بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلواته واكمل تحياته على اشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما بقية الله في الأرضيين أرواح من سواه فداه.

وبعد فهذا هو الجزء الخامس من كتابنا زبدة الاصول في طبعته الثانية ، وفقنا الله لطبعه ونشره في حلة جديدة والله وليُّ التوفيق.

الفصل الثالث

من

الأصول العملية

أصالة الاحتياط

الفصل الثالث (١)

في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف إجمالا

وملخص القول فيه : انه لو علم إجمالا بتعلق التكليف من الإيجاب والتحريم بشيء : فتارة يتردد ذلك الشيء بين المتباينين. وأخرى بين الأقل والأكثر.

فلا مناص من البحث في مقامين.

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين

وقبل الشروع في بيان ما هو الحق لا بد وان يعلم انه قد مر في مبحث العلم الإجمالي في القطع ان هذه المسألة معنونة في مباحث القطع وفي مباحث الشك ، وان المناسب للبحث في القطع هو البحث عن كون العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية ، هل يكون بنحو العلية؟ أو بنحو الاقتضاء؟

ثم بعد الفراغ عن كونه مقتضيا بالنسبة إلى كلا الحكمين ، أو خصوص

__________________

(١) هذا الفصل (أصالة الاحتياط) وقاعدة (لا الضرر) راجعه وأخرج مصادره اخي الحبيب الشيخ مصطفى مصري وكنت قد أشرت الى ذلك في بداية الجزء الرابع.

الأولى منهما ، يبحث في مبحث الاشتغال عن ثبوت المانع وعدمه.

لا ما أفاده الشيخ الأعظم من ان المناسب لمباحث العلم هو البحث عن الحكم الأول ولمباحث الشك هو البحث عن الحكم الثاني فراجع (١).

وأيضا قد مر هناك مفصلا ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية يكون مقتضيا وبالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية يكون علة تامة.

وأيضا قد مر في ذلك المبحث انه قد يتوهم التنافي بين كلمات المحقق الخراساني في البابين حيث انه يرى في باب العلم الإجمالي ان العلم الإجمالي مقتض للتنجز وهو يصرح في المقام بكونه علة تامة له.

وبينا مراده الذي يندفع به هذا التوهم. وحاصله ان المعلوم بالإجمال ان كان فعليا من جميع الجهات يكون العلم علة تامة لتنجزه ، وان كان فعليا من جهة يكون مقتضيا له ، هذا ما يفيده في المقام.

وفي مبحث العلم الإجمالي أفاد انه يستكشف من أدلة الأصول كون كل حكم فعليا من جهة ، إلا ما دل دليل على كونه فعليا من جميع الجهات فراجع ما بيناه.

ولكن يرد عليه مضافا ما ذكرناه في ذلك الباب ، انه ان لم يؤخذ العلم دخيلا في الموضوع لا يعقل عدم فعلية الحكم إلا ان يتعلق به العلم التفصيلي ، فإن ترتب الحكم على موضوعه وفعليته عند فعلية موضوعه ، إنما يكون بنحو

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٧٠.

ترتب المعلول على علته التامة ، ولا يعقل التخلف ، مثلا : لو قال الخمر حرام بلا اخذ شيء آخر في الموضوع لو وجد الخمر لا محالة يصير حكمها ، وهو الحرمة فعليا ، وإلا يلزم الخلف.

وبالجملة لا يعقل اخذ العلم بمرتبة من الحكم كالإنشاء دخيلا في مرتبة أخرى وهي الفعلية للتلازم بينهما.

وان اخذ في الموضوع يلزم الدور على المشهور أو الخلف على قول آخر.

والإجماع والضرورة قائمان على عدمه كما حقق في محله ، نعم في القطع الموضوعي يمكن اخذ العلم التفصيلي في الموضوع ، لكنه خارج عن محل الكلام : إذ الكلام في المقام في القطع الطريقي.

وكيف كان فتحقيق القول يقتضي البحث في مقامين :

المقام الأول : في ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى كل من المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، هل يكون مقتضيا للتنجيز؟ أم علة تامة؟ أم لا يكون له اقتضاء؟ أم هناك تفصيل؟

المقام الثاني : في انه على فرض كونه مقتضيا ، هل أدلة الأصول تصلح للشمول لأطرافه أم لا؟ وعلى فرض العدم هل يشمل بعض الأطراف بنحو التخيير أم لا؟

اما المقام الأول : فقد أشبعنا الكلام فيه في ضمن مباحث أربعة في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع ـ وقد عرفت هناك ان المناسب في ذلك المبحث هو البحث في المقام الأول ، والمناسب لمباحث الشك البحث في المقام الثاني.

شمول أدلة الأصول والأمارات لأطراف العلم وعدمه

واما المقام الثاني : فالكلام فيه في موردين :

أحدهما : في شمول أدلة الأمارات والأصول لأطراف العلم الإجمالي ، وعدمه.

ثانيهما : في انه على فرض عدم الشمول لجميع الأطراف ، هل تشمل بعضها أم لا؟

اما المورد الأول : فحيث عرفت ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، إنما يكون من قبيل العلة التامة ، فعدم شمولها لجميع الأطراف مع استلزام جريانها فيها المخالفة القطعية واضحة.

وإنما يصح هذا البحث على مسلك من يرى انه بالنسبة إليها إنما يكون مقتضيا ، وأيضا يصح فيما إذا لم يلزم من جريانها في جميع الأطراف المخالفة القطعية العملية ، كما لو كان إناءان معلومي النجاسة ، سابقا ، وعلم بطهارة أحدهما لاحقا واشتبه الطاهر بالنجس ، فإنه لا يلزم من إجراء استصحاب النجاسة في كل منهما مخالفة عملية لتكليف لزومي.

والمختار عدم جريان الأمارات فيها ، وجريان الأصول من غير فرق بين التنزيلية وغيرها.

اما عدم جريان الأمارات ، فلان الإمارة حجة في مثبتاتها ولو لم يلتفت المخبر إليها ، وعليه فيلزم من جريانها في جميع الأطراف التعبد بالمتضادين.

مثلا : لو علم بطهارة احد الإنائين ، واخبر ثقة بنجاسة أحدهما ، واخبر آخر بنجاسة الإناء الآخر ، فلو شمل دليل حجية الخبر الواحد لكلا الخبرين لزم التعبد بأن كل إناء نجس وطاهر ، فإن من يخبر عن نجاسة احد الإنائين ، يخبر بالملازمة عن طهارة الآخر وكذلك من يخبر بنجاسة الآخر ، فيلزم من التعبد بهما ، البناء على انهما نجسان وطاهران ، وهو كما ترى.

اما جريان الأصول فيها ، فلوجود المقتضى ، وعدم المانع ، بعد عدم كون الأصل حجة في مثبتاته.

وقد اختار الشيخ الأعظم (١) والمحقق النائيني (٢) ، عدم جريان الأصل التنزيلي وهو الاستصحاب في جميع الأطراف.

واستدلاله بوجهين :

الأول : ما أفاده الشيخ (٣) ، وهو ان الشك المأخوذ في صدر دليله ، وان كان يعم المقرون بالعلم الإجمالي إلا ان اليقين المجعول في ذيله ناقضا ، يشمل العلم الإجمالي أيضاً ، وبديهي ان الحكم بحرمة النقض في جميع الأطراف ، يناقض الحكم بالنقض في بعضها.

وفيه : ان هذا الوجه يجري في جميع الأصول حتى غير التنزيلية مثل قاعدة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ١٢٩. ج ٣ ص ٢٢٦ / مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٥١.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ١١١.

(٣) نسبه إلى الشيخ الأنصاري في منتهى الدراية ج ٤ ص ١٤٤ وقال : انه ذكره في رسالة الاستصحاب.

الحل ، حيث انه جعل الغاية فيها العلم ، الشامل للعلم الإجمالي.

مع انه لو سلم التناقض والتنافي ولاجله حكم بالإجمال ، فيمكن الاستدلال بسائر الأدلة التي لا تكون مذيلة بهذا الذيل.

أضف إلى ذلك ، ان الناقض هو اليقين المتعلق ، بعين ما تعلق به اليقين السابق ، فإذا علم بنجاسة احد الإنائين ، ثم علم بغسله إجمالا يكون العلم الثاني ناقضا له.

واما إذا كان اليقين السابق متعلقا بكل واحد بخصوصه ، واليقين اللاحق متعلقا بأحدهما لا بعينه فمثل هذا اليقين لا يصلح للناقضية لليقين السابق لتعدد المتعلق.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان هناك مانعا ثبوتيا عن جريانه.

وحاصله : ان جعل الاستصحابين يضاد مع العلم الإجمالي نفسه ، إذ المجعول في باب الاستصحاب هو البناء العملي على وفق الإحراز السابق ، أي بقائه عملا ، ومن المعلوم ان الحكم ببقاء الاحرازين تعبدا ، وعملا ، يناقض الإحراز الوجداني لعدم بقائهما.

وفيه : ان الاستصحاب إنما يجري في كل منهما بخصوصه ويتعبد ببقاء الإحراز السابق عملا فيه ، ولا نظر له إلى الطرف الآخر ، لفرض عدم حجيته في مثبتاته ، وعليه فلا مانع من جريانهما والعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، لا

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٥.

يمنع من جريانهما. وتمام الكلام في مبحث الاستصحاب فانتظر.

فالحق انه لا مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي تنزيلية كانت أم غير تنزيلية إلا من ناحية منجزية العلم الإجمالي ولزوم المخالفة القطعية. فإذا فرض عدم المانع من جهته تجري الأصول.

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف وعدمه

واما المورد الثاني : فقد عرفت ان العلم الإجمالي ، ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، بل يكون مقتضيا له.

وعليه : فيقع الكلام في ان أدلة الأصول وغيرها من الأدلة ، هل تشمل بعض الأطراف ، بنحو يكون لازمه جواز ارتكاب ما زاد عن مقدار الحرام كما عن بعض؟ أم لا تشمل؟ كما عن المشهور.

والكلام في هذا المورد يقع في جهتين :

الأولى : في شمول العمومات.

الثانية : فيما يقتضيه النصوص الخاصة في العلم الإجمالي.

اما الأولى : فالمختار عدم شمول أدلة الأصول للبعض المعين ، ولا للبعض غير المعين ، وشمولها لبعضها تخييرا ، بأن تشمل جميع الأطراف بنحو التخيير.

اما عدم شمولها للمعين ، فلأنه يلزم منه الترجيح بلا مرجح ، ولا يرتفع هذا المحذور بتعليق الشمول على ما يختاره أولا ، فإنه يسأل عن المرجح لشمولها له

دون الذي لم يختره ، مع كون نسبة الدليل اليهما على حد سواء.

واما عدم شمولها لغير المعين ، فلأنه اما لا مورد لها ، أو لا يفيد شمولها له.

مثلا : لو علمنا بنجاسة احد الماءين ، فإما ان يكون طهارة الآخر معلومة ، أو تكون مشكوكا فيها ، فعلى الأول لا مورد للأصل ، وعلى الثاني لا يفيد ، إذ الطهارة الظاهرية لا تزيد على الطهارة المعلومة فكما ان الطهارة الواقعية المعلومة ، لا توجب عدم وجوب الموافقة القطعية كذلك الطهارة الظاهرية الثابتة بها.

وبالجملة : وجوب الاجتناب عن كل منهما ليس لأجل حكم الشارع بنجاسة كليهما حتى يرتفع بجريان أصالة الطهارة مثلا في أحدهما ، وإنما يكون بحكم العقل من باب احتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، وهذا الاحتمال الذي يكون موضوع حكم العقل بوجوب دفعه لا يرتفع بالتعبد بطهارة أحدهما غير المعين ، فإن كل واحد منهما بعد ذلك يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فلا بد وان يدفع هذا الاحتمال ، أو يجتنب بحكم العقل.

هذا لو أريد به غير المعين عندنا ، ولو أريد به غير المعين في الواقع ، فهو لا حقيقة له ، ولا تحقق كي يجري فيه الأصول.

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف تخييرا

واما شمولها لبعض أطراف العلم الإجمالي تخييرا ، بأن تشمل جميع الأطراف بنحو التخيير ، فتقريبه يتوقف على بيان مقدمة ، وهي :

ان التخيير على ثلاثة أقسام :

الأول : التخيير الشرعي الذي يحكم به الشارع ابتداء كما في تعارض الخبرين مع عدم المرجح.

الثاني : التخيير الثابت في مورد التزاحم الذي يحكم به العقل فإنه إذا لم يتمكن المكلف من امتثال التكليفين معا لا محالة يسقط الإطلاق من كل من الدليلين ، فتكون النتيجة : ثبوت التكليف في كل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر.

أو يسقط الخطابان ويستكشف خطاب تخييري من الملاكين الملزمين ، على اختلاف المسلكين.

الثالث : التخيير الثابت من جهة الاقتصار على المتيقن في رفع اليد عن ظواهر خطابات المولى ، كما لو ورد عام أفرادي له إطلاق أحوالي مثل ما لو قال اكرم كل عالم فإن مقتضى اطلاقه الاحوالي لزوم إكرام كل فرد ، في كل حال ، حتى في حال إكرام الآخر ، ثم علمنا عدم وجوب إكرام فردين من العلماء كزيد وعمرو مثلا معا ، ودار الأمر بين ان يكون كل منهما خارجا عن تحت العام رأسا فلا يجب إكرامهما ، وبين ان يقيد اطلاقه الاحوالي فيجب إكرام كل منهما عند ترك إكرام الآخر ، ومن المعلوم ان المتعين هو الثاني.

وبعبارة أخرى : الضرورات تتقدر بقدرها ، فالمقدار المعلوم خروجه عن تحت العام هو عدم وجوب إكرامهما معا ، واما الزائد عن ذلك فمقتضى عموم العام ، هو لزوم إكرام كل منهما منفردا ويترتب على هذا ثمرات مهمة في الفقه.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فاعلم ان المدعى جريان القسم الثالث في المقام دون الاولين ، بدعوى ان مقتضى إطلاق أدلة الأصول ثبوت الترخيص في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، سواء ارتكب الأطراف الأخر أم لم يرتكب ، وقد علمنا من حكم العقل بقبح الترخيص في المعصية ، انه لم يرخص الشارع في ارتكاب جميع الأطراف ، ودار الأمر بين ان يرفع اليد عن الترخيص في الجميع رأسا ، وبين أن يرفع اليد عن إطلاق الترخيص في كل طرف وتقييده بما إذا لم يرتكب الأطراف الأخر ، وقد عرفت ان المتعين هو الثاني.

ولازم ذلك هو التخيير في ان يطبق الترخيص على أي طرف شاء المكلف.

وبهذا البيان يظهر انه لا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أدلة الأصول في المعنيين أي ، الترخيص التعييني في الشبهات البدوية ، والتخييري في المقرونة بالعلم الإجمالي.

وأورد عليه بإيرادات :

أحدهما : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه في المقام حيث يستحيل الإطلاق فيستحيل التقييد أيضاً ، لان التقابل بين الإطلاق والتقييد إنما يكون من تقابل العدم والملكة فإذا لم يمكن الإطلاق ثبوتا كيف يمكن التقييد في مقام الإثبات.

وفيه : انه في موارد العدم والملكة ، امتناع أحدهما لا يستلزم امتناع الآخر ، بل ربما يكون الآخر ضروريا ، مثلا الجهل في المبدأ إلا على محال ، والعلم

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٤٥. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٢١.

ضروري ، والغنى في الممكن محال ، والفقر ضروري ، وهكذا.

اما في الإطلاق والتقييد ، فإذا امتنع أحدهما لمحذور فيه ، وكان ذلك في الآخر يكون هو أيضاً محالا ، مثلا : تقييد وجوب الصلاة بخصوص العاجزين محال ، والإطلاق أيضاً محال لعين ذلك المحذور ، وهو قبح التكليف بما لا يطاق.

ولو لم يكن ذلك المحذور في الآخر كما في تقييد الولاية بالفاسق ، فإنه ممتنع لكونه ترجيحا للمرجوح على الراجح ، يكون الإطلاق أو التقييد بمقابله ضروريا بعد امتناع الإهمال في الواقع ، وفي المقام بما انه يترتب محذور على الإطلاق وهو لزوم الترخيص في المعصية ، وهذا المحذور ليس في التقييد لا يكون محالا.

ثانيها : ان دليل عدم الإطلاق بما انه كالمتصل لكونه من البديهيات ، وهو يكون مجملا مرددا بين ان يقيد به الإطلاق الاحوالي أو الافرادي ، واجماله يسري إلى العام فلا وجه للتمسك بالإطلاق الافرادي لأدلة الأصول.

وفيه : ان المقيد في المقام ليس مجملا فإن الترخيص في المعصية ليس أمرا مجملا ، بل من المفاهيم الواضحة ، وهو إنما يترتب على الإطلاق الاحوالي دون الافرادي ، فلا محالة يوجب تقييده خاصة.

ثالثها : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) وحاصله ان المأخوذ في أدلة الأصول موضوعا لها ، هو عدم العلم لا الشك ، اما في مثل (رفع عن أمتي ... ما

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ٢٤٦.

لا يعلمون) (١) (إن الناس في سعة ما لم يعلموا) (٢) فواضح.

واما مثل (كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) (٣) فلأنه من جعل الغاية العرفان والعلم ، يستكشف ، ان المغيا ، هو ما لم يعلم وحيث ان العلم المجعول غاية أعم من الإجمالي والتفصيلي فكذا عدم العلم المأخوذ موضوعا هو عدم العلم الإجمالي والتفصيلي.

وعليه فلا يشمل أدلة الأصول أطراف العلم الإجمالي أصلاً.

وفيه : انه لو كان المقصود اجراء اصل واحد في جميع الأطراف كان ما ذكر متينا ، ولكن الذي يجري فيه الأصل هو كل طرف بخصوصه ، وهو كما يكون مشكوكا فيه يكون غير معلوم : إذ المعلوم بالإجمال هو الجامع وكل خصوصية وطرف غير معلوم ، فلا فرق بين كون الموضوع هو الشك أو عدم العلم.

رابعها : ما أفاده المحقق صاحب الدرر (ره) (٤) ، وهو ان الأدلة الدالة على ان العالم يحتج عليه ما علم ، وانه في غير سعة من معلوماته يقتضي الاحتياط بحكم العقل وينافى الترخيص الذي استكشفناه من الإطلاق ـ مضافا ـ إلى منع إطلاق الأدلة المرخصة ، بل هي متعرضة لحكم الشك من حيث انه شك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٥ ص ٣٦٩ ح ٢٠٧٦٩.

(٢) عوالي اللئالي ج ١ ص ٤٢٤ / مستدرك الوسائل ج ١٨ ص ٢٠.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٧ ص ٧٨ ح ٢٢٠٥٠ وكذلك في الجزء ٢٤ و ٢٥. ووردت روايات أخرى فيها كلمة حتى تعلم.

(٤) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ١١٧.

وفيه : اما الأدلة الدالة على ان العالم في غير سعة من معلوماته ، فهي متضمنة لبيان حكم إرشادي إلى ما يحكم به العقل ، وليست في مقام بيان حكم مولوي ، لما مر من ان الأمر بالاطاعة والنهي عن المعصية لا يكونان مولويين.

واما حكم العقل فهو حكم تعليقي يرتفع بورود الترخيص ولا ينافيه.

واما ما ذكره من منع الإطلاق ، فيرد عليه انه لم يشك احد في التمسك بإطلاقها في موارد الشبهات البدوية ، ويتمسك بها فيها بكلا اطلاقيها.

خامسها : ما أفاده الأستاذ المحقق وحيد عصره الخوئي (١) ، وهو ان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ليس استلزامه الترخيص في الجمع ، وإلا لزم الالتزام بشمول الأدلة لجميع الأطراف ابتداءً فيما إذا كانت امورا متضادة ، مع ان المفروض خلافه.

بل المانع هو الجمع في الترخيص ، وذلك لا يرتفع بتقييد الترخيص في كل منها بعدم ارتكاب الآخر فإن المكلف إذا لم يرتكب شيئا من الأطراف كان الترخيص في جميعها فعليا لا محالة ، وهو مستلزم للعلم بترخيص ما علم حرمته بالفعل.

وبتقريب آخر : إذا علمنا حرمة احد الماءين وإباحة الآخر ، فالحرمة المعلومة غير مقيدة بترك المباح يقينا كما ان الإباحة غير مقيدة بترك الحرام قطعا ، فالحكم بإباحة كل منهما المقيدة مناف للحكم بالحرمة ، والإباحة المطلقتين ، وقد مر غير مرة ان الحكم الظاهري لا بد وان يحتمل مطابقته للواقع والإباحة المشروطة لا

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٦٠.

يحتمل مطابقتها للواقع بالضرورة.

وبعبارة أوضح : ان الإباحة الظاهرية إنما لا تنافي الحرمة الواقعية إذا لم تصل الحرمة ، وإلا كانت منافية معها وقد مر توضيح ذلك في محله.

وإذا فرض وصول الحكم الواقعي ولو كان متعلقة مرددا بين أمرين أو أمور ، ولم يكن متميزا في الخارج عن غيره ، فكيف يعقل ثبوت حكم آخر على خلافه؟ وهل هو إلا من الجمع بين المتضادين؟

ولكن يرد على ما أفاده :

أولا : ان المحذور هو الترخيص في المعصية ، وهذا لازم الترخيص في الجمع ، لا الجمع في الترخيص ، فالمانع هو الأول دون الثاني ، وما ذكره من النقض نلتزم به ولا نرى فيه محذورا.

ويرد على ما أفاده بتقريب آخر ، انه يشترط في صحة جعل الحكم الظاهري احتمال مصادفة المجعول بنفسه للواقع ، واما مصادفة قيده له فلم يدل دليل عليها ، وإباحة كل من الطرفين في فرض عدم ارتكاب الآخر يحتمل مصادفتها للواقع ، غاية الأمر على فرض المصادفة يكون الاباحة الواقعية ثابتة حتى في فرض ارتكاب الآخر.

ويرد على ما أفاده اخيرا

أولا : بالنقض بما إذا لم يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفة عملية فإنه دام ظله ملتزم بالجريان ، مع ان لازم ما أفاده عدم الجريان.

وثانيا : انه دام ظله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، أفاد ان

الحكمين من حيث انفسهما لا تضاد بينهما ، بل التنافي بينهما إنما يكون بالعرض ومن ناحية المبدأ أو المنتهى وشيء منهما لا يكون في المقام.

اما من ناحية المبدأ فلان الأحكام الواقعية ناشئة من المصالح والمفاسد في المتعلقات ، والأحكام الظاهرية ناشئة من المصالح في الجعل ، واما من ناحية المنتهى فلان جعل الترخيص مقيدا الذي نتيجته جواز ارتكاب أحدهما لا ارتكابهما معا ، ليس ترخيصا في المعصية.

وقد اعترف دام ظله بأن الترخيص في المخالفة الاحتمالية لا محذور فيه.

فتحصل مما ذكرناه ان مقتضى إطلاق أدلة الأصول جواز ارتكاب ما زاد عن مقدار الحرام.

واما الجهة الثانية : فمقتضى النصوص الخاصة الواردة في موارد مخصوصة وجوب الموافقة القطعية.

لاحظ موثق عمار (١) الوارد في الإنائين المعلوم نجاسة أحدهما المشتبه بالآخر الدال على لزوم الاجتناب عنهما.

وحسن صفوان (٢) في الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما المتضمن للأمر بالصلاة فيهما والنصوص الدالة على غسل تمام الثوب المعلوم نجاسة بعضه (٣)

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ١٥٥ ح ٣٨٨.

(٢) وسائل الشيعة ج ٣ ص ٥٠٥ ح ٤٢٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٣ ص ٤٠٣ ح ٣٩٨٣ وص ٤٠٤ ح ٣٩٨٤. وعدة روايات أخرى.

وبعض النصوص الوارد في الجبن (١) ويؤيده ما روى عن الإمام على انه ما اجتمع الحرام والحلال الأغلب الحرام الحلال (٢).

ولا يعارضها ما ورد في قطيع غنم (٣) نزا الراعي على واحدة منها ثم أرسلها في الغنم حيث قال (ع) يقسم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما فكلما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين وهكذا حتى يبقي واحدة ، وما دل على الاكتفاء بصلاة واحدة إلى بعض الجهات المشتبه (٤) وغير ذلك من النصوص.

فإن بعضها مطروح وبعضها مؤول ، وبعضها مختص بمورده ، فالأظهر وجوب الموافقة القطعية.

عدم وجوب الموافقة القطعية مع عدم إمكان المخالفة

ثم انه ينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : انه إذا لم يحرم المخالفة القطعية في مورد لأجل عدم القدرة عليها ، كما لو علم بحرمة الجلوس في إحدى الدارين في أول طلوع الشمس ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٤ ص ١٧٩ ح ٣٠٢٨٦ وح ٣٠٢٨٧.

(٢) عوالي اللئالي ج ٢ ص ١٣٢ وج ٣ ص ٤٦٦. وفي مستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٦٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٤ ص ١٦٩ ح ٣٠٢٦١ وص ١٧٠ ح ٣٠٢٦٤.

(٤) وسائل الشيعة ج ٤ ص ٣١١ ح ٥٢٣٧.

فهل تجب الموافقة القطعية كما عن بعض الاساطين (١) أم لا تجب؟ كما عن المحقق النائيني (ره) (٢) وجهان.

قد استدل للاول : بأن وجوب الموافقة القطعية إنما يكون بحكم العقل من جهة انه في كل طرف يحتمل التكليف يكون ذلك الاحتمال مورد الوجوب دفع الضرر المحتمل ، ويكون الاحتمال منجزا ما لم يكن هناك مؤمن شرعي أو عقلي ، وعدم المؤمن الشرعي في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي إنما يكون لأجل التعارض من غير توقف لذلك على حرمة المخالفة القطعية.

وفيه : اولا ان التعارض بين الأصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي إنما يكون لأجل انه من جريانهما معا يلزم الترخيص في المعصية فهما معا لا يجران فيقع التعارض بينهما ، وإذا فرض انه من جريانهما معا لا يلزم الترخيص في المعصية كما في المقام ، لفرض عدم القدرة على المعصية القطعية فلا مانع من جريانهما معا ، فلا تعارض بينهما فيجريان ، ونتيجة الأصلين عدم وجوب الموافقة القطيعة.

ودعوى ، ان جريان الأصل فيهما ، مستلزم للترخيص في المبغوض الواصل ، قد عرفت ما فيها وان هذا من حيث هو لا محذور فيه.

فالمتحصّل انه في كل مورد لم يتمكن من المخالفة القطعية لا يجب الموافقة القطعية.

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٨٢ / مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٦١ / المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج ٢ ص ٣٣٤.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٨٠ و ٢٥٦.

حدوث المانع بعد العلم

الأمر الثاني : قد عرفت ان عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ليس لمانع ثبوتي ، وإنما يكون لأجل التعارض ، فلو لم يجر الأصل النافي في احد الأطراف ، اما من جهة كونه موردا لأصل ثبوتي من الاستصحاب ، كما لو علم بنجاسة احد الماءين ، الذين يكون أحدهما مستصحب النجاسة ، أو قاعدة الاشتغال ، كما لو علم بعدم الإتيان بإحدى الصلاتين ، مع كون إحداهما موردا لقاعدة الاشتغال ، أو تنجز التكليف فيه بمنجز آخر قبله ، كما لو علم بنجاسة ما في احد الماءين ثم علم بإصابة النجاسة بإحداهما أو إناء آخر ، أو غير ذلك من الموانع ، يجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض ، وهذا مضافا إلى وضوحه سيأتي الكلام فيه في مبحث الاضطرار ، والخروج عن محل الابتلاء فانتظر.

إنما الكلام : في هذا التنبيه في انه إذا حدث احد الموانع بعد تنجيز العلم الإجمالي.

وبعبارة أخرى : ما لو طرأ احد الموانع على العلم ، وهو على قسمين :

أحدهما : ما لو كان متعلق هذه الأمور مقارنا للعلم ، أو متقدما عليه.

كما لو علم بنجاسة احد الإنائين ثم بعد ذلك علم تفصيلا بأن احد الإنائين معينا كان حين إصابة النجاسة المعلومة أو قبلها نجسا للملاقاة مع نجاسة أخرى.

ثانيهما : ما لو كان متعلقها متأخرا عنه ، كما لو علم بإصابة الدم بأحد

الإنائين ، ثم علم تفصيلا بأنه صار أحدهما معينا نجسا ، أو فقد أحدهما أو انعدم ، أو علم بوجود احد الفعلين وأتى بأحدهما.

والمختار جريان الأصل النافي في القسم الأول ، دون الثاني.

اما الأول : فيتضح ببيان أمرين :

الأمر الأول : ان المنجز كان هو العلم التفصيلي ، أو الإجمالي ، أو الإمارة ، أو الاستصحاب يعتبر في بقاء منجزيته ، بقائه.

فلم علم تفصيلا أو إجمالا بنجاسة شيء أو احد الشيئين أو قامت الإمارة عليها أو استصحبت ، ثم شك فيها بنحو الشك الساري يزول تنجيزه ، ولا يجب الاجتناب عما علم نجاسته وجدانا أو تعبدا.

نعم لو كان العلم باقيا وشك في رفعه يجب الاجتناب عنه بقاءً.

الأمر الثاني : ان زوال العلم الإجمالي كما يكون بالشك فيما علم بالشك الساري ، كذلك يكون بالعلم الوجداني أو التعبدي بأن احد طرفي العلم حين حدوث العلم أو قبله كان محكوما بحكم مماثل لما علم بثبوته ، لان ذلك يوجب الشك في ثبوت تكليف آخر غير ما ثبت في ذلك الطرف المعين ، فالحجة المتأخرة توجب الشك الساري في العلم الإجمالي فلا محالة يزول تنجيزه.

فالمتحصّل انه لو كان المانع الطارئ متعلقه مقارنا أو متقدما على المعلوم بالإجمال ، لا محالة يسقط العلم عن التنجيز لزوال العلم بقاء.

وبما ذكرناه يظهر انه لو علم بنجاسة احد الشيئين في يوم الجمعة مثلا ثم في يوم السبت علم بأن أحدهما المعين كان في يوم الخميس نجسا واحتمل

طهارته في يوم الجمعة : فإنه يجري الاستصحاب فيه فبقاء لا علم بحدوث تكليف زائد فينقلب الشك في انطباق المعلوم بالإجمال إلى الشك في حدوث نجاسة أخرى.

واما في القسم الثاني : فلا يجري الأصل في الطرف الآخر بل هو مورد لقاعدة الاشتغال ، إذ العلم الإجمالي يكون باقيا ، والشك يكون شكا في الامتثال بعد العلم بحدوث التكليف ، وعدم الشك فيه ، والشك في الامتثال مورد لقاعدة الاشتغال.

وبتقريب آخر : ان المانع عن جريان الأصل وان كان هو التعارض وهو لا يكون باقيا ، إلا انه حيث يكون الشك في الزمان اللاحق بعينه الشك السابق ، ولا يكون فردا آخر ، ولم ينقلب إليه كما في القسم الأول ، والمفروض انه لم يشمله في الزمان السابق أدلة الأصول فلا تشمله إلى الأبد.

فإنه ليس لأدلة الأصول عموم ازماني حتى يقال بأن كل زمان موضوع مستقل فلا مانع من عدم الشمول في زمان والشمول في زمان آخر.

وإنما شمولها له في جميع الأزمان يكون بالإطلاق فكل واحد من أفراد الشك موضوع واحد في جميع الأزمنة ، فحينئذ إذا خرج فرد لا معنى لشمول الأدلة له بعد ذلك ، فإنه ليس فردا آخر.

وهذا الوجه مع إصرار الأستاذ (١) عليه غير خال عن المناقشة فإنه قد عرفت ان لدليل الأصل عموم أفرادي ، واطلاق أحوالي وزماني ، فإذا ورد

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٧٦.

التقييد على الثاني يؤخذ بالمقدار الثابت ، وفي الزائد عليه يرجع إلى الإطلاق كما هو الشأن ، في كل إطلاق وعام ، وقد اعترف دام ظله (قدس‌سره) بذلك في دليل الأصل في مبحث شموله لأطراف العلم الإجمالي بنحو التخيير (١).

والحق ان يقال انه في القسم الثاني ، وهو ما لو علم بطرو احد تلكم الأمور بعد تحقق العلم الإجمالي ، كما لو علم بنجاسة ما في احد الإنائين ثم انعدم أحدهما أو خرج عن محل الابتلاء أو اهريق ما فيه وانعدم أو علم بوجوب القصر أو التمام صلى القصر أو التمام ، يجري استصحاب بقاء الحكم المعلوم بالإجمال من وجوب الاجتناب ، أو لزوم الإتيان ، فإنه حين ما علم اجمالا بنجاسة ما في احد الإنائين أو وجوب احد الفعلين ، علم بتوجه خطاب لزومي إليه ، وبعد طرو المانع يشك في بقائه إذ لو كان في ذلك الطرف ، فقد ارتفع ، ولو كان في الطرف الآخر فهو باق ، فلا محالة يجري الاستصحاب وحيث ان المستصحب حكم شرعي لا يتوقف جريان الاستصحاب على وجود أثر شرعي آخر بل يتوقف على ترتب أثر عملي عليه ، وهو يتحقق في المقام وهو الاجتناب عن الطرف الآخر ، أو الإتيان به حيث ان العقل يحكم بذلك تحقيقا للامتثال القطعي.

وبهذا البيان يظهر انه لا نحتاج إلى اثبات ان هذا الفرد لازم الاجتناب ، أو يجب الإتيان به ، حتى يقال ان الاستصحاب المذكور لا يثبت ذلك لكونه لازما عقليا ، بل المستصحب بنفسه حكم شرعي مجرى الاستصحاب والعقل في مقام

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٣٢.

امتثاله والقطع بفراغ الذمة ، يحكم بلزوم الاجتناب في العلم بالحرمة ، ولزوم الإتيان في العلم بالوجوب.

فإن قلت : ان الشك في بقاء ذلك التكليف مسبب عن الشك في تعلق التكليف بهذا الطرف ، والأصل ينفي ذلك فلا مورد للأصل المسببي.

قلت : ان الأصل على فرض جريانه إنما ينفي كون هذا الفرد موردا للتكليف من الآن ، ولا يجري بالنسبة إلى ما قبل ذلك فإنه يكون معارضا.

مثلا : لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة ، فصلى الجمعة فإن الشك في وجوب الظهر ، لو جرى فيه الأصل فإنما يدل على عدم وجوبه فعلا ، ولا يكون مفاد الأصل عدم وجوبه من الأول ، فإذا لم يدل على عدم تعلقه به من الأول ، فاحتمال وجوبه قبل ذلك ليس موردا للأصل.

ومن البديهي ان بقاء الوجوب المعلوم تعلقه بأحدهما ليس مسببا عن كون هذا الفرد واجبا فعلا وإنما يكون مسببا عن تعلقه به أولا وحيث لا يجري فيه الأصل للتعارض فيجري في المسبب.

فإن قلت : إذا جرى الأصل في الظهر مثلا وحكم الشارع بعدم العقاب من ناحية ترك الظهر ، فما فائدة الاستصحاب؟ وجريانه لا يوجب حكم العقل بلزوم الإتيان بالظهر.

قلت : ان في صلاة الظهر جهتين ، إحداهما : كونها مصداقا للجامع الذي علم تعلق التكليف به ، ثانيتهما : خصوصية الظهرية ، والبراءة من الجهة الثانية تجري ، وتدل على عدم اقتضاء العقاب من هذه الناحية ، واما من الجهة الأولى

فهي ساكتة عنها ، والاستصحاب يدل على اقتضائه من تلك الناحية ، ومن البديهي ان ما لا اقتضاء له لا يزاحم ما له اقتضاء.

ويمكن ان يذكر وجه آخر لعدم جريان الأصل النافي فيه ، وهو :

ان الأصل في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ، من الأول إلى الابد يعارض مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، وان كان اقصر زمانا منه ، كما لو علم بحرمة الجلوس من الطلوع إلى الزوال في محل ، أو حرمته من الطلوع إلى الغروب في محل آخر.

وان شئت فعبر عنه بأنه ينحل هذا العلم إلى علمين اجماليين.

أحدهما : العلم بحرمة الجلوس من الطلوع إلى الزوال في هذا المحل ، أو الجلوس من الطلوع إلى الزوال في محل آخر.

ثانيهما : العلم بحرمته من الطلوع إلى الزوال ، أو حرمته من الزوال إلى الغروب في محل آخر ، وحيث انهما مقارنان فينجزان معا.

وفي المقام نقول : انه لو فرضنا العلم بوجوب الجمعة أو الظهر مثلا ـ فصلى الجمعة ـ لا يجري الأصل في الظهر ، لان العلم الإجمالي ينحل إلى العلم بوجوب الجمعة إلى حين الإتيان بها ، أو الظهر إلى ذلك الزمان ، والعلم بوجوب الجمعة إلى ذلك الحين ، أو الظهر من ذلك الحين إلى الغروب.

فلا محالة أصالة عدم وجوب الظهر من ذلك الحين تعارض مع أصالة عدم وجوب الجمعة فتتساقطان فتدبر فإنه دقيق.

لو كان المعلوم الإجمالي واجبا تعبديا

الأمر الثالث : إذا تردد الواجب بين أمرين أو أمور ، وأتى المكلف ببعض المحتملات فانكشف مصادفته للواقع ، فإن كان الواجب توصليا لا كلام في سقوطه ، وهو واضح.

وان كان تعبديا ، فهل يسقط ، أم لا؟ أم يفصل بين ما إذا كان المكلف عازما على الموافقة القطعية بإتيان جميع المحتملات ، فيسقط ، وبين ما إذا كان قاصدا للإتيان ببعض المحتملات فلا يحكم بالصحة؟

وجوه واقوال : وقد اختار الشيخ الأنصاري (ره) الوجه الثالث (١).

وعلل ذلك بأنه يعتبر في العبادة الجزم في نيتها فإن امكن تفصيلا وإلا فاجمالا ، وحيث انه في الصورة الأولى يكون الجزم موجودا ، دون الثانية فتصح الأولى دون الثانية.

ولكن حيث لم يدل دليل على اعتبار شيء في العبادة سوى كون الداعي غير نفساني ، وعرفت في محله من مبحث التعبدي والتوصلي :

انه إذا شك في اعتبار قصد القربة أو الوجه أو التمييز أو الجزم في النية أو نحوها مما لم يدل دليل على اعتباره ، يكون المرجع هو إطلاق دليل ذلك المأمور به ، ومع عدمه هو البراءة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٨١.

فلو أتى المكلف ببعض المحتملات برجاء إصابة الواقع وصادف الواقع فقد قصد القربة بفعله وأتى بالعبادة على وجهها ، فتكون صحيحة ومجزية.

ويترتب على ذلك انه لو دار امر الواجبين المترتبين كالظهر والعصر بين أفعال متعددة كما لو علم بنجاسة احد ثوبيه لا يعتبر في صحة الثانية ، الفراغ اليقيني من الأولى ، بل يكفي الإتيان ببعض محتملاتها.

فإذا صلى الظهر في احد ثوبيه ، له ان يصلى العصر في ذلك الثوب ، ولا يتوقف الإتيان بالعصر على الإتيان بالظهر في ثوبيه.

نعم ليس له ان يصلي العصر في الثوب الآخر : فإنه يحتمل ان يكون هو الطاهر فيكون قد أتى بالعصر قبل الظهر.

وان شئت قلت انه يعمل إجمالا بعدم الأمر بالعصر في ذلك الثوب ، اما لنجاسته أو لوقوع العصر قبل الظهر.

لو كان متعلق العلم عنوانا مرددا بين عنوانين

الأمر الرابع : لا فرق في منجزية العلم الإجمالي بين ان يكون المعلوم عنوانا معينا ذا حقيقة واحدة ، كما لو كان المعلوم خصوص نجاسة احد الماءين أو غصبية أحدهما ، أو ما شاكل ، وبين ان يكون المتعلق عنوانا مرددا بين عنوانين مختلفي الحقيقة كما لو علم اجمالا بنجاسة احد الماءين أو غصبيته.

وذلك لان الميزان في تنجيز العلم الإجمالي وحرمة مخالفته القطعية ،

ووجوب موافقتها كذلك هو كونه وصولا للإلزام المولوي بعثا أو زجرا ، وتردد المعلوم بين عنوانين ، لا يوجب قصورا في كشفه ووصوله فإنه يعلم بخطاب مولوي موجه إليه ، والعقل يلزم بامتثاله واطاعته.

وان شئت فاختبر ذلك بما لو علم بتوجه امر باكرام زيد إليه ، ولم يعلم انه يجب اكرامه لعلمه أو لورعه ، فإنه لا يشك احد في لزوم امتثال هذا الحكم.

فما أفاده صاحب الحدائق على ما نسب إليه (١) من انه لو كان المعلوم بالإجمال مرددا بين العنوانين ، لا يجب موافقته القطعية ، ولا يحرم مخالفته القطعية ، في غير محله.

إذا كان أثر احد الأطراف اكثر

الأمر الخامس : انه لا فرق فيما ذكرناه من تنجيز العلم الإجمالي ولزوم الموافقة القطعية ، ولزوم ترتيب الأثر على كل طرف ، بين ما لو كان أثر كل واحد شيئا واحدا كما لو علم بغصبية احد المائعين.

وبين ما لو كان أثر أحدهما اكثر.

وفي الفرض الثاني لا فرق بين ان لا يكون بينهما قدر مشترك كما لو علم بوجوب قراءة يس ، أو التوحيد في ليلة الجمعة بنذر ونحوه ، فإن سورة يس وان

__________________

(١) نسب هذا القول إلى صاحب الحدائق في نهاية الأفكار ج ٣ ص ٣٣٢.

كانت اكثر من التوحيد ، إلا انه لا قدر مشترك بينهما كي يكون هو المتيقن.

وبين ان يكون بينهما قدر مشترك ، كما لو علم بوقوع النجاسة في الإناء الذي فيه ماء مطلق أو في الإناء الذي فيه مائع مضاف ، فإن أثر النجاسة في كلا الطرفين ، هو حرمة الشرب وهي الأثر المشترك ، ولكن للماء المطلق أثر آخر يخصه وهو عدم جواز التوضؤ به على تقدير وقوع النجاسة فيه ، فإن العلم الإجمالي يكون منجزا في جميع الصور من حيث جميع الآثار.

فإنه في جميع الصور يتعارض الأصول في أطرافه وتتساقط.

فاحتمال التكليف في كل طرف بالنسبة إلى كل أثر موجود ، ولا مؤمن له ، فمقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل ترتيب جمع الآثار.

وعن المحقق النائيني (ره) (١) انه في الصورة الأخيرة يكون العلم الإجمالي منجزا بالنسبة إلى الأثر المشترك ، واما بالنسبة إلى الأثر المختص ببعض الأطراف ، فيجري فيه الأصل بلا معارض ، وفي المثال المتقدم لا يجوز شرب الماء المطلق ، ولا شرب المائع المضاف ، ولكن لا مانع من التوضؤ بالماء المطلق.

وعلل ذلك بأن توجه تكليف لا تشرب ، معلوم ، فلا مجرى للأصل بالنسبة إليه ، واما توجه لا تتوضأ فهو مشكوك فيه ، فيجري فيه الأصل بلا معارض.

ولكن يرد عليه ان جواز التوضؤ متفرع على جريان قاعدة الطهارة في

__________________

(١) نسبه إليه السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٦٧.

الماء ، والمفروض سقوطها للمعارضة ، فلا طريق إلى الحكم بطهارته كي يحكم بجواز التوضؤ به.

وبعبارة أخرى : كلا الحكمين في احد الطرفين ، معارض مع الحكم الواحد في الطرف الآخر فلا يجري الأصل في شيء منهما.

وان شئت قلت : ان هذا العلم الإجمالي ينحل إلى علمين اجماليين مقارنين ، أحدهما : العلم بتوجه ، لا تشرب المائع المضاف. أو لا تشرب الماء المطلق ، ثانيهما : العلم بتوجه خطاب لا تشرب المائع المضاف ، أو لا تتوضأ من الماء المطلق ، وهذا العلمان متقارنان ، ويوجبان سقوط الأصول في كل طرف بالنسبة إلى جميع الآثار ، ولا يمكن إجراء أصالة البراءة عن خصوص عدم جواز التوضؤ ، فلا فرق بين ان يكون في كل طرف حكما واحدا أو في أحدهما حكما واحدا ، وفي الآخر حكمين ، فمن علم إجمالا بأنه اما مديون لزيد بدرهم أو لعمرو بدرهمين ، لا يجري الأصل في الدرهم الزائد.

نعم يتم ما أفاده فيما لو كان الموضوع واحدا وكان الترديد في السبب الذي تعلق به العلم الإجمالي كما لو علم بأنه مديون لزيد اما بدرهم ، أو بدرهمين من جهة العلم الإجمالي بأنه : اما استقرض من زيد درهما ، أو اتلف ماله الذي يسوى درهمين.

إذ اشتغال الذمة بدرهم لزيد معلوم لا يجري الأصل فيه ، والزائد مشكوك الحدوث فيجري فيه الأصل بلا معارض.

تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات

الأمر السادس : لو كانت الأطراف تدريجية الوجود ، بأن تعلق العلم الإجمالي بالأمور التدريجية ، فهل هو كالعلم الإجمالي المتعلق بالأمور الدفعية ، أم لا؟

وقبل الشروع في البحث لا بد وان يعلم ان محل الكلام في هذا البحث ، هو ما إذا لم تكن الأطراف مورد الاحتياط في انفسها مع قطع النظر عن العلم الإجمالي.

فما مثلوا به للمقام بما لو علم اجمالا بأنه يبتلى في يومه هذا بمعاملة ربوية من جهة الشبهة الحكمية ، غير صحيح ، إذ في مثله يجب الاحتياط ، سواء كان العلم الإجمالي منجزا في التدريجيات ، أم لم يكن كذلك ، إذ كل معاملة يحتمل ان تكون ربوية في نفسها ، مع قطع النظر عن كون العلم الإجمالي مورد لأصالة الاحتياط ، لكون الشبهة حكمية ، ولا يجوز الرجوع فيها إلى أصالة البراءة قبل الفحص.

ومن جهة الحكم الوضعي مورد لأصالة عدم النقل والانتقال ، والفساد.

ودعوى : انه يمكن الرجوع إلى عموم ما دل على صحة كل معاملة ، مندفعة : بأن العمومات قد خصصت بما دل على فساد المعاملة الربوية فالشك إنما هو في مصداق المخصص ، ولا يصح التمسك بالعمومات في مثله.

وايضا محل الكلام في المقام : فيما لم يرد فيه نص خاص.

فما مثل به من انه لو علمت المرأة المستمرة الدم انها تحيض ، اما في أول الشهر أو آخره ، غير تام ، لورود روايات خاصة في المسألة وقد اشبعنا الكلام فيها في الجزء الثاني (١) من كتابنا فقه الصادق.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان تدريجية أطراف العلم الإجمالي إنما تكون على أقسام.

القسم الأول : ان يكون ذلك مستندا إلى اختيار المكلف مع تمكنه من الجمع بينهما ، كما إذا علم بنجاسة احد الإنائين فشرب ما فيهما تدريجا مع تمكنه من شرب الجميع دفعة ، فلا إشكال ولا كلام في تنجيز العلم الإجمالي في هذا القسم ، وهو واضح.

ويلحق بالقسم الاول ، القسم الثاني : وهو ما إذا كانت التدريجية مستندة إلى عدم تمكن المكلف في الجمع بينهما ، مع تمكنه من ارتكاب كل منهما بالفعل مع ترك الآخر ، كما لو علم بحرمة احد الضدين الذين لهما ثالث ، وذلك للعلم بالتكليف الفعلي وتعارض الأصول في الأطراف وتساقطها.

القسم الثالث : ما لو كانت التدريجية في المتعلق مع العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، كما لو علم بتعلق النذر بقراءة سورة خاصة في يوم الخميس ، أو في يوم الجمعة بناءً على القول بالوجوب المعلق ، وان وجوب الوفاء بالنذر إنما يكون فعليا ، لان الملاك يتم بالنذر ، ويكون التكليف المتعلق بالوفاء به فعليا على كل تقدير ، ويكون ظرف الامتثال والإتيان بالمتعلق متأخرا على

__________________

(١) فقه الصادق ص ١٣٠ حسب الطبعة الثالثة.

تقدير.

وفي هذا القسم أيضاً لا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي ، وتساقط الأصول في أطرافه ، لمعلومية التكليف واستلزام جريان الأصل في الطرفين للترخيص في المعصية.

القسم الرابع : ما لو كانت التدريجية في التكليف ، ولم يكن المعلوم فعليا على كل تقدير كما لو علم بوجوب مردد بين كونه فعليا الآن ، وكونه فعليا فيما بعد كما في مثال النذر ـ على القول بعدم معقولية الواجب المعلق ـ ، وكما لو تردد الواجب بين كونه مطلقا أو مشروطا بشرط يحصل فيما بعد.

وفيه اقوال :

القول الاول : جريان الأصل في كل من الطرفين مطلقا. وقد ذهب إليه المحقق الخراساني في الكفاية (١).

القول الثاني : عدم جريانه في شيء من الطرفين مطلقا ، اختاره المحقق النائيني (ره) (٢).

القول الثالث : التفصيل بين ما إذا كان الملاك تاما على كل تقدير كما في مثال النذر ، فلا يجري الأصل في شيء من الطرفين ، وبين ما إذا لم يكن تاما على

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ٢١٢.

كل تقدير كما في المثال الثاني ، فيجري فيه الأصل اختاره الشيخ الأعظم (١).

وتنقيح القول بالبحث في موردين :

المورد الاول : فيما لو كان الملاك تاما على كل تقدير ، كما في مثال النذر ، وإنما لا يلتزم بالوجوب لو كان النذر متعلقا بالامر المتأخر لعدم معقولية الواجب المعلق.

المورد الثاني : ما إذا كان الملاك على تقدير تاما ، وعلى تقدير غير تام ، لعدم تحقق ما له دخل في تماميته كاكثر الشرائط التي تتوقف عليها فعلية التكليف ، ومثل له الشيخ (٢) بما لو علمت المرأة بأنها تحيض في الشهر ثلاثة ايام مرددا بين ايامه.

اما المورد الأول : فلا ينبغي التوقف في منجزية العلم الإجمالي ، لان الترخيص في تفويت الملاك الملزم قبيح عقلا كالترخيص في مخالفة التكليف ، فلا يجري الأصل في شيء من الطرفين.

واما في المورد الثاني : فافاد الشيخ (٣) انه يرجع إلى الأصل النافي للحكم إلى ان يبقي مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الاباحة ولا يتعارضان.

اما قبل بقاء ثلاثة ايام ، فلعدم المعارض للأصل النافي لعدم التكليف في ذلك الزمان بالنسبة إلى تلك الايام قطعا فلا حاجة إلى الأصل.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٢٧.

(٢) نقله في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧١.

(٣) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٧٨.

واما الثلاثة الأخيرة فالأصل النافي للحكم ، لا يعارضه الأصل الجاري فيما قبلها لعدمه فعلا ، غاية الأمر بعد جريان الأصل فيه يقطع بمخالفة احد الأصلين للواقع. ولا محذور فيه.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) مبتنيا على ما ذكره في بحث مقدمة الواجب ، من حكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي ، بدعوى ، انه لا فرق في ذلك بين كون التفويت مستندا إلى العبد ، وبين كونه مستندا إلى المولى فلا يجوز للمولى ان يرخص في تفويت الملاك الملزم.

وبما ان ترخيصه في الاقتحام في كل واحد من أطراف الشبهة في ظرف الابتلاء به يستلزم فوت الملاك الملزم في ظرفه فيكون قبيحا.

وان شئت قلت : انه لا فرق في قبح تفويت الملاك الملزم بين العلم الإجمالي والتفصيلي ، فكما ان من يعلم تفصيلا بأن الاقتحام في فعل يستلزم فوت الملاك الملزم في ظرفه لا يجوز له ذلك ، ويقبح للمولى الترخيص فيه ، كذلك من يعلم اجمالا بأن احد الفعلين التدريجيين مفوت للملاك الملزم ، كما في المقام ، لا يجوز له ذلك ، وليس للمولى ان يرخص فيه.

وما أفاده وان كان حقا ، إلا ان الظاهر عدم جريان الأصل ، حتى مع عدم البناء على استقلال العقل بقبح ذلك.

إذ من يعلم بتوجه التكليف إليه اما في أول الشهر ، أو آخره ، لا يمكن

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ١٩٨.

للمولى ان يرخص في عدم امتثاله لأنه ترخيص في المعصية.

وبالجملة : الأصل الجاري في احد الطرفين في أول الشهر يعارض ، مع الأصل الجاري في الطرف الآخر في آخر الشهر ، إذ لا يعتبر في التعارض كونهما عرضيين وفي زمان واحد.

مانعية الاضطرار عن تنجيز العلم الإجمالي

الأمر السابع : لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف ، فهل يمنع ذلك عن تنجيز العلم الإجمالي أم لا؟

وقبل الشروع في البحث لا بد من بيان امر به يتضح محل البحث :

وهو ان محل الكلام : ما لو كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للمعلوم بالإجمال. كما لو علم بنجاسة احد المائعين المضافين ، ثم اضطر إلى شرب أحدهما ، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال ليس إلا الحرمة المرتفعة بالاضطرار ، فيقع الكلام في انه هل ينحل العلم الإجمالي بذلك أم لا؟

واما إذا كان المرتفع بالاضطرار بعض الآثار. كما لو علم بنجاسة احد الماءين المطلقين ثم اضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين ، أو علم بنجاسة الماء أو الحليب مع الاضطرار إلى شرب الماء فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال حرمة الشرب ، وعدم جواز التوضؤ به ، والاضطرار إنما يرفع الحكم الأول ، ويكون الأثر الآخر باقيا فلا وجه لتوهم انحلال العلم الإجمالي ، وهو واضح ، فلا يجوز التوضؤ بشيء منهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الاضطرار ، قد يكون إلى أحدهما المعين ، وقد يكون إلى أحدهما لا بعينه فالكلام في مقامين :

المقام الأول : ما لو كان الاضطرار إلى أحدهما المعين ، كما لو علم بنجاسة الماء أو الحليب واضطر إلى شرب الماء.

المقام الثاني : ما لو كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه كما لو علم بنجاسة احد الماءين واضطر إلى شرب أحدهما لا بعينه.

حكم الاضطرار إلى أحدهما المعين

اما المقام الأول : فالصور المتصورة التي بها يختلف الحكم ثلاث.

الأولى : ان يكون الاضطرار حادثا بعد التكليف وبعد العلم به كما لو علم بنجاسة احد المائعين ثم اضطر إلى شرب الماء منهما.

الثانية : ان يكون الاضطرار حادثا قبل التكليف ، وقبل العلم به كما لو اضطر إلى استعمال احد مقطوعي الطهارة والحلية ثم حدث نجاسة أحدهما أو حرمته والعلم بها.

الثالثة : ما لو كان الاضطرار حادثا بعد التكليف وقبل العلم به ، كما إذا كان احد الماءين نجسا في الواقع ولكنه لم يكن عالما به فاضطر إلى شرب أحدهما ثم علم بأنه كان نجسا قبل الاضطرار.

اما في الصورة الأولى : فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) (١) والمحقق النائيني (٢) عدم انحلال العلم الإجمالي :

لان التكليف قد تنجز بالعلم الإجمالي قبل عروض الاضطرار ، واقصى ما يقتضيه الاضطرار هو الترخيص فيما اضطر إليه ، ورفع التكليف عنه لو كان متعلقا به ، ولا رافع له في الطرف غير المضطر إليه ، لان الضرورات تتقدر بقدرها.

وذهب المحقق الخراساني في الكفاية (٣) إلى الانحلال وعدم بقاء التنجيز.

واستدل له بأن العلم الإجمالي علة للتنجيز حدوثا وبقاء ، وبعد الاضطرار لا يكون العلم بالتكليف باقيا ، إذ لو كان التكليف في الطرف المضطر إليه ، فقد ارتفع لكون التكليف كان محدودا بعدم الاضطرار إلى متعلقه.

ومع عدم بقاء العلم يرتفع أثره ، وهو التنجيز ، كما هو الحال في العلم التفصيلي فإنه لو زال بالشك الساري لا يبقى تنجيزه.

ثم أورد على نفسه بالانتقاض بما لو فقد بعض الأطراف ، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي هنا ، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعاية الاحتياط مع الاضطرار.

وأجاب عنه بالفرق بين الاضطرار والفقدان ، فإن الاضطرار من حدود

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٤٥.

(٢) أجود التقريرات ج ٣ ص ٢٦٥. وج ٣ ص ٤٥٤ الطبعة الجديدة.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

التكليف ، ولا يكون الاشتغال به من الأول ، إلا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده ، بخلاف فقدان المكلف به ، فإنه ليس من حدود التكليف وقيوده فالتكليف المتعلق به مطلق ، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك.

ويرد عليه : اولا : انه كما يكون الاضطرار من حدود التكليف وبحدوثه يرتفع التكليف ، كذلك يكون فقدان الموضوع من حدود التكليف وينتفي التكليف بانتفاء موضوعه ، لان فعلية التكليف تدور مدار وجود الموضوع ، بما له من القيود وبانتفائه أو انتفاء قيد من قيوده ينتفي الحكم.

وثانيا : ان العلم الإجمالي بالتكليف لا يكون منتفيا بحدوث الاضطرار نظير انتفاء العلم التفصيلي بالشك الساري بل هو باق بحاله.

غاية الأمر يكون متعلقه مرددا بين ان يكون من الطرف غير المضطر إليه ، فهو باق إلى آخر الازمان ، أو يكون في الطرف المضطر إليه ، فهو محدود بحدوث الاضطرار ، فيكون المعلوم بالإجمالي مرددا بين المحدود والمطلق.

ويصير نظير ما لو علم بحرمة الجلوس في مكان خاص إلى الزوال ، أو في محل آخر إلى الغروب ، فكما لا سبيل إلى القول بارتفاع التنجيز بالزوال كذلك في المقام.

وإلى ذلك نظره الشريف في هامش الكفاية (١) حيث التزم ببقاء التنجيز في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠ الهامش الأول.

الطرف غير المضطر إليه ، بتقريب ان العلم الإجمالي تعلق بالتكليف المردد بين المحدود والمطلق ويكون من قبيل تعلق العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين القصير والطويل ، فكما ان العلم الإجمالي ، يكون منجزا هناك ، كذلك في المقام.

واما في الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الاضطرار إلى المعين قبل حدوث التكليف ، كما لو اضطر إلى شرب ما في احد الإنائين معينا ، ثم علم بنجاسته أو نجاسة ، ما في الاناء الآخر فلا كلام ولا إشكال في عدم منجزية هذا العلم الإجمالي ، إذ النجاسة لو كانت واقعة فيما اضطر إلى شربه ، لم يحدث تكليف ، وهو مقطوع الحلية على كل تقدير ، فلا يجري فيه الأصل ، ويجرى في الطرف الآخر بلا معارض.

وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو كان الاضطرار ، وحدوث التكليف مقارنين ، فإنه يجري الأصل في غير المضطر إليه بلا معارض.

واما في الصورة الثالثة : وهي ما لو كان الاضطرار إلى المعين بعد حدوث التكليف وقبل العلم ، كما لو اضطر إلى شرب احد المائعين ثم علم بأن أحدهما كان نجسا قبل عروض الاضطرار ، فقد اتفقت كلمات المحققين في هذه الصورة على عدم تنجيز العلم الإجمالي.

وما أفادوه في المقام يكون مبتنيا على ما بنوا عليه ، ونحن تبعناهم من ان عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لأجل التعارض لا لمانعية نفس العلم ، وانه لو كان الأصل النافي للتكليف جاريا في بعض الأطراف ، دون بعض آخر ، فلا مانع من جريانه ، ولا يكون العلم الإجمالي حينئذ منجزا من غير فرق بين سبق التكليف وعدمه ، وعليه.

فلو كان عروض الاضطرار قبل العلم وبعد توجه الخطاب ، فاما ان يكون حين الاضطرار غافلا عن نجاسة الماءين أو معتقدا طهارتهما ، أو يكون شاكا في النجاسة ، فعلى الاولين : لا يجري الأصل في شيء منهما لعدم الموضوع ، وعلى الثالث : يجري الأصل في الطرفين ، إذ الترخيص في مخالفة التكليف غير الواصل ، لا يكون ترخيصا في المعصية ولا محذور فيه ، هذا حال الطرفين قبل الاضطرار.

واما بعده فحين ما يعلم بالنجاسة ، فالطرف المضطر إليه لا يجري الأصل فيه للعلم بجواز ارتكابه وحليته حتى لو كانت النجاسة واقعة فيه.

ومع العلم بالجواز لا موضوع للأصل ، فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض ، وعلى الجملة في زمان المنكشف والمعلوم كلا الأصلين يجريان على فرض الشك ، وفي زمان العلم والكاشف يجري أحدهما دون الآخر فليس زمان يتعارض الأصلان فيه ، فمثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجزا.

ودعوى : ان العلم بعد حدوثه يوجب ترتيب آثار المعلوم من حين حدوثه لا من حين العلم. مثلا : لو علمنا بنجاسة الماء الذي توضأنا به قبل التوضؤ ، يجب ترتيب آثار النجاسة حين الوضوء ، وان لم يكن عالما بها حينه ففي المقام لا بد من ترتيب آثار العلم الإجمالي من حين حدوث المعلوم ، لعدم الفرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي.

مندفعة : بأن ذلك يتم بالنسبة إلى آثار المعلوم ، لا آثار العلم ، وتساقط الأصول من آثار العلم كما لا يخفى.

ويلحق بهذه الصورة ما لو كان الاضطرار مقارنا للعلم وبعد حدوث

التكليف.

وغاية ما يمكن ان يورد عليهم : انه إنما لا يجري الأصل في الطرف الآخر من جهة أخرى ، وهي ان مقتضى استصحاب بقاء التكليف المقطوع حدوثه قبل الاضطرار المشكوك بقائه ، لاحتمال كونه في الطرف المضطر إليه المرتفع بالاضطرار ، وكونه في الطرف الآخر الباقي ، بقاء التكليف وهو من قبيل القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وحيث ان المستصحب بنفسه من الأحكام ، فلا يتوقف جريانه على ترتب أثر شرعي عليه ، وليس المقصود اثبات كون متعلق الحكم الطرف الآخر ، حتى يقال انه مثبت بل العقل يحكم بأنه يجب اجتناب الطرف الآخر في المحرمات ، والإتيان به في الواجبات تحصيلا لليقين بالفراغ.

وفيه : ان هذا الأصل محكوم لأصل آخر ، فإن الشك في بقاء الكلي الذي لا وجود له إلا بوجود أفراده ، يرتفع باجراء أصالة عدم الحدوث في فرد مع العلم بعدم الفرد الآخر في صورة دوران امر الموجود بينهما كما في المقام فإن المضطر إليه لو كان موردا للتكليف ، فقد ارتفع التكليف قطعا فلو اجرينا أصالة عدم حدوث التكليف في الطرف الآخر لا يبقى شك في عدم بقاء الكلي.

لا يقال : ان لازم ذلك عدم بقاء تنجيز العلم في صورة كون الاضطرار بعد التكليف والعلم به فإنه يجري الأصل في الطرف الآخر ، والمضطر إليه حلال قطعا.

فإنه يقال : انه في تلك الصورة لا يجري أصالة عدم حدوث التكليف

لفرض تنجيز العلم قبل ذلك وسقوط الأصل في كلا الطرفين ، وهذا بخلاف المقام فإنه قبل الاضطرار لا علم بالتكليف ، فيجري الأصل في الطرفين بلا معارضة بينهما ، وبعده لا علم بالتكليف ولا يجري الأصل في المضطر إليه كي يعارض مع الجاري في الطرف الآخر.

ولو ضم أصالة عدم حدوث التكليف في طرف بالعلم الوجداني بعدم وجوده في الطرف الآخر ، والمفروض ان لا وجود للكلى إلا في ضمن أحدهما ، لا شك في عدم بقاء الكلي ، وان شئت عبر : بأنه شك له مؤمن شرعي.

وهذا نظير دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فإنه وان كان بعد الإتيان بالاقل يشك في بقاء التكليف المعلوم تعلقه بالاقل أو الأكثر ، والمشكوك بقائه لعدم الإتيان بالاكثر ، ولكن لأجل جريان الأصل في الأكثر وعدم معارضته بالأصل في الأقل لا يبقى شك في عدم بقاء الكلي.

فالحق : ما أفاده الاساطين من عدم تنجيز العلم الإجمالي في هاتين الصورتين أيضاً.

حكم الاضطرار إلى غير المعين

واما المقام الثاني : وهو ما لو كان الاضطرار إلى احد الأطراف لا بعينه ففيه مسالك :

المسلك الأول : ما اختاره المحقق الخراساني في الكفاية (١) وهو ان الاضطرار إلى غير المعين مانع عن العلم بفعلية التكليف ، فإنه موجب لجواز ارتكاب احد الأطراف أو تركه تخييرا. وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا.

أقول : ان مراده من ذلك ، ان كان ان الترخيص الواقعي ينافي العلم بحرمة المعلوم ، فيرد عليه ما ستعرفه عند بيان المختار.

وان كان مراده ان الترخيص الظاهري ينافي معه من جهة ان العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، ولا يجوز الترخيص في تركها ، فقد مر ما فيه مفصلا فراجع.

المسلك الثاني : ما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) (٢) وهو البناء على التوسط في التكليف والحكم بوجوب الاجتناب عن غير ما يرفع به الاضطرار في المحرمات والإتيان بغيره في الواجبات ، حتى في صورة تقدم الاضطرار على حدوث التكليف.

بدعوى ان الاضطرار إنما تعلق بالجامع بين الحلال والحرام ، ولم يتعلق بخصوص الحرام ، فنفس الاضطرار لا يكون موجبا لرفع الحرمة ، ولاوجه لرفع اليد عن حرمة الحرام المعلوم بالإجمال.

ألا ترى انه لو اضطر إلى شرب احد الماءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما لا يتوهم احد رفع الحرمة عن الحرام المعلوم بالتفصيل لأجل الاضطرار

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

(٢) فوائد الأصول للكاظمي الخراساني ج ٣ ص ٢٥٨.

إلى الجامع ، فكذلك في المقام ، غاية الأمر ان الذي يختاره المكلف في مقام رفع الاضطرار حيث انه مصداق للمضطر إليه فبالاختيار يرتفع حرمته ان كان هو الحرام وان كان الحرام غيره فهو باق.

وأورد على نفسه (١) : بأنه على هذا لا يبقى فرق بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين في ان كلا منهما يوجب التوسط في التكليف ، أي عدم التكليف على فرض مصادفته للمضطر إليه ووجوده إذا كان غيره ، فما الفارق بينهما حيث حكم في الأول بعدم لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر إذا كان الاضطرار قبل العلم ، والتزم في الثاني بلزومه.

وأجاب عنه (٢) : بأنه في الاضطرار إلى المعين : إذا كان قبل التكليف وقبل العلم به ، فبعد حدوث سبب التكليف والعلم به ، يقطع بحلية المضطر إليه ، وعدم حدوث التكليف ان صادف المضطر إليه ، فيبقي الشك في الطرف الآخر موردا للأصل بالتقريب المتقدم.

واما في الاضطرار إلى غير المعين فحيث ان نفس الاضطرار لم يتعلق بما هو متعلق التكليف فقبل ان يختار أحدهما ، ويحدث سبب التكليف كاصابة النجاسة إلى أحدهما يكون التكليف فعليا على كل حال ومنجزا ، وبعد ذلك إذا اختار أحدهما ، فحيث انه يصير مضطرا إليه فيرتفع التكليف ان كان ثابتا في مورد الاختيار ، وان كان في غيره فهو باق.

__________________

(١) فوائد الأصول للكاظمي الخراساني ج ٣ ص ٢٥٨.

(٢) فوائد الأصول للكاظمي الخراساني ج ٣ ص ٢٥٨.

فيكون حاله حال الاضطرار إلى المعين بعد العلم بحدوث التكليف.

وفيه : اولا : ان ما يختاره ليس مصداقا للمضطر إليه حتى يكون الترخيص الثابت بدليل الاضطرار ترخيصا واقعيا ، فينافي الحرمة ، فالحرمة ثابتة على كل حال ، وإنما يكون الترخيص ظاهريا موجبا للتوسط في التنجيز.

وثانيا : انه لو سلمنا ذلك ، فلازمه عدم وجوب الاجتناب عن الآخر ، إذ ما يختاره اولا لو كان هو الذي اصابه النجاسة لم يحدث فيه التكليف من الأول لا انه حدث وارتفع بالاختيار. وذلك لعدم معقولية مثل هذا التكليف وكونه لغوا ، إذ التحريم إنما يكون لأجل ان يكون زاجرا عن الاختيار ، فجعل الحرمة وتعلقها بفعل ، ترتفع عند اختيار الفعل وصيرورته مباحا لغو.

وبعبارة أخرى : الحرمة إنما تكون لأجل ان تصير زاجرة عن الاختيار ، فصيرورته الفعل مباحا حينه يوجب لغوية جعل تلك الحرمة.

فلو كان في الطرف المختار لم يحدث التكليف من الأول فيكون التكليف في الطرف الآخر ، مشكوك الحدوث ، فيجري فيه الأصل فيكون كلام المستشكل متينا.

الثالث : ما هو الحق ، وهو التوسط في التنجيز ، فالمدعى ثبوت التكليف على كل تقدير ، وتنجيزه على تقدير دون آخر ، وهو يبتنى على بيان مقدمات.

المقدمة الأولى : ان الترخيص أعم من الظاهرى والواقعي ، كالحكم الالزامي ، قد يتعلق بصرف وجود الطبيعة ، المنطبق على أول الوجودات ، وقد يتعلق بجميع الوجودات ، والاباحة الواقعية المتعلقة بجميع الوجودات ظاهرة ،

واما الاباحة المتعلقة بصرف الوجود ، فهي إنما تكون ، فيما لو اباح المالك الدخول في داره مرة مثلا ويتصور ذلك في الاباحة الظاهرية أيضاً.

المقدمة الثانية : ان المضطر إلى استعمال احد الماءين المعلوم نجاسة أحدهما إنما يكون مضطرا إلى استعمال الجامع لا خصوص الحرام ، وحيث ان احد فردي الجامع حرام والآخر مباح فلا بد وان يرفع اضطراره بما لا يكون حراما.

وبعبارة أخرى : الحكم المترتب على الفعل المضطر إليه إنما يترتب على ما لا مانع فيه ، وهو المباح ، ولذا ترى انه لو كان الحرام متميزا عن الحرام في الخارج لما كان يجوز دفع الاضطرار بالحرام. والسر فيه ما ذكرناه.

وعليه فالحرام يتمكن المكلف من مخالفته ولم يطرأ عليه الاضطرار حتى يرفع حكمه.

المقدمة الثالثة : انه لا يمكن للشارع الترخيص في كليهما لكونه ترخيصا في المخالفة القطعية.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : ان مقتضى ما ذكرناه في المقدمة الثانية : عدم جواز ارتكاب أحدهما أيضاً في الفرض ، إلا ان العقل يحكم بأن الاضطرار الموجب لصيرورة الحرام مباحا إذا تعلق به ، لو تعلق باحد الامرين المعلوم حرمة أحدهما ، ولم يكن الحرام متميزا عما عداه يوجب عدم العقاب على ارتكاب أحدهما.

ولازم ذلك ترخيص الشارع في ارتكاب أحدهما ، وبمقتضى المقدمة الأولى : يكون المرخص فيه صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات ، والجمع بين

هذا الحكم وبقاء الحرمة الواقعية ، يقتضي الالتزام بالترخيص الظاهرى ، وبعبارة أخرى : الضرورات تتقدر بقدرها.

فلا وجه لرفع اليد عن الحرام الواقعي ، لان المضطر إليه هو ترك الموافقة القطعية فالمرتفع هو وجوبها.

وبمقتضى المقدمة الثالثة يحرم المخالفة القطعية ، وليس للشارع الترخيص فيها ، فنتيجة ذلك هو التوسط في التنجيز.

ومما ذكرناه يظهر ما في كلمات المحققين وإليك طائفة منها :

الاول : ما أفاده المحقق الاصفهاني (١) ، من ان المعذورية في ارتكاب احد الأطراف ورفع عقاب الواقع عند المصادفة ، ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى يحرم المخالفة القطعية.

فإنه يرد عليه : انه بعد تسليم وجود التكليف الواقعي على حاله ، غاية ما يمكن للشارع الترخيص في المخالفة الاحتمالية.

واما الترخيص في المخالفة القطعية وعدم العقاب على ارتكابهما فليس له ذلك ثبوتا ، من غير فرق بين ان يكون الترخيصان بدليل واحد ، أو بدليلين.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (٢) من ان ارتكاب المكلف للحرام في هذا الحال يكون مصداقا للاضطرار ويحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٢ ص ٥٩٦.

(٢) فوائد الأصول الكاظمي الخراساني ج ٤ ص ١٠٧.

فإنه يرد عليه ان متعلق الاضطرار وما يترتب عليه الضرر هو الموافقة القطعية والجمع في الترك ، وحيث ان وجوب الموافقة القطعية إنما يكون بحكم العقل ، ومن باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولا يرتفع حكم العقل إلا بارتفاع منشإ انتزاعه ، فلا بد من كون العقاب مرفوعا عن احد الفعلين في المحرمات وترك أحدهما في الواجبات ، ولا يكون ذلك إلا بجعل الترخيص.

وحيث ان الترخيص الظاهرى يكفي في ذلك ، والضرورات تتقدر بقدرها ، فلا محالة يكون هو المجعول لا الترخيص الواقعي كي ينافي مع إطلاق دليل الحرمة.

أضف إلى ذلك ان الترخيص إنما جيء من ناحية الجهل بمتعلق التكليف.

ومثل هذا الحكم لا محالة يكون ظاهريا ، ومتعلقه إنما هو أحدهما بنحو صرف الوجود المنطبق على أول الوجودات ، إذ به يرفع الاضطرار فيكون هو المرخص فيه دون الثاني ، ولا يلزم الترجيح بلا مرجح.

الثالث : ما أفاده المحقق الخراساني المتقدم ذكره.

فإنه يرد عليه ان الترخيص ليس واقعيا فلا ينافي مع الالزام المعلوم.

ثم لا يخفى انه فرق بين الواجبات والمحرمات من جهة انه في الثانية يكون أول الوجودات مرخصا فيه لما مر ، وفي الأولى يكون المرخص فيه ترك آخر الوجودات ، إذ الضرر في الواجبات إنما يترتب على الجمع في الفعل ، وفي باب المحرمات على الجمع في الترك ، وإلا فهما مشتركان في جميع ما تقدم كما لا يخفى.

ثم ان ما ذكرناه إنما هو في الاضطرار الموجب لاباحة الحرام.

واما الاضطرار الموجب لوجوب ارتكاب الحرام ، فلو حدث فبما ان احد الفعلين حرام والآخر مباح ، فالوجوب يتعلق بالمباح لأنه في الآخر مانع عن تعلقه وهو الحرمة فيصير احد الفعلين حراما والآخر واجبا وقد اشتبه أحدهما بالآخر ، فكل فعل من أطراف العلم يدور امره بين الوجوب والحرمة ، فيدخل في المسألة المتقدمة ، وهي دوران الأمر بين الوجوب

والحرمة ، وقد مر ان مقتضى القاعدة ، هو فعل أحدهما وترك الآخر كي لا يخالف احد التكليفين قطعا.

خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء

الأمر الثامن : قد طفحت كلمات المحققين (١) تبعا للشيخ الأعظم بأنه يعتبر في تأثير العلم الإجمالي كون جميع الأطراف داخلة في محل الابتلاء فلا أثر للعلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء وان كان مقدورا للمكلف.

ولكن صريح كلام الشيخ (٢) الاختصاص بالشبهة التحريمية وتبعه جمع ، وذهب آخرون (٣) إلى انه لا فرق في ذلك بين الشبهات التحريمية والوجوبية.

وكيف كان فتنقيح القول في المقام يقتضي ان يقال ، انه حيث لا ريب ولا كلام في انه يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي ان يكون جميع أطرافه مقدورة

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٥٠.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٢٥.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١١٩. منتهى الدراية ج ٦ ص ١٣٠.

للمكلف ، لأنه يعتبر القدرة في التكليف ، فلو كان بعض الأطراف خارجا عن تحت القدرة ، كان التكليف بالنسبة إليه ساقطا يقينا فيكون التكليف في الطرف الآخر مشكوك الحدوث فيجري فيه الأصل النافي للتكليف بلا معارض.

فيعلم من ذلك ان عمدة الكلام في المقام في ، انه هل يعتبر في فعلية التكليف وتنجزه دخول المكلف به في محل الابتلاء ، أم لا يعتبر ذلك؟

وإلا فمع فرض الاعتبار ، يكون حكم ما لو خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، حكم الاضطرار إلى احد الأطراف معينا ، أو خروجه عن تحت القدرة عقلا ، كما انه على فرض عدم الاعتبار يكون العلم الإجمالي منجزا قطعا ، فالمهم البحث في ذلك.

وقد استدل الشيخ الأعظم لدخل الدخول في محل الابتلاء في التكليف التحريمي ، بقوله : (والحاصل ان النواهي المطلوب فيها حمل المكلف على الترك مختصة بحكم العقل والعرف بمن يعد مبتلى بالواقعة المنهي عنها ولذا يعد خطاب غيره بالترك مستهجنا إلا على وجه التقييد بصورة الابتلاء ، ولعل السر فى ذلك ان غير المبتلى تارك للمنهى عنه بنفس عدم ابتلائه فلا حاجة إلى نهيه) (١) انتهى.

وحاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين : أحدهما : استهجان الخطاب بترك ما هو خارج عن محل الابتلاء ، ثانيهما : كون الخطاب مع عدم الابتلاء من قبيل طلب الحاصل ، إذ الترك حاصل بنفسه.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٣٤.

وأورد عليه بايرادين :

الايراد الأول : النقض بالموارد التي لا ينقدح الداعي للمكلف إلى فعلها دائما أو غالبا ، كنكاح الامهات واكل العذرة ، وما شاكل.

وأجاب : عنه المحقق النائيني (ره) (١) بما حاصله : ان المعتبر في صحة الخطاب إمكان انتساب الفعل ، أو الترك إلى الاختيار ، والارادة ، فإن الخطاب لتحريك الارادة وبعثها نحو الفعل أو الترك ، وعليه ففي الموارد المذكورة في النقض ، حيث يكون بقاء الترك مستندا إلى الاختيار والارادة ، فلا مانع من الخطاب ، واما في مورد الخروج عن محل الابتلاء ، فبقاء الترك ليس مستندا إلى الاختيار والارادة ، بل إلى جهات اخر ، فلا يصح التكليف.

وان شئت فقل ، انه يعتبر في صحة التكليف ، إمكان الداعوية ، وهذا لا ينافي ضرورة الفعل ، أو الترك الناشئة من ارادته كما في موارد النقض ، بخلاف الضرورة الناشئة من غير جهة الارادة ، كما في المقام ، فإنها توجب لغوية الحكم ، وجعل الداعي إلى الفعل ، أو الترك.

وفيه : ان المستشكل يدعى ان الضرورة في موارد النقض ، ناشئة عن تنفر الطبع ، لا عن الارادة ، فكما انه في المقام يدعى ان التكليف لغو ، كذلك في موارد النقض بلا تفاوت.

__________________

(١) نسب هذه الخلاصة إليه في منتهى الدراية ج ٦ ص ٨٩.

الإيراد الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو انه إذا كانت القدرة العادية على الفعل معتبرة في فعلية التكليف التحريمي كانت القدرة على الترك معتبرة في الواجبات لوحدة الملاك ، فإذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين ما لا يتمكن المكلف من تركه وبين غيره لم يكن هذا العلم الإجمالي منجزا.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (٢) بأنه في باب المحرمات لا كلام في استهجان الخطاب بالترك وكونه طلبا للحاصل ، لان الغرض من النهي ليس الا عدم تحقق المنهي عنه ، وهذا حاصل مع عدم الابتلاء ، بخلاف الواجبات إذ الأمر إنما هو لأجل اشتمال الفعل على المصلحة الملزمة ، وليس التكليف بايجاد ما اشتمل على المصلحة بأي وجه امكن ولو بتحصيل الاسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكن العقلي مستهجنا ، ولا ، طلبا للحاصل.

وفيه : ان المحقق الخراساني (ره) (٣) يدعى انه لو كان يعتبر في صحة النهي التمكن العادي من الفعل لكان يعتبر في الأمر ، التمكن العادي من الترك ، لا التمكن العادي من الفعل ، فلو تم ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) (٤) تم ما أفاده لجريان الوجهين المذكورين في الواجبات أيضاً.

__________________

(١) ذكره المحقق النائيني في مناقشته للآخوند ضمن سياق (إن قلت .. قلت) في أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٥١. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٣١.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٥٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٣٢.

(٣) كفاية الأصول ص ١٢٠.

(٤) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٣٤

ولكن الحق عدم اعتبار الدخول في محل الابتلاء ، في شيء من الموارد ويظهر ذلك ببيان أمور.

الأمر الأول : ان الحكم الذي هو أمر اعتباري ، لا يعتبر في صحة جعله سوى ما يخرجه عن اللغوية ، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في هذا الكتاب.

الأمر الثاني : ان الغرض الأقصى من التكاليف أعم من التوصلية والتعبدية ، إنما هو تكميل النفوس البشرية ، ونيلها الكمالات بجعل التكليف داعيا إلى الفعل والترك ، ويحصل له بذلك القرب من الله تعالى ، وليست هي كالتكاليف العرفية التي ينحصر الغرض فيها بحصول متعلقاتها في الخارج فعلا أو تركا.

ومن أقوى الشواهد على ذلك الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله أبدا كأكل العذرة.

الأمر الثالث : ان الداعي القربى إذا انضم إلى الداعي النفساني يتصور على وجوه :

احدها : ان يكون الداعي القربى مستقلا في الداعوية ويكون الداعي النفساني تبعيا ومندكا فيه ، لا إشكال في صحة العبادة في هذا القسم.

ثانيها : عكس ذلك. لا كلام في بطلان العبادة فيه.

ثالثها : ان يكونا معا داعيا إليه. وهذا يتصور على وجهين :

الوجه الأول : ان لا يكون كل منهما داعيا مستقلا في نفسه بل يكون جزء السبب ، الأظهر البطلان في هذه الصورة.

الوجه الثاني : ان يكون كل منهما داعيا مستقلا ، ولكن لعدم قابلية المحل يسقط كل واحد منهما عن الاستقلال ، ولا يبعد البناء على الصحة كما ذهب إليها جماعة في هذه الصورة.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : انه في مورد الخروج عن محل الابتلاء مع فرض القدرة العقلية على الفعل والترك ، إذا نهى المولى عن الفعل في المحرمات ، أو أمر به في الواجبات للمكلف ان يجعل ذلك التكليف داعيا إلى الفعل أو الترك ، ويحصل له بذلك الغاية القصوى من التكليف ، ولتمام الكلام محل آخر.

وعلى ذلك فالعلم الإجمالي بالتكليف المردد بين ما هو خارج عن محل الابتلاء وما هو داخل فيه علم بتكليف فعلى ويكون منجزا.

الشك في الخروج عن محل الابتلاء

ثم ان تمام الكلام في المقام بالبحث في موارد :

المورد الأول : ما لو شك في اعتبار الدخول في محل الابتلاء.

المورد الثاني : لو شك في الابتلاء ، وعدمه على فرض اعتبار الدخول في محل الابتلاء ، من جهة عدم تعيين مفهوم الابتلاء والترديد في حده.

المورد الثالث : لو شك في القدرة العقلية من جهة الشبهة المصداقية.

أما المورد الأول : فالشك في ذلك وان كان يلازم الشك في صحة التكليف

وعدمها ، وبالتبع يشك في ان إطلاق الدليل هل يكون شاملا لهذا الفرد أم لا؟

ولو كان ذلك احد أطراف العلم الإجمالي ، لا علم بتكليف فعلي ، إلا ان إطلاق دليل ذلك التكليف يشمل هذا المورد ويتمسك به ، ومجرد احتمال الاستحالة أو القبح في شمول الإطلاق لمورد لا يوجب عدم العمل بالإطلاق ، ورفع اليد عنه ، لأنه لا بد من اتباع ظاهر كلام المولى ما لم يقطع بالاستحالة أو القبح ، ألا ترى انه بعد ورود آية النبأ وغيرها من أدلة حجية خبر الواحد ، لو احتمل احد ان تكون شبهة ابن قبة (١) تامة ، أو لم يطمئن بعدم ترتب محال عليه ، هل يمكن له ان لا يعمل بخبر الواحد ، ويترك ما دل الخبر على وجوبه ويفعل ما دل على حرمته ، وهل يكون مثل هذا العبد معذورا؟

وبالجملة : دعوى ان الإطلاق إنما يرجع إليه بعد الفراغ عن مقام الثبوت ، وانه يصح شموله لمورد ثبوتا ، ولو شك في ذلك لا يتمسك بالإطلاق كما في الكفاية (قدِّس سره) (٢) قال : ضرورة انه لا مجال للتشبث به ، إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه ، لا فيما شك في اعتباره في صحته. انتهى.

__________________

(١) ابن قبة هو : محمد بن عبد الرحمن بن قبة ـ بالقاف المكسورة ، والباء المنقطة تحتها نقطة ، المفتوحة ـ الرازي أبو جعفر. متكلم عظيم القدر ، حسن العقيدة قوي في الكلام ، كان قديما من المعتزلة ، وتبصّر وانتقل ، له كتاب الإنصاف في الإمامة. (رجال النجاشي : ٣٧٥ رقم ١٠٢٣ / خلاصة العلّامة : ١٤٣ ، القسم الأول ، رقم ٣١. وشبهته ترتكز على القول بقبح العمل بالظنون ، حيث يقول بامتناع التعبد بالظنون.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦١.

مندفعة : بأنه يستكشف من الإطلاق صحته ثبوتا لأنه على ذلك بناء العقلاء كما عرفت.

المورد الثاني : وقد ذهب الشيخ الأعظم (ره) (١) إلى انه يلحق بهذا المورد ما لو علم بأن الدخول في محل الابتلاء شرط للتكليف ، لكن شك في مورد من جهة الشبهة المفهومية ، في الابتلاء وعدمه.

وقد استدل له : بأن المتبع في غير المقدار المتيقن من التقييد هو إطلاق الدليل لما حقق في محله في العام والخاص ، من ان التخصيص أو التقييد بالمجمل مفهوما المردد بين الأقل والأكثر ، لا يمنع عن التمسك بالعام أو الإطلاق فيما عدا المتيقن من التقييد وهو الأقل ، إذا كان الخاص أو المقيد منفصلا عن العام أو المطلق.

وأورد عليه بإيرادات.

الإيراد الأول : ما أفاده المحقق الخراساني وقد تقدم نقل كلامه (٢) ، وما يرد عليه آنفا فلا نعيد.

الإيراد الثاني : انه قد حقق في مبحث العام والخاص ، ان المخصص إذا كان مجملا دائرا بين الأقل والأكثر ، فإن كان لفظيا متصلا بالعام ، أو كان عقليا

__________________

(١) نسب في حواشي المشكيني هذا القول للشيخ الانصاري بقوله : ان الظاهر من كلام الشيخ في الرسالة كون الشك في الابتلاء في موارد الشكوك ـ من قبيل الشبهة المفهومية ، حواشي المشكيني ج ٤ ص ٢٠٤.

(٢) كفاية الأصول ص ١٢٠.

ضروريا يسري إجماله إلى العام ، ولا يصح التمسك باصالة العموم في الأفراد المشكوك فيها ، والمخصص في المقام عقلي ضروري ، فإن اعتبار إمكان الابتلاء بما تعلق التكليف به من المرتكزات العرفية والعقلائية ويكون كالمتصل بالعام ، فإجماله يمنع عن التمسك بالعام وبالإطلاق.

وفيه : أولا : المنع من كون المخصص في المقام من الأحكام العقلية الضرورية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء كيف ، وقد عرفت ان الأظهر عدم اعتباره.

وثانيا : ان الأحكام العقلية لا يتطرق إليها الإهمال والإجمال : لان العقل لا يستقل بشيء إلا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من الخصوصيات والقيود.

وثالثا : ان العنوان الخارج عن العام إذا كان بنفسه ذو مراتب كالخروج عن محل الابتلاء ، فالدليل المخرج وان كان عقليا ضروريا لا يسري إجماله إلى العام.

وإنما السراية فيما إذا كان الخارج عنوانا واحدا مرددا بين الأقل والأكثر ، لو سلم الإجمال في الحكم العقلي.

الإيراد الثالث : ما أفاده المحقق الخراساني في الحاشية على الرسائل (١).

قال : إنما يجوز الرجوع إلى الاطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته بأن يكون من أحوال ما أطلق وأطواره ، لا في دفع ما لا يكون كذلك.

__________________

(١) درر الفوائد ص ٢٤٤.

وقيد الابتلاء من هذا القبيل ، فإنه بحكم العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر من مرتبة اصل إنشائه ، فكيف يرجع إلى الاطلاقات الواردة في مقام اصل إنشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه؟ انتهى.

وفيه : انه لو كان معتبرا في التكليف كان معتبرا في الفعلية ، لا في التنجز ، بل لا يعقل ذلك ، إذ المراد من عدم التنجز إذا كان المتعلق خارجا عن محل الابتلاء ، لو كان انه في صورة الترك وعدم الإتيان بما تعلق النهي به ، لا يعاقب عليه فهذا في جميع المحرمات الداخلة في محل الابتلاء كذلك ، وان كان المراد ان التكليف يكون بنحو لو خولف لا يعاقب عليه ، فهذا مما لا يمكن الالتزام به ، إذ فرض ذلك فرض الابتلاء.

الإيراد الرابع : ما أفاده المحقق صاحب الدرر (١) ، وهو انه لا يمكن القطع بحكم ظاهري بواسطة الإطلاق والعموم ، لان المفروض الشك في ان خطاب الشرع في هذا المورد حسن أم لا؟ ولا تفاوت بين الخطاب الظاهري والواقعي.

وفيه : مضافا إلى ان الالتزام بجعل الحكم المماثل في حجية الامارات غير العلمية خلاف التحقيق وخلاف ما بنى عليه ، انه لو سلم فإنما هو في الامارات غير العلمية سندا ، واما غير العلمية دلالة ، كالظهور العمومي فهي ليست بمعنى جعل الحكم المماثل قطعا ، بل بمعنى بناء العقلاء على اتباعها عملا ، والحكم باستحقاق المؤاخذة على مخالفتها ، فليس هناك حكم ظاهري ، ليكون حاله حال الحكم الواقعي في القيد المزبور.

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ١٢١.

فالحق ان ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) تام لا يرد عليه شيء مما أورد عليه.

لو شك في القدرة العقلية

واما المورد الثالث : وهو ما لو شك في القدرة العقلية بالشبهة المصداقية ، أو شك في الخروج عن محل الابتلاء بهذا النحو على القول باعتبار الدخول في محل الابتلاء.

فقد يقال : ان مقتضى إطلاق أدلة التكاليف ثبوتها في هذه الموارد.

ولكن قد تقدم في مبحث العام والخاص ، ان التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لا يجوز مطلقا خصوصا إذا كان المخصص لبيا ضروريا.

وعن بعض المحققين (١) انه وان لم يصح التمسك بالاطلاقات إلا انه لا يصح الرجوع إلى البراءة أيضاً لتسالم الاصحاب على ان الشك في القدرة ليس موردا للبراءة بل يجب الفحص ليحرز العجز أو يتحقق الامتثال ، ألا ترى انه لو شك في القدرة على حفر الارض لدفن ميت ، أو شك الجنب في كون باب الحمام مفتوحا حتى يكون قادرا على الغسل أم لا؟ لا ريب في لزوم الفحص وعدم جواز الرجوع إلى البراءة عن وجوب الدفن أو وجوب الغسل ، وعليه فيتعين الرجوع إلى قاعدة الاشتغال واصالة الاحتياط.

وفيه : اولا : ان هذا لو تم فإنما هو في التكاليف الوجوبية ، ولا يتم في

__________________

(١) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٠٢ / مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٠٠.

المحرمات ، فإنه لا يلزم من جريان البراءة فوت الغرض الملزم الذي هو المانع عن جريان البراءة في الواجبات كما ستعرف.

وثانيا : انه لا تسالم من الاصحاب على عدم جريان البراءة عند الشك في القدرة إلا فيما علم فوات غرض المولى الملزم على كل حال ، أي حتى مع العجز عن الامتثال ، غاية الأمر مع العجز لا يستند الفوت إلى المكلف فلا شيء عليه ، فيجب الفحص حينئذ لئلا يكون فوت الغرض الملزم مستندا إلى تقصير العبد ، لان العلم بالغرض بمنزلة العلم بالتكليف.

واما لو لم يحرز وجود الغرض الملزم ، اما لاحتمال دخل القدرة فيه ، أو لعدم كون المورد محله كما في المقام إذ لم يحرز وجود الغرض الملزم في مورد الشك في التكليف فلا مانع من جريان البراءة ، إلا إذا كان للتكليف المشكوك قدرته على امتثاله بدل كما في مثال الغسل أو الوضوء ، فإنه حينئذ للعلم الإجمالي بتوجه احد الخطابين ، اما المبدل أو البدل إليه ، لا تجري البراءة في شيء منهما.

وبه يظهر انه في مثل غسل الجنب لا تجري أصالة البراءة للعلم الإجمالي بوجوبه أو وجوب التيمم لا لكون الشك شكا في القدرة.

وثالثا : انه لو تم ما ذكر ، فلازمه عدم جريان البراءة في الطرف المشكوك كونه مقدورا أو مبتلا به ، وعليه فيجري الأصل في الطرف الآخر بلا معارض بناءً على ما هو الحق من ان عدم جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي للتعارض.

فالمتحصّل مما بيناه انه في المقام : ان كان المعلوم بالإجمال تكليفا وجوبيا ،

وعلم بوجود الغرض الملزم ، كوجوب غسل احد الميتين لكونه مسلما ، أو دفنه لا تجري البراءة ، بل لا بد من الفحص عن القدرة.

وإلا كما لو علم بكون احد المائعين خمرا مع احتمال عدم القدرة على شرب أحدهما بالخصوص ، فإنه تجري البراءة عن حرمة شرب ما علم كونه مقدورا بلا مانع : إذ من جريان البراءة لا يلزم تفويت الغرض الملزم ، ولا علم بتكليف فعلي على كل حال ، إذ لعله يكون في الطرف المشكوك قدرته عليه ، ويكون في الواقع غير مقدور فلا تكليف.

ولا يعارضها أصالة البراءة في الطرف الآخر ، لما ذكرناه ، ولانه لا يجري الأصل فيه من جهة أخرى : لأنه بعد ما عرفت من عدم جواز التمسك باطلاق الدليل المتضمن للحكم ، لا محالة لا تجري البراءة ، لان كل مورد لا يكون قابلا لوضع التكليف لا يكون قابلا للرفع أيضاً.

ثم انه بعد ما عرفت من انه لو علم بتعلق التكليف بما يكون مقدورا ، أو ما يشك في القدرة عليه في المحرمات ، لا يكون العلم الإجمالي منجزا ، تعرف انه لا يبقى ثمرة مهمة للنزاع في ان الخروج عن محل الابتلاء مانع عن الفعلية أم لا؟

إذ في غالب موارد الخروج عن محل الابتلاء يشك في القدرة العقلية.

لو كان احد أطراف العلم غير مقدور شرعا

بقي الكلام في أمرين :

الأمر الاول : انه ذهب جماعة منهم المحقق النائيني (١) والاستاذ المحقق الخوئي (٢) ، إلى ان ما لا يكون مقدورا شرعا ، مثل ما لا يكون مقدورا عقلا ، في انه إذا كان احد أطراف العلم الإجمالي كذلك ، كما إذا كان احد الإنائين أو الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما ملكا للغير الذي يبعد جواز استعماله ولو بالشراء ونحوه ، لا مانع من الرجوع إلى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر.

ولا يعارضه الأصل في غير المقدور ، لعدم ترتب أثر عملي على جريانه فيه بعد العلم بحرمة التصرف فيه على التقديرين فينحل به العلم الإجمالي ولا يكون منجزا.

ولكن يرد عليهم : انه لا ريب في صحة اجتماع النواهي المتعددة في شيء واحد من الجهات العديدة ، ويترتب عليها آثارها :

مثلا : لو شرب الخمر التي هي ملك للذمي بغير اذنه يعاقب عقابين ويحد حد شارب الخمر ، ويكون ضامنا للقيمة. وكذا لو وطء الاجنبية في حال طمثها.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٤٥. وج ٣ ص ٤٢١ الطبعة الجديدة.

(٢) مصباح الأصول ج ٢ ص ٢٢٩.

كما لا إشكال في جريان الأصل في شيء علم حرمته من جهة وشك فيها من جهة أخرى ورفع أثر الحرمة الثانية به.

وعليه : فلا وجه لعدم تنجيز العلم الإجمالي في المثال ، إذ لا يعتبر في التنجيز سوى كونه علما بتكليف فعلى منجز على كل تقدير ، وتعارض الأصول في أطرافه ، وهذا الملاك موجود في المقام ، فالحق عدم اللحوق.

نعم يتم ما افادوه في المحرمين الذين لهما أثر واحد كالفردين من طبيعة واحدة.

العلم الإجمالي في الطوليين

الأمر الثاني : إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين أمرين طوليين ، كما لو علم بنجاسة الماء ، أو التراب مع انحصار الطهور بالمشتبهين.

فعن المحقق النائيني (ره) (١) وجوب الوضوء والاكتفاء ، به وانه لا يكون هذا العلم منجزا بدعوى : ان تنجيز العلم الإجمالي متوقف على كونه منشأ للعلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، وهذا غير ثابت في المقام ، إذ على تقدير كون النجس هو التراب ، لا يترتب عليه شيء ، لان عدم جواز التيمم حينئذ من جهة التمكن من الوضوء بالماء الطاهر ، لا لنجاسة التراب ، وان شئت قلت ان النجاسة المعلومة لم تؤثر في عدم جواز التيمم على كل تقدير : اما على تقدير كون النجس هو الماء فواضح ، واما على تقدير كون النجس هو التراب ، فلان عدم جواز التيمم حينئذ مستند إلى وجود الماء الطاهر لا إلى نجاسة التراب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٥٦. وج ٣ ص ٤٣٩ الطبعة الجديدة.

وعليه فتجرى أصالة الطهارة في الماء بلا معارض ، وبها يرتفع موضوع جواز التيمم ، وهو عدم التمكن من الماء.

وفيه : انه إنما يتم ذلك إذا لم يكن للتراب أثر آخر غير جواز التيمم كما إذا كان التراب في مكان مرتفع لا يمكن السجود عليه ، أو كان مملوكا للغير ولم يأذن في ذلك.

ولا يتم فيما كان الابتلاء به من غير تلك الجهة أيضاً ، وكان له أثر آخر كالسجود عليه ، فإنه حينئذ تتعارض أصالة الطهارة في الماء مع أصالة الطهارة في التراب ، فتتساقطان ، وعليه فيجب عليه الجمع بين الوضوء والتيمم.

الشبهة غير المحصورة

الأمر التاسع : قد اشتهر بين الاصحاب (١) ان أطراف العلم الإجمالي إذا كانت غير محصورة لا يكون العلم منجزا.

والكلام في هذا الأمر إنما هو في ان عدم الحصر بنفسه ، هل يكون من موانع تنجيز العلم الإجمالي أم لا؟ فلا بد من فرض الكلام في ما إذا كان المورد خاليا عن جميع ما يوجب المنع عن تنجيز العلم ، ولو في غير المقام من موانع التكليف ، من العسر والحرج ، والخروج عن القدرة وما شاكل ، وعلى ذلك فتسقط جملة مما استدل به على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٢ ص ٣٢٨.

وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في موردين.

المورد الأول : في ضابط الشبهة غير المحصورة.

المورد الثاني : في بيان حكمه.

اما المورد الأول : فقد اختلفت كلمات الاصحاب في ذلك وذكروا لها ضوابط :

منها : ما عن جماعة (١) وهو تحديدها ، ببلوغ الأطراف إلى حد يعسر عدها أو يمتنع ، وزاد بعضهم (٢) قيد في زمان قليل.

وفيه : ان تحديدها بذلك احالة على المجهول ، إذ في أي مقدار من الزمان يعسر عده والزمان القليل أيضاً غير ظاهر المراد.

ومنها : الارجاع إلى العرف (٣).

وفيه : اولا ان اهل العرف لا يفهمون حده.

وثانيا : ان هذا اللفظ لم يرد في رواية أو آية حتى يرجع إلى العرف في مفهومه ، وإنما تكون المسألة عقلية.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (٤) : وهو ان غير المحصورة ما لا يمكن فيها

__________________

(١) فوائد الرضوية ج ٢ ص ٥١. ومصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧٢.

(٢) نقل ذلك المحقق العراقي في نهاية الافكار ج ٢ ص ٣٢٩.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٣٧.

(٤) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٧٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٧٥

المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف وان تمكن من ارتكاب كل واحد ، ولهذا تختص الشبهة غير المحصورة عنده (ره) بالشبهات التحريمية فإنه في الشبهات الوجوبية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ، وان بلغت الأطراف في الكثرة ما بلغت.

وفيه : اولا : ان عدم التمكن منها ربما يكون مع كون الشبهة محصورة قطعا ، كما لو علم بحرمة الجلوس في زمان معين في إحدى الدارين.

وثانيا : ان المراد من القدرة على المخالفة هي القدرة دفعة أو تدريجا.

فعلى الأولى كثير من الشبهات المحصورة كذلك ، وعلى الثاني قل شبهة غير محصورة تكون كذلك.

وثالثا : ان التمكن من المخالفة وعدمه يختلف باختلاف الاشخاص ، والموارد ، وقلة الزمان ، وكثرته كما لا يخفى فليس له ضابط كلى.

ومنها : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان الشبهة غير المحصورة ما يكون احتمال وجود التكليف في كل طرف من أطرافها موهوما لكثرة الأطراف.

وأورد عليه بايرادين :

أحدهما : ما عن المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان الوهم له مراتب فالمراد أي مرتبة منه فهذا احالة على المجهول.

__________________

(١) ذكر ذلك في مصباح الأصول ج ٣ ص ٣٧٩ / دراسات في علم الأصول ج ٢ ص ٣٧٢.

(٢) نسبه إليه في مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧٣.

ثانيهما : ما عن المحققين العراقي (١) والخوئي (٢) وهو ان موهومية احتمال التكليف ، لا تمنع من التنجيز ، لان مجرد احتمال التكليف بأي مرتبة كان يستلزم احتمال العقاب الذي هو الملاك في تنجز التكليف لو لا المؤمن.

ولكن الظاهر عدم ورود شيء من الايرادين عليه. وتمامية ما أفاده ، وهو يظهر ببيان مراده ، وحاصله : انه إذا وصل كثرة الأطراف إلى حد كان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف احتمالا موهوما في مقابل الاطمئنان كما يظهر من الامثلة التي ذكرها ، بمعنى انه يطمئن العرف بعدم كونه في ذلك الطرف والعقلاء : لحجية الاطمئنان عندهم لا يعتنون باحتمال خلافه ، ولهذا الاحتمال الموهوم ليس مراتب ، فالصحيح تمامية ما أفاده الشيخ (ره).

أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة

واما المورد الثاني : فيقع الكلام فيه :

اولا : في وجوب الاحتياط فيها وعدمه.

ثانيا : في حرمة المخالفة القطعية وعدمها.

اما الأول : فقد استدل لعدم وجوبه ، بوجوه :

الوجه الاول : الإجماع على ذلك.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٣ ص ١٥٦.

(٢) مصباح الأصول ج ص ص ٣٧٣ / دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٨٠.

ويتوجه عليه : ان القدماء لم يتعرضوا للمسالة بل هي معنونة في كلمات متأخري المتأخرين. فكيف يعرف اتفاقهم عليه؟

أضف إليه ان مدرك المجمعين معلوم وهو احد الوجوه الآتية فلا يكون إجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

الوجه الثاني : ان الاحتياط في الشبهة غير المحصورة مستلزم للعسر والحرج ، وهما في الشريعة منفيان.

وفيه : ان المنفي هو العسر الشخصي لا النوعي ، وعليه : فهذا يختلف باختلاف الاشخاص والازمان ، وغير ذلك من الخصوصيات ، فلازمه وجوب الاحتياط مع عدم لزومه في مورد.

مع انه في شمول أدلة نفي العسر والحرج لوجوب الاحتياط أي فيما إذا لم يكن متعلق التكليف الواقعي حرجيا كلام سيأتي عند التعرض لقاعدة لا ضرر (١) فانتظر.

الوجه الثالث : ان ما في رواية الجبن : قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه‌السلام) عَنِ الْجُبُنِّ فَقُلْتُ لَهُ أَخْبِرْنِي مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ فَقَالَ أَمِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ حُرِّمَ فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْهُ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ ... الخ) (٢) يدل على ذلك.

فإنه يدل على ان وجود الميتة في مورد في الجبن المردد بين جميع ما في البلد

__________________

(١) كما سيأتي.

(٢) وسائل الشيعة ج ص ٥ ص ١١٩ ح ٣١٣٨٠.

لا يوجب لزوم الاجتناب عن الجميع.

وفيه : أولا : ان جميع ما في البلد من الجبن لا تكون داخلة في محل الابتلاء ، فلعل عدم التنجيز لذلك لا لكون الشبهة غير محصورة.

وثانيا : انه يحتمل ان يكون المسئول عنه هو الشبهة البدوية ، ومنشأ شك السائل ما رآه من جعل الميتة فيه في مورد ، فيكون أجنبيا عن المقام.

الوجه الرابع : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه إذا لم تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن منها ، لا تجب الموافقة القطعية.

وقد مر ما في جعل عدم التمكن من المخالفة القطعية ضابطا للشبهة غير المحصورة ، ولكنه على فرض الإغماض عنه يتم ما أفاده في المقام ، لما تقدم في التنبيه الأول.

الوجه الخامس : ما أفاده الشيخ الأعظم (٢) ، وهو عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف إذا كان موهوما.

وقد مر تقريب ما أفاده عند بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة ، وعرفت انه متين : إذ الاطمئنان حجة عقلائية.

ويمكن ان يستدل لعدم وجوب الاحتياط مضافا إلى ذلك : بأن الدليل على لزومه في أطراف العلم الإجمالي منحصر في النصوص الخاصة كما تقدم ، وعليه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ص ص ص ٧٦. وج ٣ ص ٤٧ ص الطبعة الجديدة.

(٢) نسبه السيد الخوئي إلى الشيخ الأنصاري في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٣٨٢. وفي مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٧٦.

فحيث ان موارد تلك النصوص من قبيل الشبهة المحصورة فالتعدي عنها ، واثبات لزوم الاحتياط في الأطراف الشبهة غير المحصورة ، يحتاج إلى دليل آخر مفقود ، وعرفت ان القواعد تقتضي عدم لزوم الاجتناب.

فالأظهر عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة كما هو المشهور بين الأصحاب بل المجمع عليه كما قيل.

واما الثاني : وهو انه هل يحرم المخالفة القطعية ، أم لا؟

فملخص القول فيه ، ان الأدلة المتقدمة لا تدل على عدم الحرمة ، ولكن يمكن ان يستدل له بأن أطراف الشبهة إذا كانت كثيرة بحد كان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف احتمالا موهوما ، بالنحو الذي عرفته لا يكون مثل هذا العلم بيانا عند العقلاء ، وعليه فهو في حكم العدم فلا يحرم المخالفة القطعية.

ومما ذكرناه يظهر انه في الشبهة غير المحصورة يسقط حكم الشك عن كل واحد من الأطراف أيضاً ، بحيث يكون الشك في كل واحد منها كلا شك ، فلو كان حكم الشك في نفسه لزوم الاحتياط ، كما في الأموال والدماء والفروج حيث لا يجوز على المشهور الاقتحام في الشبهات البدوية في هذه الأبواب الثلاثة ، لا يترتب على الشك في أطراف الشبهة غير المحصورة.

وعلى هذا بنينا على جواز الوضوء من الأواني غير المحصورة عند العلم الإجمالي بإضافة أحدها ، مع انه لا يجوز التوضؤ بما يشك في انه مضاف أو مطلق ، لعدم إحراز الشرط في صحة الوضوء من إطلاق الماء.

واما على ما أفاده المحقق النائيني (١) في وجه عدم وجوب الاحتياط في المقام من التعليل : بأنه لا يحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن منها ، ولا تجب الموافقة لأنه تابع لها ، يكون العلم كلام علم ، فالشك متحقق ، وبنفسه مورد لقاعدة الاشتغال ، فحكمه بصحة الوضوء بأحد الاناءات في المثال لا يبنى على ما أسسه ، وتعليله ما أفتى به : بأن المعلوم عند العقلاء كالتالف ، لا يظهر معناه مع وجوده بجميع خصوصياته الشخصية.

تذييل : إذا كانت الشبهة كثيرة في كثير ، كما لو كان المعلوم مائة وأطراف الشبهة خمسمائة ، فهل يجب الاحتياط ، أم لا؟

الظاهر ان ذلك يختلف باختلاف المباني ، فإنه على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (٢) وتبعناه ، يجب الاحتياط في المقام لان احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف ليس احتمالا موهوما لا يعتنى به العقلاء ، فإنه من قبيل تردد الواحد في الخمسة.

وعلى مسلك المحقق النائيني (٣) من ان الضابط عدم التمكن من المخالفة القطعية ، لا يجب لعدم التمكن منها فإن المخالفة القطعية ، إنما تكون بارتكاب اربعمائة وواحد.

__________________

(١) نقله عنه تلميذه السيد الخوئي في الهداية إلى الأصول ج ٣ ص ٣٩٦.

(٢) أوثق الوسائل ص ١٨٤.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ١١٧.

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

الأمر العاشر : قد طفحت كلماتهم بأنه لا يجب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة. واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :

الأمر الأول : ان محل البحث ما إذا لم يكن لجميع الأطراف ملاق ، بل كان لبعضها ، وإلا فلا ريب في وجوب الاجتناب عن الملاقَى : للعلم الإجمالي بنجاسة احد أفراد الملاقي ـ بالكسر ـ.

الأمر الثاني : ان محل البحث ما إذا لم يكن في البين ما يقتضي نجاسة الملاقى كالاستصحاب ، فإنه إذا جرى استصحاب النجاسة في الملاقَى ـ بالفتح ـ يترتب عليه نجاسة الملاقي لكونها من الآثار الشرعية المترتبة على نجاسة الملاقَى.

حكم العلم الإجمالي بجزء الموضوع

الأمر الثالث : انه يعتبر في تنجيز العلم الإجمالي ان يكون علما بالحكم ، اما ابتداءً ، أو بواسطة العلم بتمام الموضوع.

واما لو لم يكن كذلك بأن تعلق العلم الإجمالي بجزء الموضوع ، فلا يكون مثل هذا العلم منجزا لعدم تعارض الأصول وعدم تساقطها.

فلو علم بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة ، أو علم بخمرية احد المائعين يكون هذا العلم الإجمالي منجزا في المثال الأول ، وفي المثال الثاني بالنسبة إلى ما يكون الخمر تمام الموضوع له وهو حرمة الشرب.

واما بالنسبة إلى ما يكون الخمر جزء الموضوع وجزئه الآخر الشرب ، وهو وجوب الحد فلا يكون العلم الإجمالي موجبا لترتبه لو شرب أحدهما.

