بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وافضل صلواته على اشرف الخلائق اجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين لا سيما بقية الله في الارضين الامام المهدي ارواح من سواه فداه ، واللعن على اعدائهم اجمعين.

وبعد فهذا هو الجزء الثاني من كتابنا زبدة الاصول في طبعته الثانية ، وفقنا الله لطبعه ونشره في حلة جديدة والله وليُّ التوفيق.

الفصل الثالث

من

المقصد الأول

من

مقاصد علم الاصول

الإجزاء

الفصل الثالث (١)

في مبحث الاجزاء

ان الاتيان بالمأمور به على وجهه ، هل يقتضي الاجزاء ، ام لا؟ ام هناك تفصيل؟ وجوه :

وقبل الخوض في المقصود وتنقيح القول فيه لا بد من تقديم امور :

الأول : ما هو المراد من كلمة وجهه في العنوان؟

ذكر المحقق الخراساني في الكفاية (٢) ان المراد به ، هو النهج الذي ينبغى ان يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا ، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا.

واستدل له بوجهين :

احدهما : انه لو كان المراد خصوص الوجه الشرعي ، لزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناءً على كون قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا : إذ لا ريب في انه في التعبديات لا يكون الاتيان بالمأمور به الشرعي مجزيا.

__________________

(١) الفصل الثالث من المقصد الأول (في الاوامر).

(٢) كفاية الأصول ص ٨١ (الفصل الثالث .. أحدهما).

الثاني : انه على ذلك يلزم كون هذا القيد توضيحيا ، وهو بعيد (١).

وفيهما نظر :

اما الأول : فلان لازم ما اختاره من ان اعتبار قصد القربة في التعبديات انما هو بحكم العقل ، ان المأمور به ليس هو مطلق وجوده ، بل الحصة المقارنة لقيد الدعوة ، فالمأمور به تلك الحصة ، وإتيان تلك الحصة يكون مجزيا على القول بالاجزاء ، فلا يلزم خروجها عن حريم النزاع ، لو اريد خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا.

واما الثاني : فلانه من جهة ان الامر بالمركب ينبسط على الاجزاء ويتعلق بكل جزء حصة من الامر ، ويكون كل جزء مامورا به ، ولو لم يكن قيد" على وجهه" كان لتوهم ان المراد من اجزاء الاتيان بالمأمور به ، اجزاء الاتيان بكل جزء عن امره ، مجال واسع ، فقيد" على وجهه" انما يكون لدفع هذا التوهم ، وان المراد اجزاء الاتيان بالمأمور به على النهج الذي ينبغى ان يؤتى به ، باتيان جميع الاجزاء والشرائط.

اضف إليه ان هذا القيد مأخوذ فيما عنونه المشهور القائلون باعتبار قصد القربة في المأمور به شرعا. فلو كان القيد توضيحيا. بدون تلك الاضافة كان كذلك معها.

فالمتحصل ان المراد من وجهه في العنوان هو الوجه المعتبر شرعا ولا يلزم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨١.

من ذلك محذور حتى على مسلك المحقق الخراساني من ان قصد القربة مما يعتبر في المأمور به عقلا كما مر.

بيان المراد من الاقتضاء ، والاجزاء

الثاني : ما هو المراد من الاقتضاء؟ هل هو الاقتضاء بنحو العلية والتاثير؟ أو الكشف والدلالة؟

والحق ان الاقتضاء ان اضيف إلى الاتيان كما في الكفاية (١) لا محالة يكون المراد منه العلية والتاثير.

وان اضيف إلى الامر يراد منه الدلالة والكشف إذ ليس في الامر علية وتأثير في الاجزاء.

والمحقق القمى حفظا لمناسبة هذا المبحث مع المباحث المتقدمة اضافه إلى الامر وقال ان المراد منه الدلالة والكشف (٢).

والمحقق الخراساني لما رأى ان محل النزاع هو العلية والتاثير وان اتيان المأمور

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨١ (ثانيها).

(٢) قوانين الأصول ج ١ ص ١٣٠ (الثانية) كون الأمر مقتضياً للاجزاء : هو إذا اتى به المكلف على ما هو مقتضي الأمر والمفهوم منه مستجمعاً لشرائطه المستفادة له من الشرع بحسب فهمه وعلى مقتضى تكليفه كما عرفت.

به يوجب سقوط الامر ام لا؟ اضافه إلى الاتيان وقال : ان المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية والتاثير لا بنحو الكشف والدلالة (١).

وللمحقق الأصفهاني (ره) (٢) في المقام كلام ، وهو ان الاتيان بالمأمور به لا يكون علة لسقوط الامر : إذ سقوط الامر انما يكون لحصول الغرض وعدم بقائه على غرضيته ودعوته والمعلول ينعدم بانعدام علته ، والا الفعل لا يعقل ان يؤثر في سقوط الامر : لان الامر علة لوجود الفعل في الخارج فلو كان الفعل علة لسقوط الامر لزم علية الشيء لعدم نفسه بل سقوط الامر انما هو لتمامية اقتضائه وانتهاء امده.

وفيه أولاً : ان العلة والداعى لوجود الفعل ، هو الامر بوجوده العلمي ، وما هو معلول لحصول المأمور به سقوط الامر بوجوده الواقعي فليس وجود شيء علة لعدمه بل العلم بالامر علة لعدم الامر.

وثانياً : ان المستحيل كون وجود الشيء علة لعدم هذا الوجود ، لاستلزامه اجتماع النقيضين : إذ العلة والمعلول مجتمعان في التحقق فيلزم كون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد وهو محال.

واما علية وجود الشيء لعدم ذلك الشيء في الآن الثاني.

وبعبارة أخرى عليّة الحدوث لعدم البقاء فلا محذور فيها ، بل هي متحققة ، مثلا : إذا اتصل بدنه بالسلك الكهربائي مع وجود القوة فيه وتحرك ، ولزم من

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨١ (ثانياً).

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٢٥٩.

هذا التحرك الانفصال ، فهل يتوهم احد ان هذا من قبيل علية الشيء لعدم نفسه فإن الاتصال صار علة لعدمه ، والمقام من هذا القبيل إذ وجود الامر في الآن الأول : علة وداع لوجود الفعل ، وهو يوجب سقوطه في الزمان الثاني فتدبر.

واورد المحقق الخراساني (١) على ما افاده من ان النزاع في العلية والتاثير : بأن ذلك يتم بالنسبة إلى امره ، واما بالنسبة إلى امر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي ، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده.

وأجاب عنه ـ بما حاصله ـ ان النزاع الآخر يكون منحلا إلى نزاعين

احدهما : وفاء المأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بتمام الغرض الداعي إلى الامر والواقعي الاختياري.

الثاني : انه بعد الوفاء ، هل يكون مجزيا عن الامر الواقعي ام لا؟

والنزاع الأول يكون صغرويا بالنسبة إلى النزاع الثاني ، وعليه فالخلاف فيه وان كان في دلالة دليلهما على انه ، هل يكون المأمور به الاضطراري أو الظاهرى وافيا به ام لا؟ الا ان ذلك لا يوجب كون الاقتضاء بمعنى الكشف والدلالة في العنوان بعد كون النزاع الثاني : انما هو في العلية والتاثير (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨١ (ثانيها .. ان قلت).

(٢) كفاية الأصول ص ٨٢ (ثانيها ... قلت).

هذا ويمكن ان يقال ان النزاع الأول أيضا ليس في دلالة الدليل على كون المأمور به وافيا بتمام الغرض الداعي إلى الامر الواقعي ، بل في اشتمال المأمور به عليه ، غاية الامر من جملة الادلة على الاشتمال المزبور ، دلالة الادلة. كما هو الشأن في جملة من المباحث الاصولية العقلية كالاستصحاب.

الثالث : في بيان المراد من الاجزاء ، فالظاهر كما افاده المحقق الخراساني (١) من انه ليس لهم فيه اصطلاح خاص ، بل المراد منه هو الكفاية التي هي معناه اللغوى ، وانما يختلف ما يكفي عنه ، فاجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره هو كفايته عما امر به اعادة وقضاءً ، وإجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن الامر الاختياري انما هو سقوط القضاء خاصة.

الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار

الرابع : قد يتوهم ، انه لا فرق بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار ، بدعوى ان القول بالاجزاء موافق للقول بالمرة ، والقول بعدم الاجزاء موافق للقول بالتكرار.

كما انه قد يتوهم عدم الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء ، فإن القائل بالتبعية يلتزم ببقاء الامر في خارج الوقت عند عدم الامتثال وهو متحد في النتيجة مع القول بعدم الأجزاء.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٢ (ثالثها).

ولكن كلا التوهمين فاسدان.

اما الأول : فلما افاده المحقق الخراساني من ان تلك المسألة انما هي في تعيين المأمور به ، وهذه المسألة في ان الاتيان بالمأمور به بحدوده هل يكون مسقطا للامر ام لا؟

هذا في النزاع في اجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره ، واما النزاع الآخر الذي هو المقصود المهم في عقد هذه المسألة ، وهو ان الاتيان بالمأمور به الاضطرارى أو الظاهرى ، هل بكون مجزيا عن الامر الواقعي الاختياري ام لا فعدم ارتباط تلك المسألة بهذه واضح : إذ النزاع حينئذ في هذه المسألة في اغناء المأمور به بامر عن المأمور به بامر آخر ، واما في تلك المسألة ، فالنزاع انما هو في الاكتفاء بفرد واحد وعدمه.

واما الثاني : فظاهر ما في الكفاية في بادئ النظر ، ان الفرق بين المسألتين ، انما هو بكون احداهما لفظية ، والاخرى عقلية.

ولكن ليس ذلك مراده قطعا : فإن مجرد ذلك لا يوجب عقد مسألتين ، بل عقد مسألة واحدة يبحث فيها عن الجهتين معا ، كما في مبحث البراءة ، ولعل نظره الشريف إلى ان النزاع في المقام اجنبي ، عن النزاع في تلك المسألة بالمرة.

وذلك واضح في النزاع الأول في المقام ، حيث ان النزاع حينئذ في ان الاتيان بالمأمور به ، هل يوجب سقوط الامر به أداء وقضاءً ام لا؟

وفي تلك المسألة في انه على فرض عدم الاتيان بالمأمور به هل الامر به يقتضي الاتيان به قضاء ام لا؟

فموضوع احدى المسألتين الاتيان ، وموضوع الاخرى عدم الاتيان.

واما النزاع الثاني : في مسألة الاجزاء. فالظاهر ان الفرق بين تلك مسألة وبين مسألة التبعية أيضا واضح ، فإن الكلام في مسألة التبعية انما هو في اصل اقتضاء الامر للقضاء وعدمه والكلام في مسألة الاجزاء ، بعد الفراغ عن اقتضائه له أو ثبوت وجوبه بدليل آخر انما يكون في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى أو الاضطراري هل يغنى عن قضاء المأمور به بالامر الواقعي الاختياري ام لا؟

وبعد ذلك نقول يقع الكلام في مسائل ثلاث :

الأولى : ان الاتيان بالمأمور به هل يقتضي الاجزاء عن امره سواء كان ذلك الامر امرا واقعيا أو اضطراريا أو ظاهريا.

الثانية : ان الاتيان بالمأمور به بالامر بالاضطراري هل يقتضي الاجزاء عن الامر الواقعي الاختياري ام لا؟

الثالثة : ان الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى هل يوجب الاجزاء عن الامر الواقعي ام لا؟

اجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره

اما المسألة الأولى : فقد افاد المحقق الخراساني (ره) (١) ان الاتيان بالمأمور به

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٣ (الأول).

يجزى عن امره عقلا سواء أكان امرا واقعيا أو اضطراريا ام ظاهريا لاستقلال العقل بذلك.

وهو كما افاده ، ولذلك ليس فيه نزاع يعتد به وان نسب الخلاف إلى ابى هاشم وعبد الجبار (١).

والوجه فيه ان الامر انما يكون ، عن داع ، وعن مصلحة مترتبة على المأمور به ، وعلى ذلك ، فعدم سقوط الامر بعد الاتيان بالمأمور به ، ان كان لعدم حصول الغرض والمصلحة ، فهو خلف إذ المفروض وفائه به ، وكون الامر ناشئا من ذلك ، وان كان مع فرض حصوله ، فهو محال.

وان كان لوجود غرض غير الغرض الحاصل من المأتي به أولاً ، فلازمه الامر بفردين لا بفرد واحد.

وان كان لحدوث غرض بعد استيفاء ذلك الغرض ، فلازمه حدوث امر جديد لا بقاء الأول : فبقاء الامر بعد وجود المأمور به غير معقول ، ووجود الخلاف في المسألة غير ثابت وعلى تقديره فهو محجوج بما عرفت.

عدم جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر

وبهذا البيان يظهر ان الامتثال عقيب الامتثال غير معقول ، ولكن قد يتوهم

__________________

(١) كما عن حواشي المشكيني ج ٢ ص ٢٢٦.

وقوعه نظرا إلى انه ورد في الشرع موردين امر فيهما بذلك.

احدهما : جواز اعادة من صل فرادى جماعة.

وقد دلت على ذلك عدة روايات :

منها صحيح هشام عن الامام الصادق (ع) انه قال في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (ع) يصلي معهم ويجعلها الفريضة ان شاء (١) ونحوه خبر حفص (٢) غيره.

