

بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب
العالمين وصلواته واكمل تحياته على اشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما
بقية الله في الأرضين أرواح من سواه فداه.
وبعد فهذا هو
الجزء الرابع من كتابنا زبدة الاصول في طبعته الثانية ، وفقنا الله لطبعه ونشره في
حلة جديدة والله وليُّ التوفيق.
***
المقصد السادس
من مقاصد علم الأصول
في
القطع وأقسامه وأحكامه
وفيه مباحث :
المقصد السادس
في القطع
القطع ، أقسامه ،
وأحكامه :
وقبل الشروع في
مباحث هذا المقصد ، لا بد من تقديم أمور :
الأمر الأول : أن
مباحث القطع خارجة عن المسائل الأصولية ، بل هي أشبه بمسائل الكلام ، وإنما نتعرض
لها لشدة مناسبته مع المقام.
فلنا دعاوى ثلاث :
أما خروجها عن
المسائل الأصولية ، فلأنها عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنباط الأحكام
الشرعية بمعنى أنها إذا انضمت إليها الصغريات أنتجت نتيجة فقهية ، وهو الحكم
الشرعي الكلي الواقعي ، أو الظاهري ، وحجية القطع بأقسامه ـ بما أنها لا تكون
واسطة في استنباط الحكم الشرعي ـ تكون خارجة عن مسائل علم الأصول.
فان قلت : إنه
بناء على كون المسائل الأصولية ، هي المسائل التي تفيد في مقام إقامة الحجة على
حكم العمل شرعا ، تكون هذه المسألة منها إذ البحث عن منجزية القطع بأقسامه كالبحث
عن منجزية الأمارة ، يفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل في الفقه.
قلت : إن الحجة في
الفقه التي جعلت موضوع علم الأصول ، وقيل : إن
مسائله إنما هي ما
تفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل شرعا ، يحتمل أن يراد بها معناها المصطلح
في المنطق ، ويحتمل أن يراد بها معناها المصطلح عند الأصوليين ، وعلى أي تقدير لا
يصح إطلاقها على القطع الطريقي :
أما بمعناها الأول
: فلان الحجة عبارة عن الوسط ، الذي يحتج به على ثبوت الأكبر للأصغر ، كالتغير
لاثبات حدوث العالم ، وهي بهذا المعنى تتوقف على أن يكون بينها وبين الأكبر ـ الذي
يراد إثباته للأصغر ـ علقة ثبوتية : إما علقة العلية والمعلولية بان يكون الوسط
علة لثبوت الأكبر الذي هو البرهان اللمّي ، أو يكون معلولا له الذي هو البرهان
الإنّي ، وإما علقة التلازم.
ومن المعلوم أن
الحجة بهذا المعنى لا تصدق على القطع ، ولا يصح جعله وسطا في تأليف القياس. فلا
يصح أن يقال : إن هذا معلوم الخمرية أو الحرمة ، وكل معلوم الخمرية خمر ، أو يجب
الاجتناب عنه إذ معلوم الخمرية يمكن ان يكون خمرا ، ويمكن ان لا يكون.
وبعبارة أخرى : ان
الخمرية من العناوين الواقعية تدور مدار الواقع لا العلم ، ووجوب الاجتناب متعلق
بالخمر الواقعي لا بما هو معلوم الخمرية.
ثم ان الحجة بهذا
المعنى كما لا تصدق على القطع لا تصدق على الأمارات الشرعية ، ولا يصح جعلها وسطا
:
إذ متعلقاتها ان
كانت من الموضوعات الخارجية فعدم ثبوت العلقة بينهما واضح ، إذ لا علقة بين البينة
القائمة على الخمرية وبين نفس الخمر ، لا علقة التلازم ، ولا علقة العلية ،
والمعلولية.
وان كانت من
الأحكام الشرعية ، فلان الأحكام الشرعية إنما تثبت لمتعلقاتها ومترتبة على
موضوعاتها الواقعية ، لا على ما أدى إليه الطريق إلا بناء على التصويب الذي لا
نقول به ، فلا ربط ثبوتي بين الأمارة وبين الأكبر وقد عرفت لزوم وجوده في إطلاق
الحجة.
وبهذا يظهر عدم
تمامية ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) بقوله ان إطلاق الحجة على القطع ليس كاطلاقها على الأمارات
المعتبرة شرعا إلى ان يقول فقولنا الظن حجة يراد به كونه وسطا لاثبات حكم متعلقه
فراجع وتدبر.
وأما بمعناها
الثاني : فلان الحجة في اصطلاح الأصوليين ، عبارة عن الطرق والأمارات الواسطة
لاثبات أحكام ما تعلقت به بحسب الجعل الشرعي ، وهذا المعنى لا ينطبق على القطع ،
إذ القطع بالحكم هو وصوله حقيقة ولا يتوقف على منجزية القطع لتكون نتيجة البحث
عنها مفيدة في الفقه.
وهذا بخلاف سائر
الأمارات لأنها ليست وصولا حقيقيا للحكم ، فيتوقف العلم بالحكم على ثبوت كونها
وصولا تعبديا ، وبهذه العناية يصح جعلها وسطا في القياس لاثبات أحكام متعلقاتها
فيقال هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية حرام ، ولعله إلى هذا نظر الشيخ الأعظم
(ره) وان كان خلاف ظاهر كلامه.
فالمتحصّل : انه
لا يصح إطلاق الحجة على القطع باصطلاح أهل الميزان ولا باصطلاح الأصولي ، نعم يصح
إطلاق الحجة عليه بمعنى القاطع للعذر أي
__________________
المنجز والمعذر ،
ولكن هذا في القطع الطريقي.
واما القطع
المأخوذ في الموضوع فقد يقال انه يصح إطلاق الحجة بمعناها الأول عليه بنحو من
العناية فيقال هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية نجس يجب الاجتناب عنه إذا كانت
النجاسة مترتبة على معلوم الخمرية لان نسبة الموضوع إلى الحكم كنسبة العلة إلى
المعلول وان لم تكن من العلل الحقيقية إلا انه من جهة عدم تخلف الحكم عن موضوعه
والتلازم بينهما يقع وسطا للقياس ، ولا فرق في ذلك بين ما لو كان القطع تمام
الموضوع أو جزئه ، نسب ذلك إلى المحقق النائيني (ره) ولا بأس به.
ولكن لا يصح إطلاق
الحجة عليه بالمعنى الثاني : إذ القطع حينئذ وان كان دخيلا في فعلية الحكم ، إلا
ان الحكم لا يكون مستفادا أو مستنبطا من القطع ، بل من الأدلة الدالة على ثبوت ذلك
الحكم كالنجاسة عند القطع بالخمرية مثلا.
وبعبارة أخرى :
تكون نسبته إليه هي نسبة سائر الموضوعات إلى الحكم ، فكما ان الحرمة لا تستنبط من
الخمر بل من الأدلة الدالة على حرمة الخمر كذلك هذا الحكم.
ثم انه بما ذكرناه
ظهر ان مسألتي منجزية العلم الإجمالي ، واستحقاق المتجري للعقاب خارجتان عن مسائل
الفن.
واما مسألة قيام
الأمارات والأصول مقام القطع ، فهي وان كانت من
__________________
المسائل الأصولية
إلا أنها خارجة عن مسائل القطع ، لان إمكان قيام الأمارة مقام القطع وعدمه من
توابع الأمارة ، لا القطع لأنه يثبت بها ترتب حكم الواقع على مؤدى الأمارة أو عدمه
، فظهر خروج هذه المسألة من المسائل الأصولية.
واما وجه اشبهيته
بمسائل الكلام : فلان المسائل الكلامية ، عبارة عن كل شيء له مساس بالعقائد
الدينية ، وحيث ان البحث عن منجزية القطع يمكن إرجاعه إلى انه هل يصح للمولى ان
يعاقب على مخالفة المقطوع به ، فيصح دعوى ان هذه المسألة أشبه بمسائل الكلام.
واما شدة مناسبته
مع المقام فلأنه يبحث في الأصول عما يقع نتيجته في طريق القطع بالحكم فيناسب بيان
حال القطع بالحكم.
هل المسائل الأصولية تختص بالمجتهد
الأمر الثاني :
ظاهر كلام الشيخ الأعظم (ره) من جعل المقسم للحالات الثلاث ، القطع ، الظن ، الشك ، هو
المكلف ، عدم اختصاص ما يذكره من احكامها ، بالمجتهد ، وهو صريح المحقق الأصفهاني ، وصريح المحققين
__________________
الخراساني والنائيني هو الاختصاص وتبعهما جماعة وقالوا ان المسائل الأصولية من
حجية خبر الواحد ، والاستصحاب ، وما شاكل تختص بالمجتهد ، وقد استدل للثاني ،
بوجوه.
الأول : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) وتوضيحه : اختصاص عناوين موضوعاتها بالمجتهد : إذ حصول تلك
الصفات من : القطع ، والظن ، والشك ، فرع الالتفات التفصيلي إلى الحكم ، والعامي
من جهة غفلته لا يكاد تحصل له تلك الصفات ، وعلى فرض حصولها له لا عبرة بظنه وشكه
بعد عجزه عن تشخيص موارد الأمارات والأصول ، وعدم تمكنه من فهم مضامينها والفحص في
مواردها.
وفيه : انه يمكن
فرض حصولها للمقلد ، ولو بعد تنبيه المجتهد ، أو كان محصلا غير بالغ مرتبة
الاجتهاد ، واما عدم تشخيص مواردها ، فيرجع في ذلك إلى المجتهد وهو يعين الموارد.
الثاني : ما ذكره
المحقق الأصفهاني قال ان عناوين موضوعات الأحكام الظاهرية لا تنطبق إلا على
المجتهد ، فانه الذي جاءه النبأ ، أو جاءه الحديثان المتعارضان ، وهو الذي أيقن
بالحكم الكلي ، وشك في بقائه وهكذا إلا ان محذوره عدم ارتباط حكم المقلد به فلا
يتصور في حقه تصديق عملي وجري
__________________
عملي ، ولا نقض
عملي ، وابقاء عملي ، فمن يتعنون بعنوان الموضوع ليس له تصديق عملي ليخاطب به ،
ومن له تصديق عملي لا ينطبق عليه العنوان ليتوجه إليه التكليف انتهى.
وفيه : ان وظيفة
المجتهد هي وظيفة الإمام (ع) ، وهي بيان الأحكام المجعولة في الشريعة بنحو القضايا
الحقيقية ، ومن جملة تلك الأحكام ، الأحكام الأصولية ، فإذا فرضنا ان الخبر الموثق
المتضمن للحكم الكلي ، كوجوب جلسة الاستراحة فهم المجتهد من الأدلة حجيته ، يفتى
بحجية الخبر الموثق ، ويرجع المقلَّد إليه في ذلك من باب رجوع الجاهل إلى العالم ،
ويبين ان هذا الخبر ظاهر في الوجوب ولا معارض له ، ويرجع المقلد في ذلك أيضاً إليه
من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، فيعمل المقلد به.
وبذلك يظهر انه
حاجة إلى ما ذكره (قدِّس سره) في رد هذا المحذور بقوله ان أدلة الإفتاء والاستفتاء يوجب
تنزيل المجتهد منزلة المقلد فيكون مجيء الخبر إليه بمنزلة مجيء الخبر إلى مقلده
ويقينه وشكه بمنزلة يقين مقلده وشكه فالمجتهد هو المخاطب عنوانا والمقلد هو
المخاطب لبا انتهى.
مع انه يرد عليه
انه لا دلالة لأدلة الإفتاء على هذا التنزيل فتدبر.
الثالث : عدم قدرة
المقلد على العمل بالخبر الواحد ، وعلى الفحص اللازم في العمل بالأصول.
وفيه : ان العمل
بالخبر الواحد هو الإتيان بالفعل الذي دل الخبر على
__________________
وجوبه ، وهذا مما
يقدر عليه المقلد ، وإنما لا يقدر على الاستظهار من الدليل ، وقد عرفت انه له ان
يرجع إلى المجتهد في ذلك من باب الرجوع إلى أهل الخبرة ، واما الفحص اللازم في
العمل بالأصول فليس من باب كونه شرطا في الأخذ بالأحكام المتعلقة بالشك ، بل الحكم
متعلق بالشك الذي لا يكون في مورده دليل ، والفحص إنما يكون لإحراز ذلك ، فيكون
نظر المجتهد في تعيين ذلك متبعا للمقلد لكونه أهل الخبرة فالأظهر ان هذه الأحكام
كالأحكام الأولية مشتركة بين المجتهد والمقلد لاطلاق أدلتها.
ونتيجة ما اخترناه
ان للمجتهد ان يقر المقلد على الشك ويقول له لا تنقض اليقين السابق بالشك ، كما ان
له ان يجري الاستصحاب عنه لليقين والشك ويفتى بما يستخرجه من الاستصحاب ، وهذا
بخلاف القول بالاختصاص فانه ليس له ذلك.
ويترتب عليه انه
إذا فرضنا في مورد كون حكم متيقنا سابقا ، ومشكوكا فيه لاحقا والمجتهد يرى ظهور
رواية في خلاف الحكم السابق ، والمقلد يعلم بخطئه واشتباهه ، فان له ان يجري
الاستصحاب ، ويعمل على طبقه وهذا بخلاف مبنى التخصيص ، فانه ليس له ذلك لعدم حجية
الاستصحاب له فتدبر فان هذه ثمرة مهمة.
وربما يورد على
القول بالاختصاص بوجهين :
أحدهما : ان لازمه
عدم جواز رجوع المقلد إليه فيما استفاده من الأدلة ، فان الأحكام المختصة بالمجتهد
لا يجوز للمقلد العمل بها لاحظ ، وجوب التصرف في مال الأيتام والقضاوة وما شاكل.
ويرده انه فرق بين
الحكم المتعلق بالعمل الخاص والحكم الذي يكون واسطة في إثبات الحكم الكلي الأولى
المشترك بين المجتهد والمقلد ، والذي لا يجوز العمل به هو الأول ، فانه حكم متعلق
بعمل المجتهد ، والمقام من قبيل الثاني ، فانه يستفيد المجتهد من حجية الاستصحاب
الحكم المشترك بينه وبين مقلده فتدبر.
ثانيهما : ان
موضوع الأصول هو المكلف الشاك ، والمقلد الذي يكون التكليف متوجها إليه ، لا يكون
شاكا في الحكم لعدم التفاته ، والمجتهد وان كان شاكا ، إلا ان التكليف غير متوجه
إليه ، فمن توجه إليه التكليف غير شاك في الحكم ، والشاك فيه لم يتوجه إليه
التكليف ، فلا مورد للرجوع إلى الأصل العملي.
وأجاب عنه الشيخ
الأعظم بان المجتهد نائب عن المقلد في إجراء الأصل ، فيكون الشك
من المجتهد بمنزلة الشك من المقلد.
وفيه : انه لا
دليل على هذه النيابة وأدلة الأصول غير شاملة للشك النيابي.
والحق في الجواب
ان يقال ان موضوع الأصول هو الشك في الحكم فالمجتهد إذا التفت إلى حكم مقلده الذي
، هو مجعول بنحو القضية الحقيقية ، ووظيفة المجتهد كوظيفة الإمام (ع) ـ بيان ذلك
وحصل له الشك مع يقينه سابقا بثبوته يجري الاستصحاب بلحاظ يقينه وشكه ، ولا يعتبر
في جريان الاستصحاب
__________________
كون الشك متعلقا
بالحكم المتعلق بفعل نفسه ويفتي حينئذ ببقاء ذلك الحكم.
أضف إليه انه يمكن
ان يجري المجتهد الاستصحاب بلحاظ يقين المقلد وشكه ، كما إذا كان الحكم مما يلتفت
إليه المقلد أيضاً ، فيشك فيه كما شك فيه المجتهد فيجرى الاستصحاب في حقه ويفتي
بمؤداه.
فالقول بالاختصاص
وان كان لا محذور فيه ، إلا ان مقتضى إطلاق الأدلة هو البناء على التعميم.
تثليث الأقسام
الأمر الثالث :
ذكر الشيخ الأعظم ، ان المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإما ان يحصل له
القطع ، أو الظن ، أو الشك ، ولذلك جعل كتابه مشتملا على مقاصد ثلاثة ، ومورد
كلامه في التقسيم هو الحكم الواقعي.
وعدل المحقق
الخراساني في الكفاية عن ذلك وجعل التقسيم ثنائيا ، ومحصل ما ذكره في وجه العدول
أمور ثلاثة :
الأول : انه لا بد
من ان يكون المراد من الحكم ، اعم من الواقعي والظاهري ، لعدم اختصاص أحكام القطع
بما إذا تعلق بالحكم الواقعي ، وعليه
__________________
فلا بد من جعل
التقسيم ثنائيا ، إذ المكلف إذا التفت إلى حكم واقعي أو ظاهري ، فإما ان يحصل له
القطع به ، أو لا ويدخل بحث الحجج والأمارات الشرعية ، والأصول العملية الشرعية ،
في القسم الأول ، وعلى الثاني لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع
الظن لو حصل له وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة ، وان لم يحصل له الظن
أو حصل ولم تتم مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة لا بد من الرجوع إلى الأصول
العقلية ، من البراءة والاشتغال والتخيير على اختلاف الموارد.
الثاني : انه لا
بد من تخصيص الحكم بالفعلي لان أحكام القطع مختصة بما إذا كان متعلقا به ، إذ
الحكم الإنشائي غير البالغ مرتبة الفعلية لا يترتب عليه اثر.
الثالث : انه لا
بد من تبديل الظن بالطريق المعتبر لئلا يتداخل الأقسام ، إذ الظن غير المعتبر
محكوم بحكم الشك ، وفي كلام الشيخ جعل قسيما له ، والأمارة المعتبرة ربما لا تفيد
الظن الشخصي فهي قسيم الشك وقد جعلت في كلام الشيخ داخلة فيه.
وعليه فان كان لا
بد من تثليث الأقسام ، فلا بد وان يقال : ان المكلف إما ، ان يحصل له القطع ، أو
لا ، وعلى الثاني ، إما ان يقوم عنده طريق معتبر ، أو لا ، ومرجعه على الأخير إلى
القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق.
يرد على ما أفاده
: ان المجعول في باب الأمارات والأصول الشرعية ليس هو الحكم الظاهري كما ستعرف فلا
علم بالحكم في مواردها.
أضف إليه ان
التقسيم في كلام الشيخ إنما هو في رتبة سابقة على الحكم ، ولبيان موضوعات المسائل
الآتية بنحو الإجمال. باعتبار أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي :
إما ان يحصل له
القطع الذي هو حجة ذاتا ولا تكون حجيته جعلية ، أو الشك الذي لا يكون قابلا للحجية
إذ ليس فيه كاشفية أصلاً ولا معنى لجعله حجة.
واما ان يحصل له
الظن وهو متوسط بينهما إذ له طريقية ناقصة ، فليس كالقطع ليكون حجة ذاتا ، ولا
كالشك ليكون جعل الحجية له ممتنعا ، فان دل دليل على اعتباره يكون ملحقا بالقطع
وإلا فهو ملحق بالشك ، ويجري في مورده الأصل العملي.
فالتقسيم إنما هو
في مرتبة سابقة على الحكم ، وبعد البحث قد يلحق الظن بالقطع ، وقد يلحق بالشك ،
فلا بد من جعل التقسيم ثلاثيا.
نعم لا بد من
تبديل الظن في كلام الشيخ بالطريق الناقص الذي جعله الشارع حجة ، وتبديل الشك ،
بعدم وجود إمارة معتبرة على الحكم ، وقد صرح الشيخ (ره) بذلك في أول بحث البراءة .
وبذلك يظهر الحال
فيما أفاده ثالثا ، وانه هو الصحيح ، وان كان فيما أفاده
__________________
مسامحة يظهر لمن
تدبر فيه.
فالمتحصّل ان
التقسيم لا بد وان يكون ثلاثيا ، بالنحو الذي أفاده المحقق الخراساني ولا يتم ما أفاده الشيخ الأعظم (ره).
وقد يقال كما عن
المحقق العراقي ان الأولى ، ما أفاده الشيخ ، لان التقسيم إنما هو بلحاظ
ما للأقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للطريقية والحجية من حيث ، الوجوب ،
والإمكان ، والامتناع حيث ان القطع لكشفه التام مما وجب حجيته عقلا ، والظن لكونه
كاشفا ناقصا أمكن حجيته شرعا ، والكشف لعدم الشك فيه لا يعقل حجيته.
وفيه : انه لو كان
البحث في المباحث الآتية عن ، وجوب الحجية للقطع ، وامكانها للظن ، وامتناعها للشك
كان ما ذكر من التقسيم حقا ، ولكن بما ان البحث في الظن إنما هو عن الأمارات
المجعولة شرعا أفادت الظن أم لم تفد ، كما ان البحث في المقام الثالث عن الأصول
المجعولة عند عدم وجود إمارة معتبرة ولو حصل الظن ، والتقسيم إنما يكون لتعيين
عناوين المباحث الآتية إجمالا ، فلا يصح ما ذكر.
__________________
الكلام في حجية القطع
وكيف كان فبيان
أحكام القطع وأقسامه ، يستدعي البحث في مواضع :
الموضع الأول : قد
طفحت كلمات الأصحاب بأنه يجب العمل على وفق القطع ، ولزوم الحركة على طبقه ، وانه
يوجب تنجيز الحكم.
وتنقيح القول في
هذا الموضع إنما هو بالبحث في مقامات :
الأول : في ان
طريقية القطع بمعنى انكشاف المقطوع به ، قابلة للجعل ، أم لا؟
الثاني : في ان
وجوب العمل على طبق القطع ، بمعنى منجزيته في صورة المطابقة للواقع ، ومعذريته في
صورة المخالفة ، وان شئت فعبر عنه بالحجيَّة ، هل هو مجعول ، أم لا؟
الثالث : في انه
هل يمكن عقلا النهي عن العمل به بمعنى عدم ترتب محذور عقلي عليه ، أم لا؟
الرابع : في انه
هل يصح تعلق الأمر المولوي بالعمل على طبق القطع ، وان شئت فعبَّر عنه بالإطاعة ،
أم لا؟ فيكون الأمر بالإطاعة إرشاديا ولا يمكن ان يكون مولويا.
أما المقام الأول
: فالحق ان طريقيته لا تقبل الجعل ، لا التكويني منه ، ولا التشريعي ، إذ حقيقة
القطع ، حقيقة مرآتية ، فالقطع عين الطريقية ، لا شيء لازمه تلك ، ومن الواضح انه
لاجعل تأليفي يبن الشيء ونفسه.
نعم يصح جعل وجود
القطع نفسه ، لكنه غير جعل الطريقية له ، الذي هو محل الكلام هذا بالنسبة إلى
الجعل التكويني واما عدم قابليتها للجعل التشريعي ، فلانه لا يتعلق بما هو متكون
بنفسه ، وإلا يكون من اردأ أنحاء تحصيل الحاصل.
واما المقام
الثاني : فالأقوال فيه ثلاثة :
١ ـ ان وجوب العمل
على وفق القطع ، إنما هو من لوازم ذاته ، اختاره صاحب الكفاية ، حيث قال ، وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به شاهد
وحاكم.
٢ ـ ان ذلك إنما
يكون بحكم العقل وإلزامه ، اختاره المحقق الخراساني في التعليقة.
٣ ـ انه إنما يكون
ببناء العقلاء اختاره المحقق الأصفهاني .
والحق هو الأول
فان العقل بعد القطع بالحكم ، يرى ان مخالفته مناف لذي الرقية ، وخروج عن رسم
العبودية ، وهتك لحرمة المولى وظلم عليه ، والعمل على وفقه عمل بوظيفة العبودية ،
ولهذا يدرك العقل انه لو عاقبه المولى على
__________________
مخالفته لم يعد
قبيحا ، بل يحسن ذلك لعدم منافاته للحكمة.
وبعبارة أخرى : ان
العقل كما يدرك استحالة العقاب من الحكيم في صورة عدم العصيان لكونه عقابا بلا
بيان ، ومنافيا للحكمة ، كذلك يدرك صحته وإمكانه في صورة العصيان لعدم التنافي
بينه وبين الحكمة بل بينهما كمال الملاءمة ، وهذا الدرك العقلاني إنما هو كدرك
العقل امتناع اجتماع الأمر والنهي ، أو جوازه.
واستدل المحقق
اليزدي (ره) في درره لعدم جعل الحجية للقطع : بأنه لو قلنا باحتياجها
إليه لزم التسلسل ، لان الأمر بمتابعة هذا القطع لا يوجب التنجز بوجوده الواقعي ،
بل لا بد من العلم ، وهذا العلم أيضاً كالسابق يحتاج في التنجيز إلى الأمر وهكذا.
ولكن يرد عليه ان
الأمر الثاني وان كان وصوله مما لا بد منه في تنجيز الأمر الواقعي المعلوم ، إلا
انه لا تنجز له حتى يحتاج تنجزه إلى الجعل فانه أمر بداعي تنجز الأمر الأول.
وبعبارة أخرى : ان
جعل المنجزية للقطع لا يكون من الأحكام المتعلقة بفعل المكلف حتى يتصور فيه
المخالفة فتوجب استحقاق العقاب بل هو من الأحكام الوضعية التي لا مخالفة لها ،
وعليه فلا معنى لمنجزيته حتى يحتاج إلى جعل آخر فلا يلزم منه التسلسل ، فالصحيح ما
ذكرناه.
واما القول الثاني
: فيرده ان شأن القوة العاقلة ، ليس هو البعث
__________________
والتحريك ،
والإلزام ، بل شانها إدراك الأشياء ، بل الإلزام والبعث التشريعي وظيفة المولى ،
نعم الإنسان يتحرك نحو ما قطع بكونه نفعا له ، ويحذر عما يراه ضررا ، ولكن ذلك ليس
بإلزام العقل بل إنما يكون منشأه حب النفس ، ولذا لا يختص ذلك بالإنسان ، بل
الحيوان بما انه بفطرته يحب نفسه ، يتحرك نحو ما يراه نفعا له ، ويحذر عما يراه
ضررا عليه ، وهذا التحرك تكويني ، لا انبعاث تشريعي.
واما القول الثالث
: وهو القول بان حجية القطع إنما تكون ثابتة ببناء العقلاء ، والأحكام العقلائية
عبارة عن القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظا للنظام وابقاءً
للنوع لحسن العدل وقبح الظلم والعدوان.
فيرده ان وجوب
العمل على طبق القطع كان ثابتا في زمان لم يكن فيه إلا بشرٌ واحد ولم يكن نوع
ليكون العمل على طبقه لحفظه ، وان شئت فاختبر ذلك بفرض نفسك ذلك البشر.
النهي عن العمل بالقطع
واما المقام
الثالث : فالحق عدم إمكان النهي عن العمل به ، وذلك لوجهين :
أحدهما : لزوم
التناقض اعتقادا مطلقا ، وواقعا في صورة الإصابة.
وبعبارة أخرى :
المكلف لا يتمكن من تصديق النهي عن العمل به بعد تصديقه بحرمة الفعل كما لو علم
بحرمة الخمر : إذ النهي عن العمل به إذن في
الفعل ، وهو لا
يجتمع مع الحرمة.
وان شئت قلت : ان
الحرمة عبارة عن الزجر عن الفعل مع عدم الترخيص في الفعل ، فالترخيص فيه مع الحكم
بالحرمة متناقضان والمكلف بعد إذعانه بالأول غير متمكن من الإذعان بالثاني.
وقد أورد على هذا
التقريب بإيرادين :
الأول : بأنه قد ورد النهي عن العمل بالظن القياسي حتى في حال
الانسداد فإذا جاز النهي عن العمل به في حال الانسداد ، جاز النهي عن العمل بالعلم
في حال الانفتاح ، لان الظن في تلك الحال كالعلم في هذه.
وفيه : انه ان
أريد بهذا التنظير ان الظن بالحكم غير الفعلي ، وان صح المنع عن العمل به ، إلا ان
القطع به كذلك والقطع بالحكم الفعلي لا يمكن النهي عن العمل به ، للزوم اجتماع
النقيضين ، فالظن به أيضاً كذلك ، لأنه يلزم منه الظن باجتماعهما وهو أيضاً غير
معقول.
فيرد عليه : ان
التكليف الواصل بالقطع بما انه لا يحتمل الخلاف فلذا لا يعقل جعل حكم آخر في
مورده.
واما الظن فحيث
انه ليس وصولا حقيقيا فالتكليف باق على مجهوليته ومرتبة الحكم الظاهري محفوظة ،
فيصح جعل حكم في مورده وتمام الكلام في محله.
__________________
وان أريد به ان
الظن في حال الانسداد كالعلم يستقل العقل بمنجزيته لما تعلق به فإذا صح الترخيص في
مخالفته شرعا صح في القطع.
فيرد عليه ، ما
سيأتي في محله من ان حكم العقل بمنجزية الظن في حال الانسداد تعليقي ، بخلاف القطع
فانه تنجيزي فيصح المنع عن العمل به دونه.
الثاني : ما عن
المحقق العراقي (ره) وهو انه لا مناقضة ولا تضاد بين الحكمين بعد كون مرجع ردعه
إلى الترخيص في الرتبة اللاحقة عن القطع والحال ان حرمة الفعل ثابتة له في الرتبة
السابقة على القطع ، ومع اختلاف الرتبة بين الحكمين ، يرتفع المناقضة والتضاد بين
الحكمين.
وفيه : ما سيأتي
في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي ، والظاهري ، من ان اختلاف الرتبة لا يكفي في رفع
التناقض والتضاد فانتظر.
الوجه الثاني :
انه يلزم من النهي عن العمل بالقطع ، الإذن في المعصية في صورة المصادفة للواقع ،
وفي التجرِّي في صورة المخالفة ، وهما قبيحان ، فالإذن فيهما أيضاً قبيح.
وان شئت قلت ان
النهي عن العمل بالقطع ، إما ان يكون بسلب طريقيته ، أو بالمنع عن متابعته ،
والعمل على وفقه وشيء منهما لا يمكن :
أما الأول فواضح
إذ سلب الشيء عن نفسه محال.
واما الثاني فلما
ذكرناه.
__________________
الأمر بالإطاعة لا يكون مولويا
واما المقام
الرابع : فقد استدل لعدم إمكان تعلق الأمر المولوي بالإطاعة بوجوه :
الأول : لزوم التسلسل : إذ الأمر بالإطاعة لو كان مولويا يتحقق
عنوان إطاعة أخرى فيتعلق به الأمر لكونها إطاعة ، وهذا الأمر أيضاً ، يحقق عنوان
إطاعة أخرى ، فيتعلق به الأمر أيضاً وهكذا إلى ان يتسلسل.
وفيه : ان ذلك
يلزم لو قيل باحتياج وجوب الإطاعة إلى الأمر ، لاما هو محل البحث ، وهو إمكان
تعلقه بها كما لا يخفى ، مع انه للآمر ان يأمر بها بنحو القضية الطبيعية فيشمل
جميع الأفراد غير المتناهية ، وانحلال الأمر المتعلق بالطبيعة إلى أوامر غير
متناهية حيث يكون بإيجاد واحد لا محذور فيه.
الثاني : لزوم اللغوية لان الأمر المولوي ليس إلا من جهة دعوة
المكلف إلى الفعل وهي موجودة هنا فلا حاجة إليه.
وفيه : انه يكفي
في عدم لزوم اللغوية تأكيد داع المكلف لأنه يمكن ان لا ينبعث من أمر واحد ، وينبعث
لو تعدد.
الثالث : ما ذكره المحقق صاحب الدرر وهو انه يعتبر في صحة الأمر
__________________
قابليته ، لان
يصير داعيا مستقلا ، لان حقيقته البعث نحو الفعل والأمر المتعلق بالإطاعة لا يصلح
لذلك ، لان المكلف إما ان يؤثر فيه أمر المولى أو لا.
وعلى الأول يكفيه
الأمر المتعلق بالفعل ، وهو المؤثر لا غير لأنه اسبق رتبة من الأمر المتعلق
بالإطاعة. وعلى الثاني لا يؤثر الأمر المتعلق بالإطاعة فيه استقلالا لأنه من
مصاديق أمر المولى.
وفيه أولا : ان
حقيقة الأمر كما تقدم ، إما إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المأمور ، أو إبراز
شوق المولى إلى الفعل ولا يعتبر في ذلك سوى ما يخرجه عن اللغوية وقد عرفت ، انه
يكفي في ذلك تأكيد داع المكلف ، واما اعتبار كونه قابلا لان يصير داعيا مستقلا فلا
وجه له أصلاً ، بل لو سلِّم كون الأمر عبارة عن البعث نحو الفعل لا نسلّم اعتبار
ذلك فيه ، إذ البعث نحو الفعل ، ليس إلا عبارة عن جعل ما يمكن داعويته ، واما
إمكان داعويته مستقلا من دون ان يضم إليه شيء فليس ذلك مأخوذا في حقيقة البعث.
وثانيا : لو سلمنا
اعتبار ذلك فيه ولكن في المقام يتصور ذلك ، فان كل واحد من الأمرين قابل لان يكون
داعيا مستقلا ، ولكن لفرض اجتماعهما كل منهما يصير جزء الداعي وذلك ليس لقصور في
الأمر كما لا يخفى.
فالحق في وجه ذلك
يبتنى على مقدمتين :
الأولى ان التكليف
تأكيديا كان أم غير تأكيدي ، ـ وبعبارة أخرى ـ كان في مورده تكليف آخر أم لم يكن ،
كان دليله المثبت حكم العقل ، بضميمة قاعدة الملازمة أم كان دليلها الكتاب والسنة
، لا بد وان يترتب عليه ثمرة ، وإلا جعله يكون لغوا ، وصدوره من الحكيم محال.
الثانية : ان
العناوين الحسنة قسمان ، الأول : ما لا يكون مرتبطا بالمولى من حيث انه مولى
كالإحسان إلى الغير والظلم عليه. الثاني : ما يكون له ارتباط خاص بالمولى من حيث
انه مولى كإطاعته والانقياد له. وفي الأول لو لم يتعلق به الأمر المولوي لاوجه
لعقاب المولى على المخالفة ولا الثواب على الموافقة ، ولا يوجب الفعل قربا إلى
المولى ، ولا الترك بعدا عنه. واما في الثاني ، فتصح العقوبة على المخالفة والثواب
على الموافقة ويوجب الفعل قربا إليه والترك بعدا عنه.
إذا عرفت هاتين
المقدمتين :
فاعلم ان الأمر
والطلب حيث لا يصح إلا فيما يوجب الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة
والتمكن من التقرب إلى المولى بالموافقة بحيث لولاه لما كان في البين ما يمكن ان يتقرب
به أو فيما يوجب ازدياد الثواب والعقاب ، وإلا يكون التكليف لغوا ، فلا يصح الأمر
المولوي في المقام لترتب هذه الآثار على نفس الموضوع بل هو الموضوع لهذه الآثار
دون الأمر كما لا يخفى.
قال المحقق
الخراساني (ره) في الكفاية ثم لا يذهب عليك ان التكليف ما لم يبلغ مرتبة
البعث والزجر لم يصر فعليا وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز واستحقاق
العقوبة على المخالفة وان كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة انتهى.
وفيه : ان التفكيك
بين الثواب والعقاب ، لاوجه له : إذ الحكم ان كان فعليا فموافقته توجب الثواب ومخالفته
توجب العقاب ، وان لم يكن فعليا فان كانت
__________________
المصلحة تامة
ملزمة وإنما لم يؤمر به لمانع في الأمر غير المفسدة ، كالغفلة في المولى العرفي ،
فمخالفته توجب العقاب كما ان موافقته توجب الثواب ، من جهة تفويت الغرض الملزم ،
وان كان لم يؤمر به لمانع من قبيل المفسدة في الأمر فمخالفته ، وان كانت لا توجب
العقاب إلا ان موافقته أيضاً لا توجب الثواب فتدبر.
الموضع الثاني في التجرِّي
وقبل الشروع في
البحث لا بد من التنبيه على أمر.
وهو ان موضوع
البحث في كلمات الأعلام ، وان كان هو القطع ، إلا ان الظاهر انه اعم منه ، ومن
الأمارات المعتبرة والأصول العملية ، بل يعم كل احتمال منجز كالمقرون بالعلم
الإجمالي ، والشبهة البدوية قبل الفحص.
فالأولى ان يعنون
البحث هكذا إذا قامت حجة أي ما يحتج به المولى على العبد على حكم ، بان قطع به ،
أو قامت إمارة معتبرة عليه ، أو استصحب ، أو احتمل ولم يكن له مؤمن ، وخالفه العبد
، ولم يكن ذلك موافقا للواقع ، يكون فعله ذلك تجريا ، فلو قامت البينة على خمرية
شيء أو استصحب تلك ، أو علم إجمالا بخمرية هذا المائع ، أو المائع الآخر فشربه ولم
يكن في الواقع خمرا ، كان متجريا.
ودعوى : انه في
موارد الطرق والأمارات الشرعية والأصول العملية يكون كشف الخلاف موجبا لانتهاء أمد
الحكم لا انه يستكشف عدم الحكم من الأول
فلا يتصور فيها
التجرِّي.
مندفعة ، بان ذلك
يتم على القول بالتصويب ، واما بناء على ما هو الحق من ان المجعول في باب الأمارات
والطرق الشرعية هي الطريقية والكاشفية كما ستعرف فلا يتم ذلك كما لا يخفى.
ثم ان مورد الكلام
إنما هو القطع الطريقي ، واما القطع الموضوعي ، فهو خارج عن محل البحث لأنه لو كان
القطع تمام الموضوع فليس له كشف الخلاف وان كان جزء الموضوع ، فكشف الخلاف وان كان
يتصور فيه إلا ان تنجز التكليف ، إنما يكون بواسطة القطع بالحكم المتعلق بما هو
جزء الموضوع وجزئه الآخر فنزاع التجرِّي إنما يجري باعتبار ذلك القطع الذي يكون
طريقيا.
إذا عرفت ذلك فيقع
الكلام في حكم التجرِّي من حيث ، استحقاق العقاب ، والقبح ، والحرمة فلا بد من البحث
في مقامات.
المقام الأول : في
ان التجرِّي هل يوجب استحقاق العقاب ، مع بقاء الفعل المتجري به على ما هو عليه من
المحبوبية أو المبغوضية أم لا؟
وبهذا الاعتبار
تكون المسألة كلامية.
المقام الثاني :
في ان الفعل المتجري به هل يكون قبيحا كي يستتبعه الحرمة بقاعدة الملازمة أم لا؟
وبهذا الاعتبار تكون المسألة أصولية.
المقام الثالث :
في البحث عن حرمة الفعل المتجري به.
والكلام فيه في
جهتين :
الأولى : في البحث
عن حرمته بنفس ملاك الحرام الواقعي باعتبار ان
موضوعات الأحكام
هي الأشياء بوجوداتها العلمية فإطلاق الأدلة يشمل الفعل المتجري به.
الجهة الثانية :
في البحث عن حرمته لا بملاك الحرام الواقعي بل بملاك التمرد على المولى.
والفرق بين
الجهتين مضافا إلى انه في الجهة الأولى ، يكون البحث عن حرمة الفعل المتجري به
بعنوانه الأولى ، وفي الثانية يكون عن حرمته بالعنوان الثانوي : ان البحث في
الأولى مختص بما إذا كان الخطأ في الانطباق ، مع كون الحكم مجعولا في الشريعة كما
إذا قطع بخمرية شيء فشربه ، ولا يتصور فيما إذا كان الخطأ في اصل جعل الحكم كما لو
قطع بحرمة شرب التتن فشربه ولم يكن في الواقع محرما ، واما البحث في الجهة الثانية
فهو عام لكلا القسمين.
استحقاق المتجري للعقاب
أما المقام الأول
: فالأقوال فيه أربعة :
الأول : استحقاق
العقاب عليه مطلقا ولعله المشهور بين الأصحاب .
الثاني : استحقاق
العقاب على قصد العصيان والعزم على الطغيان لا
__________________
على الفعل اختاره
المحقق الخراساني .
الثالث : عدم
استحقاق العقاب لا على القصد ولا على الفعل.
الرابع : استحقاق
العقاب عليه إذا لم يكن الفعل المتجري به واجبا واقعا.
وحق القول في
المقام انه ان قلنا ان استحقاق العقاب على المعصية ، إنما هو بجعل الشارع كما هو
أحد طرقه على ما نسب إلى الشيخ الرئيس في الإشارات وغيره في غيرها : نظرا إلى ان ردع النفوس عن فعل ما فيه
المفسدة وترك ما فيه المصلحة واجب بقاعدة اللطف ، فالمتجري لا يستحق العقاب لان ما
فيه المفسدة ذات شرب الخمر لاما اعتقد انه شرب الخمر.
وان قلنا انه إنما
يكون بحكم العقل كما هو المشهور ، فالمتجري يستحقه لاتحاد الملاك فيه مع المعصية
الواقعية : لان العقاب على المعصية ليس لأجل ذات المخالفة مع التكليف ، ولا لأجل
تفويت غرض المولى ، ولا لأجل ارتكاب المبغوض بما هو لوجود الكل في صورة الجهل ، بل
لكونها هتكا لحرمة المولى وجرأة عليه ، وعدم العمل بما يقتضيه قانون العبودية
والمولوية إذ بها يخرج العبد عن ذي الرقية ورسم العبودية إذ مقتضى ذلك تعظيم
المولى لا هتك حرمته ، والهتك يوجب الدخول في زمرة الظالمين فلهذا يستحق العقاب من
المولى والذم من العقلاء ، وهذا الملاك موجود بعينه في المتجري.
__________________
وقد أفاد المحقق
النائيني (ره) ردا على هذا الوجه بأنه مركب من أمرين.
الأول : كون العلم
تمام الموضوع في المستقلات العقلية خصوصا في باب الإطاعة والمعصية حيث ان الإرادة
الواقعية لا اثر لها عند العقل ولا يمكن ان تكون محركة لعضلات العبد إلا بالوجود
العلمي والوصول.
الثاني : كون
المناط في استحقاق العقاب هو القبح الفاعلي ولا اثر للقبح الفعلي المجرد عن ذلك.
وكل منهما قابل
للمنع :
أما الأول : فلان
العلم وان كان له دخل في المستقلات العقلية ، إلا ان العلم غير المصادف للواقع ليس
علما بل هو جهل ، واعتبار هذا العلم في موضوع هذا الحكم العقلي إنما هو من جهة ان
الإرادة الواقعية غير قابلة لتحريك إرادة الفاعل ، بل المحرك هو انكشاف الإرادة ،
وفي المقام الإرادة الواقعية لم تصل إلى الفاعل ، بل هو تخيل الإرادة فلا عبرة به
في نظر العقل ، وعلى الجملة ان الموجب للعقاب هو مخالفة تكليف المولى الواصل إلى
العبد ، وأين هذا مما لم يكن في الواقع تكليف ، وكان من تخيل التكليف.
واما الثاني :
فلان مناط استحقاق العقاب عند العقل ، وان كان هو القبح الفاعلي ، إلا ان له قسمين
:
أحدهما : ما يتولد
من القبح الفعلي الذي يكون إحرازه موجبا للقبح
__________________
الفاعلي.
ثانيهما : ما يكون
متولدا من سوء السريرة وخبث الباطن ، وبينهما فرق واضح ، والذي يوجب استحقاق
العقاب هو القسم الأول ، والموجود في التجرِّي هو الثاني.
ويرد عليه انه ليس
المدعى تأثير العلم في استحقاق العقوبة على المخالفة كي يقال انه في مورد التجرِّي
لا يكون علم بل هو جهل مركب ، بل المدعى ان العلم يصير سببا لانطباق عنوان على
المعلوم كعنوان الطغيان على المولى والجرأة عليه ، ولا فرق وجدانا في انطباق هذا
العنوان بين المعصية والتجري ، وعلى الجملة قد عرفت ان الموجب لاستحقاق العقاب ليس
مخالفة تكليف المولى بما هي مخالفة كي يقال انه ليس في مورد التجرِّي تكليف ، بل
الموجب هو الهتك ، والطغيان عليه ، وفي ذلك لا فرق بين كون العلم مخالفا للواقع أم
موافقا له.
نعم في المعصية
الواقعية جهة أخرى موجبة للعقاب أيضاً ، وهي تقويت الغرض الواصل وهذه الجهة غير
موجودة في التجرِّي وعليه ففي المعصية سببان للعقاب بحيث لو أمكن انفكاك تفويت
الغرض الواصل عن الهتك والطغيان ، لكان يوجب العقاب أيضاً ، ولكن بما انه لا يصدر
في الخارج عن المكلف إلا فعل واحد فيعاقب بعقاب واحد ، اشد من عقاب التجرِّي.
ولعل هذا هو مراد
صاحب الفصول (ره) من ان العاصي يعاقب بعقابين متداخلين ، وعليه فإيراد
المحقق الخراساني عليه من ان المعصية الحقيقية لا توجب إلا عقوبة واحدة وعلى
تقدير استحقاقهما لاوجه للتداخل ، غير وجيه.
ثم انه هل يكون استحقاق
العقوبة على نفس الفعل ، أو على الإرادة كما اختاره المحقق الخرساني ، قد استدل للأول بوجوه :
١ ـ انه لو فرضنا
رجلين قطع أحدهما بخمرية المائع وشربه فصادف ، والآخر قطع بخمرية المائع آخر فشرب
وخالف ، يدور الأمر بين أمور أربعة ، وهو استحقاق كليهما للعقاب ، وعدم استحقاقهما
له ، واستحقاق المصادف قطعه ، دون الآخر ، وعكس ذلك ، وحيث ان الثلاثة الأخيرة
باطلة فيتعين الأول ، أما بطلان الثاني ، والرابع فواضح ، واما بطلان الثالث
فلاستلزامه إناطة استحقاق العقاب ، بما هو خارج عن الاختيار من مصادفة قطعه
الخارجة عن تحت قدرته. وفساده بين.
ولكنه يندفع بأنه
لا محذور في الالتزام به فانه للخصم ان يقول بان السبب
__________________
لاستحقاق العقاب
هو المخالفة العمدية وانتفاؤها ، تارة بانتفاء كلا الجزءين ، وأخرى بانتفاء الثاني
، كما لو ارتكب الحرام عن عذر ، وثالثة بانتفاء الأول كما في المتجري ، ولكن
الجزءين حاصلان في المعصية ، وعليه فالمصادفة التي هي غير اختيارية دخيلة في تحقق
علة الاستحقاق وهو المخالفة لا في نفسه ، ودخل الأمر غير الاختياري في ذلك لا منع
منه ، بل واقع كوجود المكلف وما شاكل ، وإنما لا يعاقب المتجري لعدم تمامية علَّة
الاستحقاق.
٢ ـ ما ادعاه
جماعة : من الإجماع على ان ظان ضيق الوقت ، يكون عاصيا إذا ترك الصلاة ، ولو انكشف
بقاؤه .
ويرده مضافا إلى
عدم تمامية الإجماع المزبور ، صغرى ، وكبرى.
أما الصغرى
فلمخالفة جماعة.
واما الكبرى فلان
المسألة عقلية ، مع ان مدرك المجمعين معلوم أو محتمل ، انه يمكن ان يكون للظن
موضوعية في هذا الحكم ، بل الظاهر من جهة التعبير بالعاصي هو ذلك.
وبه يظهر ما في
الدليل التالي :
٣ ـ وهو دعوى
الشيخ ظاهرا ، في ان سالك الطريق المظنون الضرر أو مقطوعه عاص ، يجب عليه إتمام
الصلاة ، ولو بعد انكشاف عدمه.
__________________
٤ ـ بناء العقلاء.
ويرده انه لعله
على الإرادة لا على الفعل.
٥ ـ انه إنما يحكم
بالاستحقاق من جهة تجريه وهتك حرمته لمولاه ، وخروجه عن رسم عبوديته كما مر وهذا
العنوان إنما ينطبق على الفعل المتجري به لا على مقدماته كالعزم والإرادة : لان
العبد بفعل ما ، يراه انه مبغوض للمولى يخرج عن رسم العبودية ويكون ظالما ، والعزم
عليه عزم على الظلم ، لا انه بنفسه ظلم ، وهذا هو الوجه في عدم العقاب على الإرادة
والعزم.
لا ما ذكره بعض من ان الإرادة غير إرادية وإلا لتسلسل.
ومن المعلوم ان
العقاب لا بد وان يكون على الأمر الاختياري ، لما عرفت من ان الإرادة إرادية
بنفسها لا بواسطة إرادة أخرى ، فلا يلزم التسلسل ولا العقاب على الأمر غير
الاختياري فتدبر.
الفعل المتجرى به قبيح
واما المقام
الثاني : فقد استدل لكون الفعل المتجرى به قبيحا بوجهين :
أحدهما : ان
التجرِّي يكشف عن سوء سريرة العبد ، وخبث باطنه ، وانه في مقام الطغيان على المولى
، وهذا يوجب قبح الفعل المتجري به.
__________________
ويرده ان الفعل
وان كان يكشف عن سوء السريرة وخبث الباطن ، إلا انه لا يكون المنكشف قبيحا عقلا ،
وان كان موجبا لاستحقاق اللوم كسائر الصفات والأخلاق الذميمة ، وعلى فرض تسليم
قبحه قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف كما ان حسنه لا يوجب حسن الكاشف.
ثانيهما : ان تعلق
القطع بقبح فعل وحرمته ، يوجب تعنون الفعل المقطوع قبحه بعنوان قبيح ويصير قبيحا ،
سواء كان ذلك القطع مخالفا للواقع أم موافقا له.
وأنكر ذلك جماعة
منهم المحقق الخراساني في الكفاية قال : ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به
على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة واقعا ، بلا حدوث تفاوت فيه :
بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ولا يغير حسنه أو قبحه بجهة
أصلاً انتهى.
وقد ذكر في
الاستدلال له بما محصله يرجع إلى أمور أربعة :
الأول : ان العلم
المرآتي المتعلق بالفعل ، لا يكون مؤثرا في صفة الفعل ، بان يغيره عما هو عليه ،
وان قلنا ان الحسن والقبح يعرضان للفعل بالوجوه والاعتبار ، بداهة انه ليس كل وجه
واعتبار يغير صفة الفعل ، والوجدان أقوى شاهد عليه ، وحال العلم في ذلك حال البصر
في المبصرات ، فكما ان البصر لا يؤثر في المبصر ، كذلك العلم لا يؤثر في المعلوم.
وبعبارة أخرى : ان
لا واقع للحسن والقبح عقلا ، ولا لكون شيء وجها
__________________
موجبا لهما إلا في
وجدان العقل.
وعدم كون المقطوع
بهذا العنوان من العناوين الموجبة لاحدهما بعد وضوح عدم كونه بهذا العنوان ذا
مصلحة أو مفسدة في نظر العقل ، واضح.
ويرده ان المدعي
لا يدعي كون العلم بنفسه موجبا لذلك بل يقول بتأثير العلم في انطباق عنوان على
المعلوم على تقدير المخالفة ، وهو عنوان التجرِّي على المولى والطغيان عليه ، وهتك
حرمته.
الثاني : ان
العناوين المحسنة والمقبحة ، لا بد وان تكون اختيارية متعلقة للإرادة والاختيار ،
وعنوان القطع ليس من هذا القبيل : إذ القاطع لا يقصد الفعل بما هو مقطوع الوجوب أو
الحرمة أو الخمرية أو شاكل ، وإنما يقصد العنوان الواقعي ، فهذا العنوان لا يكون
مقصودا.
وفيه : ان المراد
من القصد في قوله ان القاصد لا يقصد إلا الفعل بعنوانه الأولى ، ان كان هو الداعي
كما هو ظاهر كلامه فهو صحيح ، إذ من يشرب الخمر يكون داعيه الإسكار مثلا لا عنوان
مقطوع الخمرية إلا انه لا يعتبر في اختيارية الفعل أزيد من الالتفات إليه والقدرة
على الفعل والترك ، ألا ترى ان من شرب الخمر لا بقصد انه خمر مسكر بل بقصد انه
المائع بارد ، يصدق انه شرب الخمر اختيارا ويستحق بذلك العقاب وان كان المراد منه
الالتفات ، فهو يرجع إلى الوجه الثالث.
الثالث : ان عنوان
المقطوعية ، يكون غالبا مغفولا عنه ، وغير ملتفت إليه ، فكيف يكون من الجهات
المحسنة أو المقبحة عقلا ، ولا يكاد صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية والشيء
ما لم يكن ملتفتا إليه لا يكون اختياريا.
وفيه : مضافا إلى
كونه أخص من المدعى كما هو واضح : ان المراد من الالتفات ، ان كان هو الالتفات
التفصيلي فعنوان المقطوعية ، وان كان غير ملتفت إليه إلا انه لا يعتبر الالتفات
التفصيلي في الاختيارية بل يكفي الإجمالي منه.
وان كان المراد ما
يعم الالتفات الإجمالي الارتكازي ، فهو وان كان دخيلا في الاتصاف بالاختيارية ،
إلا ان عنوان المقطوعية ، يكون ملتفتا إليه بالالتفات الإجمالي دائما ، كيف وان
الأشياء إنما تكون حاضرة عند الذهن بالقطع ، ويسمى بالعلم الحصولي ، واما حضور
القطع فهو يكون بنفسه ، بل لا حقيقة للقطع إلا الحضور عند النفس ، ويعبر عنه
بالعلم الحضوري ، فلا يعقل وجود القطع وعدم الالتفات إليه.
الرابع : ان المتجري لا يصدر فعل منه في بعض أفراده بالاختيار ، كما
في التجرِّي بارتكاب ما قطع انه من مصاديق الحرام كما إذا قطع مثلا بان مائعا خمر
مع انه لم يكن خمرا ، فان شرب الخمر منتف بانتفاء موضوعه ، وشرب الماء مما لم
يقصده ، فلم يصدر منه فعل بالإرادة والاختيار إذ ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصده.
وأجاب عنه بعض
المحققين بما حاصله ان البرهان المذكور إنما يتم بالنسبة إلى الخصوصيات ولا يتم في
الجامع فانه من شرب المائع باعتقاد انه خمر يعلم انه مصداق للجامع وهو شرب المائع
وقادر على تركه فكيف يمكن ان يقال انه
__________________
شرب المائع بلا
اختيار ، ألا ترى ان من قتل شخصا باعتقاد انه زيد فبان انه عمر : فانه لا شبهة في
انه قتل إنسانا اختيارا.
وفيه : انه مع
الإغماض عن كون نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة أب واحد
إلى الأبناء ، وعليه فكل فرد من أفراد المائع له حصة من الطبيعي والحصة التي تكون
في ضمن الخمر وان تعلقت إرادة الشارب بها إلا أنها لم توجد ولا واقع لها والحصة
المتحققة لم تتعلق الإرادة بها حتى يكون صدورها اختياريا.
انه لو سلم كون
نسبته إليها نسبة الأب الواحد إلى الأبناء ، إلا ان الطبيعي في ضمن الخاص إنما
يتعلق به الإرادة بالعرض وإلا فهي متعلقة بالخاص ، وكل ما بالعرض لا بد وان ينتهي
إلى ما بالذات ، وحيث ان الخصوصية التي أريدت ، ونسبت الإرادة إلى الطبيعي الموجود
بالعرض لم توجد ، والخصوصية الأخرى ، لم تتعلق بها الإرادة كي تنسب إلى الطبيعي
بتبعه ، والمفروض ان الجامع لم يتعلق به الإرادة رأسا ، وبما هو فلا محالة ، لا
يكون الجامع اختياريا.
والحق في الجواب
ان شرب المائع الشخصي المشار إليه بالإشارة الحسيّة ليس بقصر القاصر ، ولا بالطبع
، بل يتحقق مستندا إلى الإرادة.
نعم ، تعلق
الإرادة به كان لأجل اعتقاد انه شرب الخمر ، وتخلفه إنما يكون من باب تخلف الداعي
، ولا يوجب كون الشرب المتحقق خارجا عن الاختيار.
ثم ان في المقام
وجها خامسا لعدم القبح ، وهو انه لو التزم بقبح الفعل المتجري به ، لزم انقلاب
الواقع عما هو عليه ، أو اجتماع الحسن والقبح في مورد واحد ، إذا كان الفعل
المتجري به في الواقع من الأفعال الحسنة وكل منهما
محال.
وفيه : أولا ، ان
الفعل بما له من العنوان الواقعي المجهول للفاعل لا يكون حسنا ولذا لو تركه كان
معذورا ، ألا ترى انه لو ضرب اليتيم للتشفي وترتب عليه التأديب ، لا يكون الضرب
حسنا بوجه ، بل هو قبيح محض.
وثانيا : انه لو
سلم كونه حسنا لا يلزم اجتماع الضدين بل يقع التزاحم بينهما ويقدم الأقوى ، ومع
التساوي ، يحكم بأنه لا حسن فيه ولا قبح ، وعلى أي تقدير هذا الوجه ، لا يمنع من
كون التجرِّي بنفسه من العناوين القبيحة.
ثم ان المحقق
النائيني (ره) بعد ما التزم بعدم قبح الفعل مستندا إلى الوجه الأول من
الوجوه التي استند إليها المحقق الخراساني قال نعم ، لا بأس بدعوى القبح الفاعلي
بان يكون صدور هذا الفعل من مثل هذا الفاعل قبيحا وان لم يكن الفعل قبيحا.
وفيه : مضافا إلى
ما عرفت آنفا من ان القبح إنما هو لعنوان التجرِّي ، والهتك ، والظلم المنطبق ،
على الفعل المضاف : انه لو سلم عدم قبح الفعل واغمض عما ذكر لما كان ، وجه
للالتزام بالقبح الفاعلي إذا إضافة الفعل إلى الشخص ، ـ وبعبارة أخرى ـ إيجاده ،
عين وجوده حقيقة لما حقق في محله من ، اتحاد الإيجاد والوجود ، فلا معنى للقول
بعدم قبح الوجود ، وقبح الإيجاد.
وبهذا يظهر عدم
صحة ما ذكره المحقق العراقي (ره) في مقام الجواب
__________________
عنه ، من ان لازم
مبغوضية إضافة الفعل مبغوضية نفس الفعل ، لكونه مقدمة للإضافة المذكورة.
نعم ، لو كان
الفعل غير الإضافة المذكورة كان هذا الجواب متينا جدا.
وبالجملة : لا بد
من الالتزام : إما بعدم القبح ، كما عن المحقق الخراساني.
أو القبح الفعلي
كما حققناه في الجواب عن استدلال المحقق الخراساني على مختاره.
واما الالتزام
بالقبح الفاعلي فلا وجه له أصلاً.
حرمة الفعل المتجري به وعدمها
واما المقام
الثالث : فقد مرَّ ان الكلام فيه في جهتين :
الجهة الأولى : في
حرمته بنفس الملاك للحرام الواقعي ، بان يقال ان إطلاق الأدلة الأولية شامل لموارد
التجرِّي ، وان متعلق التكليف في الخطابات الأولية إنما هو إرادة الفعل الخارجي
المحرز كونه ذلك الفعل من دون دخل لمصادفته ومخالفته ، ويكون الموضوعات هي
الوجودات العلمية ، لا الموجودات الواقعية فمعنى لا تشرب الخمر لا تشرب ما قطعت
بكونه خمرا.
ويستدل له بما هو
مركب من مقدمات :
الأولى ان متعلق
التكليف لا بد وان يكون مقدورا للمكلف فما هو خارج عن تحت قدرته لا محالة يكون
مفروض الوجود ولا يتعلق به الحكم ، وعليه
فموضوعات الأحكام
ومتعلقاتها خارجة عن حيز التكليف ، فلو ورد لا تشرب الخمر ، تكون خمرية الخمر
خارجة عن حيز الخطاب ومفروضة الوجود في هذا الخطاب.
الثانية : ان
المحرك للإرادة والاختيار ، إنما هو القطع والانكشاف من دون دخل للمصادفة للواقع
وعدمها فيه أصلاً ، ألا ترى ان القاطع بوجود الأسد يفر وان لم يكن هناك أسد ،
ووجود الأسد ، لا يوجب الحركة نحو الفرار ما لم يقطع به.
فما ، أفاده
المحقق النائيني (ره) من ان المحرك هو العلم بالموجود الخارجي بما انه طريق
إليه. وبعبارة أخرى : الموجود الخارجي لكن لا مطلقا بل بعد الانكشاف غير تام.
الثالثة : ان
متعلق الإرادة التشريعية هي الإرادة التكوينية ، إذ الغرض مترتب على الفعل
الاختياري ، لا الاضطراري ، فالفعل في نفسه من حيث هو لا غرض فيه بل الغرض مترتب
على اختيار الفعل.
إذا عرفت هذه
الأمور تعرف ان متعلق التكليف إنما هو اختيار ما تعلق القطع بانطباق الموضوع ، أو
المتعلق عليه فعلا أو تركا ، صادف الواقع قطعه أم خالفه.
وأجاب عنه المحقق
النائيني (ره) بان المقدمة الثالثة ، غير تامة : إذ الإرادة
__________________
تكون مغفولا عنها
حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها ، فلا تصلح لان يتعلق بها التكليف.
وفيه : ان الإرادة
ملتفت إليها واختيارية بنفسها.
والحق في الجواب
بمنع تلك المقدمة بان يقال ان التكليف لا بد ، وان يتعلق بما فيه المفسدة أو
المصلحة ، ولأجل ذلك متعلق للغرض ، ولا ريب ان ما فيه المصلحة أو المفسدة إنما هو
الفعل غاية الأمر إما لا مصلحة أو لا مفسدة في الفعل غير الصادر عن الاختيار ، أو
انه من جهة عدم إمكان التكليف بما لا يطاق ، يكون المتعلق هو الفعل الصادر عن
الاختيار ، لا الاختيار نفسه ، وعليه فإذا اختار شرب الخمر ولم يشربه لما أوجد
المنهي عنه.
فالحق ان
الموضوعات هي الأشياء بوجوداتها الواقعية.
واما الكلام في
الجهة الثانية وهو انه قد يدعى حرمة الفعل المتجري به بملاك الجرأة على المولى :
واستدل له بان تعلق القطع بحرمة فعل ، أو بموضوع معلوم الحرمة كالخمر ، يوجب قبح
ذلك الفعل ، والقطع بحسن عمل يوجب حسنه ، فبضميمة قاعدة الملازمة ، يحكم بحرمته في
الأول ، ووجوبه في الثاني.
فهنا دعويان :
الأولى : ان القطع
بقبح فعل أو حسنه من الوجوه المقبحة أو المحسنة.
الثانية : ان قبح
الفعل يستتبع حرمة شرعية ، وحسنه يستتبع وجوبا شرعيا.
أما الدعوى الأولى
فقد مر الكلام فيها في المقام الثاني وعرفت أنها تامة ، والكلام في المقام في خصوص
الدعوى الثانية.
فقد أورد عليها
المحقق النائيني (ره) بما حاصله ان الخطاب المدّعى استكشافه بقاعدة الملازمة ،
ان كان مختصا بالمتجري ومن خالف قطعه للواقع ، فمضافا إلى انه تخصيص بلا وجه بعد
اشتراك القبح الفاعلي بين صورة المصادفة للواقع ، والمخالفة له ، يكون غير ممكن ،
لان الالتفات إلى الموضوع مما لا بد منه والمتجري لا يعقل ان يلتفت إلى انه متجر
لأنه بالالتفات يخرج عن كونه متجريا ، فتوجيه الخطاب على وجه يختص بالمتجري لا
يمكن.
وان كان الخطاب
على وجه يعم صورة المصادفة والمخالفة ، بان ينهى عن هتك المولى مثلا ، فهو أيضاً
لا يمكن لاستلزامه اجتماع المثلين دائما في نظر القاطع ، وان لم يلزم ذلك في
الواقع لان النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ، ومعلوم الخمرية ، هي العموم من وجه ،
وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان : إذ القاطع يرى قطعه مصادفا للواقع فدائما يجتمع
في نظره حكمان ، وكل من هذين الحكمين لا يصلح ان يكون داعيا ومحركا لارادة العبد
بحيال ذاته ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد ، وفي مثل أكرم
العالم واكرم الهاشمي مما تكون النسبة بينهما عموما من وجه كل من الحكمين يصلح
للباعثية ولو في مورد الافتراق ، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد ، فلا مانع من
تشريع هذين الحكمين.
بخلاف المقام فانه
لو فرض ان للخمر حكم ولمعلوم الخمرية أيضاً حكم ، فبمجرد العلم بخمرية شيء يعلم
بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض انه رتب
__________________
على ذات الخمر
فيكون هو المحرك الباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المرتب على معلوم الخمرية ، لا
يصلح لان يكون باعثا ، ويلزم لغويته وليس له مورد آخر ، يمكن استقلاله في الباعثية
وذلك واضح بعد ما كان العالم لا يحتمل المخالفة.
وأضاف الأستاذ
الأعظم إلى ذلك ، ان الحكم ان كان مترتبا على ما يشمل التجرِّي ،
والمعصية ، كان جعل هذا الحكم مستلزما للتسلسل ، إذ التجرِّي أو العصيان قبيح عقلا
على الفرض ، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية ، وعصيان هذه الحرمة ، أو التجرِّي
فيها أيضاً ، قبيح عقلا ، والقبح العقلي مستلزم للحرمة الشرعية وهكذا إلى ما لا
نهاية له.
ولكن يرد على
المحقق النائيني (ره) انه في مورد الاجتماع ، إما ان يكون جعل التكليف الثاني
صحيحا لترتب الأثر عليه ، أو لا يكون كذلك فان كان صحيحا فلا يفرق فيه ، بين ان
يتعلق التكليف به خاصا ، أو بما يعمه ، وان لم يكن صحيحا فلا يصح ، ولو بان يتعلق
بعنوان اعم منه.
وبعبارة أخرى :
بما ان المانع عن التكليف الثاني المتعلق بعنوان الاجتماع حينئذ ، مانع ثبوتي ،
وهو عدم إمكان داعويته ، فلا يصح ولو بان يتعلق بعنوان اعم ، إذ إمكان داعويته ،
في مورد الافتراق ، لا يصحح التكليف في مورد الاجتماع كما لا يخفى.
والحق انه في
الموارد التي نلتزم فيها بالتأكد ، لا فرق بين ان يكون النسبة
__________________
بين العنوانين
عموما من وجه ، أو تكون عموما مطلقا ، فانه في المورد الثاني أيضاً يصح جعل
التكليف الثاني ، ولا يكون لغوا ، إذ يمكن ان يكون العبد ممن لا ينبعث عن التكليف
الواحد ، وينبعث لو تعدد ، لازدياد العقاب على المخالفة ، والثواب على الموافقة ،
فعلى هذا للمستدل ان يقول انه وان كان في نظر القاطع ، مورد النهي عن الهتك ملازما
دائما ، لمورد يكون متعلقا لتكليف آخر ، إلا انه يكفي لجعل الحكم عليه تأكد داعي
العبد ولا يكون جعله لغوا.
أضف إلى ذلك انه
لو كانت النسبة بين الموضوع الواقعي كالخمر ، وما علم كونه محرما ، هي العموم من
وجه ، كما اعترف به من جهة ان العلم ربما يخالف الواقع ، والواقع ربما لا يتعلق به
العلم ، لا تكون النسبة في نظر العالم هي العموم المطلق ، إذ العالم وان لم يحتمل
مخالفة قطعه الفعلي للواقع ، إلا انه يحتمل مخالفة بعض أفراد قطعه له بل ربما يحصل
له العلم بذلك كما لا يخفى وعليه فلا محذور في جعلهما حتى على مسلكه.
واما ما أفاده
الأستاذ ففيه انه لا يوجد من المولى إلا نهي واحد متعلق بطبيعة الهتك ، وهو يشمل
الأفراد المحققة به ، ولا بأس بانحلال النهي الواحد إلى نواهي غير متناهية
لانتهائها إلى إيجاد واحد ، مضافا إلى انقطاعها بانقضاء زمان الامتثال وبترك فعل
واحد ، وهو ما نهى عنه أولا ، مع انه ليس هناك إلا هتك واحد ولا يوجب مخالفة
المتعدد من التكاليف التي في مورد واحد ، أزيد من هتك واحد وجرأة واحدة.
فالحق في الجواب
عن قاعدة الملازمة ، ان يقال بعد بيان مقدمات :
الأولى : انه لا
بد وان يكون للتكليف سواء كان في مورده تكليف آخر أم
لم يكن وسواء كان
دليله المثبت له حكم العقل ، أم كان هو الكتاب السنة اثر ، وإلا يكون جعله لغوا
وصدوره من الحكيم محال.
الثانية : ان التكليف
المولوي يتأتى فيما يكون موجبا للثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة أو
ازديادهما ، والتمكن من التقرب إلى المولى بالموافقة أو فيما يكون موجبا للتنجز
والعذر كالتكاليف الواردة في مقام جعل الأمارات والأصول العملية.
الثالثة : ان
العناوين القبيحة قسمان ، الأول ما لا يكون له في نفسه ارتباط خاص بالمولى ،
كالظلم على الغير ، الثاني ما يكون بنفسه مرتبطا به ، كهتك حرمة المولى ، والظلم
عليه ، ففي القسم الأول لو لم يتعلق به النهي المولوي ، لاوجه لعقاب المولى عليه
من حيث انه مولى ، ولا يوجب بنفسه بعدا عنه ، ولا يكون تركه موجبا للقرب إليه ،
واما في القسم الثاني فجميع هذه الآثار تترتب عليه فيصح عقوبته عليه ، ويكون فعله
مبعدا عنه ، وتركه مقربا إليه ، بل هو الملاك لترتب هذه الآثار على التكليف ، وإلا
فهو بنفسه مع قطع النظر عن هذا الحكم العقلي لا يترتب عليه شيء من هذه الآثار.
إذا عرفت هذه
المقدمات يتبين انه لا يصح التكليف المولوي بعنوان هتك المولى ، لان الآثار التي
يمكن ان يترتب على الحكم الشرعي الذي يكون بدون ترتبها لغوا لا يصدر من الحكيم ،
كلها مرتبة على نفس الموضوع ، فتعلق التكليف به يكون لغوا وبلا اثر ، وصدوره من
الحكيم محال.
ولنا في الجواب عن
هذا الدليل وجه آخر ، وهو ان حكم العقل عبارة عن إدراكه لا غير كما مر غير مرة.
وعليه فتارة يدرك
العقل ما هو في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد.
وأخرى يدرك ما هو
في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية ، كحسن الإطاعة وقبح المعصية إذ هذا الحكم من
العقل فرع ثبوت الحكم الشرعي ، والذي يكون مورد قاعدة الملازمة إنما هو القسم
الأول والمقام من قبيل الثاني فلنا دعويان.
الأولى : ان قاعدة
الملازمة تتم في الأول ، دون الثاني ، والوجه فيه ان العقل إذا أدرك مصلحة ملزمة
غير مزاحمة بمفسدة في عمل من الأعمال ، أو مفسدة ملزمة غير مزاحمة بالمصلحة في فعل
من الأفعال ، يعلم قطعا بجعل ، الوجوب الشرعي في الأول والحرمة في الثاني ، بناء
على مسلك العدلية من تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، وان الشارع إلا قدس
جعل لكل عمل حكما اما لزوميا أو غير لزومي ، وهذا القسم من الحكم العقلي نادر ان
وجد.
واما إذا كان
المدرك العقلاني من القسم الثاني فلا مورد لقاعدة الملازمة.
الدعوى الثانية ان
المقام من قبيل الثاني وهو واضح لا سترة عليه.
تنبيهات
الأول : انه قد
استدل لحرمة الفعل المتجرى ، به بوجهين آخرين :
أحدهما الإجماع.
الثاني الأخبار.
أما الأول : فقد
ادعى جماعة الإجماع على ان ظان ضيق الوقت إذا أخر صلاته عصى وان انكشف
بقاء الوقت.
وتعبيرهم بظن
الضيق إنما هو لبيان أدنى فردي الرجحان ، وأيضا ادعى الإجماع على ان سلوك طريق
الضرر مظنونه أو مقطوعه معصية ، ولو انكشف الخلاف ، فلو فاتت الصلاة في السفر
الكذائي ، لا بد من القضاء تماما ولو بعد انكشاف عدم الضرر.
ولكن يرده مضافا
إلى ما مر من ان محل الكلام في التجرِّي ، هو القطع الطريقي المحض فلو تم الإجماع
يكون الظن أو القطع بنفسه موضوع الحكم فيكون أجنبيا عن المقام.
مع انه يمكن منع
الإجماع على العصيان حتى في صورة كشف الخلاف ، لان وظيفة المفتى ليس إلا تعيين
الوظيفة حين العمل وهو حين حصول الظن والخوف فيحكم بحرمة التأخير ، وان المكلف لو
أخر يكون عاصيا ، ولا يجوز السفر مع الخوف ويعد سفره معصية ، واما انه لو تجرى
وانكشف الخلاف ، فهل هو عاص ، أم لا فليس وظيفة المفتي بيانه.
واما الأخبار فقد
دلت الأخبار على أن العقاب على نية المعصية ، وبازائها روايات تدل على عدم العقاب
عليها ، فقد جمع بينهما ، بحمل الأولى على نية المعصية مع الجري على طبق ما نوى ،
وحمل الثانية على النية المجردة ، ومن الحكم
__________________
بترتب العقاب
يستكشف الحرمة.
ويرد عليه ان
الجمع المذكور تبرعي لا شاهد له ، ولعل الأولى حمل ما دل على نفي العقاب على العفو
، وعدم فعلية العقاب ، وما دل على ثبوته على الاستحقاق ، نظير ما ورد في العفو عن
الظهار ، وعن الصغائر إذا اجتنب الكبائر فتأمل.
مع انه من ترتب
العقاب في أمثال المقام مما يكون الموضوع له ارتباط خاص بالمولى الذي يكون العقاب
من آثار نفس الموضوع لا يستكشف الحرمة كما هو واضح ، هذا كله مضافا إلى ان عنوان
الهتك والتجري غير قابل لتعلق النهي المولوي به ، فلو تم الإجماع والأخبار لا بد
من تأويلهما.
أضف إلى ذلك ان
الروايات الدالة على ترتب العقاب ما بين ما هو ضعيف السند وما هو قاصر الدلالة ،
راجع الوسائل أبواب مقدمات العبادات .
التنبيه الثاني : هل
المتجري يكون فاسقا ، أم لا؟ أم يفصل بين التجرِّي في الكبائر ، وبين التجرِّي في
الصغائر ، والأول يوجب الفسق دون الثاني.
والحق يقتضي ان
يقال انه ان فسرنا العدالة ، بملكة باعثة على فعل الواجبات وترك المحرمات مطلقا ،
يكون المتجري فاسقا مطلقا ، لأنه به يستكشف عدم الملكة ، وانه لا رادع له عن
المعصية ، كما انه ان فسرناها بملكة باعثة على
__________________
عدم مخالفة المولى
في الكبائر تعين التفصيل المزبور ، وان فسرناها بفعل الواجبات وترك المحرمات لم
يكن المتجري فاسقا لأنه لم يرتكب الحرام.
التنبيه الثالث :
أفاد صاحب الفصول (ره) ان قبح التجرِّي لا يكون ذاتيا ، بل يختلف بالوجوه
والاعتبار ولذلك تقع المزاحمة بين محبوبية الفعل في الواقع ، إذا قطع بحرمة ما هو
واجب واقعا ، فربما يتساويان ، وربما يكون ملاك الوجوب أقوى ، فالتجري حينئذ مضافا
إلى عدم قبحه يكون حسنا ، وربما يكون ملاك قبح التجرِّي أقوى فيكون قبيحا.
والحق ان يقال انه
تارة يقع البحث فيما أفاده على القول بعدم حرمة الفعل المتجري به وكونه قبيحا فقط.
وأخرى يقع البحث
على القول بحرمته.
أما على الأول فما
يتوهم مزاحمته للقبح أمران :
الأول : حسن الفعل
ان كان واجبا.
الثاني : وجوبه.
أما الأول : فهو
لا يصلح للمزاحمة : لان العنوان الحسن ، أو القبيح ، ما لم يلتفت إليه ولم يقصد ،
لا يوجب حسن الفعل أو قبحه ، وحيث ان المتجري لا يرى حسن الفعل فلا يقصد العنوان
الحسن فلا يصلح ذلك لمنع تأثير ما يقتضي القبح وهو عنوان التجرِّي والهتك.
__________________
واما الثاني :
فلأنه لا منافاة بين الوجوب الواقعي وقبح الفعل لدخوله تحت عنوان قبيح ، والوجوب الواقعي
لفرض عدم الالتفات لا يعقل ان يؤثر في رفع قبح الفعل.
واما على الثاني :
فالظاهر تعارض الوجوب الواقعي والحرمة الثابتة بواسطة القطع بحرمته : لان متعلق
الوجوب هو الفعل وهو أيضاً متعلق للحرمة لانطباق العنوان المتعلق للحرمة عليه ،
فيلزم اجتماع الضدين فيدخل في باب التعارض ، ولبيان ما تقتضيه القاعدة في أمثال
المقام محل آخر.
الموضع الثالث في القطع الموضوعي
قد مر ان القطع
طريق بذاته من دون جعل جاعل ، وهو قد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه لا
يماثله ولا يضاده.
وقد قسم الشيخ
الأعظم هذا القسم من القطع أي القطع الموضوعي إلى قسمين باعتبار
ان القطع قد يكون مأخوذا في الموضوع بنحو الصفتية ، وقد يكون مأخوذا على وجه
الطريقية.
فالحق : أن يقع
الكلام في مقامين :
الأول : في بيان
المراد من أخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقية ، وأخذه فيه على وجه الموضوعية.
__________________
الثاني : في أقسام
القطع.
أما الأول : فقد
يقال كما في الدرر بأن المراد من أخذه على وجه الطريقية ملاحظته من حيث انه
طريق معتبر ـ وبعبارة أخرى ـ ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة ،
والمراد من أخذه في الموضوع على وجه الصفتية ، ملاحظته حيث انه كشف تام.
وفيه : ان الظاهر
هو تقسيم القطع بما هو قطع وممتاز عن غيره إلى القسمين ، وأخذه فيه بما انه من
مصاديق الطرق المعتبرة ، مع قطع النظر عن كشفه التام ، يكون قطع النظر عن حقيقته ،
وأخذاً لغير القطع في الموضوع ، وهو خلف.
أضف إلى ذلك ان
الأمارات تكون حينئذ من مصاديق ما اخذ في موضوع الحكم ، ولا معنى للقول بأنها تقوم
مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية على ما أفاده الشيخ الذي هو المقسم لهذا التقسيم فلا يصح حمل كلامه عليه.
وأيضا لازم ذلك
ورود الأمارات على الأصول ، لا حكومتها عليها ، على ما هو صريح الشيخ ، فهذا المعنى ليس مراد الشيخ الأعظم قطعاً.
__________________
وقد يقال كما في
الكفاية ان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة ، ولذا
كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره ، فقد يؤخذ في الموضوع بما هو صفة خاصة بإلغاء
جهة كشفه ، وهذا معنى أخذه في الموضوع على وجه الصفتية ، وقد يؤخذ فيه بما هو كاشف
عن متعلقه وحاك عنه ، وهذا معنى أخذه في الموضوع على وجه الطريقية.
وفيه انه بما ان
حقيقة القطع عين الانكشاف فلا يعقل أخذه في الموضوع مع إلغاء جهة كشفه ، فان حفظ
الشيء مع قطع النظر عما به هو محال.
وان شئت فقل ان
ملاحظة القطع وأخذه في الموضوع ، مع قطع النظر عن جهة كشفه وإلغائها يكون قطع
النظر عن حقيقته ، ومعنى كون القطع والعلم ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره ليس ان له
حيثيتين وجهتين فان ظهوره بنفسه عين مظهريته لغيره ، بل معناه عدم احتياجه في
الحضور إلى حضور آخر.
أضف إلى ذلك ان
اخذ القطع في الموضوع مع إلغاء جهة كشفه عديم المورد في الشرعيات.
وحق القول في
المقام ان المراد من أخذه في الموضوع على وجه الصفتية ، أخذه فيه بما انه مظهر لما
تعلق به في النفس بلا نظر إلى مطابقته للخارج ،
__________________
ومعنى أخذه في
الموضوع على وجه الطريقية ، أخذه فيه بما انه حاك عما في الخارج ومتعلق به ، توضيح
ذلك :
ان العلم يشارك
الوجود في كونه ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره ، إلا انه يفارقه في ان الوجود إنما يكون
مظهرا لماهية واحدة ولكن العلم مظهر لماهيتين ، لأنه :
أولا وبالذات مظهر
لماهية في النفس وهي التي لا يعقل تحقق القطع بدونها لأنه من الصفات الحقيقية ذات
الإضافة ، وتلك الماهية وان لم تكن معلومة بالذات إلا انه يعبر عنها بذلك مسامحة.
وثانيا وبالعرض
يكون مظهرا لما في الخارج الذي يسمى بالمعلوم بالعرض ، وهو الذي لا يكون ملازما
للقطع ، وقد لا يكون كما في ما إذا كان جهلا مركبا.
ولا باس بتسمية
المتعلقين بالماهيتين ، ويقال ان للعلم ماهيتين.
فحينئذ قد يتعلق
الفرض بأخذ القطع في الموضوع من جهة تعلقه بالماهية المعلومة بالذات ، ومثاله
العرفي ، ما لو نذر الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشيء ، انه إذا قطع بشيء فعليه
التصدق بدرهم ، فانه لا ريب في ان نظره إنما يكون إلى إزالة مرضه المتوقفة على
حصول هذه الصفة في النفس ، ولا نظر له إلى جهة تعلقه بما في الخارج ، وهذا هو
المراد من اخذ القطع في الموضوع على وجه الصفتية.
وقد يتعلق الغرض
بأخذه فيه من جهة تعلقه بالمعلوم بالعرض فيؤخذ في الموضوع بهذا اللحاظ وهذا معنى
اخذ القطع في الموضوع على وجه الطريقية.
أقسام القطع
واما المقام
الثاني : وهو بيان أقسام القطع ، فالظاهر ان المأخوذ منه في الموضوع ينقسم إلى
أربعة أقسام ، إذ المأخوذ على الصفتية ينقسم إلى قسمين ، لأنه :
إما ان يكون
الموضوع هو هذه الصفة بلا دخل للواقع فيه ويؤخذ فيه كذلك ، فيكون القطع تمام
الموضوع.
واما ان يكون
الموضوع هذه الصفة مع كون الواقع أيضاً دخيلا فيه فيكون القطع جزء الموضوع.
وأما القطع
المأخوذ على وجه الطريقية فلا يعقل فيه إلا قسم واحد ، إذ لا معنى لاخذه فيه بما
انه تمام الموضوع بلا دخل للواقع ، إذ معنى أخذه كذلك عدم النظر إلى الواقع ،
ومعنى أخذه على نحو الطريقية كون النظر إلى الواقع ، فلا يمكن الجمع بينهما.
وما أفاده المحقق
الخراساني من انه أيضاً ينقسم إلى قسمين. غير تام.
فهذه ثلاثة أقسام
، وهناك قسم رابع ، وهو أخذه في الموضوع بما انه يقتضي الجري العملي على وفقه ،
توضيح ذلك انه للقطع جهات :
١ ـ كونه ظاهرا
بنفسه ومظهرا لما في النفس.
__________________
٢ ـ كونه مظهرا
لما في الخارج.
٣ ـ كونه مقتضيا
للجري العملي على وقفه لأنه الموجب والداعي لإرادة العمل ، مثلا العلم بوجود الأسد
في الطريق يقتضي الفرار عنه واما نفس وجود الأسد ، فهو لا يقتضي ذلك كما لا يخفى.
فعلى هذا تارة
يؤخذ القطع في الموضوع من الجهة الأولى ، وقد عرفت انقسامه إلى قسمين ، وأخرى يؤخذ
فيه من الجهة الثانية ، وثالثة يؤخذ في الموضوع من الجهة ، الثالثة ، فأقسام القطع
المأخوذ في الموضوع ، إنما يكون أربعة فإذا انضم إليها ما هو طريق محض يصير خمسة.
ثم ان المراد من
القطع الموضوعي هو المأخوذ في الموضوع واقعا ويكون دخيلا في ترتب الحكم ، كالعلم
المأخوذ في الركعتين الأوليتين من الصلوات الرباعية ، وركعات المغرب والصبح ،
ولذلك لو شك بين الواحدة والاثنتين مثلا ، وأتم الصلاة رجاءً ثم انكشف انه كان
آتيا بالركعتين كانت صلاته باطلة.
لا القطع المأخوذ
في لسان الدليل فقط مع ثبوت عدم دخله في الموضوع كما في قوله تعالى (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ)
__________________
قيام الأمارات والأصول مقام القطع
الموضع الرابع :
وقع الكلام في قيام الأمارات والأصول مقام القطع وملخص القول فيه بالبحث في مقامين
:
الأول في قيام
الأمارات مقام القطع.
الثاني في قيام
الأصول مقامه.
أما المقام الأول
: فلا ريب ولا كلام في قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض ، إذ أثره إنما هو
تنجز الواقع عند الإصابة والعذر عند المخالفة وهما مترتبان على الأمارات على جميع
المسالك فيها كما هو واضح.
وإنما الخلاف في
قيامها مقام القطع الموضوعي والأقوال فيه ثلاثة
الأول : قيامها
مقامه مطلقا.
الثاني : عدم
قيامها مقامه كذلك اختاره المحقق الخراساني .
الثالث : قيامها
مقام القطع المأخوذ فيه على وجه الطريقية.
واما المأخوذ في
الموضوع على وجه الصفتية فلا تقوم الأمارات مقامه ، اختاره الشيخ الأعظم (ره) وتبعه غيره من الأساطين ولعله الأظهر.
__________________
فلنا دعويان :
الأولى : عدم قيام
الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية.
الثانية : قيامها
مقام القطع المأخوذ فيه على وجه الطريقية.
أما الدعوى الأولى
: فلقصور أدلة حجيتها في مقام الإثبات عن ذلك ، إذ غاية ما يدل عليه دليل الحجية
هو تتميم الكشف ، وإلغاء احتمال الخلاف ، وترتيب آثار الواقع على مؤداها ، وبعبارة
أخرى ترتيب آثار القطع من حيث الطريقية والكاشفية.
واما الآثار
المترتبة على القطع مع قطع النظر عن كاشفيته وطريقيته بل بما هو صفة خاصة نفسانية
كبقية الصفات فلا نظر لدليلها إليها أصلاً.
وبذلك يظهر ان ما
أفاده المحقق الخراساني ، من ان دليل التنزيل لو كان كافيا لتنزيل الأمارة منزلة
القطع الطريقي والموضوع على وجه الطريقية لكان دليلا على قيامها مقام القطع
المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية من غير فرق ، غير تام.
واما الدعوى
الثانية فيشهد بها إطلاق دليل الأمارة فانه كما يدل على ترتيب اثر القطع العقلي
على الأمارة كذلك يدل على ترتيب أثره الشرعي.
توضيح ذلك ان
المجعول في باب الأمارات ، هو الطريقية والكاشفية التامة
__________________
بإلغاء احتمال
الخلاف ، ويعبر عن ذلك بتتميم الكشف ، فمفاد دليل الأمارة جعلها قطعا ، فان شئت
فعبر عنه بتنزيل الأمارة منزلة القطع ، ومرجعه إلى التوسعة في القطع موضوعا وجعل
فرد تعبدي له.
وعليه فكما انه
يدل على ترتيب اثر القطع العقلي أي اثر المقطوع على الأمارة والمؤدى باعتبار انه
بعد تتميم كشف الأمارة يصير المؤدى منكشفا تعبدا ، فيلزم ترتيب أثره ، كذلك يدل
على ترتيب اثر القطع الشرعي أي الحكم المأخوذ في موضوعه القطع.
كما انه على ما
اختاره المحقق الخراساني (ره) ، من ان المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية
يكون مقتضى إطلاق الدليل ذلك.
وما أفاده في وجه عدم القيام بما توضيحه :
ان تنزيل شيء
منزلة شيء آخر ، يستدعى لحاظ المنزل ، والمنزل عليه ، ولحاظ الأمارة والقطع في
تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي المحض لا بد وان يكون آليا ، إذ الأثر مترتب
على الواقع المنكشف بالقطع لا على نفس القطع ، فيكون النظر في الحقيقة إلى الواقع
ومؤدى الأمارة ، ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل المارة منزلة القطع الموضوعي يكون
استقلاليا ، إذ الأثر مترتب على نفس القطع
__________________
فيكون النظر إليه
حقيقة.
وحيث ان الجمع بين
التنزيلين في دليل واحد ، مستلزم للجمع بين اللحاظين المتنافيين ، أي اللحاظ الآلي
والاستقلالي المتعلقين بملحوظ واحد في آن واحد ، وهو غير ممكن ، فلا بد وان يكون
التنزيل بلحاظ أحدهما.
وحيث ان المستفاد
من أدلة حجية الأمارات بحسب المتفاهم العرفي هو لحاظ القطع طريقيا فيتعين الأخذ به
ما لم تقم قرينة على التنزيل من حيث الموضوعية.
غير تام : لان
المجعول في باب الأمارات حيث يكون على مسلكه هو المنجزية والمعذرية ، فلا يكون
النظر في شيء من الموردين إلى الواقع ، بل في القطع الطريقي المحض أيضاً يكون
التنزيل بلحاظ اثر القطع نفسه ، فلا محالة تكون اللحاظ استقلاليا ، فلا يلزم من
التنزيل منزلة القطع الطريقي والموضوعي على نحو الطريقية ، الجمع بين اللحاظين
المتنافيين ، بل يلزم لحاظ واحد استقلالي وتنزيل واحد وهو تنزيل الأمارة منزلة
القطع : إذ لا يكون هناك تنزيل المؤدى منزلة الواقع فلا يكون هناك إلا تنزيل واحد.
نعم على القول
بأنه في باب الأمارات يكون المجعول هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع يشكل قيامها مقام
المأخوذ في الموضوع لان دليل الاعتبار لا يثبت العلم بالواقع ولو بالعناية والتعبد
فلا وجه لقيامها مقامه.
ودعوى : انه بعد
ورود دليل الاعتبار يحصل العلم الوجداني بالواقع التعبدي ، وهذا يكفي في ترتيب
آثار العلم الموضوعي.
مندفعة بان موضوع
الحكم العلم بالواقع الحقيقي وتعميمه إلى ما يشمل القطع بالواقع التعبدي يحتاج إلى
دليل مفقود ، فعلى القول بجعل المؤدى يشكل الحكم بالقيام ، ولكن على المسلكين
الآخرين لا إشكال فيه ، وسيأتي الكلام في بيان ما هو الحق في أول مبحث الظن
فانتظر.
قيام الأصول مقام القطع
واما المقام
الثاني : وهو قيام الأصول مقام القطع ، فقيام الأصل المحرز ، مقام القطع الطريقي
المحض واضح ، حيث ان حكم الشارع بالبناء على وفق الحالة السابقة يستلزم المنجزية
والمعذرية ويوجب ارتفاع موضوع قبح العقاب بلا بيان.
واما القطع
الموضوعي ، فان كان مأخوذا في الموضوع بما هو صفة خاصة ، أو بما انه طريق ، لا
يقوم مقامه إذ المجعول في الأصل المحرز ليس هو الطريقية ، واما ان كان مأخوذا فيه
بما انه مقتض للجري العملي يقوم مقام القطع.
واما سائر الأصول
العملية فغير الاحتياط الشرعي منها لا معنى لقيامها مقام القطع.
أما البراءة
العقلية ، فلأنها عبارة أخرى عن المعذرية ، لا شيء نزل مقام القطع في ذلك.
واما الاحتياط
العقلي فالمنجز في مورده هو العلم الإجمالي ، وإنما الاحتياط في كيفية الإطاعة ،
لا انه منجز للحكم.
واما البراءة
الشرعية فهي ترخيص في الشيء بلحاظ عدم إحراز الواقع ، لا إحراز عدم الواقع.
واما الاحتياط
الشرعي ، فلا وجه لترك التكلم فيه من جهة منع الصغرى كما في الكفاية ، إذا هو ثابت في الموارد الثلاثة على المشهور ، مع ان عدم
ثبوته عند الأصوليين لا يمنع من ذلك بعد كونه ثابتا عند الإخباريين رضوان الله
تعالى عليهم.
فالحق ان يقال ،
ان المجعول فيه ان كان هو التنجيز كما اختاره المحقق الخراساني فهو يقوم مقام
القطع كما تقدم. ولكنه غير تام.
وان كان المجعول
على ما هو الصحيح هو الحكم الذي لا مصلحة فيه سوى التحفظ على الواقع ، حيث ان
المولى لما كان له غرض لم يكن راضيا بتركه حتى في صورة الجهل ، وكان يرى عدم
داعوية التكليف في ظرف الجهل والاحتمال جعل هذا الوجوب تحفظا لذلك الغرض ، وليس
المجعول هو الحكم على تقدير المصادفة إذ بهذا النحو من الحكم لا يحفظ الواقع ، فلا
بد وان يجعل الحكم على جميع التقادير ، فلا وجه ، لقيامه مقام القطع لعدم جعل
الطريقية والكاشفية.
ثم ان المحقق
الخراساني (ره) بعد اختياره عدم قيام الأمارات والأصول مقام القطع المأخوذ في
الموضوع قال : وما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ
__________________
واحد في التنزيل
منزلة الواقع والقطع وان دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة
الواقع وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما
وتنزيل القطع بالواقع تنزيلا وتعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة لا يخلو من تكلف بل
تعسف انتهى.
ولكن الوجه الذي
ذكره في الحاشية ، لا يتم ، لا لما في الكفاية ، بل لان الدلالة الملازمية ، ان
أريد بها دلالة الاقتضاء ، فهي إنما يكون فيما إذا كان الدليل مختصا بمورد خاص ولم
يكن له اثر سوى هذا الأثر المترتب عليه ، وعلى الجزء الآخر فمن باب عدم لزوم اللغوية
يستكشف التعبد بالجزء الآخر أيضاً إذا لم يكن وجدانيا ، واما إذا كان الدليل مطلقا
أو عاما شاملا لغير هذا المورد فمن الأول يختص بما إذا كان له اثر فعلى ، ففيما
كان الأثر مترتبا على الجزءين ، لا يشمل الدليل أحدهما وحده فلا يلزم اللغوية.
توضيح ذلك انه
ربما يترتب الأثر على الموضوع غير المركب ، وبعبارة أخرى : يكون الموضوع شيئا
واحدا نحو لا تشرب الخمر ، وفي مثل ذلك إذا أحرز الموضوع وجدانا أو تعبدا يترتب
عليه الحكم والأثر بلا توقف على شيء ، وربما يترتب الأثر على الموضوع المركب كما
في موضوع عدم تنجس الماء حيث انه مركب من المائية والكريّة.
وعليه ، فإذا قامت
الأمارة على كلا جزئي الموضوع فلا كلام وان قامت على أحدهما ولم يكن الجزء الآخر
محرزا بالوجدان ، فلا يمكن التمسك بإطلاق دليلها لمثل هذه الأمارة ثم إثبات الجزء
الآخر بالملازمة ، إذ شموله لها إنما يكون متوقفا على ترتب الأثر عليها ، والمفروض
ان الأثر لا يكون مترتبا عليها مع
فرض عدم ثبوت
الجزء الآخر ولا يلزم من عدم شمول الدليل لها محذور فلا محالة لا يشملها ، والمقام
من هذا القبيل ، لعدم اختصاص دليل حجية الأمارة ، والاستصحاب بالمورد الذي يكون
القطع مأخوذا في الموضوع.