وكذا لو علم بأن احد الجسدين ميت انسان ، والآخر جسد حيوان مذكى مأكول اللحم ، فإن هذا العلم الإجمالي ، وان كان يقتضي وجوب غسل كل منهما ، ووجوب الاجتناب عن أكل لحم كل من الجسدين ، إلا انه إذا مس شخص أحدهما ، لا يحكم عليه بوجوب الغسل ، لان تمام الموضوع مس بدن ميت الإنسان ، وهو مشكوك التحقق والأصل عدمه.

والسرُّ فيه انه إذا تعلق العلم الإجمالي بالحكم الفعلي يكون الشك في كل من الأطراف شكا في انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فلا يكون مجرى للبراءة ، واما إذا تعلق بما هو جزء الموضوع وكان الشك في تمامية الموضوع ، فلا محالة يشك في اصل التكليف فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة.

وهذا بحسب الكبرى واضح لا إشكال فيه.

وإنما وقع الإشكال والخلاف في بعض الموارد من حيث الصغرى.

ومن ذلك ما لو علم بغصبية إحدى الشجرتين ، ثم حصلت الثمرة لاحداهما دون الأخرى.

فقد يقال : بأنه لا أثر لهذا العلم بالنسبة إلى الثمرة الموجودة لا تكليفا ولا وضعا ، لان المحرم هو التصرف في نماء المغصوب وهو في المثال مشكوك فيه ، كما ان موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير ، وهو أيضاً مشكوك فيه والأصل عدمه.

وعلى الجملة : ان هذا العلم الإجمالي إنما يؤثر بالنسبة إلى ما يترتب على

غصبية الشجرة ، ولا يؤثر بالنسبة إلى آثار غصبية الثمرة لتوقفها على تحقق موضوعها وهو غصب الثمرة غير المحرز في المثال ، واحراز غصبية العين ، يوجب ترتب أحكام غصب العين لا ترتيب أحكام غصب الثمرة ، فبالنسبة إلى أحكام غصب الثمرة من الضمان وحرمة التصرف تجري أصالة ، الإباحة ، والبراءة ، وعدم الضمان.

ولكن المحقق النائيني (ره) (١) أفاد : ان العلم الإجمالي المذكور بالنسبة إلى آثار غصب الثمرة إنما يكون من قبيل العلم بتمام الموضوع لا جزئه.

بدعوى ان ضمان المنفعة والثمرة حكم مجعول مترتب على غصب العين من الدار والشجرة وما شاكل ، فإن اخذ العين المغصوبة كما يوجب ضمانها ، كذلك يوجب ضمان منافعها إلى الأبد ، إذ اخذ المنافع وان لم تكن موجودة إنما يكون بأخذ العين ، ولذلك جاز للمالك الرجوع إلى الغاصب الأول في المنافع المتجددة بعد خروج العين عن تحت يده ودخولها تحت يد غيره ، فالعلم بغصبية إحدى الشجرتين كما يقتضي ضمان العين المغصوبة كذلك يقتضي ضمان منافعها المتجددة ، هذا من حيث الحكم الوضعي.

واما من حيث الحكم التكليفي ، أي حرمة التصرف في الثمرة ووجوب الاجتناب عنها : فلأن وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب ، مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن المغصوب ، لان النهي عن التصرف في المغصوب نهى عنه وعن توابعه ومنافعه ، فيكفى في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، لا بمعنى فعلية

__________________

(١) نسبه إليه السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٠٧.

وجوب الاجتناب عن الثمرة قبل وجودها فإن ذلك بديهي البطلان لامتناع فعلية الحكم قبل وجود موضوعه ، بل بمعنى ان ملاك حرمة التصرف في الثمرة إنما يكون تاما من حين غصب العين الموجب لضمانها وضمان منافعها الموجودة وغير الموجودة ، وان النهي عن التصرف في الشجرة المغصوبة بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة عند وجودها ، فلا يحتاج حرمة التصرف في الثمرة إلى تعبد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل بمنافعه ، فحرمة التصرف في الثمرة من شئون حرمة التصرف في الشجرة ، فكما يكون العلم الإجمالي موجبا لتنجز الأحكام المترتبة على الاعيان من الشجرة وما شاكل ، يوجب تنجز الأحكام المترتبة على ما يعد من شئونها التابعة لها خطابا وملاكا ، ومجرد تأخر وجود الشيء عن ظرف وجود العلم بعد تمامية ملاك حكمه لا يكون مانعا عن تنجيزه كما مر تحقيقه في العلم الإجمالي في التدريجيات.

ولكن ما أفاده لا يتم ، لا من ناحية الحكم الوضعي ، ولا من ناحية الحكم التكليفي.

اما من الناحية الأولى : فلان الحكم بضمان المنافع المتجددة بغصب العين يتوقف على أمرين :

أحدهما : إحراز وضع اليد على العين المغصوبة ، فمع وضع اليد على أحدهما لا يكون ذلك محرزا.

ثانيهما : إحراز كون المنافع للعين المغصوبة ، ومع الشك في ذلك كما في المقام يكون مقتضى أصالة البراءة عدم الضمان.

واما من الناحية الثانية : فلأن ما أفاده من تمامية الملاك قبل وجود المنفعة ،

فمما لا نتعقله ، فإنه مع عدم وجود الموضوع كيف يكون الملاك تاما ، وبعد وجود المنفعة يكون الموضوع لحرمة التصرف مشكوك الوجود ، فلا محالة يكون الملاك أيضاً مشكوكا فيه.

والحق انه تارة : يكون الشيئان الذين علم غصبية أحدهما ، مسبوقين بملكية الغير لهما فدخل أحدهما في ملكه دون الآخر.

ففي هذه الصورة يحكم بضمان المنافع ، وحرمة التصرف فيها لاستصحاب بقاء اصل الشجرة على ملك الغير وعدم انتقالها إليه.

ويترتب عليه ، كونه مالكا لمنافعها ، فلا بد من ترتيب آثار ذلك.

ولا يعارضه استصحاب بقاء الأخرى على ملك مالكها لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا.

وأخرى : لا يكونان مسبوقين بذلك ، كما لو حاز شخصان للشجرتين اللتين هما من المباحات الأصلية ، فغصب أحدهما مال الآخر واشتبهتا فحصل لاحدهما نماء.

فالظاهر انه لا يحكم في هذه الصورة بالضمان ، فإن استصحاب عدم دخول الشجرة ونمائها في ملكه لا يجدي لاثبات ما لم يحرز كونها مملوكة للغير ، لان موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير غير المحرز في المقام فيرجع إلى أصالة البراءة ويحكم بعدم الضمان.

واما جواز التصرف وعدمه ، فيبتنيان على انه ، هل الأصل في الأموال هو الاحتياط؟ وان لم يكن هناك اصل موضوعي ، مثبت لعدم الجواز ، أو البراءة وحيث ان المختار هو الثاني كما حقق في محله. فالأظهر جواز التصرف أيضاً.

ومن صغريات هذه الكبرى الكلية ملاقي بعض أطراف الشبهة في العلم الإجمالي وستعرف ما هو الحق فيه.

بيان وجه نجاسة الملاقي

الأمر الرابع : بعد أن ذكرنا أنه لا شبهة ولا كلام في نجاسة ملاقي النجس ، نشير إلى أنه وقع الكلام في وجه نجاسته ، والمحتملات ثلاثة.

الاحتمال الأول : ان تكون نجاسته لأجل السراية الحقيقية ، بمعنى الانبساط ، بأن تكون الملاقاة سببا لاتساع دائرة نجاسة الملاقَى ، كاتساعها في صورة اتصال الماء النجس بغيره ، وامتزاجه به ، فيكون حال الملاقاة ، حال الاتصال والامتزاج.

الاحتمال الثاني : ان تكون نجاسته بالسراية بمعنى الاكتساب بأن تكون نجاسة الملاقِي ناشئة ومسببة عن نجاسة الملاقَى ، وفي طولها.

الاحتمال الثالث : ان تكون نجاسته لمحض التعبد الشرعي ، ويكون نجاسة الملاقِي فردا من النجاسة ، في قبال نجاسة الملاقَى وفي عرضها ، ويكون كل منهما موضوعا مستقلا ، نظير نجاسة الكلب ، والخمر ، غاية الأمر كان هذا الحكم في ظرف ملاقاته للنجس.

وقد استدل للأول بوجوه :

الوجه الأول : ما عن الغنية (١) ، وهو قوله تعالى" والرجز فاهجر (٢) "

__________________

(١) استدل ابن زهرة الحلبي على النجاسة بالآية الكريمة في غنية النزوع ص ٤٢.

(٢) الآية ٥ من سورة المدثر.

بدعوى ان هجر الشيء لا يتحقق إلا مع الاجتناب عن الملاقي.

وفيه : انه لا يدل الكريمة على نجاسة الملاقى ، فضلا عن كونها بالنحو الأول.

الوجه الثاني : ان اهل العرف يفهمون من حكم الشارع بالنجاسة ذلك ، وهو كما ترى وستعرف ما فيه.

الوجه الثالث : خبر جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ : أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ وَقَعَتْ فَأْرَةٌ فِي خَابِيَةٍ فِيهَا سَمْنٌ أَوْ زَيْتٌ فَمَا تَرَى فِي أَكْلِهِ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ع لَا تَأْكُلْهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ الفأرة أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أَتْرُكَ طَعَامِي مِنْ أَجْلِهَا قَالَ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ع إِنَّكَ لَمْ تَسْتَخِفَّ بِالفأرة وَإِنَّمَا اسْتَخْفَفْتَ بِدِينِكَ إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (١).

بتقريب انه (ع) جعل عدم الاجتناب عن الطعام الملاقِى للفأرة استخفافا بتحريم الميتة ، فلو لم يكن حرمة الملاقِى ووجوب الاجتناب عنه من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقَى ، لما صح جعله استخفافا بالميتة.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (٢) بأن الظاهر من الحرمة فيه النجاسة : لان مجرد التحريم لا يدل على النجاسة فضلا عن تنجس الملاقى ، فالملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه لا حرمة الشيء وحرمة ملاقيه.

وفيه : ان اساس الاستدلال إنما يكون مبتنيا على ملازمة الحرمة الملزومة

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٢٠٦ ح ٥٢٨.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٤١.

للنجاسة ، لحرمة ملاقيه. وتقريبه ـ ما عرفت من ـ ان وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس لو لم يكن من شئونه لما صح جعله استخفافا بحرمة الملاقَى من جهة نجاسته.

فهذا الذي أفاده لا يجدي في دفع الاستدلال.

فالحق في الجواب : مضافا إلى ضعف سنده لعمرو بن شمر الذي ضعفه علماء الرجال (١) ورموه بالوضع والكذب : انه يحتمل ان يكون وجه السؤال ، الجهل بنجاسة الفأرة لا تنجيسها فسأل عن نجاستها.

ولكن حيث انه كان نجاسة الملاقِي للنجس مغروسة في ذهنه سأل عن نجاسة الطعام الذي وقعت النجاسة فيه ، فأجابه (ع) بنجاسة الفأرة على طبق ما كان مغروسا في ذهنه ، فالرواية مسوقة لبيان نجاسة الفأرة لا ملاقيها.

أضف إلى ذلك : انه يحتمل ان يكون مورد السؤال تلاشى أجزاء الفأرة وامتزاجها بما في الخابية ، وعلى هذا أيضاً تكون الرواية اجنبية عن المقام. فإذاً لا دليل على السراية بالمعنى الأول ، ولا شاهد له من العرف والشرع.

بل الذي يساعده فهم العرف قياسا بالقذارات العرفية ، وهو الظاهر من النصوص الواردة في الموارد المتفرقة المتضمنة لقولهم عليهم‌السلام (لا تنجسه ، ونجسه) وما شابههما. والمستفاد من كلمات علمائنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم هو السراية بالمعنى الثاني.

__________________

(١) رجال النجاشي ص ١٢٩ / وفي نقد الرجال ج ٣ ص ٣٣٦.

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم ان الأقوال في المسألة اربعة :

القول الاول : عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى مطلقا.

القول الثاني : لزومه كذلك.

القول الثالث : انه في بعض الموارد يجب الاجتناب عن الملاقِي والملاقَى ، وفي بعض الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقَى ولا ثالث. وهذا اختاره السيد الأستاذ (١).

القول الرابع : انه في بعض الموارد يجب الاجتناب عنهما ، وفي بعض الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقَى ، وفي بعض الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقِي ، ولا يجب الاجتناب عن الملاقَى. وهذا قد اختاره المحقق الخراساني (٢) ، وتنقيح القول في المقام ، بالبحث في صور :

حصول الملاقاة بعد العلم بالنجاسة

الصورة الأولى : ما إذا علم اجمالا بنجاسة احد الشيئين ثم حصلت الملاقاة.

__________________

(١) آية الله السيد الخوئي وسيأتي في مناقشة رأيه.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٢.

فيها قولان : عدم وجوب الاجتناب ، ووجوبه.

القول الاول : ما ذهب إليه اكثر المحققين (١) ، قالوا انه لا يجب الاجتناب عن الملاقِي ، في هذه الصورة ، والوجه فيه انه مشكوك الطهارة والنجاسة وليس طرفا للعلم الإجمالي فيجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

القول الثاني : ما اختاره جماعة وهو الوجوب. وقد استدل له بوجهين :

أحدهما : ان نجاسة الملاقِي عين الملاقَى.

غاية الأمر انها توسعت بالملاقاة ، وثبتت لامرين بعد ما كانت ثابتة لامر واحد. فهو نظير ما لو قسم ما في احد الإنائين قسمين ، فيجب الاجتناب عن الملاقِى ، تحصيلا للقطع بالاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال.

ويرد عليه : ما حققناه في المقدمة الثالثة من ان نجاسة الملاقي ليست بسراية النجاسة سراية حقيقية ، بل هي حكم آخر مستقل مترتب على الملاقاة.

ثانيها : انه بالملاقاة يحدث علم اجمالي آخر بنجاسة الملاقي ، أو الطرف الآخر ومقتضاه الاجتناب عن الملاقي أيضاً.

واجيب : عن ذلك بأن العلم الإجمالي الثاني لا يكون منجزا فإن احد طرفيه لا يجري فيه الأصل لمنجز آخر ، وهو العلم الإجمالي الأول ، فيجري في هذا الطرف بلا معارض.

ولكن الحق هو التفصيل في المقام ، وهو يبتنى على بيان مقدمة ـ وهي مع

__________________

(١) نسب الأستاذ الخوئي ذلك إلى المشهور في الهداية في الأصول ج ٣ ص ٤١٧.

اهميتها وترتب فروع عليها لم تنقح في كلماتهم ـ وحاصلها.

لو اختص بعض الأطراف بأصل طولي

انه إذا اختص بعض الأطراف باصل طولى ، فهل يكون هو أيضاً ساقطا ، أم لا؟ أم هناك تفصيل وجوه وأقوال :

وتنقيح القول في المقام : انه ان كان الأصل في ما يجري فيه اصل واحد مسانخا مع الأصل الحاكم في ذلك الطرف ، كما لو علم بوقوع النجاسة في الماء أو على الثوب ، إذ الأصل الحاكم في الماء هو أصالة الطهارة ، وهي مسانخة مع أصالة الطهارة في الثوب وفي الماء يجري اصل طولي غير مسانخ لهما وهو أصالة الحل فإنه يشك في الحلية والحرمة من جهة النجاسة.

وفي هذه الصورة لاوجه لسقوط الأصل الطولي ، فإن الأحكام الشرعية مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، فقاعدة الطهارة على سعة دائرة مصاديقها مجعولة بجعل واحد ، وعليه : فحيث ان جعلها بنحو يشمل كلا طرفي العلم الإجمالي في امثال المثال ، غير ممكن ، وبنحو يشمل أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

فلا محالة لا تكون مجعولة في شيء من الطرفين ، فالشك في الحلية والحرمة شك واحد مورد لاصالة الحل بلا معارض.

وبتقريب آخر : ان دليل أصالة الطهارة نعلم بتخصيصه ، وعدم شموله للمقام ، واما دليل أصالة الحل فهو باطلاقه يشمل الطرف المعين ، فلا موجب

لرفع اليد عنه.

وقد التزم الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية التي هي نظائر للمقام بذلك.

منها : ما لو علم بطهارة شيء في زمان ونجاسته في زمان آخر ، وشك في المتقدم منهما ، والمتأخر فبعد تعارض الاستصحابين يرجعون إلى قاعدة الطهارة.

ومنها : ما إذا علم حلية شيء وحرمته في زمانين ، ولم يعلم المتقدم منهما فإنهم يرجعون إلى أصالة الحل بعد تساقط الاستصحابين ، وهكذا في سائر الموارد.

وان كان الأصل الجاري في احد الطرفين مسانخا مع الأصل المحكوم في الطرف الآخر ـ كما لو علم بغصبية احد الماءين ، أو نجاسة الآخر ، فإن أصالة الحل فيما يحتمل غصبيته مسانخة مع أصالة الحل في الآخر التي هي محكومة لاصالة الطهارة ـ أو كان غير مسانخ لشيء منهما.

ففي هاتين الصورتين فإن العلم الإجمالي يوجب تنجز الواقع على كل تقدير وسقوط جميع الأصول حتى الطولية.

وإنما لا يجري شيء من الأصول ، لان كل واحد منها طرف للعلم الإجمالي.

ولا يصح ان يقال : ان أصالة الطهارة فيما يحتمل نجاسته ، تعارض مع أصالة الحل في الطرف الآخر ، وتتساقطان ، فيرجع إلى أصالة الحل فيه.

فإن الترخيص فيه بأي لسان كان لا يصح لمخالفته للمعلوم بالإجمال.

هذا كله إذا كان الأصل الطولى موافقا في المؤدى مع الأصل الجاري في

المرتبة السابقة.

واما ان كان مخالفا له. فيرجع إليه بعد تساقط الأصول العرضية مطلقا ، فلو علم نقصان ركعة من المغرب ، أو عدم الإتيان بصلاة العصر ، تعارض قاعدة الفراغ في المغرب ، مع قاعدة الحيلولة في العصر ، فيرجع إلى استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوك فيها ، أو إلى قاعدة الشك في الركعات المقتضية للبطلان ، وبالنسبة إلى صلاة العصر ، يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوب القضاء بناءً على ان موضوعه الفوت لا مجرد عدم الإتيان.

وتمام الكلام في شقوق هذه المسألة موكول إلى محله.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : انه يتم ما افادوه في مقام الجواب إذا لم يكن في الطرف الآخر الذي لا ملاقي له اصل طولى غير ساقط ، وإلا فيقع التعارض بينه وبين الأصل الجاري في الملاقِى للعلم الإجمالي بنجاسته ، أو حرمة استعمال ذلك الطرف مثلا ، وهذا العلم يمنع عن جريان كلا الأصلين.

حصول العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة

الصورة الثانية : ما إذا حصل العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة ، وفي هذه الصورة اقوال :

الاول : ما عن المحقق الخراساني (١) وهو لزوم الاجتناب عن الملاقى أيضاً.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٣.

الثاني : ما اختاره المحقق النائيني (١) تبعا للشيخ الأعظم (٢) وهو عدم لزوم الاجتناب مطلقا.

الثالث : ما عن الأستاذ (٣) وهو التفصيل بين ما إذا كان زمان المعلوم مقارنا لزمان الملاقاة ، وبين ما إذا كان سابقا عليه فاختار لزوم الاجتناب عنه في الأول دون الثاني.

وقد استدل المحقق النائيني (ره) (٤) لما ذهب إليه ، بأن الأصل الجاري في الملاقي مقدم رتبة على الأصل الجاري فيما لاقاه ، لان الشك في نجاسته ناش عن الشك في نجاسته. وفي المرتبة المتقدمة ، يعارض الأصل الجاري في الملاقى مع الأصل الجاري في الطرف الآخر فيتساقطان. وفي المرتبة اللاحقة ، يجري الأصل في الملاقِى بلا معارض.

وفيه اولا : ان هذه الأحكام ليست احكاما للرتبة ، وإنما هي أحكام للزمان ، وحيث ان الأصل في الملاقي والملاقَى متحدان زمانا ، فكلاهما طرف للمعارضة.

وثانيا : ان الأصل في الملاقِي وان كان متاخرا رتبة عن الأصل الجاري في الملاقَى ، لكنه ليس متاخرا عن الأصل الجاري في الطرف الآخر ، بل هما في رتبة واحدة. ولاوجه لتوهم التاخر سوى ، توهم ان المتأخر عن شيء رتبة متاخر عما في رتبته ، وهو فاسد ، فإن وجود العلة متحد رتبة مع عدمها ووجود المعلول متأخر عن وجود العلة ، وهل يتوهم ان يكون وجود المعلول

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٦٠ وج ٣ ص ٤٤٦ (الطبعة الجديدة).

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٢٤٠.

(٣) مصباح الأصول ج ٢ ص ٤١٩.

(٤) نسب إليه ذلك تلميذه السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤١٤.

متاخرا عن عدم علته. وبالجملة : التاخر الرتبى يحتاج إلى ملاك وجهة وهو مفقود في المقام.

واستدل للثالث (١) : بأنه إذا كان زمان المعلوم متقدما كما لو لاقى الثوب احد الإنائين يوم الجمعة ، ثم علم يوم السبت ، بنجاسة احد الإنائين يوم الخميس ، فالشك في طهارة كل من الإنائين شك في انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، فلا يجري فيه الأصل ، واما الشك في نجاسة الثوب فهو شك في حدوث نجاسة أخرى ، ولا مانع من شمول دليل الأصل له بعد فرض تنجز النجاسة السابقة بالعلم المتأخر.

واما إذا كان زمان الملاقاة متحدا مع زمان المعلوم ، فالعلم الإجمالي كما تعلق بنجاسة احد الإنائين تعلق بنجاسة الثوب ، أو الاناء الآخر ، فيسقط الأصل في الثوب أيضاً.

وفيه : ان المدار وان كان على المنكشَف لا الكاشف ، لكن ذلك بالنسبة إلى الآثار المترتبة على المعلوم المنجزة بالعلم.

واما بالنسبة إلى آثار العلم كالتنجيز ، فالمدار على الكاشف لا المنكشف.

ففي المقام نقول : قبل العلم بالنجاسة اما لا شك في الطهارة في شيء من الملاقَى والملاقِي والطرف ، أو يجري الأصل في الجميع لعدم العلم بالنجاسة.

والتعارض إنما يكون في زمان حدوث العلم ، وفي ذلك الزمان كما يعارض الأصل الجاري في الملاقَى ، مع الأصل الجاري في الطرف الآخر ، كذلك

__________________

(١) أي للقول الثالث وهو التفصيل الذي اختاره السيد الخوئي ، صباح الأصول ج ٢ ص ٤١٩.

يعارض الأصل الجاري في الملاقِى معه ، فيتساقط الجميع ، فحكم الفرض الأول حكم الثاني.

فالمتحصّل ان الاقوى هو القول الأول (١).

حدث العلم الإجمالي مع كون الملاقي خارجا عن محل الابتلاء

الصورة الثالثة : قال المحقق الخراساني في الكفاية (٢) " واخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه فيما لو علم اجمالا نجاسته أو نجاسة شيء آخر ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقِى أو ذاك الشيء أيضاً ، فإن حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الإجمالي وانه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلاً لا اجمالا ، ولا تفصيلا.

وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإجمالي ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلا به بعده" انتهى.

فهو ذكر موردين لصورة وجوب الاجتناب عن الملاقِي دون الملاقَى.

اما في المورد الأول : فقد أورد عليه المحقق النائيني (٣) والاستاذ (٤) وغيرهما

__________________

(١) وهو ما قاله المحقق الخراساني من لزوم الاجتناب.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٣.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٧٥. وج ٣ ص

(٤) مصباح الأصول ج ٢ ص ٣٨٥.

بأن تنجيز العلم الإجمالي بقاء يدور مدار بقاء العلم ، فلو تبدل وانعدم لا معنى لبقاء التنجيز ، وعليه : فالعلم الإجمالي الحادث ثانيا يوجب انحلال العلم الأول ، فإن الشك في نجاسة الملاقى قبل العلم الثاني كان شكا في انطباق المعلوم بالإجمال عليه فلا يجري فيه الأصل ، إلا انه بعد فرض العلم الثاني ، يكون الشك في حدوث نجاسة أخرى غير ما هو معلوم بالإجمال ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه.

ويتوجه عليهم أنه قد عرفت ان العبرة في أثر العلم ، وهو التنجيز بالكاشف لا المنكشف ، فالعلم الأول ترتب عليه التنجيز وسقط الأصل في طرفيه ، والعلم الثاني ، لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقَى ، لفرض سقوط الأصل في الطرف الآخر لمنجز آخر ، فيجري فيه الأصل بلا معارض ، وكون المعلوم الثاني مقدما غير مربوط بما هو مورد الأثر.

فما أفاده المحقق الخراساني في هذا المورد تام لا ايراد عليه.

ولكن ما أفاده في المورد الثاني لا يتم ، لان الأصل إنما لا يجري فيما هو خارج عن محل الابتلاء إذا لم يترتب عليه أثر ، واما مع ترتبه ، كما في المقام فإن نجاسة ما لاقاه من آثار نجاسته ، فيجري.

مثلا : إذا غسل شيئا نجسا بماء حين الغفلة عن نجاسته وطهارته ، ثم انعدم الماء فشك في نجاسته وطهارته ، فهل يتوهم احد انه لا يجري أصالة الطهارة في الماء ويرجع إلى استصحاب النجاسة؟ وبالجملة : لا ريب في جريان الأصل فيه مع ترتب الأثر عليه.

وفي المقام بما انه يترتب عليه عدم نجاسة ملاقيه فيجري فيه الأصل

ويعارض مع الطرف الآخر ، فهل يجري الأصل في الملاقِي ، أم لا؟ وجهان تقدما في الصورتين السابقتين ، ومنه تعرف انه لا يجري فيه الأصل ، ففي هذا المورد أيضاً يجب الاجتناب عن الملاقِي والملاقَى.

دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

المقام الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وقبل الدخول في البحث واستقصاء الكلام فيه لا بد من تقديم أمور.

الأمر الأول : انه قد ظهر من ابحاثنا السابقة ان الشك ، ان كان في التكليف والجعل الشرعي فهو مورد لاصالة البراءة ، وان كان في انطباق المجعول بعد العلم بالجعل ، وفي الامتثال فهو مورد لقاعدة الاشتغال. وبعبارة أخرى : ان الشك في التكليف مورد للبراءة ، والشك في المكلف به مورد لقاعدة الاشتغال.

والكلام في هذا المقام بعد الفراغ عن هاتين الكبريين يقع في الأقل والأكثر الارتباطيين بالنسبة إلى الشك في وجوب الأكثر من حيث الصغرى وانه ، هل يكون من قبيل الشك في التكليف : نظرا إلى العلم بتعلق التكليف بالاقل والشك في تعلقه بالزائد عليه؟ أو انه من قبيل الشك في المكلف به؟ نظرا إلى وحدة التكليف المعلوم بالإجمال ، وتردده بين ان يكون متعلقا بالاقل أو الأكثر ، فيكون الشك في الانطباق وفي المكلف به.

الأمر الثاني : ان الأقل والأكثر اما استقلاليان ، أو ارتباطيان ، والفرق بينهما إنما هو من جهة انه ، تارة يكون غرض واحد مترتبا على الأقل على كل تقدير ،

وبتبعه يكون موردا لتكليف خاص. وعلى فرض وجوب الأكثر فإنما هو من جهة كون الأكثر ذا مصلحتين ، وبتبع ذلك يتعدد التكليف والمثوبة والعقوبة عند الموافقة والمخالفة ، ويتحقق الاطاعة بإتيان الأقل على كل تقدير ، وان لم يكن في ضمن الأكثر ، وهذا هو الأقل والأكثر الاستقلاليان.

وتارة أخرى يكون الغرض المترتب على الأكثر على فرض وجوبه واحدا وبتبعه يكون التكليف أيضاً واحدا ، فامر المعلوم مردد بين كونه متعلقا بالاقل أو الأكثر ، وهذا هو الأقل والأكثر الارتباطيان ، ومحل الكلام هو الثاني.

واما في الأول فلا إشكال في جريان البراءة عن الأكثر لانحلال العلم الإجمالي فيه حقيقة على جميع المسالك.

الأمر الثالث : ان محل الكلام ما إذا كان الأقل على فرض كونه متعلقا للتكليف ماخوذا بنحو اللابشرط القسمي ، بالنسبة إلى الزائد الذي يكون الأكثر واجدا له ، فلا يضره الإتيان بالاكثر. واما إذا كان مأخوذا بنحو بشرط لا عن الزائد حتى يضره الإتيان بالاكثر ، كما في دوران الأمر بين القصر والتمام ، فهو خارج عن محل الكلام ، ويكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين لكون الأقل المعلوم وجوبه مرددا بين ان يكون هو الأقل بشرط شيء أو بشرط لا.

وبعبارة أخرى : محل الكلام في المقام إنما هو فيما إذا كان الإتيان بالاكثر مما يقتضيه الاحتياط ، ويوجب سقوط التكليف وامتثاله على كل تقدير ، وإذا كان الأقل مأخوذا بشرط لا ، لا يمكن الاحتياط بإتيان الأكثر ، ولا يحرز به الامتثال لاحتمال كون الزائد مبطلا.

ولذلك يكون مقتضى الاحتياط عند العلم الإجمالي بوجوب القصر أو

التمام ، هو الجمع بينهما ، لا الإتيان بالتمام فقط. إذا عرفت هذه الأمور فتحقيق القول في المقام يقتضي البحث في موضعين.

الموضع الأول : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجية كالشك في وجوب السورة في الصلاة.

الموضع الثاني : في دوران الأمر بينهما في الأجزاء التحليلية ، كدوران الأمر بين الإطلاق والتقييد ، أو دوران الأمر بين الجنس والنوع ، كما لو علم بوجوب اطعام الحيوان أو خصوص الإنسان.

اما الموضع الأول : فالاقوال فيه ثلاثة.

القول الاول : جريان البراءة العقلية والنقلية في الأكثر ، ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (١) وجماعة.

القول الثاني : عدم جريان البراءة العقلية والنقلية.

القول الثالث : التفصيل بين البراءة العقلية ، فلا تجري ، وبين البراءة النقلية فتجري ، اختاره ، المحقق الخراساني والمحقق النائيني (٢).

فالكلام في جهتين :

الأولى : في جريان البراءة العقلية وعدمه.

الثانية : في جريان البراءة النقلية وعدمه.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٦٤.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٨٦. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٨٩.

جريان البراءة العقلية في الأكثر

اما الجهة الأولى : فقد استدل له الشيخ الأعظم (ره) (١) بانحلال العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ، بالعلم بوجوب الأقل المردد بين النفسي والغيري ، إذ لو كان الأقل واجبا ، فوجوبه نفسي ، ولو كان الأكثر واجبا ، فوجوب الأقل غيري ، والشك في وجوب الأكثر فيجري فيه البراءة العقلية.

ويرد عليه ما حققناه في بحث وجوب المقدمة من استحالة اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري ، إذ ليس للمركب وجود غير وجود الأجزاء كي يتوقف عليه توقف وجود الشيء على وجود غيره ، والوجوب الغيري ناش عن توقف وجود على آخر ، وتمام الكلام في محله.

واما الإيراد عليه ـ بعد تسليم كون وجوب الأقل معلوما اما نفسيا أو غيريا ، بأنه لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ، لأنه يعتبر في الانحلال كون المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم بالإجمال ، والمقام ليس كذلك ، لان المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي ، والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب الجامع بين النفسي والغيري. ـ

فيمكن دفعه لان ذلك وان لم يكن انحلالا حقيقيا ، ولكنه إنما يكون في حكم الانحلال ، فإن الميزان هو جريان الأصل في احد الطرفين دون الآخر ، وفي المقام مع قطع النظر عن ما ذكرناه بما ان الأقل وجوبه معلوم ، لا يجري فيه

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٦٤.

الأصل ، فيجري في الأكثر بلا معارض.

والصحيح في تقريب الانحلال ما أفاده جماعة ، ويمكن استفادته من كلمات الشيخ الاعظم (قدِّس سره) (١) وهو ان تعلق الوجوب النفسي الجامع بين الاستقلالي والضمني بالاقل معلوم ، اما لكونه هو الواجب ، أو لكونه جزء الواجب ، والزائد عليه مشكوك الوجوب ، فيجري فيه قبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة أخرى : ترك الواجب بترك الأجزاء المعلوم وجوبها ، يوجب العقاب ، واما تركه بترك الجزء المشكوك فيه ، فالعقاب عليه غير معلوم ، والقاعدة مقتضية لقبحه.

وأورد عليه بإيرادات :

الايراد الأول : ما عن المحقق الخراساني (٢) من استلزام الانحلال عدمه ، وهو محال ، فإن وجوب الأقل فعلا على كل تقدير متوقف على تنجز التكليف مطلقا. ولو كان متعلقا بالاكثر ، فلو كان وجوبه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالاقل كان خلفا.

مع انه يلزم من وجوده عدمه : لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم ، لعدم لزوم الأقل مطلقا ، المستلزم لعدم الانحلال.

وفيه : ان فعلية وجوب الأقل على كل تقدير لا تتوقف على تنجزه حتى على فرض تعلقه بالاكثر ، بل تتوقف على فعليته على ذلك التقدير.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٣٨٩.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٤.

واما تنجز وجوبه فهو متوقف على العلم به ، لا على تنجز التكليف حتى على تقدير تعلقه بالاكثر.

وان شئت قلت : ان التنجز عبارة عن استحقاق العقاب على ترك المأمور به ، والمأمور به بما انه مركب من وجودات متعددة ، فلا محالة يكون تركه ، تارة بترك جميع الأجزاء ، واخرى بترك بعضها. وعليه فتركه بترك الجميع ، أو بترك الأجزاء المعلومة موجب لاستحقاق العقاب ، واما تركه بترك الجزء المشكوك فيه ، فلا علم بأنه موجب للعقاب.

فمقتضى قبح العقاب بلا بيان عدمه.

الايراد الثاني : ان التكليف المعلوم في المقام تكليف واحد على التقديرين لكونه ارتباطيا فتعلقه بكل جزء ملازم لتعلقه بالأجزاء الأخر ثبوتا وسقوطا ، ولا معنى لسقوطه بالاضافة إلى بعض الأجزاء ، دون بعض ، فاحتمال تعلقه بالاكثر مستلزم لاحتمال عدم سقوطه بإتيان الأقل ، والشك في السقوط مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة.

وفيه : ان الواجب بحكم العقل الإتيان بما ثبت تعلق التكليف به.

وعليه : فإن كان ترك الواجب مستندا إلى ترك الأجزاء المعلومة كان المقصر هو العبد ، وان كان مستندا إلى ما لم يبينه الشارع ، شمله قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الايراد الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٨٧. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٩١.

وحاصله : ان معنى الانحلال تبدل القضية المنفصلة المانعة الخلو إلى قضية متيقنة ، وقضية مشكوك فيها ، وهذا مفقود في المقام ، فإن وجوب الأقل لا يكون معلوما إلا بنحو الاهمال الجامع بين كونه بشرط شيء بالاضافة إلى الجزء المشكوك فيه أو لا بشرط ، وهو مقوم للعلم الإجمالي ، ولا يعقل ان يكون موجبا لانحلاله ، وإلا لزم انحلال العلم بنفسه وهو محال ، ثم انه (ره) أيد ذلك بالوجه الثاني (١) المتقدم.

وفيه : ان ما أفاده من عدم انحلال الحقيقي متين. ولكن ذلك لا يمنع من الانحلال الحكمي ، وهو جريان الأصل في احد الطرفين دون الآخر. وفي المقام وان كان كل من خصوصيتي وجوب الأقل ، أي الإطلاق ، والتقييد مشكوكا فيها ، ولكن لا يجري الأصل في الإطلاق ، لعدم الأثر فإنه يجب الإتيان به كان واجبا مطلقا أو مقيدا ، فيجري الأصل في خصوصية التقييد بلا معارض ، ولا نعنى بالانحلال إلا ذلك.

وبعبارة أخرى : ان القضية المهملة في المقام ليست كالقضية المهملة في المتباينين التي لا يترتب عليها الأثر إلا في ضمن احدى الخصوصيتين : فإنه يعلم بترتب العقاب على ترك الأقل ، فلا معارض للأصل الجاري في الخصوصية الزائدة التي يترتب عليها الأثر ، فيجري.

واما ما ذكره من التأييد ، فيرد عليه : ان الشك في سقوط التكليف ليس مطلقا موردا لقاعدة الاشتغال ، بل إنما يكون موردا لها إذا لم يكن منشأ الشك في التكليف كما في المقام.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٨٨. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٤٩٢.

الايراد الرابع : ما أفاده صاحب الحاشية (ره) (١) ، وهو ان العلم الإجمالي بالجامع ملازم للعلم الإجمالي بإحدى الخصوصيتين ، أي خصوصية اللابشرطية ، وخصوصية بشرط شيء ، بالاضافة إلى الجزء المشكوك فيه ، والعلم الإجمالي الأول وان انحل ، إلا ان الثاني باق فيجب الاحتياط. وهذا نظير العلم بوجوب الظهر أو الجمعة ، فإن العلم بوجوب الجامع بينهما وان كان ينحل ، إلا ان العلم بإحدى الخصوصيتين لا ينحل.

وفيه : ان معنى اللابشرطية هو رفض القيود ، ولا يكون هو بنفسه من القيود ، والخصوصيات اللازم تحصيلها ، والإتيان بها ، وهذا بخلاف المثال ، فإن كلا من الخصوصيتين لازم الإتيان على فرض كونها متعلقة للتكليف.

الايراد الخامس : انه بناءً على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، نعلم ثبوت مصلحة ملزمة في الأقل ، أو الأكثر ، وحيث انه لازم الاستيفاء بحكم العقل ، وليست ذات أجزاء بل هو امر واحد مترتب على تمام المأمور به ، فلا بد من الاحتياط بإتيان الأكثر ، إذ لا يعلم بحصولها عند الاقتصار على الإتيان بالاقل.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (ره) (٢) بجوابين :

الجواب الأول : ان البحث عن جريان البراءة ليس مبتنيا على خصوص مسلك العدلية القائلين بالتبعية ، فلنفرض الكلام على مسلك الاشعري الذي

__________________

(١) الأصفهاني في حاشيته على المعالم المسماة هداية المسترشدين ص ٤٠٦.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٦١.

لا يقول بالتبعية.

والظاهر ان هذا الجواب سهو من قلمه الشريف فإن مسلكه (قدِّس سره) مسلك العدلية.

الجواب الثاني : ان الغرض لا يمكن تحصيل القطع بحصوله على التقديرين ، اما على تقدير الاقتصار على الأقل فواضح ، واما على تقدير الإتيان بالاكثر فلأنه ، اما ان يأتي به بقصد الأمر الجزمي ، أو يأتي به بقصد الأمر الاحتمالي ، اما الأول : فتشريع محرم ، لا يحتمل معه حصول الغرض ، واما الثاني : فلاحتمال اعتبار قصد الوجه في حصوله. وعليه فلا يجب تحصيل القطع بحصول الغرض. فلا يبقي الا رعاية الأمر وقد مر الانحلال فيه.

وفيه اولا : ان لازم ذلك لزوم الاحتياط في التوصليات ، دون التعبديات ، لامكان تحصيل القطع بحصول الغرض فيها ، بإتيان الأكثر.

وثانيا : ان قصد الوجه لا يكون معتبرا ، وعلى فرض الاعتبار إنما يكون في الواجب النفسي الاستقلالي ، ولا يعتبر قصد وجه الجزء أيضاً ، كما مرَّ في أوائل هذا الجزء. (١)

واما ما في الكفاية (٢) من ان لازم احتمال عدم حصول الغرض ، لاحتمال دخل قصد الوجه ، احتمال بقاء الأمر وعدم سقوطه بإتيان الأقل لكونه معلولا له ، وعليه فلا علم بسقوط الأمر بإتيان الأقل ، حتى يوجب انحلال العلم.

__________________

(١) راجع الجزء الرابع من هذه الطبعة (جواز الامتثال الإجمالي) ص ١١٣ ـ ١١٥.

(٢) كفاية الأصول ص ٢٧٤.

فيرد عليه : ان الشيخ الأعظم يدعي ان تحصيل الغرض لعدم التمكن من احرازه لا يجب فاللازم هو مراعة الأمر خاصة ، وهي تقتضي الإتيان بالاقل على كل تقدير ، وهو يوجب الانحلال.

وان شئت قلت ان ترك تحصيل الغرض بترك الأقل معاقب عليه قطعا وبترك الزائد مشكوك فيه فيقبح العقاب عليه.

وأجاب المحقق النائيني (ره) (١) عن اصل الإشكال بأنه قد يكون الغرض الداعي إلى الأمر بشيء مترتبا على المأمور به ترتب المعلول على علته التامة كترتب القتل على فرى الاوداج ، وقد يكون كترتب المعلول على علته المعدة بحيث يتوسط بينهما امر غير اختياري كترتب حصول الثمرة على الزرع.

وفي الأول بما ان الغرض اختياري ، وهو المطلوب بالاصالة ، لا بد من تحصيله من غير فرق بين ان يتعلق الأمر ، بالسبب ، أو المسبب. وفي الثاني لا يجب تحصيله ، ولا يصح تعلق التكليف به ، هذا بحسب مقام الثبوت.

واما في مقام الاثبات فإن أحرز احد الامرين فهو ، وإلا فمن تعلق الأمر بالسبب دون المسبب ، يستكشف انه من قبيل الثاني ، إذ لو كان من قبيل الأول كان المتعين هو الأمر بالمسبب. ويترتب على ذلك ان نسبة المصالح إلى الواجبات الشرعية نسبة المعاليل إلى علله المعدة ، وحينئذٍ فالواجب على المكلف الإتيان بالمأمور به ، ولا يكون مكلفا بتحصيل الغرض ، فلو تردد الأمر بين الأقل والأكثر لم يكن مانع من الرجوع إلى البراءة في الأكثر.

__________________

(١) نسب إليه ذلك السيد الخوئي في الهداية في الأصول ج ٣ ص ٤٤٣.

وفيه : ما مر في مبحث الصحيح والأعم ، ان الغرض المترتب على المأمور به غرضان ، الغرض الاقصى ، والغرض الاعدادي ، والذي يتخلف عن المأمور به هو الأول دون الثاني ، وترتب الثاني على المأمور به إنما يكون من قبيل ترتب المعلول على علته التامة ، فلا بد من تحصيله ، وإنما لم يأمر به الشارع من جهة ان المكلفين لا يفهمونه ، ولا يدرون ما يحصله.

وبالجملة : ان المعد لذلك الغرض الاقصى الخارج عن تحت اختيار المكلف ، هو الحصة الخاصة من الفعل ، وهي التي تكون معدة ، وهذا الغرض الاعدادي سبب للأمر بالفعل ، وهو داخل تحت الاختيار ، فلا بد من تحصيله ، فراجع ما حققناه. فإذا تردد المأمور به بين الأقل والأكثر فلا محالة يشك في ان الأقل هل يكون موجبا لحصول الغرض أم لا؟ فيجب الإتيان بالاكثر تحصيلا للقطع بحصوله.

والصحيح في الجواب عن اصل الإشكال ان الغرض والمسبب المترتب على الفعل ، تارة يكون بنفسه متعلقا للحكم كما إذا امر المولى بقتل شخص او امر بتمليكه ، ففي مثل ذلك لا بد للمكلف من احراز حصوله بإتيان ما يكون محصلا قطعا ، واخرى يكون متعلق التكليف هو الفعل المحصل والسبب ، وهو على قسمين

القسم الاول : ما يكون المكلف به هو المسبب والغرض بحسب المتفاهم العرفي ، ويكون التكليف به عرفا تكليفا بالغرض والمسبب ، كما لو امر المولى بضرب عنق زيد فإنه يفهم العرف ان المكلف به هو القتل. وفي مثل ذلك أيضاً لا بد للمكلف من احراز حصوله بإتيان ما يحصله يقينا ، فلو شك في حصول القتل بضرب عنقه مرة واحدة لا بد من تحصيل العلم بتحقق القتل.

القسم الثاني : ما يكون المكلف به عند العرف هو السبب والمحصل دون الغرض والمسبب. بل هما مما يغفل عنه العامة ولا يلتفت إليه إلا الاوحدي من الناس ، كما في العبادات ، أو وان كان مما يلتفت إليه كما في الطهارة الحدثية على القول بأنها امر معنوى متحصل من الأفعال الخاصة ، ولكن المحصل لها بيانه وظيفة المولى ولا يفهمه العرف ، ففي مثل ذلك لا بد للمكلف من الإتيان بما امر به.

واما كون المأتي به وافيا بغرض المولى فهو من وظائف المولى.

وبعبارة أخرى : ان العقل يحكم بوجوب الإتيان بما بينه المولى. وعلى فرض عدم تمامية البيان من قبل المولى ، لا يكون تفويت الغرض مستندا إلى العبد ، فلا يكون مستحقا للعقاب ، فحينئذ بالمقدار الواصل من المحصل وهو الأقل حيث انه وصل ، وبتركه يفوت الغرض قطعا ليس للعبد تركه. واما المقدار الذي لم يصل وهو الأكثر ، فالعقل لا يلزم العبد بتحصيله ، ولا يحكم بحرمة تفويته إذ التفويت المستند إلى عدم بيان المولى يقبح العقل العقاب عليه.

وبعبارة أخرى : ان الغرض كالامر والتكليف ، فكما ان التكليف الذي قام عليه البيان لا بد من اطاعته ، وما لم يقم عليه بيان من المولى مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وفي ما نحن فيه حيث ان التكليف بالقياس إلى الأقل واصل فلا بد للمكلف من اطاعته ويصح العقاب على مخالفته ، وبالنسبة إلى الأكثر لم يصل فيقبح العقاب عليه. كذلك بالقياس إلى الغرض ، فإنه على تقدير ترتبه على الأقل كان الحجة عليه تامة وبتركه يفوت الغرض قطعا فيصح العقاب عليه.

وعلى تقدير ترتبه على الأكثر لم يقم عليه بيان من المولى ، فلا يلزم العقل بالإتيان به ، وكان العقاب على تفويته بترك الأكثر عقابا بلا بيان لكونه مستندا إلى عدم بيان المولى لا إلى تقصير العبد ، وتحصيل الغرض الذي لم يبينه المولى غير واجب ، والعقل يرى العقاب على تفويت هذا الغرض عقابا بلا بيان.

وبالجملة الغرض لا يزيد على الأمر فإذا لم يصل محصله إلى العبد ، ولم يجعل الشارع وجوب الاحتياط عند احتماله يستكشف من ذلك ان هذا الغرض ليس بحد من اللزوم يجب تحصيله على كل حال ، بل لو وصل يجب تحصيله ، وما دام لم يصل يكون العبد في فسحة منه وتفويته غير موجب للعقاب ، وحيث ان وجوب الأكثر لم يصل ففوت الغرض ان كان مستندا إلى تركه لا يكون موجبا للعقاب.

هذا كله بناءً على تبعية الأحكام للمصالح في المتعلقات ، واما بناءً على تبعيتها لمصالح في الجعل وفي انفسها كما هو الشأن في الأحكام الوضعية ، حيث مال إليه المحقق الخراساني (ره) (١) فالإشكال مندفع من اصله.

فالمتحصّل : انه لا مانع من جريان البراءة العقلية في الأكثر ، أي الزائد عن الأقل.

__________________

(١) أشار إليه في كفاية الأصول ص ١٥٧.

جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر

واما الجهة الثانية : وهي جريان البراءة الشرعية وعدمه.

فبناء على ما اخترناه من جريان البراءة العقلية ، فلا ريب في جريان البراءة الشرعية ، لان تعلق التكليف بالجزء المشكوك فيه غير معلوم ، فيرفعه حديث الرفع (١) وغيره من أدلة البراءة. ولا يعارضه ان تعلق التكليف بخصوص الأقل غير معلوم فهو مرفوع ، لان تعلقه بالاقل ، اما استقلالا أو ضمنا معلوم ، والشك إنما هو في تعلقه بالاكثر.

والإيراد على شمول دليلها للجزء المشكوك فيه : تارة : بأن الجزئية ليست بمجعولة ولا لها أثر مجعول فلا تشملها أدلة البراءة. واخرى : بأن ارتفاعها إنما يكون برفع منشإ انتزاعها وهو الأمر بالمركب ، ولا دليل آخر على الأمر بالخالي عنه ، تقدم الجواب عنهما في حديث الرفع.

واما بناءً على عدم جريان البراءة العقلية فهل تجري البراءة الشرعية أم لا؟

وجهان : ذهب المحقق الخراساني (ره) (٢) والمحقق النائيني (ره) (٣) إلى الأول.

ولكن بما ان المانع المهم عن جريانها احد الامرين ، لزوم تحصل الغرض ،

__________________

(١) إشارة إلى حديث (رفع عن أمتي تسع .. الخ. وسائل الشيعة ج ١٥. ص ٣٦٩ ح ٢٠٤٦٩.

(٢) كفاية الأصول ص ١٤٢.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٥١.

ما افاده المحقق النائيني (ره) (١) من انه يلزم منه انحلال العلم الإجمالي بنفسه ، فلو تم هذان الوجهان أو أحدهما لزم عدم جريان البراءة الشرعية أيضاً.

ولم يفد ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (٢) من ان عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته ، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عما تردد امره بين الأقل والأكثر ويعينه في الأول.

ولاما أفاده المحقق النائيني (ره) (٣) من ان مفاد حديث الرفع ونحوه عدم التقييد في مرحلة الظاهر فيثبت الإطلاق ظاهرا ، لان الإطلاق والتقييد ليسا من قبيل المتضادين كي يكون اثبات احد الضدين برفع الآخر من الأصل المثبت ، بل بما ان التقابل بينهما من قبيل تقابل العدم والملكة ، فالاطلاق عدم التقييد في مورد كان صالحا للتقييد.

فحديث الرفع بمدلوله المطابقي يدل على إطلاق الأمر بالاقل وعدم قيدية الزائد ، وبذلك يتحقق الامتثال القطعي للتكليف المعلوم بالإجمال.

اما الوجه الأول : فلان غاية ما يرفع بحديث الرفع ونحوه ، إنما هو جزئية ما شك في جزئيته ظاهرا. واما ان الغرض مترتب على الأقل فلا يثبت بذلك لان كون الغرض مترتبا على الأقل لازم عقلي لرفع الجزئية واقعا. وحيث ان الأصول لا تكون حجة في مثبتاتها ، فلا يثبت بحديث الرفع ونحوه ترتب الغرض على الأقل ، فإذا لم يثبت ذلك ، ومقتضى العلم الإجمالي لزوم تحصيله والقطع

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٨٨. وج ٣ ص ٤٩٢.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٦. ومثله صاحب الأصول المهذبة في صفحة ١٠٢.

(٣) نسبه إليه تلميذه السيد الخوئي (قدِّس سره) في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٣٩.

به بإتيان الأكثر فلا يفيد جريان البراءة الشرعية شيئا.

وعلى الجملة حديث الرفع ونحوه لا يوجب عدم جواز اتيان الأكثر ، وإنما يدل على عدم وجوبه ، ومقتضى العلم الإجمالي بالغرض الملزم لزوم الإتيان بالاكثر فلا تنافي بينهما لان ما لا اقتضاء فيه لا يعارض ما له الاقتضاء.

وبعبارة أخرى : حيث انه لا يثبت بحديث الرفع ونحوه من أدلة البراءة ترتب الغرض على الأقل ، وإنما تدل على رفع جزئية المشكوك فيه ظاهرا وانه من ناحية التكليف لا عقاب على ترك الأكثر.

واما من ناحية الغرض فلا تعرض لها ، ومقتضى لزوم تحصيل الغرض والقطع به على كل حال لزوم الإتيان بالاكثر ، فبناء على عدم جريان البراءة العقلية لأجل لزوم تحصيل الغرض ، لا تجري البراءة الشرعية أيضاً ، فالتفكيك في غير محله.

واما الوجه الثاني : فلأن جريان البراءة عن تقييد الأقل بانضمام الجزء المشكوك فيه لا يثبت تعلق التكليف بالاقل على نحو الإطلاق ، فلا ينحل العلم الإجمالي بذلك. ومع بقاء العلم الإجمالي ، لا بد من القطع بامتثاله بإتيان الأكثر ، وكون التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل تقابل العدم والملكة ، لا يغني شيئا في المقام ، لان ذلك إنما هو في مقام الاثبات. واما في مقام الثبوت فالتقابل بينهما من قبيل تقابل التضاد ، لان الإطلاق بحسب مقام الثبوت عبارة عن لحاظ الطبيعة بنحو السريان واللابشرط القسمي ، والتقييد عبارة عن لحاظها بشرط شيء.

وعلى هذا فلا يمكن اثبات الإطلاق بنفي التقييد ومعه لا ينحل العلم

الإجمالي ، وهو يقتضي لزوم الاحتياط فلا تجري البراءة النقلية كالبراءة العقلية.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان التفكيك بين البراءة العقلية والنقلية ، وجريان الثانية دون الأولى كما اختاره العلمان (١) في غير محله.

كما ظهر مما ذكرناه من انحلال العلم الإجمالي حكما ، وعدم لزوم تحصيل الغرض إلا بإتيان ما بينه الشارع محصلا ، انه تجري البراءة العقلية والنقلية.

حول التمسك بالاستصحاب لكل من القولين

ثم انه ربما يتمسك بالاستصحاب في المقام لكل من القول ، بالبراءة ، والاشتغال.

اما الأول : فتقريبه ان جزئية المشكوك فيه ، وتعلق الأمر به لم تكن في أول الشريعة مجعولة قطعا ، والشك إنما هو في الجعل فيجري استصحاب عدم الجعل ، ويثبت به عدم المجعول.

وقد مر في مبحث البراءة ما يمكن ان يورد على هذا الأصل ، والجواب عنه.

والإيراد عليه ، كما عن الأستاذ (٢) بأنه بعد العلم بتعلق التكليف بالاقل ، اما مطلقا ، أو مقيدا بالجزء المشكوك فيه يقع التعارض بين استصحاب عدم التقييد ، واستصحاب عدم جعل التكليف بالاقل على نحو الإطلاق فيتساقطان.

__________________

(١) المحقق الخراساني والنائيني.

(٢) السيد الخوئي (قدِّس سره) في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٣٥.

يندفع بأن استصحاب عدم جعل التكليف على نحو الإطلاق لا أثر له ، لوجوب الإتيان بالاقل على كل تقدير.

وفي جريان استصحاب الحكم ، وعدمه يعتبر وجود أثر عملي وترتبه عليه ، فلا يجري ، فيجري أصالة عدم جعل التكليف بالمقيد بلا معارض.

واما الثاني : فتقريبه ان وجوب الواجب المردد بين الأقل والأكثر معلوم ، وامره بعد الإتيان يدور بين ما هو مقطوع الارتفاع : إذ على تقدير تعلقه بالاقل فقد ارتفع ، وعلى تقدير تعلقه بالاكثر ، فهو باق فيستصحب ويحكم ببقائه بناءً على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

وفيه : ان هذا الأصل وان كان في نفسه جاريا إلا ان في المقام أصلاً آخر حاكما عليه وهو أصالة عدم تعلق التكليف بالاكثر ، غير المعارض بأصالة عدم تعلقه بالاقل لأنه لا يجري : لعدم الأثر.

وللبحث في ان استصحاب الكلي في الأحكام ، محكوم للأصل الجاري في الفرد محل آخر وقد اشبعنا الكلام فيه في الجزء الرابع (١).

فالمتحصّل مما ذكرناه ان مقتضى ، البراءة العقلية ، والنقلية ، والاستصحاب عدم وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر.

__________________

(١) حسب الطبعة الاولى وفي هذا الجزء حسب الطبعة الحالية (الثانية) ، كما سيأتي

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليلية

واما الموضع الثاني : وهو دوران الأمر بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية فملخص القول فيها انها على أقسام ثلاثة :

القسم الأول : ان يكون ما يحتمل دخل التقييد به في المأمور به موجودا مستقلا منحازا عنه كالطهارة للصلاة.

القسم الثاني : ان لا يكون له وجود منحاز ، ولا يكون من مقوماته ، بل يكون نسبته إليه نسبة الصفة إلى الموصوف كالايمان بالنسبة إلى الرقبة.

القسم الثالث : ان يكون مقوما له ويكون نسبته إليه نسبة الفصل إلى الجنس ، كما إذا دار الأمر بين وجوب اطعام الحيوان ، أو خصوص الإنسان.

والشيخ الأعظم (١) عبر عن الجميع بالمركبات التحليلية ، والمحقق الخراساني في التعليقة (٢) ، عبر عن القسم الأول والثاني بالأجزاء الذهنية ، وعن الثالث بالجزء التحليلي ، وفي الكفاية (٣) تبع الشيخ.

والمحقق النائيني (٤) خص المركب التحليلي بالقسم الثالث.

ولا يهمنا البحث في ذلك ، إنما المهم هو البحث في جريان البراءة وعدمها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٣ ص ١٣٧.

(٢) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٧٨.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٦٧.

(٤) فوائد الأصول (تقريرات النائيني للكاظمي) ج ٤ ص ٢٠٧.

اما البراءة العقلية ففي الكفاية بعد اختياره عدم جريانها في شيء من الأقسام ، قال (١) : بداهة ان الأجزاء التحليلية لا تكاد تتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا ، فالصلاة مثلا في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها ، وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون مباينة للمأمور بها انتهى.

ويرد عليه ما عرفت من ان جريان البراءة لا يتوقف على الانحلال ، بل يتوقف على العلم بتعلق التكليف بالطبيعي ، والشك في تعلقه بالخصوصية الزائدة ، وعدم معارضة الأصل الجاري في المقيد ، والمشروط ، والخاص بالأصل الجاري في المطلق.

والمقام كذلك ، فإن تعلق التكليف في هذه الأقسام بالطبيعي معلوم ، وامره مردد بين تعلقه بالمطلق أو المقيد ، وحيث ان التقييد كلفة زائدة ، فيرتفع بالأصل ، ولا يجري الأصل في الإطلاق ، لأنه يقتضي التوسعة لا التضييق ، وليس فيه كلفة زائدة حتى ترتفع بالأصل.

وان شئت قلت : ان عدم الإتيان بالطبيعي الجامع موجب لاستحقاق العقاب قطعا لأنه يوجب ترك الواجب على كل تقدير ، واما لو أتى به من دون القيد فالعقاب عليه لا يكون عقابا مع البيان فيكون قبيحا.

وبعبارة أخرى : ترك الواجب على فرض لزوم المقيد مستند إلى عدم البيان لا إلى تقصير العبد كي يستحق العقاب.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٧.

مع ان الكلي الطبيعي موجود في الخارج ، ونسبته إلى الأفراد نسبة الاب الواحد إلى الابناء ، لا نسبة الآباء إلى الابناء.

وعليه فهو يتصف في الخارج بوصف الكثرة ، لا بوصف التباين إذ الطبيعي من حيث هو لا واحد ولا متعدد ، وإنما يكون مع الواحد واحدا ومع المتعدد متعددا.

مثلا : الإنسان الموجود في الخارج في ضمن زيد ليس مغايرا ومباينا لما هو الموجود في ضمن بكر ، بل الطبيعي متكثر في ضمنها لا متباين ، وعليه فيصح ان يقال ان تعلق التكليف بالطبيعي معلوم ، وبالخصوصية مشكوك فيها فتجري فيها البراءة.

أضف إلى ذلك كله ان متعلق التكاليف إنما هو الماهيات والعناوين دون المصاديق الخارجية كما مر تحقيقه ، والبراءة إنما تجري في متعلق التكليف لا فيما يحصل به الامتثال فلا يكون مجرى البراءة من قبيل المتباينين بل من قبيل الأقل والأكثر.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه لا مانع من جريان البراءة العقلية في شيء من الأقسام الثلاثة.

واما البراءة الشرعية فلم يستشكل احد في جريانها في القسمين الاولين ، وقد استشكل المحققان الخراساني والنائيني (ره) في جريانها في القسم الثالث وذهبا إلى انه لا تجري البراءة الشرعية فيه.

وقد استدل المحقق الخراساني (ره) (١) له : بأن خصوصية الخاص ليست كخصوصية الاقتران بالطهارة مثلا جعلية ، كي يمكن رفعها بأدلة البراءة وإنما تكون منتزعة عن نفس الخاص فيكون الدوران بينه وبين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين.

وفيه : ان المأمور به يمكن ان يكون هو الطبيعي بلا دخل للخصوصية فيه ، ويمكن ان يكون الخاص ، والخصوصية وان كانت منتزعة عن نفس الخاص غير قابلة للرفع والوضع ، إلا انها بالاعتبار المذكور يكون اعتبارها في المأمور به قابلا لهما ، وعليه فمقتضى حديث الرفع عدم دخلها فيه فيكتفى بإتيان الطبيعي.

وبعبارة أخرى : ان الشرطية في المقام وان لم تكن منتزعة عن الأمر بالخصوصية كما يتوهم ذلك في الشرط الذي يكون له وجود مغاير ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، وايضا لا تكون منتزعة من الوجود المختص به ، فإن الخصوصية والمشروط موجودان بوجود واحد ، إلا انه في مقام تعلق الأمر قبل الوجود يكون المتعلق ، وهو المفهوم والعنوان متعددا ، وتعلق الأمر باحدهما وهو ذات المشروط معلوم ، وتعلقه بالشرط ، وهو الخصوصية مشكوك فيه فيجري فيه البراءة.

أضف إلى ذلك انه لو تم هذا الإشكال لزم منه عدم جريان البراءة في الشك في الجزئية أيضاً لان كل واحد من الأجزاء له اعتباران :

الأول : اعتبار الجزئية وان التكليف المتعلق بالمركب متعلق به ضمنا.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٧.

الثاني : اعتبار الشرطية لأن سائر الأجزاء مقيدة به فيكون الشك في الجزئية شكا في الشرطية بالاعتبار المذكور.

هذا كله مضافا إلى ما عرفت مرارا من ان الملاك في جريان الأصل في بعض الأطراف عدم جريانه في الآخر ، والمقام كذلك ، لان تعلق التكليف باطعام جنس الحيوان المردد بين الإنسان وغيره معلوم ، والشك إنما هو في تقيده بكونه انسانا فيجري فيه الأصل ، ولا يعارضه الأصل في الإطلاق لعدم جريانه كما مر.

واما المحقق النائيني (ره) فقد استدل له على ما نسب إليه بوجهين.

أحدهما : ما في تقريرات شيخنا المحقق الكاظمي (ره) (١) ، وهو ان الترديد بين الجنس والفصل وان كان بالتحليل العقلي من دوران الأمر بين الأقل والأكثر إلا انه بنظر العرف خارجا يكون من الترديد بين المتباينين ، لان الإنسان بما له من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفا ، فلو علم اجمالا بوجوب اطعام أحدهما لا بد من الاحتياط ، ولا يحصل ذلك إلا باطعام خصوص الإنسان ، لأنه جمع بين الامرين فإن اطعام الإنسان يستلزم اطعام الحيوان أيضاً.

وفيه : ان الكلام ليس في خصوص المثال ، ومحل الكلام هو ما لو كان الترديد بين الجنس ، والنوع ، مع فرض صدق الجنس على النوع أيضاً ، وكونه بنظر العرف شاملا له كما لو علم بوجوب اطعام الحيوان أو الغنم.

مع انه لو سلم عدم شمول الجنس له كما في المثال لا بد من الاحتياط

__________________

(١) فوائد الأصول (تقريرات النائيني للكاظمي) ج ٤ ص ٢٠٨.

باطعام الإنسان ، واطعام حيوان آخر ، إذ على الفرض لو كان الواجب اطعام الحيوان يكون المراد به غير الإنسان.

ثانيهما : ما ذكره سيدنا الاستاذ المحقق الخوئي دام ظله (١) وهو ان الجنس حيث لا يوجد إلا في ضمن الفصل فلا يتعلق الحكم به ، إلا متفصلا بفصل معين ، أو بفصل ما ، فلو علم بتعلق التكليف اما بنوع خاص ، أو بالجنس ، فيكون من موارد دوران امر الواجب بين التعيين والتخيير ، والمختار عنده في جميع صوره ، التعيين وعدم جواز الرجوع إلى البراءة عن كلفة التعيين.

ولا بأس بذكر تلك المسألة اجمالا ليتضح الحكم في المقام.

دوران الأمر بين التعيين والتخيير

وملخص القول فيها ، ان دوران الأمر بين التعيين والتخيير بحسب الموارد ينقسم إلى أقسام.

القسم الأول : ما إذا دار الأمر بينهما في الحجية ، كما لو علم بأنه يجب تقليد الاعلم اما تعيينا ، أو تخييرا بينه وبين تقليد غير الاعلم.

قد يقال ان الأصل يقتضي البناء على التخيير ، وذلك لوجهين.

أحدهما : ان الشك في حجية الراجح ، وهو فتوى الاعلم في المثال ، تعيينا أو حجية المرجوح ، وهو فتوى غير الاعلم تخييرا ، مسبب عن الشك في اعتبار

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٤٨.

المزية شرعا فيجري أصالة العدم في السبب ، ويترتب عليه عدم حجية الراجح تعيينا ، وحجية المرجوح تخييرا.

وفيه : ان معنى اعتبار المزية شرعا دخلها في جعل الشارع الحجية للراجح تعيينا ، وسيأتي في مبحث الاستصحاب ، عدم جريان الأصل في امثال هذه الأمور لعدم كونها مجعولة شرعا ، ولا يترتب عليها أثر شرعي ، لان ترتب الجعل عليها ترتب عقلي نحو ترتب المقتضى على المقتضي ، لا ترتب شرعي.

ثانيهما : ان المفروض حجية كل منهما شأنا ، وإنما الشك في الحجية الفعلية ، وعدم حجية المرجوح بهذا المعنى ، مسبب عن الشك في مانعية المزية ، فتجرى أصالة عدمها ، ويترتب عليها الحجية الفعلية.

وفيه : ان معنى مانعية الزيادة ، مانعيتها عن الجعل ، إذ لا يعقل المنع عن الفعلية من دون ان يؤخذ عدمها دخيلا في مقام الجعل ، لما مر من عدم معقولية دخل شيء في مقام الفعلية من دون ان يؤخذ في مقام الجعل.

فيرد عليه ما اوردناه على سابقه.

فالاظهر ان الأصل هو التعيين ، للعلم بحجية الراجح كفتوى الاعلم في مفروض المثال اما تعيينا أو تخييرا ، والشك في حجية المرجوح وقد مر في أول مباحث الظن ، ان الشك في الحجية مساوق للقطع بعدم الحجية.

القسم الثاني : ما إذا دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال لأجل التزاحم ، كما إذا كان غريقان ، لا يتمكن المكلف من انقاذ كليهما ، فلا ريب في انه مع التساوي يجب عليه تخييرا انقاذ أحدهما ، كما انه لو كان أحدهما أهم يتعين عليه انقاذه خاصة. فحينئذ لو احتمل ان يكون أحدهما أهم

فيتعين انقاذه معينا ، أو يكونا متساويين فيتخير بين انقاذ ايهما شاء ، فالامر يدور بين وجوب انقاذ المحتمل اهميته معينا ، وبين وجوب انقاذ ايهما شاء مخيرا.

قد يقال ان الحكم في هذا القسم أيضاً التعيين ، لان التزاحم وان كان يوجب سقوط احد التكليفين بامتثال الآخر ، إلا انه لا يوجب سقوط الملاكين عما هما عليه من حد الالزام ، وحيث ان المحقق في محله ، ان تفويت الغرض الملزم بعد احرازه قبيح بحكم العقل ، كمخالفة التكليف الواصل ، وهذا القبح لا يرتفع إلا بعجز المكلف تكوينا ، أو تشريعا بأمر المولى بشيء لا يتمكن المكلف من الجمع بين ما فيه الملاك وذلك الشيء ، وإلا فما لم يثبت ذلك يحكم العقل بقبح التفويت.

وايضا قد مر في محله من هذا الكتاب انه إذا كان أحد المتزاحمين اهم فالتكليف يكون متعلقا به وصارفا لقدرة المكلف نحوه ، والملاك في الطرف الآخر مع كونه ملزما في نفسه لا يكون تفويته قبيحا بحكم العقل ، لاستناده إلى تعجيز المولى إياه. وان كان كل من المتزاحمين مساويا مع الآخر في الملاك ، فبما انه لا يجوز الترجيح بلا مرجح ، فلا يصح التكليف باحدهما معينا مطلقا ، فلا بد من التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، أو بالجامع بينهما ، على الخلاف المحرر في محله. وعلى كل حال يجوز الاكتفاء باحدهما وتفويت الآخر ، فمع احتمال اهمية أحدهما يكون الإتيان به وتفويت ملاك الآخر جائزا قطعا ، ومجزيا في مقام الامتثال كما هو واضح. واما الإتيان بالآخر ، وتفويت ملاك الآخر المحتمل اهميته ، مع القدرة عليه تكوينا ، فلم يثبت جوازه ، فالعقل يحكم بقبحه ، لأنه تفويت للغرض الملزم من غير عذر ، فلا محالة يتعين الرجوع إلى قاعدة الاشتغال تحصيلا للفراغ اليقيني.

ولكن يمكن ان يورد عليه بأنه بعد فرض عدم قدرة المكلف على تحصيل كلا الغرضين ، ان أحرز ان لاحدهما مزية يجب بحكم العقل تحصيله بمعنى انه مع عدمه يستحق العقاب ، وان لم يحرز ذلك فتفويت كليهما يوجب استحقاق العقاب. وأما استحقاق العقاب على تفويت غرض محتمل الأهمية فغير معلوم.

وبعبارة أخرى : استحقاق العقاب في صورة تفويت الغرض المحتمل اهميته في ظرف تفويت غير الاهم معلوم ، واما استحقاق العقاب على تفويته مع تحصيل غير الاهم فغير معلوم ، ومقتضى أصالة البراءة عدم الاستحقاق.

فالاظهر هو أصالة التخيير في هذا القسم ، فاحتمال الاهمية لا يوجب التعيين.

القسم الثالث : ما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير في مرحة الجعل في الأحكام الواقعية كما إذا شك في ان الواجب في الكفارة في مورد خاص ، هل هو العتق معينا ، أم يكون مخيرا بينه وبين الصوم ، ولم يكن امارة أو اصل موضوعي ، يرفع بها الشك؟ لهذا القسم صور ثلاث :

الصورة الأولى : ما إذا علم وجوب فعل ، وعلم سقوطه بإتيان فعل آخر ، ودار الأمر بين كون المسقط عدلا للواجب الأول ، فيكون وجوبه تخييريا ، أو مسقطا له لاشتراط التكليف بعدمه ، كالقراءة في الصلاة المردد وجوبها بين ان يكون تعيينيا مشروطا بعدم الائتمام أو تخييريا بينهما؟

وتظهر الثمرة فيما لو عجز عن القراءة ، فإنه على الأول لا يجب عليه الائتمام ، وعلى الثاني يتعين ذلك كما لا يخفى. وفي هذه الصورة الأصل هو التعيين ، لأنه يرجع الشك المزبور إلى الشك في وجوب ما علم مسقطيته عند

تعذر ما علم وجوبه ، وهو مورد للبراءة.

ثم ان المحقق النائيني (١) اختار في خصوص مسألة القراءة والائتمام ، عدم كون الوجوب تعيينا.

واستدل له : بأن الائتمام وان كان عدلا للواجب إلا انه عدل للصلاة فرادى بما لها من المراتب الطولية ، لما دل على ان (سين بلال عند الله شين) (٢). والنبوي الآخر (ان الرجل الاعجمي ليقرأ القرآن بعجميته فيرفعه الملائكة على عربية) (٣). وللاطلاقات الآمرة بقراءة ما تيسر (٤) الشاملة لصورة التمكن من الائتمام ، فلا يتعين عليه الائتمام حتى على هذا المسلك.

وبهذا البيان يندفع ما اورده الأستاذ (٥) عليه ، بأن ما يحتمله الامام من المأموم إنما هي القراءة وليس فيها حرف الشين ليتعين عليه الائتمام عند تعذر التلفظ به على تقدير كون الوجوب تخييريا.

فإنه وان ذكر من الروايات خصوص النبوي المشهور إلا ان الظاهر ان مراده ما ذكرناه.

ويمكن ان يستدل لأصالة التخيير بالمعنى المشار إليه فيما لو عجز في

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢١٧. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٧٧.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٤ ص ٢٧٨.

(٣) مستدرك الوسائل ج ٤ ص ٢٧٩.

(٤) سورة المزمل آية ٢٠.

(٥) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٤٣.

الاثناء ، كما إذا تعذرت القراءة لأمر طارئ من ضيق الوقت ونحوه : باستصحاب بقاء الوجوب المتعلق بخصوص ما علم تعلق التكليف به كالقراءة ، أو بالأعم منه ومن ما علم مسقطيته ، كالائتمام. ولا نريد اثبات وجوب المسقط تعيينا ، كي يرد عليه ما أفاده المحقق النائيني من انه من الأصول المثبتة (١) ، بل بما ان المستصحب بنفسه من الأحكام الشرعية لا يتوقف جريان الاستصحاب إلا على ترتب أثر عقلي عليه ، وهو في المقام تعين الإتيان بما علم مسقطيته وشك في تعلق التكليف به ، فيتعين ذلك ، ويكون هذا الأصل حاكما على أصالة البراءة المتقدمة.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الاظهر هو التفصيل بين كون العجز من الأول فالأصل هو التعيين ، وبين كونه طارئا في الاثناء فالأصل هو التخيير.

الصورة الثانية : ان يعلم وجوب كل من الفعلين ، ويدور الأمر بين ان يكون وجوب كل منهما تعيينيا ، فيجب الإتيان بهما معا مع التمكن ، أو تخييريا يجتزى بإتيان أحدهما. والأصل في هذه الصورة هو التخيير ، ويظهر وجهه مما سنذكره في الصورة الثالثة ..

الصورة الثالثة : وهي ما إذا علم وجوب فعل بخصوصه واحتمل كون فعل آخر عدلا له حتى يكون ما علم تعلق التكليف به احد فردي الواجب التخييري. أو انه ليس عدله بل يتعين هو ، ولا يقوم شيء آخر مقامه ولا يسقطه ، كما لو علم بوجوب العتق ، وشك في انه واجب تعييني أو مخيرا بينه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢١٨. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٧٩.

وبين الصوم. فقد ذهب جماعة منهم المحقق صاحب الكفاية (١) ، والمحقق النائيني (٢) ، إلى ان الأصل فيها هو التعيين. وعليه يبتنى الحكم في مسألتنا التي هي محل الكلام في كونها مجرى لقاعدة الاشتغال ، أو البراءة.

اما المحقق الخراساني ، فقد استدل له بوجهين :

أحدهما : ما في الكفاية (٣) ، وهو مختص بما إذا كان المحتمل دخل خصوصية ذاتية في الواجب ، وان خصوصية الخاص منتزعة من نفس الخاص ولا يمكن معه الرجوع إلى البراءة. وقد مر الجواب عنه.

ثانيهما : ما ذكره في حاشيته على الفرائد (٤) وهو التمسك باستصحاب عدم وجوب ما يحتمل كونه عدلا ، واستصحاب بقاء التكليف بعد الإتيان به.

ويرد على الاستصحاب الأول : انه لا يثبت به التعيين ، إلا على القول بالأصل المثبت مع انه معارض باستصحاب عدم جعل الوجوب التعييني لما يحتمل تعيينيته.

ويرد على الثاني : ان الشك في بقاء الوجوب بعد الإتيان بما يحتمل كونه عدلا مسبب عن احتمال كون الواجب تعيينا ، فإذا جرى الأصل فيه ، وارتفع هذا الاحتمال ، وحكم بكون الواجب تخييريا ، لا يبقى موضوع لهذا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٧.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢١٤. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٣٧٣.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٦٧.

(٤) درر الفوائد (القديمة) ص ٥٤٥.

الاستصحاب.

واما المحقق النائيني (١) ، فقد استدل له بأن صفة التعيينية ، ليست من الأمور الوجودية المجعولة ولو بالتبع ، كي يرفعها حديث الرفع ، بل هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل. وبعبارة أخرى : في مقام الثبوت ، التعيينية عبارة عن تعلق الارادة المولوية بشيء ، وليس لها فصل وجودي ، بل حدها عدم تعلق الارادة بشيء آخر يكون عدلا لما تعلقت الارادة به ، فلا يجري فيها البراءة ، لأنه يعتبر في جريانها كون المرفوع امرا وجوديا موجبا لالقاء المكلف في الضيق والكلفة.

وبالجملة : الشك في التعيينية والتخييرية يرجع إلى الشك في وجوب العدل وعدمه ، وبديهي ان عدم جعل الوجوب لا يكون موردا للبراءة. وعليه فالمرجع عند الشك في التعيين والتخيير هو قاعدة الاشتغال لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلق التكليف به ، بفعل ما يحتمل كونه عدلا له.

وفيه : ان متعلق التكليف في الواجب التخييري ، اما ان يكون كل من فردي الواجب متعلقا للتكليف مشروطا بعدم الإتيان بالآخر ، أو يكون هو الجامع بينهما ، غاية الأمر ان كان بين الفردين جامع حقيقي فهو المتعلق للتكليف ، وإلا فالمتعلق هو الجامع الانتزاعي المعبر عنه باحد الشيئين ، أو احد الأشياء على اختلاف المسلكين في الواجب التخييري.

اما على الأول : فالشك في كون شيء واجبا تعيينيا ، أو تخييريا ، يرجع إلى

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٣ ص ٤٢٧.

الشك في وجوبه مع الإتيان ، بما يحتمل كون عدلا له ، بعد العلم بوجوبه في صورة عدم الإتيان به. ولا ريب في ان ذلك أمر وجودي ، ومورد للبراءة.

وان شئت فقل : ان وجوبه عند ترك ما يحتمل كونه عدلا له ، معلوم ، ووجوبه في فرض عدم الإتيان به مشكوك فيه ، فيجري فيه البراءة ويثبت بها عدم وجوبه في تلك الحالة ، فيثبت التخيير.

واما على الثاني : فالعلم بكون الواجب تعيينيا ، أو تخييريا ، عبارة عن العلم بتعلق التكليف بالجامع ، والشك في كونه لا بشرط ، أي كونه مطلقا ، أو بشرط شيء وبنحو التقييد ، والاعتباران أي اللابشرطية ، وبشرط شيئية وان كانا متقابلين ولا يكون شيء منهما متيقنا ، إلا انه عرفت غير مرة ، ان أصالة البراءة عن التقيد ، غير معارضة باصالة البراءة عن الإطلاق ، لان الإطلاق يوجب التوسعة ، لا التضييق ، فلا يشمله دليل البراءة ، فيجري الأصل في التقيد ، وبه ينحل العلم الإجمالي ، فإذا ثبت عدم التقيد ، لا يكون الشك شكا في سقوط التكليف المنجز ، فلا يكون موردا لقاعدة الاشتغال ، بل بعد ارتفاع احتمال التقيد لا يبقى شك في الامتثال.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه لاوجه للقول باصالة التعيين في هذا القسم ، بل المرجع أصالة البراءة عن الالزام بإتيان خصوص ما يحتمل كونه واجبا تعيينيا.

وبذلك يظهر ان الوجه الثاني الذي ذكره المحقق النائيني (ره) (١) لعدم جريان البراءة الشرعية في المركبات التحليلية فيما إذا كان يحتمل دخله في

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٠٧.

المأمور به مقوما له : غير تام.

ففي جميع موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر تجري البراءة العقلية ، والشرعية عن وجوب الأكثر.

الشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة

ثم انه ينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : إذا ثبت جزئية شيء للمأمور به ، أو شرطيته له في الجملة ، ودار الأمر بين كونها مطلقة شاملة لحال النسيان ، فيبطل المأمور به بتركه ولو نسيانا ، أم يختص بحال الذكر فلا يبطل؟

وقد عنون ذلك في كلمات الاصحاب بأنه إذا ثبت جزئية شيء للمأمور به وشك في ركنيته.

وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في جهات :

الجهة الأولى : في إمكان تكليف الناسي بغير المنسي ، واستحالته.

الجهة الثانية : فيما تقتضيه الأصول اللفظية.

الجهة الثالثة : فيما تقتضيه الأصول العملية.

في إمكان تكليف الناسي بما عدى المنسي

اما الجهة الأولى : فعن جماعة منهم الشيخ الأعظم (١) استحالته : لان الناسي لا يرى نفسه واجدا لهذا العنوان ولا يلتفت إلى نسيانه ، فإنه بمجرد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن عنوان الناسي ويدخل في عنوان الذاكر ، فلا يعقل انبعاثه عن ذلك البعث لان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف مما لا بد منه في الانبعاث وانقداح الارادة. وعلى هذا يستحيل فعلية مثل هذا الحكم في حقه سواء التفت إليه ، أم لم يلتفت. اما على الأول فلعدم بقاء العنوان وتبدله ، واما على الثاني فلعدم إمكان الانبعاث.

وقد ذكر الاصحاب في وجه امكانه امورا.

الأمر الأول : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) بأن يوجه الخطاب إلى الناسي بعنوان آخر عام أو خاص ، لا بعنوان الناسي ويكون ذلك العنوان ملازما لعنوان الناسي ، وهو مما يمكن الالتفات إليه. فإن التفكيك بين المتلازمين بمكان من الامكان فلا محذور.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٣) بأن العنوان الملازم للنسيان إنما اخذ معرفا لما هو العنوان حقيقة ، فالعنوان الحقيقي إنما هو عنوان الناسي والذي لا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٨٣.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٨.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١٠.

بدَّ منه في صحة التكليف هو إمكان الالتفات إلى ما هو العنوان حقيقة ولا يكفي الالتفات إلى المعرف.

وهو غريب فإن العناوين المأخوذة جزءا للموضوع وقيدا للمكلف ليست من العناوين القصدية كي يلزم قصدها.

والصحيح ان يورد عليه بأن المنسي يختلف : فتارة يعرض للمكلف نسيان السورة. واخرى يعرض له نسيان التشهد. وثالثة يعرض له نسيان الذكر الواجب. وهكذا ، ولا يكون معينا مضبوطا كي يؤخذ عنوان ملازم له.

ودعوى كون عنوان ملازما لنسيان الجزء بما له من التبدل بعيدة جدا ، مع انه مجرد فرض لا واقع له.

الأمر الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (١) أيضاً وهو ان يوجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسى بالخالي عما شك في دخله مطلقا ، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر. وارتضاه المحقق النائيني (ره).

وأورد عليه بعض اعاظم المحققين (ره) (٢) بأنه لا تعين للمنسي حتى يؤمر بما عداه مطلقا ، وبه مقيدا بالالتفات ، فلا بد من الالتزام بتعدد البعث بعدد ما يتصور من انحاء نسيان الجزء اطلاقا أو تقييدا.

وفيه : ان التكليف بكل واحد من الأجزاء والشرائط غير ما يتقوم به العمل يقيد بالالتفات ولا محذور في ذلك ، كيف وقد وقع ذلك في باب الصلاة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٨.

(٢) في نهاية الدراية ج ٢ ص ٦٦١.

فإنه بواسطة حديث (لا تعاد الصلاة) (١) خصص أدلة الأجزاء والشرائط غير الخمسة المعينة بحال الذكر.

واما الإيراد عليه بأن الناسي لعدم توجهه إلى كونه ناسيا يقصد الأمر المتوجه إلى الذاكرين ، فما قصده لا واقع له ، وما له واقع لم يقصده.

فيندفع : بأن الناسي وان كان يعتقد مماثلة امره لأمر الذاكرين ، ولكنه لأجل قصده امتثال الأمر الفعلي المتوجه إليه ، ووجود امر فعلى كذلك ، لا يضر ذلك بصحة عمله ، بل يكون من قبيل الخطاء في التطبيق.

الأمر الثالث : ما عن تقريرات بعض الاعاظم لبحث الشيخ (ره) (٢) ، وهو ان الناسي يمكن ان يختص بخطاب ، ولا يلزم محذور عدم إمكان كون الناسي ملتفتا إلى نسيانه فلا يمكنه امتثال الأمر المتوجه إليه ، فإن الامتثال لا يتوقف على ان يكون المكلف ملتفتا إلى ما اخذ عنوانا له بخصوصه.

بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان ولو كان من باب الخطأ في التطبيق فيقصد الأمر المتوجه إليه بالعنوان الذي يتخيل كونه واجدا له وان اخطأ في اعتقاده ، فالناسي يقصد الأمر المتوجه إليه بتخيل انه امر الذاكر فيئول إلى الخطأ في التطبيق.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٣) بأنه يعتبر في صحة البعث ان يكون قابلا

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٧١ ح ٩٨٠.

(٢) نسبه للشيخ الأنصاري المحقق النائيني في فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١١.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١١.

للانبعاث عنه. ومثل هذا التكليف لا يصلح لان يصير داعيا ومحركا للارادة في وقت من الاوقات ، لان الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد.

وفيه : انه لا يعتبر في صحة التكليف سوى الخروج عن اللغوية بترتب أثر عليه ، وهذا الأثر أي الامتثال من باب الخطاء في التطبيق يكفي في ذلك.

فالمتحصّل مما ذكرناه إمكان تكليف الناسي بما عدى المنسي ، وطريق اثباته احد الامرين : الاول : ما في تقريرات الشيخ (ره) (١). الثاني : الوجه الثاني الذي أفاده المحقق الخراساني (٢).

الكلام حول إطلاق دليل الجزء المنسي

واما الجهة الثانية : وهي البحث حول قيام الدليل على كون الناسي مكلفا ببقية الأجزاء والشرائط وسقوط التكليف عن خصوص الجزء أو الشرط المنسى.

فنخبة القول فيها انه ان كان لدليل الجزء أو الشرط المنسى إطلاق يشمل حال النسيان نظير قوله (ع) (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (٣) أو (إلا

__________________

(١) حسبما نقل في فوائد الأصول ج ٤ ص ٢١١.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٦٨.

(٣) عوالي اللآلي ج ١ ص ١٩٦.

بطهور) (١) فلا بد من الاخذ به ، والحكم بالجزئية أو الشرطية المطلقة ، سواء كان لدليل الواجب إطلاق ، أو لم يكن له ذلك : لأنه لا ريب في ان إطلاق دليل المقيد مقدم على إطلاق دليل المطلق.

ولا يتوهم انا ندعى ثبوت الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ، وتعلق الأمر بالمركب ، أو المقيد حتى يقال انه غير معقول لكونه تكليفا بما لا يطاق.

بل ندَّعي ثبوتها في جميع آنات الأمر بالمركب أو المقيد ، فلازم الإطلاق سقوط الأمر عند نسيان الجزء أو الشرط ، ولازمه فساد الفاقد له.

فإن قيل : ان ما ذكر يتم إذا كان الدليل المثبت للجزئية أو الشرطية بلسان الوضع مثل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، واما إذا كان بلسان الأمر والتكليف كقوله اركع في الصلاة فلا يتم : لان هذا التكليف كسائر التكاليف مختص بحكم العقل بحال التذكر ، ولا يعقل شموله لحال النسيان فالجزئية المستفادة منه تبعية وتختص بحال الذكر أيضاً.

اجبنا عنه بأن هذه الأوامر ليست اوامر بعثية ومستقلة ، بل تكون ارشادية إلى دخالة متعلقاتها في المركب ، وفي الملاكات.

ودعوى : ان مقتضى حديث رفع النسيان الغاء جزئيته أو شرطيته في هذه الحال ، ـ وبه يثبت صحة المأتي به ومطابقته للمأمور به. ـ

مندفعة : بما تقدم من انه لا يترتب عليه ، سوى رفع الأمر بالمركب من المنسى ، ولا يثبت به الأمر بغيره لان رفع الجزئية إنما يكون برفع منشأ انتزاعها

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٦٥ ، ح ٩٦٠.

وهو الأمر بالمركب. مع ان نسيان جزء أو شرط في فرد من الواجب ليس موردا لحديث الرفع راجع ما حققناه في ذلك المبحث.

ثم انه قد اجيب عن اصل الإشكال بوجوه :

الوجه الأول : ما يظهر من الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان الجزئية لا تكون منتزعة عن الأمر الغيري ، بل هو مسبب عنها ، فانتفائه في حق الغافل عنه لا يقتضي انتفاء الجزئية. نعم : لو كانت الجزئية أو الشرطية منتزعة عن الحكم التكليفي كوجوب لبس غير الحرير صح ما ذكر.

وفيه ، اولا : ان الجزئية للوافي بالغرض وان كان سببا للأمر الغيري وليس الأمر مسببا عنها ، إلا ان الجزئية للمطلوب والمامور به التي هي مورد الأثر في المقام تكون مسببة عن تعلق حصة من الأمر بالجزء.

وثانيا : انه لو تم ذلك وسلم كون الأمر مسببا عن الجزئية ، فعدم الأمر وان لم يكن كاشفا عن عدم الجزئية لكنه ليس كاشفا عن الجزئية. فإن سعة دائرة المنكشف وضيقها في مقام الاثبات تابعتان لسعة دائرة الكاشف وضيقها.

الوجه الثاني : ما عن المحقق العراقي (ره) (٢) وهو ان حكم العقل بقبح تكليف الناسي إنما يكون من قبيل الأحكام النظرية التي لا ينتقل الذهن إليها إلا بعد ، الالتفات والتأمل في المبادئ التي اوجبت حكم العقل ، فيدخل حينئذ في القرائن المنفصلة المانعة عن حجية ظهور الكلام لا عن اصل ظهوره.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٨٥.

(٢) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤٢٤.

وعليه يمكن ان يقال ان غاية ما يقتضيه الحكم العقلي المزبور إنما هو المنع عن حجية ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفي ، واما بالنسبة إلى الحكم الوضعي وهو الجزئية المطلقة فهي باقية ولا مانع عنها فيؤخذ بظهورها في ذلك.

وفيه ، اولا : ان حكم العقل بقبح تكليف الناسي من قبيل الأحكام العقلية التي تكون بمثابة القرينة المحتفة بالكلام بحيث يمنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق.

وثانيا : ان دلالة هذا الكلام على الجزئية إنما تكون بالالتزام ، وقد حقق في محله ان الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا وحجية ، فمع اختصاص المطلوب المطابقي بحال الذكر ، يكون المدلول الالتزامي أيضاً مختصا بتلك الحالة.

فالصحيح في الجواب ما ذكرناه : من ان هذه الأوامر إنما تكون ارشادا إلى جزئية متعلقاتها للمركب ، ودخلها في الملاكات والمصالح. وعليه ، فحال هذه الأدلة حال ما يكون بلسان الوضع بلا فرق بينهما أصلاً.

فالمتحصّل انه ان كان لدليل الجزء أو الشرط إطلاق كان لازمه فساد الفاقد له ولو في حال النسيان ، وقد خرج عن ذلك باب الصلاة. فإنه حيث لا تعاد الصلاة دل على اختصاص قيودها غير الخمسة المستثناة بحال الذكر ، فتصح مع فقدها نسيانا. وان لم يكن لدليل الجزء أو الشرط إطلاق ، فإن كان لدليل الواجب إطلاق فيؤخذ به ويحكم بصحة العمل الفاقد للمنسي والوجه فيه ظاهر. وان لم يكن له أيضاً إطلاق فتصل النوبة إلى البحث عن الأصول العملية.

ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في الجزئية المطلقة

وهي الجهة الثالثة : من جهات البحث في المقام ومحصل القول فيها انه ذهب جماعة منهم المحقق الخراساني (ره) (١) إلى ان مقتضى حديث الرفع وغيره من أدلة البراءة صحة المأتي به فاقدا للمنسي لأن بها ترتفع جزئية المنسي أو شرطيته ، فيصح العمل لموافقته للمأمور به.

ولكن الحق في المقام هو التفصيل بين : التكليف الانحلالي المتعلق بجميع وجودات الطبيعة ، وو بين ما يكون متعلقا بصرف وجود الطبيعة.

فإن كان من قبيل الثاني (٢) ، وكان النسيان في فرد منه ، كما هو المفروض ، فالتكليف بأصل الطبيعي معلوم ، والشك يرجع إلى جواز الاكتفاء بالمأتي به وعدمه.

فبناء على استحالة تعلق خطاب خاص بالناسي ، فالمأتي به غير مأمور به قطعا. والشك في جواز الاكتفاء به ، ناش من الشك في وفائه بالغرض ، فلا محيص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، فيلزم الاعادة.

واما بناءً على امكانه (٣) فيدخل في كبرى دوران الأمر بين الأقل والأكثر للعلم بتعلق التكليف بالطبيعة ، كالصلاة ، والعلم بدخالة المنسي ، كالسورة في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٦.

(٢) أي ما يكون متعلقا بصرف وجود الطبيعة.

(٣) أي إمكان تعلق خطاب خاص بالناسي.

حال التذكر ، والشك في دخالة المنسي في حال النسيان. فالواجب مردد بين ان يكون خصوص الطبيعة المشتملة على القيد ، أو الجامع بينها وبين الفاقدة لها في حال النسيان؟ فيرجع الأمر إلى العلم بالقدر الجامع والشك في اعتبار القيد على الإطلاق. وفي فرض الشك يرجع إلى البراءة ، ويحكم بعدم قيدية المنسي في حال النسيان ، ومطابقة المأتي به للمأمور به.

وما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) ـ من ان اقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المنسي هو رفع الجزئية في حال النسيان فقط ، ولا يقتضي رفعها في تمام الوقت ، إلا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت ، فلو تذكر المكلف في اثناء الوقت بمقدار يمكنه إيجاد الطبيعة بتمام ما لها من الأجزاء فأصالة البراءة عن الجزء المنسي لا تقتضي عدم وجوب الفرد التام في ظرف التذكر. ـ

يرد عليه : ان التمسك في المقام لرفع الجزئية في حال النسيان إنما هو بعنوان ما لا يعلم ، لا بعنوان النسيان. وعليه فالرفع وان كان ما دام بقاء الموضوع ، إلا ان موضوعه ، وهو الشك يكون باقيا بعد رفع النسيان وحال التذكر. فإنه يشك في الجزئية لو أتى بها في حال النسيان ، ومع بقاء الموضوع لا معنى للالتزام بأن المرفوع هو الجزئية في خصوص حال النسيان. فتدبر فإنه دقيق.

واما ان كان التكليف من قبيل الأول ، أي كان التكليف انحلاليا ، فإن كان كل فرد محكوما بحكم مستقل ، كما في المحرمات ، والعام الاستغراقي. فلو نسى فردا من متعلق الحكم يرفع حكمه بحديث الرفع وسائر ما يدل على عدم تعلق

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٢٠.

التكليف بالمنسى. واما ان كان بنحو العام المجموعي وما شاكله ، كما لو وجبت البيتوتة في محل خاص من أول غروب الشمس إلى طلوعها ، فإن كل ساعة من الليل مشمولة لما دل على وجوب البيتوتة ، إلا ان الواجب واحد لا متعدد.

وليس من قبيل مطلوبية صرف وجود البيتوتة في الليل في ذلك المحل. فلو نسى المكلف الواجب في الساعة الأولى ، وشك في ان جزئية البيتوتة في هذه الساعة هل تكون مقيدة بحال الذكر؟ فيجب عليه البيتوتة في الساعات اللاحقة أو تكون مطلقة؟ فالامر بالبيتوتة ساقط رأسا فلا تجب في الساعات المتأخرة ، فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في التكليف. فيكون المرجع هو أصالة البراءة عن اصل التكليف.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام ، فإنها مشوشة مضطربة ، واجعل ما ذكرناه مقياسا ، لما قيل في المقام.

الكلام حول حكم الزيادة عمدا أو سهوا

الأمر الثاني : في حكم الزيادة عمدا أو سهوا في المركبات الاعتبارية ، وتنقيح القول بالبحث في جهات.

الجهة الأولى : في انه هل يمكن تحقق الزيادة حقيقة في المركب الاعتباري أم لا؟

الجهة الثانية : في اعتبار قصد الزيادة في تحققها وعدمه.

الجهة الثالثة : فيما تقتضيه القاعدة الاولية في الزيادة العمدية.

الجهة الرابعة : فيما تقتضيه القاعدة الثانوية في خصوص باب الصلاة في الزيادة العمدية.

الجهة الخامسة : في حكم الزيادة السهوية من حيث الصحة والبطلان.

اما الجهة الأولى : فقد يقال باستحالة تحقق الزيادة حقيقة وان كانت متحققة بالمسامحة العرفية لان الزائد ان لم يكن من سنخ ما اعتبر جزءا أو شرطا للمركب الاعتباري لما صدق عليه الزيادة ، كما هو الشأن في غير المركب الاعتباري. ألا ترى : ان الدهن الذي اضيف إليه مقدار من الدبس ، لا يصح ان يقال انه زاد فيه. وان كان يصدق عليه عنوان الزيادة على ما في الظرف. وان كان من سنخه ، فإن كان ذلك الجزء الذي من سنخ الزائد مأخوذا على نحو (اللابشرط) من غير تقييد بالوجود الواحد ، فحيث ان كل ما أتى به بفرد من طبيعي ذلك الجزء كان مصداقا للمأمور به كان المأتي به واحدا أو متعددا. فلا زيادة هناك. وان كان مأخوذا (بشرط لا) عن الوجودات المتأخرة ، فالإتيان به مرة أخرى موجب لفقد قيد الجزء المستلزم لنقصه. مثلا : إذا أُخذ الركوع غير الملحوق بمثله جزءا للصلاة ، لو لحقه مثله لم يتحقق ما هو جزء للصلاة.

وفيه اولا : ان اعتبار (اللابشرطية) في الجزء إنما يتصور على وجهين :

الوجه الاول : اخذ طبيعة الجزء في المتعلق بنحو تصدق على الواحد والمتعدد.

الوجه الثاني : اخذه بنحو (اللابشرط القسمى) أي ليس مقترنا بلحوق مثله ، ولا مقترنا بعدمه. وفي القسم الأول لا يتصور الزيادة كما أفيد. واما في الثاني ، فحيث ان الجزء حينئذ صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول

الوجودات ، فالوجود الثاني غير دخيل فيه ، ولا مانع عن تحققه فيتحقق الزيادة. وبذلك يظهر صدق الزيادة إذا كان الزائد غير مسانخ لما اعتبر في المأمور به.

وثانيا : ان عدم صدق الزيادة بالدقة الفلسفية لا يترتب عليه أثر بعد صدقها عرفا ، وتبعية الأحكام للصدق العرفي ، ووضوح صدق الزيادة عرفا.

واما الجهة الثانية : فالظاهر اعتبار قصد كون المأتي به من أجزاء المأمور به في الزيادة ، إذ المركب الاعتباري كالصلاة مركب من وجودات متباينة ، ووحدته إنما تكون بالاعتبار ، ولا يكاد يتحقق إلا بالقصد.

وتفصيل القول في ذلك في الجزء الخامس من فقه الصادق (١).

واما الجهة الثالثة : فالشك في بطلان العمل من جهة الزيادة إنما يكون ناشئا من الشك في اعتبار عدمه في المأمور به. ومقتضى الأصل عدم اعتباره فيه ما لم يقم على اعتباره دليل ، فلا بأس بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية.

نعم ربما يوجب الزيادة البطلان من جهة أخرى ، كما لو كان الواجب تعبديا وقصد المكلف امتثال خصوص الأمر المتعلق بالمركب من الزائد وغيره ، فإنه لا إشكال في البطلان من جهة ان ما قصده من الأمر لا واقع له ، وما له واقع لم يقصده. أو أوجبت الزيادة الاخلال بالهيئة الاتصالية المعتبرة في بعض الواجبات ، فإنه حينئذ يوجب البطلان. وعلى الجملة الزيادة من حيث هي لا توجب البطلان عمدا أو سهوا.

__________________

(١) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٢.

واما الجهة الرابعة : فقد دلت النصوص على مبطلية الزيادة العمدية للصلاة مطلقا كما هو المشهور بين الاصحاب. لاحظ صحيح ابى بصير عن الامام الصادق (ع) (مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) (١).

وأورد عليه بوجهين :

أحدهما : ما أفاده المحقق الهمداني (ره) (٢) وهو : ان الزيادات السهوية خارجة عن هذا الحكم. وعليه ، فيدور الأمر بين ارادة الزيادة العمدية منه ، وبين ارادة زيادة الاركان أو الركعات ، وحيث ان حصول الزيادة العمدية نادر وكون زيادة الركعة هو الفرد الواضح مما يطلق عليه انه زاد في صلاته ، فلو لم يكن الحديث منصرفا إلى الثاني لا ريب في اجماله ، والمتيقن هو ذلك.

وإلى ذلك نظر بعض المعاصرين (٣) حيث قال : انه منصرف إلى زيادة الركعة أو محمول على ذلك بقرينة ما دل على عدم قدح زيادة الجزء سهوا الموجب لرفع اليد عن اطلاقه على كل حال.

وفيه : ان مقتضى الصحيح مبطلية كل زيادة كانت هي ، الركعة ، أو الركن ، أو غيرهما ، من غير فرق بين العمد والسهو ، ومن غير فرق بين العلم والجهل. خرج عن هذا العموم زيادة غير الاركان ان كانت سهوية ، وقد حقق في محله ان العام حجة في غير أفراد المخصص ، فالباقي تحته زيادة الاركان

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٥٥ / وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٣١ ح ١٠٥٠٩.

(٢) مصباح الفقيه ج ٢ ق ٢ (طبعة حجرية) ص ٥٣٨.

(٣) المرحوم السيد محسن الحكيم في مستمسك العروة الوثقى ج ٧ ص ٣٧٩.

والركعة مطلقا ، وزيادة غيرهما ان كانت عمدية. ولا يدور الأمر بعد التخصيص بين ارادة العمد وبين ارادة زيادة الاركان أو الركعة كي يتم ما ذكراه.

ثانيهما : ما أفاده المحقق اليزدي (ره) (١) قال ثم الزيادة في الصلاة : اما ان تكون من قبيل الزيادة في العمر ، فيكون المقدر الذي جعلت الصلاة ظرفا له هو الصلاة ، فينحصر المورد بما إذا كان الزائد مقدارا يطلق عليه الصلاة مستقلا كالركعة. واما ان يكون المقدر شيئا من الصلاة سواء كان ركعة أم غيرها. واما ان يكون مطلق الشيء. لا يبعد ظهور اللفظ في الأول ولا اقل من الاحتمال فالقدر المتيقن من الحديث بطلان الصلاة بزيادة الركعة. (انتهى)

وفيه : ان مقتضى الإطلاق هو الثالث. وان شئت قلت : حذف المتعلق يفيد العموم ، فعدم التصريح بالزائد يوجب إطلاق الخبر وإرادة كل زيادة ، غاية الأمر بواسطة الإجماع والروايات يقيد اطلاقه بالزيادة السهوية في غير الاركان.

ويمكن ان يستدل له : بمصحح زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام (قَالَ لَا تَقْرَأْ فِي الْمَكْتُوبَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَزَائِمِ فَإِنَّ السُّجُودَ زِيَادَةٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ) (٢). إذ لو لم تكن الزيادة مطلقا مبطلة لما صح هذا التعليل. ألا ترى : انه لو قال (الفقاع .. هِيَ خَمْرَةٌ اسْتَصْغَرَهَا النَّاسُ) (٣) في مقام بيان الحرمة لما صح ذلك إذا لم يكن

__________________

(١) كتاب الصلاة ص ٢١٠.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٣١٨ / وسائل الشيعة ج ٦ ص ١٠٥ ح ٧٤٦٠.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٣٦٥ ح ٢٣١٣٦.

الخمر حراما.

ودعوى اجمال التعليل ـ لان السجدة التي لا يؤتى بها بقصد الجزئية لا تصدق عليها الزيادة في الصلاة كما عن المحقق الهمداني (ره) وغيره. ـ

مندفعة : بأن لسان هذا الحديث لسان الحكومة ، ويدل على ان مطلق وجود السجدة زيادة وان لم يقصد بها الجزئية.

ويمكن ان يستدل له : بالتعليل في خبر الأعمش عن جعفر (ع) في حديث شرايع الدين (وَمَنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي السَّفَرِ لَمْ تُجْزِ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَ فِي فَرْضِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) (١). وتمام الكلام في الجزء الخامس من فقه الصادق (٢).

واما الجهة الخامسة : فالمستفاد من الروايات ان زيادة الركوع أو السجود سهوا توجب البطلان وزيادة غيرهما من الأجزاء لا توجبه.

وملخص القول فيها ان النصوص الواردة فيها على طوائف :

الطائفة الأولى : ما دل على بطلانها بالزيادة مطلقا ، كقوله (ع) في صحيح ابى بصير المتقدم (مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) (٣).

الطائفة الثانية : ما دل على مبطلية الزيادة السهوية كقوله (ع) إِذَا اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ زَادَ فِي صَلَاتِهِ الْمَكْتُوبَةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا وَاسْتَقْبَلَ صَلَاتَهُ اسْتِقْبَالاً إِذَا كَانَ قَدِ

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٥٠٨ ح ١١٣٠٤.

(٢) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٣١ ح ١٠٥٠٩ ، الكافي ج ٣ ص ٣٥٥.

اسْتَيْقَنَ يَقِيناً) (١).

الطائفة الثالثة : ما يدل على بطلانها بالاخلال سهوا بالاركان أي الركوع والسجود وعدم بطلانها بالاخلال سهوا بغيرها ، كقوله ع (لا تعاد الصلاة إلا من خمس) (٢). وتوهم اختصاص الحديث بالنقيصة وعدم شمولها للزيادة ـ كما عن المحقق النائيني (ره) (٣).

مندفع بما حققناه في الجزء الخامس من فقه الصادق (٤). ومقتضى الجمع بين هذه الطوائف ما ذكرناه : لان النسبة بين الثالثة والأولى وان كانت عموما من وجه لاختصاص الأولى بالزيادة وشمول الثالثة للنقيصة ، واختصاص الثالثة بالاركان وعموم الأولى لغيرها. إلا ان الثالثة حاكمة على الأولى كحكومتها على أدلة الأجزاء والشرائط والموانع ، لأن الزيادة من الموانع.

واما الطائفة الثانية ، فقد أورد عليها بايرادين :

الايراد الاول : انه ضعيف السند.

وفيه : انه حسن كالصحيح بابراهيم بن هشام بل هو صحيح.

الايراد الثاني : ان الرواية ، في نسخة الكافي هكذا ، (إذا استيقن انه زاد في

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٣١ ح ١٠٥٠٨. الكافي ج ٣ ص ٣٥٤.

(٢) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٧١ ح ٩٨٠. وفيها خمسة بدل خمس / وفي مستدرك الوسائل وردت من خمس : مستدرك الوسائل ج ٤ ص ٤٢٩ و ٤٨١.

(٣) نقل ذلك السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٦٩.

(٤) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٤.

المكتوبة ركعة لم يعتد بها ،) وصاحب الكافي اضبط من صاحب التهذيب ، مع ان الثابت في محله انه لو دار الأمر بين الزيادة ، والنقيصة يبنى على وجود الزيادة ، ومع التنزل لا اقل من الاجمال والمتيقن زيادة الركعة.

وفيه : ان في الكافي روايتين :

احداهما : في باب السهو في الركوع (١) ، وهي ما ذكر في الإيراد.

ثانيتهما : في باب السهو في الاربع والخمس (٢) وهي ما ذكره في التهذيب (٣). والثانية ممتازة عن الأولى بسندها ومتنها فهما روايتان. وحيث انهما مثبتتان فلا تنافي بينهما ، فلا تحمل احداهما على الاخرى. والنسبة بينها وبين الثالثة عموم من وجه لاختصاص الثالثة بغير الاركان واختصاص الثانية بالزيادة. إلا ان حديث (لا تعاد الصلاة) (٤) حاكم على جميع أدلة الأجزاء والشرائط والموانع ، فيقدم عليها.

والمسألة طويلة الذيل وقد اشبعنا الكلام فيها في الجزء الخامس من فقه الصادق فليراجع (٥).

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٤٨.

(٢) الكافي ج ٣ ص ٣٥٤.

(٣) تهذيب الأحكام ج ٢ ص ١٩٤.

(٤) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣٧١ ح ٩٨٠.

(٥) فقه الصادق ج ٥ (الطبعة الثالثة) ص ٢٦٤.

الكلام حول حكم تعذر بعض القيود للمأمور به

الأمر الثالث : إذا تعذر بعض ما له الدخل في المأمور به وجودا ، كالجزء والشرط ، أو عدما كالمانع باضطرار ونحوه ، فهل يسقط التكليف عن المقيد ، أم لا؟ وجهان :

وتنقيح القول فيه يقتضي البحث في مقامين : الأول : فيما تقتضيه القاعدة الاولية. الثاني : فيما يقتضيه الأصل الثانوي.

فيما تقتضيه القاعدة الأولية

اما المقام الأول : فما ذكرناه في التنبيه السابق يجري في المقام.

وحاصله انه ان كان لدليل القيد إطلاق يشمل حال التعذر يؤخذ به ويحكم بسقوط الأمر بالمقيد لتعذر القيد ، سواء كان لدليل المقيد إطلاق ، أو لم يكن ، لتقدم إطلاق المقيد على إطلاق المطلق ، وان لم يكن له إطلاق. فإن كان لدليل المقيد إطلاق كما في الطمأنينة بالاضافة إلى الصلاة ، فيؤخذ باطلاقه ويحكم بسقوط القيد وتعلق الأمر بالفاقد منه. وان لم يكن له أيضاً إطلاق فتصل النوبة إلى الأصل العملي وحينئذٍ :

ان كان التعذر في فرد من الطبيعة المأمور بها ، كما إذا تعذر عليه اتيان ٩ الصلاة في أول الوقت مع ذلك القيد. فلا إشكال في انه ليس موردا لحديث

نفي الاضطرار : لعدم تعلق الاضطرار بما تعلق به التكليف ، فإن التكليف متعلق بالطبيعة ، والاضطرار متعلق بالفرد.

واما ان كان التعذر مستوعبا للوقت ، فيجري حديث الرفع عن وجوب المقيد. ولا مورد لتوهم ان حديث الرفع يرفع الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن ، فيجب الإتيان بالباقي. لان الجزئية أو الشرطية أو المانعية منتزعة عن الأمر الضمني المتعلق بالجزء أو التقيد بالشرط أو عدم المانع ، ولا يعقل رفعها بدون رفع منشإ انتزاعها. والامر الضمنى لا ثبوت له استقلالا ، وإنما هو ثابت بتبع ثبوت الأمر بالكل ، فلا بد من رفع الأمر بالمقيد ، ومعه لا دليل على ثبوت الأمر بالفاقد ، وتمام الكلام محرر في ذيل حديث الرفع ، وفي التنبيه السابق.

واما ما في الكفاية (١) في مقام الجواب عن هذا التوهم بقوله ، بداهة انه ورد في مقام الامتنان فيختص بما يوجب نفي التكليف لا اثباته انتهى.

فيرد عليه : انه إذا علم بتعلق الوجوب بالطبيعة الجامعة حتى في هذه الحال ، فإنه لو كان التكليف بنحو صرف الوجود وكان التعذر في بعض المصاديق : كما لو تعذر الصلاة مع القراءة في مقدار من الوقت ، تكون نتيجة جريان الحديث التوسعة والاكتفاء بما يؤتى به في حال التعذر ، وعدم لزوم الاعادة أو القضاء. ووجوب الباقي إنما يكون للعلم الإجمالي بوجوبه.

ولو كان التكليف انحلاليا ، فبما انه إذا تعذر بعض اجزائه لا علمَ بالتكليف ، فتجري البراءة عن اصل التكليف ولا تجري البراءة عن الجزئية

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٦٠.

والشرطية. نعم لو لم يعلم بتعلق الوجوب بالطبيعة الجامعة حتى في هذه الحالة فمقتضى أصالة البراءة عن بقية الأجزاء والشرائط عدم وجوب شيء عليه.