ومنها : مرسل الفقيه ، المتضمن قوله (ع) يحسب له افضلهما وأتمهما (٣)

ومنها خبر ابى بصير : المتضمن لقوله (ع) يختار الله احبهما إليه (٤)

المورد الثاني : الامر باعادة من صلى صلاة الآيات ثانيا :

وقد دلت عليه صحيحة معاوية قال أبو عبد الله (ع) صلاة الكسوف إذا فرغت قبل ان ينجلى فاعد (٥) ونحوه غيره ولذلك تصدى الفقهاء لتوجيهه.

وقد افاد المحقق الخراساني (٦) بانه ربما يكون اتيان المأمور به علة تامة لحصول

__________________

(١) الوسائل باب ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة حديث ١.

(٢) الوسائل باب ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة حديث ١١.

(٣) الوسائل باب ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة حديث ٤.

(٤) الوسائل باب ٥٤ من ابواب صلاة الجماعة حديث ١٠.

(٥) الوسائل باب ٨ من ابواب صلاة الكسوف والآيات حديث ١.

(٦) كفاية الأصول ص ٨٣

الغرض بحيث يحصل بمجرد الاتيان به كما إذا امر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه ، وفي مثله لا يعقل تبديل الامتثال ، وربما لا يكون الامتثال علة تامة لحصول الغرض ، كما لو امر المولى باتيان الماء ليشربه وأتى به المكلف ولم يشربه بعد ، وفي مثله يجوز تبديل الامتثال فإن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه الاتيان ثانيا كما إذا لم يأت به أولاً ضرورة بقاء طلبه ، ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الأول. بدلا عنه ، فتبديل الامتثال على هذا يسقط المأتي به حقيقة ، ويظهر ذلك بملاحظة ما لو اهرق الماء قبل الشرب وأتى بماء آخر.

وفي كلامه (قدِّس سره) مواقع للنظر.

الأول : ما افاده من ان ترتب الغرض الباعث للامر على اتيان المأمور به انما يكون على نحوين :

احدهما : ترتب المعلول على علته التامة.

ثانيهما : ترتب المعلول على علته المعدة ، والالتزام بجواز تبديل الامتثال في القسم الثاني.

فانه يرد عليه ما ذكرناه في بعض المباحث السابقة من ان الغرض الباعث للامر لا بد وان يكون هو ما يترتب على المأمور به ترتب المعلول على علته التامة ، ولا يعقل ان يكون من قبيل ترتب المعلول على علته المعدة ، غاية الامر الاغراض متفاوته : إذ قد يكون هو الغرض الاقصى وقد يكون هو الغرض الاعدادي.

وبعبارة أخرى تارة يكون الغرض المترتب على المأمور به ، هو حصول شيء الخارج واخرى يكون الاعداد لحصوله.

نعم في المورد الثاني يكون هناك غرض اقصى ، ولكنه كما لا يكون سببا وداعيا للامر حدوثا ، لا يكون عدم حصوله وبقائه علة لبقاء الامر كي يصح تبديل الامتثال.

وبالجملة : الغرض الذي سبب للامر يحصل بمجرد الامتثال مطلقا ، وما يكون باقيا في بعض الموارد بعد الامتثال لا يصلح ان يكون سببا له حدوثا ولا بقاءً.

وبما ذكرناه ظهر ما في المثال الذي مثل به لما إذا لم يكن اتيان المأمور به علة لسقوط الغرض ، وهو الامر باحضار الماء ليشربه أو يتوضأ به : إذ الغرض من اتيان الماء الموجب للامر به ليس هو الشرب أو الوضوء : فانه خارج عن تحت قدرة العبد ، بل هو تمكن المولى من ذلك ، وعليه فالاتيان به موجب لسقوط الغرض والامتثال علة له.

الثاني : ما استشهد لذلك بانه لو اهرق الماء وجب عليه اتيانه ثانيا.

إذ يرد عليه : ان ذلك انما هو لأجل انتفاء الغرض الحاصل ، وهو التمكن من الشرب أو الوضوء فيجب الاتيان به تحصيلا لذلك الغرض. إذا كان ذلك مطلوبا له ومتعلقا لشوقه كما في المثال.

وبعبارة أخرى ان اعدام الموضوع ، غير سقوط المأتي به ، بل هو موجب لحدوث امر آخر ، وله امتثال آخر غير الامتثال للامر الأول : فهو من باب تعدد

الامتثال لتعدد الامر لا من باب تبديل الامتثال.

اضف إلى ذلك انه في باب العبادات لا موضوع للمأتى به كي يعدم الموضوع فيتخيل سقوط المأتي به ، والماتى به بنفسه لا بقاء له كي ينعدم وقلبه عما وقع عليه واضح الفساد ، وبالجملة سقوط المأتي به مستلزم لانقلاب الشيء عما وقع عليه ، وهو غير معقول.

الثالث : ما ذكره من الاستشهاد بنصوص الإعادة : فانه يرد عليه انه لو كان مفاد تلك النصوص جواز تبديل الامتثال ، لزم القول بجواز اعادة المنفرد صلاته فرادى ، وجواز اعادة من صلى جماعة فرادى مع انه لم يلتزم به احد.

وبعبارة أخرى إذا استكشف من تلك الاخبار ، ان مصلحة الصلاة والغرض الباعث للامر بها تكون باقية بعد الاتيان بها ـ وعليه بنى جواز تبديل الامتثال ـ لزم الالتزام به في جميع تلك الفروض.

اضف إليه ان لازمه ان من يعلم بانه يعيد صلاته في مورد جواز الاعادة وهو مورد النصوص ، ان لا يقصد الامر الجزمى بشيء من الصلاتين ، أو الصلاة الفرادى. على الخلاف في ان المستفاد منها ان الله تعالى يختار الافضل وان كانت هي الصلاة الفرادى أو استقرار الامتثال على الصلاة التي صلاها جماعة ، وهو كما ترى.

وسيمر عليك ان مفاد تلكم الاخبار اجنبي عن تبديل الامتثال وانه تدل على استحباب الاعادة نفسها.

والمحقق النائيني بعد ما قسّم الغرض الباعث للامر إلى قسمين :

ما يكون ترتبه على المأمور به ترتب المعلول على علته التامة.

وما يكون ترتبه عليه ترتب المعلول على علته المعدة وأفاد انه في مقام الثبوت يجوز تبديل الامتثال في القسم الثاني نحو ما ذكره المحقق الخراساني قال انه يحتاج إلى الدليل في مقام الاثبات كما ثبت في تبديل الصلاة الفرادى بالصلاة جماعة (١).

يرد عليه مضافا إلى ما اوردناه على ما افاده المحقق الخراساني ، ان لازم ما ذكره في مبحث الصحيح والاعم من انه يستكشف من تعلق الامر بالمحصل دون الغرض ، ان ترتبه عليه ، انما يكون من قبيل ترتب المعلول على علته المعدة ، لا كترتب المعلول على علته التامة ، الا تعين الامر به دون السبب.

وما ذكره في المقام. هو البناء على ان جواز التبديل في مقام الاثبات أيضا يكون على القاعدة ، إذ بما ذكره في ذلك المبحث يحرز ان ترتب الاغراض على الواجبات الشرعية من قبيل ترتب المعاليل على العلل المعدة. وإذا انضم إلى ما ذكره في المقام من انه لو كان الترتب على هذه النحو جاز التبديل يستنتج جواز التبديل فتدبر فإن ذلك دقيق.

وأفاد المحقق العراقي (٢) في توجيه تبديل الامتثال ، ان الامر بالشىء اما ان

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٩٤ (الفصل الثالث في الاتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الاجزاء ام لا؟) بتصرف. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٨٢.

(٢) مقالات الأصول ج ١ ص ٢٦٥ (المقام الأول في اجتزاء كل أمر واقعيا أم ظاهرياً اختياريا أم اضطراريا عن نفسه.

يكون لاشتماله على الغرض والمصلحة ، واما ان يكون لكونه مقدمة لما فيه الغرض الاقصى ، وعلى الثاني ، فتارة يكون ما فيه الغرض أي ذي المقدمة فعل المكلف ، كالصلاة بالنسبة إلى مقدماته مثل الوضوء ونحوه ، واخرى يكون هو فعل المولى ، وعلى الثاني فقد يكون من افعاله الجوارحية كامر المولى عبده باحضار الماء ليشربه ، وقد يكون من افعاله الجوانحية كامر المولى العبد باعادة الصلاة جماعة ليختار احب الصلاتين إليه ، وعلى ذلك فبناء على القول باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة إذا اتى العبد بفردين من افراد الواجب في الاقسام المذكورة غير الأول : ـ طول ـ فايهما الذي ترتب عليه ما فيه الغرض هو المصداق للواجب فيقع الآخر لغوا ، فلو صلى فرادى ثم جماعة واختار المولى الثانية في مقام ترتب الثواب على اطاعته ، تقع الثانية مصداقا للواجب ، دون الأولى بل هي تقع غير واجبة.

وفيه : ان ما التزم به (قدِّس سره) من عدم ترتب غرض على الصلاة في نفسها وانما الامر بها لأجل كونها مقدمة لاختيار المولى اياها في مقام ترتب الثواب التزام بعدم كون هذا الحكم تابعا للمصلحة وهو مناف لمسلك العدلية ، مع انه قد وردت نصوص كثيرة دالة على انه في خصوص الصلاة مصالح واغراض من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وغير ذلك.

اضف إلى ذلك ان كون الامتثال مراعى بعدم الاتيان بفرد اكمل لو تم فإنما هو في الأفعال التي يعود نفعها إلى المولى كما في الامر بالاتيان بالماء ليشربه ، فانه اتى بفرد من الماء يقال انه مراعى بعدم الاتيان بفرد اكمل قبل ان يشربه المولى ، والا فللمولى اختيار الفرد الاكمل ، ولا يتم في التكاليف الشرعية الناشئة عن

الاغراض العائدة إلى فواعلها دون المولى.

مع انه لا يتم فيها أيضا ، فإن غرض المولى الذي لا يكون محصله تحت اختيار المكلف بل الفاصل بين فعل العبد وحصول الغرض اختيار المولى ، لا يصلح كونه ملاك الوجوب.

وعن جماعة تصوير تبديل الامتثال بسقوط المأتي به بناءً ـ لا حقيقة ونظروا له بالعدول من العصر إلى الظهر مثلا وقالوا انه كما يتبدل عنوان المأتي به وينقلب من العصرية إلى الظهرية في مواضع العدول كذلك يتصور البناء على تبديل الامتثال.

وبعبارة أخرى انه كما يتبدل امتثال الامر بالعصر إلى كونه امتثالا للامر بالظهر في موارد العدول كذلك يمكن ان يتبدل امتثال امر منطبق على فرد إلى الامتثال باتيان فرد آخر.

ويرده انه في موارد العدول لا يتبدل العنوان وإلا لزم الانقلاب ، بل الدليل دل على اكتفاء الشارع الاقدس بما اتى به بقصد العصرية مثلا عن الامر بالظهر ، وهذا ليس من باب التبديل والسقوط البنائي مع انه لو تم في العناوين القصدية لا يتم في الامتثال الذي هو امر واقعى وعبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به.

فالمتحصل مما ذكرناه عدم معقولية تبديل الامتثال ، لا بسقوط المأتي به حقيقة على ما افاده المحققان الخراساني والنائيني ، ولا بسقوطه بناءً على ما عن جماعة من الاساطين ، ولا بوقوع المأتي به امتثالا مراعى بعدم الاتيان بفرد اكمل ، ولا بغير ذلك.

واما الموردان اللذان ذكرهما القوم فليس شيء منهما من هذا الباب.

اما المورد الأول : وهو جواز اعادة الصلاة ـ جماعة ـ فملخص القول فيه ان مفاد نصوصها استحباب الاعادة في نفسها فيكون كل فرد امتثالا لامر غير ما يكون الآخر امتثالا له. والذي دعى القوم إلى الالتزام بانه تدل على جواز تبديل الامتثال انما هو تضمن تلك النصوص لجمل ثلاث.

احداها : قوله (ع) يحسب له افضلهما وأتمهما. كما في مرسل الفقيه.

الثانية : قوله (ع) يختار الله احبهما إليه. كما في خبر ابى بصير.

الثالثة : قوله (ع) فمن صلى وحده ثم وجد جماعة ، يصلى معهم ويجعلها الفريضة كما في خبرى حفص البخترى وهشام وغيرهما.

ولكن شيئا منها لا يدل على ذلك.

اما الأولى : فلان الظاهر من المرسل المتضمن لها وروده في الصلاة مع المخالفين ، فيكون نظير طائفة من نصوص الاعادة الدالة على اعادة الصلاة مع المخالفين ، وفي بعضها انها تحسب له باربع وعشرين صلاة ، وفي بعضها انها تحسب له خمس وعشرون درجة ، وفي بعضها ، انه يجعلها تسبيحا ، والمراد به كما في خير آخر انه ذكر محض ، وفي بعضها ، قوله (ع) أراهم ان اسجد ولا اسجد.

ولا ريب في ان تلك الطائفة من النصوص المصرح في بعضها بعدم الاتيان بها بعنوان الصلاتية ، اجنبية عن تبديل الامتثال.