نعم لو ورد دليل
خاص على حجية خصوص هذه الأمارة كما ورد خبر حفص في جواز الشهادة مستندة إلى اليد
لدل على ثبوت الجزء الآخر وهو العلم بالمشهود به بدلالة الاقتضاء صونا لكلام
الحكيم عن اللغوية.
وان أريد بها
الدلالة الالتزامية المصطلحة.
فيرد عليه أنها
تتوقف على التلازم البين بين المدلولين ، وبديهي عدم التلازم بين جعل المؤدى منزلة
الواقع وجعل القطع به منزلة القطع بالواقع.
وبعبارة أخرى :
كون هذا المائع خمرا في الواقع مثلا لا يستلزم كون العلم المتعلق به هو العلم
بكونه خمرا ، كما ان العلم بكونه خمرا لا يستلزم كونه خمرا في الواقع فلا مورد
للدلالة الالتزامية.
وأضف إلى ذلك ان
أساس هذا التوجيه إنما هو كون المجعول في باب الأمارات والأصول هو المؤدى.
وهذا مضافا إلى
منافاته لما التزم به في الكفاية من ان المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية.
فاسد من اصله
لاستلزامه التصويب الباطل وعدم دلالة الدليل عليه في
__________________
مقام الإثبات كما
سيأتي تمام الكلام في ذلك في أول مبحث الظن.
اخذ القطع بحكم في موضوع نفس الحكم
الموضع الخامس :
قال المحقق الخراساني في الكفاية الأمر الرابع لا يكاد يمكن ان يؤخذ القطع بحكم في موضوع
نفس هذا الحكم للزوم الدور ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ولا ضده للزوم اجتماع
الضدين نعم يصح اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده
انتهى.
وتنقيح القول
بالبحث في موارد :
الأول : في اخذ
القطع بالحكم في موضوع نفسه.
الثاني : في أخذه
في موضوع ضده.
الثالث : في أخذه
في موضوع مثله.
الرابع : في اخذ
القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه ، أو مثله ، أو ضده.
أما المورد الأول
: فعن العلامة وغيره الاستدلال لامتناعه ، بما في الكفاية من لزوم الدور.
ولكن يرد عليه ان
الحكم وان كان متوقفا على العلم لفرض أخذه في
__________________
موضوعه ، إلا ان
العلم لا يتوقف على شخص هذا الحكم بل على ماهية الحكم لاستحالة تقوم العلم بما هو
خارج عن افق النفس ، وليس العلم إلا وجود الماهية في النفس ، والوجود لا يقبل
وجودا آخر.
فالحق ان يستدل
لامتناعه بوجهين آخرين.
أحدهما : لزوم
الخلف في نظر المكلف ، حيث انه يرى علمه كاشفا عن الواقع ، والواقع منكشفا لديه ،
فيفرض قبل تعلق العلم حكما ، ويرى علمه متعلقا به ، فلو كان التكليف متأخرا عن
العلم لزم الخلف في نظر المكلف ، وان لم يكن العلم في الواقع متوقفا على المعلوم
بالعرض.
ثانيهما : ما ذكره
بعض المحققين ، وهو ان فرض تعلق الوجوب مثلا بالعلم به فرض مدخلية العلم في
المتعلق ، وعدم كون المتعلق طبيعي فعل المكلف كالصلاة ، وفرض العلم بوجوب الصلاة
فرض تعلقه بطبيعيِّها وهما لا يجتمعان.
ثم ان المحقق
النائيني التزم بإمكان اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه بنتيجة
التقييد ـ بدعوى ـ ان العلم بالحكم لما كان من الانقسامات الثانوية للحكم فلا يمكن
ان يكون الدليل المتكفل لبيان الحكم مطلقا بالاضافة إليه ولا مقيدا بل يحتاج إلى
متمم الجعل وذلك المتمم ربما يوجب الإطلاق ، وربما يوجب التقييد ، كما في مورد
الجهر والاخفات ، والقصر والإتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في الموردين
بالعالم.
__________________
وفيه : انه في مثل
العلم والجهل كون المتمم بنحو الإطلاق ، بمعنى عدم مدخيلة العلم والجهل ممكن ،
واما كونه بنحو التقييد ، بمعنى مدخلية نفس العلم ، فهو غير ممكن : إذ الخلف الذي
ذكرناه يكون مانعا ثبوتيا ولا يفرق فيه بين ان يكون الدليل المتكفل لبيانه واحدا
أم متعددا كما لا يخفى ، نعم كونه بنحو التقييد بمعنى ملازمة العلم لعنوان ومدخلية
ذلك العنوان فيه أمر ممكن ، وعلى هذا يحمل ، ما دل على اختصاص حكم في مورد بالعالم
به.
اخذ القطع بحكم في موضوع ضده
واما المورد
الثاني : وهو اخذ القطع بحكم في موضوع ضده ، كما إذا ورد الدليل على حرمة صوم يوم
لو قطع بوجوبه.
فقد يقال انه لا
يلزم منه اجتماع الضدين : لان من شرائطه وحدة الموضوع ، وفي المثال يكون الوجوب
متعلقا بالصوم والحرمة متعلقة به بما هو مقطوع الوجوب فيكون الموضوع للحكمين
متعددا بحسب الجعل.
ومع ذلك يكون ذلك
ممتنعا أيضاً لعدم إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال لعدم إمكان الانبعاث نحو
عمل والانزجار عنه في آن واحد ، ومع عدم إمكان امتثالهما معا ، لا يصح تعلق الجعل
بهما من المولى الحكيم لهذه الجهة.
ولكن التحقيق لزوم
اجتماع الضدين ، لان الحرمة في المثال ، وان تعلقت بالصوم بما هو مقطوع الوجوب إلا
ان الوجوب متعلق به مطلقا يشمل ما لو تعلق القطع بوجوبه ، فيلزم اجتماع الضدين في
فرض العلم بالوجوب.
اخذ القطع بالحكم في موضوع حكم مثله
واما المورد
الثالث : وهو اخذ القطع بالحكم في موضوع مثله.
فقد استدل
لامتناعه باستلزامه اجتماع المثلين :
وفيه : ان القطع
بالحكم ان لم يوجب حدوث مصلحة أخرى سوى المصلحة الموجودة في المتعلق المقتضية لجعل
الحكم الأول ، فعدم إمكان جعل الحكم الثاني إنما يكون مستندا إلى عدم المقتضي لا
إلى وجود المانع.
وان أوجب حدوث
المصلحة :
فان بنينا على عدم
إمكان الجعل الثاني من جهة عدم ترتب الغرض عليه ، ولزوم لغويته ، كان عدم إمكان
الجعل مستندا إلى لزوم اللغوية لا إلى اجتماع المثلين.
وان بنينا على
إمكانه وعدم لزوم اللغوية كما سنبينه فاجتماع المثلين ، لا يكون مانعا لأنه يلتزم
بالتأكد كسائر موارد التأكد.
والحق في المقام
ان جعل الحكم الثاني ، لا يكون لغوا إذ النسبة بين متعلقي الحكمين ، وان كانت
عموما مطلقا بما انه يترتب على الحكم الثاني اثر زائد وهو ازدياد العقاب والبعد
بالمخالفة ، وازدياد الثواب والقرب بالموافقة ، ومن الممكن ان لا ينبعث العبد من
تكليف واحد وينبعث من تكليفين بملاحظة ما
__________________
ذكر فلا يكون جعل
الحكم الثاني لغوا غاية الأمر لا بد من الالتزام بالتأكد في صورة الاجتماع.
وبما ذكرناه ظهر
ما في كلام المحقق النائيني (ره) حيث التزم بأنه لو كان بين العنوانين عموما من وجه ، صح
جعل كلا الحكمين ، لان كلا من الحكمين يصلح لان ينبعث العبد منه ولو في مورد
الافتراق ، ففي صورة الاجتماع يلتزم بالتأكد ، فلا مانع من تشريع الحكمين بخلاف ما
لو كان بينهما عموم مطلق إذ جعل التكليف الثاني الذي هو أخص موردا من الأول يكون
لغوا لعدم قابليته ، لان ينبعث عنه العبد ولو في مورد ، ولا معنى لتشريع حكم لا
يصلح الانبعاث عنه ، وحيث ان القاطع بالحكم يرى قطعه مطابقا للواقع ففي نظره ،
تكون النسبة عموما مطلقا فلا يصحح الجعل لذلك.
مع انه يرد عليه (قدِّس
سره) انه لو فرضنا استحالة جعل الحكم لما يكون متعلقا لتكليف آخر ، لأجل عدم إمكان
داعويته ، لا بد من الالتزام بعدم الإمكان حتى فيما كانت النسبة بين الموردين عموم
من وجه إذ التكليف الثاني بما انه في بعض موارد متعلقه لا يصلح للداعوية وانبعاث
العبد عنه جعله بنحو الإطلاق ، بنحو يشمله أيضاً لغو ولا يصح بل لا بد من تقييده
بمورد الافتراق ، وإمكان داعويته في مورد لا يصحح التكليف لمورد لا يصلح لذلك
فتدبر.
ولا يتوهم ، ان
لازم ما اخترناه إمكان تعلق الأمر المولوي بالإطاعة.
فانه يدفعه ما
ذكرناه في محله من انه لهذا العنوان خصوصية لا يعقل تعلق
__________________
الأمر المولوي به.
اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه
واما المورد
الرابع : وهو اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه ، فقد التزم المحقق
الخراساني (ره) بإمكانه .
ولكن سيأتي إنشاء
الله تعالى في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، ان هذا أمر غير معقول ، إذ كل
ما اخذ في الموضوع في مقام الجعل لو تحقق يصير الحكم فعليا بلا توقف على شيء آخر
ولو لم يتحقق لا يصير فعليا وإلا لزم الخلف ، فعدم دخل القطع في الإنشاء ، وعدم
أخذه في الموضوع في مقام الجعل ، ودخله فيه في مقام الفعلية مما لا يجتمعان.
وان شئت قلت ان ما
ذكره (ره) يبتني على ما أسسه (ره) من ان للحكم مراتب أربعا : من الاقتضاء ، والإنشاء ،
والفعلية ، والتنجز.
واما بناء على
المسلك الحق من ان له مرتبتين مرتبة الجعل ومرتبة الفعلية فلا يتم : وذلك لان المراد من
اخذ العلم بمرتبة من الحكم ، ليس هو
__________________
اخذ العلم بجعل
الحكم لغير القاطع فانه ليس محل الكلام ، بل المراد اخذ العلم بجعل الحكم لنفس
القاطع وهو يلازم العلم بالفعلية مثلا كون قوله تعالى : (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) جعلا لشخص القاطع يتوقف على صيرورته مستطيعا ومعه يصير
فعليا فيعود محذور الدور أو الخلف.
اخذ الظن في موضوع الحكم
هذا كله في اخذ
القطع بالحكم في الموضوع.
واما الظن فملخص
القول فيه :
انه تارة يؤخذ في
الموضوع على وجه الطريقية.
وأخرى يؤخذ فيه
على وجه الصفتية.
وعلى التقديرين ،
ربما يكون جزءا للموضوع ، وربما يكون تمامه ، وعلى التقادير قد يكون الظن معتبرا
بجعل الشارع ، وقد يكون غير معتبر.
والكلام في إمكان
اخذ الظن بالحكم في موضوع نفسه هو الكلام في اخذ القطع به فيه دليلا ومختارا نقضا
وإبراما.
واما اخذ الظن
بالحكم في موضوع حكم يخالفه كما إذا قال المولى إذا
__________________
ظننت بوجوب الدعاء
عند رؤية الهلال يجب عليك التصدق ، فان كان الظن تمام الموضوع ، ترتب عليه وجوب
التصدق كان الظن معتبرا أو غير معتبر ، وان كان جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو
الواقع ، فان كان الظن معتبرا ترتب عليه الحكم أيضاً فان أحد جزئي الموضوع ، وهو
الظن محرز بالوجدان ، والجزء الآخر وهو الواقع محرز بالتعبد الشرعي ، وان كان الظن
غير معتبر ، فان قام إمارة أخرى معتبرة ، أو اصل معتبر على الواقع ترتب الحكم
أيضاً ، وإلا فلا.
واما اخذ الظن
بحكم في موضوع حكم يماثله ، فان كان الظن معتبرا.
فان قلنا بان اخذ
القطع بالحكم في موضوع حكم يماثله ممكن ، ولا يلزم اجتماع المثلين ، ويلتزم
بالتأكد ، فلا إشكال في جواز اخذ الظن فيه.
وان قلنا بعدم
إمكانه ، فالظاهر إمكان اخذ الظن فيه أيضاً لان المانع المتوهم في القطع وهو كون
النسبة بين العنوانين عموما مطلقا في نظر القاطع لأنه لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع
وان كان فاسدا ، لا يجري في الظن ، لان النسبة بين ثبوت الواقع والظن به عموم من
وجه ، ولو في نظر الظان ، إذ الظن المعتبر وان كان علما تعبدا ، إلا انه يحتمل
مخالفته للواقع وجدانا ، ففي مورد الاجتماع يلتزم بالتأكد كما هو الشأن في جميع
موارد اجتماع العامين من وجه المحكومين بحكمين متماثلين.
واختار المحقق
النائيني (ره) عدم الإمكان واستدل له بوجهين :
١ ـ ان إحراز
الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء بحيث يكون من
__________________
العناوين الثانوية
الموجبة لحدوث ملاك في الشيء غير ما هو عليه من الملاك.
٢ ـ ان الحكم
الثاني لا يكون محركا لإرادة العبد لان الانبعاث إنما يتحقق بنفس إحراز الحكم
الواقعي المجعول على الواقع فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز.
ولكن يرد على ما
أفيد أولا ، انه إشكال يسرى إلى جميع أقسام القطع والظن المأخوذة في الموضوع.
والكلام في هذا
البحث بعد الفراغ عن الإمكان من الجهات الأخر.
ويرد على ما أفيد
ثانيا ما تقدم من انه يمكن ان لا ينبعث العبد من حكم واحد وينبعث من الحكم المؤكد
الموجب لازدياد الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة وما شاكل من الآثار
المخرجة للثاني عن اللغوية.
مع انه (قدِّس سره)
التزم بإمكان الجعل الثاني ، إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما من وجه ، وقد مر
ان النسبة بين العنوانين في المورد عموم من وجه.
وان كان الظن غير
معتبر فقد ذهب المحقق الخراساني إلى إمكان أخذه في موضوع الحكم المماثل ، واستند في ذلك
إلى ما أفاده في وجه إمكان اخذ الظن بحكم في موضوع حكم ضده وستقف عليه وما يمكن ان
يورد عليه.
واما المحقق
النائيني فقد اختار إمكانه ، وملخص ما أفاده في وجه ذلك ان
__________________
لازم اخذ الظن غير
المعتبر لحاظه على وجه الصفتية إذ أخذه على وجه الطريقية ، يستدعي اعتباره ، وهو
قد يؤخذ تمام الموضوع ، وقد يؤخذ جزؤه ، ولا إشكال في كلا القسمين :
أما في الأول :
فلان النسبة تكون حينئذ العموم من وجه ، وفي مورد الاجتماع يكون الحكم آكد.
واما في الثاني :
فربما يتوهم لغوية الحكم المماثل من جهة ان الحكم الأولى المجعول للواقع كالخمر
محفوظ في حال الظن فجعل الحكم على الخمر المظنون لغو لا اثر له.
لكنه يندفع بأنه
يكفي في الأثر تأكد الحرمة في صورة تعلق الظن بالخمر ، وتكون مثلا واجدة لعشرة
درجات من المفسدة ، بخلاف ما إذا لم يتعلق بها الظن ، فإنها تكون واجدة لخمس درجات
، وربما لا يقدم الشخص على ما يكون مفسدته عشر درجات مع إقدامه على ما يكون خمس
درجات ، وهذا المقدار من الأثر يكفي.
ويتوجه عليه : ان
ما أفاده في المقام وان كان متينا جدا ، إلا انه ينافى ما ذكره في الظن المعتبر
وما ذكر في غير موضع من ، انه إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما مطلقا ، لا يصح
جعل الحكم الثاني للزوم اللغوية ، ولذلك اختار عدم جواز أخذ القطع بحكم في موضوع
حكم يماثله.
فان قلت انه يمكن
ان يكون نظره إلى الفرق بين موارد تنجز حكم العام كما في القطع وسائر الموارد وبين
المقام الذي يكون الحكم غير منجز ، لفرض عدم اعتبار الظن ، لان الحكم الأول لا
يكون محركا فيصح جعل الثاني حينئذ.
قلت ان هذا وان
كان مطلبا دقيقا إلا انه في المقام لا يمكن الالتزام به لأنه بما ان الظن في موضوع
الحكم الثاني ، اخذ جزء الموضوع وجزئه الآخر هو الواقع فحينئذ ان لم يعلم الواقع
ولم يقم ظن معتبر على الواقع لا يكون الحكم الثاني باعثا أو زاجرا لعدم العلم به
وان علم به ينقلب الموضوع فلا حكم ، فلا محالة لا بد ، وان يفرض في فرض تعلق الظن
به قيام إمارة معتبرة على ان المظنون هو الواقع ، ليكون أحد الجزءين ثابتا
بالوجدان والآخر ثابتا بالتعبد حتى يكون الحكم الثاني صالحا للداعوية وفي هذا
الفرض في المرتبة المتقدمة على هذا الحكم ، الحكم الأولى المترتب على العنوان
العام لفرض قيام الأمارة يصير فعليا ومنجزا ويكون صالحا للداعوية ، وبالجملة في
المورد الذي يكون الحكم الثاني صالحا للداعوية يكون الحكم الأول أيضاً كذلك فتدبر
فانه دقيق.
واما أخذه في
موضوع ضد ذلك الحكم ، فان كان الظن مما ثبت اعتباره بالخصوص.
فالحق عدم الجواز
: لأنه حينئذ بضميمة دليل اعتبار الأمارة يكون محرزا للواقع فجعل حكم آخر له يوجب
اجتماع الضدين حقيقة في صورة المصادفة للواقع ، وظنا مطلقا.
وان كان الظن غير
معتبر فقد اختار المحقق الخراساني جوازه ، من جهة ان المحذور المتوهم ليس إلا اجتماع الضدين ، وهو
مندفع بان الحكم الواقعي الذي تعلق به الظن لا يكون فعليا من جميع الجهات ، بل
العلم به دخيل في فعليته ،
__________________
وهذا النحو من
الحكم لا ينافى مع الحكم المجعول للظن الذي يكون فعليا لما سيأتي من التحقيق في
التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.
وفيه : انه ستعرف
من ان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما يكون ، من جهة ان الحكم الظاهري سنخ
حكم يجتمع مع الحكم الواقعي ، وفي المقام يكون كلا الحكمين واقعيين فلا يمكن
اجتماعهما وحيث ان إطلاق الحكم الواقعي شامل لصورة مصادفة الظن وتعلقه به ، فيلزم
عند المصادفة اجتماع الضدين وهو محال.
وان شئت قلت : انه
عند اجتماع العنوانين ووجود مصلحة ملزمة في الفعل باعثة إلى جعل الوجوب ومفسدة
حادثة بواسطة الظن به باعثة إلى جعل الحرمة يتزاحم الملاكان ، فان كان أحدهما أقوى
يكون هو المؤثر دون الآخر ، ومع التساوي لا بد من الحكم بالإباحة.
فتحصل ان اخذ الظن
بالحكم في موضوع ضد ذلك الحكم لا يمكن مطلقا.
حول وجوب موافقة القطع التزاما
الموضع السادس :
قال في الكفاية هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي
موافقته التزاما والتسليم له اعتقادا وانقيادا كما هو
__________________
اللازم في الأصول
الدينية والأمور الاعتقادية انتهى.
وليعلم : ان هذا
البحث إنما انعقد لبيان انه ، هل يكون من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية مانع من
جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إذا كانت الأصول جارية في أنفسها مع قطع النظر
عن هذه الجهة ، أم لا؟
فالكلام يقع في
جهتين :
الأولى ، انه هل
تجب الموافقة الالتزامية أم لا؟
الثانية ، انه على
فرض الوجوب هل يمنع ذلك عن جريان الأصول أم لا؟ وقبل التعرض للبحث في الجهتين لا
بد من بيان أمرين :
أحدهما : ان محل
البحث في الجهة الأولى انه هل يكون لكل تكليف متعلق بعمل المكلف ، اقتضاءان ،
أحدهما الموافقة العملية ، وثانيهما الموافقة الالتزامية ، ويترتب على المخالفة
عملا ، والتزاما عقابان ، وعلى الموافقة كذلك ثوابان ، وعند التفكيك ثواب وعقاب ،
أم ليس له إلا اقتضاء واحد.
الأمر الثاني : في
بيان حقيقة الالتزام ، وهي في غاية الخفاء بيانا وواضح مدركا ، والذي يمكن ان يقال
: انه زائدا على الصورة الحاصلة للشيء عند النفس الذي هو القطع ، والعمل الخارجي ،
للنفس شيء آخر نسبتها إليه نسبة التأثير والإيجاد ، ويكون هو فعلها ، ويعبر عنه
بالعلم الفعلي وذلك الشيء عبارة عن الالتزام.
وهو من جهة كونه
نحوا من الوجود لا يمكن بيان حقيقته ، إلا انه مما
يساعده الوجدان ،
ويشهد به قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)
حيث انه يدل على
انهم مع كونهم عالمين بنبوة نبينا (ص) ، لم يكونوا منقادين له قلبا ولا مقرين بها
باطنا.
إذا عرفت الأمرين
فيقع الكلام في الجهتين :
أما الجهة الأولى
: فيمكن ان يستدل لعدم وجوب الموافقة الالتزامية بان التكليف إذا تعلق بفعل خارجي
غاية ما يستكشف منه وجود مصلحة لازمة الاستيفاء في الفعل ويعلم منه ان الغرض من
التكليف جعل ما يمكن ان يكون داعيا إلى العمل الخارجي لأجل تحصيل تلك المصلحة
الملزمة ، فالعقل الحاكم في باب الامتثال إنما يحكم بلزوم إتيان ما فيه المصلحة
خاصة وهو الفعل الخارجي ، فلا يقتضي التكليف الالتزام قلبا ، ولعله إلى هذا نظر
صاحب الكفاية ، حيث قال لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك.
وكيف كان هذا
الوجه لا يثبت عدم الوجوب حتى يعارض ما استدل به للوجوب لو تمت دلالته.
فالعمدة التعرض
لأدلة الوجوب فان لم يتم شيء منها يكون المرجع ما ذكرناه.
فقد استدل له
بوجوه :
منها : انه من
مراتب شكر المنعم الذي هو واجب عقلا.
__________________
وفيه انه لا دليل
على وجوب شكر المنعم بكل ما يصدق عليه الشكر.
ومنها : أدلة حرمة
التشريع بدعوى انه لو علم الوجوب ولم يستند إليه تعالى بل استند الإباحة إليه يكون
محرما ولاوجه لحرمته سوى وجوب الالتزام بالحكم المعلوم.
وفيه : ان التشريع
هو استناد ما لم يعلم انه من الدين إليه تعالى ، وقد دل الدليل على حرمة ذلك ،
واما لو علم التكليف ولم يستند إليه تعالى لا هو ، ولا غيره ، فهو ليس من التشريع
فلو ثبت وجوب الموافقة الالتزامية يكون عدم الاستناد موجبا للعقاب ، وإلا فلا.
ومنها : أدلة وجوب
قصد القربة في العبادات فانه لا يكون إلا مع التصديق بأنه مأمور به فالالتزام يكون
من لوازم وجوب الإتيان بالعبادة بداعي الأمر ، فيكون واجبا : بما دل على وجوب
العبادة.
وفيه ، أولا : انه
أخص من المدعى.
وثانيا : ان مورد
الكلام كما عرفت ثبوت اقتضائين لكل تكليف ، وفي التعبديات ، الالتزام ، والعمل
الخارجي ، لا يكونان إلا أمرا واحدا ، والأمر يقتضيهما باقتضاء واحد ، وكون
الالتزام في مورد محققا لمقتضى التكليف ومتعلقه لا يوجب كونه بنفسه مطلوبا آخر.
وثالثا : انه قد
يؤتى بالعبادة من دون التزام أصلاً كما لو علم بمحبوبية شيء ولم يعلم وجوبه
واستحبابه فانه يأتي به بداعي الأمر بلا قصد لخصوص الوجوب أو الاستحباب فتدبر.
ومنها : استقلال
العقل بقبح عدم الالتزام بما جاء به النبي (ص) من الأحكام لكشفه عن نقص العبد
وانحطاط درجته لديه بخلاف ما لو التزم به فانه لكشفه عن كمال العبد وقربه إلى ربه
يكون حسنا.
وفيه : ان وصول
هذا إلى حد اللزوم غير ثابت ويحتاج إلى دليل مثبت له.
ومنها : ما دل على
وجوب تصديق النبي فيما جاء به من الأحكام.
وفيه ، أولا : ان
مقتضى هذا الوجه تصديقه في الأحكام وغيرها بل في الأخبار أيضاً ، ولا يختص
بالتكاليف اللزومية.
وثانيا : انه إنما
يقتضي تصديقه فيما ثبت كونه من النبي (ص) بأي نحو ثبت ، إجماليا كان ، أم تفصيليا
ولا يقتضي وجوب الالتزام بكل حكم تفصيلا وان لم يثبت ذلك كذلك.
وثالثا : ان معنى
تصديق النبي تصديقه ان ما يأتي به من الأحكام من قبل الله تعالى ، وهذا يجتمع مع
عدم الالتزام بما أوجبه الله تعالى.
فتحصل انه لا دليل
على وجوب الموافقة الالتزامية فالأظهر عدم وجوبها.
واما الجهة
الثانية : فان ثبت وجوب الموافقة الالتزامية ، فان كان مقتضى الدليل وجوب الموافقة
الالتزامية بأحكام الله تعالى على النحو الثابت للمكلف ، فهو لا يمنع من جريان
الأصول : إذ الثابت إنما هو وجوب أحد الفعلين فيلتزم به كذلك ، وإجراء الأصول
والحكم ظاهرا ، بإباحة كل واحد بعينه ، لا ينافى ذلك فانه يلتزم بإباحة كل منهما
ظاهرا ووجوب أحدهما واقعا ، وان كان مقتضى الدليل هو الالتزام بكل حكم بشخصه ،
وعدم كفاية
الالتزام الإجمالي
، لزم سقوط وجوبها مع العلم الإجمالي : لعدم القدرة عليه ، والبناء على كونه مخيرا
في الالتزام بأحدهما باطل ، لاستلزامه التشريع المحرم ، كما انه يلزم ذلك لو بنى
على الالتزام بكل منهما بعينه كي يتحقق الالتزام الواجب كسائر موارد تردد المكلف
به فيها ، أو على الالتزام بأحدهما بالخصوص.
فالمتحصّل مما
ذكرناه انه لا مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، وموارد دوران الأمر
بين المحذورين من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية.
ثم ان الشيخ
الأعظم أفاد في دفع محذور عدم الالتزام به ، بل الالتزام بخلافه :
بان الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ، فيرتفع موضوع لزوم الالتزام.
وأورد عليه في
الكفاية بأنه مستلزم للدور ، وحاصل ما أفاده ان جريان الأصول يتوقف
على عدم المانع عنه ، ومن جملة الموانع الإذن في المخالفة الالتزامية الذي ، هو
لازم التعبد بعدم الحكم المعلوم بالإجمال ، لان ذلك قبيح فيكون مانعا ، وعدم هذا
المانع يتوقف على نفى الحكم الواقعي ، كي لا يكون مقتضيا للموافقة الالتزامية ونفى
الحكم الواقعي موقوف على جريان الأصل ، فصحة جريان الأصول تتوقف على نفسها وكذلك
عدم الحكم.
__________________
ويرد عليه ان
جريان الأصل ، لا يتوقف على نفى الحكم ، بل هو مفاد الأصل ، ولا يلزم من نفى الحكم
بالأصل الإذن في المخالفة الالتزامية المحرمة : لعدم حرمتها مع نفى الحكم : لان
الدليل المثبت لهذا التكليف أي وجوب الموافقة الالتزامية كسائر أدلة الأحكام لا
نظر له إلى موضوعه ، وهو الحكم ، فهو لا يصح ان يكون مانعا عن الأصل النافي
للموضوع.
قطع القطاع
الموضع السابع :
حكي عن الشيخ الكبير عدم اعتبار قطع القطاع.
والمراد من القطاع
ليس من يحصل له القطع كثيرا لكونه عالما بالملازمات في غالب الأشياء بالفراسة
الفطرية أو الاكتساب ، بل المراد به من يحصل له القطع من الأسباب غير العادية بحيث
لو اطلع غيره عليها لا يحصل له القطع منها ، في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له
القطع من الأسباب العادية.
وعلى هذا فان كان
مراد الشيخ من قطع القطاع القطع الطريقي المحض فإشكاله واضح ، لما مر من ان حجية
القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل إثباتا ونفيا.
وان أراد منه
القطع الموضوعي ، فقد وافقه جماعة :
__________________
منهم الشيخ الأعظم
، والمحقق الخراساني نظرا إلى ان أمره سعة وضيقا بيد المولى ، فله ان يأخذ في
موضوع حكمه قسما خاصا من القطع ، وهو الحاصل من الأسباب المتعارفة العادية.
ولكنه يندفع بان
القطاع ، وان كان يمكن التفاته إلى ان نوع قطعه يحصل من سبب لا ينبغي حصوله منه
إلا ان شخص القطع الحاصل من السبب الخاص ، لا يمكن ان يلتفت إلى حصوله مما لا
ينبغي حصوله منه ، وإلا انقلب قطعه. وبعبارة أخرى : في كل قطع شخصي حين حصوله يرى
انه حاصل من سبب ينبغي حصوله منه.
وعليه فلا فائدة
في اختصاص الدليل ، فلا مناص عن البناء على الإطلاق ، فالأظهر عدم إمكان منع
القطاع عن العمل بقطعه مطلقا ، من غير فرق بين الآثار العقلية ، والشرعية.
القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة
الموضع الثامن :
المنسوب إلى جملة من الإخباريين ، عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية.
__________________
وأنكر المحقق
الخراساني (ره) هذه النسبة ، وأفاد انهم في مقام منع الصغرى : فان بعضهم
كالسيد الصدر ، في مقام منع الملازمة بين حكم العقل والشرع ، وبعضهم كالمحدث
الاسترآبادي في مقام بيان ان المقدمات العقلية لا تفيد إلا الظن ، فلا يجوز
الاعتماد عليها.
ولكن الشيخ الأعظم
نقل في الرسائل كلمات جماعة منهم غير العلمين المذكورين ، وهي صريحة في منع
الكبرى.
وكيف كان فتنقيح
القول بالبحث في مقامين :
الأول : في الصغرى
وانه ، هل يحصل القطع بالحكم الشرعي من غير الكتاب والسنة أم لا؟
الثاني : في انه ،
هل يصح المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غيرهما ، أم لا؟ ولنقدم الكلام في المقام
الثاني.
وقد ذكروا في
توجيه كلام الإخباريين الظاهر في صحة المنع ، وجوها.
الأول : ما يظهر
من الشيخ الأعظم (ره) وصرح به المحقق العراقي (ره)
__________________
وهو انه يمكن ان
يردع الشارع عن القطع الحاصل من غيرهما بان يقول : ان القطع الحاصل عن تقصير
المكلف في مقدمات حصول قطعه ، لا يكون معذورا عند مخالفته للواقع.
وفيه : انه كما لا
يعقل الردع عن منجزية القطع كذلك ، لا يعقل الردع عن معذريته عند المخالفة ،
لأنهما من لوازم القطع التي لا تنفك عنه ، وقد مر في أول الكتاب انه لا يمكن النهي
عن العمل بالقطع في كلا أثريه.
الثاني : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) ، وحاصله انه حيث لا يمكن اخذ العلم بالحكم في موضوع نفس
ذلك الحكم لاستلزامه الدور ، لا يمكن الإطلاق لان التقابل بينهما تقابل العدم
والملكة ، فإذا امتنع أحدهما امتنع الآخر ، وحيث ان الإهمال النفس الآمري غير
معقول فلا بد : إما من نتيجة الإطلاق. أو نتيجة التقييد ، إذ الملاك المقتضي
لتشريع الحكم ان كان محفوظا في كلا الحالين ، لا بد من الإطلاق ، وإلا فمن التقييد
، وحيث لا يمكن ان يكون الجعل
__________________
الأولى متكفلا
لبيان ذلك فلا بد من جعل آخر ، ليستفاد منه نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد ، فإذا
دل دليل على اختصاص حكم بخصوص العالم كما في ، الجهر والاخفات ، والقصر والإتمام ،
نلتزم به.
وإذا صح اخذ العلم
بالحكم شرطا في ثبوت الحكم ، صح اخذ العلم بالحكم من وجه وسبب خاص مانعا عن ثبوت
الحكم ، بحيث لا يحكم مع العلم به من ذلك السبب كما في باب القياس حيث قام الدليل
على انه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق القياس كما في رواية أبان في مسألة دية الأصابع.
وفيه : مضافا إلى
ما تقدم في مبحث اخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، من ان المانع إنما هو
في مقام الثبوت ، لا في مقام الإثبات كي يرتفع بتعدد الدليل.
ومضافا إلى ما مر
في مبحث التعبدي والتوصلي من ان استحالة التقييد لا تستلزم استحالة الإطلاق ، بل
لازمها ضرورية الإطلاق أو التقييد بضده ، وحيث ان التقييد بالجاهل أيضاً محال
فيكون الإطلاق ضروريا.
ان لازم ما أفاده
التصرف في ناحية المعلوم ، وانه لا يحصل العلم بالحكم من غير الكتاب والسنة ، مع
ان صريح كلمات جماعة منهم عدم العبرة بالعلم بالحكم من غير هما.
__________________
واما مسألة الجهر
والاخفات ، والقصر والتمام فليس الأمر فيهما ما أفاده من اختصاص الحكم بالعلم ، بل
المستفاد من الأدلة إجزاء أحدهما عن الآخر ، وإجزاء التمام عن القصر عند الجهل
بالحكم على ما فصلناه في محله.
الثالث : ان حكم
العقل بوجوب اتباع القطع حكم تعليقي على عدم ردع الشارع عن خلافه.
وفيه : ما تقدم في
أول الكتاب من ان حكمه تنجيزي لا تعليقي.
الرابع : انه في
العبادات التي يعتبر قصد القربة المنوط بالجزم بالأمر الشرعي ، للشارع ان يقيد
القربة المعتبرة في المأمور به بالقرب الناشئ عن خصوص الجزم الناشئ عن الأدلة
السمعية لا مطلقا.
وفيه : ان هذا وان
كان ممكنا ، إلا انه لا دليل على هذا التقييد أولا ، وهو أخص من المدعى ثانيا :
لاختصاصه بالعبادات.
فتحصل انه لا يصح
النهي عن العمل بالقطع الحاصل عن غير الكتاب والسنة.
واما المقام الأول
: فملخص القول فيه ان الحكم العقلي على أقسام :
الأول : ان يدرك
العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل.
الثاني : ان يدرك
حسن فعل أو قبحه بمعنى ان يدرك استحقاق فاعله المدح أو الذم.
الثالث : ان يدرك
أمرا خارجيا كاستحالة اجتماع النقيضين ، ولكن بضميمة حكم شرعي إليه يستكشف حكما
شرعيا في مورده.
أما القسم الأول :
فالحق مع المنكرين للملازمة بحسب الغالب ، وذلك لعدم إحاطة عقول البشر بملاكات
الأحكام ومناطاتها : إذ لعل المصلحة المدركة مزاحمة بمفسدة في موردها ، ولاجلها لا
يصلح لمنشئية جعل الوجوب ، أو ان هناك مانعا آخر ، عن جعل الوجوب.
وعليه فلا يمكن
استكشاف الحكم الشرعي ، ولكن إذا فرضنا في مورد العلم بثبوت الحكم الشرعي فيه ، قد
مر انه ليس للشارع النهي عن العمل به.
واما القسم الثاني
: فإدراك الحسن والقبح ، إنما يكون لدرك المصلحة والمفسدة ، أو لامر الشارع ونهيه
ولا ثالث ، وعلى الأول يدخل في القسم الأول ، وعلى الثاني لا يصلح لمنشئية جعل
الوجوب والحرمة لكونه في طولهما وقد تقدم تفصيل القول في ذلك فراجع.
واما القسم الثالث
: فاستكشاف الحكم الشرعي فيه لا ينكر مثلا يستكشف وجوب المقدمة من حكم العقل
بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته ، بضميمة وجوب ذي المقدمة.
بقى في المقام
أمران :
الأمر الأول : انه
قد يتوهم ان جملة من النصوص الكثيرة تدل على المنع عن العمل بالأحكام الشرعية ما
لم يتوسط تبليغ الحجة إياها.
ولكنه فاسد ،
فإنها ما بين طوائف :
الأولى : ما تدل
على المنع عن العمل بالقياس والاستحسانات والاعتبارات الوهمية كما عليه العامة.
الثانية : ما يدل
على اعتبار الولاية في صحة العبادات.
الثالثة : ما يدل
بظاهرها على اعتبار تبليغ الحجة في وجوب امتثال الأحكام.
أما الطائفتان
الأوليتان ، فهما أجنبيتان عن المقام كما هو واضح.
واما الأخيرة
فالجواب عنها : انه إذا استكشف الحكم الشرعي من حكم عقلي لا محالة يستكشف تبليغ
الحجة إياها لقوله (ص) ما من شيء يقربكم إلى الجنة الخ ، مع انه إذا استكشف الحكم الشرعي من دليل عقلي ، تكون
الحجة الباطنية ، واسطة في ثبوت الحكم ، مع انه لو سلم ظهور الأخبار في ذلك لا بد
من رفع اليد عن ظاهرها بواسطة البراهين القطعية القوية التي لا يمكن إثبات أساس
الدين بأقوى منها.
الفروع التي توهم فيها المنع عن العمل بالمقطع
الأمر الثاني : في
الفروع التي توهم فيها ، المنع عن العمل بالقطع بالحكم.
والجواب الإجمالي
في جميع تلك الفروع ان الحكم الذي نريد إثباته ويكون مخالفا للعلم ويلزم منه المخالفة
العملية ، ان كان حكما ظاهريا ، لا يثبت لأنه يكون في فرض الجهل بالواقع وان كان
حكما واقعيا ، فهو يوجب التخصيص
__________________
في ذلك الدليل ،
نظير الدليل الدال على ثبوت حق المارة ، فانه لا يصح ان يقال ان هذا الحكم مخالف
لما علم من حرمة أكل مال الغير بغير رضاه ، فانه يختص بغير هذا المورد ، واما
الجواب التفصيلي فهو يتوقف على بيان كل واحد منها.
الأول : ما لو
اودع شخص درهمين عند شخص ، واودع الآخر عنده ، درهما واحدا ، فتلف أحد الدراهم عند
الودعي : فانهم حكموا بأنه لصاحب الدرهمين درهم ونصف ولصاحب الدرهم نصف درهم ، فلو
انتقل النصفان منهما إلى ثالث بهبة ، ونحوها واشترى بمجموعهما ثوبا ، فانه يعلم
تفصيلا بعدم دخول الثوب بتمامه في ملكه لان بعض الثمن ملك الغير قطعا فلا يجوز
الصلاة فيه ولا لبسه ولم يلتزم الأصحاب بذلك.
وأجيب عنه بأجوبة
: منها : ان الخبر الذي يكون مستند هذه الفتوى ضعيف السند ذكره الشهيد (ره)
وفيه انه بعد
إفتاء الأصحاب بمضمونه لا مجال للمناقشة فيه سندا.
__________________
ومنها : ان
الامتزاج موجب للشركة ويوجب صيرورة كل جزء من الدراهم بينهما أثلاثا ، فما سرق
يكون من مالهما ، لا من أحدهما حتى يلزم المحذور المذكور.
وفيه : ان
الامتزاج في مثل المقام لا يوجب الشركة كما هو محرر في محله ، مع ان لازم ذلك
إعطاء درهم وثلث لصاحب الدرهمين وثلثي الدرهم ، لصاحب الدرهم الواحد كما نسب إلى
العلامة (ره) الالتزام بذلك.
ومنها : انه لا
يكون الحكم في نفسه تاما.
وفيه انه لاوجه له
سوى ضعف سند المدرك الذي عرفت ما فيه.
ومنها : ان
الدرهمين الباقيين أحدهما لصاحب الدرهم قطعا فيعطى له ، والباقي يحتمل ان يكون له
، ويحتمل ان يكون لصاحب الدرهم الواحد ، فيكون مالا مرددا بينهما لا بينة لاحدهما
على كونه له ، ولا يحلف على ذلك.
فمقتضى قاعدة
العدل والإنصاف التي هي من القواعد العقلائية التي أمضاها الشارع ، ويكون مبناها
على تقديم الموافقة القطعية في الجملة والمخالفة القطعية كذلك على الموافقة
والمخالفة الاحتماليتين في باب الأموال ، هو تنصيفه بينهما.
وفيه : لازم هذا
الوجه هو جوار التصرف لكل منهما فيما أعطى له جوازا
__________________
ظاهريا وعليه فلو
اجتمعا عند ثالث ، واشترى به ثوبا ، فهو يعلم تفصيلا بعدم انتقال الثوب بتمامه
إليه والحكم الظاهري لا يكون حجة مع العلم التفصيلي بالخلاف ، ولازم ذلك عدم جواز
التصرف فيه.
ودعوى : انه بعد
كون كل من النصفين مما يجوز تصرف من تحت يده فيه ، لو انتقلا إلى ثالث يجوز تصرفه
فيهما واقعا لان جواز تصرف ذي اليد في المال ولو ظاهرا موضوع لجواز تصرف من انتقل
إليه ذلك المال واقعا ، فلا يحصل العلم لثالث بعدم جواز تصرفه في أحدهما واقعا.
مندفعة : بان
قاعدة اليد أيضاً من الأمارات ولا يكون متكفلة لبيان حكم واقعي ولا توجب تبدل
الواقع.
ومنها : القول
بكون ذلك من باب الصلح القهري فبالتعبد الشرعي ، من باب الولاية ، يدخل كل من النصفين في ملك واحد منهما
، فكل يملك النصف واقعا فلا يحصل العلم المزبور لو اجتمعا عند ثالث.
الفرع الثاني : لو
اختلف المتبايعان في تعيين المبيع مع الاتفاق على الثمن ، أو في تعيين الثمن مع
الاتفاق ، على المثمن مع عدم البينة فانهم ذكروا انه لو حلف أحدهما فيحكم له وان تحالفا يحكم بالانفساخ ،
ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى ملك مالكهما فلو انتقل ما اتفقا على كونه أحد
العوضين أو انتقل ، كل من ما وقع الاختلاف فيه إلى ثالث واشترى بها شيئا فهو يعلم
بعدم
__________________
انتقاله إليه وعدم
جواز تصرفه فيه مع انهم أفتوا بالجواز.
وفيه : أولا ان
اصل الحكم غير مسلم إذ لم يذكروا له مدركا سوى النبوي : (المتبايعان إذا اختلفا
تحالفا وترادا) .
وان مقتضى حلف كل
منهما على نفي قول الآخر سقوط دعواه فيكون كان لم يقع عقد بينهما.
ولكن يرد على
النبوي مضافا إلى ، ضعف السند ، وعدم الانجبار بالعمل ، إذ لعل المشهور استندوا
إلى وجه آخر : انه يلزم من العمل به تخصيص الأكثر لعمومه لجميع صور الاختلاف كما
لا يخفى.
واما الوجه
الثاني. فيرد عليه أولا : ان الحلف لا يوجب فسخ العقد وإنما يكون هذه القواعد
قواعد ظاهرية محكمة في صورة الشك والجهل لامع العلم.
وثانيا : ان حلف
كل منهما على نفي قول الآخر إنما هو في التعيين ، وإلا فهما متفقان على وقوع عقد
بينهما فالساقط بالحلف هو التعيين ، لا اصل العقد الذي هو معلوم ومتفق عليه.
وثالثا : انه لو
سلم الحكم بالانفساخ فان قلنا بأنه بالتحالف ينفسخ البيع
__________________
واقعا ، ويرجع كل
من العوضين إلى مالكه فلا كلام ، وإلا فنلتزم بعدم جواز تصرف الثالث فيهما.
الفرع الثالث : لو
علم شخص إجمالا بجنابته أو جنابة صاحبه صح له ان يأتم به في الصلاة ، مع انه يعلم
ببطلان صلاته لجنابته أو جنابة أمامه.
وفيه : أولا : ان
المشهور بين الأصحاب عدم جواز الاقتداء في الفرض وإنما أفتى جماعة منهم بالجواز ،
متمسكا بأنها جنابة اسقط الشارع حكمها ، وبصحة صلاة كل منهما شرعا ، ولا دليل على
اعتبار ما زاد على ذلك : وبانا نمنع حصول الحدث إلا مع تحقق الإنزال من شخص بعينه
، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الثاني من فقه الصادق وبينا فساد هذه الوجوه ، وان الأقوى هو عدم الجواز.
وثانيا : انه لو
سلم جواز الاقتداء يمكن ان يقال ان جواز الاقتداء واقعا يتوقف على إحراز الإمام
صحة صلاته ، ولو ظاهرا وان أحرز المأموم فسادها ، وعليه فلا يحصل العلم المزبور
كما لا يخفى.
الفرع الرابع : لو
اختلفا في ان تمليك العين الخارجية كان بالهبة ، أو بالبيع ، ولم يكن لاحدهما بينة
، وتحالفا قالوا ، يرد العين إلى مالكها الأول مع العلم التفصيلي بخروجها عن ملكه.
وفيه : أولا انه
إذا كان أحد الاحتماليين كونه هبة جائزة لا يلزم من الرد العلم المزبور ، بل يعلم
بكونه ملكا له ، أما على فرض كونه هبة جائزة فلكون
__________________
نفس إنكاره لها
رجوعا ، واما على فرض كونه بيعا فلامتناع المشترى من أداء الثمن ، فيكون البائع
بالخيار فأخذه العين رد للبيع ، فهو يرجع إلى ملكه على كل تقدير ، وان كان احد
الاحتمالين كونه هبة لازمة فحيث ان أحد الاحتمالين كونه بيعا وله الخيار في فسخه
يحتمل صيرورته ملكا له بالرد فلا يحصل العلم المزبور.
وثانيا : انا لا
نسلم هذا الحكم من رأسه ، بل يقدم قول مدّعي الهبة لاصالة البراءة فالحلف وظيفته ،
فلو حلف ينتقل المال إليه من دون عوض ، ولو نكل يحلف صاحبه ويحكم له.
وثالثا : لو سلمنا
الانفساخ بالتحالف نقول ان التحالف يوجب الانفساخ القهري كان في الواقع بيعا أو
هبة.
الفرع الخامس : لو
اقر بعين لشخص ثم أقر بها لشخص آخر ، قالوا ـ يعطى نفس العين للأول ويغرم للثاني
قيمة العين ، فيعلم اجمالا بعدم مالكية أحدهما لما تحت يده ـ فلو انتقل منهما
العين وقيمته إلى ثالث واشترى بهما جارية يعلم تفصيلا بعدم انتقالها إليه فيحرم
وطئها مع انهم لم يلتزموا به.
وفيه : ان جواز
تصرف الثالث فيهما وفيما جعل عوضا لهما مما لم يدل عليه آية ولا رواية فلا نلتزم
به.
الفرع السادس : لو
تداعى رجلان عينا بحيث يعلم بصدق أحدهما وكذب الآخر.
قالوا : الحاكم
يحكم بالتنصيف ، ولازم ذلك جواز شراء ثالث لنصفين ، مع
انه يعلم تفصيلا
بعدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي.
والجواب عن ذلك
يظهر مما ذكرناه في الفرع الأول.
كما انه يظهر مما
ذكرناه في هذه الفروع الحكم في سائر الفروع المذكورة في الرسائل.
الموضع التاسع في العلم الإجمالي
والبحث في العلم
الإجمالي في مقامين :
الأول : في ثبوت
التكليف وتنجزه به وعدمه.
المقام الثاني :
في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي بعد الفراغ عن ثبوته مع إمكان الامتثال التفصيلي.
أما المقام الأول
: فيقع البحث فيه في موردين.
المورد الأول : في
ان العلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، فلا يجوز ترك المجموع
من الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وارتكاب المجموع في الشبهة التحريمية أم لا؟
المورد الثاني ،
في تنجيز العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية وعدمه بمعنى انه يجب
الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية والإتيان بجميع الأطراف في الشبهة
الوجوبية.
والبحث في كل من
الموردين مبتنٍ على أحد طرفي الترديد في المورد الآخر ، فان البحث عن وجوب
الموافقة القطعية إنما هو بعد الفراغ عن حرمة المخالفة القطعية ، وإلا فمع القول
بعدم حرمتها لا مورد للبحث في وجوب الموافقة القطعية ، كما ان البحث عن حرمة
المخالفة القطعية إنما هو على القول بعدم وجوب الموافقة القطعية ، وإلا فمع القول
بوجوبها ، لا يبقى مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها ولهذه الجهة لا
يكون البحث في أحد الموردين مغنيا عن البحث في الآخر.
ثم ان مسألة تنجز
العلم الإجمالي للحكم معنونة هنا وفي باب البراءة والاشتغال.
وأفاد الشيخ
الأعظم (ره) ان المناسب في المقام هو البحث في المورد الأول ، والمناسب
لبحث البراءة البحث في المورد الثاني.
إذ البحث في
المورد الثاني عن جواز ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية وارتكاب البعض في
التحريمية ، وليس في بعض الأطراف إلا احتمال التكليف كما هو الحال في الشبهة
البدوية.
واما البحث في
المورد الأول ، وهو جواز ارتكاب المجموع في التحريمية وتركها في الوجوبية فهو بحث
عن مخالفة العلم الإجمالي لان ثبوت التكليف معلوم.
__________________
والمحقق الخراساني
(ره) يدعي ان المناسب في المقام هو البحث عن كون العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب
الموافقة القطعية ، وحرمة المخالفة القطعية هل يكون بنحو العلية أو الاقتضاء ، ثم
بعد الفراغ عن كونه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى كليهما ، أو أحدهما ، يبحث في باب
الاشتغال عن ثبوت المانع وعدمه.
والظاهر : ان الحق
مع المحقق الخراساني إذ المناسب للبحث في المقام ، هو البحث عن كل ما هو من شئون
العلم ، وفي باب الاشتغال البحث عن كل ما يكون من شئون الجهل كما هو واضح ، وحيث
انه في العلم الإجمالي كلتا الجهتين موجودتان ولا بد وان يبحث عن كلتيهما ، ففي
المقام يبحث عن كون العلم المخلوط بالجهل مقتض للتنجز ، أم علة تامة له ، وفي باب
الاشتغال يبحث عن ان الشك المقرون بالعلم ، هل يصلح بواسطة جريان الأصول ان يمنع
عن التنجيز ، أم لا؟
ثم انه قد يتوهم
التنافي بين ما ذكره المحقق الخراساني في المقام من ان العلم الإجمالي مقتض
للتنجيز ، وبين ما يصرح به في مبحث الاشتغال من كونه علة تامة له.
ولكنه ناشئ من عدم
التدبر في كلماته ، ولتوضيح ما أفاده في الموردين والجمع بين كلاميه ، لا بد من
تقديم مقدمة :
وهي انه من جملة
كلماته ، ان التكليف قد يكون فعليا من جهة ، وقد
__________________
يكون فعليا من
جميع الجهات ، ومراده من ذلك على ما يظهر من ما ذكره في بعض مباحث الكفاية ،
والتعليقة ، وهو المنقول من مجلس بحثه ، ان الغرض من التكليف قد يكون بحد يوجب
قيام المولى مقام البعث ، وإيصاله إلى المكلف ولو بنصب طريق أو إيجاب الاحتياط ،
وفي مثل ذلك لا يجوز الترخيص في مخالفته ، وقد لا يكون بهذا الحد ، بل بحيث إذا
وصل من باب الاتفاق لتنجز ، وكان سببا لتحصيل الغرض من المكلف ، وفي مثله يجوز
الترخيص في خلافه وسد باب وصوله ، فان كان التكليف على النحو الأول فهو فعلى من
جميع الجهات ، وان كان على النحو الثاني فهو الفعلي من جهة ، هذا في مقام الثبوت.
واما في مقام
الإثبات فان دل دليل خاص على كونه فعليا من جميع الجهات ، كما في الأبواب الثلاثة
، الدماء ، والأعراض ، والأموال عند المشهور فهو ، وإلا فمقتضى إطلاق أدلة الأصول
، الشامل لأطراف العلم الإجمالي كون الغرض من قبيل الثاني وكون الحكم فعليا من
جهة.
إذا عرفت هذه
المقدمة يظهر اندفاع التوهم المذكور فانه في مبحث الاشتغال يصرح بأنه علة تامة إذا
تعلق بالتكليف الفعلي من جميع الجهات ، واما كلامه في المقام ، فهو فرع عدم إحراز
ذلك ، فمن جريان الأصول يستكشف كون التكليف فعليا من جهة.
هل العلم الإجمالي منجز للتكليف ، أم لا؟
وكيف كان فالبحث
في كل من الموردين ، أي البحث في حرمة المخالفة القطعية ، ووجوب الموافقة القطعية
في المقام يقع في موردين :
الأول : في ان
العلم الإجمالي هل يكون منجزا للتكليف في الجملة أم لا؟
وبعبارة أخرى : هل
العقل يرى العلم الإجمالي بيانا كالعلم التفصيلي كي لا يجري معه قاعدة قبح العقاب
بلا بيان أم لا؟
الثاني : في ان
تأثير العلم الإجمالي في التنجز ، هل هو بنحو الاقتضاء ، أو العلية ، بمعنى انه هل
يمكن للشارع إلا قدس ان يرخص في المخالفة القطعية أو الاحتمالية ، أم لا؟
فالكلام يقع في
مباحث أربعة :
المبحث الأول : في
تأثير العلم الإجمالي في حرمة المخالفة القطعية وعدمه ، وقد يقال انه يعتبر في حكم
العقل بقبح المخالفة ان يكون المكلف عالما بالمخالفة حين العمل لعدم تحقق العصيان
إلا مع العلم بها ، ولا يكفي في حكم العقل بالقبح احتمال التكليف حين الارتكاب ،
ولا حصول العلم بالمخالفة بعد ارتكاب الجميع ، ولذا في الشبهات البدوية مع احتمال
التكليف يجوز الارتكاب تمسكا بأصالة البراءة ، ولا مانع من تحصيل العلم بحرمة ما
فعله بالسؤال أو بغير ذلك.
وعلى الجملة العقل
إنما يستقل بقبح الإقدام على العمل إذا علم حينه انه مخالفة للمولى ، واما الإتيان
بأمور يعلم بعد ارتكابها انه خالف المولى فيها ، ويكون حين العمل شاكا في ذلك ،
فلا يستقل العقل بقبح الإقدام عليها.
وفيه : ان الشك في
التكليف ان كان توأما مع عدم وصوله من حيث الصغرى ، كما في الشبهات الموضوعية ، أو
الكبرى كما في الشبهات الحكمية ،
يكون موردا لقاعدة
قبح العقاب بلا بيان ، وبها يرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، وذلك كما
في الشبهات البدوية ، فيجوز الارتكاب ، ومع ذلك لا يبقى مورد لحكم العقل بقبح
المخالفة.
واما ان كان
احتمال وجود التكليف في كل مورد مقرونا بالعلم الإجمالي بوجود الحكم في أحد
الطرفين ، فلا محالة لا يكون موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل يكون موردا
لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.
وان شئت قلت ، انه
لا يعتبر في حكم العقل بقبح مخالفة التكليف ، سوى وصول التكليف من حيث الصغرى
والكبرى ، ولا يعتبر فيه تمييز المتعلق عن غيره ، ولذلك ترى انه لم يشك أحد في حكم
العقل بقبح النظر دفعة إلى امرأتين يعلم بحرمة النظر إلى إحداهما ، مع ان متعلق
التكليف غير مميز ، فإذا وصل التكليف بالعلم الإجمالي استقل العقل بقبح مخالفته ،
وان شئت فاختبر ذلك بمراجعة العقلاء فانك تراهم لا يفرقون ، في قبح قتل ابن المولى
بين ما لو عرفه بشخصه ، وبين ما لو تردد بين شخصين ، وهذا هو الفارق بين المقام
والشبهات البدوية.
وحاصله انه في
المقام يكون مخالفة التكليف من ناحية العبد. وفي الشبهات البدوية يكون من ناحية
المولى فتدبر.
المبحث الثاني :
ان العلم الإجمالي بالقياس إلى حرمة المخالفة القطعية هل يكون بنحو العلية أو
الاقتضاء.
فقد اختار المحقق
الخراساني (ره) انه بنحو الاقتضاء ، بدعوى ان الحكم الواقعي حيث لم ينكشف
به تمام الانكشاف ففي كل طرف ليس إلا احتمال وجود التكليف ، فمرتبة الحكم الظاهري
معه محفوظة ، وموضوع الأصول متحقق ، فيجوز للشارع الإذن بمخالفته ، ومحذور مناقضته
مع المقطوع إجمالا ، إنما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي ، يرتفع
بما يرتفع به هذا المحذور في الشبهات غير المحصورة ، بل في الشبهات البدوية
لاستلزام جعل الحكم الظاهري ، فيها احتمال الجمع بين الضدين ، وبديهي ان احتمال
الجمع يبن الضدين كالقطع به محال ، والمحال مقطوع العدم ، دائما ، فما به التقصي
عن المحذور في تلك الموارد كان به التقصي في المقام.
وعلى الجملة
المقتضى للإذن موجود ، وهو الشك في كل مورد والمانع مفقود لما يجمع به بين الحكم
الظاهري والواقعي.
ويرد عليه أمران :
الأول : انه في
الشبهات البدوية ، إنما يلتزم بجواز الإذن وجعل الحكم الظاهري : نظرا إلى ان الحكم
الواقعي ، حيث لا يكون واصلا فلا يلزم العقل بلزوم اتباعه ، وحرمة مخالفته ، ومثل
هذا الحكم لا يكون مضادا مع الحكم الظاهري ، واما في المقام فالمفروض وصول الحكم
الواقعي ، وحكم العقل بوجوب اتباعه ، وحرمة مخالفته ، وهذا لا يلائم مع الحكم
الظاهري.
واما في الشبهات
غير المحصورة فيجيء في محله إنشاء الله تعالى ان القدر
__________________
المتيقن من موردها
، ما إذا لم يكن العلم الإجمالي منجزا إما لخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء ، أو
لغير ذلك من موانع التكليف.
واما ما أفاده في
وجه الجمع من عدم كون الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات مع عدم العلم به تفصيلا
، وعليه التزم في المقام بإمكان جعل الترخيص في كل من الأطراف فيجيء في محله انه
غير معقول لابتنائه على دخالة العلم في فعلية الحكم مع عدم أخذه في مقام الجعل.
الثاني : ان
المحذور ليس منحصرا في المناقضة كي يتم ما ذكره (ره) بل في المقام محذور آخر ، وهو
لزوم الترخيص في المعصية والاذن في الظلم.
توضيح ذلك يتوقف
على بيان أمور :
الأول : انه قد
تقدم في مبحث التجرِّي ، من ان ملاك استحقاق العقاب ، هو الظلم على المولى ، وعرفت
أيضاً انه إنما يتحقق فيما لو وصل تكليف المولى.
الثاني : ان
الحاكم ، بذلك هو العقل ، لا الشرع.
الثالث : ان محل
الكلام هو ما لو تعلق العلم بالتكليف الفعلي وإلا فالعلم التفصيلي لا يوجب تنجزه
فضلا عن العلم الإجمالي.
الرابع : ان
العناوين القبيحة ذاتا لا من باب انطباق عنوان آخر عليه كالظلم ، لا يمكن ان يطرأ
عليه ما يرفع قبحه.
الخامس : انه لا
فرق في حكم العقل بان مخالفة التكليف ظلم بين كونه واصلا بالعلم التفصيلي أو
الإجمالي.
إذا عرفت هذه
المقدمات تعرف ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى حرمة
المخالفة القطعية
، إنما يكون بنحو العلية ، ولا يعقل ثبوتا الترخيص في كلا الطرفين لأنه مستلزم
للإذن في الظلم ، مضافا إلى ان الترخيص في كلا الطرفين مستلزم لنقض الغرض من
التكليف ، إذ الغرض من الأمر جعل الداعي ومن النهي جعل الزاجر ، والترخيصان
مناقضان لذلك.
فتحصل ، ان الأظهر
كونه بنحو العلية بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية.
المبحث الثالث :
في ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، هل يكون له اقتضاء لوجوبها ،
أم لا؟
لا ريب في اقتضائه
له ، لفرض وصول الحكم ، فانه يحكم بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الواصل. وان شئت
قلت : ان مقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل لزوم الموافقة القطعية ، لاحتمال وجود
التكليف الواصل في كل طرف فلا يجري قبح العقاب بلا بيان.
المبحث الرابع :
في ان العلم الإجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، هل هو بنحو العلية كما
عن المحقق الخراساني إذا كان الحكم فعليا من جميع الجهات ، أم هو بنحو الاقتضاء
كما عن الشيخ الأعظم والمحقق النائيني وغيرهما.
__________________
وقد استدل للأول
بوجهين :
الأول : ما أفاده
المحقق الخراساني ، وهو ان احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما محال
فبما انه يحتمل وجود التكليف الفعلي في كل طرف فلا يصح الترخيص فيه.
وفيه : انه يرد
هذا الوجه ما يجمع به بين الحكم الظاهري والواقعي ، وثبت في محله عدم التنافي
بينهما ، ولذا ذكرنا في وجه عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية انه مستلزم
للترخيص في المعصية.
الوجه الثاني : ما
أفاده المحقق العراقي (ره) وحاصله انه لا شبهة في ان العلم الإجمالي يوجب تنجز الحكم
الواقعي بما له من الوجود الخارجي لا بوصف انه معلوم.
وبعبارة أخرى : ما
يتنجز إنما هو الحكم بنفسه لا صورته الذهنية ، وحيث انه يحتمل انطباقه على كل طرف
ففي كل من الأطراف يحتمل ثبوت التكليف المنجز وعليه فيكون موردا لقاعدة وجوب دفع
الضرر المحتمل لا قبح العقاب بلا بيان.
وفيه ، أولا :
النقض بموارد رخص الشارع في المخالفة الاحتمالية ، كما في مورد اشتباه القبلة ، إذ
مقتضى العلم الإجمالي هو الصلاة إلى الجوانب بحد يقطع بالصلاة إلى القبلة ولكن
الشارع المقدس رخص في ترك الموافقة
__________________
القطعية ، اما
بالاكتفاء إلى الصلاة إلى أربع جوانب ، أو الاكتفاء بالصلاة إلى جانب واحد كما هو
المختار تبعا لجمع من الاساطين ، وفي موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ، فان الشارع لم
يرفع اليد عن التكليف الواقعي ، ولذا لو انكشف الخلاف يجب الاعادة ، ولكن في مقام
امتثاله اكتفى بما يكون امتثالا احتماليا بل في جميع موارد الأمارات على الطريقية
الأمر كذلك.
وثانيا : الحل ،
وحاصله ان احتمال التكليف قد عرفت انه مع قطع النظر عن المؤمن يكون مساوقا لاحتمال
العقاب ، وليس معنى احتمال ثبوت التكليف المنجز إلا ذلك ، فكما انه في سائر
الموارد لا يكون هذا الاحتمال مانعا عن جريان الأصل كذلك في المقام.
وبعبارة أخرى :
انه مع عدم احتمال العقاب لا تجرى الأصول العقلية والنقلية للزوم اللغوية ، فمورد
جريانها إنما هو فيما احتمل العقاب.
فتحصل : ان الأظهر
انه بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية يكون مقتضيا لا علة تامة فيمكن ان يرخص
الشارع في تركها.
جواز الامتثال الإجمالي
واما المقام
الثاني : وهو سقوط التكليف بالعلم الإجمالي بان يوافقه إجمالا ، فلا ينبغي الإشكال
في جواز الامتثال الإجمالي مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي ، وإلا لانسد باب
الاحتياط ، مع انه في فرض عدم التمكن منه ، إما ان يسقط التكليف ، أو يكون مكلفا
بما لا يطاق ، أو يجوز الامتثال الإجمالي ، والأول
خلاف الفرض ، إذ
الفرض العلم بالتكليف والثاني محال ، فيتعين الثالث.
واما مع التمكن
منه ، فالكلام يقع تارة في التوصليات ، وباب العقود والإيقاعات ، وأخرى في
التعبديات.
أما في التوصليات
فلا إشكال في كفايته إذ المقصود فيها تحقق المأمور به في الخارج كيفما اتفق ، لان
به يحصل الغرض ، ويسقط الأمر بتبعه ، فلو احتاط ، وأتى بجميع المحتملات يحصل له
العلم بتحقق المأمور به في الخارج ، ويلحق بالتوصليات الوضعيات كالطهارة والنجاسة
، فلو غسل المتنجس بمائعين طاهرين يعلم إجمالا ، بان أحدهما ماء والآخر مضاف ، طهر
بلا إشكال.
وكذلك العقود
والإيقاعات فلو أتى بإنشاءات متعددة يعلم إجمالا بصحة أحدها يكفي في تحقق المنشأ
وان لم يتميز عنده السبب المؤثر.
ولكن استشكل جمع
من الفقهاء منهم الشيخ الأعظم الأنصاري ، في الاحتياط في العقود والإيقاعات ، إما
مطلقا كما عن جماعة هو منهم ، أو في خصوص ما إذا كان التردد من ناحية الشروط
المقوِّمة ، كالزوجية بالنسبة إلى الطلاق كما عن جماعة آخرين ، واستندوا في ذلك إلى انه مستلزم للإخلال بالجزم المعتبر
في الإنشاء : إذ الترديد ينافي الجزم ، ولذا لا يصح التعليق في الإنشاء ، وعلى ذلك
بنى الشهيد (ره) في محكي القواعد ، الجزم ببطلان عقد
__________________
النكاح ، فيما لو
زوجه امرأة يشك في أنها محرمة عليه فظهر حلّها ، وكذلك لو خالع امرأة أو طلقها وهو
شاك في زوجيتها فانه باطل وان تبين كونها زوجة ، وكذا لو ولى نائب الإمام قاضيا لا
يعلم أهليته وان ظهر كونه أهلا فانه لا يصير قاضيا.
ولكن الإشكال
المذكور لا يرجع إلى محصل.
وذلك لأنه في باب
العقود والإيقاعات أمور :
أحدها الاعتبار
النفساني من قبل المنشئ نفسه.
الثاني السبب الذي
يكون مظهرا لذلك الاعتبار النفساني.
الثالث إمضاء
الشارع لذلك ، والجزم إنما يعتبر في الأمر الأول ، فلو كان المعتبر مرددا في
اعتباره ، ومعلقا إياه على أمر مشكوك فيه كما لو قال وهبتك هذا المال ان كنت ابن
زيد مثلا ، أو ان جاء زيد ، مع التردد فيه ، لم يصح لأنه مردد في اعتباره ولا يدرى
تحققه لفرض تعليقه على أمر مشكوك الحصول ، وهذا هو الترديد المنافي لقصد الإنشاء
جزما ، إجماعا ، واما موارد الاحتياط في العقود والإيقاعات فلا ترديد في الإنشاء
بمعنى الاعتبار النفساني ، من قبل المنشئ ، بل هو جازم به ، غاية الأمر انه تردد
في ان السبب الممضى هو هذا أو ذاك.
وعلى الجملة
فالجزم المعتبر إنما هو بمعنى عدم التردد في الاعتبار النفساني المبرز باللفظ ،
وهو متحقق في موارد الاحتياط في العقود والإيقاعات التي هي محل الكلام ، مثلا من
ينشأ النكاح بجميع محتملاته جازم في ذلك الاعتبار
النفساني ،
والتردد إنما هو في ان السبب الممضى هذا أو ذاك ، وهو لا ينافى الجزم المعتبر في
الإنشاء هذا فيما إذا لم يكن التردد من ناحية قابلية المحل للاعتبار الشرعي ، واما
في ذلك المورد كما لو شك في كون امرأة محرمة عليه فزوجها فظهر حلها ، فلو اعتبر
زوجيتها مع الشك في ان الشارع أمضاها أم لا؟ فحيث لا تريد في اعتباره وهو جازم به
، فلا مانع من صحته إذ التردد في الحكم الشرعي لا ينافى الجزم المعتبر في الإنشاء
، بل العلم بعدم إمضاء الشارع لا ينافى الإنشاء لأنه اعتبار من قبل نفس المنشئ ولا
ربط له بالإمضاء الشرعي ولذا لو زوج امرأة معتقدا أنها محرمة عليه لا يصح تزويجها
، ثم انكشف حليتها يحكم بصحة النكاح المذكور.
واما في التعبديات
فمع عدم تنجز الواقع كما في الشبهة البدوية الحكمية بعد الفحص ، والشبهة الموضوعية
مطلقا ، فلا إشكال ولا كلام في الاحتياط فيها.
واما مع تنجز
الواقع كما في موارد العلم الإجمالي والشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص ، فربما
يستلزم الاحتياط التكرار ، وقد لا يستلزمه ، وعلى التقديرين فقد يكون المعلوم
بالإجمال أو المشكوك فيه استقلاليا كما في مورد دوران الأمر بين القصر والإتمام ،
وقد يكون ضمنيا كما في مورد دوران الأمر بين الجهر والاخفات في القراءة كما في ظهر
يوم الجمعة ، وعلى التقادير تارة يتمكن من الامتثال العلمي ، وأخرى يتمكن من
الامتثال الظني ، وما لم يستلزم التكرار قد يكون اصل الطلب معلوما في الجملة ،
وإنما الشك في الوجوب والاستحباب ، وقد لا يكون معلوما لاحتمال الإباحة فها هنا
مسائل.
المسألة الأولى :
فيما إذا كان الاحتياط مستلزما للتكرار وكان المعلوم بالإجمال استقلاليا وكان
متمكنا من الامتثال العلمي ، وفيها قولان ، وفي الرسائل لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم
جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على تكرار العبادة انتهى.
وقد استدل لعدم
الجواز بوجوه :
الأول : انه يوجب
الإخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة ، لأمور :
١ ـ الإجماع
المحكي على ذلك.
وفيه ، مضافا إلى
عدم ثبوته ، وإلى عدم ثبوت إجماع الفقهاء بما هم فقهاء : انه يحتمل بل يعلم استناد
المجمعين إلى الوجه العقلي الذي سيمر عليك وما فيه.
٢ ـ ان حسن
الأفعال وقبحها إنما يكونان مترتبين على العناوين القصدية فلو قصد العنوان الحسن
يتصف الفعل به ، وإلا فلا مثلا ضرب اليتيم إذا قصد به التأديب يكون حسنا ، وإلا
فلا ، فما دام لم يقصد العنوان الخاص الذي به يصير الفعل حسنا لما اتصف به ، وحيث
ان المكلف لا يكون محيطا بالمصالح والعناوين التي بها يصير الفعل العبادي حسنا فلا
بد من الإشارة الإجمالية إليه بالإتيان به بالعنوان الذي أوجبه الشارع ، لكونه
عنوانا إجماليا للعنوان الذي يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالحسن ، فيعتبر قصد الوجه
، لكونه قصدا للعنوان الحسن الذي لا يعنون الفعل الخارجي به إلا إذا قصده.
__________________
وفيه ، أولا : أن
من يأتي بعملين يعلم بوجوب أحدهما إنما يقصد الإتيان بكل منهما باحتمال الأمر
الخاص ، فعلى فرض كونه هو المأمور به ، فهو قاصد للأمر المتعلق به ، وهو عنوان
إجمالي للعنوان الحسن الذي يصير الفعل حسنا فالاحتياط غير مخل بذلك.
وثانيا : انه يكفي
في الإشارة إلى ذلك العنوان قصد القربة لان الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به.
٣ ـ انه يحتمل دخل
قصد الوجه في العبادة ولا يمكن نفى اعتباره بإطلاق دليل العبادة لأنه من القيود
التي على فرض دخلها لا يمكن أخذها في المأمور به شرعا ، ولا يمكن نفيه بالأصل بل
المتعين هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وأصالة الاحتياط ، ولا مورد للبراءة.
وفيه : مضافا إلى
ما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي ، من ان هذه القيود التي لا يمكن أخذها في
المتعلق لو احتمل دخلها في حصول الغرض ، يصح التمسك بالإطلاق لنفى اعتبارها.
وأيضا يصح التمسك
بالأصل لنفيه فراجع ما ذكرناه.
انه على فرض عدم
تمامية ما ذكرناه من صحة التمسك بالإطلاق ، والأصل في خصوص مثل قصد الوجه ، يصح
التمسك بالإطلاق المقامي لإثبات عدم دخله : إذ القيد ان كان مما يغفل عنه العامة
فعدم بيان المولى دخله ، ولو بالأخبار بدخله في الغرض ، دليل العدم سيما إذا كان
مما تعم البلوى به وتكثر الحاجة إليه ، فان عدم البيان حينئذ على فرض دخله في
الغرض إخلال بالغرض ، والحكيم لا يخل به فيستكشف من عدم البيان عدم دخله فيما يحصل
به الغرض ، وهذا
هو حقيقة الإطلاق المقامي.
فالأظهر عدم
اعتبار قصد الوجه.
الثاني : ان
الاحتياط يستلزم الإخلال بالتمييز ومراعاته لازمة.
واستندوا في لزوم
مراعاتها بالوجوه الثلاثة المتقدمة في قصد الوجه ، وقد عرفت نقدها ، فالأظهر عدم
اعتباره أيضاً.
الثالث : ان
التكرار لعب بأمر المولى وعبث فلا يصدق عليه الامتثال.
وأجاب عنه في
الكفاية بأمرين.
أحدهما : انه ربما
يكون لداع عقلائي.
وفيه : ان
الاشتمال على الغرض العقلائي لا يجدي في دفع المحذور لو سلم سراية اللعب إلى نفس
الامتثال فان المعتبر في العبادة قصد القربة واللعب ، لا يوجب القرب فلا يصح
التقرب به.
ثانيهما : ما
محصله ان اللعب والعبث لو كان ، فإنما هو في كيفية إحراز الامتثال وتحصيل اليقين
به واما الإتيان بما هو مصداق للواجب فهو شيء واحد لا لعب فيه ولا عبث وضم ما يكون
لعبا وعبثا باتيان المأمور به لا يوجب عدم تحقق الامتثال.
الرابع : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) ، وحاصله ان الإطاعة في نظر العقل
__________________
الذي هو الحاكم في
هذا الباب لا يتحقق إلا بإتيان العمل ، والانبعاث عن شخص أمر المولى ، وبعثه لا عن
احتماله ، وهذا المعنى غير متحقق في الامتثال الإجمالي ، فان الداعي له نحو العمل
في كل طرف هو احتمال الأمر ـ نعم ـ مع عدم التمكن منه يكون الامتثال الاحتمالي
إطاعة ، فالامتثال الإجمالي إنما يكون في طول الامتثال التفصيلي.
ثم على فرض عدم
استقلال العقل بذلك ، لا ريب في عدم استقلاله بعدمه ، فتصل النوبة إلى الأصل ، وهو
الاشتغال ، وان قلنا بالبراءة فيما إذا احتمل اعتبار مثل قصد الوجه : إذ الشك هنا
في كيفية الإطاعة الموكولة إلى حكم العقل لا فيما يمكن اعتباره شرعا.
وفيه : ان حقيقة
الإطاعة في نظر العقل ليست إلا إتيان المأمور به بجميع قيوده ، مضافا إلى المولى
وليس وراء ذلك للعقل حكم ، وهو لا يحكم باعتبار شيء زائد فيه ، ولا ريب في ان
الإضافة إليه تتحقق بالإتيان بداعي احتمال الأمر ، فلو كان معتبرا فيه الإتيان به
عن البعث الجزمي ، لكان ذلك باعتبار من الشارع وحيث انه لا دليل عليه ، فالأصل
يقتضي عدم اعتباره.
مع ان إتيان الفعل
باحتمال الأمر إنما ينطبق عليه عنوان الانقياد الذي هو من العناوين الحسنة بالطبع
، فما لم يمنع عنه مانع يكون متصفا بالحسن ، ولذا اختار هو (قدِّس سره) ان الامتثال الإجمالي من وجوه الطاعة وإنما منع في صورة
__________________
التمكن من
الامتثال التفصيلي ، والمانع المتصور ليس إلا إمكان الامتثال التفصيلي ، وهو لا
يوجب تعنون الامتثال الإجمالي بالعنوان القبيح.
مضافا إلى أنّا لا
نتصور اعتبار شيء في الطاعة بحكم العقل ، وان لم يعتبره الشارع ، إذ لو كان دخيلا
في الغرض كان كقصد الوجه والقربة مما على الشارع بيانه ، وان لم يكن دخيلا فيه لا
معنى لاعتباره.
فتحصل ان الاحتياط
وان استلزم تكرار العمل يكون حسنا ولا موجب للمنع عنه مع التمكن من الامتثال
العلمي التفصيلي.
وبه يظهر الحال في
سائر الموارد.
ثم لو تنزلنا عن
ذلك وسلمنا ، عدم جواز الاحتياط لو استلزم تكرار العمل. يقع الكلام في المسائل
الآخر.
المسألة الثانية :
ما إذا كان الاحتياط مستلزما لتكرار جزء العمل مع التمكن من الامتثال العلمي
التفصيلي.
وغاية ما يمكن ان
يقال أو قيل في وجه عدم جوازه أمران.
أحدهما : انه
يحتمل دخل قصد وجه الجزء ، والمرجع في مثل ذلك هو قاعدة الاشتغال ، وقد مر تقريبه
والجواب عنه.
ثانيهما : ما
أفاده المحقق النائيني من انه يعتبر الانبعاث عن البعث لا عن احتماله في صدق
الطاعة وقد مر الجواب عنه.
__________________
واما ما أفاده قدس
في وجه عدم جريان هذا الوجه في المقام من انه يكفي في صدق الطاعة الانبعاث عن
البعث الشخصي المتعلق بمجموع العمل ، ولا يتوقف على ان يكون المحرك نحو كل جزء من
العمل الأمر الضمني المتعلق به.
فيرد عليه ان
الأمر بالمجموع عين الأمر بالاجزاء فعند الإتيان بكل جزء لا محالة يكون المحرك
الأمر الضمني المتعلق به فإذا لم يكن متلعقه معلوما وأراد التكرار لا محالة يأتي
بكل واحد بداعي احتمال الأمر.
واما سائر الوجوه
من دعوى ، اخلال الاحتياط بقصد الوجه. والتمييز ، وكون الاحتياط لعبا وعبثا ، فلا
تجري في المقام.
أما الأول : فلان
دليل اعتباره لم يكن إلا الإجماع غير الثابت في المقام إذ المشهور عدم اعتباره
هنا.
وما ذكره
المتكلمون من ان حسن الأفعال إنما يكون ، بالعناوين القصدية وحيث أنها في العبادات
غير معلومة ، فلا بد من الإشارة الإجمالية إليها بالإتيان بها بقصد الوجه.
غير جار في
الأجزاء إذ قصد وجوب مجموع العمل يكفي في قصد ذلك العنوان الحسن ، ولا حاجة إلى
قصد وجه الجزء ، والجزء بما هو لا يكون معنونا بعنوان حسن مستقل كي يلزم قصده.
وبما ذكرناه ظهر
وجه عدم جريان الوجه الثاني.
واما الثالث :
فلان الاحتياط غير المستلزم لتكرار العمل لا يعد لعبا ولا
مجال لتوهم عده
كذلك.
المسألة الثالثة :
ما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار ، فان كان التكليف استقلاليا وكان اصل
الطلب معلوما ، كما إذا شك في ان غسل الجنابة واجب نفسي أو مستحب كذلك ، فالظاهر
انه لا إشكال في الاحتياط بإتيان المحتمل بداعي الأمر المعلوم وجوده ، ولا يكون
هناك ما يوجب المنع عن الاحتياط سوى ما نشير إليه وستعرف ما فيه.
وقد استدل للمنع
بوجوه :
١ ـ الإجماع.
٢ ـ كونه مخلا
بقصد الوجه والتمييز.
٣ ـ ان الانبعاث
عن البعث المحتمل إنما ينطبق عليه عنوان الإطاعة إذا لم يتمكن من الجزم بالأمر.
وقد مر الكلام في
الجميع ، ويضاف إليه انه لو سلم اعتبار قصد العنوان الخاص الذي يصير الفعل حسنا به
لا ينحصر ذلك بقصد الوجه خصوصا بقصد خصوصية الوجوب ، أو الاستحباب ، بل يمكن
الإشارة إليه بقصد الأمر المحرز على الفرض.
هذا كله في فرض
التمكن من الامتثال التفصيلي العلمي.
واما إذا لم يتمكن
منه ودار الأمر بين الاحتياط والامتثال التفصيلي الظني.
فتارة يكون الظن
مما ثبت اعتباره بالخصوص.
وأخرى يكون مما
ثبت الاكتفاء به بدليل الانسداد.
وثالثة مما لم
يثبت اعتباره.
أما القسم الأول :
فهو ملحق بالعلم التفصيلي بناء على ما هو الحق من ان المجعول في الأمارة المعتبرة
هو الطريقية والكاشفية ، وان الحجة المعتبرة ، علم بالتعبد ، فعلى القول بعدم جواز
الاحتياط مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي لا بد من البناء على عدم جوازه مع
التمكن من الامتثال الظنى وعلى القول بجوازه يجوز في المقام أيضاً.
نعم فرق بين العلم
الوجداني والظن المعتبر ، وهو انه مع العلم الوجداني لا مجال للاحتياط ، لعدم
احتمال الخلاف ، وله مجال مع الظن المعتبر ، فانه لا ينافى مع الاحتمال الوجداني
الذي هو الموضوع للاحتياط.
وعلى هذا وقع
الكلام بين الأعلام في جواز تقديم المحتمل على المظنون في صورة الاحتياط وعدمه ،
واختار المحقق النائيني (ره) الثاني ، ونسبه إلى الشيخ الأعظم ، والسيد الشيرازي (ره) ، حيث انه في مسألة دوران الأمر بين القصر والتمام ، لمن
سافر إلى أربعة فراسخ ، ولم يرد الرجوع في يومه ، اختار الشيخ
__________________
تقديم التمام على
القصر واختار السيد تقديم القصر على التمام ، قال (قدِّس سره) ان منشأ ذلك الاختلاف فيما يظهر من
الأدلة هل هو التمام أو القصر ، بعد اتفاقهما على الكبرى الكلية ، وهي وجوب تقديم
المظنون على المحتمل ، فالشيخ يرى انه وجوب التمام فاختار تقديمه على القصر عند
الاحتياط ، واستظهر السيد منها وجوب القصر فاختار تقديمه على التمام.
وكيف كان فقد
استدل له بوجهين :
أحدهما ما أفاده
المحقق النائيني (ره) ، وهو ان ذلك مبنى على تأخر مرتبة الامتثال الإجمالي عن
الامتثال التفصيلي فانه على هذا لو أتى ، أولا بالمحتمل فحيث انه يحتمل سقوط الأمر
، فلا مناص له عن إتيان المظنون بداعي احتمال الأمر ، وهذا بخلاف ما لو أتى به قبل
الإتيان بالمحتمل.
وفيه : مضافا إلى
ضعف المبنى كما مر ، انه لا يتم البناء أيضاً : إذ الإتيان بالمظنون إنما يكون
بداعي الأمر الجزمي التعبدي الثابت بالحجة المعتبرة قدم أو أخر ، فانه لو أتى
بالمحتمل أو لا يكون مقتضى الأدلة الخاصة بقاء الأمر ، فلا فرق بين التقديم
والتأخير.
ثانيهما : ما ذكره
الشيخ الأعظم (قدِّس سره) وحاصله : انه لو أتى بما قامت الحجة المعتبرة عليه ، أولا
فيأتي به مع قصد الوجه ، وهذا بخلاف ما لو قدم
__________________
المحتمل ، فانه
لاحتمال سقوط الأمر لا مجال لقصد الوجه.
وفيه : مضافا إلى
ما تقدم من عدم اعتبار قصد الوجه انه لا فرق بين التقديم والتأخير كما عرفت في
جواب المحقق النائيني (ره).
واما القسم الثاني
: فقد اختار الشيخ الأعظم تأخره عن الامتثال الإجمالي وتعجب من المحقق القمي (ره)
حيث انه بنى على حجية مطلق الظن من باب دليل الانسداد ، ومع ذلك ذهب إلى تقديم
الامتثال الظني على الامتثال الإجمالي .
وملخص القول في
هذا القسم انه لو كانت نتيجة المقدمات هي حجية الظن عليه المتوقفة على بطلان
الاحتياط للإجماع أو لغيره ، فحكمه حكم الظن الخاص ، ولا فرق بينهما إلا في الكاشف
عن الحجية والدليل عليها ، وان كانت نتيجتها هي الحكومة التي حقيقتها ، تضييق
دائرة الاحتياط ، ومن مقدماتها عدم وجوب الاحتياط ، لاوجه لتقديم الامتثال الظني
على الاحتياط كما لا يخفى.
والمحقق القمي (ره)
حيث يكون قائلا بالكشف ، ومصر عليه لا بالحكومة فعلى القول بتقديم الامتثال
التفصيلي على الامتثال الإجمالي ، يتم ما ذكره ، وإيراد الشيخ الأعظم (ره) عليه في
غير محله.
وبما ذكرناه يظهر
الحال في الظن غير المعتبر ، وانه لاوجه لتقديمه على الامتثال الإجمالي كما هو
واضح.
__________________
هذا تمام الكلام
فيما يتعلق بمباحث القطع.
والحمد لله أولا
وآخرا
* * *
المقصد السابع
من مقاصد علم الأصول
في
الأمارات
المقصد السابع
في الأمارات المعتبرة شرعا
وبعبارة أخرى : في
بيان ما يكون من الطرق الناقصة معتبرا شرعا أو قيل باعتباره ، وان شئت فعبر بالظن.
وكيف كان فقبل
الدخول في المباحث لا بد من التعرض لجهات :
الجهة الأولى : لا
شبهة في ان الظن ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمه ، بل ثبوتها له ، ولكل طريق
ناقص يحتاج إلى الجعل الشرعي ، إذ القطع بالحكم كما مر وصول للحكم ومخالفة التكليف
الواصل ظلم على المولى وخروج عن رسم العبودية وذي الرقية وقبح الظلم واستحقاق
اللوم من العقلاء والعقاب من الشارع عليه من الأحكام العقلية العملية الضرورية.
واما الظن بالحكم
وكذا الطريق الناقص إليه بما انه ليس وصولا له فالحكم على محجوبيته ومجهوليته
فمخالفته لا ينطبق عليها عنوان الظلم والتعدي بل مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (أي
بلا وصول) المقتضية لعدم منجزيته للحكم إلا بجعل الشارع.
غاية الأمر ان
الكاشف عن الجعل ، قد يكون دليلا لفظيا ، وقد يكون لبيا ، وقد يكون مقدمات
الانسداد على الكشف.
واما ما أفاده
المحقق الخراساني من انه ربما تقتضي الأمارة غير المعتبرة الحجية عقلا عند
ثبوت مقدمات وطرو حالات وذلك بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة.
فيرده ان مقدمات
الانسداد على تقدير الحكومة إنما توجب حكم العقل بتضييق دائرة الاحتياط ، وجواز
الاكتفاء بالامتثال بالعمل وفق المظنونات تركا أو فعلا ، فهو في الحقيقة تبعيض في
الاحتياط ، لا ان الأمارة غير العلمية تصير حجة ، وإلا فلا مجال ان يحكم العقل
بشيء لعدم كونه مشرعا بل شانه الدرك خاصة.
ثم ان الظن كما لا
يكون حجة لثبوت الحكم كذلك لا يكفي في سقوط التكليف.
وفي الكفاية ، وان كان ربما يظهر من بعض المحققين الخلاف ، والاكتفاء
بالظن بالفراغ ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل انتهى.
والظاهر ان مراده
بذلك البعض المحقق الخوانساري حيث انه في مبحث الاستصحاب ، قال إذا كان أمر أو نهي لفعل
إلى غاية معينة فعند الشك في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل
الظن بالامتثال والخروج عن العهدة وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال انتهى.
__________________
وربما يستظهر من
بعض كلماته في مسألة ما لو تعدد الوضوء ولم يعلم محل المتروك.
وكيف كان فيرد على
ما ذكره في وجه القول بالاكتفاء بالظن بالفراغ ، من عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ،
ان معنى وجوب دفع الضرر المحتمل انه ان صادف الواقع ترتب الضرر الذي هو العقاب في
امثال المقام ، فلا معنى لعدم الوجوب بهذا المعنى.
وبعبارة أخرى : ان
هذا الحكم ليس شيئا زائدا على موضوعه حتى ينكره أحد ، مع ان لازم هذا الوجه عدم
وجوب تحصيل الظن بالامتثال ، وكفاية الامتثال الاحتمالي ولا أظن ان يلتزم به أحد ،
فالأظهر عدم اقتضاء غير القطع للحجية ثبوتا ، ولا سقوطا.
إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية
الجهة الثانية :
في إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية والظن ، وليعلم انه ليس المراد بالإمكان
المتنازع فيه في المقام هو :
الاحتمال كما هو
المراد منه في قولهم (كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان) : لعدم كون
الاحتمال محل النزاع لكونه أمرا وجدانيا : ولعدم كون الإمكان بهذا المعنى موردا
للأثر فلا يناسب مع البحث الأصولي.
ولا الإمكان
الذاتي وهو ما كان بالنظر إلى ذاته لا اقتضاء بالاضافة إلى الوجود والعدم ، أي ما
ليس بذاته ضروري الوجود كالباري تعالى ، ولا ضروري
العدم كشريكه : إذ
لم يتوهم أحد كون حجية الظن بالنظر إلى ذاته ضروري العدم.
بل المراد به
الإمكان الوقوعي أي ما لا يلزم من فرض وقوعه أولا وقوعه محال.
وقد اختار الشيخ
الأعظم (ره) الإمكان وعلله ببناء العقلاء على ذلك ما لم يجدوا ما يوجب
الاستحالة.
وأورد عليه المحقق
الخراساني بإيرادات :
الأول : منع كون
سيرة العقلاء على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه.
الثاني : عدم
الدليل على حجية هذه السيرة.
الثالث : عدم
الحاجة إلى إثبات إمكانه لعدم ترتب اثر عملي عليه.
ولكن هذه
الإيرادات إنما تتم إذا كان مراد الشيخ الأعظم ما فهمه المحقق الخراساني من كلامه
من ان بناء العقلاء على الإمكان عند الشك فيه وفي الاستحالة ، وليس مراده ذلك ،
لأنه قبل ذلك صرح بخلاف ذلك.
قال : (ان العقل
لا يمكن له إدراك جميع المحسنات والمقبحات حتى
__________________
يحكم بالامكان
والامتناع) إذ مع عدم الاحاطة لا طريق للعقلاء إلى الامكان ومعه لا
معنى لبناء العقلاء عليه.
بل مراده بتوضيح
منَّا انه لو ورد من المولى ، دليل ظاهر في حكم يحتمل العبد ، عدم تمكنه من
امتثاله واستحالته عليه ، بناء العقلاء على الأخذ بدليل الوقوع ، والبناء على
الإمكان حتى يثبت الاستحالة.
وبعبارة أخرى : ان
بناء العقلاء عملا يكون على ذلك عند الشك في الإمكان والاستحالة ، مع ورود دليل
ظاهر في الحكم ، فلو شككنا في إمكان التعبد بالظن وورد دليل دال على حجية ظن خاص
كخبر الواحد يتبع ذلك الدليل.
وهذا متين جدا.
فان شئت فاختبر ذلك من حال العبيد بالاضافة إلى الموالى العرفية ، فإذا قال المولى
بعبده امش إلى السوق واشتر اللحم ، واحتمل العبد عدم قدرته على امتثال ذلك ، فانه
ليس للعبد ان يعتذر عن ترك التعرض للامتثال ، باحتمال عدم القدرة بل العقلاء
يذمونه ، فيعلم من ذلك بنائهم على اتباع ظهور كلام المولى ما لم يثبت الاستحالة.
ثم ان للمحقق
النائيني (ره) في المقام كلاما ، وهو ان المراد بالإمكان في
__________________
المقام ، ليس هو
الإمكان التكويني ، بل المراد به الإمكان التشريعي ، المقابل للامتناع في عالم
التشريع ، إذ المحاذير المذكورة كلها راجعة إلى عالم التشريع ، وإلا فلم يتوهم أحد
ترتب محذور تكويني على التعبد بالظن ، وعليه فلا ربط لذلك بالعقلاء كي يقال ان
بنائهم على الإمكان.
والحق : ينبغي ان
يعد هذا الكلام من الغرائب ، إذ الإمكان والامتناع ليسا أمرين اعتبارين كي يختلف
الحال باعتبار شخص دون شخص بل هما أمران واقعيان ، بمعنى ان الخارج ظرف لهما لا
لوجودهما ، وإنما الاختلاف يكون من ناحية المتعلق ، وقد يكون المتعلق أمرا تكوينيا
وقد يكون تشريعيا ، فالإمكان والامتناع في جميع الموارد بمعنى واحد ، فكما ان بناء
العقلاء على الإمكان في التكوينيات يكون بنائهم عليه في التشريعيات.
مع انه لو سلم كون
الإمكان التشريعي غير الإمكان التكويني ، لا أرى محذورا في القول بان بناء العقلاء
على ترتيب آثار الإمكان في مقام العمل ، وعدم طرح الدليل الدال على التعبد به
بمجرد احتمال ترتب محذور عليه في عالم التشريع كما يقال بان بنائهم عليه في
الإمكان التكويني ، وكون الأمر في التشريعيات بيد غيرهم لا يصلح للمنع عن ذلك كيف
، وهل يكون الأمر في التكوينيات بيدهم ومربوطا بهم كي يقال انه لا ربط للتشريعيات
بهم.
ما توهم لزومه من التعبد بغير العلم من المحاذير
وكيف كان فمن
اختار ، استحالة التعبد بالظن وبغير العلم ، أو بطلانه وان لم يكن محالا ، توهم
لزوم محاذير من التعبد به.
وقبل بيان تلك
المحاذير ونقدها ، لا بد وان يعلم ان الصور المعقولة في موارد التعبد بالظن ست :
إحداها : عدم وجود
الحكم في الواقع.
ثانيتها : وجود
الحكم الواحد سنخا في الواقع والظاهر معا مع كون متعلقيهما ضدين.
ثالثتها : وجود
الحكمين مع وحدة المتعلق ، وكون الواقع هو الحرمة ، والظاهر هو الوجوب.