ما يقتضيه الأصل الثانوي

واما المقام الثاني : فقد استدلوا لأن الأصل الثانوي يقتضي لزوم الإتيان ببقية الأجزاء والشرائط غير القيد المتعذر بوجوه :

الوجه الاول : الاستصحاب ، وقبل بيان تقريب الاستصحاب لا بد وان يعلم ، ان المحقق الخراساني (١) خصه بصورة طرو التعذر والشيخ الأعظم (٢) والمحقق النائيني (٣) عمّمَاه.

وافاد المحقق النائيني (ره) في وجه التعميم (٤) : ان جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية التي يكون أعمالها وظيفة المجتهد لا يتوقف على تنجز التكليف خارجا ، بل يكفي فرض فعلية التكليف بتقدير وجود الموضوع كما في بقاء نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير. وحيث ان فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز في اثناء الوقت ، فيجري الاستصحاب في المقام لفرض دخول الوقت مع كون المكلف واجدا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٦.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٢.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٣١١.

(٤) فوائد الأصول ج ٤ ص ٣١١ / ذكره أيضا السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٧٤.

لشرائط التكليف.

وفيه : ان المستصحب إذا لم يكن حكما جزئيا ثابتا لموضوع شخصي ، بل كان من الأحكام الكلية إنما يكون على قسمين :

القسم الأول : هو الحكم في مقام الجعل والتشريع الذي لا رافع له إلا النسخ.

القسم الثاني : الحكم الفعلي ، ولا يشك في بقائه إلا عند الشك في سعته وضيقه لأجل الشك في حده كالمثال المفروض.

والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما في عدم الاحتياج في جريان الاستصحاب ، إلى وجود الموضوع خارجا : ان الشك في القسم الأول إنما يكون شكا في بقائه في عمود الزمان ، على ما للموضوع من الحد. وفي القسم الثاني يكون شكا في مقدار المجعول وحده. ومنشا الشك في الأول احتمال النسخ ، وفي الثاني تبدل خصوصية في الموضوع كزوال التغير في المثال.

وفي المقام لو كان العجز من الأول لا يقين بالحكم حتى يستصحب ، فإن اليقين بثبوت الحكم في مقام الجعل موجود ، إلا انه لا شك في بقائه لعدم احتمال النسخ. والحكم في مقام الفعلية غير متيقن ، حتى لو فرض مكلف تعذر عليه الإتيان بتمام المركب من أول الأمر ، وليس من قبيل الماء المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه ، إذ ذلك الماء قبل التغير تكون نجاسته فعلية ، بخلاف المقام.

تقريب التمسك بالاستصحاب

واما تقريب الاستصحاب فيكون من وجوه :

الأول : ان يستصحب الوجوب الجامع بين الغيري والنفسي الثابت للأجزاء غير المتعذر قبل التعذر. لان الوجوب الغيري كان متعلقا بها ويشك في ارتفاع الوجوب فيستصحب.

وفيه. اولا : ما تقدم من ان الأجزاء لا تكون متصفة بالوجوب الغيري.

وثانيا : انه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي كما لا يخفى ولا نقول بجريانه.

الثاني : ان يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للمركب فيما إذا لم يكن المتعذر من الأجزاء المقومة. بأن يقال : ان المركب الفاقد للجزء المتعذر الذي هو متحد مع الواجد له عرفا ، كان واجبا قبل التعذر فيستصحب بقاؤه.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن هذا متوقف على احراز كون المتعذر غير مقوم للواجب ، وتشخيص ذلك في العناوين المأخوذة في الموضوع كالعدالة والاجتهاد والتغير ، وان كان واضحا بقرينة مناسبة الحكم والموضوع ، ولكن في المخترعات الشرعية لا سبيل لنا إلى معرفة المقوم ، وتمييزه عن غيره.

وعليه فلا يجري الاستصحاب ، إذ غاية ما هناك الشك في كونه مقوما ، أو

__________________

(١) ذكره في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٧٤.

غير مقوم ، فلا يجري الاستصحاب لعدم احراز اتحاد القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها.

وفيه : انه لم يرد دليل من الشارع على كون جزء أو شرط مقوما للمركب ، فالظاهر ايكال ذلك إلى العرف ، فإذا كانت نسبة المتعذر إلى غيره كنسبة الواحد إلى العشرة ، مثلا كان الاتحاد متحققا فيجري الاستصحاب.

والأولى في الإيراد عليه : ان يقال ان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، إنما يجري إذا لم يكن الشك في بقائه من جهة الشك في ضيق المجعول الشرعي وسعته ، وإلا فلا يجري كما يأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب ، والمقام من قبيل الثاني. مع انه محكوم لاستصحاب بقاء جزئية المتعذر المستلزم لسقوط الأمر بالمركب فتأمل.

الثالث : ان يستصحب الوجوب النفسي المردد بين تعلقه سابقا بالمركب على ان يكون المفقود جزءا له مطلقا ، فيسقط الوجوب بتعذره. وبين تعلقه بالمركب على ان يكون الجزء جزءا اختياريا يبقي التكليف بعد تعذره ، والأصل بقائه ، فيثبت به تعلقه بالمركب على الوجه الثاني.

وفيه : انه من الأصل المثبت الذي لا نقول به نظير استصحاب وجود الكر لاثبات كرية الباقي.

الرابع : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو : ان يستصحب الوجوب الضمني المتعلق بكل واحد من الأجزاء قبل التعذر ، إذ بتعلق الأمر بالمركب قد انبسط

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٥٦٠.

الأمر على الأجزاء بالاسر ، وبعد ارتفاع تعلقه وانبساطه عن الجزء المتعذر يشك في ارتفاع انبساطه على سائر الأجزاء ، فيستصحب ، بلا مسامحة في الموضوع ، ولا في المستصحب ولا حاجة إلى اخذ الجامع.

وفيه : مضافا إلى ما اوردناه على الوجه الثاني ، ان ثبوت الوجوب الضمني وسقوطه تابعان لثبوت الأمر بالكل وسقوطه.

وعليه فإذا فرض تعذر الجزء فلا محاله يسقط امره ، ولازمه سقوط الأمر بالكل. فتلك الوجوبات الضمنية الثابتة في حال التمكن قد سقطت قطعا ، فلو كانت ثابتة فهي وجوبات ضمنية أخر بتبع الأمر بما عدى المتعذر. فتلك الأفراد منها زالت قطعا ، والأفراد الأخر مشكوك الحدوث واستصحاب الجامع من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

بيان مدرك قاعدة الميسور

الوجه الثاني : مما استدلوا به على وجوب بقية الأجزاء ، غير القيد المتعذر ، قاعدة الميسور ، وقد استدل بها جماعة في موارد مختلفة.

وعمدة المدرك لها الروايات.

الرواية الاولى : النبوي المعروف ، (إذا امرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ،) (١) الذي روى عن امير المؤمنين (ع) وأبي أمامة الباهلى ، وأبي

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٤ ص ١٠٢.

هريرة في الحج عند سؤال بعض الصحابة عن وجوبه في كل عام واعراضه عن الجواب حتى كرر السائل سؤاله مرتين أو ثلاث فقال (ص) ويحك وما يؤمنك ان أقول : نعم والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم إلى أن قال فإذا امرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم) وروى في عوائد النراقي (١) والجواهر (٢) عن عوالي اللئالي (٣) مستقلا ، والخبر وان كان ضعيف السند ، لان ما في المجمع وعوالي اللئالي مرسل ، وما رواه العامة راويه أبو هريرة ، إلا ان اشتهار التمسك به بين الاصحاب يوجب جبر ضعفه. هكذا قيل. وستعرف ما فيه.

وتقريب الاستدلال به ، ان لفظة ، من اما تبعيضية ، أو بيانية ، أو بمعنى الباء ، واما سائر معانيها ، من الابتداء ، والتعليل فلا تحتمل ارادتها في المقام ، وحيث لا يمكن كونها بيانية ، لان مدخولها الضمير ، وهو لا يمكن ان يكون بيانا لشيء لكونه مبهما. وكونها بمعنى الباء ، خلاف الظاهر ، فيتعين ان تكون تبعيضية. كما ان كلمة ، (ما) في قوله (ما استطعتم) ظاهرة في كونها موصولة ، لا مصدرية زمانية فتكون مفعولا لقوله فأتوا. فيكون المراد من الجملة ، إذا امرتكم بمركب ذى أجزاء وابعاض فاتوا ما تستطيعونه منه ، لا فأتوا به مدة استطاعتكم.

وأورد على الاستدلال به المحقق الخراساني (٤) بأن ظهور من في التبعيض لا

__________________

(١) عوائد الايام ص ٨٩.

(٢) جواهر الكلام ج ٢ ص ١٦.

(٣) عوالي اللئالي ج ٢ ص ٢٣٥. وج ٤ ص ٥٨.

(٤) كفاية الأصول ص ٣٧٠.

ينكر ، إلا ان كونه بحسب الأجزاء غير واضح لاحتمال ان يكون بحسب الأفراد. بل لورودها في مقام الجواب عن السؤال عن تكرار الحج بعد امره به لا محيص عن كونه بهذا اللحاظ.

وفيه : مضافا إلى ما ستعرف ، انه يمكن ان يكون المراد بالشىء أعم من الكل والكلي ، ومجرد كون المورد من قبيل الثاني لا يوجب تخصيص الجواب به ، إذ الميزان في استفادة عموم الحكم ، إنما هو بعموم اللفظ لا بخصوصية المورد. فمع عموم الجواب في نفسه لاوجه للتخصيص من جهة المورد.

وما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) ـ في مقام دفع هذا الوجه بعدم الجامع بينهما من جهة ان لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء ، ولا يصح استعمال كلمة من ، في الأعم ، من الأجزاء ، والأفراد ، وان صح استعمال الشيء فيه. ـ

غير تام : فإنه لو كان المراد بالشىء الكلي ، كانت كلمة من تبعيضية أيضاً ، ولا ملزم لحملها على غير ذلك. على هذا فإن كل فرد بعض من الطبيعة من جهة تبعض الحصص الموجودة منها في ضمن أفرادها. وبالجملة : كما ان الجزء بعض المركب ، كذلك الفرد بعض الطبيعة.

وما أفاده المحقق العراقي (ره) (٢) ـ من ان القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهو كون المورد الكلي ذى أفراد ، مانع عن التمسك بالإطلاق. ـ

يدفعه : ما حققناه في محله من انه غير مانع عن التمسك بالإطلاق.

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٥٤.

(٢) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤٥٦.

ولكن يرد على الاستدلال به وجوه :

الايراد الاول : انه مروي في سنن النسائي (١) بنحو آخر ، وهو (فإذا امرتكم بالشىء فخذوا به ما استطعتم).

فيكون مفاد الحديث لزوم الإتيان بالمأمور به عند القدرة والاستطاعة ، فحيث انه مروى بطريقين والخاصة كما تمسكوا به ونقلوه بالطريق الأول تمسكوا به ونقلوه بالطريق الثاني ، فهو مجمل لا يصح الاستدلال به. هذا على فرض تسليم تلقى الاصحاب اياه بالقبول ، وهو أيضاً محل نظر.

الايراد الثاني : انه كما ان حمل كلمة من على التبعيض ، وكون ما موصولة ، وإرادة المركب ذى الأجزاء من لفظ الشيء لا ينطبق على مورد الرواية : فإن السؤال فيه عن تكرار الحج وعدمه ، ولزوم الإتيان بالمقدار الميسور من أجزاء المركب المأمور به ، اجنبي عن ذلك.

كذلك حمل كلمة من على التبعيض ، وإرادة الطبيعي ذى أفراد من ذلك اللفظ لا ينطبق على مورد الرواية ، فإنها واردة في مقام بيان عدم وجوب الحج الا مرة واحدة ، وفي هذا المقام لا يناسب مثل هذه الجملة ، مع انها ظاهرة في اعطاء ضابطة كلية غير مختصة بباب الحج فلا يمكن حمل الرواية على هذا المعنى.

فعلى هذا تكون كلمة (من) اما زائدة ، أو بمعنى الباء. ويكون الضمير مفعولا ل فاتوا ، ولفظة (ما) زمانية ، فيكون المعنى : إذا امرتكم بشيء فاتوه عند

__________________

(١) ورد إذا أمرتكم بشيء. السنن الكبرى ج ٢ ص ٣١٩. وفي مسند أحمد" إذا أمرتكم بالشيء .. ج ٢ ص ٢٥٨. وفي بقية المصادر باختلاف في العبارة.

القدرة والاستطاعة.

وهذا المعنى وان كان خلاف الظاهر ، إلا انه لا مناص عن الالتزام به ، بعد عدم انطباق غيره على مورد الرواية ، وعلى هذا الوجه تدل الرواية على اشتراط التكليف بالقدرة فتكون اجنبية عن المقام.

الايراد الثالث : انه لو سلم كون كلمة (من) للتبعيض واغمض عما ذكرناه ، إلا ان امر الرواية عليه يدور : بين ان تحمل على موارد تعذر المركب مع التمكن من بعض اجزائه ، فيكون الأمر حينئذ مولويا ويستفاد منه الوجوب بعد تعذر المركب. وبين ان تحمل على موارد تعذر بعض أفراد الواجب ، مع التمكن من الآخر ، فيكون الأمر ارشاديا إلى بقاء وجوب ذلك الفرد.

وحيث لا جامع بين الامرين فلا يمكن ان يكون المراد بالشىء الأعم من الكلي والكل ، ولا قرينة على تعين احد الاحتمالين ، لو لم يكن الصدر قرينة على الثاني ، فلا محالة تكون الرواية مجملة لا يصح الاستدلال بها.

الكلام حول حديث الميسور لا يسقط بالمعسور

الرواية الثانية : ما رواه في كتاب عوالي اللئالي (١) على ما روى عنه صاحب العوائد (٢) عن امير المؤمنين (ع) (الميسور لا يسقط بالمعسور).

__________________

(١) عوالي اللئالي ج ١ ص ٢٠. وج ٤ ص ٥٨.

(٢) عوائد الأيام ص ٨٩.

ومحصل القول في هذا العلوي : انه قد استدل به لوجوب بقية الأجزاء إذا تعذر بعضها ، بتقريب ان (لا يسقط) ليس نهيا ابتداء ، ولا نفيا أريد به الإنشاء ، لان متعلق النهي كان مولويا أو ارشاديا ، لا بد وان يكون مقدورا وفعل المكلف ، ومعلوم ان سقوط الواجب عن ذمة المكلف كثبوته يكون راجعا إلى الشارع ، ولا معنى لنهى المكلف عنه ، بل لا مناص عن حمل لا يسقط على كونه جملة خبرية محضة ، أريد بها الأخبار عن عدم سقوط الحكم ، وحيث ان الحكم بعدم السقوط والاخبار عنه ، إنما يصح فيما يكون موردا للسقوط أو لتوهمه وانه لا يكون وجه لسقوط الحكم عن فرد ، ولاموهم له بسبب سقوطه عن فرد آخر كي يحكم بعدم سقوطه ، ومجرد الجمع في العبارة لا يوجب ذلك ، فلا مناص عن ارادة الميسور من الأجزاء ، مع انه لو سلم انه يصح الحكم بعدم السقوط في الميسور من الأفراد لاوجه لتخصيص الكلام به ، بل يكون عاما شاملا له وللميسور من الأجزاء وما يمكن ان يورد على هذا التقريب امران.

الأمر الأول : ان بقية أجزاء المركب قبل تعذر المتعذر كانت واجبة ، بوجوبات ضمنية ، وهي قد سقطت بسقوط الأمر بالمركب فلو ثبت بعده ، وجوب ، فهو ثبوت جديد ، وجعل حادث ، ولا معنى للأخبار عن حدوثه بعدم سقوطه إلا بالعناية والمسامحة.

وهذا بخلاف تعذر بعض الأفراد فإن غير المتعذر يكون وجوبه الثابت له قبل التعذر باقيا على ما كان عليه ، فلفظ السقوط ، قرينة على اختصاص الخبر بموارد تعذر بعض الأفراد ، ولا يشمل تعذر بعض أجزاء المركب : لان شموله له يحتاج إلى مسامحة لا يصار إليها إلا بالقرينة.

وافاد الشيخ الأعظم (ره) (١) في دفع هذا الإيراد وجهين :

أحدهما : ان عدم السقوط محمول على نفس الميسور لا على حكمه ، ومعنى عدم سقوطه ، عدم سقوطه التشريعي فإنه المناسب لاخبار الشارع.

فالمراد ان الميسور باق على موضوعيته لما كان له من الحكم ، وفي الميسور من الأجزاء وان كان حكمه السابق قد سقط حقيقة ، ولو كان حكم ثابتا له ، فهو حكم آخر إلا ان موضوعيته للحكم مستمرة غير ساقطة ، فإن سقوط حكمه وقيام حكم آخر مقامه يوجب بقائه على صفة الموضوعية.

وعلى ذلك فحيث ان هذا الكلام إنما يقال في مورد ارتباط وجوب الشيء بالمتمكن من ذلك الشيء الآخر كما في الأمر بالكل ، أو توهم ارتباطيته كما في الأمر بما له عموم أفرادي فيعم الخبر كليهما معا.

وفيه : ان تشخص الحكم إنما هو بتشخص موضوعه ، وحيثية موضوعيته لحكم ، غير حيثية موضوعيته لحكم آخر فمع عدم العناية ، لا يصح إطلاق عدم السقوط ، وهي تتوقف على دليل ، ومع عدم القرينة على هذه العناية لا مورد للالتزام به.

وبالجملة حيث ان ظاهر الخبر هو عدم السقوط الحقيقي لا العنائي ، إذ نظر العرف متبع في تعيين المفاهيم ، لا في تطبيقها على المصاديق ، ومن المعلوم ان المسامحة في المقام إنما هو في التطبيق فلا محالة يختص الخبر بما له أفراد لا ما له أجزاء.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٩٨.

ثانيهما : ان عدم السقوط ان حمل على عدم سقوط الحكم وفي الميسور من الأجزاء يكون الحكم الثابت غير ما كان ثابتا سابقا ، إلا ان العرف لعدم مداقتهم يعبرون عن وجوب باقى الأجزاء بعد تعذر غيرها من الأجزاء ببقاء وجوبها وعن عدم وجوبها بارتفاعه ، فيصدق على وجوب بقية الأجزاء عدم سقوط وجوبها فلا مانع عن شمول الخبر لكلا الموردين.

ومما ذكرناه في الوجه السابق يظهر الإيراد على هذا الوجه ،

فالمتحصل تمامية هذا الإيراد.

الأمر الثاني : ان المراد من عدم السقوط وثبوت الأمر ان كان خصوص الاستحباب ، أو مطلق الرجحان ، فهو لا يدل على الوجوب. وان أريد به الوجوب لزم خروج الأحكام الاستحبابية عن عموم القاعدة.

وفيه : ان الوجوب والاستحباب ليسا متباينين بل الوجوب إنما هو بحكم العقل وخارج عن المستعمل فيه والصيغة مستعملة مطلقا في معنى واحد ، والفرق بينهما إنما هو في ورود الترخيص في ترك المأمور به وعدمه. وعليه فالخبر يشمل المستحبات وثبوت الترخيص بترك المقدور من اجزائها ، لا ينافي حكم العقل بلزوم الإتيان بالأجزاء المقدورة من الواجب بعد عدم ثبوت الترخيص فيه ، فالعمدة هو الإيراد الأول.

أضف إليه ان الخبر لم يثبت انجباره بعمل الاصحاب لأنه لم يوجد في كتب من تقدم على صاحب عوالي اللئالي.

الكلام حول حديث ما لا يدرك

الرواية الثالثة : المرسل المحكي عن عوالي اللئالي عن الامام على امير المؤمنين (ما لا يدرك كله لا يترك كله) (١).

وتقريب الاستدلال به ان لفظ (كل) في الموردين لا يمكن ان يراد منه العموم الاستغراقي ولا المجموعي لعدم صحة الحكم بوجوب اتيان ما لا يتمكن المكلف من مجموعه أو جميعه ، فلا بد وان يراد منه في الأول المجموعي ، وفي الثاني الاستغراقي ، فيكون المراد النهي عن ترك الجميع عند تعذر المجموع ، وهذا لو سلم شموله للكلى ذى أفراد ، لا شبهة في شموله للكل ذى أجزاء ، إذ العام إذا لوحظ بنحو العموم المجموعي لا يفرق فيه بين كون اجزائه متفقة الحقيقة ، أو مختلفتها فيدل المرسل على لزوم الإتيان بما هو المقدور من أجزاء وقيود المركب الذي له أجزاء تعذر بعضها ، وما هو الميسور من أفراد الواجب ذى أفراد تعذر بعضها.

وما في الكفاية (٢) قال : لا دلالة له إلا على رجحان الإتيان بباقي الفعل المأمور به واجبا كان أو مستحبا عند تعذر بعض اجزائه لظهور الموصول فيما يعمهما. وليس ظهور لا يترك في الوجوب لو سلم موجبا لتخصيصه بالواجب لو لم يكن ظهوره في الأعم قرينة على ارادة خصوص الكراهة أو مطلق

__________________

(١) عوالي اللئالي ج ٤ ص ٥٨.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٧٢.

المرجوحية. وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا ، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام" انتهى.

يرد عليه اولا : انه لو ثبت رجحان الإتيان بالميسور من أجزاء الواجب ثبت وجوبه ، لعدم القول بالفصل.

وثانيا : ما تقدم في محله من ان الوجوب ، والحرمة ليسا داخلين تحت دائرة المستعمل فيه ، والهيئة مطلقا تستعمل في معنى واحد ، ولو دل دليل آخر على الترخيص في الترك أو الفعل ، يحكم بالاستحباب أو الكراهة ، وإلا فالعقل يحكم بلزوم الامتثال.

وعليه فالموصول وان كان شاملا للمستحبات ، إلا ان ثبوت الترخيص في ترك الميسور من أجزاء المستحب ، لا ينافي حكم العقل بلزوم الإتيان بالميسور من أجزاء الواجب مع عدم ثبوت الترخيص في تركها.

وثالثا : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) من ان المراد بالموصول ليس هو العموم قطعا لشموله للافعال المباحة بل المحرمة ، فكما يتعين حمله على الأفعال الراجحة بقرينة ، قوله لا (يترك) كذلك يتعين حمله على الواجبات بنفس هذه القرينة الظاهرة في الوجوب.

والحق في الإيراد على الاستدلال بهذا العلوي ، ان يقال : انه مضافا إلى ضعف سنده لما ذكرناه في سابقه : انه لا يمكن ارادة موارد تعذر بعض أجزاء المركب ، وموارد تعذر بعض الأفراد جميعا منه : لان الحكم في الأول مولوي وفي

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٩٩.

الثاني ارشادي ، وحيث لا جامع بينهما ، فلا تكون الرواية شاملة لكلا الموردين ، وحيث لا قرينة على تعيين أحدهما ، فتكون مجملة لا يصح الاستدلال بها.

وظهور الصيغة في المولوية لا يعين الاحتمال الأول ، لان ظهورها ليس وضعيا ليكون قرينة على تعيين المتعلق ، وإنما هو ظهور مقامي ناش من التصدي للجعل ، فلا يصلح قرينة لتعيين المتعلق.

نعم لو علم المتعلق وشك في كونه مولويا تكون ظاهرة في المولوية ، بخلاف ما لو دار المتعلق بين ما لا يصح تعلق الحكم به إلا ارشاديا ، وبين ما لا يصح تعلقه به إلا مولويا فإنه لا ظهور له في تعيين المتعلق.

فتحصل ان شيئا من الروايات الثلاث لا دلالة له ، على لزوم الإتيان بالميسور من أجزاء الواجب عند تعذر بعضها هذا في غير الصلاة.

واما فيها : فمقتضى الإجماع المحقق وقوله في مرسل يونس فإنها لا تدع الصلاة بحال (١) لزوم الإتيان بالميسور من الأجزاء والشرائط.

ثم انه قد أورد على الاستدلال بالقاعدة لوجوب ما عدا القيد المتعذر وانه يجب الباقي عند تعذر بعض الأجزاء أو الشرائط بايرادين.

الايراد الاول : ما عن المحقق النائيني (٢) وهو انه قد يقع الإشكال في تشخيص الميسور في الموضوعات الشرعية ، لان تشخيص الركن عن غيره

__________________

(١) ورد في الحديث (ولا تدع الصلاة على حال) وسائل الشيعة ج ٢ ص ٣٧٣ ح ٢٣٩٤.

(٢) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٥٨.

والميسور عن المباين ، في غاية الإشكال. مثلا : كون ثلاث ركعات ميسور الاربع عند تعذر الاربع مما لا طريق إلى احرازه ، إذ من المحتمل ان تكون خصوصية الاربع ركنا لصلاة الظهر ومقومة لحقيقتها. ولذا قيل ان التمسك بقاعدة الميسور في العبادات يتوقف على عمل الاصحاب ، والوجه في اعتباره تشخيص الركن في العبادة ، ليكون الباقي ميسور المتعذر.

وفيه : انه إذا علق الشارع الحكم بعدم السقوط على الميسور الواقعي ، ولم يعين طريقا إليه كان نظر العرف طريقا إليه ، وإلا لزم نقض الغرض ، فنظر العرف حجة باطلاق المقام وعدم نصب الطريق ولا ريب انه بنظر العرف : الثلاث ميسور الاربع ، وليست خصوصية الاربع ركنا بنظرهم.

وبذلك يظهر اندفاع ما أورد على ما ذكره المحقق الخراساني بقوله : إذا لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الإطلاق (١) الخ.

من انه إذا كان صدق الميسور مشكوكا فيه فلا معنى للتمسك بالإطلاق.

وجه الاندفاع ان مراده من الإطلاق ، الإطلاق المقامي لا الكلامي ، وتقريبه ما عرفت.

الايراد الثاني : انه لكثرة ورود التخصيص عليها حصل وهن في عمومها بنحو يحتاج في العمل بها إلى عمل الاصحاب ، فبدونه لا يعمل بها.

واجيب : عنه بأن ذلك يتم لو كان الخارج تخصيصا في الحكم. واما إذا كان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٧٢.

تخطئة للعرف في عدم كون ما يرونه ميسورا ، ميسورا فلا يتم ذلك. إذ مقتضى الإطلاق المقامي كما مر : هو ايكال الشارع فهم الميسور إلى نظر العرف في جعل ما يرونه ميسورا لشيء صورة ، طريقا إلى الميسور الواقعي في مقام الوفاء بالغرض. ولازم ذلك هو الاخذ بما يراه العرف كونه ميسورا لشيء ، إلا في الموارد التي ثبت الردع فيها ببيان الشارع.

وفيه : ان الموارد الخارجة ليست بعنوان التخطئة المشار إليها ، لعدم كون المعيار الميسور في مقام وفاء الغرض ، لعدم الدليل على ذلك ، بل لعدم فهم العرف الاغراض ، لا معنى لمثل ذلك. فالظاهر من الدليل هو الميسور بحسب الصورة : فتأمل. فالاظهر انه إشكال لا ذاب عنه.

دوران الأمر بين الجزئية والمانعية

الأمر الرابع : إذا تردد الأمر بين جزئية شيء أو شرطتيه ، وبين مانعيته أو قاطعيته ، بأن علم اجمالا اعتبار وجود شيء في المأمور به أو عدمه.

فللمسألة صور ثلاث.

الصورة الأولى : ما إذا كان الواجب واحدا شخصيا ولم يكن له أفراد طولية ولا عرضية ، كما في ما إذا ضاق الوقت ولم يتمكن المكلف إلا من صلاة واحدة ، ودار الأمر بين الصلاة عاريا أو في الثوب المتنجس.

قال الأستاذ (١) : ان الحكم فيه هو التخيير بلا شبهة ولا إشكال ، إذ الموافقة القطعية متعذرة ، والمخالفة القطعية بترك الصلاة غير جائزة يقينا ، فلم يبق إلا الموافقة الاحتمالية الحاصلة بكل واحد من الامرين.

وفيه : انه إذا لم يكن القضاء واجبا ، تم ما أفيد ، واما مع وجوبه فهو يتمكن من الموافقة القطعية بإتيان صلاة في الوقت بإحدى الكيفيتين وصلاة أخرى خارج الوقت بكيفية أخرى ، وعليه فمقتضى العلم الإجمالي ذلك.

الصورة الثانية : ما إذا كانت الوقائع متعددة ، وان لم يكن للواجب أفراد طولية ولا عرضية كما إذا دار الأمر بين كون شيء شرطا في الصوم أو مانعا عنه.

قال الأستاذ (٢) : حيث ان المكلف به متعدد فالحكم فيه هو التخيير الابتدائي ، فله ان يختار الفعل في جميع الايام أو الترك كذلك.

أقول : ما أفاده من عدم استمرارية التخيير متين ، لانها مستلزمة للمخالفة القطعية وهي غير جائزة ، وكذا ما أفاده من التخيير في كل يوم متين لعدم تمكنه من الموافقة القطعية. ولكن بما انه يجب قضاء الصوم فيحصل له علم اجمالي آخر ، وهو وجوب الصوم بأحد النحوين ، أو قضائه بالنحو الآخر ، فيجب ذلك تحصيلا للموافقة القطعية لهذا العلم الإجمالي.

الصورة الثالثة : ما إذا كان الواجب واحدا ذا أفراد طولية بحيث يكون

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٨٦.

(٢) في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٨٦.

المكلف متمكنا من الاحتياط وتحصيل العلم بالموافقة بالإتيان بالواجب مع هذا الشيء مرة وبدونه أخرى ، كما في الجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة المردد بين كونه لازما أو مانعا ، وكما لو شك في السجدة وهو في حال النهوض إلى القيام ، فإنه يدور الأمر بين كون النهوض من أجزاء الصلاة ، فالشك في السجدة شك فيها بعد مضى المحل فلا يجوز الإتيان بالسجدة ويكون موجبا لبطلان الصلاة ، وبين ان لا يكون من الأجزاء ، فالشك فيها شك في المحل فلا بد من الإتيان بالسجدة.

فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير؟ أو الاحتياط وتكرار العمل؟

فعن الشيخ الأعظم اختيار التخيير قال : والتحقيق انه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشك في الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة للواقع إذا لم تكن عملية فالاقوى التخيير هنا (١). انتهى.

وقد مر في ذيل مبحث دوران الأمر بين المحذورين هذه المسألة مفصلا ، وعرفت ان الاظهر هو تعين الجمع بتكرار العبادة فراجع ما حققناه ولا نعيد.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٠٣.

خاتمة

فيما يعتبر في العمل بالاحتياط

في بيان ما يعتبر في العمل بالاحتياط ، والاخذ بالبراءة.

والبحث عن ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول : فيما يعتبر في العمل بالاحتياط ، والكلام فيه في مواضع :

الموضع الاول : انه لا إشكال ولا كلام في ان حسن الاحتياط شرعا وعقلا ، مشروط بأن لا يكون مخلا بالنظام ، وإلا فلا يحسن ، لان ما يخل بالنظام قبيح عقلا ، بل موجب للاخلال بالغرض شرعا ، ومعه لا حسن فيه لا عقلا ولا شرعا.

الموضع الثاني : انه لا فرق في حسن الاحتياط بين ما لو كان هناك امارة على عدم الأمر ، وما لم يكن ، كما ذكرناه في آخر مسألة البراءة قبل مسألة دوران الأمر بين المحذورين.

الموضع الثالث : انه قد افاد المحقق النائيني (ره) (١) انه : يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجة شرعية ان يعمل المكلف اولا بمؤدى الحجة ثم يعقبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجة احرازا للواقع. وليس للمكلف

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٦٥.

العكس.

واستدل له بامرين :

أحدهما : ان معنى اعتبار الطريق ، الغاء احتمال مخالفة الواقع عملا ، وعدم الاعتناء به. والعمل اولا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ، ينافي الغاء احتمال الخلاف فإن ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا بخلاف ما لو قدم اولا ما يقتضيه الحجة : فإن العقل يستقل حينئذ بحسن الاحتياط لرعاية اصابة الواقع.

وفيه : ان مقتضى حجية الإمارة وجوب العمل على طبقها ، ولا يكون مقتضاها عدم جواز العمل بما يخالف مفادها احرازا للواقع ، وإلا لزم عدم جواز العمل بما بخالف مفادها حتى بعد العمل بما تقتضيه الإمارة. وعليه : فكما ان العقل يستقل بحسن الاحتياط احرازا للواقع بعد العمل بمفادها كذلك يستقل بحسنه قبله.

ثانيهما : انه يعتبر في حسن الاطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الاطاعة التفصيلية ، وبعد قيام الطريق المعتبر على شيء ، كوجوب صلاة الجمعة ، يكون المكلف متمكنا من الطاعة والامتثال الفصيلي بمؤدى الطريق فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي بإتيان مخالفه وهو صلاة الظهر في المثال.

وفيه : مضافا إلى عدم صحة المبنى كما مر ، ان اعتبار الامتثال التفصيلي إنما هو في صورة التمكن منه في العمل الذي يأتي به بداعي الاحتمال. واما العمل الذي لا يمكن فيه ذلك فلم يستشكل أحد حتى هو في حسنه ، وفي المقام اتيان العمل بما يخالف مؤدى الإمارة ، لا يمكن فيه الاطاعة التفصيلية سواء أتى

به بعد العمل بمفادها ، أو قبله ، وما يمكن فيه الامتثال التفصيلي هو العمل بمفاد الإمارة سواء أتى به قبل المخالف أو بعده. وعلى الجملة ما يمكن فيه الاطاعة التفصيلية ، غير ما لا يمكن فيه تلك ، من غير فرق بين الصورتين ، وامكان الامتثال التفصيلي بالعمل بمؤدى الإمارة ، لا يكون شرطا في الاحتياط بالعمل بما يخالف مؤداها.

الموضع الرابع : هل يعتبر في حسن الاحتياط في العبادات ، عدم تمكن

المكلف من الامتثال التفصيلي وازالة الشبهة؟ كما عن جماعة (١).

أم لا يعتبر ذلك كما هو الحق؟

أم يفصل بين كون الاحتياط مستلزما للتكرار فيعتبر (٢) وبين عدمه فلا يعتبر.

أم يفصل بين موارد العلم الإجمالي بثبوت التكليف وعدمه وجوه واقوال (٣)

اقواها الثاني : وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في مبحث القطع. واجماله : انه لا يعتبر في صحة العبادات سوى الإتيان بجميع ما امر به المولى مضافا إليه ، وبعبارة أخرى : عن نية صالحة ، وعدم كون الداعي غير الداعي الالهي.

واما نية الوجه والتمييز وغيرهما مما ذكروه وجها لعدم جواز الاحتياط فلا

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٦. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٨٣.

(٢) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٩٤.

(٣) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٦٧. وج ٣ ص ٦٦.

دليل على اعتباره وتمام الكلام في محله.

فيما يعتبر في جريان البراءة

المقام الثاني : فيما يعتبر في جريان البراءة والاخذ بها. وقد طفحت كلماتهم (١) بأنه يعتبر في جريانها الفحص ، وانه لا يجوز العمل بها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها. واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي البحث في مواضع.

الموضع الأول : في اعتبار الفحص وعدمه.

الموضع الثاني : في مقدار الفحص المعتبر.

الموضع الثالث : في استحقاق التارك للفحص للعقاب وعدمه.

الموضع الرابع : في صحة العمل المأتي به قبل الفحص ، وفساده.

فالكلام فيه في موردين : الاول : في البراءة العقلية. الثاني : في البراءة الشرعية.

اما المورد الأول : فلا إشكال في اعتبار الفحص في جريان البراءة العقلية. لان العقل إنما يحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف إذا استندت إلى المولى بأن لم يعمل بما هو وظيفته من البيان ، وجعله في معرض الوصول إلى المكلف.

واما إذا عمل المولى بما هو وظيفته ، وكان الحكم في معرض الوصول ولم

__________________

(١) المحقق العراقي في مقالات الأصول ج ٢ ص ٢٨٧.

يتفحص العبد عنه ، ولم يعمل بما هو وظيفته ، فلا يكون العقاب حينئذ قبيحا لعدم كونه عقابا بلا بيان.

وبالجملة المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوع هذا الحكم العقلي ليس هو ايصال التكليف إلى العبد قهرا ، بل المراد بيانه على الوجه المتعارف وجعله بمرأى من العبد ومسمع ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به.

فلو كان الحكم مبيّنا من قبل المولى ولم يتفحص عنه العبد ، صح العقاب على مخالفته فلا يكون عقابه بلا بيان.

واما المورد الثاني : فلا إشكال أيضاً في عدم اعتبار الفحص في جريان البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية : لاطلاق ادلتها ، وعدم ما يوجب تقييده ، واما في الشبهات الحكمية فقد استدل للزوم الفحص بوجوه.

الوجه الأول : انصراف الاطلاقات إلى الشك المستقر الذي لا يكون في معرض الزوال بالفحص عن الأدلة فلا تشمل الشبهات قبل الفحص.

وفيه : ان هذه دعوى بلا بينة ولا برهان ، كيف وقد تمسك الاصحاب بها في الشبهات الموضوعية قبل الفحص ، وهذه آية عدم الانصراف. فمقتضى الاطلاقات هو عدم لزوم الفحص. وبه يظهر ان عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية إنما يكون على القاعدة ، نعم ورد الدليل الخاص على لزومه في بعض الموارد كمسألة النصاب في الزكاة وغيرها.

الوجه الثاني : الإجماع.

وفيه : انه لمعلومية مدرك المجمعين لا يكون كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

الوجه الثالث : العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الموارد المشتبهة في مجموع ما بأيدينا من الأخبار مع كونها على نحو لو تفحصنا عنها لظفرنا بها ، ومقتضى ذلك عدم جريان البراءة في شيء من المسائل قبل الفحص.

وأورد عليه بايرادين :

الايراد الاول : انه أعم من المدعى (١) إذ المدعى لزوم الفحص في خصوص ما بأيدينا من الأخبار ، والمعلوم بالإجمال أعم من ذلك. فإن من أطراف هذا العلم الأخبار غير المدونة في الكتب المعتبرة فالفحص فيما بأيدينا من الأخبار غير نافع.

وفيه : ان العلم الإجمالي الكبير ينحل إلى علم اجمالي صغير ، وهو وجود واجبات ومحرمات في خصوص ما بأيدينا من الأخبار ، والشك في وجود غيرها في غير ما بأيدينا ، إذ من المحتمل تطابق النصوص غير الواصلة الينا ، مع ما بأيدينا من حيث المضمون ، وعليه فلا مانع من هذه الجهة.

الايراد الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني (٢) وهو انه اخص من المدعى : فإن لازمه جواز الرجوع إليها قبل الفحص بعد الظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٣) بأن المعلوم بالإجمال المردد بين الأقل

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٧٨.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٧٥.

(٣) نقله السيد الخوئي (ره) في مصباح الأصول ج ٢ ص ٤٩٠. وفي دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٧٤.

والأكثر إذا كان ذا عنوان وتمييز ، غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المعلوم ، فإن الواقع تنجز بما له من الأفراد في الواقع ، كما لو علم بحرمة البيض من قطيع الغنم ، وتردد البيض بين العشرة والعشرين ، فهل يتوهم احد جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، بعد العلم تفصيلا بحرمة عشرة منها؟ والمقام من هذا القبيل ، فإن التكاليف المعلومة بالإجمال ، نعلم بوجودها في الكتب المعتبرة. وعليه فبعد الظفر بالمقدار المعلوم اجمالا ، لا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص.

نعم ، لو كان المعلوم بالإجمال من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر ، ولم يكن ذا علامة وتمييز جاز الرجوع إلى البراءة في مثل ذلك بعد الظفر بالمقدار الأقل ، ولكن المقام ليس كذلك.

ويرد عليه : ان الميزان في عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي هو التعارض ، وإذا كان المعلوم بالإجمال الذي له علامة وتمييز ، مرددا بين الأقل والأكثر وظفرنا بالمقدار المعلوم بالإجمال ، فلا مانع من جريان الأصول في سائر الأطراف لانها بلا معارض كما لا يخفى.

وان شئت قلت : ان العلم بتعلق التكليف بعنوان في التكاليف الانحلالية لا يوجب تنجزه بالنسبة إلى جميع أفراده الواقعية ، بل التنجيز يدور مدار ذلك مع العلم بالصغرى. ألا ترى ان الشارع الأقدس حرم الخمر والمكلف عالم بذلك ، ولكن ذلك لا يوجب تنجزه في الموارد المشكوك فيها. وفي المقام وان علم بوجود التكاليف في الأخبار المدونة في الكتب المعتبرة ، إلا ان هذا العنوان له أفراد معلومة ، وأفراد ومصاديق مشكوك فيها ، وفي القسم الثاني تجري البراءة

بلا كلام ولا إشكال.

الوجه الرابع : ان عادة الشارع الاقدس جارية على ايصال التكاليف ، لا بالقهر والإجبار ، بل بجعلها في معرض الوصول إلى المكلفين. وعليه : فمقتضى قانون العبودية والمولوية لزوم الفحص عن الأحكام الشرعية ، ففعلية الوصول تكون من وظائف المكلفين بحكم العقل ، وهذا الحكم العقلي ، بمنزلة القرينة المتصلة ، ويكون مانعا عن ظهور أدلة البراءة في الإطلاق. وعليه فالأدلة لا تشمل الشبهات قبل الفحص.

الوجه الخامس : ما دل من الأخبار على لزوم التوقف في الشبهات قبل الفحص ورد حكمها إلى الامام (ع) (١). وحيث انها اخص من أدلة البراءة ، فتقدم عليها ، فتختص أدلة البراءة بالشبهات بعد الفحص.

الوجه السادس : الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم ، وهي طائفتان :

الطائفة الأولى : ما تضمن الأمر بالتفقه ، والحث والترغيب على فعله ، والذم على تركه ، كآية النفر (٢) ، والنصوص الكثيرة (٣). وتقريب الاستدلال بها

__________________

(١) إشارة إلى جملة من الاحاديث الواردة منها : رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ (ص) وَالْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا جَاءَكُمْ عَنَّا حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَاطْرَحُوهُ أَوْ رُدُّوهُ إِلَيْنَا. وسائل الشيعة ج ٢٠ ص ٤٦٣. وغيره.

(٢) سورة التوبة الآية ١٢٢.

(٣) مجموعة من الروايات في وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ٧٦.

انه لو لم يكن الفحص واجبا لم يكن وجه للأمر بالسؤال والتفقه والذم على تركه.

الطائفة الثانية : ما تضمن مؤاخذة الجاهل بفعل المعصية لترك التعلم ، لاحظ ما عن الأمالي (١) عن الامام الصادق (ع) انه سئل عن قوله تعالى (فلله الحجة البالغة) (٢) فقال ان الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فإن قال نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وان كان جاهلا ، قال له : أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة. وتقريب الاستدلال بها واضح.

وأورد على الاستدلال بها المحقق العراقي بايرادين :

الأول : اختصاصها بالفحص الموجب للعلم بالواقع ، والمطلوب أعم من ذلك. الثاني : انها ظاهرة في الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب لعذره ، فعموم أدلة البراءة حينئذ ، واردة عليهما.

وفيهما نظر : اما الأول : فلقيام الامارات مقام العلم. واما الثاني : فلانها ظاهرة في الإرشاد إلى حكمه بلزوم الفحص عما جعله الشارع.

الموضع الثاني : في مقدار الفحص اللازم والظاهر انه لا حد مضبوط له ، بل حده حصول الاطمينان ، الذي هو حجة عقلائية بعدم وجود دليل من خبر أو اجماع تعبدي. فاللازم هو تتبع كتب الأخبار ، وكلمات الأبرار ، لتحصيل

__________________

(١) الأمالي للطوسي ص ٩ والامالي للمفيد ص ٢٢٧ و ٢٩٢.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٤٩.

العلم العادي بعدم الخبر وعدم اجماع تعبدي. ولاوجه للاكتفاء بالظن ، لأنه لا يغني من الحق شيئا.

واما تحقق الصغرى ، أي حصول الاطمينان بعدم الدليل ، فهو سهل لمن تصدى لاستنباط الأحكام الشرعية.

في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه

الموضع الثالث : وهو استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه.

فملخص القول فيه ان الأقوال فيه ثلاثة :

القول الأول : ما هو المشهور بين الاصحاب (١) ، وهو استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لو اتفق.

القول الثاني : ما عن ظاهر الشيخ الأعظم (٢) وصريح المحقق النائيني (٣) ، وهو استحقاق العقاب على ترك الفحص المؤدى إلى مخالفة الواقع.

القول الثالث : ما عن المحقق الأردبيلي (٤) ، وصاحب المدارك (٥) ، وهو

__________________

(١) نسبه المحقق النائيني إلى المشهور في فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٨١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥١٢.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٢٩. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٥٦٠.

(٤) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٢٩. وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٥٦٠.

(٥) مدارك الأحكام ج ٢ ص ٣٤٥.

استحقاق العقاب على ترك الفحص والتعلم مطلقا وان لم يؤد إلى مخالفة الواقع. ومنشا الخلاف ان وجوب الفحص والتعلم هل يكون وجوبا نفسيا؟ أو طريقيا؟ أو ارشاديا؟ أو مقدميا؟

إذ على الأول : يكون الفحص كسائر الواجبات النفسية يعاقب على مخالفته. وعلى الثاني : يكون وجوب الفحص كسائر الأحكام الطريقية الموجبة لتنجز ذى الطريق ، واستحقاق العقاب على مخالفتها عند ترك الواقع. وعلى الثالث : يكون العقاب على مخالفة الواقع.

والاظهر عدم كون وجوبه نفسيا : لان الظاهر من الأدلة كون التعلم مقدمة للعمل ، كما هو صريح الخبر الوارد (١) في تفسير قوله تعالى (فلله الحجة البالغة (٢)) ، لا انه واجب نفسي. بل ظاهر ذلك الخبر كونه ارشاديا ، فإنه متضمن لإفهام العبد بما يقال له هلا تعلمت. ولو لم يكن وجوبه ارشاديا ، وكان نفسيا ، أو طريقيا كان له ان يجيب بعدم علمه بوجوب الفحص والتعلم ، كما أجاب عن الاعتراض بعدم العمل بعدم العلم بالحكم. مع انه إذا ثبت عدم كونه واجبا نفسيا لا مثبت لكونه طريقيا ، إذ عند دوران الأمر بين كون الأمر طريقيا ، أو ارشاديا لا معيّن لاحدهما.

ثم انه لا كلام في الواجبات المطلقة.

إنما الكلام في وجوب التعلم إذا كان الواجب مشروطا بشرط غير

__________________

(١) الأمالي للطوسي ص ٩ والامالي للمفيد ص ٢٢٧ و ٢٩٢.

(٢) سورة الأنعام الآية ١٤٩.

حاصل ، من جهة انه في ظرف إمكان التعلم لم يثبت وجوب الواجب كي يجب تعلمه مقدمة له ، وفي ظرف حصول الشرط ، لا قدرة على الامتثال ، وقد مر الكلام في ذلك مستوفى في مبحث وجوب مقدمة الواجب.

حكم العمل المأتي به قبل الفحص

الموضع الرابع : وهو البحث حول صحة العمل المأتي به قبل الفحص وفساده. فملخص القول فيه ان من ترك الفحص وعمل ، فإن كان عباديا ولم يتمش منه قصد القربة لا إشكال في فساده. وإلا فإن انكشف مخالفته للواقع ، أو لم ينكشف الخلاف والوفاق فكذلك. وان انكشف موافقته للواقع أو لما هو وظيفته صح لفرض الإتيان بالوظيفة ، فالصحة وسقوط الأمر حينئذ من القضايا التي قياساتها معها. كما انه لا إشكال في الصحة إذا انكشف موافقة عمل الجاهل قبل التقليد للواقع على فتوى كلا المجتهدين ، أي الذي كان يجب الرجوع إليه حال العمل ومن يجب الرجوع إليه فعلا.

إنما الكلام في موردين :

المورد الأول : فيما إذا انكشف موافقته لفتوى من كان يجب عليه الرجوع إليه حال العمل مع عدم مطابقته لفتوى المجتهد الفعلي أو مخالفته لها.

المورد الثاني : فيما إذا انكشف موافقته لفتوى المجتهد الفعلي ، ومخالفته لفتوى المجتهد الأول.

والاظهر هي الصحة فيهما : فإن متعلق رأى المجتهد الفعلي هو الحكم

الكلي ، والتقليد طريق إليه فبعد مطابقة عمله ، لفتوى من يجب الرجوع إليه يكون عمله مطابقا للواقع بحسب الطريق ، كما ان عمله ان كان مطابقا لفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل كان عمله مطابقا للحجة ، إذ لا يعتبر في الموافقة للحجة العلم بالمطابقة ولا الاستناد إليها وتمام الكلام في مبحث الاجتهاد والتقليد.

حكم ما لو احتمل الابتلاء

بقي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : انه لا ريب في عدم لزوم الفحص فيما إذا اطمئن بعدم الابتلاء بالواقعة التي لا يعلم حكمها.

ولكن يقع الكلام فيما إذا احتمل الابتلاء.

وقد استدل (١) لعدم لزوم الفحص حينئذ باستصحاب عدم الابتلاء ، بناءً على جريانه في الأمور الاستقبالية كما هو الحق.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) ، بأن الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان المستصحب بنفسه أثرا شرعيا أو موضوعا ذا أثر شرعي. واما إذا كان الأثر مترتبا على نفس الشك والاحتمال ، فلا مورد لجريان الاستصحاب.

__________________

(١) ذكر هذا الوجه السيد الخوئي بقوله ربما يقال. مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠١.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨. مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠١.

والمقام من قبيل الثاني : فإن الأثر المرغوب هو وجوب التعلم من باب وجوب دفع الضرر المحتمل ، وهذا مترتب على احتمال الابتلاء دون واقعه فلا يجري فيه الأصل.

وفيه : ان وجوب التعلم إنما ثبت من باب اطاعة المولى ، ويكون وجوبه ارشاديا كما مر آنفا.

وعليه : فإذا جرى الاستصحاب وحكم بعدم الابتلاء يترتب عليه الأثر.

وبعبارة أخرى : ان الموضوع لوجوب الفحص والتعلم هو الابتلاء.

وأورد عليه بعض الاكابر (١) بأن الاستصحاب يختص بالأمور الماضية ، فعدم الابتلاء في المستقبل لا يكون مشمولا لادلته.

وفيه : ان الميزان في جريان الاستصحاب تقدم زمان المتيقن على زمان المشكوك فيه من غير فرق بين الأمور الماضية والاستقبالية وسيجيء تحقيق القول فيه في بحث الاستصحاب.

واستدل الأستاذ (٢) للزومه باستهجان تخصيص الأدلة الدالة على وجوب التعلم بموارد العلم أو الاطمينان بالابتلاء لندرتها فيكون وجوب التعلم عند احتمال الابتلاء ثابتا بالدليل ، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل العملي (٣).

__________________

(١) نسب المحقق النائيني هذا القول إلى صاحب الجواهر في أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨.

(٢) السيد الخوئي أعلى الله مقامه.

(٣) دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٨١.

وفيه : ان المسائل التي يعلم الابتلاء بها في غاية الكثرة.

فالحق ان يستدل لوجوبه بالعلم الإجمالي بابتلائه فيما بقي من عمره بما لا يعلم حكمه ، وهو مانع عن جريان الأصل في موارد الشك.

معذورية الجاهل المقصر في الجهر والاخفات

الأمر الثاني : المشهور بين الاصحاب (١) صحة صلاة من اجهر في موضع الاخفات ، وبالعكس ، ومن اتم في موضع القصر إذا كان منشؤه الجهل بالحكم وان كان عن تقصير ، ومع ذلك التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك الفحص.

وصار ذلك عويصة بأنه كيف يعقل الجمع بين الحكم بالصحة ، وعدم وجوب اعادة الواجب مع بقاء الوقت ، والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب. وذكروا وجوها في رفع هذه العويصة.

الوجه الاول : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) وحاصله : انه يمكن ان يكون المأتي به في حال الجهل خاصة مشتملا على مقدار من المصلحة ملزمة في نفسه ، ويكون الواجب الواقعي مشتملا على تلك المصلحة وزيادة ملزمة أيضاً ، ولكن لا يمكن تداركها عند استيفاء تلك المصلحة ، فالمأتي به غير مأمور به للأمر

__________________

(١) نسبه إلى الأصحاب في الفصول الغروية ص ٤٢٧.

(٢) درر الفوائد (الجديدة) ص ٢٧٦.

بالاهم ، ويحكم بصحته لاشتماله على المصلحة ، ولا يجب اعادة الواجب الواقعي لعدم إمكان استيفاء الباقي ، ويحكم باستحقاقه العقاب ، لأجل ان فوت المصلحة الملزمة مستند إلى تقصير العبد في ترك التعلم.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن الخصوصية الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل ان كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية خصوصا مع إمكان استيفائها في الوقت.

ودعوى عدم إمكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء ، واضحة الفساد : إذ لا يعتبر في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلقها الموجودة في المقام ، إلا إذا كان ثبوت المصلحة في الواجب مشروطا بعدم سبق المأتي به من المكلف ، وهو خلف ، إذ يلزم منه خلو الواجب عن المصلحة في حال الجهل ، فلا موجب لاستحقاق العقاب. وان لم يكن لتلك الخصوصية ، دخل في حصول الغرض فاللازم هو الحكم بالتخيير بين العملين ، غايته ان يكون الواجب افضل فردي التخيير ولاوجه لاستحقاق العقاب.

وفيه : ان الخصوصية الزائدة ، وان كانت دخيلة ، إلا انها دخيلة في كمال المصلحة لا في اصلها ، وإنما يسقط الواجب لعدم استيفاء الكامل.

ودعوى : ان المصلحتين لا تضاد بينهما إلا من ناحية عدم القدرة على متعلقهما وهي متحققة على الفرض.

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٢٩٢.

مندفعة : بأن المقدور هو صورة العمل دون حقيقته.

الوجه الثاني : ما أفاده الشيخ الكبير (١) وهو الالتزام بالترتب. بتقريب : ان الواجب على المكلف ، اولا هو القصر مثلا ، وعلى تقدير تركه فالتمام مأمور به فلا تنافي بين الحكم بالصحة ، واستحقاق العقاب على ترك الواجب الأول.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) بوجوه :

الاول : ان الخطاب المترتب لا بدَّ وان يكون موضوعه عصيان الخطاب المترتب عليه ، وفي المقام إذا التفت إلى كونه عاصيا ينقلب الموضوع ، وإلا لا يعقل ان يكون الحكم محركا له.

وفيه : انه لم يرد دليل على لزوم كون الموضوع هو العصيان ، بل الترتب ممكن مع كون الموضوع للخطاب المترتب هو الترك ، كما مرَّ تفصيل ذلك في الجزء الثاني (٣) من هذا الكتاب ، والالتفات إلى الترك مع عدم انقلاب الموضوع ممكن.

الثاني : ان وجوب الصلاة لا يكون مختصا بوقت خاص ، بل هو ثابت

__________________

(١) كشف الغطاء ص ٢٧٥.

(٢) ذكر هذه الايرادات السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠٧ / ودراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٨٦

(٣) من الطبعة الاولى والثالثة من هذه الطبعة ، راجع ص ٥٤ من الأمر الحادي عشر (الامتثال بإتيان المجمع على القول بالجواز)

موسع بين المبدأ والمنتهى فعصيانه لا يمكن إلا بخروج الوقت وانقضائه ، ففي اثناء الوقت لا يعقل فعلية الحكم الثاني ، وقد ظهر مما اوردنا على الأول ، الإيراد على ذلك أيضاً.

الثالث : ان الالتزام بالترتب لو امكن لا دليل على وقوعه ، وفي المتزاحمين إنما يقتضي إطلاق الخطابين بالتقريب المتقدم الترتب ، وهذا بخلاف المقام.

وفيه : ان صحة المأتي به في المقام مفروغ عنها ، وقد دلت النصوص عليها (١). وإنما الكلام في إمكان ذلك مع البناء على استحقاق العقاب ، فالمهم تصوير الامكان ، وفي هذا المقام يكفي ما أفاده (ع).

وأورد عليه الأستاذ بأن ما ورد من ان الواجب على المكلف في كل يوم خمس صلوات يكفي في ابطال القول بالترتب في المقام (٢).

وفيه : ان مفاد تلك الأخبار عدم وجوب صلاة سادسة في عرض تلك الصلوات ، وهي كما لا تنافي التخيير بين القصر والاتمام في مواضع التخيير لا تنافي الترتب في المقام.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٣) وهو انكار استحقاق العقاب.

توضيحه : ان الجاهل بوجوب الصلاة قصرا ، أو اخفاتا في مورد ثبوته ، لو فرضنا انه صلى قصرا ، أو اخفاتا ، وحصل منه قصد القربة ، فلا يخلو الأمر من

__________________

(١) عدد من الروايات من وسائل الشيعة ج ٦ ص ٨٨ و ٣٦٤ و ٣٦٨ و ٤٠٤.

(٢) السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠٨ / ودراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٨٦.

(٣) فوائد الأصول ج ٣ ص ٣٧٣ ، وذكره السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠٨.

الحكم بصحة صلاته أو فسادها.

فعلى الأول : لا مناص من الالتزام بأن الحكم الواقعي هو التخيير بين القصر والتمام ، أو الجهر والاخفات ، وعليه فلا موجب للعقاب لو أتى باحد طرفي التخيير.

وعلى الثاني : لا مناص عن الالتزام بكون الصلاة ، تماما أو جهرا ، هو الواجب على التعيين في ظرف الجهل. ومعه كيف يمكن الالتزام باستحقاق العقاب على ترك القصر أو الاخفات؟

ودعوى : الإجماع عليه ، مجازفة لعدم تعرض اكثر الاصحاب له ، مع انها ليست مسألة شرعية ليصح الاستدلال بها.

وما أفاده (ره) وان كان لا يخلو عن إشكال ، إلا ان ما أفاده في ذيل كلامه من عدم الدليل على استحقاق العقاب متين جدا.

الأمر الثالث : قد عرفت ان مقتضى إطلاق أدلة الأصول خصوصا ما ورد في خصوص الشبهة الموضوعية وصريح بعض ما ورد في الاستصحاب كصحيح زرارة ، عدم اعتبار الفحص في الرجوع إليها.

إلا انه ذكر جماعة (١) ان ذلك يختص بالاحكام التي لا يكون العلم بها متوقفا على الفحص ، وإلا فيجب الفحص بدعوى ان جعل الحكم في مورد يتوقف العلم به على الفحص ، يدل بالدلالة الالتزامية وبالملازمة العرفية على

__________________

(١) أشار إلى ذلك السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٤٨٨.

وجوب الفحص ، وإلا لزم اللغو في الشريعة ومثلوا لذلك :

المثال الاول : ما إذا شك في تحقق الاستطاعة إلى الحج من حيث المال أو من جهة أخرى.

المثال الثاني : ما إذا شك في زيادة الربح عن مئونة السنة.

المثال الثالث : ما إذا شك في المسافة ، فقالوا يجب الفحص مع كون المورد مجرى لاستصحاب عدم تحقق المسافة.

والحق : ان الكبرى الكلية مسلمة ، إلا ان الظاهر انه ليست الموارد المذكورة من صغرياتها لان حصول العلم في كل من تلك المسائل باحد الطرفين كثير كما لا يخفى.

وقد افاد المحقق النائيني (١) انه يعتبر في جريان الأصول في الشبهات الموضوعية ان لا تكون مقدمات العلم باجمعها تامة بحيث لا يحتاج حصول العلم إلا إلى مجرد النظر. وإلا كما لو فرضنا ان المكلف بالصوم على السطح ، ولا يتوقف علمه بطلوع الفجر إلا على مجرد النظر إلى الافق فلا يجوز الرجوع إلى البراءة أو استصحاب عدم طلوع الفجر بدون النظر ، لان مجرد النظر لا يعد فحصا عرفا ليحكم بعدم وجوبه.

وفيه : ان مدرك عدم وجوب الفحص لو كان هو الإجماع ، أو خبر دال عليه كان ما أفيد في غاية المتانة ، ولكن بما ان مدركه إطلاق الأدلة وخصوص بعض

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٢٧. ج ٣ ص ٥٥٦ (ط ، ج). مصباح الأصول ج ٢ ص ٥١٢.

الروايات فلا يتم ذلك لعدم اخذ عنوان الفحص أو عدمه في لسان دليل كي يرجع في تعيين مفهومه إلى العرف.

ولو استدل له بعدم صدق عنوان الجاهل والشاك وغير العالم على ذلك المكلف ، كان اولى ، وان كان ذلك أيضاً محل تأمل ونظر.

الكلام حول ما أفاده الفاضل التوني

ثم انه ذكر الفاضل التوني (١) على ما نسب إليه الشيخ الأعظم (٢) انه يعتبر في جريان اصل البراءة شرطان آخران :

الشرط الاول : ان لا يكون إعمال الأصل موجبا لتضرر مسلم. وإلا فلا يجري ومثل له بما لو فتح انسان قفصا فطار العصفور ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو امسك رجلا فهربت دابته. فإن إعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك في هذه الموارد.

وأجاب عنه الشيخ (٣) وتبعه المحقق الخرساني (ره) (٤) بأنه وان لم تجر البراءة في موارد جريان قاعدة نفي الضرر إلا انه حقيقة لا يبقى لها مورد بداهة ان الدليل

__________________

(١) في مقدمة الوافية في الأصول ص ٢١. وفي صفحة ١٩٣.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٢٩.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٢٩.

(٤) كفاية الأصول ص ٣٧٩.

الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا. فإن كان المراد من الاشتراط ذلك ، فلا بد من اشتراط ان لا يكون على خلافها دليل اجتهادى ، لا خصوص قاعدة الضرر.

أقول : الظاهر ان نظر الفاضل التوني ليس إلى ان قاعدة نفي الضرر جارية في تلك الموارد ، ولذلك لا تجري البراءة ، فإنه لا تكون مجرى قاعدة نفي الضرر لوقوع الضرر فيها لا محالة اما على المالك أو على المتلف ، إذ لو حكم بالضمان تضرر المتلف ولو حكم بعدمه تضرر المالك.

بل الظاهر ان نظره إلى ما ذكرناه في حديث الرفع من انه وارد مورد الامتنان ، وهو إنما يرفع الحكم الذي في رفعه منة على الامة ، فبالطبع لا يجري فيما إذا لزم من جريان البراءة تضرر مسلم أو من بحكمه ، إذ لا امتنان في مثل ذلك على الامة في رفع الحكم. وعليه فما أفاده متين لا يرد عليه ما ذكراه. واما البحث في انه في تلك الموارد هل يكون مقتضى قاعدة الاتلاف هو الضمان أم لا؟ فهو موكول إلى محل آخر ، وعلى أي تقدير لا تجري البراءة عن الضمان.

الشرط الثاني : ان لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

ومثل لذلك بأن يقال : في احد الإنائين المشتبهين الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فإنه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر ، أو عدم بلوغ الملاقى للنجاسة كرا ، أو عدم تقدم الكرية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة فإن أعمال الأصول يوجب الاجتناب عن الاناء الآخر أو الملاقى أو الماء.

أقول : ان ثبوت حكم شرعي من جهة أخرى يتصور على أقسام.

القسم الأول : ان لا يكون بينهما ترتب شرعا ولا عقلا إلا ان العلم الإجمالي اوجب ذلك بينهما ، كما في المثال الأول الذي ذكره الفاضل التوني ، فإنه لا ترتب بين طهارة أحدهما ونجاسة الآخر إلا من ناحية العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ففي مثل ذلك لا تجري البراءة ، لا لما أفاده ، فإن الأصل ليس حجة في مثبتاته ، بل لابتلائه بالمعارض. واما المثالان الآخران في كلامه فهما مثالان للاستصحاب ولا ربط لهما بالبراءة.

القسم الثاني : ان يكون الترتب عقليا كترتب وجوب المهم على عدم وجوب الاهم بناءً على القول بعدم إمكان الترتب.

فإن الموجب لرفع اليد عن إطلاق دليل المهم إنما هو فعلية التكليف بالاهم الموجب لعجز المكلف عن الإتيان بالمهم ، وفي مثل ذلك لو فرض الشك في تعيين التكليف بالاهم للشك في اهميته وجرى الأصل في تعينه ولازمه ترخيص الشارع في ترك الاهم ، كان المهم واجبا لاطلاق دليله. فهو المثبت لوجوبه لا البراءة وإنما هي ترفع المانع وهو عجز المكلف ، فلا مورد لاشتراط جريان البراءة بعدم اثباته للحكم الالزامي.

القسم الثالث : ان يكون الترتب شرعيا بأن يكون جواز شيء ماخوذا في موضوع وجوب شيء آخر. وهذا أيضاً يختلف فإنه ، تارة يكون الحكم الالزامي مترتبا على الاباحة الواقعية.

ومثل المحقق النائيني (ره) (١) لذلك بترتب وجوب الحج على عدم اشتغال

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٣٠٤.

ذمة المكلف بمال الناس.

واخرى يكون الحكم الالزامي حكما واقعيا مترتبا على مطلق الاباحة واقعية كانت أم ظاهرية ، كما في ترتب وجوب الوضوء بالماء فإنه مترتب على اباحته سواء كانت واقعية أم ظاهرية.

وثالثة يكون الحكم الالزامي أعم من الواقعي والظاهري مترتبا على الاباحة أعم من الواقعية والظاهرية ، كما في ترتب وجوب الحج على الاستطاعة وإباحة المال الذي به صار المكلف مستطيعا.

فلو حكم باباحة المال لاصل من الأصول وجب الحج ظاهرا ، ولو انكشف الخلاف وعدم اباحته انكشف عدم كونه مستطيعا من الأول.

ففي الصورة الأولى لا يترتب على الأصل الجاري الحكم الالزامي : لعدم ثبوت ما يترتب عليه بالأصل ، وهذا ليس بالاشتراط.

وفي الصورة الثانية يترتب على الأصل ذلك الحكم الالزامي لتحقق موضوعه ، غاية الأمر يكون الالزام ظاهريا.

وفي الصورة الثالثة يترتب الحكم الالزامي.

وإلى ما ذكرناه في هذه الصور نظر المحقق الخراساني (ره) حيث قال : والاباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد احرازه فإن لم يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف واقعا فهي وان كانت جارية إلا ان ذلك الحكم لا يترتب

لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها وهذا ليس بالاشتراط (١) انتهى.

ختام : نتعرض فيه لبيان قاعدة لا ضرر تبعا للشيخ الاعظم والمحقق الخراساني في الكفاية.

* * *

__________________

(١) كفاية الأصول ٣٧٩.

خاتمة

في

قاعدة لا ضرر

والبحث في مقامات :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين وافضل الصلوات واكمل التحيات على اشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد فلما كانت ، قاعدة لا ضرر ، من اهم القواعد الفقهية ، لابتناء كثير من الأحكام الشرعية عليها ، ولهذا صنف فيها جمع من الفحول منهم الشيخ الأعظم ، رسالة مستقلة ، وقد حررت في سالف الزمان ، فيها رسالة ، بعد القاء ما يتعلق بها إلى فريق من ارباب العلم والفضل ، فاحببت الحاقها بالكتاب ، والله الموفق للصواب.

وتنقيح القول في هذه القاعدة بالبحث في مقامات :

١ ـ في مدركها.

٢ ـ في مفادها ومعنى العبارات التي في النصوص ، ـ وبعبارة أخرى ـ في فقه الحديث.

٣ ـ في دفع ما أورد عليها من الايرادات.

٤ ـ في التنبيهات المبينة لحدود هذه القاعدة ، والمشتملة على بعض ما يتفرع عليها مما عنونه الفقهاء ، مستدلين عليها بها.

٥ ـ في بيان حالها مع الأدلة الأخر المعارضة لها

٦ ـ في حكم الاضرار بالنفس.

بيان مدرك القاعدة

اما المقام الأول : فقد ورد فيها روايات كثيرة ، ففي الرسائل (١) قد ادعى فخر الدين في الإيضاح في باب الرهن تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، ولكن في الرسالة المستقلة (٢) المعمولة في هذه القاعدة بعد نقل ذلك عن الفخر ، ذكر انه لم يعثر عليه ، وكيف كان فالروايات الواردة في القاعدة كثيرة.

منها : موثق ابن بكير الذي رواه المشايخ الثلاثة (٣) باسناد بعضها صحيح عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ : إِنَّ سَمُرَة بْنَ جُنْدَبٍ كَانَ لَهُ عَذْقٌ فِي حَائِطٍ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَ مَنْزِلُ الأَنْصَارِيِّ بِبَابِ الْبُسْتَانِ فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ إلى نَخْلَتِهِ وَلا يَسْتَأْذِنُ فَكَلَّمَهُ الْأَنْصَارِيُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ إِذَا جَاءَ فَأَبَى سَمُرَةُ ، فَلَمَّا تَأَبَّى جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ إلى رَسُولِ اللهِ فَشَكَا إِلَيْهِ وَخَبَّرَهُ الْخَبَرَ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ وَخَبَّرَهُ بِقَوْلِ الأَنْصَارِيِّ وَمَا شَكَا ، وَقَالَ : إِذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ فَاسْتَأْذِنْ فَأَبَى فَلَمَّا أَبَى ساوَمَهُ حَتَّى بَلَغَ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ مَا شَاءَ اللهُ فَأَبَى أَنْ يَبِيعَ فَقَالَ لَكَ بِهَا عَذْقٌ يُمَدُّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ لِلْأَنْصَارِيِّ اذْهَبْ

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٣.

(٢) رسائل فقهية ص ١١٢.

(٣) ورد في الكافي ج ٥ ص ٢٩٢. والتهذيب ج ٧ ص ١٤٦ والفقيه ج ٣ ص ٢٣٣.

فَاقْلَعْهَا وَارْمِ بِهَا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (١).

ومنها : ما رواه ابن مسكان عن أبي جعفر (ع) المتضمن لقضية سمرة ، وهو نحو ما تقدم إلا انه قال ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله (ص) إِنَّكَ رَجُلٌ مُضَارٌّ وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ عَلَى مُؤْمِنٍ قَالَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ (ص) فَقُلِعَتْ ثُمَّ رُمِيَ بِهَا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (ص) انْطَلِقْ فَاغْرِسْهَا حَيْثُ شِئْتَ (٢).

ومنها : ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن الصيقل عن أبي عبيدة الحذاء قال أبو جعفر (ع) وقد نقل القضية نحو ما تقدم ، إلا انه قال (ص) بعد الامتناع مَا أَرَاكَ يا سَمُرَةُ إِلّا مُضَارّاً اذْهَبْ يا فُلَانُ فَاقْطَعْهَا وَاضْرِبْ بِهَا وَجْهَهُ (٣).

وهذا الخبر وان لم يشتمل على جملة ـ لا ضرر ولا ضرار ـ إلا انه متضمن لصغرى القاعدة ، واستنتج منها ، الأمر بقلع الشجرة.

ثم انه لا كلام في ان هذه الأخبار الثلاثة تحكى عن قصة واحدة ، والظاهر منها انه كان لسمرة حق العبور إلى نخلته من البستان ، وكان استيفاء حقه ، بلا اذن من الانصاري ، اضرارا به ، ولم يرض سمرة ، بالجمع بين الحقين.

ومنها : ما رواه المشايخ الثلاثة باسنادهم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ع قَالَ قَضَى رَسُولُ اللهِ (ص) بِالشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأَرَضِينَ وَالْمَسَاكِنِ

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨١

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٤. وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٢٩ ح ٣٢٢٨٢.

(٣) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ١٠٣. وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٢٧ ح ٣٢٢٧٩.

وَقَالَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ وَقَالَ إِذَا أُرِّفَتِ الأُرَفُ وَحُدَّتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ (١).

ومنها : ما رواه في الكافي باسناده عَنْ عُقْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ع قَالَ قَضَى رَسُولُ اللهِ (ص) بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مَشَارِبِ النَّخْلِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ نَفْعُ الشَّيْءِ وَقَضَى (ص) بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ مَاءٍ لِيُمْنَع بِهِ فَضْلُ كَلَإٍ وَقَالَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (٢).

ومنها : خبر هارون بن حمزة الآتي ، في بيان معنى الضرار (٣).

ومنها : ما رواه الصدوق في الفقيه ، قال النبي (ص) لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ يَزِيدُ الْمُسْلِمَ خَيْراً وَلَا يَزِيدُهُ شَرّاً (٤).

ومنها : خبر دعائم الإسلام عن الإمام الصادق (ع) عن أبيه عن آبائه عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) قَالَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ (٥).

ومنها : خبر الدعائم عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جِدَارِ الرَّجُلِ (٦)

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٣٩٧ ح ٣٢٢١٠ وص ٣٩٩ ح ٣٢٢١٧.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٣.

(٣) تهذيب الأحكام ج ٧ ص ٧٩ و ٨٢ وفي نسخة وسائل الشيعة (فبلغ ثمنه دنانير) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٢٧٥. وكذا في الكافي ج ٥ ص ٢٩٣.

(٤) من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٣٣٤. وسائل الشيعة ج ٢٦ ص ١٤.

(٥) دعائم الإسلام ج ٢ ص ٤٩٩. مستدرك الوسائل ج ١٧ ص ١١٨.

(٦) في نسخة دعائم الإسلام وردت (لرجل) في الجزء ٢ ص ٥٠٤ ، وفي نسخة مستدرك الوسائل وردت (لرجل) في ج ١٧ ص ١١٨. ووردت (الرجل) في ج ١٣ ص ٤٤٧.

وَهُوَ سُتْرَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ سَقَطَ فَامْتَنَعَ مِنْ بُنْيَانِهِ قَالَ لَيْسَ يُجْبَرُ عَلى ذَلِكَ إِلّا أَنْ يَكُونَ وَجَبَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الدَّارِ الْأُخْرَى بِحَقٍّ أَوْ شَرْطٍ فِي أَصْلِ الْمِلْكِ وَلَكِنْ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ فِي حَقِّكَ إِنْ شِئْتَ قِيلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ لَمْ يَسْقُطْ وَلَكِنَّهُ هَدَمَهُ إِضْرَاراً بِجَارِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إلى هَدْمِهِ قَالَ لَا يُتْرَكُ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) قَالَ لَا ضَرَرَ وَلَا إِضْرَارَ فَإِنْ هَدَمَهُ كُلِّفَ أَنْ يَبْنِيَهُ (١).

ومنها : مرسل العلامة ، انه (ص) قال ، لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (٢).

منها : ما رواه شيخ الطائفة عن النبي (ص) انه قال ضرر ولا ضرار. (٣)

ومنها : ما رواه سيد ابن زهرة في الاحتجاج على حكم الارش ، قال ويحتج على المخالف بقوله (ص) لا ضرر ولا ضرار (٤) هذه هي الروايات الواصلة الينا من طرق الشيعة ، وفي المقام روايات من طرق العامة أيضاً.

لاحظ ما رواه احمد بن حنبل من طريق ابن عباس ، ومن طريق عبادة بن صامت. عن النبي (ع) انه قال (ص) (لا ضرر ولا ضرار). (٥).

__________________

(١) دعائم الإسلام ج ٢ ص ٥٠٤ ، ومستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٧ وج ١٧ ص ١١٨.

(٢) تذكرة الفقهاء ج ٢ (طبعة قديمة) ص ٥٢٢.

(٣) الخلاف ج ٣ ص ٤٢.

(٤) غنية النزوع ص ٢٢٤.

(٥) مسند أحمد ج ٥ ص ٣٢٦ و ٣٢٧.

ورواه النووي في الاربعين (١) عن ابى سعيد سعد بن مالك الخزرجي ، وذكر ان ابن ماجة (٢)

والدار قطني (٣) ، رويا الحديث مسندا.

ورواه مالك في الموطأ (٤) عن عمر بن يحيى عن النبي (ص) مرسلا ثم قال : وله طرق يقوى بعضه بعضا (٥).

وما رواه ابن الاثير في النهاية (٦) انه (ص) قال ، لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.

هذه جميع ما وصلنا من النصوص وهناك نصوص متضمنة للنهى عن الاضرار بالغير ، كجملة من الآيات ، نتعرض لها في آخر الرسالة ، وإنما المهم في المقام تنقيح القول في الجملة المذكورة في هذه النصوص.

وتمام الكلام في هذا المقام في جهات.

__________________

(١) قال النووي في المجموع ج ٨ ص ٢٥٨ وهو حديث حسن من رواية أبي سعيد الخدري ، وفي ج ١٣ ص ٢٢٨ و ٣٩٨.

(٢) سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٧٨٤.

(٣) سنن الدارقطني ج ٣ ص ٦٤.

(٤) موطأ مالك ج ٢ ص ٧٤٥.

(٥) راجع المجالس السنية في شرح الاربعين النووية ص ٩٨ مجلس ٣٢.

(٦) النهاية في غريب الحديث ج ٣ ص ٨١.

سند الحديث

الجهة الاولى في سند الحديث : لا ينبغي التوقف في ان هذه الجملة صدرت عن النبي (ص) ، وذلك لوجوه :

الوجه الأول : صحة بعض طرق الحديث كالخبر الثاني (١) : فان رجال سنده كلهم عدول ، ثقات ، اماميون بالاتفاق عدى ابن بكير ، وهو من الذين اجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم فهو بمنزلة الصحيح أو اعلى منه ، وبعض آخر منها وستقف عليه.

الوجه الثاني : اشتهار الحديث بين الفريقين حتى ادعى بعض أصحابنا تواتره.

الوجه الثالث : استناد الاصحاب إليه ونقله في كتبهم على وجه الاعتماد عليه.

متن الحديث

الجهة الثانية : في تشخيص متن الحديث :

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨١.

المروي في اكثر النصوص قوله (ص) لا ضرر ولا ضرار بلا زيادة كلمتي ـ في الاسلام ـ و ـ على مؤمن ، وقد اضيف كلمة على مؤمن في الخبر الأول ، وحيث انه ضعيف لأنه رواه محمد بن خالد عن بعض أصحابنا عن ابن مسكان عن زرارة ، وهو مرسل ، فلا يعتمد عليه.

واما كلمة في الاسلام ، فقد اصر شيخ الشريعة الأصفهاني (١) ، على عدم وجودها في شيء من طرق الخاصة والعامة.

وفي مقابله ادعى بعض معاصريه ، استفاضة الحديث مع هذا القيد ، واسند إلى المحققين دعوى تواتر هذا الحديث مع هذه الزيادة.

والحق ان القولين افراط وتفريط : لوجودها في جملة من الأخبار ، منها مرسل الصدوق (٢) الذي هو حجة ، فان الارسال على نحوين ـ أحدهما ـ ما إذا كان التعبير بلفظ روى ونحوه ، ثانيهما : ما اذا كان بلفظ قال وما شاكل ـ وبعبارة أخرى ـ اسند المرسل الخبر جزما إلى من روى عنه الواسطة ـ والاول لا يكون حجة ـ والثاني حجة فان المرسل إذا كان ثقة ، فاسناده إلى من روى عنه الواسطة كاشف عن ثبوت الرواية عنده إذ لا يجوز الاسناد بغير ذلك ، والمقام من قبيل الثاني كما لا يخفى.

ودعوى ، ان التعبير بلفظ قال إنما يصح مع ثبوت صدور الرواية عند المرسل ولو من جهة القرائن ، وحيث يحتمل ان تكون تلك القرائن غير موجبة

__________________

(١) نخبة الأزهار ص ١٧٣. ورسالة لا ضرر ص ١٧ ـ ١٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٣٣٤.

للاطمينان عندنا فلا يعتمد عليه.

مندفعة : بأنه إذا فرضنا ان الخبر الذي يراه المرسل حجة نراه حجة ، ولا اختلاف بيننا وبينه في المبنى ، وحيث ان تشخيص موضوع ذلك ليس متوقفا على مقدمات بعيدة كي يحتمل ان يكون التشخيص غلطا ، فلا محالة نكتفي بثبوت الصدور عنده.

لا يقال : انه يحتمل ان يكون ما رواه الصدوق (١) اشارة إلى ما أفاده النبي (ص) في ذيل قضية سمرة ، والمروي هناك يكون مجردا عن هذه الكلمة.

فانه يجاب عنه :

اولا : بان مجرد الاحتمال ، لا يصلح دليلا ، لرفع اليد ، لما يكون الخبر متضمنا له ، فلعله صدر هذه الجملة عن النبي (ص) مرتين ، تارة مع الزيادة ، واخرى بدونها.

وثانيا : انه لو دار الأمر ، بين الزيادة ، والنقيصة ، يكون الترجيح لما تضمن الزيادة فان احتمال الغفلة في الزيادة ، ابعد من احتمال الغفلة في النقيصة.

وما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) من ان تقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لا يكون تعبديا صرفا بل هو من باب بناء العقلاء ، وأبعدية الغفلة بالنسبة إلى الزيادة عن الغفلة بالنسبة إلى النقيصة ، وهذا إنما يتم في الزيادات البعيدة عن الأذهان دون المعاني المأنوسة كما في المقام ، فان نفي

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٣٣٤.

(٢) نسب هذا القول إليه السيد الخوئي في الهداية في الأصول ج ٣ ص ٥٢٩.

الضرر حيث انه من المجعولات الشرعية ، فيتوهم الراوي اقترانه بهذه الكلمة ، سيما مع ثبوتها في اغلب اقضيته (ص).

غير تام فان الراوي إذا كان ثقة معتمدا في النقل لا يضيف إلى ما يرويه شيئا من عنده فينحصر وجه الزيادة في الغفلة فيجري فيه الوجه المذكور.

ولا يتوهم ، ان وجود هذه الكلمة وعدمه سيان لعدم الفرق في معنى لا ضرر ولا ضرار بزيادتها ونقصها : إذ لو لم تكن في ذيل الحديث المبارك لكان المنفي أيضاً هو الحكم المجعول في الاسلام كما أفاده المحقق النائيني (ره).

لأنه إذا ثبت ان مفاد لا ضرر ، نفي الحكم الضرري كان ما أفاده تاما ، ولكن سيأتي ان جماعة ذهبوا إلى ان مفاده النهي عن الاضرار بالغير ، ووجود كلمة في الاسلام يصلح ردا عليهم كما سيمر عليك في محله.

فالمتحصّل ان الصادر عن النبي (ص) ـ لا ضرر ولا ضرار ـ تارة مجردا واخرى مع زيادة كلمة في الاسلام.

موقع صدور الحديث

الجهة الثالثة : في موقع صدور الحديث ، المتيقن وروده في ذيل قضية سمرة ، ويحتمل وروده مستقلا ، وظاهر الأخبار المتقدمة وروده في ثلاثة مواضع اخر :

احدها : ذيل قضائه (ص) في الشفعة.

ثانيها : ذيل قضائه في منع فضل الماء.

ثالثها : ذيل ، ما تضمن حكم جدار الرجل الذي هو سترة بينه ، وبين جاره

وقد سقط عنه فامتنع من بنائه.

اما الموضع الثالث : فحيث ان الخبر المتضمن له هو خبر دعائم الإسلام ، وهو ضعيف للإرسال ، ولعدم ثبوت وثاقة صاحب الكتاب فلا وجه للتعرض له.

واما الموضعان الاولان ، فلقد اصر شيخ الشريعة (ره) (١) على عدم كون حديث الشفعة والناهي عن منع الفضل حال صدورهما من النبي (ص) مذيلين بحديث الضرر ، وان الجمع بينهما وبينه جمع من الراوي بين روايتين صادرتين عنه (ص) في وقتين مختلفين ، وتبعه في ذلك جماعة منهم المحقق النائيني (ره).

وقد ذكروا في مقابل ظهور السياق في كون الجمع ، من الجمع في المروي لا من الجمع في الرواية ، وجوها.

الأول : ما أفاده شيخ الشريعة (٢) وحاصله ، ان اقضية النبي (ص) مروية من طريق اهل السنة برواية عبادة بن صامت مجتمعة وهي بعينها مروية من طرقنا برواية عقبة متفرقة على حسب تفرق الأبواب ، وحديث الشفعة ، والنهي عن منع فضل الماء ، ليسا مذيلين بحديث الضرر في نقل عبادة بل هو مذكور مستقلا ، وفي نقل عقبة لم يذكر مستقلا بل في ذيلهما ، وبعد كون عبادة من اجلاء الشيعة ، مع ما علم من استقراء رواياته من ، اتقانه ، وضبطه وان المروي عن عقبة قطع ، وذكر كل قطعة منه في باب ، يقطع الإنسان ان حديث الضرر

__________________

(١) رسالة لا ضرر ص ٢٨ ـ ٣٤.

(٢) رسالة لا ضرر ص ٢٨ ـ ٣٤.

مستقل.

وبعبارة أخرى : انه من توافق النقلين حتى في العبارات يحدس الإنسان قطعيا ان الاقضية كما كانت مجتمعة في رواية عبادة ، وكان من قبيل الجمع في الرواية لا في المروي كما هو واضح ، كانت مجتمعة في خبر عقبة بن خالد ، لا سيما ان الراوي عن عقبة في جميع الأبواب المتضمنة لتلك الاقضية المتشتتة محمد ابن عبد الله بن هلال ، والراوي عنه محمد بن الحسين والراوي عنه محمد بن يحيى ، وهذا كله يوجب الاطمئنان بعدم وجود الذيل في حديث الشفعة والمنع من فضل الماء في خبر عقبة بل كان قضاء مستقلا خصوصا بعد ملاحظة ان إلغاء هذا الذيل من الحديثين لا يجر نفعا ، ولا يدفع ضررا عن عبادة.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه لو كان من تتمة قضية أخرى في رواية عقبة لزم خلو رواياته الواردة في الاقضية عن هذا القضاء الذي هو من اشهر قضاياه (ص).

الثالث : ما عن المحقق النائيني (ره) (٢) أيضاً ، وهو ان لا ضرار على ما ستعرف معناها لا يناسب ، حديث الشفعة ، ومنع فضل الماء.

الرابع : ان بيع الشريك ليس علة للضرر ، بل ولا مقتضيا ، وهكذا منع فضل الماء لا يوجب الضرر ، نعم لا ينتفع الممنوع ، وليس عدم النفع ضررا.

الخامس : ان تضرر الشريك ببيع شريكه حصته من غيره لا يكون ضرريا

__________________

(١) منية الطالب ج ٣ ص ٣٦٩. ونسبه في منتهى الدراية ج ٦ ص ٥٥٣.

(٢) منية الطالب ج ٣ ص ٣٦٩. ونسبه في منتهى الدراية ج ٦ ص ٥٥٣.

إلا في بعض الموارد فبين مورد ثبوت الخيار ، وتضرر الشريك بالبيع ، عموم من وجه.

السادس : ان الضرر لو كان في بيع الشريك فإنما هو آت من قبل البيع نفسه فلو كان ذلك موردا للقاعدة لزم الحكم بالبطلان ، فان ثبوت الخيار جابر للضرر على تقدير وجوده.

السابع : ان النهي في المنع من فضل الماء إنما يكون تنزيهيا ، فلا يندرج تحت كبرى لا ضرر.

وكل قابلة للخدشة.

اما الأول : فمضافا إلى ان عبادة وان كان من اجلاء الشيعة إلا ان الرواة عنه عاميون لم يثبت وثاقتهم : ان عبادة لم يذكر جميع اقضية النبي (ص) كيف وهو لم ينقل قضائه في قضية سمرة ، وما ذكره من لا ضرر ولا ضرار مستقلا الظاهر انه قطع قضية سمرة ، ونقل ما في ذيلها ، فلعله لم يذيل حديث الشفعة والمنع من فضل الماء ، بهذه الجملة لبنائه على التقطيع ، واتكاء على ذكرها مستقلا.

واما الثاني : فلأنه لا محذور في الالتزام بان عقبة لم ينقل هذه القضية المشهورة كما لم ينقل قضية سمرة.

واما الثالث : فلأنه ستعرف ان ضرار بمعنى التعمد في الضرر ، وهذا يلائم مع قضائه (ص) في الموردين.

مع ان الاستشهاد بالكبرى الكلية لا يجب ان يكون جميع تلك الكبرى منطبقة على ما استشهد بها له ـ مثلا ـ نرى انه (ع) في خبر البزنطي

وصفوان استشهد (ع) في رجل اكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق ، وصدقة ما يملك بقوله (ص) وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي مَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُطِيقُوا وَمَا أَخْطَئُوا (١) ، مع ان المنطبق على المورد خصوص ما اكرهوا ، ونرى أيضاً ، صحة ان يجاب عمن سألنا عن من ترك صلاته وهو نائم : بأنه رفع القلم عن الصبى والمجنون والنائم فليكن المقام من هذا القبيل.

وأما سائر الوجوه : فلأنه يمكن ان يلتزم بان لا ضرر ولا ضرار في الخبرين من قبيل حكمة التشريع لا العلة والوجه في الالتزام بذلك مع ان الظاهر من القضية كونها علة لزوم المحاذير المذكورة.

ودعوى انه كيف يمكن ان يكون شيء واحد مجعولا ضابطا كليا في مورد وحكمة للتشريع في مورد آخر.

تندفع بأنه لا محذور في ذلك ـ ألا ترى ـ ان نفي الحرج جعل ضابطا كليا ويرفع كل حكم لزم منه الحرج ، ومع ذلك جعل حكمة لتشريع طهارة الحديد.

فان قيل انه يلزم ان تكون الحكمة غالبية والضرر في بيع الشريك ليس غالبيا بل هو اتفاقي ، اجبنا عنه ، بان ذلك أيضاً غير لازم.

ويمكن دفع الوجه الاخير ، بأنه لا محذور في الالتزام بكون النهي لزوميا كما التزم به شيخ الطائفة ، توضيحه ان المعروف في تفسير حديث المنع من فضل الماء ، انه يراد منه ما إذا كان حول البئر كلاء ، وليس عنده ماء غيره ، ولا يتمكن أصحاب المواشي من الرعي إلا إذا تمكنوا من سقى بهائمهم من تلك

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٣ ص ٢٢٦ ح ٢٩٤٣٦.

البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي ، فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعي.

وفي هذا المورد قال الشيخ في المبسوط (١) : كل موضع قلنا انه يملك البئر فانه احق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقى زروعه فإذا فضل بعد ذلك شيء وجب عليه بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه وشرب ماشيته من السابلة وغيرهم وليس له منع الفاضل من حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعى الكلاء الذي يقرب ذلك الماء ، وإنما يجب عليه ذلك لشرب المحتاج إليه وشرب ماشيته فاما لسقي زرعه فلا يجب عليه ذلك لكنه يستحب انتهى.

ولتمام الكلام في هذه المسألة محل آخر.

فالمتحصّل انه لا محذور في كون هذه الجملة من تتمة الروايتين ، فلا دافع لظهورهما في ذلك.

ولكن الذي يرد عليهما ، ان الراوى فيهما عن عقبة هو محمد بن عبد الله بن هلال وهو مهمل (٢) ، فعلى هذا المتيقن هو ورود هذه الجملة في ذيل قضية سمرة ، ويحتمل ورودها مستقلة أيضاً.

__________________

(١) المبسوط ج ٣ ص ٢٨١.

(٢) ورد في معجم رجال الحديث ج ١٦ ص ٢٥٠.

مفاد الحديث ومعنى مفرداته

واما المقام الثاني ، فالكلام فيه في موردين :

المورد الأول : في مفردات الحديث اعني كلمتي ، الضرر ، والضرار.

المورد الثاني : في معنى الجملة ، من جهة دخول كلمة لا على الكلمتين.

اما الأول : فالضرر ، من الالفاظ التي لها معان ظاهرة عند اهل العرف ، ويعرفها كل من مارس اللغة العربية ولاحظ موارد استعمال هذا اللفظ ، وهو خلاف النفع ، ويوافقه اللغة ، ففي معجم مقاييس اللغة ، الضر ضد النفع ، ويقال : ضره يضره ضرا ، ونحوه عن الصحاح (١) ، والنهاية الاثيرية (٢) ، والقاموس (٣)

وإليه يرجع ما عن المصباح (٤) ضره يضره من باب قتل إذا فعل به مكروها وأضرّ به يتعدى بنفسه ثلاثيا والباء رباعيا والاسم الضرر ، وجعل الكراهة اعم من المعنى المذكور خلاف ظاهر كلامه.

كما انه يمكن ارجاع ما عن القاموس (٥) من قوله بعد تفسير الضرر بما مر ، الضرر سوء الحال ، إلى ذلك.

__________________

(١) الضر خلاف النفع ، الصحاح ج ٢ ص ٧١٩.

(٢) النهاية في غريب الحديث لابن الاثير ج ٣ ص ٨١.

(٣) القاموس المحيط ج ٢ ص ٧٥.

(٤) المصباح المنير ص ٣٦٠ مادة ضرر.

(٥) القاموس المحيط ج ٢ ص ٧٥.

واما ما عن المصباح (١) ، من انه قد يطلق على نقص في الاعيان ، فهو على خلاف وضعه : كما ان ما في معجم مقاييس اللغة ، من اطلاقه على اجتماع الشيء ، وعلى القوة ، خلاف وضعه ذلك كما صرح به.

وكيف كان فبما ان للضرر معنى مبينا عند العرف ويتبادر إلى الذهن عند اطلاقه ، لاوجه للرجوع إلى اللغويين ، فانه مع قطع النظر عن عدم حجية قول اللغوى : انه لو سلم حجيته فإنما هي بملاك رجوع الجاهل إلى العالم ، والرجوع إلى اهل الخبرة ، فمع فرض كون المعنى معلوما ، لا مورد للرجوع كما لا يخفى.

والذي يظهر من تتبع موارد استعمال هذا اللفظ ، انه عبارة عن النقص في النفس ، أو العرض ، أو المال ، وما شاكل من مواهب الحياة ، بل لا يبعد دعوى صدقه ، في موارد اجتماع الاسباب ، وحصول المقتضى لبعض تلك المواهب إذا منع عنه مانع.

ثم ان ظاهر جماعة من اللغويين ، ان تقابل الضرر والنفع تقابل التضاد ، وصريح المحقق الخراساني في الكفاية (٢) ان تقابلهما تقابل العدم والملكة.

ولا يتم شيء منهما.

اما الأول : فلان الضرر كما عرفت هو النقص في المال أو النفس أو العرض ، وهو ليس امرا وجوديا حتى يكون ضد النفع.

واما الثاني : فلان النفع ليس عبارة عن التمامية كي يكون التقابل بينه

__________________

(١) المصباح المنير ص ٣٦٠ مادة ضرر.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨١.

وبين النقص الذي هو عبارة عن عدم ما من شانه التمامية ، تقابل العدم والملكة ، بل هو عبارة عن الزيادة العائدة إلى من له علاقة بما فيه الفائدة العائدة إليه ، فبين النفع والضرر واسطة ، مثلا لو اتجر شخص ولم يربح ، ولم ينقص من ماله شيء ، لا يكون هناك نفع ، ولا ضرر.

واما الضرار ، فالظاهر انه مصدر باب المفاعلة من ضاره يضاره ، وقد ذكر في معناه أمور.

الاول : انه المجازاة على الضرر ، ففي المجمع (١) ، الضرار فعال من الضر ، أي لا يجازيه على اضراره.

الثاني : انه فعل الاثنين والضرر فعل الواحد ، واحتمل الشيخ (٢) رجوعه إلى المعنى الأول.

الثالث : انه بمعنى الضرر جيء به للتأكيد ، كما صرح به جمع من اللغويين لاحظ القاموس والمصباح.

الرابع : انه إلا ضرار بالغير من دون ان ينتفع به (٣) ، والضرر ما تضربه صاحبك وتنتفع انت به.

الخامس : انه بمعنى الضيق واطلقه عليه في الصحاح (٤) بعد إطلاق الضرر

__________________

(١) مجمع البحرين ج ٣ ص ٣٧٣.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٤.

(٣) نقله في فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٤.

(٤) الصحاح ج ٢ ص ٧٢٠.

على سوء الحال.

السادس : انه التصدي للاضرار ، ذكره المحقق الأصفهاني (١) ، وإليه يرجع ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) من انه إلا ضرار العمدي ، والتعمد على الضرر والقصد إليه.

أقول : الظاهر ارادة المعنى الاخير منه ـ لا ـ لما أفاده المحقق الأصفهاني من ان ما اشتهر بين القوم من ان الأصل في باب المفاعلة انه فعل الاثنين وان الفرق بينه وبين باب التفاعل بعد اشتراكهما في انهما فعل الاثنين ، ان باب المفاعلة هو فعل الاثنين ، مع الاصالة من طرف والتبعية من طرف آخر ، وباب التفاعل هو فعل الاثنين مع الاصالة والصراحة من الطرفين مما لا اصل له ، كما يشهد به الاستعمالات الصحيحة القرآنية وغيرها ، فان فيها ما لا يصح ذلك فيه ، وفيها ما لا يراد منه ذلك منه ذلك كقوله تعالى يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون (٣) فان الغرض نسبة الخديعة منهم إلى الله تعالى ، وإلى المؤمنين لا منهما إليهم ، وقوله تعالى وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ (٤) ويراءون ، وناديناه ، ونافقوا ، وشاقوا ، ولا تؤاخذني ، إلى غير ذلك ، وان مفاد هيئة المفاعلة غير مفاد هيئة التفاعل ، وانه لا يتقوم بطرفين ، بل هيئة المفاعلة وضعت لافادة ان التعدية إلى الآخر ملحوظة في مقام افادة النسبة ،

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٢ ص ٧٤٨.

(٢) منية الطالب ج ٣ ص ٣٧٩.

(٣) سورة البقرة ٩.

(٤) سورة النساء الآية ١٠٠.

بخلاف هيئة المجرد ، فان تلك الحيثية ولو كانت داخلة في مفادها كما في الفعل المجرد الثلاثي ، كخدع غير ملحوظة ، فإذا فعل فعلا كان اثره خداع الغير ، صدق عليه انه خدعه لا انه خادعه ، إلا إذا تصدى لخديعته فالضرار هو التصدي للاضرار.

فان هذه الأمور ليست برهانية بل لا بد فيها من الرجوع إلى اهلها ، وقد صرح اهل الفن ، بان الأصل في باب المفاعلة ان يكون فعل الاثنين ، واستعمال تلك الهيئة في غير ذلك إنما يكون مع القرينة ، كما في الامثلة المشار إليها.

بل الوجه في ارادة المعنى الاخير في الحديث ، ان فعل الاثنين لا ينطبق على مورده للتصريح فيه بان سمرة مضار ، ولم يقع المضارة بين الانصاري ، وسمرة ، كما ان ارادة المجازاة لا تنطبق عليه ، مضافا إلى عدم تعاهدها من هذه الهيئة ، والتاكيد المحض خلاف الظاهر ، والضيق ليس معناه قطعا كما هو واضح.

فيتعين ما أفاده وهو الذي يظهر بالتتبع في موارد استعماله ، مع القرينة على عدم ارادة فعل الاثنين ، كقوله تعالى : (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لتَعْتَدُوا) (١) فان قوله لتعتدوا شاهد كون الضرار هو التعمد للاضرار بقصد الاعتداء وقوله تعالى (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لهُ بِوَلَدِهِ) (٢) فان المراد به النهي عن اضرار الأم بالولد بترك الارضاع غيظا على ابيه وعن اضرار الاب بولده بانتزاعه من أمه طلبا للاضرار وقوله تعالى (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣١.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٣٣.

بِإِذْنِ اللهِ) (١) وكونه بمعنى التعمد في الاضرار بالسحر مما لا يخفى.

وقوله تعالى : (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضارٍّ وَصِيَّةً مِنَ الله) (٢) فان المراد النهي عن الاضرار بالورثة ، بالاقرار بدين ليس عليه ، وقوله عزوجل (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدا ضِراراً) (٣) ، وقد اخبر الله تعالى ان المنافقين بنوا المسجد الذي بنوه ضرارا وقصدوا به المضارة ولذلك كان قبيحا ومعصية ، وفي التبيان (٤) ، الآية تدل على ان الفعل يقع بالارادة على وجه القبح دون الحسن ، أو الحسن دون القبح.

وقوله عزوجل : (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) (٥) في التبيان (٦) معناه لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة لتضيقوا في السكنى والنفقة وأمر بالسعة والمضارة المعاملة بما يطلب به ايقاع الضرر بصاحبه.

وقول الامام الصادق (ع) في خبر هَارُونَ بْنِ حَمْزَةَ الْغَنَوِيِّ : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) فِي رَجُلٍ شَهِدَ بَعِيراً مَرِيضاً وَهُوَ يُبَاعُ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَجَاءَ وَاشْتَرَكَ فِيهِ رَجُلٌ آخَرُ بِدِرْهَمَيْنِ بِالرَّأْسِ وَالْجِلْدِ فَقُضِيَ أَنَّ الْبَعِيرَ بَرَأَ

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٠٢.

(٢) سورة النساء الآية ١٢.

(٣) سورة التوبة الآية ١٠٧.

(٤) للشيخ الطوسي ج ٥ ص ٢٩٨.

(٥) سورة الطلاق الآية ٦.

(٦) التبيان ج ١٠ ص ٣٦.

فَبَلَغَ ثَمَانِيَةَ دَنَانِيرَ فَقَالَ لِصَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ خُمُسُ مَا بَلَغَ فَإِنْ قَالَ أريد الرَّأْسَ وَالْجِلْدَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ هَذَا الضِّرَار (١) فان طلب الرأس والجلد في الفرض ليس إلا بقصد الاضرار بالشريك ، وقد اطلق (ع) على الضرار.

وقول النبي (ص) في الحديث مخاطبا لسمرة ، (انك رجل مضار) (٢) ، فان المراد به انك متعمد في الاضرار بالانصارى.

وبالجملة التتبع في موارد استعمال هذه المادة المتهيئة بهيئة باب المفاعلة مع القرينة على عدم ارادة فعل الاثنين ، والتامل في الخبر يوجبان الاطمينان بان المراد بكلمة ضرار في الحديث ما أفاده العلمان ، فيكون حاصل قوله (ص) (لا ضرر ، ولا ضرار) (٣) نفي اصل الضرر ولو مع عدم التصدي للاضرار ، ونفي التصدي للاضرار.

مفاد الجملة بلحاظ تصدرها بكلمة لا

واما الثاني : وهو مفاد الجملة بلحاظ كونها متصدرة بكلمة ـ لا ـ

__________________

(١) تهذيب الاحكام ج ٧ ص ٧٩ و ٨٢ وفي نسخة وسائل الشيعة (فبلغ ثمنه دنانير) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٢٧٥. وكذا في الكافي ج ٥ ص ٢٩٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٤.

(٣) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٢ ح ٢٣٠٧٣ و ٢٣٠٧٤ وج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨١ وص ٤٢٩ ح ٣٢٢٨٢ وج ٢٦ ص ١٤ ح ٣٢٣٨٢. الكافي ج ٥ ص ٢٨٠ و ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٢٩٤.

ودخولها على الكلمتين ، فقد ذكروا فيه وجوها.

الوجه الأول : ما يظهر من اللغويين وشراح الحديث ، واختاره صاحب العناوين (١) ، وشيخ الشريعة الأصفهاني (ره) (٢) وهو إرادة النهي من النفي ومرجعه إلى تحريم الإضرار.

الوجه الثاني : ما نسبه الشيخ الأعظم إلى بعض الفحول (٣) ، وهو ان المنفي الضرر المجرد غير المتدارك ، ولازمه ثبوت التدارك في موارد الضرر.

الوجه الثالث : ما اختاره المحقق الخراساني (٤) ، وهو كونه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، كما في قوله لا رهبانية في الاسلام ـ ولا ربا بين الوالد والولد ـ وما شاكل ، فمفاد الحديث ، نفي الأحكام إذا كانت موضوعاتها ضررية.

الوجه الرابع : ما اختاره الشيخ الأعظم وتبعه جمع من الاساطين منهم المحقق النائيني ، وهو ان المنفي كل حكم ينشأ منه الضرر سواء أكان الضرر ناشئا من نفس الحكم كما في لزوم العقد الغبنى ، أم من متعلقه كما هو الغالب. اما بان يكون مجازا من باب ذكر المسبب ، وإرادة السبب كما يظهر من الشيخ (ره) ،

__________________

(١) العناوين الفقهية ج ١ ص ٣١٩.

(٢) في رسالته نفي الضرر ص ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) في رسالته لا ضرر (الرسائل الفقهية) ص ١١٤. وقيل عن بعض الفحول أنه الفاضل التوني كما في تحقيق الرسائل الفقهية ولكن لم يعثر على ما يؤيده.

(٤) كفاية الأصول ص ٣٨١.

أو من باب الإطلاق الحقيقي نظرا إلى كون النفي تشريعيا لا تكوينيا ، كما أفاده المحقق النائيني (١) ، واما بان يكون إطلاق الضرر على الحكم الموجب له من باب الحقيقة الادعائية.

الوجه الخامس : ما هو المختار ، وهو ان المنفي كل حكم نشأ منه الضرر ، أو كان موضوعه ضرريا.

الوجه السادس : ما عن بعض الأعاظم (٢) وهو ان الحكم سلطاني.

سيمر عليك توضيحه.

اما الوجه الأول : فغاية ما قيل في توجيهه انه كما يصح الأخبار عن وجود الشيء في مقام الأمر به ، كذلك يصح الأخبار عن عدم شيء في مقام النهي عنه ، وقد شاع استعمال النفي وإرادة النهي ، كما في قوله تعالى (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِ) (٣) وقول رسول الله (ص) (لا سبق إلا في خف أو حافر) (٤) وقوله (ص) (لا هجرة فوق ثلاث) (٥) وقوله (ص) لا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام (٦) وقوله (ص) (لا منع ، ولا إسراف ، ولا بخل ،

__________________

(١) منية الطالب ج ٣ ص ٢٩٤.

(٢) الرسائل ج ١ ص ٥٧.

(٣) سورة البقرة الآية ١٩٧.

(٤) وسائل الشيعة ج ١١ ص ٤٩٣ ح ١٥٣٥٢.

(٥) وسائل الشيعة ج ١٢ ص ٢٦٠ ح ١٦٢٥١. الكافي ج ٢ ص ٣٤٤.

(٦) وسائل الشيعة ج ٢٠ ص ٣٠٣ ح ٢٥٦٨٠.

ولا اتلاف) (١) ونحوها غيرها من الجملات الناهية بلسان النفي ، وهي كثيرة.

وهذا الوجه وان كان يكفي في رد المحقق الخراساني (٢) حيث قال ، وإرادة النهي من النفي لم يعهد من مثل هذا التركيب.

إلا انه لا يفي بإثبات المطلوب : وذلك لان إرادة النهي من النفي إنما يكون بأحد وجهين.

أحدهما : استعمال الجملة في مقام الأخبار عن عدم تحقق ما تصدر بكلمة لا ، في الخارج كناية عن مبغوضيته ، وحرمته ، نظير الأخبار عن ثبوت الشيء في الخارج كناية عن محبوبيته ، وفي هذا التعبير الكنائى لطف ، ويفيد المراد بوجه آكد ، ألا ترى انه لو كان الاب في مقام بيان زجر ابنه عن الكذب ، قال لا كذب في بيتى ، يكون آكد في افادة المراد بحسب المتفاهم العرفي.

ثانيهما : ان يكون ما صدره لا النافية ، محكوما بالجواز في الشرائع السابقة ، أو عند العقلاء ، واريد نفي ذلك الحكم في الشريعة المقدسة كما في (لا شغار في الاسلام) (٣) ، (ولا رهبانية في الاسلام) (٤) (ولا رأى في الدين) (٥) فان الأول ، وهو ان يقول الرجل للرجل زوجني ابنتك حتى ازوجك ابنتي على ان لا

__________________

(١) عوالي اللئالي ج ١ ص ٢٩٦. مستدرك الوسائل ج ١٥ ص ٢٦٦.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٢.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٠ ص ٣٠٤ ح ٢٥٦٨٠.

(٤) دعائم الاسلام ج ٢ ص ١٩٣.

(٥) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ٥١ ح ٣٣١٨٤.

مهر بينهما كان امرا متعارفا عند العقلاء ، وكذلك القياس والرأى وقد نفاهما الشارع ، والرهبانية كانت مشروعة في الشريعة السابقة ، فقد نفي شرعيتها في الاسلام.

وشيء منهما لا مورد له في الحديث ، اما الأول : فلان حمل اللفظ ، أو الهيئة والجملة على ارادة المعنى الكنائى ، خلاف الظاهر لا يلتزم به إلا مع عدم إمكان ارادة المعنى الحقيقي ، أو القرينة على عدم ارادته ، كما في قوله تعالى ، لا رفث ، ولا فسوق ، ولا جدال في الحج.

واما الثاني : فلان الاضرار بالغير لم يكن جائزا في شريعة من الشرائع السابقة ، ولا عند العقلاء ، فارادة النهي من النفي في الحديث لا تصح.

أضف إلى ذلك كله ، انه في بعض الروايات كلمة ، في الاسلام ، موجودة في ذيل قوله (ص) (لا ضرر ولا ضرار) (١) ، وهي ظرف لغو متعلق بفعل عام مقدر ، وهو ، موجود ، وهذا لا يلائم مع ارادة النهي من كلمة لا ، بان يكون معنى الحديث ، حرمة الاضرار في الاسلام : إذ الاسلام لا يكون ظرفا لا ضرار الناس بعضهم ببعض ، إلا على تكلف بعيد.

مع ان ارادة النهي من الحديث ، لا يلائم مع قضية سمرة ، إذ حرمة الاضرار ، لا تنطبق على ما امر (ص) به ، من قلع الشجرة ، والرمى بها وجهه كما هو واضح ، فهذا الوجه ضعيف.

واما الوجه الثاني : فغاية ما قيل في توجيهه ، ان الاصحاب ذكروا في باب

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٦ ص ١٤ ح ٣٢٣٨٢.

الضمان انه لو تلف العين المضمونة يجب على الضامن تداركها اما بالمثل أو القيمة ، وذكروا ان ذلك بمنزلة نفس العين التي يجب اداؤها ، بمقتضى حديث على اليد ـ وعليه ـ فإذا حكم الشارع الاقدس بلزوم تدارك الضرر ، صح تنزيل الضرر الموجود منزلة المعدوم ، ويقال لا ضرر.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (ره) (١) ، بان الضرر الخارجي ، لا ينزل منزلة العدم بمجرد حكم الشارع بلزوم تداركه ، وإنما المنزل منزلته الضرر المتدارك فعلا.

وفيه : ان المدعي يدعي ان الشارع يحكم باشتغال الذمة بالبدل ، فكأنه يكون البدل موجودا في الخارج فعلا ، لا انه حكم بوجوب التدارك تكليفا محضا.

والصحيح ان يورد عليه : بان اشتغال الذمة ، وان صح جعله ، منشأ للتنزيل لكنه نفي تنزيلي لا حقيقي ، وهو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا مع القرينة.

مع انه يلزم من الالتزام بذلك تأسيس فقه جديد : فان مجرد الاضرار بالغير من دون اتلاف مال منه لا يوجب الضمان ـ ألا ترى ـ انه لو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر اموالا كثيرة ، لم يجب تداركه لا تكليفا ، ولا وضعا.

واما الوجه الثالث : فقد افاد المحقق الخراساني (٢) في توجيه كونه الظاهر

__________________

(١) نقله المحقق العراقي في قاعدة لا ضرر ص ١٤٠.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨١.

من الحديث ، بان الظاهر ان يكون لا لنفي الحقيقة ، كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقة أو ادعاءً كناية عن نفي الآثار كما هو الظاهر من مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) (١) (ويا اشباه الرجال ولا رجال) (٢) فان قضية البلاغة في الكلام هو ارادة نفي الحقيقة ادعاءً لا نفي الحكم أو الصفة ، والمنفي في الحديث هو الضرر ، وحيث لا يمكن ارادة نفي الحقيقة ، حقيقة فليكن من قبيل نفي الحقيقة ادعاءً بلحاظ نفي الحكم والآثار ، فمفاد الحديث ، نفي الموضوع الضرري بلحاظ نفي حكمه.