فالمراد من الجملة المتقدمة ـ هو المراد ـ بما في بعضها انها تحسب له باربع وعشرين صلاة ، والشاهد على كون المرسل من هذه النصوص ارسالها بعد ما

رواه عن الامام الصادق (ع) الوارد في الصلاة معهم على ما هو صريحه ، وعلى ذلك فيتعين قراءة افضلهما وأتمهما بالنصب لا بالرفع كما لا يخفى.

واما الجملة الثانية : فلان المراد بها على الظاهر ولا اقل من المحتمل ، هو ان الله تعالى يعطى الثواب على الصلاة الكاملة منهما الواقعتين بداعي امتثال امرين : وجوبي واستحبابي ، لا ان الصلاة التي تكون احب هي المسقطة للامر الوجوبى وانها التي تستقر عليها الامتثال ومحصلة للغرض الاقصى ، والشاهد عليه قوله (ع) احبهما إليه ، الظاهر في اشتراكهما في المحبوبية : إذ القائل بتبديل الامتثال لا يلتزم بذلك.

واما الجملة الثالثة : ففيها احتمالات :

الأول : ان يكون المراد بها ، الاتيان بالثانية بعنوان القضاء عما في الذمة من الصلوات الفاسدة ـ أو التي لم يؤت بها ـ ويؤيده قوله (ع) في خبر هشام ، يجعلها الفريضة ان شاء (١).

الثاني : ما ذكره شيخ الطائفة (٢) وهو ان المراد بها ، ان من يصلى ولم يفرغ من صلاته ووجد جماعة فله ان يجعلها نافلة ثم يصلى الفريضة في جماعة.

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ٣٨٣ باب الجماعة وفضلها ح ١١٣١ / الوسائل ج ٨ ص ٤٠١ باب ٣٤ استحباب اعادة المنفرد صلاته اذا وجد جماعة ح ١١٠١٤.

(٢) كتاب الصلاة للشيخ الأعظم الانصاري ج ٢ ص ٤١٨ من الطبعة الجديدة ١٤٢٠ ه‍ وفي الطبعة القديمة ص ٣١٦.

وايده الوحيد (١) ، بأن ذلك هو ظاهر صيغة المضارع ، وان راوي هذا الخبر ، روى هذا المعنى الذي ذكره الشيخ عن سليمان بن خالد عن الإمام الصادق (ع).

الثالث : ان يكون المراد بها ما ذكره بعض المحققين (ره) ، من انه يجعلها فريضة ذاتية من ظهر أو عصر أو نحوهما مما اداها سابقا ، لا نافلة ذاتية حيث لا جماعة فيها ، وعلى أي تقدير تكون اجنبية عما استدل بها له :

ويشهد لعدم كون نصوص الاعادة في مقام بيان جواز تبديل الامتثال ما في بعضها. فإن له صلاة أخرى.

فتحصل ان الاظهر عدم جواز تبديل الامتثال :

ويشهد له مضافا إلى ما تقدم. ان الامر ان كان باقيا بعد الاتيان بفرد فبما انه ايجابي يجب الاتيان به ثانيا ، والا فلا موجب للاتيان به.

واما المورد الثاني : وهو الامر باعادة صلاة الآيات فالصحيح انه يتعين رفع اليد عن ظهور الامر في الوجوب وحمل تلك النصوص على الاستحباب كما عليه الفتوى فحكم هذا المورد حكم المورد الأول :

__________________

(١) نسبه اليه غير واحد منهم لآية الله العظمى السيد الخوئي في محاضرات في الأصول ج ٢ ص ٢٢٨.

اجزاء الاتيان بالمأمور بالأمر الاضطراري

واما المسألة الثانية : وهي ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يكون مجزيا عن الامر الواقعي الاولي ام لا؟. فتنقيح القول فيها بالبحث في مواضع.

الأول : ان الاتيان بالمأمور به الاضطراري هل يجزى عن قضاء المأمور به الواقعي الأولى ، فيما إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت ، ام لا؟

الثاني : في ان الاتيان بالمأمور به الاضطراري هل يجزي عن قضاء المأمور به الواقعي الاولي ، فيما اذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت ، ام لا؟.

الثالث : في جواز البدار للمضطر باتيانه في اول الوقت وعدمه.

اما الموضع الأول : فبناء على كون وجوب القضاء تابعا لفوت الفريضة في الوقت ، لا يجب القضاء في المقام : لعدم كون المأمور به الاختياري فريضة ومأمورا به بالنسبة إلى المضطر ، فلا يصدق فوت الفريضة إذ التكليف الواقعي بالنسبة إلى المضطر هو الامر الاضطراري ، لا الامر الاختياري كي يتحقق فوت الواقع.

وبذلك ظهر ما في كلام المحقق الخراساني في آخر المقام الأول : حيث قال نعم لو دل دليله على ان سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجبا عليه لتحقق سببه. (١)

واما لو كان وجوب القضاء تابعا لفوت الملاك.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٦.

فقد يقال كما عن المحقق ـ النائيني (ره) (١) : بأن مقتضى القاعدة أيضا الاجزاء وذلك لان القيد المتعذر ، ان كان دخيلا في ملاك الواجب حتى في حال التعذر ، فلازمه عدم وجوب الفاقد في الوقت.

وان لم يكن دخيلا فيه حين التعذر ، فلا تكون الفريضة فائتة بملاكها فلا يجب قضائها ، من غير فرق في ذلك بين ان يكون هناك مصلحة أخرى مترتبة على نفس القيد وعدمه : إذ مصلحة القيد اللزومية مترتبة على تقدير ثبوتها على القيد حال كونه قيداً للفريضة فاذا فرض سقوط الامر بالفريضة لقيام مصلحتها بالفاقد فلا يمكن استيفاء مصلحة القيد اصلا.

أقول ان دخل القيد في الملاك والمصلحة حال التعذر يتصور على وجوه :

الأول : ان يكون هناك مصلحتان : احداهما : مترتبة على الفعل ، والثانية : على القيد ، ولازم ذلك عدم وجوب القضاء كما افاد (قدِّس سره)

الثاني : ان يكون المأمور به الاختياري مشتملا على مصلحتين ملزمتين ، احداهما : مترتبة عليه مع ذلك القيد المتعذر خاصة ، والاخرى مترتبة على ما هو بدل عن ذلك القيد أيضا ، وحينئذٍ ، اما ان لا يمكن استيفاء تلك المصلحة الفائتة : لان استيفائها انما يمكن استيفاء الاخرى لا وحدها ، أو يمكن ولكن ليست مصلحة ملزمة ، أو يمكن وتكون لزومية ، فعلى الاولين لا يجب القضاء ، وعلى الاخير يجب.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٩٥ (الفصل الثالث). وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٨٣.

الثالث : ان يكون دخل القيد المتعذر في المصلحة المترتبة على الواجب مختصا بحال الاختيار ، ولازم ذلك عدم وجوب القضاء.

الرابع : ان يكون في المأمور به الاختياري مصلحة واحدة ، ويكون القيد المتعذر دخيلا فيها حتى في حال الاضطرار ، وحينئذٍ ، ان لم تترتب على الفاقد مصلحة اصلا ، فلازمه عدم وجوب الفاقد ، وان ترتبت عليه مصلحة أخرى غير تلك المصلحة ، ان لم يكن استيفائها مانعا عن استيفاء تلك المصلحة يجب القضاء ، والا فلا.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات القوم في المقام.

وبعد ما عرفت من انه في مقام الثبوت يمكن ان يكون القضاء واجبا ، ويمكن ان لا يكون كذلك.

يقع الكلام فيما ، تقتضيه الادلة والاصول في مقام الاثبات.

والكلام في هذا المقام يقع أولاً في مقتضى الادلة.

وقد استدل للاجزاء : باطلاق دليل المأمور به الاضطراري.

وفيه انه إن اريد بذلك ان الإطلاق يقتضي كون المأمور به الاضطراري وافيا بالمصلحة المترتبة على المأمور به الاختياري.

فيرد عليه : ان الامر لا يصلح الا لاثبات كون الفعل الاضطراري وافيا بجميع ما دعى المولى إلى هذا الامر لا كونه وافيا بمصلحة الفعل الاختياري.

وان اريد به ان مقتضى اطلاقه عدم وجوب الفعل الاختياري بعد الاتيان به.

فيرد عليه : ان التمسك بالاطلاق انما يصح فيما إذا لزم من ثبوت ما اريد نفيه بالاطلاق تقييد في ذلك الدليل ، مثلا لو قال المولى اكرم العلماء ، وشك في دخالة العدالة فيه فإنه ينفي اعتبارها الإطلاق.

كما انه لو شك في كون ما امر به واجبا تعيينيا ام تخيير يا بينه وبين غيره يثبت الإطلاق كونه تعيينيا.

واما لو كان المشكوك ثبوته على تقدير الثبوت غير مربوط بهذا الدليل ، ولا يلزم منه تغيير في هذا الحكم فلا مورد للتمسك بالاطلاق ، مثلا لو شك في وجوب صلاة اول الشهر لا سبيل إلى التمسك باطلاق دليل الصلاة اليومية لنفيه.

والمقام من هذا القبيل ، إذ على فرض ثبوت القضاء لا يلزم تقييد فيما دل على وجوب الفعل الاضطراري ، ولا يلزم منه صيرورته واجبا تخييريا : إذ على أي تقدير يجب الاتيان به في الوقت ولا يكون وجوبهما ارتباطيا على فرض الثبوت ، فلا يصح التمسك بالاطلاق لنفى وجوب القضاء.

نعم : التمسك باطلاق دليل بدل القيد المتعذر إذا كان بلسان التنزيل كما في قوله (ع): " التيمم احد الطهورين" (١) صحيح : إذ مقتضى اطلاق التنزيل

__________________

(١) ففي الوسائل ج ٣ باب ٢٣ من ابواب التيمم ص ٣٨٥ ح ٣٩٣٤ عن جميل بن دراج عن ابي عبد الله (ع) قال : (إن الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا). وبهذا المعنى عدّة أحاديث كما في الكتب الاربعة والوسائل ، وأما لفظ : (التراب أحد الطهورين)

ترتب جميع آثار الطهارة المائية ، على الترابية عند فقدان الماء وهو يكون حاكما على اطلاق دليل القيد الاختياري فلا يعتنى بما قيل من معارضته مع ذلك الإطلاق.

فالصحيح في المقام ان يقال : ان انعقاد هذا البحث في المقام ، وعدم تعرض احد له فيما إذا تبدل حال المكلف بأن صار مسافرا بعد كونه حاضرا ، وعدم توهم احد وجوب القضاء فيه ، انما هو لبنائهم على ان المكلف به في المورد الثاني ليس هي الصلاة اربع ركعات في جميع الحالات حتى لو كان مسافرا ، بل المكلف به هو الجامع ، بمعنى ان المسافر لا تكليف له سوى بالصلاة ركعتين ، فبعد الاتيان بهما لا مجال للقضاء.

واما في المقام فالواجب على كل مكلف أي ما فيه ملاك الوجوب الملزم انما هو الفعل الاختياري حتى في حال الاضطرار ، وانما لم يؤمر به لعجز المكلف عنه وانما امر بالفعل الاضطراري لكونه وافيا بتلك المصلحة أو بعضها. فلذلك جرى هذا النزاع بينهم.

ولكن لنا ان نمنع عن ذلك ونلتزم بأن المكلف به ليس هو الفعل الاختياري حتى في حال الاضطرار ، بل مقتضى ظهور الادلة كون العجز منوعا ـ كما ان الحالات الأخر منوعة ـ فالمكلف به في حال الاضطرار والواجد

__________________

فالظاهر انها غير موجدة في الكتب الروائية المعروفة ، لكنها استعملت كثيراً في الكتب الفقهية ، والظاهر لكونها بمعنى الحديث.

للمصلحة هو خصوص الفعل الاضطراري ، وعليه فيكون الواجب على المكلفين هو الجامع بين صلاتي المختار والمضطر بالمعنى المتقدم ، وإنّما عين الشارع المقدس لكل منهما فردا خاصا فما يؤمر به في حال الاضطرار ، هو نفس المأمور به لا بدله ، فيكون وافيا بما اوجب الامر بذلك الفعل.

وعلى ذلك فليس احتمال عدم الاجزاء حينئذ إلا كاحتمال العدم حينئذ لو اتى بالفعل الاختياري ثم طرأ العذر بعد مضى الوقت وليس احدهما اولى من الآخر.

لا يقال : لازم ذلك هو ان يجب قضاء ما فات في حال الاضطرار باتيان مثله ولو بعد رفع العذر كما هو الشأن في تبدل الحالات.

فانه يقال : ان ما دل على كون الفعل الاضطراري من افراد الجامع ، انما يدل على كونه كذلك في خصوص حال الاضطرار ، لا مطلقا فبعد رفعه قضاء الجامع انما يكون باتيان الفعل الاختياري لا الاضطراري.

فتدبر في اطراف ما ذكرناه فإنه حقيق به.

ولو فرضنا عدم استفادة عدم وجوب القضاء من اطلاق الادلة والشك في وجوبه ، لا بد من الرجوع إلى الاصول العملية وهي تقتضي عدم الوجوب : وذلك بناءً على كون القضاء بامر جديد ، واضح : فانه لو شك في ان الفعل الاضطراري هل يكون وافيا بتمام المصلحة المترتبة على الفعل الاختياري ام لا؟ لا محالة يشك في الفوت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء ، وبتبعه يشك في الوجوب فتجري اصالة البراءة عنه.