رابعتها : عكس ذلك
، أي كون الواقع هو الوجوب والظاهر هو الحرمة.
خامستها : وجود
الحكمين ووحدة المتعلق ، مع كون الحكم الواقعي لزوميا ، وجوبا كان ، أم حرمة
والحكم الظاهري هو الترخيص.
سادستها : عكس ذلك
أي كون الواقع ترخيصيا ، والظاهر لزوميا.
واما المحاذير
التي توهم لزومها في هذه الصور ، فثلاثة :
الأول : نقض الغرض
، وهو يختص بالصورة الثالثة ، والرابعة ، والخامسة وتقريبه ، انه إذا تعلقت
الإرادة الجدية بإيجاد عمل ، أو تركه ، وتصدى المولى لذلك ، بالأمر أو النهي يكون
الأمر بالعمل بالأمارة غير العلمية المؤدية إلى خلاف الواقع ، بأحد الأنحاء المشار
إليها نقضا منه لغرضه وهو من المستحيل حتى عند المنكرين للتحسين والتقبيح
العقليين.
والجواب عن ذلك :
ان المولى إذا رأى في فعل مصلحة وغرضا مترتبا عليه ، وكان ذلك الفعل فعل الغير ،
وكان الأثر مترتبا عليه في صورة إتيانه باختياره
يحصل له غرض آخر ،
وهو جعل المحرك والداعي نحو الفعل فيأمر به لذلك ، فالغرض من الأمر ، هو جعل
المحرك والداعي نحو الفعل ، وهذا الغرض ربما يكون جعل المحرك للعبد نحو الفعل لو
اتفق العلم به ، وربما يكون جعل الداعي والمحرك على كل تقدير أي حتى في صورة الشك
والجهل.
وهذا الاختلاف
إنما ينشأ من اختلاف المصالح الواقعية المترتبة على أفعال العبيد في الأهمية.
إذ المصلحة قد
تكون بمرتبة من الأهمية تقتضي تصدى المولى لحصولها على جميع التقادير ، وقد لا
تكون بهذه الأهمية ، بل بحيث لو علم العبد بأمر المولى يتحرك نحوه.
ومن الاختلاف في
وجود المصلحة الجابرة ، أو المزاحمة للفائتة.
إذ ربما تكون في
ظرف الجهل لعدم الإتيان بالفعل مصلحة جابرة لما فات أو مزاحمة له ، وقد لا تكون ،
ففي صورة عدم أهمية المصلحة ، وصورة الجبر أو التزاحم لا مانع من جعل حكم ظاهري
على خلاف الواقع كما لا منع عن سكوته ، وعدم جعل وجوب الاحتياط ، ولا يلزم من ذلك
نقض الغرض ، وفي صورة الأهمية وعدم الجبر يلزم من جعله نقض الغرض.
وحيث انه لا طريق
لنا إلى استكشاف كون الغرض من أي قسم من الأقسام فلا بد من متابعة الدليل فمن ورود
الدليل على جعل حكم على خلاف الواقع يستكشف كونها من قبيل أحد الأولين دون الأخير
فلا يلزم محذور نقض الغرض.
المحذور الثاني :
المحذور الملاكي ، وهو لزوم الإلقاء في المفسدة فيما إذا كان الحكم الواقعي ، هو
الحرمة ـ وأدت الأمارة إلى الوجوب أو الترخيص ، وتفويت المصلحة فيما إذا كان الحكم
الواقعي هو الوجوب ، وأدت الأمارة إلى عدمه أو الحرمة ، ويعبر عن ذلك ـ بتحليل
الحرام ـ ولزوم الإلزام بشيء من دون ان يكون فيه مصلحة إلزامية فيما إذا كان الحكم
الواقعي غير إلزامي ، وأدت الأمارة إلى حكم الزامي ، ويعبر عنه بتحريم الحلال.
والجواب عن ذلك ان
لهذا المحذور طرفين :
الطرف الأول :
تحريم الحلال أي الإلزام بما هو مرخص فيه واقعا.
والجواب عنه واضح
، إذ الإلزام بأمور مباحة فيما إذا كان هناك ملاكات ثابتة في موارد مشتبهة ، ولا
يمكن للمولى التحفظ عليها إلا بالإلزام بعدة أمور فيها ما لا ملاك فيه ، وما فيه
ذلك ، لا محذور فيه ، بل لا مناص إلا عن ذلك ، ألا ترى انه لو علم المولى العرفي ،
ان في من يدخل عليه في اليوم المعين شخصا يهم بقتله وأمر عبيده ان لا يأذنوا لأحد
الدخول عليه ، في ذلك اليوم تحفظا على عدم دخول ذلك الشخص ، لا يرى العقلاء في ذلك
محذورا بل يلزمونه بذلك.
وبالجملة :
الإلزام بأمر مباح تحفظا على غرض مهم لا محذور فيه حتى بناء على تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد في المتعلقات : إذ التحفظ على ذلك الغرض المهم مصلحة ثابتة في
جميع الموارد حتى في ذلك المورد الذي هو مباح واقعا.
الطرف الثاني ،
تحليل الحرام ، أي الإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة.
والجواب عنه إنما
هو بأحد وجهين :
الأول : ان
المصلحة أو المفسدة الواقعية ليست بمرتبة من الأهمية كي يلزم تحصيلها حتى في حال
الجهل وعدم العلم به.
الثاني : انه في
فرض انسداد باب العلم حيث ان الأمر يدور بين ان يهمل المولى عبيده فلا يصلوا إلى
الواقع أصلاً فيلزم تفويت جميع المصالح والإلقاء في جميع المفاسد ، وبين ان
يتعبدهم بالعمل بالأمارات غير العلمية فيصلوا إلى الواقع في جملة من الموارد
ويستوفون عدة من المصالح ويتحرزوا عن جملة من المفاسد ، فيتعين التعبد بالعمل بها.
واما في فرض
انفتاح باب العلم ، فان كانت الأمارات غير العلمية اكثر إصابة إلى الواقع من القطع
أو الاطمينان الحاصل للمكلف فهذه الصورة ملحقة بالصورة الأولى ، وان كان القطع أو
الاطمينان اكثر إصابة من الأمارات ، فالتعبد بالأمارات يمكن ان يكون لأجل ان الزم
المكلفين بتحصيل العلم عسر على النوع ومناف لسهولة الشريعة فمصلحة التسهيل على
النوع تقتضي التعبد بالأمارات وتزاحم الملاكات الواقعية فمن التعبد بها يستكشف ان
الشارع إلا قدس قدم المصلحة النوعية العامة على المصالح الشخصية ولا قبح في ذلك.
وقد أجاب الشيخ
الأعظم (ره) عن هذه الشبهة بجواب آخر وتبعه غيره
__________________
منهم المحقق
النائيني (ره) ، والأستاذ الأعظم (قدِّس سره) ، وهو الالتزام بالمصلحة السلوكية.
بمعنى : ان قيام
الحجة يكون سببا لحدوث مصلحة في نفس السلوك بلا تأثير على المصلحة الواقعية أو
استلزامه تبدل الموضوع ، فما يفوت من المصلحة الواقعية بواسطة العمل على طبق
الأمارة عند المخالفة يكون متداركا بمصلحة السلوك ، مثلا إذا قامت الأمارة على
وجوب الجمعة وكان الظهر واجبة في الواقع فان لم ينكشف الخلاف ، يكون المتدارك
مصلحة الظهر بتمامها ، وان انكشف الخلاف بعد مضى الوقت يكون المتدارك مصلحة الوقت
، وان انكشف بعد مضى وقت الفضيلة يكون المتدارك مصلحة فضيلة الوقت.
وهذه السببية هي
السببية التي ذهب إليها بعض العدلية في مقابل السببية على مسلك الأشعري الملتزم بأنه لا حكم في الواقع مع قطع النظر عن قيام
الطريق بل يكون قيامه سببا لحدوث مصلحة في المؤدى مستتبعة لثبوت الحكم على طبقها.
والسببية على مسلك
المعتزلي : الملتزم بان قيام الحجة من قبيل طرو
__________________
العناوين الثانوية
كالضرر موجب لحدوث مصلحة في المؤدى ، أقوى من مصلحة الواقع ، فان المصلحة على هذا
المسلك إنما تكون في السلوك لا في المتعلق.
ويتوجه عليه أنه :
لا ريب في ان ما فيه المصلحة ليس هو العنوان مع قطع النظر عن تحققه ، بل هو
المتحقق في الخارج وهو الذي يكون ذا مصلحة فحينئذ ما له تحقق خارجي فيما إذا أدّت
الأمارة إلى وجوب ما هو حرام واقعا ، مثلا امور ثلاثة :
الأول : أمر
المولى باتباع الأمارة.
الثاني : الالتزام
بأنه واجب.
الثالث : العمل
الخارجي.
فان كان المراد من
المصلحة السلوكية ثبوت المصلحة في الأمر.
ففيه أنها غير
استيفائية للمكلف حتى تدعو إلى البعث وتوجب تلافي الفائت ، مضافا إلى ان الفعل إذا
لم يكن ذا مصلحة كيف يتعلق به التكليف.
وان كان المراد
ثبوتها في الالتزام.
__________________
فمضافا إلى انه
لاوجه حينئذ للأمر بالعمل لعدم المصلحة فيه لا يجب الالتزام كما حققناه في محله.
وان كان المراد
ثبوتها في العمل ، ولو بان يكون ما فيه المصلحة عنوان آخر غير ذات الفعل منطبق
عليه ، أو الفعل المستند إلى الأمارة ، يرجع ذلك إلى التصويب والسببية على زعم
المعتزلي ، إذ لا محالة يقع بين ملاك الحكم الواقعي وهذه المصلحة الكسر والانكسار
، فتصوير المصلحة السلوكية بنحو لا يرجع إلى التصويب غير ممكن.
فان قلت : انه
يمكن ان يتدارك الشارع المصلحة الفائتة بإعطاء مقدار من المصلحة.
قلت : ان ذلك يتم
في الثواب لا في المصلحة الداعية إلى الأمر.
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري
المحذور الثالث :
المحذور الخطابي ، وهو اجتماع المثلين ، فيما إذا أصابت الأمارة ـ واجتماع الضدين
، فيما إذا أخطأت وأدت إلى غير ذلك الحكم مع وحدة المتعلق ، وطلب الضدين فيما إذا
أخطأت ، وأدت إلى وجوب ضد الواجب ، ولزوم التصويب ان التزمنا بعدم ثبوت الحكم
الواقعي.
وملخص القول في
دفعه إنما هو بوجهين :
أحدهما : مختص
بالطرق والأمارات.
ثانيهما : يعم
موارد ، الأصول ، والأمارات على القول بجعل الأحكام
الظاهرية في
مواردها.
أما الأول : فهو
انه في باب الطرق ليس المجعول إلا الطريقية والوسطية وتتميم الكشف ، وعليه فمخالفة
الطريق كمخالفة القطع له لا توجب التضاد وغيره مما أشير إليه.
توضيح ذلك ان
المجعول في باب الأمارات والطرق ليس هو الحكم التكليفي كي تكون الحجية منتزعة عنه
لما ذكرناه مفصلا في أوائل مبحث الاستصحاب من ان الأحكام الوضعية مستقلة في الجعل
ولا تكون منتزعة عن حكم تكليفي ، مضافا إلى ان الحجية ليست من الأحكام التأسيسية
بل هي من الأحكام الامضائية والشارع أمضى ما عليه بناء العقلاء ، ومن الواضح ان
العقلاء لم يبنوا على جعل حكم تكليفي في موارد الأمارات ـ مع ـ ان الحكم التكليفي
ينعدم بالعصيان وليست الحجية كذلك.
كما ان المجعول
فيها ، ليس هو التنجيز والتعذير ، فان حسن العقاب على مخالفة التكليف وقبحه إنما
يكونان مترتبين على البيان وعدم البيان ومن لوازمهما غير القابلة للانفكاك.
وبعبارة أخرى :
هما من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص ، فما دام لم يتصرف في الموضوع بإعطاء
صفة الطريقية للإمارة لا معنى لجعل التنجيز والتعذير.
وبالجملة في مورد
الأمارات غير العلمية بما ان موضوع حسن العقاب ، وهو البيان والوصول غير موجود فما
لم يتصرف الشارع فيها بجعل ما يكون موجبا لتحقق المقتضى للعقاب ليس للشارع جعل
التنجيز والتعذير لأنه
تخصيص في الحكم
العقلي.
بل المجعول فيها
الطريقية ، أي ما للقطع بالانجعال وهو الطريقية والكاشفية التامة وتصير الأمارة
بذلك فردا اعتباريا للقطع ، والبيان ، والوصول.
ودعوى ان اعتبار
شيء يتصور على قسمين :
الأول : ما يصير
مصداقا حقيقيا للطبيعة بعد الاعتبار كالملكية.
الثاني : ما لا
يصير كذلك ، والطريقية الاعتبارية من قبيل الثاني.
إذ الأمارة بعد
اعتبار كونها علما لا تصير من مصاديق العلم حقيقة ، وفي مثل هذا القسم لا بد وان يكون
الجعل والاعتبار بلحاظ آثاره بخلاف القسم الأول فانه بعد صيرورته من مصاديق
الطبيعة حقيقة بترتب عليه حكمها قهرا بلا احتياج إلى لحاظ الشارع وجعله فاعتبار
الطريقية لا بد وان يكون بلحاظ الأثر ، وهو المعاملة مع المؤدى معاملة الواقع ،
فحينئذ لك ان تقول ان جعل المؤدى والمعاملة معه معاملة الواقع حيث انه مقدم على
جعل الطريقية إذ جعلها إنما يكون بلحاظ جعل المؤدى ، فلا محالة يكون أولى
بالمجعولية منها ، كما عن بعض الأساطين .
مندفعة : بان
اعتبار شيء في جميع الموارد من دون لحاظ الأثر لغو لا يصدر من الحكيم ، بل في جميع
الموارد الاعتبار يكون بلحاظ الأثر ، ومن تلك الموارد اعتبار الطريقية ، والاثر
الذي بلحاظه نزل غير العلم من الآثار من قبيل صحة
__________________
العقاب على
المخالفة ، فليس ذلك الأثر جعل المؤدى وتنزيله منزلة الواقع كي يصح ما ذكر ، وتمام
الكلام في محله.
فعلى هذا لا حكم
مجعول في باب الأمارات والطرق كي لا يجتمع مع الحكم الواقعي.
واما الوجه الثاني
: فمحذور اجتماع المثلين.
يدفع بان موضوعي
الحكمين ان كانا طوليين غير المجتمعين في مورد واحد ، فاين اجتماع المثلين.
واما ان قلنا بان
الحكم الظاهري وان لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي ولكن الواقع محفوظ في مرتبة
الحكم الظاهري فيلتزم بالتأكد.
وبهذا البيان
اندفع ايراد بعض الاعاظم على المحقق النائيني (ره) الملتزم بالتأكد في الجواب عن شبهة اجتماع المثلين ، بان
الواقع والظاهر في مرتبتين فكيف يمكن الالتزام بالتأكد.
وجه الاندفاع انه
على فرض الطولية لا يلزم اجتماع المثلين حتى يلتزم بالتأكد ، والالتزام بالتأكد
إنما هو على فرض اجتماعهما في مورد واحد ، الذي هو فرض الاشكال.
ومحذور طلب الضدين
يندفع بان طلب الضدين بهذا النحو أي بنحو لا
__________________
يكون الحكم
الواقعي محركا نحو الفعل أو الترك ، ولا يلزم العقل بموافقته في ظرف فعلية الحكم
الظاهري لا محذور فيه.
وبعبارة أخرى : ان
طلب الضدين غير صحيح ، من جهة عدم قدرة العبد على الامتثال ، فإذا فرضنا ان وصول
الحكم الواقعي مستلزم لارتفاع ، موضوع الحكم الظاهري ، وفي فرض وصول الحكم الظاهري
، لا يكون الحكم الواقعي واصلا وهما لا يصلان معا في عرض واحد ، فلا يلزم التدافع
، ولا محذور من هذه الناحية.
واما محذور اجتماع
الضدين.
فالجواب عنه ان
الحكمين بما هما لا تضاد بينهما ولذا يمكن جعلهما من المولى غير الحكيم ، بل
التضاد بينهما إنما يكون.
من ناحية المبدأ
أي ، المصلحة ، والمفسدة ، والشوق ، والكراهة : إذ الوجوب ناشئ عن المصلحة الملزمة
غير المزاحمة والحرمة ناشئة عن المفسدة الملزمة غير المزاحمة ، والاستحباب عن
المصلحة غير الملزمة ، والكراهة عن المفسدة غير الملزمة ، والاباحة عن المصلحة
المزاحمة بالمفسدة المتساويتين ، أو عن عدم شيء منهما.
فاجتماع الحكمين
كالوجوب والحرمة يستلزم وجود المصلحة غير المزاحمة ، والمفسدة غير المزاحمة في
مورد واحد ، وهو ممتنع.
أو من ناحية
المنتهى ، وهو امتثال التكليف. مثلا : الوجوب يستلزم اتيان الفعل ، والحرمة تستلزم
تركه فمن تعلقهما بشيء واحد معا يلزم ان يفعل
العبد فعلا ويتركه
وهو محال.
وعليه فالتضاد بين
الحكمين إنما يكون تضادا بالعرض ، وإلا فالتنافي إنما يكون بين المبدءين
والمنتهيين.
وعلى ذلك فلا تضاد
بين الحكم الواقعي والظاهري اما من ناحية المنتهى : فلما مر آنفا في الجواب عن
محذور طلب الضدين ، واما من ناحية المبدأ فلان الأحكام الواقعية ناشئة عن المصالح
والمفاسد في المتعلقات.
واما الحكم
الظاهري فهو إنما يكون ناشئا عن المصلحة في الجعل بمعنى المصالح النوعية مثلا ،
ايجاب الاحتياط ناش عن التحفظ على الواقع ، والبراءة عن التسهيل على المكلفين
وعليه فلا تضاد بين الحكمين فتدبر فان هذا هو القول الفصل في المقام.
ولا يخفى ان هذا
يصلح جوابا ثانيا عن محذور اجتماع المثلين.
ما قيل في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري
ثم انه قد اجيب عن
محذور اجتماع الضدين باجوبة اخر غير ما ذكرناه.
الأول : ما نسب
إلى الشيخ الأعظم (ره) وحاصله ، انه لا تضاد بين
__________________
الحكمين لعدم
اتحاد الموضوع : إذ موضوع الحكم الواقعي هو الفعل بعنوانه الأولى ، وموضوع الحكم
الظاهري هو الفعل بما انه مشكوك الحكم ومع اختلاف الموضوع وتعدده كيف يحكم
بالتضاد.
وفيه : أولا : انه
لو تم لاختص بالاصول ، ولا يعم الأمارات على القول بجعل الحكم الظاهري ، إذ لم
يؤخذ في موضوعها الشك. وثانيا : ان مقتضى إطلاق دليل الحكم الواقعي بالإطلاق
اللحاظى ، أو بنتيجة الإطلاق ثبوته في حال الشك في الحكم ، وإلا لزم التصويب فيلزم
المحذور المذكور.
الثاني : ما في
الكفاية وحاصله ان التعبد بدليل غير علمي إنما هو بجعل الحجية له
والحجية المجعولة لا تكون مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية ، بل إنما تكون موجبة
لتنجز التكليف به إذا اصاب وصحة الاعتذار به ، إذا اخطأ كما هو شأن الحجية غير
المجعولة فلا يلزم اجتماع الضدين في صورة المخالفة.
ثم انه (قدسسره)
أجاب بجواب آخر على فرض تسليم ان معنى الحجية أو لازمها جعل أحكام تكليفية
، وحاصله ان الحكم الظاهري ليس بنحو يضاد مع الحكم الواقعي ، فان الواقعي يكون
ناشئا عن المصلحة أو المفسدة في المتعلق الموجبة لانقداح الإرادة أو الكراهية فيما
يمكن انقداحهما ، والحكم الظاهري
__________________
يكون ناشئا عن
المصلحة في نفس الجعل ، لا عن ما في المتعلق من دون ارادة نفسانية أو كراهة كذلك
متعلقة بمتعلقه فلا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل ولا اجتماع ارادة وكراهة
ولا مضادة بين الانشائين كذلك فيما إذا اختلفا.
وقد اشكل عليه
الأمر في بعض الأصول العملية كاصالة الإباحة الشرعية ووجه الاشكال أمران :
الأول : ان أصالة
الاباحة لا يمكن جريانها مع كون الواقع هو الحرمة لان الترخيص في الفعل لا يجتمع
مع المنع منه ، ولو كان عن مصلحة في نفسه : إذ في الحكم الالزامي يمكن ان يقال انه
لا يكون فعليا لعدم تعلق الإرادة فلا منافاة كما ذكرناه. واما الترخيص فليس له
مرتبتان لتكون المرتبة الثانية وهي الفعلية متوقفة على الإرادة ، لعدم انقداح
الإرادة على كل حال بل فعليته إنما تكون بنفس جعله فينافى الحكم الواقعي.
الثاني : ان الحكم
الالزامي يمكن ان يكون طريقيا موجبا لتنجز الواقع عند المصادفة والعذر عند
المخالفة ، بخلاف الإذن والترخيص المجعول على المشكوك فيه فانه لا يعقل ان يكون
طريقيا ، لاخذ الشك في موضوعه ، فلا محالة يكون نفسيا فينا في الحكم الواقعي.
ثم انه أجاب عن
هذا المحذور بجواب آخر وحاصله : انه لا يكون الحكم الواقعي فعليا كي يلزم اجتماع الضدين
، أو المثلين ، فان التضاد إنما يكون بين الحكمين الفعليين ولا يكون انشائيا محضا
حتى يرد عليه ان الحكم الإنشائي لا اثر له حتى يتنجز بالعلم ، بل يكون وسطا بينهما
، ويكون انشائيا من جهة انه لا ارادة ولا كراهة على طبقه وفعليا من جهة انه يتنجز
بالعلم كسائر الأحكام
الفعلية. وعدم فعليته
ليس من جهة دخل العلم في الفعلية حتى يقال ان ما ذكره في ذيل كلامه في جواب ما
اورده على نفسه بان الحكم قبل اداء الأمارة الموافقة انشائي وبه يصير فعليا.
بقوله لا يكاد
يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم انشائي لا حقيقة ولا تعبدا ، إلا حكم
انشائي تعبدا ، لا حكم انشائي ادت إليه الأمارة ، اما حقيقة فواضح ، واما تعبدا
فلان قصارى ما هو قضية حجية الأمارة كون مؤداها هو الواقع تعبدا لا الواقع الذي
ادت إليه الأمارة ، انتهى.
وحاصله ان
الالتزام بدخل العلم في الفعلية لا يجدي لفعلية الحكم بقيام الأمارة الموافقة ، إذ
الأمارة ليست بعلم وجدانا ، ففعلية الحكم على هذا الفرض تتوقف على صيرورة الأمارة
علما ـ وهي تتوقف على شمول دليل الحجية لها فتصير علما وشمول دليل الحجية لها إنما
يكون مع فرض تنزيل المؤدى منزلة الواقع ولا دليل على تنزيله سوى دليل حجية الأمارة
وشموله له متوقف على ان يكون الجزء الآخر محرزا بالوجدان أو بالتعبد ، والاول
مفقود بالفرض والثاني يتوقف على شمول دليل الحجية له ويثبت الواقع به ليصير علما
وهذا دور واضح ، فدليل الحجية لا يتكفل إلا لكون المؤدى هو الواقع لا الواقع الذي
علم به وجدانا أو تعبدا.
بل من جهة ان
الإذن والترخيص ، مانع عن الفعلية ، والعلم يوجب رفع الإذن ، فالعلم يوجب الفعلية
لا لدخله فيه حتى يرد المحذور المذكور بل لكونه
__________________
موجبا لارتفاع
الإذن فمع قيام الأمارة حيث يرتفع الإذن يصير الحكم فعليا ولا تتوقف الفعلية على
تنزيل الأمارة منزلة العلم هذا ملخص كلامه مع توضيح منا.
وفي كلامه مواضع
للنظر :
الأول : ما أفاده
من ان المجعول في الأمارات هو التنجيز والتعذير.
فانه يرد عليه ما
ذكرته عند الوجه الأول من وجهى الجمع المنصور فراجع.
الثاني : ما ذكره
من الفرق بين الإباحة المجعولة في مورد اصالتها ، وبين الأحكام المجعولة في مورد
الأمارات.
فانه غير تام : إذ
الحكم المجعول ان كان فعليا لفعلية موضوعه كان مضادا للحكم الواقعي الفعلي كان عن
مصلحة في نفسه أم في متعلقة ، وكان المتعلق ، متعلقا للارادة والحب ، أم لم يكن ،
كان الحكم طريقيا ام نفسيا ، وان لم يكن فعليا لم يكن مضادا معه كان في مورد
الأمارات ، أم في مورد أصالة الإباحة.
وبعبارة أخرى : ان
الوجوب هو الترخيص في الفعل مع الالزام وقد التزم بعدم مضادته مع الحكم الواقعي ان
كان ناشئا عن مصلحة في نفسه فكذلك الإباحة التي هي الترخيص المجرد فكيف يلتزم
بمضادته معه ان كان ناشئا عن مصلحة في الجعل.
الثالث : ان ما
ذكره (ره) من الالتزام بكون الحكم الواقعي فعليا من جهة
__________________
بالمعنى المتقدم.
يرد عليه ان فعلية
الحكم وعدمها اجنبيتان عن المولى بالمرة بل تدوران مدار تحقق الموضوع بجميع قيوده
وعدمه ، فمع التحقق لا يعقل عدم فعلية الحكم ، كما انه مع عدم تحققه لا يعقل
فعليته.
وعليه : فان كان
المأخوذ في موضوع الحكم الواقعي ، عدم قيام الحجة على الخلاف ، وعدم الترخيص في
مخالفته فعند قيامها لا يكون الحكم ثابتا لا الفعلي منه ولا الإنشائي ، اما الأول
فواضح ، واما الثاني فلانه إنما يثبت لمن يكون الحكم بالنسبة إليه فعليا ، فيلزم
التصويب ، وان لم يكن المأخوذ فيه ذلك فلا محالة عند قيامها أو الترخيص في مخالفته
يلزم اجتماع الحكمين الفعليين فيلزم اجتماع الضدين.
الوجه الثالث : ما
أفاده المحقق النائيني (ره) وهو ان الكلام يقع في موارد ثلاثة : الأول : في الأمارات.
الثاني : في
الأصول التنزيلية.
الثالث : في
الأصول غير التنزيلية.
اما الأول : فقد
أجاب عن المحاذير بما ذكرناه من الوجه الأول للجمع فراجع.
واما الثاني : فقد
أجاب عنها بان المجعول في الأصول التنزيلية إنما هي الجهة
__________________
الثالثة للقطع وهي
كونه مقتضيا للجرى العملي على طبق ما تعلق به وكون الشخص غير متحير في مقام العمل
كما يأتي تفصيله في مبحث الاستصحاب وعليه فلا حكم مجعول حتى يلزم المحاذير
المذكورة.
واما في الأصول
غير التنزيلية فمحصل جوابه ، ان التكاليف الواقعية بوجوداتها النفس الامرية لا تصلح
للمحركية والداعوية بل وصولها محرك نحو الفعل أو الترك وهذه المرتبة من الحكم
مرتبة التنجيز والتعذير ، وهما من الأحكام العقلية المتأخرة ، عن مرتبة ثبوت الحكم
الواقعي ، وهذه المرتبة موكولة إلى حكم العقل.
وعليه : فالملاك
الواقعي ، تارة يكون بمرتبة من الاهمية لا يرضى الشارع بفواته حتى في فرض عدم وصول
الحكم ، فلا بد من جعل وجوب الاحتياط فيكون هو وجوبا طريقيا موجبا لوصول الحكم على
فرض وجوده بطريقه ، ناشئا عن مصلحة الحكم الواقعي ، واخرى لا يكون بهذه المرتبة من
الاهمية فيرخص في الفعل أو الترك ، ويكون هذا الحكم نظير حكم العقل بقبح العقاب
بلا بيان.
وعلى ذلك : ففي
المورد الأول بما ان علة جعل وجوب الاحتياط ، هي المصلحة الواقعية ففي فرض عدم
الحكم واقعا لا يكون وجوب الاحتياط ثابتا ، بل إنما هو صورة تخيل كونها حكما فلا
يلزم اجتماع الضدين.
وفي المورد الثاني
بما ان ثبوت الترخيص والاذن إنما هو في مرتبة متاخرة
__________________
عن الحكم الواقعي
، لا لان موضوعه الشك بما انه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي ، حتى
يقال ان انحفاظ الحكم الواقعي عنده مستلزم لاجتماع الضدين.
بل باعتبار كونه
موجبا للحيرة في الواقع ، وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له فقد لوحظ في الرخصة وجود
الحكم الواقعي ومعه كيف يعقل ان يضاد الحكم الواقعي.
وبعبارة أخرى :
الرخصة إنما تكون في عرض المنع المستفاد من ايجاب الاحتياط ، وهو إنما يكون في طول
الواقع ، ومتفرعا عليه فكذلك ما هو في عرضه يكون في طول الواقع ، وإلا يلزم كون ما
في طول الشيء في عرضه.
وما ذكره في
الأمارات وفي الأصول التنزيلية متي.
واما ما أفاده في
الأصول غير التنزيلية ، ففي كلا موردى كلامه نظر :
اما في المورد
الأول : فلان ايجاب الاحتياط في صورة الموافقة للواقع لا يصح ، وصدوره من الحكيم
محال : إذ حينئذ يكون حكمه حكم الواقع غير الواصل ، فلا يعقل صيرورته موجبا لتنجز
الواقع.
وبعبارة أخرى :
صيرورته موجبا للتنجز فرع وصوله ، ومع احتمال المخالفة وعدم المصادفة ، لا يكون
ذلك واصلا ، فلا يكون منجزا وموجبا للتحفظ على الغرض ، مع انه خلاف ظاهر الأدلة ،
فان ظاهرها الوجوب على كل تقدير واستيفاء ما هو ملاكه مقتض لذلك أيضاً.
واما في المورد
الثاني : فلان الحكم الواقعي ان كان ثابتا في المرتبة المتأخرة
المفروضة لزم
اجتماع الضدين ، والا لزم التصويب ، مع ان ترتب احد الحكمين على الآخر والحكم
بثبوته على فرض ثبوت الآخر ، إنما يعقل على فرض عدم التضاد ، وإلا فلازمه جواز
تحقق السواد على فرض وجود البياض.
وبالجملة : فرض
احد الضدين في طول الآخر لا يخرجه عن الضدية ، ولا يوجب جواز اجتماعهما.
ما يقتضيه الاصل عند الشك في الحجية
الجهة الثالثة :
فيما يقتضيه الاصل عند الشك في الحجية ، ليكون هو المرجع على تقدير عدم الدليل على
الحجية وعلى عدمها ، والمراد به ليس خصوص الاصل العملي ، بل المراد منه القاعدة
الاولية المستفادة من حكم العقل ، أو الأدلة السمعية.
وقد طفحت كلماتهم
بان الاصل عدم الحجية عند الشك فيها إذ الشك فيها مساوق للقطع بعدمها ، ومرادهم
بذلك ان الشك في انشاء الحجية ملازم للقطع بعدم الحجية الفعلية بمعنى عدم ترتب
آثار الحجية.
وكيف كان فقد افاد
الشيخ الأعظم (ره) في وجه ذلك ان الحجية لها اثران :
أحدهما : صحة
الالتزام بما ادى إليه من الأحكام.
__________________
ثانيهما : صحة
نسبته إليه تعالى :
وهذان الاثران لا
يترتبان مع الشك في الحجية لما دل من ، الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل على
حرمة الالتزام والاستناد في صورة الشك ، لانهما تشريع عملي وقولي ، دلّت الأدلة
الاربعة على حرمته ، فالشك في الحجية ملازم للقطع بعدم ترتب آثار
الحجية الفعلية ، ومنه يستكشف عدمها.
وأورد عليه المحقق
الخراساني (ره) بما حاصله ان اسناد مؤدى الأمارة إلى الله تعالى والاستناد
إليها في مقام العمل ليسا من آثار الحجية ، بل بينهما ، وبين الحجية عموم من وجه ،
إذ قد يكون الشيء حجة ، ولا يصح اسناد مؤداه إلى
__________________
الشارع كالظن على
الحكومة ، ويمكن ان يدل دليل على صحة الالتزام والنسبة إليه تعالى مع الشك في
التعبد وعدم الحجية ، وان الاثرين المذكورين هما للعلم بالمؤدى.
ولذلك جرى (قدِّس
سره) في تقرير الاصل على خلاف ما قرره الشيخ.
وحاصله ان آثار
الحجية اربعة : التنجيز ، التعذير ، كون موافقته انقيادا ، كون مخالفته تجريا ،
وهذه الآثار إنما هي للحجية الفعلية ، وهي مترتبة على العلم بالحجية الانشائية ،
ضرورة انه بدون الاحراز ، لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد اصابته ، ولا
يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون مخالفته تجريا ، ولا يكون موافقته
انقيادا ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتب شيء من الآثار عليه.
ثم ان الشيخ (قدِّس
سره) بعد تأسيس الاصل تمسك لاثبات حرمة العمل بالظن ، بالعمومات ، والآيات الناهية
عن العمل بغير العلم ، وافاد ان مقتضى هذه العمومات ، حرمة العمل بالظن إلا ما خرج
بالدليل ، فادلة حجية الأمارات تخصص هذه العمومات ، فالشك في حجية شيء يكون شكا في
التخصيص والمرجع فيه عموم العام.
وأورد عليه المحقق
النائيني (ره) بما سيمر عليك مستوفى.
وربما يستدل لعدم
الحجية باستصحاب عدمها.
__________________
وتنقيح القول
بالبحث في موارد :
الأول : في انه هل
هناك ملازمة بين الحجية وجواز الاستناد إليه تعالى حتى يكون الدليل المثبت لاحدهما
مثبتا للآخر كما أفاده الشيخ أم لا؟ كما اختاره المحقق الخراساني (ره) .
الثاني : في انه
هل يصح التمسك بما دل على حرمة العمل بغير العلم على عدم الحجية أم لا؟
الثالث : في ان
الشك في الحجية هل يلازم القطع بعدم الحجية واقعا ، أم لا؟.
الرابع : في صحة
ردع الشارع عن العمل بما لم يعلم حجيته.
الخامس : في انه ،
هل يجري استصحاب عدم الحجية وببركته يبنى على عدم الحجية ، أم لا يجري.
اما المورد الأول
: فقد تقدم تقريب ما أفاده الشيخ الأعظم ، وما اورده عليه المحقق الخراساني.
ولكن يرد على صاحب
الكفاية ، ان ايراده يتم على مبناه في جعل الحجية ، وهو ان المجعول ، التنجيز ،
والتعذير فان ذلك لا يلازم ثبوت المؤدى ، وكونه حكما شرعيا ، لا حقيقة ، ولا تعبدا
حتى يستند إلى الشارع ، ولذلك لا يجوز الاستناد إليه في مورد ايجاب الاحتياط مع
جعل المنجزية في ذلك المورد.
__________________
واما إذا قلنا بان
المجعول في باب الحجج والأمارات ، جعل الطريقية ، وجعل ما ليس بعلم علما كما هو
الحق ، فلا ينفك ذلك عن جواز الاستناد ، فانه من آثار العلم جواز الاستناد ،
فيترتب على الأمارة ، فمن دليل عدم جواز الاستناد يستكشف عدم الحجية ، وحيث ان
مبنى الشيخ في الأمارات ، جعل الطريقية ، فهذا الاشكال لا يرد عليه ، وقد تقدم
الكلام في مبنى المحقق الخراساني في جعل الحجية ، وعرفت عدم تماميته.
واما ما افاده من
ان الظن على تقدير الحكومة حجة ، ولا يصح اسناد المظنون إلى الشارع ، فيرده ان
نتيجة مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة ليست حجية الظن بل نتيجتها التبعيض في
الاحتياط.
ولكن يرد على
الشيخ (ره) ان مقتضى الأدلة السمعية ، عدم جواز اسناد ما لم يعلم ، ومع قيام
الأمارة على شيء كوجوب السورة في الصلاة ، واحتمال حجيتها ، لا يحرز ان وجوب
السورة غير معلوم ، بل يحتمل ان يكون معلوما ، بالعلم التعبدى ، فالتمسك بالعمومات
تمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام ، الذي لا شك لأحد في عدم جوازه فتدبر.
واما المورد
الثاني : فقد استدل الشيخ بالعمومات الناهية عن العمل بغير العلم كقوله تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْؤُولاً) ، ونحوه وذكر ان مقتضى هذه العمومات حرمة
__________________
العمل بغير العلم
إلا ما خرج بالدليل ، ونسبة ادلة حجية امارة خاصة إلى تلك العمومات ، نسبة المخصص
إلى العام ، فالشك في حجية امارة خاصة شك في التخصيص والمرجع فيه عموم العام.
وأورد عليه المحقق
النائيني (ره) بان مفاد دليل حجية الأمارة كونها علما تعبدا فنسبته إلى
العمومات نسبة الحاكم إلى المحكوم ويكون نافيا لموضوع العام ، فعند الشك في الحجية
لا محالة يشك في صدق موضوع العام ، ومع الشك فيه يكون الشبهة شبهة مصداقية للعام ،
وضرورى انه لا يجوز التمسك بالدليل إلا مع احراز صدق موضوعه.
وأورد عليه
الأستاذ الاعظم (ره) بان الحجية الواقعية مما لا يترتب عليه اثر ما لم يصل إلى
المكلف فالحكومة إنما هي بعد الوصول ، فالعمل بما لم تصل حجيته إلى المكلف ، عمل
بغير علم ، وان كان حجة في الواقع.
ولكن يرد عليه ان
الحجية الواقعية وان لم تصل إلى المكلف ، توجب صيرورة الأمارة علما ، فاحتمالها
يوجب الشك في كون المؤدى معلوما تعبدا ، فايراد المحقق النائيني على الشيخ تام.
واما المورد
الثالث : فقد يقال ان الحجية حكم واقعي نظير سائر الأحكام الشرعية مشتركة بين
العالم والجاهل ، ولا تكون مختصة بالعالم ، لعين ما ذكر من لزوم الدور ، وغيره من
الاختصاص بالعالمين.
__________________
وأورد عليه بأنه
لا محيص عن الالتزام باخذ الوصول في مقام جعلها ، إذ ليست هي كسائر الأحكام
الشرعية تترتب عليها الآثار حتى في صورة الجهل ، بل لا تترتب عليها آثارها إلا في
فرض العلم والوصول.
توضيح ذلك ان
الأمارة ، اما ان تؤدى إلى الترخيص مع كون الحكم الواقعي لزوميا كالحرمة ، واما ان
ينعكس الأمر ، واما ان يتوافقان في الحكم اللزومى ، وعلى كل تقدير لا اثر لوجود
الحجية الواقعية :
إذ في الفرض الأول
يكون الواقع منجزا لأجل احتمال وجوده وعدم الفحص والمفروض ان الأمارة لم تصل إليه
لتكون معذرة.
واما في الفرض
الثاني : فلا يستحق العقاب على مخالفة الواقع ، وإنما يستحقه للتجري لاحتمال
التكليف ووجود الطريق إليه.
واما في الفرض
الثالث : فمخالفة الواقع توجب استحقاق العقاب كانت الأمارة واصلة أم لم تكن : إذ
مجرد احتمال التكليف منجز لكون الشبهة قبل الفحص ، نعم لو كانت الأمارة واصلة ترتب
هذا الأثر عليها ، فجعل الحجة للجاهل لغو ، فلا محالة تختص بالعالم.
واما محذور الدور
أو الخلف فيندفع بان انشائها كانشاء سائر الأحكام يكون مهملا من هذه الجهة ،
فبنتيجة التقييد تختص بالعالم.
ومن ذلك كله يظهر
ان الشك في الحجية يوجب العلم بعدمها ، لا بمعنى انعدام الشك ، بل بمعنى ان الشك
بمرتبة منها يوجب العلم بعدم مرتبة أخرى منها ، فان احتمل حجية طريق خاص مع العلم
بأنه على فرض ثبوتها وانشائها
تكون مختصة
بالعالمين ، يقطع بعدم فعليتها بالاضافة إلى الشاك نفسه فالشك متعلق بمرتبة منها
وهي الإنشاء مهملا ، والمعلوم عدمها غير تلك المرتبة فيجتمعان ، لا ان العلم يوجب
انعدام الشك.
ولكن يمكن الجواب
عن هذا الإيراد بان احتمال التكليف يكون منجزا قبل الفحص ، لأجل احتمال وجود
الطريق إليه ، وإلا فمع العلم بعدمه على فرض كون التكليف ثابتا واقعا ، لا ريب في
عدم التنجيز ، فالاثر إنما يترتب على الحجة غير الواصلة ، والطريق غير الواصل.
فدعوى عدم ترتب
الأثر على وجودها الواقعي كما ترى ، فالحجية كسائر الأحكام تكون مشتركة بين
العالمين بها والجاهلين والشك فيها لا يوجب القطع بعدمها.
نعم الآثار
المرغوبة من الحجية وهي المعذرية والمنجزية وصحة الاستناد إليها في مقام العمل ،
وصحة اسناد مؤداها إلى المولى ، لا تترتب على الحجية بوجودها الواقعي ، بل على
احرازها صغرى وكبرى ، لكونها من الآثار العقلية المترتبة على الحجية الواصلة فلو
شك في الحجية يبنى على عدمها ظاهرا وبحسب الآثار.
واما المورد
الرابع : فلا ينبغى التوقف في صحة ردع الشارع عن العمل بما يشك في حجيته كالقياس ،
وان كان العقل مستقلا بعدم الجواز مع العلم بالحجية أو الشك فيها في فرض بقاء
العلم والشك : إذ موضوع حكم العقل الشك في الحجية وبالتعبد بالمنع يقطع بعدم
الحجية فيخرج عن موضوع حكم العقل ، فهو لا يصلح للمنع عن التعبد المولوي الشرعي.
واما المورد
الخامس : فقد يقال ان حجية الأمارة من الحوادث وكل حادث مسبوق بالعدم فعند
الشك يتمسك باستصحاب عدم الحجية.
وأورد عليه الشيخ
الأعظم بأنه لا يترتب على هذا الاصل اثر إذ يكفي في حرمة العمل
بالظن عدم العلم بورود التعبد من غير حاجة إلى احراز عدم ورود التعبد به ليحتاج في
ذلك إلى الاصل ثم اثبات الحرمة ، والحاصل ان أصالة عدم الحادث إنما يحتاج إليها في
الأحكام المترتبة على عدم ذلك الحادث ، واما الحكم المترتب على عدم العلم بذلك
الحادث فيكفى فيه الشك ، ولا يحتاج إلى احراز عدمه بحكم الاصل.
وأورد عليه المحقق
الخراساني بايرادين :
أحدهما : ان الحجية من الأحكام الشرعية وأمر رفعها ووضعها بيد
الشارع وما كان كذلك يجري فيه وفي عدمه الاصل كان هناك اثر شرعي مترتب عليه أم لم
يكن.
وفيه : ان
المستصحب إذا كان حكما شرعيا أو عدمه أو موضوعا ذى حكم شرعي ، وان كان في جريان
الاستصحاب لا يحتاج إلى اثر شرعي ، إلا انه لا بد وان يترتب عليه اثر عملي لان
الاستصحاب من الأصول العملية فلا يعقل
__________________
جريانه من دون ان
يقتضي الجرى والبناء العملي وان شئت فقل ، انه كما يكون جعل الحكم الفرعي الذي لا
اثر عملي له لغوا لا يصدر من الحكيم ، كذلك استصحاب الحكم أو عدمه وابقائه مع عدم
ترتب الأثر العملي عليه يكون لغواً فلا يجري.
ثانيهما : انه إذا كان الأثر مترتبا على واقع الشيء ، وعلى الشك
فيه كليهما ، يجري الاستصحاب ويثبت به الواقع ويوجب انعدام الشك الذي جعل موضوعا
للقاعدة المضروبة لحال الشك ويكون الاستصحاب حاكما عليها ، كما في استصحاب الطهارة
، وقاعدة الطهارة ، والمقام من هذا القبيل.
وأورد عليه المحقق
النائيني ، بان الأثر إذا كان مترتبا على الواقع ، وعلى الشك ،
فبمجرد الشك يترتب الأثر لتحقق موضوعة فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، لأنه لا
تصل النوبة إلى اثبات الواقع ليجرى فيه الاستصحاب فانه في المرتبة السابقة على هذا
الإثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه فاى فائدة لجريان الاستصحاب.
وفيه : ان العقل
وان استقل بعدم ترتيب آثار الحجية بمجرد الشك فيها ، إلا انه في طول الحكم الشرعي
فبمجرد الشك يجري الاستصحاب ويقطع بعدم الحجية ، وبه يرتفع موضوع الحكم العقلي ،
ويترتب حكم عقلي آخر وهو عدم
__________________
ترتيب آثار الحجية
مع احراز عدمها.
وان شئت فقل ان
المترتب على الشك عدم الحجية الفعلية ، وما يثبته الاصل عدم الحجية الانشائية ،
فاحدهما غير الآخر ، فما يحصل بالوجدان ، غير ما يحصل بالتعبد ، فالاظهر جريان
استصحاب عدم الحجية.
حجية الظواهر
إذا عرفت ما
ذكرناه ، فيقع الكلام في الأمارات المعتبرة ، أو قيل باعتبارها في طي مباحث :
المبحث الأول : في
حجية الظواهر ، وهي من اهم المسائل الأصولية ، وعليها تدور رحى الاستنباط ، بل هي
، وحجية خبر الواحد اساس القول بانفتاح باب العلمي ، ومع انكار احداهما ، لا بد من
البناء على الانسداد.
وكيف كان فالقول
بحجية ظواهر الأدلة اللفظية الشرعية كالسنة يتوقف :
١ ـ على اثبات
الظهور.
٢ ـ وعلى ثبوت عدم
غفلة المتكلم.
٣ ـ وعلى الدليل
عليها في مقام الإثبات.
اما الأول : فمن
حيث مواد الالفاظ لا بد من الرجوع إلى اللغة ، ومن حيث الهيئة إلى سائر العلوم ،
وما لم يذكر في علم يرجع إلى علم الأصول ، كظهور الأمر في الوجوب وما شاكل ، وعلى
أي تقدير لا يبحث عنه في المقام.
واما الثاني :
فبالنسبة إلى المولى الحقيقي لا يحتمل الخطأ والغفلة حتى يحتاج إلى الإثبات ، واما
في الموالى العرفية فاصالة عدم الخطأ تجرى لبناء العقلاء عليها.
واما الثالث :
فحجية الظهورات أي كاشفيتها عن المراد الجدى ، إنما يكون ببناء العقلاء.
توضيح ذلك : ان في
كل كلام صادر من متكلم اصلين مترتبين.
أحدهما : أصالة
الظهور وبها يعين ان الظاهر هو المراد الاستعمالى عند الشك واحتمال ارادة تفهيم
غيره.
ثانيهما : أصالة
صدور الظاهر بداعي الجد : إذ بناء أهل المحاورات والعقلاء على حمل الكلام على انه
إنما صدر بداع الجد لابداع آخر ، وان مطابق الظهور مراد جدى وبناء على هذين
الاصلين العقلاء يحكمون ، بان مراد المتكلم مطابق لما هو ظاهر كلامه ، والشارع إلا
قدس لم يخط عن هذه الطريقية المألوفة.
واستدل لعدم حجية
الظهورات بان الأدلة الناهية عن العمل بالظن تشمل بعمومها للظواهر ،
وهي تكفى في الردع عن بناء العقلاء.
وفيه : ان الظواهر
ان كانت حجة تخصص تلك الأدلة بدليل حجيتها ، وإلا فظهور هذه الأدلة كغيره من
الظهورات ليس بحجة فلا وجه للتمسك به.
__________________
ثم انه وقع الخلاف
في موارد :
المورد الأول : هل
تختص حجية الظهورات بما إذا ظن بالوفاق؟.
أم يعم ما إذا لم
يظن به ، بل وان ظن بالخلاف؟.
وجوه : اقواها
الاخير : والدليل عليه هو الدليل على حجية الظهور وهو بناء العقلاء : والشاهد عليه
صحة مؤاخذة العبد إذا خالف امر مولاه معتذرا بالظن بالخلاف وعدم قبول عذره.
ويشهد لعدم اعتبار
الظن بالوفاق ، مضافا إلى ذلك روايات باب التعارض ، إذ لا يعقل حصول الظن بالوفاق في المتعارضين ، بل اما ان
يحصل الظن بالوفاق في أحدهما ، أولا يحصل في شيء منهما ، فان كان الظن بالوفاق
معتبرا ، لزم عدم حجيتهما في الصورة الثانية ، وحجية خصوص ما حصل الظن بالوفاق فيه
في الأولى وعلى كل تقدير لا تصل النوبة إلى التعارض ، فمن تلك النصوص يستكشف عدم
اعتبار الظن بالوفاق.
واستدل لاعتبار
الظن بالوفاق بما يشاهد من ان العقلاء لا يكتفون في الامور المهمة كما في الاعراض
والانفس والاموال بمجرد الظهور ما لم يحصل الظن بالوفاق.
وفيه : ان هذا يتم
في غير المؤاخذة والاحتجاج من الآثار التي يكون المطلوب فيها تحصيل الواقع ، ولا
يتم فيهما كما يظهر لمن لاحظ ديدن العقلاء في
__________________
المعاملة مع الظواهر
بالنسبة إلى الموالى والعبيد العرفية ، وتراهم لا يقبلون عذر العبد في مخالفة امر
مولاه ، بأنه ما حصل الظن مما عينه طريقا لامتثال تكاليفه ، أو حصل الظن بالخلاف
فتدبر.
عدم اختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه
المورد الثاني :
هل تختص حجية الظهور بمن قصد افهامه؟
كما اختاره المحقق
القمي (ره) ، وعليه بنى انسداد باب العلم والعلمي ،
أم يعم غيره؟
وجهان :
وقد استدل للاول
بوجوه :
الأول : ان أصالة
الظهور بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان والسامع في مقام فهم المراد مع عدم نصب
القرينة على خلاف الظاهر ، وعدم تعمد المتكلم في عدم اتيانه بالقرينة ، يتوقف على
أصالة عدم غفلة المتكلم عن نصب القرينة ، وعدم غفلة السامع عن الالتفات إليها ،
وهي الاصل في حجية الظهور.
وما لم يكن
المخاطب مقصودا بالافهام ، لا تجرى في حقه ، أصالة عدم
__________________
الغفلة لاحتمال
وجود القرائن الحالية أو المقالية ، اعتمد عليها المتكلم في مقام الافادة.
وفيه : ان الكلام
الملقى إلى شخص ان كان متضمنا لبيان حكم شخصي متعلق به خاصة كان لما ذكر وجه ،
واما إذا كان الكلام الملقى متضمنا لبيان حكم كلى متعلق بمن قصد افهامه ، وغيره ،
فقيام المتكلم مقام بيان هذا الحكم يقتضي ايصال التكليف العمومي بشخص هذا الكلام ،
فلا يصح الاعتماد على ما يختص بالمخاطب من القرينة ، أضف إليه ان احتمال وجود
القرينة لا يعتنى به ، بعد فرض كون الراوى عادلا غير خائن ، لان الغائها خيانة.
الثاني : ان بناء
الشارع إنما يكون على الاتكال على القرائن المنفصلة كما هو ظاهر لمن راجع ادلة
الأحكام ، ولا دافع لهذا الاحتمال بالنسبة إلى من لم يقصد افهامه.
وفيه : ان احتمال
وجود القرينة المنفصلة ، وان كان مانعا عن التمسك باصالة الظهور ، إلا انه لا بد
وان يفحص حتى يطمئن بعدمها لا انه يبنى على عدم حجية الظهور رأسا.
الثالث : ان
الروايات حيث قطِّعت على الأبواب ومن المحتمل ان يكون قرينة مع القطعة التي
قطّعوها من ذيل الرواية فلا تجرى أصالة عدم القرينة.
وفيه : ان
المقطِّع ان كان عامياً كان لهذا الكلام مجال.
واما لو كان
المقطِّع مثل الكليني (ره) الذي هو ثقة وعارف باسلوب الكلام فنقله لقطعة من
الرواية دليل على عدم وجود قرينة صارفة لظهورها صدرا
وذيلا.
وبعبارة أخرى :
كما نقول بحجية الخبر المنقول بالمعنى ، إذا كان الناقل غير عامى ، مع انه يحتمل
وجود القرينة الصارفة ، كذلك نقول في الخبر المقطَّع.
مع انه لو سلم هذه
الكبرى الكلية أي ان الظهورات حجة على المقصودين بالافهام ، دون غيرهم ، نقول في
الروايات ، ان المخاطب بالخطاب الصادر عن المعصوم (ع) مقصود بالافهام فالخطاب حجة
عليه ، وهو يروى الخبر لكل من سمعه أو رآه في الكتاب ، فالكل مقصودون بالافهام
بالنسبة إليه فهو حجة على الجميع.
حجية ظواهر الكتاب
المورد الثالث :
هل تختص حجية الظواهر ، بغير ظواهر الكتاب ، أم تعمها وجهان ، قد استدل للاول
بوجوه ، وهي على قسمين :
الأول : ما استدل
به على منع اصل الظهور.
الثاني : ما استدل
به على عدم حجيته.
اما القسم الأول :
فهي أمور :
احدها : ما دل على اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به ، وهو النبي (ص)
وأوصياؤه ، وفي بعضها الردع لابي حنيفة وقتادة ويحك ما ورثك الله من كتابه حرفا ، وهذا هو الموافق للاعتبار إذ القرآن مشتمل على معان
غامضة ومطالب عالية ، ويشتمل على علم ما كان وما يكون ، نزل في مقام الاعجاز فلا
يصل إلى معانيه فكر البشر غير الراسخين في العلم.
وفيه : ان تلك
النصوص إنما تدل على ان للقرآن بطونا لا يصل إليها فكر البشر غير من خوطب به ، ففي
كل مورد يحتمل ذلك ، لا بد من الرجوع إليهم لدفع هذا الاحتمال.
وبعبارة أخرى :
المنهي عنه هو الاستقلال في الفتوى من دون المراجعة إليهم وعلو مطالبه ، وغموض
معانيه ، لا يكون موجبا لكون بيانه مخلا بالمقصود ، فمع فرض ذلك كله فهو متناسب
لاذواق أهل العصور ولو لا ذلك لما كان لاثبات اعجازه سبيل.
ثانيها : ان
القرآن نزل على سبيل الرموز كما في فواتح السور.
وفيه انه خلاف
كونه معجزة خالدة.
__________________
ثالثها : العلم
الإجمالي بوجود القرائن المنفصلة الدالة على ارادة خلاف الظاهر منه كثيرا من
المخصصات والمقيدات وهو يمنع عن جريان أصالة الظهور كما يمنع عن جريان الأصول
العملية.
وفيه : أولا : ان
المعلوم بالإجمال معنون بعنوان خاص وهو الموجود في الكتب التي بايدينا فبعد الفحص
والظفر بالمقدار المعلوم ينحل العلم الإجمالي حقيقة ، أو انه إذا تفحص ولم يجد
القرينة على ارادة خلاف الظاهر لهذا الظهور يخرج ذلك عن طرف العلم.
وثانيا : لو سلم
عدم تعنون المعلوم بالإجمال ، بما ذكر واحتمل وجود القرينة في غير تلك الكتب ، لو
ظفرنا بعد الفحص بجملة من القرائن بمقدار المعلوم بالإجمال ، لا محالة ينحل العلم
الإجمالي حكما ولا مانع من إجراء أصالة الظهور في غير تلك الموارد.
رابعها : وقوع
التحريف واحتمال ان يكون فيما حرفوه قرينة صارفة لهذا الظهور.
وفيه : أولا :
اثبتنا في محله بالادلة القطعية عدم وقوع التحريف في القرآن ، وأجبنا عن الروايات
الموهمة لذلك.
وثانيا : ان
النصوص الآمرة بالرجوع إلى القرآن ، وعرض الأخبار إليه ناظرة إلى القرآن ، المدعى
تحريفه ، لان تلك النصوص عمدتها صادرة عن الصادقين عليهماالسلام ، والتحريف على فرض وقوعه إنما يكون في زمان الخلفاء ،
فهذه الأخبار تدل على حجية ظهورات الكتاب الذي بايدينا ، فيستكشف منها ، انه لم
يقع التحريف فيه أو على فرض وقوعه ، فإنما هو في الآيات الواردة في فضائل
أهل البيت لا آيات
الأحكام ، أو انه على فرض وقوعها فيها ليس فيما حرفوه قرينة صارفة لظواهر تلك
الآيات.
واما القسم الثاني
: فهو أمران :
الأول : ما دل من
النصوص الكثيرة على النهي عن تفسير القرآن بالرأى ، بدعوى ان حمل الكلام
على ظاهره تفسير بالرأى.
وفيه : أولا : ان
حمل الكلام على ظاهره ليس من التفسير بالرأى.
وثانيا : انه ليس
من التفسير لأنه عبارة عن الايضاح والبيان والكشف ، وحمل اللفظ على معناه الظاهر
الذي ليس عليه قناع ليس منه.
وثالثا : انه لو
سلم شمول تلك النصوص لحمل اللفظ على ظاهره ، فهي معارضة بالنصوص المتواترة الدالة
على الرجوع إلى الكتاب ، وطرح ما خالفه ، واستشهاده (ع) بظاهره ، فلا بد من الجمع بينهما اما بحمل الأولى على الاستقلال
في الاستفادة ، واما على تأويله بما يطابق القياس والاستحسانات.
الثاني : ما دل
على النهي عن اتباع المتشابه .
__________________
بدعوى : ان
المتشابه مقابل للصريح وهو ما يحتمل فيه وجهان أو وجوه ، فيشمل الظاهر.
وفيه ان المتشابه
هو ما تساوى طرفاه فلا يحتمل صدقه على الظاهر.
مع انه لو سلم
شموله للظاهر ، لا يجوز الاستدلال بهذه الآية الناهية عن اتباع المتشابه على عدم
حجية ظواهر الكتاب ، وإلا يلزم من وجوده عدمه ، إذ لفظ المتشابه من جملة الظواهر
القرآنية ، فيكون داخلا تحت المتشابه ، فلا يجوز الاستدلال به وما يكون كذلك لا
يصح فلا بد وان يقال انها مختصة بحمل اللفظ المجمل على احد معنييه.
فتحصل : ان الاظهر
حجية ظواهر الكتاب ، ويشهد له : مضافا إلى ذلك كله : النصوص الآمرة بالرجوع إلى الكتاب
التي تقدمت الإشارة إليها.
لو شك في المراد
ثم انه لو لم يحرز
المراد :
فتارة يكون من جهة
عدم احراز الظهور.
واخرى يكون من جهة
احتمال عدم تطابق المراد الجدي للمراد الاستعمالي.
فهل هناك اصل
عقلائي من قبيل أصالة الظهور ، أو أصالة عدم القرينة ، أو أصالة الحقيقة يعين
المراد أم لا؟ أم هناك تفصيل بين الموارد؟.
وقبل الشروع في
بيان هذه المسائل لا بد من تقديم مقدمات :
الأولى : ان
الاحتياج إلى هذه الأصول إنما يكون لان يحتج بها على المولى إذا ادعى المولى ارادة
خلاف الظاهر.
الثانية : انه لا
بد وان تكون الحجة مناسبة لمورد المحاجة.
الثالثة : ان
الظهور المنعقد للكلام حجة ما لم يثبت حجة أقوى على خلافه ولم تصل.
إذا عرفت هذه
الامور فاعلم ان عدم احراز مراد المولى ربما يكون لأجل عدم احراز الظهور ، وربما
يكون منشؤه احتمال عدم كون الظاهر مرادا.
اما الأول فمنشؤه
، اما ان يكون عدم احراز الموضوع له ، واما ان يكون احتمال غفلة المتكلم عن نصب
القرينة.
واما ان يكون
احتمال ترك نصبها عمدا لمصلحة أو غيرها.
واما ان يكون
احتمال اتكاله على القرينة المنفصلة.
فإن كان الشك في
المراد بعد انعقاد الظهور ، فالمرجع هو أصالة الظهور التي هي بنفسها اصل وجودي
ثابت ببناء العقلاء وعدم ردع الشارع في الفروض الثلاثة ، ولا يكون مجال لاجراء
أصالة عدم القرينة.
اما في الاولين
فللعلم بعدم نصبها مع ان ذلك الاصل لا يناسب مورد المحاجة لو ادعى المولى ارادة
خلاف الظاهر.
واما في الثالث أي
احتمال القرينة المنفصلة ، فلان الظهور المنعقد للكلام
حجة ما لم يثبت
حجة أقوى على خلافها كما تقدم ، والحجة متقومة بالوصول ، فالقرينة غير الواصلة
بوجودها الواقعي لا يترتب عليها الأثر فلا مجال لاجراء أصالة عدم القرينة ، فبمجرد
عدم الوصول بعد الفحص يتبع أصالة الظهور من دون ان يجري أصالة عدم القرينة.
واما لو شك في
المراد لأجل عدم احراز الظهور.
فان كان منشؤه عدم
احراز الموضوع له لا مجال لاجراء أصالة الظهور.
ولا أصالة عدم
القرينة كما لا يخفى ، بل يرجع إلى الأصول العملية.
وان كان منشأه
احتمال قرينية الموجود ، فعلى القول بكون أصالة الحقيقة بنفسها أصلاً عقلائيا ،
فتجرى هي ، ويحرز بها الظهور.
وعلى القول بعدم
كونها كذلك كما اختاره الشيخ الأعظم (ره) فلا مجال لاجرائها في المقام ولا سبيل إلى احراز الظهور ،
والمراد.
وان كان منشؤه
احتمال وجود القرينة وقد غفل عنها السامع ، فلا ريب في عدم الاعتناء بهذا
الاحتمال.
إلا ان هنا
بالخصوص نزاعا بين العلمين :
حيث ان المحقق
الخراساني يدعى انه يبنى على أصالة الظهور ابتداء.
والشيخ (ره) ذهب
إلى انه يبني على ان المراد هو ما يكون اللفظ ظاهرا فيه
__________________
لو لا القرينة
لاصالة عدم القرينة .
والظاهر : لزوم
إجراء أصالة عدم القرينة ، لأنه ما لم يجر هذا الاصل لا يكون الظهور محرزا كي يجري
أصالة الظهور ، على انه قد عرفت لزوم مطابقة الدليل لمورد المحاجة ، فإذا ادعى
المولى ، ارادة خلاف الظاهر مع نصب القرينة فالذي يفيد في مقام احتجاج العبد ، على
المولى هو أصالة عدم القرينة لا أصالة الظهور ، وبعد ذلك ، ان لم يحتمل ارادة خلاف
الظاهر ، وعلم انه على فرض عدم القرينة المراد مطابق للظهور ، لا مجال لاجراء
أصالة الظهور ، لعدم الاحتياج إليها ، وإلا فلا بد من اجرائها أيضاً ، والشيخ حيث
فرض العلم بان المراد مطابق للظهور على فرض القطع بعدم القرينة ، فما أفاده من إجراء
أصالة عدم القرينة خاصة متين غايته.
ولا يرد عليه ما
اورده المحقق الخراساني إذ الظاهر ان مورد كلام الشيخ هو خصوص هذا المورد كما يظهر
لمن راجعه.
وان كان منشؤه
احتمال وجود القرينة المتصلة ولم يصل إلى المكلف للتقطيع ، فعن المحقق القمي (ره) ، انه مع هذا الاحتمال لا تجرى أصالة عدم القرينة ومعه
يكون الكلام مجملا ، ولكن قد تقدم ان هذه الكبرى الكلية في
__________________
نفسها تامة إلا
انها غير منطبقة على الروايات المقطعة ، بعد كون المقطع لها من قبيل الكليني
واشباهه.
حجية قول اللغوي
المبحث الثاني :
في حجية قول اللغوى وعدمها ، وقد نسب إلى المشهور حجيته ، واستدل لها بوجوه :
الأول : الإجماع
على العمل بقول اللغوى ، إذ العلماء خلفا عن سلف يراجعون كتب اللغة ويعملون بها.
وفيه : أولا : ان
تحصيل الإجماع في هذه المسألة التي لم يتعرض لها الأكثر في غاية الاشكال.
وثانيا : انه
لاعتمادهم على الوجوه الأخر ، ولا اقل من احتمال ذلك لا يكون اجماعا تعبديا.
الثاني : ان
اللغوى من أهل خبرة هذا المقام ، وقد بنى العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة في كل
فن في ذلك الفن من دون اعتبار التعدد والعدالة.
وفيه : ان المخبر
به ان كان امرا محسوسا يعتبر في قبول الخبر كون المخبر ثقة ، ومتعددا ، على
المشهور ، وان كان من الامور الحدسية فان كان ذلك في باب الترافع ، والتنازع يعتبر
فيه التعدد والعدالة ، وإلا فان كان المخبر به من أهل
الخبرة لا يعتبر
فيه ذلك ، نعم يعتبر كون خبره مفيدا لمرتبة من الوثوق والاطمينان ، لتسكن معه
النفس وإلا ففي حجيته اشكال ، والرجوع إلى أهل اللغة لتعيين موارد الاستعمال ، وان
صح إلا انه من المحسوسات فيعتبر في قبول خبره ما يعتبر في قبول خبر غيره بلا
خصوصية فيه ، والرجوع إليهم لتعيين المعنى وتمييزه عن المعنى المجازى ، لا يصح
لعدم كونهم من أهل خبرة ذلك.
الثالث : انه على
فرض عدم حجيته يلزم انسداد باب العلم في خصوص اللغات إذ غالب معاني الالفاظ مجهولة
لغير أهل اللسان اما ، أصلاً ، أو سعة وضيقا ، ووجه ذلك بعضهم بأنه يلزم من إجراء
البراءة في تلك الموارد المخالفة القطعية فيلزم التنزل إلى حجية الظن الحاصل من
قول اللغوى.
وفيه : أولا ان
مقدمات الانسداد لا تنحصر فيما ذكر بل يتوقف الانسداد الموجب للتنزل إلى العمل
بالظن ، على ان يكون الاحتياط غير واجب ، أو غير جائز ، ولا يكون الاحتياط مع
انسداد باب العلم باللغات غير جائز أو غير واجب.
وثانيا : انه لا
يلزم من هذا الانسداد ، انسداد باب العلم بالاحكام ، إذ قل لفظ لا يكون معناه ،
مبينا ، فهل بسبب عدم معلومية معاني جملة قليلة من الالفاظ يلزم انسداد باب العلم.
وثالثا : انه لو
سلم تلازم انسداد باب العلم باللغات مع انسداد باب العلم بالاحكام ، كان اللازم هو
التنزل إلى كل ما يفيد الظن بالحكم كان ذلك قول اللغوى أو غيره كما لا يخفى.
الرابع : ان ادلة
حجية خبر الواحد تدل على حجية قول اللغوى.
وفيه : ان اللغوى
ان اخبر عن موارد الاستعمالات فغاية ما يثبت من تلك الأدلة ، بعد اجتماع الشرائط
هو ثبوت الاستعمال ، وهو اعم من الحقيقة ، وان اخبر عن كون لفظ موضوعا لمعنى خاص ،
فالمخبر عنه امر حدسى ، ولا دليل على حجية خبر الواحد في الامور الحدسية.
الخامس : انه يرجع
إلى اللغة ويعين بها مورد الاستعمال فيرجع إلى أصالة عدم القرينة ويحرز بها ان
المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي.
وفيه : مضافا إلى
عدم تمامية ذلك ، فيما ذكر للاستعمال موارد متعددة ان أصالة عدم القرينة حجة فيما
أحرز المعنى وشك في المراد ، لا فيما إذا أحرز المراد ، وشك في المعنى ، كما في
المقام.
فتحصل ان الاظهر
عدم حجية قول اللغوى ما لم يحصل منه الاطمينان.
مدرك حجية الإجماع
المبحث الثالث :
في حجية الإجماع المنقول ، وحيث انه لا دليل على حجيته سوى توهم اندراجه في الخبر
الواحد فيعمه ادلة حجيته كان ينبغى تأخير البحث عنها عن حجية خبر الواحد ، لكن
الشيخ الأعظم قدم البحث عنها وتبعه سائر المحققين ونحن أيضاً نقتفى اثره.
وقبل الدخول في
البحث عنها لا بد من التعرض لمدرك حجية الإجماع المحصل.
وملخص القول فيه ،
انه لا ريب في ان مدرك حجية الإجماع ليس هو الإجماع ولا بد وان يكون غيره كما هو
واضح ، وليس هو الكتاب كما لا يخفى ، ولا السنة لعدم ورود نص بذلك ، ولا العقل
لعدم تصور حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي يكون مخفيا علينا ، فعلى هذا الإجماع
بما هو اجماع ليس بحجه وإنما ينحصر وجه حجيته باستكشاف رأى المعصوم والقطع به فلا
فائدة في اطالة الكلام في بيان المراد من لفظ الإجماع ، فالصفح عنه اولى ، بل لا
بد من البحث في مستند القطع ، وقد ذكروا فيه وجوها.
منها : الملازمة
العقلية ، وتقريبها من وجهين :
الأول : قاعدة
اللطف وقد اعتمد عليها شيخ الطائفة (ع) وتبعه جماعة وتقريبها ، ان الواجب على الإمام الذي هو
الحجة على الانام تبليغ الأحكام الشرعية الموجبة لتكميل النفوس ، وتوصل العباد إلى
مناهج الصلاح ، وهذه هي وظيفته المحولة إليه من قبل الله سبحانه الذي يجب عليه
تكميل نفوس البشر ، وارشادهم إلى مناهج الصلاح ، بانزال الكتب وبعث الرسل.
وعلى ذلك فإذا
اتفقت الامة على حكم فان كان موافقا لرأيه (ع) فهو المطلوب ، وإلا فيجب عليه القاء
الخلاف بينهم فمن عدم الخلاف يستكشف موافقة رأيه لما اجمع الاصحاب عليه.
وفيه : ان الواجب
على الإمام (ع) إنما هو تبليغ الأحكام الشرعية على
__________________
النحو المتعارف لا
ايصاله إلى العباد ولو بنحو غير متعارف ، وهم (ع) قد بينوا الأحكام جميعها وإنما
لم يصل الينا مثلا بواسطة اخفاء الظالمين وخوف الاصحاب المعاصرين لهم عن بيانها
تقية ، فلا يجب عليه (ع) القاء الخلاف من طريق غير متعارف ، والا لزم بيان الحكم
على كل فرد فرد ، لا على المجموع من حيث المجموع إذ قاعدة اللطف تقتضي ، بيان
الأحكام على كل فرد والالتزام بالاستكشاف من رأي كل فرد كما ترى ، مع انه يلزم
حجية قول فقيه واحد لو انحصر الفقيه فيه في عصر.
الثاني : القطع
بالحكم الحاصل من تراكم الظنون كما يحصل القطع من الخبر المتواتر.
وفيه : ان ذلك يتم
في الأخبار عن المحسوسات ، كما في الخبر المتواتر ، فإن التواطؤ على الكذب بعيد
غايته وكذلك احتمال الخطأ في الكل ، واما في الأخبار عن الحدسيات التي لا بد فيها
من اعمال النظر ، فاحتمال الخطأ إذا كان متمشيا في واحد يكون متمشيا في الكل ،
والمقام من قبيل الثاني كما لا يخفى.
ومنها : الملازمة
العادية ، لقضاء العادة باستكشاف رأي الرئيس عن آراء المرءوسين.
وفيه : ان ذلك يتم
فيما إذا كان اتفاق المرءوسين في حال الحضور وامكان الوصول إلى شخصه ، فان اتفاقهم
في هذه الصورة ، يكشف عن رأيه لا محالة ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن كذلك ، بل كان
الاتفاق اتفاقيا ، ولم يمكن الوصول إلى شخص الرئيس عادة ، فان في مثل ذلك لا يكشف
عن رأيه قطعا ، ومن الضروري ان اتفاق العلماء من قبيل الثاني.
ومنها : دخول
الإمام في المجمعين :
اما بدخوله في
جماعة افتوا بفتوى معين مع عدم معرفته بشخصه.
واما بالسماع منه (ع)
ولو بالواسطة لقرب عصرهم بعصر الحضور ثم ينضم إليه فتوى بقية العلماء ، وينقل
الجميع بعنوان الإجماع.
واما بالتشرف
بحضوره وسماع الحكم منه ونقل الإجماع عليه لئلا يتوجه الناس إلى التشرف.
اما الوجه الأول :
فيرد عليه انه لو كان محتملا في زمان الحضور ، لما كان يحتمل في عصر الغيبة.
واما الوجه الثاني
: فيرد عليه مضافا إلى عدم تحققه في الخارج ، ان النقل كذلك يشبه بالاكل من القفاء
إذ لو نقل رأيه (ره) كان اولى.
واما الوجه الثالث
: فقد امرنا بتكذيب من ادعى الحضور عملا فلا يعتنى به.
ومنها : الملازمة
الاتفاقية ، ولا يمكن انكارها رأسا.
وتفصيل القول فيه
ان الاتفاق ان كان في مورد وجود ، اصل ، أو قاعدة ، أو إطلاق ، أو خبر ، فهو في
نفسه لا يكشف عن رأى المعصوم ، ولا عن وجود دليل معتبر غير ذلك في البين ، ولو لم
يكن في البين ذلك ، فلا محالة يكشف الاتفاق بل افتاء شخص واحد عن وجود دليل معتبر
عندهم : إذ عدالتهم مانعة عن الافتاء بغير دليل فحينئذ :
تارة يحتمل
اعتمادهم على ، اصل ، أو قاعدة ، ولم يذكروها في كتبهم ففي
مثل ذلك لا يستكشف
رأى المعصوم ، واخرى لا يحتمل ذلك فيختلف حسب اختلاف الاشخاص فرب شخص يحصل له
القطع برأى المعصوم (ع) من افتاء جماعة معدودين.
وآخر لا يحصل له
القطع ، إلا من اتفاق الكل.
وثالث ، لا يحصل
له القطع أصلاً من جهة احتماله اعتمادهم على خبر لو وصل إليه ، لما كان يرى ظهوره
في هذا الحكم ، فهذا يختلف باختلاف الموارد والاشخاص.
حجية الاجماع المنقول
إذا تبين مدرك
حجية الإجماع المحصل ، فيقع الكلام في ما انعقد البحث له ، وهو حجية المنقول من
الإجماع.
وملخص القول فيها
، انه حيث عرفت ان لا دليل لها سوى توهم شمول ادلة حجية خبر الواحد له ، فالمتعين
هو البناء على حجيته في بعض الموارد.
توضيح ذلك ان
المخبر عنه ربما يكون امرا حسيا وربما يكون حدسيا ، والثاني قد يكون منشؤه تام
السببية في نظر المنقول إليه بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك السبب ، لقطع بذلك الأمر
الحدسي ، وقد لا يكون كذلك.
والمدعى حجية
الخبر في الموردين الأولين ، دون الاخير كما ذهب إليه المحقق
الخراساني : والوجه في ذلك :
ان ادلة حجية
الخبر الواحد إنما تدل على حجية الأخبار عن حس ، لان عمدة ادلة حجية خبر الواحد هي
، آية النبأ ، وبناء العقلاء وإلا فبقية الأدلة اما لا تدل عليها ، أولا إطلاق لها
ولها قدر متيقن ، وهما مختصان بالاخبار عن حس.
اما الآية فبقرينة
التفصيل بين العادل والفاسق ، والتعليل بقيام احتمال الندم مع عدم التبين عن خبر
الفاسق ، تدل على عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب ، ولا تدل على تصويبه في حدسه ،
لان احتمال الخطأ في الحدس مشترك بين العادل والفاسق فلا يصح الفرق بينهما في ذلك
، فالآية متكلفة لالغاء احتمال تعمد الكذب.
فحينئذ ان كان
المخبر عنه حسيا ، وكان المخبر موثوقا به ، وظابطا أي لم يكن آفة في حاسته يكون
خبره لا محالة كاشفا نوعيا عن الواقع ، وهذه الكاشفية هي المقتضية لبناء العقلاء
على أصالة عدم الخطأ واتباع الخبر.
واما إذا كان
المخبر عنه حسيا ولم يكن المخبر له الضبط ، أو كان المخبر عنه حدسيا فبما ان الخبر
لا كاشفية نوعية له عن الواقع فلا بناء من العقلاء على أصالة عدم الخطأ له فلا
يكون الخبر حجة فيهما.
ولذلك ترى ان
الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم يعتبرون في الراوى ، والشاهد الضبط ، وليس ذلك
لأجل دليل خاص مخرج لخبر غير الضابط عن تحت ادلة حجية الخبر الواحد بل إنما يكون
لأجل عدم المقتضى لها لاحتمال
__________________
الخطأ ، والآية لا
نظر لها إلى عدم الاعتناء به ، ولا بناء من العقلاء على عدمه.
وكذلك لو كان
المخبر عنه حدسيا ، فان الآية لا نظر لها إليه ، وبناء العقلاء ليس على تصويبه ،
فلا يكون الخبر حينئذ حجة.
نعم إذا كان
المخبر عنه حدسيا ، وكان المنقول إليه جازما باصابة الحدس على تقدير تحقق المنشأ
يكون الخبر حجة ، لان عدم ثبوت المخبر عنه لا بد وان يستند اما إلى الخطأ في الحدس
، والمفروض الجزم بعدمه وكونه مصيبا ، أو إلى عدم تحقق المنشأ ، واحتمال تعمد
الكذب ، فالآية وبناء العقلاء تدلان على عدم الاعتناء به فلا محالة يثبت المخبر
عنه هذا كله فيما يدل عليه ادلة حجية خبر الواحد.
وبه يظهر الحال في
نقل الإجماع توضيحه ، ان الناقل ربما ينقل المسبب ، وهو رأى المعصوم (ع) وربما
ينقل السبب ، وهو فتاوى الفقهاء.
فان نقل المسبب
فان علم انه ينقله عن حس كما في العلماء في عصر الحضور ، فهو حجة.
وان أحرز ان
المخبر عنه حدسى كما في العلماء في هذا العصر ، فان كان المنقول إليه يرى سببية ما
يراه الناقل سببا لاستكشاف راى المعصوم (ع) فنقله حجة وإلا فلا.
فتفصيل المحقق
الخراساني بين ما إذا كان السبب تاما في نظر المنقول
__________________
إليه ، وبين ما
إذا لم يكن كذلك والبناء على الحجية في الأول خاصة ، مع اشتراكهما في كونه اخبارا
عن المسبب بالالتزام ، وعن السبب بالمطابقة.
هو الصحيح ولا يرد
عليه شيء مما أورد عليه.
وان لم يحرز كونه
حدسيا أو حسيا ، فان لم يكن امارة ظنية على كونه حدسيا فهو حجة ، لبناء العقلاء
عليه ، من جهة الكاشفية النوعية عن الواقع ، إذ ظاهر حال العاقل في دعوى الجزم
بشيء كونه مستندا إلى سبب عادى متعارف ، نعم مع الأمارة على كونه حدسيا لا بناء من
العقلاء على كونه حسيا لعدم الكاشفية المشار إليها.
وان نقل السبب فهو
يختلف من حيث كونه ، تارة حسيا ، واخرى حدسيا ناشئا من لحاظ اتفاق جمع من الاساطين
، بنحو استكشف منه كونه من المسلمات عند الكل ، وهذا المعنى يختلف بحسب اختلاف
الناقلين من حيث الاحاطة بكلمات الاصحاب وعدمها ، وعلى كل تقدير قد يقال ان نقل
السبب حجة في المقدار الذي علم أو احتمل مع عدم الأمارة على الخلاف ، استناده إلى
الحس ، وحينئذٍ ان بلغ ذلك في نظر المنقول إليه حدا يكشف عن رأى المعصوم فهو (ع)
وإلا فيحتاج في كشفه إلى ضم ما يتم به السبب ، ولكن بشرط ضم ما علم انه غير ما
نقله الناقل كما لا يخفى.
ولكن الاظهر
البناء على عدم حجية نقل السبب إلا إذا كان المنقول تام السببية في نظر المنقول
إليه ، وذلك لأنه يعتبر في شمول ادلة الحجية لشيء كونه اثرا شرعيا ، أو موضوعا لاثر
شرعي ، وكونه ملازما لشيء هو اثر شرعي أو موضوع له لا يكفي.
وحجية الأمارة في
مثبتاتها إنما هو باعتبار كونها اخبارا بالالتزام عن اللازم أيضاً ، كما انه اخبار
عن الملزوم وفي المقام الأخبار عن اللازم وهو رأى المعصوم غير مشمول لادلة الحجية
لكونه خبرا حدسيا ، والاخبار عن الملزوم غير مشمول له لعدم الأثر.
مع انه لو اغمض عن
ذلك يكون المخبر عنه من الموضوعات ، والمشهور اعتبار التعدد فيه ، واما إذا كان
المنقول تام السببية في نظر المنقول إليه فقد تقدم ان ادلة الحجية حينئذ تشمل ما
ينقله من رأى المعصوم أو الحجة المعتبرة.
وبما ذكرناه ظهر
حال نقل السبب والمسبب معا.
بقي أمران لا بد
من التعرض لهما :
أحدهما : ان
الاجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو اكثر.
فتارة ينقل كل من
الناقلين ، المسبب.
واخرى ينقل السبب.
وثالثة : يختلفان
في النقل.
اما الأول : فان
كان النقلان غير حجتين كما إذا كانا عن حدس وعن منشأ لامنشئية له في نظر المنقول
إليه ، فلا كلام ، وان كان أحدهما حجة دون الآخر كان ، هو المتبع ، وان كان كل
منهما حجة لو كان وحده ، كان من باب تعارض الامارتين ، فلا بد من اعمال ما يقتضيه
القاعدة من التساقط ، أو التخيير.
وان نقلا معا
السبب ، فان كان المنقول إليه لكل منهما غير ما ينقله الآخر ، كما إذا نقل أحدهما
اتفاق علماء عصر ، ونقل الآخر اتفاق علماء عصر آخر ،
فلا تعارض بينهما
، بل لا بدّ للمنقول إليه من ملاحظة تلك الأقوال وفرضها كأنه حصَّلها.
وان كان المنقول
لهما شيئا واحدا يقع التعارض بينهما.
وبما ذكرناه ظهر
حال ما إذا نقل أحدهما المسبب والآخر السبب.
الثاني : في حكم
نقل التواتر من حيث المسبب والسبب.
وملخص القول فيه
ان نقل التواتر ، قد يوجب قطع المنقول إليه بما اخبر به ، لو علم به ، ولو لم يكن
بينهما ملازمة عادية وقد لا يوجب ذلك ، وفي الأول يكون النقل حجة دون الثاني ، كما
يظهر لمن راجع ما ذكرناه في الإجماع المنقول ، هذا فيما إذا لم يترتب الأثر على
الخبر المتواتر من حيث هو ، وإلا وجب ترتيبه.
حجية الشهرة الفتوائية وعدمها
المبحث الرابع :
في حجية الشهرة الفتوائية وعدمها.
وملخص القول في
المقام ، ان الشهرة على اقسام :
الأول : الشهرة في
الرواية ، ويقابلها الشاذ النادر الذي لم ينقله المشهور.
الثاني : الشهرة
في الاستناد وهي المعبر عنها بالشهرة العملية ، أي يكون استنادهم في الفتوى إلى
تلك الرواية ، ويقابلها الشاذ النادر الذي لم يستند المشهور في الفتوى إليه بل
اعرضوا عنه.
الثالث : الشهرة
في الفتوى من دون ان يعلم مستندهم ، ويقابلها الشاذ
النادر الذي لم
يفت به المشهور.
اما الاولان
فسيأتى الكلام فيهما في مبحث التعادل والتراجيح.
إنما الكلام في
المقام في القسم الثالث ، وقد استدل لحجية تلك الشهرة أي الشهرة الفتوائية ، بوجوه
:
الوجه الأول :
قوله (ع) في مقبولة ابن حنظلة بعد الأمر باخذ المشهور وترك الشاذ النادر ، فان
المجمع عليه لا ريب فيه .
إذ المراد به
المشهور لا الإجماع المصطلح للأمر بترك الشاذ النادر ، فيكون مفاد التعليل ، ان
المشهور مما لا ريب فيه ، ومقتضى عموم العلة حجية كل شهرة لا خصوص الشهرة الروائية
التي هي المعللة.
وأورد عليه المحقق
النائيني (ره) بان هذه العلة ليست من قبيل العلة المنصوصة ، التي تعمم
وتخصص ، إذ العلة المنصوصة ، التي تكون كبرى كلية هي ما يصح التكليف بها ابتداء ،
بلا ضم المورد إليها ، نظير لا تشرب الخمر لأنه مسكر ، إذ يصح النهي عن شرب كل
مسكر ، وهذه العلة لا تصلح لذلك ، إذ المراد من لا ريب فيه ليس هو ما لا ريب فيه
بقول مطلق ، لعدم كون المشهور كذلك ، بل المراد منه لا ريب فيه بالاضافة ، ولا
يصلح ان يقال" خذ ما لا ريب فيه" بالاضافة إلى غيره ، وإلا لزم الأخذ
بكل راجح بالقياس إلى غيره ، ولو كان
__________________
هو الاحتمال
المتساوي الطرفين ، وعلى ذلك فالتعليل اجنبي عن الكبرى الكلية التي يتعدى عنها.
ويمكن تصحيح كونها
كبرى كلية ، مع ذلك تكون اجنبية عن المقام ، وذلك لوجهين :
أحدهما : ان
المراد من لا ريب فيه هو عدم الريب فيه بقول مطلق لان الإمام طبق الأمر البين
الرشد على الخبر المجمع عليه ، ولا ينافى ذلك فرض الراوى الشهرة في المتعارضين ،
إذ المراد من عدم الريب عدمه من حيث الصدور خاصة ، وبديهي انه يمكن ان يكون
المتعارضان صادرين عن المعصوم ، أحدهما لبيان الحكم الواقعي ، والآخر للتقية وجعل
هذه كبرى كلِّية يتعدى عن موردها إلى كل مورد اطمئن بصدور الخبر ، لا مانع منه.
وبه يظهر عدم صحة
الاستدلال به في المقام.
ثانيهما : ان
العلة علة للاخذ بإحدى الحجتين لا لجعل الحجية لشيء ، والتعدى عن المورد إلى كل
متعارضين كان الريب في أحدهما اقل لا محذور فيه وقد التزم الشيخ بذلك.
وبه يظهر جواب آخر
عن الاستدلال ، فان العلة علة للترجيح لا لجعل الحجية.
الوجه الثاني :
إطلاق قوله (ع) في مرفوع زرارة ، خذ بما اشتهر بين
اصحابك .
حيث ان الموصول من
المبهمات ، ومعرفه الصلة ، واطلاقها يشمل الشهرة الفتوائية ، ومورده وان كان
الشهرة الرواية بقرينة السؤال ، إلا ان العبرة بعموم الجواب لا بخصوص المورد.
وأجاب عنه الشيخ
الأعظم بجوابين :
أحدهما : انه ضعيف
السند.
وهو متين كما سيمر
عليك.
الثاني : ان
المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة ، بقرينة ان السؤال عن الخبرين
المتعارضين فيكون معرف الموصول ومبين المراد منه غير صلته ، كما يظهر لمن تأمل في
نظائره من الامثلة ، فإذا قيل أي المسجدين تحب فأجاب ما كان الاجتماع فيه اكثر كان
ظاهرا في خصوص المسجد الذي كان الاجتماع فيه اكثر لا مطلق المكان الذي كان كذلك.
أضف إليه ان
الشهرة الفتوائية لا تقبل ان يكون في طرفي المسألة فقول الراوى بعد ذلك انهما
مشهوران ماثوران ، اوضح شاهد على المراد هو الشهرة في الرواية ، وسيأتي الكلام في
ذلك في محله.
__________________
والحق في الجواب
ان يقال ان الأمر بالاخذ لا يكون ارشادا إلى الحجية ، بل إلى ترجيح احدى الحجتين
على الاخرى فلا وجه للتمسك باطلاقه لحجية الشهرة الفتوائية ، نعم لا بأس بالتمسك
به لمرجحيتها أيضاً.
الوجه الثالث :
فحوى ما دل على حجية خبر الواحد لان ملاك حجيته المستفاد من الأدلة هو حصول الظن
والظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى فيدل دليل حجية خبر الواحد على حجيتها
بالاولوية.
وفيه : انه لم
يثبت كون ملاك حجية الخبر ذلك بل لعله كونه غالب المطابقة للواقع باعتبار كونه
اخبارا عن حس واحتمال الخطأ في الحس بعيد بخلاف الأخبار عن حدس كما في الفتوى فان
احتمال الخطأ في الحدس غير بعيد.
ويحتمل ان يكون
الملاك خصوصية أخرى في الخبر ومع احتمال ذلك لا تتم دعوى الاولوية ، بل الثابت عدم
كون الملاك ما ذكر ، لان الخبر حجة مع عدم الظن بل مع الظن بخلافه.
الوجه الرابع :
العليل في ذيل آية البناء وهو قوله تعالى (أَن تُصِيبُوا
قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فان تعليل عدم حجية خبر الفاسق باصابة القوم بجهالة أي
السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغى الاعتماد عليه ، يدل على حجية المشهور ، فان
الاعتماد عليه ليس من هذا الباب.
وبعبارة أخرى :
المورد وان كان هو الخبر إلا ان العلة كما تخصص تعمم.
__________________
وفيه : ان مقتضى
تعميم العلة ، عدم حجية كل ما يكون الاعتماد عليه سفاهة وجهالة ، ولا تقتضي حجية
كل ما لا يكون كذلك لعدم ثبوت المفهوم له ، كما لا يخفى ، فكون العلة مخصصة ومعممة
اجنبي عن المقام.
مع ان كون
الاعتماد على الشهرة اعتمادا على ما ينبغى الاعتماد عليه أول الكلام ، واثباته به
دور واضح.
فالمتحصل عدم حجية
الشهرة الفتوائية.
حجية خبر الواحد
المبحث الخامس :
وقبل الدخول في البحث ، لا بدَّ وان يعلم ان البحث عن حجية الخبر الواحد ، إنما
يكون من أهم المسائل الأصولية ، فان أساس القول بانفتاح باب العلمي ، وانسداده هو
حجية الخبر الواحد وعدمها.
ثم ان إثبات الحكم
الشرعي من الخبر الواحد ، يتوقف على أمور :
الأول : ثبوت
صدوره عن المعصوم (ع).
الثاني : صدوره
لبيان الحكم الواقعي لا للتقية وغيرها.
الثالث : ظهوره في
معنى وحجية ظهوره.
والمتكفل للبيان
من الجهة الأولى هذه المسألة.
واما الجهة
الثانية : فلا تحتاج إلى البحث : لقيام السيرة العقلائية على عدم
الاعتناء باحتمال
صدوره لغير بيان الحكم الواقعي.
والمتكفل للبيان
من الجهة الثالثة الفصل المتقدم المنعقد لاثبات ذلك فراجع.
وعلى ذلك فعدم
انطباق ما جعل موضوعا لعلم الأصول ، وهي الأدلة الأربعة بضميمة ما قيل ان مسائل كل
علم ما يبحث فيها عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، على مسألة الخبر الواحد يكشف عن
فساد الضابط ، لا عن عدم كون هذه المسألة من المسائل الأصولية ، لما عرفت خصوصا ،
بضميمة ان الخواص المذكورة للمسالة الأصولية التي ذكرناها في أول الكتاب ثابتة
لها.
والشيخ الأعظم (ره)
تصدى لتطبيق الضابط المذكور على هذه المسألة ، وقد تعرضنا له ولجوابه ولما ذكر
انتصارا له والجواب عنه في أول الكتاب فراجع.
أدلة عدم حجية الخبر الواحد والجواب عنها
وقد استدل لعدم
حجية الخبر الواحد بوجوه :
الأول : الإجماع
على ذلك.
وفيه : ان المحصل
منه غير حاصل ، والمنقول منه كما بيناه غير حجة خصوصا في المقام حيث انه فرع حجية
الخبر الواحد فكيف يستدل به على عدم حجية الخبر الواحد.
والخبر الواحد ،
الذي ادعى السيد المرتضى وشيخ الطائفة وجمع من القدماء ، عدم حجيته.
غير ما هو المصطلح
عندنا ، ومرادهم به الخبر الضعيف : والشاهد عليه ادعاء الشيخ (ره) الإجماع على حجية خبر الثقة.
ويؤيده ابتلاء
الشيخ في زمانه بالعامة وأخبارهم المروية بطرقهم غير المعتبرة.
وقوله في تعارض
الروايتين ورجحان إحداهما على الأخرى ان المرجوح لا يعمل به لأنه خبر الواحد.
الثاني : الآيات :
__________________
منها : التعليل
المذكور في ذيل آية النبأ على ما ادعاه الطبرسي وسيأتي تقريب كلامه والجواب عنه.
ومنها : ما دل على
النهي عن العمل بالظن كقوله تعالى (إَنَّ الظَّنَّ لَا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)
وفيه : انه يدل
على عدم حجية الظن بما هو ظن ، ومحل الكلام هو حجية خبر الواحد بما هو وان لم يفد
الظن. وبعبارة أخرى : الآية تدل على ان الظن من حيث هو ليس فيه اقتضاء الحجية
وأدلة حجية خبر الواحد تدل على وجود المقتضى في هذا العنوان فلا تنافى بينهما.
ومنها : ما دل على
النهي عن اتباع غير العلم كقوله سبحانه (وَلَا تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
وأورد عليه
باختصاصه بالأصول الاعتقادية : إما بدعوى ان مساق هذه الآيات ذلك كما عن المحقق
النائيني (ره) .
أو بدعوى ، ان تلك
الآيات منصرفة إلى الاعتقاديات ، أو ان المتيقن منها ذلك كما عن المحقق الخراساني (ره)
.
__________________
وفيه : ان الآية
إنما ذكرت في ذيل آيات الأحكام في سورة بني إسرائيل ، والانصراف لا شاهد به
والتيقن ، ان كان باعتبار عدم ذكر المورد فلا إطلاق لها ، يدفعه ان حذف المتعلق
يفيد العموم ، وان كان باعتبار ان من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن ،
فيدفعه انه ليس كذلك كما حقق في محله.
والحق في الجواب
عن هذه الآيات ان يقال أنها معارضة بما يدل على حجية الخبر الواحد مما سيجيء ذكره
فتخصص به لكونه أخص منها ، مع انه يمكن ان يقال انه حاكم عليها لأنه يخرجه عن غير
العلم ويدخله في العلم ، فلو كانت النسبة عموما من وجه كان مقدما عليها.
الثالث : النصوص
الكثيرة المتواترة إجمالا الدالة على ذلك .
وفيه : انه تلك
النصوص على طائفتين :
الأولى : ما تدل
على الأخذ بما علم صدوره منهم وعدم الأخذ بما لم يعلم صدوره ، والجواب عنها هو
الجواب عن الآيات.
الثانية : ما تدل
على عرض الخبر على الكتاب ، وألسنتها مختلفة :
منها ما تضمن ان
ما لا يوافق كتاب الله لم يصدر منهم .
