض الأعمال إلى أحد.

والناس صائرون إلى ما خلقوا له ، وإلى ما جرت به المقادير فقلت له : أرأيت إن أقر بهذا كله لكنه قال : المشيئة إلى أن شئت آمنت وإن شئت لم أومن لقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩]. فقال : كذب في زعمه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [المدّثّر : ٥٤ ـ ٥٦]. وقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] (٢) وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] هذا وعيد ، وبهذا لم يكفر ، لأنه لم يرد الآية ، وإنما أخطأ في تأويلها ولم يرد به تنزيلها قلت له إن قال إن أصابتني مصيبة (فسئلت) أي مما ابتلاني الله بها أو هي مما اكتسبت (أجبت قائلا) ليست هي مما ابتلاني الله بها أيكفر؟ قال : لا ، قلت : ولم؟ قال : لأن الله تعالى قال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : ٧٩]. أي بذنبك وأنا قدرته عليك. وقال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشّورى : ٣٠] ـ أي بذنوبكم ـ وقال تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النّحل : ٩٣] ، قال : إلا أنه أخطأ في التأويل ، ومعنى قوله : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الأنفال : ٢٤] أي بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان.

__________________

(١) يعني حيث لم يبلغه الشرع في دار الشرك ، وأما الإيمان بالله فدليل العقل كاف في وجوبه عنده قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النّساء : ٤٨] ولم يقيد ذلك بزمان ولا مكان ، وأما الأحكام فلا يعذب بها إلا بعد تبليغها (ز).

(٢) ومن مقتضى حكمة الحكيم الخبير خلق العبد شائيا مختارا في أفعاله التكليفية ، وشمول المشيئة الأزلية لتلك الأفعال لا يخرجها عن كونها اختيارية لتعذر انقلاب الحقائق وقد دلت النصوص على اختيار العبد وشمول المشيئة الأزلية. قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] وهذا هو الجمع بين النصوص ، وقد سأل أبو حنيفة زيد بن علي الشهيد أقدر الله المعاصي؟ فقال : أفيعصى قهرا؟! والتقدير والمشيئة والعلم متواردة عليها ، والتقدير والمشيئة على وفق العلم (ز).

قال أبو حنيفة رحمه‌الله : إن الاستطاعة التي يعمل بها العبد المعصية هي بعينها تصلح لأن يعمل بها الطاعة وهو معاقب في صرف (١) الاستطاعة التي أحدثها الله تعالى فيه وأمره أن يستعملها في الطاعة دون المعصية.

قلت : فإن قال : الله تعالى لم يجبر عباده على ذنب ثم يعذبهم عليه فما ذا نقول له؟ قال : قل له : هل يطيق العبد لنفسه ضرا ونفعا؟ فإن قال : لا لأنهم مجبورون في الضر والنفع ما خلا الطاعة والمعصية. فقل له : هل خلق الله الشر؟ فإن قال : نعم. خرج من قوله وإن قال : لا ، كفر لقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢)) [الفلق : ١ ، ٢]. أخبر أن الله تعالى خلق الشر. قلت : فإن قال : ألستم تقولون إن الله شاء الكفر وشاء الإيمان. فإن قلنا نعم ، يقول : أليس الله تعالى يقول : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [المدّثّر : ٥٦] نقول : نعم ، فيقول : أهو أهل الكفر؟ فما نقول له؟ قال : نقول : هو أهل لمن يشاء الطاعة وليس بأهل لمن يشاء المعصية. فإن قال : إن الله تعالى لم يشأ أن يقال عليه الكذب. فقل له : الفرية على الله من الكلام والمنطق أم لا؟ فإن قال : نعم ، فقل : من علّم آدم الأسماء كلها؟ فإن قال : الله ، فقل : الكفر من الكلام أم لا؟ فإن قال : نعم ، فقل : من أنطق الكافر؟ فإن قال : الله. خصموا أنفسهم ، لأن الشرك من النطق ، ولو شاء الله لما أنطقهم به. قلت : فإن قال : إن الرجل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، وإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل ، وإن شاء شرب وإن شاء لم يشرب. قال : فقل له : هل حكم الله على بني إسرائيل أن يعبروا البحر وقدّر على فرعون الغرق؟ فإن قال : نعم ، قل له : فهل يقع من فرعون أن لا يسير في طلب موسى وأن لا يغرق هو وأصحابه؟ فإن قال : نعم فقد كفر ، وإن قال : لا ، نقض قوله السابق.

__________________

(١) وصرف الاستطاعة هو منار التكليف وقد جعله الله بيد العبد المكلف فلا جبر عنده (ز).

باب في القدر

قال : حدثنا علي (١) بن أحمد عن نصير بن يحيى قال : سمعت أبا مطيع يقول : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : حدثنا حماد عن إبراهيم ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم علقة مثل ذلك ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا يكتب عليه رزقه وأجله وشقي أم سعيد ، والذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل عمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجن فيموت فيدخلها ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار فيموت فيدخلها».

قلت : فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك ناس فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال : لا. قلت : ولم وقد أمر الله تعالى ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا فريضة واجبة؟ فقال : هو كذلك لكن ما يفسدون من ذلك يكون أكثر مما يصلحون ، من سفك الدماء واستحلال المحارم وانتهاك الأموال. وقد قال الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] قلت : فنقاتل الفئة الباغية بالسيف؟ قال : نعم. تأمر وتنهى فإن قبل وإلا قاتلته ، فتكون مع الفئة العادلة وإن كان الإمام جائرا.

لقول النبي عليه الصلاة والسلام : «لا يضركم جور من جار ولا عدل من عدل ، لكم أجركم وعليه وزره» (٢). قلت له : ما تقول في الخوارج المحكمة؟ قال : هم أخبث الخوارج ، قلت له : أنكفرهم؟ قال : لا. ولكن نقاتلهم على ما قاتلهم الأئمة من أهل الخير : علي وعمر بن عبد العزيز. قلت : فإن الخوارج يكبّرون ويصلّون ويتلون القرآن أما تذكر حديث أبي أمامة رضي الله عنه حين دخل مسجد دمشق فإذا

__________________

(١) هو الفارسي شيخ شيخ الختلي في السند (ز).

(٢) وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة لكن هذا اللفظ لم أجده فلعله رواية بالمعنى (ز).

فيه رءوس ناس من الخوارج فقال لأبي غالب الحمصي : يا أبا غالب هؤلاء ناس من أهل أرضك فأحببت أن أعرفك من هؤلاء ، هؤلاء كلاب أهل النار هؤلاء كلاب أهل النار وهم شر قتلى تحت أديم السماء ـ وأبو أمامة في ذلك يبكي ـ فقال أبو غالب : يا أبا أمامة ما يبكيك؟ إنهم كانوا مسلمين وأنت تقول لهم ما أسمع قال : أولاء ، يقول الله تعالى فيهم : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)) [آل عمران : ١٠٦ ، ١٠٧] قال له : أشيء تقوله برأيك أم سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : إني لو لم أسمعه منه إلا مرة أو مرتين أو ثلاث مرات إلى سبع مرات لما حدثتكموه. فكفر الخوارج كفر انعم ، كفر بما أنعم الله تعالى عليهم. قلت : الخوارج إذا خرجوا وحاربوا وأغاروا ثم صالحوا هل يتبعون بما فعلوا؟ قال : لا غرامة عليهم بعد سكون الحرب ، ولا حد عليهم ، والدم كذلك لا قصاص فيه. قلت : ولم ذلك؟ قال : للحديث الذي جاء أنه لما وقعت الفتنة بين الناس في قتل عثمان رضي الله عنه فاجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على أن من أصاب دما بتأويل فلا قود عليه.

ومن أصاب فرجا حراما بتأويل فلا حد عليه. ومن أصاب مالا بتأويل فلا تبعة عليه إلا أن يوجد المال بعينه فيرد إلى صاحبه. قلت : قال قائل : لا أعرف الكافر كافرا. قال : هو مثله. قلت : فإن قال : لا أدري أين مصير الكافر؟ قال : هو جاحد لكتاب الله تعالى وهو كافر. قلت له : فما تقول لو أن رجلا قيل له : أمؤمن أنت؟ قال : الله أعلم ، قال : هو شاك في إيمانه ، قلت : فهل بين الكفر والإيمان منزلة إلا النفاق وهو أحد الثلاثة ، إما مؤمن أو كافر أو منافق ، قال : لا ، ليس بمنافق من يشك في إيمانه ، قلت : لم؟ قال : لحديث صاحب لمعاذ بن جبل وابن مسعود : حدثني حماد عن حارث بن مالك ـ وكان من أصحاب معاذ بن جبل الأنصاري ـ فلما حضره الموت بكى. قال معاذ : ما يبكيك يا حارث؟ قال : ما يبكيني موتك ، قد علمت أن الآخرة خير لك من الأولى ، لكن من المعلم بعدك؟ ويروى من العالم بعدك؟ قال : مهلا وعليك بعبد الله بن مسعود فقال له : أوصني ، فأوصاه مما شاء الله ثم قال : احذر زلّة العالم ، قال : فمات معاذ وقدم الحارث الكوفة إلى أصحاب عبد الله بن مسعود فنودي بالصلاة فقال الحارث : قوموا إلى هذه الدعوة ، حق لكل مؤمن من سمعه أن يجيبه فنظروا إليه وقالوا : إنك لمؤمن ، قال : نعم إني لمؤمن ، فتغامزوا به ، فلما خرج عبد الله قيل له ذلك ، فقال للحارث مثل قولهم فنكس الحارث رأسه وبكى

وقال : رحم الله معاذا فأخبر به ابن مسعود ، فقال له : إنك لمؤمن ، قال : نعم ، قال : فتقول إنك من أهل الجنة ، قال : رحم الله معاذا فإنه أوصاني أن أحذر زلّة العالم والأخذ بحكم المنافق ، قال : فهل من زلة رأيت؟ قال : نشدتك بالله أليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان والناس يومئذ على ثلاث فرق مؤمن في السر والعلانية ، وكافر في السر والعلانية ومنافق في السر ومؤمن في العلانية فمن أي الثلاث أنت؟ قال : أما أنا فإذا ناشدتني بالله فإني مؤمن في السر والعلانية. قال : فلم لمتني حيث قلت : إني لمؤمن؟ قال : أجل هذه زلتي فادفنوها علي فرحم الله معاذا. قلت لأبي حنيفة رحمه‌الله : فمن قال إني من أهل الجنة؟ قال : كذب. لا علم له به. قال : والمؤمن من يدخل الجنة بالإيمان فيعذّب في النار بالأحداث. قلت فإنه قال : إنه من أهل النار؟ قال : كذب لا علم له به قد أيس من رحمة الله تعالى ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله : ينبغي أن يقول : أنا مؤمن حقا ، لأنه لا يشك في إيمانه قلت : أيكون إيمانه كإيمان الملائكة؟ قال : نعم (١) قلت وإن قصر عمله فإنه مؤمن حقا قال : فحدثني حديث حارثة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «كيف أصبحت؟» قال : أصبحت مؤمنا حقا ، قال : «انظر ما تقول فإن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» فقال : عزفت نفسي عن الدنيا حتى أظمأت نهاري وأسهرت ليلي. فكأني أنظر إلى عرش ربي ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار حين يتضاغون فيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصبت فالزم ، أصبت فالزم» ثم قال : «من سرّه أن ينظر إلى رجل نوّر الله تعالى قلبه فلينظر إلى حارثة» ثم قال : يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة فدعا له بها فاستشهد قلت : فما بال أقوام يقولون لا يدخل المؤمن النار؟ قال : «لا يدخل النار إلا كل مؤمن» قلت : والكافر؟ قال : «هم يؤمنون يومئذ» قلت : وكيف ذلك؟ قال : «لقوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤ ، ٨٥]».