ولو علم بعدم وفائه بها وشك في ان الباقي يمكن استيفائه ام لا ، فحيث ان شمول ادلة القضاء له غير معلوم : إذ من المحتمل بل الظاهر اختصاصها بفوت تمام المصلحة لا بعضها ففي صورة فوت البعض لا دليل على وجوب القضاء ، فلا محالة يشك في الوجوب ومقتضى الأصل عدم الوجوب.

ولا سبيل حينئذ إلى دعوى ان الشك في التكليف في الفرض بما انه مسبب عن الشك في القدرة فالمرجع فيه قاعدة الاحتياط لا البراءة كما عن بعض اكابر المحققين (ره) (١).

فإن الشك في القدرة مع تمامية الجعل من ناحية الشارع الاقدس مورد لقاعدة الاحتياط لا في مثل المقام مما اوجب الشك في الجعل. كما لا يخفى.

واما بناءً على كون القضاء بالامر الأول : فعدم الوجوب اظهر : إذ المفروض عدم توجه الامر الاختياري في حال الاضطرار ، فالشك في وجوب القضاء لا محالة يكون شكا في اصل التكليف ولا ريب في كونه موردا للبراءة ، من غير فرق بين العلم بعدم استيفاء تمام المصلحة في امكان استيفاء الباقي ، وبين الشك في استيفاء التمام وعدمه.

ودعوى انه مع الشك في استيفاء تمام المصلحة يكون مرجع الشك المزبور

__________________

(١) كما يظهر من المحقق العراقي في مقالات الأصول ص ٢٧١ ـ ٢٧٢ (رابعها : انّ مقتضى الأصل بالنّسبة إلى الإجزاء في الوقت عدمه ، لأنه على الإجزاء بمناط التّفويت مع الجزم بعدم الوفاء بتمام مصلحة المختار فمرجعه إلى الشك في القدرة على تحصيل الزائد ، والعقل في مثله مستقلّ بالاحتياط .. الخ.

إلى الشك في ان المطلوب الأول : هل هو الجامع بين المشتمل على المبدل ، والمشتمل على البدل ، أو هو خصوص المشتمل على المبدل غاية الامر امر بالمشتمل على البدل لأجل اشتماله على مقدار من المصلحة فيكون الامر دائرا بين التعيين والتخيير ، والاحتياط يقتضي البناء على الأول : ومع الشك في امكان استيفاء الباقي يقينا ، يكون الشك في الوجوب مسببا عن الشك في القدرة والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

مندفعة بانه مع العجز لا يكون المشتمل على المبدل واجبا في الوقت ، والتكليف متمحض فيما تعلق بالمشتمل على البدل ، وبعد مضى الوقت وارتفاع العذر ، لا سبيل إلى دعوى ثبوت القضاء بالامر الأول.

وبعبارة أخرى ان معنى كون القضاء بالامر الأول ، كفاية الامر بالصلاة في الوقت لثبوت وجوبها في خارجه مع فوتها فيه ، وبما ان المفروض في المقام عدم تعلق التكليف بالفعل الاختياري في الوقت فلا مورد لدعوى ثبوت وجوب القضاء للتبعية ، فلو ثبت فإنما هو بامر جديد ومقتضى اصالة البراءة عدم الوجوب.

فتحصل ان مقتضى الادلة ، والاصل عدم وجوب القضاء.

ارتفاع العذر في الوقت

الموضع الثاني : في انه إذ اتى بالمأمور به الاضطراري ثم ارتفع العذر في الوقت فهل تجب الاعادة ، ام لا؟.

وملخص القول فيه انه لا كلام بناءً على عدم جواز البدار واقعا : فإن المأتي به حينئذ لا يكون مأمورا به فلا مورد لتوهم الإجزاء.

نعم ، فيما لو جاز البدار ظاهرا ، وأتى بالفعل الاضطراري ثم ارتفع العذر ، كلام من حيث اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري عن الواقعي ، وعدمه ، وسيأتي الكلام فيه.

واما بناءً على جواز البدار واقعا.

فالكلام يقع أولاً في انه في مقام الثبوت يتعين وجوب الاعادة ، أو عدم وجوبها ، ام يمكن كل منهما؟.

والظاهر هو الاخير : إذ لو كان العمل الاضطراري في حال الاضطرار وافيا بجميع المصلحة التي يفي بها الاتيان بالمأمور به الاختياري ، أو ببعضها مع عدم كون الباقي مما يجب تحصيله ، أو وافيا بمصلحة مباينة لما يترتب على الفعل الاختياري ، ولكنه لم يمكن استيفاء المصلحة المترتبة على الفعل الاختياري ، مع استيفاء تلك المصلحة بالإتيان بالمأمور به الاضطراري ، لا تجب الاعادة ، وان كان وافيا ببعض تلك المصلحة ، والمقدار الباقي مما يمكن استيفاؤه وكان لازم الاستيفاء ، أو كان مشتملا على غير تلك المصلحة وكانت مصلحة المأمور به الاختياري ممكن الاستيفاء ، تجب الاعادة.

توضيح ذلك انه بناءً على جواز البدار كيفية وفاء العمل الاضطراري بالمصلحة تتصور على انحاء.

الأول : ان يكون وافيا بتمام ما يترتب على العمل الاختياري في حال

الاختيار ، أو ببعضها ولكن الباقي لا يجب تحصيله.

ودعوى ان ذلك لا يمكن الالتزام به في مقام الاثبات : لاستلزامه جواز تفويت القدرة وتعجيز المكلف نفسه ، مع ان ذلك مما لم يفت به احد.

مندفعة لا بما قيل ان الملاك انما يترتب على الفعل الاضطراري إذا كان الاضطرار طارئاً بالطبع دون الآتي باختيار المكلف.

فانه يرد عليه : ان لازم ذلك عدم وجوب العمل الاضطراري في صورة الاضطرار باختيار المكلف وهو كما ترى.

بل بأن هذا الاتفاق لو ثبت لا يكون تعبديا فلا مانع من مخالفة القوم لو ساعدنا الدليل ، مع انه ليس ثابتا.

مضافا إلى انه لو كان تعبديا نلتزم بعدم جواز ذلك للدليل الخاص.

الثاني : ان يكون وافيا بمصلحة غير تلك المصلحة ولكن بقدرها ولا يمكن استيفاء تلك المصلحة مع استيفائها.

ودعوى : ان هذا الوجه خلاف ظاهر ادلة الفعل الاضطراري لانها ظاهرة في ان المأتي به في حال الاضطرار من سنخ المأتي به في حال الاختيار ، مع ان لازمه الالتزام بتعدد العقاب لو كان في اول الوقت مختارا وفي آخره مضطرا ، ولم يأت بشيء من الفعلين : لتفويته مصلحتين.

مندفعة : بأن الادلة ليست في مقام بيان المصلحة كي يستظهر منها ما ذكر ـ كما هو واضح ـ وتعدد العقاب انما هو مترتب على ما إذا كان التكليفان اللذان خالفهما المكلف تعيينيين لاما إذا كانا تخييريين ، كما في المقام كما لا

يخفى.

الثالث : ان يكون الفعل الاضطراري مشتملا على احدى المصلحتين المترتبتين على العمل الاختياري ، أو على ذات تلك المصلحة المترتبة عليه التي تكون ملزمة بحسب ذاتها وباعتبار مرتبتها أيضا.

ودعوى ان لازم هذا الوجه عدم جواز البدار على تقدير عدم امكان استيفاء الباقي من المصلحتين أو مرتبتها ، ولزوم الاعادة تقدير الامكان ، وإلا لزم نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة.

مندفعة ، لا بما قيل من انه لا محذور فيه لما في البدار من مراعاة ما هو فيه من مصلحة اول الوقت ، فانه يرد عليه : ان تلك المصلحة استحبابية لا تصلح لمزاحمة المصلحة اللزومية الفائتة :

بل لانه يمكن ان يكون عدم مسبوقية الفعل الاختياري بالعمل الاضطراري ، من شرائط اتصاف المأمور به الاختياري بالمصلحة ، لا من شرائط حصولها.

توضيح ذلك : ان القيود الدخيلة في المصلحة على قسمين :

الأول : ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة. كالمرض بالاضافة إلى شرب المسهل في العرفيات وزوال الشمس بالنسبة إلى الصلاة في الشرعيات ، وفي مثل ذلك لا يجب تحصيل الشرط ، ولا محذور في ايجاد المانع عن وجوده.

الثاني : ما يكون دخيلا في حصول المصلحة كما في برودة الهواء مثلا بالنسبة إلى شرب الدواء للمريض ، والوضوء بالاضافة إلى الصلاة ، وفي مثل

ذلك يجب تحصيل الشرط ، ولا يجوز تركه وايجاد المانع عن تحققه ، وعلى ذلك فإن كان عدم استيفاء اصل المصلحة أو احدى المصلحتين من شرائط اتصاف العمل الاختياري بكونه ذا مصلحتين أو واجدا لاصل المصلحة ومرتبتها. بحيث لو استوفى تلك المصلحة باتيان العمل الاضطراري لما كان يتصف العمل الاختياري بالمصلحة ، لم يكن محذور في البدار اذ منه يلزم وجود المانع عن تحقق شرط الوجوب ، وان كان من شرائط حصول المصلحة لما جاز البدار لاستلزامه تفويت الغرض فتدبر فانه دقيق.

الرابع : ان يكون وافيا بإحدى المصلحتين المترتبتين على الفعل الاختياري أو باصل المصلحة المترتبة عليه. مع كون الباقي من المصلحتين أو مرتبتها يمكن استيفاؤها.

الخامس : ان يكون وافيا بمصلحة غير تلك المصلحة ، مع امكان استيفائها بعد رفع العذر.

وفي الانحاء الثلاثة الأول : لا تجب الاعادة ، وفي الاخيرين تجب ، واما سائر الانحاء المتصورة ، فلا يلائم ، مع جواز البدار كما لا يخفى.

هذا كله بحسب مقام الثبوت ، واما في مقام الاثبات.

بيان ما تقتضيه الادلة في مقام الاثبات

فقد استدل لعدم وجوب الاعادة : باطلاق ما تضمن الامر بالعمل الاضطراري ، بدعوى انه لو كانت المصلحة المترتبة عليه باحد الانحاء الثلاثة

الأول : لكان العمل الاضطراري هو المأمور به تعيينا ، ولو كانت باحد النحوين الاخيرين ، فلا بد من الامر بالاتيان به وضم المأمور به الاختياري بعد ارتفاع العذر إليه ، أو الانتظار والاتيان بالمأمور به الاختياري بعد ارتفاع العذر خاصة مخيرا بينهما ، وحيث ان الامر يدور بين التعيين والتخيير ، فلا بد من حمل الامر على الأول : لان ذلك مقتضى الإطلاق.

ولكن يرد عليه : انه ان اريد التمسك بالاطلاق لاثبات كونه مامورا به تعيينا فهو معلوم عدم كونه كذلك : إذ لا ريب في جواز التاخير إلى ما بعد ارتفاع العذر ، والاتيان بالمأمور به الاختياري كما لا يخفى ، ولا شيء من الواجب التعييني مما يجوز تركه.

وان اريد التمسك به لاثبات انه وحده عدل التخيير لا هو بضميمة الاتيان بالمأمور به الاختياري بعد رفع العذر ، فهو لا يصح : من جهة أن وجوب ذلك وتعينه لو ثبت لما اوجب تقييدا في دليل المأمور به الاضطراري ، بل هو حكم استقلالي ناش عن مصلحة أخرى ، فالاطلاق لا يصلح لرفع ذلك التكليف.

وان اريد التمسك به لاثبات كونه مشتملا على تمام مصلحة المأمور به الاختياري أو مصلحة أخرى بقدرها فالاطلاق اجنبي عن ذلك ، وعليه ، فلا وجه للتمسك بالاطلاق.

نعم ، هذا كله بناءً على مسلك القوم من عدم كون العجز منوعا للمكلف كغيره من الحالات والا فالاجزاء واضح كما عرفت في الاجزاء عن القضاء فراجع.

وقد يتمسك باطلاق دليل القيد المتعذر لوجوب الاعادة ، بعد ارتفاع

العذر : فإن اطلاق ذلك الدليل شامل لصورتي الاتيان بالعمل الاضطراري وعدمه.

وقد يقرب هذا التقريب من التمسك بالاطلاق كما في تقريرات المحقق العراقي (١) ، بأن اطلاق ادلة العمل الاختياري شامل لحالة طرو الاختيار بعد الاضطرار ، وذلك لانه لمتعلق الخطاب المطلق افراد عرضية وطولية.

فكما ان سقوط الإطلاق بالنسبة إلى بعض الأفراد العرضية وسقوط الخطاب من جهة لا يمنع من التمسك بالاطلاق بالنسبة إلى الأفراد الممكنة.

كذلك بالنسبة إلى الأفراد الطولية.

فنتيجة ذلك انه بعد رفع العذر يكون مقتضى ذلك الدليل لزوم المبدل أي المأمور به الاختياري.

والجواب عن هذا الوجه : ان دليل البدل الاضطراري قسمان :

احدهما : ما تضمن تنزيل البدل منزلة المأمور به الاختياري كما في قوله : " التيمم احد الطهورين".

ثانيهما : ما تضمن الامر به في حال الاضطرار خاصة.