والمتأخرون عنه أوردوا عليه بإيرادات :

الإيراد الأول : ما أفاده جماعة ، وحاصله ، ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، إنما يصح في موارد ثلاثة.

المورد الأول : كون الموضوع المنفي بنفسه ، ذا حكم شرعي بحسب ، عموم دليل أو إطلاق شامل له كما في قول الإمام أمير المؤمنين (ع) (ليس بين الرجل وولده ربا ، وليس بين السيد وعبده ربا) (٣) فان الربا محكوم بالحرمة بحسب الأدلة ، فيكون حينئذ دليل النفي ناظرا إلى نفي شموله له بنفي انطباق موضوعه عليه.

المورد الثاني : كون العنوان المنفي علة للفعل الذي هو موضوع للحكم

__________________

(١) دعائم الإسلام ج ١ ص ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة ص ٧٠ / الاحتجاج ج ١ ص ١٧٣ / الغارات ج ٢ ص ٣٢٥.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٤٧ / وسائل الشيعة ج ١٨ ص ١٣٥ ح ٢٣٣١٩.

بحسب عموم دليل أو إطلاق ، كما في قول رسول الله (ص) (رفع عن امتى تسعة اشياء ، الخطاء ، والنسيان الحديث) (١) فيكون النفي ، نفيا للمعلول ، بلسان نفي علته فيدل على ان الفعل الصادر في حال الخطاء أو النسيان ، كانه لم يصدر في الخارج فيرتفع عنه الحكم.

المورد الثالث : ما إذا كان العنوان المنفي عنوانا ثانويا للموضوع ذى حكم ، كعنوان الطاعة ، في قوله (ع) : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (٢).

والمقام لا يكون من قبيل شيء من هذه الموارد :

اما الأول : فلأنه ان أريد نفي الحكم المترتب على الضرر بنفسه ، لأدى ذلك إلى خلاف المقصود ، ويستلزم جواز الاضرار بالغير ، لعدم كونه حينئذ ضررا شرعا ، أضف إليه ان موضوع الحكم يمتنع ان يكون رافعا له لكونه مقتضيا له ، وان أريد منه نفي الحكم المترتب على الفعل المعنون بعنوان الضرر ، فيرده ان الضرر ليس عنوانا للفعل ، بل هو مسبب عنه ومترتب عليه.

واما الثاني : فلان الضرر ليس علة للفعل ، بل هو معلول له ومسبب عنه.

واما الثالث : فلما اشير إليه من ان الضرر لا يحمل على الفعل الخارجي ، كالوضوء ، والصوم ، وما شاكل ، بل هو مسبب عنه ومترتب عليه ، وعلى الجملة ما هو موضوع الحكم ، هو العنوان المنطبق على الفعل الخارجي لم يرد عليه النفي ، وما ورد عليه النفي لم يرفع حكمه قطعا.

__________________

(١) تحف العقول ص ٥٠.

(٢) وسائل الشيعة ج ١١ ص ١٥٧ ح ١٤٥١٧ / دعائم الاسلام ج ١ ص ٣٥٠.

ويتوجه عليه ان نفي العنوان الثانوي تشريعا واخراجه عن عالم التشريع ، تارة يكون حقيقيا ، واخرى يكون من قبيل نفي المسبب بلسان نفي السبب ، والمقام من قبيل الثاني ، لان هذا المقدار من خلاف الظاهر مما لا بد من الالتزام به ، حتى على مسلك المستشكلين ، الذي اختاروه تبعا للشيخ ، من ان المنفي هو الحكم الضرري ، إذ الحكم أيضاً سبب للضرر ، فلو أريد نفي الحكم الضرري لا محالة يكون نفيا للمسبب بلسان نفي سببه.

ودعوى ان الحكم سبب توليدي وعلة للضرر ، والمسبب التوليدي من العناوين المنطبقة على السبب مثلا الاحراق الذي هو مسبب توليدي ينطبق على سببه وهو الالقاء ، فإذا كان الحكم سببا للضرر ، ينطبق عنوان الضرر على الحكم فعلى هذا المسلك لا يلزم الالتزام بخلاف الظاهر بخلافه على المسلك الآخر ، كما عن المحقق النائيني (ره) (١).

غريبة : فان المسبب التوليدي في المثال ليس هو الاحراق ، فانه وصف منتزع من ترتب الحرقة عليه ، بل المسبب هو الحرقة ، وهي لا تنطبق على الالقاء. وبالجملة ، السبب والمسبب موجودان منحازان لا يعقل انطباقهما على شيء واحد ، فالضرر ينشأ من الحكم ولا ينطبق عليه وإنما المنطبق على الحكم عنوان المضر والضار.

بل ارادة نفي الموضوع الضرري ، اظهر من ارادة نفي الحكم الضرري ، فان الموضوع سبب للضرر ونفي المسبب بنفي سببه شائع ، واما الحكم فقد

__________________

(١) منية الطالب ج ٣ ص ٣٨٥.

يكون سببا كما في لزوم العقد في المعاملة الغبنية ، وقد يكون من قبيل المعد له لوساطة ارادة المكلف واختياره ، كايجاب الوضوء على من يتضرر به فان الحكم ليس سببا للضرر لوساطة ارادة المكلف فان له أن لا يتوضا فلا يقع في الضرر.

ودعوى ان ارادة المكلف حيث تكون مقهورة في عالم التشريع لهذا البعث ، فبالآخرة ينتهي الضرر إلى البعث والجعل كانتهاء المعلول الاخير إلى العلة الأولى ، لا كانتهائه إلى المعد كما عن المحقق النائيني (١).

مندفعة ، بان الارادة ، ليست معلولة للحكم ، بل هي ناشئة عن مبادئها ، والحكم إنما يكون جعلا لما يمكن ان يكون داعيا لها ، فهو من قبيل المعد للارادة ، لا العلة.

وعليه ، فلو أريد من الحديث نفي الحكم الضرري بنحو يلتزم به هؤلاء إلا علام لا بد من الالتزام بكونه نفيا ، للجامع بين السبب والمعد ، بلسان نفي المسبب ، ولا اظن كون هذا الاستعمال متعارفا ، أو له مماثل.

الإيراد الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (٢) ، وحاصله ان نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، تارة يكون نفيا بسيطا واردا لسلب ذات الشيء ، واخرى يكون نفيا تركيبيا واردا لسلب شيء عن شيء.

فان كان من قبيل الأول ، يعتبر في صحته قيود ثلاثة.

الأول : كون الموضوع ذا حكم ، اما في الجاهلية ، أو في الشرائع السابقة أو

__________________

(١) منية الطالب ج ٣ ص ٣٨٥.

(٢) منية الطالب ج ٣ ص ٣٨٥.

في هذه الشريعة بحسب عموم دليل ، أو إطلاق شامل له ـ وإلا ـ فلا معنى لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

الثاني : كونه عنوانا اختياريا ، كالرهبانية ، حتى يكون نفيه التشريعي ، موجبا لنفيه التكويني.

الثالث : كون الحكم المنفي هو الحكم الجائز ، وإلا ، انتج نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ضد المقصود في بعض المقامات ، كما في مورد اتلاف مال الغير ، فانه لو ورد في هذا المقام ، قوله لا ضرر يكون مفاده ، ان هذا الفرد الصادر خارجا من المتلف لا حكم له ، كما هو مفاد قوله (ع) لَا سَهْوَ فِي سَهْوٍ) (١).

وان كان من قبيل الثاني ، أي كان النفي تركيبيا ، واردا لسلب شيء عن شيء ، فهو يكون تخصيصا بلسان الحكومة ، ـ وبعبارة أخرى ـ النفي تحديد لما اخذ موضوعا لذلك الحكم المنفي بما عدى مورد النفي ، فمثل قوله ، (لا شك لكثير الشك) (٢) ، يدل على اختصاص البناء على الأكثر بغير كثير الشك. ولا يمكن الالتزام بشيء منهما في (لا ضرر)

اما الثاني : فلعدم كون السلب سلبا تركيبيا ، نعم لو كان الخبر بلسان ، لا

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٤٣ ح ١٠٥٤٣ و ١٠٥٤٤ / الكافي ج ٣ ص ٣٥٨ و ٣٥٩ / مستدرك الوسائل ج ٦ ص ٤١٩ و ٤٢٠ / تهذيب الأحكام ج ٣ ص ٥٤.

(٢) هذه قاعدة فقهية مستفادة من الروايات المتضمنة لمفاد هذه الجملة الواردة في الباب ١٦ من ابواب الخلل الواقع في الصلاة وليست حديثا ، ويبدو أنها لكثرة استعمالها على ألسن الفقهاء ظنها البعض رواية مع أننا لم نعثر على هذا النص في الكتب الروائية.

موضوع ضرري ، لكان من قبيل لا شك لكثير الشك.

واما الأول : فلان الضرر وان كان اختياريا ، إلا ان حكمه السابق ، حيث لا يكون بالنسبة إلى الاضرار بالغير اباحة ، بل هو اما تحريم ، أو قبح ، فارادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ينتج ضد المقصود في الموارد المشار إليها ، كما في مورد اتلاف مال الغير.

وفيه : انه بعد فرض كون الحديث نفيا للسبب بلسان نفي المسبب ، كما هو أساس هذا الوجه ، فقوله (ص) لا ضرر ، في قوة لا وضوء ضرري ، ولا عقد ضرري ، وهكذا سائر الموضوعات الضررية ، فيكون سلبه تركيبيا ، ولا محذور فيه.

الإيراد الثالث : ان كلمة ، في الإسلام ، الموجودة في بعض النصوص المعتبرة ، تدل على ان المنفي هو الحكم الضرري ، إذ لا معنى لكون الموضوع ضرريا في الاسلام.

وفيه : ان هذه الكلمة تنفي احتمال كون ، لا ، نهيا كما مر مفصلا ، ولا تصلح قرينة لتعين كون المنفي هو الحكم ، بل هي قرينة على كون النفي تشريعيا لا حقيقيا ، والنفي التشريعي كما يتعلق بالحكم حقيقة ، يتعلق بالموضوع كذلك ويخرج الموضوع عن عالم التشريع ، فهذه الكلمة تلائم مع كون المنفي كل من الحكم أو الموضوع.

فالمتحصّل مما ذكرناه ، ان شيئا مما أورد على ما اختاره المحقق الخراساني لا يرد عليه.

نعم ، يرد عليه ان هذا الاستعمال وان كان صحيحا وشائعا ، إلا انه لاوجه

لتخصيص المنفي بالموضوع الضرري ، بل مقتضى اطلاقه البناء على ارتفاع كل ما هو ضرري كان هو الحكم أو الموضوع.

ودعوى ان إسناد النفي إلى الحكم حقيقي واسناده إلى الموضوع مجازى حيث ان المنفي في الحقيقة حكمه فلو كان المراد من الحديث هو الأعم لزم اجتماع اسنادين ، مجازى ، وحقيقي في اسناد واحد ، وهو غير معقول.

مندفعة : بان المراد بالنفي النفي التشريعي وهو كما يستند حقيقة إلى الحكم يستند حقيقة إلى الموضوع باخراجه عن عالم التشريع.

وبما ذكرناه ظهر ما في :

الوجه الرابع الذي اختاره الشيخ والمحقق النائيني ، فانه لاوجه لجعل المنفي خصوص الحكم الضرري.

وقد استدل المحقق النائيني (ره) (١) لهذا القول ، أي كون المنفي هو كل حكم أوجب الضرر ، بما يتضح ببيان أمور.

الأول : ان النفي إذا تعلق بشيء ، فان كان ذلك حكما شرعيا ، كان النفي نفيا بسيطا : لان الأحكام الشرعية من الأمور الاعتبارية النفس الامرية ، ووجودها التكويني ، عين تشريعها ، فاثباتها ، أو نفيها ، راجع إلى افاضة حقيقتها ، وايجاد هويتها ، أو اعدامها عن قابلية التحقق ، فعلى هذا يكون نفيها من السلب البسيط ، وان كان من الأمور الاختراعية ، أو الأمور الدائرة بين العقلاء ،

__________________

(١) منية الطالب ج ٣ ص ٣٨٦.

المتعلق بها الإمضاء ، فحيث ان قابليتها للجعل اختراعا ، أو تأسيسا ، أو إمضاء أو تقريرا ، عبارة عن تركيب انفسها ، أو محصلاتها ، دون افاضة هويتها وايجاد حقائقها ، فلا محالة ، يكون النفي الوارد عليها من السلب التركيبي ، فالمجعول فيها نفس النفي دون المنفي.

ثم ان السلب التركيبي على قسمين :

قسم ينفي فيه هذه الماهيات عن شيء ، كقوله (ع) : لَا صَلَاةَ إِلّا بِطَهُورٍ (١). وقسم عكس ذلك ، أي ينفي فيه شيء عن هذه الماهيات ، كما في لا شك في المغرب ، ولا رفث في الحج وما شاكل ، وفي القسم الأول : يفيد النفي ، الجزئية ، أو الشرطية ، وفي القسم الثاني ، المانعية : فان نفي الماهية عن شيء ، معناه عدم تحقق الماهية بدون ذلك ، واما نفي شيء عن الماهية ، فمعناه ضدية وجود هذا الشيء فيها ، أي الماهية قيدت به ، وكيف كان فينتج النفي في القسمين الفساد من غير استعمال النفي في نفي الصحة ، وفي نفي الكمال ، في مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) (٢) ، هذا فيما يكون قابلا لان يتعلق به الجعل من حيث النفي أو المنفي ، واما ما لا يقبل ذلك كالامور الخارجية ، فلا بد وان يكون ذا حكم ، لو لا هذا النفي ليكون النفي بلحاظه ، وهو إنما يكون باحد وجهين ، اما بان يكون بنفس عنوانه موضوعا لحكم عند العرف والعقلاء ، أو في الشرائع

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ ص ٣١٥ ح ٨٢٩ وص ٣٦٥ ح ٩٦٠ وص ٣٦٦ ح ٩٦٥ وص ٣٦٨ ح ٩٧١ وص ٣٧٢ ح ٩٨١. من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٣٣. تهذيب الأحكام ج ٢ ص ١٤٠

(٢) دعائم الإسلام ج ١ ص ١٤٨.

السابقة ، والنفي واردا لا لغاية كقوله (ع) (لا رهبانية في الاسلام) (١) وما شاكل مما ورد لنسخ الأحكام السابقة ، والغائها عن الاعتبار ، واما بان يكون مندرجا لو لا هذا النفي في عموم ، أو إطلاق ، وكان النفي واردا لاخراج ذلك الفرد عن موضوع العام أو المطلق كقوله (ع) (لا شك لكثير الشك) (٢) ، (ولا شك في نافلة) (٣) ، والقسم الأول من النفي البسيط ، والثاني من النفي التركيبي.

الثاني : ان الضرر من العناوين الثانوية للحكم ، لأنه من المسببات التوليدية ، والمسبب التوليدي ينطبق على السبب ، فان قيل ان ما ذكر يتم في مثل لزوم العقد الذي هو السبب للضرر ، ولا يتم في مثل وجوب الوضوء على من يتضرر به ، فان السبب هو الوضوء ، ووجوبه من قبيل المعد ، قلنا : ان ارادة المكلف حيث كانت مقهورة في عالم التشريع لهذا البعث والجعل ، وقد اشتهر ان الممتنع الشرعي ، كالممتنع العقلي ، واللابدية الشرعية ، كاللابدية العقلية ، فبالآخرة ينتهى الضرر إلى البعث والجعل كانتهاء المعلول الاخير إلى العلة الأولى

__________________

(١) دعائم الاسلام ج ٢ ص ١٩٣.

(٢) هذه قاعدة فقهية مستفادة من الروايات المتضمنة لهذا المضمون ، وليست حديثا ، ويبدو أنها لكثرة استعمالها على ألسن الفقهاء ظنها البعض رواية مع أننا لم نعثر على هذا النص في الكتب الروائية.

(٣) ذكرها النائيني في منية الطالب ج ٣ ص ٣٨٥ على أنها رواية عن النبي ص ولكن يبدوا أنها أيضا قاعدة فقهية إذ ليس لها وجود في الكتب الروائية. وما ورد هو قوله : (لا سهو في نافلة) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢٤١ ح ١٠٥٤٠.

لا كانتهائه إلى المعد ، فالعلة التامة لوقوع المكلف في الضرر هي الجعل الشرعي.

الثالث : ان اسناد النفي إلى الحكم حقيقي ، ويكون النفي مستعملا في معناه الحقيقي بلا رعاية عناية ، بخلاف اسناده إلى الموضوع فانه يحتاج إلى رعاية عناية.

فنتيجة هذه الأمور ظهور قوله (ص) (لا ضرر ولا ضرار) (١) ، في ارادة نفي الحكم الضرري ، فانه بذلك يتحفظ على ظهور لا النافية في ما هو معناه الحقيقي ، من دون ان يلتزم بخلاف الظاهر في مدخولها ، بان يكون من قبيل استعمال المسبب وإرادة سببه ، كي : يرد عليه ما أفاده المحقق الخراساني ، بأنه ليس من الشائع المتعارف في المحاورات التعبير عن نفي السبب بنفي مسببه ، لما ذكرناه من ان الضرر عنوان ثانوى للحكم ، ونفي العنوان الثانوي وإرادة العنوان الأولى ، ليس من باب المجاز فان إطلاق المسبب التوليدي على سببه شايع متعارف في المحاورات العرفية.

وفي كلامه مواقع للنظر

أولا : ما أفاده من انطباق المسبب التوليدي على سببه الذي قد مثل ، له بانطباق إلا يلام على الضرب ، والاحراق على الالقاء في النار : فانه يرد عليه ما تقدم من انهما موجودان بوجودين ، وليسا من قبيل العنوانين المنطبقين على المعنون الواحد ، والإيلام ، والإحراق ليسا مسببين ، بل المسبب هو الألم ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٢ ح ٢٣٠٧٣ و ٢٣٠٧٤ وج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨١ وص ٤٢٩ ح ٣٢٢٨٢ وج ٢٦ ص ١٤ ح ٣٢٣٨٢. الكافي ج ٥ ص ٢٨٠ و ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٢٩٤.

والحرقة ، وبديهي عدم انطباقهما على الضرب والإلقاء.

ثانيا : ما ذكره من انه من جهة مقهورية العبد في الإرادة ، يكون وساطتها ، كوساطة الأمر غير الاختياري ، غير مانع من استناد المعلول إلى علته الأولى ، فانه يرد عليه ، ما تقدم من ان الحكم إنما يكون داعيا إلى الإرادة ، واختياريتها محفوظة ، فهو من قبيل المعد.

ثالثا : ما أفاده من ظهور النفي في ارادة نفي الحكم ، فانه بعد فرض كون النفي تشريعيا ، لا تكوينيا ، يكون نسبته إلى الحكم والموضوع على حد سواء ، وسيأتي زيادة توضيح لذلك ، وعليه فلا وجه لجعل المنفي خصوص الحكم.

ومما ذكرناه ظهر ان مفاد الحديث نفي مطلق الأمر الضرري موضوعا كان أم حكما.

وهو الوجه الخامس ونزيده ظهورا ببيان أمرين.

الأول : ان المنفي في المقام هو ما يوجب الضرر ، وهذا المقدار من العناية مما لا بد منه ، كان المنفي هو الحكم الضرري ، أو الموضوع الضرري وقد مر توضيحه ، وعرفت ان ما أفاده المحقق النائيني من ان الضرر من العناوين الثانوية للحكم غير تام.

الثاني : ان وجود الضرر في الخارج غير ملازم لاستعمال النفي ، في غير معناه الحقيقي ، أو ظهوره في نفي الحكم ، بل النفي متعلق بالضرر في عالم التشريع ، فاستعمل في معناه ، وأريد بالمنفي الحكم ، أو الموضوع ، اما على الأول فواضح ، واما على الثاني ، فلان المراد من النفي ، هو إخراج الموضوع عن عالم

التشريع ، توضيحه ، ان الصفات التعلقية ، كالشوق ، والحب وكذلك الاعتباريات ، لا يعقل ان تتحقق الاضافة إلى الماهيات ، وتلك الماهيات تتحقق بنفس تحقق هذه الأمور نظير تحقق الماهية بالوجود الخارجي ، والذهني ، فوجودها إنما يكون بوجود هذه ، واعدامها في الحقيقة إنما يكون بإعدام هذه ، نظير إعدام الماهية في الخارج ، فانه يكون بإعدام الوجود.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه ان الحديث ظاهر في ارادة نفي الأمر الضرري سواء كان موضوعا أم حكما.

بقي الكلام في الوجه السادس : وحاصل ما أفيد في وجهه ، ان هذا الحكم ليس حكما تشريعيا بل هو حكم سلطاني حكم به (ص) لمقام سلطنته الممضاة ، من قبل الله تعالى ، بمنع اضرار الناس بعضهم ببعض.

توضيحه ان للنبي (ص) مقامات ثلاثة :

المقام الأول : مقام النبوة ، وتبليغ الرسالة ، وهو من هذه الجهة مبين للمعارف وحاك للأحكام الشرعية.

المقام الثاني : مقام القضاوة ، وهو إنما يكون في مقام تنازع الناس في الحقوق والاموال.

المقام الثالث : مقام السلطنة والرئاسة ، كنصب امراء الجيوش والقضاة واشباه ذلك.

ومن المعلوم ان حكمه (ص) في قضية سمرة بنفي الضرر ليس من الأول ، ولا الثاني : إذ لم يكن لسمرة ولا للانصاري ، شك في الحكم التكليفي أو

الوضعي ، أو تنازع في حق اختلفا فيه من جهة اشتباههما في المصاديق أو الحكم ، وإنما اشتكى الانصاري وتظلم وانتصر منه (ص) بما انه سلطان على الأمة ، فأمر (ص) بقلع النخلة حسما لمادة الفساد ، وعقبه بلا ضرر ولا ضرار ، فهذا حكم سلطاني عام بعد الحكم الخاص ، ومفاده انه لا يضر احد غيره في حوزة رعيتي والتابعين لى ، لا بما انه حكم من الأحكام الشرعية بل بما انه حكم من قبل السلطان.

ويرد عليه أمور :

الأمر الأول : ان مآل هذا الوجه ، إلى الوجه الأول وهو ، ارادة النهي من النفي ، وكونه في مقام بيان تحريم الإضرار.

فيرد عليه جميع ما اوردناه على الوجه الأول.

الأمر الثاني : ان هذا الموضوع الكلي الذي حكم عليه ، بحكم سلطاني ، هل له حكم شرعي ، أم لا حكم له؟ لا سبيل إلى الثاني : لما ثبت بالضرورة انه (ص) لم يدع موضوعا إلا وبين حكمه وعلى الأول ، كان حكمه الجواز ، أو المنع؟ لاوجه لتوهم الأول ، فيتعين الثاني ، ومعه لا يبقى مورد للحكم السلطاني.

الأمر الثالث : ان اعمال السلطنة إنما يكون في الموارد الخاصة التي ترتبط بمصالح الامة مما لا يندرج تحت ضابطة كلية كنصب القضاة ، وامراء الجيوش ، وما شاكل فان تعيين ذلك وتطبيقها على مواردها الجزئية التي لا ضابطة لها بيده (ص) على ما يراه مصلحة للعباد ، ولا سبيل إلى جريان ذلك في الموضوعات الكلية.

الأمر الرابع : ان الظاهر من قضية سمرة ان النزاع بينه وبين الانصاري كان من ناحية الاختلاف في الحكم ، فان سمرة كان يرى الاستيذان من الانصاري ، منافيا لسلطنته ، فيما كان له من حق العبور إلى نخلته ، ولذا قال استاذن في طريقي إلى عذقى ، والانصاري كان يرى ان له الزامه بذلك ، فرجعا إلى النبي (ص) فحكمه إنما يكون من باب القضاء ، والظاهر ان الاصحاب أيضاً فهموا منه ذلك ولذلك ذكروا هذه القضية في اقضية النبي (ص).

تطبيق حديث لا ضرر على قضية سمرة

اما المقام الثالث : وهو في دفع ما أورد على الاستدلال بالحديث من الايرادات ، وهي متعددة جملة منها واضحة الدفع لا حاجة إلى التعرض لها ، وإنما المهم منها اثنان.

الايراد الأول : ان حديث لا ضرر لا ينطبق على ما ذكر من مورده وهو نزاع سمرة ، مع الانصاري ـ وبعبارة أخرى ـ ان الميزان الكلي المبين بقوله (ص) (لا ضرر ولا ضرار) (١) ، لا ينطبق على مورده ، فلا بد اما من رفع اليد عن ظاهره ، أو اخراج المورد ، وعلى التقديرين لا يصح الاستدلال به.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٢ ح ٢٣٠٧٣ و ٢٣٠٧٤ وج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨١ وص ٤٢٩ ح ٣٢٢٨٢ وج ٢٦ ص ١٤ ح ٣٢٣٨٢. الكافي ج ٥ ص ٢٨٠ و ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٢٩٤.

والوجه في ذلك ما أفاده الشيخ في رسالته (١) المعمولة في هذه القاعدة ، وحاصله ، ان الضرر في تلك القضية إنما كان في دخول سمرة بغير استيذان من الانصاري ، ولم يكن في بقاء عذق سمرة في البستان ضرر ، ولذا امره (ص) اولا بالاستيذان من الانصاري ، ومع ذلك امر (ص) بقلع العذق ، فالكبرى الكلية المذكورة في الحديث لا ينطبق على مورده ، فكيف يستدل بها في غيره.

وأجابوا عنه باجوبة.

الجواب الاول : ما عن الشيخ (ره) (٢) وهو ان عدم انطباق التعليل على الحكم المعلل ، لا يخل بالاستدلال.

وفيه : ان عدم انطباق الكبرى على ما ذكر موردا لها ، يكشف عن عدم ارادة ما يكون الكبرى ظاهرة فيه ، وإلا لزم خروج المورد ، فلا محالة تصير مجملة ومعه لا يصح الاستدلال بها.

الجواب الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٣) ، وهو ان جواز دخول سمرة على الانصاري بغير اذن منه ، معلول لكون سمرة مستحقا لا بقاء عذقه في البستان ، فإذا كان المعلول ضرريا فكما يرتفع هو بنفي الضرر كذلك يرتفع علته بنفيه ، ونظير ذلك ما إذا كانت المقدمة ضررية ، فانه كما يرتفع وينفي به

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١١١.

(٢) نسبه إليه المحقق النائيني في (تقريرات الخونساري) منية الطالب ج ٣ ص ٣٩٩.

(٣) منية الطالب ج ٣ ص ٣٩٨. ونقله أيضا الأستاذ السيد الخوئي في مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٣١.

وجوب المقدمة كذلك ينتفى به وجوب ذى المقدمة فحق سمرة يسقط لكون معلوله ضرريا.

وفيه : اولا بالنقض ـ بما إذا كانت اطاعة الزوج ضررية للزوجة ، فان لازم ما أفاده نفي الزوجية التي هي العلة لوجوب الاطاعة ، أو إذا اضطر إلى شرب النجس ، فان لازم ما أفاده نفي النجاسة به وغير ذلك من الموارد.

وثانيا : بالحل ـ وهو انه لا يستلزم ضررية المعلول ، ضررية العلة كي ترتفع بنفي الضرر فلا وجه لنفيها ، وهذا بخلاف المقدمة الضررية : فان ضرريتها تستلزم ضررية ذى المقدمة فيرتفع وجوبه ابتداء لكونه ضرريا.

الجواب الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) أيضاً وتبعه غيره (١) ، وهو ان المستفاد من الرواية امران ، الأول عدم جواز دخول سمرة على الانصاري بغير استيذانه ، الثاني حكمه (ص) بقلع العذق والمستند إلى الضرر ، والصغرى لهذه الكبرى إنما هو الحكم الأول خاصة ، والحكم الثاني إنما هو من جهة ولايته (ص) على اموال الامة وانفسهم دفعا لمادة الفساد أو تأديبا له لقيامه مقام العناد واللجاج.

وفيه : ان الظاهر من الحديث كون المستند إلى الضرر هو الحكم الثاني كما يظهر لمن راجعه.

فالحق في الجواب ان يقال : انه بعد ما لم يرض سمرة بالاستيذان وكان حفظ عرض الانصاري متوقفا على قلع العذق وكان حفظ العرض أهم في نظر

__________________

(١) مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٣٢ / دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٥٠٧.

الشارع من حفظ المال طبق (ص) نفي الضرر على حفظ سلطنة الانصاري لعرضه المقتضي ذلك لقلع العذق ، فما هو المستند إلى الضرر حفظ الانصاري لعرضه لا نفي سلطنة سمرة على عذقه.

وان شئت فقل انه بعد ما لم يرض سمرة ، بالاستيذان ولا بالمعاملة على عذقه ، كان الموجب للضرر ، هو بقاء عذقه ، وعدم جواز قلعه ، فعموم نفي الضرر طبق عليه ، ولاجله جاز.

مع ان اجمال ما تضمن قضية سمرة ، من النصوص غير مضر بالاستدلال بالنصوص المتضمنة لهذه الجملة خاصة كمرسل الصدوق المتقدم الذي عرفت اعتباره.

هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيص

الإيراد الثاني : ما ذكره الشيخ في الرسائل (١) ، بقوله ، ان الذي يوهن فيها ، هي كثرة التخصيص فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ، إلى ان قال بل لو بنى على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد.

والظاهر ان نظره في الموارد الخارجة ، إلى ابواب ، الحدود ، والديات ، والقصاص ، والتعزيرات ، والضمانات ، والخمس ، والزكاة ، والحج ، والجهاد ، وما شاكل ، واجيب عنه بوجهين.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٧.

الأول : ان استقرار سيرة الفريقين ، على العمل بها في مقابل العمومات المثبتة للاحكام ، وعدم رفع اليد عنها إلا بمخصص قوى ، يوجب جبر وهنها.

وأورد عليه بان كثرة التخصيص كاشفة عن عدم ارادة المعنى الذي استظهرناه من ادلتها ، وعملهم يكشف عن فهمهم معنى شاملا للموارد التي عملوا بها فيها ، وحيث ان ذلك المعنى ليس ظاهرا ، وفهم الاصحاب ليس حجة لنا ، فلا يصلح ذلك لجبر وهنها. بعد فرض انه لا يحتمل ان يكون عمل الأصحاب كاشفا عن وجود قرينة واصلة إليهم غير واصلة الينا ، وان الصادر عن المعصوم (ع) هو الذي بايدينا.

جعل كثرة التخصيص كاشفة عن عدم ارادة المعنى الظاهر.

غريب : فان ارادة معنى غير ما هو الظاهر بلا قرينة عليها ، غير محتملة بالنسبة إلى المتكلم الحكيم ، الذي هو في مقام بيان الحكم الشرعي ، فكثرة التخصيص لمعنى ان كانت مستهجنة ، لا ريب في ان ذلك اشد استهجانا ، نعم ما ذكر من عدم حجية فهم الأصحاب ، متين.

الثاني : ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها وان لم نعرفه تفصيلا ، وقد تقرر في محله ان تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد.

وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) (٢) بان عدم الاستهجان فيما إذا كان

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٧.

(٢) درر الفوائد (الجديدة) ص ٢٨٤.

الخارج بعنوان واحد إنما هو فيما إذا كان أفراد العام انواعا ، والسّرّ فيه حينئذ ان خروج عنوان واحد عن تحت الأنواع الكثيرة ليس تخصيصا للاكثر ، وان كانت أفراده اكثر من أفراد سائر الأنواع : لان الملحوظ على الفرض هو الأنواع دون الأفراد ، واما إذا كان أفراده أشخاصا بما ، ان الملحوظ استقلالا والمجعول موضوعا هو الأشخاص ، والنظر إلى الأنواع آلي ، فلا يتفاوت في الاستهجان بين كون الخارج بعنوان واحد أو بعناوين عديدة ، وفي القاعدة بما ان أفراد لا ضرر ، أشخاص فكثرة الخارج مستهجن ، وان كان بعنوان واحد.

والصحيح ان يقال ان دليل العام إذا كان من قبيل القضية الخارجية وكان الحكم مترتبا وواردا على كل شخص من الأفراد بلا جامع بينها بحسب الملاك ـ مثل ـ قتل من في العسكر ـ ونهب ما في الدار ـ تم ما أفاده المحقق الخراساني (ره).

واما إذا كان من قبيل القضية الحقيقية غير الناظرة إلى الأفراد الخارجية المتضمنة لورود الحكم على الطبيعة ، وبلحاظ انطباقها على الأفراد يشمل الحكم للافراد.

فلا يتم فانه لا نظر في القضية الحقيقية إلى الأفراد ، فلا استهجان في كثرة أفراد المخصص ، إذ لم يلاحظ الخارج ، إلا على نحو الفرض والتقدير ، ويزيد عدم الاستهجان وضوحا ، إذا كان المخصص متصلا ، أو متحققا حين صدور العام ، كما في المقام.

فهل المقام من قبيل الأول ، أو الثاني؟

قد يقال انه من قبيل القضية الخارجية من جهة ان المنفي هو الضرر

الناشئ من الأحكام المجعولة في الخارج كما عن المحقق النائيني (ره) (١).

وفيه : ان المنفي كل حكم ضرري ولا يكون الحديث ناظرا إلى خصوص الأحكام التي كانت مجعولة حين صدور الحديث كما هو واضح ، فهو إنما يكون من قبيل القضية الحقيقية ، وعليه فيتم ما أفاده الشيخ (ره) (٢) ، ويؤيد عدم الاستهجان ، ان تلك الأحكام المشار إليه كانت صادرة عن النبي (ص) في زمان قضية سمرة ومع ذلك لم يعترض عليه احد من الصحابة بجعلها في الشريعة.

ويمكن ان يجاب عن الإشكال بوجوه اخر :

الأول : بظهور لا ضرر ولا ضرار في نفسه في نفي الأحكام التي لم تقتض بطبعها ضررا ، فهذه الموارد خارجة عن القاعدة بالتخصص لا بالتخصيص.

الثاني : ان الحكم في جملة من تلك الموارد ليس ضرريا كأبواب الغرامات ، والجنايات ، والزكاة ، والخمس : فان وجوب تدارك ما اتلفه ، ووجوب الدية على من جنى أو قتل نفسا ، ووجوب اخراج حق الإمام (ع) والسادات والفقراء من جهة كونهم شركاء ، إنما يكون من قبيل اداء الدين ، ولا يصدق عليها الضرر الذي هو عبارة عن النقص في المال.

الثالث : ان الحكم المبين بحديث لا ضرر ، من الأحكام الاجتماعية الاسلامية ، وتلك الأحكام إنما تكون بلحاظ نوع المسلمين وعامتهم ، لا بلحاظ الأفراد ، وعليه فاكثر الأحكام التي توهم كونها ضررية وخارجة عن تحت عموم

__________________

(١) منية الطالب ج ٣ ص ٤٠١.

(٢) من أن الموارد الكثيرة خرجت عن العام بعنوان واحد.

الحديث لا تكون ضررية بحسب النوع ، الذي هو الميزان في المقام ، فلا اشكال في التمسك بعموم الحديث.

الميزان هو الضرر الشخصي

واما المقام الرابع : فملخص القول فيه في ضمن تنبيهات :

التنبيه الأول : ان الميزان ، هل هو الضرر الشخصي فلو كان فعل واحد ضرريا على عامة المكلفين ، ولم يكن ضرريا على شخص واحد ، ولم يكن من الأحكام الاجتماعية لا يحكم بارتفاعه بالنسبة إليه خاصة ، أم تكون العبرة بالضرر النوعي فالحكم في الفرض يكون مرتفعا بالنسبة إلى غير المتضرر أيضاً؟ وجهان :

والأظهر هو الأول : فان الظاهر من اخذ عنوان في الموضوع دوران فعلية الحكم مدار فعلية ذلك العنوان ، ولا يكفي لفعلية الحكم بالنسبة إلى شخص فعلية الموضوع بالاضافة إلى أشخاص اخر ، كما هو الشأن في جميع العناوين الكلية المأخوذة في الموضوعات ـ ألا ترى ـ ان وجوب الحج رتب على الاستطاعة فلو فرضنا ان اكثر اهل البلد صاروا مستطيعين في سنة ، غير واحد منهم ، فهل يتوهم البناء على وجوبه عليه أيضاً ، وهذا من الوضوح بمكان.

وقد استدل للثاني بوجهين.

الوجه الاول : ان الأصحاب استدلوا بها على خيار الغبن ، مع ان المعاملة

الغبنية لا تكون ضررية دائما ، بل ربما تكون المصلحة في بيع المتاع باقل من ثمن المثل ، كما إذا كان في معرض السرقة أو الحرقة ، أو لم يقدر مالكه على حفظه ولا على بيعه باكثر من ذلك : فان هذه المعاملة غبنية وليست بضررية ، ومقتضى إطلاق كلمات الاصحاب ثبوت الخيار فيها أيضاً فيستكشف من ذلك ان الميزان هو الضرر النوعي لا الشخصي.

وفيه : أولا ، ان منشأ ثبوت خيار الغبن ليس هو قاعدة لا ضرر كما حقق في محله.

وثانيا : ان الظاهر صدق الضرر في الفرض ، فان هذه المعاملة بملاحظة الجهات الخارجية وان كانت اقل ضررا من حفظ المتاع ، إلا أنها من حيث أنها معاملة تكون ضررية ، إذ لا يتصور الغبن من دون الضرر.

وثالثا : ان التزام الفقهاء في المورد المفروض ، بالخيار مع قطع النظر عن الأدلة الأخر ، غير ثابت.

ورابعا : ان الظاهر من الحديث ، نفي الحكم الموجب للضرر اما في النفس أو المال ، والضرر المالي قد يكون موجبا للضرر الحالي ، وقد لا يكون كذلك ، فشخصية الضرر ، إنما هي بلحاظ المال ، لا بلحاظ الشخص.

الوجه الثاني : انه لا ريب في ان الضرر في موارد ثبوت حق الشفعة إنما يكون غالبيا ومع ذلك أفتى الأصحاب بثبوته مطلقا ، بل الإمام طبق حديث لا ضرر عليه كما تقدم فيعلم من ذلك ان العبرة بالضرر النوعي لا الشخصي.

وفيه : ان دليل ثبوت ذلك الحق ليس هو قاعدة لا ضرر ، بل النصوص الخاصة الدالة عليه ، وقد تقدم ان النص الذي في ذيله لا ضرر ولا ضرار ، ضعيف السند ، مع انه لو سلم تذيل تلك النصوص بهذا الذيل ، ثبوت الخيار في غير مورد الضرر لازمه فرض الضرر حينئذ حكمة التشريع ، وهذا امر يمكن الالتزام به في تلك النصوص ، بخلاف الأحكام التي يلتزم بنفيها من جهة كونها ضررية لما دل على نفي الضرر ، فتدبر فانه دقيق.

العبادات الضررية مشمولة للحديث

التنبيه الثاني : هل الحديث يشمل العبادات الضررية ، أم لا؟ وجهان :

وقد استدل للثاني بوجهين.

الوجه الأول : انه في بعض النصوص كلمة ، على مؤمن ، موجودة في ذيل جملة لا ضرر ولا ضرار ، والظاهر منها ، حينئذ ان المنفي هو الحكم الذي يتضرر به الغير ، واما ما يتضرر به الإنسان نفسه ، كما في العبادات الضررية ، فخارج عن تحت تلك الجملة.

وفيه : انه قد عرفت عدم وجود كلمة على مؤمن في شيء من الأخبار ، إلا في مرسل ضعيف غير حجة ، فالقيد الموجب لخروج العبادات الضررية ، غير ثابت ، مع انه لو سلم وجودها في نص معتبر ، بما ان هناك ما يكون مطلقا ولا يحمل المطلق على المقيد في المثبتين ، ففي العبادات الضررية يتمسك بالنص المطلق لنفي احكامها.

الوجه الثاني : ان الضرر هو النقص في المال أو النفس أو ما يتعلق به مع عدم حصول نفع في مقابله ، واما ما يحصل في مقابله نفع ، فلا يكون ضررا ، ومعلوم ان الأمر بالشيء في حال الضرر ، الثابت بعموم الدليل أو اطلاقه ، يدل على العوض ، فلا يكون ضررا.

واجيب عنه (١) : بان الأمر متعلق بنفس تلك الماهية كالصلاة ولازمه تحقق الأجر في مقابل تلك الماهية ، واما حصول عوض في مقابل الضرر واجر له فلا دليل عليه.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (٢) بأنه لو سلم وجود النفع في ماهية الفعل أو في مقدماته ، كان الأمر بذلك الفعل امرا بالتضرر والاجر بازائه.

والحق في الجواب ان الضرر هو النقص الدنيوي غير المتدارك بنفع كذلك ، واما النفع الاخروي فهو الموجب للأمر بالتضرر ولا يكون مخرجا له عن كونه ضررا ، فالاظهر شموله لها.

مع ان المراد بالعوض اما الاجر الاخروي ، أو المصلحة الكامنة في فعل العبادة ، اما الاجر فثبوته تابع للأمر وبعد تقييد إطلاق دليل الأمر بالعبادة بحديث لا ضرر يكون الأمر تابعا ومتوقفا على عدم كون العبادة ضررية ، فلو توقف ذلك على الاجر كان ذلك دورا واضحا ، واما المصلحة فحيث ان الدليل ليس في مقام بيانها بل في مقام بيان الأمر وإنما تستكشف هي من ثبوت

__________________

(١) الفاضل النراقي في عوائد الايام ص ٢١.

(٢) رسائل فقهية ص ١٢٠.

الأمر بناءً على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، فثبوت المصلحة إنما يتوقف على ثبوت الأمر ، وهو يتوقف على عدم الضرر ، فلو كان ذلك متوقفا على ثبوت المصلحة لزم الدور ، فالعوض الاخروي ، والمصلحة لا يصلحان لجبر الضرر فتدبر فانه دقيق.

الإقدام لا يمنع عن شمول الحديث

التنبيه الثالث : لا اشكال في شمول الحديث ، لما إذا كان السبب للتضرر ، هو الحكم الشرعي بلا دخل لما هو فعل اختياري للمكلف فيه.

إنما الكلام فيما إذا كان للفعل الاختياري دخل فيه فانه قد اختلفت كلمات القوم في موارده ، ويتوهم التنافي بين فتاوى القوم فيها.

وقد صرح غير واحد في جملة من التكليفيات بان الاقدام على الضرر لا يوجب عدم حكومة القاعدة عليها.

وقالوا انه من اجنب نفسه متعمدا مع كون الغسل مضرا له ان هذا الاقدام لا يوجب عدم جريان قاعدة لا ضرر.

وانه إذا صار المكلف باختياره سببا لمرض أو عدو يتضرر به سقط وجوب الصوم والحج.

وانه لو احدث المتوضى مع كون الوضوء ضرريا لا يجب عليه الوضوء.

وايضا صرح غير واحد في الوضعيات وفي غير مورد من التكليفيات بان الاقدام يمنع عن حكومة القاعدة لاحظ :

مسألة : ما لو اقدم انسان ونصب اللوح المغصوب في سفينته : فانه قالوا انه يجوز لمالك اللوح نزع لوحه وان تضرر مالك السفينة بنزعه بلغ ما بلغ ، وانه يجب على مالك السفينة رد اللوح وان تضرر ، وعللوه بأنه اقدم على الضرر.

ومسألة العلم بالغبن ، فانهم يفتون بثبوت اللزوم ، ويعللون عدم شمول القاعدة له : بأنه اقدم على الضرر.

ومسألة ما لو استأجر شخص أرضا إلى مدة وبنى فيها بناءً أو غرس فيها شجرا ، يبقى بعد انقضاء زمان الاجارة : فانهم قالوا ان لمالك الارض هدم البناء وقلع الشجر وان تضرر به المستاجر.

وكذا لو غرس أو بنى من عليه الخيار في الملك الذي تعلق به حق الخيار ، فانهم أفتوا بأنه لذي الخيار هدمه أو قلعه إذا فسخ العقد الخياري وان تضرر به من عليه الخيار إلى غير ذلك من الفروع.

وكيف كان ففي المقام أقوال (١) :

القول الأول : ما ذهب إليه جمع من متأخري المتأخرين ، وهو ان الاقدام يمنع عن شمول القاعدة مطلقا.

القول الثاني : ما اختاره جماعة ، وهو عدم المانعية كذلك.

القول الثالث : التفصيل بين الاقدام بفعل محرم ، والاقدام بفعل جائز ، وان

__________________

(١) ستأتي الاشارة إلى الاقوال عند مناقشتها.

الأول مانع عن الشمول دون الثاني.

القول الرابع : التفصيل بين التكليفيات ، والوضعيات ، وهو مانع في خصوص الأولى.

القول الخامس : التفصيل الذي اختاره المحقق النائيني.

وقد استدل للاول : بان الحديث إنما يرفع الحكم الذي يكون سببا للضرر ، وفي الفرض ، السبب هو الاقدام لأنه الجزء الأخير للعلة دون الحكم.

وبان جماعة من الاصحاب افتوا بلزوم الغسل على من اجنب نفسه مع العلم بكون الغسل ضرريا.

وبتسالم الاصحاب على ان خياري العيب ، والغبن ، يسقطان ، في صورة علم المغبون بغبنه ، وما لو علم المشترى بالعيب ، ولاوجه لذلك سوى الإقدام.

وفي كل نظر.

اما الأول : فمضافا إلى كونه أخص من المدعى ، لما سيمر عليك عند بيان ما أفاده المحقق النائيني.

يرد عليه : انه قد عرفت ان المنفي بحديث لا ضرر ، كل ما اوجب الضرر كان هو الحكم أو الموضوع ، فعدم استناد الضرر إلى الحكم مع كون المتعلق أو الموضوع ضرريا ، لا يوجب عدم شمول الحديث.

واما الثاني : فلان من افتى بوجوب الغسل في الفرض إنما استند إلى

النص الخاص (١) فلا يقاس سائر الموارد به.

واما الثالث : فلأن مدرك ثبوت خياري العيب والغبن ، ليس هو قاعدة لا ضرر ، بل المدرك فيهما ، الشرط الضمني الذي عليه بناء العقلاء في معاملاتهم من سلامة المبيع ، وتساوى المالين في المالية مع التبدل في الاشخاص ، والاخبار الخاصة في خيار العيب (٢) واختصاص الوجهين بصورة الجهل واضح.

مع : انه لو سلم كون المدرك هو قاعدة لا ضرر فبما ان القاعدة إنما تنفي الحكم الذي في رفعه منة ، ومع العلم بالغبن ، والعيب لا يكون رفع اللزوم امتنانيا فلا تشمله القاعدة.

واستدل للثالث : وهو ان الاقدام بفعل حرام مانع عن شمول القاعدة.

بخبر عبد العزيز ، عن الإمام الصادق (ع) عمن اخذ أرضا بغير حقها وبنى فيها ، قال : يرفع بنائها وتسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق (٣).

بدعوى ان الجملة الأخيرة كناية عن كل ما وضع بغير حق ، فكل موضوع

__________________

(١) وهو قوله عليه‌السلام (إِنْ أَجْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِنِ احْتَلَمَ تَيَمَّمَ) وسائل الشيعة ج ٣ ص ٣٧٣ ح ٣٩٠٢ ، الكافي ج ٣ ص ٦٧.

(٢) وهو قوله عليه‌السلام (أَيُّمَا رَجُلٍ اشْتَرَى شَيْئاً وَبِهِ عَيْبٌ وَعَوَارٌ لَمْ يُتَبَرَّأْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُ فَأَحْدَثَ فِيهِ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ شَيْئاً ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ الْعَوَارِ وَبِذَلِكَ الدَّاءِ إِنَّهُ يُمْضَى عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الدَّاءِ وَالْعَيْبِ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٠ ح ٢٣٠٦٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٣٨٨ ، ح ٣٢١٩٤.

بغير حق وعلى وجه محرم لا احترام له ، فلا تشمله القاعدة لخروج هذا المال عنه تخصصا ، إذ القاعدة تنفي الضرر على المال المحترم.

وبقول الإمام على (ع) في نهج البلاغة : الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها (١).

لكنهما أخصّان من المدَّعى لاختصاصهما بالأموال ، وعدم شمولها لما إذا تضرر الغاصب بغير ما وضع على المغصوب.

واستدل للرابع : بان القاعدة امتنانية ، ولا امتنان في رفع الصحة واللزوم مع العلم بالضرر بخلاف باب التكليفيات ، وقد ظهر ما فيه مما قد مر.

واما القول الخامس : الذي اختاره المحقق النائيني ، فملخصه انه للإقدام صور ثلاث :

الأولى : الإقدام على موضوع يتعقبه حكم ضرري ، كما لو أجنب نفسه مع العلم بان الغسل يضره ، أو شرب دواء يعلم بأنه يصير سببا لمضرية الصوم.

الثانية : ان يكون الإقدام على نفس الضرر ، كالإقدام على البيع الغبني.

الثالثة : ان يكون إقدامه على امر يكون مستلزما لتوجه الحكم الضرري إليه ، سواء كان الحكم قبل الإقدام فعليا ، كما لو غصب لوحا ونصبه في سفينته ، أو لم يكن كذلك ، ولكنه يعلم بتحققه بعد ذلك ، كما لو بنى في الأرض المستأجرة سنة مثلا ، أو غرس فيها شجرا يبقى فيها بعد انقضاء مدة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٧٢.

الإجارة.

واختار عدم مانعية الاقدام في الصورة الأولى ، وكونه مانعا في الاخيرتين.

وذكر في وجه عدم المانعية في الصورة الأولى ، ان السبب للضرر فيها ، هو الحكم الشرعي ، والاقدام إنما هو من قبيل المعد وفي المرتبة السابقة على الحكم ، ولا يكون واسطة بين الحكم والضرر ، مثلا في المثالين لو لا حكم الشارع بوجوب الغسل ، والصوم لم يكن الشخص متضررا بالاجناب ، وشرب الدواء.

وذكر في وجه المانعية في الصورة الثانية : بان منشأ الضرر إذا كان حكم الشارع يكون منفيا بالحديث ، وان كان فعل المكلف لا يكون حكمه مشمولا له ، ومع العلم بالضرر واقدامه عليه يكون منشأ الضرر فعل المكلف ، فلا يشمله الحديث.

ـ وبعبارة أخرى ـ : ان الحكم في هذه الصورة ليس إلا مقدمة اعدادية والمكلف بنفسه اقدم على الضرر سواء كان العقد لازما أم جائزا ، فالضرر لم ينشأ من لزوم العقد ، بل لا يصح نسبة الضرر إليه ، لان الضرر الذي اقدم عليه في رتبة الموضوع للزوم فلا يعقل ان يكون موضوعا له.

وافاد في وجه المانعية في الصورة الثالثة ، بان اختيار المكلف وإقدامه ليس واقعا في طريق امتثال الحكم حتى ينتهي الضرر بالآخرة إلى الحكم ، بل الضرر مستند إلى اختياره وإقدامه ، مثلا في المثالين ، الضرر إنما ينشأ من إقدام المكلف على البناء ، أو الزرع لا من وجوب رد المغصوب إلى مالكه فارغا ووجوب رد الأرض المستأجرة فارغة مع العلم بانقضاء زمان الاستحقاق قبل كمال الزرع والشجر في نفسه ، هذا ملخص ما أفاده بتوضيح منا.

ويرد عليه أمور :

الأول : ما تقدم من ان المنفي ليس خصوص الحكم الضرري ، بل لو كان موضوع الحكم ضرريا يرفع حكمه بالحديث.

الثاني : انه في الإقدام على المعاملة الغبنية لو تم ما أفاده فإنما هو بالنسبة إلى الصحة ، واما لزومها فهو يكون منشأً لبقاء الضرر ، إذ لو كانت المعاملة جائزة وتمكن المكلف من التخلص عن الضرر بالفسخ لا يكون الضرر باقيا ، فحكم الشارع باللزوم ضرري يكون مشمولا للحديث.

الثالث : انه في الصورة الثالثة يكون المقدم عليه هو الموضوع لوجوب تخليص الأرض ، الذي هو ضرري ، ومن المعلوم ان وجوب التخليص غير وجوب رد المال إلى صاحبه ، وهو إنما يتوجه بعد الإقدام ، فلإقدام من قبيل المعد لا من قبيل الجزء الأخير للعلة ، فلا بد من الالتزام بشمول الحديث له حتى على مسلكه.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه اظهرية القول الثاني وان الإقدام من حيث هو لا يكون مانعا عن شمول الحديث.

ويمكن ان يستدل له مضافا إلى ما مر بان المنفي في الحديث عنوانان ، الضرر ، والضرار ، وقد مر ان الضرار ، هو التعمد إلى الضرر والقصد إليه ، فيمكن ان يقال ان قوله (ص) لا ضرار باطلاقه يدل على نفي الحكم الضرري مع الاقدام ، فتأمل.

رد المغصوب مع تضرر الغاصب

ثم انه لا بأس بالتعرض لفرع مناسب للمقام ، وهو انه ذهب جماعة من الاصحاب (١) إلى وجوب رد اللوح المغصوب ، إذا نصبه الغاصب في السفينة ، وان تضرر منه الغاصب.

واستدلوا له بوجوه.

الأول : ما أفاده المحقق النائيني (٢) ، وهو ان الهيئة الحاصلة من نصب اللوح ، لا تكون مملوكة للغاصب ، لأنه لا يكون مالكا لتركيب السفينة مع غصبية اللوح ، فرفعه لا يكون ضرريا ، لان الضرر عبارة عن نقص ما كان واجدا له.

وفيه : انه وان لم يصدق الضرر من هذه الجهة ، إلا انه ربما يوجبه من نواح اخر ، كما إذا حصل من رفع الهيئة النقص في سائر اجزائها ، أو الخلل في محمولاتها ، ومقتضى إطلاق كلمات الأصحاب جواز الرفع حتى في تلك الموارد.

الثاني : ما أفاده الشيخ الأعظم (٣) ، وهو انه كما يكون احداث الغصب حراما ، وان تضرر الغاصب بتركه ، ولا يصح ان يقال ان الغاصب يتضرر

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد ص ٥٧.

(٢) في رسالة لا ضرر للمحقق الخونساري (تقريرات النائيني) كما نسبه إليه في منتهى الدراية ج ٦ ص ٦٢٤.

(٣) رسائل فقهية ص ١٢٣.

بتركه ، فحرمة الغصب منفية بالحديث ، كذلك يكون إبقائه حراما ، لان دليل حرمة الإبقاء هو دليل حرمة الاحداث ، فلا يصح ان يقال بجواز الإبقاء من جهة تضرر الغاصب بتركه ، فيجب الرد لذلك.

الثالث : خبر عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (ع) يَقُولُ مَنْ أَخَذَ أَرْضاً بِغَيْرِ حَقِّهَا أَوْ بَنَى فِيهَا قَالَ يُرْفَعُ بِنَاؤُهُ وَتُسَلَّمُ التُّرْبَةُ إلى صَاحِبِهَا لَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص) مَنْ أَخَذَ أَرْضاً بِغَيْرِ حَقِّهَا كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إلى الْمَحْشَرِ (١).

وما عن نهج البلاغة قال أمير المؤمنين (ع) الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها (٢).

هل الضرر مانع عن صحة العبادة ، أو العلم به مانع

التنبيه الرابع : هل المنفي بقاعدة لا ضرر ، هو الضرر الواقعي وان لم يعلم به ، فلو توضأ باعتقاد عدم الضرر ، أو صام كذلك ، وكان مضرا واقعا لم يصح وضوئه ولا صومه ، أم يكون المنفي هو الضرر المعلوم ، فلو اعتقد عدم تضره بالوضوء فتوضأ ثم انكشف انه تضرر به صح وضوئه ، أم يكون المنفي هو الضرر المعلوم بان يكون العلم جزء الموضوع ، كما هو ظاهر الشيخ الأعظم في

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٩ ص ١٥٧ ح ٢٤٣٦٣. تهذيب الاحكام ج ٦ ص ٢٩٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٧٢.

الرسالة (١) حيث انه قال بعد كلام له متعلق بالمقام فتحصل ان القاعدة لا تنفي إلا الوجوب الفعلي على التضرر العالم بتضرره ، وجوه واقوال.

اقواها الأول : لان المنفي في الحديث هو الضرر ، والظاهر منه هو الضرر الواقعي كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في الموضوعات ، لان الالفاظ موضوعة للمعانى النفس الامرية ، من غير دخل للعلم فيها ، فالعبرة في رفع الحكم ، كونه ، أو موضوعه ضرريا في الواقع ، وان لم يعلم به المكلف.

وقد استدل الشيخ (٢) لدخل العلم بالضرر في النفي ، بأنه مع اعتقاد عدم الضرر الحكم الواقعي لم يوقع المكلف في الضرر ولذا لو فرضنا انتفاء هذا الوجوب واقعا على هذا المتضرر ، كما لو توضأ باعتقاد عدم تضرره لوقع في الضرر فلم يستند تضرره إلى جعل هذا الحكم ، والحديث إنما يرفع الحكم الذي يكون سببا وعلة للضرر ، فالحديث لا يشمله.

وفيه : ان الحديث كما يرفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر كذلك ينفي كل حكم كان موضوعه ضرريا ، ومن الواضح ان الوضوء في الفرض ضرري.

مع انه يرد عليه انه لو سلم كون المرفوع هو الحكم الذي ينشأ منه الضرر ، يكون العبرة في الرفع بكون الحكم بنفسه ، أو بامتثاله ضرريا ، ولا ينظر إلى ما في الخارج من الضرر ، وانه من أي سبب تحقق ، ومعلوم ان الحكم المزبور ضرري بامتثاله.

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١١٨.

(٢) المصدر السابق.

واضف إليه ان هذا الوجه لو تم لدل على مانعية اعتقاد الضرر عن شمول القاعدة ولا يدل على شرطية العلم بالضرر.

ويظهر من كلمات الشيخ ، وجه آخر لذلك ، قال في الرسالة (١) بعد ذكر الوجه المتقدم ، فنفيه ليس امتنانا على المكلف وتخليصا له من الضرر ، بل لا يثمر إلا تكليفا له بالاعادة بعد العمل والتضرر انتهى.

وحاصله ، ان حديث نفي الضرر لوروده في مقام الامتنان يختص بما في رفعه تسهيل وارفاق ومن المعلوم ان رفع الحكم في الفرض يستلزم التكليف بالاعادة بعد العمل والتضرر فلا يشمله الحديث.

ولكن يرد عليه مضافا إلى انه مختص بما يكون له البدل وما يستلزم الاعادة كما في الوضوء ، فانه لو شمله الحديث وانكشف الضرر لا بد من التيمم وإعادة الصلاة التي صلاها مع ذلك الوضوء ، وكما في الصوم فانه لو صام وانكشف الضرر لا بد من قضائه على فرض شمول الحديث ولا يتم في غيرهما ، وفيهما دل الدليل على ان العبرة باعتقاد الضرر ، فان موضوع جواز الافطار المأخوذ في الأخبار (٢) هو خوف الضرر الشامل للاعتقاد بالاولوية ، كما ان الروايات الخاصة الواردة في موارد خاصة كالمجروح ، والمقروح ، ومن يخاف العطش (٣) ، تدل على كون الموضوع للتيمم هو اعتقاد الضرر أو خوفه.

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١١٨.

(٢) مجموعة من الروايات في وسائل الشيعة ج ١٠ من صفحة ٢١٤ إلى ٢٢٢.

(٣) وردت ضمن مجموعة من الروايات ، راجع المصدر السابق.

ان هذا الوجه ، كالنصوص المشار إليها لا يدل على ان الضرر الواقعي ليس موضوعا ، بل يدل على تخصيص موضوع الحديث ، كما ان الجمع بين الأخبار المشار إليها ، وحديث لا ضرر ، يقتضي البناء على كون كل من الضرر والعلم به موضوعا مستقلا ، وعليه فلو اعتقد عدم الضرر فتيمم ، ثم تبين وجوده ، صح تيممه على المختار وبطل على المسلك الآخر ، كما انه لو اعتقد عدم ضررية الصوم ، ولم يصم فانه على المختار لم يفعل محرما ولم يترك واجبا وان تجري ، بخلافه على المسلك الآخر.

فالمتحصّل ان القاعدة إنما تنفي الحكم الضرري وحكم الفعل الضرري ، غاية الأمر في بعض الموارد يقيد بان لا يكون معتقدا لعدم الضرر.

هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة

التنبيه الخامس : هل الحكم بنفي الضرر من باب العزيمة ، فلا يجوز الاتيان بما هو ضرري ولو كان عبادة لا تصح ، فلو تحمل الضرر وتوضأ بطل وضوؤه ، أم يكون من باب الرخصة ، فيجوز الاتيان به ، فلو توضأ في الفرض يصح ، وجهان : بل وجوه :

وقد استدل لكونه من باب العزيمة ، بوجوه بعضها يدل على حرمة ذلك الفعل ، وبعضها استشهد به لعدم الأمر به فلو كان عبادة لا تصح ولا يكون الفعل الضرري حراما إلا من باب التشريع ، وبعضها يختص بخصوص الوضوء.

الوجه الأول : ما في الجواهر ، وهو ان الإضرار بالنفس حرام ، فالمأمور به إذا

كان ضرريا يكون محرما فلا محالة يرتفع امره لامتناع اجتماع الأمر والنهي ، وقد استدل بذلك لبطلان الوضوء في مفروض المثال.

وأورد عليه بان المحرم هو الضرر المترتب على الوضوء ، فالوضوء محرم بالحرمة المقدمية غير الموجبة للبعد ، فلا مانع من التقرب بالوضوء.

وفيه : ان الحرمة لا بد وان تتعلق بما هو داخل تحت الاختيار وفعل المكلف ، وهو الإضرار لا الضرر ، وإلا ضرار منطبق على الوضوء لا مترتب عليه.

فالصحيح ان يورد عليه بما سيأتي من عدم الدليل على حرمة الإضرار بالنفس فانتظر.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (١) ، وهو انه لا ريب في صحة التيمم في الفرض ، ولا ريب أيضاً في ان التيمم في طول الوضوء : فانه علق على عدم وجدان الماء ، والوضوء معلق على الوجدان ، فلو كان الوضوء أيضاً مشروعا ، يلزم كون ما في طول الشيء في عرضه وكون المكلف واجدا وغير واجد ، في زمان واحد ، وهو محال.

وفيه : ان مشروعية التيمم علقت على عدم وجدان الماء ، أو كون الماء مضرا فمع مشروعيتهما معا ، لا يلزم شيء من المحذورين.

الوجه الثالث : ان حديث لا ضرر ، إنما يوجب تقييد متعلقات الأحكام ،

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ٣٦٧.

ويدل على ان كل حكم ضرري منفي في الإسلام ، فلو كان الفعل الضرري أمرا عباديا ، كالوضوء ، لا يكون مأمورا به ومع عدم الأمر لا محالة لا يصح ، فالوضوء الضرري باطل.

وأورد عليه بإيرادات :

الإيراد الأول : ان دليل حكم ذلك الفعل ، كدليل وجوب الوضوء ، إنما يدل بإطلاقه بالدلالة المطابقية على انه واجب حتى في حال الضرر ، وبالدلالة الالتزامية يدل على انه ذو ملاك في تلك الحال ، وحديث لا ضرر إنما يوجب تقييد ذلك الدليل من الناحية الأولى أي من حيث دلالته على الوجوب ، واما دلالته على كونه واجدا للملاك فلا مقيد له ، إذ لو كان للكلام دلالات وظهورات سقط بعضها عن الحجية لا موجب لسقوط غيره ، فلو أتى بالوضوء بداع الملاك صح.

وفيه : ان التمسك بالإطلاق فرع كون الكلام مسوقا للبيان ، وأدلة الأحكام سيقت لبيان الأحكام ، لا الملاكات غاية الأمر بالبرهان العقلي يستكشف من وجود الحكم وجود الملاك ، فإذا قيد الحكم لا كاشف عن وجود الملاك أيضاً.

الإيراد الثاني : ان حديث لا ضرر إنما ينفي اللزوم لا الجواز ـ وان شئت قلت ـ انه بناءً على كون الاختلاف بين الوجوب والاستحباب من ناحية الترخيص في الترك وعدمه ، دليل نفي الضرر يرفع الوجوب ، ويقتضى الترخيص ، كما انه بناءً على كون الوجوب مركبا من طلب الفعل مع المنع من الترك الحديث إنما يرفع القيد الثاني ، فالوضوء حينئذ مطلوب ويصح لذلك.

وفيه : ان الوجوب كما حقق في محله ليس مركبا بل هو بسيط ، كما انه قد تقدم ان الحديث لا يثبت الحكم فانه ناف لا مثبت ، وأيضا هو ينفي الحكم الشرعي دون الأحكام العقلية ، ـ وعليه ـ فلا معنى لنفي اللزوم وبقاء الجواز بمعنى نفي احد الضدين وبقاء الآخر ، أو نفي الحكم العقلي.

الإيراد الثالث : وهو يختص بالمستحب ، وما هو من قبيل الوضوء ، وهو ان حديث لا ضرر ، بما انه وارد في مقام الامتنان ، فلا يصلح ان يكون رافعا للاستحباب إذ لا كلفة في وضعه كي يرفعه ، وإنما يرفع التكاليف اللزومية.

وعليه فبما ان الوضوء مع قطع النظر عن وجوبه الغيري ، مستحب نفسي على الأظهر ، ومستحب غيري على المسلك المشهور بين الأصحاب ، من ان المطلوب النفسي هو الكون على الطهارة الحاصل من الوضوء ، فالأمر اللزومي المتعلق به وان كان منفيا بالحديث ، إلا ان امره الاستحبابى يكون باقيا ، فيصح الوضوء الذي أتى به بداعي ذلك الأمر النفسي.

فالمتحصّل مما ذكرناه ، ان حديث نفي الضرر ، بالنسبة إلى الواجبات من قبيل العزيمة ، لا بمعنى الحرمة بل بمعنى عدم الأمر بالفعل الضرري ، وحيث لا يشمل المستحبات ، فالمستحبات الضررية ، وما يكون فيه ملاكان ، للوجوب ، والاستحباب ، كالوضوء ، يكون امر الاستحبابي باقيا ، فيصح الاتيان به بداعي ذلك الأمر لو كان عبادة ، فلو تحمل الضرر وتوضأ يصح وضوؤه.

هل حديث لا ضرر يشمل عدم الحكم أم لا؟

التنبيه السادس : بعد ما لا اشكال في انه يشمل الحديث الأحكام الوجودية وينفيها ، وقع الكلام في انه ، هل يشمل عدم الحكم لو كان ضرريا ، أم لا يشمله؟ ، وفيه وجهان بل قولان.

أظهرهما الثاني : فان ظاهر الحديث هو نفي ما يوجب الضرر ، ومن الواضح ان النفي لا يرد على العدم ، بل لا بد وان يكون مورده وجوديا.

وإلى ذلك نظر المحقق النائيني (١) (ره) حيث قال ان حديث نفي الضرر ناظر إلى الأحكام المجعولة في الشريعة وعدم الحكم بشيء وان كان تحت قدرة الحاكم إلا انه ليس حكما مجعولا فلا يشمله الحديث.

فلا يرد عليه ما أفاده بعض المحققين (٢) من ان عدم جعل الحكم في موضع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم لا سيما مع ورود قوله (ع) (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (٣) فانه بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف.

فان العدم حتى مع التصريح به ليس شيئا قابلا لورود النفي والعدم عليه ، مع ان المنفي كما مر ، اما هو الحكم الموجب للضرر ، أو الأعم منه ومن الحكم

__________________

(١) حسبما نقله الأستاذ السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٥٢٨.

(٢) الأستاذ الأعظم السيد الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٣ ص ٥٢٨.

(٣) وسائل الشيعة ج ٢٧ ص ١٦٣ ح ٣٣٤٩٦.

الذي يكون متعلقه ضرريا ، وعلى التقديرين لا يشمل عدم الحكم ، فان العدم لا يكون سببا ومؤثرا ، في امر وجودي وهو الضرر في المقام ، ولا شيء كي يكون له موضوع أو متعلق ، وقد استدل للاول بوجوه.

الأول : ما عن الشيخ الأعظم (١) وتبعه غيره ، وحاصله ان المنفي إنما هو كل ما يكون من الإسلام ، ويعامل عليه في الشريعة وجوديا كان أو عدميا ، فكما انه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضررية ، كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر.

ويرد عليه ان هذا الوجه إنما يصلح وجها لبيان إمكان ذلك ، ولا يصلح وجها لبيان شمول حديث لا ضرر لعدم الحكم ، إذ الظاهر تعلق النفي بما هو مجعول ، ولا يكون العدم شيئا ، قابلا لان يكون متعلقا للنفي إلا بالعناية وان شئت قلت ، ان عدم العدم ونفيه لا يكون مجعولا ، إلا بعناية جعل الوجود.

الثاني : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (٢) أيضاً ، وهو ان الأحكام العدمية تستلزم احكاما وجودية ، فان عدم ضمان ما يفوته من المنافع يستلزم حرمة مطالبته ومقاصته والتعرض له ، وجواز دفعه عند التعرض له.

وفيه : ان الحديث إنما يرفع ما هو ضرري ، واما ما هو ملازم لامر يكون ذلك ضرريا ، فالحديث لا يكون متكفلا لنفيه.

الثالث : ان العدم وان لم يستند بحسب بدوه ومفهومه إلى الشارع إلا انه

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١١٨.

(٢) رسائل فقهية ص ١١٩.

بحسب البقاء مستند إلى الشارع : لأنه بقاء قابل لان يناله يد الجعل بان يرفعه الشارع أو يبقيه ، ولذا تجري الاستصحابات العدمية ـ وعليه ـ فالعدم بقاء مستند إلى الشارع وإذا كان مستندا إليه وكان ضرريا يشمله حديث لا ضرر.

وفيه : ان كون العدم بقاء بيد الشارع ، غير كونه مستندا إليه بالفعل ، والذي لا بد منه في شمول الحديث هو الثاني.

فالاظهر عدم شمول الحديث للعدميات.

فرعان

وقد رتبوا على شمول الحديث للعدميات امورا.

منها : انه لو حبس احد حرا ، حتى فات عمله ، أو حبس حتى ابق عبده : فان حكم الشارع بعدم ضمان الحابس ضرري على المحبوس ، فينتفي ويثبت الضمان.

وفيه : ان ترخيص الحابس ، وان كان ضرريا مرفوعا بالحديث ويثبت به حرمته ، بناءً على ما سيأتي من دلالة الحديث على حرمة الإضرار بالغير إلا انه لو عصى الحابس وحبسه وتضرر المحبوس ، لا يدل الحديث على الضمان : لما مر من انه لا يشمل العدميات ، وعرفت أيضاً ان الإضرار ليس من موجبات الضمان.

نعم لو كان مفاد الحديث نفي الضرر غير المتدارك ، كان دالا على الضمان فانه يتدارك به الضرر المتوجه إلى المحبوس ، لكنك عرفت فساد المبنى.

ومنها : انه لو امتنع الزوج عن نفقة زوجته ـ قالوا ـ انه بناءً على شمول الحديث للعدميات يكون عدم جواز طلاقها بغير اذن الزوج ضرريا يشمله الحديث فيحكم بجواز ان يطلقها الحاكم ، أو غيره بإذنه.

وقد تمسك الفقيه الطباطبائي في ملحقات عروته (١) ، بقاعدة نفي الضرر ، لجواز طلاق الحاكم الشرعي كل امرأة تتضرر ببقائها على الزوجية.

أقول : ان المسألة وردت فيها نصوص خاصة (٢) فلا يبقى مورد للنزاع فيما يقتضيه قاعدة نفي الضرر.

مع انه على فرض شمول حديث لا ضرر لعدم الحكم ، يمكن ان يقال ان زوال سلطنة الزوج ضرر عليه ، فهو أيضاً مشمول للحديث ، ولا مرجح لأحد الضررين على الآخر.

أضف إلى ذلك ان امتناع الزوج عن الإنفاق ضرري ، واما نفس الزوجية ، وكون امر الطلاق بيد الزوج ، فهما ليسا ضرريين.

نعم الحكم بجواز الطلاق ، يوجب تدارك الضرر الناشئ من عدم الإنفاق ، ولو كان المنفي هو الضرر غير المتدارك دل الحديث على جوازه ، ولكن قد مر ان الحديث لا يختص به ولا يدل على لزوم التدارك.

وبما ذكرناه يظهر ما في سائر ما رتبوا عليه.

__________________

(١) السيد اليزدي في تكملة العروة الوثقى ج ١ ص ٧٥.

(٢) كالمروي عن الباقر (ع) مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ فَلَمْ يَكْسُهَا مَا يُوَارِي عَوْرَتَهَا وَيُطْعِمْهَا مَا يُقِيمُ صُلْبَهَا كَانَ حَقّاً عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا. وسائل الشيعة ج ٢١ ص ٥٠٩.

حكم الشك في الضرر

التنبيه السابع : إذا شك في مورد ان الحكم ، أو المتعلق ضرري ، أم لا؟ كما لو شك في مضرية الصوم أو الوضوء وما شاكل ففيه وجوه واقوال :

أحدها : انه لو ظن بالضرر بالظن غير المعتبر يكون المورد مشمولا لحديث لا ضرر ، ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني.

قال في الكفاية (١) في مبحث الانسداد : نعم ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية من انسداد باب العلم به غالبا واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرضا به بمخالفة الواقع بإجراء الأصول فيه مهما أمكن وعدم وجوب الاحتياط شرعا أو عدم امكانه عقلا كما في موارد الضرر انتهى.

وقال الشيخ في الرسائل (٢) نعم قد يوجد في الأمور الخارجية ما لا يبعد إجراء نظير دليل الانسداد فيه كما في موضع الضرر الذي أنيط به أحكام كثيرة من جواز التيمم والإفطار وغيرهما انتهى ، وبذلك صرح في كتاب الصوم.

ولكن يرد على هذا الوجه انه يتم ان لم يكن باب العلمي مفتوحا وحيث ان قول أهل الخبرة وهم الأطباء حجة فلا يتم ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٢٩.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٢٧١.

ثانيها : انه حيث يشك في صدق الضرر ، فالحديث لا يشمل فيرجع إلى عموم دليل ذلك الحكم كدليل وجوب الوضوء والصوم ، وهو الظاهر من السيد في العروة.

ولكنه لا يتم على ما هو الحق من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ثالثها : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (١) وهو ان الحديث لا يشمل ، والتمسك بدليل الحكم لا يجوز ، فيشك في الحكم والمرجع فيه حينئذ هو أصالة الاحتياط دون البراءة ، بدعوى ان مرجع هذا المانع إلى عدم قدرة الحاكم لتوسعة حكمه مع تمامية مقتضيه فيكون نظير عدم قدرة المحكوم له على الامتثال حيث ان العقل حاكم بالاخذ باحتمال الحكم ، ولا يرى مجرى البراءة إلا مورد الشك في اصل الاقتضاء.

وفيه : انه لم تم ذلك بالإضافة إلى البراءة العقلية ، لا يتم بالإضافة إلى البراءة الشرعية فان مقتضى إطلاق أدلتها ، ارتفاع الحكم في كل مورد شك فيه ، ومع الشك في الضرر حيث انه يشك في الحكم ، فلا محالة تجري البراءة ، ولا مورد لاصالة الاحتياط.

فالصحيح ان يقال ، انه إذا كان الواجب مما له بدل كالوضوء فانه لو سقط وجوبه ينتقل الفرض إلى التيمم ، أو كان الواجب مما يجب قضائه لو سقط وجوبه كالصوم ، لا يجري الحديث قطعا : فانه لو بنينا على ان الميزان هو الضرر

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٣ ص ٢٦٦.

الواقعي ، ففي هذه الموارد بما ان لازم جريانه هو الجمع بين المبدل والبدل ، وفعل الشيء وقضائه ولا تصل النوبة إلى جريان البراءة عن المبدل ، وفعل الشيء : للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما ، وهو خلاف الامتنان ، فلا يجري ، نعم من لا يرى منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات خصوصا فيما إذا كان المعلوم بالإجمال على تقدير غير فعلى وبلا ملاك كما في قضاء الصوم ، لا محالة يشك في الوجوب ويجرى أصالة البراءة عنه ، وعلى ما ذكرناه فمقتضى إطلاق دليل الواجب وجوبه ، ولعله إلى هذا نظر صاحب العروة.

ويمكن ان يذكر وجه آخر لكون المورد من موارد التمسك باطلاق دليل الواجب لا البراءة حتى مع كون المنفي في الحديث هو الضرر الواقعي ، وذلك لأنه يجري فيه استصحاب عدم حصول الضرر بفعله بناءً على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية ، على ما أشبعنا الكلام فيه في مبحث الاستصحاب.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه في موارد الشك في الضرر يبنى على عدمه فيرجع إلى إطلاق ، أو عموم دليل ذلك الحكم ، كدليل وجوب الوضوء ، والصوم ، ونحوهما.

نعم في خصوص باب الصوم بنينا على جواز الافطار مع الظن بالضرر كما هو المشهور ، بل ومع احتماله ، من جهة ان المأخوذ في جملة من النصوص موضوعا لجواز الافطار الخوف من الضرر (١) وهو يصدق مع الظن بالضرر بل

__________________

(١) مجموعة من الروايات في وسائل الشيعة ج ١٠ من صفحة ٢١٤ إلى ٢٢٢.

ومع الاحتمال المتساوي الطرفين ، وقد ذكرنا في كتابنا فقه الصادق (١) وجها آخر لجواز الافطار مع الظن بالضرر ، لعدم ارتباطه بالمقام اغمضنا عن ذكره.

بيان وجه تقديم دليل القاعدة على أدلة الأحكام

واما المقام الخامس : وهو بيان حال القاعدة مع ما يعارضها.

فالكلام فيه في موارد.

الأول : في بيان نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية.

الثاني : في بيان نسبتها مع سائر الأدلة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية.

الثالث : في تعارض الضررين.

اما المورد الأول : فبعد ما لا كلام في تقديم القاعدة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، كادلة وجوب الوضوء على واجد الماء ، وحرمة الترافع إلى حكام الجور ، وسلطنة الناس على أموالهم وما شاكل ، وقع الكلام في وجه ذلك مع ان النسبة بين دليل القاعدة ، وبين كل واحد من تلك الأدلة عموم من وجه ، وقد ذكروا في وجه تقديمه امورا.

__________________

(١) فقه الصادق (الطبعة الثالثة) ج ٨ ص ٢٩٣.

الأمر الاول : ما نقله الشيخ عن غير واحد من عدهما من المتعارضين ، وإنما يقدم القاعدة ، اما بعمل الأصحاب ، أو بالأصول ، كالبراءة في مقام التكليف ، وغيرها في غيره.

وفيه : اولا ما ستعرف من حكومة دليل القاعدة ، على جميع تلكم الأدلة ، ولا تعارض بينهما ، والترجيح إنما هو في غير موارد الجمع العرفي كما حقق في محله.

وثانيا : انه على فرض تسليم التعارض ، الأصول ليست من مرجحات احد الخبرين على الآخر ، واما عمل الأصحاب أي الشهرة الفتوائية فهو إنما يكون من المرجحات ، إذا كانت النسبة بينهما هو التباين ، أو العموم من وجه ، مع كون دلالة كل منهما على حكم المجمع بالعموم ، وان كانت دلالة أحدهما بالإطلاق والآخر بالعموم ، أو كانت دلالة كل منهما بالإطلاق فالمشهور هو التساقط في الثاني ، وتقديم العام في الأول فتأمل فان المختار خلافه.

الأمر الثاني : ان دليل القاعدة أخص من مجموع أدلة الأحكام ، وحيث ان المنفي هو الحكم أو الموضوع الضرري في الإسلام ، فطرف المعارضة مجموع تلك الأدلة لا كل واحد ، فلا بد من لحاظ النسبة بين دليلها ، ومجموع تلك الأدلة ، ومن الواضح ان النسبة هي العموم والخصوص المطلق فيقدم دليل ، القاعدة.

وفيه : ان جميع الأحكام ليس لها دليل واحد ، كي يلاحظ النسبة بين ذلك الدليل ، ودليل القاعدة ، بل لكل واحد من الأحكام دليل مستقل غير مربوط بغيره ، والنسبة لا بد وان تلاحظ بين الأدلة ، وعليه فلا محيص عن ملاحظتها بين دليل القاعدة ، وكل واحد من تلك الأدلة ، والنسبة حينئذ هي العموم من

وجه.

الأمر الثالث : انه يدور الأمر لعلاج التعارض بين أمور ثلاثة.

احدها : تقديم دليل لا ضرر على بعض تلك الأدلة ، وتقديم بعضها عليه ، ثانيها : تقديم تلك الأدلة بأجمعها ، على دليله ـ ثالثها ـ تقديم دليله على جميع تلك الأدلة.

لا سبيل إلى الاولين : إذا الأول ، مستلزم للترجيح بلا مرجح ، والثاني ، يستلزم عدم بقاء المورد له ، فيتعين الثالث.

ويرد عليه انه لا محذور في الثاني ، لو لا الحكومة ، فان طرح الدليل عند التعارض ، غير عزيز.

الأمر الرابع : ما أفاده المحقق الخراساني (١) (ره) ـ وحاصله ـ انه إذا ورد دليل مثبت لحكم لعنوان أولي ، وورد دليل لبيان حكم لعنوان ثانوي ، وكانت النسبة بينهما عموما من وجه ، يوفق العرف بينهما بحمل الأول على بيان الحكم الاقتضائي ، والثاني على بيان الحكم الفعلي ، ـ وبعبارة أخرى ـ يجمع بينهما بحمل العنوان الأولى على كونه مقتضيا ، والعنوان الثاني على كونه مانعا ، وحيث ان دليل نفي الضرر متضمن لتشريع حكم لعنوان ثانوي ، فيحمل لاجله الأدلة المثبتة للأحكام للعناوين الأولية على بيان الأحكام الاقتضائية ، فيكون المتحصل عدم وجود تلك الأحكام في موارد الضرر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

وفيه : ان المراد بالحكم الاقتضائي ان كان الحكم المجعول غير الفعلي ، من جهة دخل شيء في فعليته فهو غير معقول ، إذ الحكم لا يعقل عدم فعليته بعد فعلية موضوعه ، وصيرورة الضرر مانعا عنها بمعنى اخذ عدمه في الموضوع ، وان كانت ممكنة إلا انه مع عدم الدليل عليه لاوجه له ، ودليلية حديث لا ضرر أول الكلام ، وان كان المراد هو الملاك ، فيرد عليه ان حمل الجملة الانشائية على الأخبار مما لا يساعده الجمع العرفي.

الأمر الخامس : ما أفاده الشيخ (١) ، والمحقق الخراساني (٢) ، وهو ان حديث لا ضرر لوروده في مقام الامتنان يقدم على العمومات.

ويمكن تقريبه بأنه إذا لم يكن ، للحكم مقتضى الثبوت في مورد الضرر ، فهو منفي لعدم المقتضى ، فلا معنى لنفيه امتنانا ، فورود الحديث في مقام الامتنان يقتضي وجود المقتضى له ، كما انه إذا لم يكن له مقتضى الاثبات من إطلاق دليل أو عموم لا محالة يكون منفيا لعدم الحجة من دون حاجة إلى نفيه امتنانا ، فمن ورود الحديث في مقام الامتنان يستكشف وروده لتحديد مقتضى الاثبات بقصره على غير مورد الضرر.

الأمر السادس : ما أفاده الشيخ الأعظم (٣) ، قال ان هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة بعمومها على تشريع الحكم الضرري كادلة لزوم

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٥.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٥.

العقد ، وسلطنة الناس على اموالهم ووجوب الوضوء. وغير ذلك انتهى.

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) ، بان حكومتها تتوقف على ان تكون بصدد التعرض لبيان حال ادلة الأحكام المورثة للضرر باطلاقها أو عمومها ، وحديث لا ضرر ليس كذلك ، بل هو لمجرد بيان ما هو الواقع من نفي الضرر فلا حكومة له ، بل حاله كسائر ادلة الأحكام.

ولكن : الحق ما أفاده الشيخ (ره) ، وذلك ، لعدم انحصار الحكومة بما إذا كان دليل الحاكم متعرضا لبيان ما أريد من المحكوم بالمطابقة ، كما في قول الإمام الصادق في خبر عبيد بن زُرَارَةَ (٢) (قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يَدْرِ رَكْعَتَيْنِ صَلَّى أَمْ ثَلَاثاً قَالَ يُعِيدُ قُلْتُ أَلَيْسَ يُقَالُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ فَقِيهٌ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ) بل لو كان صالحا لذلك بان يبين شيئا لازمه بيان حال المحكوم ، كان ذلك من قبيل الحكومة ، والمقام كذلك.

توضيح ذلك يقتضي البحث في موارد ثلاثة :

الأول : بيان ضابط الحكومة.

الثاني : بيان وجه تقديم الحاكم.

الثالث : تطبيق ضابط الحكومة على المقام ، وبيان كون دليل القاعدة حاكما على الأدلة المثبتة للأحكام بعناوينها الأولية.

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٢٨٢.

(٢) وسائل الشيعة ج ٨ ص ٢١٥ ح ١٠٤٥٩ / تهذيب الأحكام ج ٢ ص ١٩٣.

اما الأول : فضابط الحكومة ، كون احد الدليلين ناظرا إلى الآخر ، أو صالحا لذلك. اما بالتصرف في موضوعه سعة ، كقوله (ع) في الفقاع هِيَ خَمْرَةٌ اسْتَصْغَرَهَا النَّاسُ (١) بالنسبة إلى أدلة حرمة شرب الخمر. أو ضيقا ، كقوله (ع) لا شك لكثير الشك (٢) ، بالنسبة إلى أدلة الشكوك.

أو بالتصرف في متعلقه ضيقا كما لو ورد (الضيافة ليست بإكرام) ، بعد ورود ما دل على وجوب اكرام العلماء. أو سعة ، كما في قوله (ع) (٣) (الطواف في البيت صلاة) بالنسبة إلى ما دل على شرطية الطهارة للصلاة.

أو بالتصرف في محموله ، بان يتلونه بلون ، ويدل على عدم ثبوت ذلك الحكم في بعض الحالات ، والموارد.

واما الثاني : فوجه التقدم إذا كان دليل الحاكم ناظرا إلى موضوع دليل المحكوم أو متعلقة واضح ، إذ كل من الدليلين متكفل لبيان شيء غير ما يكون الآخر متكفلا لبيانه : فان دليل المحكوم لا نظر له إلى بيان الموضوع أو المتعلق ، بل إنما يثبت الحكم على فرض تحقق الموضوع.

واما إذا كان ناظرا إلى المحمول ، فلان التمسك بأصالة الظهور أي الإطلاق أو العموم في دليل المحكوم فرع تحقق الشك في المراد ، ودليل الحاكم يرفع

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٣٦٥ ح ٣٢١٣٦.

(٢) هذه قاعدة فقهية مستفادة من الروايات وليست حديثا ، ويبدو أنها لكثرة استعمالها على ألسن الفقهاء ظنها البعض رواية مع أننا لم نعثر على هذا النص في الكتب الروائية.

(٣) مستدرك الوسائل ج ٩ ص ٤١٠ / عوالي اللئالي ج ١ ص ٢١٤ وج ٢ ص ١٦٧.

الشك ، ويخصص الحكم بمورد خاص ، فلا يبقى مورد للتمسك بأصالة الإطلاق أو العموم.

واما الثالث : فان قلنا ان حديث لا ضرر إنما يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أو يكون مفاد الحديث نفي الحكم إذا كان الموضوع ضرريا ، فحكومة الحديث على أدلة الأحكام واضحة : فانه حينئذ يكون مضيقا لدائرة موضوعات أدلة الأحكام.

وان قلنا انه إنما يكون نافيا للحكم الضرري ، فالحديث يوجب تلون ما تضمنه أدلة الأحكام الأولية بلون مخصوص ، فعلى أي تقدير يكون حديث لا ضرر حاكما على ادلة الأحكام.

تعارض قاعدة لا ضرر ، مع قاعدة نفي الحرج

واما المورد الثاني : فهو في بيان نسبة قاعدة لا ضرر ، مع الأدلة المثبتة أو النافية للاحكام بعناوينها الثانوية ، ففي الكفاية (١) ، يعامل معهما معاملة المتعارضين ، لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وان كان دليل الآخر ارجح واولى ولا يبعد ان الغالب في توارد العارضين ان يكون من ذلك الباب بثبوت المقتضى فيهما مع تواردهما لا من باب التعارض لعدم ثبوته إلا في أحدهما انتهى.

وفيه : مضافا إلى ما حققناه في أول التعادل والترجيح ، من ان باب تزاحم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

المقتضيين ، غير باب تزاحم الحكمين ، وانه لو لا حكومة احد الدليلين على الآخر لا بد من إجراء ما يقتضيه قواعد باب التعارض.

ان ما أفاده يتم بناءً على ما أفاده في وجه تقدم قاعدة نفي الضرر على ادلة الأحكام الاولية ، من التوفيق العرفي ، ولا يتم على مسلك الحكومة ، فان الوجه المتقدم لحكومة دليلها على أدلة الأحكام الاولية ، بعينه يقتضي تقديم دليلها على الأدلة المثبتة للاحكام بعناوينها الثانوية ، مثل دليل الشرط والنذر وما شاكل مما دل على ثبوت حكم في مقابل حكم العنوان الأولى ، كما لا يخفى.

فلا بد من ملاحظة نسبة دليل القاعدة مع الأدلة النافية للحكم بالعنوان الثانوي ، مثل دليل نفي الحرج ، والإكراه ونحوهما.

والعمدة هي قاعدة نفي الحرج (١).

فلو تعارض دليل قاعدة نفي الضرر ، مع دليل قاعدة نفي الحرج ، كما لو فرضنا ان عدم تصرف المالك في ماله وان لم يوجب تضرره ، إلا انه حيث يكون تصرفه لجلب منفعة وتعلق غرض عقلائي به يكون ذلك حرجا ، ـ وبعبارة أخرى ـ حجر المالك عن الانتفاع بما له حرج ، وكان تصرفه في ملكه موجبا لتضرر جاره ، ففيه وجوه واقوال.

الأول : تقديم قاعدة نفي الحرج لحكومة نفي الحرج على نفي الضرر اختاره

__________________

(١) ومستند القاعدة قوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٨ سورة الحج.

الشيخ الأعظم في الرسائل (١).

الثاني : تقديم قاعدة لا ضرر ، نظرا إلى موافقة قاعدة نفي الحرج لها في اكثر مواردها ، فلو قدم قاعدة نفي الحرج في مورد التعارض لزم كون تأسيسها كاللغو.

الثالث : يعامل معهما معاملة المتعارضين الذين تكون النسبة بينهما عموما من وجه فيقدم قاعدة نفي الحرج للشهرة ، فان المشهور بين الأصحاب جواز التصرف في الفرض ، ولموافقة الكتاب ، أو يحكم بتساقطهما فيرجع إلى قاعدة السلطنة ، على الخلاف بين المسلكين في التعارض بالعموم من وجه.

الرابع : المعاملة معهما معاملة المتزاحمين ، فيقدم الأقوى منهما لو كان وإلا فيحكم بالتخيير ، اختاره المحقق الخراساني (٢) ، وهناك وجوه اخر ستقف عليها.

أما الوجه الأول : فتنقيح القول في المقام ، ان حكومة قاعدة نفي الحرج باطلة لوجهين.

أحدهما : ان كلا من القاعدتين حاكمة على عمومات الأحكام المجعولة في الشريعة ومبينة للمراد منها من غير ان يكون فيها جعل وتشريع فجعل احداهما ناظرة إلى الأخرى وشارحة لها والحال هذه لا معنى له كما لا يخفى.

ثانيهما : ان كلا منهما ناظرة إلى نفي الأحكام في مرتبة واحدة ، وليست قاعدة نفي الحرج ناظرة إلى قاعدة نفي الضرر بنحو التصرف في موضوعها أو محمولها.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٨.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

واما الوجه الثاني : وهو تقديم قاعدة لا ضرر لاقلية موردها ، فيرده : انه ليس مورد الضرر اقل ، إذ المراد بالحرج المشقة التي لا تتحمل عادة وبديهي ان الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك مطلقا.

أضف إليه ان أقلية المورد إنما توجب التقديم لو كانا متضادين ، بحيث يلزم من تقديم الأكثر موردا ، عدم بقاء المورد للأقل ، لا في مثل المقام مما لو قدمنا قاعدة نفي الحرج ، لا يلزم طرح قاعدة لا ضرر ، بل يبقى لها مورد وهو مورد توافقهما.

واما الوجه الرابع : وهو المعاملة معهما معاملة المتزاحمين الذي اختاره المحقق الخراساني (١) ، فيرد عليه : ان التزاحم إنما هو بين الحكمين ، والقاعدتان نافيتان للأحكام ولا يثبت بشيء منهما حكم أصلاً فلا معنى للتزاحم ، وان أريد به التزاحم بين المقتضيين ، فيرده ان باب تزاحم المقتضيين غير مربوط بباب تزاحم الأحكام.

وعلى هذا فان تم ما يخطر بالبال عاجلا من انه من جهة ان القاعدتين لهما الحكومة على الأحكام المجعولة ، ولا حكومة لهما على عدم الحكم ، انه في موارد الدوران بينهما كما في المثال ، لا يخلو الأمر من ان التصرف المذكور ، اما ان يكون مباحا غير محرم مع قطع النظر عن القاعدتين ، وهو ما إذا لم يكن تصرفا في مال الجار ولامتلفا لماله ، كما إذا حفر بئرا في داره قريبا من بئر الجار وصار ذلك سببا لنقص ماء بئر الجار ، أو يكون محرما غير مباح كما لو استلزم تصرفا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

في مال الغير ، وعلى التقديرين لا مورد إلا لإحدى القاعدتين إذ ليس الا حكم واحد والآخر عدم الحكم ، ففي الفرض الأول هو السلطنة على المال ، وفي الثاني حرمة الإضرار بالغير.

فإذا كان حكم ، كسلطنة المالك على ماله ، حرجيا أو ضرريا يشمله ما دل على نفي الحرج أو دليل نفي الضرر ، ويرفع ذلك ، ولو فرضنا ان عدم ذلك الحكم كان كذلك كما في المثال ، لا يكون ذلك مشمولا لشيء منهما ولا يثبت به ذلك الحكم ، لان عدم الحكم وعدم السلطنة ليس مجعولا حتى يرتفع بإحدى القاعدتين ، فالقاعدتان لا تجتمعان في مورد.

وعلى فرض التنزل وتسليم تواردهما على مورد واحد واجتماعهما في محل واحد ، بالبناء على انه كما يرتفع بكل من القاعدتين الأحكام المجعولة ، كذلك يرتفع بهما عدم الحكم أيضاً ، فالأظهر عدم شمول شيء منهما لذلك المورد المجمع : من جهة انهما إنما وردتا في مقام الامتنان على الأمّة ، فإذا كان تصرف المالك في ماله ضرريا على الجار ، وتركه حرجيا على نفسه لا يكون رفع السلطنة منة على الأمَّة ، لكونه خلاف الامتنان على المالك كما ، ان رفع حجر المالك عن التصرف في ماله ليس فيه منَّة على الأمَّة لكونه خلاف الامتنان على الجار. ولعله إلى احد هذين الامرين نظر من قال ، انهما لا يتواردان على مورد واحد ولا يجتمعان في محل فارد.

وان لم يتم شيء منهما فالظاهر ان يعامل معهما معاملة المتعارضين ، ولا مورد لاعمال قواعد باب التزاحم ، لان التزاحم إنما هو بين الحكمين الوجوديين ، ولا معنى له في الاعدام ، والمفروض ان كلا من القاعدتين نافية

للحكم لا مثبتة ، فلا يثبت بهما الحكم كي يعامل معهما معاملة المتزاحمين.

وعليه فحيث ان النسبة بينهما عموم من وجه ، والمختار في تعارض العامين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيير ، ففي المثال بما ان المشهور بين الأصحاب جواز تصرف المالك في ماله وان تضرر الجار به ، يقدم قاعدة لا حرج : لان الشهرة أول المرجحات ، ومع الإغماض عنه فهي موافقة للكتاب فتقدم ، فيحكم بجواز التصرف.

واما على المسلك الآخر من عدم الرجوع إلى اخبار الترجيح ، فعلى المختار من ان الأصل في تعارض الامارتين هو التخيير يحكم بالتخيير ، فله ان يختار قاعدة لا حرج ويقدمها ويبنى على جواز التصرف في المثال.

واما على القول بالتساقط ، فيحكم به ، فيرجع إلى قاعدة السلطنة وغيرها من القواعد المبيحة وان وصلت النوبة إلى الأصل ، فانه البراءة في المقام.

فالمتحصّل انه يحكم بجواز التصرف في مفروض المسألة على جميع المسالك ، ولعله إلى بعض ما ذكرناه نظر الأصحاب فانهم افتوا بالجواز فتدبر جيدا.

حكم تصرف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرر الغير به

ثم انه ينبغي التعرض لفرع يناسب المقام ، وهو انه إذا كان تصرف المالك في ماله مستلزما لتضرر جاره ، ولم يكن التصرف لدفع ضرر متوجه إليه ، ولا لجلب منفعة ولم يكن له فيه غرض عقلائي ، بل يكون عبثا ولغوا ، فهل يجوز

هذا التصرف لعموم دليل السلطنة ، أم لا يجوز لقاعدة نفي الضرر فانها تنفي سلطنة المالك وإباحة تصرفه في ماله ، أم يجوز مع الضمان وجوه.

ظاهر كلمات الأصحاب هو الثاني. فان جماعة منهم كالعلامة في التذكرة (١) ، والشهيد في الدروس (٢) ، قيدوا جواز تصرف المالك فيما له ، بما يتضرر به جاره ، بما جرت به العادة ، وجماعة آخرين كالمحقق الثاني (٣) بصورة دعاء الحاجة ، بل العلامة في التذكرة استدل للجواز في المسألة المشار إليها : بان منعه عن عموم التصرف ضرر منفي.

ولا شك ان منعه عن هذا التصرف ليس ضررا.

وهذا هو الحق : فان قاعدة السلطنة وان اقتضت جواز تصرف المالك في ماله كيف شاء وان تضرر الغير به ، إلا ان حديث لا ضرر حاكم عليه كحكومته على سائر أدلة الأحكام.

وقد استدل بعض تبعا لسيد الرياض للجواز بعموم ما دل على تسلط الناس على أموالهم وأجاب عن ما في الكفاية من اشكال معارضته مع قاعدة لا ضرر بان النسبة بنيهما عموم من وجه والترجيح مع الأول للشهرة ، وانه لو سلم التكافؤ فالمرجع أصالة الإباحة.

ولكن قد عرفت ان أدلة نفي الضرر حاكمة على دليل السلطنة فلا معنى

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ج ٢ (ط. حجرية) ص ٤١٤ ، / تحرير الأحكام ج ٢ (ط. حجرية) ص ١٣١.

(٢) الدروس ج ٣ ص ٦٠.

(٣) جامع المقاصد ج ٦ ص ٢١٨.

للرجوع إلى ما دل على الترجيح ، ولا للتساقط والرجوع إلى الأصل.

ومن غريب ما أفاد ، ان ما دل على ان الناس مسلطون على أموالهم من الخبر المتواتر ، مع انه خبر واحد مروى عن طرق العامة ، ولكنه معمول به فضعفه منجبر بالعمل.

ثم ان الظاهر انه لو تصرف فيه وتضرر الجار من دون ان يتلف منه مال ، لاوجه للحكم بضمانه ، ولا يثبت بقاعدة نفي الضرر الضمان كما مر مفصلا.

واما معارضة القاعدة مع دليل نفي الإكراه فسيجيء الكلام فيها.

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخص واحد

واما المورد الثالث : وهو ما لو تعارض حكمان ضرريان ، فمسائله ثلاث.

الأولى : لو دار امر شخص واحد بين ضررين ، بحيث لا بد من تحمل أحدهما ، أو ايراد أحدهما ، كما لو اكره على الإضرار بشخص ، اما بهذا الضرر ، أو بذاك.

الثانية : ما لو دار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين ، كما لو اكره على ذلك.

الثالثة : ما لو دار الأمر بين تحمل الضرر ، أو ايراد الضرر على الغير.

اما المسألة الأولى : فكلمات الأصحاب في فروع هذه المسألة التي تعرضوا لها في كتاب الغصب ، واحياء الموات وغيرهما مضطربة ، ولكن الشيخ جزم في

الرسالة (١) بلزوم الترجيح بالاقلية ، ومع التساوي فالتخيير.

قال : فان كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد فلا اشكال في تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا اقل مما يستلزمه الحكم الآخر ، لان هذا هو مقتضى نفي الحكم الضرري عن العباد فان من لا يرضى بتضرر عبده لا يختار له إلا اقل الضررين عند عدم المناص عنهما انتهى.

وقد جزم بذلك صاحب الكفاية (٢) (ره).

وملخص القول في المقام انه ان كان الضرران ، مباحين تخير في اختيار أيهما شاء وهو واضح.

وان كان أحدهما محرما ، والآخر مباحا اختار المباح ، إذ لاوجه لسقوط الحرمة كما لا يخفى.

وان كانا محرمين يختار ما حرمته اضعف ، ويجتنب عما حرمة أقوى واهم ، كما هو الشأن في جميع موارد التزاحم ومع التساوي لا بدَّ من تقديم الحكم الذي يستلزم ضررا اقل مما يستلزمه الحكم الآخر ، لما أفاده الشيخ ، ومع التساوي فهو مختار ، وبما ذكرناه يظهر ما في إطلاق كلام العلمين.

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١٢٥.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخصين

واما المسألة الثانية : فقد جزم المحقق الخراساني (١) بلزوم الترجيح بالاقلية ، ومع التساوى فالتخيير.

وقال الشيخ في الرسالة (٢) ، وان كان بالنسبة إلى شخصين فيمكن ان يقال أيضاً بترجيح الأقل ضررا إذ مقتضى نفي الضرر عن العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره اكثر من ضرر الحكم الآخر لان العباد كلهم متساوون في نظر الشارع بل بمنزلة عبد واحد ، فإلقاء الشارع احد الشخصين في الضرر بتشريع الحكم الضرري فيما نحن فيه نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته فكما يؤخذ فيه بالأقل كذلك فيما نحن فيه ، ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات الأخر ، ومع عدمها فالقرعة ، لكن مقتضى هذا ملاحظة الشخصين المختلفين باختلاف الخصوصيات الموجودة في كل منهما من حيث المقدار ومن حيث الشخص فقد يدور الأمر بين ضرر درهم وضرر دينار مع كون ضرر الدرهم اعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه وقد يعكس حال الشخصين في وقت آخر ، وما عثرنا عليه من كلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب انتهى.

وأورد على البناء على التخيير مع التساوي ، بان حديث لا ضرر لوروده

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٣.

(٢) رسائل فقهية ص ١٢٥.

في مقام الامتنان على الأمَّة لا يشمل المقام ، إذ لا معنى للمنة على العباد برفع الضرر فيما كان نفيه عن احد مستلزما لثبوته على آخر ، فيستكشف بذلك عن عموم ارادتهما ، فيجب الرجوع إلى سائر القواعد.

وعلى البناء على الترجيح بأقوائية الضرر أو أكثريته. بان ذلك يوجب الترجيح في الضررين بالنسبة إلى شخص واحد لا شخصين ، إذ لا منة في نفي الضرر الأقوى على من استلزم ذلك في حقه ثبوت الضرر ، بل إنما يكون منة على خصوص من نفي عنه ، وكون العباد بالنسبة إلى الله تعالى ، بمنزلة عبد واحد ، لا يصحح المنة على جميعهم في نفي الضرر الأكثر والأقوى ، ولو على من استلزم ذلك بالنسبة إليه الضرر.

وتنقيح القول في المسألة ان فروعها ثلاثة : الفرع الأول : ما لو دار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين ، كما لو اكرهه المكره بذلك.

الفرع الثاني : ما إذا كان الضرر متوجها إلى احد الشخصين مع قطع النظر عن الحكم الشرعي ، كما إذا وقع دينار شخص في محبرة الغير ، وكان ذلك بفعل شخص ثالث.

الفرع الثالث : ما إذا كان الضرر متوجها إلى أحدهما بآفة سماوية.

اما الفرع الأول : فلا اشكال في انه يجوز أحدهما ـ ولا يجوز الآخر ـ وارتفاع عدم الجواز عن أحدهما حيث يكون لأجل عدم تمكن المكلف فلا محالة يقع التزاحم بينهما فلا بدّ من إعمال مرجحات ذلك الباب ، ومن جملتها الاهمية ، وحيث أنها ربما تكون بالأكثرية فما أفاده الشيخ من الترجيح بالاقلية ، يتم في هذا الفرع وليجعل ما استدل به الشيخ الذي هو وجه اعتباري

استحساني من مؤيدات ذلك.

واما الفرع الثاني : فيتخير في إتلاف أيهما شاء ، ويضمن الشخص الثالث الذي هو السبب لتوجه الضرر إلى احد الشخصين بضمان المثل أو القيمة لصاحبه ولا يخفى وجهه.

واما الفرع الثالث : فالمشهور انه يلزم اختيار اقل الضررين ، وان ضمان ذلك على مالك الآخر.

واستدل له : بان نسبة جميع الناس إلى الله سبحانه نسبة واحدة ، فالكل بمنزلة عبد واحد فالضرر المتوجه إلى احد شخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد ، فيلزم اختيار اقل الضررين ، ثم انه حيث تكون الخسارة المتوجهة إلى من أورد الضرر عليه ، لمصلحة الآخر ، فهو يكون ضامنا لها.

ولكن مجرد كون الخسارة لمصلحته ، لا يوجب استقرار تمام الخسارة عليه فالصحيح : انه حيث يكون الضرر المتوجه ، متوجها اليهما ونسبته اليهما على حد سواء ، فمقتضى قاعدة العدل والإنصاف المصطادة من النصوص ، وعليها بناء العقلاء ، هو تقسيط الخسارة عليهما بنسبة المالين.

ويؤيده قول السَّكُونِيِّ عَنِ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ (ع) : فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ رَجُلا دِينَارَيْنِ فَاسْتَوْدَعَهُ آخَرُ دِينَاراً فَضَاعَ دِينَارٌ مِنْهَا قَالَ يُعْطَى صَاحِبُ الدِّينَارَيْنِ دِينَاراً وَيُقْسَمُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (١).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٣٧ / تهذيب الأحكام ج ٦ ص ٢٠٨ ، وج ٧ ص ١٨١ / وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٤٥٢ ح ٢٤٠٢٥.

لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره

واما المسألة الثالثة : وهي ما لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره ففروعها أربعة :

الأول : ما إذا كان الضرر متوجها إليه ابتداءً ، وامكن توجيهه إلى الغير.

الثاني : ما إذا كان الضرر متوجها إلى غيره ، وأمكن تحمله.

الثالث : ما إذا كان متوجها ولم يكن متوجها إلى أحدهما بالخصوص ، فهما في عرض واحد.

الرابع : ما إذا تردد الضرر بين الشخصين ، نفسه ، وغيره ، من جهة الحكم الشرعي ، كما لو فرضنا ان المالك يتضرر بعدم حفر البئر في داره ، وان جاره يتضرر بحفرها.

إذا كان الضرر متوجها إلى نفسه

اما الفرع الأول : وهو ما لو كان الضرر متوجها إليه ابتداءً ، كما لو اكرهه الجائر على دفع مبلغ معين ، أو كان السيل متوجها إلى داره ، فلا ينبغي التوقف في عدم جواز توجيهه إلى الغير ، بأخذ المبلغ من الغير واعطائه إياه في المثال الأول ، وصرف السيل إلى دار غيره في الثاني : إذ الجواز حكم ضرري منفي في الشريعة.

لا يقال ان ترك الإضرار بالغير أيضاً ضرري ، فلزومه منفي بالشريعة.

فانه يقال ـ أولا ـ ان عدم جواز الإضرار غير مشمول للحديث لما تقدم من عدم كون الحديث حاكما على العدميات.

وثانيا : ان ترك الإضرار ليس ضرريا ، فان المفروض توجه الضرر إليه بأسبابه وإنما يراد دفعه عن نفسه بإيجاد المانع.

لو كان الضرر متوجها إلى الغير

واما الفرع الثاني : وهو ما لو كان الضرر متوجها إلى الغير ابتداءً ، ومثلوا له بما إذا اكرهه الجائر على نهب مال الغير ، وإلا فيحمل أموال نفسه إليه ، ففيه وجوه ، واقوال :

الأول : ما اختاره الشيخ الأعظم (١) ، وهو ارتفاع حرمة الإضرار بالغير مطلقا ، ولو كان الضرر المتوعد به على ترك المكره عليه ، اقل بمراتب من الضرر المكره عليه.

الثاني : عدم ارتفاع حرمته كذلك ، أي ولو كان الضرر المتوعد به اكثر من الضرر المكره عليه.

الثالث : التفصيل بين ما إذا كان الضرر الذي توعد به اعظم ، أو مساويا ،

__________________

(١) فرائد الأصول ص ٥٣٩.

فترتفع الحرمة ، وبين ما إذا كان اقل فلا ترتفع.

الرابع : ما اختاره الأستاذ الأعظم (١) ، وهو التفصيل بين ما إذا كان الضرر المتوعد به امرا مباحا في نفسه ، كما إذا اكره الجائر على نهب مال الغير وجلبه إليه ، وإلا فيحمل اموال نفسه إليه ، فلا ترتفع الحرمة ، وبين ما إذا كان ذلك الضرر امرا محرما ، كما إذا اكرهه على ان يلجئ شخصا آخر إلى فعل محرم كالزنا ، وإلا اجبره على ارتكابه بنفسه ، فتقع المزاحمة ، ويرجع إلى قواعد باب التزاحم.

وقد استدل للاول بوجوه :

الوجه الاول : ان عموم حديث رفع الاكراه (٢) شامل لجميع المحرمات حتى الاضرار بالغير ، ما لم يبلغ الدم.

وفيه : ان الحديث لوروده مورد الامتنان على الامة ، والحكم بارتفاع الحرمة ، مناف للامتنان بالاضافة إلى ذلك الغير ، وان كان موافقا للامتنان بالاضافة إلى المكره ، فلا يكون مشمولا للحديث.

الوجه الثاني : ان عموم نفي الحرج (٣) يدل عليه ، فان الزام الغير بتحمل الضرر ، وترك ما اكره عليه حرج.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ج ١ ص ٦٨٠ ـ ٦٨١.

(٢) وهو : «رفع عن أمتي تسعة أشياء ، الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه .. الحديث» تحف العقول ص ٥٠.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٨ سورة الحج.

وفيه : ان الحرج المنفي في الشريعة ، هي المشقة التي لا تتحمل عادة ، وبديهي ان الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك مطلقا ، فلا يصح التمسك لجواز الاضرار مطلقا بدليل نفي الحرج.

أضف إليه ، انه أيضاً وارد في مقام الامتنان على الامة ، فيجري فيه ما في سابقه.

الوجه الثالث : ان الضرر متوجه إلى الغير بحسب ارادة المكره بالكسر ، والمكره بالفتح ، وان كان مباشرا إلا انه ضعيف لا ينسب إليه توجيه الضرر إلى الغير ، نعم لو تحمل الضرر ولم يضر بالغير ، فقد صرف الضرر عن الغير إلى نفسه عرفا ، والمستفاد من ادلة تشريع نفي الاكراه إنما هو لدفع الضرر فلا يجب تحمل الضرر لدفعه عن الغير.

وفيه : ان هذا وان كان تاما في بعض الفروض كما ستعرف ، إلا انه لا يتم في مورد وساطة ارادة المكره بالفتح ، فان الاكراه لا يوجب سلب اختيار المكره بالفتح وصيرورته كالآلة بل هو بعد على كونه مختارا فيه ، وعليه فهو يضر بالغير اختيارا دفعا للضرر عن نفسه.