قال أبو حنيفة رحمه‌الله : من قتل نفسا بغير حق أو سرق أو قطع الطريق أو فجر أو فسق أو زنى أو شرب الخمر أو سكر فهو مؤمن فاسق ، وليس بكافر ، وإنما يعذبهم بالأحداث في النار ويخرجهم منها بالإيمان ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله : من آمن

__________________

(١) مهما كان الإيمان هو العقد الجازم لا يمكن فيه احتمال للنقيض أصلا فيكون إيمان المؤمنين على حد سواء فالتفاضل بينهم بالأعمال التي هي من كمال الإيمان وأما جعل العمل ركنا من الإيمان فلا يمكنه التملص مما وقع فيه الخوارج أو المعتزلة نعوذ بالله من سوء المنقلب (ز).

بجميع ما يؤمن به إلا أنه قال : لا أعرف موسى وعيسى أمرسلان هما أم غير مرسلين فهو كافر ، ومن قال لا أدري الكافر أهو في الجنة أو في النار فهو كافر ، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] وقال : (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج : ١٠] وقال الله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [الشّورى : ١٦]. قال أبو حنيفة رحمه‌الله : بلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال : من لم ينزل الكفار منزلهم من النار فهو مثلهم. قلت : فأخبرني عمن يؤمن ولا يصلي ولا يصوم ولا يعمل شيئا من هذه الأعمال هل يغني إيمانه شيئا؟ قال : هو في مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه وإن شاء رحمه. وقال : من لم يجحد شيئا من كتابه فهو مؤمن. قال أبو حنيفة : حدثني بعض أهل العلم أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما قدم مدينة حمص اجتمعوا إليه وسأله شاب فقال : ما تقول فيمن يصلي ويصوم ويحج البيت ويجاهد في سبيل الله تعالى ويعتق ويؤدي زكاته غير أنه يشك في الله ورسوله؟ قال : هذا له النار ، قال : فما تقول فيمن لا يصلي ولا يصوم ولا يحج البيت ولا يؤدي زكاته غير أنه مؤمن بالله ورسوله؟ قال : أرجو له وأخاف عليه. فقال الفتى : يا أبا عبد الرّحمن كما أنه لا ينفع (١) مع الشك عمل. فكذلك لا يضر (٢) مع الإيمان شيء. ثم مضى الفتى ، فقال معاذ : ليس في هذا الوادي أحد أفقه من هذا الفتى (٣).

قال أبو حنيفة : فقاتل أهل البغي بالبغي لا بالكفر. وكن مع الفئة العادلة والسلطان الجائر. ولا تكن مع أهل البغي. فإن كان في أهل الجماعة فاسدون

__________________

(١) والمنفي النفع الخاص هنا وهو النفع الذي ينقذ من الخلود في النار بدليل السياق فلا ينتفع الشاك في الله ورسوله بعمل من الأعمال في إنقاذه من الخلود في النار. ولذابت في الشاك أنه في النار. والشك اللاحق يهدم الطاعة السابقة (ز).

(٢) وكذا المراد من الضرر المنفي هنا هو الضرر الخاص. وهو الضرر المزيل للرجاء بدليل السياق أيضا فلا يكون المؤمن فاقد الرجاء يائسا من العفو بما اقترف من ذنب ما دام مؤمنا وهو المراد بقول معاذ : (أرجو له وأخاف عليه) حيث لم يبت بدخوله في النار مرجئا أمره إلى الله ولو لم يكن مراد الفتى هذا لما أثنى عليه معاذ رضي الله عنه ، وإلا كان كلامه متناقضا فحاشاه من ذلك ، وتقييد المطلق بقرائن السياق والسباق في غاية الكثرة في اللسان العربي المبين وأما الإيمان اللاحق فيجب العصيان السابق (ز).

(٣) وفي هذا المعنى ما أخرجه الحارثي عن أبي حنيفة عن الحارث بن عبد الرّحمن عن أبي مسلم الخولاني ، عن معاذ رضي الله عنه ، راجع مسند الحارثي في مكتبة الأزهر في الحديث (رقم ١٩٣٠) في أواخر الكتاب في مرويات أبي حنيفة عن الحارث بن عبد الرّحمن عن شيوخه ومثله في أوائل مختصر مسند الحصكفي لمحمد عابد السندي وهو مطبوع (ز).

ظالمون. فإن فيهم أيضا صالحين يعينونك عليهم ، وإن كانت الجماعة باغية فاعتزلهم واخرج إلى غيرهم. قال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النّساء : ٩٧] وقال أيضا : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦].

قال أبو حنيفة رحمه‌الله : حدثنا حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا ظهرت المعاصي في أرض فلم تطق أن تغيرها فتحول عنها إلى غيرها فاعبد بها ربك». وقال : حدثني بعض أهل العلم (١) عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تحول من أرض يخاف الفتنة فيها إلى أرض لا يخافها فيها كتب الله له أجر سبعين صدّيقا».

قال أبو حنيفة : من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر (٢) وكذا من قال إنه على العرش. ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض (٣)

__________________

(١) فهو مجهول كما أن الصحابي مجهول فليحرر (ز).

(٢) ولم يذكر في المتن وجه كفره فبيّنه الشارح أبو الليث السمرقندي بقوله : (لأنه بهذا القول يوهم أن يكون له تعالى مكان فكان مشركا). ويدل على ذلك ما سيجيء في المتن : (قلت : أرأيت لو قيل أين الله تعالى ؛ يقال له : كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق ، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء ، وهو خالق كل شيء يعني فلا يتصور الأينية إلا في الحادث. ومما يدل على ذلك أيضا قول الطحاوي في كتابه : (بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم‌الله) : (ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زلّ ولم يصب التنزيه. فإن ربنا جلّ وعلا موصوف بصفات الوحدانية. منعوت بنعوت الفردانية. وليس في معناه أحد من البرية ، تعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات اه) وهذا جلي واضح مستغن عن الإيضاح وبسط القول في ذلك في كتاب (إشارات المرام من عبارات الإمام) للعلامة كمال الدين البياضي المطبوع حديثا. وهو من أحسن ما نشر إلى الآن في اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب أئمتنا رضي الله عنهم (ز).

(٣) وهذا لفظ نسخة العلامة البياضي. وأما لفظ نسخة أبي الليث فهو (قال الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فإن قال أقول بهذه الآية ولكن لا أدري أين العرش في السماء أم في الأرض فقد كفر أيضا). ولم يذكر في المتن هنا أيضا وجه كفر هذا القائل في النسختين فبيّنه البياضي في (ص ٢٠٠) من إشارات المرام ، وبيّنه أبو الليث بقوله : (وهذا يرجع إلى المعنى الأول في الحقيقة لأنه إذا قال لا أدري أن العرش في السماء أم في الأرض فكأنه قال لا أدري أن الله في السماء أم في الأرض) فلا يكون منزها لله عن المكان مع وجوب تنزيهه عنه. ثم أفاض أبو الليث في الرد على الكرامية وسائر المشبهة القائلين بإثبات المكان له تعالى ، وأبو الليث هذا تخرج على أبي جعفر الهنداوي عن أبي القاسم الصفار عن نصير بن يحيى البلخي راوية هذا الكتاب بسنده المعروف بين أهل العلم سلفا وخلفا. وأبو الليث هذا توفي

__________________

ـ سنة ٣٧٣ ه‍. وبعد مائة سنة من هذا التاريخ ترى ينجم بين الحشوية شخص جريء يلقبه شركاؤه في الضلال بشيخ الإسلام. ويؤلف لهم كتابا سماه «الفاروق» وكتابا سماه «ذم الكلام» وغيرهما. يضمنهما روايات طامة. وآراء سخيفة للغاية يفتن بها كثيرا من الجهال. وهو الذي لا يتحاشى أن يروي عن كعب (أن الله سبحانه قال للجبال إني واطئ على جبل فتطاولت الجبال فتواضع الطور فهبط عليه). وكذا «أطيط العرش من ثقل الذات عليه» والحد ونحو ذلك ومما يقول في ذم الكلام : «أن الأشعرية لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم لأنهم ليسوا بمسلمين ولا أهل كتاب» باعتبار أنهم لا يقولون إن الله يسكن السماء. وهذا الأفّاك تناول في «الفاروق» لفظ أبي حنيفة السابق. وتزيد فيه ما شاء تزيد شائنا منافيا لنفي الأينية المنصوص عليه في المتن الأصلي السابق ذكره المتداول بين أصحابنا على توالي الطبقات فذاع بعض النسخ من الفقه الأكبر على هذا التزيد والإفك المبين فانخدع به بعض الأغرار ممن لم يؤتوا بصيرة فنسأل الله الصون. وفي نسخة في رجال سندها الكوراني المذكور حاله في أواخر حسن التقاضي ما عبارته : (قال أبو حنيفة : من قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر لأن الله تعالى قال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فإن قال : إنه تعالى على العرش استوى. ولكنه يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض. قال هو كافر لأنه أنكر كون العرش في السماء لأن العرش في أعلى عليين) ولا وجود لهذين التعليلين في رواية أبي الليث وغيرهما من أصحابنا كما سبق ، على أنه ليس فيهما إثبات مكان له تعالى وإنما فيهما إثبات استوائه تعالى على العرش استواء يليق بجلاله كما هو معتقد أهل الحق ، وأنى ذلك من إثبات الاستقرار المكاني له تعالى على العرش؟ وذلك القائل جوّز إثبات المكان له تعالى فأخذ يتحرى مكانا له في السماء والأرض. وهذا جهل بالله وكفر به عند أبي حنيفة ، لأن التجويز في حكم التنجيز في باب المعتقد ، ومن أثبت له مكانا حسيا فما زال عابدا للصنم تعالى الله عن جهالات الجاهلين ـ راجع الجزء الثاني من العواصم عن القواصم لأبي بكر بن العربي ، وهنا بسط القول في العرش والاستواء عليه عند أهل الحق ، وهذا هو الموافق لنفي الأين والمكان عنه ـ تعالى كما سيأتي في متن هذا الكتاب وللنص المسوق في الوصية لأبي حنيفة ونجد ذلك كله مجموعا في صعيد واحد في (إشارات المرام) ، ولفظ الذهبي في العلو في التعليل الأول (وعرشه فوق سماواته) وفي التعليل الثاني (إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر) نقلا عن فاروق الهروي بإقامة الضمير مقام الظاهر تمهيدا لصرفه إلى معتقد الحشوية. ولفظ ابن القيم في اجتماع الجيوش في التعليل الثاني : (لأنه أنكر أن يكون في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين) نقلا عن الهروي بواسطة شيخه فانظر إلى هذا التصرف المعيب والبهت الغريب ، فرأس المصيبة هو الهروي وزاده الشيخان ما شاء من غير ورع ، وأين في الكتاب والسنة تعيين مكان له تعالى في أعلى عليين (*) (ز)

__________________

(*) (يناقض نفسه في التزيد مرة يكفر من لا يقول : إنه على العرش فوق السماوات ومرة يكفر من لا يقول إنه في السماء. وأحدهما يناقض الآخر وأبو حنيفة براء من الاثنين (ز).

الله تعالى من أعلى لا من أسفل (١) لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء. وعليه ما روي في الحديث أن رجلا أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمة سوداء فقال : وجب علي عتق رقبة مؤمنة ، أفتجزئ هذه؟ فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمؤمنة أنت؟» فقالت : نعم.

فقال : «أين الله» (٢) فأشارت إلى السماء ، فقال : «اعتقها فإنها مؤمنة». قال أبو حنيفة : من قال لا أعرف عذاب القبر فهو من الجهمية الهالكة لأنه أنكر قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) [التّوبة : ١٠١] ـ يعني عذاب القبر ـ وقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) [الطّور : ٤٧] ـ يعني في القبر ـ فإن قال : أؤمن بالآية ولا أؤمن بتأويلها وتفسيرها ، قال : هو كافر لأن من القرآن ما هو تنزيله تأويله. فإن جحد بها فقد كفر ، قال أبو حنيفة رحمه‌الله : حدثني رجل عن المنهال بن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرار أمتي يقولون إنا في الجنة دون النار».