__________________
ومنها : ما تضمن
ان ما لا يوافق كتاب الله غير حجة.
ومنها : ما تضمن
ان ما خالف كتاب الله غير صادر عنهم.
ومنها : ما تضمن
ان ما خالف كتاب الله غير حجة .
والجواب عنها ان
كل طائفة منها أخبار آحاد ، لا يصح الاستدلال بها على عدم حجية الخبر الواحد ،
ومجموعها وان كانت متواترة إجمالا ، إلا ان لازم ذلك هو الأخذ بالمتيقن ، وما هو
أخص مضمونا ، وهو الخبر المخالف للكتاب والمراد من المخالفة ، هي المخالفة بالتباين
: إذ المخالفة بالعموم والخصوص حيث ان أهل العرف يرون الثاني قرينة ، على الأول ،
ليست مخالفة عند العرف.
مع انه إذا قيل
بشمولها لها ، يلزم تخصيص الأكثر لوجود كثير من المخصصات والمقيدات وغيرهما في
الأخبار قطعا ، مضافا : إلى ان سياق هذه النصوص آب عن التخصيص ، مع العلم إجمالا
بل تفصيلا بوجود المخصص.
وبهذا ظهر حال
نصوص المخالفة على فرض كونها متواترة في أنفسها.
واما نصوص
الموافقة على فرض التواتر فهي تخصص بما يدل على حجية الخبر الواحد : إذ الالتزام
بان تلك الأدلة مختصة بالخبر الموافق للكتاب خاصة كما ترى ، لان ذلك الخبر حجيته
لا يترتب عليها اثر ، مضافا إلى العلم بصدور الخبر غير الموافق عنهم (ع) متكفل
لبيان الأجزاء والشرائط لكل عبادة ومعاملة ، فالمتعين هو حملها على عدم المخالفة
بالتباين ، أو على صورة المعارضة ،
__________________
أو الاعتقاديات ،
كما يشهد لكل ذلك بعض تلك النصوص.
أدلة حجية الخبر الواحد ـ آية النبأ
وقد استدل لحجيته
بوجوه :
الأول : "
آية النبأ (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا
قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) وتقريب الاستدلال بها من وجوه :
الوجه الأول :
مفهوم الوصف حيث انه تعالى أوجب التبين عن خبر الفاسق فيستكشف من ذلك عدم وجوب
التبين عن خبر غيره ، وحيث ان وجوب التبين وجوب شرطي للعمل لا نفسي لان التفحص عن
كونه صادقا ، أو كاذبا ، تفحص عن عيوب الناس ، وهو لا يكون واجبا قطعا ، مضافا إلى
ما في ذيل الآية من التعليل الدال على ذلك.
وبالجملة لا ريب
ولا كلام في ان وجوب التبين شرطي للعمل ، فمفهومه عدم لزوم التبين عن خبر غير
الفاسق في مقام العمل فيعمل به من غير تبين.
وفيه : ما تقدم في
مبحث المفاهيم من عدم حجية مفهوم الوصف خصوصا غير المعتمد على موصوفه.
__________________
الوجه الثاني :
دلالة الاقتضاء وهي ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) ، وحاصله : ان في خبر الفاسق حيثيتين حيثية ذاتية ، وهي
كونه خبر واحد وحيثية عرضية ، وهي كونه خبر فاسق ، وقد علق وجوب التبين على
الحيثية الثانية ، فلو كانت الأولى صالحة لذلك كان المتعين ، التعليق عليها : إذ
العدول عن الأمر الذاتي إلى العرضي ، قبيح وخارج عن الطريقة المألوفة ، نظير تعليل
نجاسة الكلب بملاقاته مع النجس فيستكشف من ذلك ، ان وجوب التبين ينتفي ، بانتفاء
العنوان العرضي وهو الفسق ، فيعمل بخبر غير الفاسق من دون تبين.
وأورد عليه
بإيرادين :
الأول : ما أفاده
المحقق العراقي (ره) وهو ان لازم هذا التقريب حجية الخبر في نفسه ومانعية الفسق
، فلا بد من الالتزام بحجية خبر غير الفاسق مطلقا ولو لم يكن عادلا كالصغير ،
والوسط بين العادل والفاسق ، ولم يلتزم به أحد.
__________________
وفيه : انه يقيد
إطلاق المفهوم بالأدلة الأخر الدالة على اعتبار العدالة والوثوق.
الثاني : ما أفاده
بعض الأعاظم (ره) وهو ان الخبر عبارة ، عن المبتدأ ، والخبر ، والنسبة ،
وهذا المعنى يعرض له عوارض قد ينقله شخص واحد ، وقد ينقله أشخاص متعددة ، والناقل
له ، قد يكون عادلا ، وقد يكون فاسقا فكما ان كون الراوي عادلا أو فاسقا من
العوارض كذلك كونه واحدا أم متعددا منها.
وفيه : ان المراد
من خبر الواحد الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب ، ومن كون عنوان خبر الواحد ذاتيا
للخبر ، ليس هو الذاتي في كتاب الكليات ، بل المراد به الذاتي في كتاب البرهان ،
وهو ما يكفي في انتزاعه مجرد وضع الشيء من دون احتياجه إلى ضم شيء آخر إليه ،
كالزوجية للأربعة ، وخبر الواحد أي الخبر الذي لا يفيد القطع ويحتمل فيه الصدق
والكذب كذلك : إذ الخبر في ذاته يحتمل الصدق والكذب ، وان لم يضم إليه شيء خارجي.
والحق في الإيراد
عليه (قدِّس سره) ، ان يقال ان هذا التقريب ليس شيئا وراء مفهوم الوصف وهذا يجري
في جميع الأوصاف كما لا يخفى بل في غيرها ، فلو قال اكرم الإنسان ، يقال ان
الحيوانية ذاتية للحيوان ، والناطقية عرضي له ، فتعليق الحكم على العنوان العرضي
يكشف عن عدم ثبوت الحكم لغير ذلك المورد.
__________________
نعم ، لا بد وان
يكون ذكر الفاسق لفائدة كما في جميع الأوصاف ، ويمكن ان تكون تلك الفائدة التنبيه
على فسق الوليد ، أو غير ذلك من الأغراض الداعية إلى التصريح به.
الوجه الثالث : من
الوجوه ، الاستدلال بمفهوم الشرط بتقريب ان التبين علّق على كون الجائي بالخبر
فاسقا ، فيدل على انتفاء التبين ، عند عدم كون الجائي به فاسقا وحيث ان وجوب
التبين شرطي ، فمفهومه جواز العمل بخبر غير الفاسق من غير تبين واعتبار العدالة
إنما يكون بدليل خارجي.
وأورد عليه بوجوه
:
الأول : ان هذه
القضية ليس لها مفهوم إذ هي سيقت لبيان تحقق الموضوع فان المعلق عليه هو الموضوع
وهو النبأ المقيد بكون الجائي به فاسقا ، فعند انتفائه ينتفي الموضوع ، فتكون من
قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مفهوم لها.
وأجاب عنه المحقق
صاحب الكفاية ، بان الموضوع ، إنما هو النبأ الذي جيء به ، وكون الجائي
به فاسقا هو الشرط فلا يكون من هذا القبيل.
اقول : ينبغي أولا
تعيين محل النزاع ثم بيان ما هو الحق عندنا :
أما الأول :
فتوضيحه يتوقف على بيان مقدمة وهي :
ان القيود التي
تكون دخيلة في ثبوت الحكم ، ربما تؤخذ قيدا للموضوع ، نحو زيد الجائي أكرمه ،
وربما ترجع إلى المتعلق نحو الصلاة مع الطهارة واجبة ،
__________________
وربما ترجع إلى
الحكم نحو ان جاء زيد فأكرمه والثالث على قسمين.
الأول : ان يكون
تعليق الجزاء على الشرط عقليا من غير دخل للمولى فيه مثل (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا).
الثاني ان يكون
شرعيا وثبوت الجزاء في نفسه لا يتوقف عليه ، والقضية التي لها مفهوم ، هي ما كان
القيد فيها قيدا للحكم وكان دخله شرعيا ، واما في باقي الصور فلا مفهوم لها.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم ان النزاع في المقام إنما يكون في ان هذه القضية هل تكون من القسم الثالث ،
فلا مفهوم لها.
أم من قبيل القسم
الرابع فلها مفهوم.
والمحقق الخراساني
يدعي كونها من قبيل القسم الرابع.
والشيخ الأعظم (ره)
يدعي أنها من قبيل القسم الثالث.
وقد رجح المحقق
النائيني قول صاحب الكفاية
، وأفاد في وجه ذلك ان الآية الشريفة نزلت في الوليد حيث اخبر بارتداد بين المصطلق
، ولا بد وان يكون المورد من صغريات الكبرى الكلية المذكورة في الآية ، وعليه فحيث
انه في
__________________
المورد اجتمع
عنوانان ، أحدهما كون الخبر واحدا ثانيهما كون المخبر فاسقا وعلق الحكم على احد
العنوانين ، وهو الثاني ، فكان الجزاء مترتبا على خصوص ذلك ، وهو كون المخبر فاسقا
مع فرض وجود العنوان الآخر ، وعدم دخله في الجزاء وإلا لعلق عليه ، فيكون مفاد
المنطوق بعد ضم المورد إليه ان الخبر الواحد ان كان الجائي به فاسقا فتبينوا ،
فمفهومه ان لم يكن الجائي به فاسقا فلا تبينوا.
وفيه : ان هذا
المقدار لا يكفي في إثبات هذا القول إذ الشيخ (ره) يدعى ان الكبرى الكلية المذكورة
في الآية ، هي كون النبأ المقيد بكون الجائي به فاسقا واجب التبين.
وبعبارة أخرى : ان
الشرط هو المقيد وعليه فهي منطبقة على المورد أيضاً.
واما الثاني : وهو
بيان ما هو الحق عندنا.
فألحق : ان الظاهر
من الآية الشريفة كون الموضوع هو النبأ ومجيء الفاسق به هو الشرط لوجوب التبين :
وذلك لان الموضوع هو الضمير المستتر في تبينوا ، وهو إنما يرجع إلى مفعول جاء وهو
ذات النبأ ، لا النبإ الذي جاء به الفاسق ، إذ مضافا إلى انه لاوجه لتقييده به ،
لا يعقل ذلك لأنه جعل مفعولا لجاء ، والنبأ المضاف إلى الفاسق أي الذي اخبر به
الفاسق ، لا معنى لجعله مفعولا له ، وإلا لزم تحصيل الحاصل كما لا يخفى ، فلا
محالة لا يكون النبأ مقيدا ويكون مطلقا ، فيكون الموضوع ذات النبأ.
والإيراد عليه
بأنه ان كان الموضوع ذات النبأ المقسم لما جاء به الفاسق ، أو العادل ، لزم وجوب
التبين في طبيعة النبأ وان كانت متحققة في ضمن خبر
العادل على تقدير
تحقق الشرط ، كما عن المحقق صاحب الدرر .
وفيه : ان دخالة
كل قيد مأخوذ في الدليل سواء جعل قيدا للموضوع ، أو الحكم في ثبوت الحكم حدوثا
وبقاء ورجوعه إلى الموضوع ثبوتا لا ينكر ، والاختلاف إنما هو في مقام الإثبات لا
الثبوت والواقع واللب مع انه لو لم يكن الموضوع ذات النبأ يمكن ان يقال : ان
الموضوع هو النبأ المحقق المردد بين القسمين فيصير المعنى يجب التبين عن النبأ
المحقق إذا جاء به الفاسق فيدل على المفهوم.
ودعوى انه على هذا
لا بد وان يعبر بما يدل على المضي لا الاستقبال.
مندفعة : بأنه
لاوجه لذلك إلا دعوى ان ما لم يوجد لعدم تشخصه ، وعدم وقوعه على وجه ، لاوجه لدعوى
انه لا يكون هناك مجال إلا للترديد بخلاف ما وجد ، وهي مندفعة بان ما فرض في
المستقبل إذا كان واحدا شخصيا ، فهو بحسب الفرض جزئي لا يعقل وقوعه إلا على وجه واحد
، فهو غير قابل للانقسام إلى أمرين بل امره مردد بين الامرين بلحاظ جهل الشخص.
ويمكن ان يقرر
دلالة الآية على المفهوم بجعل الشرط مركبا من جزءين ، النبأ ، وكون الآتي به فاسقا
، وتوضيحه يتوقف على مقدمة ، وهي :
ان المقدم في
القضية الشرطية ، قد يكون أمرا واحدا ، وقد يكون مركبا من أمور.
__________________
وقد عرفت ان الأول
على قسمين أي قد يكون لتحقق الموضوع ، وقد لا يكون كذلك ، واما الثاني فهو ايضا
على قسمين :
الأول : ما إذا
كان الحكم بالنسبة إلى كل منها قابلا للإطلاق والتقييد مثل" ان جاء زيد ،
وكان على رأسه عمامة ، وفي يده عصا ، فأكرمه".
الثاني : ما إذا
كان بالنسبة إلى بعضها كذلك ، وبالنسبة إلى الآخر لبيان تحقق الموضوع ، مثل ان
رزقت ولدا في يوم الجمعة فاختنه ، حيث ان رزق الولد ذكر لبيان تحقق الموضوع ،
بخلاف يوم الجمعة.
وفي القسم الأول
يكون الحكم مقيدا بمجموع القيود وتدل القضية على انتفاء الحكم بانتفاء كل واحد من
القيود ، واما في القسم الثاني فبالنسبة إلى ما سيق لتحقق الموضوع لا مفهوم لها ،
وينحصر مفهومها بالقياس إلى القيد الآخر.
وعليه ، فما يتوقف
عليه الجزاء في المقام عقلا إنما هو النبأ ولا مفهوم للآية بالقياس إليه ، وما هو
قيد للحكم شرعا إنما هو القيد الثاني فينتفي الحكم بانتفائه.
وبذلك كله ظهر ما
في كلام المحقق الخراساني (ره) حيث قال انه لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق
به كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع.
واما ما ذكره
بقوله : مع انه يمكن ان يقال : ان القضية ولو كانت مسوقة
__________________
لذلك إلا أنها
ظاهرة في انحصار موضوع التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق فيقتضي انتفاء وجوب
التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر انتهى .
فيندفع بان القضية
الشرطية تدل على انحصار ثبوت الجزاء في الموضوع المفروض على فرض تحقق الشرط ولا
تدل على انحصار الموضوع بما اخذ في لسان الدليل فتدبر فانه دقيق.
الإيراد الثاني :
ان صدر الآية الشريفة وان كان ظاهرا في المفهوم إلا انه من جهة التعليل ، لعدم
حجية خبر الفاسق بإصابة القوم بالجهالة ، أي عدم العلم بصدق المخبر ، وهو عام شامل
لخبر العادل غير المفيد للعلم أيضاً ومقتضاه عدم حجية خبر العادل ، أي كل خبر لا
يفيد العلم ، لا بد من الالتزام بعدم المفهوم للقضية ، إذ يقع التعارض ، بين ظهور
، القضية في المفهوم ، وعموم التعليل ، ولا بد من رفع اليد عن أحدهما ، وعليه فبما
ان ظهور التعليل في العموم أقوى من ظهور القضية في المفهوم فيقدم ، ولا اقل من
التساوي وعدم أظهرية أحدهما عن الآخر فيتساقطان فلا يصح التمسك بالمفهوم.
والفرق بين هذا
الإيراد وسابقه ان السابق كان بملاك عدم المقتضى للمفهوم ، وهذا يكون بملاك ثبوت
المانع عن انعقاد الظهور في المفهوم.
ويمكن الجواب عن
ذلك بوجهين :
أحدهما : ان
المراد بالجهالة السفاهة ، أي فعل ما يكون شأن أرباب الجهل ، ولا يكون من زي
العقلاء. وبعبارة أخرى : الجهالة العملية نظير :
__________________
قوله تعالى (إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ) ، والشاهد على ذلك مضافا إلى ظهور الآية ، انه لو اريد به
عدم العلم لزم تخصيص التعليل ، بما دل على حجية الفتوى ، والبينة ، وغير ذلك من
الأمارات التي ثبتت حجيتها ، مع ان سياق الآية آب عن التخصيص فلا مناص عن حمله على
إرادة السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.
وأورد على هذا
الجواب الشيخ الأعظم (ره) بان أصحاب النبي (ص) الذين هم من العقلاء قد عملوا بخبر
الوليد حتى نزلت الآية فحمل الجهالة على السفاهة يلزم ، إما الالتزام بعدم كونهم
من العقلاء ، أو عدم شمول الآية للمورد ، وهما كما ترى ، فلا محالة يكون المراد
بها عدم العلم.
وفيه : ان السفاهة
على قسمين :
الأول : فعل ما لا
يصدر من العقلاء أصلاً.
الثاني : انه يصدر
ولكنه مع الغفلة عن كونه من مصاديق كبرى كلية خاصة ، نظير من يعلم انه لا يقدر على
ان يسبح في الشط الذي عرضه مائة ذراع ، ولكنه غفلة عن كون هذا الشط عرضه هذا
المقدار يقدم على ذلك.
وبالجملة : صدور
عمل السفهاء من العقلاء في غاية الكثرة ، كما يظهر من ملاحظة حال العصاة ، أترى ان
العصيان من زي العقلاء بما هم عقلاء كلا.
__________________
الثاني : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) من حكومة المفهوم على عموم العلة.
توضيح ذلك : ان
العلة بعمومها متعرضة لبيان الردع عن العمل بغير العلم ولا نظر له إلى عقد الوضع ،
كما هو الشأن في كل دليل ، والمفهوم الدال على حجية خبر العادل المستلزم لتنزيل
خبر العادل منزلة العلم ، وجعله من أفراد العلم ، يوجب ، خروج خبر العادل عن موضوع
التعليل ، فيكون حاكما عليه ، ولا يلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل الحاكم
يقدم في جميع الصور.
وأورد عليه
بإيرادات :
أحدها : ما أفاده
المحقق البروجردي ، وهو انه على فرض ثبوت المفهوم ، يكون حاكما على عموم
العلة ، ولكن الكلام في ثبوته ، والمدعى ان عموم العلة مانع عن انعقاد الظهور لهذه
القضية الشرطية.
وفيه : ان مانعيته
عن انعقاد الظهور لها ، فرع ثبوت التنافي بين المفهوم ، وعموم العلة ، وإلا فلا
وجه لمانعيته كما لا يخفى ، ونحن تبعا للمحقق النائيني (ره) ، ندعى انه لا تمانع
ولا تدافع بينهما إذ كل منهما متكفل لبيان شيء ، ولا ربط لمفاد أحدهما بالآخر ، إذ
المفهوم إنما يثبت الحجية لخبر العادل ، ويجعله علما تعبدا وطريقا تاما ، والعلة
متكفلة لبيان الحكم ، وانه لا يجوز اتباع ما ليس بعلم.
__________________
وبعبارة أخرى :
أحدهما متكفل لعقد الوضع ، والآخر لعقد الحمل ، فأي تمانع بينهما ومع عدمه كيف
يعقل ان يكون عموم العلة مانعا عن انعقاد الظهور للشرط في المفهوم.
وبالجملة الظاهر
انه خلط بين دعوى حكومة المفهوم على العلة وتخصيصها به ، وما ذكره يتم في الثاني
دون الأول.
ثانيها : ما أفاده
بعض الأعاظم وهو : ان الحكم في الآية الشريفة علل بالإصباح نادما ،
وهذه العلة تشترك بين خبر العادل والفاسق حتى مع الدليل على حجية خبر العادل ، فان
مخالفة الواقع موجبة للندم مطلقا فلا محالة تكون مانعة عن انعقاد الظهور في
المفهوم.
وفيه : ان الظاهر
من العلة التعليل بما يصلح رادعا عند العقلاء وهو إنما يكون في الندم على عدم
العمل بالوظيفة لا في الندم على مخالفة الواقع مع العمل بالوظيفة.
وبعبارة أخرى : ان
الندم تارة يكون مع اللوم والعقوبة ، وأخرى يكون بدون ذلك وما يصلح ان يكون رادعا
عند العقلاء هو الأول ، دون الثاني ، وحيث ان الظاهر كون التعليل بما يصلح ان يكون
رادعا عند العقلاء فلا محالة يكون الظاهر من الندم هو القسم الأول منه ، ومن
المعلوم ان خبر العادل على فرض حجيته لا يوجب العمل به الندم ، فالمفهوم يصلح رافعا
لموضوع العلة.
__________________
ثالثها : ان
المفهوم متفرع على المنطوق ، ومترتب عليه ترتب الدلالة الالتزامية على الدلالة
المطابقية ، والمنطوق مترتب على عموم التعليل ترتب المعلول على علته فلا يعقل ، ان
يكون المفهوم حاكما على التعليل ، إذ ما يكون متأخرا عن الشيء رتبة لا يعقل ان
يكون حاكما عليه.
وفيه : أولا : ان
تأخر المفهوم عن المنطوق إنما هو في مقام الكشف والدلالة لا في مقام المدلول.
وبعبارة أخرى :
حجية خبر العادل لا تكون متأخرة عن عدم حجية خبر الفاسق ، بل المتأخر هو كشف
القضية عن حجية خبر العادل عن كشفها عن عدم حجية خبر الفاسق ، والحاكم إنما هو نفس
المفهوم لا كشفه.
وثانيا : ان
الحكومة لا تنحصر في ما إذا كان الحاكم ناظرا إلى المحكوم وشارحا له بل هناك قسم
آخر من الحكومة ، وهو ما إذا كان دليل الحاكم متضمنا لبيان موضوع مستقل يكون
نتيجته التوسعة أو التضييق في دليل المحكوم كما في المقام.
وبما ذكرناه ثانيا
يظهر اندفاع ، ما ربما يورد على الحكومة من ان الحكومة إنما هي فيما إذا كان لسان
الدليل نفى الموضوع ، وكان الغرض منه نفى الحكم كما في قوله : " لا ربا بين
الوالد والولد" ، واما لو كان لسان الدليل نفى الحكم ابتداء فليس هناك
حكومة والمقام كذلك إذ المستفاد من المفهوم
__________________
عدم وجوب التبين
عن خبر العادل ، وعموم العلة يدل على وجوبه ، فيكون المفهوم مخصصا لعموم العلة لا
انه يكون حاكما عليه.
وجه الاندفاع ان
الموضوع في المقام بنفسه قابل للتعبد به بلا احتياج إلى لحاظ اثر شرعي فالمفهوم
تعبد بالموضوع ، وهو العلم ويترتب عليه آثاره العقلية من التنجيز والتعذير ويكون
خارجا عن عموم التعليل موضوعا بالتعبد وهو من الحكومة بالمعنى الثاني فتدبر فانه
دقيق.
الإيراد الثالث :
على الاستدلال بالآية الشريفة ، ان مورد الآية هو الأخبار بارتداد بنى المصطلق ولا
إشكال في ان الخبر لا يفيد في الأخبار بارتداد شخص واحد فضلا عن الأخبار بارتداد
جماعة.
فلو كان للآية
مفهوم لزم تخصيص المورد المستهجن فلا مفهوم لها.
وفيه : أولا ما
أفاده الشيخ الأعظم (ره) وحاصله : ان المستهجن تخصيص المورد ، واما تقييد إطلاق
الدليل بالقياس إلى المورد فلا قبح فيه أصلاً ، مثلا : إذا سأل عن وجوب إكرام زيد
، وأجيب بما يكون مختصا بغيره يكون هذا مستهجنا ، واما لو أجيب بكبرى كلية ، لزم
تقييدها بالاضافة إلى زيد ، فلا استهجان فيه ، والمقام من قبيل الثاني : فان
المورد لا يكون خارجا عن الكبرى المذكورة في الآية ، بل لا بد من تقييدها في خصوص
المورد بالتعدد ولا يخرج بذلك عن تحت الكبرى الكلية كي يكون مستهجنا.
__________________
وأورد عليه بعض
المحققين : بان المراد من التبين ان كان هو العلم ، كان الأمر
إرشاديا ، إذ وجوب العمل على طبق العلم عقلي ، فالأمر به لا محالة يكون إرشاديا ،
لا شرطيا ، فلا مفهوم له : لعدم استفادة المفهوم من الأمر الإرشادي ، وان كان
المراد منه الوثوق لزم خروج المورد عن تحت الحكم المذكور في المنطوق ، إذ لا يكفي
الوثوق الحاصل من خبر الفاسق في مثل ذلك فلا يمكن التحفظ على كون وجوب التبين
شرطيا مع عدم لزوم تخصيص المورد.
وفيه : أولا : ان
وجوب العمل على طبق العلم عقلي والواجب هو تحصيل العلم لا العمل به وتحصيله ليس
واجبا عقليا بل هو شرعي.
وثانيا : ان
التبين إنما هو بمعنى الظهور والوضوح فالمستفاد من المنطوق هو عدم العمل بخبر الفاسق
إلا بعد ظهوره ووضوحه ، وهذا المعنى في نفسه ظاهر في العلم الوجداني ، إلا انه
كلما ثبت بدليل حجيته ، دخل في هذا العنوان بعنوان الحكومة كان هو خبر العادل
الثابت حجيته بالمفهوم ، أو غيره من الأمارات الثابتة حجيتها بدليل خارجي ـ وبالجملة
ـ ليس المراد به خصوص العلم الوجداني ، ولا الوثوق ، بل هو الظهور والوضوح فتدل
الآية على إناطة جواز العمل بخبر الفاسق بالظهور وانكشاف الواقع ، وهذا معنى عدم
حجيته في نفسه ، كما ان مفهومه جواز العمل بخبر العادل بلا اعتبار ذلك وهو معنى
حجيته ، وحينئذٍ كلما ثبت حجيته دخل في عنوان التبين والظهور وإلا فلا.
هذا كله في الجواب
الأول عن هذا الإيراد.
__________________
ويمكن ان يجاب عنه
بجواب ثان ، وهو ان المورد مورد للمنطوق لا المفهوم ، وهو لم يرد كبرى لصغرى مفروضة
الوجود لعدم ورود الآية مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل يكون المفهوم من هذه
الجهة كسائر الكليات الابتدائية ولا ملازمة بين المنطوق والمفهوم في المورد.
الإيراد الرابع :
ما أفاده بعض الأعاظم ، وهو ان المراد ان كان هو خصوص العلم الوجداني ، لا يمكن
ان يكون وجوب التبين نفسيا ، أو شرطيا ، أو مقدميا ، لان مقسم هذه الأقسام الوجوب
المولوي ، ولزوم اتباع العلم عقلي وأمر الشارع به لا محالة يكون إرشاديا فلا مفهوم
للآية ، وان كان المراد به الوثوق ، يكون المستفاد من مجموع منطوق الآية ومفهومها
حكما مخالفا للإجماع ، فان العلماء اختلفوا على قولين : أحدهما : حجية قول العادل
، أفاد الوثوق أم لا؟ ، ثانيهما : حجة الخبر الموثق ، والآية على هذا بمفهومها تدل
على حجية خبر العادل ، وان لم يفد الوثوق ، وبمنطوقها تدل على حجية الموثق ، وان
لم يكن المخبر عادلا وهذا إحداث قول ثالث ، فلا محالة يقع التعارض بين المنطوق
والمفهوم.
وفيه : أولا : انه
يمكن ان يكون المراد من التبين ، العلم الوجداني ، ويكون الأمر به مولويا ، فان
اتباع العلم والعمل على طبقه لا يعرضه الوجوب المولوي ، واما تحصيل العلم فلا بد
من كون وجوبه مولويا ، والمقام من قبيل الثاني ، لا الأول ، فمنطوق الآية حينئذ ان
العمل بخبر الفاسق مشروط بحصول
__________________
العلم فمفهومه عدم
اشتراط العمل بخبر العادل بذلك.
وثانيا : ان
البناء على حجية خبر العادل سيما بعد تقييد الحجية بما إذا لم يكن معرضا عنه عند
الأصحاب ، وان لم يفد الوثوق ، وحجية الخبر الموثق وان لم يكن المخبر عادلا ، ليس
إحداثا للقول الثالث ، بل الظاهر ان بناء المشهور على ذلك.
حجية الخبر الواحد في الموضوعات
وينبغي التنبيه
على أمور :
التنبيه الأول :
ان مقتضى عموم مفهوم الآية الكريمة حجية الخبر الواحد في الموضوعات أيضاً إلا ما
خرج بالدليل : ويشهد لها مضافا إلى ذلك استقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على
أخبار الثقاة فيما يتعلق بمعاشهم ومعادهم ، وسيرة المتشرعة على اخذ معالم دينهم عن
الثقاة ، ولم يرد عن الشارع ردع عن ذلك.
وقد استدل لعدم
حجيته فيها بموثق مسعدة عن الإمام الصادق في حديث" والأشياء كلها على هذا حتى
يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة" فانه يدل على انحصار الحجة في الموضوعات ، بالعلم الوجداني
، والبينة ، فيكون رادعا عن بناء العقلاء ، والسيرة ، ومقيدا لإطلاق مفهوم الآية ،
__________________
فان النسبة بينهما
وان كانت عموما من وجه ، إلا ان دلالة الموثق تكون بالعموم ، ودلالة الآية
بمفهومها بالإطلاق ، وقد حقق في محله ان ما دلالته بالعموم مقدم على ما يكون
دلالته بالإطلاق.
ويرد عليه ، أولا
: انه بناء ـ على ما هو الحق المتقدم في محله ، ان مفاد دليل حجية الخبر جعل ما
ليس علما وظهورا ، علما ـ يصير خبر الواحد بمقتضى مفهوم الآية من مصاديق الاستبانة
بالحكومة ، ويشمله الشق الأول المذكور في الموثق.
فان قيل على هذا
يلغو ذكر البينة.
اجبنا عنه بأنها
إنما ذكرت للتنبيه على حجيتها ، مع ان ذكرها من قبيل ذكر الخاص بعد العام.
وثانيا : انه يمكن
ان يقال ان الاستبانة هي التفحص والاستكشاف ، والبينة ما يظهر بقيام دليل من
الخارج.
وبعبارة أخرى : ان
المراد من البينة الحجة وما يكون مثبتا للشيء ، وإطلاق البينة على هذا المعنى إنما
هو من جهة كونه معناها اللغوي واستعمالها فيه ليس بعزيز ، بل ورود في القرآن
الكريم وكلمات العلماء.
قال الله تعالى : (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ).
وقال (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُواْ
بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ
__________________
وَجَاءهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وقال تعالى (وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم
بِالْبَيِّنَاتِ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فالأدلة المتقدمة حاكمة ،
أو واردة على الموثق فإنها تدل على ان خبر الواحد من مصاديق البينة حقيقة بعد
الجعل.
وثالثا : ان عدم
حجية الخبر في مورد الموثق مما يكون الحلية مستندة إلى اليد والاستصحاب لا يلازم
عدم حجيته فيما لا معارض له.
ورابعا : انه قد
تقدم في محله عدم تسليم تقدم ما دلالته بالعموم على ما يكون دلالته بالإطلاق ، بل
يعامل معهما معاملة المتعارضين ، وحيث ان احد طرفي التعارض الآية الشريفة فلا وجه
للرجوع إلى المرجحات غير الموافقة للكتاب فيقدم الكتاب.
فالأظهر : حجية
الخبر الواحد في الموضوعات مطلقا إلا ما خرج بالدليل.
ويعضد ما ذكرناه
من النصوص الواردة في الأبواب المتفرقة الدالة على ثبوت الموضوعات الخاصة به.
مثل ما ورد في
ثبوت الوقت بأذان الثقة العارف .
__________________
وما دل على جواز
وطء الأمة إذا كان البائع عادلا اخبر باستبرائها .
وما دل على ثبوت
عزل الوكيل به إلى غير ذلك من الموارد.
فلا ينبغي التوقف
في حجيته في الموضوعات إلا ما خرج بالدليل.
تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة
التنبيه الثاني :
ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) قسّموا الأخبار المعتبرة إلى أقسام :
الأول : الصحيح
وهو ما كان رواته عدولا زكاهم الثقاة.
الثاني : الخبر
الضعيف المنجبر بعمل المشهور.
الثالث : الموثق
وهو ما كان رواته موثقين وان لم يكونوا إماميين ، ويدخل فيه خبر الفاسق الموثق.
الرابع : الحسن
وهو ما كان رواته اماميين ممدوحين من دون ان يصرح بعدالتهم.
أما الخبر الصحيح
فهو المتيقن إرادته من المفهوم.
__________________
واما الضعيف
المنجبر فهو يثبت حجيته بمنطوق الآية : لان التبين ، هو طلب الوضوح عن صدق الخبر
وكذبه ، وعمل الأصحاب من طرق ذلك.
واما الموثق فيمكن
ان يستدل لحجيته بوجهين :
الأول : ان ظاهر
تعليق هذا الحكم على الفاسق بواسطة مناسبة الحكم والموضوع المغروسة في أذهان أهل
العرف ، ان الموضوع هو غير المتحرز عن الكذب ، إذ لا مدخلية لارتكاب سائر المحرمات
من شرب الخمر وعدمه في مثل هذا الحكم الذي يكون مناطه صدق المخبر ومطابقة خبره
للواقع فمفهوم الآية حجية خبر المتحرز عن الكذب.
ودعوى ان هذه حكمة
جعل الحكم على خبر الفاسق فالمتبع هو ظاهر الآية وهو عدم حجية خبر الفاسق مطلقا.
مندفعة بان ما
ذكرنا من المناسبة إنما تكون قرينة صارفة للظهور وموجبة لانعقاد الظهور الثانوي
فيما ذكرناه.
ودعوى ، ان غير
العادل المأمون في نوع اخباره لا وثوق بصدقه في خصوص هذا الخبر.
مندفعة بان
الموضوع لعدم الحجية غير المتحرز عن الكذب في نوع إخباره ، وموضوع الحجية المتحرز
عنه في نوع إخباره. وبعبارة أخرى : الموضوع هو خبر الفاسق ، وغير الفاسق ، مع قطع
النظر عن هذا الخبر بالخصوص.
الثاني :
الاستدلال بمنطوق الآية الشريفة ، إذ التبين الذي هو شرط للعمل بخبر الفاسق الذي هو
طلب الوضوح والظهور اعم من تبين الرواية وتبين حال
الراوي ، وإحراز
وثاقته نوع من التبين ، فيكون العمل بالموثق عملا بالمبين الواضح ، ويؤكده بناء
العقلاء هذا بناء على إطلاق الفاسق على غير الامامي العامل بوظائف ما تدين به ،
وإلا كما عن الشيخ البهائي في زبدة الأصول حيث التزم بإطلاق العادل عليه فالأمر في
غاية الوضوح.
واما الحسن فان
كان المدح المذكور للراوي موجبا للاطمينان والوثوق بكونه متحرزا عن الكذب ، فحكمه
حكم الموثق طابق النعل بالنعل وإلا فلا تدل الآية الشريفة لاب مفهومها ، ولا
بمنطوقها على حجيته.
التنبيه الثالث
وقد أورد على حجية
خبر الواحد بايرادين :
أحدهما : انه لو
كان حجة ، كان خبر السيد بالاجماع على عدم حجية خبر الواحد حجة ، فيلزم عدم حجية
غيره.
وفيه أولا : انه
قد عرفت اختصاص حجية الخبر الواحد بالاخبار عن حس ، ولا تشمل الأخبار عن الحدس كما
في نقل الإجماع.
وثانيا : انه
معارض بخبر الشيخ المدعي للاجماع على حجية الخبر الواحد.
وثالثا : انه لا
يمكن شمول الدليل لخبر السيد لأنه يلزم ان لا يكون حجة
__________________
لكونه خبرا ،
فيلزم من حجية خبر السيد عدم حجيته ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.
وبهذا البيان يظهر
اندفاع ما قيل في تقريب الاشكال انه من حجية المفهوم ، في الآية الشريفة ،
ودلالتها على حجية الخبر الواحد بما انه يلزم عدمها ، فتكون محالا : إذ لازم حجية
الخبر الواحد حجية خبر السيد ، ولازمه عدم حجية الخبر الواحد ، وما يلزم من وجوده
عدمه محال ، فحجية الخبر الواحد محال.
وجه الاندفاع ان
المحال لا يترتب على حجية الخبر الواحد ، بل إنما يترتب على شمول الدليل لخبر
السيد (ره) وحيث ان الضرورات تتقدر بقدرها ، فيقتصر في رفع اليد عن الدليل بمقدار
يترتب عليه المحال ، وهو شمول دليل الحجية واطلاقه لخبر السيد ، وهو محال لا اصل
حجية الخبر.
وأورد على هذا
الوجه بان اخبار السيد بعدم حجية الخبر الواحد لا يشمل نفسه ، إذ خبر السيد حاك
والمحكي به عدم الحجية ، والمحكي يكون في مرتبة سابقة على الحاكى ، فلو شمل المحكى
لخبر السيد لزم تأخره عنه تأخر الحكم عن موضوعه ، فيلزم تأخر ما هو متقدم وهو
محال.
وفيه : ان المحكى
بخبر السيد عدم الحجية إنشاء وهو غير متوقف على وجود الموضوع خارجا فضلا عن تأخره
عنه ، وهو المتقدم عليه ، وما يترتب على خبره ، ويكون متاخرا عنه هو عدم الحجية
الفعلية.
واجيب عن هذا
الاشكال بوجه آخر وهو انه كما لا يشمل عدم الحجية
__________________
المحكى لخبر السيد
له من جهة لزوم تأخر ما هو متقدم كذلك لا يشمله الحجية لانهما نقيضان والنقيضان في
مرتبة واحدة ، فإذا كان عدم الحجية في مرتبة سابقة على خبر السيد ، تكون الحجية
أيضاً كذلك لتساويهما رتبة.
وفيه : مضافا إلى
ما تقدم من ان المتقدم عدم الحجية الانشائية ، والمتأخر عدم الحجية الفعلية فكذلك
في الحجية.
ما تقدم في مبحث
الضد من انه في التقدم والتاخر الزمانى ، يصح ان يقال ان المتأخر ، عن احد
المتقارنين زمانا متاخر عن الآخر أيضاً ، وهذا بخلاف التقدم والتاخر الرتبى إذ
تأخر شيء رتبة عن احد المتساويين في الرتبة من جهة كونه معلولا له مثلا ، لا يلزم
تأخر الآخر عنه بعد فرض عدم وجود مناط التاخر فيه ، وتمام الكلام في محله.
ورابعا : انه من
شمول ادلة الحجية لخبر السيد ، يلزم انحصار المطلق في فرد واحد ، وهو قبيح ، بل
المقام أسوأ حالا من ذلك فان خبر السيد ليس عن ثبوت شيء في الواقع ، بل إنما هو عن
عدم حجية الخبر ، ففي الحقيقة يلزم بيان عدم الحجية بلسان الحجية وهو كما ترى.
ودعوى انه لا يلزم
ذلك فان الأخبار التي تكون قبل خبر السيد أيضاً مشمولة لادلة الحجية.
مندفعة بالاجماع
على عدم الفرق بين ما هو قبل خبر السيد وما يكون بعده ، مع ان السيد يخبر عن عدم
الحجية من الأول فلا يمكن التفكيك.
وبهذا يظهر ان
دعوى إمكان التفكيك ظاهرا ، وان لم يكن واقعا.
مندفعة بان السيد
يخبر عن الحكم الواقعي لا الظاهري.
فالمتحصّل ان
الاظهر عدم شمول الأدلة لخبر السيد خاصة.
شمول ادلة الحجية للأخبار مع الواسطة
الإيراد الثاني :
الذي أورد على اصل حجية الخبر الواحد ، ما يكون مختصا بالاخبار الحاكية مع الواسطة
، كالاحاديث التي بايدينا.
وتقريبه : إنما
يكون من وجوه :
الأول : ان ادلة
حجية الخبر منصرفة إلى الأخبار الحاكية عن قول المعصوم (ع) بلا واسطة.
واجيب عنه بجوابين
:
احدهما ما أفاده
الشيخ الأعظم (ره) ، وتبعه المحقق النائيني (ره) وهو ان كل شخص من الوسائط إنما ينقل خبرا بلا واسطة مثلا
إذا قال الكليني حدثني علي بن ابراهيم ، قال حدثني أبي ، قال حدثني حماد بن عيسى ،
قال سمعت العسكري (ع) يقول ، فهناك اخبار عديدة حسب تعدد الوسائط وكل منهم ينقل
خبرا عن من يسمع منه بلا واسطة.
__________________
وفيه : ان
المستشكل إنما يدعى ان الأدلة منصرفة عن الأخبار مع الواسطة عن الإمام. وبعبارة
أخرى : يدعى انصرافها إلى الخبر الحاكي عن قول الإمام بلا واسطة ، ولا يدعى
انصرافها إلى الأخبار بلا واسطة في مطلق النبأ.
ثانيهما : ان كل
واحد من الوسائط بما انه مجاز عن شيخه ، فخبره بمنزلة خبره إلى ان ينتهى إلى الشخص
الذي ينقل عن الإمام فيكون خبر كل منهم داخلا في الخبر المروى بلا واسطة عن
الإمام.
وفيه : ان الاجازة
إنما تفيد لنقل الخبر مع إلغاء الواسطة ، ولا توجب كونه خبرا بلا واسطة.
وبعبارة أخرى :
كون الخبر بلا واسطة اما ان يكون حقيقة ، أو يكون تعبدا ، وشيء منهما لا يكون
متحققا ، اما الأول فواضح ، واما الثاني : فلانه لا دليل على ان الاجازة موجبة
لذلك ، فالحق في الجواب منع الانصراف.
التقريب الثاني ان
موضوع كل حكم متقدم رتبة على حكمه ، ولذا قالوا ان نسبته إليه نسبة العلة إلى
المعلول ، وعليه فإذا صار الحكم علة لثبوت فرد من أفراد ذلك الموضوع ، لا يعقل
شمول ذلك الحكم له ، وإلا لزم تقدم ما هو متاخر ، ففي المقام الخبر المحرز وجدانا
هو خبر الكليني في المثال ، واما خبر على بن ابراهيم فليس بوجداني وإنما يثبت بنفس
الحكم بوجوب التصديق فلا يعقل شمول هذا الحكم له.
وأجاب عنه المحقق
الخراساني باجوبة ثلاثة :
الأول انه إذا
كانت القضية طبيعية ، فالحكم بوجوب التصديق يسرى إليه سراية حكم الطبيعة إلى
افرادها ، بلا محذور لزوم اتحاد الموضوع والحكم ، ومراده من القضية الطبيعية ، ليس
هو ما إذا كان الموضوع في القضية ، نفس الطبيعة الكلية من حيث هي كلية كما هو
المصطلح عند أهل المعقول. وبعبارة أخرى : الطبيعة بشرط لا ، كقولنا الانسان نوع.
بل المراد هو
الطبيعي الاصولي ، بمعنى الطبيعة بشرط الوجود السعي ، والفرق ان الأول يكون
الطبيعة ما فيها ينظر وفي الثاني يكون ما بها ينظر ، ويكون آلة ملاحظة الأفراد ،
وجعل الحكم لكل ما يصدق عليه انه فرد من الطبيعة.
الثاني : دعوى
القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر أي وجوب التصديق بعد تحققه
بهذا الخطاب وان لم يشمله لفظا.
الثالث : عدم
القول بالفصل بين هذا الأثر ، وبين سائر الآثار ، في وجوب الترتيب ، لدى الأخبار
بموضوع صار اثره الشرعي ، وجوب التصديق ، ولو بنفس الحكم في الآية. وبعبارة أخرى :
عدم القول بالفصل بين حجية الخبر بلا واسطة أو مع الواسطة.
وأورد عليه بان
المانع ليس مانعا اثباتيا حتى تصح هذه الاجوبة ، بل المانع ثبوتي.
__________________
والصحيح في الجواب
ان يقال ان هذه القضية أي المتضمنة لحجية الخبر الواحد ، كسائر القضايا المتكفلة
لبيان الأحكام الشرعية ، إنما تكون على نحو القضية الحقيقية ، فهي بحسب الظاهر جعل
لحكم واحد ، ولكن في عالم اللب والواقع جعل لاحكام عديدة حسب ما للخبر من الأفراد
، من غير فرق بين الأفراد الطولية والافراد العرضية.
وعليه فالحكم
الثابت لخبر الكليني ، وان كان يوجب تحقق فرد آخر من الخبر ، وهو خبر على بن
ابراهيم ، إلا ان الحكم الثابت له ليس شخص هذا الحكم ، حتى يلزم المحذور المذكور
بل فرد آخر من الحكم متحد مع هذا سنخا ، فلا يلزم تأخر ما هو متقدم ، مع ان شمول
الحكم لخبر الكليني لا يثبت خبر علي بن ابراهيم بل به يحرز تحققه ، لا اصل وجوده
فلا مورد لهذا الاشكال.
التقريب الثالث ان
المعتبر في شمول دليل الحجية لمورد كونه اثرا شرعيا أو موضوعا ذا اثر شرعي إذ لا
يصح التعبد إلا بلحاظ ذلك والا لزم كونه لغوا ، والاخبار مع الواسطة التي يدعى
كونها مشمولة لادلة الحجية لا اثر لها سوى وجوب التصديق ، فلا يعقل شمول ادلتها
لها.
فان قلت : انه
يكفي في الأثر نفس وجوب التصديق وهو بنفسه من الآثار الشرعية.
قلت : ان وجوب
التصديق وان كان المجعولات الشرعية ، إلا انه يعتبر في ترتبه على موضوعه كونه ذا
اثر شرعي مع قطع النظر عن هذا الحكم ليكون شموله غير لغو.
والجواب : عن ذلك
مضافا إلى ما مر أمور :
الأول : ان هذا
الاشكال ان ورد ، كان على مسلك من يرى ان المجعول في باب الطرق والأمارات ، هو
تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فان التنزيل لا بد وان يكون بلحاظ الأثر والحكم
الشرعي.
واما على المسلك
الحق من ان المجعول فيه هو الكاشفية والطريقية ، وجعل ما ليس بعلم علما ، فلا اساس
له أصلاً ، فان المجعول نفس الطريقية والكاشفية بلا حاجة إلى كون المؤدى حكما
شرعيا أو موضوعا ذا اثر شرعي.
الثاني : انه بناء
على الانحلال في القضايا الحقيقية وكون كل فرد من أفراد الموضوع له حكم واحد مستقل
، غير مربوط باحكام الأفراد الأخر ، يكون وجوب التصديق الشامل لخبر على بن ابراهيم
مثلا الذي هو اثر له ، وبلحاظه يكون خبر الكليني مشمولا لادلة الحجية ويترتب عليه
صدق العادل ، غير ذلك الذي يترتب على خبر الكليني ، فوجوب التصديق لكل خبر إنما
يكون بلحاظ فرد آخر من الحكم الثابت للمخبر عنه.
الثالث : انه لم
يرد آية ولا رواية دالة على انه يعتبر في شمول دليل الحجية كون المخبر عنه اثرا
شرعيا أو موضوعا ذا اثر شرعي ، وإنما يعتبر ذلك للخروج عن اللغوية ، وعليه فإذا
فرضنا ترتب اثر شرعي من وجوب شيء أو حرمته أو غيرهما على مجموع الأخبار الواقعة في
سلسلة حكاية قول المعصوم (ع) كفى ذلك لصحة التعبد بحجية جميع تلك الأخبار.
التقريب الرابع :
ان شمول الدليل لمورد يتوقف على احراز صدق موضوعه عليه ، اما بالوجدان أو بالتعبد
، واخبار الوسائط بما انها غير محرزة بالوجدان كما هو واضح ، ولا بالتعبد إذ ليس
هناك دليل يمكن التمسك به لذلك سوى
التعبد بتصديق العادل
الشامل للخبر الأول ، وهو لا يصلح لذلك وإلا لزم حكومة وجوب تصديق العادل على نفسه
وهو غير صحيح كما لا يخفى ، فلا تكون مشمولة لادلة الحجية.
وفيه : ان الحكومة
على اقسام ثلاثة :
الأول : ان يكون
الحاكم بمدلوله اللفظي شارحا للمحكوم ومبينا لما اريد منه ، بلفظ عنيت أو ما
شابهه.
الثاني : ان يكون
دليل الحاكم متعرضا لدليل المحكوم لا بهذا اللسان ، بل بالتصرف في عقد حمله كلا
ضرر .
أو في عقد وضعه
توسعة ، كقوله (ع) الفقاع خمرة استصغرها الناس ،
__________________
أو تضييقا نحو لا
شك لكثير الشك .
الثالث : ان تكون الحكومة
في تطبيق الموضوع على فرد اثباتا أو نفيا ، وهذا القسم من الحكومة خلافا للاولين
تتصور في دليل واحد : والسر فيه ان الحكومة إنما تكون بين الحكمين ، لابين
الدليلين ، فلو فرض انه إذا قال المولى لا تشرب الخمر ، لزم منه تحقق خمر في
الخارج تكوينا ، لا محالة تكون تلك الخمر أيضاً مشمولة لذلك ، فإذا امكن ذلك في
التكوين ، امكن في التشريع فإذا تحقق شرعا فرد من الخبر من شمول صدق العادل لفرد
ترتب عليه فرد آخر ، من صدق العادل ، وهكذا ، ومن هذا القبيل حكومة الاصل السببي
على الاصل المسببى ، وتمام الكلام في محله.
الاستدلال بآية النفر لحجية خبر الواحد
الثاني : من ادلة
حجية خبر الواحد ، آية النفر.
قال الله عزوجل (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن
كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ
وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
وتقريب الاستدلال
بها من وجوه :
__________________
الأول : ان كلمة
لعل ، ظاهرة في الترجي الحقيقي اما لكونها موضوعة له كما هو المعروف ، أو
لانصرافها إلى كون الداعي إلى استعمالها في معناها الحقيقي ، وهو الترجي الإيقاعي
الإنشائي هو ذلك ، وحيث ان الترجي الحقيقي لتقومه بالجهل ، يستحيل في حقه تعالى ،
فلا بد وان تحمل على اقرب المجازات والمعاني إليه ، وهو المحبوبية ، فجملة لعلهم
يحذرون تدل على محبوبية التحذر ، وهو التحفظ والتجنب العملي ، والاتيان بما اخبر
به لو كان واجبا والانتهاء عنه لو كان حراما ، وبعبارة أخرى : تطبيق العمل على ما
انذر به ، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه. اما عقلا كما أفاده صاحب المعالم (ع) نظرا إلى ان التعبد بما لا يكون حجة قبيح وبما هو حجة
واجب. وبعبارة أخرى : مع وجود المقتضى للعقاب يجب التحذر ، ومع عدمه يستقل العقل
بقبح العقاب بلا بيان ، أو شرعا لعدم الفصل واقعا ، فالآية الكريمة تدل على وجوب
التحذر عند انذار المنذر ولو لم يفد قوله العلم وهذا معنى حجية الخبر الواحد.
وأورد عليه
بايرادات :
١ ـ ان المراد
بالنفر النفر إلى الجهاد ، بقرينة صدر الآية الذي هو في الجهاد وسياق سائر الآيات
التي تكون قبل هذه الآية ، ومعلوم ان النفر إلى الجهاد ، لا يترتب عليه التفقه ،
نعم ربما يترتب عليه بناء على ما قيل ، من ان المراد منه البصيرة في الدين من
مشاهدة آيات الله تعالى ، من غلبة المسلمين على اعداء الله وظهور علائم عظمة الله
تعالى وسائر ما يتفق في الحرب ، ويخبروا بذلك
__________________
المتخلفين فاللام
في : " ليتفقهوا في الدين" للعاقبة لا للغاية ، ويكون التفقه والانذار
والتحذر من قبيل الفائدة التي قد تترتب وقد لا تترتب لا من قبيل الغاية.
ويرد عليه ان
ليتفقهوا بحسب ظاهر اللفظ يكون متعلقا بقوله : " نفر" فيكون النفر
للتفقه لا للجهاد وإلا لزم ان يكون متعلقه محذوفا.
توضيح ذلك : ان
المفسرين ذكروا في الآية وجوها :
احدها : كون
المراد النفر إلى الجهاد فالمراد من التفقه مشاهدة آيات الله ، وظهور اوليائه على
اعدائه وما إلى ذلك.
ثانيها : كون
المراد النفر إلى الجهاد ، وإرادة تفقه المتخلفين من ليتفقهوا.
ثالثها : كون
المراد النفر للتفقه.
والظاهر خصوصا بعد
ملاحظة الروايات هو الاخير ، لا بنحو لا يكون مربوطا بما قبل هذه الآية من آيات
الجهاد ، بل بتقريب ان صدر الآية ينهى عن نفر المؤمنين كافة ، والمراد منه والله
العالم ، ان قصر النفر إلى طائفة وجماعة ، ليس مقابل تخلف الباقين ، بل في مقام
المنع عن قصر النفر إلى الجهاد ، نظرا إلى انه كما يكون النفر للجهاد ، مهما كذلك
النفر للتفقه ، فليكن نفر جماعة إلى النبي للتفقه ، ونفر الباقين إلى الجهاد ،
فصدر الآية ينهى عن نفر الجميع إلى الجهاد ، ويبين ذلك في ذيلها بقوله فلو نفر ...
فالنافر ، والمتفقه ، والمنذر جماعة خاصة ، لا ان النافرين غير المتفقهين ، كما هو
لازم الوجه الثاني ، ولاكون الآية غير مربوطة بآية الجهاد كما هو مقتضى الوجه
الثالث ، ولا ان المراد بالتفقه غير
تعلم أحكام الدين
كما هو مقتضى الوجه الأول.
وهذا المعنى
يساعده الاعتبار مع التحفظ على ظواهر الفاظ الآية : إذ النافرين إلى الجهاد إذا رجعوا
كان ينذرهم النبي (ص) ولم يكن حاجة إلى انذار المتخلفين ، وعلى الجملة الظاهر ان
المراد بالآية ان النفر للتفقه كالنفر إلى الجهاد واجب على المسلمين كفائيا فليس
لهم ان ينفروا باجمعهم إلى الجهاد ، بل ينفر طائفة له وطائفة للتفقه ، ولو بان
يتخلفوا عند النبي (ص) ويتعلموا منه مسائل الحلال والحرام ، وقد فسرت الآية في
جملة من الروايات بالنفر للتفقه .
٢ ـ ما عن المحقق
العراقي وهو ان مثل ادوات الترجي ، والاستفهام ، والتمنى ونحوها
موضوعة لمعانيها الايقاعية الانشائية التي يوقعها المتكلم ، والمستحيل في حقه
تعالى هو وجود صفة الترجي حقيقة لا انشائه.
وفيه : ان الظاهر
منه كون الداعي لانشاء الترجي ، هو وجود هذه الصفة حقيقة في نفس المتكلم لاصالة
تطابق المراد الاستعمالى مع المراد الجدى ، فإذا استحال ذلك في حقه تعالى لا بد من
البناء على ان الداعي اقرب المعاني إليه وهو محبوبية التحذر كما اشار إليه المحقق
الخراساني في الكفاية .
__________________
٣ ـ ما ذكره
المحقق الخراساني وتبعه صاحب الدرر قال في الكفاية ان التحذر لرجاء ادراك الواقع وعدم الوقوع
في محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة حسن وليس بواجب فيما لم يكن
هناك حجة على التكليف ولم يثبت هاهنا عدم الفصل غايته عدم القول بالفصل انتهى.
ويمكن الجواب عنه
بوجهين :
الأول : ان التحذر
المطلوب في الآية ان اريد به التحذر في صورة احتمال المصادفة للواقع كان ما ذكر
تاما ، ولكن الظاهر منها هو مطلوبية التحذر استنادا إلى قول المنذر.
وعليه فان كان
قوله حجة لزم لزوم التحذر ، وإلا لم يحسن ذلك.
وبعبارة أخرى : ان
الظاهر كون ما يتحذر منه هو ما انذر به واتحادهما. والمنذر به إنما هو مخالفة
التكليف بما انها موجبة للعقاب ، فلا محالة يكون التحذر المحبوب هو التحذر من
العقاب ، واحتمال العقاب الذي يحسن الحذر منه ملازم لحجية قول المنذر ، ومعها يجب
التحذر فتدبر فانه دقيق.
الثاني : ان مقتضى
إطلاق الآية محبوبية التحذر حتى لو احتمل وجدانا ثبوت ضد ما انذر به كما لو اخبر
المنذر بوجوب المحتمل حرمته واقعا فحينئذ لو كان قول المنذر حجة حسن التحذر ، ووجب
، وإلا لم يحسن لفرض تساوى الاحتمالين.
__________________
فالاولى في مقام
الجواب عن هذا الاستدلال ان يقال ان مبنى ذلك كون كلمة" لعل" موضوعة
للترجي المساوق لكلمة" اميد" في الفارسية.
لكن التدبر في
موارد استعمالها في القرآن الكريم ، والادعية المأثورة عن المعصومين (ع) وكلمات
أهل العرف يوجب عدم كونه موضوعا لها لاحظ قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) وقوله عز من قائل (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ
بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) وقول الإمام السجاد (ع) في دعاء ابى حمزة ، لعلك عن بابك طردتني وعن خدمتك نحيتني أو لعلك رأيتني
مستخفا بحقك فأقصيتني إلى آخر ما في ذلك الدعاء من استعمال هذه الكلمة التي من
المعلوم عدم ملائمتها مع اظهار الرجاء.
وقول أهل العرف ،
لعل الشدة نازلة وغير ذلك من الموارد التي لا شك في عدم التجوز فيها.
فالظاهر ان كلمة
لعل وضعت لتستعمل في موارد احتمال الوقوع سواء أكان مرجوا أم لا.
الوجه الثاني : من
وجوه الاستدلال بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد ، ان الغاية للانذار الواجب ، الذي
هو غاية للنفر الواجب ، بمقتضى لو لا
__________________
التحضيضية ، إنما
هو التحذر أي التجنب في مقام العمل : لان الظاهر من كلمة لعل في جميع موارد
استعمالها ، كون ما بعدها علة غائية لما قبلها ، وغاية الواجب إذا كان امرا
اختياريا واجبة : لان ظاهر الكلام كون حكم ما جعل علة غائية حكم ما قبلها من وجوب
، أو استحباب.
وان شئت فقل ان
الغاية التي اوجبت ايجاب امر ، لا محالة تكون واجبة إذا كانت اختيارية.
وأورد عليه
بايرادات خمسة :
الأول : ما ذكره
الشيخ الأعظم وتبعه المحقق الخراساني وغيره ، وهو ان الآية مسوقة لبيان وجوب التفقه والانذار ،
لا لبيان وجوب الحذر ، وإنما ذكر الحذر باعتبار كونه فائدة من فوائد التفقه ،
والانذار ، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى وجوب الحذر ، لان أول مقدمات الحكمة كون
المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يراد التمسك بالإطلاق بالنسبة إليها ، ومع
عدم الإطلاق لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن ، وهو ما إذا حصل العلم بمطابقة
قول المنذر للواقع.
وفيه ، أولا : انه
لو شك في كون المتكلم في مقام البيان مقتضى السيرة العقلائية هو البناء على كونه
في مقام البيان ، وقد اعترف المحقق الخراساني بذلك في محله.
وثانيا : ان ظاهر
الآية الكريمة بقرينة قوله تعالى (وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ
__________________
كَآفَّةً
فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي
الدِّينِ) ، وقد بين ذلك بقوله فلولا نفر الخ ، كونها واردة لبيان وظيفة
جميع المسلمين ، وانه يجب على طائفة منهم التفقه والانذار ، وعلى الباقين التحذر ،
فكما انه تكون الآية مطلقة بالنسبة إلى وظيفة المنذرين وانه يجب عليهم الانذار ،
افاد قولهم العلم ، أم لم يفد كذلك بكون مطلقة بالنسبة إلى وظيفة المنذرين بالفتح
، وانه يجب عليهم التحذر في كل مورد يجب الانذار لكونه غاية له.
وثالثا : ان ظاهر
الآية ترتب وجوب الحذر على الانذار ، فلو اختص وجوب الحذر بصورة حصول العلم كان
ذلك مستلزما لالغاء عنوان الانذار إذ التحذر حينئذ تكون للعلم لا للانذار غاية
الأمر يكون الانذار من مقدمات حصول العلم.
ورابعا : ان لازم
ذلك حمل إطلاق الآية على الفرد النادر إذ ظاهر الآية الشريفة ، بقرينة تقابل الجمع
بالجمع ، هو انذار كل واحد من الطائفة ، بعضا من قومه ، كما هو مقتضى طبع الحال ،
لا انذار مجموع الطائفة مجموع القوم ، وعليه فإفادة انذاره العلم في غاية الندرة.
وخامسا : انه
يستكشف إطلاق وجوب التحذر من إطلاق وجوب الانذار ، لان الانذار واجب على كل احد ،
سواء افاد قوله العلم ، أم لم يفد ومع انحصار فائدة الانذار في التحذر ، يكون
التحذر واجبا مطلقا ، وإلا يلزم اللغوية احيانا ، كما ان غاية وجوب الانذار لو كان
هو التحذر ، فوجوب الانذار لتلك الغاية ،
__________________
لو كان مطلقا ، لا
محالة يكشف عن إطلاق وجوب الغاية المترتبة عليه ، لاستحالة إطلاق أحدهما ، واشتراط
الآخر كما هو واضح.
الإيراد الثاني ما
أفاده الشيخ الأعظم أيضاً ، وهو : ان الانذار هو الابلاغ مع التخويف ، والتحذر
هو التخوف الحاصل عقيب هذا التخويف ، ومن المعلوم ان التخويف لا يجب إلا على
الوعاظ في مقام الايعاد على الامور التي يعلمها المخاطبون بحكمها ، وعلى المرشدين
في مقام ارشاد الجاهلين ، ومن المعلوم ان تصديق الحاكى ، فيما يحكيه من لفظ الخبر
خارج عن الامرين ، وخبره ان اشتمل على التخويف ، لا يجب على المجتهد العمل به فان
فهمه ليس حجة عليه ، وهذا بخلاف المجتهد بالنسبة إلى مقلديه كما لا يخفى.
وفيه : ان قوله
تعالى ليتفقهوا في الدين قرينة على ارادة بيان الأحكام من ، ولينذروا لا سيما مع
ملاحة ايجاب النفر كما لا يخفى.
وعليه فلا بد وان
يحمل الانذار على الانذار الضمني وهو كما يكون بالافتاء بوجوب شيء أو حرمته كذلك
يكون بالاخبار باحدهما كما لا يخفى ، فلا وجه لدعوى اختصاص الآية الشريفة بالوعاظ
أو المفتين.
الإيراد الثالث ان
التفقه اخذ عنوانا في الآية فالموضوع هو الفقيه فهي تدل على حجية انذار الفقيه لا
انذار كل راو.
وفيه : ان الفقه
في اللغة هو الفهم لا الاستنباط فالمراد بها هو ، تعلم الأحكام الشرعية ، ويؤيده
بل يشهد له ، ملاحظة نزول الآية ، أضف إليه ان
__________________
الموضوع هو
المتفقه ، لا الفقيه ، ومن الواضح انه يصدق على الراوى ، مع ان الاستنباط في صدر
الاسلام لم يكن إلا بسماع الحديث وتحمله ، وفهمه معناه الظاهر ، ولم يكن بهذه
الصعوبة ، فالرواة في صدر الاسلام ، كانوا فقهاء ، فيما يروون ، فالآية تدل على
حجية روايتهم ، وإذا ثبت ذلك في روايتهم ثبت في رواية غيرهم ، لعدم القول بالفصل.
فتأمل فانه إذا
دلت الآية على حجية قول الفقيه بما هو فقيه على نحو دخل هذا العنوان لا محالة تدل
على حجيته لمقلديه ، وعدم الفصل إنما يثبت حجية رأى الفقيه في هذه الأزمنة ، لا
حجية الخبر ، ومجرد سهولة الفقاهة في الصدر الأول لا يصلح لذلك.
الرابع : ما أفاده
الشيخ الأعظم (ره) أيضاً وحاصله : ان التفقه الواجب ، هو معرفة الامور
الواقعية من الدين ، فالانذار الواجب هو الانذار بهذه الامور المتفقه فيها ،
فالحذر لا يجب إلا عقيب الانذار بها ، فإذا لم يحذر المنذر بالفتح ، ان الانذار هل
وقع بتلك الامور أم بغيرها تعمدا أو خطاء لم يجب التحذر ، فينحصر وجوب التحذر بما
إذا علم المنذر صدق المنذر ، بالكسر.
وفيه : ان اللازم
هو الانذار بما علم إذا المأمور به هو الانذار بما تفقه أي تعلم من الأحكام لا
الانذار بالحكم الواقعي ، وهو لا يقتضي ان يكون الانذار مفيدا للعلم ليتقيد به
الانذار ، فيتقيد به التحذر ـ نعم ـ لا بد وان يحرز انه انذار بما علم ، ويحرز ذلك
، باحراز انه متحرز عن الكذب ، بضميمة أصالة
__________________
عدم الغفلة التي
هي من الأصول العقلائية كما لا يخفى.
واما ما عن المحقق
النائيني (ره) من الجواب عن ذلك ، بان نفس الآية تدل على ان ما انذر به
المنذر يكون من الأحكام لان قول المنذر إذا جعل طريقا إليها ، يجب اتباع قوله ،
والبناء على انه هو الواقع ، فالآية بنفسها تدل على ان ما انذر به المنذر يكون من
الأحكام الواقعية.
ففيه ان اساس
الإيراد إنما هو تقييد الموضوع ، أي الانذار بكون المنذر به من الدين ، وهذا القيد
لا يحرز بشمول دليل الحكم ، ـ وبعبارة أخرى ـ إذا تم الموضوع وصار الانذار حجة يتم
ما ذكر ولكن المستشكل من جهة انه يدعى تقييد الموضوع يدعى عدم شمول الدليل للانذار
ما لم يحرز كونه انذارا بالاحكام الواقعية ، فالحق ما ذكرناه.
الخامس : ان
الإمام (ع) طبق الآية الشريفة على أصول العقائد ، كصحيح يعقوب بن شعيب عن الإمام
الصادق (ع) قال : قلت له إذا حدث على الإمام حدث كيف يصنع الناس؟ قال (ع) : اين
قول الله عزوجل فلولا نفر الخ . ونحوه غيره ، ولا ريب في ان اللازم في الأصول العلم فلا
تدل الآية على حجية الخبر غير المفيد للعلم.
وفيه : أولا : ان
هذه الآية الشريفة تدل على كفاية الخبر الواحد في العقائد وإنما يقيد اطلاقها
بالنسبة إليها بواسطة دليل خارجي.
__________________
وثانيا : ان هذه
الأخبار بما انها اخبار آحاد لا تصلح لان يرفع اليد لاجلها عن ظهور الآية الشريفة
في حجية الخبر الواحد ، فانه يجري فيها ما ذكرناه في خبر السيد في آية النبأ
فراجع.
وثالثا : ان الآية
الشريفة متكفلة لبيان أحكام ـ وهي ـ وجوب النفر والتفقه ووجوب الانذار ، ووجوب
التحذر ، والذى طبقه الامام على أصول العقائد إنما هو الحكم الأول ولا ربط للحكم
الثاني به.
ورابعا : انها
اخبار آحاد لا يصح الاستدلال بها لعدم حجية خبر الواحد.
والحق ان يورد على
هذا الوجه بأنه كون كلمة لعل ظاهرة في كون ما بعدها غاية لما قبلها غير ثابت ، بل
في كثير من الموارد ـ كقولنا ـ لا تهن الفقير علك ان تركع يوما والدهر قد رفعه ـ والامثلة
المتقدمة من الآيات والروايات ، ليست كذلك ، وبالجملة بعد كون كلمة لعل للتشكيك
والترديد لا مورد لهذا الوجه.
الوجه الثالث : ان
الانذار بمقتضى الآية واجب ، للأمر به ، ولجعله غاية للنفر الواجب كما هو قضية
كلمة لو لا التحضيضية ، فيجب التحذر وان لم يفد قول المنذر العلم ، وإلا لغى
وجوبه.
وفيه : انه لا
ينحصر فائدة الانذار في خصوص التحذر ، بل يتصور له فائدة أخرى ، وهي انشاء الحق
وظهوره بكثرة انذار المنذرين ، كما أفاده المحقق
الخراساني (ره) في
الحاشية .
وان شئت قلت انه
إذا كانت الغاية الاقصى هو التحذر بعد حصول العلم يكون كل انذار جزءا مما يترتب
عليه الغاية فيكون الغاية المترقبة منه تأثيره في الغاية الاقصى بهذا المقدار ،
وهذه الغاية مترتبة مطلقا فتدبر.
ومع ذلك كله يمكن
الاستدلال بالآية الكريمة لحجية خبر الواحد ، بتقريب ان كلمة لعل وضعت لجعل
مدخولها واقعا موقع الاحتمال ، فحاصل الآية ايجاب الانذار لاحتمال تأثيره في
التحذر نظرا إلى اقتضاء الانذار للتحذر ، ومن الواضح ان ذلك يلازم حجية الخبر ،
وإلا يقطع بعدم العقاب ، وعلى هذا تكون الآية كاشفة عن حجية خبر الواحد السابقة
على نزول الآية ويكون مسوقة على نحو تكون حجية الخبر مفروغا عنها ، وعليه تكون
الآية كاشفة عن حجية الخبر مطلقا ، وان وجوب الحذر عند الانذار إنما هو من باب
تطبيق الكبرى الكلية على بعض المصاديق.
__________________
آية الكتمان
الثالث : مما
استدل به لحجية خبر الواحد آية الكتمان وهي قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
وتقريب الاستدلال
بها ان ظاهر الآية الشريفة لأجل لعن الكاتمين ، هو حرمة الكتمان ووجوب الاظهار ،
وحيث لا فائدة للاظهار سوى القبول لزم ذلك وجوب القبول مطلقا ، نظير ما ذكرناه في
آية النفر.
ونظير ما استدلوا
لحجية اخبار المرأة عن كونها حاملا بقوله تعالى (وَلَا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَ).
وأجاب عن
الاستدلال بها الشيخ الأعظم بجوابين الذين اوردهما على الاستدلال بآية النفر :
من عدم اطلاقها
بالنسبة إلى صورة عدم حصول العلم ، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة.
ومن دلالتها على
وجوب الأخبار بالحكم الواقعي ، فيجب القبول مع
__________________
احراز انه اظهار
لما انزل ، فمع الشك يكون الشك في الموضوع فلا يجب القبول.
وأورد عليه المحقق
الخراساني ، بان الملازمة لو سلمت تنافي الوجهين ، وحاصله انه مع حكم
العقل بالملازمة لا معنى للايراد بما يرجع إلى مقام الإثبات.
ولكن الظاهر ان
مراد الشيخ الأعظم : انه ان كان الاظهار ملازما عاديا لعدم حصول العلم كما في
كتمان المرأة ما في بطنها ، لان طريق احراز ما في الارحام منحصر في اخبارهن واخبار
المرأة مما لا يفيد العلم غالبا ، كان الاستدلال متينا ، وإلا كما في المقام الذي
يكون الموضوع لحرمة الكتمان عاما استغراقيا بمعنى حرمة الكتمان على كل احد ، ويكون
الغاية القصوى والغرض الاقصى ، هو العمل عن علم فيكون اظهار كل واحد وعدم كتمانه
مؤثرا في حصول هذا الغرض ، ويترتب على اظهار كل واحد تلك القابلية والاستعداد
فيخرج عن اللغوية.
وان شئت قلت ان
ظهور الحق وحصول العلم إنما يكون حكمة لحرمة الكتمان والحكمة الداعية للتكليف لا
يلزم ان تكون سارية في جميع الموارد.
ولكن الذي يرد على
الاستدلال ان الآية اجنبية عن المقام لان الكتمان إنما هو في مقابل ابقاء الواضح ،
والظاهر على حاله لاما يقابل الايضاح والاظهار ، ويؤيده ان موردها ما كان فيه
مقتضى القبول لو لا الكتمان لقوله تعالى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب ، مع :
ان فائدة عدم الكتمان لا تنحصر في القبول
__________________
تعبدا ، بل يمكن
ان يكون هي اظهار الحق وإفشاءه ، ويشهد له ملاحظة مورد نزول الآية وهي اما نزلت في
مقام الرد على اليهود حيث انهم اخفوا علامات النبي (ص) التي رأوها في التوراة ، أو
أهل السنة ، والمراد بالبينات حينئذ علامات ولاية الإمام على (ع) فلا تدل الآية
على وجوب القبول تعبدا.
الاستدلال بآية الذكر لحجية خبر الواحد
الرابع : آية
الذكر ، وهي قوله تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.
وأورد عليه
بايرادات :
الأول ما ذكره
الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الراوى بما هو راو ، لا يصدق عليه أهل الذكر ،
وإنما يصدق هذا العنوان على العالم ، فالآية لو تمت دلالتها ، لدلت على جواز
التقليد لا حجية الخبر.
وردّه المحقق
الخراساني بان كثيرا من الرواة يصدق عليهم أهل الذكر ، كزرارة ومحمد
بن مسلم ويصدق على السؤال عنهم السؤال عن أهل الذكر ، ولو كان السائل من اضرابهم ،
فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية ، وجب قبول رواية غيرهم من
العدول مطلقا ، لعدم القول
__________________
بالفصل جزما.
واجيب عنه ، بان قبول قول الرواة في الفرض حينئذ ليس بما هم رواة حتى
يثبت في غيرهم بعدم القول بالفصل بل بما هم علماء ، واهل الذكر.
ولكن : يمكن تأييد
المحقق الخراساني بان يقال ان مراده ان اساس الاشكال ان من كان عالما باحاديث
قليلة لا يصدق عليه أهل الذكر ، فلو كان الشخص عالما باحاديث كثيرة كزرارة يصدق
عليه أهل الذكر ، فإذا وجب قبول رواية هذا الشخص ، والمفروض انه يقبل روايته بما
هو راو ، لا بما هو مفتى ، ثبت حجية رواية غيره لعدم الفصل.
الثاني : ان
المراد من أهل الذكر علماء أهل الكتاب بقرينة السياق ، وفي بعض الروايات ان المراد
بهم الائمة الطاهرين عليهمالسلام.
وفيه : ان الظاهر
ان ، أهل الذكر عنوان عام يشمل الجميع ويختلف باختلاف الموارد ، فاهل الذكر لاثبات
النبوة هم علماء أهل الكتاب ، واهل الذكر للشيعة ، هم الائمة ، وفي الغيبة أهل
الذكر للناس ، هم الفقهاء ، والفقهاء الرواة ، فلا وجه لتخصيص أهل الذكر بطائفة
خاصة منهم.
الثالث : ان ظاهر
تعليق الأمر بالسؤال على عدم العلم ان الغاية منه حصول العلم بالجواب لا متابعة
الخبر مع عدم حصوله.
وفيه : أولا : انه
لم يظهر وجه هذا الاستظهار ، إذ لا شبهة في ان حجية الخبر
__________________
إنما هي في ظرف
عدم العلم ، وهذا هو الذي صرح به الآية الشريفة فمن اين يستفاد ان الغاية هي حصول
العلم.
وثانيا : ان نفس
الآية الشريفة الدالة على حجية الخبر الواحد مع قطع النظر عن هذا الإيراد كما هو
المفروض ، تدل على كون الخبر من أفراد العلم ، بناء على مسلك تتميم الكشف كما هو
الحق.
فالصحيح ان يورد
على الاستدلال بها انها لا تدل على ان غاية السؤال ، هو العمل ، حتى مع عدم العلم
، وليس واردا في مقام البيان من هذه الجهة ولعل المطلوب هو قبول قول أهل الذكر في
صورة حصول العلم أو الاطمينان.
الاستدلال بآية الإذن لحجية خبر الواحد
الخامس : آية
الإذن وهي : قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ). تقريب الاستدلال بها ان الله تعالى مدح نبيه ، بتصديقه
للمؤمنين ، وقرنه بتصديقه بالله ، فهو كاشف عن حسنه ، وإذا ثبت حسنه ، لزم القول
بوجوبه : للملازمة العقلية ، ولعدم الفصل.
وأورد عليه الشيخ
الأعظم والمحقق الخراساني بان المراد من الإذن
__________________
السريع التصديق
والاعتقاد لا الاخذ بقول الغير تعبدا.
وفيه : ان كون
الشخص ، سريع الاعتقاد والقطع ، وحصوله من سبب ، لا ينبغي حصوله منه إنما يكون
نقصا فيه فضلا عن النبي (ع) ، فضلا عن كونه كمالا له ، وموجبا لمدح الله سبحانه
اياه.
فالصحيح : ان يورد
عليه بان المراد من تصديقه للمؤمنين هو عدم تكذيبهم ورد قولهم واظهار القبول الذي
هو امر اخلاقي لا تصديقهم بجعل المخبر به واقعا وترتيب جميع الآثار عليه ، وذلك
لوجهين :
الأول : انه لو
كان المراد ذلك لم يكن اذن خير للجميع بل كان اذن خير لخصوص المخبر وأذن شر لغيره.
الثاني : ملاحظة
مورد نزول الآية الشريفة وهو انه نمَّ منافق على النبي (ص) فاخبره الله ذلك ،
فاحضره النبي (ص) وسأله فحلف انه لم يكن شيء مما ينم عليه ، فقبل منه النبي (ص).
فاخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن على النبي (ص) ويقول انه يقبل كل ما يسمع اخبره الله
انّي انمُّ عليه ، فقبل ، واخبرته انّي لم افعل فقبل ، فرده الله تعالى بنزول هذه
الآية ، فإنه من البديهي ان تصديق المنافق في مقابل اخباره تعالى لم يكن إلا بهذا
المعنى.
واستشهد له الشيخ
الأعظم (ره) وتبعه صاحب الدرر بتعدية الايمان في الفقرة الأولى بالباء ، وفي الفقرة
الثانية باللام فان ذلك آية اختلاف المراد به.
__________________
وفيه : ان الايمان
الذي هو عبارة أخرى عن التصديق ان تعلق بوجود الشيء كان يتعدى بالباء ، ومنه قوله
تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) ، وان كان متعلقا بالقول والاخبار ، يتعدى باللام ، ومنه
قوله تعالى : (وَمَا أَنتَ
بِمُؤْمِنٍ لِّنَا) ، (وَلَا تُؤْمِنُواْ
إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ).
وعليه فحيث انه
اريد في الجملة الثانية الايمان بقول المؤمنين ، فتعداه باللام ، وفي الجملة
الأولى ، وان كان المراد به أيضاً الايمان بقوله تعالى ، إلا انه إنما تعدى بالباء
للتنبيه على امر ، وهو ان الايمان والتصديق باخبار الله تعالى ، وقوله ، ملازم
للتصديق بوجوده ، ولهذه النكتة تعدى بالباء.
وبهذا يظهر انه
لاوجه للاستشهاد لما ذكرناه ، بان الظاهر من التعدية باللام هو التصديق فيما
ينفعهم لا تصديقهم ولو فيما عليهم ويضرهم ، فالصحيح ما ذكرناه.
ولا يخفى انه بناء
على ما ذكرناه من عدم دلالة الآيات ، غير آية النبأ على حجية خبر الواحد ، لا كلام
فانه قد عرفت ان المستفاد منها حجية الخبر الواحد في الأحكام والموضوعات ، من غير
فرق بين أنواع الخبر.
ودعوى ان المفهوم
منصرف إلى الخبر المفيد للوثوق كما عن الشيخ
__________________
الأعظم .
من الغرائب ، لان
المفهوم كما مر دلالة عقلية ، والانصراف من عوارض الالفاظ.
وان قيل ان مدعاه
انصراف المنطوق.
توجه عليه انه غير
منصرف قطعا ، لعدم احتمال اختصاص عدم الحجية بالخبر المفيد للوثوق.
واما على القول
بدلالة غير آية النبأ عليها ، فالنسبة بين تلك الآية ، ومنطوق آية البناء عموم من
وجه إذا المنطوق يشمل الخبر في الأحكام والموضوعات ، وتلك الآية مختصة بالاحكام ،
إلا انها اعم منه من جهة شمولها للعادل ، والفاسق ، والمجمع خبر الفاسق في
الأحكام.
وحيث ان
المتعارضين من الكتاب لا معنى للرجوع إلى اخبار الترجيح فلا محالة يتعارض
الاطلاقان ويتساقطان ، فيرجع إلى أصالة عدم الحجية.
واما مفهوم آية
النبأ فحيث انه مع الآيات الأخر من قبيل المثبتين ، فلا يقيد أحدهما بالاخرى.
وبه يظهر ان ما
أفاده الشيخ الأعظم من انه بعد دعوى انصراف مفهوم الآية بالخبر العادل المفيد
للوثوق ، يقيد سائر الآيات به ، غير تام.
__________________
النصوص الدالة على حجية خبر الواحد
السادس : من ادلة
حجية الخبر الواحد ، النصوص الكثيرة الواردة في موارد مختلفة ، وقبل بيان هذا
الاستدلال لا بد من تقديم مقدمة.
وهي ان التواتر
على اقسام :
الأول : التواتر
اللفظي وهو ما لو كان جميع الأخبار لفظها واحدا كخبر غدير الخم ، فان هذه العبارة (من
كنت مولاه فعلي مولاه) نقلها الجميع.
الثاني : التواتر
المعنوي ، وهو ما إذا اتفقوا على نقل مضمون واحد بالمطابقة أو بالتضمن أو
بالالتزام ، كالاتفاق على شجاعة الإمام على.
الثالث : التواتر
الإجمالي وهو ما إذا كانت الأخبار مختلفة لفظا ومعنى ، ولكن يعلم بصدور واحد منها.
وقد اختار المحقق
النائيني (ره) عدم وجوده ، بدعوى ان الأخبار وان بلغت من الكثرة ما بلغت
فان كان هناك جامع بينها ، يكون الكل متفقا على نقله ، فهو يرجع إلى التواتر
المعنوي ، وإلا فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز كذب كل واحد منها في
حد نفسه وعدم ارتباط بعضه ببعض.
وفيه : ان مقتضى
هذا البرهان انكار التواتر اللفظي والمعنوي أيضاً : إذ كل واحد من الأخبار في نفسه
محتمل للصدق والكذب ، فكما يقال هناك انه يمتنع
__________________
عادة تواطئهم على
الكذب ، كذلك يقال في المقام. وبالجملة : انكار ذلك مكابرة ، وهذا القسم من
التواتر أي التواتر الإجمالي على قسمين :
الأول : ما لا
يكون هناك جهة مشتركة بين تلك الأخبار.
الثاني ما يكون
هناك جهة مشتركة.
ودعوى : رجوع ذلك
إلى التواتر المعنوي.
فاسدة : بعد الاخذ
في كل منها قيدا غير ما اخذ في الآخر ، والمدعى في المقام ثبوت القسم الثاني من
التواتر الإجمالي كما ستعرف.
إذا عرفت هذه
المقدمة فاعلم ان النصوص الواردة في المقام على طوائف :
الطائفة الأولى :
الأخبار العلاجية الواردة في الأخبار المتعارضة وهي كثيرة ، وموردها الخبرين غير مقطوعي الصدور.
وذلك لصراحة جملة
منها في ذلك كقوله في خبر ابي الجهم يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين ، وظهور
غيرها فيه ، فان قول السائل يأتي عنكم خبران متعارضان ، ظاهر في مشكوكي الصدور.
ولان الترجيح
بصفات الراوي من الاوثقية والأصدقية وغيرهما إنما يناسب مع الشك في الصدور ولا
يلائم مع القطع به.
ويظهر من هذه
النصوص ان حجية الخبر الواحد في الجملة كانت امرا مفروغا عنه بين اصحاب الائمة عليهمالسلام ، وهم (ع) لم يردعوا عنه ، بل
__________________
قرروا ما كان
مغروسا في اذهانهم بل صرحوا بالحجية اما تعيينا أو تخييرا.
الطائفة الثانية :
ما تضمن الارجاع إلى اشخاص من الرواة كالجالس ، أي زرارة ، والثقفي ، والاسدي وغيرهم
الطائفة الثالثة :
ما تضمن الأمر بالرجوع إلى الثقاة كقوله لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه عنا
ثقاتنا .
الطائفة الرابعة :
النصوص الواردة بالسنة مختلفة المستفاد منها ذلك وهذه النصوص وان لم تكن متواترة لفظا ولا معنا ، إلا انها
متواترة اجمالا ، فلا بد من الاخذ بالمتيقن منها ، وهو خبر العدل الامامي الذي
يعبر عنه بالثقة.
لا ما أفاده
المحقق النائيني (ره) من كونه الخبر الموثوق به ، إذ بعد فرض اخذ عنوان المأمون
على الدين والدنيا ، والثقة في الموضوع ، والترجيح بالأعدلية في عرض ، الاوثقية ،
لا يبقى مجال لدعوى ان اخصها مضمونا الخبر الموثوق به
__________________
ومع عدم كونه اخص
مضمونا لما كان وجه لدعوى القطع باستفادة حجيته من هذه النصوص.
إلا انه يمكن
القول بحجية الخبر الموثوق به واستفادته من هذه النصوص بتقريبين آخرين.
الأول : انه
بمناسبة الحكم والموضوع المغروسة في الاذهان التي هي كالقرينة المتصلة يحمل الثقة
، والعدل على ارادة المتحرز عن الكذب إذ هذا هو الدخيل في ثبوت الصدور من المعصوم (ع)
واما العدالة في الامور الأخر وصحة العقيدة ، فهما غير دخيلين في ذلك قطعا ، وليس
المقام نظير باب الفتوى والحكومة حيث يدعى ، انهما منصبان لا يليق للتصدى لهما إلا
العادل الورع كما لا يخفى.
الثاني : ما أفاده
المحقق الخراساني من ان المتيقن من هذه الأخبار هو الخبر الصحيح ، إلا انه
من جملة تلكم الأخبار ، خبر صحيح يدل على حجية الموثق مطلقا.
تقرير الإجماع على حجية خبر الواحد
السابع : من ادلة
حجية الخبر الواحد الإجماع ، وتقريبه من وجوه :
__________________
احدها : الإجماع
المنقول من شيخ الطائفة على حجيته.
الثاني : الإجماع
القولي عدا السيد واتباعه كما يظهر ذلك بالتتبع في فتاوى الاصحاب وكلماتهم وخلافهم
لا يضر.
الثالث : الإجماع
القولي من الجميع حتى السيد واتباعه ، اما غير السيد واتباعه فواضح ، واما هم
فيمكن ان يذكر له وجهان :
الأول : ان انكار
السيد (ره) حجية الخبر المجرد عن القرائن القطعية إنما هو لأجل انفتاح باب العلم
لديه ومعلومية معظم الفقه عنده بالضرورة ، والاجماع القطعي ، والاخبار المتواترة
كما يصرح بذلك في جواب ما اورده على نفسه بأنه إذا لم يكن الخبر الواحد حجة فعلى
أي شيء تعوِّلون في الفقه كله وظاهر ذلك ان الخبر حجة على فرض انسداد باب العلم.
الثاني : ان يكون
المراد من العلم ما يشمل الوثوق والاطمئنان كما يشهد له ما ذكره (قدِّس سره) في
تعريف العلم بأنه ما يقتضي سكون النفس ، فمراده من القرائن الموجبة للعلم هي ما توجب الوثوق
والاطمئنان الموجب لسكون النفس فيكون قوله قبال من يدَّعي حجية الخبر الواحد تعبدا
وان لم يحصل الوثوق ، وعلى ذلك فهو أيضاً قائل بحجية الخبر الواحد غاية الأمر
يعتبر فيها افادته الوثوق.
الرابع : الإجماع
العملي من العلماء كافة بل من جميع المتشرعة.
__________________
ولكن يرد على
الوجه الأول ان حجية الإجماع المنقول على القول بها ، إنما هي من جهة كونه من
أفراد الخبر ، فكيف يصح الاستدلال به على حجية الخبر ، أضف إلى ذلك ما تقدم من عدم
شمول ادلة حجية الخبر الواحد لنقل الإجماع.
ويرد على الوجه
الثاني ، مضافا إلى ان عدم مضرية مخالفة السيد إنما يتم على القول بالاجماع
الدخولى دون الحدسي ، أو قاعدة اللطف.
انه لمعلومية مدرك
المجمعين لا يكون هذا الإجماع كاشفا عن راى المعصوم عليهالسلام.
ويرد على الوجه
الثالث : مضافا إلى ما أورد على الثاني ، انه اجماع تقديري احتمالي ، لأنه من
المحتمل ان السيد واتباعه على تقدير الالتزام بالانسداد لا يلتزمون بحجية خبر
الواحد ، بل يرونه من أفراده الظن المطلق كالمحقق القمي (ره) .
ويرد على الوجه
الرابع ان عمل المجمعين لا يكون كاشفا عن كون رأيهم حجية الخبر الواحد ، فان عمل
جماعة منهم يكون من جهة انهم يرون كون ما في الكتب الاربعة مقطوع الصدور.
واما عمل المتشرعة
فهو وان كان مما لا ينبغى انكاره ، كما يظهر لمن لاحظ اخذ أهل البوادى والقرى
والبلدان والنساء ، الفتاوى من الوسائط بينهم وبين
__________________
المعصومين ،
ونوابهم من صدر الاسلام إلى زماننا إلا انه لم يثبت كون ذلك سيرة المتشرعة بما هم
متشرعون ، بل الظاهر كون سيرتهم عليه ، بما هم عقلاء فالعمدة هو بناء العقلاء.
تقرير بناء العقلاء على حجية خبر الواحد
الثامن : سيرة
العقلاء فانها قد استقرت على العمل بخبر الواحد في جميع امورهم ولم يردع الشارع
الاقدس عنها ، وإلا لبان كما وصل منعه عن العمل بالقياس ، مع ان العامل بالقياس
اقل من العامل بخبر الثقة بكثير ، ومع ذلك قد بلغت الروايات المانعة عن العمل
بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريبا ، ولم يصل المنع عن العمل بخبر الثقة رواية
واحدة ، وهذا اقوى كاشف عن امضاء الشارع اياه.
وغاية ما توهم ،
ان الآيات والروايات الناهية عن اتباع غير العلم رادعة عن هذه السيرة.
وافاد القوم في
دفع هذا التوهم وجوها :
منها : ما في هامش
الكفاية من ان نسبة السيرة إلى تلك الأدلة نسبة الخاص المتقدم إلى
العام المتأخر ، في ان الأمر يدور بين تخصيص العام بالخاص المقدم ، وبين جعل العام
ناسخا ، وقد ذكرنا في بحث العموم والخصوص ، ان المتعين هو الأول إذ الخاص قرينة
على المراد من العام ، وتقديم البيان على وقت
__________________
الحاجة لا محذور
فيه فتدبر.
وفيه : ان كون
السيرة مخصصة للعام المتأخر متوقف على حجيتها ، وهي تتوقف على احراز تمكن الشارع
من الردع قبل نزول الآيات الناهية ، لتكون السيرة حجة حينئذ وقابلة لتخصيص العام ،
وانى لنا باثبات ذلك كيف ولم يكن (ص) في أول البعثة متمكنا من الردع عن المحرمات
القطعية كشرب الخمر مثلا ، ولا من الأمر بالواجبات الضرورية كالصوم والصلاة ومع
عدم التمكن لا يكون السيرة حجة.
ومنها : ما في
الكفاية متنا ، قال لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر وذلك لان
الردع بها يتوقف على تخصيص عمومها أو تقييد اطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة
وهو يتوقف على الردع عنها بها وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها.
ثم أورد على نفسه
بأنه على هذا يكون اعتبار خبر الثقة أيضاً دوريا ، لتوقفه على عدم الردع بها
المتوقف على تخصيصها بها المتوقف على عدم الردع.
وأجاب عنه بأنه يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها ، ولا
يتوقف على ثبوت عدم الردع.
__________________
وأورد عليه المحقق
صاحب الدرر (ره) والاستاذ الأعظم : بان عدم ثبوت الردع لا يكفي في تخصيص العمومات بالسيرة
بل لا بد من ثبوت الامضاء المنكشف بثبوت عدم الردع ، فان سيرة العقلاء ما لم يمضها
الشارع لا تكون حجة.
ويمكن رد ذلك ،
بان هذا الإيراد لا يرد عليه على مسلكه في حجية طريقة العقلاء ، إذ ليس مبناه فيها
الملازمة بين حجية شيء عند العقلاء وحجيته عند الشارع حتى يحتاج إلى امضاء الشارع
كي يكون المقتضى للحجية امضاء الشارع ، ويكون ثبوت عدم الردع احد الطرق الكاشفة عن
امضائه بل مبناه ، ان الشارع بما انه رئيس العقلاء وهو منهم متحد المسلك مع
العقلاء ، فهذا مقتض لاتحاد المسلك. وبعبارة أخرى : نفس بناء العقلاء مقتض لحجية
الخبر لفرض كونه منهم ، وردعه كاشف عن اختلاف مسلكه معهم من حيث انه منهم ، فعدم
ثبوت الردع كاف في الحكم باتحاد المسلك لعدم المانع عن الحكم بالاتحاد.
فالصحيح ان يورد
عليه بان ، عدم ثبوت التخصيص يكفي في حجية العمومات أيضاً وصلوحها رادعة عن السيرة
إذ الدليل حجة ما لم يثبت خلافه.
__________________
ومنها : ما عن
المحقق الخراساني وهو ان الأدلة منصرفة ولا اقل ان المتيقن منها خصوص الظن
الذي لم يقم دليل على حجيته بالخصوص.
وفيه : ان دعوى
الانصراف باطلة إذ لا منشأ له في المقام ، حتى من المناشئ التي ذكرها القوم ، ونحن
لا نسلمها من ، غلبة الوجود ، وكثرة الاستعمال الموجبتين لأنس الذهن.
واما دعوى التيقن
فان اريد به الانصراف. فيرد عليه ما تقدم ، وإلا فيرد عليه ان مجرد وجود المتيقن
لا يمنع عن التمسك بالإطلاق.
ومنها : ما عن
المحقق الخراساني في مجلس بحثه وهو انه بعد تسليم صلاحية كل من العمومات والسيرة
لرفع اليد بها عن الاخرى ، وتعارضهما ، وتساقطهما ، يرجع إلى استصحاب الحجية
الثابتة للسيرة قبل ورود الآيات الناهية عن العمل بغير العلم.
وفيه : ان هذا يتم
لو أحرز تمكن الشارع الأقدس من الردع عن العمل به قبل ورودها ولم يكن يترتب عليه
محذور اهم ، وإلا فلا يكون امضاؤه محرزا به فلا تكون حجية السيرة محرزة قبل نزول
الآيات كي تستصحب مع ان دليل حجية الاستصحاب ، اما السيرة العقلائية أو أخبار
الآحاد فعلى الثاني كيف يمكن التمسك لحجية خبر الواحد بالاستصحاب المتوقف حجيته
على حجية الخبر الواحد بعد عدم كونها متواترة ، وعلى الأول تكون الأدلة الناهية عن
العمل بغير العلم ناهية عن العمل بالاستصحاب فكل ما يقال في السيرة
__________________
القائمة على العمل
بخبر الواحد مع الآيات الناهية عن العمل بغير العلم يقال في السيرة القائمة على
العمل بالاستصحاب.
كيف وقد صرح المحقق
الخراساني في مبحث الاستصحاب من الكفاية بان تلك الآيات رادعة عن العمل بالاستصحاب.
أضف إلى ذلك كله
ان المختار عدم حجية الاستصحاب في الأحكام الكليّة.