واستدل للثاني : باطلاق ادلة حرمة الاضرار بالغير الآتية ، بعد عدم شمول ادلة نفي ، الاكراه ، والحرج ، والضرر للمقام كما تقدم.

وفيه : ان هذا الوجه وان كان تاما في نفسه ، إلا انه ربما يزاحم حرمة الاضرار ، محرم آخر ، وهو ما إذا كان الضرر المتوعد به امرا محرما ، وحينئذٍ فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم.

فالاظهر هو القول الرابع في مفروض المثال.

واستدل للثالث : بان نسبة جميع الناس إلى الله سبحانه نسبة واحدة ، فالكل بمنزلة عبد واحد ، فالضرر المتوجه إلى احد الشخصين كاحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد فلا بد من ملاحظة اقل الضررين وعند التساوى يحكم بالتخيير.

وفيه : انه إذا كان الضرر المتوعد به امرا مباحا في نفسه كيف يحكم بالتخيير بين ذلك وبين الأمر المحرم وهو الاضرار بالغير ، مع انه وجه اعتباري استحسانى لا يعتمد عليه.

والحق في المقام ان يقال انه إذا كان الضرر بحسب طبعه متوجها إلى الغير كما إذا توجه السيل إلى دار الجار لا اشكال في عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عنه ، فان الضرر في الفرض ليس من فعله كي يشمله دليل حرمة الاضرار.

ولكن مسألة الاكراه ليست من هذا الباب ، فان الاكراه إنما يوجب تخيير المكره بين الاضرار بالغير ، وبين تحمل الضرر على فرض العدم ، فلا يكون من توجه الضرر إلى الغير ابتداء ، واما في مسألة الاكراه فقد ظهر مما حققناه قوة الوجه الرابع.

حكم ما لو توجه الضرر من غير ناحية الحكم

واما الفرع الثالث : وهو ما إذا كان الضرر متوجها إلى احد شخصين ، وكان ذلك مع قطع النظر عن الحكم الشرعي ، كما إذا حصلت دابة في دار لا يخرج إلا بهدم ولم يكن حصولها من أحدهما ولا بتفريط منه ، أو ادخلت دابة رأسها في قدر وافتقر اخراجها إلى كسر القدر ولم يكن من أحدهما تفريط.

فهو خارج عما نحن فيه ولا يشمله حديث لا ضرر ولا ضرار ، لأنه إنما ينفي الحكم الناشئ منه الضرر ان الموضوع الضرري ، ولا يشمل ما إذا كان الضرر متوجها مع قطع النظر عن الحكم.

فما في الجواهر (١) في الفرع الأول من انه يهدم الدار ويخرج الدابة ويضمن صاحب الدابة الهدم ، لان صاحب الدابة مكلف باخذها من دار الغير وتخليص ملكه منها فكل ضرر حصل على صاحب الدار بالنسبة إلى ذلك وجب جبره على صاحب الدابة لقاعدة لا ضرر ولا ضرار انتهى.

ضعيف لما مر : ولان قاعدة لا ضرر نافية للحكم لا مثبتة فلا يثبت بها الضمان ، وليس مفادها نفي الضرر غير المتدارك كما مر.

وكيف كان فالمشهور بين الاصحاب انه يهدم الدار ويخرج الدابة في الفرع الأول ، ويكسر القدر في الثاني ويضمن صاحب الدابة الهدم والكسر.

وعللوه : بأنه لمصلحته.

وأورد عليهم الشهيد الثاني في محكي (٢) المسالك ، بان المصلحة قد تكون مشتركة بينهما بل هو الاغلب وقد تكون مختصة بصاحب الدار أو القدر ، وايضا قد تكون الدابة ماكولة اللحم فلا يفوت عليه بذبحها ما يقابل الهدم والكسر.

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٣٧ ص ٢٠٩.

(٢) مسالك الأفهام ج ١٢ ص ٢٤٢.

واحتمل الشهيد في الدروس (١) على ما حكى في الفرع الثاني ذبح الدابة مع كون كسر القدر اكثر ضررا من قيمة الدابة أو ارشها ترجيحا لاخف الضررين.

وفي رسائل الشيخ الأعظم (٢) انه يحمل إطلاق كلامهم على الغالب من ان ما يدخل من الضرر على مالك الدابة إذا حكم عليه بتلف الدابة واخذ قيمتها اكثر مما يدخل على صاحب القدر بتلفه واخذ قيمته ـ وبعبارة أخرى ـ تلف احدى العينين وتبدلها بالقيمة اهون من تلف الاخرى انتهى.

وحق القول في المقام بعد ما عرفت من انه لا مورد لاحتمال قاعدة لا ضرر في المقام حتى يراعى الترجيح بقلة الضرر ، انه حيث يجب على صاحب الدابة الانفاق عليها بالماكول والمشروب ، والمسكن ، ولو امتنع يجبره الحاكم على الانفاق أو البيع ، أو الذبح ان كان ماكول اللحم ، فيجب عليه اخراج الدابة من الدار ، وراسها من القدر ، ان لم يمكن ذلك بدون الاخراج أو لم يأذن صاحب الدار في ذلك ، بل ابقاء الدابة في الدار تصرف في مال الغير لا يجوز ، فإذا توقف الاخراج على هدم الدار أو كسر القدر ، وجب ذلك ، وحيث ان التصرف في مال الغير بلا عوض لاوجه له ، فمقتضى الجمع بين الحقين ، الهدم أو الكسر ، والضمان.

واظن ان مراد المشهور من التعليل لذلك بأنه لمصلحته هو ذلك ، أي انه

__________________

(١) الدروس ج ٣ ص ١١٠.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٤٧١ ـ ٤٧٢.

لا يتمكن من العمل بوظيفته الشرعية إلا بذلك ، وعليه فلا مورد للاعتراض عليهم بما في المسالك من انه قد يكون المصلحة لصاحب القدر أو الدار فقط ، وقد يكون المصلحة مشتركة بينهما.

ولصاحب الجواهر في الفرع الثاني كلام لا بأس به مع الاغماض عما ذكرناه ، قال (١) ولعل إطلاق الاصحاب ان المصلحة لصاحب القدر مبنى على اقتضاء بقاء القدر هلاكها فالضرر عليه حينئذ بالبقاء دون القدر الذي يأخذ قدره بعد الموت تاما ، ومن هذه الجهة خصوا صاحب الدابة بالضمان انتهى.

لو كان الضرر متوجها إلى احد شخصين

نفسه أو غيره من ناحية الحكم

واما الفرع الرابع : وهو ما لو كان الضرر متوجها إلى نفسه ، أو غيره من ناحية الحكم الشرعي كما إذا كان تصرف المالك في ماله فيما تضرر جاره به ، لدفع ضرر يتوجه إليه بحيث يكون ترك التصرف موجبا لتضرره بفوت الحاجة.

فالمشهور بين الاصحاب هو جواز التصرف وان كان ضرر الجار اللازم منه اكثر ، بل الظاهر انه لا خلاف فيه.

__________________

(١) جواهر الكلام ج ٣٧ ص ٢١٢.

وفي رسالة الشيخ (١) والظاهر عدم الضمان أيضاً عندهم كما صرح به جماعة منهم الشهيد (٢).

فالكلام في موردين الاول : في الحكم التكليفي. الثاني : في الضمان.

اما المورد الأول : فقد استدل للجواز بوجوه :

الأول : ان اباحة التصرف توجب تضرر الجار فتشملها قاعدة لا ضرر ، وحرمته موجبة لتضرره فهي أيضاً في نفسها مشمولة للقاعدة ، فيقع التعارض بينهما فلا يمكن شمولها لهما معا ، وشمولها لاحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح فلا تشمل شيئا منهما ، فيرجع إلى قاعدة السلطنة المقتضية للجواز.

وأورد عليه المحقق النائيني (٣) بان منشأ تضرر المالك هو حرمة التصرف الثابتة من شمول حديث لا ضرر لاباحة التصرف وسلطنة المالك على ماله ، ومعلوم ان الضرر الناشئ من شمول الحديث المتأخر عنه رتبة لا يكون مشمولا له ، وإلا فيلزم تقدم ما هو متاخر ، وعليه فحديث لا ضرر في المثال يشمل خصوص جواز التصرف الناشئ منه تضرر الجار.

ويتوجه عليه اولا ان حرمة التصرف الموجب لتضرر الجار ان لم تكن ثابتة مع قطع النظر عن قاعدة لا ضرر ، لا تثبت بها لانها قاعدة نافية للحكم لا مثبتة.

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١٢٨.

(٢) إذ قال في اللمعة الدمشقية ص ص ٠٤ : «فلا ضمان إذا لم يزد عن قدر الحاجة ..»

(٣) منية الطالب ج ٣ ص ٤ ص ٩.

وثانيا : انها لو ثبتت بها لا مانع من شمول القاعدة لها في نفسها ، لان القاعدة من قبيل القضية الحقيقية وتنحل إلى قضايا عديدة بحسب ما للتضرر من الأفراد ، وعليه فإذا شملت القاعدة لجواز التصرف وثبت بها حرمة التصرف وكانت الحرمة موجبة لتضرر الجار يتولد منه مصداق آخر للقاعدة فيشملها القاعدة ولا يلزم تقدم ما هو متاخر ، فان المتأخر غير ما هو متقدم وهو واضح.

اللهم إلا ان يقال ان حديث لا ضرر بحسب المتفاهم العرفي لا ينفي الحكم الذي اثبته الحديث ، وعليه فالعمدة هو الإيراد الأول.

ولكن يرد على هذا الوجه ، انه حيث تكون القاعدة في مقام الامتنان على الامة ولا منة على العباد في الحكم بتحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير ولو كان ضرره اعظم من ضرر نفسه فالحديث لا يشمل سلطنة المالك على التصرف في ماله ولا يقتضي حجره عنه.

أضف إليه انه لو سلم تعارض الضررين وسقوط القاعدة بالنسبة اليهما يكون مقتضى قاعدة نفي الحرج هو عدم حجر المالك عن التصرف في ماله.

ومن هذين الايرادين يظهر وجهان آخران لجواز التصرف.

الرابع : الإجماع ، ولكنه لمعلومية مدرك المجمعين لا يعتمد عليه.

الخامس : ما ذكره بعض المحققين تبعا لسيد الرياض ، بان عموم التسلط يعارض عموم نفي الضرر والترجيح للاول للأصل والاجماع.

ويرده ان قاعدة لا ضرر حاكمة على قاعدة السلطنة كما مر مفصلا.

ويمكن ان يستدل للجواز مضافا إلى الوجهين المتقدمين

الثالث : ما أفاده الشيخ في الرسالة (١) ، من ان تجويز الاضرار بالغير مع الاكراه وعدم لزوم تحمل الضرر ، يشهد بعدم لزوم تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير.

وبما ذكرناه ظهر ان ما ذكره بعض المتأخرين (٢) من وجوب ملاحظة مراتب ضرر المالك والجار وتقديم الجار على المالك فيما كان ضرره اعظم واكثر من ضرر المالك ، غير تام.

نعم إذا كان ضرر الجار من قبيل هلاك النفس المحترمة التي يجب على المالك أيضاً حفظها ، لا اشكال في تقديم ضرر الجار لكنه خارج عن محل الكلام.

كما انه ظهر ان ما أفاده المحقق السبزواري (٣) إيرادا على الاصحاب من انه يعارض قاعدة السلطنة قاعدة نفي الضرر فيشكل الجواز ، غير صحيح.

ولكن التحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق ان جميع هذه الكلمات منحرفة عن طريق السداد ، والصواب ، فان تصرف المالك في ملكه ان كان موجبا لتضرر الجار وكان ذلك علة له والمراد بالضرر هو ، النقص في المال ، أو

__________________

(١) رسائل فقهية ص ١٣٠ ـ ١٣١

(٢) في اشارة إلى صاحب مفتاح الكرامة كما عبَّر عن ذلك الشيخ الأنصاري في رسائل فقهية ص ١٢٩ بقوله : «يظهر من بعض من عاصرناه وجوب ملاحظة ضرر المالك وضرر الغير» / مفتاح الكرامة ج ٧ ص ٢٢.

(٣) كفاية الأحكام ص ٢٤١.

العرض ، أو النفس لا محالة يكون ذلك التصرف حراما محضا ولا يكون متصفا بحكمين ، الحرمة ، والاباحة ، ولا سبيل إلى دعوى ان قاعدة السلطنة تدل على الجواز فانها لا تدل على جواز التصرف في ملك الغير ، وهل التمسك بها في المقام إلا كالتمسك بها لاثبات جواز ان يذبح بمديته غنم الغير بدعوى انه مسلط على مديته يتصرف فيها ما شاء ، وذلك كما في حفر بئر قريبا من بئر الجار في الارض المعمورة ، بناءً على ان من ملك ارضا ملك قرارها إلى تخوم الارض ، وفراغها إلى عنان السماء ، كما عن جماعة ، أو ان نفس الحفر حيازة لما في تخوم الارض من المياه كما عن المحقق القمي ، فان ذلك ان اوجب قلة ماء بئر الجار ، لا يجوز قطعا.

واما ان لم يكن ما يتوجه إلى الجار ضررا ، بل كان عدم النفع كما في المثال بناءً على انكار المبنيين كما حققناه في محله ، واخترنا ان الحفر ليس حيازة للمياه الموجودة في عروق الارض ، وبينا ان من ملك ارضا وان كان يملك مقدار من الفراغ الذي يتوقف عليه تصرفاته في ارضه ، ولمقدار آخر منه بتبعية الارض بمنزلة الحريم ، ومقدارا من قرارها كذلك ولا يملك ما تجاوز عن ذينك الحدين ، فلا يكون حراما بل هو مباح محض ، وعلى التقديرين ليس إلا حكم واحد وحيث ان المختار كما مر ان قاعدة لا ضرر ، لا تشمل عدم الحكم ، ولا تكون مثبتة للحكم ، فليس في الامثلة المذكورة في كتب القوم لتعارض الضررين ، مورد يتم فيه ما افادوه ، ويتعارض قاعدة لا ضرر الجارية ، في احد الطرفين مع الجارية في الطرف الآخر.

وعليك تطبيق الضابط الذي ذكرناه على الامثلة المذكورة في الكلمات ،

مثلا في حفر بئر قريب من بئر الجار الموجب لعدم جذب بئر الجار ما في عروق الارض من المياه ، يكون ذلك جائزا غير محرم كما هو المشهور بين الاصحاب ، وفي حفر بئر كنيف أو بالوعة بقرب بئر ماء الجار ، ان لم يوجب ذلك تغير ماء البئر ولكن كان الجار يستقذر ماء بئره لقربه من الكنيف أو البالوعة ، أو اوجب تغيير الماء ولكن كان من قبيل المعد لا العلة التامة بان تمكن الجار من أحكام جدار الماء بنحو لا يتغير ماء بئره ، جاز الحفر ولم يكن حراما ، واما إذا كان بنحو العلة التامة أي الجزء الاخير منها لم يجز ، ولم يكن ذلك مباحا ، وهكذا سائر الامثلة ، وعلى الجملة ليس المقام من باب التعارض بين فردين من القاعدة في شيء ، بل بما ذكرناه يظهر انه لا يتعارض قاعدة السلطنة مع قاعدة لا ضرر في مورد فانه إذا اوجب التصرف تضرر الغير لم يجز ولم يكن مورداً لقاعدة السلطنة ، وعليه فلا مورد للبحث فيما يقتضيه قواعد باب التعارض ، وقد خرجنا بما ذكرناه عما يقتضيه الادب بالنسبة إلى علماء الاسلام والله تعالى مقيل العثرات.

وبما ذكرناه يظهر الحال في :

المورد الثاني ، أي الضمان ، فانه إذا اوجب تصرف المالك في ماله اتلاف مال الغير ، واستند الاتلاف إليه ، كان ضامنا قطعا ولا مورد لاعمال قاعدة لا ضرر ، لان الضمان حكم مبنى على الضرر فهو خارج عن مورد الحديث ، ولا يشمله حديث لا ضرر كما مر ، وإلا كما في حفر البئر قريبا من بئره اعمق منها الموجب لجذب المياه الموجودة في عروق الارض ، فلا ضمان ، لما حقق في محله من انحصار سبب ضمان الغرامة بالاتلاف ، واليد ، والاستيفاء.

حكم الإضرار بالغير

خاتمة : في حكم الاضرار ، بالغير ، وبالنفس ، فالكلام يقع في مسألتين ، الأولى في الاضرار بالغير ، الثانية ، في الاضرار بالنفس.

اما الأولى : فلا ينبغي التوقف في حرمة الاضرار بالغير ، ويشهد به مضافا إلى عدم الخلاف فيه ، جملة من الآيات القرآنية ، وكثير من النصوص ، اما الآيات فهي في موارد خاصة.

منها : قوله تعالى : (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لهُ بِوَلَدِهِ) (١)

وقد نهى الله تعالى في هذه الآية الشريفة ، ان يضر الوالدة بالولد ، بترك الارضاع تعنتا ، أو غيظا على ابيه ، ونهى أيضاً عن ان يضر الاب بولده ، بان ينزعه من أمه ويمنعها من ارضاعه ، وقد مر ان المضارة بمعنى الاضرار عن عمد.

وقد قيل (٢) في معنى الآية وجه آخر ، وهو ان المنهي عنه اضرار الاب بالوالدة بترك جماعها ، خوفا من الحمل ، واضرار الوالدة ، بالامتناع من الجماع ، خوفا من الحمل أيضاً ، وفي كنز العرفان ، الجزء الثاني ص ٢٣٣ ، بعد نقل هذا الاحتمال ، وروي عن الباقر والصادق (ع).

ومنها : قوله تعالى (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) (٣) نهى الله تعالى

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٣٣.

(٢) كنز العرفان في فقه القرآن ج ٢ ص ٢٣٣.

(٣) الآية ٦ سورة الطلاق.

عن الاضرار والتضييق على المطلقات.

ومنها : قوله عزوجل (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لتَعْتَدُوا) (١) نهى الله تعالى عن الرجوع لا للرغبة ، بل للاضرار.

منها : قوله تعالى" (وَلَا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) (٢) نهى الله عزوجل عن الاضرار بالكتاب والشهود إذا ادوا حق الشهادة والكتابة ، أو نهى عن اضرار الكاتب والشاهد غيرهما على الاختلاف في كون الفعل مبنيا للفاعل ، أو للمفعول ، واما النصوص فكثيرة.

منها : ما رواه الصدوق (٣) باسناده عن الحسن بن زياد عن الامام الصادق قَالَ لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعَهَا وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا حَاجَةٌ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا فَهَذَا الضِّرَارُ الَّذِي نَهَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ إِلّا أَنْ يُطَلِّقَ ثُمَّ يُرَاجِعَ وَهُوَ يَنْوِي الإِمْسَاكَ) قوله وهذا الضرار الذي نهى الله عنه ، بيان للكبرى الكلية ويدل على حرمة الاضرار مطلقا.

منها : ما عن عقاب الاعمال للصدوق (٤) باسناده عن النبي (ص) ، في حديث وَمَنْ أَضَرَّ بِامْرَأَةٍ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا لَمْ يَرْضَ اللهُ لَهُ بِعُقُوبَةٍ دُونَ النَّارِ لِأَنَّ اللهَ يَغْضَبُ لِلْمَرْأَةِ كَمَا يَغْضَبُ لِلْيَتِيمِ ـ إلى ان قال ـ وَمَنْ ضَارَّ

__________________

(١) الآية ٢٣١ سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٨٢ سورة البقرة.

(٣) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٥٠١ / وسائل الشيعة ج ٢٢ ص ١٧١ ح ٢٨٣٠٩ ..

(٤) وسائل الشيعة ج ٢٢ ص ٢٨٢ ح ٢٨٥٩٧.

مُسْلِماً فَلَيْسَ مِنَّا وَلَسْنَا مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

منها : ما عن الكافي باسناده عن الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ع فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُضَارَّ بِالصَّبِيِّ أَوْ تُضَارَّ أُمُّهُ فِي رَضَاعِهِ (١).

ومنها : خبر طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ع قَالَ إِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ) (٢) وسيأتي الكلام في فقه الحديث فيه.

ومنها : ما في الكافي (٣) مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ص) ع عَنْ أَبِيهِ ع قَالَ قَرَأْتُ فِي كِتَابٍ لِعَلِيٍّ ع أَنَّ رَسُولَ اللهِ كَتَبَ كِتَاباً بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ أَنَّ كُلَّ غَازِيَةٍ غَزَتْ بِمَا يُعَقِّبُ بَعْضُهَا بَعْضاً بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَرْبٌ إِلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ وَحُرْمَةَ الْجَارِ عَلَى الْجَارِ كَحُرْمَةِ أُمِّهِ وَأَبِيهِ لَا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلّا عَلَى عَدْلٍ وَسَواءٍ).

والمراد بالجار من اعطى الامان لا المجاور للبيت كما يظهر من صدر الخبر ، ثم ان قوله غير مضار اما حال من المجير على صيغة الفاعل ، أي يجب ان يكون

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٤١. و ١٠٣ / وسائل الشيعة ج ٢١ ص ٤٥٤ ح ٢٧٥٦٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢. / تهذيب الاحكام ج ٧ ص ٤٢ / وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨٠.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣١ ، / تهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٤٢. / وسائل الشيعة ج ١٥ ص ٦٨ ح وج ١٢ ص ١٢٦ ح ١٥٨٣٨ ٢٠٠٠١.

المجير غير مضار ولا آثم في حق المجاور ، أو حال عن المجار ، ويحتمل بناء المفعول أيضاً.

ومنها : ما رواه الكليني (ره) باسناده عن مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ كَتَبْتُ إلى أَبِي مُحَمَّدٍ ع رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ رَحى عَلَى نَهَرِ قَرْيَةٍ وَالْقَرْيَةُ لِرَجُلٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْقَرْيَةِ أَنْ يَسُوقَ إلى قَرْيَتِهِ الْمَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا النَّهَرِ وَيُعَطِّلَ هَذِهِ الرَّحَى أَلَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا فَوَقَّعَ ع يَتَّقي اللهَ وَيَعْمَلُ فِي ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ (وَلَا يَضُرُّ) أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ (١).

وغير ذلك من النصوص الواردة في الابواب المختلفة ـ منها ـ ما ورد (٢) في باب حريم العين والقناة والنهر في كتاب احياء الموات ـ ومنها ـ غير ذلك.

أضف إلى ذلك كله ان الاضرار بالغير ظلم في حقه ـ فيدل على حرمته ـ الأدلة الاربعة الدالة على حرمة الظلم (٣).

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٣ ، وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٣١ ح ٣٢٢٨٦.

(٢) وهو ما روي عن (رَسُولَ اللهِ (ص) قَالَ مَا بَيْنَ بِئْرِ الْمَعْطِنِ إلى بِئْرِ الْمَعْطِنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً وَمَا بَيْنَ بِئْرِ النَّاضِحِ إلى بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعاً وَمَا بَيْنَ الْعَيْنِ إلى الْعَيْنِ يَعْنِي الْقَنَاةَ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ ..) وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٢٦ ح ٣٢٢٧٣. الكافي ج ٥ ص ٢٩٦.

(٣) الأدلة الأربعة : الكتاب والسنة والعقل والاجماع. فالاجماع واضح ، والعقل يستقل بقبح الظلم ، ومن الكتاب قوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) الآية ١١٣ سورة هود ، ومن السنة (إِيَّاكُمْ وَصُحْبَةَ الْعَاصِينَ وَمَعُونَةَ الظَّالِمِينَ) وسائل الشيعة ج ١٧ ص ١٧٧ ح ٢٢٢٨٩. الكافي ج ٨ ص ١٦.

مع انه ايذاء له فيدل على حرمته ما دل على حرمة الايذاء (١) ، ويمكن ان يستدل لعدم جوازه بحديث (لا ضرر ولا ضرار) (٢) ، فان الحكم باباحته حكم ضرري فيكون منفيا في الشريعة ، فإذا لا ريب في حرمة الاضرار بالغير.

حكم الإضرار بالنفس

واما المسألة الثانية : ففي رسالة الشيخ الأعظم (٣) ، قد استفيد من الأدلة العقلية ، والنقلية ، تحريم الإضرار بالنفس.

أقول : لا كلام عندنا في حرمة الإضرار بالنفس ، إذا أدى ذلك إلى الوقوع في التهلكة ، أو تحقق ما علم مبغوضيته في الشريعة كقطع الأعضاء ونحوه أو كان يصدق عليه التبذير ، والإسراف إذا كان الضرر ماليا.

إنما الكلام في الإضرار بالنفس في غير هذه الموارد.

وقد استدل لحرمته بوجوه.

الاول : ان العقل مستقل بذلك.

__________________

(١) يستدل على حرمة الايذاء بالعقل وبأدلة الضرر وبالروايات وستأتي الاشارة إلى ذلك.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٨٠ و ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٢٩٤ / وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٢ ح ٢٣٠٧٣ و ٢٣٠٧٤ وج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨١ وص ٤٢٩ ح ٣٢٢٨٢ وج ٢٦ ص ١٤ ح ٣٢٣٨٢ ..

(٣) رسائل فقهية ص ١١٦.

وفيه ان العقل لا يأبى من تحمل الضرر إذا ترتب عليه غرض عقلائي كما في سفر التجارة أو الزيارة وما شاكل.

الثاني : ادلة نفي الضرر ، اما بدعوى ارادة النهي من النفي ، أو بدعوى ، ان جوازه ضرري منفي في الشريعة.

وفيه : ان تلك الأدلة إنما تنفي الأحكام الضررية ، ولا يكون المراد من النفي النهي كما تقدم تفصيل ذلك.

وجواز الاضرار بالنفس غير مشمول لها : لما تقدم من عدم شمول حديث لا ضرر ، للاحكام غير اللزومية المتعلقة بالشخص نفسه.

مع ان رفع جواز الإضرار بالنفس إذا ترتب عليه غرض عقلائي مخالف للامتنان فلا يشمله الحديث.

أضف إلى ذلك ان الضرر الذي يترتب عليه غرض عقلائي لا يعد ضررا عرفا.

الثالث : خبر مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ (١) قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ ع أَخْبِرْنِي جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ لِمَ حَرَّمَ اللهُ الْخَمْرَ وَالْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ قَالَ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ عَلَى عِبَادِهِ وَأَحَلَّ لَهُمْ مَا سِواهُ مِنْ رَغْبَةٍ مِنْهُ فِيمَا) حَرَّمَ عَلَيْهِمْ (وَلا زُهْدٍ فِيمَا) أَحَلَّ لَهُمْ (وَلَكِنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ) فَعَلِمَ (مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ ومَا يُصْلِحُهُمْ فَأَحَلَّهُ لَهُمْ وَأَبَاحَهُ تَفَضُّلاً مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِهِ لِمَصْلَحَتِهِمْ

__________________

(١) المحاسن ج ٢ ص ٣٤٤ / الكافي ج ٦ ص ٢٤٢ / وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٩٩ ح ٣٠٠٨٣.

وعَلِمَ مَا يَضُرُّهُمْ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ أَبَاحَهُ لِلْمُضْطَرِّ وَأَحَلَّهُ لَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَقُومُ بَدَنُهُ إِلّا بِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْبُلْغَةِ لَا غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا الْمَيْتَةُ فَإِنَّهُ لَا يُدْمِنُهَا أَحَدٌ إِلّا ضَعُفَ بَدَنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ ووَهَنَتْ قُوَّتُهُ وَانْقَطَعَ نَسْلُهُ .. إلى آخر الحديث.

بتقريب ان قوله (ع) وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم ، يدل على ان علة تحريم الخمر ، والميتة والدم ولحم الخنزير إنما هي كونها مضرة ، ومقتضى عموم العلة حرمة كل ما يوجب الضرر على النفس.

وفيه : ان قوله (ع) وعلم ما يضرهم فنها عنه ، من قبيل حكمة التشريع ، لا من قبيل العلة التي يتعدى عنها ، وذلك لان السؤال إنما يكون عن وجه تحريم الله تعالى تلك الأمور ، فالسؤال إنما يكون عن حكمة التشريع ، ولا يكون سؤالا عن انطباق عنوان عام محرم عليها ، وعدمه هو واضح ، فالجواب أيضاً يكون ناظرا إلى ذلك ، ولعل ما ذكرناه ظاهر لا سترة عليه.

أضف إلى ذلك انه لو كان ذلك علة يدور الحكم مدارها ، لزم منه عدم حرمة المذكورات إذا لم يترتب على استعمالها الضرر ، كما في استعمال القليل منها ، أو جواز استعمال ما يقطع من الميتة بعدم الضرر فيها كما لو ذبح إلى غير القبلة ، ولا يلتزم بذلك فقيه.

مع ان ما ذكر في وجه حرمة الميتة رتب على ادمانها ، فلو كان ذلك علة ، لزم منه عدم حرمة أكل الميتة مع عدم الإدمان.

ومنها : ما رواه الصدوق باسناده عن الامام علي (ع) في حديث الاربعمائة ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) : (لا تَأْكُلُوا الطِّحَالَ فَإِنَّهُ بَيْتُ الدَّمِ

الْفَاسِدِ الْخَبَرَ) (١) والاستدلال به انما يكون بعموم العلة.

والجواب عنه انما هو كون ذلك من قبيل الحكمة لا العلة ، لو روده في مقام بيان حكمة تحريم الله تعالى الطحال ، لا في مقام بيان تحريم عنوان عام شامل للطحال.

ومنها : خبر مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ (٢) عَنِ الرِّضَا (ع) فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ جَوَابِ مَسَائِلِهِ وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ لِأَنَّهُ مُشَوَّهٌ جَعَلَهُ اللهُ عِظَةً لِلْخَلْقِ وَعِبْرَةً وَتَخْوِيفاً وَدَلِيلاً عَلَى مَا مَسَخَ عَلَى خِلْقَتِهِ لِأَنَّ غِذَاءَهُ أَقْذَرُ الأَقْذَارِ مَعَ عِلَلٍ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ حَرَّمَ الْقِرْدَ لِأَنَّهُ مَسْخٌ مِثْلَ الْخِنْزِيرِ وَجَعَلَ عِظَةً وَعِبْرَةً لِلْخَلْقِ وَدَلِيلا عَلَى مَا مَسَخَ عَلَى خِلْقَتِهِ وَصُورَتِهِ وَجَعَلَ فِيهِ شبهاً مِنَ الإنسان لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْخَلْقِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَحُرِّمَتِ الْمَيْتَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ فَسَادِ الأَبْدَانِ وَالآفَةِ وَلِمَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ تَسْمِيَتَهُ سَبَباً لِلتَّحْلِيلِ وَفَرْقاً بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَحَرَّمَ اللهُ الدَّمَ كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسَادِ الأَبْدَانِ وَأَنَّهُ يُورِثُ الْمَاءَ الأَصْفَرَ وَيُبْخِرُ الْفَمَ وَيُنْتِنُ الرِّيحَ وَيُسِيءُ الْخُلُقَ وَيُورِثُ قَسَاوَةَ الْقَلْبِ وَقِلَّةَ الرَّأفَةِ وَالرَّحْمَةِ حَتَّى لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَدَهُ وَوَالِدَهُ وَصَاحِبَهُ.

وتقريب الاستدلال به ، والجواب عنه ما في سابقيه ، ويضاف إليه ان ما ذكر في مقام الحكمة ليس هو الإضرار بالبدن خاصة ، كما هو واضح.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ١٦ ص ١٨٩ و ١٩٧ / الخصال ج ٢ ص ٦١٤.

(٢) وسائل الشيعة ج ٢٤ ص ١٠٢ ح ٣٠٠٨٥ / علل الشرائع ج ٢ ص ٤٨٤.

ومنها : خبر الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعْبَةَ فِي كِتَابِ تُحَفِ الْعُقُولِ (١) عَنِ الامام الصَّادِقِ ع فِي حَدِيثٍ قَالَ وَأَمَّا مَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَكْلُهُ مِمَّا أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ فَثَلَاثَةُ صُنُوفٍ مِنَ الأَغْذِيَةِ صِنْفٌ مِنْهَا جَمِيعُ الْحَبِّ كُلِّهِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالأَرُزِّ وَالْحِمَّصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْحَبِّ وَصُنُوفِ السَّمَاسِمِ وغَيْرِهِمَا كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْحَبِّ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ غِذَاءُ الإنسان فِي بَدَنِهِ وَقُوَّتُهُ فَحَلَالٌ أَكْلُهُ وَكلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ الْمَضَرَّةُ عَلَى الإنسان فِي بَدَنِهِ فَحَرَامٌ أَكْلُهُ إِلّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ .. إلى آخر الحديث.

وفيه : أولا انه ضعيف السند للإرسال ، واستناد الأصحاب إليه غير ثابت فلا يكون حجة.

وثانيا : انه يدل على حرمة الأطعمة والأغذية المضرة كالسموم وما شاكل ، لا حرمة الإضرار بالنفس مطلقا ، ولو كان باستعمال الأطعمة غير المضرة في أنفسها ، لاحظ قوله (ع) قبل الجملة التي هي محل الاستشهاد ، صنف منها جميع الحب كله من الحنطة والشعير والأرز والحمص وغير ذلك من صنوف الحب وصنوف السماسم وغيرهما كل شيء من الحب مما يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلال أكله ، وكل شيء يكون فيه المضرة إلى آخره.

ومنها : خبر دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ (٢) ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ع أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثٍ وَمَا كَانَ مِنْهَا يَعْنِي مِنْ صُنُوفِ الثِّمَارِ وَالْبُقُولِ فِيهِ الْمَضَرَّةُ فَحَرَامٌ أَكْلُهُ إِلّا فِي

__________________

(١) تحف العقول ص ٣٣٧ / وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٨٤ ح ٣١٢٥٨.

(٢) دعائم الإسلام ج ٢ ص ١٢٢ / مستدرك الوسائل ج ١٦ ص ٢٠٧ و ٣٦١.

حَالِ التَّدَاوِي بِهِ .. الْخَبَرَ.

ويرد عليه ، انه ضعيف السند للارسال ولعدم ثبوت وثاقة مؤلف ذلك الكتاب وهو أبو حنيفة نعمان بن محمد بن منصور ، والاستناد إليه غير ثابت ، أضف إليه اختصاصه بالاطعمة المضرة ، كما في خبر تحف العقول.

ومنها : ما عن فِقْهُ الرِّضَا (ع) (١) اعْلَمْ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُبِحْ أَكْلاً وَلا شُرْباً إِلّا مَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ وَالصَّلَاحُ وَلَمْ يُحَرِّمْ إِلا مَا فِيهِ الضَّرَرُ وَالتَّلَفُ وَالْفَسَادُ فَكُلُّ نَافِعٍ مُقَوٍّ لِلْجِسْمِ فِيهِ قُوَّةٌ لِلْبَدَنِ فَهُوَ حَلَالٌ وكُلُّ مُضِرٍّ يَذْهَبُ بِالْقُوَّةِ أَوْ قَاتِلٌ فَحَرَامٌ إلى آخِرِهِ.

والجواب عنه كما في سابقيه ، مضافا إلى عدم ثبوت كونه كتاب رواية ، ولعله تأليف فقيه من أهل البيت.

ومنها : خبر طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ع قَالَ إِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ) (٢).

وفيه : انه يدل على ان الجار (أي من أعطى له الأمان كما مر) بمنزلة النفس ، فكما ان الإنسان بطبعه لا يقدم على الضرر ولا يظهر عيوب نفسه ، فليكن كذلك بالنسبة إلى الجار ، ولا يدل على حرمة الإضرار بالنفس.

وفى المقام روايات كثيرة أخر مذكورة في الوسائل ومستدرك الوسائل ، يظهر الجواب عنها مما تقدم ، مضافا إلى ضعف إسناد جملة منها.

__________________

(١) فقه الرضا ص ٢٥٤ / مستدرك الوسائل ج ١٦ ص ١٦٥ و ٣٣٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٢ / التهذيب ج ٧ ص ٤٢ / وسائل الشيعة ج ٢٥ ص ٤٢٨ ح ٣٢٢٨٠.

فإذا لا دليل على الحرمة ، ومقتضى الأصل الجواز.

ويشهد به ، توافق النص ، والفتوى ، والعمل على جواز عدة أمور مع كونها مضرة ، كإدمان أكل السمك ، وشرب الماء بعد الطعام ، واكل التفاح الحامض ، وشرب التتن والتنباك ، والجماع على الامتلاء من الإطعام ، ودخول الحمام مع الجوع ، وعلى البطنة والإضرار بالنفس بسفر التجارة ، وما شاكل ذلك ، فيجوز الإضرار بالنفس ، بغير ما يوجب التهلكة أو قطع عضو من الأعضاء ، الا ما استثنى بلا كلام ، هذا آخر ما أوردناه في قاعدة لا ضرر.

والحمد لله أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

الفصل الرابع

من

الأصول العملية

الاستصحاب

تعريف الاستصحاب

الفصل الرابع : في الاستصحاب ، وتنقيح القول فيه يستدعى تقديم أمور :

الأمر الأول : في حقيقة الاستصحاب وقد نقل الشيخ الأعظم (١) عن القوم في تعريف الاستصحاب وجوها ثلاث :

١ ـ ما عن المحقق القمي (ره) (٢) وهو كون حكم أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق.

٢ ـ ما عن المشهور بل نسبه شارح الدروس (٣) إلى القوم وهو إثبات الحكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه.

٣ ـ ما عن الفاضل التوني (٤) ، وشارح المختصر (٥) ، وهو ان الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه ، وكلما كان كذلك فهو باق ، ويستفاد من كلمات

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٤١.

(٢) قوانين الأصول ج ٢ ص ٢٥٩.

(٣) مشارق الشموس للمحقق الخونساري ج ١ ص ٧٦ ط مؤسسة أهل البيت (ع).

(٤) الوافية في الأصول ص ٢٠٠ (القسم السادس : استصحاب حال الشرع) قوله : «ان الأمر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه وكل ما هو كذلك فهو باق». الناشر مجمع الفكر الإسلامي ، قم. ١٤١٥ ه‍. ق

(٥) نسبه إليه غير واحد من الأعلام ، منهم الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٤٢ إلا أنه قال : «وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء» / والمختصر اصله للحاجبي وشارحه هو القاضي عضد الدين.

الشيخ (ره) (١) انه يرى توافق التعاريف الثلاثة.

ويمكن توجيهه بما أفاده بعض المحققين (٢) ، من ان التعريف قد يكون بالعلة ، ويسمى بمبدإ البرهان كتعريف الغضب بإرادة الانتقام ، وقد يكون بالمعلول ، ويسمى بنتيجة البرهان كتعريف الغضب بغليان دم القلب ، وقد يكون بهما ، ويسمَّى بالحد التام الكامل ، كتعريف الغضب بغليان الدم لارادة الانتقام وتعريف الاستصحاب ، بالأول من قبيل مبدأ البرهان ، وبالثاني من قبيل نتيجة البرهان ، وبالثالث من قبيل الحد التام الكامل.

ولكن يرد عليها ان هذه هو الاستصحاب الذي يكون من الإمارات.

واما على فرض القول به من باب الأخبار كما عليه المتأخرون فلا يتم هذه التعاريف كما هو واضح.

ولذلك أفاد المحقق الخراساني (ره) (٣) في الكفاية ان عبارتهم في تعريفه وان كان شتى إلا أنها تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه.

اما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقا أو في الجملة تعبدا أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.

واما من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع إلى ان قال ، وتعريفه بما ينطبق

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٤١ ـ ٥٤٢.

(٢) وهو المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ١٢.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٨٤.

على بعضها وان كان ربما يوهم ان لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه إلا انه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من قبيل شرح الاسم كما هو الحال في التعريفات غالبا لم يكن له دلالة على انه نفس الوجه بل للإشارة إليه من هذا الوجه ولذا وقع الإشكال على ما ذكر في تعريف بعدم الطرد أو العكس فانه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس انتهى.

وفي كلامه (قدِّس سره) مواقع للنظر :

الأول : ما أفاده من ان حقيقة الاستصحاب على جميع المباني والتعريفات شيء واحد ، والكل تشير إليه.

فانه يرد عليه ان الأنظار كما أشار إليه مختلفة في اعتبار الاستصحاب وحجيته.

فمنهم من يراه حجة لكونه إمارة شرعية من جهة بناء العقلاء ، وملاك اعتباره حينئذ إفادته الظن النوعي كما في سائر الأمارات الشرعية ،

ومنهم من يراه حجة للإذعان العقلي الظني ببقاء الحكم وملاك اعتباره حينئذ الظن الشخصي ويكون حاله حال بعض الظنون الخاصة كالظن بالقبلة ، والظن في عدد الركعات ، والظن الانسدادي على الكشف.

واختار المحققون من المتأخرين انه حجة لكونه أصلاً عمليا من جهة دلالة النص أو الإجماع عليه.

وعلى المسلكين : الأول يكون الاستصحاب مثبتا للحكم وطريقا إليه ، وعلى المسلك الأخير يكون وظيفة مجعولة مع عدم الطريق إلى الواقع ، فلا يمكن

فرض جامع في البين.

وما أفاده من ان المفهوم الواحد الذي يشير الكل إليه ، هو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه ، لا يتم.

إذ الاستصحاب على تقدير كونه أمارة يكون كاشفا عن الحكم وطريقا إليه ، فلا يمكن تعريفه بنفس الحكم.

وعلى تقدير كونه أصلاً عمليا ، وان كان عبارة عن نفس الحكم إلا انه ليس هو الحكم ببقاء الحكم الواقع أو موضوعه.

الثاني : ما أفاده من ان بناء العقلاء قد يكون تعبدا ، فان التعبد في بنائهم غير معقول ، فان العقلاء ليسوا إلا المكلفين فكيف يمكن ان يحكم المكلف على نفسه بشيء ولا يفهم مناطه ويتعبد نفسه بذلك ، وهذا من الوضوح بمكان.

الثالث : فيما أفاده من ان عدم اطراد التعاريف أو عدم انعكاسها ، لا يضر بعد ورودها في مقام شرح الاسم.

فانه يرد عليه : ان شرح اللفظ والتعريف على قسمين :

القسم الأول : شرح تام موجب لتمييز المدلول عن جميع ما عداه.

القسم الثاني : شرح ناقص موجب لتمييزه عن بعض ما عداه.

والذي لا يضر عدم اطراده وانعكاسه إنما هو الثاني.

ومقصود الشارحين للعناوين هو الأول ، فالاعتذار عن عدم اطراد التعاريف تارة ، وعدم انعكاسها أخرى بان تعاريفهم تعاريف لفظية وفي مقام

شرح الاسم ، غير مقبول.

وأيضا يرد عليه (قدِّس سره) ان ظاهره بل صريح كلامه في المقام وفي باب العام والخاص وبحث مقدمة الواجب ان شرح الاسم يرادف التعريف اللفظي. وبعبارة أخرى : ان ما يقال في جواب ما الشارحة ويعبّر عنه بشرح الاسم يرادف التعريف اللفظي ، وقد تبع في ذلك الحكيم السبزواري (١)

وأظن ان منشأه ما أفاده الشيخ في النجاة (٢) من ان الوجود لا يمكن ان يشرح بغير الاسم ، ومراده التعريف اللفظي المقابل للحقيقي أي ان صورته تقوم في النفس بلا توسط شيء ولا يكون شيء محصلا لصورته حتى يكون تعريفا حقيقيا له بل ما يعبر عنه فإنما هو تعريف بلفظ آخر كالترجمة.

وإلا فالذي صرح به ، الشيخ في الإشارات ، والمحقق الطوسي في شرحها (٣) ، والمحقق اللاهيجي في حاشيته على الشوارق (٤) ، والمحقق الأصفهاني (٥) :

ان التعريف اللفظي يقابل التعريف الحقيقي.

والأول شأن اللغوي والعرف ، لا الحكيم.

__________________

(١) شرح المنظومة ج ٢ (قسم الحكمة) ص ٦٠.

(٢) هو الشيخ الرئيس ابن سينا ، كما حكاه عنه الحكيم السبزواري في شرح منظومته ج ٢ (قسم الحكمة) ص ٦١.

(٣) كما هو الظاهر من شرح منطق الإشارات ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٤) نهاية الدراية ج ٣ ص ١٤ بتصرف.

(٥) بحوث في الأصول ج ١ ص ١٣ / نهاية الدراية ج ٣ ص ١٤.

والثاني ينقسم إلى ما يكون بحسب الحقيقة والمراد بها الماهية الموجودة ، وما يكون بحسب الاسم وهو ما يكون قبل معرفة وجود المسئول عنه ، وكل منهما ينقسم إلى الحد والرسم.

وعلى الجملة ان الحدود قبل الهليات البسيطة حدود اسمية وهي بأعيانها بعد الهليات تنقلب حدودا حقيقية ولتمام الكلام محل آخر.

فمطلب ما الشارحة وشرح الاسم من أقسام التعريف الحقيقي ويقابل التعريف اللفظي فجعله عبارة عن التعريف اللفظي خلاف الاصطلاح فلا تغفل.

ومما ذكرناه في الإيراد الأول على صاحب الكفاية يظهر ، ان تعريف الشيخ الأعظم للاستصحاب بأنه إبقاء ما كان ، والمراد بالإبقاء الحكم بالبقاء.

غير تام ، ولا يستقيم على شيء من المسالك في حجية الاستصحاب.

ويرد عليه مضافا إلى ذلك ، ما ذكره المحقق الخراساني (١) في التعليقة والمحقق النائيني (٢) ، بما حاصله ان قوام الاستصحاب على ما يستفاد من الأخبار باليقين السابق والشك اللاحق وقد أخل في هذا التعريف بهما من دون دلالة عليه.

وتوجيه التعريف المزبور بنحو يندرج فيه القيدان ، بان ذكر ما كان ، مع كونه دخيلا في مفهوم الإبقاء ، أريد به دخل الوجود السابق المعلوم فيه ، كما ان تعليق الحكم على الوصف ، مشعر بالعلية ، فلن لم يكن شاكا ، لا يكون الإبقاء

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٢٩٠.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٠٧.

مستندا إلى الكون السابق فالقيدان مأخوذان في التعريف.

لا يكفي لان الاكتفاء في الحد بما له إشعار بالقيد المعتبر في المحدود بلا ظهور ودلالة عرفية عليه لا يجوز في مقام التحديد ، ولعله إلى ذلك نظر المحقق الخراساني في التعليقة حيث أورد على تعريف الشيخ بإيرادات :

وعدّ منها : الاقتصار على الإشعار في بيان بعض ما يعتبر فيه ، كما اعترف به (قدِّس سره).

فالحق ان يقال : في تعريفه بناءً على ثبوته ببناء العقلاء ، كون الشيء متيقنا سابقا مشكوكا فيه لاحقا ، لأنه الذي يفيد الظن بالحكم ويكون مثبتا له ، فيكون على هذا احسن التعاريف كما عن المحقق القمي ، وقد تقدم.

وبناء على كونه بحكم العقل ، هو الظن ببقاء حكم أو وصف كان يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق.

وعلى فرض ثبوته بالأخبار فالأحسن ان يعرف بما هو المستفاد من الأخبار وهو الحكم ببقاء الإحراز السابق في ظرف الشك من حيث الجري العملي ، وقد عرفه بذلك المحقق النائيني (ره) (١).

ويكون في التعريف إشارة إلى ما يميزه من سائر الأصول العملية بكونه محرزا ، دونها ، وإلى ما يميِّزه عن الأمارات ، فان المجعول في الأمارات هو الإحراز والقطع ، وفيه يكون المجعول هو الإحراز من حيث أثره الخاص ، وهو الجري

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٣٠٧ ، بتصرف / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٤٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٧.

العملي على طبقه.

الأمر الثاني : في صحة إطلاق الحجة على الاستصحاب وعدمها.

وملخص القول فيه ، انه بناءً على كونه من الأمارات يصح إطلاق الحجة عليه ، فانه يكون حينئذ وسطا لإثبات حكم المتعلق فيقال ، ان صلاة الجمعة كانت واجبة سابقا ، وشك في بقاء وجوبها ، وكلما كان كذلك فهو واجب ببناء العقلاء ، فهي واجبة في ظرف الشك.

واما بناءً على كونه من الأصول العملية وعبارة عن الحكم الشارع بعدم نقض اليقين بالشك ، فلا يصح إطلاق الحجة عليه ، لأنه حينئذ مدلول للدليل ، ولا يكون حجة على نفسه كسائر الأحكام التكليفية.

وتصحيحه بما في تقريرات الأستاذ المحقق الكاظمي (١) ، بان حمل الحجة عليه من قبيل حمل الحجة على المفهوم ، بإرادة ثبوته وعدمه من حجيته وعدمها.

مخدوش ، بأنه بما ان المفهوم على فرض ثبوته من مصاديق الحجة يصح التعبير عن ثبوت الحجة وعدمه بالحجية وعدمها.

وهذا بخلاف حكم الشارع ببقاء الإحراز السابق ، فانه كسائر الأحكام الشرعية ، أجنبي عن الحجية بالمرة.

__________________

(١) فوائد الأصول ج ٤ ص ٣٠٧ حاشية رقم ١.

هل الاستصحاب مسألة أصولية أو قاعدة فقهية

الأمر الثالث : في ان البحث عن حجية الاستصحاب ، هل هو بحث عن مسألة أصولية كما صرح به المحقق الخراساني في الكفاية (١) ، أم يكون بحثا عن قاعدة فقهية كما يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم (٢) ، أو يفصل بين الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية ، والاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية ، ففي الأول يكون الاستصحاب مسألة أصولية ، وفي الثاني يكون قاعدة فقهية كما اختاره المحقق النائيني (ره) (٣).

وقد استدل في الكفاية للأول ، بأمرين :

١ ـ انه يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية.

٢ ـ انه ربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا.

ويرد على ما أفاده : أولا : انه مناقض لما ذكره في أول الكتاب ، حيث انه أضاف في تعريف علم الأصول ـ قيد ـ أو التي ينتهي إليه في مقام العمل ، وذكر في وجهه ان الأصول العملية لا يقع شيء منها في طريق استنباط الحكم ، ولو لا هذا القيد لزم استطرادية البحث فيها.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٥.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٤٥ ـ ٥٤٦.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٤٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٩.

ويرد على ما أفاده : ثانيا ، ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) (١) بقوله : نعم يندرج تحت هذه القاعدة مسألة أصولية يجري فيها الاستصحاب ، كما تندرج المسألة الأصولية أحيانا تحت أدلة نفى الحرج ، كما ينفى وجوب الفحص عن المعارض حتى يقطع بعدمه بنفي الحرج.

والحق ان يقال : انه لو بنينا على كونه من الأمارات فكونه منها في غاية الوضوح ، حيث انه يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي نظير خبر الواحد ، مثلا يستنبط منه نجاسة الماء المتغير الذي زال تغيره من قبل نفسه ، والماء المتمم كرا بطاهر ، ووجوب صلاة الجمعة وما شاكل.

وبعبارة أخرى : إذا جعلت نتيجة هذا البحث كبرى القياس تكون النتيجة حكما فرعيا كليا ، ولا تكون بنفسها قابلة للإلقاء إلى المكلفين.

وان أخذناه من الأخبار فان أضفنا في تعريف الأصول قيد أو التي ينتهي إليه في مقام العمل ، فكونه منها واضح أيضاً.

وان لم نضفه ، فالظاهر كونه منها : فان المسألة الأصولية هي التي تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية ، اعم من الظاهرية والواقعية ، كانت بنفسها حكما غير قابل للإلقاء إلى المقلدين ، ويكون أمر تطبيقه بيد المجتهد ، أم لم تكن حكما ، والاستصحاب وان كان بنفسه حكما مجعولا ، إلا انه حكم لا يكون قابلا للإلقاء إلى المقلدين ، ويستخرج منه حكم كلى غاية الأمر حكما ظاهريا لا واقعيا ، بخلاف الأمارات.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ٥٤٥.

هذا كله في الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية ، واما الجاري في الشبهات الموضوعية ، فهو قاعدة فقهية : فان المستخرج منه حكم جزئي متعلق بعمل المكلف ونفس حجية الاستصحاب ، قابل للإلقاء إلى المقلدين وتطبيقه على موارده بيد المقلد دون المجتهد ومن هنا نشأ اشكالان :

الأول : ان الموضوع للاستصحاب الجاري في الشبهة الحكمية ، هو اليقين والشك للمجتهد ، وهو الموضوع لثبوت الحكم في حق المقلدين ، وفي الشبهة الموضوعية يكون الموضوع حال المقلد نفسه فكل من له يقين سابق ، وشك لاحق يجري الاستصحاب في حقه ، فيلزم استعمال اللفظ في معنيين واثبات معنيين بجملة واحدة ـ وتصحيح ـ ذلك بان المجتهد نائب عن المقلدين ، لا يكفي لعدم الدليل على هذه النيابة.

فالحق ان يقال انه في الموردين يجري الاستصحاب بالنسبة إلى من له يقين وشك ، غاية الأمر في الشبهة الحكمية من له اليقين والشك ، هو المجتهد ، فالمجتهد يبقى الحكم المتيقن واثر بقائه له جواز إفتائه به ، وإذا انضم إلى ذلك ما دل على رجوع الجاهل إلى العالم ، يستنتج ان ما استصحبه المجتهد من الحكم ، للمقلدين اتباعه والعمل به ، ف" لا تنقض" لا يكون متوجها إلى المقلدين ، حتى يقال ان موضوعه يقين وشك غير من يكون الحكم متوجها إليه ، ففي الموردين الحكم متوجه إلى من له يقين وشك فتدبر فانه دقيق.

الثاني : ان" لا تنقض" الذي هو مجعول واحد كيف يكون ، تارة حكما فرعيا ، وأخرى حكما أصوليا ، والجواب عنه انه كسائر الأحكام والمجعولات الشرعية إنما يكون من قبيل القضية الحقيقية ويكون منحلا إلى أحكام عديدة

بعضها حكم أصولي وبعضها حكم فرعي.

اعتبار اتحاد القضيتين

الأمر الرابع : قال في الكفاية (١) فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده القطع بثبوت شيء والشك في بقائه ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة انتهى.

والصحيح ان يقال ان النقض والإبقاء حيث لا يصدقان إلا مع اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها ، وإلا فمع التغاير لا يكون إبقاءً ولا نقضا كما لا يخفى ، فيستكشف من ذلك ان اللازم هو اليقين السابق والشك اللاحق.

واما ما أفاده المحقق الخراساني فيرد عليه ان تعريف الاستصحاب بما ذكر ، لا يصلح دليلا لاعتبار ذلك فليكن التعريف غير تام.

ثم ان المحقق الخراساني أفاد (٢) ان الاتحاد لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية ، واما في الأحكام الشرعية ، فقد أشكل عليه بأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا أو بقاءً وإلا لا يتخلف ، الحكم عن موضوعه.

أقول : يرد عليه ان ما أفاده من ان الاتحاد لا غبار عليه في الموضوعات ، لا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٥.

(٢) المصدر السابق.

يتم في الموضوعات التي تنقص تارة وتبقى على التمام أخرى ، كما في مقدار من الماء الذي يكون كرا ، فانه ما دام لم ينقص منه شيء لا يشك في كريته وإنما يشك فيها إذا اخذ مقدار من الماء ومعه لا يكون الموضوع باقيا ، فان الباقي بالدقة غير ما كان.

وربما يورد على المحقق الخراساني بإيراد آخر وهو ان ما أفاده من انه لا يتصور الشك في الحكم ، إلا مع الشك في موضوعه ، ينافي ما بنى عليه من ان بعض القيود يكون قيدا للحكم وليس من قيود الموضوع كما لو ورد اكرم العالم ، إذا جاء ، فان الشرط في القضية ، وهو المجيء قيد للحكم ، دون الموضوع ، وعلى هذا فإذا انتفى قيد من هذه القيود يكون ثبوت الحكم مشكوكا فيه لاحتمال كونه قيدا للحدوث لا للبقاء ، ومع ذلك يكون الموضوع باقيا ، فالشك في الحكم لا يلازم الشك في الموضوع.

وفيه : ان الموضوع في المقام غير الموضوع الاصطلاحي : فانه لم يرد رواية ولا آية دالة على لزوم بقاء الموضوع ، بل الدليل كما تقدم دل على لزوم اتحاد القضيتين ، ولا يصدق ذلك إلا مع اتحادهما حتى من ناحية قيود الحكم ان لم ترجع إلى قيود الموضوع.

وقد يقال بان المراد بالاتحاد ان كان اتحاد الموضوعين حقيقة وطبيعة وان اختلفا وجودا ، فيلزم الالتزام بجريان الاستصحاب فيما إذا تيقن بترتب محمول على فرد ، وشك بعده في ثبوته لفرد آخر كما إذا علم بعدالة زيد ، ثم شك في عدالة عمرو ، وهو بين الفساد ، وان كان اتحادهما وجودا ، فيلزم عدم جريان الاستصحاب في القضايا الطبيعية مع عدم تحقق مصداق له في الخارج.

وفيه : أنّا نختار الشق الثاني ولكن نقول ان المراد ليس اتحادهما في الوجود الخارجي الحقيقي ، بل الأعم منه ومن الوجود الفرضي كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية.

والجواب عن اصل إشكال الاتحاد ، انه ليس لنا دليل دال على لزوم بقاء الموضوع.

بل الدليل متضمن للنهى عن النقض ، وفي صدق هذا المفهوم وتعينه يرجع إلى العرف ، فلو رأى العرف ان الحكم بطهارة ما كان نجسا وارتفع منه قيد ، وشك في بقاء نجاسته ، نقضا ، فالحكم بالنجاسة يكون موردا للاستصحاب مثلا الماء المتغير النجس الذي زال تغيره من قبل نفسه يرى العرف ان الحكم بطهارته نقض لليقين السابق يجري الاستصحاب ، ولو لم يصدق النقض لا يكون موردا له.

وبالجملة : ليس في الدليل ما يدل على لزوم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها ، ولا على لزوم بقاء الموضوع ، بل ليس فيه إلا ، " لا تنقض اليقين بالشك" ، وحيث ان النقض مفهوم عرفي معلوم عند العرف ، فلا بد في جريان الاستصحاب من رعاية صدق ذلك وقد يصدق مع فرض اخذ القيد المرتفع عنوانا للموضوع ، وقد لا يصدق مع أخذه قيد للحكم دون الموضوع.

الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع

الأمر الخامس : لا إشكال في ان الاستصحاب يباين ، لكل من قاعدة اليقين ، وقاعدة المقتضى والمانع ، كما ان كلا من القاعدتين تباين الأخرى ، ولا يكون

جامع بين العناوين الثلاثة.

توضيح ذلك : لا ريب في ان اليقين والشك متضادان لا يجتمعان في محل واحد ، فان حصلا معا :

فتارة : يكون متعلق كل منهما غير متعلق الآخر كما إذا علم بعدالة زيد وشك في اجتهاد عمرو مثلا ، لا كلام في عدم ارتباطه بالمقام.

وأخرى : يكون بينهما ارتباط بان كان متعلق اليقين جزء العلة لمتعلق الشك ، كما لو علم بوجود النار وشك في الاحتراق لاحتمال الرطوبة ، وهذا هو مورد قاعدة المقتضى والمانع.

وثالثة : يكون المتعلقان متحدين ذاتا ومتغايرين زمانا كما إذا علم بحدوث شيء وشك في بقائه ، فان كان متعلق اليقين مقدما كما في المثال فهو مورد للاستصحاب المعروف ، وان كان متعلق الشك مقدما كما لو علم بظهور لفظ فعلا في معنى وشك في انه كان ظاهرا فيه في زمان الشارع أم لا؟ فهو مورد للاستصحاب القهقرى وسيأتي الكلام فيه.

ورابعة : يكون المتعلقان متحدين زمانا وذاتا والتغاير إنما يكون في زمان الوصفين ، فان كان زمان الشك مقدما كما لو شك في يوم الأربعاء في موت زيد وتيقن يوم الجمعة بموته في يوم الأربعاء فهو مما لا كلام فيه ويجب العمل باليقين ، وان انعكس كما لو علم يوم الأربعاء بموت زيد وشك في يوم الجمعة في موته في ذلك اليوم لاحتمال كون العلم السابق جهلا مركبا ، فهو مورد لقاعدة اليقين.

إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور فاعلم ، انه يقع البحث ، أولا : في انه هل يكون الاستصحاب حجة ويدل على ذلك دليل أم لا؟ وثانيا : في مقدار دلالة الدليل على فرض وجوده ، وفي ذيل ما استدل به لحجية الاستصحاب ، نتعرض لقاعدتي اليقين ، والمقتضي والمانع ، وكيف كان فقد استدل لحجية الاستصحاب بأدلة :

أدلة حجية الاستصحاب

الدليل الأول : استقرار بناء العقلاء من الإنسان ، بل ذوى الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا.

وقد وقع الكلام في كل من الصغرى أي ثبوت بناء العقلاء ، والكبرى وهي إمضاء الشارع إياه ، فتنقيح القول بالبحث في مقامين.

اما المقام الأول : فقد أنكر المحقق الخراساني (١) ، ثبوته قال وفيه أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا ، بل اما رجاءً واحتياطا ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا ولو نوعا انتهى.

وأورد عليه المحقق النائيني (٢) ، وحاصل ما أفاده انه لا ريب في استقرار سيرة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٧.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣١ ـ ٣٣٢ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢٩ ـ ٣٠.

العقلاء في محاوراتهم ومعاملاتهم ومراسلاتهم على البناء على بقاء الحالة السابقة ، ولو لا ذلك لاختل النظام ، ومن الواضح ان هذا البناء ليس من باب التعبد بالشك لعدم معقولية التعبد من العقلاء ، ولا ، من باب الأمارية والكاشفية لعدم الكاشفية للشك ، ولا ، لأجل حصول الاطمئنان لفرض الشك ، ولا لمحض الرجاء إذ ربما يترتب على عدم البقاء أغراض مهمة ، ولا ، للغفلة لفرض الشك والالتفات ، بل ، يكون ذلك بالهام من الله تعالى حتى لا يختل أمور معاشهم ومعادهم.

وفيه : ان المحقق الخراساني يدعى عدم ثبوت بناء العقلاء ، على العمل على طبق الحالة السابقة بهذا العنوان ، وان بنائهم عليه في جملة من الموارد لجهات مختلفة ، فقد يكون ، هو الرجاء والاحتياط ، كمن يمشي إلى دار مديونه لمطالبة الدين ، مع احتمال خروجه عن الدار ، وقد يكون لأجل حصول الاطمئنان أو الظن ، كمن يرسل مال تجارته إلى طرفه الحي السوي القوى ، وقد يكون للغفلة ، وفي غير هذه الموارد ، لم يثبت بناء من العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ، ولا يدعى انه في جميع الموارد يكون العمل على طبقها لأحد هذه الأمور ، وعليه ، فما أفاده تام لا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني (ره).

واما المقام الثاني : ففي الكفاية إنكار إمضاء الشارع إياه على فرض ثبوته ، مستندا إلى انه يكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم ، وما دل على البراءة والاحتياط في الشبهات.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بان جميع موارد السيرة العقلائية خارجة عن العمل بما وراء العلم بالتخصص فإنها لكونها حجة عقلائية تكون من أفراد العلم فتكون خارجة عن موضوع الآيات والروايات الناهية عن العمل بما وراء العلم.

أقول : يرد على المحقق الخراساني ان كلامه في المقام يهافت ما أفاده في مبحث الخبر الواحد (٢) من ان الأدلة الناهية عن العمل بما وراء العلم لا تشمل ما قامت السيرة العقلائية على العمل به ، إلا على نحو دائر ، ولذلك حكم بان السيرة على العمل بخبر الواحد مخصصة لتلك الأدلة.

نعم ، ما أفاده في الهامش (٣) هناك بان الردع عن العمل بالخبر لم يكن في أول البعثة قطعا ، ويشك بعد ذلك في الردع يستصحب عدم الردع ، لا يجري في المقام لان الكلام في حجية الاستصحاب.

ويرد على ما أفاده المحقق النائيني (ره) ، انه لا بدَّ من التفصيل بين موارد السيرة العقلائية الثابتة من جهة الطريقية والكاشفية ، وبين الموارد الثابتة لجهة أخرى كما أفاد في المقام أنها ثابتة لحفظ النظام بالهام من الله تعالى.

وفي المورد الأول كما في خبر الواحد لا تصلح الآيات للردع عنها لما

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣٣ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣١.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٠٣.

(٣) كفاية الأصول ص ٣٠٤ حاشية رقم ٢.

ذكرناه في مبحث خبر الواحد.

وفي المورد الثاني كما في المقام على فرض ثبوتها حيث أنها تكون لمصلحة حفظ النظام ، لا للطريقية تصلح الآيات والروايات للردع عنها ، لفرض عدم كونها من أفراد العلم لا حقيقة ولا تعبدا ، وتخصيص الآيات والروايات بها يتوقف على ان تكون السيرة ممضاة عند الشارع ، المتوقف ذلك على عدم الردع مع إمكانه ، واما عدمه مع عدم إمكان الردع ، فلا يكشف عن الإمضاء ، وحيث يحتمل ان يكون زمان نزول الآيات أول أزمنة إمكان الردع فلا كاشف عن إمضائها ، شرعا فلا محالة لا تكون حجة لوجود ما يصلح للردع.

وبما ذكرناه يندفع ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) (١) من ان السيرة لتقدمها وامضائها شرعا قبل نزول الآيات تصلح لان تكون مخصصة لها ، كما انه في نظر العقلاء بما هم منقادون للشرع ، لا فرق في الردع بين العموم والخصوص فالآيات أيضاً تصلح للرادعية والناسخية لها.

فيدور الأمر بين ناسخية الآيات ومخصصية السيرة ، وشيوع التخصيص وندرة النسخ ، يقوى جانب التخصيص.

وجه الاندفاع ان عدم الردع قبل نزول الآيات لا يكشف عن الإمضاء ، ولو سلم كونه كاشفا عنه تكون السيرة خارجة عن موضوع الآيات ، فلا يدور الأمر بين التخصيص والنسخ ، فتأمل فان الثاني قابل للمناقشة.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٢ ص ٢٣٤.

هل الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق

الدليل الثاني : ان الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.

أقول : منشأ هذا الظن أحد أمرين :

اما ان ارتكاز الثبوت في الذهن يرجح جانب الوجود.

أو ان تصفح الموجودات ، يوجب ذلك فان الغالب فيما ثبت يدوم.

والأول : لا يوجب الظن بعد فرض احتياج الممكن في بقائه إلى العلة.

والثاني : يرد عليه ان الموجودات مختلفة من حيث الدوام ، مثلا الإنسان بحسب النوع في هذه الأزمنة يعيش إلى سبعين أو ثمانين سنة ، والحية تعيش على ما يقال إلى ألف سنة إلا ان تقتل ، وبعض الحيوانات يعيش إلى ثلاثة أيام ، وهكذا.

نعم لا ننكر حصول الظن بالبقاء من جهة الغلبة بعد رعاية الصنف مثلا الغالب في المتطهر في أول الصبح مع كونه سالما دوام طهارته بعد مدة ساعتين مثلا ، والالتزام بحجية الاستصحاب في خصوص هذا المورد مما لم يفت به أحد.

وما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (١) في وجه منع حصول الظن من الغلبة بأنه لا جامع رابط بين الموجودات فان بقاء كل منها ببقاء علته الخاصة المفقودة

__________________

(١) نسبه إليه المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ٣٧ ، وهو ظاهر كلامه في فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٨.

في غيره.

يرد عليه : ان الاحتياج إلى الجامع الرابط إنما هو في مورد الاستقراء التام ، أو الناقص ، واما في مورد الغلبة فهي لا توجب الظن من جهة الحكم على الكلي كي يحتاج إلى الجامع الرابط بل من جهة تردد امر المشكوك فيه ، بين ان يكون من الأفراد الغالبة أو النادرة فيظن بالأول لتقويه بالغالب.

ثم انه على فرض حصول الظن لا دليل على حجيته بل قد مر في أوائل مبحث الظن ان الأصل في الظن عدم الحجية فراجع.

الدليل الثالث : الإجماع عليه كما عن المبادئ وغيرها.

وفيه : أولا ، ان الإجماع غير متحقق فانه من الأقوال القول بعدم حجيته مطلقا ومنها حجيته في الموضوعات ، دون الأحكام ، ومنها عكس ذلك ، ومنها حجيته في الأحكام الجزئية ، دون الكلية ، ومنها عكس ذلك ، إلى غير ذلك من الاختلافات.

وثانيا : ان مدرك المجمعين معلوم ومثل هذا الإجماع الذي يكون معلوم المدرك ، أو محتمله ، ليس تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

الاستدلال لحجية الاستصحاب بمضمرة زرارة

الدليل الرابع : وهو العمدة في الباب ، الأخبار الكثيرة البالغة حد الاستفاضة :

فمنها صحيح زرارة ، قال قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب

الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال (ع) : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فان حرك على جنبه وهو لم يعلم به قال : لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجئ من ذلك أمر بين وإلا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك وإنما ينقضه بيقين آخر (١).

والكلام في هذا الخبر يقع في جهات :

الجهة الأولى : في سنده وقد أشكل عليه بأنه مضمر ، ولكن الظاهر انه لا يضر بحجيته وذلك لوجوه :

١ ـ ان الإضمار في الأخبار إنما نشأ من تقطيع الأخبار وتبويبها ولو لم يكن المروى عنه هو الإمام لما كان الأصحاب يذكرونه في كتبهم على وجه الاستناد مع شدة مواظبتهم واحتياطهم ، كانت الرواية من قبيل الفتوى أو النقل.

٢ ـ ان المضمر في المقام هو زرارة وهو مع جلالة قدره وعلو شأنه ومقامه لا يروى إلا عن الإمام (ع).

٣ ـ ان جماعة منهم السيد الطباطبائي (قدِّس سره) (٢) والأمين الاسترآبادي (٣) ذكروا

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٨ باب الأحداث الموجبة للطهارة ح ١١ / الوسائل ج ١ ص ٢٤٥ ح ٦٣١ وذكره أيضا في ج ٢ ص ٣٥ ح ٢٣٥٢.

(٢) مفتاح الأصول ص ٦٤٥.

(٣) حكاه غير واحد عن الفوائد المدنية منهم أوثق الرسائل ص ٤٤٩.

الخبر ورووه عن الإمام الباقر (ع).

الجهة الثانية : في فقه الحديث وشرح جملات الصحيح غير ما يتوقف عليه الاستدلال ، منها قوله : (ينام وهو على وضوء) فقد أشكل عليه : بان : (وهو على وضوء) حال للنائم مع انه لا يمكن اجتماع النوم والوضوء في زمان واحد.

وبعبارة أخرى : يعتبر في الحال ان يكون مقارنا مع ذي الحال وبديهي ان النوم والوضوء لا يمكن تقارنهما.

واجيب عنه بأجوبة :

منها ما أفاده المحقق الخراساني في تعليقته (١) ، وهو انه لا يعتبر تقارنهما ، بل يكفي مجرد اتصالهما اما مطلقا أو في خصوص أمثال المقام مما كان أحدهما سببا لارتفاع الآخر ، حيث ان آخر زمان الوضوء متصل بالنوم.

وفيه : أولا ، ان الاتصال الزماني في الأضداد لا يكفي ، والشاهد عليه استهجان استعمال قعد زيد هو قائم ، أو نام وهو مستيقظ.

وثانيا ، انه لو كان السائل عالما بصدق النوم واتصافه بكونه نائما كان مرجعه إطلاق أدلة ناقضية النوم ، ولم يكن وجه للسؤال عن الإمام (ع).

ومنها : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (٢) وهو انه لا يعتبر في الحال الاجتماع مع ذيها في زمان واحد ، بل يكفي الاجتماع في متن الواقع ، ولذا يصح ان يقال ،

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٠٢.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ٣٨ ـ ٣٩ بتصرف.

أتهينني وقد أكرمتك قبل ذلك بسنة.

وفيه : ان المقصود من هذه الجملة هو إثبات ان من يكون متصفا بأنه أكرمك ، ولو في الزمان السابق غير مستحق للإهانة ، فالحال هو الاتصاف بهذه الصفة ، ومعلوم انه مقارن مع ذي الحال ، وليس المراد عدم استحقاق المتلبس بالإكرام فعلا للإهانة ، حتى لا يكون مقارنا مع ذي الحال.

وبالجملة ، لا شبهة في اعتبار مقارنتهما وان ما ذكر من المثال لا ينافي ذلك.

والحق ان يقال : ان النوم في هذه الجملة غير مستعمل في معناه الحقيقي ، بل المراد منه هو مقدمات النوم والاستعداد له واستعمل النوم فيه بعلاقة المشارفة ، فالمعنى انه من كان مشرفا على النوم وهو على وضوء ، ولا يرد عليه محذور عدم مقارنتهما.

هذا ملخص الكلام في هذه الجملة من الجهة الأدبية.

واما مقصود السائل منها ومن جملة التي بعدها ، أي قوله : (أيوجب الخفقة ... الخ) فيمكن ان يكون هو السؤال عن حكم الشبهة المفهومية بمعنى انه كان شاكا في سعة مفهوم النوم وضيقه وانه هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا؟ ويمكن ان يكون السؤال عن حكم الشبهة الحكمية بمعنى انه كان عالما بصدق النوم على تلك الحالة وكان شاكاً في ناقضيته بما له من المراتب.

وعلى أي حال يكون المسئول عنه هو الحكم الكلي ، فأجابه بان الخفقة والخفقتين لا توجب الوضوء وإنما الناقض نوم القلب والإذن من دون ان يتعرض لبيان مفهوم النوم.

ثم ان زرارة بعد ما صار عالما بحكم المسألة سأل عن حكم الشبهة الموضوعية فقال وان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم.

وبعبارة أخرى : بعد ما عرف ان الناقض هو نوم القلب والإذن سأل عن انه ان حرك في جنبه شيء وهو لم يتوجه.

فيحتمل ان يكون النوم كان غالبا على جميع حواسه حتى القلب والإذن.

ويحتمل كونه غالبا على خصوص الإذن.

فأجابه بأنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن انه قد نام.

تعيين جزاء الشرط في الخبر

الجهة الثالثة : في تعيين الجزاء في قوله (ع) (وإلا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشك) ونخبة القول في المقام ان محتملات ذلك خمسة.

١ ـ كون قوله (ع) فانه على يقين من وضوئه بنفسه جزاءً ، ولكن بعد تأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية ، فيكون مفاده حينئذ الأمر بكونه بانيا عملا على طبق اليقين السابق بالوضوء ، اختاره المحقق النائيني (ره) (١) ، وجعله المحقق

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣٦ ، وقريب منه ما في أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣٢.

الخراساني (١) بعيدا إلى الغاية وحكم الشيخ الأعظم (ره) (٢) بأنه تكلف.

٢ ـ كونه بنفسه جزاءً من دون تأويل ، وهذا الوجه هو الذي أفاده المحقق الخراساني في حاشيته (٣) انه لا يصح لإباء لفظه ومعناه ، وجعله المحقق الأصفهاني (ره) (٤) اوجه الوجوه.

٣ ـ ان يكون هو الجزاء مع كونه في مقام جعل اليقين.

٤ ـ كونه توطئة للجزاء ، ويكون الجزاء قوله ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وجعله الشيخ (ره) (٥) محتملا في المقام.

٥ ـ ما اختاره المحقق الخراساني (٦) وظاهر كلمات الشيخ (ره) (٧) انه اظهر ، وهو كونه علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه.

اما الاحتمال الأول ، فهو وان كان لا تكلف فيه ولا بعد ، لأنه كسائر الموارد التي تستعمل الجملة الخبرية الفعلية أو الاسمية ، في الإنشاء كقوله يعيد

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٩.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٣.

(٣) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٤) نهاية الدراية ج ٣ ص ٤٥ ـ ٤٦.

(٥) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٤.

(٦) كفاية الأصول ص ٣٨٩.

(٧) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٤.

وقوله تعالى ، (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ، وغيرهما مما هو كثير ، بل قيل أنها أصرح في إفادة اللزوم بلحاظ ان المولى لشدة طلبه للفعل جعل وقوعه من العبد مفروغا عنه ، فاظهر شدة طلبه بإظهار وجود مطلوبه في الخارج.

إلا انه : يدفعه أمران : الأول حمل الجملة الخبرية على الإنشاء في نفسه خلاف الظاهر. الثاني ، ان لازمه كون قوله (ع) (ولا ينقض الخ) تأكيدا للأمر بالكون على يقينه السابق.

واما الاحتمال الثاني فلا يمكن مساعدته بوجه لأنه لو كان في مقام الأخبار في ظرف الشك يلزم الكذب ، لأنه على الفرض شاك ، ولو كان في مقام الأخبار عن اليقين السابق لا يناسب مع جعله جزاءً لعدم ترتبه على الشرط ، وهو الشك في النوم.

وما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (٢) بان حديث ترتب الجزاء على الشرط شيء ، توهمه النحاة خلافا للمحققين منهم ولأهل الميزان ، فانهم مطبقون على ان الجزاء لا يجب ان يكون مسببا عن الشرط ومترتبا عليه في الوجود ، بل ربما يعكس الأمر ـ كقولهم ـ ان كان النهار موجودا فالشمس طالعة.

يرد عليه انه وان لم يعتبر الترتب لكن لا شبهة في اعتبار التلازم بينهما ، وعدم تخلف الجزاء عن الشرط ، وفي الفرض بما ان اليقين بالوضوء سابقا

__________________

(١) الآية ٩٧ من سورة آل عمران.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ٤٥.

متخلف عن عدم اليقين بالنوم فلا يصح جعله جزاءً.

واما الاحتمال الثالث : فيرد عليه :

أولا ان الاستصحاب ليس من الأمارات حتى يكون المجعول فيه هو اليقين والطريقية.

وثانيا ، انه بعد إطلاق اليقين عليه ، لا يناسب إطلاق الشك بقوله ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ، لأنه فرضه غير شاك.

واما الاحتمال الرابع : وهو كونه توطئة للجزاء وهو (لا ينقض الخ) فهو حسن ، ويكون الكلام حينئذ في غاية الحسن واللطافة كما يقال إذا جاء زيد فحيث انه عالم فأكرمه ويتحفظ على ظهور (ان) في العلية ، ولكن الذي يبعده وجود حرف (و) حيث ان الجزاء لا بد وان يكون غير مصدر بشيء أو يصدر بحرف (فا) لتفيد الترتيب ، واستعمال الجزاء مصدرا بالواو غير صحيح ـ ودعوى ـ ان زيادة حرف (واو) سهل ، كما ترى.

فيتعين الاحتمال الخامس : وهو كونه علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه وكم له من نظير ، ولا محذور فيه ، سوى ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) من لزوم التكرار في كلام الإمام (ع) وهو مما لا يمكن الالتزام به : وذلك لان الحكم وهو عدم وجوب الوضوء عند الشك في النوم صار معلوما من قوله (ع) (لا) في جواب السائل (فان حرك الخ) ، فتكرار ذلك بقوله (وإلا فلا يجب عليه الوضوء) يكون لغوا.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٣٦.

ولكنه يندفع بان التكرار إنما يكون لغوا إذا لم يكن لفائدة ، وإلا فلا محذور فيه ، وفي المقام إنما ذكر ثانيا لأجل ان يذكر علته ويكون قانونا عاما في باب الوضوء خاصة ، أو في جميع الأبواب كما ستعرف إنشاء الله تعالى.

مع ان هذا الإشكال يرد عليه (قدِّس سره) الملتزم بتأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية ، فان معنى الجملة حينئذ فليمض على يقينه السابق ولا يتوضأ.

وبالجملة احسن الاحتمالات هو ذلك.

وقد ذكر الشيخ الأعظم (ره) (١) له نظائر من القرآن الكريم ، مثل : (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)(٢) ، (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ)(٣)(وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(٤) ، (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ)(٥) إلى غير ذلك.

فتكون معنى الجملة حينئذ انه : ان لم يتيقن انه قد نام فلا يجب عليه الوضوء لأنه على يقين من وضوئه في السابق ولا ينقض اليقين بالشك.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٣.

(٢) الآية ٧ من سورة طه.

(٣) الآية ٧ من سورة الزمر.

(٤) الآية ٤٠ من سورة النمل.

(٥) الآية ٨٩ من سورة الأنعام.

تقريب الاستدلال بالمضمر على حجية الاستصحاب

الجهة الرابعة : في انه ، هل يدل على حجية الاستصحاب مطلقا ، أو في خصوص باب الوضوء ، أم لا يدل عليها.

أقول : ان منشأ الخلاف ، الخلاف في أمرين.

أحدهما : ان المحمول في الصغرى أي قوله ، فانه على يقين من وضوئه هل هو اليقين بالوضوء خاصة ، أو مطلق اليقين؟

ثانيهما : ان الألف واللام في الكبرى ، وهي لا ينقض اليقين بالشك أبدا ، هل هي للجنس ، أو للعهد؟ ولو قيل بان المحمول في الصغرى اليقين بالوضوء والألف واللام تكون للعهد ، لا محالة يكون الخبر مختصا بباب الوضوء ، ولو منع من أحد الأمرين يفيد حجية الاستصحاب في جميع الأبواب ، واما احتمال عدم الدلالة فهو مندفع بما تقدم.

والمحقق الخراساني (١) ذكر وجهين لكون المحمول مطلق اليقين.

الأول : ان الظاهر من التعليل كونه تعليلا بأمر ارتكازي لا تعبدي وهذا يلائم مع العموم.

وفيه : ان حجية الاستصحاب لو كانت أمرا معلوما عند العرف كان هذا تاما ، وحيث أنها لم تكن ثابتة ، وإلا لما سأل زرارة عنها ، فلا محالة تكون هذه

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

الجملة في مقام التعبد فكما يصح إرادة العموم منها يصح إرادة قانون عام في باب الوضوء منها.

الثاني : ان قوله (ع) من وضوئه في (فانه على يقين من وضوئه) ، لا يكون متعلقا باليقين ، بل متعلق بالظرف وهو الكون المقدر المعبر عنه عند أهل العربية بالظرف المستقر.

وأورد عليه المحقق العراقي (ره) (١) بان الظاهر بقرينة اتصاله باليقين تعلقه به.

وفيه : ان الظاهر صحة ما ذكره المحقق الخراساني إذ اليقين لا يتعدى إلا ب" الباء" ، ولا يتعدى ب" من" ، لاحظ موارد استعمال مشتقاته ، فلا محالة يكون متعلقا بالظرف ، وعليه فبما ان اليقين في فرض الكلام لم يتعلق بالوضوء حتى يختص به وان كان في الواقع واللب متعلقا به كما هو الشأن في جميع الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، فكون الألف واللام للعهد لا يضر بالاستدلال به للعموم.

والظاهر كما أفاده المحقق الخراساني (ره) (٢) كون الألف واللام للجنس لا للعهد :

لأنه ان قلنا بأنها دائما للجنس كما مر تحقيقه في محله فواضح ، وما يرى من إرادة المعهود منها ، إنما هي لأجل القرائن الخارجية ، وفي المقام قوله (فانه على يقين من وضوئه) لا يكون قرينة له لأنه من قبيل المورد وهو لا يكون

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار ج ٤ ص ٤٣.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

مقيدا ، فان العرف يفهمون من الكبرى الكلية المذكورة بعد الصغرى ، الإطلاق ، ويرون إرادة المقيد منها إخلالا بالغرض ، وان قلنا ، بان لها معان لا شبهة في انصرافها عند الإطلاق إلى الجنس ، والمورد كما ، لا يصلح ان يكون مقيدا للإطلاق ، لا يصلح ان يصرف الانصراف الذي هو أقوى من الإطلاق.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان المحمول في الصغرى مطلق اليقين لا اليقين بالوضوء ، وان الألف واللام للجنس لا للعهد فيدل على حجية الاستصحاب في جميع الأبواب ثم انه ينبغي التنبيه على أمور.

١ ـ ان المحقق الخراساني ذكر طريقين لاستفادة حجية الاستصحاب مطلقا من الصحيح.

أحدهما : كون المحمول في الصغرى مطلق اليقين وقد مر انه الصحيح.

ثانيهما : ان الألف واللام تكون للجنس ، لا للعهد.

وهو وان كان متينا في نفسه إلا انه لا يلائم مع ما أفاده في مبحث المطلق والمقيد من انه من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ومع وجوده لا يتمسك بالإطلاق ، فانه على هذا في المقام القدر المتيقن في مقام التخاطب موجود وهو اليقين والشك في خصوص باب الوضوء فانه المذكور في الصدر ، ولكن نحن منعنا من ذلك ففي فسحة منه.

٢ ـ ان المحقق النائيني (ره) (١) ذكر وجوها أخر لاستفادة العموم.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣٣ ـ ٣٤.

منها : ان ذكر ما يكون من مقتضيات ذات الشيء ولوازمه وهو لا يوجد بدونه ، لا يوجب التقييد والمقام كذلك ، فان اليقين من الصفات التي لا تتحقق إلا مضافة إلى شيء ، لأنه أمر إضافي قائم بالطرفين فلا بد وان يتعلق بشيء فذكر من وضوئه إنما هو لذلك لا لخصوصية فيه ، فان قيل لم ذكر الوضوء خاصة ولم يذكر غيره ، قيل ان ذكره بالخصوص من جهة كونه مورد السؤال.

ويرد عليه ان ذكر الوضوء يحتمل ان يكون ما ذكر ، ويحتمل ان يكون لدخله في الحكم ، ومجرد احتمال ذلك لا يكفي في استكشاف الإطلاق.

وبالجملة ان ما أفاده يكفي لاحتمال الإطلاق ، لا لاثباته.

ومنها : مادة النقض فان المعتبر فيه الدوام والاستحكام الموجود في مطلق اليقين ، ومن الواضح انه لا يختلف من هذه الجهة بين تعلقه بالوضوء أو بأمر آخر. ويرده ما في سابقه.

٣ ـ ان المحقق اليزدي (١) ذكر طريقا آخر لاستفادة العموم ، وهو ان قوله من وضوئه لمجرد كونه متعلقا لليقين في المورد لا لمدخليته في الحكم ، لان المناسبات المقترنة بالكلام كما قد توجب التقييد ، وان لم يكن القيد مذكورا في الكلام كما في قوله ، (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء)

الظاهر من جهة فهم العرف المستند إلى المناسبة المقامية ، انه لم ينجسه شيء بالملاقاة كذلك قد توجب إلغاء القيد المذكور في الكلام ، كما في ما نحن فيه ، فان المناسب لعدم النقض هو جنس اليقين في قبال الشك.

__________________

(١) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي ج ٢ ص ١٦٠.

وفيه : ان زيادة قيد ، أو إلغائه ، لمناسبة الحكم والموضوع ، تتوقف على استكشاف ملاك الحكم ، وحيث انه في المقام لم يستكشف ويحتمل اختصاصه بباب الوضوء ، فلا وجه لإلغاء ما اخذ في لسان الدليل ، ومجرد مناسبة مطلق اليقين مع النقض ، لا يوجب الإلغاء بعد كونه ملائما ، مع خصوص اليقين بالوضوء.

الاستدلال لحجية الاستصحاب بثاني صحاح زرارة

ومنها : صحيحة أخرى لزرارة ، قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من المني فعلمت أثره إلى ان اصب عليه الماء ، فحضرت الصلاة ، ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟

قال (ع) : تعيد الصلاة وتغسله.

قلت : فان لم اكن رأيت موضعه وعلمت انه أصابه فطلبته فلم اقدر عليه فلما صليت وجدته؟.

قال (ع) : تغسله وتعيد. قلت : فان ظننت انه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصليت فيه فرأيت فيه؟.

قال (ع) تغسله ولا تعيد الصلاة قلت لم ذلك قال (ع) لانك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا.

قلت : فاني قد علمت انه أصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال (ع) : تغسل

من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك.

قلت : فهل عليّ ان شككت انه أصابه شيء؟ قال (ع) : لا ولكنك إنما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع من نفسك. قلت : ان رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال (ع) : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدرى لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك (١).

الكلام في هذه الصحيحة يقع في مواضع :

الأول : في فقه الحديث وما يستفاد منه من الأحكام.

الثاني : في دلالته على الاستصحاب.

الثالث : في التعليل لعدم وجوب الإعادة بالاستصحاب.

اما الموضع الأول : فالمستفاد منه أحكام.

منها : بطلان الصلاة في صورة العلم بالنجاسة ، ونسيانها.

ومنها : بطلانها مع العلم الإجمالي بالنجاسة ، وعدم العلم بمحلها.

ومنها : انه لو شك في النجاسة وصلى ثم رأى في ثوبه النجاسة ، لا تجب إعادة الصلاة وقد تعجَّب زرارة من هذا الحكم لتخيله منافاته لما حكم به أولا

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٤٢١ باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ح ٨ / وذكره في الوسائل مقطّع في ثلاث موارد من الجزء ٣ باب ٤١ من أبواب النجاسات ص ٤٧٧ ح ٤٢٢٤ ، والباب ٤٢ ص ٤٧٩ ح ٤٢٢٩ ، والباب ٤٤ ص ٤٨٢ ح ٤٢٣٦.

من وجوب الإعادة مع العلم بالنجاسة ، ونسيانها وسأل عن علة هذا الحكم ، فأجاب (ع) بأنه في صورة عدم العلم بالنجاسة كان مقتضى الاستصحاب جواز الدخول في الصلاة ، وعدم وجوب إعادتها بخلاف الصورتين الأوليتين.

ومنها : بطلان الصلاة في صورة النجاسة في أثناء الصلاة مع العلم بكونها من الأول ، والصحة مع احتمال ان تكون النجاسة قد وقعت في الأثناء.

وقد أشكل على الرواية بأنه في صورة الجهل بالنجاسة مع وقوع تمام الصلاة في النجس حكم (ع) بالصحة ، وفي تلك الصورة مع وقوع بعضها فيه حكم بالبطلان ، وقد يقال كما عن بعض الأفاضل ان المفروض في المسألة الأولى ، انه تفحص ولم ير شيئا ـ بخلاف المسألة الثانية ـ ولكن الفحص لا يصلح فارقا.

والأولى : ان يقال انه في المسألة الثانية المفروض وقوع بعض الأكوان الصلاتية مع النجس المعلوم ، وهو الموجب للبطلان ، وهذا ليس في الأولى.

لا يقال انه ان كان هذا موجبا له لزم الحكم بالبطلان في الفرض الثاني في تلك المسألة ، وهو ما لو رأى النجاسة واحتمل وقوعها في الأثناء.

فانه يقال : انه خارج عن تحت ما دل على اعتبار عدم العلم بالنجاسة في جميع الحالات والأكوان الصلاتية لهذا الخبر ، ولخبرين آخرين ، وعلى أي تقدير هذا ليس إشكالا على الرواية ، بل الأصحاب أيضاً أفتوا بالفرق بين المسألتين.

واما الموضع الثاني : فمورد الاستدلال به ، قوله (ع) فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك في الموردين ، وتقريب الاستدلال به ما في سابقه.

ولكن قد يقال : فيه ان مفاده في المورد الأول قاعدة اليقين ، فان الظاهر ان المراد باليقين فيه اليقين الحاصل بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤية بعد الصلاة فمفاده حينئذ قاعدة اليقين.

ويدفعه ان الظاهر منه سيما بعد عدم فرض اليقين بعد الفحص في السؤال ، وعدم الشك بعده هو اليقين قبل ظن الإصابة.

واما الموضع الثالث : ففي التعليل لعدم وجوب الإعادة بالاستصحاب ، مع انه يصلح وجها لمشروعية الدخول في الصلاة لا لعدم وجوب الإعادة ، فان الإعادة ليست نقضا لاثر الطهارة المتيقنة بالشك ، بل هو نقض لليقين باليقين.

وقد ذكر الأصحاب في توجيه التعليل وجوها :

منها ما أفاده المحقق الخراساني (١) ، وحاصله ان الشرط لصحة الصلاة هو إحراز الطهارة ، لانفسها ، فيكون قضية استصحاب الطهارة ، عدم الإعادة ، ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعد الصلاة ، لفرض كونه محرزا للطهارة بالاستصحاب حال الصلاة.

وأورد عليه بإيرادات :

الأول : ما في الدرر (٢) وهو ان قوله وليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك على ذلك لا ينتج عدم الإعادة إلا بضميمة ما دل على كفاية نفس الإحراز حين الصلاة ، وهو خلاف ظاهر الرواية حيث أنها ظاهرة في ان قوله (ع) ليس

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٢) درر الفوائد للحائري اليزدي ج ٢ ص ١٦٣.

الخ ينتج بنفسه عدم الإعادة.

وفيه : انه يمكن ان يقال ان الشرطية للإحراز مجعولة بنفس قوله وليس الخ إذ كما يمكن جعل الشرطية لشيء بالأمر به ، كذلك يصح جعلها له بلسان ، ان الواجد له ، صحيح ، كما في المقام فتعليل الصحة بالإحراز جعل لشرطيته.

الثاني : انه لو كان الإحراز شرطا لكان لازمه عدم صحة الصلاة مع الطهارة الثابتة بقاعدة الطهارة ، لعدم قيام الأصل مقام القطع الموضوعي.

وفيه : ان الشرط هو إحراز الطهارة اعم من الواقعية والظاهرية ففي موارد القاعدة ، وان لم تكن الطهارة الواقعية محرزة ، إلا ان الطهارة الظاهرية محرزة.

الثالث : ما ذكره المحقق الخراساني (١) بقوله لا يقال على هذا لا مجال لاستصحاب الطهارة فإنها ليست حكما ولا موضوعا لحكم ، وأجاب عنه بجوابين :

الجواب الأول : أنها من قيود الموضوع والاستصحاب كما يجري في تمام الموضوع يجري في جزئه.

وفيه : ان الطهارة ليست جزءا للموضوع على هذا المسلك ، ولذا لو انكشف الخلاف لا تبطل الصلاة ، بل ما هو قيد الطهارة بوجودها الاعتقادي المقوم للإحراز المنعدم جزما ، بانعدام الإحراز.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٤.

الجواب الثاني : ان الطهارة شرط شرعي اقتضائي.

ولا يرد عليه ما أورده المحقق العراقي (١) ، بان مجرد الشرطية ما لم يبلغه الاستصحاب إلى مرتبة الفعلية لا يترتب عليه اثر عملي ، وبدونه لا يجري الأصل لكونه أصلاً عمليا :

فانه يمكن ان يقال ان المستصحب إذا كان حكما أو موضوعا لحكم الطهارة ، التي هو موضوع للشرطية الواقعية الاقتضائية لا يعتبر فيه سوى ما يخرجه عن اللغوية ، وفي المقام بما انه لو استصحب الطهارة يحرز الطهارة به فيتحقق الشرط الفعلي فلا مانع من جريانه.

ولكن يرد على المحقق الخراساني ان لازم ذلك هو الالتزام بفساد صلاة من غفل عن النجاسة وصلى لعدم إحرازها ، مع ان الصحة في الفرض مورد اتفاق الفتاوى والنصوص (٢).

وأيضا لازمه فساد صلاة من تيقن بالنجاسة وصلى معها لبرد ونحوه ، ثم انكشف بعد الصلاة عدم تضرره بالبرد لو لم يلبس الثوب وطهارة ثوبه لعدم إحراز الطهارة مع انه لا إشكال في عدم الإعادة.

ومن الوجوه انه يحسن التعليل له بملاحظة اقتضاء امتثال الأمر الظاهري

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٤ ص ٥٠.

(٢) راجع الكافي ج ٣ ص ٤٠٤ باب الرجل يصلي في الثوب وهو غير طاهر عالما أو جاهلا / الاستبصار باب ١٠٩ من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسة / الوسائل ج ٣ ص ٤٧٤ باب ٤٠ من أبواب النجاسات والأواني والجلود.

للإجزاء ، فيكون الصحيح من حيث ما فيه من التعليل دليلا على تلك القاعدة.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) بأنه خلاف الظاهر إذ العلة حينئذ ، هو مجموع الصغرى ، وتلك الكبرى ، لا هذه الصغرى بخصوصها فلا يصح التعليل بها.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (٢) بما حاصله ان العلة هي مجموع الكبرى والصغرى أي كونه مستصحبا للطهارة المحقق للأمر الظاهري بالصلاة في هذه الحال ، والأمر الظاهري مقتضٍ للإجزاء.

وعليه فكما يصح التعليل بهما ، يصح التعليل بأحدهما : وفي الصحيحة علل بالصغرى.

وفيه : ان اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ليس بمثابة يصح في مقام التعليل بالصغرى ، وفرض كون الكبرى مسلمة ، وتصحيحه بإرجاعه إلى ان الشرط هو الطهارة اعم من الواقعية والمحرزة ، من قبيل الأكل من القفا وان كان في نفسه صحيحا : إذ لو كان الشرط خصوص الطهارة الواقعية لا مناص عن البناء على البطلان لعدم الشرط ، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، فالأجزاء بعد انكشاف الخلاف لا معنى له إلا ذلك.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٦ وقد اعتبر هذا الوجه تخيلا.

(٢) راجع كفاية الأصول حيث صحح التعليل ص ٣٩٣ وأجاب عن الاشكالات المحتملة ص ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

فما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) من صحة التعليل على كل من المذهبين.

لا يتم : فانهما مذهب واحد ذو تعبيرين لا مذهبين.

فالصحيح في مقام الجواب عن اصل الشبهة :

اما الالتزام بكون الشرط اعم من الطهارة الواقعية أو المحرزة.

أو بالالتزام بان النجاسة التي لم يقم معذر شرعي كالأمارات ، والاستصحاب ، واصل الطهارة ، أو عقلي كالقطع ، والغفلة على عدمها ، مانعة.

ولا يرد على الثاني شيء سوى ان ظاهر الأخبار ـ منها هذه الصحيحة وفتاوى العلماء ـ شرطية الطهارة.

ولكنه يندفع بان الطهارة الخبثية ليست إلا عدم النجاسة ، والخلو عن القذارة الشرعية ، فإذا كانت النجاسة مانعة فعدمها شرط معتبر في الصلاة فيصح التعبير ، بمانعية النجاسة ، أو اشتراط الطهارة.

هذا كله على فرض تسليم كون النجاسة المرئية بعد الصلاة هي النجاسة المظنونة التي خفيت عليه قبل الصلاة ، واما لو كانت النجاسة المرئية مما احتمل وقوعها بعد الصلاة كما لعله الظاهر ولو بقرينة تغيير التعبير في كلام الراوي حيث انه في الفرع السابق عليه ، يقول فلما صليت وجدته مع الضمير ، وفي هذه الفقرة يقول فرأيت فيه ، بدون الضمير ، فلا إشكال كي يحتاج إلى الجواب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٦٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٤٥ (ولكن الحق انه لو أغمضنا عن الجواب ... الخ).

الاستدلال لحجية الاستصحاب بثالث صحاح زرارة

ومنها : صحيح ثالث لزرارة عن أحدهما (ع) في حديث قال (ع) : إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (١).

هذا الخبر من حيث السند لا إشكال فيه.

واما من حيث الدلالة فقد وقع الكلام فيه في موردين :

الأول : في اصل دلالته على الاستصحاب.

الثاني : في اختصاص ذلك بباب أو عمومه لجميع الأبواب.

اما الأول : فقد أورد على الاستدلال به للاستصحاب : بان لازمه لزوم الإتيان بالركعة المشكوك فيها متصلة ، وهذا يتنافى مع مذهب الخاصة والنصوص ، وقد ذكروا في توجيه الخبر وجوها.

أحدها : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (٢) ، وهو ان المراد باليقين فيه اليقين

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٥١ باب السهو في الثلاث والأربع ح ٣ / الوسائل ج ٨ ص ٢١٦ باب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح ١٠٤٦٢.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٧.

بتحصيل البراءة من البناء على الأكثر ، والإتيان بالركعة المشكوك فيها مفصولة ، فيكون المراد انك متمكن من تحصيل اليقين بالفراغ ، فلا ينبغي لك البقاء على الشك به فصل ركعة مفصولة لتحصيل القطع ، واستشهد لكون هذا هو المراد من لا ينقض اليقين بالشك بأمرين :

الأول انه قد جرى اصطلاح الأئمة (ع) على التعبير عن الوظيفة المقررة للشاك في عدد الركعات ، من البناء على الأكثر ، والإتيان بالمشكوك فيها مفصولة بذلك كقوله (ع) " إذا شككت فابن على اليقين".

الثاني ، انه لو حمل على إرادة الاستصحاب منه لزم حمله على التقية ، أو البناء على ان تطبيقه على المورد تقية وكلاهما خلاف الظاهر فلا مناص عن الحمل على ذلك.

وفيه : أولا ، ان معنى لا تنقض إبقاء اليقين الموجود لا إيجاده ، وما ذكره الشيخ يرجع إلى إيجاب تحصيل اليقين ، وبذلك ظهر ان ما قيل من انه يدل على الاستصحاب وقاعدة البناء على الأكثر وتطبيقه على المورد إنما يكون بالاعتبار الثاني ، غير تام : لعدم إمكان الجمع بينهما فان اليقين في الاستصحاب مفروض الوجود ، وفي القاعدة يجب تحصيله.

مع ان إسناد النقض إليه يوجب تخصيصه بخصوص الاستصحاب لعدم صحة إسناد النقض مع إرادة طلب إيجاده والفعل الخاص يوجب تقييد المتعلق العام.

وثانيا : ان اليقين بالفراغ لم يذكر قبل حتى يكون إشارة إليه.

ثانيها : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) من ان المراد من اليقين : اليقين بعدم الإتيان ، والمراد من الشك : الشك فيه ، ولازمه حينئذ إتيان ركعة أخرى ، ولكنه مطلق من حيث كون الركعة متصلة أو مفصولة ، ويقيد إطلاق الخبر بالأخبار الدالة على لزوم إتيانها مفصولة.

وفيه : انه ان كانت صلاة الاحتياط صلاة مستقلة امر بها لتكون جابرة لمصلحة الصلاة على تقدير نقصها ونافلة على تقدير التمامية ، يكون استصحاب عدم إتيان الرابعة ، وترتب الأمر بهذه الصلاة عليه ، استصحابا لشيء ، وتعبدا بشيء آخر ، كاستصحاب عدالة زيد للتعبد بعدالة عمرو ، وان كانت صلاة الاحتياط جزءا على تقدير النقص ، ولغوا ، أو نافلة على تقدير التمامية ، وحيث ان الصلاة المأمور بها على فرض عدم الشك ، هي الصلاة مع تكبيرة واحدة وتسليمة كذلك ، فاستصحاب بقاء الأمر بمثل هذه الصلاة لإثبات الأمر بما يكون مشتملا على تسليمين وتكبيرتين يكون أيضاً استصحابا لبقاء تكليف ، لإثبات تكليف آخر ، إذ صيرورة شيء جزءا للمركب الاعتباري لواجب لا يمكن إلا بتغيير أمره وتبدله.

وان شئت قلت ان الاستصحاب إنما يجري لترتيب آثار المتيقن في ظرف الشك ، واما ترتيب آثار نفس الشك فهو لا يكون مربوطا بالاستصحاب.

وعليه ففي المقام ان أريد استصحاب عدم إتيان الرابعة وترتيب آثار اليقين ، بعدم إتيانها فهو يقتضي إتيانها متصلة ، وهو ينافي مذهب الخاصة ، وان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

أريد ترتيب آثار الشك وهو البناء على الأكثر وإتيان ركعة منفصلة فهو غير مربوط بالاستصحاب.

ثالثها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان مقتضى الاستصحاب ليس إلا عدم الإتيان بالرابعة واما ان تكليفه الإتيان بها موصولة أو مفصولة فالاستصحاب أجنبي عن ذلك ، نعم ، الإتيان بالركعة منفصلة ينافي إطلاق الأدلة الأولية الدالة على لزوم الإتيان بالركعات متصلة ، فأدلة وجوب البناء على الأكثر غير منافية حتى لإطلاق دليل الاستصحاب فلا وجه لرفع اليد عن ظهور القضية في الاستصحاب.

ولكن عرفت ان الاستصحاب إنما يجري لترتيب آثار المتيقن ، دون الشك فراجع.

رابعها : ان إتيان الركعة منفصلة مترتبة على شيئين :

أحدهما : الشك بين الثلاث والأربع.

ثانيهما : عدم الإتيان بالرابعة ، فالاستصحاب إنما يجري لتنقيح جزء الموضوع.

وفيه : ان تمام الموضوع له هو الشك ، وليس لعدم الإتيان بالرابعة دخل فيه ، بل لا يمكن دخله ، فان إحراز فعليته وتنجزه حينئذ يتوقف على إحراز فعلية موضوعه ، ولا يعقل إحراز فعلية هذا الجزء ، إذ لو أحرز لا يبقى الشك.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٥١.

خامسها : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) ويمكن استظهاره من الفصول (٢) أيضاً ، وهو ان اليقين المحقق هنا هو اليقين بالثلاث لا بشرط ، في قبال الثلاث بشرط لا الذي هو أحد طرفي الشك ، والثلاث بشرط شيء الذي هو الطرف الآخر ، والأخذ بكل من طرفي الشك فيه محذور النقص بلا جابر ، أو الزيادة بلا تدارك بخلاف رعاية اليقين بالثلاث لا بشرط ، فانه لا يمكن إلا بالوجه الذي قرره الإمام (ع) من الإتمام على ما أحرز وإضافة ركعة منفصلة ، واما إضافة ركعة متصلة فإنها من مقتضيات اليقين بشرط لا والمفروض انه لا بشرط.

وفيه : انه يعتبر في جريان الاستصحاب وحدة المشكوك فيه والمتيقن ، وبهذا التقريب المتيقن هو ثلاث ركعات والمشكوك فيها الركعة الرابعة.

فالصحيح في المقام ان يقال انه (ع) في مقام بيان القاعدة الكلية وهي حجية الاستصحاب ولكن تطبيقها على المورد إنما يكون تقية ، وهو وان كان خلاف الأصل ، ولكن لا مناص عنه كما عرفت.

فان قيل فلم لا يحمل الخبر على التقية؟

اجبنا عنه ان : الضرورات تقدر بقدرها فبالمقدار الذي يرفع به الضرورة يرفع اليد عن القواعد والأصول.

وفي المقام يندفع الضرورة بالالتزام بكون التطبيق على المورد تقية ، كما في الخبر الوارد في إفطاره (ع) يوم الشك لحكم الخليفة بكونه يوم العيد ، معللا

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ٩٧.

(٢) راجع الفصول الغروية ص ٣٧١

بان ذلك إلى إمام المسلمين ان افطر افطرنا وان صام صمنا (١).

فان قلت احتمال كون التطبيق تقية معارض باحتمال كون الكبرى صادرة تقية للعلم بأعمال تقية في البين ، ومعه لا مورد لجريان أصالة الجهة في الكبرى ، وعليه فلا يمكن الاستدلال به.

قلت ان أصالة الجهة في التطبيق لا تجري على أية حال ، إذ لو كانت الكبرى صادرة تقية لما ترتب اثر على جريانها في التطبيق ، فتجرى في الكبرى بلا معارض.

الاستدلال بما روى عن الخصال لحجية الاستصحاب

ومنها : ما رواه الشيخ الأعظم في الرسائل (٢) ، قال : ومنها ما عن الخصال (٣) بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) : قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين.

وفي رواية أخرى عنه (ع) : من كان على يقين فأصابه شك فليمض على

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٨٢ باب : الذي يشك فيه من شهر رمضان هو او من شعبان ح ٧ / الوسائل ج ١٠ ص ١٣٢ باب جواز الإفطار للتقية والخوف ... ح ١٣٠٣٥.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٩.

(٣) الخصال ج ٢ ص ٦١٩ / وذكره الحر العاملي في الوسائل ج ١ ص ٢٤٦ ح ٦٣٦.

يقينه ، فان اليقين لا يدفع بالشك. وعدها المجلسي في البحار (١) في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلية انتهى.

وأورد على الاستدلال به بإيرادين :

الإيراد الأول : انه ضعيف السند لقاسم بن يحيي.

واجيب عنه بان العلامة ضعفه (٢) تبعا لابن الغضائري (٣) ، والمعروف ان تضعيفه لا يقدح.

وفيه : ان هذا وحده لا يكفي بل لا بدَّ من إثبات وثاقته فغاية ما يثبت بما أفيد كونه مجهول الحال :

والحق ان يقال : انه ثقة ، لشهادة ابن قولويه ، والصدوق بوثاقته :

إذ الأول روى عنه في كامل الزيارات (٤) في ثواب زيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شهد بوثاقة كل من وقع في إسناد كامل الزيارات.

والثاني حكم بصحة ما رواه في زيارة الحسين (ع) وفي طريقه إليه القاسم

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٦٨ حيث عنون الباب ٣٣ ما يمكن ان يستنبط من الآيات والأخبار من متفرقات مسائل أصول الفقه ، ثم ذكر الرواية في نفس الباب ص ٢٧٢ ح ٢.

(٢) رجال العلامة الحلي ص ٢٤٨ الباب الأول في القاسم رقم ٦.

(٣) رجال ابن الغضائري ج ٥ ص ٥٣ قال عنه : مولى المنصور روى عن جده ، ضعيف.

(٤) كامل الزيارات ص ١٠ الباب الأول ح ١.

بن يحيى بل ذكر ان هذه الزيارة اصح الزيارات عنده رواية ، راجع الفقيه (١) في زيارة قبر أبي عبد الله (ع) ، ولا يعارضها تضعيف ابن الغضائري ، لعدم ثبوت نسبة الكتاب إليه.

ويؤيد وثاقته رواية الاجلاء من قبيل : احمد ابن محمد بن عيسى ، سيما وكثرة رواياتهم عنه.

الإيراد الثاني : انه صريح في اختلاف زمان الوصفين وسبق زمان اليقين على زمان الشك وظاهر في اتحاد المتعلقين فيكون ظاهرا في قاعدة اليقين ، فانه في الاستصحاب لا يعتبر سبق زمان اليقين بل لا يعتبر اختلاف زمان الشك واليقين بل المعتبر سبق زمان المتيقن.

وردوه بوجوه ، منها ما في الكفاية (٢) قال ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين وسرايته إلى الوصفين. لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتحاد انتهى.

وفيه : ان المتحد مع اليقين هو المعلوم والمتيقن بالذات ، وهي الماهية الموجودة بالعلم وتكون في الذهن ، واما الماهية الموجودة في الخارج أي المعلوم بالعرض ، فهي غير متحدة مع اليقين ، والاختلاف في الاستصحاب إنما يكون

__________________

(١) الفقيه ج ٢ ص ٥٩٧ ٥٩٨ ح ٣١٩٩ و ٣٢٠٠ فإنه ذكر في ذيل الباب بعد ذكره الزيارة : «اخترت هذه ـ الزيارة ـ لهذا الكتاب لانها اصح الزيارات عندي من طريق الرواية وفيها بلاغ وكفاية» وقد رواها عن الحسن بن راشد وطريقه إليه عن القاسم بن يحيى.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٧.

بحسب زمانها ، بخلاف قاعدة اليقين وبالجملة التغاير والاختلاف بحسب الزمان إنما هو في المعلوم بالعرض ، ومن الواضح انه غير متحد مع اليقين والشك وما هو متحد معه إنما هو المعلوم بالذات ولا تغاير ولا اختلاف بالنسبة إليه.

ومنها : ما عن المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان صدر الخبر من جهة تضمنه سبق زمان اليقين على زمان الشك ، وان كان موجبا لقابلية حمله على قاعدة اليقين ، إلا انه قابل للحمل على الاستصحاب لمكان كون الغالب في موارد الاستصحاب ، هو سبق زمان اليقين ، ولكن ذيله ظاهر في الاستصحاب ، فان قوله" فليمض على يقينه" ظاهر في المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل ، وهذا لا ينطبق إلا على الاستصحاب ، فان الذي يكون اليقين بالحدوث فيه محفوظا في زمان العمل هو الاستصحاب.