وحدثت عن أبي ظبيان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل للمتألين (٣) من أمتي» قيل : يا رسول الله وما المتألون؟ قال : «الذين يقولون فلان في الجنة وفلان في النار». وحدثت عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقولوا أمتي في الجنة ولا في النار دعوهم حتى يكون الله يحكم بينهم يوم القيامة». قال : وحدثني أبان عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : لا تنزلوا عبادي جنة ولا نارا حتى أكون أنا الذي أحكم فيهم يوم القيامة وأنزلهم منازلهم». قلت : فأخبرني عن القاتل والصلاة خلفه؟ فقال : «الصلاة خلف كل بر وفاجر جائزة ، فلك أجرك

__________________

(١) يشير إلى أن السماء قبلة الدعاء لا أنها مسكن رب العالمين تعالى شأنه فكيف وسمعت الرأس مما يتبدل كل آن ، وقد بسطنا ذلك فيما علقناه على السيف الصقيل والأسماء والصفات (ز).

(٢) سؤال استكشاف فلا يفيد إثبات المكان له تعالى كما في شرح المواقف ، واستعمال أين للسؤال عن المكانة معروفة كقول عمرو بن العاص

فأين الثريا وأين الثرير أين معاوية من علي.

والاعتلاء على السماء قد يراد به مجرد علو الشأن بدون ملاحظة أي مكان. قال الشاعر :

علونا السماء مجدنا وجدودنا

وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

وبسط القول في حديث الجارية فيما علقته على الأسماء والصفات للبيهقي. راجع «ص ٤٢٢» منه (ز).

(٣) أخرجه البخاري في تاريخه. والتألي على الله هو الحالف المتحكم في أنه يدخل فلانا الجنة وفلانا النار (ز).

وعليه وزره» قلت : أخبرني عن هؤلاء الذين يخرجون على الناس بسيوفهم فيقاتلون وينالون منهم. قال : هم أصناف شتى وكلهم في النار.

قال : روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «افترقت بنو إسرائيل اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا السواد الأعظم» قال : وحدثني حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحدث حدثا في الإسلام فقد هلك ومن ابتدع بدعة فقد ضلّ ومن ضلّ ففي النار». حدثنا ميمون عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله علّمني ، قال : «فاذهب فتعلّم القرآن» ثلاثا. ثم قال له في الرابعة : «اقبل الحق ممن جاءك به حبيبا كان أو بغيضا وتعلّم القرآن ومل معه حيث مال».

قال : وحدثنا حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : إن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وقال الله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) [الشّمس : ٨] وقال الله تعالى لموسى على سيدنا ونبينا عليه الصلاة والسلام : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) [طه : ٨٥].

* * *

باب المشيئة

قلت : هل أمر الله تعالى بشيء ولم يشأ خلقه وشاء شيئا ولم يأمر به وخلقه؟ قال : نعم. قلت : فما ذاك؟ قال : أمر الكافر بالإسلام ولم يشأ خلقه ، وشاء الكفر للكافر ولم يأمر به وخلقه. قلت : هل رضي الله شيئا ولم يأمر به؟ قال : نعم. كالعبادات النافلة. قلت : هل أمر الله تعالى بشيء ولم يرض به؟ قال : لا. قلت : لم؟ قال : لأن كل شيء أمر به فقد رضيه. قلت : يعذب الله العباد على ما يرضى أو على ما لا يرضى؟ قال : يعذبهم الله على ما لا يرضى لأنه يعذبهم على الكفر والمعاصي ولا يرضى بها. قلت : فيعذبهم على ما يشاء أو على ما لا يشاء؟ قال : بل يعذبهم على ما يشاء لهم ، لأنه يعذبهم على الكفر والمعاصي وشاء للكافر وللمعاصي المعصية. قلت : هل أمرهم بالإسلام ثم شاء لهم الكفر؟ قال : نعم. قلت : سبقت مشيئته أمره أو سبق أمره مشيئته؟ قال : سبقت مشيئته أمره ، قلت : فمشيئة الله رضا له أم لا؟ قال : هو لله رضا ممن عمل بمشيئته وبرضاه وطاعته فيما أمر به ومن عمل خلاف ما أمر به فقد عمل بمشيئته ولم يعمل برضاه لكن عمل معصيته ، ومعصيته غير

رضاه. قلت : يعذب العباد على ما يرضى؟ قال : يعذبهم على ما لا يرضى من الكفر ولكن يرضى أن يعذبهم وينتقم منهم بتركهم الطاعة وأخذهم بالمعصية. قلت : شاء الله للمؤمنين الكفر؟ قال : لا. ولكن شاء للمؤمنين الإيمان ، كما شاء للكافرين الكفر وكما شاء لأصحاب الزنى الزنى وكما شاء لأصحاب السرقة السرقة وكما شاء لأصحاب العلم العلم وكما شاء لأصحاب الخير الخير ، لأن الله تعالى شاء للكفّار قبل أن يخلقهم أن يكونوا كفارا ضلالا (١). قلت : يعذب الله الكفار على ما يرضى أن يخلق أم على ما لا يرضى أن يخلق؟ قال : بل يعذبهم على ما يرضى أن يخلق. قلت : لم؟ قال : لأنه يعذبهم على الكفر ورضي أن يخلق الكفر ، ولم يرض الكفر بعينه. قلت : قال الله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] فكيف يرضى أن يخلق الكفر؟ قال : يشاء لهم ولا يرضى به. قلت : لم؟ قال : لأنه خلق إبليس فرضي أن يخلق إبليس ولم يرض نفس إبليس ، وكذلك الخمر والخنازير فرضي أن يخلقهن ولم يرض أنفسهن. قلت : لم؟ قال : لأنه لو رضي الخمر بعينها لكان من شربها فقد شرب ما رضي الله ، ولكنه لا يرضى الخمر ولا الكفر ولا إبليس ولا أفعاله ولكنه رضي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : أرأيت اليهود حيث قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] أرضي الله لهم أن يقولوا ذلك؟ قال : لا.

* * *

باب آخر في المشيئة

إذا قيل له : أرأيت لو شاء الله أن يخلق الخلق كلهم مطيعين مثل الملائكة هل كان قادرا؟ فإن قال لا فقد وصف الله تعالى بغير ما وصف به نفسه ، لقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] وقوله تعالى : (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) [الأنعام : ٦٥]. فإن قال : هو قادر ، فقل أرأيت لو شاء الله أن يكون إبليس مثل جبريل في الطاعة أما كان قادرا؟ فإن قال : لا ، فقد ترك قوله ووصف الله تعالى بغير صفته ، فإن قال : لو أنه زنى أو شرب أو قذف أليس هو بمشيئة الله؟ قيل : نعم. فإن قال : فلم تجري عليه الحدود؟ قيل : لا يترك ما أمر الله به لأنه لو قطع غلامه كان بمشيئة الله وذمه الناس ، ولو أعتقه حمدوه عليه ، وكلاهما وجدا

__________________

(١) ومشيئة الله في الأزل خلق الكفر والضلال لهم في المستقبل إنما هي من جهة أن العبد يختار ذلك فيخلقه الخالق على جاري عادته الحكيمة ، فليس في الأمر شمة الجبر. (ز).

بمشيئة الله تعالى ، وقد عمل بمشيئة الله تعالى لكن من عمل بمشيئة المعصية فإنه ليس بها رضا ولا عدل في فعله (١) ، وقوله : فلم تجري عليه الحدود؟ سؤال فاسد على أصلهم ، لأنهم لا يثبتون مشيئة الله تعالى في كثير من المعاصي فلا تلزمه الحدود إلا على فعله مثل شرب الخمر ، وقد فعلها جميعا بمشيئة الله تعالى.

* * *

باب الرد على من يكفر بالذنب

قلت : أرأيت لو أن رجلا قال : من أذنب ذنبا فهو كافر. ما النقض عليه؟ فقال : يقال له : قال الله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) [الأنبياء : ٨٧] ، فهو ظالم مؤمن وليس بكافر ولا منافق. وإخوة يوسف قالوا : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) [يوسف : ٩٧] وكانوا مذنبين لا كافرين وقال الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ولم يقل من كفرك. وموسى حين قتل الرجل كان في قتله مذنبا لا كافرا. قال : وإذا قال : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى يقال له : قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)) [الأحزاب : ٥٦] فإن كنت مؤمنا فصلّ عليه وإن كنت غير مؤمن فلا تصلّ عليه. وقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩] الآية. قال معاذ رضي الله عنه : من شكّ في الله فإن ذلك يبطل جميع حسناته ومن آمن وتعاطى المعاصي يرجى له المغفرة ويخاف عليه العقوبة. قال السائل لمعاذ رضي الله عنه : إذا كان الشك يهدم الحسنات فإن الإيمان أهدم وأهدم للسيئات (٢).

قال معاذ رضي الله عنه : والله ما رأيت رجلا أعجب من هذا الرجل يسأل أمسلم أنت؟ فيقول : لا أدري. فيقال له : قولك لا أدري أعدل أم جور؟ فإن قال

__________________

(١) لأن تعلق مشيئة الخالق بخلق معصية العبد عند إرادة العبد فعلها باختياره ، فلا يبرئ ذلك التعلق العبد من المسئولية ، وقد جرت حكمة الحكيم الخبير على خلق ما اختاره العبد من الأفعال التي تحت استطاعته تحقيقا لمسئوليته فمن أراد الهداية واستهداه يهديه ، وفي الحديث القدسي : «كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم». (ز).

(٢) يعني ما سبق من السيئات لأن الإسلام يجب ما قبله ، راجع حديث معاذ السابق (ز).

عدل فقل : أرأيت ما كان في الدنيا عدلا أليس في الآخرة عدلا؟ فإن قال : نعم ، فقل : أتؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير وبالقدر خيره وشره من الله تعالى؟ فإن قال : نعم ، فقل له : أمؤمن أنت؟ فإن قال : لا أدري. فقل له : لا دريت ولا فهمت ولا أفلحت. قلت : ومن قال : إن الجنة والنار ليستا بمخلوقتين. فقل له : هما شيء أو ليستا بشيء وقد قال الله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] وقال الله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)) [القمر : ٤٩] وقال الله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦]. فإن قال : إنهما تفنيان. فقل له : وصف الله نعيمها بقوله : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣)) [الواقعة : ٣٣] ومن قال : هما تفنيان بعد دخول أهلهما فيهما فقد كفر بالله تعالى لأنه أنكر الخلود فيهما.

قال أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى : لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف وهو قول أهل السنة والجماعة ، وهو يغضب ويرضى ولا يقال غضبه عقوبته ورضاه ثوابه ، ونصفه كما وصف نفسه ، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد حي قيوم قادر سميع بصير عالم. يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه وليست بجارحة ، وهو خالق الأيدي ، ووجهه ليس كوجوه خلقه. وهو خالق كل الوجوه ، ونفسه ليس كنفس خلقه ، وهو خالق النفوس (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] قلت : أرأيت لو قيل : أين الله تعالى؟ فقال : يقال له كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق ، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شيء ، وهو خالق كل شيء. فإن قيل : بأي شيء شاء الشائي المشيء؟ فقل بالصفة ، وهو قادر يقدر بالقدرة وعالم يعلم بالعلم ومالك يملك بالملك. فإن قيل : أشاء بالمشيئة ، وقدر بالمشيئة وشاء بالعلم؟ فقل : نعم (١).

* * *

باب في الإيمان

فإن قيل : أين مستقر الإيمان؟ يقال معدنه ومستقره القلب ، وفرعه في الجسد ، فإن قيل : هو في إصبعك؟ فقيل : نعم. فإن قيل : فإن قطعت أين يذهب الإيمان

__________________

(١) فتكون المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع للمعلوم فلا يكون العبد مجبورا في فعله الاختياري (ز).