وما افيد لا يتم في شيء منهما :

اما الأول : فواضح لان مقتضى اطلاق دليل التنزيل ترتب جميع آثار المبدل عليه.

__________________

(١) راجع نهاية الافكار ج ١ ص ٢٣٩ (واما عمومات الاضطرار) بتصرف.

واما الثاني : فلان دليل القيد لا يلزم باتيانه الا على تقدير لزوم الاتيان باصل العمل وهو غير ثابت بل ثابت العدم فلا يقتضي ذلك الدليل وجوبه.

ولو فرضنا عدم امكان التمسك بالاطلاق أو ظهور الادلة. لعدم وجوب الاعادة ، أو فرضنا الشك في ذلك ، مقتضى اصالة البراءة هو البناء على العدم.

وقد نسب إلى المحقق العراقي (ره) (١) ان الأصل هو اصالة الاشتغال.

وذلك لان الشك في وجوب الاعادة. اما ان يكون من ناحية الشك في وفاء المأمور به الاضطراري بتمام مصلحة المأمور به الاختياري ، فالامر يدور بين التعيين والتخيير والمرجع فيه قاعدة الاشتغال : لان الشك في وجوب الاعادة وعدمه إذا كان منشأه الشك في كون العمل الاضطراري وافيا بتمام مصلحة المأمور به الاختياري أو بعضها ، مع كون الباقي لازم الاستيفاء لا محالة يعلم بترتب مقدار من المصلحة على الجامع بين العملين ، ويشك في ان الباقي الذي يكون لازم الاستيفاء هل يكون مترتبا عليه أيضا فلا يجب الاعادة ، أو على خصوص العمل الاختياري ، فيجب ، فالامر مردد بين التعيين والتخيير فيتعين الرجوع إلى قاعدة الاشتغال.

واما ان يكون من ناحية الشك في امكان استيفاء الباقي وعدمه ، فالمرجع فيه أيضا قاعدة الاشتغال لكونه من قبيل الشك في القدرة.

ولكن : الاظهر كون المرجع هو اصالة البراءة في كلا الفرضين :

__________________

(١) نهاية الافكار ج ١ ص ٢٣٠ (وقبل الخوض في هذه الجهة ينبغي بيان ما يقتضيه الأصل في المسألة ..)

اما على الأول : فلانه وان سلم كون المرجع في دوران الامر بين التعيين والتخيير في سائر الموارد ، هي قاعدة الاشتغال ، لا نسلم كونها المرجع في خصوص المقام ، إذ في سائر الموارد ، تعلق التكليف بالمعين ، اما تعيينا ، أو تخييرا ، معلوم ، وتعلقه بالعدل الآخر مشكوك فيه ، واما في المقام فتعلق التكليف ، ولو تخييرا ، ومنضما إلى شيء آخر ، بالمأمور به الاضطراري ، معلوم ، وتعلقه بالمأمور به الاختياري ، في صورة عدم الاتيان بالبدل أيضا معلوم ، وانما الشك يكون في تعلقه بالفعل الاختياري ، في ظرف الاتيان بالمأمور به الاضطراري ، ولا ريب في انه مورد لاصالة البراءة.

واما على الثاني : فلما مر من ان الشك في القدرة ان كان سببا للشك في سعة الجعل ، وضيقه ، يكون مورد القاعدة ، البراءة ، لا الاشتغال.

فتحصل مما ذكرناه ان الاصول العملية أيضا تقتضي عدم وجوب الاعادة.

جواز البدار وعدمه

الموضع الثالث : في جواز البدار.

وملخص القول فيه انه في مقام الثبوت ان كانت المصلحة المترتبة على العمل الاضطراري ، باحد الانحاء الخمسة المتقدمة في أي جزء من الوقت اتى به يجوز البدار حتى مع العلم بارتفاع العذر في اثناء الوقت.

وان كان ترتبها مقيدا بما إذا اتى به في آخر الوقت ، لما جاز البدار ، وان

علم ببقاء العذر آخر إلى الوقت ، وان كان المترتب عليه احدى المصلحتين المترتبتين على العمل الاختياري ، أو اصل المصلحة التي تكون هي بنفسها وبمرتبتها اللزومية مترتبة على العمل الاختياري مع كون الباقي مما لا يمكن استيفاؤه ، وكان عدم مسبوقيته بالعمل الاضطراري من قبيل شرائط حصول المصلحة ، لما جاز البدار الا مع العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت وعدم اعتبار الاتيان به في آخر الوقت في حصول تلك المصلحة.

وان كان الباقي مما يمكن استيفاؤه جاز البدار مطلقا ان كان الملاك المترتب عليه مترتبا عليه ، وان اتى به في اول الوقت ، غاية الامر يجب الاعادة حينئذ بعد ارتفاع العذر هذا كله في مقام الثبوت والواقع.

واما في مقام الاثبات والدليل ، فمقتضى اطلاق الدليل جواز البدار مع العلم بعدم التمكن في جميع الوقت ، واما مع العلم بزوال العذر فلا بد من ملاحظة الدليل في كل مورد ليرى انه هل يشمل عدم التمكن في بعض الوقت فيجوز البدار ، أو لا يشمل فلا يجوز.

ولو كان الدليل مطلقا غير مقيد بشيء من ذلك فالظاهر ان مقتضى الإطلاق اعتبار الاستيعاب : وذلك لان المأمور به كالصلاة ، هي الطبيعة الواقعة ما بين المبدأ والمنتهى ، وظاهر ما تضمن ان العجز عن الاتيان بالمأمور به الاختياري شرط للامر الاضطراري ، هو العجز عن الطبيعة بلا دخل للخصوصيات الخارجة عن حريم المأمور به في ذلك ، ومعلوم ان العجز عن الطبيعة انما هو بالعجز عن جميع افرادها بخلاف القدرة عليها الصادقة على القدرة على فرد منها ، وعليه فمع التمكن من بعض الأفراد المأمور

بها الاختياري ولو الطولى منها لا يصدق عدم القدرة والعجز فلا يكون الشرط محققا فالظاهر من الدليل المطلق اعتبار العذر المستوعب.

واستظهر المحقق العراقي (ره) (١) في خصوص دليل التيمم من الآية الكريمة ، ان الشرط هو العذر ، ولو في جزء من الوقت بتقريب ان المشروط في الآية هو التيمم عند إرادة الصلاة لان المراد من قوله تعالى" إذا قمتم إلى الصلاة" إذا اردتم الصلاة فلو اراد الصلاة في اول الوقت ولم يتمكن من الماء يجوز له التيمم بنص الآية الشريفة.

ويرد عليه ما افاده السيد المرتضى (ره) (٢) من ، ان ذلك يتوقف على ان يكون له إرادة الصلاة في اول الوقت. ونحن نخالفه ، ونقول بانه ليس له ذلك ، ومن المعلوم ان المراد بارادة الصلاة إرادة الصلاة الجائزة لا مطلقها.

ومع عدم الدليل على جواز البدار مقتضى الأصل العملي هو الجواز في صورة العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت ، وفي غير ذلك لو علم بالارتفاع ، لا يجوز البدار : إذا الامر في الواجب الموسع يتعلق بالطبيعة الجامعة بين الأفراد الواقعة بين المبدأ والمنتهى ، وفي مثل ذلك انما يحكم العقل بالتخيير بين الأفراد الطولية كما يحكم بالتخيير بين الأفراد العرضية ، ولا ريب في انه انما يحكم به

__________________

(١) نهاية الافكار ج ١ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩ / وفي مقالات الأصول ج ١ ص ٢٧٠ (المقام الثاني).

(٢) راجع الذريعة ج ١ ص ١١١ فقد يظهر ذلك بعد ذكر الآية حيث قال : يعني إذا عزمتم عليها .. الخ ولكن محل استدلاله هناك عدم تكرار الوضوء لكل صلاة. أو ما يظهر من كلامه ص ١٥٤ ولعله هو المقصود.

إذا احرز ان الأفراد متساوية في الوفاء بالغرض المترتب على تلك الطبيعة ، واما إذا كان بعضها وافيا به دون بعض ، أو احتمل ذلك ، فلا يحكم العقل بالتخيير ، وعليه ففي المقام لا يحكم العقل بالتخيير بل يرى وجوب الصبر والانتظار إلى آخر الوقت.

ولو شك في بقاء العذر وارتفاعه ، يجري استصحاب بقاء العذر إلى آخر الوقت بناءً على جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية ، ويحكم بجواز البدار ظاهرا.

واورد على هذا الأصل في المقام بأن المستصحب ان كان هو حالة المكلف من الاضطرار والعجز فهو بالنسبة إلى ما هو موضوع الحكم وهو عدم مقدورية الأفراد الاختيارية من المثبت غير الحجة ، وان كان هو عدم مقدورية الأفراد ، فالمتيقن غير المشكوك فيه ، فإن المتيقن هي الحصص الخاصة ، والمشكوك فيها غيرها فلا يجري.

وفيه أولاً : ان ظاهر الادلة كون الشرط عجز المكلف فالشرط هو حالة المكلف.

وثانياً : انه لو سلم كون الشرط هو عدم مقدورية المأمور به الاختياري ، فمن الواضح ان الخصوصيات خارجة عن تحت التكليف فالشرط عدم القدرة على صرف وجود الطبيعة ، ومن المعلوم ان المتيقن على هذا عين المشكوك فيه.

وثالثا : انه يمكن ان يقال ان جميع الأفراد الطولية ، غير مقدورة في اول الوقت ، ولو من جهة عدم مجيء وقت جملة منها ، ويشك في انه بعد مجيء الوقت هل يتبدل ذلك إلى القدرة ام لا؟ فيجري الاستصحاب.

ولا يرد على ذلك ان لازمه جواز البدار واقعا وان علم بارتفاع العذر لانه يصدق في اول الوقت عدم القدرة على جميع الأفراد.

فانه يندفع بأن الظاهر من الدليل ان المسوغ هو العذر المستوعب المستمر من اول الوقت إلى آخرة.

اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري

واما المسألة الثالثة : وهي اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهرى عن التعبد بالامر الواقعي إعادة أو قضاءً وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم أو علمي.

فقد اختلفت كلمات الاصحاب فيها على اقوال (١) :

منها : الاجزاء مطلقا.

ومنها : عدمه مطلقا.

ومنها : التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجدانى ، وما إذا انكشف بعلم تعبّدي فيجزي على الثاني دون الأول.

ومنها التفصيل في الإمارات بين القول بالسببية ، والقول بالطريقية بالاجزاء على الأول مطلقا أو بعض اقسام السببية ، وعدم الاجزاء على الثاني.

__________________

(١) سيأتي تخريج الاقوال عند التعرض لها فانتظر.

ومنها : التفصيل بين الامارات والاصول ، فيجزى في المورد الأول : ولا يجزى في الثاني.

ومنها : ما اختاره المحقق الخراساني الذي سيمر عليك.

ومنها : غير ذلك من التفاصيل ـ وستمر عليك ـ.

وقبل الشروع في البحث لا بأس بنقل ما افاده المحقق الخراساني وبه يظهر موارد البحث.

محصل ما افاده ، ان مؤدى الامارة ، أو الأصل.

قد يكون حكما شرعيا جعل موضوعا لحكم آخر أو قيدا لموضوع حكم آخر ، كالطهارة المجعولة قيدا للماء والتراب ، وشرطا لجواز الدخول في الصلاة ، وكحلية لحم حيوان خاص ، كالارنب ، المجعولة قيداً لجواز الصلاة في الوبر المتخذ منه ، وما شاكل.

وقد يكون حكما شرعيا غير مجعول موضوعا لحكم آخر ، أو قيداً لموضوع حكم ، كوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة.

فالكلام في موردين :

اما المورد الأول : فاما ان يكون الحكم الظاهرى ثابتا باصل عملي ، كاصالة الطهارة والحلية ، والاستصحاب (بناءً على ما يشير إليه في التنبيه الخامس من الاستصحاب ، من اختيار كون المجعول فيه الحكم المماثل).

واما ان يكون ثابتا بامارة شرعية ، كخبر الواحد ، والبينة ، وما شاكل.

فإن كان ثابتا بالاصل ، فحيث ان المأخوذ في موضوعه الشك ، ويجعل الحكم على الشك بلا نظر إلى الواقع اصلا ، ولذا لا يتصف بالصدق والكذب ، بل يتبدل الشك إلى العلم ، بتبدل الموضوع والحكم ، ولا يتصور فيه انكشاف الخلاف ، فلا محالة يكون دليله حاكما على ما دلَّ على الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط ، وانه اعم من الطهارة الواقعية مثلا : فانكشاف الواقع لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل فلا مناص عن البناء على الاجزاء.

واما ان كان ثابتا بالامارة التي تكون ناظرة إلى الواقع وكاشفة عنه من دون جعل شيء آخر وحكم في موردها. فلا بد من البناء على عدم الاجزاء على الطريقية.

إذ المجعول في مورد الامارة ليس حكما ظاهريا ، بل اما ان يكون هو الطريقية ، أو التنجيز والتعذير ، فبانكشاف الخلاف ينكشف عدم واجدية العمل لما هو شرطه ، لا واقعا ، ولا ظاهرا ، فلا محالة يبني على عدم الاجزاء.