ومنها : ما أفاده
الشيخ الأعظم (ره) وحاصله ان دليل حرمة العمل بغير العلم احد أمرين والعمومات
راجعة إلى أحدهما :
الأول : ان العمل
بغير العلم تشريع محرم.
الثاني : ان العمل
بغير العلم مستلزم لطرح ادلة الأصول العملية واللفظية التي اعتبرها الشارع عند عدم
العلم بالخلاف.
وشيء من هذين
الوجهين لا يوجب الردع عن العمل في المقام.
إذ حرمة التشريع ،
وعدم جواز طرح الأصول مركوزان في اذهان العرف والعقلاء ، ومع ذلك يعملون بخبر
الثقة فيستكشف من ذلك ان العمل به لا يعد تشريعا عند العرف بل يرونه إطاعة ، ولذا
يعولون عليه في اوامرهم العرفية.
__________________
اما الأصول التي
مدركها حكم العقل ، فلا تجرى في مقابل خبر الثقة ، بعد الاعتراف ببناء العقلاء على
العمل به.
واما الأصول
اللفظية ، فلان مدركها بناء العرف والعقلاء ، ولا بناء منهم على اعتبارها ،
فادلتها لا تشمل صورة وجود الخبر الموثوق به في مقابلها.
وفيه : ان العرف
والعقلاء إنما لا يرون العامل بخبر الثقة في اموراتهم مشرعا لما يرونه حجة فعدم
كونه تشريعا إنما يترتب على حجيته ، فلا يمكن اثبات الحجية بعدم التشريع.
وبعبارة أخرى :
عدم كونه مشرعا إنما يكون من جهة كون الخبر حجة عندهم ، فلو كان ذلك كاشفا عن
امضاء الشارع ، كان العامل غير مشرع عنده أيضاً وإلا كان مشرعا ، والكلام الآن في
كاشفيته عن امضاء الشارع بعد ورود ما يصلح للرادعية فتدبر فانه دقيق.
مع ان حمل جميع
الأخبار والآيات المتضمنة للنهى عن اتباع غير العلم على ارادة احد الامرين الذين
اشار اليهما خلاف الظاهر ، فان الظاهر من كل عنوان مأخوذ في دليل دخله في الحكم
بنفسه.
فالصحيح في الجواب
ان يقال ان عمل العقلاء بخبر الثقة إنما هو من جهة الغائهم احتمال الخلاف ، وفرضه
كالعدم والمعاملة معه معاملة العلم.
وعليه : فلا يعقل
رادعية العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم عنه إذ الرادعية فرع كون مورد
البناء ومفاد العمومات شيئا واحدا ، وإلا فلو كان كل منهما متكفلا لبيان امر غير
ما يكون الآخر متكفلا له ، لا معنى للرادعية
وهو واضح ،
والعمومات متضمنة لبيان عقد الحمل ، وان كل ما صدق عليه غير العلم لا يجوز اتباعه
، واما انه في أي مورد يصدق هذا العنوان فتلك العمومات غير متكفلة لبيانه ، بل لا
بد من التماس دليل آخر كما هو الشأن في جميع الأدلة المتضمنة للاحكام على
الموضوعات ، وبناء العقلاء متكفل لبيان عقد الوضع وان خبر الثقة ليس بغير علم ،
وعليه فالعمومات غير رادعة عنه بل لا يعقل رادعيتها.
فتحصل انه بمقتضى
بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة ، بضميمة عدم الردع يبنى على حجية خبر الثقة.
ثم ان مقتضى هذا
الدليل حجية كل خبر ثقة كان إماميا ، أم غير امامى ، بل كل خبر موثوق به كان الراوى
ثقة ، أم لا؟ فيستفاد منه حجية الخبر باقسامه الاربعة ، وكذلك يدل على حجية الخبر
الواحد في الموضوعات ، وما يتوهم ان يكون رادعا عنه ، ودالا على عدم حجيته في
الموضوعات قد تقدم انه لا يصلح لذلك في ذيل آية النبأ فراجع.
الوجوه العقلية التي اقيمت على حجية الخبر
التاسع : الوجوه
العقلية ، وقد ذكروا لذلك عدة وجوه :
الوجه الأول : انه
يعلم اجمالا بصدور كثير مما بايدينا من الأخبار من الائمة الاطهار ، ولازم ذلك
العمل بجميع النصوص التي هي طرف العلم.
توضيح ذلك : انه
بعد مراجعة احوال الرواة وملاحظة شدة اهتمامهم
بضبط الاحاديث
الواردة عن المعصومين عليهمالسلام ، واهتمامهم بتنقيح ما اودعوه في كتبهم عن الأخبار
المدسوسة ، حتى انهم من جهة هذا الاهتمام كانوا لا يعتنون باخبار من يعتمد في عمل
نفسه على المراسيل ، وكان يروى عن الضعفاء ، وان كان بنفسه ثقة كالبرقي ، ولا
يعتنون باخبار من عمل بنفسه بالقياس كالاسكافي ، مع ان العمل لا ربط له بالخبر ،
ولذا ترى ان على ابن الحسين بن الفضال لم يرو كتب ابيه معتذرا بأنه كان صغير السن
عند سماعه الاحاديث منه فقرأ كتب ابيه ، على اخويه محمد واحمد ، وكانوا يتوقفون في
روايات من كان على الحق ، ثم انحرف كبنى فضال ، أو ارتد عن مذهب الشيعة كابن عذافر
، يظهر صدور جملة من الأخبار المتضمنة للاحكام المودعة في الكتب الاربعة وغيرها من
الكتب ، ومقتضى هذا العلم الإجمالي العمل بجميع النصوص التي تكون طرفا لهذا العلم
الإجمالي.
وأورد عليه الشيخ
الأعظم بامرين (ره) : الأول : ان لنا علمين اجماليين ومعلومين كذلك : أحدهما
ثبوت الأحكام في الأخبار بالتقريب المتقدم. ثانيهما : ثبوت أحكام في مجموع الأخبار
وسائر الأمارات الظنية الأخر فسائر الأمارات طرف للعلم الإجمالي الثاني الذي يكون
دائرته اوسع من دائرة العلم الإجمالي الأول ، ولا يكون ذلك العلم الإجمالي منحلا
بالعلم الإجمالي الصغير إذ الميزان في تشخيص الانحلال وعدمه هو ان يفرز من اطراف
العلم الإجمالي الصغير بالمقدار المتيقن ، فان بقى علم اجمالي بوجود الأحكام في
بقية اطراف الشبهة من سائر الأخبار ، والأمارات يكشف ذلك عن عدم الانحلال ، وان لم
يبق العلم
__________________
الإجمالي لا محالة
يكون منحلا ، وحيث انه في المقام لا ريب في انا لو فرضنا قدرا من الأخبار لا يزيد
عن المعلوم بالإجمال ، من الأحكام في ما بين الأخبار من الأحكام ، لا ريب في بقاء العلم
الإجمالي بوجود أحكام فيما بين بقية الأخبار وسائر الأمارات الظنية ، فلا مناص عن
عدم الانحلال.
ولا يكفي في
الجواب عن ذلك مجرد دعوى الانحلال ، وعدم بقاء العلم الإجمالي كما في الكفاية وتبعه الأستاذ الأعظم فان انكار بقائه مكابرة.
فالحق في الجواب ان
يقال ان العلم الإجمالي وان كان باقيا إلا ان الذي يفيد ، لعدم الانحلال هو كون
المعلوم بالإجمال وجوده من الأحكام في مجموع الأخبار وسائر الأمارات ، غير المعلوم
بالإجمال وجودها في الأخبار المروية في الكتب المعتبرة ، وهذا إنما يكون مع عدم
احتمال اتحاد مؤديات سائر الأمارات مع الأخبار المفروزة ، أو المفروز منها ، وحيث
انه لا علم بوجود أحكام غير ما في الأخبار المروية في الكتب المعتبرة من الأحكام
فلا محالة يكون العلم الإجمالي الكبير منحلا بالعلم الإجمالي الصغير والشك البدوى
في سائر الأمارات.
بقي الكلام في ان
مقتضى هذا الوجه ، هل هو حجية الخبر بنحو يقيد به المطلق ، ويخصص به العام ، وبه
يرفع اليد عن الأصول العملية ، أم ليس إلا وجوب العمل بالاخبار المثبتة فقط.
والكلام في هذا
المقام يقع في موردين :
__________________
الأول : في معارضة
الخبر مع الأصول اللفظية.
الثاني : في
معارضته مع الأصول العملية.
اما المورد الأول
: فظاهر الشيخ الأعظم ، والمحقق الخراساني ، وصريح المحقق الأصفهاني ، عدم تقديمه على العمومات والمطلقات ، والمنسوب إلى
المحقق العراقي (ره) هو العمل به في مقابلها وتقديمه عليها.
وقد استدل للاول
بان العمومات والمطلقات حجج لا يرفع اليد عنها إلا بحجة أقوى ومع عدم حجية الخبر
كيف يرفع اليد عنها.
واستدل للثاني بان
مقتضى أصالة الظهور الجارية في الأخبار الصادرة المعلومة بالإجمال هو خروج
العمومات المثبتة والنافية عن الحجية ، لانتهاء الأمر فيها إلى العلم الإجمالي
بارادة خلاف الظاهر في بعض تلك العمومات والمطلقات من المثبت والنافي ولازمه بعد
عدم المرجح هو إجراء حكم التخصيص والتقييد عليها ، لسقوطها بذلك عن الاعتبار.
وحق القول في
المقام هو التفصيل بين الصور ، لأنه تارة يكون مفاد العام أو المطلق حكما الزاميا
، كقوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبَا) ومفاد الخبر حكما غير
__________________
الزامي كقول امير
المؤمنين (ع) ليس بين الرجل وولده ربا وليس بين السيد وعبده ربا واخرى يكون عكس ذلك فيكون مفاد العام أو المطلق حكما غير
الزامي كقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) ومفاد الخبر حكما الزاميا كالنبوي المشهور نهى النبي (ص)
عن بيع الغرر .
اما في الصورة
الأولى فالصحيح هو ما أفاده الشيخ وتابعوه ، إذ العلم الإجمالي بورود التخصيص على
العام ، والعلم الإجمالي بعدم ارادة أصالة العموم ، في بعض تلك العمومات لا يمنع
من جريانها لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانها.
وبعبارة أخرى : لا
اثر للعلم الإجمالي إذا لم يكن متعلقه حكما الزاميا.
واما في الصورة
الثانية فالصحيح ما أفاده المحقق العراقي (ره) لما اشار إليه من العلم الإجمالي
الذي متعلقه حكم الزامي.
وبعبارة أخرى :
يلزم من جريان الأصول اللفظية في جميع الموارد ، العلم بمخالفة التكليف الواصل
بالعلم وجريانها في بعض الموارد دون بعض ترجيح بلا مرجح فلا يجري الاصل اللفظي في
شيء من الموارد.
واما في المورد
الثاني : وهو معارضة الخبر مع الأصول العملية ، فملخص
__________________
القول فيه ، ان
الخبر ، اما ان يكون مثبتا للتكليف كما لو دل الخبر على وجوب السورة في الصلاة ،
أو يكون نافيا له كما لو دل الخبر على عدم وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ،
والاصل قد يكون نافيا كاصالة البراءة ، وقد يكون مثبتا كقاعدة الاشتغال ، واستصحاب
بقاء التكليف كنجاسة الماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه.
فان كان الخبر
مثبتا للتكليف يعمل به كان الاصل مثبتا له أو نافيا كما هو واضح ، وكذلك يعمل به
لو كان نافيا له وكان الاصل أيضاً كذلك أي نافيا.
واما إذا كان
الخبر نافيا ، والاصل مثبتا له ، وكان الاصل هو قاعدة الاشتغال ، كما لو علم
اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ، ودل الخبر على عدم وجوب الجمعة في زمان الغيبة ،
لا اشكال في انه لا يعمل بالخبر في هذا المورد الذي يقتضي العلم الإجمالي لزوم
الاتيان بالجمعة بعد كون الوجه المتقدم مقتضيا للاتيان بما ادى إليه الخبر من باب
الاحتياط لا الحجية ، فانه لا اقتضاء له مع كون الخبر نافيا ، والمقتضى لا يعارض
مع ما لا اقتضاء له.
واما لو فرضنا كون
الاصل المثبت هو الاستصحاب فان لم يبلغ حدا يعلم اجمالا بمخالفة بعضها للواقع
فكذلك أي لا بد من العمل بالاستصحاب وان بلغ إلى هذا الحد ، فجريان الاستصحاب ،
ومنعه عن العمل بالخبر ، يبتنيان على القول بجريان الاستصحاب في اطراف العلم
الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة العملية كما هو الاظهر.
واما على القول
بعدم جريانه في اطراف العلم الإجمالي كما اختاره الشيخ
الأعظم (ره) والمحقق النائيني (ره) فلا يجري الاستصحاب ، ويعمل بالخبر حينئذ كما لا يخفى.
الوجه الثاني : ما
ذكره صاحب الوافية (ره) لحجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة مع عمل
جمع به ، من غير رد ظاهر.
وحاصله : انه لا
ريب في حدوث التكليف بعدة أمور سيما بالاصول الضرورية كالصلاة والحج ونحوهما ،
وبقاء ذلك إلى يوم القيامة وحيث ان اغلب اجزائها وشرائطها وموانعها إنما تثبت
بالخبر غير القطعي الصدور بحيث لو لم يعمل به خرج حقائق هذه الامور عن كونها هذه
الامور ، فلا مناص عن العمل بالخبر الواحد.
وأورد عليه الشيخ
الأعظم وتبعه المحقق النائيني (ره) وغيره ، بان العلم الإجمالي إنما هو تعلق بوجود الاجزاء
والشرائط ، والموانع ، للاصول الضرورية في مطلق الأخبار ، بل مطلق الأمارات ،
فاللازم هو الاحتياط بالعمل بكل ما
__________________
يدل على جزئية شيء
، أو شرطيته ، أو مانعيته لأحد تلكم الأصول.
ويمكن الجواب عنه
بان صاحب الوافية ، يدعى العلم الإجمالي بصدور الأخبار الموجودة في تلك الكتب
المشتملة على القيود المذكورة بمقدار المعلوم بالإجمال منها ، وعليه فيوجب ذلك
انحلال العلم الإجمالي بثبوتها في مطلق الأمارات ، ودعوى العلم الإجمالي بمصادفة
بعض الأمارات الأخر للواقع وصدور اخبار اخر غير الأخبار الموجودة في الكتب
المعتمدة ، لا تفيد بعد احتمال انطباق الصادر منها والمصادف للواقع على ما في تلكم
الأخبار مضمونا.
فالصحيح في الجواب
عنه ان يقال ان لازم هذا الوجه ، العمل بالاخبار المثبتة لها دون النافية ، أضف
إليه انه يرجع إلى الوجه الأول غير ان دائرة العلم الإجمالي في المقام اضيق منه في
ذلك الوجه ، فيرد عليه ما اوردناه عليه اخيرا ، مضافا إلى انه لا يثبت به حجية
الخبر القائم على اصل التكليف.
الوجه الثالث : ما
أفاده بعض الاساطين ، وحاصله ان الثابت يقينا بالضرورة ، والاجماع ، والخبر
المتواتر : انا مكلفون بالرجوع إلى السنة إلى يوم القيامة فان تمكنا من الرجوع
إليها على وجه يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه ، فلا بد من الرجوع إليها كذلك ،
وإلا فلا بد من الرجوع إلى الظن في تعيينها.
__________________
وأورد عليه الشيخ
الأعظم وتبعه المحققون بأنه ان اريد بالسنة نفس قول المعصوم أو
فعله ، أو تقريره ، فوجوب الرجوع إليها ضروري ، إلا انه لا يلازم مع وجوب العمل
بالخبر الحاكي عنها ، مع عدم العلم بالمطابقة ، إلا إذا انضم إليها بقية مقدمات
الانسداد.
وان اريد بها
الأخبار الحاكية ، فلا دليل على وجوب العمل بها سوى العلم الإجمالي بصدور جملة
كثيرة منها فهو يرجع إلى الوجه الأول.
وأورد عليهم
المحقق الخراساني (ره) ، بان ملاك هذا الوجه هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى
الروايات في الجملة إلى يوم القيامة.
وفيه : انه إذا
كان هناك دليل قطعي على ذلك ، سوى الدليل على حجية الخبر بالخصوص المفروض عدمه ،
والعلم الإجمالي بصدور جملة منها ، واستقلال العقل من جهة التنزل إلى الامتثال
الظنى ، مع عدم إمكان الامتثال القطعي كان لما ذكره المحقق الخراساني (ره) وجه
ولكنه ليس فلا يتم ذلك.
فالصحيح : ما
أفاده المحققون.
* * *
__________________
ادلة حجية مطلق الظن
وقد استدل لحجية
الظن مطلقا من غير خصوصية للظن الحاصل من الخبر الواحد بوجوه اربعة :
الوجه الأول : ان
في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبى ، أو التحريمي مظنة للضرر : لان
الوجوب والحرمة يقتضيان العقاب على الترك في الأول ، والفعل في الثاني ، فالظن
باحدهما ظن بترتب العقاب على مخالفته : ولان الظن بالوجوب ظن بوجود المفسدة في
الترك ، كما ان الظن بالحرمة ظن بالمفسدة في الفعل ، بناء على قول العدلية بتبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد.
وبذلك يظهر ان ما
أفاده في النهاية من جعل كل من الضررين دليلا مستقلا على المطلب ، هو الاحسن
في التقريب.
وكيف كان فلو انضم
إلى ذلك الكبرى الكلية ، وهي لزوم دفع الضرر المظنون لاستقلال العقل بذلك يستنتج
حجية الظن.
واجيب عنه باجوبة
:
احدها : ما عن
الحاجبي وتابعيه ، من منع الكبرى ، لان لزوم دفع الضرر المظنون
إنما يبتنى على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، ولا نقول به إذ غاية
__________________
ما يمكن ان يقال
كون ذلك احتياطا مستحسنا لا واجبا.
ويرد عليه : أولا
: انه لا سبيل إلى انكار لزوم الحكم المذكور بعد اطباق العقلاء عليه في جميع
امورهم.
ولذا استدل به
المتكلمون على وجوب شكر المنعم ، الذي هو الاساس لوجوب معرفة الله تعالى.
واستدلوا به أيضاً
لوجوب النظر إلى معجزة النبي (ص).
وثانيا ان ملاك
وجوب دفع الضرر المظنون ، ليس هو التحسين والتقبيح العقليين ، بل ملاكه كون الضرر
منافرا للطبع ، والفرار من ما ينافر الطبع مما يستقل به العقل ، وملاك التحسين
والتقبيح العقليين ، كون بعض الأفعال على وجه يحسن فاعله ويمدح عليه ، وبعضها
الآخر على نحو يقبح عليه ويذم ، ولا ربط لاحدهما بالآخر ولذلك اتفق العقلاء على
لزوم دفع الضرر المظنون ، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح العقليين.
واما ما أجاب به
الشيخ الأعظم من ان تحريم تعريض النفس للمهالك والمضار الدنيوية
والاخروية مما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى (وَلَا تُلْقُواْ
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وغيره.
فهو غريب لان ، ما
يحذر عن العقوبة الاخروية ، لا يوجب الحكم الشرعي ،
__________________
ولذلك اتفقوا على
ان أوامر الإطاعة ارشادية لا مولوية ، وما يحذر عن الوقوع في المضار الدنيوية لم
نعثر عليه والآيات المشار إليها كلها من قبيل الأول ، أضف إليه : ان التمسك بتلك
الأدلة مع عدم احراز الموضوع ، لم يظهر وجهه مع انه يخرج عن الدليل العقلي والكلام
إنما هو فيه.
ثانيها : ما عن
الشيخ في العدة والسيد في الغنية من ان الحكم المذكور مختص بالامور الدنيوية فلا يجري في
الاخروية مثل العقاب.
وأورد عليه بان
المضار الاخروية اعظم.
ويمكن ان يقال ان
مراد هؤلاء ، ان وجوب دفع الضرر المظنون بالوجوب المولوي النفسي الذي يراد
استكشافه من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون يختص بالمضار الدنيوية : إذ حكم
العقل بلزوم دفع العقاب المظنون لا يكون ، إلا حكما ارشاديا لوقوعه في سلسلة
معاليل الأحكام ، بخلاف وجوب دفع الضرر الدنيوي ، فانه يمكن ان يكون مولويا لوقوعه
في سلسلة علل الأحكام.
ويمكن ان يكون
مرادهم ان الضرر الاخروي قسمان : عقاب ، وغير عقاب.
والاول : مأمون ما
لم ينصب الشارع دليلا على التكليف به ، بخلاف الضرر الدنيوي التابع لنفس الفعل أو
الترك ، علم حرمته أو لم يعلم.
__________________
والثاني : دل
العقل والنقل على وجوب اعلامه على الحكيم وهو الباعث له على التكليف ، ولكن ذلك
يرجع إلى منع الصغرى كما نبه عليه الشيخ الأعظم .
ثالثها : ما أفاده
المحقق الخراساني (ره) وهو منع الصغرى.
اما العقوبة فهي
لا تلازم الحكم ليكون الظن به ظنا بها ، فان العقاب يكون مترتبا على تنجز الحكم
ومعصية الحكم ، ومجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به كي يكون مخالفته
عصيانا.
ثم قال إلا ان
يقال ان العقل وان لم يستقل بتنجزه بمجرده ، إلا انه لا يستقل أيضاً بعدم
استحقاقها معه فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر
المشكوك كالمظنون قريبة جدا.
واما المفسدة
فالظن بالحكم وان كان يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه إلا انها ليست بضرر على كل
حال : لان تفويت المصلحة ليس فيه مضرة بل ربما يكون في استيفائها مضرة كما في
الاحسان بالمال ، والمفسدة في الفعل الحرام ، لا يلزم ان يكون من الضرر على فاعله
، بل ربما يوجب منقصة في الفعل بلا ضرر على فاعله ، مع منع كون الأحكام تابعة
للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه بل إنما هي تابعة لمصالح فيها.
ولكن ما أفاده في
العقاب من عدم استقلال العقل ، بعدم استحقاقه مع
__________________
الظن بالحكم
فيحتمل العقاب حينئذ على المخالفة ، والعقل مستقل بوجوب دفع العقاب المحتمل.
غير تام فان منشأ
احتمال العقاب ان كان هو احتمال حجية الظن بالحكم فيحتمل وجود الحكم المنجز ، ففيه
ما حققناه وصرح هو به ، من ان الظن المجرد مما يقطع بعدم حجيته ، فيقطع بعدم تنجز الحكم.
أضف إليه انه في
مبحث البراءة يصرح بان ادلة البراءة توجب القطع بعدم العقاب ، وبها
يرتفع موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل.
وما أفاده في ذلك
المبحث متين.
وما أفاده من عدم
تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات .
يرده النصوص
والروايات الواردة في علل الشرائع المتضمنة لبيان المصالح والمفاسد للاحكام.
رابعها : ما أفاده
الشيخ الأعظم (ره) بعد تسليم ان الظن بالحكم ظن بترتب الضرر الدنيوي على
مخالفته بما حاصله ان الضرر المظنون مما يقطع أو يظن بتداركه ، والعقل لا يستقل
بقبح الاقدام على ما يوجب الضرر مع القطع
__________________
بتداركه أو الظن
به : إذ الظن بالحكم الذي لم يدل دليل على حجيته مشمول لادلة الأصول العملية
الشرعية من الاستصحاب والبراءة الشرعية ، وتلك الأدلة اما ان تكون مقطوعة الصدور
عنهم صلوات الله عليهم ، أو تكون مظنونة الصدور ، ولازم شمولها له تدارك المفسدة
المظنونة حتى لا يلزم ايقاع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، اذ مع عدم احراز
التكليف لا بد للشارع ، اما من ايجاب الاحتياط ، أو تدارك الضرر ، وحيث لم يوجب
الاحتياط عند الظن بالتكليف فلا يظن بالمفسدة غير المتداركة ، بل يقطع أو يظن
بالتدارك ، والعقل لا يستقل بقبح الاقدام على المفسدة المتداركة.
وفيه أولا : انه (قدِّس
سره) يصرح في مبحث البراءة بان الظن بالضرر غير العقاب ، قد جعله الشارع الاقدس
طريقا شرعيا ، إلى الضرر الواقعي ، ويجب التحرز عنه ، ولا تجرى فيه البراءة ،
كسائر موارد الطرق الشرعية : لان هذا الحكم العقلي أي وجوب دفع الضرر المظنون ،
يكون واردا أو حاكما على البراءة العقلية والشرعية والاستصحاب ، ومع ذلك كيف يحكم
بشمولها له وتدارك الضرر.
وثانيا : انه لم
يقم دليل على لزوم تدارك المفسدة الواقعية في ظرف انسداد باب العلم والعلمي ، الذي
هو فرض جريان الأصول العملية ، فانها إنما تكون في مورد انسداد باب العلم ، وعدم
التمكن من الوصول إلى الواقع بالعلم أو
__________________
العلمي : فانه في
فرض الانسداد لا يكون الوقوع في الضرر والمفسدة الواقعية مستندا إلى الشارع.
وثالثا : ان شمول
ادلة الأصول لذلك المورد أي الظن بالضرر بما انه يتوقف على اثبات تدارك الضرر
والمفسدة وهو غير ثابت فلا تشمله ، ولا يلزم من عدم شمولها له بقاء العموم بلا
مورد بعد كون المشكوكات والموهومات باقية تحته.
والحق في الجواب
يبتني على بيان أمور :
الأول : ان
المشهور بين العدلية تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات وخالفتهم المحقق
الخراساني والتزم بانها تابعة للمصالح في نفس الجعل.
وأورد عليه المحقق
النائيني (ره) بأنه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل ، كان اللازم
حصولها بمجرد الأمر ، ولم يبق موقع للامتثال.
وفيه : ان لزوم
الامتثال غير مربوط بالمصلحة والمفسدة ، بل يجب الامتثال حتى بناء على مسلك
الاشعري القائل بجواز جعل الأحكام جزافا ، لأنه إنما
__________________
يجب لكونه مما
يقتضيه قانون العبودية والمولوية.
فالحق في الجواب
عنه ان هذا في نفسه وان كان ممكنا ، إلا انه يرده النصوص والروايات الواردة في علل
الشرائع المتضمنة لبيان المصالح والمفاسد للاحكام.
ثم ان المصالح
والمفاسد ربما تكون شخصية كمصلحة الصوم ومفسدة شرب المسكر ونحوهما وربما تكون
نوعية كمصالح الواجبات النظامية ، ومفاسد اكل مال الغير وقتل النفس المحترمة
وغيرهما.
الأمر الثاني : ان
للعقل حكمين في باب الإطاعة والعصيان :
أحدهما : انه يجب
على المولى انزال الكتب وارسال الرسل وبيان الأحكام وجعلها في معرض الوصول إلى
العبد ، وان لا يعاقب على المخالفة بدون ذلك.
ثانيهما : انه يجب
على العبد الفحص عن تكاليف المولى في مظان وجودها ، ويترتب على ذلك انه لو خالف
العبد التكليف الواقعي ، فان كان ذلك لقصور من ناحية المولى ، لا يصح له عقاب
العبد ، ويعبر عن هذا بقبح العقاب من غير بيان ، فلو تفحص العبد ولم يصل إليه
التكليف من جهة هذا الحكم العقلي يقطع بعدم العقاب ، وان كان لقصور من ناحية العبد
، بان لم يتفحص عنه ، صح عقابه على مخالفة التكليف ، وكان قبل الفحص موردا لقاعدة
، وجوب دفع الضرر المحتمل ، الشامل للمظنون ، والموهوم ، فبذلك يظهر انه لا يعقل
ورود القاعدتين في مورد واحد.
فما احتمله الشيخ
الأعظم ، من انه لو ظن بالتكليف ، لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا
بيان ، وان العقل لا يستقل بعدم العقاب ، فلا محالة يحتمل العقاب ، فيكون موردا
لقاعدة وجوب الدفع.
في غير محله ، إذ
الظن الذي لم يثبت حجيته ، لا يكون بيانا من قبل المولى ومع عدم البيان تجرى قاعدة
قبح العقاب.
الأمر الثالث : ان
تحمل الضرر الدنيوي المقطوع لا دليل على حرمته إلا في موارد خاصة ، كما سيأتي
تفصيل القول فيه في مبحث لا ضرر ، وعلى فرض كونه حراما ، لم يدل دليل على حرمة
تحمل الضرر المظنون وجوده ، لاصالة البراءة الجارية في الشبهات الموضوعية ، بلا
خلاف في غير الموارد الخاصة التي اوجب الشارع فيها الاحتياط تحفظا للملاك الذي لا
يرضى الشارع الاقدس بتفويته حتى في مورد الشك ، فمن عدم جعل وجوب الاحتياط وعموم
ادلة البراءة يستكشف ان الملاك ليس بمثابة من الاهمية في نظر الشارع بنحو لا يرضى
بفوته في فرض الشك ، ومعه لا مورد لقاعدة وجوب الدفع.
إذا عرفت هذه
الامور فاعلم ، ان المراد بالضرر في كلام المستدل ان كان
__________________
هو الضرر الاخروي
، أي العقاب ، فهو لا يكون محتملا ، فضلا عن كونه مظنونا ، لما عرفت من انه لا
ملازمة بين ثبوت التكليف الواقعي ، والعقاب على مخالفته ، بل العقاب إنما يكون على
مخالفة التكليف الواصل ، فلا يكون الظن بالتكليف ظنا بالعقاب على المخالفة ، بل مع
عدم حجية الظن يكون العقاب مقطوع العدم لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالصغرى
ممنوعة.
وان كان المراد به
الضرر الدنيوي ، فهو في موارد الواجبات لا يحتمل ، فان في مخالفتها تفويت للمصالح
خاصة لا تحملا للضرر ، فالصغرى ممنوعة أيضاً وفي موارد الأحكام التحريمية ، فما
يكون من قبيل الأحكام الناشئة عن المفاسد النوعية ، لا يكون الضرر محتملا ولا
مظنونا ، فالصغرى ممنوعة أيضاً ، وما يكون من قبيل الأحكام الناشئة عن المفاسد
الشخصية ، فالصغرى وان كانت ثابتة وتامة ، إلا ان الكبرى ممنوعة كما عرفت في الأمر
الثالث.
الدليل الثاني من ادلة حجية مطلق الظن
الوجه الثاني :
انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح وهو قبيح ، ولتوضيح هذا الوجه لا بد من
بيان أمور :
الأول : انه ليس
المراد من ترجيح المرجوح ما هو كذلك بحسب الاغراض الشخصية فانه محال لا قبيح
لاستحالة تأثير الاضعف دون الاقوى.
ولذلك افاد المحقق
القمي (ره) ان لفظ الترجيح بمعنى الاختيار والراجح
__________________
والمرجوح ، هو
القول بان المظنون ، أو الموهوم حكم الله أو العمل بمقتضاه.
الثاني : ان الوجه
المذكور في كلماتهم محتمل للوجهين ، فانه قد يقرر بالنسبة إلى الحكم بمقتضى الظن ،
وجعل حكم الله الظاهري ما اقتضاه ، وآخر يقرر بالنسبة إلى العمل بمقتضاه.
الثالث : ان الوجه
المذكور قياس استثنائي وانتاجه يتوقف على ثبوت الملازمة بنفسها أو بالدليل ، بين
عدم الاخذ بالظن وبين ترجيح المرجوح على الراجح ، وثبوت رفع التالى باحد الوجهين ،
فتمامية هذا الوجه تتوقف على ثبوت أمرين ، والامر الثاني واضح ، اما الأول فغاية
ما يقال في تقريبه ان الظن اقرب إلى الواقع والوهم ابعد فإذا لم يعمل بالظن فلا
محالة يعمل بالوهم.
وأورد على ذلك بوجوه
:
١ ـ ما عن صاحب
حاشية المعالم وهو ان المرجوح ربما يوافق الاحتياط كما لو ظن عدم وجوب
شيء أو عدم جزئيته ، فان الوجوب أو الجزئية يوافق الاحتياط الذي هو حسن عقلا فلو
أتى به وعمل بالمرجوح لا محالة يكون اولى من العمل بالراجح وترك ذلك الشيء.
ويرد عليه : ان
المراد من ترجيح المرجوح ان كان هو العمل على طبقه ولو من باب الاحتياط ففي الفرض
لو أتى بذلك الشيء يكون عاملا بهما معا إذ الراجح لا يلزم بترك ذلك الشيء بل يرخص
في فعله وتركه ، فالفعل عمل
__________________
بهما معا لا تقديم
للمرجوح ، وان كان هو الحكم بان مفاده هو حكم الله فلا ريب في كونه خلاف الاحتياط.
وبعبارة أخرى :
الاتيان بذلك الشيء بقصد الوجوب لا بقصد احتمال الأمر يكون خلاف الاحتياط ، والاتيان
بداعي احتمال الأمر لا يكون طرحا للراجح لان الاتيان لا ينافى عدم الوجوب.
٢ ـ ما هو معروف
بين الاصحاب قالوا ان ذلك فرع وجوب الترجيح فلا يرجح المرجوح ، واما إذا لم يثبت
وجوب الترجيح فلا يرجح المرجوح ولا الراجح ، والظاهر ان مرادهم من ذلك ما أجاب به
الشيخ الأعظم ، وحاصله ان هذا الوجه يتم لو تعلق الغرض بالواقع وتنجز
التكليف ، ولم يمكن الاحتياط ، واما إذا لم يتنجز التكليف لا مانع من الرجوع إلى
الأصول النافية للتكليف ، وليس فيه ترجيح للمرجوح ، وكذا لو تنجز التكليف ، وامكن
الاحتياط فيجب العمل بالاحتياط لقاعدة الاشتغال فليس فيه أيضاً ترجيح للمرجوح.
نعم ، لو تنجز
التكليف ولم يمكن الاحتياط كما لو دار ، امر القبلة في آخر الوقت بين جهتين يظن
كون القبلة في احداهما ، ولم يمكن الاحتياط لضيق الوقت تعين الاخذ بالظن ، وإلا
لزم ترجيح المرجوح ، وعليه فتمامية هذا الوجه تتوقف على تمامية مقدمات الانسداد من
بقاء التكليف وعدم جواز الرجوع إلى البراءة ، وعدم لزوم الاحتياط أو عدم امكانه
وغير ذلك من المقدمات ، وبدونها
__________________
لا يتردد الأمر
بين الاخذ بالراجح والاخذ بالمرجوح ، وهو تام.
ولا يرد عليه ما
أفاده الشيخ الأعظم (ره) بقوله ان التوقف عن ترجيح الراجح أيضاً قبيح كترجيح
المرجوح ، فان الظاهر ان الشيخ (ره) زعم ان المراد من هذا الوجه كون المراد منه
مجرد عدم ترجيح المرجوح ، فأجاب بذلك ولكن بعد ما عرفت مراد القوم ، لا يرد عليه
هذا الوجه.
٣ ـ ان العلم
الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات يقتضي وجوب الاحتياط في جميع
الشبهات بإتيان كل ما يحتمل وجوبه ولو موهوما وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ولكنه
موجب للعسر المنفي في الشريعة ، فلا بد من التبعيض في الاحتياط ، والاخذ
بالمظنونات.
وبعبارة أخرى :
الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج ، بالعمل بالاحتياط ، في المظنونات خاصة
: لان الجمع على غير هذا الوجه ، باخراج بعض المظنونات ، وادخال بعض المشكوكات
والموهومات باطل اجماعا.
ويرد عليه ان
الامرين المشار اليهما بعض مقدمات الانسداد ، فلو لم ينضم اليهما ان باب العلم
والعلمي منسد ، والرجوع إلى ما ينفى التكليف في جميع الوقائع مع الانسداد أو إلى
الأصول لا يجوز ، لا ينتج ذلك وجوب العمل بالظن كما هو واضح.
__________________
حول دليل الانسداد
الوجه الرابع : هو
الدليل المعروف بدليل الانسداد ، وتنقيح القول فيه بالبحث في جهات :
الأولى : في بيان
اصل المقدمات التي يتألف منها هذا الدليل.
الثانية : في
النتيجة المرتبة عليها.
الثالثة : في
تمامية المقدمات وعدمها.
اما الجهة الأولى
: فافاد الشيخ الأعظم انها أمور اربعة :
الأول : انسداد
باب العلم والظن الخاص في معظم المسائل الفقهية.
الثاني : انه لا
يجوز لنا اهمال الأحكام المشتبهة وترك التعرض لامتثالها أصلاً.
الثالث : انه لا
يجب الاحتياط التام في جميع الشبهات ، اما لعدم امكانه ، أو لاستلزامه اختلال
النظام أو العسر ، ولا يجوز الرجوع إلى الاصل الجارى في كل مسألة ولا إلى القرعة ،
ولا إلى فتوى من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي.
الرابع : انه لا
يجوز التنزيل إلى الشك أو الوهم لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
__________________
واضاف إليها
المحقق الخراساني (ره) امرا آخر ، وجعل المقدمات خمسا وهو انه يعلم اجمالا بثبوت
تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.
والحق مع المحقق
الخراساني إذ مع اسقاط تلك المقدمة لا يبقى مجال للمقدمات الأخر إلا بنحو السالبة
بانتفاء الموضوع ، ومجرد كونها واضحة لدلالة سائر المقدمات عليها لا يصلح وجها
لاسقاطها ، وإلا كان بعضها الآخر كذلك.
واما ما أفاده
الأستاذ تبعا للمحقق النائيني (ره) بان المراد من العلم بثبوت التكاليف ان كان هو العلم بثبوت
الشريعة وعدم نسخ احكامها ، فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدها من المقدمات ،
فان العلم بذلك كالعلم باصل وجود الشارع ، وان كان المراد منه هو العلم بثبوت
أحكام في الوقائع المشتبهة التي لا يجوز اهمالها فهذه المقدمة هي بعينها المقدمة
الثالثة في كلام المحقق الخراساني الثانية في كلام الشيخ.
فيرد عليه ان
المراد به هو العلم بفعلية الأحكام ، وهو لا يرجع إلى الأمر الثالث فان ذلك الأمر
إنما هو لزوم امتثال الأحكام على فرض وجودها وهذا إنما يكون هو العلم بثبوت
الأحكام فالمقدمات خمس.
__________________
ثم ان المتعين جعل
المقدمة الرابعة في كلام الشيخ هي عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الشكى والوهمى
لكونه ، مستلزما لترجيح المرجوح على الراجع ، وهو قبيح كما صنعناه ، لا لزوم
الامتثال الظنى كما أفاده الشيخ فانه نتيجة المقدمات.
واما الجهة
الثانية : ففي تعيين نتيجة المقدمات المذكورة على تقدير تماميتها من حيث انها
الكشف أو الحكومة.
وقبل بيان ما هو
الحق في المقام لا بد وان يعلم ان المراد بالكشف هو استكشاف جعل الشارع الاقدس
الظن حجة شرعية ، في تلك الحال ، وان المراد بالحكومة ان العقل يدرك كون المكلف
معذورا غير مستحق للعقاب على مخالفة الواقع مع الاخذ بالظن ، ويراه مستحقا للعقاب
على مخالفة الواقع على تقدير عدم الاخذ بالظن والاقتصار على الامتثال الشكي
والوهمي ، فيحكم بتبعيض الاحتياط ، في فرض عدم التمكن من الاحتياط التام ، فالمراد
بالحكومة ، هو التبعيض في الاحتياط ، لا استقلال العقل بحجية الظن ، كما يوهمه
ظاهر عبارة المحقق الخراساني فلنا دعويان :
الأولى : ان
المراد من الحكومة ، هو التبعيض في الاحتياط ، وتوضيحه ، ان العقل إنما يستقل
بلزوم الإطاعة في الأحكام المولوية ، واحراز امتثالها تفصيلا أو اجمالا ، فان تعذر
ذلك واحرز انه لا يجوز ترك التعرض لها رأسا فلا محالة يستقل بالتبعيض في الاحتياط
والاكتفاء بالامتثال الظنى.
__________________
الثانية : انه ليس
المراد استقلال العقل بحجية الظن : والدليل على ذلك عدم معقوليته إذ شان القوة
العاقلة هو الدرك ، ولا تكون مشرعة وجعل الأحكام تكليفية كانت ، أم وضعية إنما هو
وظيفة الشارع ، ولا يكون ذلك شان العقل ، وهذا من الوضوح بمكان.
إذا عرفت هذه
المقدمة فاعلم ان النتيجة المترتبة على المقدمات الخمس ، على فرض تماميتها إنما
تختلف باختلاف المدرك للمقدمة الثالثة في كلام الشيخ والرابعة فيما اخترناه :
إذ لو كان مدرك
عدم وجوب الاحتياط ان الشارع إلا قدس لا يرضى بابتناء اساس الدين واكثر أحكامه على
الاحتياط ، للاجماع ، والضرورة ، فان الاحتياط وان كان حسنا في نفسه ، إلا انه لا
يكون حسنا فيما إذا استلزم انحصار الامتثال في اكثر الأحكام على الامتثال الإجمالي
، المنافى لقصد الوجه والجزم ، فلا محالة تكون النتيجة هي الكشف.
إذ بعد فرض بقاء
الأحكام ، وعدم جواز اهمالها وعدم حسن الاحتياط فيها لا محالة يكشف جعل الشارع
الظن حجة إذ لا طريق غيره ومع عدم نصب الطريق تكون الأحكام تكاليف بما لا يطاق.
وان كان المدرك هو
استلزامه العسر والحرج واختلال النظام فلا طريق إلى كشف العقل جعل الشارع الظن حجة
بعد حكمه بكفاية الاحتياط بالامتثال الظنى.
واما الجهة
الثالثة : فملخص القول فيها ان المقدمة الأولى ، وهي العلم الإجمالي بثبوت تكاليف
كثيرة فعلية في الشريعة ، قطعية.
ولكن هذا العلم
الإجمالي منحل إلى علم اجمالي آخر دائرته اضيق من دائرة هذا العلم الإجمالي ، وهو
العلم بثبوت التكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال ، فيما بين الأخبار ، ولازم ذلك هو
الاحتياط في خصوص الأخبار وقد تقدم تفصيل ذلك في الدليل العقلي الأول الذي اقيم
على حجية الخبر الواحد.
واما المقدمة
الثانية : فتماميتها بالنسبة إلى انسداد باب العلمي تتوقف على احد أمور ، اما عدم
حجية الخبر الواحد ، أو عدم حجية الظواهر اما مطلقا ، أو لغير المقصودين بالافهام
، أو عدم وفاء الأخبار بمعظم الفقه.
والكل فاسدة : لما
تقدم من حجية الخبر : والظواهر مطلقا ، والاخبار بحمد الله وافية بمعظم الفقه فهي
غير تامة.
واما ما أفاده
المحقق القمي (ره) من تمامية مقدمات الانسداد حتى بناء على حجية الخبر
والظواهر بدعوى ان الظاهر من ادلة حجية الخبر حجية مطلق الظن وانه لا خصوصية لخبر
الواحد.
فغير تام إذ يرد
عليه :
أولا : ان هذا
احتمال محض لا دليل على الاعتناء به.
وثانيا : انه لو
كانت ادلة حجية الخبر بانفسها دليل حجية الظن ، لا دليل الانسداد ، لا تكون مقدمات
الانسداد تامة.
__________________
واما المقدمة
الثالثة : فان بنينا على ان العلم الإجمالي منجز فيما إذا لم يتمكن المكلف من
الموافقة القطعية للاضطرار إلى بعض أفراده غير المعين تركا أو فعلا ، فملاكها واضح
فان مقتضى العلم الإجمالي ، الاحتياط بالمقدار الممكن.
واما ان بنينا على
عدم كونه منجزا في هذا المورد كما اختاره المحقق الخراساني ، فمدركها ، انه من عدم التعرض لامتثالها بالمرة ، يلزم
الخروج عن الدين ، بمعنى المخالفة الكثيرة للاحكام ، التي علمت بضرورة من الدين
انها مرغوب عنها شرعا فلا يجوز ، ففي الحقيقة مدرك هذه المقدمة غير الإجماع ، احد
أمرين : العلم الإجمالي بوجود الأحكام ، ولزوم الخروج عن الدين من اهمالها.
فلو كان المدرك هو
الأول ، لزم الالتزام بكون النتيجة هو الحكومة ولو كان هو الثاني كانت النتيجة هو
الكشف كما عرفت.
فعلى هذا يمكن ان
يقال بفساد مسلك الحكومة ، لابتنائها على منجزية العلم الإجمالي ، وهي متوقفة على
بقائه وعدم انحلاله ، فإذا فرضنا انه من عدم التعرض لامتثال الأحكام ، يلزم الخروج
عن الدين ، فيكشف ذلك عن جعل الشارع طريقا إلى أحكامه ، وليس هو غير الظن ، وجعله
طريقا يوجب انحلال العلم الإجمالي وعدم بقائه.
واما المقدمة
الرابعة : وهي ، عدم جواز التقليد ، والرجوع إلى القرعة ، والاحتياط ، والرجوع إلى
الأصول.
فملخص القول فيها
: ان بطلان التقليد لا يحتاج إلى اقامة دليل فان المجتهد
__________________
الذي يرى انسداد
باب العلم يرى كون المجتهد القائل بالانفتاح جاهلا فكيف يجوز الرجوع إليه ، مضافا
إلى ما ادعاه الشيخ (ره) من الإجماع القطعي على عدم جوازه ، وبه يظهر حال الرجوع
إلى القرعة ، مضافا إلى قصور ادلتها عن الدلالة على الرجوع إليها لاستنباط الأحكام
الشرعية.
واما الاحتياط
التام ، فان كان غير ممكن ، فلا اشكال في عدم وجوبه لقبح تكليف العاجز ، وان كان
مخلا بالنظام فلا اشكال في قبحه عقلا وعدم جوازه شرعا ، واما ان كان موجبا للعسر
والحرج.
فهل لا يكون واجبا
لادلة نفي العسر والحرج كما ذهب إليه الشيخ الاعظم (ره) ؟
أم لا يمكن نفي
وجوب الاحتياط بأدلة نفي العسر والحرج كما اختاره المحقق الخراساني (ره) ، وجهان.
افاد الشيخ الأعظم
(ره) ان تلك الأدلة إنما تدل على نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج ، ووجوب
الاحتياط ، وان كان عقليا ، لا يمكن رفعه إلا برفع
__________________
منشأ انتزاعه إلا
انه ناشئ من بقاء الأحكام الواقعية على حالها ، فهي المنشأ للحرج لاستناد الشيء
إلى اسبق علله ، فبأدلة نفي العسر يرفع الأحكام الشرعية الواقعية ، فيرتفع وجوب
الاحتياط بارتفاع موضوعه.
وأورد عليه المحقق
الخراساني بان معنى دليل نفي الحرج ليس نفي الحكم الناشئ من قبله
الحرج ، بل مفاده نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، بدعوى ان ظاهر الأدلة توجه النفي
إلى العمل الحرجي ، ويكون المراد نفيه في عالم التشريع ، وهو عبارة أخرى عن نفي
حكمه ، نظير قوله لا ربا بين الوالد والولد .
وعليه فلا يكون
دليل نفي الحرج حاكما على ما يقتضي الاحتياط : لأن الأحكام الواقعية متعلقة بافعال
خاصة مرددة بين اطراف الشبهة وتلك الأفعال لا تكون حرجية كي ترتفع بأدلة نفي الحرج
، ووجوب الاحتياط ليس حكما شرعيا كي يرتفع بأدلة نفي الحرج فلا بد من الاحتياط وان
استلزم الضرر.
ويرد على ما أفاده
أمران :
أحدهما : ان لسان
دليل نفي الحرج ليس نفي الحكم بلسان نفي الموضوع فانه إنما يكون فيما إذا كان
الحكم مترتبا على موضوع وتعلق النفي بنفس ما تعلق به الحكم كما في مثل لا ربا بين
الوالد والولد : فان الربا بنفسه متعلق للحرمة فالرواية الشريفة تنفي حكمه بلسان
نفيه واما في المقام فالفعل الحرجي
__________________
لم يذكر في الدليل
، وإنما المذكور فيه هو الحرج ، وليس ذلك عنوانا للفعل ، ليكون النفي راجعا إليه ،
فلا محالة يكون مفاد تلك الأدلة ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) فتكون حاكمة على قاعدة
الاحتياط.
ثانيهما : ان
قاعدة نفى الحرج تكون حاكمة على قاعدة الاحتياط حتى على مسلك المحقق الخراساني (ره)
في مثل المقام مما كانت اطراف الشبهة من التدريجيات إذ الحرج لا محالة يكون في
الأفراد الأخيرة.
وعليه فإن كان
الحكم في الواقع مترتبا على الأفراد المتقدمة فقد امتثله المكلف على الفرض ، وان
كان متعلقا بالأفراد الأخيرة كان متعلقة حرجيا فيرتفع بقاعدة نفي الحرج.
وان شئت قلت انه
في التدريجات لو احتاط في اطراف الشبهة المتقدمة إلى ان وصل إلى حد الحرج ، يعلم
بعدم ثبوت الحكم في اطراف الشبهة المتأخرة ، اما لكون التكليف في الأطراف المتقدمة
أو لأنه ان كان متعلقا بالفرد المتأخر ، فهو لكونه حرجيا مرفوع بقاعدة نفى الحرج ،
وان شئت توضيح ذلك بالمثال فلاحظ ما لو نذر صوم يوم معين وتردد ذلك بين يوم الخميس
، ويوم الجمعة ، وفرضنا كون الصوم فيهما حرجيا على الناذر ، فإذا صام يوم الخميس
يعلم بعدم وجوب صوم يوم الجمعة اما لكون المنذور صوم يوم الخميس ، أو لكون صوم يوم
الجمعة حرجيا مرفوعا بقاعدة نفى الحرج والمقام من هذا القبيل كما هو واضح فلا يظهر
الثمرة بين المسلكين في المقام.
ولكن يمكن ان يورد
على حكومة قاعدة نفي الحرج ، على قاعدة الاحتياط في المقام بوجهين آخرين :
الأول : ان العسر
والحرج ليس في الجمع بين محتملات كل تكليف من التكاليف الواقعية كي يرتفع ذلك
الحكم بدليل نفى الحرج ، بل العسر والحرج في الجمع بين محتملات مجموع التكاليف
وليس مجموعها تكليفا وحدانيا ، يكون الحرج في الجمع بين محتملاته ، ويكون المقام
نظير ما لو فرض كون امتثال مجموع التكاليف حرجيا ، فانه لا يرتفع المجموع بقاعدة
نفى الحرج ، والمقام كذلك فيجب الاحتياط بالنسبة إلى كل تكليف ، إلى ان يتحقق
الحرج في الاحتياط بالنسبة إلى التكاليف الأخر فتدبر فانه دقيق.
الثاني : ان لازم
الحكم بحكومة قاعدة الحرج نفى الأحكام الواقعية وهذا مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا
ومجمع على بطلانه ، فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال ، فالاحكام الشرعية الواقعية غير
مرتفعة بل هي باقية في حال الانسداد ، ومعه لا معنى لرفع وجوب الاحتياط الذي هو
يحكم العقل ، فهذه المقدمة أيضاً غير تامة.
واما الأصول ، فهي
على قسمين :
١ ـ ما يكون مثبتا
للتكليف كالاحتياط والاستصحاب المثبت.
٢ ـ ما يكون نافيا
للتكليف كالبراءة والاستصحاب النافي والتخيير.
اما ما كان مثبتا
للتكليف ، فان كان من الأصول غير المحرزة كقاعدة الاشتغال ، فلا مانع من جريانها
في مواردها.
واما ان كان من
الأصول المحرزة كالاستصحاب ، فعلى القول بان المانع عن جريان الاستصحاب في اطراف
العلم الإجمالي هو لزوم المخالفة العملية كما
اخترناه تبعا
للاستاذ ، والمحقق الخراساني ، فلا مانع من جريانه أيضاً كما لا يخفى.
واما على ما
اختاره الشيخ الأعظم والمحقق النائيني (ره) ، من ان العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة بنفسه مانع
عن جريان الاستصحاب ، فلا يجري الاستصحاب المثبت للتكليف في المقام للعلم بانتقاض
العلم الإجمالي في الجملة كما هو المفروض.
وافاد المحقق
الخراساني (ره) انه على هذا المسلك أيضاً لا مانع من جريان الاستصحاب في
المقام لأنه إنما يلزم فيما إذا كان الشك في اطرافه فعليا.
واما إذا لم يكن
كذلك ، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض اطرافه وكان بعض اطرافه الآخر غير ملتفت
إليه أصلاً ، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام الشرعية فلا يكاد يلزم ،
لان الاستصحاب إنما يجري في خصوص الطرف المشكوك فيه ، ولا يجري في الطرف الآخر
للغفلة وعدم الشك الفعلي ، وليس فيه علم بالانتقاض.
وفيه : ان
الاستنباط ، وان كان تدريجيا والمجتهد حين استنباط كل حكم
__________________
يكون غافلا عن
المورد الآخر ، إلا انه بعد الفراغ عن استنباط الجميع وجمعها في رسالة يعلم اجمالا
بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد التي اجرى فيها الاستصحاب فليس له الافتاء
بها ، فعلى مسلك الشيخ لا يجري الاستصحاب المثبت في الموارد المشتبهة.
واما ما كان من
الأصول نافيا للتكليف كالبراءة واستصحاب عدم التكليف ، فعلى مسلك الشيخ الأعظم من
ان الاضطرار إلى المخالفة في بعض الأطراف لا بعينه لا يمنع من تنجيز العلم
الإجمالي ، لا يجوز الرجوع إلى تلك الأصول النافية كما هو واضح.
وعلى مسلك المحقق
الخراساني من كونه موجبا لسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز ، فلا مانع من الرجوع
إليها ، إلا إذا لزم من اجرائها في الموارد المشتبهة المخالفة للاحكام الكثيرة
المعبر عنها بلزوم الخروج عن الدين فلا تجري.
وما أفاده المحقق
الخراساني (ره) من انه لا مانع من جريانها لو كانت موارد الأصول المثبتة
بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم بالإجمال لا ينطبق على
المورد إذ بعد كون المعلوم بالإجمال كثيرا ويعلم بثبوت جملة منها في موارد الأصول
النافية لا سبيل إلى هذا الكلام ، مع ان كون تلك الموارد بمقدار المعلوم بالإجمال
كما ترى.
اللهم إلا ان يقال
ان نظره الشريف إلى انه لا يلزم حينئذ الخروج عن الدين فلا مانع من جريانها والله
العالم.
__________________
فالمتحصّل عدم
تمامية اكثر مقدمات الانسداد.
وعليه فلا وجه
لإطالة الكلام في بيان تنبيهات المسألة.
والحمد لله أولا
وآخرا.
* * *
المقصد الثامن
من مقاصد علم الأصول
في
الأصول العملية
وفيه فصول :
المقصد الثامن
الأصول العملية
وهي القواعد
المجعولة في ظرف الشك في الحكم الواقعي وعدم امارة عليه ، وقبل الشروع في مباحث
هذا المقصد لا بد من بيان أمور.
الأمر الأول : ان
المحقق الخراساني عرّف الأصول العملية بقوله : وهي التي ينتهي إليها المجتهد
بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل مما دلّ عليه حكم العقل أو عموم النقل انتهى.
وذلك إنما يكون من
جهة ما ذكره في أول الكفاية ، من ان تعريف القوم للمسائل الأصولية بانها القواعد
الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ، غير تام ، لاستلزامه استطرادية مسائل الأصول
العملية.
وقد مر في أول
الجزء الأول من هذا الكتاب ، انه بعد تعميم الأحكام الشرعية إلى الواقعية ،
والظاهرية ، تدخل الأصول العملية في القواعد الممهدة للاستنباط فكما ان حجية خبر
الواحد تقع كبرى لقياس الاستنباط ، ويستنبط
__________________
منها الأحكام
الواقعية ، كوجوب جلسة الاستراحة ، ووجوب السورة في الصلاة وما شاكل ، كذلك حجية
أصالة البراءة ، أو الاستصحاب ، تقع كبرى لقياس الاستنباط ، ويستنبط منها الأحكام
الظاهرية ، كجواز شرب التتن وما شاكل ، بلا فرق بينهما ، غاية الأمر ان الحكم
المستنبط من الأولى واقعى ، ومن الثانية ظاهري.
فان قيل ان ما ذكر
إنما يتم في الأصول الشرعية ، واما الأصول العقلية ، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان
في الشبهة البدوية ، ووجوب دفع الضرر المحتمل ، في الشبهة المقرونة بالعلم
الإجمالي ، فلا يتم فيها فانه لا يستنبط الحكم منها ، لا الظاهري ، ولا الواقعي ،
ولذا ليس للفقيه ، الافتاء بالاباحة مستندا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
اجبنا عنه بما
يظهر ببيان أمرين :
أحدهما : ان
المسألة الأصولية هي ما يقع احد طرفي المسألة في طريق الاستنباط ، ولا يعتبر فيها
وقوع النتيجة على جميع التقادير في طريق الاستنباط مثلا ، البحث عن حجية خبر
الواحد لا يقع نتيجته على تقديري الحجية وعدمها في طريق الاستنباط بل إنما تقع في
طريقه على التقدير الأول خاصة.
الثاني : ان البحث
في البراءة العقلية ليس عن تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وعدمها لان محل
البحث في ذلك هو علم الكلام ، ولم يخالف في هذه القاعدة احد إلا الاشعري ، وإنما
يبحث في الأصول ، عن انه هل تدل اخبار الاحتياط ، والتوقف وما شاكل على لزوم
الاحتياط في الشبهة البدوية كما يدعيه الاخباري ، أم لا تدل على ذلك كما هو مدعى
الاصوليين ، واما كون
المرجع على تقدير
عدم الدلالة هو قاعدة القبح فهو متفق عليه بين الفريقين ، وبديهي ان البحث في ذلك
يكون من المسائل الأصولية لوقوع النتيجة على تقدير الدلالة في طريق الاستنباط.
وبذلك يظهر الحال
في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ في الأصول لا يبحث عن هذه القاعدة ، وإنما
يبحث عن ان اخبار الحل والاباحة هل تشمل اطراف العلم الإجمالي أم لا؟.
ولا كلام في انه
على فرض عدم الشمول يكون المرجع القاعدة المشار إليها ، وبديهي ان البحث في ذلك
يكون من المسائل الأصولية.
وعلى الجملة ، بعد
تعميم الأحكام إلى الظاهرية ، وتعيين مورد البحث في الأصول العملية العقلية ، دخول
مسائل الأصول العملية مطلقا في المسائل الأصولية من دون ان يضم القيد المزبور ،
واضح.
اقسام المسائل الأصولية
الأمر الثاني : ان
المسائل الأصولية تنقسم إلى اقسام خمسة :
القسم الأول : ما
يوجب القطع الوجداني بالحكم الشرعي ، كالبحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب
مقدمته ، والبحث عن إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، وما شاكل ، وتسمى هذه
المباحث بالبحث عن الاستلزامات العقلية ، والبحث عن المداليل.
القسم الثاني
والثالث : ما يوجب العلم التعبدي بالحكم الشرعي ، وهذا
قسمان :
أحدهما : ما يكون
البحث صغرويا كمباحث الالفاظ ، من قبيل البحث عن ان الأمر ظاهر في الوجوب ، أم لا؟
وما شاكل.
ثانيهما : ما يكون
البحث كبرويا ، أي يكون البحث فيه عن حجية شيء لاثبات الأحكام الشرعية كالبحث عن
حجية الخبر الواحد وسائر مباحث الحجج ، وقد مر الكلام في هذه الأقسام الثلاثة.
القسم الرابع : ما
لا يوصلنا إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجدانى ولا بالعلم التعبدى ، بل يبحث فيه عن
القواعد المتكفلة لبيان الأحكام الظاهرية في فرض الشك في الحكم الواقعي ، وتسمى
هذه القواعد بالاصول العملية الشرعية ، ويعبر عن الدليل الدال على الحكم الظاهري
بالدليل الفقاهتي ، كما يعبر عن الدليل الدال على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي
، وإنما يعبر عن الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي بالحكم الظاهري
لتمييزه عن الحكم المجعول للشيء بعنوانه الأولى ، لا بعنوان انه مشكوك فيه ، وإلا
فالحكم الظاهري أيضاً حكم واقعى مجعول للشيء بعنوان انه مشكوك فيه.
والقسم الخامس :
ما يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لتعيين الوظيفة العقلية عند العجز عن ما تقدم ،
وتسمى هذه القواعد بالاصول العملية العقلية ، ومحل الكلام في المقام هو القسمان
الاخيران وحيث ان الاصوليين ادرجوا الخامس في الرابع وتعرضوا للبحث عنهما في عرض
واحد ونحن نتبعهم في ذلك.
انحصار الأصول العملية في اربعة
الأمر الثالث : ان
الأصول العملية التي هي محل البحث فعلا ، والمرجع عند الشك منحصرة في اربعة ، وهي
البراءة والاحتياط الاستصحاب ، والتخيير.
وهذا الحصر
استقرائي بلحاظ نفس الأصول ، وعقلي بحسب المورد : إذ الشك : اما ان تعلم له حالة
سابقة وقد اعتبرها الشارع أو لا؟ : بان لم تعلم له حالة سابقة ، أو علمت ولم
يعتبرها الشارع كما إذا كان الشك في بقاء شيء ناشئا من الشك في المقتضي على القول
بعدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي. والثاني : قد يكون الشك في اصل التكليف
، وقد يكون الشك في المكلف به. والثاني : ربما يمكن الاحتياط وربما لا يمكن كما في
موارد دوران الأمر بين المحذورين.
الأول مورد للاستصحاب
، والثاني يكون مجرى للبراءة ، والثالث يكون مجرى للاشتغال ، والرابع مورد
التخيير.
وذكر الاصحاب في
وجه عدم ذكر أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة ، في علم الأصول ، وجوها :
الأول : ان
الطهارة والنجاسة من الامور الواقعية فالشك فيهما شك في الموضوع دائما.
وتقريب كونهما
منها ، ان مقابل الطهارة أي الحدث والخبث ، من الامور الواقعية ومن مقولة الكيف ،
ويكون الخبث كيفا قائما بالجسم ، والحديث كيفا
قائما بالنفس ،
كما هو المعروف من انه حالة معنوية بدعوى : ان القذارة ما يوجب تنفر الطبع
وموجبيتها لذلك إنما تكون لعدم الملاءمة لقوة من القوى الظاهرية ، فما فيه رائحة
منتنة غير ملائم للشامة ، وهكذا بالنسبة إلى سائر القوى ، ولا يختص ذلك بالاعيان
الخاصة بل القلب المشحون بالعقائد الباطلة ، نجس لتنفر الطبع السليم منه ، فانه
نقص للنفس ، وبهذا الاعتبار تكون التوبة مطهرة للعاصي ، وعلى هذا فتكون الامور
المعلومة ، موجبة لحصول اثر في الجسم ، أو النفس ، موجب لتنفر الطبع ، ويزول ذلك
الأثر باستعمال الطهور ، فدائما يكون الشك فيهما من الشبهة الموضوعية ، ومن الواضح
ان البحث عن حكم الشبهة الموضوعية ليس من المسائل الأصولية.
هذا تقريب حسن ،
إلا انه لا يدل على كونهما من الامور الواقعية بل بلائم مع كونهما من الأحكام
الشرعية الناشئة عن ما يكون في المتعلقات من المصالح والمفاسد كما لا يخفى ، بل لا
يعقل ان تكونا منها : إذ المتنجس إنما يتنجس بذاته على ما هو عليه من دون عروض كيف
حقيقي عليه ليكون منطبق عنوان نجس وهل يتوهم ان يكون في بدن الكافر شيء موجود
خارجي ، ويرتفع بمجرد اظهار الاسلام ، إذ بدن هذا الشخص قبل الاسلام وبعده حسا
وعيانا على حد سواء ، فما ذلك الكيف القائم بالجسم في حال الكفر الذي لا يحس بقوة
من القوى.
اللهم إلا ان يقال
: ان دعوى ان المتنجس ينجس بذاته على ما هو عليه من دون عروض كيف حقيقي عليه.
تندفع بان ذلك أول
الدعوى فالخصم يدعى عروضه ، غاية الأمر انه لا يرى
بدون الاسباب ،
وكم له نظير في الموجودات ، والمكروبات.
وبعبارة أخرى :
انهما من قبيل الخواص والآثار كخواص الادوية التي لا يعرفها إلا الاطباء ، واما
بدن الكافر ، فيمكن ان يقال ان الشارع حكم بنجاسته تنزيلا وحكومة ، أي نزل بدنه
منزلة النجاسة لقانون تعاكس النفس والبدن ، والكفر موجب لكثافة النفس ولذلك حكم
بنجاسة بدنه ، والاسلام يرفع تلك الحالة النفسانية.
والحق في الجواب
ان يقال انهما لو كانا أمرين واقعيين لما اختلفت الشرائع في عدد النجاسات ، ولا
اختلفت في المطهرات ، مع ان الشرائع مختلفة في ذلك كله.
أضف إلى ذلك ان
ظاهر الأدلة جعلهما لا كشفهما ، سيما المتضمنة لجعل الطهارة الظاهرية ، إذ لو
كانتا من الامور الواقعية ، لزم حمل تلك الأدلة على جعل الآثار ، وهو خلاف الظاهر.
واما الكيف القائم
بالنفس في الحدث فحيث لا ريب في عدم كونه من الاعتقاديات فلو كان فلا محالة يكون
من الاوصاف الرذيلة النفسانية نظير سائر الملكات والصفات غير الحميدة ، إذ لا ثالث
لصفات النفس ، ولا شبهة في عدم كونه منها لوجهين :
الأول : ان الحدث
حالة تحصل للانبياء والاوصياء وحاشاهم من اتصاف نفوسهم بصفة نقص.
الثاني : ان
اسبابه قد تقع على وجه العبادية المكملة للنفس.
فالحق ان الطهارة
وما يقابلها ليستا من الامور الواقعية وإنما هما من الأحكام الشرعية مع انه لو
سلِّم كونهما منها إلا ان الكاشف عنهما لا محالة يكون الشارع وعند الشك لا بدَّ من
السؤال عنهما وهذا معنى الشبهة الحكمية.
الثاني : ما في
الكفاية وهو اختصاص القاعدة ببعض ابواب الفقه ، والمسألة الأصولية
ما تفيد في جميع الأبواب.
وفيه : ان ضابط
المسألة الأصولية استنباط الحكم الشرعي منها ، واما اعتبار كونها جارية في جميع
ابواب الفقه ، فمما لم يدل عليه دليل ، كيف وجملة من المسائل الأصولية تختص بابواب
خاصة ، لاحظ مسألة دلالة النهي على الفساد.
الثالث : ان
الطهارة والنجاسة عين التكليف ، أو منتزعتان عنه ، وعليه فالشك فيهما شك في الحكم
ومورد للبراءة فقاعدة الطهارة عين البراءة ولذا لم يعد قسما برأسه.
ويرده ما حققناه
في مبحث الاستصحاب من ان الأحكام الوضعية ، ومنها الطهارة والنجاسة مستقلة في
الجعل ، لا منتزعة من التكليف ولا عينه.
والصحيح ان يقال :
انها من المسائل الأصولية ، وإنما لم تذكر في علم الأصول لعدم وقوع الخلاف فيها ،
لا لعدم كونها منها.
__________________
الفرق بين هذه المسألة ومسألة الحظر والاباحة
الأمر الرابع : في
بيان الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة ان الاصل في الأشياء والافعال هو الحظر أو
الإباحة.
وقد افاد المحقق
النائيني في مقام الفرق بينهما وجهين :
الأول : ان البحث
عن الحظر والاباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالاعيان الخارجية ، من حيث كونه تصرفا
في ملك الله تعالى ، وسلطانه ، والبحث عن البراءة والاشتغال راجع إلى المنع
والترخيص في فعل المكلف من حيث انه فعله ، وان لم يكن له تعلق بالاعيان الخارجية.
وفيه : ان البحث
عن الحظر والاباحة لا يختص بالاعيان الخارجية ، بل ما ذكره القوم وجها لكل من
القولين ، يعم جميع افعال العباد.
فان القائلين
بالحظر ، استدلوا له بان العبد حيث انه مملوك ، لا بد وان يكون صدور الفعل منه عن
اذن المولى ومالكه ، فما لم يأذن مالكه إذْناً مالكيا يكون تصرفه خروجا عن ذي
الرقية ورسم العبودية ، ويكون تصرفا في سلطان المولى وقبيحا ، ومذموما عليه عقلا.
واستدل القائلون
بالاباحة لما اختاروه ، بان الفعل حيث لم يمنع عنه الشارع ، لا شرعيا ، ولا مالكيا
، فهو ليس خروجا عن ذي الرقية ورسم العبودية.
__________________
وبديهي جريان هذين
الوجهين في كل فعل من افعال المكلف وان لم يكن له تعلق بالاعيان الخارجية ، فانه
لا محالة يكون تصرفا في بدنه ـ كلسانه ـ مثلا ، فيجرى فيه ، ما تقدم من الوجهين.
الثاني : ان البحث
عن الحظر والاباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الاولية بحسب ما يستفاد
من الأدلة الاجتهادية ، والبحث عن البراءة والاشتغال ، ناظر إلى حكم الشك في
الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الاولية.
وفيه : ان مسألة
الحظر والاباحة ، إنما تكون بلحاظ عدم ورود الدليل من الشارع لا بلحاظ ما يستفاد
من الأدلة الاجتهادية.
فالصحيح في مقام
الفرق بينهما ، ان بحث الحظر والاباحة إنما هو فيما يستقل به العقل في حكم الأشياء
، مع قطع النظر عن ورود حكم من الشارع ، وبحث البراءة والاشتغال ، إنما هو بعد
ورود حكم الأشياء من قبل الشارع.
ثم انه ربما يتوهم
ان الاصل في الأشياء بحسب الأدلة الاجتهادية هي الإباحة ، وعليه فلا يبقى مجال
لهذا المبحث في الشبهات التحريمية الحكمية لفقد النص التي هي العمدة في المقام.
واستندوا في ذلك
إلى الآية الشريفة : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً).
__________________
وفي بعض الكلمات
ذكروا الآية كذلك (احل لكم ما في الارض جميعا) ، إلى قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي
الأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً).
وفيهما نظر :
اما الآية الأولى
: فبالكيفية الثانية ليس لها وجود ، وبالكيفية الأولى لا تدل على المطلوب ، بل
ظاهرها ان ما في الارض خلق لمنافع العباد الدينية والدنيوية ، بأي وجه اتفق ، وذلك
لا يلازم اباحة كل شيء ، إذ لا شيء من الأشياء إلا وفيه منافع.
مع انه قد ورد
النص عن الإمام (ع) في تفسيرها خلق لكم ما في الارض لتعتبروا به الحديث .
مع انها مختصة
بالافعال المتعلقة بالاعيان الخارجية ، ولا تعم غيرها.
واما الثانية :
فالظاهر انها اجنبية عما استدل بها له فانها تتضمن الأمر بالاكل مما في الارض
حلالا طيبا لا حراما خبيثا ، وليست في مقام بيان ان أي شيء حلال وحرام ، ويؤيد ،
ذلك ورودها في جماعة من الاصحاب حيث حرموا على انفسهم من الحرث والانعام وغير ذلك.
مع انها مختصة
بالأكل : فإذا لا دليل على اباحة الأشياء مطلقا إلا ما خرج بالدليل حتى يقال انه
لا مورد للنزاع في البراءة والاحتياط إذ يتمسك باطلاق
__________________
ذلك الدليل ويحكم
بالاباحة.
مضافا إلى ان
الاخباري يدعى ان المرجع في الشبهات التحريمية ، إنما هو اخبار الاحتياط الدالة
على لزوم الاحتياط والتوقف عند الشبهة.
الأمر الخامس : ان
اقسام الشك في اصل التكليف وان كانت عديدة إذ ربما يكون الشك في التكليف
الاستقلالي وربما يكون في التكليف الضمنى ، وعلى كل تقدير ، قد يكون الشبهة
تحريمية ، وقد تكون وجوبية وعلى كل تقدير ربما يكون منشأ الشك فقد النص ، وربما
يكون اجمال النص ، وثالثا يكون تعارض النصين ، ورابعا الامور الخارجية.
وخلاف الاخباريين
مع الاصوليين إنما يكون في خصوص الشبهة التحريمية ، وقد اتفقوا على عدم وجوب
الاحتياط في الشبهات الوجوبية ، إلا ما عن الاسترابادي ، حيث ذهب إلى وجوب الاحتياط ، وبعض الأدلة يختص ببعض
اقسام الشبهة.
إلا انه مع ذلك
كله الصحيح ما ذكره المحقق الخراساني (ره) من جعل محط البحث مطلق الشك في الحكم الجامع بين الأقسام ،
لان عمدة ادلة البراءة
__________________
جارية في مطلق
الشك في التكليف واختصاص بعضها بدليل خاص لا يوجب أفراده بالبحث.
نعم ، في خصوص
تعارض الخبرين كلام سيأتي في التعادل والترجيح.
إذا عرفت هذه
الامور :
فاعلم ان تمام
الكلام في هذا المقصد في طي فصول :
* * *
الفصل الاول : البراءة
الآية الأولى من الآيات التي استدل بها للبراءة
الفصل الأول : لو
شك في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض عليه حجة ، فالمشهور بين الاصحاب انه يجوز شرعا
وعقلا ترك الأول وفعل الثاني ، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته ، من غير فرق بين كون
منشأ الشك فقدان النص ، أو اجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب ، أو الامور
الخارجية.
وقد استدلوا لذلك
بالادلة الاربعة ، فمن الكتاب بآيات.
منها : قوله عزوجل (وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وتقريب الاستدلال بها : ان بعث الرسل بحسب الارتكاز والفهم
العرفي كناية عن ايصال الحجة والبيان ، وعليه فمفاد الآية الشريفة نفى العقاب على
مخالفة التكليف ما لم يصل.
وأورد عليه
بايرادات :
الأول : ان المراد
بالعذاب في الآية ، العذاب الدنيوي ، وهي راجعة إلى الامم السابقة فالمستفاد منها
ان عادة الله كانت جارية على عدم انزال العذاب
__________________
على الامم السالفة
إلا بعد اتمام الحجة عليهم فلا ربط لها بالمقام .
وفيه : ان الله
تعالى اما ان يكون في مقام بيان حد رأفته بالعباد ، وان العذاب قبل اتمام الحجة
غير لائق بشانه مع كونه رءوفا ، أو يكون في مقام بيان عدالته وعدم كونه ظالما ،
ولا ثالث : بعد ظهور ، " ما كنا" في ان هذا الفعل لا يناسب صدوره من
الفاعل كما يظهر من ملاحظة موارد استعماله وعلى كل تقدير تدل على المطلوب ،
بالأولوية ، بعد كون العذاب الاخروي اشد من العذاب الدنيوي وكونه رءوفا بنا كرأفته
بالامم السابقة أو اكثر.
الإيراد الثاني :
ان الآية الشريفة تدل على نفي الفعلية ، وهو اعم من نفي الاستحقاق المطلوب اثباته
في المقام.
واجيب عن هذا
باجوبة :
منها : ما عن
الشيخ الأعظم (ره) وهو ان نفي الفعلية يكفي في المقام إذ الخصم يسلم الملازمة
بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.
وأورد عليه المحقق
الخراساني بايرادين :
أحدهما : ان ما شك
في وجوبه أو حرمته عند الخصم ، ليس باعظم مما علم حكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب
فيه إلا كالوعيد به فيه.
__________________
وفيه : ان الآية
الشريفة إذا دلت على عدم الفعلية ، وقطع بعدم العقاب لا يبقى مجال للتمسك ، بقاعدة
دفع الضرر المحتمل ، واخبار التوقف المعللة للأمر بالتوقف ، باحتمال الوقوع في
الهلاكة والعقاب ، ومع عدم كون المورد من مواردهما ، لا خلاف بيننا وبين الاخبارين
في ان المرجع هو اخبار الحل ، وهي تدل على نفى الاستحقاق ، فيكون عدم الاستحقاق مع
عدم الفعلية في محتمل التكليف لأجل دليل آخر ، لا للملازمة بين نفيهما ، وهذا
بخلاف موارد القطع بالحكم إذ لو دل دليل على نفى فعلية العقاب فحيث ان الدليل على
ثبوت الحكم موجود فهو لا محالة يدل على الاستحقاق وعدم الملازمة ، بين النفيين.
وبهذا البيان يظهر
الجواب عما أورد على من جمع بين التمسك بالآية الشريفة على البراءة ، وبين الرد
على من استدل بها على عدم الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي.
بدعوى انها تدل
على عدم العقاب ما لم يصل بيان من الشارع واطلاقها يشمل ما لو حكم العقل بقبحه أو
حسنه ، فتدل على عدم الملازمة.
بان الآية تدل على
عدم فعلية العقاب ، لا على عدم استحقاقه ، والذى يفيد في مقام الاستدلال على عدم
الملازمة عدم الاستحقاق.
بان هذا مستلزم
للتناقض إذ الآية ان دلت على نفى الفعلية ، فلا تدل على البراءة وان دلت على نفى
الاستحقاق فالجواب عن الاستدلال بها على عدم الملازمة غير سديد.
وحيث عرفت ان
الاستدلال بها على البراءة ليس بها وحدها بل بضميمة اخبار الحل فلا تناقض فتدبر
جيدا.
ثانيهما : انه لو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق
والفعلية ، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا.
وفيه : ما عرفت من
انه إذا قطع بعدم العقاب يكون المرجع عند الطرفين اخبار الحل فليس الاستدلال
جدليا.
ومنها : الإجماع
من الفريقين على التلازم بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.
وفيه : انه
لمعلومية مدرك المجمعين ليس هذا الإجماع اجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).
ومنها : ان الظاهر
من الآية الشريفة نفى الاستحقاق : والشاهد على ذلك ان الآيات المتضمنة للعقاب
والعذاب ، إنما يخبر عن الاستحقاق والاقتضاء لا عن الفعلية ، وتكون تلك الآيات من
قبيل قولنا السم قاتل ، فبقرينة المقابلة يكون السلب أيضاً سلبا للاستحقاق ونفيا
له ، فتكون الآية بنفسها دليلا على نفى الاستحقاق من دون احتياج إلى ضم مقدمة
أخرى.
وفيه : ان مبدأ
المشتق المحمول على الذات ، قد يكون اثرا لموضوعه ، نظير السم قاتل ، فيكون ظهور
الأولى لهذه القضية استناده إليه بنحو الاقتضاء ، وقد يكون فعله الاختياري ، وهو
قابل لان يستند إليه بنحو الاقتضاء وان يستند إليه بنحو الفعلية ، ولكن الظاهر من
تلك القضايا هو الثاني : والشاهد عليه في المقام استهجان ان يخبر عن ترتب العذاب ،
ويعقبه بعدم الفعلية ، مثل : ان يقول
__________________
اني اعذب تارك
الصلاة ، ولو لم يتحقق العذاب في الخارج ، وهذا بخلاف التركيب الأول ، فانه يصح ان
يقال ان النار محرقة ، وان لم يحرق في الخارج.
وبالجملة : من
الاستهجان المزبور يستكشف ان الآيات المتضمنة للعذاب تدل على الفعلية ، فبقرينة
المقابلة أيضاً ، يكون النفى نفيا للفعلية.
لا يقال انه على
هذا يلزم الكذب تعالى الله عن ذلك : فان التائب لا يعاقب ومن شفع له أو عفى عنه لا
يعاقب.
فانه يقال ان تلك
الآيات يكون استعمالها كنائيا وبصدد بيان الأحكام ، ومن المعلوم ان الصدق والكذب
في الكنايات يدوران مدار ما سيق الكلام لبيانه لاما هو مفاد القضية بالمطابقة ـ ألا
ترى ـ ان قولك زيد كثير الرماد ، صدقُ إذا كان جوادا ، وان لم يكن عنده رماد فعلا
، وكذب إذا لم يكن جوادا ، فظهر ان جواب الشيخ الأعظم وحده تام.
ويمكن الجواب عنه
بجواب آخر ، وهو ان الظاهر من الآية نفي الاستحقاق ، إذ الظاهر منها هو كونها بصدد
بيان ان سنة الله جارية على ذلك ، وان العقاب غير لايق بمقامه ولا يناسب صدوره منه
، ومن البديهى ان العقاب مع عدم الاستحقاق لا يليق بشانه ، واما العقاب مع
الاستحقاق فهو لايق بشأنه فمن نفى العقاب بهذا البيان يستكشف عدم الاستحقاق.
الإيراد الثالث :
ان هذه الآية لا تنفع في مقابل الاخباري فانه يزعم صلاحية اخبار الاحتياط لكونه
بيانا فيكون نسبة هذه الآية إلى دليلهم نسبة الاصل إلى الدليل.
وفيه : ان المراد
ببعث الرسل بيان الحكم الواقعي ، إذ الظاهر منه بيان ما يكون على مخالفته العقاب
وليس هو إلا الحكم الواقعي ولا شبهة في ان اخبار الاحتياط ليست بيانا له.
الإيراد الرابع :
ان المراد من بعث الرسل ، ان كان وصول الحكم ، صح ما ذكر ، ولكن من الممكن لو لم
يكن هو الظاهر ان المراد به البيان في مقابل السكوت ، فيكون مفادها عدم العقاب على
مخالفة ما لم يبينه الشارع وسكت عنه ، فيكون مفادها مفاد" اسكتوا عما سكت
الله" فلا تدل على البراءة.
الآية الثانية التي استدل بها للبراءة
ومن الآيات ، قوله
سبحانه : (لايُكَلِّفُ اللهُ
نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا).
وتقريب الاستدلال
بها ان المراد من الموصول هو الحكم ، فيكون المراد من الايتاء الاعلام والوصول ،
فيكون المراد بها ان الله تبارك وتعالى لا يكلف بالتكليف غير الواصل إلى المكلف.
وأورد عليه
بايرادات :
الأول : ما عن
الشيخ الأعظم (ره) وحاصله : ان ما الموصولة تحتمل معان
__________________
ثلاثة :
احدها : خصوص
الحكم ، فيكون المراد من الايتاء الاعلام.
ثانيها : خصوص
المال بقرينة قوله تعالى قبل ذلك (وَمَن قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) فيكون المراد بالإيتاء الملكية والسلطنة.
ثالثها : مطلق
الفعل فيكون المراد بالإيتاء الاقدار عليه فتدل على عدم جواز التكليف بما لا يطاق
، وحيث لا ريب في عدم جواز ارادة خصوص الحكم منها ، لمنافاته لمورد الآية ، واردة
المعنى الاعم الجامع بين المعان الثلاثة لا تعقل :
إذ على الأول يكون
الموصول مفعولا مطلقا. وعلى الاخيرين يكون مفعولا به ، واضافة الفعل إلى كل منهما
تباين اضافته إلى الآخر ، ولا جامع بين النسبتين ، فان المفعول المطلق يحتاج في
اضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه من شئون الفعل ، وكيفياته وموجودا بوجوده ،
والمفعول به يحتاج في اضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه موجودا في الخارج قبل الفعل
، وتعلق الفعل به موجبا لايجاد الفعل وصفا عليه فلا يمكن ارادة الجامع ، فيتعين
ارادة احد الاخيرين أو الجامع بينهما كما اختاره هو (ره).
وفيه : انه يمكن
ارادة الجامع وان يكون ذلك مفعولا به ولا يلزم كونه مفعولا مطلقا ، بان لا يكون
المراد من التكليف الحكم ، بل المراد معناه اللغوى وهو الكلفة والمشقة ، فيكون
المراد ان الله تعالى لا يوقع عباده في الكلفة من ناحية شيء حكما كان بان ينجزه ،
ويعاقب عليه أم فعلا بان بأمر به إلا ما آتاه
__________________
أي اعطاه ، فيكون
الجامع هو المراد من الموصول ويكون مفعولا به.
الإيراد الثاني :
ان الايتاء المنتسب إلى الحكم يراد به الاعلام والمنتسب إلى المال يراد به الملكية
والمنتسب إلى الفعل يراد به الاقدار ولا جامع بينها.
وفيه : ان المراد
به هو الاعطاء غاية الأمر اعطاء كل شيء بحسبه.
الإيراد الثالث :
وهو الحق ان الايتاء بما انه استند إليه تعالى ، يكون المراد به اعلامه سبحانه
بالطريق المتعارف بين الموالى والعبيد ، بتوسيط الوحى إلى سفرائه ، وابلاغ ما اوحى
الله إلى العباد.
فيكون مفادها مفاد
الآية المتقدمة ، وهو انه تعالى لا يوقع العباد في كلفة حكم لم يبينه وسكت عنه
فتكون اجنبية عن المقام.
الآية الثالثة التي استدل بها للبراءة
ومن الآيات قوله
تعالى مخاطبا لنبيه ملقنا اياه طريق الرد على الكفار حيث حرموا على انفسهم اشياء :
(قُل لَّا أَجِدُ فِي
مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا).
حيث انه تعالى
ابطل تشريعهم ، بعدم وجدان ما حرموه فيما اوحى الله تعالى إليه ، فلو لم يكن عدم
الوجدان كافيا في الحكم بالاباحة وعدم الحرمة ، لما صح هذا الاستدلال.
__________________
وأورد عليه الشيخ
الأعظم ، وتبعه المحقق النائيني (ره) ، بان عدم وجدانه (ص) دليل على عدم الوجود ، وكاشف عنه ،
فلا يصح الاستدلال بها للحكم فيما لم يعلم وجوده.
والشيخ الأعظم (ره)
قال انه مشعر بذلك لما فيه من العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان.
وانكر ذلك المحقق
الخراساني وقال انه لعل النكتة في التعبير هو تلقين ان يجادلهم بالتى
هي احسن ، فانه في التعبير بعدم الوجدان من مراعاة الادب ما ليس في التعبير بعدم
الوجود.
ولكن : الاظهر
تمامية الاستدلال بها ، إذ هذه الآية نزلت في مقام المحاجة مع الكفار غير
المعترفين بنبوته ، المعلوم ان علمه (ص) بعدم الحرمة لا يفيد لهم ، وفي هذا المقام
لقنه ، بان يلزمهم بما هو من الأصول المسلمة عند العقلاء ، وهو ان ما لم يعلم
حرمته لا يجوز الالتزام بتركه ، وترتيب آثار الحرام عليه.
فهذه الآية تدل
على البراءة فتأمل.
__________________
الآية الرابعة التي استدل بها للبراءة
ومن الآيات قوله
سبحانه : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا
تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) ، وتقريب الاستدلال بما ، في سابقتها ، لورودها في الرد
على الكفار الملتزمين بترك الفعل الذي ليس فيما فصل دليل على حرمته ، فان
الاستدلال لبطلان مقالتهم بعدم وجود ما حرموه على انفسهم فيما فصل من المحرمات
دليل على اباحة ما لم يعلم حرمته.
وأورد عليه الشيخ
الأعظم (ره) بان ظاهر الموصول العموم ، فالتوبيخ على الالتزام بترك
الشيء مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية وعدم كون المتروك منها ، ومن المعلوم ان
لازم ذلك عدم كون المتروك من المحرمات الواقعية فالتوبيخ في محله.
وفيه : ان كون
المحرمات الواقعية مفصلة باجمعها ، وعدم كون المتروك منها بنفسه ، لا يوجب العلم
بعدم حرمة المتروك ، ما لم يحرز ذلك ، وليس في الآية الشريفة ما يدل على انهم
كانوا عالمين بذلك ، فالتوبيخ ، يكون على الالتزام بترك شيء ، مع عدم كون المتروك
فيما فصل وان احتملوا كونه من المحرمات الواقعية ولم يفصل.
ولكن يرد على
الاستدلال بالآية الشريفة انها تدل على التوبيخ على ترك
__________________
ما أحرز عدم كونه
من المحرمات المفصلة أي المبينة التي اعلم بها ، وان احتمل كونه محرما واقعيا ،
ولا كلام في ذلك ، إنما الكلام في اباحة ما احتمل كونه من المحرمات المفصلة.
الآية الخامسة التي استدل بها للبراءة
ومن الآيات قوله
سبحانه : (وَمَا كَانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ
إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ما يجتنبوه من الأفعال والتروك ، وتقريب الاستدلال بهذه
الآية ما في آية التعذيب.
وأورد عليه
بايرادت :
الأول : ما عن
الشيخ الأعظم (ره) ، وهو ان هذه الآية كآية التعذيب ، ظاهرة في الأخبار عن
حال الامم السابقة بالاضافة إلى العذاب الدنيوي فلا تشمل الامة المرحومة والعذاب
الاخروي.
والجواب عنه ما
تقدم في تلك الآية من ان الآية لم ترد في مقام الحكاية فقط ، بل اما ان تكون في
مقام ، اظهار العدل ، أو الرأفة بالعباد وعلى كل تقدير تدل على المطلوب بالاولوية.
__________________
الثاني : ما أفاده
المحقق الخراساني في حاشيته على الكفاية وحاصله : ان اضلاله تعالى إنما هو بخذلانه وسد
باب التوفيق بالطاعة ، وإيكاله إلى نفسه الموجب للعقاب الدائمي والخلود الابدي ،
وتوقف هذه المرتبة على البيان لا يستلزم توقف غيرها من المراتب عليه.
وفيه : ان الظاهر
من الآية كما ذكرناه في آية نفي التعذيب ، كون ما تضمنته الآية مما جرت عليه سنة
الله وعادته ، وان خلافه لا يليق بشأنه ، وعليه فلا فرق في ذلك بين مراتب العذاب
والعقاب.
الثالث : ما ذكره
المحقق العراقي (ره) ، من ان مفادها مساوق لكبرى قبح العقاب بلا بيان فلا ينفع
التشبث بها في قبال الخصم المدعى لوجوب الاحتياط بمقتضى اخبار التوقف والاحتياط ،
فان الخذلان على زعمه يكون عن البيان.
وفيه : ان الظاهر
منها عدم العقاب على مخالفة التكليف غير المبين واخبار التوقف والاحتياط إنما تكون
بيانا لوجوب الاحتياط الذي لا عقاب على مخالفته ، ولا تكون بيانا على التكليف
الواقعي ، بل توجب تنجيزه مع عدم مبينيته.
وعليه فالآية
تعارض تلك الأدلة.
فالصحيح ان يورد
عليه بما اوردناه على الاستدلال بآية نفي التعذيب ، من ان بيان الله تعالى ، إنما
يكون بانزال الكتب ، وارسال الرسل وتبليغ رسله
__________________
أحكامه بالطريق
المتعارف بين الموالى والعبيد ، وعليه فيكون مفاد هذه الآية مفاد ما تضمن ، "
اسكتوا عما سكت الله عنه" ، ولا تتضمن حكم ما لو شك في حكم مبين.
الاستدلال للبراءة بحديث الرفع
واما من السنة ،
فقد استدل للبراءة بروايات :
منها : حديث الرفع
وهو الحديث المروى عن الخصال بسند صحيح عن حريز عن الإمام الصادق (ع) قال : قال رسول الله (ص) رفع
عن امتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا
يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم
ينطقوا بشفة .
__________________
وحيث ان الخبر من
الصحاح والاصحاب اعتمدوا عليه في الفقه ، فلا مورد للبحث في سنده ، فالمهم بيان
فقه الحديث وما يستفاد منه وانه هل يدل على البراءة أم لا؟ وذلك يتم بالبحث في
مواضع.
الأول : في بيان
الامور التي يتوقف عليها فهم المراد من الحديث.
الثاني : في جملة (ما
لا يعلمون).
الثالث : في سائر
جملات الحديث.
اما الموضع الأول
: ففي بيان أمور :
الأمر الأول : ان
الدفع والرفع وان اشتركا في انهما إنما يصدقان مع وجود المقتضى ، وإلا فعدم
المعلول يستند إلى عدم المقتضى لا إلى وجود المانع ، وأيضا هما مشتركان في المنع
عن تحقق المقتضى في الزمان اللاحق ، إلا ان بينهما فرقا ، وهو ان الرفع يعتبر في
صدقه وجود المعلول سابقا كي ، يكون الرافع مزيلا للشيء الثابت ، واما الدفع فيعتبر
في صدقه عدم وجوده سابقا كي يكون سدا لباب المقتضى عن التأثير.
وعلى ذلك فقد يشكل
على الرواية بأنه كيف استعمل الرفع في المقام مع عدم ثبوت المرفوع في زمان ، واجيب
عنه باجوبة.
احدها : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) وهو ان مانعية شيء عن تأثير شيء آخر دائما يكون بنحو الدفع
، لان الرافع ما يمنع عن تحقق المقتضى بقاء ، ومن
__________________
حينه ولا يمنع عن
الوجود السابق ، لان وجود شيء في زمان غير مربوط بوجوده في السابق ، ولا يعقل
تأثير المانع في الوجود السابق ، فدائما يكون المانع مانعا عن تحقق المقتضي ،
وعليه فكل رافع فهو دافع ، مضافا إلى استعمال كل منهما في موضع الآخر في كلمات
العرب.
ولكن : قد ظهر
الجواب عن ذلك مما ذكرناه في تقريب الإيراد ، إذ هذا وان كان مطلبا صحيحا ، إلا ان
المدعى هو اختلافهما في الوضع حيث ان الرفع وضع ليستعمل ، فيما يمنع عن تأثير
المقتضي مع فرض تأثيره في تحقق المقتضى في الزمان السابق ، والدفع وضع ليستعمل
فيما يمنع عنه مع فرض عدم وجود المقتضى بالفتح سابقا.
ثانيها : ما عنه
أيضاً وهو ان العلاقة المصححة في الشبهة الموضوعية ، إنما هي ثبوت الحكم واقعا
كحرمة شرب الخمر ، وهذا المقدار من سبق الوجود يكفي.
وفيه : انه بعد ما
ليس المرفوع هو الحكم الثابت المنشعب عن لا تشرب الخمر ، وإلا يلزم ان يكون
المرفوع هو الحكم الواقعي وهو غير ملتزم به ، فلا محالة يكون المرفوع هو ايجاب
الاحتياط ، فما سبق وجوده غير مرفوع ، وما رفع لا يكون له سبق وجود.
ثالثها : ما عن
المحقق العراقي (ره) ، وهو ان المصحح لاطلاق الرفع في المقام هو وجود المقتضي
لمثل هذا الإنشاء في ظرف الجهل إذ مع وجود المقتضي
__________________
يعتبرون العقلاء
كانه موجود بالعناية.
وفيه : ان لازم
هذا البيان ان الدفع يكون ، بمعنى الرفع ، ولا يكون بينهما فرق إذ يعتبر في صدقه
أيضاً وجود المقتضي وهو خلف الفرض.
رابعها : وهو الحق
وهو ان استعمال الرفع في الآية إنما يكون باعتبار ان هذه العناوين كانت في الشرائع
السابقة ذو أحكام شرعية وموجودة في عالم التشريع ، فرفعت عن هذه الامة فقد استعمل
الرفع في معناه بهذه العناية.
الامر الثاني :
انه قد يتوهم انه لا بد من تقدير امر في الجملات التسع لشهادة الوجدان بوجود الخطأ
والنسيان وغيرهما من المذكورات ، فلا محالة يكون المرفوع امرا آخرا ، وقد وقع
الخلاف في انه ، هل هو المؤاخذة والعقوبة ، أو جميع الآثار ، أو اظهر الآثار.