واما القاعدة ، فاليقين فيها ينعدم ولذا تسمى بالشك الساري.

وفيه : ان اليقين في الموضعين لم يستعمل فيما هو موجود فعلا بل استعمل في الصفة الموجودة قبلا المقتضية للجري العملي ، فإطلاقه يجعل المورد من موارد الاستصحاب ، أو قاعدة اليقين صحيح ، ويكون استعمالا فيما وضع له ولا يكون استعمالا في الصفة الموجودة في الحال حتى يقال في مورد القاعدة تكون الصفة منعدمة واستعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدأ لو صح لا ربط له بما هو من قبيل الجوامد كاليقين فتدبر.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٥٥.

ومنها : ما قيل انه يمكن استظهاره من كلمات الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان اليقين من جهة كون حقيقته المرآتية والطريقية فكلما اخذ في الموضوع يكون ظاهره ، إرادة المتيقن منه.

مثلا ، لو قال القائل كنت متيقنا أمس بعدالة زيد ، ظاهره إرادة اصل تحقق العدالة وعليه فقوله (ع) " من كان على يقين" وان كان ظاهرا في بادئ الأمر في كون اليقين في الزمان الماضي إلا إنما بملاحظة ما ذكرناه يكون ظاهرا في كون القيد للمتيقن لا اليقين فينطبق على الاستصحاب.

وفيه : ان الظهور المدعى يتم في العلم لا في اليقين : توضيحه ان كلا منهما والقطع عبارة عن الصورة الحاصلة من الشيء عند النفس ، إلا ان العلم يطلق باعتبار انكشاف الشيء في قبال الجهل ، والقطع يطلق باعتبار الجزم القاطع للتردد والحيرة ، واليقين يطلق باعتبار ان هذا الانكشاف له الثبات والدوام ، بعد ما لم يكن بهذه المرتبة ، ولعل السر في عدم إطلاق القاطع والمتيقن عليه تعالى انه يستحيل في حقه الحيرة وعدم ثبات الانكشاف ، ويطلق عليه العالم لانكشاف الأشياء لديه ، وعلى هذا لو اخذ العلم في المتعلق يكون ظاهرا في الطريقية والمرآتية ، وليس كذلك اليقين.

ولكن الظاهر ان نظر الشيخ الأعظم (ره) إلى ان منشأ اختصاص الرواية بالقاعدة ، أمران :

أحدهما ظهور الكلام بقرينة كلمة (ف) في تأخر الشك عن اليقين.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٠.

ثانيهما : ظهوره من ناحية حذف المتعلق في وحدة متعلق اليقين والشك : فان هذين الأمرين إنما يكونان في القاعدة دون الاستصحاب.

ويمكن ان يقال ان ذكر الكلمتين في الرواية ليس من جهة دخل ذلك في الحكم بل لعله من جهة الغلبة حيث ان الغالب في موارد الاستصحاب تقدم اليقين على الشك ، واما وحدة المتعلقين فهي تبتنى على ان يكون زمان الماضي قيدا للمتيقن فانه حينئذ يكون المشكوك فيه نفس ما كان متيقنا.

واما إذا كان قيدا لليقين كما هو الظاهر ، فالمتيقن شيء عار عن قيد الزمان فينطبق على الاستصحاب.

ويرد على ما ذكر أولا : ان ظاهر اخذ كل عنوان في الحكم ، دخله فيه وحمله على الغالب خلاف الظاهر لا يصار إليه بلا قرينة.

واما الثاني : فيرده ان ظهور الكلام في الاتحاد من ناحية زمان وان اخذ الزمان المستفاد من كلمة كان قيدا لليقين لا ينكر.

فالحق ان يقال ان الصفات ذات الإضافة كاليقين والإرادة ، وما شاكل ، تكون ظاهرة عند الإطلاق في اتحاد زمان الوصف والموصوف ، مثلا لو قيل أني مشتاق إلى الماء ، يكون ظاهرا في اشتياقه فعلا لا اشتياقه بالماء في الغد ، ولو قيل ، ان فلانا يريد الماء ، ظاهر في انه يريد الماء فعلا ، وهكذا.

ففي المقام قوله (ع) " من كان على يقين" ، يكون ظاهرا في ان المتيقن هو الأمر السابق ، وقوله (ع) " وأصابه شك" ظاهر في ان المشكوك فيه لاحق.

وبعبارة أخرى : اختلاف زمان الوصفين يكون ظاهرا في اختلاف

الموصوفين ، وان المتيقن يكون سابقا على المشكوك فيه ، وهو لا ينطبق إلا على الاستصحاب ، مضافا إلى شيوع التعبير عن الاستصحاب به.

الاستدلال بمكاتبة القاساني

ومنها : خبر الصفار عن علي بن محمد القاساني قال كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟

فكتب (ع) : اليقين لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية (١).

وأورد عليه الشيخ الأعظم (٢) بان الخبر ضعيف السند للقاساني (٣).

واجيب عنه ، بان القاساني وان ورد فيه قدح ، إلا انه ورد فيه المدح أيضاً ، وقد وثقه جماعة ، فيتعارض المادح والقادح فيرجع إلى التوثيق.

وفيه : ان من وثقه الجماعة هو القاشاني (٤) بالشين المعجمة ، واما القاساني

__________________

(١) التهذيب ج ٤ ص ١٥٩ باب علامة اول شهر رمضان وآخره ح ٧ / الوسائل ج ١٠ ص ٢٥٥ باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ح ١٣٣٥١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٠.

(٣) راجع رجال النجاشي ص ٢٥٥ ـ ٢٥٦ رقم ٦٦٩.

(٤) وثقه النجاشي في كتابه (رجال النجاشي) / ورجال ابن داود / الا ان العلامة في رجاله بعد ان ضعّف القاساني ونقل توثيق الشيخ للقاشاني استظهر انهما واحد. راجع رجال العلامة ص ٢٢٩ رقم ٦ «علي بن محمد القاشاني».

بالسين المهملة ، الذي هو في سند هذا الخبر ، فقد ضعفوه ولم يوثقه أحد ، وقد اشتبه الأمر على جماعة وتمام الكلام في محله.

وكيف كان فتقريب الاستدلال به ، ان تفريع تحديد كل من الصوم ، والإفطار على رؤية هلالي رمضان ، وشوال ، لا يستقيم إلا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشك أي مزاحما به ، وقد جعله الشيخ اظهر ما في الباب من الأخبار في دلالته على الاستصحاب.

وأورد عليه المحققان الخراساني (١) ، والنائيني (٢) ، بان المراد باليقين فيه ليس هو اليقين بان اليوم الماضي كان من شعبان ، أو اليقين بعدم دخول رمضان ، بل المراد باليقين فيه هو اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، ويدل الخبر على انه لا بد في ، وجوب الصوم ، ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب.

وفيه : ان ما أفاده لو تم فإنما هو في وجوب الصوم من باب اعتبار الجزم بالنية.

واما بالنسبة إلى الإفطار فلا يتم ، إلا مع إرادة اليقين بعدم دخول شوال أو بقاء رمضان فينطبق على الاستصحاب ، فما أفاده الشيخ متين.

والإشكال في جريان الاستصحاب في المقام ، بأنه لا يثبت به وقوع الصوم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٧.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٦٦ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٥٧.

في شهر رمضان أو ان هذا اليوم منه ، هو الإشكال الساري في استصحاب الزمان وسيأتي الجواب عنه في تنبيهات الاستصحاب.

الاستدلال بأخبار الحل والطهارة

ومنها : أخبار الحل والطهارة ، لاحظ موثق مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق (ع) كل شيء هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك الحديث (١).

وبمضمونه روايات كثيرة ، وموثق مصدق بن صدقة عن عمار عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك شيء (٢). وقريب منه غيره.

والوجوه المحتملة في هذه النصوص ولعلها أقوال ، سبعة :

أحدها : ان يكون صدر الأخبار متكفلا لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وبعنوان انه يشك في طهارتها أو حليتها ، وتكون الغاية متكفلة لبيان استمرار الحكم السابق إلى زمان العلم بالنجاسة أو الحرمة ، فيكون مفاد الصدر بيان كل من

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣١٣ باب النوادر ح ٤٠ / الوسائل ج ١٧ ص ٨٩ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٢٢٠٥٣.

(٢) التهذيب ج ١ ص ٢٨٤ باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ح ١١٩ / الوسائل ج ٣ ص ٤٦٧ باب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤١٩٥.

الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة أو الحلية ، ومفاد الغاية بيان قاعدة الاستصحاب ، اختاره المحقق الخراساني في تعليقته (١) على رسائل الشيخ الأعظم.

ثانيها : ان يكون الصدر متكفلا لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية ، والغاية متكفلة لبيان قاعدة الاستصحاب اختاره المحقق الخراساني في الكفاية (٢).

ثالثها : ان المستفاد منها خصوص قاعدة الطهارة والحلية نسب إلى المشهور.

رابعها : ان المستفاد منها قاعدة الطهارة أو الحلية ، والاستصحاب نسب إلى صاحب الفصول (٣).

خامسها : أنها صدرا وذيلا ليست متكفلة إلا لبيان الاستصحاب خاصة اختاره الشيخ الأعظم (٤) في بعض النصوص.

سادسها : ان الروايات صدرا وذيلا متكفلة لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية إلا ما أخرجه الدليل فيكون مفادها بيان الحكم الواقعي فقط ، فيكون

__________________

(١) راجع درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣١٣ ... الخ بتصرف.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٨.

(٣) الفصول الغروية ص ٣٧٣.

(٤) راجع الفرائد ج ٢ ص ٥٧١ حيث اعتبر ان رواية عبد الله بن سنان مختصة باستصحاب الطهارة ولا دلالة لها على القاعدة.

العلم بالنجاسة أو الحرمة مأخوذا طريقا اختاره صاحب الحدائق (ره) (١).

سابعها : ان صدرها متضمن لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وبعنوان انه يشك في طهارتها أو حليتها ، والغاية غير متكفلة لبيان شيء آخر بل العلم بالنجاسة أو الحرمة رافع لموضوع الحكم الظاهرى ، وطريق إلى ثبوت ضد الحكم المثبت بالصدر ، فيكون مفاد النصوص بيان الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة أو الحلية.

اما الوجه الأول : فقد استدل له المحقق الخراساني (ره) (٢) : بان المغيا مع قطع النظر عن الغاية بعمومه الانفرادي يدل على طهارة الأشياء أو حليتها بعناوينها الأولية فيكون دليلا اجتهاديا على الحكم الواقعي ، وبإطلاقه الاحوالي الشامل لحال كون الشيء مشكوكا فيه يدل على قاعدة الطهارة والحلية ، فيما اشتبه طهارته وحليته ، والغاية تدل على استمرار الحكم الثابت في المغيا ظاهرا وهو الاستصحاب.

وقد أورد المحقق النائيني (ره) (٣) على استفادة الحكم الواقعي والقاعدة منها بوجوه :

__________________

(١) كما هو ظاهر كلامه في الحدائق الناظرة ج ٥ ص ٢٤٩ عند قوله : «ألا ترى انه وردت الأخبار وعليه اتفاق كلمة الأصحاب ان الأشياء كلها على يقين الطهارة ويقين الحلية ... الخ».

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٨.

(٣) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٦٠ ـ ٦١.

١ ـ ان الطهارة التي تحمل على الشيء المشكوك فيه متأخرة عن الطهارة الثابتة له بعنوانه الواقعي بمرتبتين لأنه لا بدَّ من فرض الطهارة للشيء والشك فيه ثم إثبات الطهارة الظاهرية ، فكيف يمكن الجمع بينهما في إنشاء واحد.

وفيه : ان الطهارة ليست قسمين ، بل هي شيء واحد ، والفرق بين الظاهرية والواقعية ، إنما هو من ناحية الموضوع ، إذ الموضوع ان اخذ فيه الشك يعبر عنه بالطهارة الظاهرية وإلا فبالواقعية.

٢ ـ ان الغاية تمنع عن إرادتهما معا ، فان الغاية بناءً على استفادة الحكم الواقعي لا يكون بنفسها غاية بل بما أنها كاشفة عن الواقع وهي القذارة الواقعية ، وبناء على استفادة الحكم الظاهري يكون العلم بنفسه غاية لا بما هو كاشف واستعمال اللفظ فيهما مستلزم للجمع بين الآلية والاستقلالية وأخذ الشيء الواحد موضوعا وطريقا.

وفيه : ان المحقق الخراساني يدعى ان الغاية إنما تكون لبيان حكم آخر ، وهو استمرار ما ثبت لا لبيان الحد والغاية كي يرد عليه ما أفيد.

٣ ـ وهو الحق وحاصله ان الشيء الذي هو موضوع وان كان يشمل المشكوك فيه ، ولكن لا بهذا العنوان وذلك لان معنى العموم والإطلاق رفض القيود لا الجمع بين القيود ، ومن الواضح دخل الشك في القاعدة بما هو شك فكيف يمكن الجمع بين عدم دخالة القيد ودخالته.

واما استفادة الاستصحاب من الغاية ، ففيها ان الظاهر من الغاية كونها حدا ونهاية لما ثبت ، لا إنشاءً لحكم آخر غير ما انشأ بالمغيى والظاهر من كلمة (إلى) و (حتى) ، كونهما لبيان الغاية والحد ، لا لبيان استمرار ما ثبت.

وعليه فإذا فرض كون الصدر في مقام جعل الحكم الواقعي لا بد من اخذ العلم طريقا محضا ، فيكون معنى حتى تعلم انه قذر حتى تتقذر بملاقاته مع القذارة نظير قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(١). فتتمحض النصوص في إفادة الحكم الواقعي.

وإذا كان المغيا في مقام جعل الحكم الظاهري يكون العلم بنفسه غاية وتتمحض النصوص في جعل الطهارة أو الحلية الظاهرية.

وبعبارة أخرى : ان قوله (ع) (حتى تعلم انه قذر) وكذا قوله (ع) : (حتى تعلم انه حرام بعينه) اما ان يكون قيدا ، للموضوع ، أو يكون قيدا للمحمول.

ومفاده على الأول جعل الحكم الظاهري ، وعلى الثاني جعل الحكم الواقعي ، وعلى التقديرين لا يدل على الاستصحاب.

وبما ذكرناه ظهر ضعف القول الثاني ، الذي اختاره المحقق الخراساني.

كما انه ظهر ضعف ما نسب إلى صاحب الفصول ، وهو كون الأخبار في مقام جعل القاعدة والاستصحاب معا.

ويرد عليه مضافا إلى ما مر : انه لا يعقل الجمع بينهما ، إذ الشك في الحكم الظاهري لا يتصور ، وهو اما مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع ، لان موضوعه الشك وهو حالة نفسانية للإنسان وهو على نفسه بصير ، فإما ان يكون الشك

__________________

(١) الآية ١٨٧ من سورة البقرة.

باقيا فالحكم باق قطعا ، وان لم يكن باقيا يرتفع كذلك ، فلا يتصور الشك فيه كي يستصحب ، ونظير ذلك ما ذكروه من عدم صحة جريان الاستصحاب في قاعدة الاشتغال.

كما انه ظهر ضعف الأخير.

فيدور الأمر بين إرادة الاستصحاب منها ، أو الحكم الواقعي ، أو القاعدة.

اما وجه استفادة الاستصحاب منها فامران :

أحدهما : أنها تدل على استمرار الطهارة أو الحلية الثابتة إلى زمان العلم بالضد أو النقيض وقد مر ما فيه.

وحاصله ، ان ثبوت استمرار أمر غير ثبوته مستندا إلى ثبوته في الزمان السابق ، والاستصحاب هو الثاني ، ومفاد النصوص هو الأول.

ثانيهما : ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) في الرسائل في خصوص الماء كله طاهر ، من جهة ان الماء طاهر بالأصالة ، ونجاسته إنما تكون لعارض خارجي ، والخبر إنما يدل على استمرار الطهارة المفروض ثبوتها وليس الاستصحاب إلا ذلك.

وفيه : ان غاية ما يلزم من مفروغية طهارة الماء ، إنما هو الحكم باستمرارها في مورد الثبوت سابقا ، وهذا ليس استصحابا ، بل هو عبارة عن الحكم بالاستمرار استنادا إلى ثبوته سابقا.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٣ ـ ٥٧٤.

وعلى الجملة لا يوجد في الروايات شيء دال على الحكم باستمرار ما ثبت لثبوته سابقا فليس مفادها الاستصحاب.

واما القول بكونها في مقام بيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية ، فهو يستلزم ارتكاب أحد خلافي الظاهر.

اما الالتزام بدخل العلم في باب النجاسة والحرمة في الموضوع ، وهو على فرض معقوليته خلاف ظاهر جميع أدلة النجاسات والمحرمات.

أو الالتزام بعدم كون العلم بالنجاسة أو الحرمة المجعول غاية ، بنفسه غاية ، بل يكون طريقا محضا إلى ثبوت النجاسة أو الحرمة نظير التبين المجعول غاية في قوله تعالى : (كلوا واشربوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

بناءً على كون المراد بالتبين العلم والانكشاف ، حيث ان تبين الفجر طريق إلى ثبوته الذي هو الموضوع لحرمة الأكل بلا دخل للعلم بنفسه في الموضوع ، وهو خلاف الظاهر.

فحينئذ يتعين حمل النصوص على أنها في مقام جعل قاعدة الطهارة والحلية.

فالمتحصّل مما ذكرناه ، ان جملة من النصوص الصحيحة تدل على حجية الاستصحاب وعمدتها صحاح زرارة.

جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي

المستنبط من الحكم العقلي

ثم ان بعد ثبت دلالة الأخبار على حجية الاستصحاب ، لا بد من البحث في دلالتها من حيث شمولها لجميع الأقسام ، وعدم شمولها لها ، وقد كثرت الأقوال والتفاصيل في المقام ، واطال الشيخ الأعظم البحث في التفاصيل المذكورة في الكلمات ، إلا ان جملة منها لا تستحق البحث عنها ، وجملة من التفاصيل لا بدَّ من التعرض لها لما فيها من الفائدة ، فتنقيح القول بالبحث في موارد.

المورد الأول : ذهب الشيخ الأعظم (١) إلى انه لا يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي الثابت بدليل عقلي ، ومحصل ما أفاده مبتنيا على ما هو المتفق عليه دليلا ، وقولا ، من اعتبار ، وجود الشك ، وبقاء الموضوع ، واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها في جريان الاستصحاب.

ان مدرك الحكم الشرعي ، ان كان هو الدليل النقلي فلو تبدل قيد من قيود الموضوع ، ربما يرى العرف اتحاد الموضوعين نظرا إلى ان القيد الزائل من حالات الموضوع ، لا من مقوماته كما في الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٠ (الأمر الثالث) فإنه بعد أن ابطل الاستصحاب فيما استقل به العقل من الأحكام قال : «اما الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب».

فان أهل العرف يرون التغير واسطة لعروض النجاسة ، على الماء نفسه ، وهو باق بعد زوال التغير.

وربما يراه العرف تمام الموضوع ، أو من مقوماته بحيث يرون الموجود مغايرا لما كان ، كما في الاقتداء بالعادل فانه إذا زالت عدالته من جهة ان العرف يرون العدالة من مقومات الموضوع ، فالموجود وهو الفاسق غير ما كان ، وهو العادل ، فلا يجري الاستصحاب.

وربما يشكون في ذلك ، كما إذا كان الشخص في أول الوقت مسافرا ثم صار حاضرا ، فانه يشك في كون السفر المأخوذ موضوعا لوجوب القصر من مقومات الموضوع أو من حالاته ، وفي مثل ذلك أيضاً لا يجري الاستصحاب ، لان التمسك بدليله من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية هذا كله فيما إذا كان الدليل نقليا.

واما إذا كان المدرك له هو الحكم العقلي فكل قيد اخذ في الموضوع يكون مقوما ، وهذا يظهر ببيان أمرين :

الأول : ان العقل إذا استقل بحكم لا يعقل فيه الإهمال كما هو الشأن في سائر الصفات والأفعال النفسانية من قبيل الحب ، فان رأى قيدا دخيلا في حكمه واخذه في موضوعه ، يكون ذلك من مقومات الموضوع عنده وبانتفائه ينتفي الحكم العقلي قطعا ، ولا يحتمل بقائه لعدم معقولية الترديد للحاكم في حكمه.

الثاني : ان الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي لتبعيته له يكون كل قيد من القيود المأخوذة في الحكم العقلي ، من مقومات موضوعه فإذا تبدل

قيد يرتفع الحكم الشرعي لتبدل الموضوع ، وانعدامه فلا يجري الاستصحاب.

وأورد عليه بإيرادات :

الإيراد الأول : ما عن العلمين الخراساني (١) والنائيني (ره) (٢) ، وهو إيراد على الأمر الثاني ، وحاصله ، ان الحكم العقلي ليس علة للحكم الشرعي ، بل هو إنما يكون كاشفا عن الملاك الذي هو العلة لجعل الحكم الشرعي.

وبعبارة أخرى : الملازمة إنما تكون في مقام الإثبات ، دون مقام الثبوت ، فإذا ارتفع قيد من قيود الحكم العقلي يرتفع حكم العقل قطعا فينتفي الكاشف ، ولكن من المحتمل بقاء المنكشف وبتبعه بقاء الحكم الشرعي ، وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب.

وفيه : ان العناوين المحكومة بالحسن أو القبح على قسمين :

أحدهما : ما كان بنفسه مع قطع النظر عن جميع ما يترتب عليه من العناوين محكوما بأحدهما ، كعنوان الظلم والعدل وهذا هو الذي يعبر عنه تارة بالذاتي ، وأخرى بالضروري.

الثاني : ما يكون محكوما به من حيث اندراجه تحت عنوان محكوم به ذاتا كالمشي إلى السوق إذا كان تصرفا في ملك الغير مثلا.

وهو الذي يعبر عنه بالعرضي المنتهى إلى الذاتي ، والنظري المنتهى إلى

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٦ بتصرف.

(٢) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٣٢١ ـ ٣٢٢.

الضروري ، وعليه ، فما يكون موضوعا للحكم العقلي في القسم الثاني ليس هو ذات الفعل بل ذاك العنوان المنطبق عليه ، فالمحكوم بالقبح في المثال الذي ذكره الشيخ الأعظم (ره) ، هو عنوان الضار لا الصدق الضار ، وعليه فبما انه من مقدمات استدلال الشيخ (ره) ان مقتضى الملازمة ، تعلق الحكم الشرعي بنفس ما تعلق به الحكم العقلي وهو عنوان الضار فمع انتفاء ، هذا العنوان ينتفي الموضوع فلا مورد لاستصحاب الحكم ، ولا يكون نظير المثال المفروض ، إذ في المثال المأخوذ في لسان الدليل موضوعا هو الماء المتغير ، وكان الأولى تنظيره بما لو علم حرمة حفر البئر لكونه موجبا لا ضرار الجار ، وتغير هذا العنوان ، ولم يكن في الزمان اللاحق الحفر ضرريا فهل يتوهم جريان استصحاب الحرمة.

الإيراد الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو انه لعدم احاطة العقل بالواقعيات ، يمكن ان يكون مع الملاك الذي استكشفه العقل ملاك آخر ، لا يكون لتلك الخصوصية دخل فيه ، وعليه فيحتمل بقاء الحكم الشرعي فيستصحب ذلك.

وفيه : ان للعقل حكمين :

أحدهما : دركه المصالح والمفاسد فانه بناءً على مذهب العدلية من تبعية الأحكام لها يستكشف العقل من وجود المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة ، جعل الوجوب ، ومن المفسدة غير المزاحمة بالمصلحة جعل الحرمة.

ثانيهما : حكمه بالحسن والقبح العقليين الذي هو محل الخلاف بين

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧ بتصرف.

الإمامية والمعتزلة وبين الأشاعرة حيث ان الأشاعرة منكرون له ، وهما قد اثبتاه ، ويعبر عنه في الاصطلاح بالعقلي العملي ، أي الحكم العقلي المربوط بالنظام في قبال الحكم العقلي النظري ، وهو دركه للواقعيات ، واشكال المحقق الخراساني يرد على فرض كون مراد الشيخ (ره) من الحكم العقلي هو الأول.

واما على فرض كون مراده هو الثاني فلا يتم : فان الملاك الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه موضوع لحكم الشارع ، والملاك المحتمل وجوده في غير ذلك العنوان مستلزم لجعل الحكم على غيره ، فالمتيقن غير المشكوك فيه ، مثلا إذا استكشف العقل ان الكذب الضار قبيح ، يوجب ذلك جعل الحكم لعنوان الضار فلو احتملنا وجود ملاك آخر في مطلق الكذب ، فبما ان ذلك الملاك مستلزم لجعل الحرمة على عنوان الكذب ـ لا الضار ـ فالمتيقن حرمة الضار ، والمشكوك فيه حرمة الكذب فبعد تبدل عنوان الضار لا مورد للاستصحاب.

الإيراد الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه بما ان العقل غير محيط بالواقعيات ، يحتمل ان لا يكون لتلك الخصوصية ، دخل في ذلك الملاك الذي استكشفه العقل واقعا واخذها فيه بمعنى حكم العقل بحسن شيء أو قبحه مع تلك الخصوصية باعتبار كونه القدر المتيقن في ذلك ، فمع فرض الشك في بقاء الحكم العقلي ، مع انتفاء تلك الخصوصية لا محالة يشك في بقاء الحكم الشرعي فيستصحب.

وفيه : ما عرفت من ان العناوين المحكومة بأحكام عقلية اما ذاتية أو منتهية

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٥٢ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٢١.

إلى الذاتية.

وبعبارة أخرى : اما ضرورية أو منتهية إليها ، وعليه ، فلا يكاد يستقل العقل بحسن شيء أو قبحه إلا مع تبين الموضوع تفصيلا.

الإيراد الرابع : ما ذكره المحقق العراقي (ره) (١) وهو ان غاية ما يدل عليه هذا الوجه هو عدم تصور الشك من جهة الشك في قيدية شيء فيه ، واما مع الشك في بقاء ما علم قيديته ، فهو بمكان من الإمكان كالشك في بقاء الصدق على مضريته ففي هذه الصورة يجري الاستصحاب.

وفيه : انه ان أريد استصحاب الحكم فلا يمكن للشك في بقاء موضوعه وان أريد استصحاب الموضوع ، فهو استصحاب تعليقي في الموضوع الذي لم يلتزم أحد بجريانه حتى القائلين بجريانه في الأحكام : فانه لا بدَّ وان يقال ، هذا الصدق لو كان متحققا في الزمان السابق كان متصفا بالضارّية فالآن كما كان.

الإيراد الخامس : انه بناءً على ذلك لا بد من الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية مطلقا بناءً على مسلك أهل الحق من تنزه ساحة الشارع الأقدس عن الأغراض النفسانية ، وإنما تكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، وأنها ألطاف في الواجبات العقلية : فانه على هذا المسلك يتحد موضوع حكم العقل وموضوع حكم الشرع.

وفيه : انه في الأحكام الشرعية الثابتة بغير حكم العقل يكون الموضوع بحسب ما يستفاد من الدليل شيئا يكون باقيا مع ارتفاع بعض الخصوصيات

__________________

(١) مقالات الأصول ج ٢ ص ٣٣٩.

التي هي من حالات الموضوع بنظر العرف.

واما الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي فبما ان العقل لا يرى وراء الموضوع شيئا دخيلا في الحكم ، بل كل قيد يكون دخيلا فيه يكون راجعا إلى الموضوع فليس غير الموضوع شيء يعد من حالاته.

فتحصل مما ذكرناه ان ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الأحكام العقلية هو المتين ، هذا على فرض جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية وسيجيء الكلام في المبنى.

التفصيل بين الشك في الرافع والمقتضي

المورد الثاني : ذهب جماعة تبعا للشيخ الأعظم إلى اختصاص حجية الاستصحاب بموارد الشك في الرافع (١) وانه لا يجري الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي ، وبما انه اشتبه مراد الشيخ من المقتضي والرافع ، فلا بد من البحث أولا في بيان مراده ، ثم بيان ما يستفاد من الأدلة ، فتنقيح القول بالبحث في مقامين ، الأول في بيان المراد من الشك في المقتضي وتعيين مورد النزاع ، الثاني : في بيان ما هو الحق.

اما المقام الأول : فلا يخفى انه للمقتضي معان :

__________________

(١) فرائد الأصول ص ٥٦٠ ـ ٥٦١.

أحدها : ما يكون من أجزاء العلة حيث إنها مركبة من المقتضي ، وهو ما يترشح منه المعلول كالنار ، والشرط ، وهو ما يكون دخيلا في فاعلية الفاعل أو قابلية القابل كالمماسة ، وعدم المانع وهو عدم ما يزاحم المقتضى في تأثيره كعدم الرطوبة ، وقد يعبر عن المقتضى بالسبب.

لا ريب في ان مراد الشيخ (ره) من المقتضي ليس هذا المعنى : فانه قائل بجريان الاستصحاب في العدميات (١) مع انه لا مقتضي للعدم ، وأيضا يقول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مع انه لا مقتضى لها سوى إرادة الجاعل.

ثانيها : الموضوع فان الفقهاء قد يعبرون عن الموضوع بالمقتضى ، وعن القيود الوجودية المعتبرة فيه بالشروط في باب التكليف وفي باب الوضعيات بالسبب ، وعن القيود العدمية بالموانع يقولون ان المقتضى لوجوب الحج المكلف ، والشرط هو الاستطاعة ، والحيض من موانع الصلاة وهكذا.

والظاهر ان مراد الشيخ (ره) من المقتضى ليس ذلك أيضاً فان بقاء الموضوع معتبر بالاتفاق والشيخ (قدِّس سره) بعد تصريحه باعتبار بقاء الموضوع يفصل بين الشك في المقتضى والشك في الرافع.

ثالثها : ملاكات الأحكام من المصالح والمفاسد ، وليس مراده ذلك أيضاً فانه ملتزم بجريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية (٢) ولا يتصور لها ملاك ،

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٥١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٢.

وأيضا فانه ملتزم بجريان الاستصحاب في الملكية في المعاطاة (١) بعد رجوع أحد المتبايعين ، مع ان الملاك غير محرز ، بل يلزم من ذلك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا لعدم إحراز الملاك.

بل المراد به قابلية بقاء الشيء في عمود الزمان إلى ما بعد زمان الشك ما لم يطرأ عليه رافع كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة الحاصلة بأسبابها ، فلو كان اليقين متعلقا بهذه الأشياء يكون له مقتض للجري العملي على طبقه ما لم يطرأ رافع ، فإذا شك في بقائه لا محالة يكون الشك مستندا إلى الشك في الرافع ، ويقابله ما لا يكون له قابلية البقاء في نفسه ، كالزوجية المنقطعة لو شك في الأجل ، والخيار الثابت في مورد خيار الغبن على القول بالفورية ، والشك في أمثال هذه لا يستند إلى احتمال وجود الرافع ، بل الشك في استعداده للبقاء في نفسه ، فيكون الشك في ان المتيقن وبالتبع الجري العملي على طبق اليقين المتعلق به ، هل يكون له استعداد البقاء أم لا؟ والأول من موارد الشك في الرافع والثاني من موارد الشك في المقتضى.

وبهذا يظهر ان ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) في كتاب المكاسب من ، جريان استصحاب الملكية في المعاطاة بعد رجوع أحد المتبايعين ، وعدم جريان استصحاب بقاء الخيار بعد الزمان الأول في مورد خيار الغبن (٢) لاحتمال فوريته مبنيان على مبناه.

__________________

(١) كما نسبه اليه آية الله الخوئي في دراسات في علم الأصول ج ٤ ص ١٤٠ ، وهو ظاهر كلامه في المكاسب المحرمة ج ٣ ص ١٠٢ ، وفي الفرائد أشار إلى ذلك ج ٢ ص ٦١١.

(٢) راجع المكاسب ج ٥ ص ٢٣.

ولا يرد عليه ما أورده السيد الطباطبائي (ره) (١) بان الأول أيضاً من قبيل الشك في المقتضى.

واما المقام الثاني : وهو بيان ما هو الحق ، فنخبة القول فيه يبتني على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان النقض تقابل الإبرام تقابل العدم والملكة ، فلا بد وان يتعلق بما يصلح ان يكون مبرما.

وهل الإبرام والنقض ، بمعنى الإتقان والإحكام وعدمه ، كما أفاده المحقق الخراساني (٢) وغيره ، أو بمعنى الهيئة الاتصالية ورفعها ، كما عن الشيخ الأعظم (٣) ، أو بمعنى هيئة التماسك والاستمساك ورفعها كما اختاره جمع من المحققين (٤) ، وجوه أقواها الأخير.

وذلك : لأنه في بعض هذه النصوص اسند النقض إلى الشك أيضاً لاحظ قوله (ع) في الصحيح الثالث المتقدم (ولكنه ينقض الشك باليقين) مع انه لا أحكام فيه ، وأيضا الإتقان والإحكام يصدق فيما لا يصدق الإبرام.

كما انه لا دخل للاتصال المقابل للانفصال بالإبرام المقابل للنقض.

__________________

(١) هو السيد الطباطبائي اليزدي صاحب العروة الوثقى ، وقد أورد ذلك في حاشيته على المكاسب المحرمة ج ١ ص ٨١ ، ط إسماعيليان قم.

(٢) كفاية الأصول ص ٣٩٠.

(٣) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٤.

(٤) استظهره المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ٥٣.

ثم ان هيئة التماسك لا تكون إلا في مركب ذي أجزاء فيكون متماسكا تارة ، ومنحلا أخرى ، وعليه فالإبرام والنقض بما لهما من المعنى الحقيقي لا يصدقان إلا في المركبات الحقيقية ، والاعتبارية ، فإسناد النقض إلى اليقين الذي هو من البسائط كإسناده إلى العهد ، واليمين ، والعقد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، لا بدَّ وان يكون بلحاظ تنزيله منزلة المركب بلحاظ بعض لوازم المركب الموصوف بالإبرام ، والظاهر ان ذلك اللازم في المقام هو ارتباط بعض أجزاء المبرم ببعض ، فان اليقين من الصفات ذات الإضافة ولا يتحقق إلا متعلقا بشيء فهو مرتبط بمتعلقه ، وبهذا اللحاظ يصح إسناد النقض إلى الشك.

ومما ذكرناه ظهر ان المراد من النقض في نصوص الباب ليس هو رفع الأمر الثابت كما عن الشيخ الأعظم (ره).

المقدمة الثانية : في بيان المراد من الهيئة ، والظاهر انه ليس المراد منها النهي عن النقض حقيقة ، من غير فرق بين ، إرادة اليقين ، أو المتيقن ، أو آثار اليقين.

اما الأول : فلان اليقين بالحدوث لبقائه لا معنى للنهى عن نقضه لكونه طلبا للحاصل ، وطلب تحصيل اليقين بالبقاء ليس طلبا لا بقاء اليقين بل يكون طلب إيجاد فرد آخر.

واما الثاني : فلان المتيقن ان كان حكما شرعيا فإبقائه وعدمه ليس تحت اختيار المكلف بل أمره بيد الشارع ، وان كان من الموضوعات ، فهو اما ان يكون باقيا فطلبه طلب تحصيل الحاصل ، واما ان يكون زائلا فطلبه ليس طلبا للإبقاء بل طلب لاعادة المعدوم وبذلك ظهر ما في إرادة الثالث.

فما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) بقوله ان النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه ، وهو الطهارة السابقة أو أحكام اليقين.

غير تام : إذ كما ان النقض المذكور لا يتعلق باليقين كذلك لا يتعلق بالمتيقن ولا بأحكام اليقين.

فلا محالة يكون المراد النهي عن النقض بناءً وعملا ، وحيث لا شبهة في عدم كونه نهيا تحريميا نفسيا لعدم وجوب العمل على طبق اليقين السابق في باب المستحبات والمكروهات والمباحات ، مع جريان الاستصحاب فيها ، فلا محالة يكون إرشاديا.

وعليه فهل هو إرشاد إلى جعل الطريقية لليقين السابق في زمان الشك.

أو إلى جعل المماثل للمتيقن أو لحكمه بعنوان إبقاء الكاشف.

أو إلى منجزية اليقين السابق ومعذريته شرعا لإثبات الحكم في الزمان اللاحق.

أو يكون إرشادا إلى إثبات حكم شرعي بالجري العملي على طبق الحالة السابقة المتيقنة في ظرف الشك ، وجوه واقوال :

ولكن الأول ينافيه ظاهر الكلام ، إذ لازم الطريقية الغاء احتمال الخلاف وعدم الشك ، فلا يناسب فرض الشك في الموضوع.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٤.

والثاني خلاف الظاهر فان ظاهر القضية ، ترتب الحكم على اليقين نفسه دون المتيقن.

فيدور الأمر بين الأخيرين :

أوجههما الثاني لما عن المحقق النائيني (١) ، من ان اليقين بشيء حيث انه يقتضي الجري العملي على طبقه بما انه طريق إلى المتيقن ، فيكون مفاد النهي عن نقضه ، إبقاء المتيقن السابق من حيث اقتضائه الجري العملي.

فان قيل : ان لزوم العمل طبق اليقين إنما يكون لحكم العقل بلزوم إطاعة المولى وقبح مخالفته ، وعليه فليس للشارع التصرف في ذلك بجعله أو برفعه ، إلا بوضع منشأه أو رفعه.

اجبنا عنه : بأنه مع عدم بقاء اليقين حقيقة لا يستقل العقل بلزوم العمل على طبق اليقين السابق ، ولا بعدم لزومه ، وعليه فلا محذور في الجعل.

وان شئت قلت ان النقض استند إلى اليقين ، وهو بطبعه لا يوجب العمل على طبقه في ظرف الشك ، ولكن الشارع يتعبد به.

وعن بعض المحققين (٢) انه يتعين اختيار كون النهي عن نقض اليقين إرشادا إلى منجزية اليقين السابق ومعذريته شرعا بالنسبة إلى الحكم في الزمان اللاحق.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٦٨ بتصرف.

(٢) وهو ظاهر اختيار المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج ٣ ص ٣٠٤.

وفي فرض الشك قال : ولا يتوهم ان ذلك ينافي ما ذكرناه في مبحث حجية الخبر الواحد من عدم معقولية جعل التنجيز والتعذير لكونهما من الأحكام العقلية ، إذ في المقام يدعى ان الشارع الاقدس يوسع في منجزية اليقين السابق الذي هو منجز بحكم العقل.

ولكن يرد عليه انه في لزوم المحذور المذكور لا فرق بين كون المنجزية مسبوقة بالتحقق وعدمه.

فالمتحصّل ان المتعين هو الوجه الاخير الذي اختاره المحقق النائيني إذا عرفت ما تلوناه عليك من المقدمتين.

فقد استدل لاختصاص الحجية بالشك في الرافع بوجوه :

الوجه الأول : ما عن الشيخ الأعظم (١) ، وهو ان الأمر يدور بين ان يراد بالنقض ظاهره ، وهو رفع الأمر الثابت لكونه اقرب إلى معناه الحقيقي وهو رفع الهيئة الاتصالية ، فيختص متعلقة بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى.

وبين ان يراد منه مطلق ترك العمل ، ويبقى المنقوض عاما لكل يقين.

والظاهر رجحان الأول إذ الفعل الخاص يصير مخصصا لمتعلقه العام.

وفيه : ما تقدم من ان المراد بالنقض في المقام ، ليس رفع الأمر الثابت ، بل اسند إلى اليقين بملاحظة كون اليقين مربوطا بمتعلقه ، أضف إليه ما مر من ان

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٧٤.

معناه الحقيقي ليس هو رفع الهيئة الاتصالية.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) ، وحاصله : انه ان كان متعلق اليقين غير محدود في عمود الزمان بغاية فاليقين المتعلق به يقتضي الجري العملي على طبقه على الإطلاق ولا موجب لرفع اليد عنه إلا الشك في الرافع فيصدق عليه نقض اليقين بالشك من حيث الجري العملي.

واما إذا احتمل كون المتيقن مغيا بغاية ، فالمتيقن مما يقتضيه اليقين هو الجري العملي ما قبل الغاية المحتملة وبالنسبة إلى ما بعدها لا مقتضى للجري العملي من أول الأمر فعدم الجري يستند إلى قصور المقتضي وانتقاض اليقين بنفسه لا إلى نقض اليقين بالشك.

وفيه : ان متعلق اليقين إذا كان غير محدود في عمود الزمان بغاية ولكن كان مغيا بغاية زمانية كالزوجية المغياة بالطلاق أو احتمل كونه مغيّا بها فاليقين المتعلق به لا يقتضي الجري العملي على طبقه حتى بعد ما يحتمل كونه غاية ، فعدم الجري فيه كعدم الجري في الصورة السابقة بلا فرق بينهما أصلاً.

وبالجملة ، لا فرق بين الموردين سوى ان الثاني يحتمل كونه مغيا بالزمان ، والأول يحتمل كونه بالزمان ، وهذا لا يوجب الفرق بينهما من حيث صدق نقض اليقين بالشك ، وعدمه.

أضف إليه ان اليقين لا يقتضي الجري العملي بعد تبدله إلى الشك في مورد.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٧٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٦٩.

وان شئت قلت ان المصحح لاستناد النقض إلى اليقين عنده هو عدم اقتضاء اليقين للجري العملي في نفسه في ظرف الشك ، فكيف يذكر ذلك مانعا.

الوجه الثالث : ما اشار إليه المحقق الخراساني في الكفاية (١) وصرح به في التعليقة (٢) ، وحاصله : ان اليقين ، وان كان يصح اسناد النقض إليه ، إلا انه في باب الاستصحاب ، بما ان اليقين متعلق بالحدوث ، والشك متعلق بالبقاء ، واليقين بالحدوث ، لم ينتقض ، بل هو باق حقيقة ، فلا يصح النهي عن نقضه بحسب العمل ، لعدم صحته إلا فيما إذا انحل حقيقة ، واليقين بالبقاء لم يكن فرفع اليد عن البقاء ليس نقضا لليقين به ، فلا محيص عن حمل الخبر على قاعدة اليقين ، أو الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع :

إذ اليقين في قاعدة اليقين تعلق بالحدوث والشك أيضاً تعلق به ، فاليقين قد اضمحل بالشك حقيقة فيصح النهي عن نقضه عملا.

وفي مورد الاستصحاب في الشك في الرافع بما ان متعلق اليقين من شانه الاستمرار والبقاء فاليقين المتعلق بحدوثه كأنه متعلق بالبقاء.

وبعبارة أخرى : اليقين تعلق بأصله حقيقة وببقائه اعتبارا ، وهو قد ارتفع وانحل بالشك فيه ، فيصح النهي عنه بحسب البناء والعمل ، وهذا بخلاف الشك في المقتضي حيث لا انحلال فيه لا حقيقة ولا مسامحة ، فلا يصح النهي عن نقضه عملا.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩١ (قلت : الظاهر ان وجه الاسناد ..)

(٢) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣١٧ ـ ٣١٨ بتصرف.

وحيث ان مورد الخبر لا ينطبق على قاعدة اليقين ، فيتعين حمله على إرادة جعل الحجية للاستصحاب في موارد الشك في الرافع خاصة ، هذا محصل كلامه بتوضيح منا.

وفيه : انه في مورد الشك في الرافع أيضاً اليقين المتعلق بالحدوث ، لا يكون متعلقا بالبقاء ولو اعتبار أو مسامحة ، إذ المتيقن لم يحرز ان يكون من شأنه الاستمرار حتى بعد حدوث زماني يحتمل كونه غاية ، أو احتمل حدوث ما هو غاية ، ويكون حاله حال الشك في المقتضى من حيث المتيقن ، وحل الإشكال ان العناية المصححة لاسناد النقض إليه ، ليس إلا اتحاد المتعلقين ذاتا ، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا ، وهذا كاف في اضمحلال اليقين مسامحة وبنظر العرف وفي صحة اسناد النقض إليه ، وفي ذلك لا فرق بين الموردين.

الوجه الرابع : ما ذكره بعض المحققين (١) ، وهو ان غاية ما تدل عليه الأخبار هو سلب العموم ، لا عموم السلب فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كل فرد من أفراد اليقين بالشك ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشك وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الأفراد ، والمتيقن هو الشك في الرافع.

وفيه : انه لو كان العموم مستفادا من لفظ (كل) و (اجمع) ونحو ذلك وكان النفي أو النهي واردا على العموم لكان لدعوى سلب العموم مجال ، بل

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٦٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٣٥ (بقي في المقام شيء لا بأس بالتعرض له ..) إلا انه اعتبر هذا الوجه توهم.

قد يدعى ظهوره في ذلك كما في مثل لا تكرم كل فاسق.

ولكن فيما إذا كان العموم مستفادا من النفي أو النهي الوارد على الطبيعة حيث ان عدم الطبيعة يتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها فلا مجال لتوهم كونه من قبيل سلب العموم فان العموم حينئذ متأخر رتبة عن ورود الحكم ، بل هو من قبيل عموم السلب قطعا ، والمقام من قبيل الثاني كما هو واضح.

ثم انه بعد ما عرف من عدم تمامية شيء مما استدل به على اختصاص الروايات بالشك في الرافع ، وان مقتضى إطلاقها حجية الاستصحاب في الشك في المقتضى أيضاً ، لا بأس بالتعرض لامرين :

أحدهما : ان الشيخ الأعظم صرح بجريان الاستصحاب في موارد مع ان الشك فيها من قبيل الشك في المقتضى.

منها : الشك في النسخ وقد صرح بجريان استصحاب عدم النسخ ، أضف إليه ان جريانه فيه متفق عليه ، حتى ادعى الأمين الاسترآبادي (١) انه من ضروريات الدين ، والنسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم إذ البداء مستحيل في حقه تعالى ، فالشك فيه شك في انتهاء الأمد فيكون من الشك في المقتضى.

ومنها : الشك في الموضوع الخارجي (٢) كحياة زيد والشيخ (قدِّس سره) قد صرح

__________________

(١) حكاه عنه (عن الفوائد المكية) الشيخ الأعظم في فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٩٥.

(٢) راجع فرائد الأصول ج ٢ ٦٣٨ ، إلا أن الشيخ الأعظم (قدِّس سره) استظهر جواز الاستصحاب في المورد حسب الظاهر.

في أول تنبيهات الاستصحاب ، بأنه لو شك في بقاء حيوان علم وجوده وشك في انه يعيش سنة أو مائة سنة لا يجري الاستصحاب ، لأنه من الشك في المقتضي؟

ولازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في المثال ، فانه لا يعلم اقتضاء بقائه ، ورعاية الجنس القريب ، أو البعيد ، أو النوع ، أو الصنف كل ذلك بلا وجه ، مع انه ملتزم بجريانه في الموضوعات مطلقا.

ومنها : الشك في الغاية (١) ، كما لو شك في هلال شوال مثلا فان الشك إنما هو في ان شهر رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما ، فالشك من قبيل الشك في المقتضى مع انه ملتزم بجريان الاستصحاب فيها.

الأمر الثاني : ان متعلق اليقين والشك ان لوحظا بالنظر الدقي فهما متغايران ، ولا يصدق نقض اليقين بالشك ، حتى في مورد الشك في الرافع لتعلق اليقين بالحدوث ومتعلق الشك هو البقاء ، وان لوحظا بالنظر المسامحي العرفي أي بإلغاء خصوصية الزمان الذي عرفت انه المناط في صدقه واطلاقه ، يصدق نقض اليقين بالشك حتى في مورد الشك في المقتضى.

ويضاف إلى جميع ما تقدم ان من جملة روايات الاستصحاب خبر محمد بن مسلم المتقدم الذي عرفت دلالته على حجية الاستصحاب ، ولم يذكر فيه لفظ النقض لاحظ قوله (ع) : (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه) فعلى فرض التنزل وتسليم عدم دلالة النصوص المتضمنة للفظ النقض على حجية

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ الأمر الثاني من تنبيهات الاستصحاب بتصرف.

الاستصحاب في الشك في المقتضى ، لا اشكال في دلالة هذه الرواية عليها.

فالمتحصّل انه لا ينبغي التوقف في حجية الاستصحاب في مورد الشك في المقتضي.

الكلام حول حجية الاستصحاب في الشك في رافعية الموجود

المورد الثالث : نسب إلى المحقق السبزواري (١) عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في رافعية الموجود ، واستدل له بان الشك في رافعية الموجود كالشك في رافعية المذي للطهارة لا يكون ناقضا لليقين بالطهارة قطعا ، لأنه يجتمع مع اليقين بها ، ولذا كانا مجتمعين في زمان اليقين ، فرفع اليد عنه لا يكون مستندا إلى وجود الأمر الذي شك في كونه رافعا ، وإنما يستند إلى اليقين بوجود ما شك في كونه رافعا ، لان الشيء يستند إلى الجزء الأخير من العلة التامة ، فالالتزام بارتفاع الطهارة بالمذي ليس من نقض اليقين بالشك ، بل إنما هو من نقض اليقين باليقين.

وفيه : ان الشك في الرافعية المقارن مع الطهارة لا يكون ناقضا ، لعدم وحدة متعلقة مع متعلق اليقين ، وكذا اليقين بخروج المذي مع قطع النظر عن

__________________

(١) وهو العلامة ملا محمد باقر السبزواري ، راجع ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد ج ١ ص ١١٥ ـ ١١٦ حيث قسّم الصور إلى أربعة ، واختار الاستصحاب في ما إذا كان الشك في وجود الرافع دون غيره. ط. مؤسسة أهل البيت (ع) (حجري).

حكمه ، بل الناقض هو الشك الحاصل بعد خروج المذي المتعلق ، برافعية الموجود الخارجي المعين ، ورفع اليد عن اليقين بالطهارة به نقض لليقين بالشك.

المورد الرابع : ان الشك في الغاية هل يشمله أدلة الاستصحاب أم لا؟ والكلام فيه في موضعين :

الأول : في الفرق بينه وبين الشك في المقتضى والشك في الرافع.

الثاني : في بيان حكمه.

اما الأول : فالشك في المقتضى عبارة عن لا شك في بقاء ما لا يعلم إرساله ولا تقييده بالنسبة إلى عمود الزمان.

والشك في الرافع عبارة عن الشك في بقاء ما علم إرساله وإنما احتمل رفعه لرافع.

والشك في الغاية عبارة عن الشك في بقاء ما علم تقييده لاحتمال تحقق القيد.

واما الثاني : فالشك في الغاية يتصور على وجوه :

أحدها : ان يعلم الغاية ويكون مفهومها مبينا عنده ولكن شك في تحققه لأجل أمور خارجية ، كما لو شك في تحقق الليل من جهة الغيم.

ثانيها : ان يشك فيها لأجل الشك في المفهوم ، وعدم تبينه كما لو شك في ان الغروب ، عبارة عن استتار القرص ، أو ذهاب الحمرة المشرقية.

ثالثها : ان يشك فيها من جهة ترددها بين مفهومين متغايرين ، كما لو شك في ان غاية صلاة العشاء ، هل هو انتصاف الليل ، أو طلوع الفجر.

والظاهر جريان الاستصحاب في الوجه الأول ، دون الأخيرين : لأنه في الأول اليقين مقتض للجري العملي والشك يستند إلى أمر خارجي ، واما في الأخيرين : فاليقين بنفسه لا يقتضي الجري العملي ، ويكون قاصرا ، فلا يصدق على رفع اليد عن الحالة السابقة نقض اليقين بالشك.

التحقيق حول الاستصحاب في الأحكام الكلية

المورد الخامس : ذهب جمع من المحققين منهم الفاضل النراقي (١) ، والأستاذ الأعظم (٢) ، وبعض الإخباريين (٣) إلى اختصاص حجية الاستصحاب بالشبهات الموضوعية ، وانه لا يجري في الشبهات الحكمية فلو كان حكم كلى مشكوك البقاء ، كوجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ، ومشروعية الجماعة في صلاة

__________________

(١) حكاه عنه غير واحد من الأعلام منهم آية الله الخوئي في مصباح الأصول ج ٣ ص ٣٦ / الهداية في الأصول ج ٤ ص ٣٥ / ومن أمثلة ذلك ما ذكره النراقي في مستند الشيعة ج ٦ ص ٣٥ : جريان الاستصحاب في صلاة الجمعة في زمن الغيبة ، وقد نسبه إليه غير واحد في حاشيته على منهاج الأصول ص ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٢) مصباح الأصول ج ٣ ص ٣٦ فإنه بعد حكاية ذلك عن الفاضل النراقي قال : «وهذا هو الصحيح».

(٣) نسبه إلى قاطبة المحدثين آية الله الخوئي في الهداية في الأصول ج ٤ ص ٣٥.

العيدين في زمان عدم وجوبها ، ونجاسة الماء القليل النجس المتمم كرا ، وثبوت بعض الخيارات مع التراخي ، وما شاكل ، لا يحكم بالبقاء لأجل الاستصحاب.

وتنقيح القول في المقام يستدعي ان يعين محل البحث أولا ، ثم بيان ما هو الحق المستفاد من الأدلة.

اما الأول : فالشك في الحكم ، تارة يكون ناشئا من الشك في اصل الجعل من حيث السعة والضيق بالنسبة إلى عمود الزمان بان يشك في ان الجعل في الحكم المعين هل هو يعم جميع الأزمنة.

أم يكون مختصا بقطعة من الزمان فيرتفع بنفسه بعد انقضاء ذلك الامد ، كما لو علم بجعل حكم في الشريعة وشك في نسخه ، إذ النسخ بهذا المعنى يمكن وقوعه في الشريعة المقدسة ، وقد وقع بالنسبة إلى القبلة.

واما النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت أولا على نحو السعة فلا يمكن الالتزام به لاستلزامه البداء المستحيل في حقه تعالى.

لا كلام في جريان استصحاب عدم النسخ وقد عده بعضهم من ضروريات الدين ، وهو كاشف عن دليل خاص يدل عليه ، فهو خارج عن محل البحث.

وأخرى يكون الشك راجعا إلى المجعول ، بعد فعليته في الخارج والعلم بان اصل الجعل غير محدود بزمان. وهو على قسمين :

إذ ، قد يكون منشأ الشك أمور خارجية ، كما لو علم بطهارة شيء ، وشك في عروض ما يوجب النجاسة.

وقد يكون منشأ الشك الشك في سعة دائرة المجعول وضيقه ، كما لو شك في ان الحائض التي يحرم وطؤها ، هل هي في خصوص حال وجود الدم ، أو الأعم منه ومن حال بقاء الحدث كما في ما بعد الانقطاع وقبل الاغتسال.

ومحل الخلاف هو القسم الثاني.

اما الأول : فهو خارج عن محل البحث لأنه في تلك الموارد يجري الاستصحاب الموضوعي فلا اثر للنزاع في جريان الاستصحاب فيه وعدمه.

ثم انه فيما هو محل البحث :

تارة يكون الزمان مفردا للموضوع كحرمة وطء الحائض : فان للوطء أفراد طولية تقع من أول الحيض إلى آخره ، وفي ذلك لا يجري الاستصحاب فان الفرد المعلوم حرمته هو الفرد المفروض وقوعه قبل انقطاع الدم ، والمشكوك فيه ، هو ما يقع في حال انقطاع الدم ، فلا مورد لجريان الاستصحاب ، وظاهر ان هذا خارج عن محل البحث.

ودعوى انه يمكن ان يقال ان هذا الفرد من الوطء لو كان واقعا قبل الانقطاع كان حراما ، والآن كما كان.

مندفعة بان ذلك من الاستصحاب التعليقي في الموضوع الذي لا كلام ولا إشكال في عدم جريانه.

وأخرى لا يكون كذلك بل هو حكم واحد مستمر من الأول إلى الآخر كنجاسة الماء القليل المتمم كرا : إذ الماء شيء واحد لا تعدد فيه ، والنجاسة واحدة مستمرة من الأول إلى الآخر ، ومن هذا القبيل ، الملكية ، الزوجية وما

شاكل ، وقد استدل لعدم جريان الاستصحاب فيه بوجوه :

الأول : ان مورد الصحيح هو الطهارة والشبهة موضوعية ، وحيث ان من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، فلا يمكن التمسك بإطلاق لا تنقض لحجية الاستصحاب حتى في الأحكام الكلية.

وفيه : ان المبنى فاسد كما حققناه في محله في هذا الشرح.

الثاني : معارضته مع أدلة الاحتياط.

وفيه مضافا إلى ان لازم ذلك عدم جريان استصحاب عدم الحكم لا استصحاب الحكم ، ان الاستصحاب حاكم على أدلة الاحتياط.

الثالث : ان نقض اليقين ، وان كان اعم مما إذا تعلق بالحكم أو الموضوع ، والموضوع أيضاً قابل للتنزيل كالحكم ، لكن بما ان الفعل إبقاء عملي لليقين بالحكم ، فإسناد النقض إليه إسناد إلى ما هو له ، وهو لا يكون إبقاء عمليا لليقين بالموضوع ، بما هو لعدم محركيته له بنفسه ، بل بلحاظ نشو اليقين بالحكم منه ، فإسناده إليه إسناد إلى غير ما

هو له ، ولا يمكن الجمع بين الاسنادين في كلام واحد.

وفيه : أولا ان الإسناد الكلامي وان كان واحدا صورة إلا انه ينحل إلى اسنادات عديدة في اللب والواقع ، وفي ذلك المقام لا يلزم الجمع بين الاسنادين في إسناد واحد ، وفي النسبة الكلامية اسند النقض إلى اليقين ولهذا الإسناد وصفان اعتباريان ، بلحاظ حيثيتين ، وهما حيثية الانطباق على الموضوع ، وحيثية الانطباق على الحكم فتدبر فانه دقيق.

وثانيا : ان إسناد النقض إلى اليقين بالموضوع أيضاً إسناد إلى ما هو له إذ الفعل كما يكون إبقاء عمليا لليقين بالحكم ، يكون إبقاء عمليا لليقين بالموضوع باعتبار بقاء الموضوع في عالم التشريع ، والاعتبار ، لا باعتبار بقائه في عالم الوجود.

الرابع : ان استصحاب الحكم معارض باستصحاب عدم الجعل.

توضيح ذلك : انه يفرض الكلام في الماء القليل النجس المتمم كرا ، حيث يشك في بقاء نجاسته ، أو ارتفاعها لان الكر لا يحمل خبثا ، فالنجاسة قبل التتميم متيقنة ويشك في بقائها فيستصحب ، ولكن في المورد يقين سابق آخر وهو اليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الإسلام ، لا مطلقا ، ولا مقيدا بعدم التتميم ، والمتيقن مما علم جعله هو النجاسة للماء القليل غير المتمم ، ولا يعلم جعلها للقليل المتمم ، فيجري استصحاب عدم جعل النجاسة له.

وهذا الأصل ، اما ان يكون حاكما على استصحاب النجاسة ، إذ الشك في بقاء الحكم مسبب عن الشك في الجعل.

واما ان يتعارضان ويتساقطان ولا حكومة في البين نظرا إلى ان الأصل السببي الحاكم هو ما إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب النجس بالماء المشكوك طهارته ، وفي المقام ليس كذلك فان عدم النجاسة الفعلية ليس من الآثار الشرعية لعدم جعل النجاسة ، بل هو من لوازمه التكوينية بل عينه ولا مغايرة بينهما فلا معنى لحكومة أحدهما على آخر وهو ظاهر.

وعلى التقديرين لا يجري استصحاب النجاسة.

وقد أورد على هذا الوجه بأمور :

١ ـ ما عن الشيخ الأعظم (١) ، وهو ان الزمان إذا فرضنا أخذه ظرفا للواجب لا قيدا للوجوب ومفردا له ، الذي هو مورد لاستصحاب بقاء الحكم الثابت يقينا سابقا لبقاء موضوعه ، لا يبقى معه مجال لجريان استصحاب العدم الأزلي لانتقاضه بالوجود المطلق غير المقيد بزمان خاص كما هو المفروض.

وفيه : ان المقدار انتقاضه إنما هو ثبوت النجاسة إلى ما قبل التتميم كرا في المثال ، واما بالنسبة إلى ما بعده فجعلها من الأول مشكوك فيه ، وعليه فكما يجري استصحاب النجاسة ، يجري استصحاب العدم.

٢ ـ ما عن المحقق الخراساني (٢) ، وهو انه فيما يجري فيه استصحاب الحكم المتوقف على كون الزمان ظرفا بحسب المتفاهم العرفي الموجب لكون القضية المتيقنة متحدة مع القضية المشكوك فيها لا يجري استصحاب عدم الحكم المتوقف على كون الزمان قيدا ، لعدم إمكان الجمع بين القيدية والظرفية لكمال المنافاة بينهما.

وفيه : ان استصحاب عدم الحكم يجري فيما إذا كان الزمان ظرفا من جهة ان المشكوك فيه مسبوق بيقينين باعتبار أحدهما يجري الاستصحاب الوجودي ، وباعتبار الآخر يجري العدمي.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٨ بتصرف.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٠٩.

٣ ـ ما عن المحقق النائيني (١) وهو ان الآثار الشرعية والثواب والعقاب تترتب على المجعول والحكم الفعلي ، واستصحاب عدم الجعل لإثبات عدم المجعول من الأصول المثبتة وبدون إثباته لا يترتب عليه الأثر.

وفيه : مضافا إلى النقض باستصحاب عدم النسخ فلو كان استصحاب عدم الجعل بالإضافة إلى عدم الحكم من الأصول المثبتة ، كان استصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل بالإضافة إلى وجود الحكم كذلك.

ان الحكم ليس من الأمور الحقيقية وإنما هو أمر اعتباري قائم بالنفس ، أو إبراز لشوق المولى بالفعل في الواجبات وإبراز كراهته في المحرمات ، ولا تعدد للاعتبار والمعتبر ، والإبراز والمبرز كما في الإيجاد والوجود ، وإنما لا يجب امتثاله قبل وجود موضوعه ، لأجل عدم الحكم بدونه ـ وبعبارة أخرى ـ بدون فعلية موضوعه لا حكم فعلي ولا إنشائي ، وعلى ذلك ، فاستصحاب الجعل لإثبات المجعول ، وعدم الجعل لإثبات عدم المجعول ، ليس مثبتا ، فتدبر.

٤ ـ ما عن المحقق النائيني (٢) أيضاً وهو ان المتيقن العدم الأزلي غير المنتسب إلى الشارع ، أي العدم المحمولي ، والمشكوك فيه العدم النعتي المنتسب إلى الشارع ، واستصحاب العدم المحمولي لإثبات العدم النعتي من الأصل المثبت ولا نقول به.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) ذكر ذلك في غير مورد أوضحها ما في فوائد الأصول ج ٢ ص ٥٣٣ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٠ ـ ١٠١.

وفيه : ما عرفت من ان جعل الأحكام كان تدريجيا ، فأوائل البعثة لم يكن هذا الحكم المشكوك فيه مجعولا قطعا ، فالمتيقن هو العدم النعتي.

٥ ـ معارضة استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي ، مع استصحاب عدم جعل الترخيص ، للعلم بتحقق أحدهما.

وفيه : انه لا مانع من إجرائهما معا لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا.

٦ ـ ان المستصحب لا بدَّ وان يكون حكما شرعيا أو موضوعا ذي اثر شرعى ، وعدم الحكم ليس بشيء منهما وعدم العقاب من لوازمه العقلية.

وفيه : انه لم يدل دليل على ذلك ، بل الدليل دل على اعتبار كون وضعه ورفعه بيد الشارع ، وعدم الحكم أزلا غير قابل للوضع والرفع ، لكنه بقاء بيد الشارع ، وهذا يكفي في التعبد.

٧ ـ ان استصحاب عدم الحكم ، لا يوجب القطع بعدم العقاب ، لعدم ثبوت الإباحة به ، وعدم كونه أثرا شرعيا فيحتاج معه إلى ضم قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعها لا حاجة إلى الاستصحاب.

وفيه : ان الآثار العقلية المترتبة على الأثر الشرعي يترتب باستصحابه ، ولذلك التزم هذا المستشكل بترتبه على الإباحة المستصحبة ، فيترتب عدم العقاب على استصحاب عدم الحكم ، وتفصيل القول في الإيرادات الثلاثة الأخيرة ، ونقدها ، وبعض إيرادات أخر وما يتوجه عليه ، تقدمت في مبحث البراءة ، في الاستدلال عليها بالاستصحاب.

٨ ـ ما أورده الفاضل النراقي (١) على نفسه وأجاب عنه ، وصححه المحقق النائيني (ره) (٢) وحاصل ما ذكره المحقق النائيني ، انه يعتبر في صحة جريان الاستصحاب ، اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك فيه ، فلو علم بنجاسة شيء أول الصبح ، ثم بعد ساعة علم بطهارته ، ثم شك ، لا مجال لجريان استصحاب النجاسة لانتقاض اليقين بها باليقين بالطهارة ، بل يجري استصحاب الطهارة بلا معارض.

وفي استصحاب عدم الجعل في المقام لا يكون زمان المشكوك فيه متصلا بزمان المتيقن ، لفصل المتيقن الآخر بينهما إذ المتيقن الأول هو عدم النجاسة ، والمتيقن الثاني ، هو النجاسة والمشكوك فيه متصل بالثاني دون الأول ، فلا يجري استصحاب عدم النجاسة.

وفيه : ان لنا متيقنين أحدهما : عدم النجاسة الفعلية. ثانيهما : عدم جعل النجاسة ، والذي انتقض باليقين بالنجاسة هو الأول.

واما الثاني : أي عدم جعل النجاسة للمتمم مثلا فهو موجود حتى في حال العلم بالنجاسة ولم ينتقض بعد ، فان اليقين بالنجاسة حال عدم التتميم لا يكون ناقضا لليقين بعدم النجاسة بعدم التتميم كما هو واضح.

__________________

(١) نقل كلامه الشيخ الأعظم في الفرائد ج ٢ ص ٦٤٧ ، ونسبه اليه البعض في حاشيته على منهاج الأصول ص ٢٤٢.

(٢) راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١١١ ، وقد نقل كلام النراقي ص ١١٠.

فالمتحصّل تمامية الإيراد الرابع على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، وهو انه اما ان يكون محكوما لاصالة عدما لجعل ، أو معارض معها.

فالأظهر عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

بقي في المقام أمران لا بدَّ من التنبيه عليهما :

أحدهما : انه قد يتوهم اختصاص ذلك بالاحكام الكلية ، من جهة انه في الشبهات الموضوعية يكون الجعل معلوما فلا يجري استصحاب عدم الجعل.

ولكنه يندفع ، بأنه من جهة ان جعل الأحكام إنما يكون على نحو القضية الحقيقية ، فكل موضوع خارجي من أفراد الموضوع يكون مخصوصا بحكم خاص فعند الشك لا مانع من استصحاب عدم جعل الحكم لهذا الموضوع الشخصي ، إلا انه قد عرفت عدم ترتب ثمرة عليه فراجع.

ثانيهما : ان ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية إنما هو في الأحكام البعثية والزجرية.

واما الأحكام الترخيصية كالإباحة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيها لعدم جريان استصحاب عدم الجعل فيها ، لأنها كانت مجعولة في صدر الإسلام ، اما بنحو العموم ، أو الخصوص ، تأسيساً ، أو إمضاءً.

الكلام حول جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية

المورد السادس : فيما ذهب إليه جماعة منهم الفاضل التوني (١) من التفصيل بين الأحكام الوضعية والتكليفية ، وعدم حجية الاستصحاب في الأحكام الوضعية ، وحجيته في الأحكام التكليفية.

فلا بد أولا من صرف عنان الكلام إلى تحقيق حال الوضع وانه حكم مستقل في الجعل اوامر انتزاعي ينتزع عما في موارده من الأحكام التكليفية.

وقبل الشروع في البحث لا بدَّ من التنبيه على امر ـ وهو ـ بيان الحكم الشرعي وحقيقته ، وملخص القول في ذلك ، ان الحكم بمعنى ، الثبوت ، والاستقرار ، والاستحكام ، ولذا ، يقال ان الله تعالى يحكم ما يشاء ، أي يثبت ما يشاء ، وقد يطلق الحكم على الأخبار ويقال فلان حكم بمجيء زيد من السفر ، والحكم الشرعي هو ما اثبته الشارع بما انه شارع.

وعليه فان قلنا ان الأحكام الوضعية كلها مجعولات شرعا ، اما بالاستقلال ، أو بالتبع ، يصح إطلاق الحكم على الحكم الوضعي ، وان قلنا ان بعضها غير قابل لذلك وان كان إثباته بيد الشارع لكن بما انه خالق لا بما انه شارع ، فلا يصح إطلاق الحكم الشرعي عليه بأي معنى فرض.

وبذلك يظهر أمور :

__________________

(١) الوافية في الأصول ص ٢٠٢ الناشر مجمع الفكر الإسلامي ـ قم.

الأول : ضعف ما أفاده المحقق الخراساني في الكفاية (١) بقوله إلا ان صحة تقسيمه بالبعض الآخر اليهما وصحة اطلاقه عليه بهذا المعنى مما لا يكاد ينكر انتهى.

الثاني : عدم تمامية ما أفاده المحقق القمي في القوانين (٢) من ان الحكم عبارة عما يتعلق بأفعال المكلفين من حيث الاقتضاء والتخيير : لما عرفت من انه اعم من ذلك.

الثالث : ان ما أفاده بعض المحققين (٣) من ان كل ما لم يكن حكما تكليفيا ، ولم يكن تكوينيا فهو حكم وضعي ، تام.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الوضع على أنحاء :

١ ـ ما يكون سابقا على التكليف ، كالسببية ، والشرطية ، والمانعية للأمر.

٢ ـ ما يكون لاحقا على التكليف ، كالجزئية ، والشرطية ، والقاطعية لمتعلق

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٣٩٩.

(٢) ذكر هذا التعريف المحقق القمي في القوانين في موردين : الأول : في المقدمة ص ٥ والثاني ص ٢٠٤ حيث قال : «بناء على تعريف الحكم : بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين ..».

(٣) كما يظهر من المحقق موسى التبريزي صاحب أوثق الوسائل (المتوفى سنة ١٣٠٥ ه‍. ق) راجع أوثق الوسائل ص ٤٧٤ (هل الأحكام الوضعية مستقلة بالجعل أو منتزعة) فإنه بعد استعراض الأقوال قال : «قال العلامة الطباطبائي في فوائده ... بل كلما استند إلى الشرع وكان غير الاقتضاء والتخيير فهو حكم وضعي» ثم قال : «وهو الحق الذي لا محيص عنه على القول بأن أحكام الوضع مجعولة».

التكليف.

٣ ـ ما لا يرتبط به ، كالزوجية ، والملكية ، والولاية ، وما شاكل.

اما القسم الأول : فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) (١) ان تلك الأحكام أمور انتزاعية تنتزع من الأمر بالشيء عنده أو عند عدمه ، مثلا تنتزع السببية للدلوك من الأمر بالصلاة عنده.

واستدل له بوجهين :

أحدهما : الوجدان : فانه لو فرض الإنسان نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي بالنسبة إلى عبده لوجد من نفسه صدق ما ذكرناه ، فانه إذا قال لعبده اكرم زيدا ان جاءك فهل يجد المولى من نفسه انه انشأ إنشاءين وجعل أمرين أحدهما وجوب إكرام زيد عند مجيئه والآخر كون مجيئه سببا لوجوب إكرامه أو ان الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله الأولى ولا إلى بيان مخالف لبيانه ، ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببية الدلوك ومانعية الحيض ولم يرد من الشارع إلا إنشاء طلب الصلاة عند الأول وطلب تركها عند الثاني ، وعلى الجملة الوجدان شاهد على ان السببية والمانعية في المثالين اعتباران منتزعان كالمسببية والمشروطية والممنوعية.

ثانيهما : البرهان على عدم كون ذلك مستقلا بالجعل ، بما حاصله : ان السببية للدلوك ليست ذاتية ، وإلا لزم تأثيره في الوجوب وان لم يجعل الشارع لان ذلك مقتضى ذاته كما في بقية الأسباب الخارجية ، مع انه لا يكون مجعولا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٠٢.

شرعيا على فرضه ولا نعقل ان يكون صفة اوجدها الشارع في السبب إذا الذات لا تتغير بالتشريع عما هي عليه من الوجدان أو الفقدان لان مسألة التشريع غير التكوين ومع التكوين يكون مكونا لا مشرعا.

وذهب المحقق الخراساني (١) إلى أنها أمور انتزاعية تنتزع ، من الخصوصيات التكوينية الموجودة في تلك الأشياء وليست مجعولة ولو بجعل منشأ انتزاعها.

واستند في ذلك على ما في الكفاية إلى أمرين :

١ ـ ما ذكرناه لعدم كون تلك الأمور انتزاعية من الأحكام التكليفية ، وهو ان فرض كونها سببا وشرطا تقدمها على تلك الأحكام ومن الواضح استحالة تأخر المتقدم بالذات.

وبالجملة : إنها متقدمة على التكليف فكيف يمكن انتزاعها منه.

٢ ـ ما ذكرناه لعدم كونها مستقلة في الجعل ، وهو ان الشيء إذا لم يكن فيه ربط خاص به يؤثر في المعلول لم يكن علة لاعتبار السنخية بين العلة والمعلول وإلا لزم صدور كل شيء عن كل شيء ، ولا معنى لجعل ما ليس علة علة ، وان كان فيه ذلك الربط فهو علة قبل جعله علة.

وان شئت قلت ، ان كل ما يكون دخيلا في التكليف لا بد وان يكون فيه خصوصية لاجلها يكون مؤثرا فيه لما يعتبر من السنخية بين العلة والمعلول وإلا لزم صدور كل شيء عن كل شيء وتلك الخصوصية أمر تكويني واقعي غير

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٠ ـ ٤٠١ بتصرف.

مجعول شرعي وهي منشأ انتزاع هذه العناوين فهي عناوين انتزاعية من تلك الخصوصيات.

أقول : ان ما يكون سابقا على التكليف على أقسام :

منها : ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كالاستطاعة التي توجب اتصاف الحج بالمصلحة اللزومية ، ونظيره في العرفيات المرض بالنسبة إلى شرب الدواء ، وهذا القسم لا ريب في انه ليس بمجعول شرعى ، بل إنما هو لخصوصية فيه نظير النار بالنسبة إلى الاحراق.

ومنها : ما يكون من اجزاء علة الجعل نظير تصور الجاعل وتصديقه الفائدة ، وما شاكل ، وهذا القسم أيضاً ليس بمجعول وهو واضح.

ومنها : ما يكون شرطا للمجعول أو مانعا عنه نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، وهذا القسم هو محل النزاع في المقام.

واما الاولان ، فخروجهما عن محل الكلام واضح ، ودخل هذا القسم في التكليف ليس واقعيا وإلا لزم انقلاب المجعول الشرعي إلى المجعول التكويني ، وأيضا لزم تخلف الحكم عن موضوعه ، بل دخله إنما يكون بجعل الشارع ولذا قلنا ان قيود الحكم بأجمعها داخلة في الموضوع ، وجزء له ، مثلا إذا قال يجب الحج ان استطاع ، تكون الاستطاعة جزء الموضوع ولا يعقل فعلية وجوب الحج قبل تحققها كما لا يعقل عدمها ، بعد تحققها ، واطلاق الشرط عليه ، إنما يكون بالمسامحة في التعبير ، وهذا الإطلاق صار سببا للاشتباه وتخيلوا ان المراد به ما هو من أجزاء العلة ، وعلى هذا فكما ان جعل وجوب الحج بيد الشارع ، وهو مجعول شرعي كذلك تضييق دائرة موضوعه أو توسعته بيده ، فدخل كل قيد في

الحكم الذي مرجعه إلى تقييد الموضوع وتضييقه إنما يكون بالجعل الشرعي.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام الشيخ الأعظم ، وما في الأمر الثاني الذي أفاده المحقق الخراساني.

واما الأمر الأول : الذي أفاده.

فيرد عليه ان المتقدم إنما هو السبب ، والشرط ، والمنتزع عن التكليف هو السببية ، والشرطية.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان شرطية شيء للحكم أو مانعيته عنه إنما تنتزع من الحكم المجعول على النحو الخاص وهذا لا ربط له بشرطيته للمصلحة أو الجعل فتدبر حتى لا يشتبه الأمر عليك.

واما القسم الثاني : فالحق فيه ما أفاده المحقق الخراساني (١) وتوضيحه انه لهذه الأمور أيضاً مراتب ثلاث :

الأولى : كونها اجزاء للمتصور حيث ان الصلاة مركبة من أمور متباينة ومقولات مختلفة وقبل ان يأمر المولى بها لا بد وان يتصور المولى مجموعها ، فكل واحد منها جزء للمتصور.

الثانية : كونها اجزاء وشرطا للمصلحة ، حيث ان أحكام الله تابعة للمصالح والمفاسد فمصلحة واحدة مترتبة على مجموع الأجزاء والشرائط ولازمها كون كل جزء جزءا لما يحصل تلك المصلحة.

__________________

(١) كفاية الأصول ٤٠١ ـ ٤٠٢.

الثالثة : كونها قيودا للمأمور به.

اما الاوليان ، فهما خارجتان عن محل الكلام.

واما الثالثة فلا إشكال في ان الجزئية ، والشرطية ، والقاطعية ، بهذا المعنى منتزعة من امر المولى بعدة أمور منها هذه القيود ، وعليه ، فكما ان اصل جعل الحكم بيد المولى كذلك اخذ شيء قيدا وهذا واضح.

واما القسم الثالث : فلا اشكال في إمكان انتزاع تلك الأحكام من الأحكام التكليفية ثبوتها ، كما لا اشكال في إمكان جعلها استقلالا ، نعم ، لا ينبغي ان يشك في عدم انتزاعها من الأحكام التكليفية وقوعا لما ستعرف ، وبهذا يجمع بين كلمات المحقق الخراساني (ره) حيث حكم أولا بامكان انتزاعها من الأحكام التكليفية وفي آخر تلك الصفحة يصرح بعدم صحة انتزاعها منها.

وكيف كان فقد استدل لاستقلالها في الجعل بوجوه ذكرها المحققان الخراساني (١) والنائيني (٢).

الأول : انه ما من حكم تكليفي إلا ويشترك فيه مورد آخر فاى حكم تكليفي يمكن انتزاع لزوم العقد منه فان حرمة التصرف فيما انتقل عنه يشترك فيها الغصب فلا يمكن ان تكون هي منشأً لانتزاع اللزوم وكذلك سائر الوضعيات.

وفيه : ان منشأ الانتزاع لو فرض كل واحد من الأحكام التكليفية كان ما

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٢ بتصرف.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٨٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٧٦ ـ ٧٧.

ذكره متينا ، ولكن القائل بهذا القول يلتزم بانتزاعها من مجموع الأحكام التكليفية في مواردها.

الثاني : ان مثل هذه الاعتبارات أي ، الملكية والزوجية ، وما شاكل ، متداولة عند من لم يلتزم بشرع ولا شريعة ، مع انه ليس عنده الزام وتكليف.

وفيه : ان منشأ انتزاع الملكية مثلا عندهم يمكن ان يكون هو الأحكام التكليفية الثابتة ببنائهم ، إذ لا ريب في انه عندهم يكون في موارد تلك الاعتبارات أحكام تكليفية مثلا لا يجوز عندهم التصرف في ماله بلا رضاه ووطء زوجته وهكذا.

الثالث : انه يلزم وقوع ما لم يقصد ، وعدم وقوع ما قصد.

وفيه : انه يقع ما قصد فان الملكية المقصودة بما انها امر انتزاعي على هذا المسلك فتحققها إنما يكون بهذا النحو ، أي بتحقق منشأ انتزاعها ، كما انه لا يلزم وقوع ما لم يقصد فان الحكم التكليفي بما انه منشأ الانتزاع فهو أيضاً مقصود تبعا.

الرابع : ان بعض الأحكام الوضعية غير قابل لانتزاعه من الحكم التكليفي كالحجية لأنه أي حكم تكليفي فرض يسقط بالعصيان ، والحجية لا تسقط.

وفيه : ان للحجية كسائر الأحكام الشرعية مقامين ، الجعل ، والمجعول ، وعلى فرض الانتزاعية ، ينتزع الأول من إنشاء وجوب تصديق العادل مثلا ، وينتزع الثاني من فعليته ، والذي يسقط بالعصيان هو الحكم الفعلي ، وبتبعه تسقط الحجية الفعلية : لأنه لا اثر لها كي تكون باقية ، والذي يكون باقيا هو

الأول ومنشأ انتزاعه أيضاً باق.

والحق في المقام يقتضي ان يقال انه لا يصح ثبوتا ، الالتزام بانها انتزاعية لوجوه :

منها : ان الوجدان شاهد على انها عناوين مستقلة في العرف وهم يعتبرون الملكية لشخص مع عدم الالتفات إلى الحكم التكليفي بل قد يستهجن ملاحظته : مثلا لو سأل عن زوجية امرأة من أي شخص.

وبالجملة : لا إشكال في انه عند العرف تلاحظ هذه الأحكام مستقلة.

ومنها : ان الأمر الانتزاعي هو ما يصح حمل العنوان المأخوذ منه على منشأ انتزاعه كحمل الفوق على ما انتزع عنه الفوقية ، وفي ما نحن فيه لا يصح ذلك مثلا لا يصح حمل الملك على الحكم التكليفي الموجود في مورده.

ومنها : ان الملكية تكون للصبي والمجنون ولا تكليف لهما ولا يعقل انتزاعها من جواز التصرف بعد البلوغ ، والإفاقة ، لان فعلية الأمر الانتزاعي تستدعي فعلية المنتزع عنه كما لا يعقل انتزاعها من جواز التصرف المتوجه إلى الولي فانه كيف يمكن انتزاع الملكية لشخص من جواز التصرف لآخر ، ثم انه أي حكم تكليفي ينتزع منه الولاية.

واما إثباتا فإن الأدلة إنما رتبت الأحكام التكليفية على هذه العناوين ، مثل" لا يحل مال امرئ ... الخ" و" الناس مسلطون على أموالهم" وقوله تعالى :

(وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)(١)(إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم)(٢) إلى غير ذلك من الأدلة.

وبالجملة فإن هذه الأدلة فرضت تلك العناوين ورتبت عليها الأحكام التكليفية.

فتحصل مما ذكرناه ان الأحكام الوضعية لا يمكن ثبوتا وإثباتا ان تكون منتزعة من الأحكام التكليفية ، بل هي مستقلة في الجعل.

بقي في المقام أمور :

الأمر الأول : ان المحقق الخراساني (ره) (٣) أورد على نفسه بان الملكية كيف جعلت من الاعتبارات مع أنها إحدى المقولات المحمولات بالضميمة ، وأجاب عنه بان الملك مشترك بين معان منها مقولة الجدة ، ومنها الإضافة الخاصة الإشرافية ، ومنها الإضافة المقولية.

توضيح المقام ان الموجودات الخارجية على قسمين :

قسم منها موجود لا في الموضوع ، وهي الجوهر.

وقسم منها إذا وجد وجد في الموضوع وهو العرض.

والثاني قد لا يحتاج في تحققه إلى شيء سوى موضوعه كالسواد ويعبر عنه

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة الأحزاب.

(٢) الآية ٦ من سورة المؤمنون.

(٣). كفاية الأصول ص ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

بالعرض المتأصل ، وقد يحتاج إلى شيء آخر.

والثاني أيضاً على قسمين : إذ قد لا يحتاج في تحققه إلى عرض آخر كالعلم ، حيث انه وان لا يوجد إلا مع عالم ومعلوم ، ولكن لا يتوقف تحققه على تحقق عرض آخر وقد يحتاج إليه ويكون ملازما مع تحقق عرض آخر كالأبوة.

والثاني أيضاً على نحوين : إذ ربما يكون العرضان متشابهين كالاخوة ، وربما يكونان مختلفين كالأبوّة والبنوة ، ومقولة الإضافة هي ما إذا كان العرض بنحو لا يوجد إلا ملازما لتحقق عرض آخر ، وإلا فمطلق التقابل بين شيئين وكل نسبة متكررة ليس من مقولة الإضافة.

هذا كله في الموجودات الخارجية واما الاعتباريات فهي خارجة عن هذه الأقسام.

وقد ظهر بما ذكرناه ما في كلام المحقق الخراساني من إطلاق الإضافة المقولية على الملكية ، حيث انها :

أولا من الاعتباريات وليست من المقولات.

وثانيا على فرض كونها منها لا تكون من مقولة الإضافة ، والمالكية وان كانت عنوانا اضافيا لكنها ليست من مقولة الإضافة : إذ فرق واضح بين العنوان الاضافي ومقولة الإضافة ، بل ربما يكون العنوان اضافيا ويستحيل كونه من مقولة الإضافة كالخالقية.

وثالثا ان اختصاص شيء بشيء بسبب التصرف ليس ملكا ، كما في الجل للفرس.

والحق ان الملكية بمعنى الإحاطة والسلطنة ، ولها مصاديق حقيقية واعتبارية ، وما هو من الأحكام الوضعية هي الملكية الاعتبارية وتمام الكلام في محله.

الأمر الثاني : ان جملة من الأمور وقع الكلام فيها ، أنها من الأحكام الوضعية ، أم من الأمور الواقعية ، أو الانتزاعية ، منها الطهارة والنجاسة ، وقد اشبعنا الكلام فيهما في أول مبحث البراءة وعرفت انهما من الأمور الاعتبارية ، والاحكام الوضعية ، ولا يعقل كونهما من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، ومنها الصحة والفساد وقد تقدم ما هو الحق فيهما في الجزء الأول ، من هذا الكتاب ومنها غير ذلك مما لا يهمنا التعرض له.

الاستصحاب في الأحكام الوضعية

الأمر الثالث : انه ، هل يجري فيها الاستصحاب ، أم لا؟ والكلام فيه في موارد :

المورد الأول ، في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية اللاحقة للتكليف.

وأفاد المحقق الخراساني (١) انه لا مانع من جريان الاستصحاب فيها من حيث هي ، لأنها وان لم تسم أحكاما ، إلا ان أمر وضعها ورفعها بيد الشارع فلا مانع من جريان الاستصحاب فيها ، نعم لا مجال لاستصحابها لاستصحاب أسبابها ومناشئ انتزاعها.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٤.

وأورد عليه المحقق الأصفهاني (١) بان ذلك يختص بما إذا جرى الأصل في منشأ الانتزاع فانه حاكم على الأصل في الأمر الانتزاعي ، واما إذا لم يجر فيه الأصل ، فلا مانع من جريان الأصل في الأمر الانتزاعي ، كما في استصحاب عدم جزئية المشكوك فيه ، مع عدم جريان الأصل في الأمر النفسي في الأكثر لمعارضته بعدم تعلق الأمر بالأقل بما هو.

أقول : يرد على المحقق الأصفهاني ان جريان الأصل المحكوم عند ابتلاء الحاكم بالمعارض ، إنما هو فيما إذا كان هناك حكمان أحدهما مترتب على الآخر كطهارة ما غسل بالماء المشكوك الطهارة ، حيث أنها مترتبة على طهارة الماء ، وكل منهما حكم مستقل ، واما إذا فرضنا كون أحدهما من شئون الآخر وتبعاته ومنتزعا عنه ، فلا معنى لجريان الأصل فيه بعد سقوط الأصل في المنشأ كما في المقام ، فان إذا أمر المولى بعدة أمور ، كما ينتزع عنوان الحاكمية له ، والكلية للمجموع ، كذلك ينتزع الجزئية لبعضها وهذه عناوين تبعية ، لا أنها اعتبارات ، أو وجودات مستقلة فمع سقوط الأصل في المنشأ لا مورد لجريان الأصل فيها.

ويرد على المحقق الخراساني ان الجزئية وما شاكل ، التي تكون مجعولة تبعا ومنتزعة عن الجعل الشرعي لا يجري فيها الأصل لكونها من اللوازم التكوينية للحكم الشرعي نظير عنوان الحاكمية والمحكوم عليه.

المورد الثاني : في الأحكام الوضعية السابقة على الحكم التكليفي ،

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ١٤٧.

والكلام فيه ، تارة يقع في الشرط والمانع ، وأخرى في الشرطية والمانعية.

اما الأول : فبناء على عدم كون دخلهما في التكليف واقعيا بل دخلهما جعلى لا مانع من استصحاب بقائهما أو بقاء عدمهما ، ويترتب على استصحاب بقاء الشرط وجود التكليف وعلى عدمه عدمه ، وعلى وجود المانع عدم التكليف ، وعلى عدمه وجوده.

واما بناءً على كون دخلهما واقعيا فلا يجري الاستصحاب لعدم ترتب الاثر عليه.

واما الثاني : فبناء على كون الشرطية والمانعية مجعولتين كما هو الحق يجري الاستصحاب فيهما ، لان المستصحب من الأمور المجعولة شرعا.

نعم ، لا يترتب على استصحابهما وجود التكليف وعدمه لانهما مترتبان على الشرط والمانع ، لا الشرطية والمانعية.

وبناء على عدم كونهما مجعولتين لا يجري لعدم كون المستصحب مجعولا شرعيا ولا موضوعا لاثر شرعي.

وبما ذكرناه ظهر الخلط في كلمات المحقق الخراساني حيث ان مورد كلامه استصحاب الشرطية ، وقوله والتكليف وان كان مترتبا عليه ، إنما يلائم استصحاب الشرط ، لأنه مترتب عليه ، لا على الشرطية.

المورد الثالث : في الأحكام الوضعية المستقلة في الجعل ، وقد مر الكلام فيها ، فإنها كسائر الأحكام الشرعية لجريان استصحاب عدم جعلها ، لا يجري فيها الاستصحاب.

تنبيهات الاستصحاب

ثم ان الشيخ الأعظم ذكر في المقام من التنبيهات اثني عشر ، وأضاف المحقق الخراساني إليها تنبيهين آخرين ، فصارت التنبيهات أربعة عشر ، وينبغي البحث فيها لما فيها من المباحث المهمة.

اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب

التنبيه الأول : قد طفحت كلمات القوم بأنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين فلا استصحاب مع الغفلة ، وملخص القول في المقام ، انه لا ينبغي الشك ، كما لا كلام في اعتبار فعليتهما في الاستصحاب : لأنهما مأخوذان موضوعا له وظاهر اخذ كل عنوان في الموضوع توقف فعلية الحكم على فعليته بجميع قيوده وهذا واضح لا كلام فيه.

وبناء عليه فقد وقع الكلام بين الأصحاب حيث فرقوا بين فرعين :

أحدهما : ما إذا تيقن بالحدث وغفل وصلى ثم شك بعد الصلاة في انه توضأ أم لا؟

ثانيهما : ما لو تيقن به وشك فيه وغفل وصلى ثم شك بعد الصلاة في الوضوء؟.

فانه في الفرع الأول حكموا بصحة صلاته : وفي الثاني ببطلانها ، وذكروا

في الفرق بينهما : انه في الفرع الأول لا يجري الاستصحاب قبل الصلاة لعدم فعلية اليقين والشك فيها لفرض الغفلة ، واما بعد الصلاة فتجرى قاعدة الفراغ وهي مقدمة على الاستصحاب ، واما في الفرع الثاني فالتكليف بالوضوء قد تنجز قبل الصلاة بالاستصحاب لفرض فعلية اليقين والشك ، فكان محدثا ولم يتوضأ بعده قطعا فلا مورد لقاعدة الفراغ.

وتحقيق القول : في المقام بالبحث في مقامات :

المقام الأول : هل هناك فرق في جريان الاستصحاب بين الفرعين أم لا؟

الحق عدم الفرق بينهما وانه لا يجري في شيء منهما : لأنه كما يعتبر في جريان الاستصحاب حدوثا فعلية اليقين والشك ، كذلك يعتبر في بقاء جريانه بقاء فعلية الوصفين كما هو الشأن في كل عنوان اخذ موضوعا للحكم فان بقاء الحكم يدور مدار بقاء فعلية الموضوع ، مثلا في لا تشرب الخمر كما يتوقف فعلية الحرمة على فعلية الخمرية كذلك يعتبر في بقاء فعليتها ، بقاء فعلية الخمرية ، فلو تبدلت إلى الخل ترتفع الحرمة ، والاستصحاب لا يكون مستثنى من هذه الكلية ، وعليه فكما لا يجري الاستصحاب في الفرع الأول كذلك لا يجري في الفرع الثاني قبل الصلاة لفرض ارتفاع اليقين والشك بحدوث الغفلة.

وما عن بعض المحققين (١) من ان الشك إذا صار فعليا وجرى الاستصحاب ،

__________________

(١) ذهب الأغلب إلى بطلان الاستصحاب مع الشك التقديري أو الغفلة عنه واعتبره البعض توهما إلا عن بعض المعاصرين حيث قال : «ويمكن ان يفصل في المقامين بين ما إذا صار الشك ذاهلا رأسا بحيث يقال في الشك الحاصل بعده انه شك حادث فيقال بجريان

فالشك يكون باقيا في خزانة النفس ، وان كان الشاك غير ملتفت إليه ولكن وجوده فعلي فيجري الاستصحاب.

غريب فان الشك واليقين والظن مقسمها الالتفات وهو قسيم الغفلة ، فإذا ، فرض الغفلة لا محالة يكون الشك منعدما.

المقام الثاني : في جريان قاعدة الفراغ فيهما وعدمه :

الظاهر عدم جريانها فيهما ، وذلك لان قاعدة الفراغ من الامارات النوعية لوقوع المشكوك فيه ، كما هو المستفاد من التعليل بالاذكرية.

وعليه فحيث لا امارية في الفرضين ولا يحتمل الاذكرية فلا تجري القاعدة في شيء منهما ، هذا على ما هو الحق من كونها من الامارات.

واما على تقدير كونها من الأصول التعبدية وان التعليل بالاذكرية في الأخبار ، من قبيل الحكمة لا العلة ، ولا يوجب تقييد إطلاق الأدلة ، فالظاهر جريانها فيهما ، اما في الفرع الأول فواضح.

واما في الفرع الثاني فغاية ما قيل في وجه عدم الجريان فيه :

انه يعتبر فيه كون الشك حادثا بعد العمل ، واما الشك الموجود قبله الباقي بعد العمل فهو مشمول لدليل الشك قبل التجاوز ولا بد من الاعتناء به.

__________________

القاعدة وعدم جريان الاستصحاب وبين ما إذا غفل عن شكه مع كونه موجودا في خزانة النّفس نظير عدم العلم بالعلم فيقال بعدم جريان القاعدة وجريان الاستصحاب».

ولكنه فاسد : فانه من جهة استحالة اعادة المعدوم ، يكون الشك بعد الصلاة غير الشك الموجود قبلها المنعدم بالغفلة فهو شك حادث بعد العمل فتجري فيه القاعدة.

مع انه لو سلم إمكان اعادة المعدوم لم يدل دليل على لزوم حدوث الشك بعد العمل ، بل الدليل دلَّ على انه لا بد من الاعتناء بالشك الموجود حال العمل ، وغير ذلك من انحاء الشك مشمول للدليل.

فالاظهر انه لا فرق بينهما من هذه الناحية أيضاً.

المقام الثالث : في ان استصحاب الحدث بعد الصلاة ، هل يترتب عليه فساد الصلاة لاقترانها حينئذ بالمانع ، كما عن الشيخ الأعظم (ره) (١) ، واختاره المحقق الخراساني (٢) ، غاية الأمر قاعدة الفراغ حاكمة عليه.

أم لا يترتب عليه ذلك.

الظاهر هو الثاني : لان المانعية الظاهرية المنتزعة من الأمر بالصلاة مقيدا بعدم المانع إنما ثبتت من حين جريان الاستصحاب ، واما قبله في حال الصلاة فلعدم جريان الاستصحاب لم تكن ثابتة ، ولم يكن الأمر بالصلاة حال وقوعها مقيدا بعدم المانع ، والشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٤٨ من الأمر الخامس.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٠٤.

جريان استصحاب مؤدى الأمارة

التنبيه الثاني : هل يعتبر في صحة الاستصحاب كون المستصحب محرزا بالوجدان ، أم يكفي فيها ، احرازه بالطرق والامارات ، بل بالأصول المحرزة ، بل وغير المحرزة أيضا وجوه واقوال :

والكلام يقع أولا في الامارات ثم في الأصول.

اما إذا كان محرزا بالأمارة ، فقد يقال انه لا يجري الاستصحاب ، لعدم اليقين بالثبوت ، بل ولا شك في البقاء ، إذ البقاء فرع الثبوت غير المحرز ، فيشك فيه على تقدير.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (١) فيها ، بما حاصله ان الاستصحاب ، إنما يكون شأنه اثبات البقاء على تقدير الحدوث ، وانه يكفي في جريانه الشك فيه على تقدير الثبوت ، ولا يعتبر فيه ثبوت المستصحب حدوثا ولا ترتب الاثر عليه ، فإذا ثبتت الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء ، فالدليل المتكفل للحدوث حجة على بقائه.

ثم انه أورد على نفسه بأنه قد اخذ اليقين بالثبوت والحدوث في التعبد ببقائه في الأخبار ، ولا يقين في المقام.

وأجاب عنه : بان اليقين اخذ مرآتا وطريقا لثبوته ، ليكون التعبد في بقائه

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

فإذا تعبد بالبقاء على فرض ثبوته يكون التعبد في بقاء ما فرض ثبوته.

ثم ذكر في هامش الكتاب (١) بان هذا على المختار من كون المجعول في باب الامارات التنجيز والتعذير ، واما على ما هو المشهور من كون مؤديات الامارات احكاما ظاهرية شرعية كما اشتهر ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم ، فالاستصحاب جار بلا اشكال للقطع بالحكم الظاهرى حدوثا والشك في ارتفاعه فيستصحب.

وفي كلامه مواقع للنظر :

الأول : فيما ذكره في الهامش ، فانه يرد عليه امران :

أحدهما : ان المشهور غير ملتزمين بذلك وقد مر في أول مبحث حجية الظن.

ثانيهما : انه لو سلم التزامهم بذلك ، لا يندفع الإشكال ، بما أفيد لان ما شك في بقائه إنما هو الحكم الواقعي الذي لم يكن متيقنا وما كان متيقنا إنما هو الحكم الظاهرى ، ولا شك في عدم بقائه.

توضيحه ان الأمارة إذا قامت على شيء يكون المتعبد به بمقدار ما دلت عليه الأمارة ، ولا يكون الثابت ازيد من ذلك ، مثلا لو اخبر العادل بزوجية امرأة لزيد إلى شهر يكون المتعبد به الزوجية إلى شهر وبعده لا تعبد من هذه الناحية بها قطعا ، وعليه ، فإذا قامت الأمارة على ثبوت شيء كالملكية بعد

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٥ هامش رقم ١.

المعاطاة ولم تدل على انها لازمة لا تنفسخ ، أو جائزة تنفسخ به ، فالمخبر عنه الملكية قبل الفسخ ، وهو المتعبد به وبعده لا تعبد بالملكية الظاهرية قطعا ، ولو شك في بقائها يكون المشكوك فيه بقاء الملكية الواقعية لاما تعبد به بعنوان اخبار العادل ، وبالجملة الحكم بثبوت المؤدى إنما هو بمقدار ما اخبر به العادل مثلا وبعده يرتفع قطعا ، والشك إنما هو في بقاء الواقع فالمتيقن غير المشكوك فيه.

الثاني : ما ذكره من ان المجعول في باب الامارات التنجيز والتعذير ، وقد مر في اوائل مباحث الظن انه لا يعقل ذلك.

الثالث : ما ذكره من ان دليل الاستصحاب متكفل لاثبات الملازمة بين الحدوث والبقاء ، فانه يرد عليه : انه ان قيل بعدم اخذ الشك في موضوع الاستصحاب لزم كونه من الامارات المثبتة للواقع ، وان اخذ فيه الشك في البقاء لا بد من إحراز الثبوت كي يتحقق الشك المذكور ، والمفروض على ما أفاده عدم إحراز الحدوث ، مع : ان المأخوذ في دليل الاستصحاب اليقين بالحدوث وحمله على الطريقية ، وان محط النظر في التعبد إلى جعل الملازمة بين الحدوث والبقاء خلاف الظاهر ، فما أفاده لا يفيد في رفع العويصة.

وقد يقال في رفع هذا المحذور بان اليقين المأخوذ في الموضوع أريد به مطلق الحجة لا الصفة الخاصة وإنما اخذ ذلك من جهة كونه اظهر أفراد الحجة ، كما ان اليقين الموجود في قوله ، بل انقضه بيقين آخر أريد به تلك قطعا ، ولذا لم يتوقف احد في انه إذا قامت الأمارة على خلاف الحالة السابقة يرفع اليد عنها ، ويعمل بالأمارة.

وبالجملة : اليقين المأخوذ موضوعا ، إنما هو من باب انه احد أفراد الطبيعي فالحكم في الحقيقية إنما هو على طبيعي الحجة لا على اليقين خاصة ، فلو ثبت حجية شيء ، يدخل تحت هذا الدليل فلو قامت الأمارة على شيء فشك فيه يجري الاستصحاب.

وفيه : ان ما ذكر من تعليق الحكم على فرد بما انه من أفراد الطبيعي ممكن ولا محذور فيه إلا انه لا ريب في كونه خلاف الظاهر لا يصار إليه بلا قرينة.

وما أفاده من القرينة ، غير تام : فان الأمارة إذا قامت على خلاف الحالة السابقة إنما يؤخذ بها وينقض اليقين السابق ، اما من جهة الحكومة أو التخصيص كل على مسلكه وليس من باب ان المراد باليقين مطلق الحجة.

والحق في الجواب ان يقال انه قد تقدم ان المجعول في باب الامارات هو الطريقية والوسطية ، والعلمية.

وبعبارة أخرى : اعتبر الشارع الطريق علما تعبدا ، وعليه بنينا على قيام الأمارة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، ففي المقام الأمارة لقيام الدليل على تتميم كشفها تقوم مقام اليقين ، فدليلها يوسع موضوع دليل الاستصحاب ويثبت فردا لليقين تعبدا ، فلو قامت على شيء وشك في بقائه يستصحب.

وبالجملة بعد جعلها علما واحرازا ، يترتب عليها جميع آثار العلم ، والاحراز ، كما يثبت بها آثار المعلوم والمحرز ، ومن جملة تلك الآثار ، عدم النقض بالشك ، كما ان منها نقض الشك به ، فتدبر ، هذا كله في الامارات.

الكلام حول جريان استصحاب مؤدى الأصل العملي

واما الأصول ، فما كان منها موضوعه باقيا في فرض الشك في الحكم ، لا يجري فيه الاستصحاب ، مثلا لو شك في بقاء عدالة زيد الثابتة في الزمان السابق من جهة احتمال فسقه ، لاحتمال الكذب ، وجرى فيها الاستصحاب ، ثم بعد ذلك في الزمان اللاحق ، شك في ذلك لاحتمال شرب الخمر فنفس الاستصحاب يكفي للحكم ببقاء العدالة لأنه ليس شكا آخر وموضوعا غير الموضوع الذي جرى فيه الاستصحاب ، فانه كان مشكوك العدالة عند احتمال الكذب ، ويكون كذلك عند احتمال شرب الخمر ، فالموضوع باق ويجرى فيه الاستصحاب.

وبالجملة الشك في بقاء العدالة الذي هو موضوع للاستصحاب لا يكون متبدلا بل بعد باق فلا حاجة إلى جريان استصحاب آخر ، لان موضوع الاستصحاب الأول باق وجدانا.

ويمكن ان يقال انه في امثال هذه الموارد لا تصل النوبة إلى إجراء استصحاب مؤدى الأصل ، لأنه يجري الاستصحاب في نفس منشأ الشك الثاني ، وهو عدم شرب الخمر في المثال وهو حاكم على استصحاب بقاء العدالة ، وموضوع هذا الأصل مغاير لموضوع الأصل الأول.

وان لم يكن موضوعه باقيا ، ولم يكن الأصل متكفلا لبيان استمرار الحكم في فرض عروض الشك له ، كما في الموارد التي يترتب على جريان الأصل فيها حكم لموضوع آخر ، كما لو غسل ثوب بالماء المحكوم بطهارته للاستصحاب أو

قاعدة الطهارة ، فحكم بطهارة الثوب ، ثم شك في بقاء طهارة الثوب لاحتمال ملاقاته للنجاسة.

فعن المحقق النائيني (١) التفصيل بين الأصل المحرز وغير المحرز ، واختيار جريان الاستصحاب في الأول ، دون الثاني ، من جهة ان الأصل المحرز يقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع بما انه مقتض للجرى العملي ، واليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب كذلك فلو ثبت شيء بالاستصحاب ثم شك في بقائه يستصحب بقاء مؤدى الاستصحاب.

واما الأصل غير المحرز كاصالة الطهارة فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه ، لان أصالة الطهارة مغياة بالعلم وتثبت الطهارة على المشكوك فيه بوصف انه مشكوك فيه فما دام بقاء الشك تكون أصالة الطهارة باقية فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

ويرد على ما أفاده في الأصل المحرز ان ظاهر اليقين المأخوذ في الاستصحاب دخله بنفسه فيه لا بما انه مقتض للجرى العملي ولا قرينة على صرف هذا الظهور.

ويرد على ما أفاده في الأصل غير المحرز ما تقدم من ان العلم المأخوذ في أصالة الطهارة قيدا وغاية يكون من قيود الموضوع ، وتدل على طهارة ما لم يعلم نجاسته ، واما لو احتمل عروض نجاسة أخرى عليه ، فقاعدة الطهارة لا تصلح لاثبات بقاء الطهارة.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٨٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٨٢ ... (التنبيه الثاني) بتصرف.

والحق ان يقال ان الاظهر جريان الاستصحاب في جميع موارد الأصول اعم من المحرز وغيره.

وذلك يظهر بعد بيان أمرين :

أحدهما : ان الاستصحاب الموضوعي مقدم على الاستصحاب الحكمى لحكومته عليه.

ثانيهما : انه لا يلزم ان يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، بل يجري الاستصحاب لو كان المستصحب عدم الحكم الشرعي أو كان اثره ذلك مثلا يستصحب حياة زيد لترتيب عدم الارث عليه.

وبعد هذا نقول ، اما الأصل غير المحرز كقاعدة الطهارة فما ثبت طهارته بقاعدة الطهارة ، وشك في النجاسة فاما ان يكون الشك ، هو الشك الأول فيكفيه أصالة الطهارة ، لانها باقية إلى يوم القيمة ، واما ان يكون من جهة احتمال عروض النجاسة أي نجاسة أخرى عليه فيجري استصحاب عدم عروضها ، ويحكم بعدم تنجسه ولا تصل النوبة إلى استصحاب الطهارة ، وان كان في نفسه جاريا من جهة انه يثبت بها طهارة ظاهرية ، وهي متيقنة وجدانا.

هذا إذا قلنا بان الطهارة امر عدمي والنجاسة امر وجودي.

وان قلنا انهما امران وجوديان ، فقد يتوهم ان هذا الأصل لا يترتب عليه الطهارة لعدم حجية مثبتاته.

لكنه توهم فاسد : فان الدليل المثبت للنجاسة بالملاقاة حجة في مثبتاته لكونه دليلا وامارة فبالملاقاة كما يثبت النجاسة يثبت عدم الطهارة فإذا جرى

استصحاب عدم الملاقاة ، يحكم بعدم تحقق عدم الطهارة ، ومن الواضح ان عدم عدم الطهارة هو الطهارة.

وكذلك الأصل المحرز كالاستصحاب فلو غسل الثوب بماء مستصحب الطهارة ، فانه لو شك في بقاء الطهارة لاحتمال ملاقاة الثوب مع نجاسة أخرى يجري استصحاب عدم الملاقاة وهو مقدم على استصحاب الطهارة.

أقسام استصحاب الكلي والشخصي

التنبيه الثالث : المستصحب اما ان يكون كليا ، واما ان يكون شخصيا ، ولكل منهما أقسام والكلام في هذا التنبيه إنما هو في البحث عن جريان الاستصحاب في أي قسم من اقسامهما وعدمه في الآخر ، وتحقيق الكلام فيه يستدعى تقديم أمور.

١ ـ ان الكلي الطبيعي على ما هو الحق موجود في الخارج في ضمن الأفراد حقيقة ، وعلى فرض التنزل فهو متحقق في ضمن الأفراد بالنظر المسامحي العرفي ، وهذا المقدار يكفي في صحة جريان الاستصحاب.

٢ ـ لا فرق في جريان الاستصحاب في الكلي بين ان يكون من الموجودات المتأصلة في عالم التكوين ، أو من قبيل الموجودات الاعتبارية كالملكية والزوجية وما شاكل ، أو من قبيل الأمور الانتزاعية.

٣ ـ ان العلم بوجود الفرد يساوق العلم بوجود الكلي ، كما ان الشك في

بقاء الفرد يساوق الشك في بقاء الكلي ، وعليه فإذا كان الاثر مترتبا على بقاء الكلي بلا دخل للخصوصيات الفردية فيه ، يجري الاستصحاب فيه في الجملة وسيمر عليك تفصيل القول فيه.

٤ ـ المستصحب الشخصي على أقسام ، إذ قد يكون معينا ، وقد يكون مرددا.

والترديد ربما يكون بين فردين المشكوك بقائه على كل تقدير ، كما لو شك في ان الداخل في الدار زيد أو عمرو ، مع العلم بدخول أحدهما ثم شك في بقاء الداخل كان هو زيدا أو عمروا.

وربما يكون بين فردين المعلوم ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر ، كما لو علم بأنه دخل في الدار زيد أو عمرو ، ثم علم بأنه ان كان زيدا فقد خرج وان كان عمروا فهو باق قطعا.

٥ ـ المستصحب الكلي أيضاً على أقسام :

الأول : ما لو شك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء الفرد المعين المعلوم تحققه.

الثاني : ما لو شك في بقائه من جهة الشك في ان الفرد الحادث المتحقق هو الفرد الطويل الباقي أو الفرد القصير المرتفع قطعا.

الثالث : ما لو كان منشأ الشك في بقائه الشك في حدوث فرد آخر غير ما علم تحققه وارتفاعه مقارنا لحدوثه أو لارتفاعه.

الرابع : ما لو شك في بقائه من جهة ان الفرد المعلوم تحققه تفصيلا ، قد

ارتفع ، ولكن بعد العلم بحدوثه ، علم اجمالا بثبوت فرد ، يحتمل ان يكون المعلوم بالاجمال منطبقا على المعلوم بالتفصيل ، فقد ارتفع ، ويحتمل ان يكون غيره فهو باق ، مثل ما لو علم بجنابته واغتساله منها ، ولكن رأى في ثوبه منيا يحتمل ان يكون من تلك الجنابة ، ويحتمل ان يكون من غيرها.

والفرق بينه وبين القسم الثاني واضح حيث ان هناك فرد واحد متحقق مردد بين القصير والطويل ، وفي المقام الفرد المعلوم تحققه تفصيلا ، قد ارتفع قطعا ، والمحتمل بقاء الكلي في ضمن فرد آخر.

والفرق بينه وبين القسم الثالث ، ان هناك لا علم غير العلم بحدوث فرد ، وفي المقام يعلم اجمالا بثبوت فرد غاية الأمر يحتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل ، فاقسام المستصحب الشخصي ثلاثة ، والكلى اربعة ، والمجموع سبعة.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فتنقيح القول فيها يستدعي البحث في كل قسم من الأقسام السبعة :

اما القسم الأول : فلا كلام ولا اشكال في جريان الاستصحاب فيه لأنه متيقن سابقا ومشكوك فيه لاحقا ، فهو المتيقن من مورد الاستصحاب.

وكذا القسم الثاني ، فانه في جريان الاستصحاب لا فرق بين كون المتيقن معلوما تفصيليا أم اجماليا ، وهل يترتب على الاستصحاب في هذا القسمين آثار الكلي ، أم لا وجهان سيأتي الكلام فيه في القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي.