نعم على القول بالسببية مقتضى اطلاق دليل الحجية هو الاجزاء ، ومع الشك في الطريقية والسببية ، فبالنسبة إلى الاعادة في الوقت يبني على عدم الاجزاء لقاعدة الاشتغال ، وبالنسبة إلى القضاء حيث انه يكون بأمر جديد ، ويشك فيه ، فاصالة البراءة تقتضي عدم الوجوب والاجزاء.

واما المورد الثاني : كما إذا قام الدليل ، أو الأصل ، على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ، فانكشف بعد ادائها ، وجوب صلاة الظهر ، فالوجه عدم الاجزاء مطلقا : إذ غاية ما هناك وجوب صلاة الجمعة لمصلحة فيها ، وهذا لا

ينافي وجوب صلاة الظهر أيضا ، لما فيها من المصلحة الواقعية ، الا ان يقوم دليل خاص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

وسيمر عليك ما يرد على ما افاده المحقق الخراساني (ره) في المقام.

وتنقيح القول بالبحث في مقامين :

الأول : في الامارات.

الثاني : في الاصول.

والكلام في المقام الأول : في موردين :

الأول : بناءً على الطريقية.

الثاني : بناءً على السببية.

اما المورد الأول : فمقتضى القاعدة هو عدم الاجزاء إذ بانكشاف الخلاف ينكشف عدم امتثال الامر الواقعي فالاجزاء يحتاج إلى دليل.

وقد استدل للاجزاء بوجوه يختص بعضها بما إذا كان الانكشاف بحجة شرعية ، ويعم بعضها ما لو كان الانكشاف بالقطع واليقين.

احدها : ان الاجتهاد الأول كالاجتهاد الثاني فلا وجه لرفع اليد عن الأول بالثاني وإعادة الاعمال الواقعة على طبق الاجتهاد الأول (١).

__________________

(١) حكاه في اجود التقريرات عن بعض القائلين ج ١ ص ٢٢١. (من الفصل الثالث .. ومنه ظهر) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٩١.

ويرد عليه ، انه بعد انكشاف فساد الاجتهاد الأول وعدم حجية مدرك الحكم الأول ، بالاجتهاد الثاني ، لا سبيل إلى دعوى ان الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأول.

ثانيها : ان الحكم الشرعي يتبدل بتبدل الرأى ، كالملكية المتبدلة بالبيع والشراء ، فالمكلف في زمان الاجتهاد الأول كان حكمه على طبقه ، وفي زمان الاجتهاد الثاني يتبدل حكمه ، ولا يكون مكلفا الا بما تعلق به الاجتهاد الثاني (١).

وفيه : ان ذلك لو تم فإنما هو على القول بالسببية ، واما على القول بالطريقية التي حقيقتها جعل صفة المحرزية ، والطريقية ، والمرآتية ، للامارة بلا تصرف في الواقع ، ولاجعل حكم في الظاهر ، فلا يتم : إذ بالاجتهاد الثاني ينكشف عدم موافقة اجتهاد الأول للواقع.

ثالثها : ان تبدل الاجتهاد ، وقيام حجة على خلاف الحجة السابقة انما هو نظير النسخ فانه بوصول الثانية ينقضي زمان حجية الأولى ، فهي إلى زمان حجية الثانية ، حجة واقعية.

والايراد عليه ، بأن الحجية انما تكون نظير سائر الاحكام الشرعية ، لها مرتبتان ، واقعية ، وظاهرية ، وعليه فبوصول الثانية ينكشف انها كانت حجة من الأول ولم تكن الأولى كذلك ، لا انها كانت حجة واقعية إلى زمان وصول الثانية.

__________________

(١) لم يعلم متبن لهذا الرأي من الاصحاب ، نعم ذكره الاعلام في كتبهم وناقشوه بوجوه متعددة ، وما أفاده المصنف (مد ظله) هو أجود رد.

غير صحيح ، فإن الحجية انما هي من قبيل الاحراز الوجداني ومتقومة بالوصول.

لا معنى لوجودها واقعا مع عدم وصولها : فإن حقيقة الحجية جعل صفة المحرزية للشيء ، ولا يتحقق ذلك في الخارج الا بوصول هذا الجعل وموضوعه إلى المكلف ، وعليه فليس لها مرتبتان.

ولكن يرد عليه ان وجوب الاعادة أو القضاء ، وبعبارة أخرى عدم الاجزاء ، من آثار الحكم الواقعي على خلاف ما وصل إليه ، لا من آثار حجية الحجة الثانية.

وعلى الجملة التبدل في الحجية لو سلم ، لا ينفع في المقام ، بل النافع هو التبدل في الحكم الواقعي ، وهو باطل لكونه مستلزما للتصويب الذي لا نقول به.

واما التبدل في الحجية ـ أي في الاحراز ـ فهو غير مفيد.

رابعها : ما عن الفصول من ان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين (١).

واورد عليه المحقق النائيني (قدِّس سره) : بانه لم يظهر معنى معقول لهذا الاستدلال فإن مؤدى الاجتهاد بعد فرض كونه حكما كليا غير مختص بزمان خاص ان اراد انه لا يتحمل اجتهادين من شخص واحد في زمان واحد ، فهو مسلم لكنه اجنبي عن المقام.

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٤٠٩ (فصل اذا رجع المجتهد عن الفتوى).

وان اراد انه لا يتحمل اجتهادين في زمانين فهو بديهي البطلان (١).

أقول ان هذا الوجه ذكره في الفصول في مبحث تبدل الرأى من مباحث الاجتهاد والتقليد ، بعد اختياره القول بعدم الاجزاء مطلقا في هذه المسألة.

ومحصل ما افاده (٢) : ان الواقعة التي اوقعها على طبق الاجتهاد الأول :

تارة تنقضي بانقضاء الزمان ولا يمر عليها الزمان مرتين كالصلاة بلا سورة ، أو الواقعة في شعر الارنب ، أو الواقعة فيما بنى على طهارته ، أو العقد بالفارسي وما شاكل.

واخرى لا تنقضي بانقضاء الزمان ويمر الزمان عليها مرتين كالحيوان الذي بنى على حليَّته فذكاه وفرض بقاؤه إلى زمان الاجتهاد الثاني ، وفي القسم الأول : حيث لا بقاء لها بل لها ثبوت واحد ، وهي على الفرض وقعت صحيحة فلا تنقلب فاسدة بتجدد الرأي ، وهذا هو مراده من العبارة المزبورة ، فلا يرد عليه ما افاده (ره) من انه لم يظهر معنى معقول لهذا الاستدلال.

ولكن يرد عليه انه في القسم الأول : أيضا كان يتخيل انها وقعت صحيحة ، وبحسب الاجتهاد الثاني ظهر انها كانت فاسدة.

هذا كله على القول بالطريقية.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٥ (الثالث ما عن صاحب الفصول). وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٢) صاحب الفصول المصدر السابق (ص ٤٠٩) ، بتصرف

واما على القول بالسببية : فقد يقال كما عن المحقق الخراساني في الامارات الجارية في متعلقات الاحكام ، أي الاحكام التي جعلت موضوعا لاحكام اخر أو قيدا للموضوع ، كطهارة الماء المجعولة موضوعا لجواز الصلاة أو الوضوء ، أو التيمم ، وعن غيره في الامارات الجارية في الاحكام مطلقا.

بانه وان كان يحتمل ثبوتا كون العمل الفاقد معه في هذه الحالة كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض فيجزى ، وان لا يكون وافيا بتمامه فلا يجزى مع امكان استيفاء الباقي ووجوبه ، الا ان قضية اطلاق دليل الحجية على هذا هو الاجزاء بموافقته أيضا.

وفيه ان السببية تتصور على اقسام :

الأول : السببية على مسلك الاشعريين وهي ان قيام الامارة سبب لحدوث المصلحة والحكم وانه مع قطع النظر عن ذلك لا يكون حكم ولا ملاك.

الثاني : السببية على مسلك المعتزلة وهي : ان قيام الأمارة والحجة من قبيل طرو العناوين الثانوية. يكون موجبا لحدوث مصلحة في المؤدى اقوى من مصلحة الواقع.

الثالث : السببية على مسلك بعض العدلية وهي ان قيام الامارة موجب لتدارك المقدار الفائت من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الامارة.

وعلى الاولين لا تتصور الصور الاربعة المذكورة ، ولا عدم الاجزاء.

اما على الأول : فلفرض انه لا حكم في الواقع ولا ملاك فلا يلزم فوته ، من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

واما على الثاني : فلانه لا تتم السببية حينئذ الا بناءً على كون المصلحة في المؤدى غالبة على مصلحة الواقع. وموجبة لتبدل الحكم.

ثم انه لو سلم تصوير الصور الاربعة على هذين المسلكين ، فما ذكر من التمسك باطلاق دليل الحجية للاجزاء لا يتم ، لما ذكرناه في المأمور به بالامر الاضطراري وجها ، لان اطلاق الدليل لا يصلح لرفع وجوب الاعادة أو القضاء ، فراجع.

واما على الثالث : فلا وجه للاجزاء إذ المفروض ان المتدارك هو المقدار الفائت من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الامارة. مثلا لو ادّت الامارة إلى وجوب صلاة الجمعة وكان الواجب في الواقع هي صلاة الظهر ، فإن انكشف الخلاف بعد مضي وقت الفضيلة يكون الفائت بسبب سلوك الامارة فضل الوقت ، وهو المتدارك ، واما مصلحة الصلاة ، فهي يمكن استيفاؤها وغير متداركة فيجب ذلك إذ تفويتها ليس مستندا إلى سلوك الامارة ، وان انكشف الخلاف بعد مضى الوقت يكون الفائت بسبب سلوك الامارة مصلحة الوقت ، فهي تتدارك ، وان لم ينكشف الخلاف اصلا ، كان المتدارك بالمصلحة السلوكية مصلحة اصل الصلاة.

والمحقق الخراساني بعد اختياره القول بالاجزاء بناءً على السببية في الامارات الجارية في متعلقات الاحكام مستندا إلى الوجه المتقدم.

ذهب إلى عدم الاجزاء في الامارات الجارية في نفس الاحكام حتى على السببية بدعوى : ان الامارة إذا قامت على وجوب شيء كصلاة الجمعة وكان الواجب في الواقع شيئا آخر وهي صلاة الظهر ، فغاية الامر ان تصير صلاة

الجمعة أيضا ، ذات مصلحة لذلك ، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة ، الا ان يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد (١).

وفيه : ان محل الكلام هو ما إذا كان لسان الامارة ومؤداها تعين ما هو الوظيفة الواقعية وفي المثال ما دل على وجوب صلاة الجمعة انما يدل على ان الواجب من الصلاتين الظهر والجمعة ، في يوم الجمعة هي صلاة الجمعة لا الظهر ، فيكون لسان الامارة الجارية في الاحكام كلسانها في المتعلقات فعلى القول بالاجزاء على السببية لاوجه للتفصيل بينهما.

وبعبارة أخرى إذا كان لسان الامارة تعيين الواجب فلا محالة تدل بالدلالة الالتزامية على انه لا يجب صلاة الظهر في يوم الجمعة ويستلزم ذلك كون مصلحة صلاة الجمعة في يومها مصلحة بدلية مسانخة لمصلحة صلاة الظهر ، لا مصلحة مستقلة أخرى غير تلك المصلحة كي لا ينافي استيفاؤها لاستيفاء تلك المصلحة.

نعم : ما ذكره (ره) يتم فيما لو قامت الامارة على وجوب شيء خاص بلا نظر لها إلى بيان الواجب الواقعي ، وتعينه في مؤديها ، لكنه خارج عن مفروض البحث.

ويضاف إلى ذلك ، المناقشة في المثال ، فإن صلاتي الجمعة ، والظهر ، عمل واحد ، وانما الاختلاف بينهما في الكيفية ، نظير القصر والاتمام ، لا سنخان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٧ (المقام الثاني في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري)

متغايران ، فالامارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة دون الظهر ، من قبيل الامارة الجارية في المتعلقات.

بقي في المقام شيء لا بد من التنبيه عليه ، وهو انه بعد ما مرّ من ان مقتضى القول بالسببية هو الاجزاء ، والقول بالطريقة عدم الاجزاء ، لو احرز احد المسلكين فلا كلام.

ومع عدم احرازه ، هل يحكم بالاجزاء ، أو بعدمه ، ام يفصل بين الاعادة والقضاء ، فيحكم بعدم الاجزاء بالنسبة إلى الاعادة ، والاجزاء بالنسبة إلى القضاء وجوه.

قد استدل المحقق الخراساني للقول بعدم الاجزاء بالنسبة إلى الاعادة ، بأن انكشف الخلاف في الوقت ، باستصحاب عدم الاتيان بالمسقط للتكليف (١).

ويرده انه لا اثر لهذا ، ولا هو موضوع لاثر شرعي لعدم كون سقوط التكليف من آثار عدم الاتيان بالمسقط شرعا.

فالصحيح ان يستدل له : باستصحاب بقاء التكليف الواقعي إذ الشك انما هو في سقوطه لحصول غرضه من جهة كون المأتي به ذا مصلحة بدلية ، وعدمه ، فيجرى استصحاب عدم السقوط ، وبما ان المستصحب بنفسه اثر شرعي لا يعتبر في جريانه ترتب اثر شرعي آخر عليه ، بل يكفي ترتب اثر عقلي ، وهو لزوم الاتيان بالمتعلق.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٧.