منها؟ قال : فقل إلى القلب ، فإن قال : هل يطلب الله من العباد شيئا؟ فقل : لا. إنما هم يطلبون منه ، فإن قال : ما حق الله تعالى عليهم؟ فقل : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، فإذا فعلوا ذلك فحقهم عليه (١) أن يغفر لهم ويثيبهم عليه ، فإن الله تعالى يرضى عن المؤمنين لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨] ويسخط عن إبليس ، ومعنى قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصّلت : ٤٠] فهو وعيد منه ، وقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : ١٧] أي بصّرناهم وبيّنّا لهم. وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] فهو وعيد ، وقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذّاريات : ٥٦] أي ليوحدوني ، ولكن كلها بتقدير الله تعالى خيرها وشرها وحلوها ومرها وضرها ونفعها.

وقال الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)) [يونس : ٩٩] ، وقال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] ، وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] ، وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : ١١٨ ، ١١٩] ـ أي بمشيئته ـ (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] ، وقال تعالى : (اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النّحل : ٣٦] ، وقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] ـ أي بقدر (٢) الله سبحانه ـ وقال شعيب صلوات الله على نبينا وعليه : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)) [الأعراف : ٨٩] ، وقال نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)) [هود : ٣٤] وقال تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)) [يوسف : ٢٤].

__________________

(١) أي وجوبا منه على مقتضى وعده الكريم لا وجوبا عليه وإنما تابع في العبارة الآثار (ز).

(٢) يعني كون العبد شائيا مختارا بقدر الله السابق وهو الحكيم الخبير (ز).

وقال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)) [ص : ٣٤] والله أعلم (١).

تمّ الفقه الأبسط لأبي حنيفة رحمه‌الله

__________________

(١) هنا انتهى الكتاب في الأصول التي اطلعنا عليها ، وشذّت النسخة السعيدية بالهند على ما نقله مولانا العلامة المحقق أبو الوفاء رئيس جمعية إحياء المعارف النعمانية في حيدرآباد الدكن ، وفيها زيادة : (قال أبو مطيع رحمه‌الله : سألت أبا حنيفة رحمة الله عليه أليس الله تعالى عدلا حكيما في أفعاله بخلقه؟ فقال : بلى ، قلت : قد خلق واحدا أعمى ، وآخر مقعدا ، وآخر غنيا ، وآخر فقيرا ، وآخر أحمق ، وآخر عاقلا ، وآخر أخرس. قال : هذا بفضل منه لبعضهم دون بعض. لأنه لم يجب عليه ذلك ، فأعطى بعضا ، ومنع بعضا ، فهو كمن له عبيد ، فأعطى واحدا ومنع آخر) ، ولا نطمئن إلى هذه الزيادة لعلها مما وجد لأبي مطيع في كتاب له آخر فزادها هنا من زاد ، على أن ذلك خوض في سر القدر. وهذا ما لا يباح لأحد من البشر. وبعد ذلك زيادة أخرى وهي : (حدثنا علي بن أحمد قال : حدثنا إبراهيم بن حمدويه. قال : حدثنا يوسف بن أبان عن ليث بن خزيمة عن قتادة عن عمر رضي الله عنه قال : أيما رجل لا يبتلى في جسده أربعين يوما فليس فيه لله حاجة. وقال مقاتل بن سليمان من أصل الإيمان الذي جاء في القرآن قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] أي صدّق بتوحيده (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة : ١٧٧] أي ذلك كله حق. وهي مما زاد مالك النسخة على الأصل كفائدة من عنده ، والسند لأصله له أصلا لا بأبي مطيع ولا بأبي حنيفة ، وفيه رجال مجاهيل ، وقتادة لم يدرك أحدا من الراشدين ، ومقاتل ممن لا يروي عنه في مثل هذا الكتاب ، فالمزيد ينادي أنه مدرج لا صلة له بالكتاب والاعتماد على سائر الأصول. وسند شيخ الإسلام مصطفى عاشر المتوفى سنة ١٢١٩ ه‍ في الفقه الأبسط عن الحسين بن محمد بن الحسن المبيمي البصري عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكوراني عن أبيه عن خير الدين الرملي عن محمد بن السراج عمر الحانوتي عن أبيه عن المحب محمد بن جرباش عن أبي الخير محمد بن محمد الرومي عن أبي الفتح محمد بن محمد الحريري عن أبيه القوام الأتقاني عن الحسين السنغاقي عن محمد بن محمد بن نصر البخاري عن شمس الأئمة الكردي عن صاحب الهداية عن الضياء اليرسوخي عن العلاء السمرقندي عن أبي المعين النسفي عن الحسين بن علي الكاشغري عن نصران بن نصر الختلي عن علي بن الحسن بن محمد الغزال عن علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى عن أبي مطيع عن أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين. والاعتماد على رواية أصحابنا كما سبق. وسند شيخ الإسلام المذكور في العالم والمتعلم إلى أبي المعين بن محمد النسفي بهذا السند عن أبيه عن عبد الكريم بن موسى البزدوي عن أبي منصور الماتريدي عن أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن أبي سليمان الجرجاني وعن محمد بن مقاتل الرازي كلاهما عن أبي مطيع وعصام بن يوسف كلاهما عن أبي مقاتل عن أبي حنيفة رضي الله عنهم. وسنده في الفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة بالسند إلى نصير بن يحيى عن محمد بن مقاتل عن عصام بن يوسف عن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه رضي الله عنهم.

ـ راجع (٢٢٦) من مكتبة شيخ الإسلام في المدينة المنورة زادها الله تشريفا (ز).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه : يجب أن يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ، والقدر خيره وشره من الله تعالى ، والحساب والميزان والجنة والنار حق كله.

والله تعالى واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ١ ـ ٤].

لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه ، لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية. أما الذاتية : فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة. وأما الفعلية : فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل.

لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته لم يحدث له اسم ولا صفة ، لم يزل عالما بعلمه والعلم صفة في الأزل ، وقادرا بقدرته ، والقدرة صفة في الأزل ، ومتكلما بكلامه ، والكلام صفة في الأزل ، وخالق بتخليقه ، والتخليق صفة في الأزل ، وفاعلا بفعله. والفعل صفة في الأزل ، والفاعل هو الله تعالى ، والفعل صفة في الأزل ، والمفعول مخلوق ، وفعل الله تعالى غير مخلوق. وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة ، فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة ، أو وقف أو شكّ فيها فهو كافر بالله تعالى.

والقرآن كلام الله تعالى ، في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي عليه الصلاة والسلام منزل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق ، وكتابتنا له مخلوقة ، وقراءتنا له مخلوقة ، والقرآن غير مخلوق.

وما ذكر الله تعالى في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى ، إخبارا عنهم ، وكلام الله تعالى غير مخلوق ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله تعالى فهو قديم لا كلامهم.

وسمع موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النّساء : ١٦٤]. وقد كان الله تعالى متكلما ولم يكن كلّم موسى عليه‌السلام ، وقد كان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

فلما كلّم الله موسى كلّمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل ، وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا ، ويسمع لا كسمعنا ، ويتكلم لا ككلامنا.

ونحن نتكلم بالآلات والحروف ، والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف ، والحروف مخلوقة وكلام الله تعالى غير مخلوق.

وهو شيء لا كالأشياء ، ومعنى الشيء إثباته بلا جسم ولا جوهر ولا عرض ، ولا حد له ولا ضد له ولا ند له ولا مثل له.

ولا يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن ، فما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف.

ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته ، لأن فيه إبطال الصفة ، وهو قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف.

خلق الله تعالى الأشياء لا من شيء ، وكان الله تعالى عالما في الأزل بالأشياء قبل كونها ، وهو الذي قدّر الأشياء وقضاها ، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ ، ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم.

والقضاء والقدر والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف ، يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه معدوما ، ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده ، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا ، ويعلم أنه كيف يكون فناؤه ، ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما وإذا قعد علمه قاعدا في حال قعوده من غير أن يتغير علمه أو يحدث له علم ، ولكن التغير والاختلاف يحدث في المخلوقين.

خلق الله تعالى الخلق سليما من الكفر والإيمان ، ثم خاطبهم وأمرهم ونهاهم ، فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده الحق بخذلان الله تعالى إياه ، وآمن من آمن بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له.

وأخرج ذرية آدم من صلبه على صور الذر فجعلهم عقلاء ، فخاطبهم وأمرهم بالإيمان ونهاهم عن الكفر ، فأقروا له بالربوبية ، فكان ذلك منهم إيمانا ، فهم يولدون على تلك الفطرة ، ومن كفر بعد ذلك فقد بدّل وغيّر ، ومن آمن وصدق فقد ثبت عليه وداوم.

ولم يجبر أحدا من خلقه على الكفر ولا على الإيمان ، ولا خلقهم مؤمنا ولا كافرا ، ولكن خلقهم أشخاصا. والإيمان والكفر فعل العباد ، ويعلم الله تعالى من يكفر في حال كفره كافرا. فإذا آمن بعد ذلك علمه مؤمنا في حال إيمانه وأحبه من غير أن يتغير علمه وصفته.

وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة ، والله تعالى خالقها ، وهي كلها بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره.

والطاعة كلها كانت واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضائه وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره والمعاصي كلها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته ، لا بمحبته ولا برضائه ولا بأمره.

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم منزّهون عن الصغائر والكبائر والكفر والقبائح ، وقد كانت منهم زلات وخطايا. ومحمد عليه الصلاة والسلام حبيبه وعبده ورسوله ونبيه وصفيه ونقيه ، ولم يعبد الصنم ، ولم يشرك بالله تعالى طرفة عين قط ، ولم يرتكب صغيرة ولا كبيرة قط.

وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب الفاروق ، ثم عثمان بن عفان ذو النورين ، ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، عابدين ثابتين على الحق ومع الحق كما كانوا نتولاهم جميعا.

ولا نذكر أحدا من أصحاب رسول الله إلا بخير.

ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة ، إذا لم يستحلها ، ولا نزيل عنه اسم الإيمان ، ونسميه مؤمنا حقيقة ، ويجوز أن يموت مؤمنا فاسقا غير كافر ، والمسح على الخفين سنّة ، والتراويح في ليالي شهر رمضان سنّة.

والصلاة خلف كل بر وفاجر من المؤمنين جائزة.

ولا نقول إن المؤمن لا تضره الذنوب ، ولا نقول إنه لا يدخل النار ، ولا نقول إنه يخلد فيها وإن كان فاسقا ، بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا.

ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة ، ولكن نقول من عمل حسنة بجميع شرائطها خالية عن العيوب المفسدة والمعاني المبطلة ولم يبطلها بالكفر والردة حتى خرج من الدنيا مؤمنا ، فإن الله تعالى لا يضيعها بل يقبلها منه ويثيبه عليها.

وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب عنها صاحبها حتى مات مؤمنا فإنه في مشيئة الله تعالى ، إن شاء عذّبه بالنار ، وإن شاء عفا عنه ولم يعذبه بالنار أصلا.

والرياء إذا وقع في عمل من الأعمال فإنه يبطل أجره ، وكذلك العجب.

والآيات ثابتة للأنبياء ، والكرامات للأولياء حق. وأما التي تكون لأعدائه مثل إبليس وفرعون والدجال مما روي في الأخبار ، أنه كان ويكون لهم ، لا نسميها آيات ولا كرامات ، ولكن نسميها قضاء حاجات لهم. وذلك لأن الله تعالى يقضي حاجات أعدائه استدراجا لهم وعقوبة لهم ، فيغترون به ويزدادون طغيانا وكفرا ، وذلك كله جائز وممكن.

وكان الله تعالى خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق.

والله تعالى يرى في الآخرة ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رءوسهم ، بلا تشبيه ولا كيفية ، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة.

والإيمان هو الإقرار والتصديق.

وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به ، ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق.

والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد ، متفاضلون في الأعمال.

والإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى ، فمن طريق اللغة فرق بين الإيمان والإسلام ، ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام ، ولا يوجد إسلام بلا إيمان ، وهما كالظهر مع البطن.

والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها.

نعرف الله تعالى حق معرفته كما وصف الله نفسه في كتابه بجميع صفاته ، وليس يقدر أحد أن يعبد الله تعالى حق عبادته كما هو أهل له ، ولكنه يعبده بأمره كما أمر بكتابه وسنّة رسوله. ويستوي المؤمنون كلهم في المعرفة واليقين والتوكل والمحبة والخوف والرجاء والإيمان ، ويتفاوتون فيما دون الإيمان في ذلك كله.

والله تعالى متفضل على عباده ، عادل ، قد يعطي من الثواب أضعاف ما يستوجبه العبد تفضلا منه ، وقد يعاقب على الذنب عدلا منه ، وقد يعفو فضلا منه.

وشفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حق ، وشفاعة نبينا عليه الصلاة والسلام للمؤمنين المذنبين ولأهل الكبائر منهم المستوجبين العقاب حق ثابت.

ووزن الأعمال بالميزان يوم القيامة حق ، وحوض النبي عليه الصلاة والسلام حق ، والقصاص فيما بين الخصوم بالحسنات يوم القيامة حق ، وإن لم تكن لهم الحسنات فطرح السيئات عليهم حق جائز.

والجنة والنار مخلوقتان اليوم ، لا تفنيان أبدا ، ولا تموت الحور العين أبدا ، ولا يفنى عقاب الله تعالى وثوابه سرمدا.

والله تعالى يهدي من يشاء فضلا منه ، ويضل من يشاء عدلا منه ، وإضلاله خذلانه ، وتفسير الخذلان : أن لا يوفق العبد إلى ما يرضاه منه ، وهو عدل منه ، وكذا عقوبة المخذول على المعصية.

ولا يجوز أن نقول إن الشيطان يسلب الإيمان من العبد المؤمن قهرا وجبرا ولكن نقول العبد يدع الإيمان فحينئذ يسلبه منه الشيطان.

وسؤال منكر ونكير حق كائن في القبر ، وإعادة الروح إلى جسد العبد في قبره حق ، وضغطة القبر وعذابه حق كائن للكفار كلهم ولبعض عصاة المؤمنين.

وكل شيء ذكره العلماء بالفارسية من صفات الله تعالى عزّ اسمه فجائز القول به. سوى اليد بالفارسية. ويجوز أن يقال «به روى خداى» عزوجل بلا تشبيه ولا كيفية.

وليس قرب الله تعالى ولا بعده من طريق طول المسافة وقصرها ، ولكن على معنى الكرامة والهوان.

والمطيع قريب منه بلا كيف ، والعاصي بعيد عنه بلا كيف ، والقرب والبعد والإقبال يقع على المناجي.

وكذلك جواره في الجنة والوقوف بين يديه بلا كيفية.

والقرآن منزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المصاحف مكتوب ، وآيات القرآن في معنى الكلام كلها مستوية في الفضيلة والعظمة إلا أن لبعضها فضيلة الذكر وفضيلة المذكور ، مثل آية الكرسي لأن المذكور فيها جلال الله تعالى وعظمته وصفاته ،

فاجتمعت فيها فضيلتان : فضيلة الذكر وفضيلة المذكور ، ولبعضها فضيلة الذكر فحسب مثل قصة الكفار وليس للمذكور فيها فضل وهم الكفار ، وكذلك الأسماء والصفات كلها مستوية في العظمة والفضل لا تفاوت بينهما.

وقاسم وطاهر وإبراهيم كانوا بني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفاطمة ورقيّة وزينب وأم كلثوم كنّ جميعا بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهن.

وإذا أشكل على الإنسان شيء من دقائق علم التوحيد فإنه ينبغي له أن يعتقد في الحال ما هو الصواب عند الله تعالى إلى أن يجد عالما فيسأله ، ولا يسعه تأخير الطلب ولا يعذر بالوقف فيه ويكفر إن وقف.

وخبر المعراج حق ومن رده فهو مبتدع ضال ، وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى عليه‌السلام من السماء ، وسائر علامات يوم القيامة على ما وردت به الأخبار الصحيحة حق كائن ، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

* * *

في التبري مما يرمى به من الإرجاء

كذبا وزورا من جهلة أغرار

قال ابن قتيبة في المعارف : عثمان البتي ـ بفتح فتشديد ـ هو : عثمان بن سليمان بن جرموز ، وكان من أهل الكوفة فانتقل إلى البصرة ، وهو مولى لبني زهرة وكان يبيع البتوت فنسب إليها اه. وهي الثياب الغليظة. وقال الذهبي في الميزان : عثمان البتي الفقيه هو ابن مسلم ثقة إمام وقيل اسم أبيه أسلم وقيل سليمان اه. وفي المشتبه : فقيه البصرة. زمن أبي حنيفة اه. توفي بالبصرة قبل وفاة أبي حنيفة بسبع سنوات ، وبينهما مكاتبات لم يحفظ لنا التاريخ شيئا منها غير هذه الرسالة ، وكان من عظماء مجتهدي هذه الأمة ، وممن انقرضت مذاهبهم ، وله انفرادات في الفقه ذكرها الطحاوي في (اختلاف العلماء) وأبو بكر الرازي في مختصره وابن المنذر في الأشراف لكن أهملها ابن جرير في اختلاف الفقهاء له ، رضي الله عنه وعن سائر الأئمة ونفعنا ببركات علومهم (ز).

* * *

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، روى الإمام حسام الدين الحسين بن علي الحجاج السنغاقي ، عن حافظ الدين محمد بن محمد بن نصر البخاري ، عن شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردري ، عن برهان الدين أبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني عن ضياء الدين محمد بن الحسين بن ناصر اليرسوخي ، عن علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي ، عن أبي المعين ميمون بن محمد المكحولي النسفي ، عن أبي زكريا يحيى بن مطرف البلخي ، عن أبي صالح محمد بن الحسين السمرقندي عن أبي سعيد محمد بن أبي بكر البستي ، عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى الفقيه ، عن أبي عبد الله محمد بن سماعة التميمي ، عن الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وعنهم أنه قال :

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من أبي حنيفة إلى عثمان البتي : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله وطاعته وكفى بالله حسيبا وجازيا بلغني كتابك ، وفهمت الذي فيه من نصيحتك ، وقد كتب أنه دعاك إلى الكتاب بما كتبت حرصك على الخير والنصيحة ، وعلى ذلك كان موضعه عندنا ، كتبت تذكر أنه بلغك أني من المرجئة (١) وأني أقول : مؤمن ضال. وأن ذلك يشق عليك ولعمري ما في شيء باعد عن الله تعالى عذر لأهله ، ولا فيما أحدث الناس وابتدعوا أمر يهتدى به ،

__________________

(١) وقد عدّ المقبلي من غلطات الخواص جعل المرجئ اسما لمن قال : إن صاحب الكبيرة إذا لم يتب تحت المشيئة ، وصرف أحاديث ذم المرجئة إلى ذلك وإنما هم من قال : لا وعيد لأهل الصلاة فأخرهم عن الوعيد رأسا ، وأما الدخول تحت المشيئة فصريح الكتاب والسنة لفظا ومعلوما تواترا. ذكر ذلك في (الأبحاث) فيكون إرجاء أبي حنيفة محض السنة ، ونبزه به على المعنى البدعي.

ولا الأمر إلا ما جاء به القرآن ودعا إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان عليه أصحابه حتى تفرّق الناس ، وأما ما سوى ذلك فمبتدع ومحدث ، فافهم كتابي إليك ، فاحذر رأيك على نفسك ، وتخوّف أن يدخل الشيطان عليك عصمنا الله وإياك بطاعته ، ونسأله التوفيق لنا ولك برحمته ، ثم أخبرك أن الناس كانوا أهل شرك قبل أن يبعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث محمدا يدعوهم إلى الإسلام ، فدعاهم إلى أن يشهدوا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والإقرار بما جاء به من الله تعالى ، وكان الداخل في الإسلام مؤمنا بريئا من الشرك ، حراما ماله ودمه ، له حق المسلمين وحرمتهم ، وكان التارك لذلك حين دعا إليه كافرا بريئا من الإيمان ، حلالا ماله ودمه ، لا يقبل منه إلا الدخول في الإسلام أو القتل. إلا ما ذكر الله سبحانه وتعالى في أهل الكتاب من إعطاء الجزية ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك على أهل التصديق.

فكان الأخذ بها عملا مع الإيمان ولذلك يقول الله عزوجل : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة : ٢٥] وقال : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) [التّغابن : ٩] وأشباه ذلك من القرآن. فلم يكن المضيع للعمل مضيعا للتصديق ، وقد أصاب التصديق بغير عمل. ولو كان المضيع للعمل مضيعا للتصديق لانتقل من اسم الإيمان وحرمته بتضييعه العمل كما أن الناس لو ضيّعوا التصديق لانتقلوا بتضييعه من اسم الإيمان وحرمته وحقه ، ورجعوا إلى حالهم التي كانوا عليها من الشرك. ومما يعرف به اختلافهما أن الناس لا يختلفون في التصديق. ولا يتفاضلون فيه. وقد يتفاضلون في العمل. وتختلف فرائضهم. ودين أهل السماء ودين الرسول واحد. فلذلك يقول الله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشّورى : ١٣]. واعلم أن الهدي في التصديق بالله وبرسوله ليس كالهدي فيما افترض من الأعمال. ومن أين يشكل ذلك عليك؟ وأنت تسميه مؤمنا بتصديقه كما سماه الله تعالى في كتابه وتسميه جاهلا بما لا يعلم من الفرائض. وهو إنما يتعلم ما يجهل. فهل يكون الضال عن معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله. كالضال عن معرفة ما يتعلمه الناس وهم مؤمنون؟! وقد قال الله تعالى في تعليمه الفرائض : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النّساء : ١٧٦] وقال : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢] ، وقال : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشّعراء : ٢٠] يعني من الجاهلين ، والحجة من كتاب الله تعالى والسنة على تصديق ذلك أبين وأوضح من أن تشكل على مثلك. أولست تقول : مؤمن ظالم ، ومؤمن مذنب ، ومؤمن مخطئ ومؤمن عاص ، ومؤمن جائر؟ هل يكون فيما ظلم وأخطأ مهتديا فيه مع هداه في الإيمان ، أو يكون ضالا عن الحق الذي أخطأه؟ وقول بني يعقوب على نبينا وعليهم‌السلام لأبيهم إنك لفي ضلالك القديم ، أتظن أنهم عنوا أنك لفي كفرك القديم؟ حاشا

لله أن تفهم هذا ، وأنت بالقرآن عالم. واعلم أن الأمر لو كان كما كتبت به إلينا أن الناس كانوا أهل تصديق قبل الفرائض ثم جاءت الفرائض ، لكان ينبغي لأهل التصديق أن يستحقوا (اسم) التصديق بالعمل حين كلفوا به ، ولم تفسر لي ما هم وما دينهم وما مستقرهم عندك (قبل ذلك)؟ إذا هم لم يستحقوا الاسم إلا بالعمل حين كلفوا فإن زعمت أنهم مؤمنون تجري عليهم أحكام المسلمين وحرمتهم صدقت. وكان صوابا. لما كتبت به إليك. وإن زعمت أنهم كفار فقد ابتدعت وخالفت النبي والقرآن. وإن قلت بقول من تعنت من أهل البدع وزعمت أنه ليس بكافر ولا مؤمن فاعلم أن هذا القول بدعة وخلاف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. وقد سمي علي رضي الله عنه أمير المؤمنين وعمر رضي الله عنه أمير المؤمنين. أو أمير المطيعين في الفرائض كلها يعنون؟ وقد سمي علي أهل حربه من أهل الشام مؤمنين في كتاب القضية. أو كانوا مهتدين وهو يقتلهم؟ وقد اقتتل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم تكن الفئتان مهتديتين جميعا ، فما اسم الباغية عندك؟ فو الله ما أعلم من ذنوب أهل القبلة ذنبا أعظم من القتل ثم دماء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام خاصة. فما اسم الفريقين عندك؟ وليسا مهتديين جميعا فإن زعمت أنهما مهتديان جميعا ابتدعت. وإن زعمت أنهما ضالان جميعا ابتدعت وإن قلت أن أحدهما مهتد فما الآخر؟ فإن قلت الله أعلم أصبت. تفهم هذا الذي كتبت به إليك.