استصحاب الفرد المردد

واما القسم الثالث : فقد اختار بعض المحققين (١) جريان الأصل فيه ، بدعوى ان الموجود وان كان مرددا عندنا ، ولكن لا يضر ذلك بتيقن وجوده سابقا ، فيستصحب بقاء ذلك المتيقن سابقا ، وأورد عليه بإيرادات :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني (٢) ، وحاصله : ان استصحاب بقاء الفرد المردد معناه بقاء الحادث على ما هو عليه من الترديد ، وهو يقتضي بقائه على كل تقدير ، ومن جملة تقاديره ، كونه هو الفرد الزائل ، وهو ينافي العلم بارتفاعه على ذلك التقدير.

وفيه : ان المتيقن هو الوجود الشخصي الخارجي المحتمل لانطباق عنوان كل واحد من الفردين عليه ، ولكن هذا الانطباق خارج عن المتيقن ، وبعد ما

__________________

(١) وهو اختيار السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب ج ١ ص ٧٣ ط. إسماعيليان ، قم حيث قال : «ثم ان التحقيق امكان استصحاب الفرد الواقعي المردد بين الفردي ، فلا حاجة إلى استصحاب القدر المشترك حتى يستشكل عليه بما ذكرنا ، وتردده بحسب علمنا لا يضر بتيقن وجوده سابقا والمفروض أن أثر القدر المشترك أثر لكل من الفردين فيمكن ترتيب ذلك الاثر باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا .. واعتبر ذلك من قبيل القسم الاول الذي ذكره الشيخ الأعظم في الفرائد (التنبيه الاول) : استصحاب الكلي الذي كان منشأ الشك فيه من جهة الشك في بقاء الفرد حيث حكم بجواز استصحابه راجع الفرائد ج ٢ ص ٦٣٨.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٢٦ وتعرض لذلك أيضا ص ٤١١ في التنبيه الثالث.

يقطع بارتفاع احد العنوانين على تقدير انطباقه على الموجود الخارجي يشك في بقاء ذلك الموجود فيستصحب بقائه ، وليس معنى ذلك بقائه على ما كان عليه حتى من حيث احتمال انطباق كل واحد من العنوانين عليه إذ ذلك غير مربوط بالمتيقن من حيث انه متيقن فهو من هذه الجهة لا مانع من ابقائه.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) أيضاً ، وهو ان الشك في بقاء الفرد المردد يرجع إلى الشك فيما هو الحادث ، وانه هو الزائل أو الباقي ، ولا يثبت بالاستصحاب ذلك ، فان شأنه اثبات بقاء ما حدث ، لا حدوث الباقي.

وفيه : ان هذا الشك بضميمة العلم بارتفاع أحدهما على تقدير حدوثه يكون منشأً لتحقق شك آخر وهو بقاء ما حدث ، فيجري فيه الاستصحاب فيثبت به بقاء ما حدث.

الثالث : ان الفرد مردد بين ما هو مقطوع البقاء ، وما هو مقطوع الارتفاع ، فلا شك في بقاء الفرد.

وفيه : ان القطع بالبقاء على تقدير ، والقطع بالارتفاع على تقدير آخر ، بضميمة عدم العلم باحد التقديرين بالخصوص يوجب الشك في البقاء.

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني (٢) وهو ان تيقن الوجود ان كان المراد منه ، تيقن ذلك مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة فليس ذلك إلا وجود الطبيعي.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١٢٨.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ١٦٤.

وان أريد تيقن احدى الخصوصيتين معينا ، فهو بين الفساد.

وان أريد تيقن احداهما المرددة واقعا فهي لعدم كون المردد ثابتا واقعا وعدم الثبوت له لا ماهية ولا وجودا ، يستحيل تعين العلم الجزئي بها.

وان أريد تيقن الوجود المعين في الواقع المردد عندنا ، فهو أيضاً واضح الفساد ، لان ذلك ينافي العلم إذ معنى العلم انكشاف المعلوم ، والتردد ينافي ذلك ، فمتعلق العلم لا يعقل ان يكون مرددا.

وفيه : انا نختار الشق الرابع ، والمراد من كون الشيء معينا واقعا ، مرددا عندنا ليس ترديده من الجهة التي تكون متعلقا لعلمنا ، بل نقول ان ذلك الموجود الشخصي الخارجي الذي هو مطابق احدى الخصوصيتين معلوم ، ولكن من جهة انطباق احداهما عليه مشكوك فيه فضم المشكوك فيه إلى المعلوم وخلطهما اوجب التردد ، وعليه فالمعلوم ليس وجود الكلي فقط بل هو مع احدى الخصوصيتين.

الخامس : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (١) وهو ان الاستصحاب لا يجري فيه لعدم الاثر ، فان ما هو موضوع الاثر هو الاشخاص باعيانها ، وهي ما بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، والعنوان الانتزاعي العرضي كعنوان أحدهما ، وما شاكل لا يكون موضوع الاثر كي يجري فيه الأصل.

وفيه : ان العنوان المشار إليه ان لوحظ بما هو مرآة ومشير إلى العنوان التفصيلي المعين الواقعي الذي هو موضوع الاثر ، كما فيما لو علم اجمالا

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ١١٤.

بثبوت أحدهما يرتفع هذا المحذور كما لا يخفى.

فتحصل ان الاظهر جريان استصحاب الفرد المردد.

القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم الرابع : وهو الأول من أقسام استصحاب الكلي ، ففي الكفاية (١) كان استصحابه كاستصحاب الفرد بلا كلام.

وتنقيح القول فيه يستدعى البحث في موردين :

الأول : في جريان الأصل فيه.

الثاني : في انه هل يكفي استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلي أم لا؟

اما الأول : فملخص القول فيه ان اليقين بوجود الفرد موجب لليقين بوجود الكلي ، كما ان الشك في بقائه ملازم للشك في بقائه ، ولكن جريان الاستصحاب فيه يتوقف على ترتب اثر عليه كما هو الشأن في كل مورد يجري الاستصحاب.

وعليه فإذا كان لكل من الفرد والكلى اثر كما في الجنابة والحدث فان لكل منهما اثرا يجري الاستصحاب فيهما ، ولو كان الاثر لاحدهما يجري فيه خاصة والظاهر انه إلى ذلك نظر صاحب الكفاية.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٦.

واما الثاني : فافاد المحقق الخراساني في التعليقة (١) ان استصحاب الكلي لترتيب آثار الفرد لا يصح لأنه مثبت.

واما استصحاب الفرد ، ففي كفايته لترتيب آثار الكلي ، وجهان :

من ان وجود الكلي عين وجود فرده ، فالتعبد بوجود الفرد تعبد بوجوده.

ومن ان الكلي والفرد بنظر العرف شيئان متغايران ، وان كانا بحسب الدقة متحدا فلا يكون التعبد بالفرد تعبدا بالكلى عندهم.

وفيه : ان وجود الكلي في عالم العين والخارج ، إنما يكون بعين وجود فرده ، واما في عالم التشريع ، وجعل الحكم فلهما وجودان متغايران لا مساس لاحدهما بالآخر ، إذ كل منهما موضوع لاثر غير اثر الآخر ، والاستصحاب ليس مفاده بقاء الفرد في عالم العين والخارج ، بل مفاده بقائه في عالم التشريع.

نعم ، يتم ما أفاده في استصحاب الحكم فان تحقق الطلب إنما يكون بتحقق الوجوب أو الاستحباب.

وبعبارة أخرى : التعبد بالفرد كالوجوب معناه ، جعله حقيقة ، وهو جعل للطلب كذلك.

__________________

(١) درر الفوائد للآخوند (الجديدة) ص ٣٣٧.

القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم الخامس : وهو الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، فالكلام فيه تارة يقع في وجود المقتضي ، وأخرى يقع في المانع :

اما الأول : فقد يقال ان اركان الاستصحاب وهي اليقين السابق والشك اللاحق غير متحققة فيه : وذلك لان الموجود هي الحصة من الطبيعي ، واما الكلي فليس موجودا بل هو امر انتزاعي فهو ليس متعلق اليقين والشك ، وإحدى الحصتين معلوم العدم ، والاخرى مشكوك الحدوث.

وفيه : أولا : ان الحق وجود الكلي الطبيعي في الخارج بعين وجود أفراده.

وثانيا : انه لو سلمنا عدم وجوده في الخارج بالدقة الفلسفية لا اشكال في وجوده في الخارج بالنظر العرفي ، والمفروض انه بهذا اللحاظ موضوع للحكم الشرعي وبهذه الجهة يصدق نقض اليقين بالشك عرفا ، وهذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب.

واما الثاني : فالمانع المتوهم عن جريانه امران :

أحدهما : ان وجود الطبيعي إنما هو بوجود أفراده واحد الفردين متيقن الارتفاع على تقدير الحدوث.

وبعبارة أخرى : متيقن العدم ، والآخر مشكوك الحدوث ، ومحكوم بحكم الشارع بعدم الحدوث ، والمفروض ان الطبيعي مردد بينهما فإذا حكم بعدمهما لا محالة يكون الكلي محكوما بالعدم.

وأجاب عن ذلك المحققون (١) ، بان العلم بعدم احد الفردين وحكم الشارع بعدم حدوث الفرد الآخر ، لا يوجبان الاخلال باركان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي ، فان اليقين السابق به والشك اللاحق فيه موجودان فيجري.

ولكن يمكن ان يقال ان نظر المستشكل ليس إلى انه باستصحاب عدم حدوث الفرد الطويل ، بما هو فرد بضميمة العلم بارتفاع الآخر ينتفى احتمال بقاء الكلي كي يرد عليه ما ذكر.

بل نظره إلى انه باستصحاب عدم حدوث هذا الوجود الذي هو وجود للكلى بما هو وجود له بضميمة العلم بعدم وجودات اخر ، يقطع بعدم بقاء الكلي ، فهذا الجواب لا يكفي.

بل الحق في الجواب ان يقال : ان الوجود الخارجي يضاف إلى الطبيعي من جهة ويقال ان هذا وجود الإنسان مثلا ويضاف إلى الخصوصية الخارجية من جهة أخرى ، ويقال انه وجود زيد لا عمرو.

لا اشكال في تغاير الجهتين وسره واضح ، فانه لو كان جهة اضافة الوجود إلى الخصوصيات عين جهة اضافته إلى الطبيعي لزم صدق ما في الخارج على غيره من الخارجيات ، مع انه لا يصح بالبداهة فإذا كانت الجهتان متغايرتين فما يكون مسبوقا بالعدم هو جهة الإضافة إلى الفرد.

واما الجهة المضافة إلى الكلي فهي مقطوعة الحدوث ، لا يجري فيها الأصل وليس هذا الوجود بخصوصه مورد الاثر كي يجري فيه الأصل ، وجهة اضافته إلى

__________________

(١) كما في كفاية الأصول ص ٤٠٦ / وظاهر المحقق الآشتياني في بحر الفوائد ج ٣ ص ٩٦.

الفرد مشكوك فيها فيستصحب عدمها ، فتدبر فانه دقيق.

الأمر الثاني : ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، فإذا جرى فيه الأصل وحكم بعدم حدوثه يحكم بعدم بقاء الكلي وارتفاعه لأنه من آثاره.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) باجوبة ثلاثة :

الأول ان الشك في بقاء الكلي ، ليس مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل لان ارتفاع الكلي لا يكون من آثار عدم حدوث الفرد الطويل بل هو من آثار ولوازم كون الحادث المتيقن ذاك المتيقن الارتفاع أو البقاء ، فانه لو كان الحادث هو القصير فقد ارتفع ولو كان هو الطويل فهو باق.

وفيه : ان ارتفاع الكلي وان لم يكن اثرا لعدم حدوث الفرد الطويل ولكن الارتفاع لم يؤخذ في موضوع دليل ، بل لو كان الشك في احد المستصحبين مسببا عن الشك في حدوث الآخر لا يجري الاستصحاب في المسبب ، وفي المقام لا اشكال في ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل.

وبالجملة الارتفاع وان لم يكن اثرا لعدم حدوث الفرد الطويل ولكن الشك في بقاء الكلي وارتفاعه مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل والمفيد لعدم جريان الاستصحاب في المسبب هو الثاني.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٦ بتصرف.

الجواب الثاني : ان بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه لا انه من لوازمه.

وفيه : ان نظر المستشكل ليس إلى ان بقاء الكلي مسبب عن بقاء الفرد الطويل حتى يجاب بان بقائه عين بقائه ، بل إلى ان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، لأنه لو كان هو الحادث لا محالة يكون باقيا ، ومن الواضح ان البقاء غير الحدوث وجودا ، فلا يرد عليه ان السببية والمسببية تتصوران في الوجودين المترتبين ، لا فيما إذا كان موجودين بوجود واحد مع انه لو كان عينه فالاشكال اوضح.

الجواب الثالث : هو متين جدا ، وهو ان الأصل في السبب يقدم على الأصل في المسبب ، إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب النجس بالماء المستصحب طهارته حيث ان طهارة الثوب من آثار طهارة الماء الشرعية ، واما إذا كانت السببية عقلية ، والمسبب من اللوازم العقلية ، للسبب ، فلا حكومة هناك إذ اللوازم العقلية لا تترتب على الاستصحاب كي يرتفع الشك ، والمقام من قبيل الثاني : فان بقاء الكلي من اللوازم العقلية لحدوث الفرد الطويل.

الجواب الرابع : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان الأصل كما يجري في عدم حدوث الفرد الطويل يجري في عدم حدوث الفرد القصير فحيث انه يعلم اجمالا بحدوث أحدهما فيتعارضان ويتساقطان فيجري الأصل في المسبب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٩٢ (التنبيه الثالث) عند قوله : «ولو سلمنا كون الترتب شرعيا ايضا ...».

ودعوى عدم جريان أصالة عدم حدوث الفرد القصير بعد العلم بارتفاعه.

مندفعة بان الميزان في تعارض الاصلين ملاحظة حال الحدوث ولا اشكال في تعارضهما عند حدوث أحدهما ، وقد مر انه عند انعدام احد الطرفين أو خروجه عن محل الابتلاء لا يجري الأصل في الطرف الآخر ، ان كان ذلك بعد التعارض والتساقط.

ولكن هذا الجواب يتم في الموارد التي يجري الأصل في الفرد القصير كما لو علم بالحدث المردد بين البول والمني.

واما في المورد الذي لا يجري الأصل في الفرد القصير لعدم الاثر كما لو علم بان يده تنجست اما بالبول ، أو الدم فغسلها مرة واحدة ، فلا محالة يشك في بقاء النجاسة ، إذ لو كان الملاقى هو البول ، فهي باقية ، ولو كان هو الدم فقد ارتفعت : فان اثر الملاقاة مع الدم لزوم الغسل مرة واحدة ، وهو معلوم ، فلا يجري الأصل في عدمه ، فيجري في الملاقاة مع البول.

الشبهة العبائية المعروفة

وفي المقام اشكال ثالث : أورده بعض الاكابر (١) وهو ان لازم جريان

__________________

(١) المشهور والمتداول في عدّة كتب أن هذا الاشكال الذي عُرف بالشبهة العبائية للسيد اسماعيل الصدر أورده في النجف الاشرف في زمن الآخوند الخراساني ، وبعدها صار موردا للنقاش.

الاستصحاب في هذا القسم ، اما الالتزام بان الملاقى لأحد اطراف الشبهة نجس ، أو الالتزام بمنجسية الملاقاة مع الطاهر ، وكلاهما كما ترى.

توضيحه : انه لو علم اجمالا بنجاسة احد الطرفين بالعباءة ، اما الأعلى منها ، أو الاسفل ، فغسل منها الجانب المعين يحتمل كونه الجانب المتنجس ، ثم لاقى بدن المصلى مع الرطوبة كلا من جانبيها ، مقتضى استصحاب النجاسة ـ وهو استصحاب الكلي ـ نجاسة ملاقيهما ، وهو بدن المصلي ، مع انه لاقى مع احد طرفي العلم الإجمالي ، وطاهر قطعي ، وشيء منهما لا يكون منجسا.

وقد اجيب عنه باجوبة.

منها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان استصحاب كلي النجاسة في العباء لا يثبت نجاسة ملاقيه لان نجاسة الملاقى تتوقف على أمرين :

أحدهما الملاقاة ، ثانيهما نجاسة الملاقي ، واستصحاب النجاسة لا يثبت ان بدن المصلي لاقى مع النجس. ونظير ذلك استصحاب بقاء الماء في الحوض ، حيث انه لا يثبت طهارة الشيء النجس الموجود في الحوض.

وفيه : أولا النقض بما إذا احتمل غسل احد الجانبين : فانه إذا جرى استصحاب النجاسة لازم ما أفيد عدم الحكم بنجاسة الملاقي للشك في الملاقاة مع النجس ، والاستصحاب ، لا يثبت ذلك.

وثانيا ، بالحل : وهو ان الموضوع مركب من أمرين ، أحدهما الملاقاة وهو

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٩٤ ـ ٩٥.

محرز بالوجدان ، والآخر نجاسة الملاقي وهو محرز بالتعبد ، والاصل ، فبضم الأصل إلى الوجدان يتم الموضوع.

وما أفاده من النظير غير مربوط بالمقام ، فان هناك احد الجزءين ، وهو الغسل بالماء ، لا يكون محرزا لا بالوجدان ولا بالتعبد.

ونظير المقام ما لو شك في طهارة الماء فغسل به شيء نجس فانه يجري استصحاب الطهارة ويترتب على الغسل به طهارة ما غسل به.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) أيضاً وهو ان محل الكلام في استصحاب الكلي هو ما إذا كان المتيقن السابق بهويته وحقيقته ووجوده ، مرددا بين ما هو مقطوع الزوال وغيره.

واما إذا كان الترديد في محله وموضوعه مع تعينه وتشخصه ومعلوميته ، فلا يكون من استصحاب الكلي ، بل يكون من قبيل استصحاب الفرد المردد ، ومثل لذلك بما إذا علم وجود الحيوان الخاص في الدار ، وتردد محله بين الجانب الشرقي أو الغربي ، ثم انهدم الجانب الغربي ، واحتمل ان يكون الحيوان في ذلك الطرف وتلف بانهدامه ، ثم قال ان مسألتنا من هذا القبيل فانه علم باصابة العباءة نجاسة خاصة وتردد بين كونها في الطرف الاسفل أو الأعلى ثم طهر طرفها الاسفل.

وفيه : ان النجاسة من قبيل الاعراض أي متقومة بالمحل وليست من قبيل الجواهر كي لا تختلف حقيقتها بتعدد المحل ولا يكون محذور في انتقالها إلى محل

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٢١.

آخر ، بل هي متقومة بالمحل ، وتتعدد بتعدده فالترديد في المحل في المقام ، موجب للترديد في الهوية والوجود ، ولا يكون من قبيل الترديد في الموضوع.

ومنها : ما أفاده بعض (١) بأنه إذا غسل الطرف الأعلى من العباءة فعلم تفصيلا طهارته ، فحيث يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك الطرف فيحتمل ان يكون اليقين بالنجاسة ، منتقضا باليقين بالطهارة ، ومعه يكون التمسك بعموم لا تنقض اليقين بالشك تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية لاحتمال ان يكون من نقض اليقين باليقين ، ففي المثال المذكور لا يجري استصحاب النجاسة.

وفيه : أولا النقض بسائر موارد استصحاب الكلي فانه في مثال الحدث المردد بين الاصغر والاكبر ، لو توضأ يعلم بان الحدث لو كان هو الاصغر فقد ارتفع يقينا فاستصحاب بقاء الحدث يحتمل ان يكون من قبيل نقض اليقين باليقين ، بل لازمه عدم جريان الاستصحاب في كثير من الموارد ، فانه لو شك في حياة زيد بما انه يعلم اجمالا بموت شخص في البلد اجمالا ويحتمل انطباقه على زيد ، فلا يجري الاستصحاب.

وثانيا بالحل : وهو انه ليس لليقين والشك عالم وراء الوجدان ، ومن

__________________

(١) ذكر غير واحد من الاعلام عدم جريان الاستصحاب في التدريجيات لانه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وفي بحث الشبهة العبائية قد يظهر ذلك من المحقق النائيني حيث اختار عدم جريان الاستصحاب لعدم وجود الاثر الشرعي إذ المفروض أن أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ..

الواضح انه متيقن بنجاسة احد الطرفين ، وشاك ، في انه ارتفعت تلك النجاسة ، أم بعدها باقية ولا يحتمل التيقن بالارتفاع.

وان شئت قلت : ان المعلوم بالاجمال غير المعلوم بالتفصيل فان المعلوم بالاجمال نجاسة احد الطرفين والمعلوم بالتفصيل طهارة الطرف المعين.

ومنها : ما هو الحق ، وهو ان طهارة ملاقي احد اطراف العلم الإجمالي ليست مورد دليل خاص بل إنما يحكم بها لأجل الأصل.

فإذا فرضنا انه في مورد كان اصل حاكم آخر يحكم لاجله بالنجاسة يلتزم به ، ففي المقام إذا لاقى بدن المصلى الطرف الذي لم يغسل لا يحكم بنجاسته لاصالة الطهارة ولكنه بعد الملاقاة مع الطرف الطاهر يحصل له العلم بالملاقاة مع مستصحب النجاسة فيحكم بنجاسته وهذا لا يلزم منه الحكم بمنجسية الطاهر ، بل الملاقاة معه اوجبت العلم بالملاقاة مع مستصحب النجاسة ، فالمتحصّل ان الإشكال استغراب محض.

فتحصل انه يجري الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

الكلام حول جريان القسم الثاني في الأحكام

بقي أمور لا بدَّ من التعرض لها :

الأول : ربما يقال انها على فرض جريان الاستصحاب في الكلي في المقام يقع التعارض بينه وبين استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل : للعلم بأنه اما

حدث الفرد الطويل ، أولا يكون الكلي باقيا.

ولكن يرده ان عدم جريان الاستصحاب في اطراف العلم الإجمالي إنما يكون فيما إذا لزم من جريانهما مخالفة عملية ، وفي المقام حيث لا يلزم ذلك كما لا يخفى فيجريان معا.

الثاني : ان ما ذكرناه من جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام الكلي إنما هو في الموضوعات.

واما في الأحكام كما لو علم باستحباب الدعاء عند رؤية الهلال أو وجوبه ، ثم وقعت المزاحمة بينه وبين مطلوب آخر ، لو كان الدعاء واجبا يقدم عليه ، ولو كان مستحبا يكون هو مقدما : فانه بعد المزاحمة يشك في ان الحادث هو الفرد الزائل أو الباقي ، وبالتبع يشك في بقاء الطلب الجامع بينهما ، فالظاهر عدم جريانه : فانه في الموضوعات قلنا ان استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل لا يصلح رافعا للشك في بقاء الكلي كما مر.

واما في الأحكام فحيث ان جعل الجامع إنما يكون بجعل فرده وهو الوجوب أو الاستحباب ، فلو علم بعدم وجود الاستحباب واستصحب عدم وجود الوجوب لا شك في عدم بقاء الطلب الجامع ، وهو واضح ، نعم إذا تعارض الأصل الجاري فيه مع الجاري في الآخر وتساقطا يجري استصحاب الجامع ، ولكن الظاهر عدم جريان الأصل في الطرف الآخر في شيء من الموارد لعدم الاثر كما لا يخفى.

الثالث : ان استصحاب الكلي إنما يجري إذا لم يثبت بالاصل ان الحادث هو القصير كما لو علم بخروج رطوبة مرددة بين البول والمني بعد الاستبراء ،

وكان خروجها قبل ان يتوضأ : فانه في هذه الصورة يجري استصحاب بقاء الحدث الاصغر ، وعدم حدوث الحدث الاكبر ، ويترتب عليهما ارتفاع الحدث بالوضوء ، واستصحاب الحدث الجامع بينهما ، لا يجري لما تقدم في التنبيه الثاني من ان استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل في الأحكام. ومنها : الحدث ، يترتب عليه ارتفاع الكلي.

وبعبارة أخرى : ان كل مكلف ، بمقتضى الآية الشريفة (إذا قمتم إلى الصلاة الخ) يجب عليه الوضوء للصلاة ، خرج عنها المحدث بالحدث الاكبر ، فإذا جرى استصحاب عدم كونه محدثا بالحدث الاكبر ، يدخل تحت العام المزبور.

القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم السادس : وهو القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.

وصورته : ما لو علم بحدوث فرد وارتفاعه ، إلا انه يحتمل ان يكون فرد آخر حادثا مقارنا لحدوث هذا الفرد أو مقارنا لارتفاعه ، فيكون الكلي باقيا ، وهذا يتصور على وجوه : إذ الفرد المحتمل ثبوته وبقائه :

تارة يكون من مراتب ما علم تحققه كالسواد الضعيف المحتمل قيامه مقام السواد الشديد.

وأخرى يكون مبائنا معه ، والثاني على وجهين : إذ الفرد المحتمل المباين :

١ ـ قد يحتمل وجوده مع الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه.

٢ ـ وقد يحتمل وجوده مقارنا لارتفاعه.

اما الوجه الأول : كما لو علم بالسواد الشديد وارتفاعه واحتمال بقاء السواد الضعيف ، فلا اشكال في جريان الاستصحاب فيه ، لان الشدة ، والضعف من مراتب وجود شيء واحد ، بل يستصحب بقاء ذلك الوجود الشخصي ويقال انه كان موجودا قطعا يشك في بقائه فيستصحب.

وقد يتوهم انه من هذا القبيل الوجوب والاستحباب بتخيل ان الاستحباب من مراتب وجود الطلب الموجود ، مع الوجوب ، وعليه فلو علم بوجوب شيء وارتفاعه واحتمل استحبابه يجري استصحاب بقاء الطلب.

وأجاب المحقق الخراساني (١) عن ذلك ، بان الوجوب والاستحباب بحسب الدقة ، وان كانا كذلك أي هما مرتبتان من وجود واحد ، إلا انهما عند العرف متباينان فلا يجري فيهما الاستصحاب.

ويتوجه عليه : ان الارادة والحب وان كانا كذلك ، فإن من كان يحب شيئا شديدا مثلا ثم نقصت محبته وصارت ضعيفة ، لا يقال انه قد زالت المحبة ، وحدث فرد آخر بل يقال انه نقصت محبته ، إلا انه لا يجري الاستصحاب فيهما لعدم كونهما من الأحكام ، ولا من قبيل الموضوع ذي الحكم.

واما الحكم أي إنشاء الوجوب والاستحباب ، فهما متغايران عرفا وبالدقة العقلية.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٧ (فإنه يقال).

فتحصل ان ما يكون واحدا بالدقة واحد عرفا ، إلا انه لا يجري فيه الأصل لعدم الاثر ، وما لا يكون واحدا عرفا لا يكون كذلك بالدقة.

واما الوجه الثاني : فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) (١) جريان الاستصحاب فيه نظرا إلى ان العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج واسطة في ثبوت العلم بوجود الكلي خارجا ، وملازم معه ، وبديهي ان نسبة وجود الكلي إلى أفراده على حد سواء ، فبارتفاع الفرد الخاص ، حيث انه يحتمل مقارنته مع فرد آخر ، يشك في بقاء الكلي فيجري فيه الاستصحاب لعدم اختلال شيء من ركني الاستصحاب ، من اليقين السابق والشك اللاحق.

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) بان نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الابناء لا نسبة أب واحد إلى الابناء فالموجود في ضمن الأفراد هو الحصص دون الكلي الطبيعي ، وعليه ، فما علم وجوده بوجود الفرد هو حصة خاصة ، وهي متيقنة الارتفاع ، والمشكوك بقائه حصة أخرى وهي مشكوكة الحدوث.

وفيه : ان الحق وجود الكلي الطبيعي في الخارج ، وان نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الاب الواحد إلى الابناء كما اعترف هو (قدِّس سره) (٣) في غير موضع

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٠ ـ ٦٤١.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٢٥ بتصرف.

(٣) اعتبر المحقق النائيني ان الكلي الطبيعي له وجود خارجي عند العرف وهذا ما يستفاد من كلامه في عدّة موارد منها قوله : «ثم ان استصحاب الكلي على القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج كما هو المختار عندنا على ما بيناه في بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو الافراد في غاية الوضوح» إلى ان قال في رد اشكال : «إذ معروض التشخيصات

بذلك.

ولكن مع ذلك لا يجري الاستصحاب في هذا القسم ، وذلك لان متعلق الشك ليس ، هو الطبيعي من حيث هو بل من حيث وجوده ، ولا اشكال في ان وجودات الطبيعة متباينة ، فإن وجود زيد مثلا غير وجود عمرو حتى من الجهة المضافة إلى الإنسان ، وليس مجموع الوجودات وجودا واحدا شخصيا ، فما هو المتيقن من الوجودات ، مرتفع قطعا ، وما هو مشكوك البقاء ، مشكوك الحدوث.

مع ان الالتزام بجريان الاستصحاب في هذا القسم مستلزم لتأسيس فقه جديد ، فان من علم بنجاسة يده اليمنى واحتمل اصابة النجاسة أيضاً بيده اليسرى ثم غسل يده اليمنى ، لا بدَّ من البناء على استصحاب بقاء نجاسة بدنه فلا يجوز له الدخول في الصلاة ، وكذا في باب الدين لو علم بانه مديون لزيد

__________________

الخارجية والوجود هو نفس الطبيعة الكلية وهي ما لم تتشخص لم توجد كما انها ما لم توجد لم تتشخص وعنوان الحصة انما ينتزع بعد التشخص والتقيد الّذي هو في مرتبة الوجود والفرق بين الطبيعة والحصة انما هو لحاظ الشيء بما هو موجود أو بما هو معروض الوجود وإلا فلا معنى لكون الموجود هي الحصة دون الطبيعة فظهر ان جريان الاستصحاب في الكلي في الجملة مما لا ينبغي الارتياب فيه» ثم قال : «والنزاع في وجود الكلي الطبيعي وعدمه عقلي فلو فرضنا عدم وجود الكلي الطبيعي في الخارج بالنظر الدّقيق العقلي لكنه موجود فيه بالنظر المسامحي العرفي المصحح لصدق نقض اليقين بالشك عرفا وهذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب قطعا» راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ٣٩١ من (التنبيه الثالث) وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ٨٨ ـ ٨٩.

دينارين ولكن يحتمل ان يكون دينه اكثر فإذا ادى دينارين يجري استصحاب بقاء الدَّين.

وكذا في باب الارث فلو كان لشخص ولد ومات قبل ابيه ثم مات ابوه ويحتمل ان يكون له ابن آخر في بلد آخر فانه على هذا يجري استصحاب بقاء الابن له ولا ترثه الطبقة الثانية وهكذا في سائر الأبواب.

وقد استدل صاحب الدرر (ره) (١) على جريانه في القسم الثالث مطلقا ، بأنه لو جعلت الطبيعة بنحو صرف الوجود موضوعا للحكم لا يرتفع هذا المعنى إلا بانعدام تمام الأفراد في زمان من الأزمنة ، لأنه في مقابل العدم المطلق ، ولا يصدق هذا العدم إلا بعد انعدام جميع الوجودات ، وعليه فلو شك في حدوث فرد آخر اما مقارنا لحدوث الفرد المعلوم ، أو مقارنا لارتفاعه ، فيجري استصحاب الجامع بلحاظ صرف الوجود ، إذ على فرض تحقق ذلك الفرد ، يكون الكلي بهذه الملاحظة باقيا لا حادثا فالشك فيه شك في البقاء.

وفيه : ان صرف الوجود من حيث هو بلا اضافة إلى ماهية من الماهيات ينحصر مصداقه في واجب الوجود ، وصرف وجود طبيعي من الطبيعيات ، ان كان لوجوده تحقق سوى تحقق أفراده وكان معلولا له كان ما ذكره تاما ، ولكن بما ان وجوده بعين وجودها ، فيعود المحذور الذي ذكرناه.

وللفاضل التوني (٢) في المقام كلام ، وحاصله : ان بناء المشهور على إجراء

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ١٧٥.

(٢) الوافية في الأصول ص ٢١٠.

أصالة عدم التذكية عند الشك فيها ، ويثبتون بها نجاسة الحيوان ، وحرمة لحمه ، مع ان هذا الاستصحاب من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام الكلي : وذلك لأنه لا ريب في ان موضوع الحكم ليس مطلق عدم التذكية ، إذ هو مقارن للحياة ، ولا يترتب عليه الحكمان ، بل الموضوع ، عدم التذكية في حال خروج الروح ، وعدم التذكية في تلك الحالة ليس له حالة سابقة : لان خروج الروح ، اما ان يكون عن تذكية ، واما ان لا يكون فلم يتحقق في الخارج زمان كان فيه زهوق الروح ، ولم يكن معه التذكية ، وما له حالة سابقة إنما هو عدم التذكية في حال الحياة المرتفع بزهوق الروح قطعا ، لتقومه بحياة الحيوان ، واستصحاب عدم التذكية على الوجه الكلي ، إنما يكون من قبيل استصحاب بقاء الضاحك الذي في ضمن زيد بعد القطع بخروجه ، لاحتمال دخول عمرو في الدار بعد خروج زيد ، وعليه فلا يجري هذا الأصل.

وفيه : ان عدم التذكية لا يتبدل ، فان تبدل العدم إنما يكون بالوجود ، وهو غير ثابت ، والمتبدل إنما هو مقارناته ، غاية الأمر هو بنفسه ليس موضوع الحكم ، بل هو مع زهوق الروح ، فانه إذا كان احد القيدين محرزا بالوجدان ، والآخر جرى فيه الأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع ويترتب عليه الحكم ، فهذا ليس من استصحاب الكلي فضلا عن كونه من قبيل القسم الثالث منه.

القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي

واما القسم السابع : وهو الرابع من أقسام استصحاب الكلي.

وصورته : انه لو علم بوجود فرد تفصيلا ، وعلم بارتفاع ذلك الفرد ، ثم

علم اجمالا بوجود فرد يحتمل انطباقه على متيقن الحدوث ، والارتفاع ، ويحتمل ان يكون غيره فيكون باقيا ، نظير ما إذا علم بوجود زيد في الدار ثم سمع صوتا من الدار يحتمل ان يكون هو من زيد ، ويحتمل ان يكون من غيره وعلم بخروج زيد ، ومثاله الفقهي ما لو رأى في ثوبه منيا وعلم انه منه ، ولكن لم يعلم انه من جنابة سابقة اغتسل منها أو جنابة أخرى لم يغتسل منها.

وفي المثال أقوال : الأول : عدم وجوب الغسل عليه ، الثاني : وجوبه ، الثالث : ما اختاره المحقق الهمداني (ره) (١) ، ولعله الظاهر من كلمات صاحب الجواهر (ره) (٢) ، وهو التفصيل بين ما لو علم بكونه من غير الجنابة التي اغتسل منها لكن شك في حدوثه قبل الغسل أو بعده ، وبين ما لو احتمل كونه من الجنابة التي اغتسل منها فاختار وجوب الغسل في الأول ، دون الثاني.

وقد استدل للاخير : بأنه في الصورة الأولى يعارض استصحاب الطهارة المتيقنة الحاصلة بالغسل ، استصحاب الحدث المتيقن عند خروج المنى الموجود في الثوب فيتساقطان ، ويرجع إلى قاعدة الاشتغال القاضية بوجوب تحصيل القطع بالطهارة للصلاة ، وفي الصورة الثانية بما ان الرؤية لا توجب العلم بثبوت تكليف وراء ما علم سقوطه ، فلا محالة يكون الشك في التكليف فيها موردا للبراءة.

__________________

(١) فوائد الرضوية للآغا رضا الهمداني ج ٢ ص ٩٦ ـ ٩٧ ، الناشر مكتبة جعفري التبريزي ، طهران (١٣٧٧ ه‍. ق)

(٢) راجع جواهر الكلام ج ٣ ص ١٦ ـ ١٧ فقد يظهر لك ذلك.

وفيه : انه في الصورة الأولى بما انه يحتمل تعاقب الجنابتين وعلى فرضه لا توجب الجنابة الثانية تكليفا آخر ، بل يكون وجودها كعدمها فتكون بعينها الصورة الثانية من هذه الجهة فلا بد من الالتزام بجريان البراءة فيها أيضاً ، ولعله يكون مدرك القول بعدم الوجوب مطلقا وستعرف ضعفه.

وتحقيق القول فيه ان استصحاب الحدث المتيقن وجوده حين خروج المنى الموجود في الثوب الذي هو القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي يجري في نفسه وقد استدل لعدم جريانه بوجوه :

الأول : عدم اتصال زمان الشك باليقين ، إذ لو رجعنا القهقرى من زمان الشك إلى زمان العلم بالطهارة للاغتسال لم نعثر على زمان يعلم بوجود المشكوك فيه ، مع ان المعتبر في جريانه اتصال زمان الشك باليقين لقوله" من كان على يقين فشك".

وفيه : ان هذا المعنى من الاتصال غير معتبر في الاستصحاب ، بل المعتبر فيه اليقين السابق والشك اللاحق وعدم توسط اليقين بالخلاف ، وفي المقام الحدث معلوم سابقا ومشكوك فيه لاحقا ، وليس بينهما العلم بالطهارة وسيجيء في التنبيهات الآتية توضيح ذلك.

الثاني : انه من جهة احتمال كون المنى الموجود في الثوب من الجنابة التي اغتسل منها قطعا ، وبعبارة أخرى قبل الغسل.

يحتمل ان يكون من نقض اليقين باليقين فلا يجري الاستصحاب.

وفيه : ان اليقين والشك من الحالات النفسانية الوجدانية ، فلا يعقل ان لا

يعلم انه متيقن أو شاك ، فالجنابة المعلومة بما انه يحتمل كون زمانها قبل الغسل ، يكون بقائها مشكوكا فيه ولا يحتمل انتقاض العلم بها باليقين بالاغتسال.

الثالث : ان الشك في بقاء الجنابة مسبب عن الشك في حدوث فرد آخر غير ما ارتفع ، فيجري استصحاب عدم الحدوث ويترتب عليه عدم بقائها.

وفيه : ان استصحاب عدم حدوث فرد آخر لا يثبت كون الحادث ، والثابت هو الفرد الأول حتى يكون مرتفعا ، بل احتمال كون الثابت غير الفرد الأول موجود ، فيكون الشك في الجنابة الفعلية موردا للاستصحاب.

الرابع : انه لاحتمال كون المنى الذي وجده هو المنى الذي اوجب الجنابة يكون تاريخ الجنابة مجهولا فلا يجري فيها الاستصحاب.

وفيه : ما سيأتي من ضعف المبنى ، وانه يجري الاستصحاب في مجهول التاريخ.

فتحصل ان الاظهر جريان القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي.

ولكن يعارضه استصحاب عدم حدوث فرد آخر غير ما حدث قطعا ففي مثال الجنابة في المثال ، يعارض استصحاب بقاء الجنابة استصحاب عدم حدوث فرد آخر من الجنابة غير ما علم ارتفاعه.

وان شئت فعبر عنه باستصحاب الطهارة المتيقنة الحاصلة بالغسل ، فيتساقطان ، فيرجع إلى قاعدة الاشتغال الموجبة لتجديد الغسل ، والجمع بينه وبين الوضوء لو صار محدثا بالحدث الاصغر.

نعم بالنسبة إلى آثار الجنابة كحرمة المكث في المسجد يرجع إلى أصالة

البراءة ـ وبعبارة أخرى ـ الرجوع إلى قاعدة اشتغال إنما هو بالنسبة إلى آثار الطهارة وما يترتب على الحدث اعم من الاكبر والاصغر.

الإشارة إلى جملة من الفروع

ثم انه مما بيناه من جريان استصحاب القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي يظهر الحال في جملة من الفروع :

منها : ما لو علم بنجاسة احد الماءين ، فغسل شيئا نجسا بهما بالترتيب ، فانه لا بدَّ وان يبنى على طهارة ذلك الشيء ، فان استصحاب الطهارة الحاصلة بعد الغسل باحدهما يعارض استصحاب النجاسة الثابتة بعد الغسل بالآخر الذي هو من قبيل القسم الرابع ، فيتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة ، ولا مورد للرجوع إلى استصحاب النجاسة الموجودة قبل الغسل بهما فانها ارتفعت قطعا بالغسل باحدهما الطاهر.

ومنها : ما لو كان جنبا فطهر بدنه بالماءين المشتبهين المعلوم نجاسة أحدهما ، ثم اغتسل بكل من الماءين ، بان غسل بدنه باحدهما ثم اغتسل منه ، ثم غسل تمام بدنه بالماء الثاني ثم اغتسل منه ، فانه يحصل بذلك الطهارة الحدثية والخبثية.

اما الأولى فتحققها ثابت معلوم لفرض طهارة احد الماءين.

واما الثانية فلأنه كما يعلم بنجاسة بدنه حين الملاقاة مع ما في الاناء الثاني ، اما لنجاسة أو لنجاسة الماء الذي اغتسل منه أو لا ، فيستصحب تلك النجاسة ، كذلك يعلم بطهارة بدنه بعد تمامية الغسل باحد الماءين فعلى القول

بجريان القسم الرابع ، يجري استصحاب تلك الطهارة فيتعارضان ويتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة.

فان قيل لازم ذلك جواز الوضوء بالماءين المعلوم نجاسة أحدهما ، ولم يفت به احد.

اجبنا عنه بان عدم افتاء الفقهاء في ذلك الفرع إنما هو للنص ، المتضمن لقوله (ع) " يهريقهما ويتيمم" (١).

ولذلك في ذلك الفرع بنى جماعة على انه إذا كان الماءان كرين يتعين الوضوء بهما لاختصاص النص بالقليلين.

ومنها : ما لو رأى في ثوبه منيا ، واحتمل ان يكون من جنابة اغتسل منها ، أو من جنابة أخرى ، وقد تقدم الكلام فيه ومنها غير ذلك من الفروع الفقهية ، وتمام الكلام في هذه الفروع موكول إلى محله وإنما الغرض ، هو الإشارة إلى ان الجاري في هذه الفروع القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي.

جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية

التنبيه الرابع : في انه ، هل يجري الاستصحاب في الأمور التدريجية غير

__________________

(١) راجع الوسائل باب ٨ و ١٢ من أبواب الماء المطلق ، وباب ٤ من أبواب التيمم ، وباب ٦٤ من أبواب النجاسات.

القارة ، أم لا؟ وتنقيح القول في المقام ان يقال بعد ما لا اشكال في جريان الاستصحاب في الأمور القارة ، وقع الكلام في صحة جريانه في الأمور التدريجية ، وهي التي تكون في كل آن في حد ، غير الحد الذي كانت عليه في الآن السابق. وبعبارة أخرى : هي التي يكون وجودها في كل آن في حد مخصوص ، غير حد ثابت له في آن آخر.

وليس منشأ الإشكال ان البقاء عبارة عن وجود ما كان في الزمان السابق في الزمان اللاحق ، والزمان حيث لازمان له ، فلا بقاء له فلا معنى للاستصحاب ، فانه ابقاء ما كان.

إذ يرد عليه أولا ان البقاء ينسب إلى الخارج عن افق الزمان.

وثانيا ان الاستصحاب عبارة عن عدم نقض اليقين بالشك صدق عنوان البقاء أم لم يصدق.

بل منشأ الإشكال ان الأمور التدريجية حيث لا قرار لها ، فهي توجد وتنصرم ، فما يتعلق به اليقين غير متعلق الشك ، فان المتيقن فيها ينصرم والمشكوك فيه الجزء الآخر ، وهو مشكوك الحدوث.

وتنقيح القول في المقام بالبحث في موردين.

جريان الاستصحاب في الزمان

المورد الأول : في نفس الزمان وما يعرضه من العنوان الطارى كاليوم والليل والشهر ونحوها من العناوين المنتزعة من مجموع الأزمنة المحدودة بين الحدين

والمحصورة بين الحاصرين.

وقد يقال بأنه لا يجري الاستصحاب فيها : لما مر من ان الأمر التدريجي عبارة عن الآنات المتعاقبة والاكوان المتصرمة شيئا فشيئا فالمقدار المتيقن قد انقضى وانصرم قطعا. والمقدار المشكوك فيه ، يشك في اصل حدوثه فلا تكون اركان الاستصحاب تامة فيه.

ولكنه يندفع بأنه ، اما على القول بان الزمان امر واحد حقيقة حيث انه متصل واحد ، وقوامه بالاخذ والترك ، والخروج من القوة إلى الفعل على نعت الاتصال ، ووجود مثل هذا الأمر لا نقيض له إلا العدم البديل له ، لا العدم المتقوم به نفس ذاته ، فوجود مثل هذا الأمر يكون واحدا ، ولا يابى عن العدم المتقوم به ، فواضح.

واما على القول بأنه مركب من الآنات ، فلان ذلك إنما هو بالنظر الدقي الفلسفي ، وإلا فهو واحد بالنظر المسامحي العرفي بلا كلام ، ومن المعلوم ان العبرة في اتحاد القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها إنما هي بالنظر المسامحي العرفي ، دون الدقى الفلسفي ، مع انه ليس لعنوان البقاء اثر في أدلة الاستصحاب إذ هي متضمنة للنهى عن نقض اليقين بالشك ومعلوم ان دائرة ذلك اوسع من دائرة البقاء ، ولا ريب في ان رفع اليد عن ترتب الاثر على الأمر التدريجي الذي يوجد وينصرم ويوجد على التعاقب ، بالشك في انقطاع سلسلة وجوداته نقض لليقين بالشك.

واما ما أجاب به المحقق الخراساني (١) من ان الانصرام والتجدد إنما هو في الحركة القطعية دون التوسطية ، وهي كونه بين المبدأ والمنتهى ، فانه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا.

فتوضيحه بنحو يندفع ما أورد عليه ، ما أفاده تلميذه المحقق الأصفهاني (٢) من ان الحركة القطعية هي الصورة الممتدة المرتسمة في الخيال ومنشأ انتزاعها تلك الاكوان المتصلة بالاتصال التعاقبى ، فاجزاؤها مجتمعة في الخيال ، ومتفرقة في الخارج فنسبة هذه الحركة إلى الاكوان نسبة الكل إلى اجزائه والحركة التوسطية نسبتها إلى تلك الاكوان نسبة الكلي إلى جزئياته ، لان كل كون من تلك الاكوان الموافية للحدود ، واقع بين المبدأ والمنتهى.

وحيث ان نفس الحركة القطعية باعتبار منشئها متقومة بتلك الاكوان المتصرمة شيئا فشيئا فهي بذاتها تدريجية والتغير ذاتي لها ، فيجري فيها اشكال البقاء ، وحيث ان الكون بين المبدأ والمنتهى لا تعين ما هوى له إلا الوقوع بين المبدأ والمنتهى ، فما دام لم يخرج من الوسط يكون الكون بين المبدأ والمنتهى باقيا فالحركة القطعية تدريجية والتوسطية قارة مستمرة ، ولتمام الكلام محل آخر.

فالمتحصل انه لا اشكال في جريان الاستصحاب في الزمان في الجملة وترتب الحكم عليه.

إنما الإشكال في موردين :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٨.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ١٨٣.

أحدهما : فيما إذا كان الاثر مترتبا على الزمان كاليوم مثلا ، بنحو مفاد كان وليس الناقصتين كما إذا شك في ان الزمان الحاضر من الليل أو اليوم ، ومنشأ الإشكال عدم وجود متيقن سابق في البين ، ضرورة ان الزمان الحاضر حين حدوثه ، اما من الليل أو النهار ، فليس كونه من أحدهما متيقنا حتى يستصحب بقاؤه ، واثباته باستصحاب نفس الليل والنهار ، متوقف على القول بحجية الأصول المثبتة.

ثانيهما : فيما إذا كان الزمان مأخوذا قيدا للمتعلق كما في الموقتات من جهة ان استصحاب بقاء اليوم أو شهر رمضان مثلا لا يثبت وقوع صلاة الظهر أو الصوم في اليوم أو شهر رمضان وفي وقته ، إذ غاية ما يثبت به ، بقاء ذات اليوم لاكون هذا الزمان متصفا باليومية ، ولا ان صلاة الظهر الواقعة فيه ، واقعة في اليوم ، فلا يحرز به وقوع الواجب في الزمان الذي اخذ ظرفا له وقيدا للواجب ، فلا يحرز الامتثال ، نعم هو لازم عقلي لبقاء اليوم ، ولكن لا نقول بحجية الأصل المثبت.

وبالجملة غاية ما يثبت بالاستصحاب بضم الوجدان إلى الأصل ، هو وجود الفعل عند وجود وقته ، واما كونه واقعا في وقته فلا يثبت به.

ولذلك عدل الشيخ الأعظم (١) عن استصحاب الزمان إلى استصحاب الحكم.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ (التنبيه الثاني).

والمحقق الخراساني (١) عدل إلى استصحاب نفس المقيد ، وسيأتي الكلام فيهما.

ولكن التحقيق انه يمكن دفع الإشكال بوجهين :

أحدهما : ان الزمان إذا كان شرطا للحكم خاصة ، لا محالة يكون مأخوذا بنحو مفاد كان التامة ، إذ اعتبار وقوع الفعل في زمان مخصوص الذي هو مفاد كان الناقصة ، إنما يكون متاخرا عن التكليف وواقعا في مرحلة الامتثال ، فكيف يعقل ان يكون شرطا للتكليف المتقدم عليه رتبة.

واما إذا كان مأخوذا في المتعلق وقيدا له ، فيمكن ان يؤخذ بنحو مفاد كان التامة كما في غيره من الزمانيات التي يعبر عن ذلك فيها باعتبار اجتماعها في الزمان ، من دون اعتبار شيء آخر ، ونعبر عن في المقام باعتبار وجود الفعل والزمان في الخارج ، ويمكن ان يؤخذ بنحو مفاد كان الناقصة بان يعتبر زائدا على ذلك الظرفية وحيثية وقوع الفعل فيه.

لا يقال : ان الوقت ليس عرضا للفعل الواقع فيه ، بل هما موجودان مستقلان ومتقارنان في الوجود ، فما معنى ظرفية الوقت للصلاة زائدا على التقارن.

فانه يقال : انه بالدقة كذلك ولكن بالنظر المسامحي العرفي ، يصح ذلك ، مع انه يمكن اخذ خصوصية فيه ملازمة لتقارنهما ، ويعبر عنها بالظرفية ، وحيث ان الاخذ بالنحو الثاني غير ملازم لاخذ الزمان قيدا في الواجب ، بل هو محتاج

__________________

(١) راجع كفاية الأصول ص ٤٠٩ (كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد ...).

إلى مئونة أخرى فظاهر الأدلة كونه مأخوذا بالنحو الأول ، فلو استصحب الوقت وأتى بالعمل خارجا تم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل.

ثانيهما : ان شبهة استصحاب مفاد كان الناقصة قابلة للدفع ، بان ذوات الآنات المتعاقبة كما تكون تدريجية ، ومع ذلك فهي واحدة كذلك وصف النهارية وما شابهه من العناوين الطارئة على الآنات الثابتة لها أيضاً تدريجية تكون حادثة بحدوث الآنات وباقية ببقائها ، فإذا وجد اليوم مثلا واتصف بعض هذه الآنات باليومية وشك في اتصاف الزمان الحاضر بها ، فكما يجري الاستصحاب في نفس الزمان ، كذلك يجري الاستصحاب في وصف اليومية الثابتة للزمان ، ويدفع شبهة ان هذا الزمان لم يحرز اتصافه بها ، بان هذا الزمان ليس غير الزمان المعلوم اتصافه بها فيجري الاستصحاب فيما هو مفاد كان الناقصة ، وبه يندفع كلا الاشكالين فتدبر.

واما ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) من إجراء استصحاب نفس الحكم الشرعي.

فاورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) بان استصحاب الحكم ان ترتب عليه إحراز وقوع الفعل في الوقت الذي اخذ قيدا في الواجب ، فيكفى في اثباته جريانه في نفس الزمان ، وان لم يترتب عليه ذلك فما الفائدة فيه ، لان المفروض

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ (التنبيه الثاني) قوله : «فالاولى التمسك في هذا المقام باستصحاب الحكم المترتب على الزمان ..».

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٤ ـ ١٠٥.

عدم إحراز تحقق الامتثال على كل تقدير.

ويمكن دفعه بما اشار إليه (قدِّس سره) بأنه لو سلم عدم ترتب إحراز وقوع الفعل في الوقت المضروب له باستصحاب الزمان ، لا نسلم عدم ترتبه باستصحاب الحكم ، إذ الاثر العقلي الواقع في مرحلة الامتثال ، يترتب على استصحاب الحكم ، وليس من المثبت في شيء ، ومعنى التعبد ببقائه فعلا ، هو التعبد ببقائه بجميع خصوصياته التي كان عليها ، ومن المفروض ان الحكم السابق إنما كان متعلقا بما إذا أتي به كان واقعا في الوقت المضروب للفعل ، فالآن يستصحب ذلك الحكم على النحو الذي كان سابقا ويترتب عليه وقوع الفعل في الزمان الذي اخذ ظرفا له.

واما ما أفاده المحقق الخراساني (١) من استصحاب بقاء نفس المقيد قال فيقال ان الامساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان فيجب.

فهو وان كان تاما في الجملة ، إلا انه مختص بما إذا كان المكلف قبل زمان الشك متلبسا بالعمل كما في المثال ، وإلا كما لو شك في بقاء الوقت للاتيان بالظهرين فلا يصح ، ضرورة ان الصلاة لم تتحقق قبل زمان الشك كي يستصحب بقائها.

نعم يمكن إجراء الاستصحاب التعليقي ، بان يقال ان الصلاة لو كانت قبل ذلك متحققة كانت واقعة في النهار ، والان كما كان ، لكنه سيما التعليقي في الموضوعات ليس حجة كما سيمر عليك.

__________________

(١) كفاية الأصول (المصدر السابق) ص ٤٠٩.

جريان الاستصحاب في الزمانيات

المورد الثاني : في جريان الاستصحاب في الزمانيات وهي على قسمين :

الأول : ما يكون الزمان مقوما له بحيث ينصرم بانصرام الزمان كالحركة والتكلم ، وجريان الماء وسيلان الدم وما شاكل.

الثاني : ما له بقاء وقرار ولا يمضى بمضي الزمان وارتباطه بالزمان من جهة تعلق الحكم الشرعي به مقيدا بزمان خاص كالجلوس الواجب مقيدا بزمان خاص.

اما القسم الأول : ففيه أقوال :

احدها عدم جريان الاستصحاب مطلقا.

الثاني جريانه مطلقا ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (١) والمحقق الخراساني (٢).

الثالث التفصيل بين ما إذا كان الشك في بقاء الزماني ناشئا عن الشك في وجود ما يوجب ارتفاعه وانعدامه بقاء مع العلم بمقدار المقتضى للبقاء والاستمرار ، كما إذا شك في بقاء الحركة والتكلم من جهة عروض ما يوجب

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٥ (التنبيه الثاني) قوله : «واما القسم الثاني أعني الأمور التدريجية الغير القارة كالتكلم  .... فالظاهر جواز اجراء الاستصحاب فيما يمكن ان يفرض فيها أمرا واحدا مستمرا ...».

(٢) كفاية الأصول ص ٤٠٧ ـ ٤٠٨ (التنبيه الرابع).

توقف المتحرك وسكوت المتكلم من تعب وغيره ، بعد العلم بان الداعي إلى الحركة أو التكلم كان إلى بعد زمان الشك ، أو شك في بقاء جريان الماء أو سيلان الدم من جهة احتمال ما يوجب المنع عن الجريان أو السيلان بعد العلم بمقدار اقتضاء عروق الارض ، أو باطن الرحم لجريان الماء وسيلان الدم.

وبين ما إذا كان الشك في بقائه ناشئا عن الشك في مقدار اقتضائه ، للبقاء ، كما إذا شك في مقدار الداعي المنقدح في النفس إلى الحركة أو التكلم ، أو شك في مقدار اقتضاء عروض الارض لنبع الماء ، أو باطن الرحم لسيلان الدم ، مع العلم بعدم عروض المانع ، وما إذا كان الشك في البقاء ناشئا عن احتمال قيام مقتض آخر مقام المقتضي الأول عند ارتفاعه.

كما إذا شك في بقاء التكلم من جهة احتمال حدوث داع آخر إليه غير الداعي الأول مع العلم بارتفاع ذلك الداعي.

كما عن المحقق النائيني (ره) (١) حيث اختار (قدِّس سره) جريان الاستصحاب في الصورة الأولى ، وعدم جريانه في الصورتين الاخيرتين.

واستدل للاول بان الشك في بقاء الأمر التدريجي في الحقيقة يرجع إلى الشك في وجود جزء آخر غير ما تيقن به ، فما هو المتيقن غير المشكوك فيه.

والجواب عنه ما مر من وحدة الأمر التدريجي ، وان الاتصال يساوق الوحدة حقيقة ولا اقل عرفا ، غاية الأمر ربما يكون الأشياء المتعددة حقيقة واحدة اعتبارا كما ان الواحد الحقيقي قد يصير متعددا اعتبارا ، وعلى أي حال الإشكال

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٨ ـ ١٠٩ بتصرف.

المزبور مندفع بما مر مفصلا.

واستدل للاخير : بجريانه في الصورة الأولى بما ذكرناه ، وبعدم جريانه في الصورة الثانية : بأنه من قبيل الاستصحاب الجاري في مورد الشك في المقتضى ، وبعدم جريانه في الصورة الثالثة : بان وحدة الأمر التدريجي وتعدده كالتكلم والحركة ، إنما هي بوحدة الداعي وتعدده ، أو وحدة مقتضيه وتعدده فالشك في حدوث الداعي الآخر عند ارتفاع الداعي الأول ، يرجع إلى الشك في حدوث فرد آخر عند ارتفاع الفرد الأول ، فيكون من صغريات القسم الثالث من استصحاب الكلي فلا يجري.

أقول : اما ما أفاده في الصورة الأولى فهو متين.

واما ما أفاده في الصورة الثانية.

فيرده ما تقدم من حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضى.

واما ما أفاده في الصورة الثالثة.

فيرده ما مر من ان وحدة الشيء لا تدور مدار وحدة داعيه ومقتضيه ، بل مدار الوحدة على الاتصال أو الاعتبار ، فالحركة المتصلة من المبدأ إلى المنتهى واحدة ، وان تجدد الداعي في الاثناء ، وكذا الخطبة الواحدة ، كما انه لو انقطعت الحركة أو الخطبة في الاثناء ثم شرع فيها ، تصير متعددة لا محالة ، وان كان الداعي إليها واحدا.

فالمتحصّل جريان الاستصحاب مطلقا.

وما قيل من انه إذا شك في حدوث داع آخر ، يكون منشأ الشك في البقاء

الشك في حدوث الداعي ، فالاستصحاب الجاري في عدم حدوثه حاكم على هذا الاستصحاب.

يندفع : بأنه من جهة عدم كون السببية شرعية لا يكون الأصل الجاري في السبب حاكما على الأصل الجاري في المسبب.

ثم ان صاحب الكفاية (١) قال ان استصحاب بقاء الأمر التدريجي ، اما ان يكون من قبيل استصحاب الشخص ، أو من قبيل استصحاب الكلي باقسامه ، فإذا شك في ان السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقى منها شيء ، صح فيه استصحاب الشخص والكلى ، وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة كان من القسم الثاني ، وإذا شك في انه شرع في أخرى ، مع القطع بأنه قد تمت الأولى كان من القسم الثالث انتهى.

وفيه : ان كل سورة إذا لوحظت مستقلة تكون شيئا واحدا ، ولكن القراءة أيضاً شيء واحد ، فإذا ترتب الاثر على القراءة يستصحب بقاؤها ، ولو كان الشك من جهة الشك في الشروع في الثانية ، ولا يكون من قبيل القسم الثالث.

نعم ، لو كان الاثر مترتبا على نفس السورة كان الأمر كما ذكر.

والمحقق النائيني (ره) (٢) افاد في تقريب جريان الأقسام فيها : بأنه إذا شك في ان الداعي للقراءة المعين المعلوم ، هل تم أو بعد باق صح فيه استصحاب

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٠٨.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٤٠.

الشخصي والكلي ، وإذا شك في ان الداعي كان قصيرا أو طويلا كان من القسم الثاني ، وإذا شك في انه هل انقدح داع آخر مع العلم بتمامية الداعي الأول ، كان من القسم الثالث.

ثم ان القسم الثالث قد مر عدم جريان الاستصحاب فيه ، وكذلك القسم الثاني فى المقام من جهة ان الشك فيه دائما يكون من قبيل الشك في المقتضى ، لأنه يشك في ان داعيه على القراءة مثلا كان على قراءة سورة أو سورتين ، فبالنسبة إلى السورة الثانية الداعي والمقتضي غير محرز فينحصر بالاستصحاب الشخصي ، والقسم الأول من الكلي.

ويظهر ما يرد عليه مما ذكرناه وما سنذكره في بيان المختار.

والحق في تقريب جريان الأقسام في الأمور التدريجية ، ان يقال ان الشك في بقاء الزماني التدريجي :

تارة يكون في ان الحركة التي شرع فيها هل انتهت وبلغت إلى المنتهى ، أم هي باقية على صفة الجريان؟

وأخرى يكون في ان الحركة الخاصة هل هي من طرف المشرق فقد منعه مانع عن السير ، أم من طرف الجنوب فحيث لا مانع هناك فهو بعد في حال الحركة.

وثالثة ، في الشروع في حركة أخرى بعد انتهاء الحركة التي شرع فيها وبلغت إلى المنتهى وتبدلت إلى السكون.

ففي الصورة الأول صح فيه استصحاب الشخصي والكلي الذي هو من

قبيل القسم الأول.

وفي الصورة الثانية كان من قبيل القسم الثاني من أقسام الكلي ، وليس من قبيل الشك في المقتضي الذي افاد المحقق النائيني (١) انه دائما من قبيل الشك في المقتضي.

وفي الصورة الثالثة كان من قبيل القسم الثالث.

استصحاب الفعل المقيد بالزمان

واما القسم الثاني : أي الزماني الذي ليس قوامه بالزمان ولا ينصرم بانصرامه ، بل له قرار وبقاء ، وارتباطه بالزمان إنما يكون من جهة تعلق الحكم الشرعي به مقيدا بزمان خاص ، كالقيام ، والجلوس ، وغيرهما من الأفعال القارة المقيدة بالزمان الخاص ، فهو على انحاء.

١ ـ ما علم ان الفعل يكون مغيا بغاية معينة.

٢ ـ ما علم استمراره ما لم يرفع برافع.

٣ ـ ما لا يعلم شيء منهما ، كما لو علم من دليل مجمل وجوب الجلوس اما إلى الزوال أو إلى ما بعده.

اما الأول : فالشك في بقاء حكمه.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٠٩.

تارة يكون من جهة الشك في تحقق القيد خارجا كالشك في الغروب المجعول غاية لوجوب الصلاة ، والصوم ، من جهة الغيم ونحوه.

وأخرى يكون من جهة الشك فيه مفهوما ، كما لو شك في ان غروب الشمس المجعول غاية لوقت الظهرين هل هو استتار القرص ، أو ذهاب الحمرة المشرقية؟

وثالثة يكون من جهة تردد الغاية لأجل تعارض الأدلة كما لو شك في ان غاية وقت العشاءين هل هو انتصاف الليل أو طلوع الفجر؟ ورابعة يكون لأجل احتمال حدوث تكليف آخر مع اليقين بتحقق الغاية وارتفاع الحكم الأول.

اما في الصورة الأولى : فقد مر الكلام مفصلا وعرفت انه يجري استصحاب بقاء الوقت ويترتب عليه جميع الآثار ، ومعه لا تصل النوبة إلى استصحاب الحكم.

واما في الصورة الثانية : فقد مر في التنبيه الثالث عند البحث عن جريان الاستصحاب في الفرد المردد ، ان الاظهر جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية ، فيستصحب بقاء اليوم ويترتب عليه الاثر.

واما في الصورة الثالثة : فالاستصحاب الموضوعي لا يجري ، ولكن لا مانع من استصحاب الحكم على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

واما في الصورة الرابعة : فاستصحاب الموضوع لا مانع عنه ، واستصحاب الحكم يتوقف على القول بجريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب

الكلي.

واما الثالث (١) : أي ما لو لم يعلم كون الحكم مستمرا أم غير مستمر كما لو علم من دليل مهمل وجوب الجلوس في مكان إلى الزوال وشك بعد الزوال في وجوبه.

فعن المحقق النراقي (قدِّس سره) (٢) انه يقع التعارض في مفروض المثال بين استصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال ، وبين استصحاب عدم الوجوب الثابت ازلا ، لان انقلاب العدم إلى الوجود في الجملة لا يستلزم انقلاب مطلق العدم الازلي ، وإنما يستلزم انقلاب العدم المطلق لان الموجبة إنما تناقض السالبة الكلية ، لا السالبة الجزئية ، فوجوب الجلوس قبل الزوال ، لا يناقض عدم وجوبه بعده والمفروض عدم دلالة الدليل على الوجوب فيه فيرجع إلى استصحاب العدم الازلي الذي لم يعلم انتقاضه إلا قبل الزوال ، فهنا شك واحد ، وهو الشك في وجوب الجلوس بعد الزوال مسبوق بيقينين أحدهما اليقين بوجوب الجلوس قبل الزوال ، ثانيهما اليقين بعدم وجوب الجلوس بعد الزوال في الازل ولا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر.

ودعوى اتصال اليقين الأول بالشك ، دون الثاني لفصل اليقين الأول

__________________

(١) اما النحو الثاني فيأتي بعد ثلاث صفحات.

(٢) كما حكاه عنه غير واحد من الاعلام عن مناهج الاحكام والاصول ص ٢٤٢. راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٦ (عن بعض المعاصرين) / أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١١٠ ـ ١١١.

بينهما وهو المرجح.

تندفع : بان كلا منهما متصل بالشك لان اليقين الأول ، إنما صار فصلا بين اليقين بالعدم المطلق والشك ، لا بينه وبين العدم المقيد بالزمان المشكوك فيه ، والشاهد بذلك مضافا إلى وضوحه ان هذا الشك موجود في زمان اليقين بالوجود أيضاً.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) والمحقق الخراساني (٢) بان الاصلين لا يجريان في المورد الواحد كي يقع التعارض بينهما : إذ الزمان اما ان يؤخذ ظرفا للوجوب ، ولا يكون قيدا للواجب ، فيجري استصحاب الوجود نظرا إلى وحدة القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها بالنظر المسامحي العرفي ، ولا يجري استصحاب العدم للعلم بانتقاض العدم بالوجود المطلق غير المقيد بزمان خاص المحكوم ببقائه في ظرف الشك بمئونة الاستصحاب.

واما ان يؤخذ قيدا للواجب ومفردا له ، فلا محالة يصير الجلوس بعد الزوال مغايرا للجلوس قبله فينتقض الوحدة المعتبرة بين القضيتين فلا يجري استصحاب الوجود ، فيكون مجرى لاستصحاب العدم ، لان المقدار المعلوم انتقاضه من العدم إنما هو وجوب الجلوس المقيد بما قبل الزول ، واما الجلوس المقيد بما بعده فخروجه مشكوك فيه ، فيجري استصحاب العدم.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٢.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٠.

وأورد عليهما المحقق النائيني (ره) (١) بأنه لا يجري شيء من الاستصحابين في الموردين ، اما استصحاب الوجود فلأنه من قبيل الاستصحاب في الشك في المقتضى ، لأول الشك إلى الشك في كون الوجود قبل الزوال مرسلا ، أو مغيا بالزوال ، واما استصحاب العدم فلما مر في البراءة من ان استصحاب العدم الازلي لا يجري مطلقا ، ولا يثبت به عدم الحكم في ظرف الشك.

أقول : الايرادان وان كانا تامين على مبناه (قدِّس سره) إلا انه قد مر في محله بطلان المبنى وان الاستصحاب يجري في الشك في المقتضى ، والعدم الازلي ، ولكن الذي يرد على الشيخ والمحقق الخراساني بل والنراقي ، ما تقدم منا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية فالموردان موردا جريان استصحاب عدم الوجوب.

واما الثاني : أي ما علم استمراره ما لم يرفع برافع كما إذا شك في الطهارة بعد خروج المذى أو شك بعد الغسل مرة في بقاء النجاسة في المحل.

فافاد المحقق النراقي (٢) انه ، وان كان يقع التعارض بين استصحاب الوجود والعدم ، إلا انه من جهة كون الشك في هذا المورد أي الشك الرافع مسببا عن الشك في رافع الطهارة والنجاسة ، فاصالة عدم جعل الرافعية لما شك في رافعيته حاكم على الاصلين ، ومعها لا يبقى شك في البقاء.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٠٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١١٢.

(٢) المصدر السابق الذي حكاه عنه غير واحد عن مناهج الاحكام والاصول ص ٢٤٢.

وأورد عليه الشيخ الأعظم (١) مضافا إلى ما مر : بان دليل سببية الشيء للطهارة أو النجاسة أو غيرهما ، مما يكون من هذا القبيل ، اما ان يكون له إطلاق ويدل على استمرار الحادث إلى ان يزيله الرافع ، فلا مورد لاصالة عدم جعل السببية للعلم به ، واما ان لا يكون له إطلاق ولا يدل على الاستمرار ، فلا مورد لاصالة عدم جعل الرافعية ، ولا اثر لها إذ الشك حينئذ ليس من ناحية الرافع كي يرتفع بهذا الأصل.

وما ذكره المحقق الخراساني في الكفاية بقوله ازاحة وهم (٢) لا يخفى ان الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلهما يكون مما إذا وجدت باسبابها لا يكاد يشك في بقائها إلا من قبل الشك في الرافع لها لا من قبل الشك في مقدار تأثير اسبابها انتهى ، راجع إليه ، وظاهره اختياره الشق الأول وانه قد علم كون الوضوء بنفسه مقتضيا للطهارة والشك إنما حصل في كون المذى رافعا ، وان الملاقاة سبب للنجاسة والشك إنما حصل من جهة احتمال كون الغسل مرة رافعا لها.

ولكن يرد عليه ان الطهارة وما يقابلها ليست من الأمور الواقعية الخارجية كي تكون اسبابها مؤثرة فيها ، ويكون اسباب ما يقابلهما رافعة لها بل هي من الأمور الاعتبارية ، فمعنى رافعية الشيء للطهارة ، هو حكم الشارع عقيبه بالحدث ، كما ان معنى عدم رافعيته حكمه عقيبه بالطهارة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٤٩.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٠.

وعليه فحيث يعلم اجمالا باحدهما بعد ما شك في رافعيته ، وكل من الشكين مسبب عن الشك في المجعول الشرعي ، فلا حكومة لأحد الاصلين على الآخر ، ويجرى في هذا المورد ما ذكرناه في مورد الشك في المقتضى ، وهو انه لا يجري الاستصحاب في الحكم الكلي.

الاستصحاب التعليقي

التنبيه الخامس : قد وقع الخلاف بين الاعلام في جريان الاستصحاب فيما إذا كان المتيقن حكما غير تنجيزي معلقا ومشروطا ، وعدمه ، ويطلق على هذا الاستصحاب الاستصحاب التعليقي تارة ، والمشروط أخرى ، باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقية حكم فيها بوجود الحكم على تقدير امر آخر ، ومثلوا له ، باستصحاب حرمة ماء العنب ، فيما إذا جف وصار زبيبا ثم غلا.

والبحث في جريان هذا الاستصحاب وعدمه ، يكون مبتنيا على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، واما بناءً على عدم جريانه فيها كما هو المختار على ما عرفت ، فلا وجه للنزاع أصلاً كما لا يخفى.

وايضا إنما يصح هذا النزاع على القول بمعقولية الواجب المعلق وثبوت الحكم المعلق ، وإلا فبناءً على عدم ثبوت الحكم المعلق كما ذهب إليه

الشيخ (قدِّس سره) (١) ، لا مجال لهذا النزاع أصلاً ، لعدم وجود القضية المتيقنة.

وقبل الدخول في البحث وبيان ما قيل في وجه الجريان وعدمه ، لا بدَّ من تقديم مقدمتين.

الاولى : ان العناوين المأخوذة في الحكم.

تارة يستكشف من ظاهر الدليل ، أو من الخارج انها دخيلة في الحكم حدوثا وبقاء.

وأخرى يستكشف منه ترتب الحكم على المعنون وان تبدل عنوانه ، كما لو دل الدليل على حلية الحنطة مثلا وعلم ان عنوان الحنطة عنوان مشير ، فهذا الحكم ثابت ، وان تبدل العنوان إلى كونه خبزا مثلا.

وثالثة : لا يحرز احد الامرين كما في تغير الماء الموجب لتنجسه فانه لا يحرز ان الحكم يدور مدار عنوان التغير حدوثا وبقاء.

ومحل الكلام في المقام ما كان من قبيل الثالث إذ الحكم في الفرض الأول مع تبدل العنوان معلوم العدم ، وفي الفرض الثاني معلوم الثبوت ، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

وبه يظهر ان ما مثلوا به لمورد الاستصحاب التعليقي ، بما إذا غلى ماء

__________________

(١) راجع فرائد الأصول حيث أشار الشيخ الأعظم إلى ذلك في حجية القول السابع من أدلة الاستصحاب ج ٢ ص ٦٠٥ ، وفي نهاية الأمر الرابع (الاستصحاب التقديري او التعليقي ج ٢ ص ٦٥٤.

الزبيب ، في غير محله : إذ موضوع الحرمة ليس هو العنب بل الموضوع هو العصير العنبى وهو الماء المتكون في العنب إذا اخرج منه بالعصر ، ومن المعلوم ان العنب إذا جف ، وصار زبيبا ، واريق ماء خارجي عليه ، وصار حلوا بمجاورته اياه ، يكون المشكوك فيه ، غير المتيقن.

وبعبارة أخرى : ان الموضوع ليس هو العنب كي يقال انه متحد مع الزبيب فيجري فيه الاستصحاب ، بل الموضوع هو العصير العنبى ، وهو غير الماء الخارجي الذي صار حلوا بمجاورة الزبيب.

الثانية : ان الشك في بقاء الحكم.

تارة يكون شكا في بقاء الحكم الكلي المجعول ومنشأ الشك فيه ليس إلا احتمال النسخ.

وأخرى يكون شكا في بقاء الحكم الجزئي ، لأجل احتمال تبدل الموضوع الخارجي ، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية.

وثالثة يكون الشك فيه من ناحية الشك في سعة الموضوع وضيقه في مقام الجعل ، كما في الشك في جواز وطء المرأة بعد الطهر من الحيض ، وقبل الاغتسال ، ومورد البحث هو الاخير.

إذا عرفت هاتين المقدمتين ، فيقع البحث فيما استدل به لعدم الجريان ، وللجريان :

اما الأول فنذكر تلك الوجوه في ضمن الايرادات على ما استدل به للجريان.

واما الثاني فقد استدل له بوجوه :

وقد ذكر الشيخ الأعظم (١) منها وجهين :

أحدهما : ما ذكره المحقق الخراساني (٢) أيضاً ، وحاصله ، انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب الوجودي سوى كون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود من دون اعتبار شيء زائدا عليه ، واما كونه موجودا بنحو خاص فلا يعتبر ، ومن المعلوم ان تحقق كل شيء بحسبه ، والمعلق قبل ما علق عليه ، لا يكون موجودا فعلا ، لا انه لا يكون موجودا أصلاً ولو بنحو التعليق كيف ، والمفروض انه مورد فعلا للخطاب ، فكان على يقين من ثبوته قبل طرو الحالة فيشك فيه بعده.

وأورد عليه بإيرادات :

منها : انه يعتبر في جريان الاستصحاب في الأحكام ترتب اثر عملي عليه والحكم المعلق لا اثر عملي له.

وفيه : ان المعتبر ترتب الاثر حين إجراء الأصل لا حين اليقين ، والفرض وجوده.

ومنها : ان الموضوع وهو العنب في المثال منتف.

وفيه : انه وان كان الحق تبدل الموضوع في المثال ، لكن لا لما ذكر كي يرد

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٤.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١١.

عليه ما أورده المحقق النائيني (ره) (١) من ان أهل العرف يفهمون ، ان الموضوع هو الجسم الخاص ، وان وصف العنبية والزبيبية ، من الحالات.

بل من جهة ان الموضوع هو ماء العنب ، والزبيب ، لا ماء له ، بل إنما ينقع في الماء ويكتسب من الزبيب الطعم والحلاوة ، وهل يتوهم اتحاد الماء الخارجي مع ماء العنب ، ولكن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في خصوص المثال لا مطلقا كما هو واضح.

ومنها : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان الحكم الكلي المنشأ ، لا شك في بقائه ، إذ لا يحتمل عدمه إلا على وجه النسخ ، والحكم الفعلي لترتبه على الموضوع المركب ، إنما يكون وجوده بعد تحقق كلا جزئي الموضوع ، لان نسبة الموضوع إلى حكمه ، نسبة العلة إلى المعلول ، فلا يتقدم الحكم على موضوعه ، فقبل فرض غليان العنب في المثال لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومعه لا معنى لاستصحاب بقائه ، والحكم الفرضى التقديرى لا يصح استصحابه ، لعدم كونه مجعولا شرعيا ، بل هو عقلي لازم لجعل الحكم على الموضوع المركب الذي وجد احد جزئيه.

وفيه : ان ما ذكره (ره) يتم على مسلكه من رجوع الشرط إلى الموضوع وكونه من قيوده.

واما بناءً على رجوعه إلى الحكم ، وكون الموضوع في المثال العصير العنبي ،

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٩ بتصرف.

(٢) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٦ ـ ٤٦٧ (الوجه الثالث).

وكون الغليان شرطا للحكم لا جزءا للموضوع ، فلا يتم ، إذ قبل تحقق الشرط وان لم يكن الحكم فعليا ، إلا ان الشك ليس في بقاء الحكم العقلي الفرضى ، ولا في بقاء الحكم الكلي لموضوعه الكلي ، بل إنما يكون شكا في بقاء الحكم الإنشائي الجزئي المنطبق على هذا الموضوع الجزئي.

وعليه ، فدعوى عدم الشك في بقاء الحكم الإنشائي غير صحيحة إذ ما لا شك فيه هو الإنشاء الكلي لموضوعه الكلي ، واما الإنشاء الجزئي المتعلق بهذا الموضوع ، فهو مشكوك البقاء ، وعلى ذلك فايراده مبنائى لا بنائي.

وبذلك ظهر ان ما أفاده بعض الاعاظم (١) في منجزات المريض في المثال من جريان الاستصحاب التعليقي إذا كان الموضوع العصير العنبى ، وكان الغليان شرطا ، واما إذا كان الموضوع العصير العنبى الغالى ، فلا يجري الاستصحاب يتم على هذا المبنى.

فما علقه المحقق الكاظمي (ره) (٢) في المقام من ان المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي لا يتوقف على رجوع الشرط إلى الموضوع ، بل يكفي كون الشرط علة لحدوث النجاسة والحرمة للعنب ، فانه مع عدم الغليان لا حرمة ولا نجاسة أيضاً لانتفاء المعلول بانتفاء علته كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه غير صحيح.

__________________

(١) راجع بحر الفوائد ج ٣ ص ١٢١ بتصرف.

(٢) في تعليقته على فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٧ حاشية رقم ١.

ومنها : ما ذكره المحقق الخراساني (١) بقوله ان قلت وحاصله معارضة هذا الاستصحاب مع استصحاب ضده المطلق ، وهو في المثال الحلية المطلقة ، واجيب عن هذا الإيراد باجوبة.

١ ـ ما عن الشيخ الأعظم (ره) (٢) : وهو ان استصحاب الحرمة على تقدير الغليان حاكم على استصحاب الاباحة قبل الغليان.

واوضحه المحقق النائيني (ره) (٣) ، بان الشك في الحلية والحرمة بعد الغليان مسبب عن الشك في ان الحرمة المجعولة للعنب إذا غلى ، هل هي مختصة بحال كونه عنبا ، أم تشمل ما لو كان زبيبا ، فإذا حكم بكونها مطلقة ببركة الاستصحاب ، لا يبقى شك في الحرمة ليجري فيها الاستصحاب.

وفيه : ان ارتفاع الحلية بعد الغليان ليس مترتبا على الحرمة المعلقة ، ولا الشك فيه مسببا عن الشك فيها حتى يكون الأصل الجاري في الحرمة حاكما على الأصل الجاري في الحلية ، بل الحرمة الفعلية بعد الغليان التي هي لازم الحرمة المعلقة قبل الغليان ، منافية للحلية الفعلية بعد الغليان بنحو التضاد فثبوت كل منهما لازم لعدم الآخر كما هو الشأن في جميع المتضادين ، مع انه لو سلم الترتب لا يكون الترتب شرعيا وحكومة الأصل السببي ، إنما تكون فيما إذا كانت السببية شرعية كما في غسل الثوب المتنجس بالماء المشكوك طهارته.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١١.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٤.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

٢ ـ ما أفاده المحقق الخراساني (١) وهو ان الحلية الثابتة قبل تحقق موجب الشك في بقائها حلية مغياة بعدم الغليان ، لان ما علق عليه احد الضدين لا محالة يكون غاية للضد الآخر ، واستصحاب الحلية المغياة الثابتة حال العنبية لا يخالف ولا يعارض استصحاب الحرمة المعلقة ، بل يوافقه.

ونتيجة الاستصحابين شيء واحد ، وهو ارتفاع الحلية وثبوت الحرمة بعد الغليان ، والشك في الحرمة والحلية الفعلية بعد الغليان ليس شكا غير الشك في بقاء الحرمة المعلقة والحلية المغياة حتى يجري فيه الأصل ، ويعارض مع استصحاب الحرمة.

وفيه : ان القطع بثبوت الحلية المغياة للعنب يوجب القطع بالحلية الفعلية له ، فإذا شك في بقائها في الزمان اللاحق ، ولو من جهة احتمال بقائها غير معلقة على عدم الغليان ، يجري فيها الاستصحاب ، وهو يعارض استصحاب الحرمة ، المعلقة.

٣ ـ ما أفاده المحقق العراقي (قدِّس سره) (٢) وحاصله : ان الثابت في حال العنبية ، الحلية المغياة بالغليان ، والحرمة المعلقة به ، فالشك في الحلية والحرمة في حال الزبيبية ، مسبب عن الشك في بقاء شرطية الغليان وغائيته ، فيستصحب بقاء الشرطية ، والغائية ، وهو حاكم على استصحاب بقاء الحلية.

وفيه : ما تقدم في مبحث الأحكام الوضعية ، من ان المسبب لا يترتب على

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٢.

(٢) نهاية الافكار ج ٤ ص ١٧٢ بتصرف.

السببية ، ولا المشروط على الشرطية ، ولا عدم المغيى وارتفاعه على الغائية ، بل هي آثار السبب ، والشرط والغاية ، لا الشرطية ، والسببية ، والغائية.

مع ان الغاية على الفرض عقلية ليست بحكم شرعي ، ولا موضوعا لحكم شرعي : إذ ارتفاع الحلية بعد تحقق الغليان عقلي.

ودعوى انه منتزع من الحكم الشرعي ، وهو الحرمة المعلقة.

مندفعة ، بأنه عليه يجري الأصل في منشأ الانتزاع دونه فليس هذا استصحابا ، غير استصحاب الحرمة المعلقة.

فالمتحصّل ان هذا الإيراد لا يمكن الذب عنه فهذا التقريب لا يكفي.

الوجه الثاني : ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) (١) وحده وهو انه يستصحب الملازمة بين الغليان والحرمة ، وسببية الغليان للحرمة الفعلية ، وهذا استصحاب تنجيزي لا تعليقي ، فان الملازمة فعلية لانها لا تتوقف على صدق طرفيها ، ومشكوك فيها في حال الزبيبية فيستصحب بقائها.

وفيه : أولا ان المسبب لا يترتب على السببية والملزوم غير مترتب على الملازمة ، بل هما مترتبان على السبب واللازم ، فاستصحابهما لا يكفي في الحكم بتحققهما.

وثانيا : ان الشيخ (ره) يرى انتزاعية الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية ونحن أيضاً وافقناه في مثل السببية والشرطية فراجع ، وعليه فلا يجري فيها

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٤ بتصرف.

الاستصحاب.

وثالثا : ان الملازمة والسببية ان لم تكن جعلية لا يجري فيها الاستصحاب ، لعدم كونها اثرا شرعيا ، ولا موضوعا لاثر شرعي ، وان كانت مجعولة فلها كسائر الأحكام مقام الجعل والفعلية ، وبالنسبة إلى الحكم الكلي المجعول لا شك في البقاء ، وبالنسبة إلى فعليتها لا يقين بالثبوت ، إذ فعليتها تتوقف على فعلية موضوعها وهو مركب من جزءين ، وفي المثال ، أحدهما العنب ، والآخر الغليان ، والمفروض عدم تحقق الثاني فلا تكون فعلية.

فالاظهر عدم جريان الاستصحاب التعليقي ، ويرد عليه مضافا إلى ذلك كله انه لو سلم جريانه ، فهو محكوم ، باستصحاب عدم الجعل الذي لاجله اخترنا عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا.

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات

واوضح من ذلك في عدم الجريان ، الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ، والمتعلقات ، إذ الموضوع أو المتعلق إنما يترتب عليه الاثر إذا وجد في الخارج ، واما وجوده التقديرى ، فلا يكون موضوع الاثر.

وقد يتوهم انه بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، يجري الاستصحاب التعليقي في الموضوعات والمتعلقات ، فلو كان الحوض قبل ساعة بحيث لو وقع فيه الثوب النجس لتحقق غسله ، وطهر لوجود الماء فيه ، ثم شك في بقاء الماء لجرى الاستصحاب التعليقي ، وحكم بحصول الغسل والطهارة على

تقدير وقوع الثوب النجس فيه في الخارج ، وكذا لو كانت الصلاة قبل ساعة بحيث لو أتى بها المكلف ، لما وقعت في غير ما لا يؤكل لحمه فبعد ما لبس المكلف الثوب المشكوك في كونه من غير المأكول يشك في بقاء الصلاة على ما كانت عليه لجرى الاستصحاب وحكم بصحتها على تقدير الإتيان بها مع ذلك الثوب.

وفيه أولا : ان الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان الموضوع موجودا وكان المفقود من حالاته كما في العنبية والزبيبية على كلام ، لا في مثل المقام مما يكون الموضوع بنفسه مفقودا.

وثانيا : ان الاستصحاب التعليقي فيها ، يعارض الاستصحاب التنجيزي ، فان استصحاب كون الصلاة بحيث لو كانت قبل ساعة لم تكن في غير المأكول ، يعارض استصحاب عدم تحقق الصلاة ، غير المقترنة بغير المأكول ، وما اجيب به عن اشكال المعارضة في الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، لا يجري في المقام ، لوضوح ان السببية لو تمت لا تكون في المقام إلا عقلية ، لا شرعية ، فلا معنى للحكومة ، والمستصحب التنجيزي في المقام ليس حكما مغيا كي يجري ما أفاده المحقق الخراساني.

وثالثا : ان كلا من حصول الغسل ، ووقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل في المثالين لازم عقلي لبقاء القضية الشرطية التي هي المتيقنة ، وهي كون الصلاة بحيث لو وجدت في الخارج لم تكن في غير المأكول ، وتحقق الغسل على تقدير وقوع الثوب في الحوض ومعلوم ان اثبات فعلية الجزاء لازم عقلي لبقاء القضية الشرطية على ما كانت عليه.

ورابعا : انه في الأحكام كان لتوهم ان الوجود المعلق نحو من الوجود ، ولا مجال له في الموضوعات ، إذ لا يكون للموضوع الموجود على تقدير ، نحو من الوجود التكويني ، وهذا من البداهة بمكان.

استصحاب أحكام الشريعة السابقة

التنبيه السادس : قال الشيخ الأعظم (١) انه لا فرق في المستصحب بين ان يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أو حكما من أحكام الشريعة السابقة انتهى.

وتحقيق الكلام فيه يستدعى تقديم امر.

وهو انه على ما ذكرناه في التنبيه الخامس من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، لكونه محكوما لاستصحاب عدم الجعل لا مورد لهذا البحث كما هو واضح.

فان قيل ان الدليل قام على جريان استصحاب عدم النسخ.

اجبنا عنه بان دليله الإجماع والمتيقن منه أحكام هذه الشريعة ، فبالنسبة إلى أحكام الشريعة السابقة لا مخرج عما تقتضيه القاعدة ، فهذا البحث إنما يكون على مبنى القوم القائلين بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

وكيف كان فقد استدل لجريان الاستصحاب في الحكم الثابت في الشريعة

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٥.

السابقة : بان المقتضى موجود وهو جريان دليل الاستصحاب وعدم ما يصلح مانعا عدى أمور :

الأمر الاول : ما اشتهر من ان هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع فلا شك في بقائها حينئذ.

والظاهر ان منشأ ما ذكر : ان الحكم المجعول لا مقام له سوى مقام الوحى به بلسان جبرائيل على قلب النبي (ص) ، فذلك الإنشاء القائم بجبرائيل ، عين جعله تعالى ، فيكون الباقي عين ذلك الموحى به إلى ذاك النبي ، وعليه ، فإذا بقى حكم واحد من أحكام الشريعة السابقة لزم كون نبينا (ص) تابعا لذلك النبي السابق في ذلك الحكم ، وهذا ينافي ما دلت النصوص الكثيرة عليه من ان الانبياء لو كانوا أحياء لما وسعهم إلا اتباعه وانه افضل الانبياء هذا بناءً على عدم كون جعل الحكم بيد النبي (ص) وإلا فالامر اوضح.

واجيب عنه بان جعل الأحكام إنما يكون من قبل الله تعالى وله مقام غير مقام الوحى : إذ جبرائيل يكون سفيرا ومبلغا لتلك الأحكام المجعولة المحفوظة في اللوح المحفوظ لا انه منشئها.

وعليه فبقاء حكم من أحكام الشريعة السابقة لا يستلزم اتباع نبينا (ص) لذلك النبي كما لا يخفى ، فعدم الدليل على نسخ الجميع يكفي في الحكم بالعدم.

ويمكن ان يقال كما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) بان اللوح المحفوظ عند

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٣ ص ٢١٦.

اهله عبارة عن عالم النفس الكلية الموجود فيها صور ما في العقل الكلي بنحو الفرق والتفصيل فليس وجود كل ما فيها إلا بوجود النفس الكلية ، لا بوجود ذلك الشيء الخاص به في نظام الوجود ، فالحكم بوجوده الخاص غير موجود في ذلك المقام الشامخ.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (١) بما حاصله انه بعد ما لا كلام في ان شريعة الاسلام ناسخة لجميع الشرائع السابقة ، وقع الكلام في ان المراد بالنسخ :

١ ـ هل هو نسخ كل حكم من الأحكام.

٢ ـ أو نسخ بعضها.

٣ ـ أو نسخ جميعها من حيث كيفية الالتزام بمعنى وجوب الالتزام بكل حكم من حيث انه جاء به نبينا (ص) ، وان كان بعضها مما جاء به النبي السابق.

لا سبيل إلى الأول ، بل يمكن دعوى الضرورة على فساده فانه لا كلام في ان جملة من المحرمات الشرعية كشرب الخمر ، ونكاح المحارم ، واللواط ، وما شاكل كانت محرمة في جميع الشرائع السابقة وكذا المستقلات العقلية.

واما الثاني : فالعلم الإجمالي به لا يمنع عن إجراء الأصل لانحلاله اما حقيقة بالعلم التفصيلي بنسخ جملة من الأحكام بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من موارد النسخ ، أو حكما من جهة ان حكم جملة من الموارد معلوم ، فلا يجري فيها أصالة عدم النسخ ، لعدم الاثر بعد معلومية الحكم فان الأصل يجري لتعيين

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٦.

الوظيفة وبعد معلوميتها لا مورد له.

واما الثالث : فيرده انه لا دليل على وجوب التدين بكل حكم بما انه جاء به نبينا (ص) بل يجب التدين بأنه حكم الله تعالى جاء به هذا النبي أو النبي السابق مع انا نثبت بالاستصحاب كون الحكم عند نبينا (ص) على طبق الحكم عند النبي السابق ، والمستصحب حينئذ هو الحكم أي ذات المقيد مع قطع النظر عن الخصوصيات ، لا المقيد بالقيد المذكور بعد عدم كون القيد المذكور من خصوصياته المقومة له.

ولكن يرد عليه انه بعد دلالة الدليل على ان نبينا (ص) لم يدع موضوعا إلا وبين حكمه ، اما مماثلا للحكم السابق ، أو مخالفا.

ان أريد استصحاب شخص الحكم السابق فهو متيقن الارتفاع.

وان أريد الشخص الثابت في هذه الشريعة فهو مشكوك الحدوث.

وان أريد استصحاب الجامع بينهما فهو من قبيل الاستصحاب في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي فلا يجري لما مرّ.

الأمر الثاني : ان الحكم الثابت في حق جماعة لا يمكن اثباته في حق آخرين لتغاير الموضوع فان ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه ، وحيث لا يقين بثبوته في حقنا وإنما اليقين متعلق بثبوته في حق غيرنا ، فالموضوع متعدد ومع تعدده لا يجري الاستصحاب.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم (١) باجوبة :

١ ـ انا نفرض شخصا مدركا للشريعتين ، فإذا جرى في حقه الاستصحاب وحكم بثبوته له يثبت لسائر المكلفين بدليل الاشتراك.

وفيه : ان دليل الاشتراك إنما يدل على ان كل حكم مترتب على موضوع إذا انطبق ذلك العنوان المأخوذ في الموضوع على أي شخص ثبت في حقه الحكم بلا تمييز بين الأفراد : لا اشتراك جميع الأفراد في كل حكم ، إذ من الضرورى اختلافهم فيها مثلا المسافر حكمه غير حكم الحاضر ، والمستطيع حكمه غير حكم غيره ، ولا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري ، مثلا إذا كان شخص شاكا في الحرمة يجري في حقه أصالة البراءة ، ويحكم بالاباحة ، ولا يثبت ذلك في حق من هو متيقن بالحرمة ، لعدم انطباق الموضوع وهو الشاك عليه.

وفي المقام المدرك للشريعتين ، بما انه ينطبق عليه العنوان المأخوذ في الاستصحاب واركانه تامة في حقه يجري في حقه ذلك ويحكم بثبوته له.

واما غيره ممن لا يتم في حقه اركان الاستصحاب ، فلا معنى لثبوت الحكم له ، وليس ذلك منافيا لقاعدة الاشتراك في شيء وهو واضح.

نعم ، اصل حجية الاستصحاب مع تمامية موضوعه مشتركة بين الجميع.

٢ ـ النقض باستصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام هذه الشريعة.

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٥٥ (الأمر الخامس).

وقد مر جوابه في أول المبحث وسيأتي توضيحه عند بيان المختار.

٣ ـ ما ذكره بقوله ان المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لاشخاصهم فيه انتهى (١).

وقد اختلفت كلمات القوم في بيان مراده وذكروا وجوها :

الوجه الاول : ما أفاده العلمان الخراساني (٢) والنائيني (٣) ، وحاصله ان جعل الأحكام والمنشئات الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي يؤخذ للموضوع عنوان كلى مرآتا لما ينطبق عليه من الأفراد عند وجودها ، كالمستطيع الذي اخذ عنوانا لمن يجب عليه الحج فالموضوع ليس آحاد المكلفين لكى يختلف الموضوع باختلاف الاشخاص ، فكل من ينطبق عليه العنوان المأخوذ موضوعا إلى انقضاء الدهر يثبت عليه ذلك الحكم المجعول لذلك العنوان ، فالشك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة السابقة كالشك في بقاء الحكم في هذه الشريعة ، فيجري الاستصحاب.

وسيأتي الجواب عنه عند بيان المختار في المقدمة الأولى.

الوجه الثاني : ان مراده تعلق الحكم بالكلى بما هو كتعلق الملكية بكلى الفقير في الزكاة.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٣.

(٣) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٧٨ ـ ٤٧٩ (التنبيه السابع) / أجود التقريرات (التنبيه السابع) ج ٢ ص ٤١٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٢٧.

وأورد عليه المحقق الخراساني (١) بقوله ضرورة ان البعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك ، بل لا بدَّ من تعلقه بالاشخاص وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية انتهى.

وفيه : ان الثواب والعقاب والبعث والزجر نظير انتفاع الفقير بالمال فان الانتفاع أيضاً شان الفرد لا الكلي ، والحل ان انطباق الكلي على الفرد يوجب ترتب الثواب على موافقة التكليف والبعث المتوجه إليه ، وترتب العقاب على مخالفته.

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره) (٢) وهو ان المراد ان الحكم متعلق بذوات الحصص من دون دخل لخصوصياتهم الملازمة لها المفردة لها ، وعليه فيسرى لا محالة إلى غيرها من الحصص غير الموجودة لفرض عدم دخل الخصوصيات المميزة.

ويرده ، أولا : ان مراد الشيخ ليس ذلك قطعا لتصريحه بان الموضوع هو الجماعة على وجه لا مدخل لاشخاصهم ، لا على نحو لا مدخل لخصوصياتهم.

وثانيا : انه غير تام : لان تعلق الحكم بموضوع لا يكون قهريا بل يكون سعته وضيقه منوطتان باعتبار من بيده الاعتبار.

والحق في توجيه هذا الوجه يتوقف على بيان مقدمتين :

الأولى ان حقيقة النسخ عبارة عن انتهاء أمد الحكم لا رفع الحكم الثابت

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٤.

(٢) نهاية الدراية ج ٣ ص ٢١٨.

فانه مستلزم للبداء المستحيل في حقه تعالى.

وعليه فبما ان الإهمال النفس الامرى غير معقول فالحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية ، اما ان يكون مجعولا إلى الابد ، أو إلى وقت معين ، فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان خاص فلا يجري الاستصحاب.

الثانية : انه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها بان يكون من يشك في ثبوت الحكم له متيقنا بثبوته له سابقا.

وعلى هذا فعدم جريان استصحاب عدم النسخ ظاهر فان من شك في ثبوت حكم ثابت في الشريعة السابقة له لا يكون متيقنا بثبوته له بل بثبوته في حق غيره فلا يجري الاستصحاب.

لا يقال ان لازم ذلك عدم جريان استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة فما المثبت لكل حكم في حقنا.

فانه يقال ان المثبت له الدليل الخارجي ، مثل حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة (١) الخ ، ولعل مراد من قال ان استصحاب عدم نسخ أحكام هذه الشريعة من الضروريات نظره إلى ذلك لا إلى الاستصحاب المصطلح.

واما ما نسب إلى المحقق العراقي (ره) (٢) في توجيه جريان الاستصحاب بأنه بناءً على جريان الاستصحاب التعليقي كما هو الحق لا غبار في جريانه بالنسبة

__________________

(١) بصائر الدرجات ص ١٤٨ ح ٧ / الكافي ج ١ ص ٥٨ باب البدع والرأي والمقاييس ح ١٩.

(٢) نهاية الأفكار ج ٤ ص ١٧٦

إلى الموجودين في الشريعة اللاحقة ، بان يقال انهم كانوا سابقا بحيث لو وجدوا كانوا محكومين بكذا والآن باقون على ما كانوا عليه ، فان مرجع الشك في نسخ حكم الشريعة السابقة إلى الشك في بقاء القضية التعليقية والملازمة المزبورة.

فيرد عليه ان الاستصحاب التعليقي على فرض جريانه (وقد عرفت عدم جريانه) إنما يختص بما إذا كان الموضوع باقيا ولو بنظر العرف وإذا فرضنا اختصاص الحكم بالمدرك للشريعة السابقة ، أو احتملنا ذلك ، لا مورد للاستصحاب لعدم إحراز بقاء الموضوع وهو المدرك للشريعة السابقة.

فالمتحصّل مما ذكرناه تمامية هذا الوجه وانه لا يجري استصحاب حكم الشريعة السابقة ، كما لا يجري استصحاب عدم النسخ ، أضف إليه ما تقدم منا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية مطلقا.

ثم انه قد ذكر وجهان آخران لعدم الجريان.

أحدهما : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو انه لو سلم جريان الاستصحاب ، ولكن بما ان ثبوت الحكم الثابت في الشرائع السابقة في هذه الشريعة إنما يكون بامضاء من الشارع كما يدل عليه قوله (ص) ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد امرتكم به (٢) الخ.

فمع عدم العلم بالإمضاء لا جدوى في استصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة.

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٨٠ (نعم يمكن ان يقال).

(٢) الكافي ج ٥ ص ٨٣ باب الاجمال في الطلب ح ١١ وفيه بدل «امرتكم به» «أنبأتكم به» / مستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٣٠ ح ١٤٦٥٥.

وفيه : ان نفس دليل الاستصحاب دليل الإمضاء فان اطلاقه مع قطع النظر عما مر يشمل تلك الأحكام فتكون ممضاة بدليل عام ولا بأس به.

ثانيهما : ان العلم الإجمالي بنسخ جملة من أحكام الشريعة السابقة مانع عن جريان الاستصحاب لعدم جريانه في اطراف العلم الإجمالي.

وفيه : انه إنما يمنع ما لم ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم ، أو الفحص في ما بايدينا من الأخبار ، والعلم بعدم كون هذا المورد الخاص في الأخبار : فان العلم الإجمالي بنسخ جملة من الأحكام ينحل بالعلم بوجود الناسخ ، في ما بايدينا من الأخبار المدونة في الكتب المعتبرة انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، فالصحيح ما ذكرناه.

حول اعتبار مثبتات الاستصحاب وعدمه

التنبيه السابع : المشهور بين الأصحاب ، ان الاستصحاب على فرض كون حجيته ثابتة بالاخبار ، وكونه من الأصول لا يكون حجة في مثبتاته ، وانه على فرض كونه من الامارات حجة في مثبتاته ، وهذا منهم مبني على ما هو المشهور بينهم ، من حجية الامارات في مثبتاتها ، وعدم حجية الأصول فيها.

وتنقيح القول في المقام يقتضي تعيين محل الكلام أولا.

ثم بيان ما قيل في وجه ذلك :

اما الأول : فلا اشكال ولا كلام في حجية الاستصحاب بالنسبة إلى

المستصحب ، وما يترتب عليه من الآثار الشرعية ، بلا واسطة ، أو بواسطة الاثر الشرعي ، كما لو استصحب طهارة الماء ، فانه يترتب عليه طهارة ماء نجس امتزج به لو كان كرا ، وطهارة الثوب المغسول بذلك الماء وهكذا ، وكذا يترتب على الاستصحاب الحكم العقلي الذي يكون موضوعه اعم من الواقع والظاهر ، كوجوب الاطاعة وحرمة المخالفة ، فلو استصحب وجوب فعل يترتب عليه ذلك.

وإنما الكلام في حجيته بالنسبة إلى الحكم العقلي المترتب على الحكم الواقعي والآثار الشرعية المترتبة بواسطة ذلك الاثر العقلي ، والملازمات ، واللوازم ، والملزومات العقلية ، أو العادية للمستصحب بقاء ، واما ما هو من اللوازم حدوثا وبقاء فيجري في نفسه الاستصحاب أو الآثار الشرعية بواسطة هذه الأمور ، والمراد بالمثبتات التي قالوا ، ان الامارات حجة فيها ، دون الأصول تلكم.

فما في الكفاية (١) من انه لا شبهة في ترتيب ما للحكم من الآثار الشرعية والعقلية على اطلاقه غير تام.

وايضا لا اشكال في ان النزاع ليس في المحذور الثبوتي ، بل في ان الأدلة الشرعية تدل في مقام الإثبات على ذلك أم لا تدل عليه.

وبعد ذلك نقول ان المحقق الخراساني (٢) افاد في وجه عدم حجية

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٤.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٤ ـ ٤١٥.

الاستصحاب في مثبتاته ، انها تتوقف على احد أمرين :

اما تنزيل المستصحب بلوازمه العقلية ، والعادية.

واما تنزيله منزلة المتيقن بلحاظ مطلق ما له من الاثر.

اما على الأول فواضح ، واما على الثاني : فلان اثر الاثر اثر فما هو اثر لازم الشيء اثر له فإذا كان التنزيل بلحاظ جميع الآثار ثبت آثار اللازم أيضاً وشيء منهما لم يثبت.

اما الأول : فلان ظاهر القضية تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن مع دخل العنوانين في الموضوع ، ومعلوم ان اللوازم ليست متيقنة بل عدمها متيقن.

واما الثاني : فلان المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه ، واما آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها وما لم يثبت لحاظها بوجه لما كان وجه لترتيبها عليه بالاستصحاب.

ثم افاد في وجه الفرق بين الامارات والأصول (١) ، ان الأمارة كما تحكي عن الشيء تحكي عن لوازمه وملزوماته ، وملازماته ، ودليل الحجية يعم الجميع ، والأصول منها الاستصحاب ، ليس لها هذا الشأن لعدم الحكاية والدلالة فيها.

وفي كلامه (قدِّس سره) نظر ، اما أولا : فلان الحكاية قصدية متقومة بالقصد والالتفات ، والملزومات ، واللوازم ، والملازمات قد تكون غير ملتفت إليها فلا تكون الأمارة حاكية عنها.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

واما ثانيا : فلان دعوى عدم الإطلاق لدليل حجية الاستصحاب مع انه لاوجه لها ينافيها ما سيختاره من ترتيب آثار الواسطة إذا كانت جلية أو خفية ، وإذا لم يكن لدليل الاستصحاب إطلاق فلا مجال للقول المزبور.

والمحقق العراقي (ره) (١) وجه كلام المحقق الخراساني (ره) بما يندفع به الإيراد الأول ، وحاصله ان الحكاية التصديقية وان لم تكن مع عدم الالتفات ، إلا ان الحكاية التصورية ، موجودة وهي تكون موضوع الحجية.

وفيه : ان موضوع الحجية في الخبر ، الحاكى التصديقي ، واما التصورى فلا يكون حجة بلا ريب.

وقد افاد المحقق النائيني (ره) (٢) في وجه الفرق بين الامارات والأصول في ذلك : بان مرجع التعبد في الطرق إلى جعل ما ليس بعلم علما ، وتتميم كشفه الناقص ، وبعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات ، واللوازم ، والملزومات.

وبالجملة : كما ان الشيء بوجوده الواقعي يلازم وجود اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات ، كذلك احرازه يلازم احرازها ، وبعد ما كانت الأمارة الظنية محرزة للمؤدى يترتب عليها جميع ما يترتب عليه من الآثار الشرعية ولو بالف واسطة.

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ١٨٤ بتصرف.

(٢). فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ٤٨١ ـ ٤٨٢ / أجود التقريرات ج ٢ ص ٤١٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٢٩.

واما الاستصحاب فليس المجعول فيه الإحراز ، بل مجرد تطبيق العمل على المؤدى بلا توسيط الإحراز ، فلا بد من الاقتصار على ما هو المتعبد به وليس هو إلا تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، والمؤدى ان كان حكما فهو المتعبد به وان كان موضوعا فالمتعبد به ما يترتب عليه من الحكم الشرعي ، واما آثار اللوازم ، فهي لا تكون مترتبة عليه ، وليس موضوعها مؤدى الأصل فلا وجه لترتبها.

وفيه : ان المراد من التلازم بين إحراز الشيء ، واحراز ما يلازمه ، ان كان هو التلازم بين الاحرازين الوجدانيين ، فهو مما لا شبهة فيه ، ولكنه غير مربوط بالمقام ، وان كان هو التلازم بين الاحرازين التعبديين ، فيرد عليه ان ذلك تابع لدليل التعبد فمع فرض عدم الدليل على التعبد باحراز اللوازم والملزومات والملازمات ، لا تلازم بينهما ، وان أريد ان إحراز الشيء تعبدا يلازم إحراز لوازمه وجدانا فهو بين الفساد.

واما ما أفاده (١) من انه بعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات ، ففيه ان ما يكون اثرا تكوينيا للشيء أو لاحرازه الوجداني ، ولا يكون اثرا تكوينيا لاحرازه التعبدى ، لا مجال لاجراء تلك القواعد فيه.

والحق في المقام ان يقال ان حجية دليل الشيء ، في ملازماته ، وملزوماته ، ولوازمه تتوقف على قيدين :

__________________

(١) المحقق النائيني في فوائد الأصول ج ٤ ص ٤٨٧.

أحدهما كون ذلك الشيء كاشفا عنها ككشفه عن مؤدى نفسه نظير الخبر الحاكي عن امر واقعي كشرب زيد ما في الكأس ، المعين الخارجي ، فانه كاشف عن شربه بالمطابقة ، وعن موته إذا كان ذلك سما في الواقع بالالتزام.

ثانيهما ثبوت الإطلاق لدليل اعتباره من جميع الجهات كما في أدلة حجية الخبر الواحد ، حيث انها باطلاقها تدل على ان مقول قول العادل مطابق للواقع بتمام آثاره وخصوصياته.

ومع فقد احد القيدين أو كليهما ، لا يكون دليل ذلك الشيء حجة في مثبتاته ، وفي بعض الامارات يكون القيد الثاني مفقودا كما في الظن بالقبلة ، حيث انه حجة من باب الطريقية ، ومع ذلك لا يكون حجة في مثبتاته ولا يثبت به لازمه وهو دخول الوقت ، فان قوله (ع) فليتحر أي فليأخذ بالاقوى ، لا يدل على ازيد من حجيته للقبلة خاصة.

واما في الأصول ومنها الاستصحاب فالمفقود هو الأول ، فان المأخوذ في موضوع الاستصحاب اليقين السابق ، والشك اللاحق ، ومع هذين القيدين يتعبد الشارع بالوظيفة المقررة.

وعليه فبالنسبة إلى المؤدى هما موجودان يتعبد الشارع به ، وبالنسبة إلى اللوازم والملزومات والملازمات ، هما مفقودان لا يتعبد بها ، مثلا : لو تيقن حياة زيد ، ثم شك في موته ، فبالنسبة إلى الحياة ، اليقين السابق والشك اللاحق موجودان ، واما بالنسبة إلى نبات اللحية الذي هو من اللوازم العادية لبقاء زيد إلى زمان الشك ، فهما مفقودان ، فبدليل الاستصحاب لا يتعبد به.

وان شئت فقل ، ان الحكم يدور مدار وجود الموضوع ، والفرض انه بالنسبة

إلى اللوازم واختيها ، مفقود ، فلا تثبت به.

وبالجملة ، بعد ما لم يكن للاستصحاب ، وكذا سائر الأصول ، جهة كشف عن الواقع ، وكان دليل التعبد متضمنا للتعبد بترتيب آثار ما كان على يقين منه وشك ، واللوازم ليست مما كان على يقين منها فشك ، وآثارها ليست آثار الملزومات لها ، فلا تكون ادلتها شاملة للتعبد بآثار اللوازم.

ودعوى : ان آثارها إنما تكون آثارا للمؤدى ، لقياس المساواة فعلى القول باطلاق دليل الاستصحاب يدل ذلك على لزوم ترتيبها أيضاً.

مندفعة : بان قياس المساواة يتم إذا كانت اللوازم من سنخ واحد ، بان كانت جميعها تكوينية أو تشريعية ، مثلا : من لوازم حركة اليد حركة المفتاح ومن لوازمها انفتاح الباب ، فيكون الانفتاح لازم حركة اليد.

وهكذا في التشريعيات فإن نجاسة الملاقي للمتنجس من لوازم نجاسة الملاقى وهي من لوازم الملاقاة مع النجس.

واما إذا لم تكن جميعها من سنخ واحد ، كما إذا كان الاثر الشرعي مترتبا على امر عقلي تكويني فليس الاثر التشريعي من لوازم المؤدى :

والسر فيه ان ترتب الاثر الشرعي على موضوعه ليس من قبيل ترتب المعلول على علته ، فلا يكون من اللوازم بل من أحكامه فلا تصدق قضية : لازم اللازم ، لازم.