فإن قيل انه يعارضه استصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت. ولا أثر لبقاء التكليف غير الفعلي.

قلنا ان عدم فعليه الواقع اما لعدم فعلية موضوعه ، أو لعدم وصوله ، أو لسقوطه.

والاول انكشف خلافه. والثانى انقلب إلى نقيضه وهو الوصول. والثالث مشكوك فيه فيجرى فيه الاستصحاب ، هذا كله فيما هو مفاد الاصول اللفظية.

ما تقتضيه الاصول العملية

واما الاصول العملية ، فالكلام فيها في مقامين :

الأول : في الاصول غير التنزيلية ، كقاعدة الطهارة ، واصالة الاباحة.

الثاني : في الاصول التنزيلية كالاستصحاب.

اما الأول : فقد اختار المحقق الخراساني في الكفاية انها تقتضي الاجزاء. قال : فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط وانه اعم من الطهارة الواقعية والظاهرية فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل (١) انتهى.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٦ (المقام الثاني).

واورد عليه بايرادات عمدتها للمحقق النائيني (ره) (١) :

١ ـ ان هذا لا يستقيم على مسلكه من تفسير الحكومة بأن تكون بمثل كلمة اعني وأردت واشباه ذلك ، ومن الواضح عدم تحقق الحكومة بهذا المعنى في المقام.

وفيه : انه (قدِّس سره) يصرح في تعليقته على الرسائل (٢) بأن الحكومة هي ما إذا كان احد الدليلين مسوقا بنحو يصلح للنظر إلى كمية موضوع الآخر.

وهذا ينطبق على المقام فإن دليل المحكوم متكفل لاثبات ان الطهارة مثلا شرط للصلاة ، ودليل الحاكم يدل على ان المشكوك طهارته طاهر فهو يصلح للنظر إلى التوسعة في موضوع المحكوم.

٢ ـ ان الحكومة انما تستقيم إذا كانت الطهارة الظاهرية مجعولة أولاً ثم يأتي دليل على ان ما هو الشرط في الصلاة اعم من الطهارة الظاهرية والواقعية فيكون هذا الدليل موسعا لما دل على اعتبار الطهارة في الصلاة.

ومن الواضح ان المتكفل لاثبات الحكم الظاهري ليس إلا نفس دليل قاعدة الطهارة فكيف يمكن ان يكون هو المتكفل لبيان كون الشرط اعم من الواقعية والظاهرية منها.

__________________

(١) فوائد الأصول" للنائيني" ج ١ ص ٢٤٩ (الجهة الثالثة).

(٢) راجع فوائد الأصول" للآخوند" ص ١٠٢ حيث قال : وقد عُرف أن مجرد دلالة أحد الدليلين على انتفاء الآخر في الجملة لا يوجب الحكومة ما لم يكن له نظر اليه بما هو دليل عليه.

وفيه : ان المحقق الخراساني يدعى ان جعل الطهارة مثلا جعل لها بالمطابقة ، ولاحكامها بالالتزام ، ومن جملة احكامها شرطيتها للصلاة ، فيلزم من ضم دليل الحكم الظاهري المتكفل باثبات ان مشكوك الطهارة طاهر ، إلى دليل المحكوم المتكفل باثبات ان الطهارة شرط في صحة الصلاة ، ان الشيء المشكوك طهارته بعض افراد الشرط.

وبالجملة : عموم الشرط للطهارة الظاهرية من لوازم جعل الطهارة ظاهرا فلا محذور من هذه الجهة.

٣ ـ ان الحكومة المدعاة في المقام ليست الا من باب جعل الحكم الظاهرى وتنزيل المكلف منزلة المحرز للواقع في ترتيب آثاره ، وهذا مشترك فيه بين جميع الاحكام الظاهرية سواء ثبتت بالامارة ام بالاصل بل الامارة اولى بذلك من الأصل فإن المجعول في الامارات نفس صفة الاحراز.

وفيه : ان الحكومة المدعاة في المقام ليست لما ذكر بل لان المجعول في الحاكم بنفسه حكم شرعي جعل شرطا وهذا المعنى مفقود في الامارات.

٤ ـ ان الحكومة لو سلمت فإنما هي حكومة ظاهرية لا واقعية وعليه فلازم ذلك ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف لا التوسعة في الواقع في ظرف الشك.

وفيه : ان المحقق الخراساني (ره) لا يدّعي حكومة دليل قاعدة الطهارة على دليل الطاهر الواقعي ولا على ما دل على اشتراط الطهارة الواقعية في الصلاة.

بل يدعي حكومته على دليل اشتراط الطهارة غير المقيدة بالواقعية في

الصلاة ، وفي مثل ذلك لا يكون مرتبة الحاكم متاخرة عن مرتبة المحكوم.

وان شئت قلت انه بالحكومة يستكشف ان المأخوذ شرطا للصلاة اعم من الواقعية والظاهرية. ولا محذور في اخذ الشرط شيئين طوليِّين ولا في اخذ الطهارة الظاهرية شرطا واقعا كما لا يخفى.

٥ ـ انه لو التزمنا بالحكومة لزم الالتزام بها في سائر احكام الطهارة ، فلو غسل ثوبه بالمشكوك طهارته مع البناء على طهارته لقاعدة الطهارة لا بد من البناء على طهارته واقعا ولو بعد انكشاف الخلاف ونجاسة الماء واقعا ، وكذا لو توضأ بماء مشكوك الطهارة لا بد من البناء على تحقق الطهارة الحدثية ولو بعد انكشاف نجاسة الماء. وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

وفيه : انه يمكن الالتزام في تلك الموارد ، بأن النجاسة مانعة عن تحقق الطهارة الحدثية وطهارة ما غسل بالنجس فما دام لم ينكشف الخلاف لا تكون النجاسة واصلة وكان في الظاهر محكوما بعدم النجاسة ، فبعد وصوله يظهر انه كانت النجاسة مانعة عن تحقق الطهارة.

والصحيح في الجواب عن الحكومة ان يقال : انه لو سلم دلالة الروايات على جعل الطهارة مع انه محل الكلام كما سيأتي في اخبار الطهارة والحليّة المستدل بها لحجية الاستصحاب : ان الطهارة من الخبث بنفسها ليست امرا وجوديا بل هي امر عدمي ، وهو خلو المحل عن القذارات كما سيمر عليك في مبحث الاستصحاب في ذيل تلك الاخبار ، وعليه فلا معنى لجعلها الا جعل آثارها فمفاد الاخبار ترتيب آثار الطهارة على المشكوك طهارته ، مع انه على فرض النجاسة الواقعية وعدم ارتفاعها بجعل الطهارة وتنافي الطهارة والنجاسة

لا محالة يكون المجعول ترتيب الآثار ، فلا شك في عدم الحكومة حينئذ كما لا يخفى.

واما الثاني : أي الأصل التنزيلي وهو الاستصحاب ، ففي الكفاية (١) افاد ان حكمه بناءً على ما هو الحق من جعل الحكم المماثل الذي اختاره في التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب حكم قاعدة الطهارة.

ولكن حيث ان المختار عندنا في المجعول في باب الاستصحاب هو كون المجعول الجري العملي على طبق اليقين السابق كما سيأتي توضيحه في محله فلا موهم للاجزاء.

وربما يتوهم دلالة صحيح زرارة (٢) المتضمن لتعليل عدم وجوب اعادة

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٤١٤ التنبيه السابع حسب الظاهر لا الخامس.

(٢) ورد الحديث في الوسائل مقطع اما نص الحديث فقد اورده في تهذيب الأحكام ج : ١ ص : ٤٢١ ح ٨ ـ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ : قُلْتُ أَصَابَ ثَوْبِي دَمُ رُعَافٍ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ فَعَلَّمْتُ أَثَرَهُ. إلى أَنْ أُصِيبَ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَأَصَبْتُ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَنَسِيتُ أَنَّ بِثَوْبِي شَيْئاً وَصَلَّيْتُ. ثُمَّ إِنِّي ذَكَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : تُعِيدُ الصَّلَاةَ وَتَغْسِلُهُ قُلْتُ فَإِنِّي لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُ مَوْضِعَهُ وَعَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ فَطَلَبْتُهُ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ فَلَمَّا صَلَّيْتُ وَجَدْتُهُ قَالَ تَغْسِلُهُ وَتُعِيدُ قُلْتُ فإن ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ وَلَمْ أَتَيَقَّنْ ذَلِكَ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئاً ثُمَّ صَلَّيْتُ فَرَأَيْتُ فِيهِ قَالَ تَغْسِلُهُ ولا تُعِيدُ الصَّلَاةَ قُلْتُ لِمَ ذَلِكَ قَالَ لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَداً قُلْتُ فَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهُ وَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَأَغْسِلُهُ قَالَ تَغْسِلُ مِنْ ثَوْبِكَ النَّاحِيَةَ الَّتِي تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَهَا حَتَّى تَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ قُلْتُ فَهَلْ عَلَيَّ إِنْ شَكَكْتُ فِي أَنَّهُ أَصَابَهُ

الصلاة الواقعة مع النجاسة الواقعية المحكوم ظاهرا بالطهارة ـ بالاستصحاب ـ فانه لو لا اقتضاء امتثال الامر الظاهري للاجزاء لما صح التعليل ، فتكون صحيحة زرارة لما فيها من التعليل دليلا على قاعدة الاجزاء.

وأورد عليه بإيرادين :

أحدهما : ما افاده الشيخ الأعظم (١) بأنه خلاف الظاهر ، إذ العلة حينئذ هو مجموع الصغرى والكبرى لا هذه الصغرى بخصوصها فلا يصح التعليل بها.

وأجاب عنه المحقق الخرساني بما حاصله أن العلة هي مجموع الكبرى والصغرى أي كونه مستصحبا للطهارة المحقق للأمر الظاهري مقتض للإجزاء وعليه فكما يصح التعليل بهما يصح التعليل بإحداهما ، وفي الصحيح علل بالصغرى.

وفيه ان اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ليس بمثابة يصح في مقام التعليل بالصغرى وفرض كون الكبرى مسلمة وتصحيحه بإرجاعه إلى أن الشرط

__________________

شَيْءٌ أَنْ أَنْظُرَ فِيهِ قَالَ لا ولَكِنَّكَ إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ تُذْهِبَ الشَّكَّ الَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِكَ قُلْتُ إِنْ رَأَيْتُهُ فِي ثَوْبِي وأَنَا فِي الصَّلَاةِ قَالَ تَنْقُضُ الصَّلاةَ وتُعِيدُ إِذَا شَكَكْتَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ثُمَّ رَأَيْتَهُ وإِنْ لَمْ تَشُكَّ ثُمَّ رَأَيْتَهُ رَطْباً قَطَعْتَ الصَّلَاةَ وَغَسَلْتَهُ ثُمَّ بَنَيْتَ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّكَ لا تَدْرِي لَعَلَّهُ شَيْءٌ أُوقِعَ عَلَيْكَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ. وذكره أيضا في الإستبصار ج ١ ص ١٨٣ باب ١ (الرجل يصلي في ثوب فيه نجاسة).

(١) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٦٦ عند قوله (ربما يتخيل حسن التعليل ... الثالث الاخبار المستفيضة .. ومنها صحيحة أخرى لزرارة مضمرة أيضا).

هو الطهارة أعم من الواقعية والمحرزة من قبل الأكل من القفا وان كان في نفسه صحيحا إذ لو كان الشرط خصوص الطهارة الواقعية لا مناص عن البناء على البطلان لعدم الشرط والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، فالإجزاء بعد انكشاف الخلاف لا معنى له إلا ذلك.

فما أفاده المحقق النائيني من صحة التعليل على كل من المذهبين لا يتم ـ فإنهما مذهب واحد ذو تعبيرين لا مذهبين.

الثاني انه على فرض صحة الاستدلال به ، فإنما هو على فرض تسليم كون النجاسة المرتبة بعد الصلاة هي النجاسة المظنونة التي خفيت عليه قبل الصلاة ، واما لو كانت النجاسة المرئية فما احتمل وقوعها بعد الصلاة كما لعله الظاهر ولو بقرينة تغيير التعبير في كلام الراوي حيث أنه في الفرع السابق عليه يقول فلما صليت وجدته مع الضمير ـ وفي هذه الجملة يقول فرأيته فيه بدون الضمير ـ فتدبر.

أضف إلى ذلك كله أنه يمكن أن يكون الاستصحاب من جهة أن الشرط أعم من الطهارة الواقعية والمحرزة.

أو من جهة أن النجاسة التي لم يقم معذر عقلي أو شرعي مانعة.

فالمتحصل أنه لاوجه للاجزاء في الإمارات والأصول مطلقا لفرض بقاء الواقع وكون الإعادة أو القضاء من آثاره هذا ما تقتضيه القاعدة الأولية.

وتمام الكلام في محله (١).

ما تقتضيه الادلة الثانوية

واما مقتضى الادلة الثانوية ـ فمحصّل القول فيه ـ انه قد استدل للقول بالاجزاء في موارد الاوامر الشرعية الظاهرية بوجوه :

احدها : ما وقع الاستدلال به في كلمات جماعة من الاساطين ، وهو ان عدم الاجزاء في موارد الاوامر الظاهرية مستلزم للحرج نوعا ، ويكفى الحرج النوعي في نفى الحكم رأسا ، ولا يعتبر الحرج الشخصي ، وقد اثبتوا جملة من الاحكام بواسطة استلزام عدمها الحرج في الجملة ولو بالنسبة إلى جمع من الاشخاص.