واعلم أني أقول : أهل القبلة مؤمنون لست أخرجهم من الإيمان بتضييع شيء من الفرائض. فمن أطاع الله تعالى في الفرائض كلها مع الإيمان كان من أهل الجنة عندنا ، ومن ترك الإيمان والعمل كان كافرا من أهل النار ، ومن أصاب الإيمان وضيّع شيئا من الفرائض كان مؤمنا مذنبا ، وكان لله تعالى فيه المشيئة إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له ، فإن عذّبه على تضييعه شيئا فعلى ذنب يعذبه ، وإن غفر له فذنبا يغفر. وإني أقول فيما مضى من اختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما كان بينهم ، الله أعلم. ولا أظن هذا إلا رأيك في أهل القبلة لأنه أمر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر (حملة) السنة والفقه. زعم (١) أخوك عطاء بن أبي رباح ونحن نصف له هذا : أن هذا أمر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وزعم أخوك نافع هذا وأنه فارق (ابن عمر) على هذا. وزعم سالم عن سعيد بن جبير ، هذا أمر أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وزعم أخوك نافع أن هذا أمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وزعم ذلك أيضا عبد الكريم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن هذا أمره.

وقد بلغني عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حين كتب القضية أنه يسمي

__________________

(١) والزعم هنا بمعنى القول الحق بقرينة المقام. وهو من الأضداد فيعين المقام المراد. فكل هؤلاء لا يرون نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة (ز).

الطائفتين مؤمنين جميعا. وزعم ذلك أيضا عمر بن عبد العزيز كما رواه من لقيني من إخوانك فيما بلغني عنك. ثم قال : ضعوا لي في هذا كتابا ثم أنشأ يعلمه ولده. ويأمرهم بتعليمه. علمه جلساؤك رحمك الله تعالى.

فكان بمكان من المسلمين. واعلم أن أفضل ما علمتم وما تعلمون الناس السنة وأنت ينبغي لك أن تعرف أهلها الذين ينبغي أن يتعلموها.

وأما ما ذكرت من اسم المرجئة (١) فما ذنب قوم تكلموا بعدل وسماهم أهل البدع بهذا الاسم؟ ولكنهم أهل العدل وأهل السنة ، وإنما هذا اسم سماهم به أهل شنآن ، ولعمري ما يهجن عدلا لو دعوت إليه الناس فوافقوك عليه أن سميتهم أهل شنآن البتة ، فلو فعلوا ذلك كان هذا الاسم بدعة ، فهل يهجن ذلك ما أخذت به من أهل العدل ، ثم إنه لو لا كراهية التطويل وأن يكثر التفسير لشرحت لك الأمور التي أجبتك بها فيما كتبت به ، ثم إن أشكل عليك شيء أو أدخل عليك أهل البدع شيئا فأعلمني أجبك فيه إن شاء الله تعالى ، ثم لا آلوك ونفسي خيرا والله المستعان. لا تدع الكتاب إلا بسلامك وحاجتك ، رزقنا الله منقلبا كريما وحياة طيبة ، وسلام الله عليك ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تمّ

__________________

(١) وعد من جعل مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه بها من أهل الضلال لا يكون إلا من المعتزلة أو الخوارج أو ممن ساء سيرهم وهو غير شاعر وقد روى ابن أبي العوام الحافظ عن إبراهيم بن أحمد بن سهل الترمذي عن القاسم بن غسان المروزي القاضي عن أبيه عن محمد بن يعلى زنبور عن أبي حنيفة (ح) قال إبراهيم حدثنا عبد الواحد بن أحمد الرازي بمكة حدثنا موسى بن سهل الرازي أنبأنا بشار بن قيراط عن أبي حنيفة ، دخلت أنا وعلقمة بن مرثد على عطاء بن أبي رباح فقلنا له يا أبا محمد إن ببلادنا قوما يكرهون أن يقولوا إنا مؤمنون ثم قالا : قال عطاء : ولم ذاك؟ قال : يقولون إن قلنا نحن مؤمنون قلنا نحن من أهل الجنة فقال عطاء فليقولوا نحن مؤمنون ولا يقولون نحن من أهل الجنة فإنه ليس من ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ولله عزوجل عليه الحجة إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له ثم قال عطاء : يا علقمة إن أصحابك كانوا يسمون أهل الجماعة حتى كان نافع بن الأزرق فهو الذي سماهم المرجئة. قال القاسم : قال أبي : وإنما سماهم المرجئة فيما بلغنا أنه كلّم رجلا من أهل السّنة فقال له : أين تنزل الكفار في الآخرة؟ قال : النار. قال : فأين تنزل المؤمنين؟ قال : المؤمنون على ضربين : مؤمن بر تقي فهو في الجنة. ومؤمن فاجر رديء فأمره إلى الله عزوجل إن شاء عذّبه بذنوبه وإن شاء غفر له بإيمانه. قال : فأين تنزله؟ قال : لا أنزله ولكني أرجئ أمره إلى الله عزوجل. فقال : فأنت مرجئ اه. فمنّ سمى أهل السنة بالمرجئة فقد تابع نافع بن الأزرق الخارجي الذي يرى تخليد مرتكب الكبيرة في النار (ز).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الإمام أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى : الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان والإقرار وحده لا يكون إيمانا لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين وكذلك المعرفة وحدها لا تكون إيمانا لأنها لو كانت إيمانا لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين. قال الله تعالى في حق المنافقين : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وقال الله تعالى في حق أهل الكتاب : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] والإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا والمؤمن مؤمن حقا والكافر كافر حقا وليس في الإيمان شك كما أنه ليس في الكفر شك لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٤] و (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النّساء : ١٥١] والعاصون من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهم مؤمنون حقا وليسوا بكافرين.

العمل غير الإيمان والإيمان غير العمل بدليل أن كثيرا من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن ولا يجوز أن يقال ارتفع عنه الإيمان فإن الحائض يرفع الله تعالى عنها الصلاة ولا يجوز أن يقال رفع عنها الإيمان أو أمرها بترك الإيمان وقد قال الشارع دعي الصوم ثم اقضيه ولا يجوز أن يقال دعي الإيمان ثم اقضيه ويجوز أن يقال ليس على الفقير الزكاة ولا يجوز أن يقال ليس على الفقير الإيمان.

وتقدير الخير والشر كله من الله تعالى لأنه لو زعم أحد أن تقدير الخير والشر من غيره لصار كافرا بالله تعالى وبطل توحيده.

ونقر بأن الأعمال ثلاثة : فريضة وفضيلة ومعصية. فالفريضة بأمر الله تعالى ومشيئته ومحبته ورضاه وقضائه وقدرته وتخليقه وحكمه وعلمه وتوفيقه وكتابته في اللوح المحفوظ والفضيلة ليست بأمر الله تعالى ولكن بمشيئته ومحبته ورضاه وقضائه وقدره وحكمه وعلمه وتوفيقه وتخليقه وكتابته في اللوح المحفوظ والفضيلة ليست بأمر الله تعالى وإلا كانت فرضة لكنها بمشيئته ومحبته ورضاه وقدره وقضائه وحكمه وعلمه وتوفيقه بإعطاء سلامة الأسباب والاستطاعة المقارنة وتخليقه أي تكوينه لأن الله خالق

أفعال العباد كما سيجيء البحث في ذلك وكتابته في اللوح المحفوظ والمعصية ليست بأمر الله تعالى ولكن بمشيئته لا بمحبته وبقضائه لا برضاه وبتقديره لا بتوفيقه وبخذلانه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ.

ونقر بأن الله سبحانه تعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة واستقر عليه وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ونقر بأن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ووحيه وتنزيله لا هو ولا غيره بل هو صفته على التحقيق مكتوب في المصاحف مقروء ، بالألسنة محفوظ في الصدور غير حال فيها. والحبر والكاغد والكتابة كلها مخلوقة لأنها أفعال العباد وكلام الله تعالى غير مخلوق لأن الكتابة والحروف والكلمات والآيات دلالة القرآن لحاجة العباد إليها وكلام الله تعالى قائم بذاته ومعناه مفهوم بهذه الأشياء فمن قال بأن كلام الله تعالى مخلوق فهو كافر بالله العظيم. والله تعالى معبود لا يزال عما كان وكلامه مقروء ومكتوب ومحفوظ من غير مزايلة عنه.

ونقر بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين ، لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢)) [الواقعة : ١٠ ـ ١٢] وكل من كان أسبق فهو أفضل ويحبهم كل مؤمن تقي ويبغضهم كل منافق شقي.

ونقر بأن العبد مع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق فلما كان الفاعل مخلوقا فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة وأن الله تعالى خلق الخلق ولم يكن لهم طاقة لأنهم ضعفاء عاجزون والله تعالى خالقهم ورازقهم لقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الرّوم : ٤٠] والكسب حلال وجمع المال من الحلال حلال وجمع المال من الحرام حرام.

والناس على ثلاثة أصناف : المؤمن المخلص في إيمانه ، والكافر الجاحد في كفره ، والمنافق المداهن في نفاقه ، والله تعالى فرض على المؤمن العمل وعلى الكافر الإيمان وعلى المنافق الإخلاص لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [النّساء : ١] يعني يا أيها المؤمنون أطيعوا ، ويا أيها الكافرون آمنوا ، ويا أيها المنافقون أخلصوا.

والاستطاعة مع الفعل لا قبل الفعل ولا بعد الفعل لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مستغنيا عن الله تعالى وقت الحاجة وهذا خلاف حكم النص لقوله تعالى : (وَاللهُ

الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد : ٣٨] ولو كان بعد الفعل لكان من المحال لأنه يلزم حصول الفعل بلا استطاعة ولا طاقة.

ونقر بأن المسح على الخفين واجب للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها لأن الحديث ورد هكذا فمن أنكره فإنه يخشى عليه الكفر لأنه قريب من الخبر المتواتر والقصر (١) والإفطار في السفر رخصة بنص الكتاب لقوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [النّساء : ١٠١] وفي الإفطار قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٤].

ونقر بأن الله تعالى أمر القلم بأن يكتب فقال القلم ما ذا أكتب يا رب فقال الله تعالى اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة لقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)) [القمر : ٥٢ ، ٥٣].

ونقر بأن عذاب القبر كائن لا محالة وسؤال منكر ونكير حق لورود الأحاديث ، والجنة والنار حق وهما مخلوقتان لأهلهما لقوله تعالى في حق المؤمنين : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] وفي حق الكفرة : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] خلقهما الله للثواب والعقاب ، والميزان حق لقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] وقراءة الكتب حق لقوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)) [الإسراء : ١٤].

ونقر بأن الله تعالى يحيي هذه النفوس بعد الموت ويبعثهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة للجزاء والثواب وأداء الحقوق لقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحجّ : ٧] ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة. وشفاعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق لكل من هو مؤمن من أهل الجنة وإن كان صاحب الكبيرة. وعائشة بعد خديجة الكبرى أفضل نساء العالمين وأم المؤمنين ومطهرة من الزنى بريئة عما قالت الروافض فيها فمن شهد عليها الزنى فهو ولد الزنى (٢). وأهل الجنة في الجنة خالدون وأهل النار في النار خالدون لقوله تعالى في حق المؤمنين : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٨٢] وفي حق الكفار : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٣٩].

تمّ

__________________

(١) أي قصر الصلاة الرباعية إلى اثنتين.