وقد ذكر لتعيين كل
منها وجوه مذكورة في الرسائل.
ولكن الظاهر عدم
الاحتياج إلى التقدير إذ الرفع فيها ليس رفعا تكوينيا كي يرد المحذور المذكور ، بل
هو رفع تشريعي ، وعليه فلا حاجة إلى التقدير أصلاً.
نعم لا بدَّ وان
يكون الأثر المرفوع من الآثار الشرعية التي تكون قابلة للرفع والوضع ، واما الآثار
العقلية غير القابلة لذلك ، فلا تكون مرفوعة بالحديث ، إلا ما كان منها مترتبا على
الأثر الشرعي.
الامر الثالث : ان
الرفع بالنسبة إلى غير ما لا يعلمون واقعي ، وبالنسبة إلى ما لا يعلمون رفع ظاهري.
توضيح ذلك ان
الرفع في غير ما لا يعلمون يكون واقعيا لظهوره في ذلك وعدم معقولية كونه ظاهريا في
جملة منها.
ودعوى : انه على
هذا تكون النسبة بين كل واحد من ادلة الأحكام الواقعية ، وبين الحديث عموما من وجه
فلا وجه لتقديمه.
مندفعة : بان
الحديث حاكم عليها لأنه بلسان نفي الموضوع وتضييقه بالنسبة إلى تلك الأدلة ، وقد
ثبت في محله تقديم الحاكم على المحكوم ، مع ان النسبة بين كل واحد منها وبين
الحديث ، وان كانت عموما من وجه ، إلا ان النسبة بينه وبين جميعها عموم مطلق ،
فيدور الأمر بين تقديم جميعها عليه ـ وتقديمه عليها ـ وتقديم بعضها عليه وتقديمه
على بعضها ، والاول مستلزم لعدم بقاء المورد له ، والاخير مستلزم للترجيح بلا مرجح
، فيتعين الثاني.
واما فيما لا
يعلمون ففي موارد الشبهة الحكمية ، لا يعقل كون الرفع واقعيا ، لاستلزامه اختصاص
الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، وقد عرفت في اوائل هذا الجزء ، ان اخذ القطع
بالحكم في موضوع نفسه مستلزم للخلف ولا يمكن ـ مضافا ـ إلى الأدلة الدالة على
اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين.
واما في موارد
الشبهة الموضوعية وان كان لا يلزم من الالتزام بكون الرفع واقعيا المحذور المتقدم
، إلا ان المعلوم من مذاق الشارع والائمة عليهمالسلام ، بل المستفاد من الأدلة ثبوت الأحكام في حال الجهل مطلقا
ولو كان الشك بنحو الشبهة الموضوعية ، فيكون الرفع ظاهريا.
والمراد به رفع
وجوب الاحتياط.
توضيح ذلك انه حيث
يكون وضع الحكم الواقعي في حال الجهل على رقبة العبد بايجاب الاحتياط ، فكذلك ، له
ان يرفعه بعدم ايجابه.
وان شئت فقل انه
كما ان ايجاب الاحتياط وضع للواقع بجعل الحكم الطريقي كذلك عدم ايجابه مع ثبوت
المقتضى للوضع رفع للواقع ، فالرفع فيه أيضاً مستند إلى الواقع ولا يكون المقدر
وجوب الاحتياط.
ثم انه لا مانع من
الالتزام بكون الرفع واقعيا بالمعنى الأول فيما إذا كان الشك في المتعلق مع كونه
موضوعا لحكم آخر نظير الشك في شرب الخمر بالنسبة إلى وجوب الحد فمن شرب الخمر عن
جهل بالخمرية لا يجب إجراء الحد عليه واقعا.
ويترتب على ما
ذكرناه من كون الرفع فيما لا يعلمون ظاهريا ـ وفي غيره واقعيا.
انه بالنسبة إلى
غير ما لا يعلمون لو كان هناك عموم أو إطلاق مثبت للحكم في تلك الموارد ، لزم
تخصيصه أو تقييده ، بحديث الرفع ، ويكون ارتفاع تلك العناوين موجبا لتبدل الحكم واقعا
من حينه ، فاجزاء المأتي به في حال الاضطرار مثلا واضح.
واما فيما لا
يعلمون فلو كان هناك عموم أو إطلاق مثبت للحكم لزم الاخذ به ولا يبقى معه موضوع
لحديث الرفع ، لارتفاع الجهل به ، ويكون ارتفاع الجهل لو عثر على الدليل المثبت
للتكاليف بعد العمل موجبا لكشف الخلاف ، وظهور ثبوت الحكم من الأول فالاجزاء يبتنى
، على اجزاء الأمر الظاهري ، أو
على دلالة دليل
آخر عليه كحديث (لا تعاد الصلاة) .
الأمر الرابع : ان
لسان الحديث كما هو مفاده الظاهر فيه ، رفع الحكم لا وضعه ، وعليه فليس لسانه
تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، كما عن المحقق النائيني (ره) لان تنزيل شيء منزلة غيره ، يستدعي ترتيب آثار ذلك الشيء
عليه ، وعرفت ان الحديث ليس شأنه الوضع بل إنما يرفع الحكم الثابت لولاه.
كما ان الظاهر من
الحديث إنما هو رفع الحكم ، لا نفي المتعلق ، إذ ليس لسانه لسان النفي كما في لا شك
لكثير الشك ، فانه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا بخلاف الحديث ، فانه إنما
يرفع موضوعية الموضوع الذي مرجعه إلى رفع الحكم فاحفظ ذلك فانه يترتب عليه فائدة
مهمة.
الأمر الخامس : ان
متعلق الرفع ليس نفس العناوين المذكورة في الحديث بل المرفوع هو الفعل المتصف
باحدها ، اما في غير الخطأ والنسيان فواضح ، واما فيهما فلوحدة السياق ، ولان رفع
نفس العناوين مناف للامتنان وضد للمقصود.
مضافا إلى انه لا
يتصور جعل الحكم لهما بما هما كما لا يخفى ، فالمرفوع هو الفعل المتصف بهما.
__________________
ثم انه يقع الكلام
في ان المرفوع بالحديث هل هو الأحكام الثابتة للفعل المعنون باحد العناوين
المزبورة؟ أو الآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الأولى؟ أو هما معا؟.
قد يقال بالثاني
واستدل له المحقق الخراساني تبعا للشيخ الأعظم (ره) ، وتبعه غيره ، بأنه لا يعقل رفع الآثار المترتبة على
الفعل المعنون باحد العناوين ، إذ الظاهر ان هذه العناوين صارت موجبة للرفع
والموضوع للاثر مستدع لوضعه فكيف يكون موجبا لرفعه.
وفيه : انه قد
عرفت انه يعتبر في صدق الرفع كون الموضوع مقتضيا للوضع فكونه مقتضيا له ، مما
يعتبر في صدق الرفع ، لا انه ينافيه.
وبعبارة أخرى :
بعد ما عرفت من ان المراد من الرفع هو الدفع ، أو رفع الآثار الشرعية الثابتة في
الشرائع السابقة ، لا يبقى مجال لهذا الاشكال.
نعم ، يكون الحديث
معارضا للادلة المتكفلة للاحكام الثابتة للفعل المعنون باحد العناوين ، وبما ان
تلك الأدلة اخص تقدم فثبوت سجدتي السهو وكفارة القتل الخطإ مثلا إنما يكون من قبيل
التخصيص.
ويمكن ان يوجه عدم
المعقولية بان ورود الخبر مورد الامتنان يقتضي ان تكون الجهات الموجبة للمنة برفع
الأحكام ، هي هذه العناوين المأخوذة في الخبر من الجهل وغيره ، فإذا كانت هذه
الجهات مقتضية لرفع تلك الأحكام ، فلا محالة
__________________
ليست بما هي
مقتضية لثبوتها ، لأنه لا يقل كون عنوان واحد مقتضيا ، للوضع ، والرفع ، ولا ينافي
ذلك اعتبار اقتضاء الوضع في صدق الرفع فان المعتبر وجود المقتضي فيما يرفع ، وهو
الفعل ، لاكون الجهة المقتضية للرفع بعينها مقتضية للوضع فتدبر.
وعليه فالمرفوع هي
الآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الأولي.
مع انه لو تنزلنا
عن ذلك وسلمنا معقولية ان يكون المرفوع الآثار المترتبة على الفعل المعنون باحد
العناوين ، بما انه لا جامع بين كلا القسمين من الأثر والامر يدور بينهما ، فيكون
الترجيح مع ما ذكرناه لفهم الاصحاب ولاستشهاد الإمام على (ع) ما في رواية المحاسن بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة
والعتاق.
الأمر السادس : ان
الظاهر من الحديث رفع الآثار المترتبة على فعل المكلف ، واما الآثار المترتبة على
الموضوع الخارجي ، بلا دخل لفعل المكلف فيه فالحديث لا يرفع تلك الآثار لان ما
يتعلق به الاضطرار والاكراه وأخواتهما إنما هو فعل المكلف ، لا الموضوع الخارجي.
وعليه فلو لاقى يد
الانسان مع شيء نجس اضطرارا أو خطاء لا يمكن رفع النجاسة بالحديث ، إذ الأثر لم
يترتب على فعل المكلف ، بل على الموضوع
__________________
الخارجي ، وهو
الملاقاة ولو بغير اختيار ، وبما ذكرناه يظهر عدم شمول الحديث لوجوب قضاء الفائت
من المكلف اضطرارا أو اكراها ، لان وجوب القضاء مترتب على الفوت بما هو من غير دخل
لفعل المكلف فيه.
ولا يتوهم انا
ندعى عدم شمول الحديث للموضوعات فان ذلك غير صحيح ، إذ لو كان فعل المكلف موضوعا
لحكم يشمله الحديث كالافطار الذي جعل موضوعا لوجوب الكفارة إذ لاوجه لاختصاصه
بالمتعلقات ، بل ندعى عدم شموله للموضوع الخارجي.
الأمر السابع :
يعتبر في جريان حديث الرفع ان يكون في رفع الحكم منّة على العباد ، فبيع المضطر لا
يرفع صحته بالحديث ، إذ رفعها خلاف المنّة ، ويعتبر ان يكون في رفعه منّة على
الأمة فلو كان منّة على شخص ، وضيقا على آخر ، لا يشمله الحديث ، فلو اتلف مال
الغير بغير اختياره ، لا يمكن إجراء الحديث ، والحكم بعدم الضمان ، فان في رفعه
وان كان منّة على المتلف إلا انه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك.
فهل يعتبر ان يكون
في وضعه خلاف الامتنان كما عن المحقق العراقي
__________________
أم لا يعتبر ذلك؟
وجهان :
اقواهما الثاني ،
لاطلاق الحديث ووروده في مقام الامتنان لا يقتضي ذلك ولا اجمال في الحديث.
وما رتبه على ما
ادعاه من عدم رفع الحكم الواقعي فيما لا يعلمون لعدم كونه بوجوده الواقعي مما فيه
ضيق على المكلف.
غير تام إذ عدم
رفعه إنما يكون لوجه آخر تقدم آنفا ولو تم هذا الوجه لاقتضى عدم رفعه حتى على
المسلك الآخر ، إذ ليس في رفعه امتنان.
ما يستفاد من جملة ما لا يعلمون
الموضع الثاني :
في جملة ما لا يعلمون وبيان ما يصلح ان يكون مرفوعا فيها ، وتنقيح القول فيها
بالبحث في جهات :
الجهة الأولى : ان
المرفوع ليس هو الحكم الواقعي لما تقدم ، في الأمر الثالث في الموضع الأول ، ولا
المؤاخذة ، ولا استحقاقها ، لما تقدم في الأمر الثاني ، ولا فعليّة الحكم الواقعي
، لما تقدم في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من عدم معقولية نفي الفعلية بعد
الإنشاء إلا بالتصرف في الجعل.
بل المرفوع هو
ايجاب الاحتياط لا بتقدير ذلك ، بل من جهة ان ايجاب الاحتياط إنما يكون من مقتضيات
نفس التكليف الواقعي ، فثبوته إنما يكون نحو ثبوت للحكم الواقعي ، ولهذا يصح في
مقام التعبير عن رفعه ، برفع الحكم
الواقعي في الظاهر
وقد تقدم توضيح ذلك في الأمر الأول من الموضع الأول.
فان قلت انه إذا
كان المرفوع هو ايجاب الاحتياط فحيث ان احتمال التكليف الواقعي موجود واحتمال
المؤاخذة على مخالفته لا دافع له فيكون موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل باقيا فيجب
الاحتياط بحكم العقل ، والشرع.
قلت ان العقاب على
الواقع غير الواصل مقطوع العدم ولو بضميمة قبح العقاب بلا بيان فاحتمال ثبوته إنما
يكون بواسطة احتمال جعل الطريق إليه وايجاب الاحتياط ، فإذا رفع ايجاب الاحتياط ،
لزم منه رفع المؤاخذة لرفع منشئها.
وان شئت قلت ان
المؤاخذة كوجوب الطاعة وحرمة المخالفة من الأحكام الواقعية المترتبة على المجعولات
الشرعية اعم من الظاهري والواقعي ، فكما ان عدم الحكم الواقعي مستلزم لعدم العقاب
كذلك التعبد بعدمه في الظاهر فتدبر.
واما ما أفاده
الأستاذ من انه لا يكون المرفوع ايجاب الاحتياط بل هو نفس الالزام
ظاهرا ، واوضحه : بان الحكم سواء كان واقعيا أم ظاهريا يكون امر وضعه ورفعه بيد
الشارع ، فكما ان للمولى ان يجعل الوجوب أو الحرمة واقعيا كذلك له ان يجعل الوجوب
، أو الحرمة في ظرف الشك في الواقع ، فإذا لم يفعل مع وجود المقتضى له فقد رفعه ،
ولازمه ثبوت الترخيص في اقتحام الشبهة ، وعدم وجوب الاحتياط ، فان الأحكام متضادة
في مرحلة الظاهر أيضاً ، فكما ان
__________________
عدم الالزام واقعا
يستلزم الترخيص كذلك عدم الالزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا ، ومعه لا يبقى
مورد لاحتمال العقاب.
فيرد عليه ان
المراد من الالزام الظاهري ، ان كان هو الحكم الطريقي المجعول للمشتبه بما هو
مشتبه بداعي تنجز الواقع ، فليس هو إلا ايجاب الاحتياط ، وان كان المراد هو الحكم
الواقعي المجعول له بما هو كذلك فرفعه لا يفيد كما لا يخفى ، وان كان المراد غير
ذلك فلا بد من توضيح ازيد من ذلك.
عموم الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية
الجهة الثالثة :
في بيان أن الحديث هل يختص بالشبهة الموضوعية؟ أو الحكمية ،؟ أم يعم كلتا الشبهتين؟
ويتوقف بيان ما هو
الحق على بيان ان المراد بالموصول ، هل هو الفعل الخارجي؟ أم يكون المراد منه
الحكم؟ أو الجامع بينهما؟
وعلى الأول هل
المراد من لا يعلمون ، عدم العلم بعنوان الفعل ، وانه مصداق عنوان محرم؟ أم مصداق
عنوان محلل؟ أم يكون المراد عدم العلم بحكمه؟ أو الجامع بينهما؟ وجوه :
فمجموع محتملات
الرواية خمسة.
وملخص القول فيه :
انه لو كان المراد من الموصول الفعل كان الظاهر من لا يعلمون الجهل بعنوان الفعل
واحتمال ارادة الجهل بحكمه أو الجامع خلاف
الظاهر ، لظهور
الوصف في كونه وصفا بحال نفس الموصوف لا متعلقه.
وتوجيه ارادة
الجهل بالحكم أيضاً بان يقال ان الجهل بالشىء قد يكون باعتبار صدوره ، وقد يكون
باعتبار عنوانه ، ومن الواضح ان عدم العلم والجهل ، إنما هو بالاعتبار الثاني ،
وإذا كان التقدير هو العنوان وكان معنى حديث الرفع رفع ما لا يعلم عنوانه ، فليكن
العنوان اعم من الذاتي والعرضي فحينئذ يكون المراد كل جنس فعل كالشرب مثلا لم يعلم
عنوانه الذاتي كما إذا لم يعلم انه شرب خمر أو شرب ماء ، أو لم يعلم عنوانه العرضى
كان لم يعلم انه حرام أو مباح فهو مرفوع.
غير صحيح لان
المراد من الرفع التشريعي ، فمعنى رفع الموضوع الخارجي ، رفع حكمه ، فلا بد فيما
يستند إليه الرفع ، ان يكون ذا حكم شرعي حتى يكون معنى رفعه رفع حكمه.
ومن المعلوم ان
الموضوع للاحكام ، إنما هو أنواع الأفعال لا اجناسها فطبيعي الشرب لا يكون متعلقا
لحكم حتى يستند الرفع إليه ، بل الحكم مترتب على انواعه ، فلا بد وان يكون المراد
من الموصول نوع الفعل الذي هو متعلق الحكم حتى يرتفع حكمه.
وبعبارة أخرى :
بعد كون المراد من الرفع ، رفع الحكم لو كان المراد من الموصول نوع الفعل يكون
الرفع مستندا إليه ، ولو كان المراد جنسه لكان مستندا إلى نوعه ومحتاجا إلى تقدير
النوع وكلما دار الأمر بين التقدير وعدمه يكون عدمه اظهر ، واوفق بالقواعد.
وعليه فالمراد من
الجهل الجهل يتحققه ، لا بعنوانه ، فلا يكون المراد من لا
يعلمون الجهل
بعنوان الفعل.
فيدور الأمر بين
احتمالات ثلاثة :
الأول : ارادة
الفعل من الموصول فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية.
الثاني : ارادة
الحكم منه.
الثالث : ارادة
الجامع بينهما فيعم كلتا الشبهتين.
وقد استدل لان
المراد منه الفعل بوجوه :
احدها : ما أفاده
الشيخ الأعظم ، وهو وحدة السياق ، إذ المراد من الموصول في سائر الجملات
، هو الفعل كما هو واضح ، فيكون مقتضى وحدة السياق ، ارادته من الموصول في هذه
الجملة أيضاً.
وفيه : ان لفظة ،
ما ، تكون من الموصولات والالفاظ المبهمة المستعملة دائما في معنى واحد سواء اريد
بها الفعل ، أو الحكم ، والاختلاف إنما يكون في المراد الجدى لا في المستعمل فيه ،
ووحدة السياق إنما تصلح ان تكون معينة للمستعمل فيه ، لا المراد الجدى.
وبالجملة : وحدة
المستعمل فيه التي توجب وحدة السياق مفروضة في المقام ، واما تعيين المصداق ،
والمراد الجدى ، بملاحظة تعينه في سائر الجملات ، فلا تكون وحدة السياق صالحة
لذلك.
__________________
مع انه لو سلم ان
وحدة السياق تعين المراد الجدي ، فإنما هو فيما إذا كان القيد الثابت شرعيا ، كما
إذ رتب الحكم على جملة أمور ، وقيد عدة منها بقيد شرعا ، يستكشف بمقتضى وحدة
السياق ، تقيد الجميع بذلك القيد ، واما لو كان القيد الثابت لتلك الامور عقليا لا
بحكم الشارع ، فلا وجه للحكم بان وحدة السياق تدل على تقيد غيره به كما هو واضح ،
والمقام من قبيل الثاني إذ ارادة الفعل بخصوصه من لفظة ـ ما ـ في سائر الجمل ،
إنما تكون لأجل عدم تعقل تعلق العناوين المذكورة في صلتها ، من الاضطرار ـ والاكراه
ـ وما لا يطاق بالحكم ، فلا وجه للحكم بارادة الفعل من جملة ما لا يعلمون.
ثانيها : ان الرفع
لا بد وان يستند إلى ما فيه الثقل ، ومن الواضح ان الحكم ليس فيه ثقل بل إنما هو
يوجب الثقل ، فالثقل إنما يكون في الفعل ، باعتبار ان اتيان الفعل بعنوان كونه
ملزما عليه شاق ، أو باعتبار ان الاتيان به على خلاف مقتضى الطبع خوفا من العقاب
شاق وثقيل على المكلف ، فالرفع يستند إليه لا إلى الحكم.
وفيه : ان الرفع
إنما يكون في مقابل الوضع ، فكلما يصح اسناد الوضع إليه ، يصح اسناد الرفع إليه
ومن الواضح ، ان الحكم الشرعي مما يكون قابلا لاسناد الوضع إليه ، فكذلك يستند
الرفع إليه. مع انه لو سلم اعتبار كون المرفوع ثقيلا ، فلا يكون مختصا به ، بل كما
يصح اسناده إلى ما فيه الثقل ، يصح اسناده إلى الموجب له ، وإلى ما هو اثره وهو
المؤاخذة كما لا يخفى.
ثالثها : انه لا
شبهة في شمول الحديث للشبهات الموضوعية ، فالموصول اريد به الفعل يقينا ، فلو اريد
به الحكم أيضاً لزم استعماله في معنيين ، وهو لا يجوز.
وفيه : أولا : انه
لو اريد به الجامع بينهما ، المنطبق على الفعل تارة ، وعلى الحكم أخرى ، وكان
الاختلاف في المصداق ، دون المفهوم ، لا يلزم المحذور المذكور.
وثانيا : انه
ستعرف انه لو اريد به الحكم ، كان الحديث شاملا للشبهتين.
رابعها : ما أفاده
الشيخ الأعظم ، وهو ان ظاهر الحديث رفع المؤاخذة ، ومن الواضح ان
المؤاخذة إنما تكون على الفعل أو الترك ، ولا معنى للمؤاخذة على الحكم ، فتقديرها
يوجب ارادة الفعل من الموصول.
وفيه : مضافا إلى
ما مر من عدم تقديرها ، وان المرفوع هو نفس ما لا يعلم اريد به الحكم أو الفعل ،
لان الرفع تشريعي لا تكويني.
انه قد مر ان
المؤاخذة لا تقدر بنفسها فانها من الآثار العقلية ، بل المرفوع منشؤها ، وهو وجوب
الاحتياط ، وعرفت انه من مقتضيات الحكم ، لا الفعل فهذا الوجه لو تم لاقتضى ارادة
الحكم من الموصول لا الفعل.
خامسها : ما أفاده
المحقق الخراساني في التعليقة وحاصله ان اسناد الرفع
__________________
إلى الحكم حقيقي ،
وإلى الفعل مجازى لكونه اسنادا إلى غير ما هو له ، إذ لا معنى لرفع الفعل ،
فالمرفوع حكمه.
فلو اريد من
الموصول الفعل كان الاسناد في جميع الجملات مجازيا لارادة الفعل من الموصول فيها
قطعا.
ولو اريد منه
الحكم كان الاسناد بالاضافة إليه حقيقيا وبالاضافة إلى سائر الجمل مجازيا.
وحيث ان الرفع في
الحديث اسند إلى المجموع ، باسناد واحد لزم ان يكون حقيقيا أو مجازيا ، ولا يعقل
ان يكون بالنسبة إلى بعضها حقيقيا وبالنسبة إلى بعض آخر مجازيا ، وحيث انه بالنسبة
إلى سائر الجملات يكون مجازيا فلا بدّ وان يراد من الموصول في هذه الجملة ، الفعل
ليكون بالنسبة إليها أيضاً مجازيا.
وفيه : أولا ان
منشأ هذا التوهم هو الخلط بين الرفع التكويني والتشريعي ، حيث انه لا يصح رفع
الفعل تكوينا فلو اسند الرفع إلى الفعل لا محالة يكون المرفوع في الحقيقة هو حكمه
، ولكن الرفع التشريعي الذي هو المراد من الحديث فتعلقه بالفعل واخراجه عن عالم
التشريع ممكن حقيقة.
توضيح ذلك ان
الصفات التعلقية كالشوق والحب ، وكذلك الاعتباريات لا يعقل ان تتحقق إلا مضافة إلى
الماهيات وتلك الماهيات تتحقق بنفس تحقق هذه الامور نظير تحقق الماهية بالوجود
الخارجي والذهني ، فوجودها إنما يكون بوجود هذه واعدامها باعدام هذه نظير اعدام
الماهية في الخارج ، فانه إنما يكون باعدام الوجود.
وعلى الجملة الرفع
التشريعي نسب إلى الفعل حقيقة كما ينسب إلى الحكم كذلك فانه عبارة عن عدم جعل
الفعل متعلقا للاعتبار التشريعي ، نظير لا صيام في السفر ، ولا ربا بين الوالد
والولد وما شاكل ، فالاسناد بالنسبة إلى جميع الجملات حقيقي ، وان اريد بالموصول
الفعل.
وثانيا : انه لو
سلم كون اسناد الرفع إلى الفعل مجازيا يكون اسناد الرفع إلى التسعة مجازيا ، حتى
لو اريد من الموصول فيما لا يعلمون ، هو الحكم لان اسناد الرفع إلى الحكم وان كان
حقيقيا ، ولكنه بالنسبة إلى اللب والتحليل ، والميزان في كون الاسناد حقيقيا أو
مجازيا ، إنما هو الاسناد الكلامي ، لا الاسناد التحليلي ، وليس في الكلام إلا اسناد
واحد بحسب وحدة الجملة ، وهو اسناد الرفع إلى عنوان جامع بين جميع المذكورات وهو
عنوان التسعة ، ومعلوم ان الاسناد الواحد إلى المجموع المركب مما هو له ، ومن غير
ما هو له اسناد إلى غير ما هو له ، وعليه فاسناد الرفع إلى التسعة مجازى ، وان
اريد من الموصول في جملة ما لا يعلمون الحكم.
وان ابيت عن ذلك
وقلت انه ينحل إلى اسنادات عديدة ، فلا مانع من كون هذا الاسناد حقيقيا بالنسبة
إلى بعض التسعة ومجازيا بالنسبة إلى بعض آخر أي باعتبار كونه متعلقا بالحكم حقيقيا
وباعتبار كونه متعلقا بالفعل مجازيا.
واما الاحتمال
الثاني وهو ان يكون المراد من الموصول الحكم ، فلا محذور فيه سوى انه لاوجه
للالتزام به في مقابل ارادة الفعل ، وإلا فيمكن ان يبنى على ارادته منها مع شمول
الحديث للشبهات الموضوعية والحكمية معا بان يبنى على الإطلاق من حيث المنشأ.
ودعوى انه في
الشبهة الموضوعية حيث لا يكون الحكم حقيقة مجهولا ، بل المجهول هو انطباق الموضوع
على المشكوك فيه ، وينسب الجهل إليه بالعرض ، وإلا فالحكم في الحقيقة معلوم ،
فيكون خارجا عن مورد الرواية إذ الرفع حكم لما كان الحكم حقيقة مجهولا.
مندفعة : بان ذلك
وان كان يتم فيما إذا كان التكليف بنحو صرف الوجود ، ولم يدع جريان البراءة فيه
احد ، كما إذا كان وجوب الصلاة إلى القبلة معلوما ، وشك في كون جهة قبلة فانه لا
مورد للبراءة ، ولا يتم فيما إذا كان التكليف انحلاليا نظير حرمة شرب الخمر ، فان
كل فرد من أفراد الخمر محكوم بحكم غير أحكام سائر الأفراد ، فلا محالة يكون الشك
في المصداق شكا في الحكم حقيقة.
فالمتعين هو
الاحتمال الثالث ، أي ارادة الجامع بين الحكم والفعل ، وتقريبه ان لفظة (ما) من
الموصولات وموضوعة لمفهوم جامع بين جميع الأشياء نظير لفظ الشيء المنطبق ، على
الفعل تارة ، وعلى الحكم أخرى ، ومقتضى الإطلاق ارادة ذلك ، فان عدم إمكان ارادة
غير الفعل من لفظة ما في سائر الجمل لا ينافى ارادته منها في هذه الجملة.
فان قلت انه من
ارادتهما معا يلزم الجمع بين الاسناد الحقيقي والمجازي ، حيث ان اسناد الرفع إلى
الفعل اسناد مجازى إذ المرفوع في الحقيقة حكمه ، وإلى الحكم حقيقي ولو كان المراد
من الموصول هو الاعم لزم اجتماع اسنادين وهو غير معقول.
اجبنا عنه بما
تقدم مفصلا فراجع.
وعليه فالحديث
يشمل الشبهة الحكمية ، والموضوعية معا.
ثم ان بعض الاعاظم
افاد انه يمكن القول بشمول الحديث لكلتا الشبهتين ، مع فرض كون المراد من الموصول
هو فعل المكلف ، بان يقال ان المراد هو الفعل بما انه متعلق التكليف فحينئذ الشك
فيه كما يمكن ان يكون باعتبار الجهل بعنوانه الذاتي ، يمكن ان يكون باعتبار الشك
في حكمه مثلا ، شرب المائع الخارجي قد يكون مجهولا بعنوانه الذاتي ، وهو كونه شرب
الخمر الملازم للجهل بحكمه ، وقد يكون عنوانه الذاتي معلوما ، والجهل ، إنما يكون
في وصفه العرضى وهو الحرمة فهو بكل اعتبار تعلق به الجهل مرفوع.
وفيه : ان العنوان
الذي يحتمل كونه مرادا من الموصول ان اخذ مرآتا إلى المتصف به وهو الذات أي فعل
المكلف ، رجع ذلك إلى ارادة الفعل منها ، وان اخذ في الموضوع باعتبار نفسه رجع إلى
ارادة الحكم منها ، وان اخذ باعتبار كليهما رجع إلى ما اخترناه.
الجهة الثالثة :
في شمول الحديث للاحكام الضمنية والكلام في هذه الجهة موكول إلى مبحث الأقل
والأكثر الارتباطيين وسيظهر لك جريان البراءة فيها.
الجهة الرابعة :
الظاهر اختصاص الحديث بالاحكام التكليفية وعدم جريانها في الوضعيات إذ لو لم يعلم
سببية معاملة خاصة وامضائها شرعا كان موردا لأصالة الفساد ولا معنى لاجراء حديث
الرفع فيها فانه ان اريد اثبات امضائها فالحديث لا يصلح لذلك ، وان اريد رفعه لم
يكن فيه منّة ، وان شك في
__________________
جزئية شيء أو
شرطيته لمعاملة خاصة ولم يكن لدليلها إطلاق مقتضي لعدم الاعتبار ، فحيث ان شأن
حديث الرفع رفع الحكم أو الوضع المتعلق بالمجموع من المعلوم والمجهول ، وامضاء
المشتمل على المشكوك اعتباره لا شك فيه ، فلا معنى لرفعه ، ورفع جزئية المشكوك
اعتباره وحدها لا يمكن كما ستعرف.
في جريان البراءة في الأحكام غير الالزامية وعدمه
ثم انه لا ريب في
اختصاص البراءة العقلية بموارد الشك في التكاليف الالزامية كما لا يخفى.
واما البراءة
الشرعية ففي اختصاصها بها خلاف.
ثالثها : التفصيل
بين ما لو شك في التكليف الاستقلالي وما لو شك في التكليف الضمنى ، فتجرى في
الثاني دون الأول.
وهو الاظهر : لأنه
في موارد الشك في التكاليف الاستقلالية ما يكون قابلا للرفع إنما هو حسن الاحتياط
لما عرفت من ان رفع التكليف في الظاهر إنما هو رفع للاحتياط ، فان كان الشك في
التكليف الالزامي ، فالمرفوع ايجاب الاحتياط ، وان كان في غير الالزامي ، فالمرفوع
إنما هو استحبابه وحسنه ، وحيث ان الاحتياط حسن ومستحب على كل حال ، ويعلم عدم
ارتفاعه فالتكليف غير الالزامي المحتمل غير مرفوع ظاهرا.
واما في مورد الشك
في التكليف الضمنى ، فبما ان تقيد المستحب بالقيد المجهول مشكوك فيه فلا مانع من
شمول الحديث له لنفيه ، واثبات عدم التقييد
ظاهرا ، فيكون
المرفوع هو الوجوب الشرطي ، المترتب عليه عدم جواز الاتيان بالفاقد للشرط بداعي الأمر.
عنوان الخطأ والنسيان من العناوين المرفوعة
الموضع الثالث :
في سائر جملات الحديث.
وحيث انها على
اقسام ثلاثة ولكل منها آثار خاصة كما ستعرف فالكلام يقع في موارد.
الأول : في الخطأ
والنسيان وقبل الشروع في البحث فيهما ينبغى ان يعلم ان النسيان عبارة عن الذهول
وانمحاء صورة الشيء عن صفحة الذهن في مقابل الحفظ ، ولازم ذلك ترك الفعل ، واما
اتيان شيء آخر مكان المنسى ، فهو لا يستند إلى النسيان ، إذ لا يعقل ان يكون ذهول
شيء عن الذهن وانعدامه علة باعثة لايجاد شيء آخر كيف ومن مبادى وجود الشيء حضوره
عند النفس ، بل وجود شيء آخر مكانه مستند إلى ارادته بما لها من المبادئ ، مثلا لو
نسى خمرية المائع ، وتخيل انه ماء فشربه ، نسيان الخمرية لا يصير علة لشربه ، بل
العلة له ارادة شرب الماء.
فعلى هذا يختص
النسيان بالواجبات بان يتعلق النسيان بها فيتركها ، ولا مورد له في المحرمات إذ ارتكاب
المحرم لا يمكن بسبب النسيان.
واما الخطأ فهو
عبارة عن إيجاد شيء مع عدم تعلق القصد به بان يكون
القصد متعلقا
بايجاد شيء ويقع شيء آخر وهو على قسمين شبه العمد والخطاء المحض ، والاول عبارة
عما لو أتى بفعل وقصد عنوانا وتحقق شيء آخر ، كما لو ضرب زيدا بقصد التأديب فمات ،
ولم يكن يحتمل ان يموت ، والثاني عبارة عما لو قصد فعلا ولم يتحقق ذلك ، ووقع فعل
آخر كما لو قصد رمي صيد فأصاب انسانا وقتله ، وكلا القسمين يختصان بالمحرمات ولا
مورد لهما في الواجبات إلا في التكليف الضمني بايجاد المانع خطأً.
ثم ان المنّة في
رفعهما مع ان ترك الواجب وفعل الحرام في موردهما خارجان عن سوء اختيار المكلف ،
ولا مقتضى للوضع ، إنما هو من جهة مقدورية المقدمة وهي التحفظ ، وعلى ما ذكرناه.
ما أفاده المحقق
النائيني (ره) ، فيما لو نسي الصلاة في تمام الوقت من انه لو نسيها بما
انه لم يصدر منه امر وجودي قابل للرفع فلا يشمله الحديث.
يرد عليه مضافا
إلى ما سنذكره ، ان النسيان تعلق بالصلاة فتركها فالمنسي هو الصلاة فيرتفع وجوبها.
وكيف كان فالكلام
في المورد الأول ، وهو الخطأ والنسيان يقع في مقامين.
أحدهما : في
الأحكام التكليفية.
ثانيهما : في
الأحكام الوضعية.
اما المقام الأول
: فالكلام يقع تارة في التكاليف الاستقلالية.
__________________
واخرى في التكاليف
الضمنية.
اما التكاليف
الاستقلالية ، فحيث ان متعلق التكليف في المحرمات بحسب الغالب الطبيعة السارية ،
وفي الواجبات صرف وجود الطبيعة ، وعرفت ان النسيان مختص بالواجبات والخطأ
بالمحرمات.
فالكلام في موضعين
:
اما في المحرمات
فسقوط التكليف بعروض الخطأ على فرد كما لو شرب الخمر خطأ ، لا اشكال ولا كلام فيه.
واما في الواجبات
فلو عرض النسيان على فرد من الواجب كما لو نسي الاتيان بالصلاة في ساعة من الوقت
لا يكون ذلك الفرد مشمولا للحديث ولا يرتفع الحكم المتعلق بالصلاة في المثال إذ ما
تعلق به التكليف وهو طبيعي الصلاة الواقعة ما بين المبدأ والمنتهى لم يطرأ عليه
النسيان ، وما طرأ عليه النسيان وهو الفرد لا يكون متعلق التكليف.
نعم لو طرأ
النسيان على الطبيعة كما لو نسي الصلاة في تمام الوقت كان التكليف ساقطا.
واشكل المحقق
النائيني في ذلك بان شأن حديث الرفع إنما هو تنزيل الموجود منزلة
المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لأنه يكون وضعا لا رفعا ، فلو نسي الصلاة
فبما انه لم يصدر منه امر وجودي قابل للرفع فلا يشمله
__________________
الحديث.
وفيه : ما تقدم من
ان لسان الحديث ليس هو التنزيل وإلا كان وضعا لا رفعا ، من غير فرق فيه بين تنزيل
المعدوم منزلة الموجود أو العكس ، بل شأن الحديث إنما هو رفع الحكم ، وهو قابل
لتعلقه بالفعل كما في الصلاة المنسية.
واما التكاليف
الضمنية ، فالكلام تارة في نسيان جزء أو شرط في فرد ، واخرى في نسيانه في المأمور
به وهو الطبيعة ما بين المبدأ والمنتهى ، وثالثة في إيجاد المانع.
اما الأول فلو نسي
فترك جزءا أو شرطا في فرد ، فقد عرفت ان الحديث لا يشمله لان متعلق التكليف هو
الطبيعة ومتعلق النسيان هو الفرد مع ان المعتبر هو تعلق النسيان بما هو متعلق
التكليف.
وقد يقال ان هذا
يتم في غير الصلاة ، ولا يتم فيها بناء على حرمة ابطالها ووجوب الاتمام ، إذ معنى
وجوب الاتمام تعين الطبيعة المأمور بها في الفرد ، وعليه فيكون الفرد مامورا به
فلو نسى جزءا منه يكون متعلق النسيان عين متعلق التكليف.
ويرد عليه انه
لاوجه لارجاع الامرين إلى امر واحد ، بل الأمر بالطبيعة ، والامر باتمام الفرد على
تقدير الشروع في الصلاة أمران مستقلان ، لكل منهما إطاعة مستقلة وعصيان كذلك ، وكل
منهما ناش عن مصلحة خاصة غير مربوطة بما في متعلق الآخر من المصلحة.
نعم يرتفع بالحديث
حرمة الابطال من ناحية ترك المنسى ، وهذا نظير ما
إذا وقع احد
الأفراد متعلقا للنذر ، ونسى اتيان الجزء في ذلك الفرد ، فانه يرتفع الوجوب
المدلول للأمر النذرى دون وجوب الصلاة.
واما الثاني : كما
لو كان نسيان الجزء أو الشرط مستوعبا للوقت ، فالظاهر شمول الحديث له ، غاية الامر
ان الجزء وكذا الشرط ، بما انه ليس متعلقا لحكم مستقل بل هو متعلق حكم ضمنى ورفع
ذلك إنما يكون برفع الأمر بالمركب والكل كما ان وضعه إنما يكون بوضعه ولا يعقل
الرفع بدونه ويرتفع به التكليف المتعلق بالمركب المشتمل على المنسى.
واما الفاقد
للمنسى فثبوت التكليف متعلقا به يحتاج إلى دليل ، والحديث لا يدل عليه لعدم كونه
في مقام الوضع.
وعن المحقق
النائيني الاشكال في شمول الحديث للمورد بأنه لا محل لورود الرفع
على الجزء المنسى ـ كالسورة في الصلاة ـ لان شان الرفع تنزيل الموجود منزلة
المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لأنه إنما يكون وضعا لا رفعا ، وفي مورد
نسيان الجزء لخلو صفحة الوجود عن الجزء لا محل لورود الرفع ، أضف إليه انه لا
يترتب اثر شرعي على المنسى حتى يرتفع بالحديث ، لان جزئية الجزء لا تكون منسية
وإلا كان ذلك من نسيان الحكم لا نسيان الموضوع فلا تكون مرفوعة بالحديث.
ويرد على ما أفاده
أولا ما تقدم من ان شان الحديث ليس هو التنزيل وإلا كان ذلك وضعا ، بل يرفع حكم ما
تعلق به النسيان.
__________________
ويرد على ما أفاده
ثانيا ان النسيان وان لم يتعلق بالجزئية بل تعلق بإتيان الجزء ، ولكن معنى رفع
الجزء رفع حكمه ، ولا يعتبر في شمول الحديث تعلق ما فيه من العناوين في الحديث
بالحكم ، بل بعضها كالاضطرار والاكراه لا يعقل تعلقه به كما لا يخفى.
فالمتحصّل شمول
الحديث للجزء والشرط إذا تعلق النسيان بهما وكان النسيان مستوعبا للوقت ، ويترتب
عليه رفع الأمر بالمركب والكل ، ولا يثبت به الأمر بالفاقد للمنسى لعدم كونه في
مقام الوضع.
وما أفاده المحقق
صاحب الدرر (ره) من ان الحديث إنما يرفع الجزئية والشرطية والامر بسائر
الاجزاء يكون باقيا قد عرفت ما فيه.
وحاصله ان الجزئية
، والشرطية إنما تنتزعان ، من الأمر الضمني المتعلق بالقيد أو التقيد ، وحيث ان
ذلك الأمر لا ثبوت له استقلالا ، بل بتبع ثبوت الأمر بالكل ، فحدوثه وبقائه تابعان
لحدوث ذلك وبقائه فلا محالة يكون المرفوع هو الأمر بالمركب ، وتعلق الأمر ببقية
الاجزاء والشرائط يحتاج إلى دليل آخر ، والحديث لا يكون متكفلا لبيانه.
نعم ، في خصوص
الصلاة دل الدليل على ذلك.
فان قيل ان وجوب
القضاء في خارج الوقت من آثار الاخلال بالواجب أو ببعض ما اعتبر فيه ، فلو اخل
بجزء أو شرط نسيانا يكون ذلك الأثر أيضاً مرفوعا بالحديث وليس معنى الصحة إلا ذلك.
__________________
اجبنا عنه بان
وجوب القضاء من آثار فوت الواجب في الوقت ، وهو لا يرتفع بالحديث ، فالحكم بعدم
وجوب القضاء لا يمكن إلا بواسطة الحكم بصحة المأتي به الفاقد للمنسي المتوقف على
اثبات الأمر به ، وقد عرفت ان الحديث لا يثبت ذلك.
ودعوى ان لازم ما
ذكر من جهة انه يجري في جملة ما لا يعلمون ، جميع ما أفيد انه لو كانت جزئية شيء
مجهولة ، وأجرينا الحديث فيها ، سقوط الأمر بالكل ولم يلتزم به احد.
مندفعة : بان
النسيان أو الخطأ يوجب الرفع واقعا فيجري فيه ما ذكرناه ، واما في مورد الجهل
فالامر المتعلق بالمجموع باق على حاله وإنما يرفع وجوب الاحتياط ، وحيث ان التكليف
بسائر الاجزاء معلوم ، وبهذا الجزء مشكوك فيه فبالنسبة إلى هذا الجزء يرفع التكليف
ظاهرا ، وبالنسبة إلى غيره يكون التكليف باقيا فلا وجه لرفعه ظاهرا كما لاوجه له
واقعا وتفصيل ذلك في مبحث الاشتغال ، في الأقل والأكثر الارتباطيين.
واما الثالث : فعن
المحقق النائيني بعد الاشكال في شمول الحديث للجزء أو الشرط المنسي انه
يشمل المانع ، وانه في صورة إيجاد المانع خطأً يصح التمسك بحديث الرفع.
وهذا منه (قدِّس
سره) مبني على ان يكون لسان الحديث نفي الموضوع ورفع انطباقه على فرده ، نظير لا
شك لكثير الشك إلا ان المبنى ضعيف كما تقدم.
__________________
وحاصله : انه لو
اريد نفي ذات الفعل ليكون معناه ان الفعل الخطأ كالعدم فالتكلم الصادر خطأً ، ليس
بكلام شرعا ، فهو خلاف ظاهر الدليل ، وان اريد به نفى الفعل المعنون بهذا العنوان
فهذا لا يتصور له معنى ، إلا عدم كونه متعلقا للحكم الشرعي فضعف هذا واضح.
مع انه يرد عليه
ما اورده (قدِّس سره) على شمول الحديث للاجزاء والشرائط من ان الجزئية أو الشرطية
غير منسية فلا وجه لرفعها بالحديث : فانه يجري هذا الكلام بعينه في المانع إذ لم يتعلق
العنوان بالمانعية ، بل اوجد المانع خطأ.
ودعوى انه يمكن
القول بعدم ابطال المانع المأتي به خطأً للعمل ، بدعوى ان ما تحقق ليس بفعل لحديث
الرفع فلا يكون مبطلا.
قلت قد عرفت في
بعض المقدمات ان لسان الحديث ليس نفى الموضوع وعدم انطباقه على الفرد بل لسانه رفع
الحكم خاصة ، وفي الاتيان بالمانع خطأً ليس هناك شيء قابل للرفع سوى التكليف
الضمني المتعلق بعدمه وقد مر ان رفع ذلك إنما يكون برفع الحكم المتعلق بالكل ،
فالمرفوع إنما هو التكليف المتعلق بالمجموع ، واما ثبوته متعلقا بباقي الاجزاء
فيحتاج إلى دليل آخر.
فظهر من مجموع ما
ذكرناه انه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الاجزاء والشرائط لنسيان أو اكراه
أو ما شاكل بحديث الرفع ولذلك لم ينقل عن فقيه من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة
الصلاة وغيرها من سائر المركبات بل افتاء القوم في الصلاة بالفرق بين كون المنسي
من الاركان ومن
__________________
غيرها بالالتزام
بالصحة في خصوص الثاني أقوى شاهد على ان مستندهم ليس هو حديث الرفع بل هو حديث (لا
تعاد الصلاة) إذ لو كان المدرك هو حديث الرفع لم يكن فرق بين الاركان
وغيرها.
هذا كله في
الأحكام التكليفية.
واما الأحكام
الوضعية كالعقود والايقاعات ، فلا مجال لجريان حديث رفع الخطأ والنسيان فيها :
وذلك فيما إذا تعلق النسيان بعنوان المعاملة واضح : لما عرفت في ما تقدم من ان
حديث الرفع إنما يجري في الامور التي لا يعتبر في تحققها عنوان العمد والقصد وفي
العقود والايقاعات يعتبر ذلك.
مع ان ما يمكن
رفعه في الوضعيات ليس إلا امضاء الشارع ، والحكم بلزوم الوفاء ، وعليه فما تحقق ،
في الخارج اما لا يترتب عليه ذلك فلا اثر كي يرفعه الحديث ، واما يترتب عليه
فالحديث ان رفعه كان خلاف المقصود ، وان اريد اثبات الامضاء له به ، فيرده انه غير
مربوط بلسان الحديث فان لسانه الرفع لا الوضع.
وبهذا يظهر عدم
شمول الحديث لما إذا تعلق النسيان بجزء من المعاملة أو شرط منها.
__________________
الاكراه والاضطرار
المورد الثاني :
في الاكراه والاضطرار وما لا يطاق ، وقبل الدخول في البحث لا بد من بيان حقيقة كل
من هذه الثلاثة :
اما الاكراه فهو
عبارة عن حمل الغير على ما يكرهه ، ويعتبر في صدقه أمور :
منها : ان يكون
بحمل الغير فلو فعل فعلا لترضية خاطر الغير من غير حمله عليه لا يصدق الاكراه ،
كما انه لو حمله حيوان لا يصدق الاكراه.
منها : ان يكون
حمل الغير مقترنا بالوعيد ، ولو بالالتزام فلو حمله الغير مع وعده بالنفع لا يصدق
الاكراه.
منها : ان يكون
الضرر المتوعد به مما لا يكون مستحقا عليه فلو حمله عليه ووعده على ما يستحقه من
القصاص ، أو طلب الدين لا يكون مكرها عليه.
منها : ان يكون
الحمل متعلقا بالفعل نفسه فلو حمله على اعطاء مال وتوقف ذلك على بيع داره لا يكون
بيع الدار مكرها عليه.
منها : ان يكون
الضرر المتوعد به مما يحتمل ترتبه.
واما الاضطرار فهو
عبارة عن الالجاء على فعل أو ترك بحيث يكون مخالفته مشقة وضررا عليه من غير حمل
الغير عليه.
واما ما ما لا
يطاق فهو مع الاضطرار متعاكسان دائما فكل فعل مضطر إليه يكون تركه مما لا يطاق وكل
ترك مضطر إليه يكون فعله مما لا يطاق.
إذا عرفت ذلك
فالكلام يقع : تارة في الأحكام التكليفية. واخرى في الأحكام الوضعية.
اما الأحكام
التكليفية فالكلام فيها قد يكون في الاستقلالية منها ، وقد يكون في الضمنية.
اما التكاليف
الاستقلالية ، فان كان متعلق احد هذه العناوين موافقا لمتعلق التكليف ، كما لو
اكره على الصلاة ، أو كان شرب الخمر مما لا يطاق واضطر إلى تركه فلا يشمله الحديث
لان الظاهر منه كونه في مقام بيان ان مخالفة التكليف مع طرو احد هذه العناوين لا
بأس بها.
أضف إليه ان رفعه
مناف للامتنان والحديث يختص بما في رفعه منَّة كما مر.
واما ان كان
مخالفا له ، فان تعلق بما هو متعلق لحكم تحريمي كما لو اكره على شرب الخمر أو اضطر
إليه سقط التكليف المتعلق به وان تعلق بما هو متعلق لحكم وجوبي فان لم يكن ذلك
مستوعبا للوقت كما لو اضطر إلى ترك الصلاة في ساعة من الوقت ، أو اكره عليه
فالحديث لا يشمله ، فان ما تعلق به التكليف غير ما تعلق به الاكراه أو الاضطرار ،
فان التكليف متعلق بالطبيعي والعنوان متعلق بالفرد والفرد غير متعلق للتكليف.
وان كان مستوعبا
للوقت فالظاهر هو الفرق بين الاكراه والاضطرار.
فانه لو اكره على
ترك الصلاة ، فالحديث لا يشمله لان التكليف متعلق بالفعل والاكراه تعلق بالترك.
نعم ، على القول
بان الأمر بالشىء يقتضي النهي عن ضده العام يصير ترك
الصلاة حراما ،
فيرتفع الحرمة بالحديث ويثبت عدم الأمر بالصلاة ، لكنه خلاف التحقيق.
واما لو اضطر إلى
ترك الصلاة فمن حيث الاضطرار وان كان يجري فيه ذلك لكن الاضطرار ملازم لكون الصلاة
مما لا يطاق ، فيشملها هذه الجملة من الحديث ، وتدل على سقوط وجوب الصلاة ، ولا
يبعد دعوى دلالة بعض الروايات على ان مخالفة التكليف عن اضطرار لا بأس بها ، كما
لا مانع من التمسك بحديث لا ضرر على رفع الوجوب كما هو واضح.
وبذلك يظهر الحال
فيما إذا تعلق احد هذين العنوانين بترك جزء أو شرط من المأمور به.
وان تعلق بالمانع
فحكمه حكم ما إذا تعلق النسيان به الذي عرفت آنفا.
واما في الوضعيات
فلو اكره على معاملة يكون نفوذها مرفوعا بالحديث فلا تكون صحيحة ، واما لو اضطر
إليها كما لو اضطر إلى بيع داره فلا يشمله الحديث لعدم كون رفع الصحة والنفوذ
موافقا للامتنان.
واما لو اكره على
ترك معاملة فلا يمكن الحكم بترتب اثر المعاملة وتحققها ، فان المكره ، عليه غير ما
رتب الأثر عليه فلا يشمله الحديث.
واما لو اضطر إليه
فحيث ان فعل المعاملة يصير مما لا يطاق فقد يتوهم شمول الحديث له لكنه غير تام فان
في رفعه خلاف الامتنان.
وبما ذكرناه يظهر
انه لو اكره على إيجاد معاملة فاقدة للجزء أو الشرط كايجاد النكاح بالفارسي ـ على
القول باعتبار العربية ـ لما امكن الحكم بصحة
هذا النكاح لان ما
وقع لا حكم له ، وما له حكم لم يتعلق الاكراه به.
فان قلت انه يرتفع
شرطية العربية لانها حكم شرعي يمكن القول بارتفاعه.
قلت قد عرفت ان
الشرطية منتزعة من حكم آخر وفي رفعها لا بد من رفع منشأ انتزاعها وهو في المقام
حكم الشارع بنفوذ النكاح إذا وجد عربيا ، ومن البديهى انه غير مرتفع في الفرض ،
لعدم تعلق الاكراه به وإنما هو متعلق بتركه وتعلقه بترك موضوع الحكم لا اثر له كما
عرفت.
فان قلت ان
المترتب على النكاح بالفارسي إنما هو البطلان وهو يرتفع بالحديث.
قلت ان البطلان
ليس حكما شرعيا ، وإنما هو ينتزع من عدم انطباق موضوع الحكم على الموجود الخارجي ،
وعدم تحقق الزوجية إنما يكون من آثار عدم تحقق موضوعها لا تحقق غيره فلا يكون من
آثار ما وقع ليرتفع بالحديث.
الحسد والطيرة و...
المورد الثالث :
في الثلاثة الأخيرة المذكورة في الحديث ، الحسد ، والطيرة والوسوسة في التفكر في
الخلق.
وملخص القول فيها
ان المرفوع فيها إنما هو نفس الحكم المترتب عليه لو لا الرفع.
توضيح ذلك ان
الحسد عبارة عن صفة رذيلة في النفس موجبة لكراهة كون غيره من الاخوان متنعما ، وحب
زوال النعمة عنهم ، أو مقتضاها وأثره ، وهذا من حيث انه يمكن رفعه بالمجاهدات وعدم
التفتيش في أمور الناس والتدبر فيما يترتب عليه من المفاسد الدينية والدنيوية وما
يصل إلى المحسود من المنافع قابل لتعلق التكليف بتحريمه أو وجوب رفعه ، فقد رفعه
الشارع الاقدس ما لم يظهر باللسان أو اليد ولم يتبع.
ويؤيد ذلك النصوص
الكثيرة الواردة في الحسد .
واما الطيرة وهي
التشام بالطير أو غيره وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم ، فقد رفعها الشارع واخبر ، انه
ليس لها التأثير في جلب النفع أو دفع الضرر ، وان هذا المعنى بنفسه وان كان فيه
مقتضى وضع الحرمة لكونه موجبا للشرك واختياري ، إلا ان الشارع إلا قدس رفع الحرمة
عنه ، ما لم يعمل على طبقه ، ويمكن ان يكون المراد برفعه ان الشارع الاقدس لم يمض
ما كان عليه بناء العرف من الالتزام بالصد عن المقاصد عند التطير.
واما الوسوسة في
التفكر في الخلق ، فيمكن ان يكون المراد بها وسوسة الشيطان عند التفكر في مبدأ
الخلق ، وانه من خلق الخالق ونحوه ، وعلى أي تقدير فقد رفع الشارع حرمتها وحكمها ،
وتمام الكلام في كل واحد من هذه الثلاثة موكول إلى محل آخر.
__________________
الاستدلال للبراءة بحديث الحجب
ومما استدلوا به
للبراءة من السنة حديث الحجب الذي رواه الصدوق في كتاب التوحيد في باب التعريف والبيان والحجة والهداية
والكليني (قدِّس سره) في الكافي في باب حجج الله على خلقه ، وهو مذكور في الوسائل باب ١٢
من ابواب صفات القاضي ، وهو خبر ابي الحسن زكريا بن يحيى عن ابي عبد الله (ع)
قال : " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ، وفي الكافي اسقط كلمة
علمه".
وتقريب الاستدلال
به ان حرمة ما يشك في حرمته كشرب التتن علمها محجوب عن العباد فتكون موضوعة عنهم.
وأورد على
الاستدلال به بايرادات :
١ ـ ان المراد من
كلمة ما ان كان هو الفعل فالحديث مختص بالشبهة الموضوعية ، وان كان هو الحكم يختص
بالشبهة الحكمية أو يعم كلتا الشبهتين على ما تقدم ، وحيث ان ارادتهما معا مستلزمة
لاستعمال اللفظ في اكثر من معنى ، ولا قرينة على تعيين احداهما فيصير الحديث مجملا
لا يصح الاستدلال به.
__________________
وفيه : ما تقدم في
حديث الرفع من ان المراد به الجامع كما هو مقتضى الإطلاق ولا يرد محذور.
٢ ـ ما أفاده
الشيخ الحر العاملي في الوسائل وهو ان الحديث مختص بالشبهة الوجوبية ، مدعيا ان قوله (ع)
موضوع عنهم قرينة ظاهرة في ذلك ـ وقيل ـ ان مراده ، ان الوضع عن الشيء مقابل لوضعه
عليه ، وهو يناسب الوجوب إذ الواجب هو الفعل الثابت على المكلف فيناسب رفعه بخلاف
الحرام فان المكلف مزجور عنه لا انه ثابت عليه.
وفيه : ان التكليف
اللزومى بما انه ثقيل على المكلف يكون على المكلف ، ولذلك يتعدى الحرمة بحرف
الاستعلاء كالوجوب ويقال يحرم عليه كما تشهد له الاستعمالات القرآنية حتى في
المحرمات التكوينية لاحظ قوله تعالى : (.. قَالُواْ إِنَّ
اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
٣ ـ ما في الوسائل
أيضاً قال ان هذا الحديث لا ينافى وجوب الاحتياط لحصول العلم به بالنص
المتواتر.
وفيه : ان هذا
الحديث يدل على ان الحكم الواقعي المحجوب علمه عن العباد مرفوع في الظاهر وعرفت ان
المراد من رفع الحكم الواقعي في الظاهر رفع وجوب الاحتياط ، فالحديث دال على عدم
وجوب الاحتياط فيعارض مع
__________________
ادلة الاحتياط لو
تمت دلالتها.
٤ ـ ما أفاده
الشيخ الأعظم ، وتبعه المحقق الخراساني وغيره من المتأخرين عنه بان الظاهر من الحديث بواسطة اسناد
الحجب إلى الله سبحانه ارادة رفع الأحكام التي لم يبينها الله سبحانه لأجل التسهيل
أو لأجل مانع عن البيان مع وجود المقتضي لها ، فيكون الخبر من قبيل قوله (ع)
" اسكتوا عما سكت الله عنه" ، ولا يشمل الحكم الذي بينه ولم يصل الينا واخفاه الظالمون
، وعلى الجملة مفاد هذا الخبر ان الأحكام التي اقتضت المصلحة الالهية اخفاءها ليس
للعباد التعرض لها.
ويرد عليه : ان
الأحكام التي اخفاها الظالمون بما انه لله تعالى ان يظهرها فإذا لم يوصلها إلى
العباد صح ان يقال ان الله تعالى حجبها.
أضف إلى ذلك ان
الحكم لا واقعية له وراء الإبراز والانشاء فما لم يبينه الله تعالى وسكت عنه لا
واقعية له كي يعقل ان يصير علمه محجوبا عن العباد : إذ ما من حكم إلا وبينه الله
تعالى لنبيه وهو لوصيه ولا يعقل وجود الحكم مع عدم البيان رأسا ، فالمراد بما حجب
علمه ليس إلا الأحكام المبينة غير الواصلة إلى العباد أي التي حجب علمها عن العباد
لا انفسها وعليه فدلالة هذا الحديث على البراءة وعدم وجوب الاحتياط في الشبهة
الحكمية تامة.
__________________
إلا ان الذي يرد
عليه انه ضعيف السند بزكريا بن يحيى الذي هو مجهول.
الاستدلال على البراءة بروايات الحل
ومما استدلوا به
على البراءة ، أخبار الحل ، وهو أربعة ، أو ثلاثة :
الأول : ما رواه
في الكافي بسنده عن مسعدة بن صدقة ورواه عنه في الوسائل عن أبي عبد الله (ع) قال سمعته يقول كل شيء هو لك حلال حتى
تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو
سرقة أو المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي
أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.
الثاني : ما رواه
الكليني بسنده عن عبد الله بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر (ع) عن
الجبن؟ إلى ان قال : سأخبرك عن الجبن وغيره كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال
حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.
الثالث : ما رواه
البرقي بسنده عن معاوية بن عمار عن رجل قال : كنت عند ابى جعفر (ع) فسأله رجل عن
الجبن فقال أبو جعفر (ع) : انه لطعام
__________________
يعجبني وسأخبرك عن
الجبن وغيره كل شيء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه .
ويحتمل اتحاده مع
سابقه وان عبد الله بن سليمان رواه عن ابى جعفر ومعاوية رواه عن بعض أصحابنا ويكون
المراد به عبد الله.
الرابع : ما رواه
الصدوق بسنده عن عبد الله بن سنان والكليني بسند صحيح ، راجع الوسائل عن ابى عبد الله (ع) كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال
ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ، هذه هي الروايات الواردة في الباب.
وقد استدل الشيخ
الأعظم (ره) بالخبر الثاني والرابع على البراءة في الشبهة الحكمية ولم
يستدل بموثقة مسعدة ولعل نظره الشريف إلى اختصاص الموثقة بقرينة ما فيها من
الامثلة بالشبهة الموضوعية.
__________________
والمحقق الخراساني
استدل بخصوص الموثقة ولم يستدل بالخبرين ولعل وجهه ظهور قوله (ع) فيهما (فيه
حلال وحرام) في فعلية الانقسام إلى القسمين المختصة بالشبهات الموضوعية لأنه لا
معنى لانقسام المجهول حرمته وحليته إلى القسمين المختلفين.
وقد يقال ان
الظاهر من الكفاية أخذه من الشيخ الأعظم (ره) ، الاستدلال برواية أخرى غير ما تقدم
حيث قال ومنها قوله (ع) كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه.
وعليه فيرده انه
لا وجود لها في كتب الحديث ولكن الظاهر ان نظره الشريف إلى الموثقة وإنما اخطأ في نقل متن الحديث أو ان الناسخ اخطأ.
ثم ان المحقق
الخراساني وان استدل بهذا الخبر في المقام على أصالة الحل ، لكنه في مبحث
الاستصحاب عند بيان ادلته يذكر هذا الخبر وينكر دلالته
__________________
على أصالة الإباحة
، وإنما يدعى ظهوره في كونه واردا في مقام بيان ان حكم الأشياء بعناوينها الاولية
هي الإباحة وانها تستمر إلى ان يعرف خلافها ، فيدل على الإباحة الواقعية
واستصحابها.
وكيف كان فلا بد
من البحث في كل واحد منها.
اما موثق مسعدة
فالكلام فيه يقع في جهتين :
الأولى : انه هل
يدل على اباحة المشكوك حرمته أم لا؟.
الثانية : انه على
فرض دلالته هل يختص بالشبهات الموضوعية أم يشمل الشبهات الحكمية.
اما الجهة الأولى
: فالاحتمالات المتصورة في قوله كل شيء حلال ، اربعة :
الأول : ارادة
الحلية الظاهرية ، فيكون الخبر على هذا في مقام جعل أصالة الإباحة ، ويكون على هذا
ذكر الامثلة في ذيلها المستندة حلية تلك الامور إلى ادلة اخر ، مثل اليد ،
والاستصحاب من باب التنظير لا التمثيل.
الثاني : ارادة
الحلية المستندة إلى دليل آخر غير أصالة الإباحة ويكون الامثلة حينئذ تمثيلا لا
تنظيرا للحلية المحكوم بها.
الثالث : ارادة
الحلية الثابتة في موارد الشك مطلقا ، من غير فرق بين
__________________
أصالة الإباحة ،
والحلية الثابتة باليد وما شاكل.
الرابع : ارادة
معناها اللغوى وهو الارسال وهذا أيضاً ينطبق على الحلية الثابتة باصالة الإباحة
والمستفادة من الدليل.
وبعبارة أخرى :
يكون قوله (ع) كل شيء حلال حاكيا عن الإنشاءات المتعددة الثابتة بعناوين مختلفة ،
ودلالة الموثق على أصالة الحل مبتنية على كون الاحتمال الثاني خلاف الظاهر كما لا
يخفى.
أقول : اما
الاحتمال الأول ، فهو مناف لظهور قوله وذلك مثل الثوب الخ فانه ظاهر في كونه
تمثيلا لا تنظيرا.
واما الاحتمال
الثاني فعن الأستاذ الأعظم تعينه من جهة الغاية المذكورة في ذيله إذ انحصار رافع
الحلية ، في الاستبانة الظاهرة في العلم الوجدانى وفي البينة ، كاشف عن ان الحلية
فيها اريد بها المستندة إلى اليد والاستصحاب ، لا مطلق الحلية المرتفعة بغيرهما
فان الحلية المستندة اليهما لا ترتفع إلا بالعلم والبينة ، وما في بعض الأخبار من
اعتبار خبر الواحد بتحقق الرضاع ، أو النسب يكون معارضا بما يدل على عدم اعتباره ،
واما الاقرار فهو وان كان رافعا للحلية إلا انه خلاف المفروض في الموثق وعليه فهو
اجنبي عن المقام.
وفيه : ان المراد
بالبينة هو معناها اللغوي ، أي ما يتبين به الشيء وهو مطلق الدليل. فالمراد حينئذ
ان الأشياء كلها على الإباحة حتى تستبين وتستكشف انت حرمتها أو تظهر حرمتها من
الخارج بلا تفحص واستكشاف وقد مر
__________________
توضيح ذلك في مبحث
حجية الخبر الواحد.
أضف إلى ذلك ان
الاستبانة لو كانت بمعنى العلم الوجداني يكون دليل ما ثبت حجيته حاكما على الموثق
وموسعا للاستبانة ويكون ذكر البينة بالخصوص من قبيل ذكر الخاص بعد العام.
وقد يقال بتعين
هذا الاحتمال من جهة أن حمله على الاحتمال الثالث أو الرابع مستلزم لحمل قوله كل
شيء حلال على الحكاية عن إنشائات متعددة ، لا على مقام الجعل والتشريع.
وفيه : ان هذا
لازم على كل حال فان المجعول في باب اليد غير المجعول في باب الاستصحاب ، فلا يمكن
جعلهما بدليل واحد ، فيدور الأمر بين الاحتمالين الاخيرين وعلى التقديرين يدل على
المطلوب.
إلا ان الاظهر هو
الاخير اخذا بالعموم ، فيدل الخبر على جعل الإباحة والحلية ، وانه لا يعتنى
باحتمال الحرمة في جميع موارد الشك فيها لمكان جعل الحلية الظاهرية فيها بعناوين
مختلفة.
عدم اختصاص الموثق بالشبهة الموضوعية
واما الجهة
الثانية : فقد استدل لاختصاص الموثق بالشبهة الموضوعية بوجوه :
احدها : ما أفاده
اكثر المحققين وهو ان الامثلة المذكورة فيه من قبيل الشبهة الموضوعية ،
وهذه قرينة أو صالحة للقرينية على الاختصاص بالشبهات الموضوعية.
وان شئت قلت : ان
الإمام (ع) طبق الكبرى الكلية على الشبهة الموضوعية بقوله (ع) وذلك الخ ، وهذا
قرينة الاختصاص أو صالح لتلك.
وفيه : ان جعل هذا
قرينة لعدم كون المجعول في الصدر أصالة الحل ، متين ، وقد بيناه ، واما بناء على
كون الصدر ظاهرا في كونه حاكيا عن إنشائات متعددة فلا يكون التمثيل منافيا له ، بل
يكون حينئذ تمثيلا لبعض أفراد الكبرى الكلية ، ولا محذور في ذلك ، ولا يكون ذلك
قرينة ولا صالحا للقرينية ، مع ، انه لو تم هذا الوجه لزم حمل الصدر على غير أصالة
الحل لا الحلية في الشبهات الموضوعية.
الثاني : ما أفاده
المحققون المشار إليهم آنفا ـ وهو ـ ان حصر الغاية في الاستبانة التي هي بمعنى
العلم الوجداني ، وقيام البينة يدل على ان المراد بلفظ الأشياء في الموثق ما يكون
من قبيل المذكورات في الخبر من الشبهات الموضوعية المحكومة بالحل ، بحكم الاستصحاب
واليد ، فان الرافع في امثال ذلك هو العلم والبينة ، واما الرافع لها في الشبهات
الحكمية ، فهو قد يكون غيرهما من استصحاب الحرمة وخبر الواحد.
__________________
وفيه : ما عرفت من
حجية خبر الواحد في الموضوعات أيضاً ، وعرفت هناك ان المراد بالاستنابة ما هو
الظاهر بنفسه ، والمراد بالبينة ما يظهر بالحجة والبرهان فراجع ما ذكرناه ، وعليه
فلا مورد لهذا الوجه أصلاً.
الثالث : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) والاستاذ الأعظم وهو : ان قوله" بعينه" يشهد بذلك لان العناوين
الكلية كشرب التتن ، اما ان تكون معلومة الحرمة ، أولا تكون ، وعلى الأول فهي
معلومة بعينها ، وعلى الثاني فهي غير معلومة ، واما العلم بكونها محرمة لا بعينها
فهو لا يتحقق إلا في مورد العلم الإجمالي ، مع كون الشبهة محصورة وظاهر انه لا
يحكم فيه بالحلية.
واما الشبهات
الموضوعية فالشك فيها غالبا يلازم العلم بالحرام لا بعينه مثلا من شك في حرمة
المائع خارجي لاحتمال كونه خمرا ، فذلك يلازم غالبا العلم بوجود الخمر خارجا
المحتمل انطباقه على ما في الخارج من المائع المحتمل كونه خمرا ـ وعليه ـ فيكون
الحرام معلوما لا بعينه ، ولكن يكون اطرافه غير محصورة ، ولا يكون هذا العلم موجبا
للتنجز ، فيجوز ان يقال ما هو محل الابتلاء من اطرافه لا يعلم انه حرام بعينه ،
فهذه الكلمة ، قرينة لاختصاص الخبر ببعض موارد الشبهات الموضوعية ، ويثبت في
البقية ، بعدم الفصل ، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية.
__________________
وفيه : ان القيد
إنما يكون مذكورا في الغاية ، ولا يكون شاهدا على ان ما قبل الغاية مقيد بكونه لا
بعينه ، بل يلائم مع العلم بالحرمة لا بعينه ، وعدم العلم بالحرمة كما في الشبهة
الحكمية.
فالحق ان الخبر
يدل على أصالة الإباحة في الشبهات الحكمية والموضوعية جميعا.
واما غير الموثق
من الأخبار الأخر فدلالتها على أصالة الحل واضحة ، إنما الكلام في انه هل يختص تلك
الأخبار بالشبهة الموضوعية كما عليه الشيخ الأعظم وغيره من اساطين الفن ، أم تعم الشبهة الحكمية كما ذهب
إليه شارح الوافية : نظرا إلى ان الظاهر منها ان كل شيء فيه الحلال والحرام
عندك بمعنى انك تقسمه إلى هذين ، وتحكم عليه باحدهما لا على التعيين ، ولا تدرى
المعين منهما فهو لك حلال ، وشمول ذلك لمثل شرب التتن وغيره مما اشتبه حكمه واضح.
وقد استدل
للاختصاص بالشبهة الموضوعية بوجهين :
١ ـ ان كلمة بعينه
الموجودة فيها تشهد بذلك بالتقريب المتقدم.
والجواب عنه ما
مر.
٢ ـ ما أفاده
الشيخ الأعظم ، وهو ان المراد من قوله (ع) فيها (فيه
__________________
حلال وحرام) كونه
منقسما اليهما ووجود القسمين فيه بالفعل ، لا مرددا بينهما إذ لا تقسيم مع الترديد
أصلاً لا ذهنا ولا خارجا ، وذلك لا يتصور إلا في الشبهة الموضوعية ، كالمائع
المشكوك كونه خمرا أو خلا : إذ لا قسمة فعلية في الشبهة الحكمية ، كما لو شك في
حلية شرب التتن فان فيه احتمال الحرمة والحلية لا وجود القسمين فيه.
وأورد عليه بوجهين
:
أحدهما : ما أفاده
المحقق العراقي وهو ان التقسيم الفعلي يتصور في الشبهة الحكمية مثلا اللحم
فيه حلال ، وهو لحم الغنم ، وفيه حرام ، وهو لحم الارنب وفيه مشكوك فيه ، وهو لحم
الحمار الوحشى مثلا ، فإذا عم الحديث هذه الشبهة وحكم بالحلية فيها ، تثبت الحلية
في سائر الموارد بضميمة عدم القول بالفصل.
وفيه : ان الشيخ
يدعى ظهور الأخبار في كون وجود القسمين بالفعل ، منشئا للشك في حلية المشكوك فيه ،
وهذا يختص بالشبهة الموضوعية ، فانه إذا شك في كون شيء ماء أو خمرا ، لا محالة يشك
في حليته ، وحرمته ، ومنشا الشك حرمة الخمر ، وحلية الماء ، إذ لو كانا حلالين ،
أو حرامين ، لما كان هناك شك في الحلية والحرمة ، وهذا بخلاف الشبهة الحكمية ، فان
منشأ الشك فيها ليس وجود القسمين فعلا ، بل فقدان النص ، أو اجماله ، كان القسمان
حلالين ، أم حرامين ، أم مختلفين.
__________________
ثانيهما : ما
أفاده المحقق النائيني ، وهو ان لفظ الشيء ، هو الموجود الشخصي الخارجي لا
المفهوم الكلي ، وحيث انه لا يعقل انقسامه إلى الحلال ، والحرام ، كان ذلك قرينة
على ان المراد من التقسيم هو الترديد فلا يكون اشتماله على التقسيم قرينة على
اختصاصه بالشبهات الموضوعية.
وفيه : ان لفظ
الشيء من الالفاظ التي تطلق ، على جميع الامور ، كليا كان ذلك الأمر ، أم شخصيا ،
بل وان كان ممتنعا كشريك الباري.
مع انه لو سلم
ارادة الموجود الخارجي منه نلتزم بالاستخدام في الضمير في قوله : فيه حلال وحرام ،
والقرينة على هذا الاستخدام نفس التقسيم ، كما اشار إليه الشيخ ، فالاظهر اختصاصها بالشبهة الموضوعية.
الاستدلال بحديث الناس في سعة
ومن ما استدلوا به
على البراءة قوله (ص) ان الناس في سعة ما لم يعلموا هكذا روى في عوالي اللآلي وقد حكى عنه في المستدرك وفي جامع الأحاديث ج ١ ص ٣٢٦.
__________________
وأما خبر السفرة
المروي في الوسائل وهو خبر السكوني عن الإمام الصادق عن أمير المؤمنين (ع) في
السفرة التي وجدت في الطريق وفيها لحم وخبز وبيض وجبن وسكين ـ يقوم ما فيها ثم
يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فان جاء طالبها غرموا له الثمن قيل يا أمير المؤمنين
لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال (ع) هم في سعة حتى يعلموا.
وقريب منه ما في
المستدرك في ذلك الباب عن الجعفريات والدعائم الذي توهم موافقته
معنى مع هذا الخبر ، فهو أجنبي عن المقام فانه يدل على امارية ارض المسلمين لحلية
اللحم المطروح فيها.
والظاهر حجية
الخبر نفسه فانه في عوالي اللآلي نسب الخبر إلى النبي (ص) جزما.
وتقريب الاستدلال
به انه يدل على ان الناس في سعة من ناحية الحكم المجهول ومن الواضح ان الاحتياط لو
وجب لما كانوا في سعة أصلاً.
وأورد عليه الشيخ
بان الإخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم بوجوب الاحتياط من
العقل والنقل.
__________________
وأجاب عنه المحقق
الخراساني (ره) بأنه لو كان وجوب الاحتياط نفسيا تم ما أفيد ، ولكن بما ان
الاحتياط على تقدير وجوبه واجب طريقي لأجل ان لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام
أحيانا فلا يتم فانه وان علم وجوب الاحتياط إلا انه لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد
فكيف يقع في ضيق الاحتياط من اجله.
وأفاد الأستاذ
الأعظم ان ما أفاده الشيخ يتم على تقدير كون كلمة ما مصدرية
زمانية ، إذ المعنى ان الناس في سعة ما داموا لم يعلموا ، فإذا علموا بوجوب
الاحتياط فليسوا في سعة ، واما إذا كانت موصولة فلا يتم فانه يكون مفاده حينئذ ان
الناس في سعة من الحكم المجهول ويكون حينئذ معارضا لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير
تماميتها.
والحق ان يقال ان
الضمير المستتر في لا يعلمون ، يرجع إلى الحكم ، ويكون مفاد الحديث ان الناس في
سعة ما دام لا يعلمون الحكم الواقعي ، لا في سعة من الحكم الذي لا يعلمونه ولا
يعلمون الوظيفة عند عدم العلم به ، ليكون مفاد الحديث مفاد قبح العقاب بلا بيان ،
من غير فرق بين ان تكون كلمة ما مصدرية زمانية أو موصولة مضافا إليها كلمة السعة ،
ومن غير فرق بين كون وجوب الاحتياط طريقيا أم نفسيا.
أضف إليه ان وجوب
الاحتياط على تقدير ثبوته طريقي ، وان الظاهر كون كلمة ما موصولة : إذ ما المصدرية
الزمانية على ما يظهر من موارد استعمالها
__________________
تدخل على فعل
الماضي ، ولا تدخل على فعل المضارع فتأمل : فانه على ما صرح به في شرح الصمدية ،
انها تدخل على المضارع المصدر بلم كما في الحديث لكون الفعل حينئذ ماضيا معنى.
وعلى الجملة
فالحديث على جميع التقادير يدل على كون الناس في سعة من ناحية الحكم الذي لا
يعلمونه ، فيكون معارضا لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها.
الاستدلال برواية الإطلاق
ومن ما استدلوا به
على البراءة قوله (ع) : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، رواه الصدوق في الفقيه انه قال الصادق (ع) : كل شيء ... الخ.
راجع الوسائل باب
١٩ من القنوت وهو مضافا إلى كونه معتبرا من جهة ان الصدوق نسبه إلى
المعصوم جزما.
وقد اعتمد عليه في
اماليه حيث جعل إباحة الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الامامية.
__________________
وصرح في الفقيه في
مبحث جواز القنوت بالفارسي بأنه معتبر قال : لو لا العمومات الدالة على جوازه لكنت أفتي بالجواز
لهذه الرواية فهو معتبر سندا.
وقريب منه خبران
آخران مرويان في المستدرك في ذلك الباب من القضاء أحدهما ما عن أمالي الطوسي وهو قوله الأشياء مطلقة حتى يرد فيها نهى أو أمر ـ والآخر
عن عوالي اللآلي وهو قوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص.
قال الشيخ الأعظم ان دلالته على المطلوب أوضح من الكل وظاهره عدم وجوب
الاحتياط لان الظاهر إرادة ورود النهي في الشيء من حيث هو لا من حيث كونه مجهول
الحكم.
ولعل نظره الشريف
في الاوضحية إلى اختصاصه بالشبهة التحريمية التي هي محل الخلاف بين الأصوليين
والأخباريين ـ ويكون اخص من أخبار الاحتياط فلا شك في تقدمه عليها.
__________________
وكيف كان فقد أورد
على الاستدلال بالحديث في الحدائق والوسائل .
تارة : بأنه خبر
واحد لا يعتمد عليه في الأصول.
وأخرى : بأنه
موافق للعامة فيحمل على التقية.
وثالثة : بحمله
على الشبهة الوجوبية بان يكون المراد حتى يرد فيه نهى عن تركه.
ورابعة : بالحمل
على الشبهة الموضوعية.
وخامسة : بان
المراد ان كل شيء من الخطابات الشرعية يتعين حمله على إطلاقه أو عمومه حتى يرد فيه
نهى يخص بعض الأفراد ويخرجه من الإطلاق ، ولعل نظرهما إلى ان دلالته على ان الأصل
في كلام الشارع الحمل على انه في مقام البيان لا الإجمال والإهمال.
ولكن الخبر الواحد
لا يعتمد عليه في أصول العقائد ، لا في أصول الفقه ، وموافقة العامة من مرجحات
إحدى الروايتين الحجتين على الأخرى عند فقد جملة من المرجحات لا من مميزات الحجة
عن اللاحجة ، والحمل على الشبهة الوجوبية خلاف الظاهر سيما وان ترك الواجب ليس
منهيا عنه ، والحمل على الشبهة الموضوعية يحتاج إلى قرينة ، وإرادة الخطاب من
الشيء لا يلائم مع قوله حتى يرد فيه نهى أي في ذلك الشيء إذ النهي لا يرد في
الخطاب.
__________________
ثم ان المحقق
الخراساني والمحقق النائيني لم يسلما دلالة الخبر على البراءة وذكر كل منهما وجها
لذلك غير ما ذكره الآخر.
أما المحقق
الخراساني فأفاد ان دلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم
أو ما بحكمه بالنهي عنه وان صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد مع انه ممنوع لوضوح
صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفي على من لم يعلم بصدوره
انتهى.
وأما المحقق
النائيني (ره) فأفاد ان مفاد هذه الرواية هو اللاحرجية العقلية الأصلية
قبل ورود الشرع والشريعة فهي أجنبية عن محل الكلام وهو إثبات الإباحة الظاهرية لما
شك في حرمته بعد ورود الشرع وقد حكم فيه بحرمة أشياء وحلية غيرها.
ولكن : الحق مع
الشيخ (قدِّس سره) وان شيئا مما أفاداه لا يتم وقبل بيان ما ذكره المحققان وتوضيحه
وبيان ما يرد عليهما ، لا بد من تقديم مقدمة.
وهي ان الإباحة
لها أقسام ومعان :
احدها : اللاحرجية
الأصلية في قبال الحظر العقلي من جهة كونه عبدا مملوكا ، ـ وبعبارة أخرى ـ الإباحة
المالكية.
ثانيها : الإباحة
الواقعية الشرعية الناشئة عن لا اقتضائية الفعل لخلوه عن المصلحة والمفسدة أو عن
تساويهما.
__________________
ثالثها : الإباحة
الشرعية الظاهرية الثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحلية الناشئة عما يقتضي
التسهيل على المكلف بجعله مرخصا فيه.
ومبنى الاستدلال
به في المقام على دلالته على الإباحة بالمعنى الثالث ، والمحقق النائيني (ره) يدعى
دلالته على الإباحة بالمعنى الأول ، والمحقق الخراساني يدعى دلالته على الإباحة
بالمعنى الثاني.
اما المحقق
النائيني ، فقد قال ان المراد بالإطلاق معناه اللغوي فيكون مفاد
الحديث ان الأشياء بعناوينها الأولية مرسلة حتى يرد من الشارع نهى فيكون أجنبيا عن
المقام.
وفيه : مضافا إلى
ان حمل ما صدر من الشارع من الحكم على عدم كونه مولويا بل على كونه عقليا أو
إرشاديا خلاف الظاهر جدا ، ان بيان اللاحرجية الأصلية الثابتة قبل ورود الشرع
وبيان الحلال والحرام ، وورود حكم من الشارع في كل مورد ، إباحة أو غيرها ، لغو لا
يترتب عليه اثر فلا يصدر من الإمام (ع)
واما المحقق
الخراساني فقد أورد على الشيخ (ره) بأنه لو كان الورود بمعنى الوصول
كان الاستدلال تاما ولكن حيث يحتمل ان يكون المراد منه الصدور لصدقه عليه فلا يثبت
به حينئذ إلا ما ادعيناه.
وفيه : ان المراد
بالإطلاق ليس هو الإرسال وعدم التقييد الواقعي ، كان المراد بالورود هو الوصول أو
الصدور.
__________________
أما على الأول
فلأنه يلزم اختصاص الأحكام بالعالمين والتصويب الباطل.
وأما على الثاني
فلأنه يلزم جعل احد الضدين غاية للضد الآخر ، وهو من الاستهجان بمكان لكونه ، من
الواضحات ، فلا محالة يكون المراد عدم التقييد ظاهرا.
وحيث ان تقييد
الحكم الظاهري بوجود الحكم الواقعي أو عدمه غير صحيح : إذ موضوعه الشك في الحكم
الواقعي ، والحكم الواقعي ليس غاية للشك ، بل العلم غاية له ، مع ان مفاده حينئذ
ان كل شيء مباح ظاهرا ما لم يكن في الواقع حراما وهو كما ترى ، فلا محالة يكون
المراد بالورود الوصول.
مع ان الحكم
بالإباحة إنما يكون ناشئا عن لا اقتضائية الموضوع ، فلا يمكن ورود الحرمة في
موردها لاستلزامها فرض اقتضائية الموضوع.
ودعوى : انه لا
ينافى كون الفعل لا اقتضاء بذاته ، ومقتضيا لانطباق عنوان عليه.
مندفعة : بان
النهي على هذا إنما يرد على ذلك العنوان ، لا انه يرد في مورد الإباحة ، مضافا إلى
منافاة الخبر حينئذ لما دل على" ان حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة"
.
هذا كله إذا أريد
بالخبر ما هو ظاهره من كون الإباحة مغياة بورود النهي في موردها.
__________________
وأما ان قيل انه
أريد به تحديد الموضوع بان يراد ما لم يرد فيه نهى مباح وما ورد فيه النهي ليس
بمباح ، بان يكون القيد بنحو المعرفية.
فيرد عليه مضافا
إلى كونه خلاف الظاهر انه يكون حملا للخبر على ما هو بديهي ولا يناسب مقام الإمامة
التصدي لبيانه.
ويرد على المحقق
الخراساني مضافا إلى ذلك : ان الورود بحسب معناه اللغوي ليس مساوقا للصدور ، بل هو
مفهوما مقارب للوصول ، فانه متعد بنفسه ، والصدور لازم يقال الحياض تردها الكلاب وفي
الآية الكريمة (وَإِن مِّنكُمْ
إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) وقد فسرت الآية في المجمع عن الإمام الصادق (ع) بالإشراف
عليها ويقال ، وردني كتاب ، وإنما يتعدى" بعلى" فيما إذا أريد تفهيم
الإشراف ، وربما يكون الوارد أمرا له محل في نفسه ، كالأمر والنهي فيقال ورد فيه
أمر أو نهى ، فالموضوع محل الوارد ، والمورود هو المكلف ، وعليه فهو في نفسه ظاهر
في الإباحة الشرعية الظاهرية مع قطع النظر عن البرهان المذكور ، إذ الإباحة
الثابتة إلى حين وصول النهي ليست إلا الإباحة الظاهرية.
فان قيل انه من
المحتمل ان يكون المراد من النهي مطلق النهي المتعلق بالشيء ، ولو من حيث كونه
مجهول الحكم ، فيكون الخبر حينئذ مورودا لأدلة الاحتياط.
__________________
قلنا ان الظاهر من
قوله حتى يرد فيه نهى ، ورود النهي في الشيء بعنوانه ، لا بعنوان آخر منطبق عليه
فتدبر.
وحيث انه مختص
بالشبهة التحريمية ، فعلى فرض تمامية دلالة ادلة وجوب الاحتياط عليه ، يكون هذا
الخبر اخص مطلق منها فيقدم عليها.
الاستدلال للبراءة بحديث الاحتجاج
ومما استدل به على
البراءة ما رواه الكليني في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد الله (ع) قال : " ان
الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم" هكذا في احد النقلين وفي الآخر"
ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم" ودلالته على عدم المؤاخذة على الحكم الذي لم يعرف ولم يصل
إلى المكلف واضحة.
قال الشيخ وفيه ان مدلوله كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار
لا ينكره الإخباري.
ويتوجه عليه : ان
وجوب الاحتياط ان كان نفسيا كان ما أفيد تاما ولكن لا قائل به ، ومن يرى وجوب
الاحتياط ، يلتزم بان وجوبه طريقي بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول فعلى فرض
ثبوت وجوب الاحتياط لا معرفة بالحكم ، اما الحكم الواقعي فلعدم الطريق إليه ، لان
وجوب الاحتياط وظيفة مجعولة في فرض الجهل بالحكم ، واما وجوب الاحتياط فلعدم كونه
حكما حقيقيا.
__________________
وقد يقال ان
الظاهر من التعريف في الخبر ، هو التوحيد الفطري بالله وصفاته لا المعرفة بأحكام
الله تعالى بقرينة انه فرع عليه في احد النقلين ، ثم أرسل رسولا وانزل عليهم
الكتاب فأمر الخ ، فيكون وزانه وزان ما رواه المحدث الكاشاني في باب البيان
والتعريف بإسناده عن اليماني عن أبي عبد الله" ان أمر الله عجيب إلا انه قد
احتج عليكم بما عرفكم من نفسه" الحديث يعنى ان صفات الله وأفعاله عجائب وغرائب لا يصل إلى
كنهها ولا يدرك أسرارها إلا الاقلون ولكن سبحانه لا يريد منكم البلوغ إليها ولم
يطلب من لم يبلغ إليها ان يعبده بحسبها بل بحسب ما بلغ إليه منها وعرفه الله تعالى
من نفسه فحسب وإنما يحتج عليكم بمقدار معرفتكم التي عرفكم.
وفيه : ان ما بعد
ذلك الذيل شاهد على ان المقصود هو المعرفة بالإحكام الفرعية لاحظ الخبر ، فالمراد
منه انه حيث جرت سنة الله تعالى وعادته على الاحتجاج على العباد بما عرفهم فذلك
منشأ إرسال الرسل وإنزال الكتب ، فهذا الخبر صحيح سندا ويدل على البراءة.
ودعوى انه لا يدل
على عدم الاحتجاج بما لم يعرف إلا بالمفهوم ولا يقولون به في أمثال المقام ، لأنه
من قبيل مفهوم الوصف واللقب.
مندفعة بأنه
لوروده في مقام الامتنان والتحديد وبظهوره في ان الاحتجاج بما عرفه مناسب لمقام
الألوهية ، يدل على المفهوم.
ومن الأخبار خبر
عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله (ع) عمن لم
__________________
يعرف شيئا هل عليه
شيء قال (ع) لا ، راجع أصول الكافي ، ورواه الصدوق في التوحيد .
وتقريب دلالته على
البراءة ان الظاهر من الشيء الأول هو مطلق ما لا يعرفه من الأحكام.
وبعبارة أخرى :
فرد واحد ، ومن الشيء الثاني الكلفة والعقوبة من قبل الحكم المجهول ، فيستفاد منه
عدم وجوب الاحتياط.
وأورد عليه
باحتمال ان يكون المراد منه العموم في النفي فيدل على عدم مؤاخذة من لم يعرف من
الأحكام ولو واحدا منها وهو الجاهل القاصر الغافل عن الأحكام كاهل البوادي
والسودان.
وفيه : أولا انه
لو سلم كونه بنحو العموم في النفي يشمل الجاهل المطلق الملتفت مع كونه غير قادر
على الفحص ويدل على انه لا يعاقب على المخالفة وبالالتزام على عدم وجوب الاحتياط
وبعدم الفصل يتعدى إلى الجاهل بالبعض بعد الفحص.
وثانيا ان الظاهر
منه إرادة فرد معين مفروض في الخارج فلا يفيد العموم في النفي.
ومن ما استدلوا به
على البراءة خبر عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد
__________________
الله المروى في
الوسائل المتضمن لقضية الأعجمي الذي حج واحرم في ثيابه الذي أفتى
أصحاب ابن حنيفة عليه بفساد الحج ولزوم البدنة" أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا
شيء عليه .." ، حيث انه يدل على عدم العقوبة ونفي البأس على ارتكاب المحرم عن
جهل.
وأورد عليه الشيخ
الأعظم (ره) بان الظاهر من الرواية هو اعتقاد الصواب والغفلة عن الواقع
فلا يعم صورة التردد في كون فعله صوابا أو خطأً.
ولعل نظره الشريف
إلى ان الباء في قوله بجهالة ظاهر في السببية للارتكاب ، فيختص بالجاهل المركب
والغافل ، ثم أيده بان تعميم الجهالة بصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك
غير المقصر وسياقه آب عن التخصيص.
وأورد عليه بان
الجاهل البسيط أيضاً إذا فعل فعلا يكون فعله ناشئا من جهله ، غاية الأمر بواسطة ما
يحكم به عقله بقبح العقاب بلا بيان ، ودعوى ظهور الباء في السببية بلا واسطة كما
ترى.
ولكن : ما أورده
المورد وان كان متينا إلا انه من جهة ظهور الجهالة في الجهل بمطلق الوظيفة الفعلية
، لا يمكن الاستدلال به في المقام ، لورود أخبار الاحتياط على تقدير تمامية
دلالتها على وجوبه عليه.
__________________
وأما ما أفاده
الشيخ (ره) من التأييد.
فيرده ان التخصيص
مما لا بد منه للزوم إخراج الجاهل المقصر ، وان كان معتقدا للخلاف.
وقد استدل للبراءة
بروايات اخر ضعيفة السند أو قاصرة الدلالة وفيما تقدم غنى وكفاية.
الاستدلال للبراءة بالإجماع
الثالث : من
الوجوه التي استدل بها للبراءة ، الإجماع ، وتقريبه بوجوه :
الأول : دعوى
اتفاق الكل على عدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل.
الثاني : دعوى
الاتفاق على ان الحكم الشرعي في مورد التكليف الذي لم يصل بنفسه ولا بطريقه هو
الترخيص.
الثالث : دعوى
الاتفاق على ان الحكم الظاهري المجعول في مورد الجهل بالواقع هو الإباحة.
وفي الكل إشكال :
أما الأول فلأنه
إجماع على أمر عقلي فليس تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم.
وأما الثاني :
فلان الإخباريين يدعون وصول التكليف في مورد الجهل مطلقا أو في خصوص الشبهة
التحريمية بطريقه.
وأما الثالث :
فلان الإخباريين ذاهبون إلى ان الحكم المجعول هو التوقف والاحتياط ، مع انه لو تم
فحيث ان مدرك المجمعين معلوم فلا يكون إجماعا تعبديا.
الاستدلال بحكم العقل
الرابع : من أدلة
البراءة هو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان :
وتنقيح القول فيه
بالبحث في جهات :
الأولى : في
تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدمها.
الثانية : في
ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.
الثالثة : في
لحاظها مع أدلة وجوب الاحتياط.
اما الجهة الأولى
: فلا ريب في ان وظيفة المولى جعل الأحكام وجعلها في معرض الوصول إلى المكلفين ،
وبذلك يتم وظيفته.
وأما لزوم
الامتثال فليس ذلك موكولا إليه ، بل إنما هو بحكم العقل والمراد به دركه حسن
العقاب على مخالفة التكليف ، ومن الواضح ان ذلك إنما هو في مورد وصول التكليف.
وأما إذا لم يصل سواء لم يبينه أصلاً ، أو بينه ولم يجعله في مظان وجوده ، أو جعله
ولكن خفي عنّا بواسطة إخفاء الظالمين ، فلا يحكم العقل بقبح المخالفة ولا يدرك حسن
العقاب عليها ، بل يحكم بقبحه ، اما في مورد عدم البيان فواضح ، وأما في مورد
البيان وعدم الوصول : فلان حكم
العقل بقبح
المخالفة إنما يكون من جهة دركه قبح الظلم ، حيث ان مخالفة المولى ظلم عليه وخروج
عن رسم العبودية وذي الرقية ، ومن الواضح ان ذلك إنما يكون في مورد الوصول ، وإلا
، فلا تكون المخالفة ظلما ولا يكون مجرى لهذا الحكم من العقل.
وأما ما أفاده
الأستاذ الأعظم في وجه هذا الحكم من ان ما يكون محركا للعبد أو زاجرا له
إنما هو الوجود العلمي لا الوجود الواقعي فالتكليف ما لم يصل إلى المكلف لا يمكنه
التحرك منه ومعه كان العقاب على مخالفته عقابا بلا مقتض كما إذا لم يكن حكم من
المولى أصلاً.