عدم الفرق بين خفاء الواسطة وجلائها

ثم انه لا يكون الأصل المثبت معنونا في كلمات القدماء ، إلا انهم في جملة من الفروع الفقهية لا يعتمدون على الأصول المثبتة ، ومع ذلك في بعض الفروع اعتمدوا عليها ، وسيمر عليك ، ولذلك وجه المتأخرون ذلك ، بان الواسطة في تلك الموارد خفية واستثنوا هذا المورد وحكموا فيه بحجية المثبت ، والمحقق الخراساني (١) اضاف إليه جلاء الواسطة.

وكيف كان فقد استدل الشيخ الأعظم (ره) (٢) وتبعه المحقق الخراساني (٣) على اعتبار الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفية خفاء يعد الآثار المترتبة عليها آثارا لذى الواسطة ، بان المتفاهم عرفا من دليل الاستصحاب هو ايجاب ترتيب ما يعد بحسب نظر العرف من الآثار الشرعية لنفس المستصحب ، وان كانت حقيقة من آثار الواسطة : وذلك لما عرفت من ان الدلالة على الاثر الذي بلحاظه يكون التنزيل في مورد الاستصحاب إنما هو بمقدمات الحكمة ولا يتفاوت بحسبها فيما يعد عرفا اثرا بين ما كان اثرا بلا واسطة أو معها.

وأورد عليهما المحقق النائيني (ره) (٤) بان الحكم الثابت لموضوع قد يكون

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦ بتصرف.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٤.

(٣) كفاية الأصول ص ٤١٥ (نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوب بنظر العرف).

(٤) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤١٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٣٥.

بنظر العرف ثابتا للاعم منه ، أو الاخص بحسب المتفاهم العرفي من الدليل ، فيكون الظهور ، الفعلي التركيبي ، على خلاف الظهور الافرادي الوضعي ، وفي هذه الصورة نظر العرف يكون متبعا.

وقد يكون الموضوع بنظر العرف موافقا للمدلول الوضعي لكن العرف بحسب مناسبات الحكم والموضوع ، يرون بعض الخصوصيات من مقومات الموضوع وبعضها من علل ثبوت الحكم ومن قبيل الواسطة في الثبوت ، وفي هذه الصورة أيضاً يكون نظر العرف متّبعا ، كما حقق في مبحث حجية الظهور.

واما في غير هذين الموردين مما يرجع إلى المسامحة في التطبيق بعد معلومية مفهوم الموضوع بحدوده وقيوده ، كالمسامحة في تطبيق الوزن المعين كالحقة على الموجود الخارجي الذي هو اقل منها بمثقال ، فنظر العرف لا يكون متبعا.

وعليه فإذا كان معنى خفاء الواسطة ان العرف بحسب ما يستفاد من الدليل أو بحسب ما ارتكز في اذهانهم من مناسبات الحكم والموضوع ، يفهمون ان الحكم ثابت لذى الواسطة والواسطة إنما تكون علة للحكم وواسطة في الثبوت ، فهذا يرجع إلى انكار الواسطة وان الحكم في الحقيقة ثابت لذى الواسطة.

وان كان معناه ان العرف يتسامحون في التطبيق مع ان ، الحكم ثابت للواسطة لخفائها ويرتبون الحكم على ذي الواسطة فهو داخل في المسامحات العرفية التي اتفقت كلماتهم على انها تضرب على الجدار ، فاستصحاب عدم خروج الودى بعد البول مثلا لا يكفي في الحكم بعدم لزوم الدلك.

ولكن الظاهر ان مرادهما (١) ليس هو الرجوع إلى المسامحات العرفية ، وإنما يدعيان الرجوع إلى العرف في تحديد مفهوم النقض المترتب عليه الاستصحاب ، بدعوى ان الخطاب إنما يدل على حرمة نقض ما يعد نقضا بنظر العرف ، والعرف يرون ان عدم ترتيب آثار الواسطة إذا كانت خفية نقض لليقين السابق لانهم يرون اثرها اثرا لذى الواسطة وان كان بالدقة اثرا لها.

فالصحيح في الجواب ان يقال ان مفهومي الابقاء والنقض من المفاهيم الواضحة وهما يصدقان على ترتيب آثار المتيقن نفسه وعدم ترتيبها ، فإذا فرضنا ترتيب آثاره ، دون آثار الواسطة لما كان هناك نقض أصلاً ، وإنما العرف يرونه نقضا لمسامحتهم في التطبيق أي بنائهم على كونها آثارا ، لذى الواسطة ، ولا عبرة بنظر العرف في التطبيق.

فالاظهر انه لا اثر لخفاء الواسطة ، ولا فرق بينه وبين جلائها.

وألحق المحقق الخراساني (٢) بذلك بعض موارد جلاء الواسطة ، وذكر له موردين :

الأول : ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابى ، هي العلة التامة ، أو الجزء الاخير منها ، وهو الذي ذكره بقوله ، ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين المستصحب تنزيلا كما لا تفكيك بينهما واقعا انتهى.

والوجه فيه ، ان العلة التامة أو الجزء الاخير منها ، والمعلول ، كما لا تفكيك

__________________

(١) الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني كما مر.

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٥.

بينهما واقعا لا تفكيك بينهما تنزيلا بنظر العرف وبحسب المتفاهم العرفي يكون التعبد بالعلة تعبدا بالمعلول.

الثاني : ما إذا كان مورد التعبد الاستصحابي من الأمور المتضايفة ، كالأبوّة ، والبنوة ، وهو الذي ذكره بقوله أو بوساطة ما لأجل وضوح لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عد اثره اثرا لهما.

والوجه فيه ان العرف لا يرونهما شيئين ، بل هما عندهم شيء واحد ذو وجهين ، واثر أحدهما اثر الآخر.

ولكن يرد على الأول ، انه بعد التحفظ على ان محل الكلام ، ما إذا كان هناك اثران شرعيان ، أحدهما مترتب على العلة التامة أو الجزء الاخير منها ، والآخر مترتب على المعلول.

كيف يتصور اليقين السابق بوجود العلة التامة ، دون معلولها مع انهما لا ينفكان حدوثا وبقاء ، وعليه فلا محالة هناك يقين سابق وشك لاحق بالنسبة إلى كل منهما فيجري الاستصحاب فيهما.

وبه يظهر ما في الثاني فان المتضائفين متكافئان قوة وفعلا يقينا ، وشكا ، فمع اليقين بالابوة لا محالة يكون يقين بالبنوة ، وكذا الشك ، فيجري في كل منهما الاستصحاب فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.

الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت

بقي الكلام في الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت ، وهي كثيرة نذكر جملة منها ويظهر الحال في البقية.

منها : ما لو اسلم احد الوارثين في أول شعبان مثلا ، والآخر في أول شهر رمضان واختلفا في موت المورث ، فادعى الأول انه مات في شعبان ، وادعى الثاني انه مات في شهر رمضان فقد حكم الأصحاب ، بأنه يكون المال بينهما نصفين لاصالة بقاء حياة المورث ، مع ان موضوع التوارث موت المورث عن وارث مسلم والاصل المزبور بالنسبة إلى هذه الإضافة مثبت.

وفيه : ان الإضافة المزبورة غير دخيلة في الارث ، بل غاية ما دل عليه الدليل من الإجماع والنص ان الكفر مانع.

وبعبارة أخرى : الموضوع مركب من أمرين ، موت المورث ، مع اسلام الوارث ، فإذا كان أحدهما وجدانيا وجرى الأصل في الآخر وضم الأصل إلى الوجدان ترتب الحكم ، وليس هذا من المثبت.

ومنها : انه إذا كان يد شخص على مال الغير ، وشك في اذن صاحبه حكموا بضمانه : لاصالة عدم الرضا من المالك ، مع ان موضوع الضمان اليد العدوانية وهذا العنوان لا يثبت بالاصل المزبور ، إلا على القول بالمثبت.

وفيه : ان موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير بضميمة عدم اذنه صدق عنوان العدوان ، أم لم يصدق فيأتي فيه ما ذكرناه في الفرع السابق.

ومنها : ما لو لاقى جسم طاهر مع المتنجس ، الذي كان رطبا وشك في بقاء رطوبته إلى حين الملاقاة فقد حكم بعضهم بنجاسة الطاهر ، لاستصحاب بقاء الرطوبة مع ان الموضوع هو سراية النجاسة إلى الطاهر.

وعليه ، فان كان المستصحب بقاء الرطوبة كان ذلك مثبتا ، والواسطة جلية وهو واضح ، وان كان هي الرطوبة المسرية كان مثبتا مع خفاء الواسطة.

ولكن الاظهر عدم ترتب الاثر المذكور على ذلك الاستصحاب والتمسك به إنما يكون من بعض الأصحاب لا جميعهم.

ومنها : استصحاب عدم الحاجب عند الشك في وجوده في محال الغسل أو المسح الذي عليه بناء الأصحاب مع انه بالنسبة إلى تحقق الغسل أو المسح من المثبت.

وفيه : ان الظاهر عدم كون الأصل المزبور من قبيل الاستصحاب ، بل الظاهر كونه من قبيل أصالة عدم القرينة من الأصول العقلائية ومدركها الغلبة ، هذا على فرض تسليمه ، مع ان للمنع عن جريانه مجالا واسعا وإنما بناء العقلاء على عدم الاعتناء إذا كانوا مطمئنين بالعدم.

ومنها : استصحاب عدم دخول هلال شوال في يوم الشك ، فانه مثبت لكون الغد يوم العيد ، وقد مر الكلام في ذلك في التنبيه الرابع.

ومنها : غير ذلك من الفروع وهي ما بين ما لا يكون الأصل فيه مثبتا ، وبين ما لا نسلم جريانه.

حكم ما إذا كان الاثر مترتبا بواسطة الأمر الانتزاعي

ثم ان صاحب الكفاية (١) ذكر تنبيهات ثلاثة ، أي :

الثامن ، والتاسع ، والعاشر ، وذكر فيها مطالب جميعها من فروع التنبيه السابق ، وكيف كان فما أفاده في التنبيه الثامن مطالب :

المطلب الاول : جريان الأصل المثبت فيما إذا كان الاثر مترتبا على المستصحب بوساطة عنوان كلى منطبق عليه أو بوساطة عنوان عرضي انتزاعي منطبق على المستصحب.

توضيح ذلك ان المستصحب ، اما ان يكون بنفسه موضوع الاثر أو يكون غيره ، وعلى الثاني ، اما ان يكون لذلك الغير وجود منحاز عنه في الخارج ، كاللازم ، والملزوم ، والمقارن ، واما ان لا يكون له وجود منحاز ، بل يكون عنوانا منطبقا عليه ، والثاني ، قد يكون طبيعيا بالاضافة إلى فرده.

وبعبارة أخرى : يكون عنوانا منتزعا عن مرتبة الذات ، كالانسان بالاضافة إلى زيد ، والخمر بالاضافة إلى مصداقها ، وهكذا وقد يكون عنوانا قائما به ، والثاني اما ان يكون قيامه به قياما انتزاعيا كالفوقية بالاضافة إلى السقف ، واما ان يكون قيامه به قياما ، انضماميا كالابيض بالاضافة إلى الجسم.

لا اشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

كما لا اشكال في عدم جريانه في القسم الثاني لترتيب آثار ذي الواسطة كما مر.

واما الأقسام الثلاثة الأخيرة فظاهر كلام الشيخ الأعظم (ره) (١) عدم الجريان فيها قال ، ومن هنا يعلم انه لا فرق في الأمر العادى بين كونه متحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلا مفهوما ـ إلى ان قال ـ وبين تغايرهما في الوجود انتهى.

والمحقق الخراساني (٢) اختار الجريان في القسمين منها وهما : الأول ، والثاني ، وعدم الجريان في الاخير ، فتنقيح القول بالبحث في موضعين.

الموضع الأول : فيما إذا كان موضوع الاثر طبيعيا منطبقا على المستصحب انطباق الكلي على فرده.

فقد استدل الشيخ (٣) لما اختاره بتغاير المستصحب مع موضوع الحكم حيث ان الأول جزئي ، والثاني كلي.

وردّه صاحب الكفاية (٤) ، بان وجود الكلي عين وجود فرده ، فلا يكون استصحاب الفرد وترتيب اثر الكلي من قبيل الأصل المثبت.

ويرد عليه ما تقدم مفصلا ، من ان وجود الكلي عين وجود الفرد في عالم

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٠ من (الأمر السادس).

(٢) كفاية الأصول ص ٤١٦ ـ ٤١٧.

(٣) الأعظم في فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٠.

(٤) كفاية الأصول ص ٤١٦.

التكوين ، لا في عالم الاعتبار والتشريع فان التعدد في ذلك المقام اوضح من ان يبين.

والحق في الإيراد على الشيخ الأعظم ان الفرد إذا كان متيقنا سابقا ، يكون الكلي أيضاً ، متيقنا فيجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه حكمه.

مع انه إذا كان التكليف ، لا بنحو صرف الوجود ، بل بنحو جميع الوجودات ، حيث ان الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية ، فلا محالة ، وان كان موضوع الاثر في لسان الدليل هو الكلي ، إلا انه ينحل إلى أحكام عديدة ، وكل فرد يكون موضوعا لحكم خاص ، فيجري فيه الأصل ويترتب عليه ذلك الحكم.

نعم : إذا كان التكليف بنحو صرف الوجود ، يتعين الجواب الأول.

الموضع الثاني : ما إذا كان الموضوع عنوانا يكون قيامه به قياما انتزاعيا.

وقد استدل المحقق الخراساني (١) للجريان وترتب الاثر : بان الأمر الانتزاعي في هذا القسم لا وجود له سوى وجود منشأ الانتزاع الذي هو المعروض لا شيء آخر ، فاستصحابه لترتيب اثره ليس بمثبت ومثل له بالملكية والغصبية ، بدعوى انهما من قبيل خارج المحمول لا بالضميمة.

أقول : يرد على مثاله انه ليس الملكية من قبيل الخارج المحمول فان الملكية من الأمور الاعتبارية المستقلة في الجعل كما تقدم ، فالاولى ان يمثل له بالتقدم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

والتاخر ونحوهما.

ويرد على دليله ان الاثر ان كان لعنوان التقدم ، فلا ريب في انه غير زيد ، إذ هو المتقدم ، نعم ، من لوازم وجوده تحقق التقدم لا انه عينه ، ولو كان للمتقدم فالمستصحب بنفسه موضوع الاثر لا غيره.

وبما ذكرناه ظهر عدم جريان الاستصحاب في القسم الاخير أيضاً ، وهو ما لو كان الموضوع عنوانا يكون قيامه به قياما انضماميا نظير الأبيض بالاضافة إلى الجسم.

الاستصحاب في قيود المأمور به

المطلب الثاني : ما أفاده بقوله وكذا لا تفاوت في الاثر المستصحب أو المترتب عليه بين ان يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف وبعض انحاء الوضع أو بمنشإ انتزاعه كبعض انحائه كالجزئية والشرطية والمانعية (١) انتهى.

ملخص القول في المقام ، انه قد تقدم الكلام ، في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية المتقدمة على الجعل كشرائط الوجوب ، والمتأخرة عنه كشرائط الواجب في مبحث الأحكام الوضعية.

إنما الكلام في استصحاب الشرط كالطهارة والمانع ، إذ لا كلام في جريانه

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٦.

فيما هو جزء الموضوع ، ومنشأ الإشكال أمور :

الأول : ان المترتب على الشرط هو الشرطية وهي ليست بمجعولة فلا يجري.

وفيه : ان امر وضع الشرطية ورفعها بيد الشارع وهذا المقدار يكفي في جريانه.

الثاني : انه لا يترتب على جريانه اثر شرعي ، بل المترتب إنما هو اثر عقلي وهو حصول الفراغ وتحقق الامتثال ونحو ذلك.

والجواب عن ذلك ، ان هذا الإشكال نشأ من توهم لزوم كون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم شرعي ، مع ان هذا مما لم يدل عليه دليل ، بل الدليل دل على لزوم كونه مما يتعبد به شرعا ، وحيث : ان المتعلق أيضاً صالح لان يتعبد به الشارع بالتحقق أو عدمه ، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز فان المتعبد به تحقق المتعلق.

وعليه فإذا جرى استصحاب الطهارة وحكم الشارع الاقدس بتحققها ، وانضم إليها سائر الاجزاء والشرائط تحقق الامتثال والفراغ.

الثالث : ان مرجع القيد المأخوذ شرطا في ظاهر الخطاب إنما هو إلى دخل التقيد به في المأمور به وهذا التقيد والاضافة امر واقعى لا تعبدي ولا شرعي وعليه فاستصحاب ذات الشرط لترتيب اثر التقيد من الأصول المثبتة.

وفيه : ان الإضافة من الأمور التي موضوعها اعم من الظاهر والواقع فإذا استصحب الشرط وأتى بالمأمور به حصل التقيد قهرا.

وبعبارة أخرى : ليس التقيد من لوازم الوجود الواقعي للشرط بل اعم منه ومن الوجود التعبدى وقد مر في استصحاب الزمان تمام الكلام في ذلك ، فإذا

استصحب الشرط وانضم إليه بقية الاجزاء والشرائط تحقق ذلك الأمر الحقيقي وجدانا.

المطلب الثالث : قال (١) وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين ان يكون ثبوت الاثر ووجوده أو نفيه وعدمه انتهى.

مراده من ذلك الرد على الشيخ الأعظم (٢) حيث انه في مبحث البراءة التزم بعدم جريان استصحاب عدم الحكم من جهة انه لا يترتب عليه القطع بعدم العقاب ، إلا بضميمة قبح العقاب بلا بيان ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب ، وان أريد به ترتب الحكم بعدم العقاب عليه كان ذلك من قبيل الأصل المثبت ، لأنه من الأحكام العقلية.

نعم ، ان ثبت به الاذن والترخيص ترتب عليه عدم العقاب لكن احد الضدين لا يثبت بنفي الضد الآخر.

وقد مر هناك الجواب عن ذلك وعرفت انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب سوى كون المستصحب أو اثره امر وضعه ورفعه بيد الشارع كان ذلك وجوديا أو عدميا وانه يترتب على عدم التكليف عدم العقاب قطعا فراجع.

ثم لا يخفى ان الشيخ (ره) في مطاوى مباحث الاستصحاب يسلم جريان استصحاب عدم التكليف ، ولذا في جواب من قال انه يقع التعارض دائما بين

__________________

(١) المحقق الآخوند في الكفاية ص ٤١٧.

(٢) فرائد الأصول ج ١ ص ٣٣٧ (وقد يستدل على البراءة بوجوه غير ناهضة) عند قوله : «واما لو قلنا باعتباره من باب الاخبار .. الخ».

استصحاب الوجود واستصحاب العدم ، لم يتعرض الشيخ لذلك ، ولم يجب ان استصحاب العدم في نفسه لا يجري.

ومما ذكرناه ظهر ما في التنبيه التاسع والعاشر في الكفاية (١) : فانه قد مر في أول التنبيه السابع ان الآثار العقلية التي يكون موضوعها اعم من الواقع والظاهر يترتب على الاستصحاب ، كما انه قد مر ان المستصحب لا بد وان يكون ذا اثر في حال الشك وان لم يكن له اثر في حال اليقين.

حول أصالة تأخر الحادث

التنبيه الحادى عشر : لا اشكال في جريان الاستصحاب عند الشك في حدوث شيء ، كما لا اشكال في جريانه فيما إذا كان الشك في الارتفاع.

إنما الكلام في جريانه عند الشك في تقدم حدوثه وتاخره ، أو تقدم ارتفاعه وتاخره مع العلم باصل الحدوث أو الارتفاع في الجملة.

وتنقيح القول في هذا التنبيه بالبحث في مقامين :

الأول : فيما إذا لوحظ الحادث المعلوم تحققه المشكوك تقدمه بالاضافة إلى اجزاء الزمان.

الثاني : فيما إذا لوحظ بالاضافة إلى حادث زماني آخر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٧ ـ ٤١٨.

اما المقام الأول : فالاثر المطلوب ترتبه ، اما ان يكون مترتبا على نفس عدمه في الزمان المشكوك وجوده فيه ، أو يكون مترتبا على حدوثه في الزمان الثاني المتيقن وجوده فيه.

فان كان من قبيل الأول جرى الاستصحاب فيه أي استصحاب عدم تحققه في الزمان الأول : إذ لا فرق في جريان الاستصحاب بين كون الشيء مشكوكا فيه في الزمان اللاحق رأسا ، وبين كونه كذلك في جزء منه مع العلم بارتفاعه بعده : لإطلاق الدليل ، فلو علم بموت زيد يوم الجمعة وشك في حدوث الموت فيه أو في يوم الخميس يجري استصحاب عدم الموت وبقاء الحياة في يوم الخميس.

وان كان من قبيل الثاني أي كان الاثر مترتبا على تأخره عنه وحدوثه في الزمان الثاني ، فالاستصحاب لا يصلح لاثباته لان تأخره عن الزمان الأول لازم حدوثه فيه لا انه عينه وقد مر عدم حجية الاستصحاب في مثبتاته.

وقد يقال انه قد اشتهر في الالسن أصالة تأخر الحادث ، فما المراد منها ان لم يثبت بالاستصحاب عنوان التاخر.

قال الشيخ الأعظم (١) انه يمكن ان يكون مرادهم ما لو كان موضوع الاثر نفس المستصحب وجودا كان علم عدمه أو عدما علم وجوده وهو الفرض الأول ، ويمكن ان يوجه كلامهم بانهم ملتزمون بحجية الاستصحاب من باب الظن فيكون حجة في مثبتاته ، ويمكن القول به من باب خفاء الواسطة.

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٦ (الأمر السابع).

والمحقق الخراساني (١) وجه كلامهم بطريقين أحدهما من طريق خفاء الواسطة بان يقال ان العدم في الزمان الأول ملغى في نظر العرف ويرون التعبد به تعبدا بنفس التاخر الملازم عقلا لذلك العدم ، ثانيهما من طريق عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحققه إلى زمان وتاخره عنه عرفا كما لا تفكيك بينهما واقعا.

ويرد على الأول مضافا إلى ما تقدم في مسألة الأصل المثبت ، من عدم حجيته حتى مع خفاء الواسطة وانه لا اثر لخفائها : ان التاخر امر وجودي والعدم في الزمان الأول عدمي والثاني مورد للاستصحاب ، والاول موضوع الاثر فكيف يصح ان يدعى خفاء الواسطة وبه يظهر ما في كلام الشيخ.

ويرد على الثاني مضافا إلى ما تقدم في ذلك المبحث ، من ان جلاء الواسطة كخفائها لا اثر له : ان عدم التفكيك في التنزيل : ان كان من جهة التلازم بينهما عقلا فلا بد من البناء على حجيته مطلقا. وان كان من جهة ما في بعض الاستلزامات من الخصوصية ، كالعلية والمعلولية ، والمتضايفين ، كما تقدم فشيء منهما لا ينطبق على المقام.

اما العلية والمعلولية فلان عدم الحادث في الزمان المتقدم ليس علة لوجوده في الزمان المتأخر فضلا عن كونه علة لعنوان التاخر.

واما التضايف فعنوان التاخر مضايف عنوان التقدم لا عدمه في الزمان المشكوك فيه.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٩ (الحادي عشر).

فالاظهر ان شيئا من هذين الطريقين لا يفيد.

ومما ذكرناه في هذه الصورة يظهر عدم جريانه في الصورة الثالثة ، وهي ما إذا كان الاثر مترتبا على حدوثه في الزمان الثاني المتيقن وجوده فيه : إذ استصحاب العدم في الزمان الأول لاثبات آثار الحدوث في الزمان الثاني من الأصل المثبت الذي لا نقول به.

ودعوى ان الحدوث مركب من جزءين ، وهما الوجود المتأخر ، والعدم السابق ، فإذا أحرز الأول بالوجدان والثاني بالاصل يترتب عليه الاثر وليس من الأصل المثبت.

مندفعة : بان الحدوث المقابل للقدم كذلك ، واما الحدوث المقابل للبقاء فليس كذلك كما لا يخفى.

وقد رتب الشيخ الأعظم (١) على عدم ثبوت الحدوث بالاصل ، انه لو كان الحادث بحيث ينعدم بعد حدوثه وليس له بقاء كما لو علم بحدوث الكرية وانعدامها ، لا يترتب على ذلك أحكام الوجود في الزمان المتأخر.

ثم قال : نعم يترتب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان ما من الزمانين ، كما إذا علمنا ان الماء لم يكن كرا قبل الخميس فعلمنا انه صار كرا بعده وارتفع كريته بعد ذلك فنقول الأصل عدم كريته في يوم الخميس ولا يثبت ، بذلك كريته في يوم الجمعة فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في احد اليومين لاصالة بقاء نجاسته ، نعم لو وقع فيه في كل من اليومين حكم بطهارته من باب

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٧.

انغسال الثوب بالماءين المشتبهين انتهى.

وفيه : ان مقتضى القاعدة في الفرض نجاسة الماء والثوب المغسول به ، اما نجاسة الماء فلان استصحاب القلة في يوم الخميس يوجب تنجس الماء لأنه من آثار عدم كرية الماء في يوم الخميس تنجسه بملاقاة الثوب النجس والعلم بحدوث الكرية لا يوجب طهارة الماء على القول بنجاسة الماء المتمم كرا بعد الشك في طهارة الكر الذي لاقاه الثوب النجس ، وليس المقام من قبيل غسل الثوب بالماءين المشتبهين ، ومعه نجاسة الثوب واضحة.

حول مجهولي التاريخ

واما المقام الثاني : وهو ما إذا لوحظ الشيء بالاضافة إلى حادث زماني آخر وشك في تقدم ذاك عليه وتاخره عنه ، كما إذا علم بموت متوارثين وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فالكلام فيه يقع في موضعين :

١ ـ ما إذا كانا مجهولي التاريخ.

٢ ـ ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ.

اما الموضع الأول : ففيه صور :

الصورة الاولى : ان يكون موضوع الحكم وجود الشيء عند وجود الآخر على نحو مفاد كان التامة ، وبعبارة أخرى : يكون الموضوع امرا وجوديا خاصا بخصوصية التقدم ، أو التاخر ، أو التقارن ، ويكون هذا الخاص بوجوده المحمولي

موضوعا للاثر.

الصورة الثانية : ان يكون الاثر مترتبا على وجود شيء عند وجود شيء آخر بمفاد كان الناقصة ، أي الخاص بوجوده الرابط وان شئت فقل كون الشيء متقدما مثلا ومتصفا بالتقدم.

الصورة الثالثة : ان يكون الاثر مترتبا على عدم شيء عند وجود شيء آخر بمفاد ليس التامة بان يكون موضوع الاثر العدم المحمولي.

الصورة الرابعة : ان يكون الاثر مترتبا على ثبوت شيء متصف بالعدم عند وجود الآخر بمفاد ليس التامة ، بان يكون موضوع الاثر العدم النعتى.

وتنقيح القول في جريان الاستصحاب في هذه الصور وعدمه يستدعى تقديم مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان الموضوع أو المتعلق ، ان كان مركبا من أمور متعددة :

فتارة يكون مركبا من جوهرين ، أو عرضين ، أو جوهر وعرض ثابت ولو في غير ذلك الجوهر.

وأخرى يكون مركبا من العرض ومحله.

وثالثة يكون مركبا من المعروض وعدم العرض.

ففي القسم الأول : يكون الدخيل هو ذوات الاجزاء ، أي كل واحد من تلك الأمور المأخوذة ، وبعبارة أخرى : الوجودات التوأمة بلا دخل لعنوان آخر من قبيل عنوان اجتماعهما في الوجود ، وما شاكل في الموضوع أو المتعلق.

وفي القسم الثاني : لا بدَّ من اخذ الموضوع هو المعروض المتصف ، بذلك العرض ، لا مجرد وجود المعروض والعرض ، لان وجود العرض في نفسه ، وجود في الغير ، وعين وجوده لموضوعه.

فان اخذ العرض في نفسه بما هو شيء ولم يلاحظ كونه في غيره ، ووصفا له خرج عن هذا القسم ، ودخل في القسم الأول ، ولزم ترتب الاثر وان كان العرض موجودا في غير هذا الموضوع ، وهو خلف الفرض.

وان اخذ بما هو في الموضوع ، وعرض فلا محالة يعتبر العرض نعتا.

وفي القسم الثالث : يمكن ان يكون الحكم مترتبا على عدم الوصف بنحو النعتية وبنحو الموجبة المعدولة ويكون العدم رابطيا ، بمعنى اخذ خصوصية فيه ملازمة لعدم العرض ، ويمكن ان يكون الدخيل في الموضوع هو العدم المحمولي ، بل الثاني هو الظاهر من القضايا المتضمنة لاخذ العدم في الموضوع ، فان وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه إلا ان عدم العرض ليس كذلك.

المقدمة الثانية : انه إذا ورد عام ، ثم ورد خاص ، وكان عنوان الخاص من قبيل الاوصاف ، كما إذا ورد المرأة تحيض إلى خمسين عاما ، ثم ورد ان القرشية تحيض إلى ستين عاما ، يكون ذلك كاشفا عن تقييد المراد الواقعي ، وعدم جعل الحكم للخاص من أول الأمر واقعا ، ولازم ذلك ان ما ثبت له الحكم واقعا ، هو المقيد ، وملحوظا بنحو التقييد إذ مع عدم الإهمال في الواقع ، وعدم الإطلاق يتعين التقييد.

وتفصيل الكلام في المقدمتين في مبحث العام والخاص ، في مسألة استصحاب العدم الازلي.

إذا عرفت هاتين المقدمتين فاعلم ان الاستصحاب :

في الصورة الأولى يجري لو لا المعارضة وهو واضح.

واما الصورة الثانية : فقد حكم المحقق الخراساني (١) بعدم جريانه فيها مستدلا بعدم اليقين السابق فيه ونظره الشريف إلى ان الموضوع وجد ، اما متصفا بالوصف ، أو بعدمه ، وكما لا يقين سابق بوجوده لا يقين بعدمه.

ووافقه في ذلك المحقق النائيني (ره) (٢) وما يظهر من كلماته في وجه هذه الدعوى : ان العرض وجوده ناعتي لمحله وعدمه كذلك واستصحاب العدم النعتي ، لا يجري لعدم الحالة السابقة له واستصحاب العدم المحمولي يجري ، ولكن لا يثبت به العدم النعتى إلا على القول بالاصل المثبت.

وفيه أولا : ما تقدم في المقدمة الأولى ، من ان الموضوع المركب من المعروض والعرض ، وان كان لازمه دخل الاتصاف فيه ، وكونه ناعتيا ، إلا ان المركب من المعروض ، وعدم العرض ليس كذلك فراجع ما بيناه.

وثانيا : ان المفروض في المقام ترتب الاثر على المعروض مع عرضه ، وفي نفى الحكم يكفي نفى موضوع الاثر ، وهو يتحقق بسلب الربط ، ولو بسلب موضوعه ، فاستصحاب عدم الرابط يجري.

وان شئت قلت ان نقيض الوجود الرابط ، عدم الرابط ، لا العدم الرابط

__________________

(١) كفاية الأصول ٤٢١.

(٢) أجود التقريرات ج ٢ ص ٢٩٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٣ ص ٥٠٥ ـ ٥٠٦ في تتميم بحث دوران الواجب بين الاقل والاكثر.

كي لا يكون له حالة سابقة.

واما الصورة الثالثة : وهي ما لو كان الاثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، بنحو مفاد ليس التامة فقد وقع الخلاف في جريان الأصل فيها.

اختار المحقق الخراساني (١) عدم الجريان مستندا إلى عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

ولا بد أولا من شرح هذه الكبرى الكلية ثم تطبيقها على المقام ثانيا.

اما الاول : فملخص القول فيه انه :

قد يكون زمان الشك متصلا بزمان اليقين كما لو تيقن بالطهارة ثم شك فيها لا اشكال في جريان الاستصحاب في هذه الصورة.

وقد يكون منفصلا عنه كما لو تيقن بالحدث بعد اليقين بالطهارة ثم شك فيها ، فان اليقين بالطهارة منفصل عن الشك فيها باليقين بالحدث ، وفي هذه الصورة لا يجري الاستصحاب قطعا ، لظهور الأدلة نحو قوله : " من كان على يقين فشك" في اعتبار الاتصال.

وقد لا يحرز شيء منهما فيكون إجراء الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وهو لا يجوز فعند الشك في الاتصال لا يجري الأصل.

واما الثاني : فتقريب ما أفاده المحقق الخراساني إنما يكون باحد وجوه اربعة :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٠.

احدها : انا نفرض ثلاث ساعات ، الساعة الأولى كان عدم كليهما متيقنا ، الساعة الثانية قطع بوجود أحدهما ، والساعة الثالثة تيقن بوجود الآخر ، ولم يعلم المتقدم منهما والمتأخر.

وعليه فإذا كان الاثر لعدم أحدهما إلى الساعة الثالثة يجري ذلك في نفسه. واما إذا كان الاثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، لا يمكن إجراء الاستصحاب إذ لو كان الحادث الآخر حادثا في الساعة الثانية ، يكون شكه متصلا بيقينه ، ولو كان حادثا في الثالثة فقد انفصل زمان الشك في العدم عن اليقين به ، لوجوده في الساعة الثانية ، وحيث لم يحرز ذلك ، فالاتصال مشكوك فيه ، مثلا لو علم في الساعة الأولى بعدم موت المورث ، وعدم اسلام الوارث ، وفي الساعة الثانية تحقق الموت أو الاسلام ، وفي الساعة الثالثة تحقق الآخر ، وشك في تقدم الاسلام على الموت ، وحيث ان الاثر لا يكون مترتبا على عدم الموت إلى الساعة الثالثة ، ولا على الاسلام إليها ، بل على اسلام الوارث قبل الموت ، أو الموت قبل الاسلام ، فاستصحاب كل منهما لا يجري لعدم إحراز الاتصال.

وفيه : انه لو كان مفاد لا تنقض اليقين بالشك النهي عن نقض اليقين بالمشكوك فيه تم ما أفيد.

ولكن حيث ان مفاده النهي عن نقض اليقين بالشك ، فهو لا يتم.

إذ لا يعقل الشك في الاتصال حينئذ لان اليقين والشك من الصفات الوجدانية ، فاما الاتصال متيقن ، أو الانفصال ، والضابط انه ان كان الشك في بقاء ما هو متيقن قبله ، فلا محالة يكون الشك متصلا باليقين ، وإلا فلا ، وفي المثال المذكور حيث ان عدم الاسلام حين الموت وكذا العكس مشكوك فيه

ومتصل شكه فيه باليقين بمعنى انه لا يقين بالخلاف قبله فيجري الأصل في كل منهما في نفسه.

ثانيها : ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) في توجيه كلام المحقق الخراساني ، وهو ان زمان اليقين بعدم كل منهما ، إنما هو الساعة الأولى ، وزمان الشك في كل منهما عند حدوث الآخر ، إنما هو الساعة الثالثة إذ لو لا العلم بحدوث كل منهما لما كان يحصل الشك في عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر ، ففي المثال لو لا العلم بالموت لما كان يشك في عدم الاسلام حينه ، وكذلك العكس ، فزمان الشك في عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر إنما يكون بعد العلم بتحققهما ، وهو في الساعة الثالثة ، فقد انفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، وهو الساعة الأولى ، بالساعة الثانية ، فاحتمال وجود كل منهما في الساعة الثانية مانع عن إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

وفيه : انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب تقدم زمان اليقين عن زمان الشك مثلا لو شك في عدالة زيد يوم الجمعة ، ثم علم يوم السبت بعدالته يوم الخميس ، لا اشكال في جريان الاستصحاب ، كما انه لو حصلا معا يجري الأصل.

وعليه فلا وجه لتوهم اعتبار الاتصال بهذا المعنى ، فالشك في عدم كل منهما حين حدوث الآخر وان كان في الساعة الثالثة ، إلا ان متعلقة هو بقاء عدم الموت مثلا إلى زمان الاسلام ، فاحتمال حدوث كل منهما في الساعة الثانية

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٥٧.

هو الموجب للاتصال المعتبر لا انه مانع عنه.

ثالثها : ما أفاده بعض المحققين (ره) (١) ، وحاصله : ان المعتبر في الاستصحاب اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن ، إذ التعبد الاستصحابى تعبد بعنوان البقاء فيعتبر اتصال الموجودين بالتعبد ، وباليقين ، وإلا لم يكن ابقاء الوجود ، وفي المقام لو فرضنا في مثال الاسلام والموت ازمنة ثلاثة ، كان الزمان الأول زمان اليقين بعدمهما ، والزمانان الاخيران.

أحدهما : زمان الاسلام. والآخر : زمان الموت.

وعليه فان كان الزمان الثاني ، زمان الموت ، كان عدم الاسلام المشكوك فيه متصلا زمانه بزمان اليقين بعدمه ، وان كان زمان حدوث الموت ، هو الزمان الثالث ، كان عدم الاسلام المشكوك فيه منفصلا زمانه عن زمان اليقين بعدمه وكذلك في طرف الاسلام ، فيكون التمسك في كل منهما بلا تنقض اليقين بالشك ، تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

وفيه : انه ليس المعيار اتصال زمان ذات المشكوك فيه بزمان ذات المتيقن ، وإلا لم يكن مورد مجرى الاستصحاب ، بل المعتبر اتصال زمان المشكوك فيه من حيث انه مشكوك فيه بزمان المتيقن من حيث انه متيقن وفي المقام كذلك : إذ يحتمل بقاء العدم في كل منهما في الزمان الثاني المتصل بزمان اليقين ، وان يكون هو زمان الحادث الآخر فهو زمان الشك في كل منهما في زمان الآخر.

__________________

(١) وهو المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية ج ٣ ص ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

رابعها : ما أفاده المحقق العراقي (ره) (١) ، وحاصله ان في الحادثين المعلوم حدوثهما كاسلام الوارث ، وموت المورث ، والشك في المتقدم منهما ، والمتأخر ، ازمنة تفصيلية ثلاثة وزمانين اجماليين ، اما الأزمنة التفصيلية فهي زمان العلم بعدمهما ، كيوم الخميس مثلا ، وزمان العلم باحدهما فيه اجمالا ، كيوم الجمعة ، وزمان العلم بوجودهما معا مع العلم بكونه ظرفا لحدوث الآخر ، كيوم السبت ، واما الاجماليان.

فاحدهما : زمان اسلام الوارث المحتمل الانطباق على كل من الزمان الثاني ، والثالث على البدل.

وثانيهما : زمان موت المورث المحتمل الانطباق أيضاً على كل من الزمانين على البدل ، بحيث لو انطبق أحدهما على الثاني ، انطبق الآخر على الزمان الثالث ، وحينئذٍ فحيث يحتمل كون الزمان الثاني ، أي يوم الجمعة في المثال ظرف حدوث الاسلام أو الموت ، فلا مجال لاستصحاب عدم الاسلام المعلوم يوم الخميس إلى زمان موت المورث ، لاحتمال ان يكون زمان الموت ، يوم السبت ، ويكون زمان الاسلام يوم الجمعة ، الذي هو زمان انتقاض يقينه باليقين الإجمالي بالخلاف ، ومع هذا الاحتمال ، لا يجري الاستصحاب ، لعدم إحراز كون النقض من نقض اليقين بالشك ، واحتمال ان يكون من نقض اليقين باليقين ، وكذا الكلام في استصحاب عدم موت المورث إلى زمان اسلام الوارث فانه مع احتمال كون زمان الاسلام ، بعد زمان موت المورث ، يحتمل انتقاض يقينه ،

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨ بتصرف.

باليقين بالخلاف.

ومما ذكرناه في الوجوه السابقة يظهر الجواب عن هذا الوجه.

فالمتحصّل مما ذكرناه انه لا محذور في جريان الأصل في مجهولي التاريخ ، فيجري.

تكملة

ثم ان المحقق (ره) (١) ذكر انه بعد ما لا ريب في اعتبار اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وبين ضابط الاتصال والانفصال.

ان اتصال زمان الوصفين قد يكون ظاهرا ، وقد يكون خفيا.

وحاصل ما افاد انه في موارد حصول العلم على خلاف الحالة السابقة صور.

الأولى : ان يعلم اجمالا بارتفاع احدى الحالتين السابقتين من دون تعيين لها في علم المكلف أصلاً كما إذا علم بان احد الإنائين المعلوم نجاستهما قد طهر من دون تمييز وتعيين.

الثانية : ان يعلم في الفرض بطهارة خصوص ما هو واقع في الطرف الشرقي ، مع تمييزه في علم المكلف عن الاناء الواقع في الطرف الغربي واشتبه الاناءان بعد ذلك.

__________________

(١) نهاية الافكار ج ٤ ص ٢١٠ إلى ٢١٣ بتصرف.

الثالثة : الصورة ولكن مع عدم تمييز الاناء الشرقي إلا بهذه الإشارة الاجمالية ، ولكن يكون بحيث لو اراد ان يميزه تمكن من ذلك وقد اشتبه الاناءان بعد ذلك.

اما في الصورة الأولى : فلا ريب في اتصال زمان الشك في نجاسة كل منهما بالعلم بنجاسته ، إذ العلم الإجمالي المزبور وان كان مناقضا للعلم بعدم طهارتهما المتولد من العلم بنجاسة كل منهما إلا انه غير ناقض للعلم بنجاسة كل منهما ، بل هو موجب للشك في بقاء نجاسة كل منهما وليس هناك بين اليقين بنجاسة كل منهما والشك في بقائها ، زمان فاصل.

واما في الصورة الثانية : فلا اشكال في ان اليقين بنجاسة الاناء الشرقي قد انتقض باليقين بطهارته ، وسقط فيه الاستصحاب لحصول غايته ، فإذا اشتبه الاناءان ، وحصل الشك في نجاسة كل منهما ، لا يكون اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، محرزا في شيء منهما.

وان شئت قلت انه يعلم اجمالا بسقوط الاستصحاب في أحدهما المعين فيكون التمسك به في كل منهما تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.

واما الصورة الثالثة : فهي ذات وجهين يمكن الحاقها بكل من الصورتين السابقتين ، إلا ان الظاهر هو الالحاق بالثانية : إذ المفروض ان القطع بنجاسة ذلك الاناء الشرقي قد انتقض باليقين بالطهارة ، فبعد الاشتباه وان كان نجاسة كل من الإنائين مشكوكا فيها ، إلا انه انفصل في البين زمان كانت الطهارة في ذلك الزمان في أحدهما معلومة والشك إنما يكون في تعيين ذلك ، فلم يحرز اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين.

ويترتب على ذلك فروع فقهية وتفصيل القول في كل منها موكول إلى محله.

ولكن الظاهر جريان الاستصحاب حتى في الصورة الثانية ، لما مر من انه لا يعتبر تقدم زمان اليقين ، على زمان الشك فضلا عن اعتبار اتصال الزمانين ، بل المعتبر هو اليقين بالحدوث والشك في البقاء الفعليين ، كان زمان حصول اليقين مقدما أو مؤخرا أو مقارنا ، وعرفت ان مجرد احتمال العلم بالخلاف لا يضر بالاستصحاب ، ففي جميع الصور ، كل واحد من طرفي العلم يعلم بنجاسته سابقا ويشك في بقائها فيجري فيه الأصل في نفسه.

واما في الصورة الرابعة : وهي ما لو كان الاثر مترتبا على الحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر المعبر عنه بمفاد ليس الناقصة ، بان يكون موضوع الاثر العدم النعتى ، فالظاهر انه لا اشكال في عدم جريان الأصل والحكم بترتيب آثار الاتصاف بالعدم ، إلا انه يمكن إجراء استصحاب عدم الاتصاف والحكم بنفي الآثار المترتبة على ثبوته ، وقد اشبعنا الكلام في ذلك وفيما أفاده المحقق الخراساني في مبحث العام والخاص في استصحاب العدم الازلي.

جريان الأصل في معلوم التاريخ

الموضع الثاني : فيما إذا كان تاريخ احد الحادثين معلوما دون تاريخ الآخر ، مثال ذلك ما لو علم بموت زيد يوم الخميس وعلم باسلام وارثه ، اما قبل ذلك الزمان أو في يوم الجمعة ، وصوره أيضاً أربع :

١ ـ ما إذا كان موضوع الاثر فيه وجود الشيء عند وجود الآخر ، بمفاد كان

التامة ، كما إذا فرضنا ان الوارث يرث إذا كان مسلما حين موت المورث.

٢ ـ ما إذا كان موضوع الاثر وجود الشيء عند وجود الآخر بمفاد كان الناقصة كما إذا فرضنا ان الارث مترتب على الاسلام المتصف بالسبق في المثال.

٣ ـ ما إذا كان موضوع الاثر عدم الشيء عند وجود الآخر بمفاد ليس التامة ، بان يكون الموضوع العدم المحمولي.

٤ ـ ما إذا كان موضوع الحكم عدم الشيء عند وجود الآخر بمفاد ليس الناقصة بان يكون موضوع الحكم العدم النعتى.

اما في الصورة الاولى : فعن الشيخ الأعظم (١) والمحقق النائيني (٢) عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ ، وستقف على ما افاداه في الصورة الثالثة.

وعليه فلا اشكال في جريان استصحاب عدم كل من معلوم التاريخ ، ومجهوله في نفسه.

واما في الصورة الثانية : فعن المحقق الخراساني (٣) عدم جريان الأصل فيه ، وقد تقدم في مجهول التاريخ توضيح كلامه وما يرد عليه فلا نعيد.

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٨ وهو ظاهر كلامه ، ونسبه إلى ظاهر المشهور.

(٢) فوائد الأصول ج ٤ ص ٥٢٢ (تكملة) / أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٦١ (بقي هناك قسم آخر قد ظهر حكمه مما ذكرناه ... الخ).

(٣) كفاية الأصول ص ٤٢١.

اما الصورة الثالثة : ففيها أقوال :

١ ـ جريان الأصل في كل منهما في نفسه وتساقطهما بالتعارض وهو الاقوى.

٢ ـ جريانه في خصوص مجهول التاريخ ، دون معلومه ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) والمحقق الخراساني (ره) والمحقق النائيني (ره) (١).

٣ ـ عدم جريانه في شيء منهما فالكلام يقع في موردين :

الأول : في جريانه في مجهول التاريخ.

الثاني : في معلومه.

اما الأول : فحيث ان المانع المتوهم المتقدم في المسألة السابقة الموجب للبناء على عدم جريانه في مجهولي التاريخ ، إنما كان من جهة عدم إحراز زمان حدوث الآخر ، فبالتبع كان يتوهم عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين ، لا يكون مورد لتوهمه في المقام لأنه محرز على الفرض فالشك في بقاء عدم مجهول التاريخ متصل بزمان اليقين بعدمه بلا كلام ، فلا اشكال في جريانه.

واما المورد الثاني : فقد استدل لعدم جريان الأصل فيه بوجهين :

أحدهما : عدم اتصال زمان الشك باليقين : إذ عدمه التام بما هو ليس مشكوكا فيه في زمان لأنه قبل التاريخ المعلوم معلوم البقاء وبعده مقطوع الارتفاع ، وإنما الشك فيه بالاضافة إلى زمان الغير وحيث انه غير معلوم ويحتمل

__________________

(١) راجع المصادر السابقة للأعلام الثلاثة.

تقدمه فلا يكون الاتصال محرزا ، وقد مر جوابه مفصلا فراجع.

ثانيهما : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وحاصله ان زمان تبدل عدم المعلوم بوجوده لا يكون مشكوكا فيه في زمان من الأزمنة حتى في زمان المجهول : إذ هو اما قبل تاريخ المعلوم أو مقارن له ، أو متاخر عنه ، فان كان قبله فعدمه مقطوع ، وان كان مقارنا أو متاخرا عنه ، فوجوده مقطوع ، فلا شك في عدم المعلوم في زمان حدوث المجهول كي يجري فيه الأصل.

وبعبارة أخرى : ان حقيقة الاستصحاب هو الجر في الزمان أي جر المستصحب إلى زمان الشك ، وعليه فاما ان يراد بالاستصحاب في المقام استصحاب عدم المعلوم في الزمان من حيث هو ، فيرده انه لا شك فيه في شيء من الأزمنة المفروضة ، وان أريد جره في زمان المجهول ، يرده انه اما ان يلاحظ زمان حدوث المجهول على وجه الظرفية لوجوده أو على وجه القيدية ، وعلى الأول فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالاضافة إلى نفس اجزاء الزمان ، وقد عرفت انه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشك في وجوده في الزمان ، وعلى الثاني لا تجري أصالة عدمه في ذلك الزمان لان عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقنا سابقا ، فلا يجري فيه الأصل.

وفيه أولا : انه لو فرضنا اخذ زمان حدوث الآخر بنحو القيدية فموضوع الحكم وان كان لا يجري فيه الأصل لعدم إحراز الحالة السابقة ، إلا ان عدم تحقق الموضوع يجري فيه الأصل لما عرفت في مجهولي التاريخ ، من ان عدم هذا

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٥ ـ ٤٣٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٦٢ بتصرف.

الموضوع بنحو السالبة بانتفاء الموضوع متيقن ، وان نقيض الوجود الرابط عدمه ، لا العدم الرابط فراجع ما مر.

وثانيا : انه إذا كان شيء معلوما من جهة ومشكوكا فيه من جهة أخرى يجري فيه الأصل بالاعتبار الثاني ، وفي المقام زمان المعلوم وجودا وعدما وان كان معلوما بالقياس إلى الزمان من حيث هو ، واما باعتبار زمان حدوث المجهول المردد بين الأزمنة غير المعلومة يكون مشكوكا فيه.

وان شئت قلت ، ان عدمه الخاص أي عدمه في زمان الآخر مشكوك فيه ، فيجري الأصل بهذه الملاحظة ولا محذور فيه سوى توهم عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين وقد مر جوابه.

واما الصورة الرابعة : وهي ما إذا كان موضوع الاثر العدم النعتى ، فقد ظهر من مجموع ما ذكرناه جريان الاستصحاب في كل من معلوم التاريخ ، ومجهوله فيها.

وان ايراد صاحب الكفاية (١) ، بان وجود هذا الحادث متصفا بالعدم في زمان حدوث الآخر لا يكون مسبوقا بالعدم فلا يجري الأصل فيه.

اجبنا عنه بان عدم الاتصاف به مسبوق بالعدم ، وان لم يكن الاتصاف بالعدم ، مسبوقا بالعدم ، فيجري الاستصحاب فيه بهذا الاعتبار.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه انه يجري الاستصحاب في كل من مجهولي

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢١ بتصرف.

التاريخ ، وفي معلوم التاريخ ومجهوله ، في نفسه وان شيئا مما أورد عليه لا يتم ، وعليه فان كان الاثر مترتبا على أحدهما يجري فيه بلا معارض ، ولو كان مترتبا على كل منهما يتساقطان.

ولا يخفى انه قد يتوهم ان هذا الأصل يعارضه دائما اصل آخر ، وهو أصالة عدم المركب وعدم اجتماع القيدين معا ، وهذا غير مختص بالمقام ، بل هو جار في كل مورد كان الموضوع مركبا واستصحب احد القيدين واحرز الآخر ، كما لو أحرز اعلمية زيد ، وشك في عدالته مع العلم بها سابقا ، فان استصحاب بقاء العدالة ، يعارضه استصحاب عدم اجتماع الاعلمية والعدالة.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (١) بان الشك في بقاء عدم المركب مسبب ، عن الشك في وجود اجزائه فإذا جرى الأصل فيه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في المسبب.

وفيه : ان السببية في المقام ليست شرعية ، فلا يكون الأصل في السبب حاكما على الأصل في المسبب.

والحق في الجواب ان يقال ان المركب من حيث انه مركب بوصف الاجتماع ، لا يكون موضوعا للحكم ، وإنما هو مترتب على ذوات الاجزاء المجتمعة ، ولا شك فيها ، بعد ضم الوجدان إلى الأصل ، نعم ، إذا كان وصف المقارنة أو غيرها دخيلا في الحكم ، يجري استصحاب العدم ، ويترتب عليه عدم

__________________

(١) وهو ظاهر كلامه في أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٤٦ ـ ١٤٧.

الحكم ، ولا يعارض باستصحاب الجزء وضمه إلى الوجدان كما لا يخفى.

الكلام حول تعاقب الحالتين المتضادتين

بقي الكلام في انه ، هل يجري الاستصحاب فيما تعاقب حالتان متضادتان كالطهارة والنجاسة ، وشك في ثبوتهما وانتفائهما ، للشك في المقدم والمؤخر منهما ، أم لا؟ والفرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة إنما هو من ناحية الموضوع ، وما ذكر في وجه عدم الجريان قولان :

اما الأول : فموضوع المسألة المتقدمة هي الموضوعات المركبة ، وموضوع هذه ، هي الموضوعات البسيطة ، وايضا المستصحب في المقام بقاء الحادث ، وهناك العدم الثابت قبل حدوثهما.

واما الثاني : فاستدل في المقام لعدم الجريان : بان زمان المتيقن ليس متصلا بزمان المشكوك فيه ، وفيما تقدم ، بعدم اتصال زمان المشكوك فيه بزمان اليقين ، أضف إلى ذلك كله ، انه في هذه المسألة ، كل من الحادثين رافع للآخر.

وكيف كان فالكلام يقع في موردين ، الأول في مجهول التاريخ ، الثاني في معلومه.

اما المورد الأول : فقد استدل لعدم جريان الأصل فيه بوجوه :

احدها : ما في الكفاية (١) ، وحاصله ان المحذور في المسألة السابقة ، وهو عدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين جار هنا ، غاية الأمر عدم الاتصال هناك كان من ناحية عدم اتصال زمان المشكوك فيه بزمان اليقين ، لاحتمال الفصل بالحادث الآخر ، وفي المقام يكون من ناحية عدم إحراز زمان اليقين ، لاحتمال كونه الزمان الأول ، فيكون الزمان الثاني فاصلا واحتمال كونه الزمان الثاني ، فيكون متصلا فزمان المتيقن بما هو متيقن غير متصل بزمان المشكوك فيه بما هو مشكوك فيه.

وفيه : انه لا يعتبر في الاستصحاب سوى اليقين والشك الفعليين ، وعدم انفصال زمان المتيقن عن زمان المشكوك فيه بمتيقن آخر ، والمقام كذلك ، وان كان زمان المتيقن غير معين ومرددا بين زمانين ، إلا انه يعلم عدم الفصل بمتيقن آخر.

ثانيها : ما نقله المحقق العراقي (٢) عن المحقق الخراساني في مجلس بحثه ، وحاصله : انه اما ان يراد في المقام إجراء الاستصحاب ، في الزمان الإجمالي ، أو يراد استصحابه في الأزمنة التفصيلية ، وعلى الأول ، وان كان يجري الأصل إلا انه لا اثر له إذ الآثار كجواز الدخول في الصلاة إنما يترتب على ثبوت الطهارة في الزمان التفصيلي ، ولا يكفي ثبوتها في الزمان الإجمالي ، وعلى الثاني لا يجري الأصل من جهة ان المنصرف من دليل الاستصحاب ، هو ان يكون زمان الذي

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢١ ـ ٤٢٢.

(٢) نهاية الافكار ج ٤ ص ٢١٦ ـ ٢١٧.

أريد جر المستصحب إليه ، على نحو لو تقهقرنا منه إلى ما قبله من الأزمنة لعثرنا على زمان اليقين بوجود المستصحب ، وليس المقام كذلك ، لان كلا من الطهارة والحدث لو تقهقرنا من زمان الشك الذي هو الساعة الثالثة لم نعثر على زمان اليقين بوجود المستصحب بل كل من الأزمنة السابقة زمان الشك في الوجود إلى ان ينتهى إلى الزمان الخارج عن دائرة العلم الإجمالي ، الذي هو زمان اليقين بعدم كل منهما.

وفيه : أولا : النقض بما لو علم بالطهارة مثلا في احد زمانين بنحو الاجمال ، وشك فيها بالشك البدوى ، من جهة احتمال حدوث الحدث بعده ، فان لازم البرهان المزبور عدم جريان الاستصحاب في المثال وقد نقل بعض مشايخنا انه أورد عليه في مجلس البحث بذلك بعض الفحول ولم يجب.

وثانيا : بالحل ، وهو ان الاثر إنما يترتب على التعبد بالمستصحب في زمان الشك ولا بد وان يكون ذلك الزمان معينا ولا يعتبر تعين زمان اليقين وفي المقام زمان الشك الذي يراد استصحاب الطهارة أو الحدث فيه هو الساعة الثالثة ، وهو معلوم معين ، وإنما المردد هو زمان اليقين ، ولا يضر تردده في الاستصحاب بعد إطلاق الدليل.

ثالثها : ما نسب إلى المحقق العراقي (١) : وحاصله انه إنما يجري الاستصحاب

__________________

(١) راجع نهاية الافكار ج ٤ ص ٢١٤ (والتحقيق) حيث اعتبر جريان الاستصحاب في مورد الشك في وجود ما ينطبق عليه البقاء محرزا ، واما في الفرض المذكور فلا يجري الاستصحاب كما أوضحه في ص ٢١٥ ـ ٢١٦ من الوجه الثاني.

فيما إذا كان الشك في بقاء ما حدث ، واما إذا كان يقينان وكان الشك في كيفية الحادث ولونه فلا مجرى للاستصحاب ، وفي المقام كذلك فانه على تقدير حدوث الطهارة مثلا في الساعة الأولى فهي مرتفعة في الساعة الثالثة قطعا وعلى فرض حدوثها في الثانية فهي باقية قطعا والشك إنما هو في زمان حدوث المتيقن لا فى بقائه.

ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره بعض المحققين من انه يعتبر في الاستصحاب اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، واما إذا كان عوض الشك يقينان فلا يجري الاستصحاب والمقام من هذا القبيل ، إذ الحدث مثلا لو كان متحققا قبل الوضوء فهو مرتفع قطعا ، ولو كان متحققا بعده فهو باق كذلك فلا شك في البقاء وكذلك الطهارة.

وفيه أولا : النقض بجميع موارد الاستصحاب مثلا لو علم بحياة زيد وشك في بقائها يمكن ان يقال انه لو كان في علم الله ان يموت قبل ساعة فهو ميت قطعا ولو كان ان لا يموت فهو حى كذلك.

وثانيا : بالحل وهو ان اليقينين المزبورين هما اليقين بالملازمة لا باللازم وهما منشأ الشك في البقاء ـ وبعبارة أخرى ـ ان هذين اليقينين الذين هما يقينان بقضيتين شرطيتين بضميمة الشك في ساعة الطهارة منشأ للشك في بقاء الحادث ويجرى فيه الاستصحاب فتدبر فانه يليق به.

رابعها : ما نسب إلى بعض الاكابر (١) : وحاصله انه يعتبر في جريان الاستصحاب بحسب ظواهر الأدلة كون الشك الذي لا يجوز النقض به شكا في البقاء ، والارتفاع في زمان واحد ، والمقام ليس كذلك ، إذ كل واحد من الحادثين إذا لوحظ في الأزمنة ، يظهر انه لا شك في زمان واحد في بقائه وارتفاعه ، إذ الساعة الثالثة التي هي زمان الشك ، في البقاء لا يحتمل ارتفاعه ، والساعة الأولى التي هي زمان حدوث أحدهما لا شك في الارتفاع ، بل زمان الشك في الارتفاع هو الساعة الثانية التي هي زمان حدوث الآخر ، وفي ذلك الزمان لا شك في البقاء إذ هو اما وجد فيه أو ارتفع فزمان الشك في البقاء غير زمان الشك في الارتفاع.

وفيه : ان اعتبار هذا القيد لا يستفاد من النصوص ، ولا دليل آخر عليه فلا وجه لاعتباره.

وقد ذكروا لعدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ وجوها اخر ضعيفة يظهر وجه ضعفها مما ذكرناه ، لرجوعها إلى بعض الوجوه المتقدمة والاختلاف إنما يكون في التعبير.

فتحصل ان الاقوى جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ.

ثم انه بعد تعارض الاصلين الجاريين فيهما وتساقطهما.

قد يقال انه يرجع إلى استصحاب نفس الحالة السابقة على الحالتين لو

__________________

(١) وهو الظاهر مما نسبه المحقق السيد الحكيم في حقائق الأصول ج ٢ ص ٥١٠ إلى بعض مشايخنا المحققين.

كانت معلومة.

وفيه : ان الحالة السابقة مرتفعة قطعا للعلم بحدوث ضدها.

وقد يقال انه حيث يعلم بحدوث ضد الحالة السابقة ، ويشك في ارتفاعه فيستصحب ، ولا يعارضه استصحاب نفس الحالة السابقة للعلم بارتفاعها ، ولا استصحاب مثلها إذ لا علم بحدوثه ، لاحتمال تعاقب المتجانسين ، فلو كانت الحالة السابقة هي الحدث ، وعلم بوقوع حدث ، ووضوء ، وجهل تاريخهما ، فالحدث الأول مرتفع قطعا ، وحيث انه يحتمل تقدم الحدث الثاني على الوضوء ، فلا علم بتحقق فرد آخر منه ، وهذا بخلاف الوضوء فيستصحب ما علم تحققه وهو الطهارة.

وفيه : انه قد مر في التنبيه الثالث من جريان الاستصحاب في القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي كما في الحدث في المقام ، فراجع فيعارض مع استصحاب الطهارة.

واما المورد الثاني : فعن جماعة من المحققين اختيار جريان الأصل في خصوص معلوم التاريخ ، وعدم جريانه في مجهوله ، وقد مر ما يمكن ان يستدل به له وضعفه.

وذهب جماعة آخرون منهم الشيخ الأعظم (ره) (١) إلى عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ.

__________________

(١) كما هو ظاهر كلامه في فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٦٧.

واستدل له : بان استصحاب عدم تحقق مجهول التاريخ إلى زمان العلم بتحقق الآخر يقتضي تأخره عنه ، فلو علم انه توضأ في أول الزوال ، وعلم أيضاً بالحدث ، وشك في تقدم الحدث على الوضوء ، وتاخره عنه يجري استصحاب عدم الحدث ، إلى زمان الوضوء ، وهو يقتضي تأخر الحدث عن الوضوء.

وفيه : ان هذا الأصل لا يترتب عليه هذا الاثر ، إلا على القول بالاصل المثبت ، لفرض ترتب الاثر على تأخر الحدث عن الوضوء ، ليكون رافعا لاثره ، ولا يثبت ذلك باستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء.

فتحصل ان الاظهر جريان الأصل في كل منهما في نفسه ، وفي حالة تعارض الاصلين لو علم بهما وشك في المتقدم منهما والمتأخر ، من غير فرق بين الجهل بتاريخهما ، وبين ما لو علم تاريخ أحدهما ، ففي المثال ، لا بدَّ من الوضوء لقاعدة الاشتغال.

جريان الاستصحاب في الاعتقاديات

التنبيه الثاني عشر : في جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين ، كالنبوة والإمامة واطال الشيخ الكلام في هذا التنبيه (١) ، وملخص القول ، انه يقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : انه يعتبر في الاستصحاب زائدا على اليقين والشك وكون

__________________

(١) وهو الأمر التاسع من التنبيهات ، فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٢

المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي ، امران آخران ، أحدهما ترتب اثر عملي عليه ، ولا يكفي مجرد الاثر الشرعي في جريانه ، اما على المختار من ان المجعول فيه الجري العملي فواضح ، فانه بدونه يلزم اللغوية من التعبد به ، واما على مسلك المشهور من جعل الحكم المماثل فللانصراف ، فان هذه الأصول اصول عملية أي مقررة للشاك وظيفة له في مقام العمل ، فمع عدم الاثر العملي لا يجري ، وبالجملة جعل الحكم إنما هو للعمل وإلا يكون لغوا.

نعم لا فرق بين كون العمل عملا جارحيا أو جانحيا ، كالتسليم ، والانقياد ، والبناء ، وما شاكل ، ومجرد تسمية بعض الأفعال بالأصول لا يكون مانعا عن ذلك.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام الشيخ الأعظم (١) من انه لا يجري الاستصحاب في الاعتقاديات مطلقا مستدلا له : بان الاستصحاب ان اخذ من الأخبار فهو لا يكون رافعا للشك ، بل مؤداها الحكم على ما كان معمولا به على تقدير اليقين به ، والمفروض ان وجوب الاعتقاد بشيء على تقدير اليقين به ، لا يمكن الحكم به عند الشك ، لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف به وان كان حجة من باب الظن فلا ظن بالبقاء أولا ، ولا دليل على حجيته ثانيا.

ورتب عليه انه لو شك في نسخ الشريعة لا يصح الاستدلال بالاستصحاب ، لبقائها ، واضاف ان الدليل النقلي الدال عليه لا يجدي لعدم ثبوت الشريعة السابقة ولا اللاحقة.

__________________

(١) المصدر السابق.

وجه الظهور : انه قد عرفت ان المعتبر في الاستصحاب ترتب اثر عملي عليه كان ذلك من الاعمال الجوانحية أو الجوارحية ، والاعتقاد من القسم الأول ، والنسبة بينه وبين اليقين عموم من وجه فانه ، قد يكون القطع موجودا ولا اعتقاد كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(١) ، وقد يكون الاعتقاد والبناء موجودا ولا قطع كما في موارد التشريع وقد يجتمعان.

نعم ، في الاعتقاديات التي يعتبر فيها اليقين لا يجري الاستصحاب ، لأنه لا يصلح للقيام مقام العلم الموضوعي ، وان شئت قلت انه في الاستصحاب مع حفظ الشك يكون التعبد بالمتيقن ، وهو لا يزيل الشك ، فلو كان الموضوع مما يعتبر فيه العلم شرعا ، أو عقلا ، فلا يجري الاستصحاب لعدم ثبوت الموضوع به ، إلا إذا كان العلم مأخوذا في الموضوع بما انه مقتض للجرى العملي ، ولعله يكون باب الشهادة من هذا القبيل ، وهذا لا يختص بالاعمال الجوانحية بل في الاعمال الجوارحية أيضاً كذلك.

مع ، انه إذا كان الاستصحاب حجة في كلتا الشريعتين يعتمد عليه للعلم بحجيته حينئذ ، بل يمكن ان يقال ان حجيته في الشريعة اللاحقة تكفى إذ لو كان الثابت هو الشريعة السابقة فهو ، ولو كان هي اللاحقة ، فمقتضى حجية الاستصحاب البناء على بقاء الأولى فتأمل.

الجهة الثانية : في استصحاب النبوة ، والكلام فيها من انحاء :

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

تارة في انه هل يتصور الشك في بقائها أم لا؟

وأخرى في انه ما ذا يترتب على استصحابها ،

وثالثة في جريانه.

اما من الناحية الأولى : فالحق ان النبوة ان كانت من الصفات الواقعية ، ومرتبة عالية من الكمالات النفسانية ، وهي صيرورة نفس النبي (ص) بحيث تتلقى الأحكام الدينية ، والمعارف الالهية ، من المبدأ الأعلى بلا توسط بشر فلا يتصور الشك في بقائها ، إذ الموت لو لم يوجب قوة هذه الملكة الراسخة لا يوجب ضعفها ، ومجيء نبى آخر ، ولو كان اكمل لا يوجب زوالها ، إذ كمال شخص ، لا يوجب زوال كمال الآخر ، واما انحطاط نفسه المقدسة عن هذه الدرجة ، فبما ان هذه الملكة لها درجة المعرفة الشهودية فلا يعقل زوالها ، وان كانت من الأمور الاعتبارية المجعولة ، يتصور الشك في بقائها كما لا يخفى.

واما من الناحية الثانية : فعلى فرض الشك في النبوة لا يترتب على استصحابها وجوب التصديق بما جاء به ، لأنه من آثار نبوته السابقة لا الفعلية ، ولا بقاء أحكام شريعته الشرعية ، لما تقدم من جريان الاستصحاب فيها حتى بناءً على نسخ الشريعة ، مع انه لو سلم ان معنى نسخ الشريعة نسخ جميع احكامها لا يترتب هذا الاثر على استصحابها ، لان بقائها ليس من آثار بقاء نبوته بل من آثار عدم مجيء نبى آخر بشريعة أخرى ، بل اثره وجوب الاعتقاد بنبوته.

وعليه فان كان المعتبر هو الاعتقاد بها يجري الاستصحاب ، ويترتب عليه هذا الاثر ، وان كان هو المعرفة والقطع فلا يجري لما مر ، وبه يظهر الكلام من

الناحية الثالثة.

ثم انه لا فرق في جريان الاستصحاب وعدمه على كلا الشقين بين كون النبوة من الصفات الواقعية أم كانت من الأمور الاعتبارية : إذ بناءً على ان يكون المعتبر هو القطع بها ، فاستصحابها على القول بكونها من الأمور الاعتبارية وان كان استصحاب حكم شرعي ، ولا يحتاج في جريانه إلى ترتب اثر آخر لكن لا يجري ، لعدم ترتب اثر عملي عليه.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات المحقق الخراساني في المقام (١) فانه قال ان النبوة ان كانت من الأمور الواقعية لم يجر الأصل فيها لعدم الشك فيها أولا ، ولعدم ترتب الاثر عليه ثانيا ، ولو كان من الأمور الجعلية جرى فيها الأصل.

فانه يرد عليه أولا ان الاثر المترتب عليه ، وان لم يكن هو وجوب التصديق بما جاء به ، ولا بقاء أحكامه ولكن اثره وجوب الاعتقاد.

وثانيا ان التفصيل في غير محله : فانه ان كفى الأصل في لزوم الاعتقاد لما كان فرق بين المسلكين ، وان لم يكف فكما انه على فرض كونها من الأمور الواقعية لم يجر الاستصحاب لعدم الاثر كذلك على فرض كونها مجعولة لا يجري ، لعدم الاثر العملي الذي قد عرفت اعتبار وجوده في جريان الاستصحاب.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤٢٣ بتصرف.

حول تمسك الكتابي بالاستصحاب

الجهة الثالثة : ان المنقول عن الشيخ الأعظم (١) انه حكى المناظرة الواقعة بين السيد العلامة السيد باقر القزويني وبين عالم يهودى في قرية تسمى بذى الكفل ، وقد تمسك الكتابى بالاستصحاب قائلا ان موسى بن عمران شخص واحد ادعى النبوة واعترف المسلمون واهل الكتاب بنبوته فعلى المسلمين الاعتراف بنبوته ما لم يثبت نسخ نبوته.

وذكر الأصحاب في الجواب عنه وجوها :

الأول : ما نقله الشيخ (٢) عن بعض الفضلاء والظاهر انه السيد القزويني ، وهو انا نؤمن ونعترف بنبوة كل موسى وعيسى اقر بنبوة نبينا (ص) وكافر بنبوة كل من لم يقر بذلك وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا (ع) في جواب الجاثليق (٣).

ثم ان الشيخ قال (٤) : وهذا الجواب بظاهره مخدوش ، بما عن الكتابي من ان موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئي حقيقي اعترف

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٢.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٣.

(٣) راجع عيون اخبار الرضا (ع) ج ١ ص ١٥٤ باب ذكر مجلس الامام الرضا مع أهل الاديان وأصحاب المقالات في التوحيد عند المأمون / الاحتجاج ج ٢ ص ٤١٥ ... الخ.

(٤) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٧٣.

المسلمون واهل الكتاب بنبوته فعلى المسلمين اثبات نسخها.

ولكن الظاهر ان هذا الجواب امتن ما في الباب ، وذلك فانه بعد ما لا ريب في ان منشأ اعتراف المسلمين بنبوة عيسى مثلا ليس هو النظر إلى معجزاته ، لعدم وجود المعجزة الخالدة ، له ، ولا الخبر المتواتر : فان الحواريين على ما قيل محصورون غير بالغين حد التواتر ، فينحصر الطريق باخبار نبينا (ص) : وهو كما اخبر بنبوته اخبر بأنه اخبر بمجيء نبينا (ص) ، فهذا وصف عنواني مشير إلى ذلك الشخص الخارجي ، فكما يقال انه ولد بغير أب ، وابرأ الاكمه والابرص ، واحيا الموتى ، يقال انه اخبر بمجيء نبينا (ص) فالمتيقن ثبوته هو نبوة عيسى أو موسى الذي له اوصاف منها هذا الوصف ، واما غيره ممن لم يخبر فلا نعرفه نبيا ، وهذا واضح.

ثم ان الإمام (ع) علم طريق هذه المناظرة بمناظرته مع جاثليق ، ولكنه اعترض عليه بان طريق معرفة غيرك هو ذلك واما انت فتدّعي العلم من غير الطرق العاديَّة ، بما تقدم فانت معترف بنبوة عيسى من غير هذا الطريق ، وتدَّعي انه اخبر بمجيء نبيكم فعليك اثبات ذلك ، فأجابه الإمام (ع) (١) بقوله الآن جئت بالنصفة ثم اخذ في مقام اثبات ذلك.

الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) : وهو مأخوذ من كلمات الشيخ الأعظم (ره) ، وحاصله : ان جواب الكتابي ـ اما الزامي ـ أو اقناعي :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا (ع) ج ١ ص ١٥٦ من المصدر السابق / الاحتجاج ج ٢ ص ٤١٧.

(٢) كفاية الأصول ص ٤٢٣.

والاول غير صحيح لأنه لا يلزم به الخصم إلا مع الاعتراف بالشك والمسلم قاطع بنسخ نبوة موسى وعيسى ، لا شاك فيه ، فلا يمكن الزامه.

والثاني باطل لوجهين : أحدهما لزوم الفحص وعدم إجراء الأصل قبله ، ثانيهما : انه لا دليل عقلي ولا نقلي على حجيته وثبوت حجيته في الشريعة اللاحقة لا يجدي للزوم العمل به المحال.

وفيه : ان الكتابي يدَّعي الفحص ويقول اني الآن في حال الفحص فلم يثبت لي ، وثبوته في الشريعتين يكفي في التمسك به كما مر فلا اشكال عليه ، وبما ذكرناه ظهر ما في بقية الاجوبة.

حول استصحاب الحكم المخصص

التنبيه الثالث عشر : إذا ورد عام افرادي متضمن للعموم الازماني ، وخصص ذلك بخروج بعض أفراد العام عن الحكم في قطعة من الزمان ، ثم شك في ان خروجه عنه مختص بتلك القطعة ، أو انه يعم جميع الأزمنة ، فهل يرجع في زمان الشك إلى عموم العام ، أو إلى استصحاب حكم المخصص.

مثال ذلك قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(١) حيث انه خرج عنه البيع الغبني بعد ظهور الغبن ، ويشك في ان خيار الغبن للفور أو للتراخي ، فانه بعد الزمان الأول الثابت فيه الخيار قطعا يشك في بقائه ، فهل المرجع استصحاب الخيار ، أو عموم الآية الكريمة.

__________________

(١) الآية ١ من سورة المائدة.

وتنقيح القول يقتضي تقديم أمور :

الأول : انه ليس البحث في المقام في تقديم العموم ، أو الاستصحاب عند التعارض ، فانه لا كلام في تقديم اضعف الامارات على أقوى الأصول كما سيأتي وجهه ، بل النزاع في المقام إنما هو في ان المورد مورد للتمسك بالعام فلا مورد للاستصحاب ، أم يكون من موارد الرجوع إلى حكم المخصص وليس من موارد الرجوع إلى عموم الدليل ، أم لا يكون مورداً لشيء منهما ، فالنزاع صغروي.

الثاني : ان الأصل في الزمان كونه ظرفا للزماني ، ما لم يقم دليل على كونه قيدا للتكليف أو المتعلق ، وذلك لان كل موجود له إضافة إلى الزمان ، وإلى المكان ، لاحتياج غير المجردات اليهما ، وإضافته إلى الزمان يسمى بمتى ، وإضافته إلى المكان يسمى باين ، وهاتان الإضافتان ، لا تفردان الموجودات ولا تكثِّراها إلا بحسب العوارض ، إذ ذات الجوهر مثلا لا يختلف بهما ، فزيد على السطح ، عين الزيد تحت السقف.

وبالجملة تفرد الشيء بهما يحتاج إلى عناية زائدة ، وإلا فبحسب الطبع لا تكونان متكثرتين.

الثالث : ان الزمان في دليل العام ، ربما يكون قيدا للحكم ، أو المتعلق ، وربما يكون ظرفا لاحدهما.

وعلى الأول قد يكون مجموع الآنات ملحوظة على وجه الارتباطية ، ويجعل المجموع قيدا واحدا كالعام المجموعي ، بحيث لو خلا آن واحد عن وجود المتعلق ، أو الحكم انتفى رأسا ، ومن هذا القبيل باب الصوم ، حيث ان الإمساك في

مجموع آنات النهار واجب واحد والمجموع قيد واحد بحيث لو افطر في آن من النهار لم يمتثل أصلاً.

وقد يكون كل آن مأخوذا قيدا مستقلا بنحو يتكرر المقيد بتكرر آنات الزمان ، ويصير الموضوع الوحداني الخارجي باعتبار تعدد الآنات موضوعات متعددة يتبعها أحكام عديدة كما في العام الاستغراقي كما لو قال اكرم العلماء في كل يوم ، واستفيد منه ان لكل يوم حكم مستقل في مقابل اليوم الآخر ولو اكرم عالما في يوم ، ولم يكرم في اليوم الثاني ، فقد اطاع وعصى.

وبالجملة كما ان العام الذي له عموم افرادي ، ينقسم إلى العام المجموعي ، والاستغراقي كذلك العام الذي له عموم ازماني ينقسم اليهما.

الرابع : ان الشقوق الثلاثة التي ذكرناها في دليل العام تجري في دليل المخصص ، إذ فيه أيضاً ، ربما يكون الزمان ظرفا ، وربما يكون قيدا ، وعلى الثاني ربما تؤخذ الأزمنة قيدا على وجه الارتباطية ، وربما تؤخذ قيدا على وجه الاستقلالية وكل زمان قيدا مستقلا.

الخامس : ان اعتبار العموم الزماني بنحو القيدية أو الظرفية ، لنفس الحكم ، أو لمتعلقه لا بدَّ وان يكون لقيام الدليل عليه كما مر ، وهذا لا كلام فيه.

كما لا كلام في انه ربما يكون الدليل الدال عليه ، هو الدليل الخارجي ، كقوله (ع) (حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم

القيامة) (١).

ولا كلام أيضاً في انه إذا كان مصب العموم متعلق الحكم ، يمكن ان يكون نفس دليل الحكم متكفلا لبيانه اما بالنصوصية ، كما لو قال : اكرم زيدا في كل يوم ، أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وذلك إنما يكون فيما إذا لزم من عدم العموم الزماني ، لغوية الحكم وخلو تشريعه عن الفائدة كما في قوله تعالى (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)(٢) إذ لا فائدة في وجوب الوفاء بكل عقد في الجملة.

إنما الكلام في انه إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم ، فهل يمكن ان يكون الدليل المتكفل لبيانه هو نفس دليل الحكم أم لا؟

ذهب المحقق النائيني (ره) (٣) إلى الثاني وملخص ما أفاده في وجه ذلك ، ان استمرار الحكم ودوامه فرع وجوده ، فنسبة الحكم إليه نسبة الموضوع إلى الحكم ، والمعروض إلى العرض ، وما كان كذلك يستحيل ان يكون الدليل المتكفل لجعل الحكم متكفلا للأمر المتأخر عن جعله ، وبالجملة العموم الزماني الذي مصبه المتعلق ، يكون تحت دائرة الحكم ، فيمكن تكفل دليل الحكم لبيانه ، ويكون مطلقا بالإضافة إليه ، واما العموم الزماني الذي يكون مصبه الحكم ، فهو يكون فوق دائرة الحكم ، ولا يكون الدليل المتكفل لبيان الحكم متكفلا لبيانه ، فلا

__________________

(١) اصول الكافي ج ١ باب البدع والرأى والمقاييس ح ١٩.

(٢) الآية ١ من سورة المائدة.

(٣) راجع أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٦٩ ـ ١٧٠ (التنبيه الثاني عشر) بتصرف / فوائد الأصول ج ٤ ص ٥٣٤ ـ ٥٣٦ بتصرف ايضا.

إطلاق له بالإضافة إليه ، فإطلاقه بالنسبة إليه يحتاج إلى قيام دليل آخر.

ثم انه رتب على ذلك انه عند الشك في التخصيص وخروج بعض الأزمنة يصح التمسك بالعموم الزماني الذي دل عليه دليل الحكم ، بخلاف ما إذا كان مصبه نفس الحكم فانه لا يجوز التمسك بدليل الحكم لفرض عدم الإطلاق له ، وعدم تكفله لبيان استمراره ، ولا بما دل عليه عموم أزمنة وجوده ، إذ الدليل المتكفل لجعل الاستمرار ، إنما يكون بنحو القضية الحقيقية التي موضوعها الحكم ، ومحمولها الاستمرار ، ومن الواضح ترتب المحمول على الموضوع ، فمع الشك في ثبوت الموضوع ، لا مجال للتمسك بعموم دليل المحمول ، وعليه فلا مورد حينئذ للرجوع إلى العموم المزبور ، وعلى ذلك حَمل كلام الشيخ الأعظم (ره) (١).

ويرد عليه أمران :

الأول : يرد على ما أفاده من عدم إمكان تكفل دليل الحكم لبيان العموم الزماني الذي مصبه الحكم : ان استمرار الشيء وبقائه ليس عبارة عن عروض عارض على وجوده ، بل هو عبارة عن سعة دائرة وجوده بعد حدوثه ، فهما واحد ، بل التعدد مستلزم لعدم البقاء : إذ لا تعدد إلا مع فرض تخلل العدم ، ومعه يكون الثاني حادثا آخر لا بقاءً للحادث الأول.

وعلى الجملة عنوان البقاء كعنوان الحدوث عنوان لموجود واحد باعتبار عدم عروض العدم عليه ، كما ان الحدوث عنوان له باعتبار سبقه بالعدم.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٤١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٧١.

ولا فرق في ذلك بين الموجودات الخارجية التكوينية ، والاعتبارية الشرعية ، والشارع الأقدس ، كما يجعل الزوجية الموقتة ، كذلك يجعل الزوجية الدائمة بجعل واحد ، بل لا يعقل جعله بجعل آخر ، فان تعدد الجعل يستدعى تعدد المجعول وقد عرفت ان التعدد ينافي البقاء ، وعليه فيمكن تكفل نفس ذلك الدليل لبيانه.

نعم ، ما ذكره (ره) يتم في استمرار الجعل ، فان الجعل بالنسبة إليه من قبيل الموضوع ، ولا يمكن تكفل الدليل الدال عليه متكفلا لاستمراره ، ولكن محل الكلام استمرار المجعول ، وتكفل الدليل لبيان استمراره ، ممكن كما عرفت.

الثاني : ما أفاده (ره) من عدم إمكان التمسك بالدليل المتكفل لبيان الاستمرار :

فانه يرد عليه ان الاستمرار وان كان فرع الثبوت إلا انه فرع الثبوت في الجملة ، لا فرع ثبوته في الأزمنة المتأخرة : إذ ثبوته فيها عين استمراره وبقائه ، لا انه مما يتفرع عليه الاستمرار والبقاء ، وعليه فحيث ان المفروض وجود العموم الافرادي ، فإذا شك في استمرار الحكم الثابت لفرد لا مانع من هذه الجهة من التمسك بعموم الدليل المتكفل لبيان العموم الزماني.

اللهم إلا ان يقال بعد انقطاع حكم هذا الفرد وخروجه عن تحت العام ، البناء على شمول العام له معناه ثبوت الحكم ثانيا وحدوثه لا استمرار ما ثبت أولا ، فدليل الاستمرار لا يصلح لاثبات ذلك فتدبر فانه دقيق.

إذا عرفت هذه الأمور وعرفت عدم تمامية ما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) ،

فاعلم ان الشيخ الأعظم (ره) (١) اختار ان المرجع هو العام فيما إذا كان له عموم ازماني ، وكان كل زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقل لينحل العموم إلى أحكام عديدة بتعدد الزمان ، بل لو لم يكن هناك عموم لما كان وجه للرجوع إلى الاستصحاب ، والمرجع هو الاستصحاب فيما إذا كان الزمان مأخوذا لبيان الاستمرار فانه لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لان مورد التخصيص الأفراد دون الازمان ، بل لو لم يكن هناك استصحاب كان المرجع غيره من الأصول العملية دون العام.

وأورد عليه المحقق الخراساني (٢) ، بأنه في المورد الثاني ، ان كان المأخوذ في المخصص ، الزمان مفردا ، لا ظرفا لاستمرار الحكم ، لا يجري الاستصحاب ، لأنه من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، كما انه في ذلك المورد إذا كان المخصص يخرج الفرد عن تحت العام من الأول ، كما في خيار المجلس الثابت من أول العقد ، الموجب لخروجه عن تحت عموم أوفوا بالعقود ، يتمسك بعموم العام بعد زمان اليقين بالخروج ، فلو شك في بقاء خيار المجلس ، يتمسك بعموم أوفوا بالعقود ، وإلا لزم إخراج احد أفراد العام عن تحت عمومه بلا وجه ، نعم يتم ما ذكره فيما إذا كان المخصص من الوسط كما في خيار الغبن الثابت بعد ظهور الغبن.

فالمتحصّل مما أفاده المحقق الخراساني ان الزمان قد يكون قيدا للعام ،

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ ص ٦٨٠ (الأمر العاشر).

(٢) كفاية الأصول ص ٤٢٥.

وظرفا للخاص ، وقد يكون قيدا لهما ، وقد يكون ظرفا لهما ، وقد يكون ظرفا للعام وقيدا للخاص.

ففي المورد الأول : المرجع هو عموم العام ، وان لم يكن فالاستصحاب.

وفي المورد الثاني المرجع عموم العام ، وان لم يكن فلا مورد للاستصحاب.

وفي المورد الثالث ، لا مجال للتمسك بالعام إلا إذا كان المخصص من الأول ، ويكون المرجع هو الاستصحاب.

وفي المورد الرابع ، لا يكون المرجع عموم العام ، ولا الاستصحاب.

نعم ، إذا كان المخصص من الأول يتمسك بعموم العام.

وهذا في بادئ النظر وان كان متينا ، إلا ان دقيق النظر يقتضي خلافه : فان الحق عدم جريان الاستصحاب في شيء من الموارد ، وكون جميعها من موارد التمسك بالعام ، إلا إذا كان دليل العام المتكفل لاثبات الحكم لكل فرد ناظرا إلى حيث وحدة الحكم وتشخصه بنحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا ، مع كون التقطيع من الوسط ، فلنا دعا وثلاث.

اما الأولى : أي عدم جريان الاستصحاب فقد مر تحقيقه في أول هذا المبحث وعرفت ان استصحاب الحكم الكلي محكوم لاستصحاب عدم الجعل.

واما الثانية : وهي كون المرجع عموم العام ، ففيما كان الزمان قيدا واضح ، واما إذا كان ظرفا ، فيبتنى على بيان مقدمات.

الأولى : ان الإطلاق هو رفض القيود لا الجمع بينها.

الثانية : ان العام الذي اخذ الزمان ظرفا لاستمرار حكمه كقوله تعالى : أوفوا بالعقود ، له حيثيتان ، احداهما : عمومه وشموله لكل فرد من الأفراد ، ثانيتهما : اطلاقه الازماني بمعنى ان مقتضى اطلاقه استمرار الحكم الثابت لكل فرد في الزمان المستمر.

الثالثة : ان المطلق إذا خرج منه فرد بقى الباقي تحته بنفس الظهور الذي استقر فيه أولا.

إذا عرفت هذه المقدمات تعرف انه بعد مضى زمان التخصيص يتمسك بعموم العام لا بحيثية عمومه بل بحيثية اطلاقه بلا فرق بينه وبين سائر المطلقات.

وما ذكره صاحب الدرر (ره) (١) في مقام الفرق ، بان سائر المطلقات لها جهات عرضية ، ككون الرقبة مؤمنة أو كافرة ، والحكم إنما تعلق به بلحاظها ، فإذا خرج شيء بقى الباقي بنفس ذلك الظهور ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، إذ الزمان الواحد المستمر ليس له أفراد متكثرة متباينة ، إلا ان يقطع بالملاحظة ، وجعل كل من قطعاته ملحوظا في القضية ، وملاحظته كذلك خلف ، فلا معنى لاطلاقه من تلك الجهات حتى يكون خروج جهة ، غير مناف لبقاء الجهات الأخر ، بل معنى اطلاقه عدم تقييد الحكم بزمان خاص ولازمه الاستمرار من أول وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في زمان فليس لهذا العام المفروض ، دلالة على دخول ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، إذ لو كان داخلا لم يكن ذلك استمرارا للحكم السابق ، وليس هو فردا آخر حتى يشمله

__________________

(١) درر الفوائد للحائري ج ٢ ص ٢٠٥ مطبعة مهر ، قم ، وفي طبعة جامعة المدرسين ص ٥٧١.

العموم بعمومه الافرادي.

يندفع : بما ذكرناه في المقدمة الأولى ، من ان معنى الإطلاق مطلقا ، رفض القيود ، لا الجمع بينها ، فإطلاق الدليل بالنسبة إلى الأزمنة الذي معناه عدم دخل خصوصياته في الحكم ، لا يكون خلفا ، وعليه فيتمسك بالعام ، لا بحيثية عمومه كي يقال انه ليس فردا آخر بل بحيثية اطلاقه.

كما ان دعوى ان المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر فإذا انقطع لا ظهور يتمسك به.

مندفعة بان التقييد إنما يكون بالنسبة إلى المراد الجدِّي لقيام حجة أقوى من الحجة المزبورة ، فلا ينثلم به ذلك الظهور الواحد.

فان قيل ان ثبوت الحكم بعد ذلك الزمان ليس استمرارا للحكم الأول ، بل هو حكم آخر فيلزم تعدد الواحد.

اجبنا عنه بان معنى استمراره الثابت بالإطلاق المزبور ليس استمراره خارجا ، بل جعل ظرف واحد لهذا الحكم الوحداني لاجعل حصتين من طبيعي الظرف فتدبر فانه دقيق.

فالمتحصّل مما ذكرناه ان الأظهر هو التمسك باطلاق العام في جميع الموارد الأربعة.

واما الدعوى الثالثة : فوجهها واضح لان الشيء لا يبقى على وحدته الشخصية بعد تخلل العدم في البين ، فلو تمسك بالعام لزم ثبوت حكم آخر بعد زمان التخصيص وهذا خلف الفرض.

جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف

التنبيه الرابع عشر : الظاهر ان الشك الذي اخذ في موضوع الاستصحاب ، في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو خلاف اليقين ، فيجري الاستصحاب مع الظن غير المعتبر بالخلاف.

واستدل له بوجوه :

الأول : الإجماع.

وفيه أولا : ان جماعة من الأصحاب لا يرون الاستصحاب حجة ، وجماعة يرونه حجة من باب الظن لا الأخبار ، وهم لا يرونه حجة مع الظن بالخلاف ، فالإجماع لا يكون ثابتا ، اللهم إلا ان يقال عليه الإجماع التعليقي أي على فرض اعتباره من الأخبار يقولون بأنه حجة مع الظن بالخلاف أيضاً ، وهو كما ترى.

وثانيا ، انه يمكن ان يكون مستند المجمعين بعض الوجوه الأخر فلا يكون إجماع تعبدي كاشف عن رأى المعصوم (ع).

الثاني : ان الظن غير المعتبر ان علم بعدم اعتباره فمعناه ان وجوده كعدمه وان كلما يترتب على عدمه يترتب على وجوده ، وإذا شك في اعتباره وعدمه يكون رفع اليد عن الحالة السابقة لأجله نقضا لليقين بالشك.

وفيه : ان معنى عدم اعتبار الظن ان المظنون لا يثبت به لا ترتيب آثار الشك عليه ، واما ما ذكر في المشكوك اعتباره ، فيرد عليه ان صدق نقض اليقين

بالشك يتوقف على وحدة متعلقهما ، وفي صورة التعدد كما في المقام ، حيث ان متعلق اليقين هو الحكم ، ومتعلق الشك حجية الظن ، لا يصدق.

الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان المراد باليقين في نصوص الباب هو الإحراز ، والشك الذي في مقابله أريد به التحير ، فمفاد الروايات ان من كان محرزا لشيء يبنى عليه ما لم يحرز خلافه.

وفيه : أولا ان هذا خلاف ظاهر لفظي اليقين والشك ، وثانيا : ان لازم ذلك الالتزام بالورود في المسألة الآتية ، وهي تعارض الأمارات والاستصحاب كما هو واضح مع انه (قدِّس سره) ملتزم بالحكومة.

فالصحيح ان يقال ان المراد من الشك في النصوص خلاف اليقين لوجوه :

١ ـ ان جماعة من اللغويين كأصحاب الصحاح ، والقاموس ، والمجمع (٢) ، وغيرها ، صرحوا بان ذلك معناه لغة ، والظاهر انه في لسان الشارع الأقدس استعمل في معناه اللغوي ، وتخصيص الشك بالاحتمال المتساوي الطرفين اصطلاح حادث بين العلماء ، وليست الاستعمالات الشرعية جارية على طبقه ، والشاهد لذلك ان الوهم في اصطلاحهم هو الاحتمال المرجوح ، مع انه أطلق الوهم في صحيح الحلبي الوارد فيمن شك في انه صلى ثلاثا أو أربعا في الظن ، قال وان ذهب وهمك إلى الثلاث ، فقم فصل الرابعة (٣).

__________________

(١) أجود التقريرات ج ٢ ص ٤٤٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٤ ص ١٧٩ (التنبيه الرابع عشر).

(٢) مجمع البحرين ج ٥ ص ٢٧٦ (شكك).

(٣) الكافي ج ٣ ص ٣٥٥ باب السهو في الثلاث و .... ح ٨ / الوسائل ج ٨ ص ٢١٧ ح ١٠٤٦٤.

٢ ـ قوله (ع) في الصحيح الأول لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجيء من ذلك امر بين وإلا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ولكن ينقضه بيقين آخر (١) ، فان المستفاد منه انحصار جواز نقض اليقين في اليقين ، وانه لا يجوز رفع اليد عن اليقين بغير اليقين من مراتب الاحتمال.

٣ ـ عدم استفصاله (ع) في الصحيح بين ما إذا أفاد تحريك شيء في جنبه وهو لا يعلم ، بين كون الاحتمال وعدم العلم متساوي الطرفين أم لا فقد أجاب عما سأله الراوي عما إذا حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، بقوله لا حتى يستيقن انه قد نام (٢).

ويؤيده استعماله فيه في غير واحد من الروايات في باب شكوك الصلاة ، بلا قرينة.

فالمتحصّل مما ذكرناه جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف.

* * *

__________________

(١) التهذيب ج ١ ص ٨ باب الاحداث الموجبة للطهارة ح ١١ / الوسائل ج ١ ص ٢٤٥ ح ٦٣١ وأيضا ج ٢ ص ٣٥٦ ح ٢٣٥٢.

(٢) المصدر المتقدم

فهرس الموضوعات

الفصل الثالث.................................................................. ٧

في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف إجمالا.................................. ٧

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين......................................... ٧

شمول أدلة الأصول والأمارات لأطراف العلم وعدمه............................... ١٠

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف وعدمه...................................... ١٣

شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف تخييرا........................................ ١٤

عدم وجوب الموافقة القطعية مع عدم إمكان المخالفة.............................. ٢٢

حدوث المانع بعد العلم....................................................... ٢٤

لو كان المعلوم الإجمالي واجبا تعبديا............................................. ٣٠

لو كان متعلق العلم عنوانا مردد بين عنوانين...................................... ٣١

إذا كان أثر احد الأطراف اكثر................................................ ٣٢

تنجيرز العلم الإجمالي في التدريجيات............................................ ٣٥

مانعية الاضطرار عن تنجيز العلم الإجمالي........................................ ٤٠

حكم الاضطرار إلى أحدهما المعين.............................................. ٤١

حكم الاضطرار إلى غير المعين................................................. ٤٧

خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.......................................... ٥٤

الشك في الخروج عن محل الابتلاء.............................................. ٥٩

لو شك في القدرة العقلية...................................................... ٦٤

لو كان احد أطراف العلم غير مقدور شرعا...................................... ٦٧

العلم الإجمالي في الطوليين..................................................... ٦٨

الشبهة غير المحصورة.......................................................... ٦٩

أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة............................... ٧٢

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة...................................... ٧٧

حكم العلم الإجمالي بجزء الموضوع............................................... ٧٧

بيان وجه نجاسة الملاقي....................................................... ٨٢

حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة...................................... ٨٥

حصول الملاقاة بعد العلم بالنجاسة............................................. ٨٥

لو اختص بعض الأطراف بأصل طولي.......................................... ٨٧

حصول العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة......................................... ٨٩

حدث العلم الإجمالي مع كون الملاقي خارجا عن محل الابتلاء...................... ٩٢

دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين....................................... ٩٤

جريان البراءة العقلية في الأكثر................................................. ٩٧

جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر........................................ ١٠٧

حول التمسك بالاستصحاب لكل من القولين................................. ١١٠

دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليلية.............................. ١١٢

دوران الأمر بين التعيين والتخيير.............................................. ١١٧

الشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة........................................... ١٢٦

في إمكان تكليف الناسي بما عدى المنسي..................................... ١٢٧

الكلام حول إطلاق دليل الجزء المنسي........................................ ١٣٠

ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في الجزئية المطلقة.......................... ١٣٤

الكلام حول حكم الزيادة عمدا أو سهوا....................................... ١٣٦

الكلام حول حكم تعذر بعض القيود للمأمور به............................... ١٤٤

فيما تقتضيه القاعدة الأولية.................................................. ١٤٤

ما يقتضيه الأصل الثانوي.................................................... ١٤٦

تقريب التمسك بالاستصحاب............................................... ١٤٨

بيان مدرك قاعدة الميسور.................................................... ١٥٠

الكلام حول حديث الميسور لا يسقط بالعسور................................. ١٥٤

الكلام حول حديث ما لا يدرك.............................................. ١٥٨

دوران الأمر بين الجزئية والمانعية............................................... ١٦٢

خاتمة....................................................................... ١٦٥

فيما يعتبر في العمل بالاحتياط............................................... ١٦٥

فيما يعتبر في جريان البراءة................................................... ١٦٨

في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه..................................... ١٧٤

حكم العمل المأتي به قبل الفحص............................................ ١٧٦

حكم ما لو احتمل الابتلاء.................................................. ١٧٧

معذورية الجاهل المقصر في الجهر والاخفات..................................... ١٧٩

الكلام حولل ما أفاده الفاضل التوني.......................................... ١٨٥

بيان مدرك القاعدة......................................................... ١٩٢

سند الحديث.............................................................. ١٩٧

متن الحديث............................................................... ١٩٧

موقع صدور الحديث........................................................ ٢٠٠

مفاد الحديث ومعنى مفرداته.................................................. ٢٠٦

مفاد الجملة بلحاظ تصدرها بكلمة لا......................................... ٢١٢

تطبيق حديث لا ضرر على قضية سمرة........................................ ٢٣١

هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيص......................................... ٢٣٤

الميزان هو الضرر الشخصي.................................................. ٢٣٨

العبادات الضررية مشمولة للحديث........................................... ٢٤٠

الإقدام لا يمنع عن شمول الحديث............................................. ٢٤٢

رد المغصوب مع تضرر الغاصب.............................................. ٢٤٩

هل الضرر مانع عن صحة العبادة ، أو العلم به مانع............................ ٢٥٠

هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة.............................. ٢٥٣

هل حديث لا ضرر يشمل عدم الحكم أم لا؟.................................. ٢٥٧

فرعان..................................................................... ٢٥٩

حكم الشك في الضرر...................................................... ٢٦١

بيان وجه تقديم دليل القاعدة على أدلة الأحكام................................ ٢٦٤

تعارض قاعدة لا ضرر ، مع قاعدة نفي الحرج.................................. ٢٧٠

حكم تصرف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرر الغير به...................... ٢٧٥

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخص واحد...................... ٢٧٧

لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخصين......................... ٢٧٩

لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره....................................... ٢٨٢

إذا كان الضرر متوجها إلى نفسه.............................................. ٢٨٢

لو كان الضرر متوجها إلى الغير............................................... ٢٨٣

حكم ما لو توجه الضرر من غير ناحية الحكم.................................. ٢٨٦

لو كان الضرر متوجها إلى احد شخصين نفسه أو غيره من ناحة الحكم............ ٢٨٩

حكم الإضرار بالغير........................................................ ٢٩٥

حكم الإضرار بالنفس....................................................... ٢٩٩

الفصل الرابع................................................................ ٣٠٦

تعريف الاستصحاب......................................................... ٣٠٧

هل الاستصحاب مسألة أصولية أو قاعدة فقهية............................... ٣١٥

اعتبار اتحاد القضيتين....................................................... ٣١٨

الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع................................. ٣٢٠

أدلة حجية الاستصحاب.................................................... ٣٢٢

هل الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق............................... ٣٢٦

الاستدلال لحجية الاستصحاب بمضمرة زرارة................................... ٣٢٧

تعيين جزاء الشرط في الخبر................................................... ٣٣١

تقريب الاستدلال بالمضمر على حجية الاستصحاب............................ ٣٣٦

الاستدلال لحجية الاستصحاب بثاني صحاح زرارة.............................. ٣٤٠

الاستدال لحجية الاستصحاب بثالث صحاح زرارة.............................. ٣٤٨

الاستدلال بما روى عن الخصال لحجية الاستصحاب............................ ٣٥٣

الاستدلال بمكاتبة القاساني.................................................. ٣٥٩

الاستدلال بأخبار الحل والطهارة.............................................. ٣٦١

جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي........................................ ٣٦٨

المستنبط من الحكم العقلي................................................... ٣٦٨

التفصيل بين الشك في الرافع والمقتضي........................................ ٣٧٤

الكلام حول حجية الاستصحاب في الشك في رافعية الموجود..................... ٣٨٧

التحقيق حول الاستصحاب في الاحكام الكلية................................. ٣٨٩

الكلام حول جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية.......................... ٣٩٩

الاستصحاب في الأحكام الوضعية............................................ ٤١٠

تنبيهات الاستصحاب........................................................ ٤١٣

اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب.................................... ٤١٣

جريان استصحاب مؤدى الأمارة.............................................. ٤١٧

الكلام حول جريان استصحاب مؤدى الأصل العملي........................... ٤٢١

أقسام استصحاب الكلي والشخصي.......................................... ٤٢٤

استصحاب الفرد المردد...................................................... ٤٢٧

القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي..................................... ٤٣٠

القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي..................................... ٤٣٢

الشبهة العبائية المعروفة...................................................... ٤٣٦

الكلام حول جريان القسم الثاني في الأحكام................................... ٤٤٠

القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.................................... ٤٤٢

القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي..................................... ٤٤٧

الإشارة إلى جملة من الفروع.................................................. ٤٥١

جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية....................................... ٤٥٢

جريان الاستصحاب في الزمان................................................ ٤٥٣

جريان الاستصحاب في الزمانيات............................................. ٤٦٠

استصحاب الفعل المقيد بالزمان.............................................. ٤٦٥

الاستصحاب التعليقي...................................................... ٤٧١

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات......................................... ٤٨٠

استصحاب أحكام الشريعة السابقة........................................... ٤٨٢

حول اعتبار مثبتات الاستصحاب وعدمه...................................... ٤٩١

عدم الفرق بين خفاء الواسطة وجلائها......................................... ٤٩٨

الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت.................................... ٥٠٢

حكم ما إذا كان الاثر مترتبا بواسطة الأمر الانتزاعي............................. ٥٠٤

الاستصحاب في قيود المأمور به.............................................. ٥٠٧

حول أصالة تأخر الحادث................................................... ٥١٠

حول مجهولي التاريخ......................................................... ٥١٤

تكملة.................................................................... ٥٢٣

جريان الأصل في معلوم التاريخ............................................... ٥٢٥

الكلام حول تعاقب الحالتين المتضادتين........................................ ٥٣١

جريان الاستصحاب في الاعتقاديات.......................................... ٥٣٧

حول تمسك الكتابي بالاستصحاب........................................... ٥٤٢

حول استصحاب الحكم المخصص............................................ ٥٤٤

جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف........................................ ٥٥٤

فهرس الموضوعات........................................................... ٥٥٧

* * *

زبدة الأصول - ٥

المؤلف: آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني
الصفحات: 563
ISBN: 964-8812-38-1
  • الفصل الثالث 7
  • في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف إجمالا 7
  • المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين 7
  • شمول أدلة الأصول والأمارات لأطراف العلم وعدمه 10
  • شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف وعدمه 13
  • شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف تخييرا 14
  • عدم وجوب الموافقة القطعية مع عدم إمكان المخالفة 22
  • حدوث المانع بعد العلم 24
  • لو كان المعلوم الإجمالي واجبا تعبديا 30
  • لو كان متعلق العلم عنوانا مردد بين عنوانين 31
  • إذا كان أثر احد الأطراف اكثر 32
  • تنجيرز العلم الإجمالي في التدريجيات 35
  • مانعية الاضطرار عن تنجيز العلم الإجمالي 40
  • حكم الاضطرار إلى أحدهما المعين 41
  • حكم الاضطرار إلى غير المعين 47
  • خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء 54
  • الشك في الخروج عن محل الابتلاء 59
  • لو شك في القدرة العقلية 64
  • لو كان احد أطراف العلم غير مقدور شرعا 67
  • العلم الإجمالي في الطوليين 68
  • الشبهة غير المحصورة 69
  • أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة 72
  • حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة 77
  • حكم العلم الإجمالي بجزء الموضوع 77
  • بيان وجه نجاسة الملاقي 82
  • حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة 85
  • حصول الملاقاة بعد العلم بالنجاسة 85
  • لو اختص بعض الأطراف بأصل طولي 87
  • حصول العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة 89
  • حدث العلم الإجمالي مع كون الملاقي خارجا عن محل الابتلاء 92
  • دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين 94
  • جريان البراءة العقلية في الأكثر 97
  • جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر 107
  • حول التمسك بالاستصحاب لكل من القولين 110
  • دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليلية 112
  • دوران الأمر بين التعيين والتخيير 117
  • الشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة 126
  • في إمكان تكليف الناسي بما عدى المنسي 127
  • الكلام حول إطلاق دليل الجزء المنسي 130
  • ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في الجزئية المطلقة 134
  • الكلام حول حكم الزيادة عمدا أو سهوا 136
  • الكلام حول حكم تعذر بعض القيود للمأمور به 144
  • فيما تقتضيه القاعدة الأولية 144
  • ما يقتضيه الأصل الثانوي 146
  • تقريب التمسك بالاستصحاب 148
  • بيان مدرك قاعدة الميسور 150
  • الكلام حول حديث الميسور لا يسقط بالعسور 154
  • الكلام حول حديث ما لا يدرك 158
  • دوران الأمر بين الجزئية والمانعية 162
  • خاتمة 165
  • فيما يعتبر في العمل بالاحتياط 165
  • فيما يعتبر في جريان البراءة 168
  • في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه 174
  • حكم العمل المأتي به قبل الفحص 176
  • حكم ما لو احتمل الابتلاء 177
  • معذورية الجاهل المقصر في الجهر والاخفات 179
  • الكلام حولل ما أفاده الفاضل التوني 185
  • بيان مدرك القاعدة 192
  • سند الحديث 197
  • متن الحديث 197
  • موقع صدور الحديث 200
  • مفاد الحديث ومعنى مفرداته 206
  • مفاد الجملة بلحاظ تصدرها بكلمة لا 212
  • تطبيق حديث لا ضرر على قضية سمرة 231
  • هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيص 234
  • الميزان هو الضرر الشخصي 238
  • العبادات الضررية مشمولة للحديث 240
  • الإقدام لا يمنع عن شمول الحديث 242
  • رد المغصوب مع تضرر الغاصب 249
  • هل الضرر مانع عن صحة العبادة ، أو العلم به مانع 250
  • هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة 253
  • هل حديث لا ضرر يشمل عدم الحكم أم لا؟ 257
  • فرعان 259
  • حكم الشك في الضرر 261
  • بيان وجه تقديم دليل القاعدة على أدلة الأحكام 264
  • تعارض قاعدة لا ضرر ، مع قاعدة نفي الحرج 270
  • حكم تصرف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرر الغير به 275
  • لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخص واحد 277
  • لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخصين 279
  • لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره 282
  • إذا كان الضرر متوجها إلى نفسه 282
  • لو كان الضرر متوجها إلى الغير 283
  • حكم ما لو توجه الضرر من غير ناحية الحكم 286
  • لو كان الضرر متوجها إلى احد شخصين نفسه أو غيره من ناحة الحكم 289
  • حكم الإضرار بالغير 295
  • حكم الإضرار بالنفس 299
  • الفصل الرابع 306
  • تعريف الاستصحاب 307
  • هل الاستصحاب مسألة أصولية أو قاعدة فقهية 315
  • اعتبار اتحاد القضيتين 318
  • الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع 320
  • أدلة حجية الاستصحاب 322
  • هل الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق 326
  • الاستدلال لحجية الاستصحاب بمضمرة زرارة 327
  • تعيين جزاء الشرط في الخبر 331
  • تقريب الاستدلال بالمضمر على حجية الاستصحاب 336
  • الاستدلال لحجية الاستصحاب بثاني صحاح زرارة 340
  • الاستدال لحجية الاستصحاب بثالث صحاح زرارة 348
  • الاستدلال بما روى عن الخصال لحجية الاستصحاب 353
  • الاستدلال بمكاتبة القاساني 359
  • الاستدلال بأخبار الحل والطهارة 361
  • جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي 368
  • المستنبط من الحكم العقلي 368
  • التفصيل بين الشك في الرافع والمقتضي 374
  • الكلام حول حجية الاستصحاب في الشك في رافعية الموجود 387
  • التحقيق حول الاستصحاب في الاحكام الكلية 389
  • الكلام حول جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية 399
  • الاستصحاب في الأحكام الوضعية 410
  • تنبيهات الاستصحاب 413
  • اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب 413
  • جريان استصحاب مؤدى الأمارة 417
  • الكلام حول جريان استصحاب مؤدى الأصل العملي 421
  • أقسام استصحاب الكلي والشخصي 424
  • استصحاب الفرد المردد 427
  • القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي 430
  • القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي 432
  • الشبهة العبائية المعروفة 436
  • الكلام حول جريان القسم الثاني في الأحكام 440
  • القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي 442
  • القسم الرابع من أقسام استصحاب الكلي 447
  • الإشارة إلى جملة من الفروع 451
  • جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية 452
  • جريان الاستصحاب في الزمان 453
  • جريان الاستصحاب في الزمانيات 460
  • استصحاب الفعل المقيد بالزمان 465
  • الاستصحاب التعليقي 471
  • الاستصحاب التعليقي في الموضوعات 480
  • استصحاب أحكام الشريعة السابقة 482
  • حول اعتبار مثبتات الاستصحاب وعدمه 491
  • عدم الفرق بين خفاء الواسطة وجلائها 498
  • الفروع التي توهم ابتنائها على الأصل المثبت 502
  • حكم ما إذا كان الاثر مترتبا بواسطة الأمر الانتزاعي 504
  • الاستصحاب في قيود المأمور به 507
  • حول أصالة تأخر الحادث 510
  • حول مجهولي التاريخ 514
  • تكملة 523
  • جريان الأصل في معلوم التاريخ 525
  • الكلام حول تعاقب الحالتين المتضادتين 531
  • جريان الاستصحاب في الاعتقاديات 537
  • حول تمسك الكتابي بالاستصحاب 542
  • حول استصحاب الحكم المخصص 544
  • جريان الاستصحاب مع الظن بالخلاف 554
  • فهرس الموضوعات 557