(٢) بل من قال ذلك في عائشة بعد نزول القرآن ببراءتها فهو كافر خارج عن الملة بلا شك وليس ولد زنى فقط.

فهرس المحتويات

الإمام الكوثري : بقلم الاستاذ الكبير الشيخ محمد ابو زهرة............................ ٥

ترجمة الإمام الكوثري............................................................ ١٠

نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى قبل الآخرة............................... ١٥

فتوى الشيخ محمود شلتوت في وفاة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ، ورفعه ونزوله منقولة عن كتابة (الفتاوي) ص ٥٢ ـ ٧٥ ١٧

رفع عيسى عليه السلام......................................................... ١٧

مناقشة........................................................................ ٢٢

مجمل ما تضمنته فتوى الشيخ محمود شلتوت من آراء................................ ٣٥

تقديم......................................................................... ٣٩

اما ستموا من النزول؟!!......................................................... ٤١

العقيدة الدينية وطريق ثبوتها...................................................... ٤٩

آيات في الرفع والنزول........................................................... ٥٦

السنة وثبوت العقيدة............................................................ ٦٥

الإجماع ثبوت العقيدة........................................................... ٧٨

الإنصاف...................................................................... ٨٩

تقديم......................................................................... ٩١

فصل : وجوب الكف عن ذكر ما جرى بين الصحابة............................. ١٣٣

فصل في الاخبار الواردة عن الفرق بين التلاوة والمتلو والقراءة والمقروء.................. ١٤٥

فصل في بيان الادلة الدالة على ان الحروف والاصوات هي من صفات قراءة القاريء لا انها من كلام الباري    ١٤٨

فصل : قراءة القرآن تارة توصف بالصحة والحسن وتارة توصف بالفساد والقبح ، لانها من افعال العباد         ١٦٠

فصل في بيان ان الفعل يضاف الى الامر به وان لم يفعله........................... ١٦٨

فصل في بيان ان الله تعالى قد فصل بين الفراءة والمقروء............................ ١٦٨

فصل في بيان انه اذا قرا القاريء القرآن وحصل له الثواب ، احصل له الثواب على فعله او على غير فعله      ١٧٠

اختلاف المفسرين في تفسير الحروف المقطعة في اوائل السور على ثمانية اقوال وبيان تلك الاقوال       ١٧٢

فصل في ابطال حجج من قال باثبات قدم الحروف............................... ١٧٦

فصل في الرد على من قال ان الله تعالى متكلم بحروف............................. ١٧٨

فصل في الرد على احتج في اثبات الصوت لكلام الله تعالى........................ ١٧٨

معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسافروا بالقرآن وقوله : لو جعل هذا القرآن في اهاب       ١٨٤

تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم : من حفظ القرآن اختلط بدمه ولحمه.......... ١٨٧

فصل في الرد على من قال اذا كان القديم لا يحل في المصحف فما معنى تعظيمه وتوقيره ١٨٨

فصل فيما بتعلق بمسائل ثلاثة وفروعها : الخلق والارادة والشفاعة والرؤية............. ١٨٩

قول اهل السنة والجماعة ان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده.................... ١٩٠

الرد على من احتج على خلق الافعال بالايات القرآنية............................. ١٩٤

وجوب العلم بانه لا يجري في العالم الا مايريده الله تعالى............................ ٢٠٠

الرد على من يقول بان شرك المشرك ليس بمشيتة الله............................... ٢٠٤

فصل في الشفاعة ـ افتراق المعتزلة في الشفاعة الى فرقتين............................ ٢٠٩

فصل في شبه يراد بها دفع الاخبار الصحاح المجمع على صحتها.................... ٢١٠

قول اهل السنة والجماعة بجواز رؤية الله تعالى ـ اختلاف الصحابة في رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه ليلة المعراج     ٢١٥

دفع شبهة التشبيه............................................................ ٢٢٩

باب ما جاء في القرآن العظيم من ذلك.......................................... ٢٣١

باب ذكر الاحاديث التي سموها اخبار الصفات.................................. ٢٤١

دفع شبه من شبه وتمرد....................................................... ٢٧٧

ترجمة الامام الحصني مؤلف هذا الكتاب......................................... ٢٧٩

سبب تاليف هذا الكتاب..................................................... ٢٨١

تقديم....................................................................... ٢٨٣

كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه................................... ٣٢١

مبحث الرد على ابن تيمية في قوله بفناء النار.................................... ٣٣٨

مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم........................................... ٣٣٩

قصة الراهبين مع ابي عبد الله .................................................. ٣٥٥

السيف الصقيل.............................................................. ٤٠٥

تقديم....................................................................... ٤٠٧

ترجمة السبكي............................................................... ٤٠٧

التعريف بكتاب (السيف الصقيل)............................................. ٤٠٩

التقديم للكتاب.............................................................. ٤١٥

انقشاع ظلمات الجاهلية بمبعثه صلى الله عليه وآله وسلم........................... ٤١٥

تحين الاعداء الفرص للكيد بالمسلمين........................................... ٤١٥

اتخداع سذج الرواة............................................................ ٤١٦

فضل علماء اصول الدين في حراسة الدين....................................... ٤١٧

محاولة ابن تيمية بعث الحشوية من مرقدها....................................... ٤١٧

مسايرة ابن القيم لابن تيمية في فتنة............................................. ٤١٨

نماذج من اقوال اصحاب ابن القيم واضداده والمتحايدين............................ ٤١٩

احق الناس بالرثاء............................................................ ٤٢٠

اخطر ما يطغى من صوف الاستغناء............................................ ٤٢١

ردود السبكي على ابن تيمية والكلام في رده على تونية ابن القيم................... ٤٢١

مقدمة الكتاب للمؤلف....................................................... ٤٢٣

الاشعرية اعدل الفرق......................................................... ٤٢٥

مجامع الزيغ في توثية ابن القيم.................................................. ٤٢٨

تاسي السبكي بامام الحرمين في الرد على بعض جهلة اهل الحديث.................. ٤٢٩

فصل مناظرة خيالية بين المشبه واعنزه ... الخ.................................... ٤٣٠

فصل امثال مضروبة للمعطل والمشبة والموحد..................................... ٤٣٢

فصل من قصيدته التوثية...................................................... ٤٣٢

فصل تخيل الناظم في افعال العباد .. الخ......................................... ٤٣٣

فصل استنكار الناظم اعادة المعدوم .. الخ....................................... ٤٣٦

فصل زعم الناظم قيام الله بالحوادث............................................. ٤٣٧

فصل عقد مجلس خيالي .. كلامه في وحدة الوجود............................... ٤٤٠

فصل الفوقية الحسية ... الخ ................................................... ٤٤٣

تسمية الناظم اهل الحق بحزب جنكز خان....................................... ٤٤٤

تصوير الناظم اهل الحق اسوا تصوير............................................ ٤٥٥

كذب الناظم على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ........................... ٤٥٦

فصل في قدوم ركب الايمان وعسكر القرآن...................................... ٤٥٨

عدم تمييز الناظم بين اللازم والملزوم............................................. ٤٦٠

تخبط الناظم في الصوت....................................................... ٤٦٠

كلام واف في احاديث الصوت................................................ ٤٦٢

فصل : قوله : انه يلزم من نفى صفة الكلام نفي الرسالة.......................... ٤٦٣

فصل وقيعة الناظم وشيخه في اين حزم.......................................... ٤٦٥

الكلام اللفظي............................................................... ٤٦٦

فصل في مقالة الفلاسفة والقرامطة.............................................. ٤٦٦

فصل في الاتحادية............................................................ ٤٦٧

فصل القول في تجويز التسلسل في الماضي........................................ ٤٧٠

فصل في الرد على الجهمية المعطلة.............................................. ٤٧٢

فصل نصوص عن ابن تيمية في الفوقية الحسية................................... ٤٧٥

قول ابي حيان في ابن تيمية.................................................... ٤٧٧

فصل كلمة ابن تيمية في العلو والفوقية والرد عليه................................. ٤٨١

فصل حديث النزول.......................................................... ٤٨٢

فصل الاشارة الى رفع الايدي الى السماء........................................ ٤٨٣

فصل دعوى الناظم في الرؤية بدون مقابلة....................................... ٤٨٤

فصل بسط الكلام في السؤال ب (أين) في حديث الجارية......................... ٤٨٥

توهين سند حديث ابي رزين................................................... ٤٨٧

تفنيد زعم الاجماع على الفوقية الحسبة.......................................... ٤٨٩

بسط الكلام في رد القول بالجهة............................................... ٤٩٠

تناقض ابن تيمية في الجهة وكذبه............................................... ٤٩٢

مخالفات ابن تيمية............................................................ ٤٩٣

رد المصنف على الناظم في الفوقية.............................................. ٤٩٨

روايات الضراب عن مالك في النزول............................................ ٤٩٨

قول اليافعي في الحشوية....................................................... ٥٠٠

احد المراسيم الصادرة في حق ابن تيمية.......................................... ٥٠١

نص الامام احمد في المجىء..................................................... ٥٠٤

معنى كتب ربكم على نفسه بيده............................................... ٥٠٥

سخف عثمان بن سعيد في التمسك بحديث حصين في الفوقية..................... ٥٠٦

الشعر المنسوب الى ابن رواحة رضي الله عنه...................................... ٥٠٧

حديث بني قريظة ............................................................ ٥٠٨

حديث جابر رضي الله عنه .................................................... ٥٠٩

فصل : بحث ممتع في التاويل................................................... ٥١٠

قول ابن حجر في التاويل...................................................... ٥١١

تحقيق ابن دقيق العيد.......................................................... ٥١٢

صنيع الصحابة في التاويل..................................................... ٥١٣

اضطراب الحشوية............................................................ ٥١٣

القول بالتجلي في الصور...................................................... ٥١٥

تبديع الفلاسفة واكفارهم...................................................... ٥١٦

القول بتجرد الروح........................................................... ٥١٧

نص من ابن تيمية في الحد والجسم .............................................. ٥١٨

قول السلف في العين وليد..................................................... ٥٢٢

خداع الناظم وشيخه ......................................................... ٥٢٢

معنى القبضة عند الخلف ...................................................... ٥٢٣

المعطل في الاصل من ينفي الصانع.............................................. ٥٢٤

فصل : في عهود المثبتين مع الله رب العالمين...................................... ٥٢٨

فصل : افتراؤهم المثلث على الاشعرية........................................... ٥٢٩

فصل : في حياة الانبياء....................................................... ٥٣٠

فتيا الائمة في انكاره شد الرحل لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم .................... ٥٣٠

نص ابن عقيل الحنبلي في تذكرته............................................... ٥٣١

نصوص من المطالب العالية للفخر الرازي........................................ ٥٣٤

فصل في الهدنة بين المعطلة والاتحادية حزب جنكسخان........................... ٥٣٨

فصل في مصارع المعطلة باسنة الموحدين......................................... ٥٣٨

فصل في كسر الطاغوت الذي نقوا به الصفات .................................. ٥٤٠

فصل في مبدا العداوة بين الموحدين والمعطلين..................................... ٥٤٠

فصل في ان التعطيل اساس الزندقة.............................................. ٥٤١

فصل في بهت اهل الشرك والتعطيل............................................. ٥٤١

فصل في اذان اهل السنة بصريحها جهرا على رؤوس منابر الاسلام.................. ٥٤٣

فصل في تلازم التعطيل والشرك................................................. ٥٤٥

فصل في مثل المشرك والمعطل................................................... ٥٤٦

فصل في اسبق الناس دخولا الى الجنة........................................... ٥٥٠

فصل في عدد الجنات......................................................... ٥٥١

فصل في يوم المزيد............................................................ ٥٥٢

نص رسالة الامام الذهبي الى شيخ الاسلام ابن تيمية.............................. ٥٥٥

نص الرسالة................................................................. ٥٥٧

لماذا يقال للناظم ابن القيم..................................................... ٥٥٩

خاتمة تكملة الرد............................................................. ٥٥٩