فيرد عليه ، ان
الوجود الواقعي وان لم يكن محركا إلا انه كما يكون وجوده العلمي محركا كذلك يمكن
ان يكون وجوده الاحتمالي محركا ، فمع فرض الشك واحتمال التكليف يمكن ان يتحرك
العبد بالاحتياط.
وأما الجهة
الثانية : فالمعروف بينهم ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع حكم العقل
بوجوب دفع الضرر المحتمل.
إذ مع حكم العقل
بقبح العقاب لا يبقى احتمال الضرر ليجب دفعه.
وأشكل عليه بإمكان
العكس بان تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا للتكليف ورافعة لموضوع قاعدة
قبح العقاب بلا بيان.
وبعبارة أخرى : ان
موضوع كل منهما مع قطع النظر عن الأخرى ، موجود
__________________
في مورد التكليف
المحتمل لمساوقة احتمال التكليف لاحتمال الضرر ، وكل منهما تصلح رافعة لموضوع
الأخرى : إذ كما يقال قبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب كذلك يمكن ان
يقال وجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ، فالعقاب ليس بلا بيان.
وأجاب عنه الشيخ
الأعظم بان الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف
المجهول المعاقب عليه وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية ، وان لم يكن تكليف في
الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها وان لم يكن تكليف في الواقع لا على التكليف
المحتمل على فرض وجوده ، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكور ، بل
قاعدة القبح واردة عليها لأنها فرع احتمال الضرر ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان انتهى.
وأورد عليه
بإيرادين :
أحدهما : ما عن
جماعة بان أمر وجوب دفع الضرر المحتمل لا ينحصر ، بالدوران بين ان يكون نفسيا ، أو
إرشاديا على ما يختاره الشيخ بل هناك قسم ثالث وهو الوجوب الطريقي أي ما جعل تحفظا
على الملاك الواقعي ، نظير وجوب الاحتياط المجعول في الموارد الثلاثة على ما هو
المعروف ، ويترتب عليه
__________________
تنجيز الواقع ولعل
وجوب دفع الضرر المحتمل من هذا القبيل.
وفيه : ان الوجوب
الطريقي هو الذي يترتب عليه احتمال العقاب على مخالفة الواقع ويكون منشئا له كما
في وجوب الاحتياط الشرعي في الموارد الثلاثة ، ووجوب دفع الضرر المحتمل لا يتصور
فيه ذلك ، فان احتمال العقاب مأخوذ في موضوعه ، وفي الرتبة السابقة عليه ، فلا
يعقل ترتبه عليه ، وإلا لزم الدور ، فلا يكون وجوب طريقيا قطعا ، فيدور الأمر بين
القسمين الذي افادهما الشيخ فما أفاده مطلب برهاني لا ادعاء صرف كما قيل.
الثاني : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) وهو ان هذا الحكم من العقل إرشاد محض لا يمكن ان يستتبع
حكما مولويا شرعيا فكيف يمكن ان يكون العقاب على مخالفته وان لم يكن في مورده
تكليف واقعي ، وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية مع ان مخالفة
الأحكام الظاهرية لا تستتبع استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع.
وفيه : ان الظاهر
ان مراد الشيخ ، انه حيث لا يمكن ان يكون هذا الحكم طريقيا منجزا للواقع ، فلو تمت
القاعدة لا بد وان يكون وجوبه نفسيا موجبا للعقاب على مخالفته ، والتعبير عن ذلك
بالقاعدة الظاهرية إنما هو من جهة اخذ الاحتمال في موضوع هذا الوجوب النفسي.
فالمتحصّل ان ما
أفاده الشيخ الأعظم متين جدا لا يرد عليه شيء.
وأجاب القوم عن
اصل الإشكال بأجوبة أخر :
__________________
احدها : ما أفاده
المحقق الخراساني وهو : ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع قاعدة وجوب
دفع الضرر المحتمل إذ لا يبقى معها احتمال الضرر.
ويرد عليه انه
يمكن ان يعكس إذ كل من القاعدتين لا تتكفل بيان موضوعها ، وكل منهما صالحة لرفع
موضوع الأخرى.
ثانيها : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) وحاصله : ان قاعدة وجوب الدفع لا تصلح للبيانية ، لعدم
كونها رافعة للشك ، وتمام الموضوع لقاعدة قبح العقاب هو نفس الشك في التكليف ،
فموضوع قاعدة القبح يكون باقيا ، وهذا بخلاف العكس فان قاعدة القبح توجب رفع موضوع
تلك القاعدة وهو احتمال الضرر.
وفيه : ان موضوع
قاعدة قبح العقاب ، عدم البيان ، وهو كما يرتفع بجعل الطريق ، ورفع الشك ، يرتفع
بجعل الحكم الطريقي الموجب لتنجز الواقع وصحة المؤاخذة عليه ، كما في موارد جعل
وجوب الاحتياط كباب الأنفس.
ثالثها : ما أفاده
المحقق العراقي (ره) وحاصله : ان بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل دورية لأنها
تتوقف على احتمال الضرر ، توقف الحكم على موضوعه ، وهو يتوقف على عدم جريان قاعدة
قبح العقاب بلا بيان الرافعة لموضوعها ، وهو يتوقف على بيانية قاعدة دفع الضرر
المحتمل فبيانيتها دورية.
__________________
وفيه : انه يمكن
ان يعكس إذ جريان قاعدة قبح العقاب يتوقف على عدم البيان توقف الحكم على موضوعه ،
وهو يتوقف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر ، وهو يتوقف على عدم احتمال الضرر ،
المتوقف على جريان قاعدة القبح.
فالصحيح ما أفاده
الشيخ الأعظم (ره) هذا كله لو أريد بالضرر العقاب.
وان أريد به الضرر
الدنيوي :
فيدفعه ان احتمال
التكليف لا يكون ملازما لاحتمال الضرر.
مع ان دفع المقطوع
منه غير لازم فضلا عن محتمله ، ولذا ترى تحمل العقلاء المضار الدنيوية للمنافع.
مضافا : إلى اتفاق
الفريقين الذين هما من العقلاء ، على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، مع
احتمال الضرر الدنيوي.
وان أريد به
المفسدة.
فيدفعه انه لا
دليل على وجوب دفع المحتمل منها ، ولذا ترى جريان البراءة في الشبهة الموضوعية مع
وجود هذا الاحتمال.
وأما الجهة
الثالثة : فالظاهر انه لو تمت أدلة وجوب الاحتياط تكون واردة على القاعدة ، وسيجيء
الكلام فيه مفصلا.
الاستدلال على البراءة بالاستصحاب
ثم انه ربما يستدل
على البراءة بالاستصحاب ، وتقريبه على نحوين :
التقريب الأول :
استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر وعدم استحقاق العقاب على الفعل أو الترك.
وأورد عليه
بإيرادات :
الأول : ان
المستصحب لا بد وان يكون أثرا شرعيا أو موضوعا لأثر شرعي ، وعدم التكليف ليس له
اثر شرعي ، ولا بنفسه اثر فانه أزلي ، وعدم العقاب من لوازمه العقلية فلا ينالهما
يد الوضع والرفع.
وقد وجه المحقق
الخراساني كلام الشيخ الأعظم (ره) بذلك.
وفيه : انه لم يدل
دليل على اعتبار كون المستصحب مجعولا شرعيا أو موضوعا له ، بل المعتبر كون
المستصحب قابلا للتعبد به ، وعدم التكليف ، وان كان أزلا غير قابل للوضع والرفع ،
إلا انه بقاء بيد الشارع.
الثاني : ما أفاده
الشيخ الأعظم (ره) وهو ان المتحقق في السابق عدم
__________________
المنع ، واستصحابه
لا يفيد لأنه لا يقطع معه بعدم العقاب ، فيحتاج إلى ضم قاعدة قبح العقاب بلا بيان
، ومعها لا حاجة إلى الاستصحاب ـ نعم ـ لو كان الاستصحاب حجة في مثبتاته ، أو كان
من الأمارات صح التمسك به ، إذ على الأول كان يثبت به الإباحة والترخيص ، ومعه
يقطع بعدم العقاب ، وعلى الثاني كان يظن بعدم العقاب ، وهو في حكم القطع بالتعبد ،
ولكن المبنيين فاسدان ، فهذا الاستصحاب لا يفيد.
وفيه : انه ان كان
مراده ان استصحاب عدم المنع لكونه غير مجعول شرعي ولا له اثر شرعي لا يجري.
فهو يرجع إلى
الوجه الأول وجوابه ما تقدم.
وان كان مراده ان
عدم العقاب ليس أثرا شرعيا لعدم المنع فلا يترتب عليه.
فيرد عليه ان
الآثار العقلية المترتبة على الأمر الشرعي ، يترتب باستصحابه ، ولذا التزم (قدِّس
سره) بترتب عدم العقاب على الإباحة المستصحبة.
وان كان مراده ان
عدم العقاب ليس لازما لعدم المنع بل للإذن والترخيص.
فيرد عليه ان
العقاب من لوازم الحرمة ، وعدمه من لوازم عدمها فاستصحابه يكفي لترتبه ، مع ان عدم
المنع قبل البلوغ بعد قابليته لتوجه الخطاب إليه إنما يكون بحكم الشارع الثابت
بحديث رفع القلم ونحوه ، وحيث : ان هذا الحديث وأمثاله من الأمارات فيثبت به الإذن
والترخيص ، فيستصحب
نفس ذلك الترخيص
الشرعي.
الثالث : ما عن
المحقق النائيني (ره) وهو ان المتيقن هو اللاحرجية العقلية ، أي العدم المحمولي
غير المنتسب إلى الشارع ، والعدم بعد البلوغ لو كان فهو عدم نعتي أي المنتسب إلى
الشارع ، واستصحاب العدم المحمولي لإثبات العدم النعتي من الأصل المثبت الذي لا
نقول به.
وفيه : ان عدم
التكليف في الصبي غير المميز ، لا يكون منتسبا إلى الشارع ، إلا انه في المميز
منتسب إليه وهو قابل لتعلق التكليف به وقد رفعه الشارع امتنانا وعليه فالمتيقن
أيضاً عدم نعتي ، مع ان استناد العدم إلى الشارع ، إنما يكون بنفس دليل الاستصحاب
، وقد ذكرنا في محله ان الاصل المثبت إنما هو في لوازم المستصحب ، لا لوازم
الاستصحاب ، وبالجملة لوازم الاستصحاب تكون مترتبة وليس ذلك من الأصل المثبت.
الرابع : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) أيضاً ، وحاصله : ان الاستصحاب إنما يجري لترتيب اثر واقع
المستصحب ، وأما الأثر المترتب على نفس الشك في الواقع فلا يجري الاستصحاب ،
لترتبه ، فانه بمجرد الشك يترتب ذلك الأثر فإجراء الاستصحاب لترتبه ، من قبيل
تحصيل الحاصل ، بل من أردأ أنحائه ، فانه تحصيل تعبدي للحاصل وجدانا ، والمقام
نظير ما لو فسرنا التشريع ، بإدخال ما
__________________
لم يعلم انه من
الدين في الدين ، فلو شك في مشروعية شيء يترتب عليه حرمة استناده إليه تعالى ،
فإجراء استصحاب عدم المشروعية لاثبات حرمة الاستناد لغو وتحصيل للحاصل ، والمقام
من هذا القبيل فان الشك فيه بنفسه موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فاستصحاب
عدم المنع الذي أثره المرغوب عدم العقاب لا يجري.
وفيه : انه من جهة
كون الأثر غير مختص بالشك بل مترتب عليه وعلى الواقع ، فالاستصحاب يجري وحيث انه
اصل محرز ، يوجب رفع موضوع قاعدة القبح ، ويترتب حينئذ عليه عدم العقاب ، وليس من
قبيل تحصيل الحاصل ، وهذا نظير استصحاب الطهارة ، وقاعدتها ، فان القاعدة بمجرد
الشك تجرى ، ومع ذلك لا تكون مانعة عن جريان استصحابها ، والسر فيه ما ذكرنا.
الخامس : وهو الحق
، وملخصه انه يعتبر في الاستصحاب ، وحدة القضية المتيقنة ، والمشكوك فيها ، فيعتبر
وحدة الموضوع ، وفي المقام لا يجري الاستصحاب لتبدل الموضوع فان الموضوع في القضية
المتيقنة عنوان الصبي وقد تبدل.
توضيح ذلك انه لا
شبهة في ان العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام بنظر العرف تنقسم إلى قسمين :
أحدهما : ما يكون
مقوما لموضوع الحكم كالعدالة بالإضافة إلى جواز الاقتداء والاجتهاد بالنسبة إلى
جواز التقليد.
ثانيهما : ما لا
يكون مقوما له بل يكون علة لعروض الحكم على المعنون كالتغير المأخوذ في موضوع
نجاسة الماء.
وفي القسم الأول
بانعدام العنوان يرتفع الموضوع بنظر العرف ، ويكون المشكوك ثبوت الحكم له غير ما
تيقن ثبوته له ، وهما متعددان بنظر العرف فلا يجري الاستصحاب.
والمقام من هذا
القبيل ، فان عنوان الصبي والمجنون ونحوهما في نظر العرف من العناوين المقومة
للموضوع فلا يجري الاستصحاب.
ولو تنزلنا عن ذلك
وسلمنا كونهما من قبيل القسم الثاني ، لكن إنما يكون الاستصحاب جاريا في هذا القسم
، إذا لم يحرز كون القيد علة للحدوث والبقاء ، وشك في انه هل يكفي حدوث القيد في
ثبوت الحكم حدوثا وبقاء أم لا؟ وأما مع الإحراز فلا يجري الأصل والمقام كذلك فان
الذي يستفاد من الأدلة ان الصباوة والجنون من القيود التي يدور ارتفاع القلم
مدارها حدوثا وبقاء فلا يجري الاستصحاب.
التقريب الثاني :
استصحاب عدم جعل الشارع هذا الحكم الإلزامي.
توضيحه : انه لا
ريب في ان الأحكام الشرعية تكون تدريجية في جعلها ، فهذا الحكم المشكوك فيه لم يكن
مجعولا في زمان قطعا فيشك في ذلك فيجرى استصحاب عدم الجعل ما لم يتيقن به.
وأورد عليه
بإيرادات :
الأول : ما عن
المحقق النائيني (ره) وهو ان المتيقن هو ، العدم غير المنتسب
__________________
إلى الشارع ، أي
العدم المحمولي الثابت قبل الشرع والشريعة ، والعدم المشكوك فيه هو العدم النعتي
المنتسب إلى الشارع ، واستصحاب العدم المحمولي لاثبات العدم النعتي من الأصل
المثبت الذي لا نقول به.
وفيه : ما عرفت من
ان جعل الأحكام كان تدريجيا ، فأول البعثة لم يكن هذا الحكم المشكوك فيه مجعولا قطعا
فالمتيقن هو العدم النعتي.
الثاني : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) أيضاً ، وهو ان الباعث أو الزاجر إنما هو التكليف الفعلي
لا الإنشائي ، فلا بد من إثبات عدم ذلك ، واستصحاب عدم الجعل لاثبات عدم المجعول
من أوضح أنحاء الأصول المثبتة.
وفيه : مضافا إلى
النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي اتفق الكل على جريانه ، فلو كان نفى
الحكم باستصحاب عدم الجعل مثبتا كان إثباته باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضاً
مثبتا.
انه لا تعدد
للاعتبار والمعتبر والإنشاء والمنشأ كما في الإيجاد والوجود ، وإنما لا يجب امتثال
الأحكام قبل وجود الموضوع من جهة تعلقه به في ظرف وجوده على نحو القضية الحقيقية ،
فمع عدم الموضوع لا حكم في حق المكلف من الأول ، وإلا فمن جهة عدم الوجود للحكم
إلا بالاعتبار يكون لا محالة متحققا من حين الاعتبار ، فلا مانع من استصحابه ، أو
عدمه فتدبر فانه دقيق.
الثالث : معارضة
استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي مع استصحاب
__________________
عدم جعل الترخيص
للعلم بتحقق أحدهما.
وفيه : انه لا
مانع من اجرائهما معا ، بعد فرض عدم لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا ، وفي
المقام إشكالات أخر تقدم بعضها مع الجواب عنه في التقريب الأول ، وبعضها واضح
الدفع.
فالأظهر جريانه
وثبوت البراءة به.
نعم لا يثبت به
الإباحة فلو كان هناك اثر مترتب على الإباحة لما كان يترتب على الاستصحاب ولزم
الرجوع إلى أصالة الإباحة.
وقد يتوهم اختصاص
هذا الوجه بالشبهات الحكمية ، من جهة انه في الشبهة الموضوعية يكون الجعل معلوما
فلا يجري استصحاب عدم الجعل.
ويندفع بأنه من
جهة ان جعل الأحكام إنما يكون على نحو القضية الحقيقية دون الخارجية فكل موضوع
خارجي من أفراد الموضوع يكون مخصوصا بحكم خاص فعند الشك ، لا مانع من استصحاب عدم
جعل الحكم لهذا الموضوع الشخصي الخارجي.
الاستدلال بالآيات للزوم الاحتياط
وقد استدل للزوم
الاحتياط ، بالكتاب ، والسنة ، والعقل.
أما الكتاب ،
فبطوائف من الآيات :
الأولى : ما دل
على حرمة القول بغير علم ، كقوله تعالى : (وَأَن تَقُولُواْ
عَلَى
اللهِ
مَا لَا تَعْلَمُونَ) إذ القول بالترخيص في محتمل التحريم قول بغير علم.
الثانية : ما دل
على لزوم التقوى كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) بدعوى ان ترك محتمل التحريم من التقوى.
الثالثة : ما دل
على حرمة إلقاء النفس في التهلكة كقوله تعالى : (وَلَا تُلْقُواْ
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
الرابعة : ما دل
على المنع عن متابعة ما لا يعلم ، كقوله عزوجل (وَلَا تَقْفُ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بتقريب انه ظاهر في وجوب التوقف وعدم المضي.
الخامسة : ما يدل
على التوقف ورد ما لم يعلم حكمه إلى الله تعالى كقوله تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ).
ولكن الظاهر عدم
صحة الاستدلال بشيء من الطوائف :
أما الأولى : فلان
الحكم بالترخيص الواقعي وان كان قولا بغير علم ، إلا انا لا ندعيه ، والحكم
بالترخيص الظاهري مستندا إلى الحجة كالقول بوجوب الاحتياط مستندا إليها ليس قولا
بغير علم بل عن علم.
__________________
واما الطائفة
الثانية : فلان المراد بالتقوى ان كان هو الوقاية من عذاب الله ، فارتكاب محتمل
التحريم مع الدليل على جوازه ، وعدم العقاب عليه ليس مشمولا للآية ، وان كان
المراد به المرتبة العالية من التقوى الشاملة ، لترك المكروهات ، وفعل المندوبات ،
والاحتياط بإتيان ما يحتمل وجوبه مع الدليل على عدمه كموارد جريان قاعدة الفراغ
وشبهها ، فالأمر به لا محالة يكون غير إلزامي ، والالتزام بإبقائه على ظهوره وخروج
هذه الموارد بالدليل الخاص ، كما ترى.
واما الطائفة
الثالثة فلان المراد بالهلكة ان كان هو العقاب فأدلة البراءة توجب القطع بعدم
العقاب فلا يكون مشمولا لهذه الآية الشريفة ، وان شئت قلت ان هذا النهي بعد ما لم
يكن نفسيا ، لان فعل ما يترتب عليه العقاب لا يكون محرما بحرمة أخرى ، غير الحرمة
المترتب عليها العقاب على مخالفتها ، ولا طريقيا إذ الحكم الطريقي إنما يكون
لتنجيز الواقع ، ومع فرض تنجزه لفرض الهلكة في موضوعه ، وهو العقاب ، فلا يعقل ان
يكون النهي موجبا له فلا محالة يكون إرشاديا فهو تابع لثبوت العقاب من دليل آخر ،
وأدلة البراءة تنفيه ، وان كان المراد الهلكة الدنيوية فهي مقطوع العدم ، مع ان
الشك من هذه الجهة من قبيل الشبهة الموضوعية لا يجب فيها الاحتياط بالاتفاق.
واما الطائفة
الرابعة : فلان محتمل التحريم مع قيام الدليل على الترخيص فيه ظاهرا ليس مشمولا له
لأنه وان لم يعلم التكليف الواقعي ، إلا ان الوظيفة الظاهرية معلومة.
واما الطائفة
الخامسة : فلان الظاهر منها رد الحكم الواقعي إلى الله تعالى ،
مع أنها لو شملت
المقام تكون مختصة بما يمكن فيه رفع الشبهة ولا تشمل الشبهات بعد الفحص كما هو
واضح.
الأخبار التي استدل بها للزوم الاحتياط
واما السنة ، فقد
استدل الاخباريون للزوم الاحتياط في الشبهة البدوية التحريمية ، بطوائف منها :
الأولى : ما يدل
على حرمة القول والإفتاء بغير العلم ، كخبر زرارة ، سألت أبا جعفر ما حجة الله على
العباد قال ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون ، ونحوه غيره .
والجواب عن
الاستدلال بها واضح ، لان القول بالحلية الواقعية وان كان قولا بغير علم إلا أنا
لا نقول بها ، والقول بالحلية الظاهرية مستندا إلى أدلة البراءة قول عن علم.
الثانية : ما دل
على وجوب التوقف فيما لا يعلم ورد حكمه إلى الإمام كخبر جابر عن الإمام الباقر (ع)
إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا
الحديث ونحوه غيره .
__________________
ولكنها مختصة
بصورة إمكان إزالة الشبهة ولا تعم ما هو محل الكلام وهو الشبهة بعد الفحص.
الثالثة : ما دل
على ان الوقوف عند الشبهة من الورع ، كقول الإمام علي (ع) لا ورع كالوقوف عند
الشبهة ، وخبر أبي شعيب عن الإمام الصادق (ع) أورع الناس من وقف
عند الشبهة الحديث ونحوهما غيرهما .
ولكن يرد على
الاستدلال بها ما أوردناه على الاستدلال بالطائفة الثانية من الآيات من تعين حملها
على الاستحباب وعدم اللزوم.
الرابعة : ما يدل
على ان طلب ترك المشتبه إنما هو من جهة ان الإتيان به يهوّن فعل المعصية ، كمرسل
الصدوق خطب أمير المؤمنين (ع) فقال ان الله حد حدودا فلا تعتدوها إلى ان قال فمن
ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له اترك .
والاستدلال بها
كما ترى.
الخامسة : ما تضمن
النهي عن الاتكال على الاستنباطات العقلية الظنية في الاعتقاديات ، كخبر زرارة عن
الإمام الصادق لو ان العباد إذا جهلوا
__________________
وقفوا ولم يجحدوا
لم يكفروا .
والجواب عنها
واضح.
الاستدلال بأخبار التوقف لوجوب الاحتياط
السادسة : ما تضمن
الأمر بالوقوف عند الشبهة ، معللا بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في
الهلكة وفي بعضها التعليل خاصة كموثق مسعد ابن زياد عن النبي (ع) انه قال لا
تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة إلى ان قال فان الوقوف عند الشبهة
خير من الاقتحام في الهلكة
وقول الإمام
الصادق (ع) في مقبولة ابن حنظلة بعد ذكر جملة من المرجحات إذا كان كذلك فارجئه حتى
تلقى إمامك فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة .
وفي روايات الزهري
والسكوني وعبد الأعلى ، الوقوف عند الشبهة خير
__________________
من الاقتحام في
الهلكة ونحوها غيرها .
وتقريب الاستدلال
بها ، ان ظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب
الفعل.
وأورد على
الاستدلال بها بإيرادات.
منها : أنها ضعيفة
السند.
وفيه انه لو تم في
بعضها لا يتم في جميعها فان فيها الموثق والصحيح.
ومنها : ان التوقف
في الحكم الواقعي مسلم عند الفريقين ـ والافتاء بالحكم الظاهري منعا وترخيصا مشترك
بينهما والتوقف في العمل لا معنى له.
ويرده ما ذكرناه
في تقريب الاستدلال.
ومنها : أنها
ظاهرة في الاستحباب.
ويرده ان الاقتحام
في الهلكة لا خير فيه أصلاً مع انه جعل علة لوجوب الإرجاء في المقبولة وتمهيد
لوجوب طرح المخالف للكتاب في الصحيحة.
ومنها : أنها في
مقام المنع عن العمل بالقياس وانه يجب التوقف عن القول إذا لم يكن هناك نص عن
المعصوم (ع).
وفيه : انه مخالف
لظهورها ولا يلائم مع مورد بعضها كما لا يخفى.
ومنها : ما احتمله
قريبا المحقق النائيني (ره) ، وهو أنها تدل على ان
__________________
الاقتحام في الشبهة
، يوجب وقوع المكلف في المحرمات باعتبار ان من لم يتجنب عن الشبهات ، وعود نفسه
على الاقتحام فيها هانت عليه المعصية ، وكان ذلك موجبا لجرأته على فعل المحرمات ،
وقد ورد نظير ذلك في المكروهات.
وعليه فهي لا تدل
على ان نفس الاقتحام في الشبهة حرام إذا صادف الحرام.
وفيه : مضافا إلى
منافاته لظهورها : فإنها ظاهرة في ان فعل الشبهة وترك الوقوف بنفسه اقتحام في
الهلكة ، لا انه موجب له ويتبعه لذلك كما لا يخفى : انه لا صارف عن ظهور الأمر في
الوجوب حينئذ ومجرد كون الحكمة المذكورة فيها جارية في المكروهات لا يصلح لرفع
اليد عن هذا الظهور.
ومنها : ما أفاده
المحقق صاحب الدرر (ره) وهو أنا نعلم من الخارج عدم وجوب التوقف في بعض الشبهات
كالشبهة الموضوعية ، فيدور الأمر بين تخصيص الموضوع بغيرها ، وبين حمل الهيئة على
مطلق الرجحان ، ولا ريب في عدم رجحان الأول ان لم نقل بالعكس.
وفيه : ان بناء
القوم حتى هو (قدِّس سره) ، على حمل المطلق على المقيد في هذه الموارد ، وإلا
فيجرى هذا الكلام في جميع موارد المطلق والمقيد كما هو واضح.
ومنها : ما أفاده
الأستاذ الأعظم وهو ان الموضوع فيها عنوان الشبهة ، وهي ظاهرة فيما يكون
الأمر فيه ملتبسا بقول مطلق ظاهرا وواقعا ، فالشك
__________________
الذي يكون حكمه
الظاهري معينا لا يكون شبهة ، ويختص هذه الأخبار بالشبهات قبل الفحص ويظهر من
بعضها في نفسه الاختصاص بها.
وفيه : ان الشبهة
قد أطلقت في موارد معلومية الوظيفة الظاهرية كما في موثق مسعدة ، حيث أطلقت في
موارد الشك في جواز النكاح مع ان الأصل الموضوعي يقتضي الجواز.
ومنها : ما أفاده
جمع من المحققين وحاصله ان الأمر بالتوقف عُلل بان في تركه احتمال الوقوع
في الهلكة ، وظاهرها في نفسها العقاب ، فقد اخذ في المرتبة السابقة على هذا الأمر
احتمال العقاب ، وتنجز التكليف ، فلا محالة لا يكون هذا موجبا له ، وإلا لزم تأخر
ما هو متقدم فتختص الأخبار بالشبهات التي يحتمل العقاب على ترك التوقف فيها ، بالشبهات
قبل الفحص ، والشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، واما الشبهات البدوية بعد الفحص
فلا يحتمل العقاب فيها فلا تشملها هذه الأخبار.
وأورد عليه بان
هذه الجملة ظاهرة في احتمال الهلكة في كل شبهة فتكون واردة في مقام جعل وجوب
الاحتياط.
توضيحه : انه كما
يمكن إنشاء الحكم بالدلالة المطابقية يمكن إنشاؤه بالدلالة الالتزامية ، بان يخبر
عن ترتب العقاب على فعل خاص فانه يستكشف منه حرمته إذ لو لا الحرمة ، لما كان وجه
للعقاب على الفعل ، فليكن المقام من هذا القبيل إذ بعد فرض عموم الشبهة لكل شك ،
الأخبار بان الوقوف عند
__________________
الشبهة خير من
الاقتحام في الهلكة ، الدال بالمطابقة على انه في مورد كل شبهة لو كان تكليف يعاقب
على مخالفته ومخالفته ، موجبة للوقوع في الهلكة ، يدل بالالتزام على جعل وجوب
الاحتياط في كل شبهة.
وفيه : ان دلالة
ما تضمن ترتب العقاب على فعل على الحرمة إنما تكون من جهة صون الكلام عن اللغوية
فلو فرضنا في مورد عدم لزوم اللغوية لما كان يستكشف الحرمة ، وفي المقام بما انه
في بعض موارد الشبهة احتمال العقاب موجود ، والكلام قابل للحمل على تلك الموارد
كما هو مورد بعضها ، فلا يلزم اللغوية ، من عدم الالتزام بالحكم فلا كاشف عن جعل
وجوب الاحتياط.
وأورد على هذا
الجواب بان ظاهر هذه الجملة احتمال الهلكة في مطلق الشبهة ، لا خصوص الشبهة قبل
الفحص والمقرونة بالعلم الإجمالي فحيث انه في بعض مواردها ، لا يعقل ذلك بلا جعل
وجوب الاحتياط فيستكشف من إطلاقها ذلك.
وأجيب عنه بأجوبة
: الأول : ما عن الشيخ الأعظم (ره) وهو ان إيجاب الاحتياط ان كان مقدمة للتحرز عن العقاب ،
فهو مستلزم للعقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، وان كان حكما ظاهريا نفسيا
فالهلكة مترتبة على مخالفة نفسه لا مخالفة التكليف الواقعي وصريح الأخبار إرادة
الهلكة المترتبة على مخالفة الواقع.
وفيه : ان التكليف
لا ينحصر بهذين القسمين بل هناك قسم ثالث ، وهو
__________________
الوجوب الطريقي
وهو يوجب تنجز الواقع ويمكن حمل الأخبار عليه.
الثاني : ما أفاده
العلمان المحقق الخراساني والأستاذ الأعظم ، وهو ان إيجاب الاحتياط ان كان واصلا بنفسه ، فلا يعقل ان
يكون هذه العلة كاشفة عنه ، وان لم يكن واصلا ، فلا يعقل كونه منجزا للواقع : إذ
التكليف غير الواصل لا يكون بيانا ومنجزا.
وفيه : ان المدعى
هو كشف إيجاب الاحتياط غير الواصل بنفسه ، فيكون وصوله بهذه الجملة وصول الشيء
بوصول معلوله.
الثالث : انه لا
مجال في المقام للتمسك بالإطلاق ، وكشف جعل وجوب الاحتياط ، فانه ان كان المولى في
مقام جعل وجوب الاحتياط ، وتكون هذه دليلا عليه ، فلا بد من الالتزام بان هذا
الوجوب في بعض الموارد إرشادي محض ، لأنه في الشبهات قبل الفحص الذي يكون التكليف
منجزا بحكم العقل ، لا معنى لجعل وجوب الاحتياط الطريقي فلا بد من الحمل على
الجامع بين الإرشادي والطريقي ، وهذا ليس بأولى واظهر من الالتزام بالاختصاص
بالشبهات قبل الفحص وانه ليس في مقام جعل وجوب الاحتياط أصلاً بل الثاني أولى ،
ولا اقل من الإجمال وعدم الظهور في الأول.
وفيه : ان لهذه
الجملة دلالة مطابقية ، ودلالة التزامية وهي تنجز التكليف عند كل شبهة ، وحيث انه
في بعض موارد الشبهة لا يعقل التنجز ما لم يوجب
__________________
الشارع الاحتياط ،
فيستكشف جعله في تلك الموارد خاصة.
وبالجملة : ليس
المدعى جعل وجوب الاحتياط عند كل شبهة حتى يجري فيه ما ذكر.
والحق في الجواب
ان يقال ان نصوص التوقف طائفتان :
الأولى : ما تضمن
الأمر بالتوقف بلا تعليل بالعلة المذكورة.
الثانية : ما يكون
الأمر فيه معللا بها.
أما الأولى : فيرد
على الاستدلال بها : ان الأمر بالتوقف يدور أمره ، بين ان يكون للإرشاد ويؤخذ
بإطلاق الشبهة وبين حمله على مطلق الرجحان ، وبين حمله على الجامع بين الإرشادية
والطريقية ليكون في موارد تنجز التكليف إرشاديا وفي موارد أخر منجزا ، وبين حمله
على الطريقية ، واختصاص الشبهة بالشبهات بعد الفحص ، إذ لا يمكن حمل الأمر على
الطريقية مع الأخذ بإطلاق الشبهة إذ فيما تنجز التكليف ، لا معنى لكونه طريقيا ،
لان المتنجز لا يتنجز ثانيا ، وحيث ان الاستدلال بها يتوقف على أحد الاحتمالين
الأخيرين ، والالتزام بأحدهما ليس أولى ، من الالتزام بأحد الأولين ، بل لا يبعد
دعوى أولويتهما فلا يصح الاستدلال بها.
واما الطائفة
الثانية فيرد على الاستدلال بها ، ان المراد بالهلكة ليس هو خصوص العقاب الأخروي
كيف ، وقد استعمل هذه الجملة في موارد عدم احتمال العقاب ، وعدم لزوم الاحتياط
قطعا ، لاحظ موثق مسعدة بن زياد المتقدم ، وفيه قول النبي (ع) لا تجامعوا في
النكاح على الشبهة وقفوا عند
الشبهة ، فان
الإمام الصادق (ع) فسّره في الموثق بقوله : إذا بلغك انك قد رضعت من لبنها أو أنها
لك محرمة وما أشبه ذلك فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.
ولا ريب في ان
الاحتراز عن النكاح المفروض ليس بلازم باتفاق الفريقين ، لاصالة عدم تحقق مانع
النكاح ، ولكون الشبهة موضوعية ، ولاحظ خبر الزهري المتقدم الذي ذكر فيه هذه العلة
تمهيدا لترك رواية الخبر ، غير معلوم الصدور ، أو الدلالة ، ومن البديهي رجحان ذلك
لا لزومه.
وعلى الجملة ان
الاحتياط في بعض موارد احتمال الهلكة لازم باتفاق الفريقين ، وهو ما إذا احتمل
العقاب ، وغير لازم كذلك في موارده الأخر ، وهو ما لو احتمل مفسدة أخرى غير العقاب
، لكون الشبهة حينئذ موضوعية ، لا يجب فيها الاحتياط.
وعليه فلا يستفاد
من هذه العلة لزوم الاحتياط بالتقريب المتقدم ، والأمر بالتوقف المعلل بذلك يكون
إرشاديا لا محالة لتعليل الأمر بما ذكر فتدبر فانه دقيق.
الاستدلال بأخبار التثليث لوجوب الاحتياط
السابعة : أخبار
التثليث المروية عن المعصومين (ع) ففي مقبولة ابن حنظلة عن الإمام الصادق (ع)
وإنما الأمور ثلاثة : أمر بيِّن رشده فيتبع وأمر بيِّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يرد
علمه إلى الله وإلى رسوله.
قال رسول الله (ص)
حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن اخذ
بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم .
وتقريب الاستدلال
بها من وجهين.
أحدهما : ان
الإمام (ع) بعد ما أوجب طرح الشاذ من حيث وجود ريب فيه لا يوجد في مقابله وهو
المشهور استدل بالنبوي ، وهذه قرينة قطعية على إرادة وجوب اجتناب الشبهات المرددة
بين الحلال والحرام من النبوي.
ودعوى ان الشاذ من
البيّن الغي من حيث الصدور.
مندفعة بان القطع
بعدم الصدور يمنع عن التعارض والترجيح ، أضف إليه انه لا معنى حينئذ لتثليث الأمور
، ولا لفرض الراوي كون الخبرين معا مشهورين ، ولا لتقديم الترجيح بالصفات على
الترجيح بالشهرة.
ثانيهما : ان
النبوي بنفسه ظاهر في وجوب الاجتناب لقوله فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن
اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم ، فانه إخبار عن لازم ترك
الشبهة وارتكابها مستتبع لا محالة لحكم إنشائي ، وطلب من الشارع.
وفي خبر جميل بن
صالح عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه ، قال رسول الله (ص) في كلام طويل : الأمور
ثلاثة : أمر
__________________
بيِّن لك رشده
فاتبعه ، وأمر بيِّن لك غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده إلى الله عزوجل .
ومرسل الصدوق قال
: ان أمير المؤمنين (ع) خطب الناس فقال : في كلام ذكره حلال بين وحرام بين وشبهات
بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له اترك ونحوها غيرها.
والجواب عن ذلك
على التقريب الثاني الجاري في جميع الأخبار مع اختلاف في الظهور : ان المراد
بالحرام في قوله ارتكب المحرمات ، ان كان هو الحرام المتحقق في ضمن المشتبه على
تقدير المصادفة ، فيكون المراد الوقوع على هذا التقدير لا مطلقا ومعلوم ان الوقوع
في الحرام الواقعي ولو مع عدم البيان ومعذورية المكلف في المخالفة ، لا يلازم
العقاب والهلكة الأخروية ، لتطابق الأدلة على عدم العقاب من دون بيان ، فلا محالة
يكون المراد من الهلكة اعم من المفسدة الدنيوية والأخروية ، وحيث ان الفريقين ،
متفقان على عدم لزوم الاحتياط في جميع موارد ذلك ، لان هذا الاحتمال موجود في
الشبهة الموضوعية ، والوجوبية ولا يجب فيهما الاحتياط ، فلا بد وان يحمل على إرادة
الرجحان والمطلوبية الملاءمة مع عدم الوجوب ، وان أصر على ظهور الهلكة في العقاب
فلا محالة يقيد الشبهات بالشبهات قبل الفحص ، والمقرونة بالعلم الإجمالي.
وان كان المراد
بالحرام الحرام المحقق المعلوم ، فلا بد وان يراد بالوقوع
__________________
الإشراف وتقريب
النفس إلى ارتكاب الحرام ، كما هو الظاهر من مرسل الصدوق ، وعليه فغاية ما يستفاد
منه حينئذ ، رجحان الترك ومطلوبية الاحتياط إذ لم يقل أحد بان إشراف النفس إلى
الحرام من المحرمات الشرعية كيف ، فان ذلك موجود في ارتكاب المكروه ، إذا كثر كما
صرح به في الأخبار ، وفي الشبهات الموضوعية ، فالنبوي على هذا في مقام بيان الصغرى
، والكبرى المطلوبة المسلمة إنما هو رجحان تبعيد النفس من الوقوع في الحرام
إرشادا.
والجواب عنه على
التقريب الأول ، انه ليس في الخبر ما يشهد بكون الإمام في مقام الاستدلال ، بل
الظاهر خصوصا بقرينة ما ذكرناه كونه في مقام التقريب وذكر ما يسهل بملاحظة قبول
المطلب.
وأجاب عنه الشيخ (ره)
بأنه لا مانع من الاستدلال برجحان ترك المشتبه المردد بين الحلال والحرام
للزوم ترك الشاذ من الخبرين في مقام الطريق المترتب على العمل به الخطأ كثيرا ،
والأخذ بما ليس طريقا شرعا.
وقرَّ به تلميذه
المحقق بقوله : ان هو إلا نظير الاستدلال بكراهة الصلاة ، في ثوب
من لا يتحرز عن النجاسات على عدم جواز الصلاة في الثوب النجس وهو كما ترى ولكن
الذي يسهل الخطب أمره (قدِّس سره) بالتأمل.
فالمتحصّل من هذه
الأخبار هو رجحان الاحتياط مطلقا ، ويؤيد ذلك الأخبار المساوقة للنبوي الشريف
الظاهرة في الاستحباب لقرائن مذكورة فيها ،
__________________
كالعلوي المتقدم
وخبر النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله (ص) يقول ان لكل ملك حمى وان حمى الله
حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو ان راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه
ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات وبمضمونه روايات أخر .
الاستدلال بأخبار الاحتياط لوجوب الاحتياط
الثامنة : الأخبار
الآمرة بالاحتياط ، كقوله (ع) في صحيح ابن الحجاج الوارد في رجلين أصابا صيدا وهما
محرمان وقد سأله عن ان على كل منهما جزاء أو عليهما جزاء واحد ـ إذا أصبتم مثل هذا
فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه وتعلموا .
وقوله (ع) في موثق
عبد الله بن وضاح الذي كتبه في جواب السؤال عن وقت المغرب والإفطار أرى لك ان
تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة
__________________
لدينك
وقول أمير
المؤمنين (ع) في خبر داود بن القاسم الجعفري عن الإمام الرضا (ع) لكميل بن زياد :
أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت .
وقول الإمام
الصادق (ع) في خبر عنوان البصري : وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا .
والنبوي دع ما
يريبك إلى ما لا يريبك ونحوها غيرها.
ويمكن الجواب عن
هذا الوجه بوجوه :
الأول : ما ذكرناه
في أخبار التوقف غير المعللة.
الثاني : انه يمكن
ان يقال بعد عدم إمكان حمل الأمر بالاحتياط على النفسية ـ وتردد الأمر ـ بين حمله
على الطريقية ، أو الإرشادية لا تعين لأحد الاحتمالين ، ولا شاهد يعين كونه طريقيا
، بل لا يبعد في المقام دعوى وجود الشاهد على الإرشادية وهو حسن الاحتياط عقلا.
الثالث : انه لا
ريب في ان الاحتياط في الشبهات الوجوبية والموضوعية غير واجب بل حسن ، ومن
المستبعد جدا ـ الالتزام بتخصيص ـ أخوك دينك
__________________
فاحتط لدينك
فيتعين البناء على انه للطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب ، أو للإرشاد.
أضف إلى ذلك ، ان
المشار إليه في صحيح ابن الحجاج اما نفس واقعة الصيد أو السؤال عن حكمها ، وعلى
الأول يكون المورد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطين ، فلا ربط
له بما نحن فيه ، مع ان الشبهة الوجوبية لا يجب الاحتياط فيها ان كان الشبهة بدوية
باتفاق الفريقين ، مع ان ظاهر الخبر التمكن من استعلام حكم الواقعة بالسؤال
والتعلم فلا ربط له بما هو محل الكلام ، وهو الشبهة بعد الفحص.
وبذلك يظهر انه
على الثاني كان المراد من الاحتياط فيه الاحتياط عن الإفتاء حتى بالاحتياط ، أو
الإفتاء بالاحتياط ، لا يكون مربوطا بالمقام مع إمكان التعلم ، واما موثق ابن وضاح
، فظاهره لزوم الاحتياط مع كون الشبهة موضوعية لاحتمال عدم استتار القرص : إذ لو
كانت الشبهة حكمية كان عليه بيان الحكم لا الأمر بالاحتياط ، ومن المعلوم ان
الانتظار مع الشك في الاستتار واجب بحكم الاستصحاب ، وعليه فهو أجنبي عما هو محل
الكلام.
فتحصل ان شيئا من
هذا الطوائف الثمان لا تدل على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص.
ثم انه لو سلم
دلالة الأخبار على لزوم الاحتياط في الشبهة التحريمية يقع الكلام في الجمع بينها
وبين ما دل من الأخبار على جريان البراءة فيها.
وملخص القول في
ذلك ان أخبار البراءة من جهة كونها أخص من جهتين من تلك الأخبار لا بد من تقديمها.
الأولى : اختصاصها
بالشبهات بعد الفحص اما بنفسها أو للإجماع وحكم العقل الذين هما بحكم المخصص
المتصل المانع عن انعقاد الظهور في العموم.
ودعوى اختصاص
أخبار التوقف والاحتياط أيضاً بالشبهات بعد الفحص لوجوب الاحتياط في غيرها مع قطع
النظر عنها.
مندفعة بان وجوبه
في الشبهات قبل الفحص لا يمنع عن كونها جعلا لإيجاب الاحتياط في جميع الموارد على
ما هو مقتضى إطلاقها.
الثانية : ان من
جملة أخبار البراءة ما هو مختص بالشبهات التحريمية ، كحديث ، كل شيء مطلق حتى يرد
فيه نهى ، فتقدم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط للاخصية.
واما دعوى حكومة
أخبار الاحتياط على أخبار البراءة ، فقد تقدم تقريبها ودفعها عند الاستدلال بنصوص
البراءة.
أضف إلى ذلك كله
ان الاستصحاب الذي قربناه يكون حاكما على أدلة الاحتياط والتوقف.
الاستدلال بحكم العقل لوجوب الاحتياط
الثالث : مما
استدل به لوجوب الاحتياط حكم العقل ، وتقريبه بوجوه :
أحدها : انه لا
ريب في وجود العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة المقدسة ومقتضى هذا
العلم الإجمالي لزوم فعل كل ما احتمل وجوبه وترك كل ما احتمل حرمته ، غاية الأمر
ثبت بدليل آخر عدم وجوب الاحتياط
في الشبهات
الوجوبية والموضوعية وتكون الشبهات التحريمية الحكمية باقية تحت ما يقتضيه العلم
الإجمالي.
وأجيب عن هذا
بأجوبة :
الأول : ما أفاده
المحقق الخراساني وحاصله بعد النقض والإبرام ، ان العلم الإجمالي كما ينحل
حقيقة بالعلم التفصيلي والشك البدوي ، كذلك ينحل حكما بقيام الحجة التي حقيقتها
المنجزية والمعذورية على أحد الأطراف ، إذا كان بمقدار ينطبق عليه المعلوم
بالإجمال ، إذ حقيقة جعل الحجية على هذا ، جعل المنجزية إذا كان الواقع في مورد
الحجة والمعذرية إذا كان في الطرف الآخر ، ففي الحقيقة يصرف تنجز الواقع الثابت
بالعلم ، إلى ما إذا كان في ذاك الطرف ويعذر إذا كان في سائر الأطراف ، ونظير
المقام قيام الأمارة على كون أحد الإناءين المعلوم كون أحدهما الذي هو إناء زيد
نجسا اناء زيد.
وفيه : ان لسان
الحجة القائمة في بعض الأطراف ، ان كان كون الواقع المعلوم بالإجمال في هذا ، الذي
كون لازمه عدم كونه في سائر الأطراف ، كما هو الشأن في المثال فإنها كما تدل على
ان هذا إناء زيد تدل بالالتزام على عدم كون الآخر إنائه ، تم ما ذكر ، وكان من
قبيل جعل البدل ، واما إذا لم يكن كذلك كما هو الصحيح ، فان الحجة إنما تدل على
ثبوت الحكم في مؤداها بلا عنوان ولا علامة غير المنافي لثبوته في سائر الأطراف ،
فلا تكون الحجة صارفة للتنجز وموجبة للعذر إذا كان هناك حكم في سائر الأطراف.
__________________
الثاني : ما أفاده
الشيخ الأعظم (ره) وهو منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم ، إلا بما
أدى إليه الطرق ، فلا يكون ما شك في تحريمه مما هو مكلف به فعلا على تقدير حرمته
واقعا.
وفيه : ان مجرد
نصب الطرق لا يفيد ان الشارع لم يرد من الواقع إلا ما ساعد عليه الطرق ، بل غاية
ما يفيد لزوم العمل على طبقها وعليه فالتكاليف الواقعية المعلومة إجمالا تنجز
بالعلم للقدرة على امتثالها ، فلا وجه لدعوى عدم كون التكليف في الموارد المشكوك
فيها فعليا.
الثالث : ما أفاده
الشيخ (ره) أيضاً ، وهو انه إذا ثبت بدليل آخر وجوب الاجتناب عن جملة
من أطراف العلم ، ولو كان ذلك الدليل لاحقا اقتصر في الاجتناب على ذلك المقدار ،
لاحتمال كون المعلوم بالإجمال ، هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا ، فأصالة
الحل في البعض الآخر غير معارضة بالمثل وما نحن فيه من هذا القبيل.
وفيه : ان الدليل
المزبور ، لو كان سابقا على العلم الإجمالي ، كان ما ذكر متينا ، واما إذا كان
لاحقا ، فهو لا يكون قابلا لرفع اثر العلم بعد ما لم يصر موجبا لانحلاله وتمام
الكلام في محله.
الرابع : ان العلم
بوجود الأحكام ينحل بالعلم الإجمالي ، بوجودها في موارد الأمارات ، أو الأخبار ـ توضيحه
ـ ان لنا علوما ثلاثة :
__________________
الأول : العلم
الإجمالي بثبوت أحكام في الشريعة المقدسة.
الثاني : العلم
الإجمالي بوجود الأحكام في موارد الأمارات من خبر الواحد وغيره.
الثالث : العلم
الإجمالي بوجود الأحكام في خصوص الأخبار ، للعلم بعدم مخالفة جميعها للواقع بل
جملة منها مصادفة للواقع قطعا ، فحينئذ يمكن ان يدعى ان المعلوم بالإجمال من
الأحكام الذي يكون ثابتا في خصوص الأخبار أو في الأمارات إنما يكون بمقدار المعلوم
بالإجمال ثبوته في الشريعة فلا ريب في الانحلال.
الخامس : ان العلم
الإجمالي كالعلم التفصيلي يتوقف تنجيزه على بقائه ، فكما ان العلم التفصيلي لو
انقلب إلى الشك الساري ، يسقط عن التنجيز كذلك العلم الإجمالي ، وانقلابه إليه
وانعدامه ، إنما يكون بتبدل القضية المتيقنة الشرطية المانعة الخلو مثلا لو علم
إجمالا بنجاسة أحد الإناءين يكون هناك قضايا ثلاث قضية متيقنة وقضيتان مشكوكتان ،
وهي العلم بنجاسة أحدهما على سبيل منع الخلو ، والشك في نجاسة كل منهما.
وبعبارة أخرى :
الشك في انطباق المعلوم على كل من الطرفين ، وهذا هو حقيقة العلم الإجمالي ،
وانعدامه إنما يتحقق بعدم الشك في انطباق المعلوم ولو في طرف من الطرفين ، كما لو
علم بنجاسة أحدهما بعينه فانه يتبدل ذلك إلى العلم بنجاسة أحدهما المعين ، والشك
في نجاسة الآخر ، ولا شك في نجاسة المعلوم بالتفصيل ، وهذا من قبيل الشك الساري
بالنسبة إلى العلم التفصيلي ، ولا يكون ذلك من باب عدم العلم بقاء حتى ينتقض بما
لو خرج أحدهما عن
محل الابتلاء ، بل
من باب عدمه بقاء حتى في الحدوث.
وعلى ذلك ، نقول ،
في الأمارات بناء على جعل الطريقية الانحلال الحكمي واضح ، إذ الأمارة وان لم تكن
علما تفصيلا حتى يوجب الانحلال الحقيقي لكنها تكون علما تعبديا ، فكما ان العلم
الحقيقي يوجب الانحلال كذلك العلم التعبدي.
وبالجملة : بعد
اعطاء الشارع صفة الطريقية للإمارة تكون الأمارة علما في حكم الشارع فتوجب انحلال
العلم الإجمالي وينعدم الترديد الذي به قوام العلم الإجمالي تعبدا.
واما بناء على جعل
المنجزية كما هو مسلك المحقق الخراساني أو جعل الحكم الظاهري ، والالتزام بالسببية
بالنحو المعقول فعن المحقق النائيني القول بان الانحلال في غاية الصعوبة ، بل لا ينحل ويكون
الإشكال باقيا بحاله : إذ على مسلك جعل التنجيز ، الأمارة توجب تنجز الحكم لو كان
في ذاك الطرف ، وهذا ليس اثرا زائدا على العلم الإجمالي ، لأنه موجب أيضاً ، وعلى
مسلك جعل الحكم الظاهري غاية مفاد الأمارة حدوث حكم ظاهري في مؤداها ، ولا توجب
تمييز القضية المتيقنة عن المشكوك فيها فالعلم باق بحاله.
ولكن الأظهر هو
الانحلال حتى على هذين المسلكين أيضاً ، إذ لو كان تنجيز الأمارات وثبوت الحكم بها
بعد تنجيز العلم الإجمالي ، بان كان تنجيزها
__________________
متوقفا على الوصول
وقبله كان العلم الإجمالي منجزا ، كان ما أفاده وجيها.
ولكن لا يتوقف ذلك
على الوصول ، بل يكفي بيان الشارع ووجود الأمارات في الكتب المعتبرة التي بأيدينا
، إذ التكاليف المحتملة تنجز بذلك ، ولذا بنينا على عدم جريان قبح العقاب بلا بيان
في الشبهات قبل الفحص لاحتمال البيان ووجود الأمارة في الكتب المعتبرة ، فالأمارات
بوجوداتها الواقعية المدوَّنة في الكتب توجب التنجيز أو تثبت الحكم الظاهري على
اختلاف المسلكين.
وعليه ففي أول
البلوغ الذي يعلم بوجود أحكام يعلم أيضاً بوجود أمارات منجزة أو مثبتة للحكم
الظاهري بذلك المقدار ، ويكونان متقارنين ، ومثل هذا العلم الإجمالي لا يكون منجزا
من الأول ، إذ التكليف لو كان في أحد أطراف العلم منجزا قبل العلم أو مقارنا معه ،
أو محكوما بحكم آخر كذلك ، والجامع عدم جريان الأصل النافي في ذلك الطرف ، كما لو
علم بنجاسة أحد الإناءين وقبله أو مقارنا معه علم تفصيلا بنجاسة أحدهما المعين ،
أو كانت نجاسته موردا للاستصحاب فيجري الأصل في الطرف الآخر ، بلا معارض وبيان
السر في ذلك موكول إلى محله.
وعليه ففي المقام
بما انه لا يجري الأصل النافي في جملة من الموارد وهي موارد قيام الأمارات يجري
الأصل النافي في الأطراف الأخر بلا معارض.
فتحصل ان العلم
الإجمالي لا يمنع من جريان الأصل ، والغريب ان عين هذا البرهان يقتضي عدم جريان
الأصل في الشبهة الوجوبية ، مع ان الإخباريين قائلون بجريانه فيها ، ولعلهم لم
يستندوا في المقام إلى هذا الوجه.
الوجه الثاني من
تقريب حكم العقل :
هو ما ذكره بعضهم من استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية قبل
الشرع ، ولا اقل من الوقف ، إذ هو في مقام العمل مثل الحظر فيعمل به ، حتى يثبت من
الشرع الإباحة ، ولم يرد الإباحة فيما لا نص فيه ، وما دل على الإباحة على تقدير
تسليم دلالته معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط فالمرجع هو الأصل.
ويرد عليه ، أولا
: ان الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الإباحة دون الحظر كما ذهب إليه الأكثر.
وثانيا : انه قد
مر ثبوت الترخيص فيما لا نص فيه ، وعدم معارضته بما دل على التوقف أو الاحتياط.
وأجاب عنه المحقق
الخراساني (ره) بجوابين آخرين وتبعه غيره.
أحدهما : انه
لاوجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال ، وإلا لصح الاستدلال على البراءة بما
قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.
وفيه : ان مناط
الحظر وهو عدم ثبوت الإذن موجود فيما هو محل الخلاف ، واما مناط الإباحة فليس كذلك
، فان عدم المنع عن فعل علم عدم ورود المنع
__________________
عنه شرعا ، لا
يستلزم عدم المنع عنه مع فرض احتمال المنع عنه.
الثاني : ما محصله
ان العقل إنما يحكم بالحظر في تلك المسألة لعدم قابلية المورد للبيان لكونه قبل
الشرع والشريعة ، فلا تجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وهذا بخلاف ، ما هو محل
الخلاف المفروض فيه ثبوت الشرع والشريعة ، وقابلية المورد للبيان ، فمع عدم بيان
الشارع ، يستقل العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وفيه : ان استقلال
العقل بذلك ، وإحراز عدم العقاب على مخالفة المنع الشرعي على فرض وجوده ، لا ينافى
مع الحظر ، والمنع المالكي ، الذي هو بمناط انه بمقتضى قانون المملوكية والعبودية
، لا بد وان يكون جميع أفعال المملوك عن إذن سيده ، لئلا يخرج عن ذى الرقية ، إذ
هذا المناط بعينه موجود فيما هو محل الخلاف ، وعدم العقاب لعدم المنع الشرعي ، لا
ينافى المنع لجهة أخرى ، فتدبر.
الوجه الثالث :
ان الإقدام على ما
لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم المفسدة فيه.
وهذا الوجه ربما
يستدل به للاحتياط فيما هو محل الكلام ، وهو الظاهر من الكفاية .
وربما يستدل به
للقول بالحظر في مسألة الحظر والإباحة ، كما نسب إلى
__________________
الشيخين وغيرهما
على ما في رسائل الشيخ الأعظم (ره) ٧ .
اما الأول : فقد
مر في ذيل قاعدة قبح العقاب تقريبه وما يرد عليه.
واما الثاني :
فيرد عليه ان المفسدة ان كانت بالغة مرتبة التأثير في الحرمة ، فلا ربط له بتلك
المسألة ، إذ هي إنما تكون في فرض خلو الواقعة عن الحكم الشرعي ، وانه هل يستقل
العقل بالحظر او الإباحة ، مع إحراز عدم المنع من الشارع ، وان لم تكن بالغة تلك
المرتبة ، فلا يكون الإقدام على ما فيه المفسدة فضلا عما يحتمل فيه ذلك منافيا
لغرض المولى ليكون خروجا عن ذي الرقية ، وبدونه لا استقلال للعقل على قبح الإقدام
المذكور.
ودعوى ان اصل
الإقدام من دون إذن المولى خروج عن ذي الرقيَّة لأنه تصرف في ملك المولى بدون
إذنه.
مندفعة بان ذلك
يرجع إلى الوجه الثاني وهو باطل على ما حقق في محله.
أصالة عدم التذكية
بقي أمور مهمة لا
بد من التنبيه عليها.
الأول : ان موضوع
البراءة هو الشك وعدم العلم ، وعليه فكل اصل كان رافعا للشك تعبدا يكون مقدما على
البراءة الشرعية بالحكومة من غير فرق بين
__________________
الشبهة الموضوعية
كما لو شك في انقلاب ما علم خمريته خلا ، فان استصحاب الخمرية يرفع الشك في حرمة
شربه الذي هو الموضوع للبراءة ، أم كانت حكمية كما إذا شك في جواز وطء الحائض بعد
انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، إذ استصحاب الحرمة على القول بجريانه ، يرفع موضوع
أصالة البراءة ، وقد عبر المحقق الخراساني تبعا للشيخ عن هذا الأصل ، بالأصل
الموضوعي ، باعتبار انه رافع لموضوع أصالة البراءة.
ثم ان جماعة من
المحققين منهم الشيخ الأعظم ، وصاحب الكفاية ، رتبوا على ذلك ، انه لا تجرى أصالة الإباحة والحل ، في
حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية ، أو ورود التذكية عليه ، لارتفاع
الشك في الحلية باستصحاب عدم التذكية.
وتنقيح القول في
ذلك يتوقف على بيان مقدمات.
الأولى : ان الموت
وان لم يكن مختصا بزهاق الروح حتف الأنف ، ولكنه ليس عبارة عن زهاق الروح غير
المستند إلى سبب شرعي ، بل هو عبارة عن الزهاق المستند إلى غير السبب الشرعي ، كما
صرح به في مجمع البحرين ، فهو أمر وجودي لا عدمي. واما التذكية ، فقد وقع الخلاف
في أنها ، هل تكون أمرا بسيطا معنويا حاصلا من فرى الأوداج الأربعة بشرائطه ، أم
هي عبارة عن نفس الفعل الخارجي مع الشرائط الخاصة ، الوارد على المحل القابل ، بنحو
يكون
__________________
قابلية المحل شرطا
للتأثير ، أو جزءا للتذكية.
وقد اختار المحقق
النائيني الثاني.
واستدل له :
باستناد التذكية في الآية الشريفة (إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ) إلى المكلف فان نسبة التذكية إلى الفاعلين تدل على أنها من
فعلهم.
وفيه : انه لا
شبهة في أنها من فعلهم ، سواء كانت عبارة عن المسبب ، أو عن نفس الأفعال الخارجية
، غاية الأمر على الأول تكون فعلهم التسبيبي ، وعلى الثاني فعلهم المباشري ، وليس
الاستناد ظاهرا في إرادة المعنى المباشري ، دون التسبيبي.
فالصحيح ان يستدل
له مضافا إلى ان الظاهر من الأدلة ترتب الحلية والطهارة على نفس الأفعال كقوله (ع)
إذا رميت وسميت فانتفع بجلده انه في جملة من النصوص ورد ان ، ذكاة الجنين ذكاة أمه ، ولو كانت التذكية اسما للمسبب ، لما صح هذا الإطلاق ، إذ
الحاصل لكل منهما فرد من ذلك الأمر المعنوي غير ما هو حاصل للآخر قطعا ، وهذا
بخلاف ما إذا كانت اسما لنفس الأفعال الخارجية.
__________________
ثم ان ظاهر
الإسناد في الآية خروج القابلية عن حقيقتها ، وأنها تكون شرطا للتأثير كما هو
واضح.
الثانية : انه وان
وقع الخلاف في ان ما يقبل التذكية من الحيوان ، هل هو خصوص ما يحل اكل لحمه ، أو
ان كل حيوان يقبل التذكية إلا المسوخ ، أو ان كل حيوان يقبل تلك إلا الحشرات ، أو
ان كل حيوان قابل لها إلا نجس العين.
ولكن الأظهر هو
الأخير ، اما قبول غير مأكول اللحم لها في الجملة فيشهد له قوله (ع) في ذيل موثق
ابن بكير ، وان كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء
منه فاسدة ذكاه الذبح أو لم يذكه ، وقد استدل به صاحب الجواهر (ره) للقول بقبول كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل ، ويشهد
لقبول السباع للتذكية موثق سماعة المتقدم عن جلود السباع ينتفع بها قال (ع) إذا
رميت وسميت فانتفع بجلده وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله.
المقدمة الثالثة
ان موضوع النجاسة هو عنوان الميتة الذي هو أمر وجودي كما يظهر لمن راجع النصوص.
واستدل لكون
موضوعها غير المذكى بخبر القاسم الصيقل ، قال كتبت إلى الرضا (ع) إني اعمل أغماد
السيوف من جلود الحمر الميتة فيصيب ثيابي فاصلي فيها فكتب إلى اتخذ ثوبا لصلاتك
فكتب إلى أبي جعفر الثاني كنت
__________________
كتبت إلى أبيك
بكذا وكذا فصعب على ذلك فصرت اعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية فكتب إلى كل
أعمال البر بالصبر يرحمك الله فان كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا باس
بدعوى ان جملته
الأخيرة تدل بالمفهوم على ان غير المذكى فيه باس ، ومعلوم ان المراد بالبأس
النجاسة.
وفيه : ان السائل
حيث فرض عمله من شيئين أحدهما من جلود الحمر الميتة ثانيهما من جلود الحمر الوحشية
الذكية ، فأجابه (ع) انه ان كان من القسم الثاني لا بأس ، فمفهومه ثبوت البأس لو
كان من القسم الأول.
وبعبارة أخرى : ان
الإمام (ع) في مقام بيان حكم كلا العملين ، والشاهد على ذلك تقييده (ع) بقوله
وحشيا ، مع انه لا ريب في عدم مدخلية الوحشية في الحكم ، وعليه فغاية ما يثبت بهذا
الخبر ثبوت البأس وهو النجاسة في الميتة دون غير المذكى.
إذا عرفت هذه
المقدمات ، فاعلم ان الشبهة ، تارة تكون موضوعية ، وأخرى تكون حكمية ، اما الأولى
ففيها صور :
إحداها : ان يعلم
بقبول الحيوان للتذكية ووقوع التذكية عليه ، ويشك في حلية لحمه وحرمته من جهة الشك
في انه من القسم الذي يحل اكل لحمه بعد التذكية ، أو من غيره كما لو اشتبه الموجود
الخارجي وتردد الأمر بين ان يكون ،
__________________
غنما أو أرنبا ،
مع قبول كليهما للتذكية ، ففي مثل هذه الصورة تجرى أصالة الإباحة.
فان كان كلام
الشهيد الذي نقله الشيخ الأعظم (ره) ، من ان الأصل في اللحوم الحرمة شاملا لهذه الصورة.
فغير تام : لما
عرفت من أصالة الإباحة.
ودعوى انه يستصحب
حرمة أكل لحمه الثابت في حال الحياة فيثبت به حرمة لحمه.
مندفعة : بعدم
ثبوت حرمة أكل الحيوان الحي ، وفي الجواهر دعوى الشهرة على جوازا كل السمك وبلعه حيا ، مع ، انه لو
سلم الحرمة فإنما موضوعها ، لحم حيوان حي ، أو القطعة المبانة منه ، وهذان
العنوانان يرتفعان بالموت فلو ثبتت الحرمة يكون موضوعها شيئا آخر فلا يجري
الاستصحاب.
ثانيتها : ما إذا
شك في التذكية لأجل احتمال عروض المانع مع قبوله في نفسه للتذكية ، ووقوعها كما لو
شك في صيرورة الغنم موطوءة ، وفي هذه الصورة أيضاً لا تجرى أصالة عدم التذكية ، بل
تجرى أصالة عدم عروض المانع الحاكم عليها ويثبت الحلية والتذكية ، ولو كان كلام
الشهيد شاملا لهذا الصورة لا يكون تاما.
ثالثتها : ما لو
شك في ذلك من جهة الشك في ان الحيوان المذبوح من ما
__________________
يقبل التذكية
كالشاة ، أو مما لا يقبل ، أو من جهة تردد الجلد بين ان يكون من الحيوان المذبوح
في الخارج المعلوم كونه كلبا ، أو من الآخر الواقع عليه الذبح الجامع للشرائط
المعلوم كونه غنما ، وفي هذه الصورة بناء على وجود دليل عام يدل على قبول كل حيوان
للتذكية ، إلا ما خرج بالدليل كما تقدم منا وجريان استصحاب العدم الأزلي حتى في
العناوين الذاتية كما حققناه في محله يحكم بالطهارة ، لاستصحاب عدم تحقق العنوان
الذي خرج فيثبت انه حيوان لا يكون معنونا بعنوان الخاص ، فيشمله العموم.
ودعوى عدم تمامية
ذلك في القسم الثاني لعدم كون حيوان في الخارج مشكوك كلبيته كي يجري الأصل فيه ،
ويحكم بعدم كونه كلبا.
مندفعة بان ما
يكون هذا جلده بهذا العنوان يشك في انه كلب أو غنم ومقتضى الأصل عدم كونه كلبا.
واما لو بنينا على
عدم العموم ، فان بنينا على ان التذكية عبارة عن الأفعال الخاصة عن خصوصية في
المحل كما اخترناه يجري استصحاب ، عدم الخصوصية ، ويحكم بعدم التذكية لانتفاء
المركب بانتفاء شرطه أو جزئه ، هذا بناء على جريان استصحاب العدم الأزلي ، واما
بناء على عدمه فلا يجري أصالة عدم التذكية لعدم الحالة السابقة لجزئها أو شرطها ،
والمجموع من حيث المجموع ليس شيئا آخر وراء الأجزاء كي يجري الأصل فيه وعليه
فيتعين الرجوع إلى أصالة الإباحة والطهارة.
وبما ذكرناه ظهر
ان ما أفاده المحقق الخراساني من جريان أصالة عدم التذكية مع بنائه على كون التذكية
عبارة عن الأفعال الخاصة ، يكون مراده بها أصالة عدم الخصوصية ، لبنائه على جريان
استصحاب العدم الأزلي لا أصالة عدم المجموع.
وان بنينا على ان
التذكية عبارة عن الأمر التوليدي المسبب عن الأفعال الخاصة عن خصوصية في المحل ،
يجري أصالة عدم التذكية ويحكم بعدمها.
ثم انه في مورد
جريان أصالة عدم التذكية يترتب عليها ، عدم جواز الصلاة ، وحرمة أكل لحمه : لأنهما
من آثار عدم التذكية ولا يترتب عليها النجاسة فإنها كما عرفت مترتبة على الميتة ،
والموت أمر وجودي كما تقدم ، لا يثبت بأصالة عدم التذكية ، ففيها يرجع إلى أصالة
الطهارة ، فالالتزام بان الأصل في اللحوم الحرمة والطهارة ، متين على هذا ، ولا
يرد عليه إشكال أصلاً.
رابعتها : ان يكون
الشك من جهة احتمال عدم وقوع التذكية عليه خارجا ، أو قطعنا يكون الحيوان المعين
الواقع عليه الذبح مذكى ، والآخر المعين ميتة ، وشك في ان الجلد من أيهما اخذ ،
وفي هذه الصورة أيضاً تجرى أصالة عدم التذكية ويترتب عليها الحرمة ، وفي النجاسة
يرجع إلى أصالة الطهارة ، فالأصل هو الحرمة والطهارة.
فعلى هذا : الجلود
التي يؤتى بها من بلاد الإفرنج ، ويعلم بان يد المسلم يد عمياء ومع ذلك يحتمل
التذكية تكون محكومة بالطهارة.
__________________
اما الثانية : أي
صورة كون الشبهة حكمية ، فلها أيضاً صور.
الأولى : ان يعلم
بقبوله للتذكية ويشك في حليته وحرمته وفي هذه الصورة تجرى أصالة الحل ويحكم
بالحلية ، ولا تجرى أصالة الحرمة الثابتة في حال الحياة لما تقدم ، في الصورة
الأولى من صور الشبهة الموضوعية.
الثانية : ما لو
شك في قبوله للتذكية من جهة احتمال عروض المانع ، كما لو شك في ان شرب لبن
الخنزيرة مرة واحدة يمنع عن قبوله للتذكية أم لا؟ وفي هذه الصورة يجري استصحاب
بقاء القابلية ، فان كانت التذكية عبارة عن الأفعال الخاصة عن خصوصية في المحل فقد
أحرز بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل ، ولو كانت أمرا بسيطا حاصلا من الأفعال ، فحيث
انه يكون بحكم الشارع ، وتكون من الأحكام الوضعية وموضوعها الأفعال الخاصة مع
القابلية ، فقد أحرز ، بعض الموضوع بالوجدان ، وبعضه بالأصل ، ويترتب عليه التذكية
، ويكون هذا الأصل حاكما على أصالة عدم التذكية.
الثالثة : ما لو
شك في القابلية ابتداء كما لو تولد حيوان من طاهر ونجس ، ولم يتبعهما في الاسم ،
فعلى المختار من وجود عموم دال على قبول كل حيوان للتذكية يتمسك به ويحكم بها ،
واما بناء على عدمه ، فان كانت التذكية أمرا بسيطا معنويا يجري أصالة عدم التذكية
، وان كانت عبارة عن الأفعال الخاصة مع قابلية المحل يجري استصحاب عدم القابلية
بناء على جريان الأصل في العدم الأزلي ، وإلا فلا ، وعلى التقديرين لا يجري
استصحاب عدم المجموع لما تقدم من عدم كونه بما هو مركب موضوع الحكم بل ذوات
الأجزاء تكون موضوعا ، ولا استصحاب عدم تحقق السبب ، لان السبب هو ذوات الأجزاء ،
وعنوان السببية مضافا إلى كونه عبارة عن الحكم ، لا يكون دخيلا في الموضوع ، وقد
عرفت انه لا يترتب على أصالة عدم
التذكية النجاسة.
فما ذكره الشهيد
والمحقق الثانيان فيما لو تولد حيوان من طاهر ونجس لم يتبعهما في الاسم وليس
له مماثل ان الأصل فيه الحرمة والطهارة.
متين بناء على عدم
وجود عموم دال على قبول كل حيوان للتذكية ، اما الحرمة فلاصالة عدم التذكية ، أو
عدم القابلية ، واما الطهارة فلأصالتها.
وإيراد الشيخ
الأعظم (ره) بان وجه الحكم بالحرمة إن كان أصالة عدم التذكية ، فلا بد
من الالتزام بالنجاسة. غير تام.
لا يقال انه بناء
على كون الميتة أمرا وجوديا كما يجري أصالة عدم التذكية ويترتب عليها الحرمة ،
يجري أصالة عدم الموت ، ويترتب عليها الطهارة فتتعارضان وتتساقطان ، فيرجع إلى
أصالة الحل والطهارة ، فلا وجه للحكم بالطهارة والحرمة كما أفاده المحقق النراقي (ره)
.
__________________
فانه يقال : انه
سيأتي في محله ان العلم الإجمالي بمخالفة أحد الاصلين للواقع ، لا يمنع من
جريانهما ما لم يلزم منهما المخالفة العملية لتكليف لزومي ، كما في المقام فانه لا
مانع من جريانهما معا ويحكم بالحرمة لاصالة عدم التذكية والطهارة ، وعدم النجاسة ،
لاصالة عدم الموت.
ثم ان الوجه في
ذكر هذا التنبيه في المقام ، ان صاحب الحدائق ، أورد على الأصوليين وتعجب منهم حيث انهم يحكمون بحرمة
اللحم المشكوك تمسكا بأصالة عدم التذكية ، مع انهم يقولون بعدم جريان الأصل مع
وجود الدليل ، والدليل على الحل موجود في المقام ، وهو قوله (ع) كل شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه .
ويرد على ما أفاده
ان الدليل الذي يكون مقدما على الأصل ، هو الدليل على الحكم الواقعي ، والدليل
الذي ذكره الذي هو من أدلة البراءة دليل على الحكم الظاهري المأخوذ في موضوعه
الشكر المرتفع تعبدا مع أصالة عدم التذكية ، ولذلك يقدم عليه.
جريان الاحتياط في العبادات
التنبيه الثاني :
لا إشكال في جريان الاحتياط ، في الواجبات التوصلية ،
__________________
وكذلك في العبادات
إذا أحرز الرجحان وتردد بين ان يكون واجبا أو مندوبا ، لإمكان الاحتياط بداعي أمره
الواقعي ، والإشكال فيه من ناحية قصد الوجه ، وقد مرّ دفعه في أوائل هذا الجزء .
وإنما الكلام
والإشكال في جريان الاحتياط في العبادات ، إذا لم يحرز محبوبية العمل ودار الأمر
بين الوجوب وغير الاستحباب ، ومنشأ الإشكال ان الاحتياط عبارة عن الإتيان بكل ما
يحتمل دخله في المأمور به على فرض الأمر به على وجه يحصل العلم بعد الاحتياط بتحقق
ما احتاط فيه بجميع قيوده.
ومن جملة الشرائط
المعتبرة قصد أمرها والتقرب به ، وحينئذٍ ان أتى به بداعي الأمر كان تشريعا محرما
، وان أتى به بغير ذلك الداعي ، فلم يأت بالمأمور به قطعا وللقوم في الجواب عن هذه
الشبهة مسالك.
الأول : انه
يستكشف الأمر بالاحتياط من حسن الاحتياط عقلا بقاعدة الملازمة ، أو من جهة ترتب
الثواب عليه ، فيأتي بالعمل بداعي ذلك الأمر الاحتياطي.
الثاني : ان الأمر
بالاحتياط الذي ورد في الأخبار أمر مولوي نفسي ، وهو يكفي في العبادية.
الثالث : ان
الاحتياط في العبادات أمر ممكن بلا احتياج إلى أمر آخر ، فالكلام يقع في موارد
ثلاثة :
__________________
أما الأول : فيرد
عليه ان حكم العقل بحسن الاحتياط إنما يكون بيانا للكبرى وجاريا على نحو القضية
الحقيقية المتضمنة لثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع ، ولا تعرض له لبيان
الموضوع ، فهو لا يصلح ان يكون مبينا للموضوع وسببا لإمكان الاحتياط.
وبالجملة على فرض
عدم إمكان الاحتياط في العبادات لا مورد لحكم العقل بحسنه ، ولا يفيد ما دل على
ترتب الثواب عليه.
وان شئت قلت انه
لو ثبت الملازمة بين حكم العقل بحسن الاحتياط والامر به شرعا بما انه حينئذ يتوقف
الأمر على موضوعه توقف العارض على معروضه ، فلا يعقل ان يكون من مبادئ ثبوته فلا
أمر به.
واما المورد
الثاني : فملخص القول فيه ان محتملاته بعد عدم كون الأمر به طريقيا كما مر ثلاثة :
الأول : كونه
إرشادا إلى عدم الوقوع في المفاسد الواقعية ، وعدم فوت المصالح ، نظير أمر الطبيب
ونهيه.
الثاني : كونه
إرشادا إلى حسن الاحتياط والانقياد عقلا.
الثالث : كونه
أمرا مولويا نفسيا.
فان قيل انه يحتمل
كونه طريقيا استحبابا.
اجبنا عنه بأنا لا
نتصور معنى معقولا للطريقية ، التي هي عبارة عن الحكم بداعي تنجيز الواقع ، غير
اللزوم.
وقد اختار جماعة
منهم المحقق الخراساني ، والمحقق النائيني الثاني ، وعللوه بأنه كالأمر بالإطاعة ، وحاصله ان نفس
البرهان المقتضى لعدم كون الأمر بالإطاعة ، مولويا ، يقتضي عدم كون هذا الأمر
مولويا.
واوضحه المحقق
النائيني : بما حاصله : ان الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل
الأحكام ، وملاكاتها ، كحكم العقل بحسن الإحسان ، وقبح الظلم ، تكون مستتبعة
للأحكام الشرعية المولوية ، واما الواقعة في سلسلة معاليل الأحكام وفي مرحلة
الامتثال ، كحكم العقل بلزوم الإطاعة ، فلا تكون مستتبعة لها ، ولو كان هناك حكم ،
كان إرشاديا ، إذ الحكم الشرعي في نفسه لو لا الحكم العقلي بالامتثال لا يكون
باعثا وزاجرا ، فمقام الامتثال ، لا معنى لورود الحكم الشرعي فيه ، والمقام من
قبيل الثاني لأنه إنما يكون لأجل ادراك الواقع فيكون واقعا في مرحلة الامتثال غاية
الأمر كونه امتثالا احتماليا.
وأورد عليه
الأستاذ الأعظم بما حاصله ان وجه كون الأمر بالإطاعة إرشاديا ليس مجرد
وقوعه في مرحة الامتثال ، بل الوجه ان الأمر المولوي ولو لم يكن متناهيا لا يكون
محركا للعبد ، ما لم يكن له إلزام من ناحية العقل ، فلا بد وان ينتهي الأمر
المولوي في مقام المحركية إلى إلزام من العقل ، فلا مناص من
__________________
جعل الأمر الوارد
في مورده إرشادا إلى ذلك ، وهذا بخلاف الأمر بالاحتياط ، إذ العقل بما انه لا يستقل
بلزوم الاحتياط ، فلا مانع من ان يأمر به المولى مولويا حرصا على ادراك الواقع.
ويتوجه عليه : انه
قد مر في أول هذا الجزء ما في هذه الكلمات ، وعرفت ان وجه كون الأمر بالإطاعة
ارشاديا ارتباط الموضوع بنفسه بالمولى ، وان كلما يترقب من الآثار للحكم المولوي ،
من الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة ، والتقرب بإتيان المأمور به إلى
الله تعالى ، تكون مترتبة على الموضوع ، فلا يترتب على الأمر بالإطاعة اثر فيكون
لغوا ، وهذا البرهان في بادي النظر جار في المقام ، فلا يكون امره مولويا.
نعم يمكن تصوير
كونه مولويا بالتقريب الذي أفاده المحقق النائيني في آخر كلامه ، قال : انه يمكن ان لا يكون الأمر بالاحتياط
ناشئا عن مصلحة ادراك الواقع ، بل يكون ناشئا عن مصلحة في نفس الاحتياط كحصول قوة
للنفس باعثة على ترك المعاصي وعلى الطاعات وحصول التقوى للانسان ، وإلى هذا المعنى
اشار (ع) بقوله من ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك ، فيكون
الأمر بالاحتياط بهذا الملاك ، وهو ملاك واقع في سلسلة علل الأحكام فيكون الأمر
الناشئ عنه مولويا.
ثم ان الشيخ
الأعظم بعد اختياره عدم إمكان الاحتياط في العبادات
__________________
بلحاظ الأوامر
المتعلقة بها على ما ستعرف في المورد الثالث.
أفاد انه يمكن تصحيح الاحتياط في العبادات بالامر بالاحتياط في الأخبار
، بدعوى ان ذلك الأمر مولوى نفسي ، ومتعلق بذات الفعل العبادي ولا يكون في طول
الأمر الواقعي ، فالمكلف يأتي بالعمل الذي يحتمل كونه مامورا به بالامر التعبدى ،
بداعي ذلك الأمر الجزمى بالاحتياط ، وهذا يكفي في العبادية.
وتوضيح ذلك إنما
يكون ببيان أمور :
١ ـ ان الأمر ليس
على قسمين ، تعبدي ، وتوصلى ، بل الفرق بين القسمين ، إنما يكون في المتعلق ، حيث
انه ربما يؤخذ في المتعلق قصد القربة فالواجب تعبدي ، وربما لا يؤخذ فيه ذلك
فالواجب توصلي ، ومعنى الاحتياط في جميع الموارد واحد ، وهو اتيان المتعلق بجميع
ما يعتبر فيه.
٢ ـ انه قد تقدم ان
المأخوذ في المتعلق في التعبديات ، هو اضافة الفعل إلى
__________________
المولى بأي اضافة
كانت ، ولا يعتبر فيها الإضافة إليه بقصد امره المعين ، فلو كان عمل عبادة وصالحا
للاستناد إلى الله تعالى ، وإضافة العبد إليه في مقام العمل من غير قصد امره ، بل
تخيل وجود امر آخر وإضافة إليه بتلك الإضافة صح ووقع عبادة.
٣ ـ ان الأمر
بالاحتياط في العبادات متعلق بذات الفعل المضاف إلى المولى سبحانه.
إذا تبين هذه
الامور ، يظهر انه لو أتى بعمل خاص يحتمل كونه مامورا به ، بداعي الأمر الاحتياطى
الاستحبابى فقد تحقق الاحتياط ، فانه على الفرض أتى بالعمل مضافا إلى الله تعالى ،
فحال الأمر الاحتياطي ، حال الأمر النذرى ، فكما انه لو نذر ان يصلى صلاة الليل ،
وغفل عن امرها النفسي وقصد الأمر النذرى في صلاته ، لا اشكال في سقوط الأمر بصلاة
الليل وامتثاله ، للاتيان بها مضافا إلى الله تعالى فكذلك في المقام.
وهذا الوجه متين ،
اما على القول بعدم إمكان الاحتياط في العبادة بلحاظ امرها الواقعي على فرض وجوده
، فواضح ، واما بناء على المختار من امكانه كما ستعرف ، فلما مر نقله من المحقق
النائيني (ره) من ان الأمر بالاحتياط يمكن ان يكون مولويا ، وحيث ان ظاهر الأمر
كونه مولويا ، فيؤخذ بما هو ظاهر الأخبار من كون الاحتياط مستحبا نفسيا.
ويترتب عليه ، انه
يتجه الفتوى باستحباب العمل الذي يحتمل كونه مامورا به بالامر الواقعي ، وان لم
يعلم المقلد كون ذلك الفعل مما شك في كونها عبادة ، ولم يأت به بداعي احتمال
المطلوبية ، بل قصد الأمر الجزمى.
واما المورد
الثالث : وهو إمكان الاحتياط في العبادات بلا احتياج إلى امر آخر وعدمه ، فقد قوى
جماعة منهم الشيخ الأعظم (ره) العدم ، وعللوه ، بتوقف العبادة على قصد القربة ، المتوقف
على العلم بالامر ، إذ مع الجهل به لو أتى بها بقصد الأمر فهو تشريع محرم ، ولو أتى
بها بدون قصد الأمر ، فلم يأت بالمأمور به قطعا.
وفيه : انه بناء
على أي مسلك من المسالك ، فيما هو المناط في عبادية العبادة ، من كون اعتبار قصد
القربة في المتعلق ، بالامر الأول ، أو الأمر الثاني ، أو حكم العقل ، لا ريب في
ان قصد القربة المعتبر ، ليس عبارة عن قصد الأمر الجزمي ، بل هو عبارة عن اضافة
الفعل إلى الله تعالى ، وحيث ان هذا المعنى يتحقق فيما لو أتى بما يحتمل ان يكون
مأمورا به ، برجاء المطلوبية ، بل هذه الإضافة من أقوى الاضافات ، ولا يلزم منه
التشريع ، فامكان الاحتياط ظاهر لا سترة عليه.
وان شئت فقل ان
مدرك اعتبار قصد القربة كان ، هو حكم العقل ، أو النص المتضمن لاعتبار النية
الصالحة ، أو الإجماع ، لا دليل على اعتبار ازيد من اضافة الفعل إلى الله سبحانه ،
وهذا يتحقق فيما لو أتى به برجاء المطلوبية ، فلا اشكال في إمكان الاحتياط في
العبادة ، بلا احتياج إلى امر آخر.
__________________
قاعدة التسامح في ادلة السنن
التنبيه الثالث :
إذا كان منشأ احتمال الوجوب ، أو الاستحباب خبرا ضعيفا ، يمكن ان يقال باستحباب
ذلك الفعل بلا حاجة إلى اخبار الاحتياط ، لورود جملة من الأخبار دالة على استحباب
فعل دل خبر ضعيف على ترتب الثواب عليه ، لاحظ صحيح هشام عن الإمام الصادق (ع) : من
بلغه عن النبي (ص) شيء من الثواب فعمله كان اجر ذلك له وان كان رسول الله (ص) لم
يقله . وعن البحار ان هذا الخبر من المشهورات رواه العامة والخاصة باسانيد.
وخبر محمد بن
مروان عن الإمام الباقر (ع) من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس
ذلك الثواب أوتيه وان لم يكن الحديث كما بلغه ونحوهما غيرهما ولا مورد للبحث في سند هذه النصوص لان منها
ما هو صحيح ، إنما المهم البحث فيما يستفاد منها.
وملخص القول فيه
ان المحتمل فيه وجوه :
الأول : ان يكون
مفادها مجرد الأخبار عن فضل الله سبحانه من غير نظر إلى حال العمل وانه على أي وجه
يقع.
وبعبارة أخرى :
تكون ناظرة إلى حال العمل بعد الوقوع وانه إذا بلغ عن
__________________
الله سبحانه
الثواب يعطيه الله الثواب الذي بلغ العامل وان لم يكن الأمر كما اخبره من غير ان
تكون ناظرة إلى العمل وانه مستحب أو راجح ، ولا يثبت بها الاستحباب ، فيعتبر في
الخبر الذي يتمسك به للاستحباب ، ان يكون واجدا لشرائط الحجية.
وعليه فحيث انها
ليست ناظرة إلى حال العمل فلا إطلاق لها من هذه الجهة كي يتمسك به بل الظاهر منها
العمل معتمدا على البلوغ والعامل لا يعتمد على قول المبلغ إلا إذا كان قوله واجدا
لشرائط الحجية ، فكان واجديته لها اخذت في القضية مفروض الوجود وإلا لم يصح تفريع
العمل على البلوغ.
الثاني : ان يكون
مفادها إلغاء شرائط الحجية في باب المستحبات ، وعدم اعتبار العدالة والوثاقة في
حجية الخبر في المستحبات.
الثالث : ان تكون
ارشادا إلى حكم العقل بحسن الانقياد في مورد بلوغ الثواب واحتمال المطلوبية.
الرابع : ان يكون
مفادها الاستحباب بعنوان بلوغ الثواب بحيث يكون هذا العنوان من العناوين الموجبة
لحدوث المصلحة في الفعل الموجبة لتعلق امر استحبابى به.
اما الاحتمال
الأول : فيدفعه ان الظاهر من الأخبار ورودها في مقام الحث والترغيب إلى الفعل لا
بيان العمل بعد وقوعه والموضوع المأخوذ في النصوص البلوغ عن النبي (ص) أو الله
تعالى لا الصدور حتى تكون ظاهرة في الوصول الجزمى حقيقة أو حكما.
واما الاحتمال
الثاني : فيدفعه ان جعل الحجية عبارة عن جعل الطريقية والكاشفية ، ويكون لسان
دليله ، لسان إلغاء الشك ، وإراءة الواقع لا ترتب شيء على المشكوك فيه ، مع بقاء
الشك كما في المقام ، لاحظ قوله (ع) وان كان رسول الله (ص) لم يقله.
واما الاحتمال
الثالث : فيدفعه ان نصوص الباب سيما صحيح هشام إنما تدل على ترتب الثواب على نفس
العمل الذي بلغ عليه الثواب برواية ضعيفة غير معتبرة ولا اشكال في انه لا يترتب
عليه الثواب بحكم العقل بل الثواب بحكمه مترتب على العمل المأتي به بداعي احتمال
المطلوبية فحكم الشارع بترتب الثواب على نفس الفعل مطلقا ، لا يمكن ان يكون ارشادا
إلى حكم العقل.
فيتعين الرابع وقد
ظهر وجهه مما اسلفناه.
وحاصله ان هذه
الأخبار إنما تدل على ترتب الثواب على نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب ، فحيث ان
نفس العمل من دون الاستحباب لا معنى لترتب الثواب عليه فلا محالة يستكشف منها
استحباب العمل ، فما عن المشهور من التسامح في ادلة السنن مرادهم ذلك.
وأورد على ذلك
بإيرادات :
الأول : انه يعارض
هذه النصوص ما دل على عدم حجية خبر غير الثقة.
وفيه : أولا ان
هذه الأخبار مختصة بباب المستحبات ، فالنسبة عموم مطلق ، فعلى فرض التعارض تقدم
هذه.
وثانيا : انه قد
عرفت ان مفاد هذه النصوص ليس حجية خبر الضعيف في باب المستحبات ، بل استحباب العمل
بالعنوان الثانوي ، فلا تنافى بينهما لعدم ورود النفى والاثبات على شيء واحد ،
فكما لا تعارض بين ما دل على عدم حجية قول الفاسق ، وبين استحباب قضاء حاجته كذلك
، لا تنافى بين ما دل على عدم حجيته ، ونصوص الباب.
الثاني : ان هذه
المسألة مسألة أصولية لا يكتفى فيها باخبار الآحاد.
وفيه : أولا : ان
ما لا يكتفى فيه بخبر الواحد ، هو أصول العقائد لا أصول الفقه ، كيف وان حجية
الاستصحاب تثبت بخبر الواحد.
وثانيا : ان صاحب
الحدائق (ره) ادعى تواتر هذه النصوص.
وثالثا : انه قد
مر انها لا تدل على حجية ما دل على الاستحباب ، بل على استحباب نفس العمل فمفادها
قاعدة فقهية ، غاية الأمر من القواعد الفقهية التي يكون امر تطبيقها على مواردها
بيد المجتهد ، والمقلد لا يقدر على ذلك بحسب الغالب نطير قاعدة لا ضرر.
الثالث : انه في
بعض النصوص فرع العمل على بلوغ الثواب ، وظاهر ذلك ترتب الثواب على العمل الماتى
به بعنوان الرجاء والاحتياط الذي يحكم العقل بترتب الثواب عليه.
وفيه : انه بناء
على كون مفاد النصوص استحباب العمل لا ريب في كون
__________________
بلوغ الثواب من
مقومات الموضوع ويكون ذلك متقدما على الحكم وعليه فيكون مفاد هذا النص منطبقا على
سائر النصوص ولا يدل على ان المستحب بعد البلوغ اتيان العمل بكيفية خاصة كاتيانه
بداعي احتمال الأمر بل من ترتب الثواب عليه بقول مطلق يستكشف استحبابه كذلك.
وبالجملة فرق بين
اتيان العمل برجاء المطلوبية وبين ترتب العمل على البلوغ الذي هو مفاد هذا النص.
الرابع : انه في
بعض النصوص قيد اتيان العمل بقوله التماسا للثواب وطلبا لقول النبي (ص) وهذا يقتضي
اختصاص الحكم بما إذا أتى به برجاء المطلوبية.
ويتوجه عليه : بعد
التحفظ على أمرين :
أحدهما ان الفعل
الذي لا نفع دنيوى فيه ولا يكون للمكلف داع ، من قبل نفسه لاتيانه ، لا بد في
الاتيان به من داع آخر ، وذلك الداعي بحسب الغالب في الواجبات هو الطمع في الثواب
، أو الفرار من العقاب ، وفي المستحبات خصوص الأول.
ثانيهما ان الطمع
في الثواب بنفسه لا يكون داعيا إلى العمل بلا وساطة شيء آخر لأنه لا يترتب على
العمل الماتي به بداعي درك الثواب ، لأنه مما يترتب على العمل الماتى به قربيا ،
فلا بد من توسيط القربة واضافة الفعل إلى المولى بوجه.
ان النص ، إنما
يدل على ترتب الثواب على ما لو أتى بالفعل بداعي
ترتب الثواب ،
وهذا لا ينافي استحبابه مطلقا وفي نفسه لأنه إذا لم يكن الفعل مما يشتاق إليه
الإنسان بطبعه كان داعيه إلى الإتيان به ترتب الثواب عليه بتوسيط قصد القربة
وإتيانه مضافا إلى المولى كما هو الشأن في المستحبات القطعية بحسب الغالب إذ فرض
كون الداعي أهلية المولى للعبادة فرض نادر ، والخبر ناظر إلى حال الغالب ، فالخبر
قيد فيه هذا القيد لبيان أمر واقعي ، وهو كون الداعي لإتيان المستحب ترتب الثواب
عليه ، وحيث انه لم يقيد العمل في النص بما إذا أتى به برجاء المطلوبية فيستفاد
منه ترتبه عليه لو أتى به بداعي الأمر الجزمي ، فيكون كاشفا عن الأمر الاستحبابي ،
فيكون وزان هذه النصوص حينئذ وزان ما دل على استحباب جملة من الأشياء بلسان ترتب
الثواب عليها.
مع انه لو سلم كون
مفاد هذه النصوص المتضمنة لتفريع العمل على بلوغ الثواب ، وإتيانه طلبا لقول النبي
(ص) والتماسا للثواب الموعود ترتب الثواب على العمل الماتي به برجاء درك الواقع لا
محالة يكون ارشادا محضا إلى ما يحكم به العقل من حسن الانقياد ، ومعه لا معنى
لكونه مقيدا للنصوص المطلقة المستفاد منها الحكم المولوي من ترتب الثواب على ذات
العمل ، لعدم الارتباط بينهما.
وما ذكرناه في
الجواب عن الاشكالين الاخيرين ، إنما هو على ما سلكناه في مبحث التجرِّي من ان
الثواب والعقاب على الانقياد والتجري ، إنما يكونان على الفعل المتجرى به أو
المنقاد به.
واما على مسلك
الشيخ الأعظم (ره) من عدم الثواب والعقاب عليهما وإنما هما كاشفان عن حسن
سريرة الفاعل وقبحها.
ومسلك المحقق
الخراساني من انهما على مقدمات الفعل لا على نفسه فلا يحتاج إلى هذا
التطويل.
فانه في الأخبار
بأجمعها حتى المقيد منها لو كان إنما رتب الثواب على الفعل ، وحيث ان الثواب على
الفعل مختص بما إذا كان واجبا أو مستحبا فلا محالة يستكشف استحبابه.
وبذلك يظهر ان ما
أفاده الشيخ الأعظم (ره) من حمل هذه الأخبار باجمعها على الارشاد إلى حكم العقل لا
يتم على مسلكه.