العالم والمتعلم ، الفقه الابسط ـ الفقه الاكبر ، رسالة ابي حنيفة ـ الوصية.............. ٥٦١

كلمة عن العالم والمتعلم ورسالة ابي حنيفة الى النبي والفقه الابسط ورواتها............. ٥٦٣

العالم والمتعلم رواية ابي مقاتل عن ابي حنيفة رضي الله عنهما........................ ٥٦٩

تقديم....................................................................... ٥٧١

رواية ابي مطيع عن ابي حنيفة رضي الله عنهما.................................... ٥٩٧

تقديم....................................................................... ٥٩٩

باب في القدر............................................................... ٦٠٣

باب المشيئة................................................................. ٦١٠

باب آخر في المشيئة.......................................................... ٦١١

باب الرد على من يكفر بالذنب............................................... ٦١٢

باب في الايمان............................................................... ٦١٣

الفقه الاكبر................................................................. ٦١٧

تقديم....................................................................... ٦١٩

رسالة ابي حنيفة الى عثمان البتي عالم اهل البصرة رضي الله عنهما في التبري مما يرمى به من الارجاء كذبا وزورا من جهلة اغرار    ٦٢٧

تقديم....................................................................... ٦٢٩

كتاب وصية الامام ابي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رضي الله عنه في التوحيد...... ٦٣٣

تقديم....................................................................... ٦٣٥

فهرس المحتويات.............................................................. ٦٣٩

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الصفحات: 645
ISBN: 978-2-7451-4364-6
  • الإمام الكوثري : بقلم الاستاذ الكبير الشيخ محمد ابو زهرة 5
  • ترجمة الإمام الكوثري 10
  • نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى قبل الآخرة 15
  • فتوى الشيخ محمود شلتوت في وفاة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ، ورفعه ونزوله منقولة عن كتابة (الفتاوي) ص 52 ـ 75 17
  • رفع عيسى عليه السلام 17
  • مناقشة 22
  • مجمل ما تضمنته فتوى الشيخ محمود شلتوت من آراء 35
  • تقديم 39
  • اما ستموا من النزول؟!! 41
  • العقيدة الدينية وطريق ثبوتها 49
  • آيات في الرفع والنزول 56
  • السنة وثبوت العقيدة 65
  • الإجماع ثبوت العقيدة 78
  • الإنصاف 89
  • تقديم 91
  • فصل : وجوب الكف عن ذكر ما جرى بين الصحابة 133
  • فصل في الاخبار الواردة عن الفرق بين التلاوة والمتلو والقراءة والمقروء 145
  • فصل في بيان الادلة الدالة على ان الحروف والاصوات هي من صفات قراءة القاريء لا انها من كلام الباري    148
  • فصل : قراءة القرآن تارة توصف بالصحة والحسن وتارة توصف بالفساد والقبح ، لانها من افعال العباد         160
  • فصل في بيان ان الفعل يضاف الى الامر به وان لم يفعله 168
  • فصل في بيان ان الله تعالى قد فصل بين الفراءة والمقروء 168
  • فصل في بيان انه اذا قرا القاريء القرآن وحصل له الثواب ، احصل له الثواب على فعله او على غير فعله      170
  • اختلاف المفسرين في تفسير الحروف المقطعة في اوائل السور على ثمانية اقوال وبيان تلك الاقوال       172
  • فصل في ابطال حجج من قال باثبات قدم الحروف 176
  • فصل في الرد على من قال ان الله تعالى متكلم بحروف 178
  • فصل في الرد على احتج في اثبات الصوت لكلام الله تعالى 178
  • معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسافروا بالقرآن وقوله : لو جعل هذا القرآن في اهاب       184
  • تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم : من حفظ القرآن اختلط بدمه ولحمه 187
  • فصل في الرد على من قال اذا كان القديم لا يحل في المصحف فما معنى تعظيمه وتوقيره 188
  • فصل فيما بتعلق بمسائل ثلاثة وفروعها : الخلق والارادة والشفاعة والرؤية 189
  • قول اهل السنة والجماعة ان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده 190
  • الرد على من احتج على خلق الافعال بالايات القرآنية 194
  • وجوب العلم بانه لا يجري في العالم الا مايريده الله تعالى 200
  • الرد على من يقول بان شرك المشرك ليس بمشيتة الله 204
  • فصل في الشفاعة ـ افتراق المعتزلة في الشفاعة الى فرقتين 209
  • فصل في شبه يراد بها دفع الاخبار الصحاح المجمع على صحتها 210
  • قول اهل السنة والجماعة بجواز رؤية الله تعالى ـ اختلاف الصحابة في رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لربه ليلة المعراج     215
  • دفع شبهة التشبيه 229
  • باب ما جاء في القرآن العظيم من ذلك 231
  • باب ذكر الاحاديث التي سموها اخبار الصفات 241
  • دفع شبه من شبه وتمرد 277
  • ترجمة الامام الحصني مؤلف هذا الكتاب 279
  • سبب تاليف هذا الكتاب 281
  • تقديم 283
  • كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه 321
  • مبحث الرد على ابن تيمية في قوله بفناء النار 338
  • مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم 339
  • قصة الراهبين مع ابي عبد الله 355
  • السيف الصقيل 405
  • تقديم 407
  • ترجمة السبكي 407
  • التعريف بكتاب (السيف الصقيل) 409
  • التقديم للكتاب 415
  • انقشاع ظلمات الجاهلية بمبعثه صلى الله عليه وآله وسلم 415
  • تحين الاعداء الفرص للكيد بالمسلمين 415
  • اتخداع سذج الرواة 416
  • فضل علماء اصول الدين في حراسة الدين 417
  • محاولة ابن تيمية بعث الحشوية من مرقدها 417
  • مسايرة ابن القيم لابن تيمية في فتنة 418
  • نماذج من اقوال اصحاب ابن القيم واضداده والمتحايدين 419
  • احق الناس بالرثاء 420
  • اخطر ما يطغى من صوف الاستغناء 421
  • ردود السبكي على ابن تيمية والكلام في رده على تونية ابن القيم 421
  • مقدمة الكتاب للمؤلف 423
  • الاشعرية اعدل الفرق 425
  • مجامع الزيغ في توثية ابن القيم 428
  • تاسي السبكي بامام الحرمين في الرد على بعض جهلة اهل الحديث 429
  • فصل مناظرة خيالية بين المشبه واعنزه ... الخ 430
  • فصل امثال مضروبة للمعطل والمشبة والموحد 432
  • فصل من قصيدته التوثية 432
  • فصل تخيل الناظم في افعال العباد .. الخ 433
  • فصل استنكار الناظم اعادة المعدوم .. الخ 436
  • فصل زعم الناظم قيام الله بالحوادث 437
  • فصل عقد مجلس خيالي .. كلامه في وحدة الوجود 440
  • فصل الفوقية الحسية ... الخ 443
  • تسمية الناظم اهل الحق بحزب جنكز خان 444
  • تصوير الناظم اهل الحق اسوا تصوير 455
  • كذب الناظم على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم 456
  • فصل في قدوم ركب الايمان وعسكر القرآن 458
  • عدم تمييز الناظم بين اللازم والملزوم 460
  • تخبط الناظم في الصوت 460
  • كلام واف في احاديث الصوت 462
  • فصل : قوله : انه يلزم من نفى صفة الكلام نفي الرسالة 463
  • فصل وقيعة الناظم وشيخه في اين حزم 465
  • الكلام اللفظي 466
  • فصل في مقالة الفلاسفة والقرامطة 466
  • فصل في الاتحادية 467
  • فصل القول في تجويز التسلسل في الماضي 470
  • فصل في الرد على الجهمية المعطلة 472
  • فصل نصوص عن ابن تيمية في الفوقية الحسية 475
  • قول ابي حيان في ابن تيمية 477
  • فصل كلمة ابن تيمية في العلو والفوقية والرد عليه 481
  • فصل حديث النزول 482
  • فصل الاشارة الى رفع الايدي الى السماء 483
  • فصل دعوى الناظم في الرؤية بدون مقابلة 484
  • فصل بسط الكلام في السؤال ب (أين) في حديث الجارية 485
  • توهين سند حديث ابي رزين 487
  • تفنيد زعم الاجماع على الفوقية الحسبة 489
  • بسط الكلام في رد القول بالجهة 490
  • تناقض ابن تيمية في الجهة وكذبه 492
  • مخالفات ابن تيمية 493
  • رد المصنف على الناظم في الفوقية 498
  • روايات الضراب عن مالك في النزول 498
  • قول اليافعي في الحشوية 500
  • احد المراسيم الصادرة في حق ابن تيمية 501
  • نص الامام احمد في المجىء 504
  • معنى كتب ربكم على نفسه بيده 505
  • سخف عثمان بن سعيد في التمسك بحديث حصين في الفوقية 506
  • الشعر المنسوب الى ابن رواحة رضي الله عنه 507
  • حديث بني قريظة 508
  • حديث جابر رضي الله عنه 509
  • فصل : بحث ممتع في التاويل 510
  • قول ابن حجر في التاويل 511
  • تحقيق ابن دقيق العيد 512
  • صنيع الصحابة في التاويل 513
  • اضطراب الحشوية 513
  • القول بالتجلي في الصور 515
  • تبديع الفلاسفة واكفارهم 516
  • القول بتجرد الروح 517
  • نص من ابن تيمية في الحد والجسم 518
  • قول السلف في العين وليد 522
  • خداع الناظم وشيخه 522
  • معنى القبضة عند الخلف 523
  • المعطل في الاصل من ينفي الصانع 524
  • فصل : في عهود المثبتين مع الله رب العالمين 528
  • فصل : افتراؤهم المثلث على الاشعرية 529
  • فصل : في حياة الانبياء 530
  • فتيا الائمة في انكاره شد الرحل لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم 530
  • نص ابن عقيل الحنبلي في تذكرته 531
  • نصوص من المطالب العالية للفخر الرازي 534
  • فصل في الهدنة بين المعطلة والاتحادية حزب جنكسخان 538
  • فصل في مصارع المعطلة باسنة الموحدين 538
  • فصل في كسر الطاغوت الذي نقوا به الصفات 540
  • فصل في مبدا العداوة بين الموحدين والمعطلين 540
  • فصل في ان التعطيل اساس الزندقة 541
  • فصل في بهت اهل الشرك والتعطيل 541
  • فصل في اذان اهل السنة بصريحها جهرا على رؤوس منابر الاسلام 543
  • فصل في تلازم التعطيل والشرك 545
  • فصل في مثل المشرك والمعطل 546
  • فصل في اسبق الناس دخولا الى الجنة 550
  • فصل في عدد الجنات 551
  • فصل في يوم المزيد 552
  • نص رسالة الامام الذهبي الى شيخ الاسلام ابن تيمية 555
  • نص الرسالة 557
  • لماذا يقال للناظم ابن القيم 559
  • خاتمة تكملة الرد 559
  • العالم والمتعلم ، الفقه الابسط ـ الفقه الاكبر ، رسالة ابي حنيفة ـ الوصية 561
  • كلمة عن العالم والمتعلم ورسالة ابي حنيفة الى النبي والفقه الابسط ورواتها 563
  • العالم والمتعلم رواية ابي مقاتل عن ابي حنيفة رضي الله عنهما 569
  • تقديم 571
  • رواية ابي مطيع عن ابي حنيفة رضي الله عنهما 597
  • تقديم 599
  • باب في القدر 603
  • باب المشيئة 610
  • باب آخر في المشيئة 611
  • باب الرد على من يكفر بالذنب 612
  • باب في الايمان 613
  • الفقه الاكبر 617
  • تقديم 619
  • رسالة ابي حنيفة الى عثمان البتي عالم اهل البصرة رضي الله عنهما في التبري مما يرمى به من الارجاء كذبا وزورا من جهلة اغرار    627
  • تقديم 629
  • كتاب وصية الامام ابي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رضي الله عنه في التوحيد 633
  • تقديم 635
  • فهرس المحتويات 639