كما ان ما ذكره
المحقق الخراساني في الأخبار المتضمنة للقيد من كونها ارشادا إلى حكم العقل
لكنها لا توجب تقييد إطلاق الأخبار الأخر.
لا يتم على مسلكه.
__________________
تتميم في بيان أمور
وتمام الكلام في
هذا التنبيه ، ببيان أمور :
الأول : ان الظاهر
من الأخبار بناء على المختار من استفادة الاستحباب منها ، إنما هو موضوعية ،
البلوغ لهذا الحكم ، وعليه فيشكل افتاء الفقيه باستحباب عمل قام على استحبابه خبر
ضعيف مطلقا ، بل لا بد وان يفتى به لمن بلغه الثواب ، فالمقلد الذي لم يبلغه
الثواب لا يكون هذا الحكم ثابتا له فكيف يفتى بالاستحباب.
نعم لو اخبر أولا
بورود ضعيف على رجحانه صح له الافتاء باستحبابه بعده.
ودعوى : ان
المجتهد إنما يكون نائبا عن المقلد في استنباط الأحكام منها هذا الحكم.
مندفعة : بأنه
إنما يكون نائبا عنه في الحكم الثابت للمقلد أيضاً ، واما الحكم المختص بطائفة
خاصة فنيابة المجتهد لا تجدى في ثبوت الحكم لغير تلك الطائفة وحيث ان هذا الحكم
مختص بمن بلغه الثواب فلا يثبت الاستحباب لغير من بلغه وليس للمجتهد الافتاء به
له.
اللهم إلا ان
يستفاد من الأخبار ان البلوغ اعم من البلوغ للمقلد نفسه والبلوغ للمجتهد الذي
يقلده.
الثاني : ان هذه
الأخبار كما تشمل ما لو قام خبر ضعيف على الثواب ،
كذلك تشمل ما لو
قام على استحبابه أو وجوبه ، إذ في الموردين يخبر الراوى عن الاستحباب أو الوجوب
مطابقة ، وعن ترتب الثواب على فعله التزاما ، فيكون مشمولا لاخبار من بلغ لان
الموضوع فيها اعم من كون البلوغ بالمطابقة أو الالتزام ، وكونه دالا بالالتزام في
المورد الثاني على ترتب العقاب على تركه أيضاً ، لا يمنع من ذلك لأنه لا يثبت
بالخبر الضعيف.
الثالث : عنوان
المسألة في كلمات القوم يقتضي اختصاص الحكم بالمستحبات فلا يتسامح في ادلة
المكروهات ، ولكن الشيخ الأعظم قال في الرسالة التي صنفها في هذه المسألة ان المشهور
الحاق الكراهة بالاستحباب ، وصاحب الفصول قال في عنوان المسألة قد تداول بين أصحابنا التسامح في
ادلة السنن والمكروهات ، وعن الشهيد في الذكرى دعوى الإجماع عليه.
وقد استدل للتعميم
بوجوه :
١ ـ ان دليل
الكراهة يدل بالالتزام على ترتب الثواب على الترك فيشمله الأخبار.
٢ ـ تنقيح المناط
فان المستفاد من النصوص التسامح في أدلة الأحكام غير اللزومية وانه لا يعتبر في
اثباتها ما يعتبر في الأحكام اللزومية.
__________________
٣ ـ عموم لفظ
الفضيلة في النبوي المروى عن طرق العامة عن عبد الرحمن الحلوائي رفعا عن جابر بن
عبد الله الأنصاري قال رسول الله (ص) من بلغه من الله فضيلة فاخذ بها وعمل بها
ايمانا بالله ورجاء ثوابه اعطاه الله ذلك وان لم يكن كذلك .
٤ ـ عموم لفظ
الشيء في الأخبار للفعل والترك.
٥ ـ عموم قول
الإمام الصادق (ع) في ما عن كتاب الإقبال لابن طاووس (من بلغه شيء من الخير) فانه
اعم من بلوغه على الفعل أو الترك.
٦ ـ ان ترك
المكروه مستحب فيشمله الأخبار.
٧ ـ ظاهر اجماع
الذكرى .
وفي الكل مناقشة :
اما الأول : فلان
ظاهر الأخبار ترتب الثواب على الفعل كما يشهد له التفريع عليه بقوله (ع) فعمله أو
فصنعه فلا تشمل البلوغ على الترك.
واما الثاني فلان
المناط المشار إليه ظنى لا يصلح لاثبات الحكم الشرعي.
واما الثالث :
فلعدم الاعتماد على سنده ، مع انه مذيل بقوله وعمل بها الظاهر في الفضيلة في الفعل
، وبه يظهر ما في الرابع والخامس :
__________________
واما السادس :
فلأن ترك المكروه ليس مستحبا.
واما السابع :
فلعدم ثبوت الإجماع وعدم حجيته على تقدير ثبوته لمعلومية المدرك.
فالأظهر هو
الاختصاص بالفعل المستحب كما هو ظاهر الأخبار.
الرابع : هل يلحق
بالخبر الضعيف فتوى الفقيه كما هو ظاهر المحقق في المعتبر في مسألة الصلاة إلى انسان مواجه؟
فيثبت استحباب
العمامة مع التحنك في الصلاة لفتوى مشايخ الصدوق أم لا؟ كما هو ظاهر الاكثرين
وجهان :
أقواهما الثاني :
لان الظاهر من البلوغ هو البلوغ بطريق الحس دون الحدس والاجتهاد.
نعم يلحق بالخبر فتوى
من لا يفتي إلا بمتون النصوص كما في كثير من القدماء فان فتواه حينئذ ابلاغ للخبر
، ولو شك في ذلك فالأظهر عدم ثبوت الاستحباب للشك في صدق الموضوع.
__________________
وبذلك يظهر ما في
كلام الشيخ الأعظم في الرسالة حيث قال ان كان يحتمل ذلك استناده في ذلك إلى
الشارع اخذ به لصدق البلوغ باخباره.
فانه يرده انه مع
هذا الاحتمال يحتمل البلوغ لا انه يصدق البلوغ ، وأولى من ذلك في عدم الثبوت ما لو
علم استناد المفتي إلى قاعدة عقلية نظير ما حكي عن الغزالي من الحكم باستحقاق الثواب على فعل مقدمة الواجب فان الظاهر
استناده في ذلك إلى قاعدة تحسين العقل للاقدام على تهيئ مقدمات الواجب.
وبه يظهر ضعف ما
أفاده المحقق القمي في القوانين من إمكان كون ذلك منشأ للتسامح.
وأولى من الكل ما
لو علم خطأ المجتهد في المستند بان علمنا انه استند إلى رواية لا دلالة فيها.
الخامس : إذا ورد
خبر ضعيف دال على استحباب عمل ودل خبر آخر على عدم استحبابه ، فان كان ذلك الخبر
غير معتبر فلا إشكال في شمول الأخبار له.
__________________
وان كان معتبرا
فقد يتوهم عدم شمول الأخبار له نظرا إلى ان مقتضى دليل اعتباره تتميم الكشف والغاء
احتمال الخلاف والقطع التعبدى بعدم الاستحباب ولازمه رفع موضوع اخبار التسامح وهو
البلوغ مع احتمال المصادفة فلا تجرى تلك الأخبار.
وأجاب عنه المحقق
العراقي بأنه لا تعارض بينهما حيث لا يرد النفي والإثبات فيهما على
موضوع واحد لان ما تثبته أخبار التسامح هو استحباب العمل بعنوان بلوغ الثواب وهذا
مما لا ينفيه ذلك الدليل المعتبر فان ما ينفيه إنما هو استحبابه بعنوانه الأولي.
وفيه : ان المدعى
ليس هو التنافي بين الدليلين ، بل ان دليل اعتبار ذلك الخبر المعتبر يوجب رفع
موضوع اخبار التسامح.
وبه يظهر ان ما
أفاده الشيخ الأعظم (ره) ـ من ان التنافي إنما يكون بين ادلة حجية ذلك الدليل
واخبار الباب وانهما يتساقطان ـ في غير محله.
__________________
والحق في الجواب
ان يقال انه لم يؤخذ احتمال المصادفة للواقع في موضوع اخبار الباب حتى يكون ذلك
الدليل رافعا لموضوع اخبار التسامح ، بل الموضوع هو بلوغ الثواب غاية الأمر يكون
منصرفا عما لو علم وجدانا بخطائه ، وانه يعتبر الاحتمال الوجداني غير المرتفع بذلك
الدليل ، وعليه فمقتضى إطلاق اخبار التسامح ثبوت الاستحباب في الفرض ، وحيث ان
الخبر المعتبر يدل على عدم استحباب الفعل بعنوانه الأولى ، وأخبار الباب تدل على
استحبابه بالعنوان الثانوي وهو بلوغ الثواب عليه فلا تعارض بينهما ، وكما لا تعارض
بين ذلك الدليل المعتبر وأخبار الباب كذلك ، لا تعارض بين أدلة حجية ذلك الخبر
وأخبار التسامح ، فما أفاده الشيخ من تسليم التعارض والحكم بالتساقط ، في غير محله
كما مر.
السادس : إذا دل
خبر ضعيف على استحباب عمل دل الدليل المعتبر بعمومه أو اطلاقه على حرمته كما لو دل
خبر ضعيف على استحباب ايذاء المؤمن في ليلة التاسع من الربيع ، فهل يشمله أخبار
الباب لاطلاقها ، أم لا؟ وجهان :
قد استدل للثاني
بوجهين :
أحدهما انصراف
النصوص عما دل الدليل على عدمه.
وفيه : ان
الانصراف عما علم وجدانا خطأه لا اشكال فيه ـ واما الانصراف عما علم عدمه تعبدا ـ فلو
سلم فهو بدوى لا اعتبار به.
الثاني : انه
بالدليل المعتبر يعلم بعدم الثواب عليه تعبدا فكيف يمكن القول بشمول الأخبار له
المتوقف على احتمال الثواب.
وفيه : ان الموضوع
بلوغ رواية ضعيفة دالة على ترتب الثواب عليه مع الاحتمال الوجداني بالاستحباب كما
مر وهذا لا ينفيه دليل التحريم.
فالأظهر شمول
الأخبار له.
وعليه فيقع
التعارض بين دليل الحرمة ودليل الاستحباب.
وقد يقال كما عن
الشيخ الأعظم (ره) في مبحث الغناء من مكاسبه بأنه يقدم الأول : فان دليل
الاستحباب ، إنما يتضمن ثبوت الحكم لوجود جهته المقتضية له مع عدم تحقق ما يقتضي
الالزام بترك مورده ، فالفعل إنما يتصف بالاستحباب إذا خلي في طبعه عما يقتضي
الحرمة ، فمع طرو عنوان ملزم لتركه يكون محرما ولا يقاومه دليل الاستحباب.
ولكن : ما ذكره
يتم في موارد :
أحدها ما إذا وقعت
المزاحمة بين الدليلين في مقام الامتثال من دون ان يتصادقا على مورد واحد ، كما لو
وقعت المزاحمة بين وجوب الصوم واستحباب قراءة القرآن إذا لم يتمكن من الجمع بينهما
، إذ دليل الإلزام يكون معجزا عن دليل الاستحباب.
ثانيها : ما إذا
كان الموضوع واحدا ولكن كان الحكم غير الالزامي مشروطا بان لا يلزم من موافقته
مخالفة حكم الزامي كقضاء حاجة المؤمن ، لان استحبابه مقيد بعدم لزوم فعل الحرام من
امتثاله ، وعليه يبتنى عدم توقف احد في انه لا
__________________
يجوز شيء من
المحرمات بعنوان قضاء حاجة المؤمن.
ثالثها : ما إذا
كان الحكم غير الالزامي ، مترتبا على الشيء بعنوانه الأولى والحكم الالزامي متعلقا
به بعنوانه الثانوي.
واما في غير هذه
الموارد ، وهو ما إذا كان الثابت في الواقع حكما واحدا ، وكانت الأدلة متعارضة في
ثبوت الحكم الإلزامي أو غير الإلزامي ، بنحو التباين أو العموم من وجه ، فلا وجه
لدعوى تقديم دليل الحكم الإلزامي ، إلا دعوى أحد أمور ثلاثة على سبيل منع الخلو :
أحدها : عدم ثبوت
الإطلاق لدليل الحكم غير الالزامي بنحو يشمل موردا قام فيه دليل على حكم الزامي.
ثانيها انصرافها
عن هذا المورد.
ثالثها : ظهوره في
تقييد ما تضمنه من الحكم بعدم المخالفة للحكم الالزامي : والكل كما ترى.
واما دعوى ان
مقتضيات الأحكام الترخيصية لا تصلح لمزاحمة مقتضيات الأحكام الالزامية.
فأجنبية عن المقام
إذ تلك إنما هي فيما إذا ثبت المقتضيان ، وهو في الفرض معلوم العدم لفرض التعارض
بين الدليلين ، ولا اقل من عدم المعلومية.
وعليه فحيث ان ما
نحن فيه ليس من قبيل الموارد الثلاثة ، الأول كما هو واضح ، فان قلنا بأنه في التعارض
بالعموم من وجه بين الدليلين يتساقط الاطلاقان ففي المقام يتساقط الدليلان ، ويرجع
إلى أصالة الإباحة ، وان قلنا انه
يرجع إلى أخبار
الترجيح ، فيقدم دليل الحرمة للشهرة التي هي أول المرجحات.
السابع : لو دل
خبر ضعيف على موضوع من الموضوعات التي يترتب عليها الحكم الاستحبابى كما لو دل خبر
ضعيف على مسجدية موضع خاص ، فهل يشمله اخبار من بلغ من جهة انه بالملازمة يخبر عن
الحكم الاستحبابي المترتب عليه كاستحباب الصلاة في ذلك الموضع في المثال ، أم لا؟
قد استدل للثاني :
بان الظاهر من أخبار الباب اختصاصها بما إذا اخبر عن النبي (ص) بما هو نبي ، لا
بما انه بشر ، والأخبار عن مسجدية موضع خاص ليس من شانه بما انه نبي ، كما ان
أخباره باستحباب الصلاة فيه بالملازمة ليس من شئون النبي ، فان وظيفته بيان
الأحكام الكلية مثل استحباب الصلاة في المسجد.
وفيه : ان كثيرا
من الأخبار ليس فيها من بلغه عن النبي ، بل هي مطلقة لاحظ صحيح هشام عن الإمام
الصادق (ع) من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له وان لم يكن على ما بلغه .
ومثله ما رواه
الصدوق عن الكليني بطرقه إلى الأئمة (ع) ونحوهما غيرهما.
وعليه فالأظهر هو
الشمول لاطلاق الأخبار نظرا إلى الملازمة المشار إليها.
__________________
أضف إليه ما أفاده
الشيخ (ره) من تنقيح المناط على القول بعدم شمولها بإطلاقها له ، إذ
من المعلوم عدم الفرق بين ان يعتمد على خبر الشخص في استحباب العمل الفلاني في هذا
المكان كبعض أماكن مسجد الكوفة وبين ان يعتمد عليه في ان هذا المكان هو المكان
الفلاني الذي علم انه يستحب فيه العمل الفلاني ، انتهى.
وعلى ذلك فيشمل
أخبار الباب النصوص الضعيفة الواردة في تشخيص مدفن الأنبياء والأولياء وأولادهم ،
والواردة في تشخيص المقامات في مسجد الكوفة ، والوارد في رأس سيد الشهداء عند امير
المؤمنين عليهماالسلام وما شاكل.
الثامن : هل يشمل
الأخبار لنقل فضيلة من فضائل المعصومين عليهمالسلام ، أو مصيبة من مصائبهم التي لم يقم على ثبوتها دليل معتبر
، بل وردت بها رواية ضعيفة فيتنقل من دون ان تنسب إلى الحكاية على حد الأخبار
بالامور الواردة بالطرق المعتبرة ، بان يقال كان امير المؤمنين يقول كذا ويفعل كذا
ويبكى كذا ، ونزل على سيد الشهداء كذا وكذا ، كما عن غير واحد ، بل ظاهر الشهيد في
الذكرى حيث قال ان أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم ،
كونه مسلما عند القائلين بالتسامح ، وعن الشهيد الثاني في الدراية جوز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ وفضائل
الأعمال إلى ان قال وهو
__________________
حسن حيث لم يبلغ
الضعيف حد الوضع والاختلاق أم لا؟ وجهان :
قد استدل للثاني
بوجهين :
أحدهما : ان الخبر
الضعيف في المورد لا يكون متضمنا لترتب الثواب على شيء وإنما مفاده ثبوت الموضوع
لما دل على نقل فضائلهم ومصائبهم ، وما دل على استحباب ذلك إنما هو اخبار صحيحة
معتبرة لا حاجة معها إلى اخبار من بلغ إلا انه لا تثبت الموضوع.
الثاني : أن نقل
ما لم يثبت حرام شرعا ، لكونه من الكذب المحرم ، وقد مر ان الأخبار لا تشمل ما لو
كان العمل الذي دل الخبر الضعيف على ترتب الثواب عليه محرما بمقتضى عموم دليل
معتبر أو اطلاقه.
ولكن يرد على
الثاني : ان الكذب المحرم هو ما لو كان الخبر بما له من المراد الاستعمالى للمتكلم
مخالفا للواقع فما لا علم بمخالفته للواقع لا يصدق عليه الكذب ، بل هو محتمل لكونه
كذبا فمع الشك في الموضوع لا يشمله ادلة حرمة الكذب.
فان قيل : لازم
ذلك جواز الأخبار به حينئذ للشك في الحرمة فيشمله ادلة البراءة.
اجبنا عنه : بان
العلم الإجمالي بمخالفته أو الأخبار بنقيضه للواقع ، يمنع عن الأخبار به ، فعلى
هذا حيث تكون اخبار من بلغ مرخصة في المخالفة الاحتمالية لهذا العلم الإجمالي ،
وقد مر انه لا مانع من الترخيص في المخالفة الاحتمالية فلا محذور في الحكم
باستحباب نقل الفضائل والمصائب مستندا إلى
تلكم الأخبار.
ويرد على الأول ما
تقدم في التنبيه السابق من ان النصوص تشمل الأخبار عن الموضوع.
وعلى هذا فما
أفاده الشيخ الأعظم في رسالة التسامح ـ ان العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء
وهذا أمر وجداني لا ينكر ويدخل فيها فضائل أهل البيت ومصائبهم ويدخل في العمل
الأخبار بوقوعها من دون نسبة إلى الحكاية ـ إلى ان قال ـ والدليل على جواز ما
ذكرناه من طريق العقل حسن العمل بهذا مع أمن المضرة فيها على تقدير الكذب واما من
طريق النقل فرواية ابن طاووس والنبوى مضافا إلى اجماع الذكرى المعتضد بحكاية ذلك
من الأكثر انتهى ـ حسن ومتين.
وربما يستدل له
كما عن الفاضل النراقي بما دل على رجحان الابكاء ، وذكر الفضائل والمناقب ،
والإعانة على البر والتقوى.
ولكن بما ذكرناه
في الاستدلال لعدم الشمول يظهر ما فيه.
التاسع : الظاهر
عدم الفرق ـ كما صرح به غير واحد ـ بين وجود الخبر في كتب الخاصة ومرويا من طرقهم
، أو كونه مرويا من طرق العامة ، لاطلاق الأخبار.
واستدل للاختصاص
بان لازم التعميم العمل بما رواه المخالفون وقد ورد
__________________
المنع من الرجوع
إليهم.
ويرد عليه : أولا
: انه لو تم لكان واردا على من يرى ان مرجع التسامح إلى حجية خبر الضعيف في باب
السنن ، واما على ما اخترناه من ان مفاد النصوص استحباب العمل بالعنوان الثانوي
فلا مورد له أصلاً لعدم كونه رجوعا إليهم أصلاً.
وثانيا : انه لا
يتم لما أفاده الشيخ (ره) من ان الممنوع هو الرجوع إليهم في اخذ الفتوى واما مجرد
الرجوع إلى كتبهم لاخذ الروايات والآداب والسنن فنمنع قيام الدليل على منعه
وتحريمه.
العاشر : لو ورد
خبر ضعيف على اعتبار خصوصية في المستحب الثابت في الشريعة كالوارد مثلا في اعتبار
الغسل في الزيارة الجامعة ، فهل يحمل المطلق عليه ، أم لا؟
قد يقال بأنه على
القول بان أخبار التسامح تدل على إلغاء شرائط الحجية وتدل على حجية الخبر الضعيف
لا بد من البناء على الحمل وهو واضح.
واما على القول
بأنها تدل على الاستحباب بالعنوان الثانوي فيشكل الحكم بالتقييد فان غاية ما يثبت
بها حينئذ هو الاستحباب بالعنوان فيكون ما قام الخبر على استحبابه مستحبا في
مستحب.
ولكن يرد عليه ان
الظاهر من الأخبار استحباب الشيء على النحو الذي
__________________
دل الخبر الضعيف
عليه من كونه نفسيا أو قيدا لمركب ، وعليه فيثبت باخبار التسامح قيدية ما تضمنه
الخبر الضعيف غاية الأمر بالعنوان الثانوي.
الحادي عشر : إذا
دل خبر ضعيف على استحباب عمل ودل خبر ضعيف آخر على حرمته أو كراهته ، فان بنينا
على عدم شمول النصوص للخبر الضعيف الدال على مرجوحية فعل لا اشكال في ثبوت
الاستحباب في الفرض لان ما دل على المرجوحية حينئذ كالعدم.
وما أفاده المحقق
النائيني من انصراف النصوص إلى مورد ورد فيه الثواب خاصا ولا يشمل
المقام ، غير ظاهر الوجه.
وان بنينا على
شمولها له وثبوت استحباب الترك بها.
فعن الشهيدين
والشيخ وقوع التزاحم بين ما دل على استحباب الفعل وما دل على
استحباب الترك فيكون المقام من قبيل صوم يوم عاشوراء الذي يكون فعله وتركه
مستحبين.
ولكن الأظهر ان ما
أفادوه وان تم فيما إذا كان الفعل عباديا فان الفعل والترك حينئذ من الضدين الذين
لهما ثالث فيمكن الالتزام باستحبابهما بنحو الترتب ، ولكنه لا يتم فيما إذا كان
الفعل كالترك غير عبادي فانه لا يعقل استحباب النقيضين بنحو الترتب في مقام الثبوت
فلا محالة يقع التعارض بينهما ولا بد من إعمال قواعد ذلك الباب.
__________________
ثمرة هذا البحث
الثاني عشر : في
بيان ثمرة هذا البحث وذكر الشيخ في بيان الثمرة موردين :
الأول : جواز
المسح ببلة المسترسل من اللحية لو دل خبر ضعيف على استحباب غسله في الوضوء ، بناء
على ثبوت الاستحباب الشرعي بالخبر الضعيف ، وعدم جواز المسح بها بناء على عدم
ثبوته لعدم كونه من اجزاء الوضوء حينئذ.
وأورد على ذلك
بوجهين :
١ ـ ما أفاده
المحقق الخراساني في التعليقة قال ان المسح لا بد من ان يكون من بلل الوضوء ولا يصح ببلل
ما ليس منه ولو كان مستحبا فيه انتهى.
وحاصله ان المسح
لا يصح ببلة غير ما ثبت جزئيته للوضوء وغسل المسترسل لو ثبت استحبابه فهو مستحب
مستقل لا جزء للوضوء.
وفيه : ان الظاهر
من اخبار المسألة استحباب الشيء على النحو الذي دل عليه الخبر الضعيف ، من كونه
مطلوبا مستقلا ، أو جزءا للمركب ، فإذا دل الخبر على استحباب غسل المسترسل بالامر
الضمنى وجزءا للوضوء كان مفاد اخبار من بلغ ثبوته كذلك ، وان شئت فقل انه يثبت
بالاخبار استحباب الشيء بعنوان بلوغ الثواب به ، ومنه يستكشف أمر به ، والأمر
بالجزء ظاهر في الجزئية
__________________
كما هو الشأن في
جميع الموارد.
٢ ـ انه لم يدل
دليل على جواز المسح برطوبة كل جزء من أجزاء الوضوء ، بل دل على المسح برطوبة الوجه
والمسترسل من اللحية الخارج عن حد الوجه ، ولعل هذا مراد الشيخ الأعظم (ره) حيث قال ويحتمل قويا المنع من اخذ البلل حتى بناء على كونه
مستحبا شرعيا ، وتمام الكلام في ذلك في الفقه.
الثاني : لو دل
خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغاية من الغايات ، إذ بناء على ثبوت الاستحباب يكون
ذلك الوضوء مستحبا ورافعا للحدث ، وبناء على عدمه لا يكون رافعا.
والإيراد عليه
بأنه ليس كل وضوء مستحب رافعا ، فان وضوء الجنب للنوم مستحب غير رافع ، وكذا
لاعادة الجماع.
مندفع : بان ما
ذكر من موارد النقض فإنما هو في فرض عدم إمكان رفع الحدث بالوضوء لأنه الأكبر ،
واما إذا كان الحدث اصغر فلا اشكال في ارتفاعه بالوضوء المستحب.
ولكن الذي يرد على
ذلك ان الوضوء مستحب نفسي فلو توضأ للغاية المفروضة بما انه يقصد الوضوء ، لا
محالة يكون وضوؤه رافعا للحدث ، وان لم يثبت الاستحباب باخبار الباب.
فتحصل انه لا ثمرة
لهذا البحث إلا من ناحية فتوى الفقيه باستحباب
__________________
العمل ، وإتيان
المقلد به بقصد الأمر على القول بثبوت الاستحباب ، ولا يجوز شيء منهما على القول
الآخر.
جريان البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية
التنبيه الرابع :
اتفق الاصوليون والاخباريون ، على ان مقتضى الاصل في الشبهة الموضوعية التحريمية
هو الإباحة ، وعدم وجوب الاجتناب عنها ، ويشهد به مضافا إلى إطلاق ادلة البراءة
خصوص جملة من الأخبار على ما تقدم.
وقد يتوهم عدم
جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيها ، وانها تختص بالشبهات الحكمية : لان مورد
القاعدة ما إذا لم يبين الشارع الحكم أصلاً ، وفي الشبهة الموضوعية بيّن الشارع
الحكم ، مثلا لو شك في كون المائع خمرا أو ماء ، فقد بين الشارع حكم الخمر وإنما
الشك يكون في امتثال ذلك التكليف فيجب حينئذ الاجتناب عن كل ما يحتمل خمريته من
باب المقدمة العلمية ، فالعقل لا يقبح العقاب إذا صادف الحرام الواقعي.
وبعبارة أخرى : ان
مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنما هو ما إذا لم يرد بيان من الشارع وفي الشبهة
الموضوعية البيان الذي وظيفة الشارع تحقق ووصل إلى المكلف ، لان وظيفته بيان
الأحكام الكلية ، والشك في الحكم ليس لأجل الشك في البيان من جهة الشك في صدق
الصغرى ، وبيان الصغريات ليس وظيفة الشارع فلا مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ،
بل المرجع قاعدة الاشتغال ، إذ العلم باشتغال الذمة بالكبرى الكلية المجعولة يقتضي
العلم
بالبراءة اليقينية
، والفراغ اليقيني ، وذلك لا يحصل إلا باجتناب المشكوكات أيضاً.
وأجاب عنه الشيخ
الأعظم بالنقض بالشبهات الحكمية ، وان ما ذكر من التوهم جار فيها
أيضاً لان العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش وما نهاكم عنه فانتهوا تدل
على حرمة أمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها.
ويرد عليه ان منشأ
الإشكال لو كان هو ما أفاده من ان الترك في الشبهة الموضوعية مقدمة علمية للامتثال
صح ما أفاده ، ولكن قد عرفت ان منشأ الإشكال شيء آخر ، وهو ان بيان المصاديق ليس
وظيفة المولى ، وعليه فالشبهة المصداقية في مورد النقض بما ان رفع الشبهة فيها
وبيان الحكم وظيفة المولى ، فمع الشك يجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان وهذا بخلاف
الشبهة المصداقية في موارد الشبهات الموضوعية كما تقدم.
وأجاب عنه المحقق
الخراساني (ره) بما حاصله ان النهي الذي هو طلب للترك ، يتصور على وجهين :
الأول : طلب ترك
الطبيعة السارية بان يكون الملاك في كل ترك ، ويكون الحكم انحلاليا ، وفي مثل ذلك
تعلق التكليف بالأفراد المعلومة معلوم ، وتعلقه بالمشكوك فيه ، غير معلوم ، فيجرى
فيه البراءة.
الثاني : طلب ترك
الطبيعة بنحو يكون المطلوب شيئا واحدا ، وهو ترك
__________________
جميع الأفراد ،
وخلو صفحة الوجود عنها وفي مثله لا بد من الاحتياط ولا تجري البراءة عن الفرد ،
لفرض ان المطلوب شيء واحد واللازم احراز الترك ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه.
ويرد عليه أمران :
١ ـ ان النهي ليس
عبارة عن طلب الترك بل عبارة عن الزجر عن الفعل ، إذ الطلب ناشئ عن المصلحة في
المطلوب كان هو الفعل أو الترك ، وهو الأمر ، والنهي إنما يكون ناشئا عن المفسدة
في المنهي عنه وهو زجر عن الفعل.
٢ ـ انه لو سلم
كون النهي هو طلب الترك كما تجرى البراءة في الصورة الأولى كذلك تجري في الثانية
وذلك يبتني على بيان مقدمة.
وهي انه كما يكون
وجود الطبيعي بوجود أفراده لا أمرا متحصلا عنها كذلك يكون عدم الطبيعي بإعدام
أفراده لا أمرا متحصلا عنها ، وعليه فإذا كان المطلوب عدم الطبيعة بالنحو الثاني
كان المطلوب هو اعدام أفراده ، وحيث انها متعددة وكل عدم مطلوب بطلب ضمني ، فعلى
القول بجريان البراءة في الشك في الأقل والأكثر تجري البراءة عن مطلوبية عدم ما شك
في فرديته للعلم بمطلوبية سائر الاعدام ، والشك في مطلوبيته والبراءة تقتضي عدم
مطلوبيته.
وأجاب المحقق
النائيني (ره) عن الاشكال ، بما حاصله : ان النهي المتعلق بطبيعةٍ متعلقة
بموضوع خارجي ، كلا تشرب الخمر ، تتصور على نحوين :
__________________
أحدهما : السالبة
المحصلة بان يكون كل فرد من أفراد الخمر فيه مفسدة مستقلة موجبة للزجر عنه ، وفي
مثله تجرى البراءة في الشبهة الموضوعية إذ العقاب ، إنما يترتب فيما إذا علم بوجود
ذلك الموضوع في الخارج ، وما لم يعلم لا يصح العقاب على مخالفة ذلك التكليف ، لان
تنجز التكليف في هذه الموارد ، إنما يكون بالعلم بالكبرى ، والعلم بالصغرى معا
ومجرد العلم بالكبرى لا يجدي ، إذ العقاب إنما يترتب على العلم بالتكليف الفعلي ،
وعليه فلا محالة ينحل التكليف المجعول بالنحو الكلي إلى أحكام عديدة مجعولة على
نحو القضية الحقيقية ، فمع الشك في صدق الموضوع يشك في فعلية الحكم ومعه يرجع إلى البراءة.
ثانيهما : الموجبة
المعدولة المحمول ، كان يقال كن لا شارب الخمر ، وفي مثله لا تجرى البراءة ، إذ
متعلق هذا التكليف هو كون المكلف واجدا لوصف اللاشاربية ، فلو شك في خمرية شيء يشك
لا محالة في حصول هذا الوصف مع عدم تركه فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال.
ويرد عليه : أولا
: ان التكليف الفعلي إذا لم يكن معلوما إنما يقبح العقل العقاب على مخالفته إذا
كان ذلك عن قصور من ناحية المولى في مقام الجعل أو الايصال ، واما إذا فرضنا ان
المولى عمل بوظيفته وبين الحكم وجعله في معرض الوصول إلى المكلف ووصل ، وكان منشأ
الشك اشتباه الامور الخارجية فلا يقبح من المولى العقاب على مخالفته إذ ليس بيان
المصاديق وتعيين الجزئيات وظيفة المولى ولا يقبح منه ترك هذا البيان فإذا تم من
قبله البيان انقطع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
وثانيا : يرد عليه
ما أوردناه على المحقق الخراساني ، فان عدم الطبيعة إذا كان عين اعدام أفراده ،
كان معنى ، كن لا شارب الخمر ، كن متصفا باعدام أفراد تلك الطبيعة ، فكل عدم لا
محالة يكون محكوما بحكم ضمنى ، وعليه فلو شك في خمرية شيء لا محالة يكون من قبيل
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطين والمرجع في ذلك المورد هو البراءة كما
سيأتي.
فالمتحصّل مما
ذكرناه ان الاظهر عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية.
واما البراءة
الشرعية فالظاهر شمولها ، وتفصيل القول في ذلك يقتضي ان يقال ان التكليف التحريمي
المتعلق بالشيء الناشئ عن المفسدة في المتعلق ، يتصور على وجوه أربعة :
الأول : ان يكون
في كل وجود مفسدة ، غير ما يكون في الأفراد الأخر فلا محالة يكون كل فرد متعلقا
لنهي مستقل فالافراد المعلومة تعلق النهي بها معلوم ، وما شك في فرديته يشك في
تعلق النهي به فتجرى فيه البراءة.
الثاني : ان يكون
مفسدة واحدة في مجموع الوجودات بحيث يكون الجميع متعلقا لنهى واحد شخصي ، وفي هذا
الفرض يجوز ارتكاب جملة من الأفراد المعلومة أيضاً ، فضلا عما شك في فرديته ، إذ
المفروض ان المفسدة إنما تكون في مجموع الوجودات لا في كل واحد منها ، وهل يجوز
ارتكاب الأفراد المعلومة وترك الفرد المشكوك فيه ، أم لا يجوز؟ وجهان :
أقواهما الأول ،
إذ لو ارتكب المجموع من الأفراد المعلومة ، والفرد المشكوك فيه يعلم بارتكاب
الحرام ، اما لانها الحرام ، أو لاشتمالها عليه ، واما الأفراد
المعلومة خاصة فلا
محالة يشك في حرمتها ومقتضى أصالة البراءة هو عدم الحرمة.
وإلى هذا نظر الشيخ
الأعظم حيث قال في آخر مبحث الأقل والأكثر ان حال الأقل والأكثر
في المحرمات بعكس الأقل والأكثر في الواجبات أي انه في الواجبات تعلق التكليف
بالاقل معلوم وفي المحرمات تعلقه بالاكثر معلوم ففي الأولى تجرى البراءة عن الأكثر
، وفي الثانية عن الأقل.
الثالث : ان يكون
متعلق النهي هو صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول الوجودات بحيث لو عصى واوجد فردا
واحدا ، لا يكون سائر الأفراد مبغوضة ، وهذا يتصور فيما إذا كان المتعلق اختياريا
لا تعلق له بموضوع خارجي كالتكلم ، ولا يتصور فيما كان له تعلق به.
اما الأول : فلانه
يتصور فيما إذا كان ما فيه المفسدة أول الوجودات ، ولا يبعد ان يكون النهي عن بعض
أنواع المفطرات في بعض اقسام الصوم من هذا القبيل ، ومثاله العرفي ما لو نام
المولى ونهى عن التكلم من جهة ان أول وجوده يوقظه من النوم ولا مفسدة بعد ذلك في
سائر الأفراد ، وفي مثل ذلك يكون متعلق النهي صرف وجود الطبيعة المنهي عنها.
فدعوى عدم معقولية
ذلك من جهة ان الحكم التحريمي لا ينشأ إلا عن مفسدة في متعلقه ، فتلك المفسدة ، ان
كانت في الطبيعة السارية فلا بد من تعلق الحكم بكل وجود بنحو الاستغراق ، وان كانت
في مجموع الوجودات ، فلا
__________________
مناص عن تعلق حكم
شخصي بالمجموع كما عن بعض المحققين .
ممنوعة كما عرفت ،
وفي هذا الفرض لو اراد المكلف ارتكاب المشكوك فيه ، لا محالة يشك في صدق أول
الوجودات عليه ليكون حراما فيرجع فيه إلى البراءة.
واما الثاني : مثل
النهي عن إكرام الفاسق ، فلان ما فيه المفسدة ، اما ان يكون ، هو جميع الوجودات أو
مجموعها ، أو وجود واحد ، وعلى الأولين كيفية ورود الحكم معلومة ، وعلى الأخير لا
بدَّ وان ينهى عن جميع الوجودات لئلا توجد الطبيعة في الخارج ، فان الانزجار عن
الطبيعة لا يكون إلا بالانزجار عن كل فرد ، وترك جميع الأفراد فتدبر حتى لا تشتبه
عليك الأمر ، وتعرف الفرق بين القسمين ، وفي هذا الفرض ان شك في وجود الموضوع يكون
المرجع هو أصالة البراءة.
الرابع : ان يكون
النهي المتعلق بالأفراد الخارجية ، باعتبار ان المطلوب هو الأمر البسيط المتحصل من
مجموع التروك ، كما لو فرضنا ان المطلوب بالأصالة في النهي عن الصلاة في ما لا
يؤكل لحمه هو وقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل لحمه ، وفي هذا الفرض بما ان الشك
يكون في المحصل ، يكون مورد القاعدة الاشتغال دون البراءة ، إلا ان يكون ذلك
العنوان موجودا سابقا فانه حينئذ لو أتى بالمشكوك فيه يشك في ارتفاعه فيستصحب
بقائه ، فلا يكون إتيانه غير جائز ، إذ المفروض تعلق التكليف بالعنوان المتحصل دون
المحصل وحيث انه
__________________
محرز بالأصل فلا
وجه لعدم جواز المشكوك فيه.
فان قيل : لا يجري
هذا الأصل لعدم كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم ، إذ المترتب عليه فراغ
الذمة ، وهذا إنما هو في مترتبة الامتثال.
اجبنا عنه : بأنه
لا يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم ، بل المعتبر
كونه مما يكون امر وضعه ورفعه بيد الشارع أو موضوعا لذلك ، ولذا يجري الاستصحاب في
عدم الحكم ، ولا ريب في ان التعبد بتحقق الامتثال مع الشك فيه من هذا القبيل كما
في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز ، ففي المقام يجري الاستصحاب ويحكم بتحقق الامتثال
وفراغ الذمة ولو مع الإتيان بالمشكوك فيه.
وهذه الفروض
الأربعة تتصور في التكليف الوجوبى كان متعلقا بالفعل أو الترك ، إذ قد يكون
المصلحة في كل فرد من أفراد الطبيعة فتعلق التكليف بها على نحو الطبيعة السارية
ويتعدد التكليف بتعدد افرادها ، وقد يكون المصلحة في مجموع الأفراد ويتعلق تكليف
واحد بها ، وقد تكون المصلحة في صرف وجود الطبيعة ، وقد تكون في الأمر المتحصل من
الأفعال الخارجية.
ففي الفرضين
الاولين تجري البراءة في الشبهة الموضوعية ، ويظهر وجهه مما مر.
ولا تجرى البراءة
في الفرضين الأخيرين إذ الشك حينئذ يكون في الامتثال وهو مورد لقاعدة الاشتغال ،
اما في الثاني منهما فلما مر ، واما في الأول كما لو وجب اكرام عالم ، فاكرم من شك
في عالميته فواضح.
ومما ذكرناه يظهر
ما في كلام المحقق الخراساني حيث انه قال في آخر هذا التنبيه والفرد المشتبه وان كان
مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه إلا ان قضية لزوم احراز الترك اللازم وجوب
التحرز عنه ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه انتهى.
فانه ان كان مورد
كلامه فرض تعلق التكليف بمجموع التروك فقد عرفت انه مورد البراءة لا الاشتغال وان
كان فرض تعلقه بعنوان بسيط مترتب على التروك ، فقد مر انه مورد لقاعدة الاشتغال ،
دون البراءة لعدم كون الترك بنفسه موردا للحكم كي يشك في حكم المشكوك فرديته فتجرى
البراءة ، فلا يتصور صورة تكون موردا للبراءة والاشتغال معا.
ثم لا يخفى ان ما
ذكرناه لا فرق فيه بين التكاليف النفسية والضمنية ، وعليه فهذه المسألة احد أركان
الوجه لجواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه وقد أشبعنا الكلام في تلك المسألة في
رسالة مستقلة من أراد الاطلاع فليراجعها.
التنبيه الخامس
بعد ما عرفت من حسن الاحتياط عقلا مطلقا يقع الكلام في أمور لا بأس بتفصيل القول
فيها.
الأول : ان حسن
الاحتياط عقلا واضح معناه إذ العقل يرى حسن الفعل الذي يتحقق به الانقياد للمولى
ويمدح فاعله ، واما معنى حسنه شرعا ، فليس هو كونه ممدوحا عليه عنده بما هو رئيس
العقلاء وارشد إليه ، بل معناه ثبوت مصلحة وغرض شرعي فيه المستتبع لجعل حكم مولوي
شرعي ، فمن ينكر
__________________
استحباب الاحتياط
شرعا ويحمل أوامر الاحتياط على الإرشاد ليس له القول بحسنه شرعا ، ولكن حيث عرفت
في التنبيه السابق ، إمكان كون الأمر بالاحتياط مولويا نفسيا ، وانه الظاهر منه ،
فيكون حسنا شرعا أيضاً.
الثاني : قد يقال
ان الاحتياط إنما هو فيما لم يكن هناك إمارة على عدم الأمر ، وعدم المطلوبية شرعا
، لان موضوع حسنه الشبهة واحتمال الأمر ، والأمارة رافعة لذلك ، ومعها لا مورد
للاحتياط وهذا بخلاف أصالة الإباحة التي هي حكم في موضوع الشبهة.
ولكن يدفعه : ان
ادلة الاحتياط لا تنحصر فيما اخذ في موضوعها الشبهة ، بل العقل مستقل بحسنه بمجرد
احتمال الأمر وجدانا ، لأجل كون الفعل انقيادا للمولى وجملة من الأدلة الشرعية لم
يؤخذ في موضوعها الشبهة فالحق حسن الاحتياط مطلقا.
الثالث : ان
الاحتياط إنما يكون حسنا ما لم يخل بالنظام ، وإلا فلا حسن فيه لا عقلا ولا شرعا ،
فان ما يخل بالنظام قبيح عقلا بل موجب للإخلال بالغرض شرعا ، ومعه لا حسن فيه لا
شرعا ولا عقلا.
الرابع : انه إذا
كان الاحتياط مخلا بالنظام لا بد من التبعيض ، اما بالاحتياط إلى ان يوجب الاختلال
فيتركه ، وأما بان يحتاط في الأمور مع رعاية الأهم فالأهم ، مثلا يحتاط في حقوق
الناس دون حقوق الله تعالى ، وأما بان يحتاط في الموارد التي كان ثبوت التكليف
فيها مظنونا أو مشكوكا فيه ، ولا يحتاط فيما كان هناك احتمال موهوم ، وأما بان
يحتاط في الموارد التي لم يقم إمارة على عدم التكليف ، وأما بغير ذلك ، والكل حسن.
الفصل الثاني : أصالة التخيير
دوران الأمر بين المحذورين
وقبل الدخول في
هذا المبحث لا بد من التنبيه على أمور :
الأمر الأول : ان
مورد النزاع ما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ولم يحتمل غيرهما ، وإلا فلو
احتمل الإباحة مثلا لا شك في جريان البراءة بالنسبة إلى كليهما ويحكم بالإباحة
ظاهرا ، بل جريان البراءة حينئذ أولى من جريانها في الشبهة التحريمية المحضة أو
الوجوبية كذلك : لعدم جريان أدلة الاحتياط فيه لعدم إمكانه.
الأمر الثاني : ان
محل البحث ما لو لم يكن أحد الحكمين بخصوصه مسبوقا بالوجود ، وموردا للاستصحاب ،
إذ عليه يجري الاستصحاب فيه ، وفي عدم الحكم الآخر ، وبه ينحل العلم الإجمالي.
الأمر الثالث : إن
هذا البحث إنما يختص بالشبهة الموضوعية ، كما لو ترددت المرأة الواحدة في وقت واحد
، بين ان تكون محلوفا على وطئها أو على الترك ، وأما في الشبهة الحكمية فلم اظفر
بمورد يكون الأمر دائرا بين الوجوب والحرمة.
ثم انه في دوران
الأمر بين المحذورين لا بد من البحث في مواضع :
الأول : دوران
الأمر بينهما في التوصليات مع وحدة الواقعة فبالطبع لا
يمكن الموافقة
القطعية ولا المخالفة القطعية ، وهذا هو أساس البحث ومحل النزاع وفيه اختلفت
الأقوال.
الثاني : دوران
الأمر بين المحذورين في التعبديات بمعنى ان يكون أحد الحكمين أو كلاهما تعبديا مع
وحدة الواقعة ، فقهرا لا يمكن المخالفة القطعية ويمكن الموافقة القطعية ،
الثالث : دوران
الأمر بين المحذورين مع تعدد الواقعة.
أما الموضع الأول
: وهو دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة فالأقوال فيه خمسة .
القول الأول :
جريان البراءة الشرعية ، والأصول التنزيلية.
القول الثاني :
الحكم بالتخيير بينهما عقلا من دون الالتزام بحكم ظاهري شرعا اختاره المحقق
النائيني .
القول الثالث :
تقديم جانب الحرمة
القول الرابع :
الحكم بالتخيير بينهما عقلا ، والإباحة شرعا لأصالة الحل ، دون البراءة العقلية ،
اختاره المحقق الخراساني (ره) .
القول الخامس :
الحكم بالتخيير بينهما شرعا.
__________________
والمختار عندنا هو
الأول : لعموم أدلة البراءة الشرعية ، والاصل التنزيلي ، وعدم المانع عن شمولها.
أما عموم الأدلة
فلأن الأصل تنزيليا كان أم غيره إنما يجري في خصوص كل من الوجوب والحرمة.
نظرا إلى ان كلا
منهما مشكوك فيه ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يجري الأصل فيهما معا.
وعليه فتشمل
الأدلة كلا منهما ويحكم بعدم الوجوب وعدم الحرمة في الظاهر ، ولا ينافى ذلك مع
العلم بأحدهما واقعا بعد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.
واما عدم المانع
فيظهر بعد بيان ما استدل به للأقوال الأخر وما يرد عليه.
وأما القول الثاني
، وهو الحكم بالتخيير بينهما عقلا ، من دون التزام بحكم ظاهري شرعا ، وانه لا يجري
فيه الأصول التنزيلية وغير التنزيلية وانه ليس هناك إلا اللاحرجية العقلية ، الذي
اختاره المحقق النائيني .
فقد استدل له
بوجوه :
الوجه الأول : ان
الرجوع إلى الأصول بإجرائها في الطرفين ينافيه العلم الإجمالي بمخالفة أحد الاصلين
للواقع ، وإجراء الأصل في أحد الطرفين ترجيح
__________________
بلا مرجح ، فلا
يجري فيهما.
وفيه : ان العلم
الإجمالي المشار إليه لعدم ترتب الأثر عليه لا يمنع عن جريانها.
الوجه الثاني : ان
الأصول إنما تجرى في الشك الساذج ، لا الشك المقرون بالعلم الإجمالي بالالزام كما
في المقام.
وفيه : انه ستعرف
في مبحث الاشتغال ، ان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ، هو لزوم
الترخيص في المعصية وذلك يختص بما إذا لزم من جريان الأصول في أطراف العلم
الإجمالي مخالفة عملية لحكم لزومي ، وإلا فلا مانع عن جريانها ، والمقام من قبيل
الثاني لعدم التمكن من المخالفة ، والموافقة القطعيتين ، والموافقة الاحتمالية لا
بد منها.
فان قيل انه يلزم
من جريانها في الأطراف المخالفة الالتزامية.
اجبنا عنه بان
الموافقة الالتزامية غير واجبة أولا ، ولا منافاة بين الالتزام بإلزام واقعا
والترخيص ظاهرا ثانيا.
الوجه الثالث : ما
أفاده المحقق النائيني ، وهو انه يعتبر في جريان الأصول العملية ترتب اثر عملي
عليها ، وإلا فلا تجرى ، وفي المقام لا يترتب عليها ذلك ، لعدم إمكان الموافقة
والمخالفة القطعيتين ، ولابدية الاحتمالية.
وفيه : ان الأصل
إنما يجري بالنسبة إلى كل منهما بخصوصه لا فيهما معا ،
__________________
لان الأصول تكون
انحلالية تتعدد بتعدد الموضوع ، وموضوعها في المقام متعدد ، وهو الوجوب بخصوصه ،
والحرمة بخصوصها لمشكوكية كل منهما ، ويترتب على كل واحد من الاصلين اثر عملي ، إذ
الأصل الجاري بالنسبة إلى الوجوب يرخص في الترك ويثبت به انه لا إلزام من المولى
بالنسبة إلى الفعل ، كما ان الأصل الجاري بالنسبة إلى الحرمة يرخص في الفعل خاصة
فكل منهما يترتب عليه اثر عملي.
الوجه الرابع : ما
أفاده المحقق النائيني (ره) أيضاً ، وهو ان مفاد هذه الأصول رفع التكليف في مورد يمكن
الوضع بجعل وجوب الاحتياط ، وحيث ان الوضع في المقام غير ممكن ، لعدم التمكن من الاحتياط
، فيكون رفعه أيضاً كذلك.
وفي تقريرات
المحقق الكاظمي (ره) في تقريب هذا الوجه ، ان جعل الوجوب والحرمة كليهما لا
يعقل لا على نحو التعيين ، ولا على نحو التخيير فلا يمكن رفعهما.
وفيه : ان الممتنع
جعلهما بجعل واحد ، واما جعل كل منهما بالخصوص الذي هو الموضوع للأصل كما عرفت
آنفا ، فأمر معقول ، إذ للمولى ان يحكم بوجوب الاحتياط بترك الفعل فيما احتمل
حرمته ، ولو كان المحتمل الآخر هو الوجوب ، كما ان له ان يلزم بإتيان الفعل فيما
احتمل حرمته ، ولو كان المحتمل
__________________
الآخر هو الحرمة ،
فحيث ان له ذلك فله رفع كل منهما.
وبالجملة الذي لا
يمكن هو وضع التكليفين معا ، وأما كل منهما بالخصوص فيمكن وضعه ، ولا يعتبر في صحة
رفع التكليف عنهما أزيد من إمكان وضع كل منهما بالخصوص ، نظير ذلك ما لو أمر
المولى عبده بعدم دخول دار كل أحد في أول طلوع الشمس ، وهذا التكليف معقول ممكن ،
مع ان العبد لا يقدر على دخول دار كل أحد في أول طلوع الشمس ، وليس ذلك إلا من جهة
انه حيث يكون العبد قادرا على دخول كل دار بالخصوص ، فللمولى ان يأمر بترك الجميع.
وبعبارة أخرى :
انه لا يعتبر في رفع التكليف عن شيئين أو الأمر بتركهما ، إلا القدرة على كل واحد
بالخصوص ولا يعتبر القدرة عليه حتى في حال انضمام الآخر ، وفي المقام حيث انه
للمولى ان يضع كلا من التكليفين بالخصوص فله الرفع عن كل منهما.
الوجه الخامس : ما
عن المحقق العراقي (ره) وهو ان أدلة البراءة إنما تجرى فيما إذا لم يكن هناك ما
يقتضي الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار والتكوين ، ومع وجوده لا ينتهي الأمر إلى
الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان ، وفي المقام العقل مستقل بالترخيص بمناط
الاضطرار والتكوين.
وفيه : ان المكلف
بالنسبة إلى كل تكليف بالخصوص الذي هو مورد الأصل ، لا يكون مضطرا في مخالفته ،
وإنما الاضطرار بالنسبة إلى مخالفة أحدهما
__________________
بنحو التخيير ،
والأصل إنما يجري بلحاظ الأول كما لا يخفى.
واما القول الثالث
: فقد استدل له بوجوه :
الوجه الأول : ان
دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فحيث انه لو كان حراما ، ففي فعله المفسدة ،
ولو كان واجبا لزم من تركه فوت المصلحة ، ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، إذ
اهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفسدة أتم ، فيتعين الترك وتقديم جانب الحرمة.
وفيه : ان العقل
لا يحكم بذلك إذ ربما يكون الواجب أهم فيحكم العقل بتقديمه ، ولم يرد من الشارع ما
يدل عليه من آية أو رواية ، مع ان هذا لو تم فإنما هو فيما إذا كانت مفسدة محرزة
ومصلحة كذلك وتردد الأمر بينهما ، وأما في المقام الذي يجري البراءة كما هو الحق ،
ويدفع الحرمة فكيف يمكن ان يحكم العقل بتقديم جانب الحرمة ، كيف ولو لم يحتمل إلا
الحرمة وكان المحتمل الآخر هو الإباحة لجاز الفعل ومخالفة الحرمة على تقدير وجودها
، ولا يجوز ذلك فيما لو كان المحتمل الآخر هو الوجوب.
الوجه الثاني :
المرسل المروي عن الإمام على أمير المؤمنين (ع) اجتناب السيئات أولى من اكتساب
الحسنات .
وقوله (ع) : افضل
من اكتساب الحسنات اجتناب السيئات .
وفيه أولا : انه
ضعيف السند.
__________________
وثانيا : انه إنما
هو فيما كانت الحرمة والوجوب محرزتين ، لا في مثل المقام مما دار الأمر بينهما.
وثالثا : انه بهذه
الكلية لا تتم قطعا.
ورابعا : انه لا
يدل على التعيين.
الوجه الثالث : ان
إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، لان مقصود الحرمة
يتأتى بالترك سواء كان مع قصد ، أم غفلة بخلاف فعل الواجب.
وفيه : ان هذا لا
يوجب أهمية الحرمة وتعين تقديمها.
الوجه الرابع :
الاستقراء فانه في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام غلب الشارع لجانب الحرمة ،
ومثل له بأيام الاستظهار حيث ان الشارع الأقدس قدم جانب الحرمة وحكم بترك الصلاة ـ
وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس والأمر بترك الوضوء.
وفيه : أولا مجرد
تقديم الحرمة في هذين الموردين لا يوجب الغلبة والاستقراء.
وثانيا : ان وجوب
الصلاة والوضوء تعبدي لا توصلي فهما خارجان عما هو محل البحث.
وثالثا : ان
الاستظهار ليس على الوجوب عند المشهور كما أفاده الشيخ
الأعظم ولو قيل بالوجوب فلعله يكون لاستصحاب بقاء الحيض وحرمة
العبادة في ذات العادة ، وأما غير ذات العادة الوقتية التي تترك الصلاة بمجرد
الرؤية فهو للاطلاقات وقاعدة الإمكان.
وأما الإناءان
المشتبهان فليس من مصاديق الباب لان الوضوء بالنجس حرمته تشريعية لا ذاتية وإنما
منع من التطهير به مع الاشتباه للنص .
الوجه الخامس :
ظاهر ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة ، المتقدم فان الظاهر من التوقف ترك الدخول
في الشبهة.
وفيه أولا : ان
ظاهر تلك الأخبار ، الاختصاص بالشبهة التحريمية المحضة ، ويظهر ذلك من ملاحظة ما
فيها من التعليل.
وثانيا : ان تلك
النصوص ، أما ان تشمل مورد احتمال الوجوب ، فلا بد من ان يكون المراد بالتوقف اعم
من ما ذكر ـ وأما ان لا تشمل فلا تشمل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.
وأما القول الرابع
: وهو جريان أصالة الحل وعدم جريان البراءة العقلية.
فقد استدل في
الكفاية للأول : بشمول مثل (كل شيء لك حلال حتى
__________________
تعرف انه حرام) له المتقدم ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا ، وذكر في وجه عدم
المانع بان موافقة الأحكام التزاما لا تجب ، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو
الواقع معه ممكنا ، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض
على وجوبه دليل قطعا.
ثم قال وقياسه
بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب باطل.
وظاهر العبارة كما
هو صريح الشيخ الأعظم ان القياس بالخبرين ونقده لتتميم البحث عن عدم وجوب
الالتزام بأحد الحكمين ، بنحو التخيير كي يمنع عن إجراء البراءة شرعا ، لا لإثبات
التخيير شرعا كما أفيد وسيأتي تقريبه.
وتقريب القياس ،
أما ان الخبرين لا خصوصية لهما إلا إحداث احتمال الحكمين واقعا وهو موجود في دوران
الأمر بين المحذورين.
وأما ان الملاك
للتخيير ، هو رعاية الحكم الظاهري الأصولي وهي الحجية ورعاية الحكم الواقعي أولى.
ولم يجب عن الأول
، لوضوح فساده.
وأجاب عن الثاني :
بان الخبر ان كان حجة من باب السببية فالتخيير
__________________
بينهما من باب
التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وان كان حجة من باب الطريقية فالتخيير إنما
يكون من جهة وجود مناط الطريقية في أحدهما تعيينا أو تخييرا وأين ذلك من المقام
الذي لا يكون المطلوب إلا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا وهو حاصل.
واستدل للثاني بقوله ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب ، بلا بيان فانه
لا قصور فيه هاهنا وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية
كمخالفتها والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة انتهى.
ويرد على ما أفاده
في الدعوى الأولى مضافا إلى ما يصرح به في مبحث الاستصحاب ، من عدم دلالة مثل الخبر المشار إليه على أصالة الإباحة ،
وان صدره متضمن لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وذيله لبيان الاستصحاب.
ومضافا إلى اختصاص
أصالة الإباحة بما إذا كان طرف الحرمة الإباحة والحل لاختصاص دليلها به ، ولا يشمل
دوران الأمر بين المحذورين.
ومضافا إلى
اختصاصها بالشبهة الموضوعية كما مر.
ان الحكم الظاهري
إنما يصح جعله ما لم يقطع بخلافه ومعه لا معنى لجعله لفرض اخذ الشك في موضوعه ،
وفي المقام حيث انه يقطع بالإلزام وعدم إباحة هذا الفعل فلا مورد لجريان أصالة
الحل ، مع ان الدليل أخص من المدعى لاختصاص هذه الأدلة بالشبهات الموضوعية.
__________________
وعلى الجملة فرق
بين اصل البراءة الجاري في كل من الاحتمالين مستقلا ، وبين أصالة الإباحة التي هي
اصل واحد يرخص في الفعل والترك ، فمفادها ينافى المعلوم بالإجمال.
وأما دعواه
الثانية وهو عدم جريان البراءة العقلية ، فهو تام.
فالأظهر عدم
جريانها لتمامية البيان للعلم بالإلزام ، وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن
من الموافقة القطعية ، والمخالفة القطعية.
وبعبارة أخرى : إن
تنجز التكليف متوقف على أمرين :
أحدهما : وصول
التكليف. ثانيهما : التمكن من الموافقة والمخالفة.
وفي المقام عدم
التنجيز إنما يكون للثاني لا للأول ، فلا ربط للقاعدة بالمقام.
والظاهر ان هذا هو
مراد المحقق الخراساني (ره) فلا يرد عليه ما أفاده بعض المحققين ، من ان ما تم بيانه ووصل إنما هو جنس الإلزام ، ولا يترتب
عليه الأثر فلا يحكم العقل بتنجزه.
وأما خصوص الوجوب
أو الحرمة فحيث انه مشكوك فيه ولم يتم البيان بالنسبة إليه ولم يصل فالعقاب عليه
عقاب بلا بيان.
وأما ما أفاده
المحقق النائيني (ره) في وجه عدم الجريان من ان القطع
__________________
بالمؤمن حاصل في
المقام ، لان وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجيز والتأثير فلا مورد
للقاعدة.
فيرد عليه : ان
القطع بعدم العقاب إنما هو لأجل القاعدة ، وإلا فمع قطع النظر عنها لا قطع بعدم
العقاب ، على الترك ، أو الفعل معينا.
واما القول الخامس
: فقد استدل له بوجهين :
الوجه الأول :
قياس المورد بالخبرين المتعارضين المشتمل أحدهما على الأمر والآخر على النهي ، بدعوى
ان مناط الحكم بالتخيير هناك هو إحداث الخبرين احتمال الحكمين واقعا والترديد
بينهما إذ لا شأن للخبرين بناءً على الطريقية المحضة إلا احداث الاحتمال وهو موجود
فيما نحن فيه.
وان شئت قلت ان
مفاد ما دل على حجية الخبر جعله علما تعبدا وتتميم كشفه ، فإذا ثبت في العلم
التعبدي ثبت في الوجداني بطريق أولى.
ويرده ان هناك :
أما ان نقول بالتخيير في المسألة الفرعية ، أو نقول بالتخيير في المسألة الأصولية.
والأول غير صحيح
في المقام لعدم إمكان الموافقة والمخالفة القطعيتين ولابدية الاحتمالية والتخيير
العقلي ، فجعله من قبيل طلب الحاصل ، بل من أردأ انحائه فانه تحصيل تعبدي للحاصل
وجدانا.
وعلى الجملة جعل
حكم لا اثر عملي له لغو ، وصدوره من الحكيم محال.
والثاني لا مورد
له في المقام لأن ملاك الطريقية موجود هناك في كل منهما ، وفيما نحن فيه غير
موجود.
وان شئت قلت : ان
حجية كل منهما في ذلك المورد جعلية فيمكن جعل الحجية لهما تخييرا وفي المقام حجية
العلم ذاتية غير قابلة للجعل ، مع ان هناك فردين من العلم وفي المقام فرد واحد.
أضف إليه ان
التخيير هناك لدليل خاص غير معلوم الملاك فلا وجه للتعدي إلى المقام.
الوجه الثاني :
انه يجب الالتزام بالحكم الواقعي ، بعنوانه فان كان الثابت في الواقع هو الوجوب ،
كان اللازم هو الالتزام به بخصوصه ، وان كان هو الحرمة كان اللازم الالتزام بها
كذلك ، وحيث انه لا يمكن الموافقة القطعية في المقام ، كان المتعين هو الموافقة
الاحتمالية ، وهو الالتزام بالوجوب أو الحرمة.
وفيه : ما تقدم في
مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع من عدم وجوب الموافقة الالتزامية أولا. وعدم
وجوبها في موارد العلم الإجمالي ثانيا للتشريع.
مع انه سيأتي في
مبحث الاشتغال انه إذا لم تجب الموافقة القطعية لم تجب الاحتمالية.
فتحصل مما ذكرناه
ان الأظهر جريان البراءة الشرعية بالنسبة إلى كل من الوجوب والحرمة.
وهل تجري الأصول
التنزيلية ، أم لا؟
الأظهر ذلك بناء
على جريانها في اعدام الأحكام.
وما ذكره الشيخ
الأعظم وتبعه المحقق النائيني ، من مانعية العلم الإجمالي بالحرمة أو الوجوب ، سيجيء
دفعه في مبحث الاستصحاب وتعرف انه إذا لم يلزم المخالفة العملية من جريانها في
أطراف العلم الإجمالي لا مانع من جريانها وسيجيء تفصيل القول فيه في مبحث
الاستصحاب.
فالمتحصّل ان الحق
هو جريان الأصول الشرعية التنزيلية وغيرها في موارد دوران الأمر بين المحذورين سوى
أصالة الحل وعدم جريان البراءة العقلية.
دوران الأمر بين التعيين والتخيير
ثم انه لو احتمل
أهمية أحد الحكمين ، فهل يحكم بالتعيين كما اختاره المحقق الخراساني ، أم لا؟ وجهان.
أقول : بناء على
ما اخترناه من جريان الأصول الشرعية النافية للحكم في موارد دوران الأمرين
المحذورين ، لا بد من البناء على التخيير ، لإطلاق الأدلة.
فان كلا من
الحكمين المجهولين مورد لأصالة البراءة واستصحاب عدمه سواء كان أحدهما على تقدير
ثبوته في الواقع أهم من الآخر ، أم لم يكن ، وكذلك بناء على ما اختاره المحقق
الخراساني من جريان أصالة الحل في المقام ،
__________________
وبه يظهر ان محل
كلامه في المقام مع الغض عما أفاده من إجراء أصالة الحل.
وأما بناء على كون
الحكم فيه هو التخيير العقلي ، ففي الكفاية موافقا لغيره قال : " ومع احتماله
لا يبعد دعوى استقلاله ، بتعينه كما هو الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين" انتهى.
وأورد عليه
بإيرادين :
أحدهما : ما عن
الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الحاكم هو العقل فلا يعقل تردده بين التعيين
والتخيير بل هو إما مستقل بالتعيين أو بالتخيير فلا يكون المقام داخلا في كبرى
دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
وفيه : انه يمكن
ان يقال ان العقل مستقل بالتعيين عند الأهمية لقبح التساوي بين الراجح والمرجوح ،
ومستقل بالتخيير عند التساوي لقبح الترجيح بلا مرجح ، وان لم يحرز أحدهما ولم يدرك
الأهمية.
فلا محالة يتردد
العقل بين التعيين والتخيير ، ولكن لا بما هو حاكم بتلك الكبريين ، بل بما انه لم
يدرك الملاك للحكم الشرعي الواقعي ، وهذا لا محذور فيه.
__________________
ثانيهما : ما عن
المحقق النائيني (ره) وهو انه وان اخترنا في باب التزاحم ان الأصل هو التعيين ،
إلا ان الأصل في المقام هو التخيير ، وذلك لأنه في باب التزاحم ، تارة يكون لكل من
دليلي الحكمين إطلاق ، وأخرى لا يكون لشيء منهما ذلك.
أما في الصورة
الأولى فحيث ان التزاحم إنما ينشأ من إطلاق كل من الخطابين لحال الإتيان بمتعلق
الآخر مع عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، فلا بد من سقوط أحد الاطلاقين ، فان
كانا متساويين سقط الاطلاقان ، لبطلان الترجيح بلا مرجح ، فيقيد كل منهما بعدم
الإتيان بالآخر ، وهذا معنى التخيير.
وإذا كان أحدهما
أهم سقط إطلاق الآخر وبقى إطلاقه.
ولو احتمل الأهمية
فحيث ان سقوط إطلاق غيره معلوم على كل حال ، ويشك في سقوط إطلاق محتمل الأهمية ،
وكلما شك في سقوط إطلاق يؤخذ به ، وعليه فيحكم بالتعيين.
وأما في الصورة
الثانية ، فلان ثبوت كل من الحكمين كاشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم.
وعليه فان كانا
متساويين ، جاز بحكم العقل تفويت كل منهما باستيفاء الآخر ، ولو كان أحدهما أهم لم
يجز تفويته خاصة ، ولو احتمل الأهمية فيشك في جواز تفويت ملاكه باستيفاء الآخر مع
القطع بجواز تفويت الآخر باستيفائه ،
__________________
فلا مناص حينئذ من
الأخذ به وتفويت ملاك غيره ، فيحكم بالتعيين.
وشيء من هذين
الوجهين لا يجري في المقام لان الحكم المجعول واحد ، فليس هناك اطلاقان ، ولا
ملاكان ، بل الثابت إنما هو أحدهما ونسبة العلم الإجمالي إلى كل منهما على حد سواء
، فالحكم باللاحرجية العقلية باق على حاله.
نعم لو كان احد
التكليفين المحتملين مما يكون احتماله موجبا للاحتياط والشارع حكم به يجب الاحتياط
لكنه من جهة الحكم الشرعي لا من جهة حكم العقل.
ولكن الأظهر هو
الحكم بالتعيين على هذا المسلك ، إذ بعد فرض عدم جريان الأصول الشرعية ، والعقلية
في أطراف هذا العلم ، وإحرازه عدم العقاب ، على مخالفة ما علم عدم أهميته ، يشك في
انه ، هل يعاقب على مخالفة محتمل الأهمية ، أم لا؟ وحيث لا مؤمن من هذه الجهة ،
فلا محالة يكون المرجع ، قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.
وان شئت فقل ، انه
بما ان الحاكم بالتخيير واللاحرجية ، هو العقل ، من باب الاضطرار والإلجاء ، فمع
احتمال أهمية أحدهما ، لا يستقل العقل بالتخيير.
لو كان أحدهما تعبديا مع وحدة الواقعة
الموضع الثاني :
ما لو كان أحدهما أو كلاهما تعبديا ، مع وحدة الواقعة ،
كما إذا دار أمر
المرأة بين الطهر والحيض ، مع عدم إحراز أحدهما ، والبناء على حرمة العبادة على
الحائض ذاتا وان لم يقصد القربة ، فانه حينئذ يدور أمر الصلاة عليها بين الوجوب
والحرمة ، ووجوبها على تقدير ثبوته تعبدي ، وفي مثل ذلك وان لم يمكن الموافقة
القطعية ، إلا انه يمكن المخالفة القطعية بإتيان الصلاة بلا قصد القربة فإنها لو
كانت حائضا فقد أتت بالمحرم ولو كانت طاهرا فقد تركت الواجب.
والحق عدم جريان
البراءة في هذه الصورة في شيء من الطرفين.
للعلم الإجمالي
ومنجزيته بناء على ما سيأتي تحقيقه في مبحث الاشتغال من ان العلم الإجمالي له
أثران : الأول : الموافقة القطعية ، الثاني : المخالفة القطيعة ، وقد يترتبا عليه
معا ، وقد يترتب عليه أحدهما دون الآخر ، وقد لا يترتب عليه شيء منهما.
وفي الصور الثلاث
الأُول يكون العلم منجزا وموجبا لتساقط الأصول في أطرافه.
وعليه فإذا أمكن
المخالفة القطعية خاصة كما في المقام لم تجر الأصل ، ووجب الاجتناب عن تلك ،
فيتعين عليها ترك الصلاة رأسا ، أو الإتيان بها بقصد القربة بالنحو المشروع عليها.
ولا يخفى ان
المحقق الخراساني في مبحث الاضطرار يصرح : بأنه لو
__________________
اضطر إلى أحد
أطراف العلم الإجمالي لا بعينه لا يكون هذا العلم منجزا ، ولا محذور في مخالفته
القطعية ، وهذا لا يلائم مع ما ذكره في المقام من تنجز العلم الإجمالي بالنسبة إلى
المخالفة القطعية.
ولكن حيث انه
ستعرف ان المختار عندنا تنجزه بالإضافة إليها في تلك المسألة فهو منجز في المقام.
دوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية
ثم ان الشيخ
الأعظم (ره) أفاد : انه إذا دار الأمر بين كون شيء شرطا أو مانعا ، أو
بين كونه جزءا وكونه زيادة مبطلة يكون من هذا الباب.
واختار التخيير
فيه على حذو ما تقدم من دوران الأمر بين المحذورين في التكاليف الاستقلالية ، ومثل
له بالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث ، قيل بوجوبه ، وقيل بوجوب الاخفات
وابطال الجهر وبالجهر بالبسملة في الركعتين الاخيرتين ، وبتدارك الحمد عند الشك
فيه بعد الدخول في السورة ، ويضاف إليها ما لو شك بعد النهوض للقيام في الإتيان بالسجدة
الثانية إذ لو كان النهوض إلى القيام من الغير المترتب لا بد من البناء على تحقق
السجدة فالإتيان بها زيادة مبطلة ، ولو كان مقدمة للجزء كان الإتيان بها واجبا
ومعتبرا في صحتها.
__________________
والحق عدم تمامية
ما أفاده (قدِّس سره) ، لان الحكم بالتخيير في التكاليف الاستقلالية إنما كان من
جهة عدم تنجز الحكم اللزومي المردد بين الوجوب والحرمة : لاستحالة الموافقة
والمخالفة القطعيتين.
وهذا بخلاف الحكم
اللزومي المعلوم في المقام ، فانه يمكن موافقته القطعية كما يمكن مخالفته القطعية
، فيكون العلم منجزا.
توضيح ذلك انه في
دوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية تتصور صورتان :
إحداهما : ما
يتمكن المكلف من الامتثال العلمي التفصيلي ، ولو برفع اليد عن ما هو مشتغل به.
ثانيهما : ما
يتمكن فيه المكلف من الامتثال الإجمالي ، أما بتكرار الجزء أو بتكرار اصل العمل ،
كما في دوران أمر القراءة بين الجهر والاخفات.
أما في الصورة
الأولى فلا ينبغي التوقف في وجوب إحراز الامتثال لفرض التمكن منه وعدم المانع عنه
، ولا يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين لأنه لا يحرز الامتثال به ، ومعلوم ان
الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية ، فله ان يرفع اليد عن ما بيده من
الصلاة وإعادتها أو إتمامها على أحد الاحتمالين ثم إعادتها.
ودعوى ان الأمر
دائر بين المحذورين من جهة حرمة قطع الصلاة ـ بدعوى ان الأمر يدور بين الإتمام مع
الاحتمال ، والإبطال ، وتحصيل الامتثال التفصيلي ، فكما يمكن ان يكون وجوب
الامتثال التفصيلي موجبا لتعذر إتمام العمل ، يمكن
ان يكون حرمة
الابطال موجبة لتعذر الامتثال التفصيلي فيسقط ويكتفى بالامتثال الاحتمالي ـ مندفعة
:
أولا : بان حرمة
قطع الصلاة من جهة اختصاص مدركها بالإجماع على ما حققناه في الجزء الخامس من كتابنا
فقه الصادق يختص بما يجوز للمكلف الاقتصار عليه في مقام الامتثال ،
وأما الصلاة المحكوم بوجوب إعادتها فلا دليل على حرمة قطعها.
وثانيا : بأن كلا
من فعل السجدة وتركها في المثال محتمل الحرمة من هذه الناحية ، فانه لو كانت
السجدة مأتيا بها يحرم إتيانها فانه يوجب بطلان الصلاة ، وإلا يكون تركه كذلك ،
وحيث ان المكلف لا يتمكن من الموافقة القطعية من جهة حرمة قطع الصلاة فيتخير
المكلف ، وهذا لا ربط له بالأمر بالصلاة.
وبعبارة أخرى : ان
في المقام علمين إجماليين :
أحدهما : العلم
الإجمالي بلزوم العمل المردد بين ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك فيه ، وما يكون فاقدا
له.
ثانيهما : العلم
بوجوب الجزء المشكوك فيه لعدم الإتيان به وحرمته من ناحية حرمة قطع الصلاة للإتيان
به ، فتكون زيادة مبطلة.
والعلم الثاني وان
لم يمكن موافقته القطعية ولا المخالفة كذلك فيكون
__________________
المكلف مخيرا ،
ولكن العلم الأول يقتضي إعادة الصلاة تحصيلا للفراغ اليقيني.
أضف إلى ذلك كله
انه لو التزمنا بثبوت الإطلاق لما دل على حرمة قطع الصلاة بنحو يشمل مثل ما بيده
من الصلاة ، وبنينا على ان العلم الإجمالي الذي لا يجب موافقته القطعية : لعدم
امكانها ، لو أمكن مخالفته القطعية حرمت ، لا بد في المقام من إتمام الصلاة مع احد
الاحتمالين ثم إعادتها ، وبذلك يمتثل كلا التكليفين بالمقدار الممكن.
واما في الصورة
الثانية : وهي ما يتمكن المكلف من الامتثال العلمي الإجمالي بتكرار الجزء أو بتكرار
اصل العمل ، فلا وجه يتصور لجواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي الذي هو لازم
القول بالتخيير ، فيجب عليه إحراز الامتثال ولو بالإجمال لان اشتغال الذمة يقينا
يقتضي الفراغ اليقيني ، هذا كله فيما إذا أمكن التكرار.
وإلا كما في ضيق
الوقت ، فبالنسبة إلى إتيان الصلاة في الوقت وان كان التخيير مما لا بد منه لعدم
التمكن من الامتثال القطعي ، ولكن بالنسبة إلى اصل الصلاة يمكن ان يقال انه يحصل
له العلم الإجمالي ، بوجوب الإتيان بالصلاة على احد الاحتمالين في الوقت والإتيان
بها مع الاحتمال الآخر خارج الوقت ، فعلى القول بتنجيز العلم الإجمالي في
التدريجيات هذا العلم يقتضي الموافقة القطعية بهذا النحو.
اللهم إلا ان يقال
ان القضاء إنما يكون بأمر جديد ، وتابعا لصدق فوت الفريضة في الوقت ، فإذا لم يكن
العلم الإجمالي بالجزئية أو المانعية في الصلاة في الوقت مقتضيا إلا للموافقة الاحتمالية
ووجوب الأخذ بأحد المحتملين ، دون
الآخر لعدم إمكان
الموافقة القطعية ، فلا يحرز الفوت ، لا بالعلم ، ولا بالأمارة ، ولا بالأصل فلا
يجب القضاء فتدبر فان في النفس شيئا.
دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مع تعدد الواقعة
الموضع الثالث :
ما لو كانت الواقعة متعددة ، والكلام فيه :
تارة فيما إذا كان
التعدد دفعيا.
وأخرى فيما إذا
كان تدريجيا.
أما المورد الأول
: فكما لو علم إجمالا بصدور حلفين منه أحدهما تعلق بفعل شيء والآخر تعلق بترك شيء
آخر ، واشتبه الأمران في الخارج فيدور الأمر في كل منهما بين المحذورين.
فقد يقال بالتخيير
من جهة ان كلا من الموضوعين ، يدور أمره بين المحذورين ، ولا يمكن المخالفة
القطعية ، ولا الموافقة القطعية فيحكم بالتخيير ، فيجوز له فعل كل منهما وتركهما
معا.
غاية الأمر لو
فعلهما ، أو تركهما ، يحصل له العلم بالمخالفة في أحدهما.
والعلم اللاحق لا
يكون مؤثرا بعد عدم تنجز التكليف حين العمل.
ولكن يرد عليه انه
من العلم بصدور حلفين منه متعلق أحدهما بفعل شيء ، والآخر بترك شيء آخر ، يتولد
علمان إجماليان : أحدهما : العلم بوجوب أحد الفعلين ، والآخر : العلم بحرمة أحدهما
، وكل من هذين العلمين يمكن
موافقته القطعية
ومخالفته كذلك ، فيكون منجزا.
ولكن المكلف لا
يتمكن من الموافقة القطعية لكلا العلمين ، ومتمكن من المخالفة القطعية ، فيتزاحم
العلمان من الجهة الأولى ويتساقطان من تلك الجهة ، وأما من الناحية الأولى فلا
مانع من بقاء تنجيزهما.
وعليه ، فليس له
فعلهما ، ولا تركهما ، بل يتعين عليه اختيار فعل أحدهما وترك الآخر.
أما المورد الثاني
: فهو كما لو علم بتعلق الحلف بفعل شيء في زمان وترك ذلك الفعل في زمان آخر ،
واشتبه الزمانان.
فهل يحكم بالتخيير
في كل من الزمانين ويكون التخيير استمراريا.
أم يحكم به في
الأول ، وفي الزمان الثاني لا بد من اختيار خلاف ما اختاره في الزمان الأول؟
وجهان.
ذهب المحقق
النائيني (ره) إلى الأول بدعوى :
انه في الوقائع
المتعددة كل واقعة برأسها يدور أمرها بين المحذورين ، ولا علم فيها بالملاك الملزم
لا بالنسبة إلى الفعل ولا بالنسبة إلى الترك ، وليس هناك خطاب قابل للداعوية ،
غاية الأمر إذا اختار في الزمان الثاني عين ما اختاره في الزمان الأول يحصل له
العلم بالمخالفة وهذا لا اثر له.
وفيه : انه على
القول بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات ، يجري في هذا
__________________
المورد ما ذكرناه
في سابقه ، فانه يتولد حينئذ علمان إجماليان فيتعلق أحدهما بوجوب الفعل في أحد
الزمانين ، والآخر بحرمته فيه ، وكل من العلمين له مقتضيان : الموافقة القطعية ،
والمخالفة القطعية ، والتزاحم بينهما إنما يكون من الناحية الأولى ، ولا تزاحم
بينهما من الناحية الثانية ، فلا بد من البناء على تنجيز كل منهما بالإضافة إلى
المخالفة القطعية.
فيتعين عليه في
الفرض في الزمان الثاني اختيار خلاف ما اختاره في الزمان الأول ، إذ لو اختار عينه
يحصل له العلم بمخالفة أحد التكليفين.
والغريب ان المحقق
النائيني (ره) ، مع ذهابه إلى تنجيز العلم الإجمالي ، في التدريجيات ،
اختار في المقام ان التخيير استمراري لا بدوي.
نعم ما أفاده تام
، على مسلك من يرى عدم تنجيز العلم الإجمالي فيها كما عرفت.
حكم ما لو احتمل أهمية أحد الالزامين
ولو احتمل أهمية
أحد التكليفين ، في الوقائع المتعددة.
فهل يكون كالمسألة
السابقة ، فلا يحكم بالتعيين ، ليوافقه قطعا ، ويخالف التكليف الآخر كذلك ، من جهة
ان التكليف في كل من الواقعين غير معلوم ،
__________________
وكذلك الملاك؟
أو يكون على خلاف
تلك المسألة ويحكم بالتعيين؟ وجهان بل قولان :
وقد اختلفت كلمات
المحقق النائيني .
ففي المقام يبنى
على أصالة التخيير ، وفي مسألة دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته ، اختار تقدم محتمل الأهمية.
ومحصل ما أفاده في
وجه تقديم محتمل الأهمية : ان المقام من صغريات باب التزاحم ، واحتمال الأهمية من
مرجحات ذلك ، وذكر في وجه كونه من صغريات ذلك الباب ان لكل حكم اثرين ومقتضيين :
الأول ، امتثاله ، الثاني : إحراز امتثاله ، والعقل مستقل بهما ، فكما انه إذا لم
يتمكن من امتثال الحكمين معا يكون من ذلك الباب ، كذلك إذا لم يتمكن من ترتيب
الأثر الثاني ، بالنسبة إلى الحكمين ، أو لم يتمكن من ترتيب الأثر الأول لاحد
الحكمين مع ترتيب الأثر الثاني للآخر ، يكون من باب التزاحم ، لان حقيقته هو
التنافي بين مقتضيات الأحكام وآثارها ، والمقام كذلك : فان المكلف لا يتمكن من
امتثال كل من الحكمين ، وامتثال الآخر وإحرازه ، فيقع التزاحم بين الحكمين.
وفيه : أولا :
النقض ، بان لازم ما أفاده من الدخول في باب التزاحم هو الحكم بالتخيير بين
الموافقة القطعية لاحدهما والمخالفة القطعية للآخر ، وبين
__________________
الموافقة
الاحتمالية لكل منهما في صورة التساوي مع انه غير ملتزم بذلك.
وثانيا : بالحل ،
بان تقديم محتمل الأهمية في باب التزاحم لم يدل عليه دليل تعبدي كي يدور الحكم
مدار صدق التزاحم ويتعب النفس في إثبات صدقه وعدمه ، وإنما يحكم بالتخيير عند
التساوي ، ويحكم بالتعيين إذا أحرز أهمية أحدهما ، أو احتمل ذلك في ما لو كان
الملاكان تامين ، والمكلف غير قادر على استيفائهما ، فالأمر بهما معا تكليف بما لا
يطاق ، فلا بد من سقوط أحد التكليفين أما تعيينا أو تخييرا على اختلاف الموارد.
وفي المقام
الملاكان تامان ، والمكلف قادر على امتثالهما ، والتكليف بهما ليس تكليفا بما لا
يطاق ، والتنافي إنما يكون بين ما يحكم العقل به لكل منهما من وجوب الموافقة
القطعية ، والعقل كما يحكم بوجوب موافقة الأهم يحكم بوجوب موافقة المهم بلا ترجيح
لأحدهما على الآخر ، فان الأهمية والمهمية إنما تكونا في حكم الشارع والفرض عدم
التنافي بينهما دون ما يحكم به العقل.
وبالجملة ان العقل
في جميع موارد الأحكام الفعلية ، من أهم الأحكام كالصلاة ، إلى ما دونها ، يحكم
بوجوب الموافقة بملاك واحد.
والتنافي في هذا
المقام لا يوجب التنافي في جعل الحكمين ، ولا يسرى إليه كما هو كذلك في باب
التزاحم : فان التكليف بهما هناك تكليف بما لا يطاق.
نعم لو كان أحد
التكليفين مما أوجب الشارع الاحتياط عند احتمال
وجوده كما في
الأبواب الثلاثة ، مثل : ما لو حلف على ذبح شاة له في ليلة معينة واشتبهت
الشاة بالنفس المحترمة لظلمة ونحوها ، لا ريب في تقديم حرمة القتل ولا يحكم
بالتخيير : والسر فيه انه يقع التزاحم بين إيجاب الاحتياط والتكليف الآخر ويقدم
الأول.
هل التخيير في صورة تعدد الواقعة بدوي أو استمراري
تذييل إذا تعددت
الواقعة وكان حكم جميع الوقائع متحدا.
كما لو علم بأنه
حلف على فعل في كل ليلة جمعة أو على تركه فيها.
فهل التخيير بين
تلك الأفراد بدوى ، بمعنى ان ما اختاره في الليلة الأولى ، لا بد وان يختاره في
الليالي المتأخرة؟
أم يكون استمراريا
، فله ان يختار في الليلة الثانية خلاف ما اختاره في الأولى؟ كما ذهب إليه المحقق
النائيني وجهان.
ومحصل ما أفاده
المحقق النائيني (ره) في وجه كون التخيير استمراريا ، ان كل واقعة لها حكم مستقل
مغاير لحكم الوقائع الأخرى ، وقد دار الأمر فيه بين المحذورين فيحكم العقل فيه
بالتخيير ولا يترتب عليه محذور ، إذ المحذور المتوهم
__________________
ترتبه ، أحد أمرين
: أحدهما : انه إذا اختار في الواقعة الثانية خلاف ما اختاره في الأولى ، يحصل له
العلم بالمخالفة. ثانيهما : ملاحظة المجموع واقعة واحدة ، فمن تبعيض الوقائع
بالنحو المتقدم يلزم مخالفة التكليف ، وكلاهما محل منع.
أما الأول : فلعدم
حرمة المخالفة القطعية شرعا ، ليجب الاجتناب والفرار عن حصولها ، ولو بعد ذلك ،
فيجب على المكلف عدم إيجاد ما يلزم منه المخالفة القطعية ولو لم يكن التكليف منجزا
كما في المقام.
وأما الثاني :
فلان كل واقعة موضوع مستقل ، له حكم مختص به كما هو واضح.
وأورد عليه بعض
أكابر المحققين بان ما أفاده وان كان تاما إلا انه لا يمكن البناء على
استمرارية التخيير من جهة أخرى ، وهي انه من العلم الإجمالي بالإلزام المردد بين
الوجوب والحرمة ، والعلم بتساوي الأفراد في الحكم ، يتولد علمان إجماليان آخران :
أحدهما : العلم بوجوب الفعل في ليلة الجمعة الأولى ، أو حرمته في الليلة الثانية.
ثانيهما : عكس ذلك.
وهذان العلمان وان
لم يمكن موافقتهما القطعية إلا انه يمكن مخالفتهما القطعية ، بالفعل في الأولى ،
والترك في الثانية أو العكس ، وقد مر ان العلم الإجمالي ينجز بالمقدار الممكن من
الموافقة أو المخالفة.
وعليه ، فلا مناص
عن كون التخيير بدويا.
__________________
ولكن يمكن ان يقال
انه في هذين العلمين : تتعارض المخالفة القطعية لكل منهما مع الموافقة القطعية
للآخر ، وحيث ان المكلف مضطر إلى أحدهما إذ لو أتى بالفعل في إحدى الليلتين وتركه
في الأخرى ، فقد وافق أحد العلمين ، وخالف الآخر ، فوجوب الموافقة القطعية لكل
منهما يزاحم المخالفة القطعية للآخر ، فيتساقطان ، فلا اثر لهذين العلمين أيضاً.
فالأظهر ان
التخيير استمراري لا بدوي.
* * *
تم بعونه تعالى
الجزء الرابع
ويليه
الجزء الخامس
وأوله
الفصل الثالث
في اصالة الإحتياط
فهرس الموضوعات
المقصد السادس................................................................ ٧
في القطع...................................................................... ٧
هل
المسائل الأصولية تختص بالمجتهد............................................ ١١
تثليث
الأقسام............................................................... ١٦
الكلام
في حجية القطع....................................................... ٢٠
النهي
عن العمل بالقطع...................................................... ٢٣
الأمر
بالإطاعة لا يكون مولويا................................................. ٢٦
الموضع
الثاني في التجري....................................................... ٢٩
استحقاق
المتجري للعقاب..................................................... ٣١
الفعل
المتجري به قبيح........................................................ ٣٧
حرمة
الفعل المتجري به وعدمها................................................ ٤٣
تنبيهات.................................................................... ٥٠
الموضع
الثالث في القطع الموضوعي............................................. ٥٤
أقسام
القطع................................................................ ٥٨
قيام
الأمارات والأصول مقام القطع............................................. ٦٠
قيام
الأصول مقام القطع...................................................... ٦٤
أخذ
القطع بحكم في موضوع نفس الحكم....................................... ٦٨
أخذ
القطع بحكم في موضوع ضده............................................. ٧٠
أخذ
القطع بالحكم في موضوع حكم مثله....................................... ٧١
أخذ
القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه................................... ٧٣
اخذ
الظن في موضوع الحكم................................................... ٧٤
حول
وجوب موافقة القطع التراما............................................... ٧٩
قطع
القطاع................................................................. ٨٥
القطع
الحاصل من غير الكتاب والسنة.......................................... ٨٦
الفروع
التي توهم فيها المنع عن العمل بالمقطع.................................... ٩٢
الموضع
التاسع في العلم الإجمالي................................................ ٩٩
هل
العلم الإجمالي منجز للتكليف ، أم لا؟.................................... ١٠٢
جواز
الامتثال الإجمالي...................................................... ١٠٩
المقصد السابع............................................................. ١٢٥
في الأمارات المعتبرة شرعا................................................... ١٢٥
إمكان
التعبد بالأمارة غير العلمية............................................. ١٢٧
ما
توهم لزومه من التعبد بغير العلم من المحاذير................................. ١٣٠
الجمع
بين الحكم الواقعي والظاهري........................................... ١٣٧
ما
قبل في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.................................. ١٤٢
ما
يقتضيه الاصل عند الشك في الحجية....................................... ١٥٠
حجية
الظواهر............................................................. ١٦٠
عدم
اختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه................................. ١٦٣
حجية
ظواهر الكتاب....................................................... ١٦٥
لو
شك في المراد............................................................ ١٦٩
حجية
قول اللغوي.......................................................... ١٧٣
مدرك
حجية الإجماع........................................................ ١٧٥
حجية
الاجماع المنقول....................................................... ١٧٩
حجية
الشهرة الفتوائية وعدمها............................................... ١٨٤
حجية
خير الواحد.......................................................... ١٨٩
أدلة
عدم حجية الخبر الواحد والجواب عنها.................................... ١٩٠
أدلة
حجية الخبر الواحد ـ آية النبأ............................................. ١٩٥
التنبيه
الأول : حجية الخير الواحد في الموضوعات............................... ٢١١
التنبيه
الثاني : تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة................................. ٢١٤
التنبيه
الثالث :............................................................ ٢١٦
شمول
أدلة الحجية للأخبار مع الواسطة........................................ ٢١٩
الاستدلال
بآية النفر لحجية خبر الواحد....................................... ٢٢٥
آية
الكتمان............................................................... ٢٣٨
الاستدلال
بآية الذكر لحجية خبر الواحد...................................... ٢٤٠
الاستدلال
بآية الإذن لحجية خبر الواحد...................................... ٢٤٢
النصوص
الدالة على حجية خبر الواحد....................................... ٢٤٦
تقرير
الإجماع على حجية خبر الواحد......................................... ٢٤٩
تقرير
بناء العقلاء على حجية خبر الواحد...................................... ٢٥٢
الوجوه
العقلية التي اقيمت على حجية الخبر.................................... ٢٥٨
أدلة
حجية مطلق الظن...................................................... ٢٦٧
الدليل
الثاني من ادلة حجية مطلق الظن....................................... ٢٧٦
حول
دليل الانسداد........................................................ ٢٨٠
المقصد الثامن.............................................................. ٢٩٤
الأصول العملية............................................................. ٢٩٤
أقسام
المسائل الأصولية..................................................... ٢٩٦
انحصار
الأصول العملية في اربعة.............................................. ٢٩٨
الفرق
بين هذه المسالة ومسالة الحظر والاباحة.................................. ٣٠٢
الفصل الأول : البراءة....................................................... ٣٠٧
الآية
الاولى من الآيات التي استدل بها للبراءة................................... ٣٠٧
الآية
الثانية التي استدل بها للبراءة............................................. ٣١٢
الآية
الثالثة التي استدل بها للبراءة............................................. ٣١٤
الآية
الرابعة التي استدل بها للبراءة............................................. ٣١٦
الآية
الخامسة التي استدل بها للبراءة........................................... ٣١٧
الاستدلال
للبراءة بحديث الرفع............................................... ٣١٩
ما
يستفاد من جملة ما لا يعلمون............................................. ٣٢٩
عموم
الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية..................................... ٣٣١
في
جريان البراءة في الأحكام غير الالزامية وعدمه................................ ٣٤٠
عنوان
الخطأ والنسيان من العناوين المرفوعة..................................... ٣٤١
الاكراه
والاضطرار.......................................................... ٣٥٠
الحسد
والطيرة و............................................................ ٣٥٣
الاستدلال
للبراءة بحديث الحجب............................................ ٣٥٥
الاستدلال
على البراءة بروايات الحل........................................... ٣٥٨
عدم
اختصاص الموئق بالشبهة الموضوعية....................................... ٣٦٣
الاستدلال
بحديث الناس في سعة............................................. ٣٦٨
الاستدلال
برواية الإطلاق................................................... ٣٧١
الاستدلال
للبراءة بحديث الاحتجاج.......................................... ٣٧٨
الاستدلال
للبراءة بالإجماع................................................... ٣٨٢
الاستدلال
بحكم العقل...................................................... ٣٨٣
الاستدلال
على البراءة بالاستصحاب......................................... ٣٨٩
الاستدلال
بالآيات للزوم الاحتياط........................................... ٣٩٥
الأخبار
التي استدل بها للزوم الاحتياط........................................ ٣٩٨
الاستدلال
بأخبار التوقف لوجوب الاحتياط................................... ٤٠٠
الاستدلال
بأخبار التثليث لوجوب الاحتياط................................... ٤٠٧
الاستدلال
بأخبار الاحتياط لوجوب الاحتياط.................................. ٤١١
الاستدلال
بحكم العقل لوجوب الاحتياط...................................... ٤١٤
أصالة
عدم التذكية......................................................... ٤٢٢
جريان
الاحتياط في العبادات................................................. ٤٣٢
قاعدة
التسامح في ادلة السنن................................................ ٤٤٠
تتميم
في بيان أمور......................................................... ٤٤٧
ثمرة
هذا البحث............................................................ ٤٦٢
جريان
البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية.................................... ٤٦٤
الفصل الثاني : أصالة التخيير................................................. ٤٧٤
دوران
الأمر بين المحذورين.................................................... ٤٧٤
دوران
الأمر بين التعيين والتخيير.............................................. ٤٨٨
لو
كان أحدهما تعبديا مع وحدة الواقعة........................................ ٤٩١
دوران
الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية................................. ٤٩٣
دوران
الأمر بين الوجوب والحرمة مع تعدد الواقعة................................ ٤٩٧
حكم
ما لو احتمل أهمية أحد الالزامين........................................ ٤٩٩
هل
التخيير في صورة تعدد الواقعة بدوي أو استمراري............................ ٥٠٢
فهرس الموضوعات.......................................................... ٥٠٦
|