والظاهر كما نبه عليه المحقق النائيني (ره) (٢) ان منشأ ذلك هو تعليل بعض الاحكام الشرعية بنفى الحرج كطهارة الحديد ـ مع ان نجاسة الحديد لا تستلزم الحرج بالنسبة إلى جميع الاشخاص في جميع الاحوال فتخيل ان الحرج المنفى هو الحرج النوعي لا الشخصي.

ولكن يرد عليه ان الظاهر من دليل نفي الحرج من الآية الكريمة (٣)

__________________

(١) راجع زبدة الأصول ج ٤ ص ٢٨ ـ ٢٩ من الطبعة الأولى.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٤. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

(٣) (مَا جَعَلَ عَليكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الآية ٧٨ من سورة الحج.

والاخبار (١) كون المنفى هو العسر والحرج الشخصيان ، كما في قاعدة نفى الضرر ، ولذلك يجب الوضوء على من لم يكن الوضوء بالنسبة إليه حرجيا ، أو ضرريا ، وان كان بالنسبة إلى عامة الناس حرجيا ، أو ضرريا ، والتعليل المشار إليه انما هو من جهة الاشتباه والخلط بين موضوع الحكم ، وداعي جعله ، وادلة نفى الحرج يكون موضوعها الحرج ، وهي كسائر القضايا الحقيقية يدور الحكم فيها مدار الموضوع وجودا وعدما ، فلا معنى لكون الميزان هو الحرج النوعي.

واما ما في خبر طهارة الحديد من التعليل بالحرج فهو انما يكون حكمة للتشريع ، ولا مانع من كون شيء داعيا وحكمة لجعل حكم لا يدور ذلك الحكم مداره لكن ذلك انما هو شان الشارع لا المجتهد.

وتمام الكلام في محله وعليه فلا وجه للحكم بالاجزاء وعدم وجوب الاعادة والقضاء ما لم يتحقق الحرج الشخصي.

ثانيها : ما عن المحقق النائيني (ره) (٢) من دعوى الاجماع على الاجزاء في العبادات الواقعة على طبق الاجتهاد المتبدل ، أو التقليد كذلك.

وفيه : مضافا إلى عدم ثبوت الاجماع ، انه على فرض ثبوته لا يكون اجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع) بل الظاهر ولا اقل من المحتمل كونه مدركيا مستندا إلى بعض ما ذكر من الوجوه.

__________________

(١) كروايات الكافي ج ٣ ص ٣٠ باب مسح الرأس والقدمين ح ٤ / الفقيه ج ١ ص ١٠٣ باب التيمم ح ٢١٢ / التهذيب ج ١ ص ٦١ ح ١٧.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٦. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٩٩.

ثالثها : حديث لا تعاد الصلاة (١) ، بناءً على ما هو الحق من شموله للجاهل غير المقصر كما حقق في محله ، فهو يدل على ان الخلل الواقع في الصلاة جهلا أو نسيانا ـ من غير جهة الخمسة المذكورة فيه ـ لا يوجب بطلان الصلاة ، فلا يجب اعادتها أو قضائها ، فالحديث يدل على الاجزاء في خصوص باب الصلاة.

وحيث انه لا دليل على الاجزاء غير هذا الحديث فلا وجه للقول بالاجزاء في غير باب الصلاة من العبادات.

واما على ما اختاره المحقق النائيني المتمسك بالاجماع عليه فهو يجري في جميع ابواب العبادات لانه يدعى الاجماع على الاجزاء في باب العبادات مطلقا.

وعليه فلو كان يرى عدم مفطرية الارتماس للصوم ، ثم تبين له مفطريته وقد ارتكبه وأتى به فانه يجب عليه القضاء على المختار ، ولا قضاء عليه على مختاره.

ثم ان مسألة الاجزاء مختصة بباب العبادات ، ولكن مسألة تبدل الرأى اعم منها ومن الوضعيات من العقود والايقاعات والاسباب.

وحيث ان المدرك واحد فعلى الطريقية لا اجزاء وينقض الاعمال السابقة.

وعلى الموضوعية لا انتقاض ، وحيث انا لا نسلم الاجماع التعبدى ، وانما بنينا على الاجزاء في باب الصلاة لحديث لا تعاد الصلاة.

__________________

(١) عن ابي جعفر (ع) لا تعاد الصلاة الا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود. كما رواه الفقيه ج ١ ص ٢٧٩ باب القبلة ح ٨٥٧. / والتهذيب ج ٢ ص ١٥٢ باب ٩ تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة من الفروض ... ح ٥٥. / الوسائل ج ١ ص ٣٧١ باب وجوب اعادة الصلاة ح ٩٨٠.

فالاظهر هو الانتقاض مطلقا في الوضعيات من غير فرق بين بقاء الموضوع ـ كما لو بنى على صحة العقد بالفارسي اجتهادا فعامل معاملة فارسية والمال الذي انتقل إليه بتلك المعاملة باق ـ وبين عدم بقائه ، كما لو كان المال المشترى بذلك العقد تالفا ، ولا يصغى إلى ما قيل ، من الاجماع على الانتقاض في الصورة الثانية.

الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ

وينبغى التنبيه على امور :

الأول : افاد المحقق الخراساني (ره) ((١) انه لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطاء ، واستدل له : بانه لا يكون موافقة للامر فيها وبقى الامر بلا موافقة اصلا. ـ وهو أوضح من أن يخفى ـ

واورد عليه بما حاصله ان الاجزاء ليس مناطه موافقة الامر بل ملاكه وفاء المأتي به بمصلحة المأمور به ، وفي مورد القطع يمكن ذلك بل هو واقع في الجملة ، كما في مورد الجهر والاخفات والقصر والاتمام.

وأجاب عنه : بانه في موارد الأمارات والاصول زائدا على امكان ذلك : يشهد له في مقام الاثبات ما مر ، واما في مورد القطع المخالف فلا يكون شيء يستدل به للاجزاء بنحو الكلية ووجود الدليل في بعض المقامات الخاصة لا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٨ (تذنيبان ، الأول).

يجعل البحث اصوليا وكليا.

ولكن ما افاده يتم فيما هو مقتضى الادلة الاولية.

وأما الأدلة الثانوية من الاجماع وقاعدة لا حرج ، وحديث لا تعاد الصلاة ، فهي في الشمول لمورد القطع والامارات على حد سواء ولا فرق بينهما اصلا.

الثاني : قال المحقق الخراساني (١) لا يذهب عليك ان الإجزاء في بعض موارد الأصول والطرق والامارات على ما عرفت تفصيله لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه إلى آخر ما يفيد.

محصل ما افاده في هذا الامر ردا لما قيل من ان الإجزاء وعدمه ، مبنيان على القول بالتصويب أو التخطئة. وعلى الأول : لا بد من البناء على الإجزاء. وعلى الثاني : على عدمه.

ان التصويب ان كان بلحاظ خلو الواقعة عن الحكم فلا ملزم للالتزام به إذ الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ ، والحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل لا يرتفع بقيام الامارة على خلافه حتى بناءً على اشتمال مؤداها على المصلحة التي مع استيفائها لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الواقع الذي هو ملاك الإجزاء.

وان كان بلحاظ سقوط الحكم بمراتبه بعد الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري ، فهو يؤكد ثبوت الحكم المشترك : إذ مجرد قيام الامارة لم يوجب السقوط ، بل اتيان المأمور به بالامر الظاهري اوجب حصول الغرض ، وسقوط

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٨٨ (تذنيبان ، الثاني).

الحكم بسقوط غرضه ليس من التصويب الباطل بشيء لان المراد من ثبوت الحكم المشترك ليس ثبوته ابدا حتى مع الاطاعة أو العصيان أو الاتيان بما يوجب سقوط الغرض ، وان كان بلحاظ عدم فعلية الحكم الواقعي للجهل أو قيام الامارة على الخلاف فهو غير مربوط بالاجزاء لاجتماع عدم فعلية الواقع حال الجهل مع عدم الاجزاء مع انه ليس من التصويب في شيء ، لبقاء الحكم الواقعي.

فالمتحصل ان القول بالاجزاء غير ملازم للتصويب ، نعم القول بعدم الاجزاء ، لا يلائم التصويب الباطل ، بل هو يلائم التصويب على مسلك بعض العدليّة كما مرّ مفصلا.

العدول من مجتهد إلى آخر

الثالث : ان الشيخ الأعظم (١) ، وبتبعه اكثر المحققين المتأخرين عنه ، ذهب إلى التلازم بين تبدل الرأي ، والعدول من مجتهد إلى آخر ، في الانتقاض وعدمه ، فلو كان مقتضى التقليد الثاني بطلان الاعمال الواقعة على طبق التقليد الأول : فلا بدّ من ترتب الاثر فعلا على طبق الحجة الفعلية.

والمحقق النائيني (٢) ، استدل له بأن حجية فتوى المجتهد للمقلد ليست من

__________________

(١) مطارح الانظار ص ٢٦٩ (هداية في بيان التفضل بين الاستدامة والابتداء)

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٧ (الثاني) حيث اعتبر أن القول بأن فتوى المجتهد من باب السببية توهم ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٠.

باب السببية والموضوعية بل من باب الطريقية فيجرى فيها ما ذكرناه في الامارات والاصول ، مع انه لو ضاق بنا الخناق لا نلتزم بازيد من المصلحة السلوكية التي لا تستلزم الاجزاء كما مر.

وفيه ان الفرق واضح : فإن فتوى المجتهد انما ينتهى أمد حجيتها بالموت مثلا ، وهذا بخلاف الخبر فانه لو ظفر المجتهد بما هو اقوى منه فانه يوجب نقض الآثار السابقة من حيث اطلاق مضمونه واضمحلال الحجة الأولى لقيام الاقوى على خلافها.

وان شئت قلت انه بالظفر بالحجة الاقوى يظهر ان الحجة هي لا الخبر الأول : فيظهر اثر تنجزه فيما قبل من حيث التدارك.

واما فتوى الثاني فانه وان علم بها المكلف لا تكون حجة عليه بل الحجة غيرها. وبالجملة : ان مفاد الحجة الاقوى للمجتهد هو كون ما فعله على طبق الحجة الأولى كان باطلا في الواقع وان كان معذورا في مخالفته ، وليس كذلك فتوى المجتهد للمقلد فانه لو سئل المقلد عن مقلده هل كان عملي في السابق بنظرك باطلا ، يجيب كلا بل لو كنت فاعلا على ما اراه صحيحا كان باطلا ، لان الوظيفة في ذلك الوقت كانت في الظاهر والواقع هو العمل على طبق الفتوى الأولى ولم ينكشف خلافها فتلك الاعمال بحسب فتوى المجتهد الثاني محكومة بالصحة لمطابقتها للحجة ففتوى المجتهد الأول : ينتهى امدها بموته مثلا وهو مبدأ حجية فتوى الثاني ، وليس كذلك عند تبدل الرأى.

نعم لو كان مورد الفتوى باقيا وللزمان عليه مرور أن يجب على المقلد العمل على طبق فتوى الثاني ، وهو غير مربوط بمسألة الاجزاء ، فلو صلى

الجمعة استناداً إلى فتوى من يرى وجوبها في زمان الغيبة وترك الظهر ، ثم مات المجتهد وقلد من يرى وجوب الظهر لا يجب عليه قضاء ما تقدم ، لان فتوى المجتهد الثاني لا حجية لها بالنسبة إلى الاعمال السابقة ، وهذا بخلاف ما لو تبدل رأيه فإن الرأى الثاني حجة بالنسبة إلى الاعمال السابقة أيضا وان كان معذورا في مخالفتها حين العمل.

فالاظهر هو البناء على الاجزاء وعدم الانتقاض عند تبدل المجتهد مطلقا الا إذا تبين عدم صحة تقليد الأول : من الأول : فانه يجري فيه حينئذ ما ذكرناه في الامارات والاصول.

في اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخصين

الرابع : ذكر المحقق النائيني ، انه لا فرق فيما ذكرناه من كون عدم الاجزاء على القاعدة بين اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخص أو شخصين كما إذا فرضنا اختلاف المجتهدين في الفتوى فلا يجزى فتوى احدهما بالنسبة إلى الآخر أو لمقلديه ، مثلا إذا كان احد الشخصين يرى جواز العقد بالفارسي ، وطهارة العصير العنبي ، وعدم جزئية السورة للصلاة فلا يمكن لمن يرى تلك الأمور ان يكون احد طرفي العقد معه أو ان يعامل معاملة الطاهر في فرض العلم بملاقاته للعصير أو يقتدى به في الصلاة أو يستاجره لها.

وتحقيق القول بالبحث في موارد :

الأول : في الاختلاف في شروط الصيغة :

وتنقيح القول فيه بالبحث في موارد.

١ ـ في القيود التي ينحصر دليلها بالاجماع.

٢ ـ في ما لدليل اعتباره اطلاق مع عدم سراية احدى الصفات إلى فعل الآخر.

٣ ـ فيما لدليل اعتباره اطلاق مع السراية.

اما الأول : فالظاهر صحة العقد كما هي مقتضى العمومات والمطلقات ، والمتيقن من الاجماع على اعتبار ذلك القيد كالعربية ، مثلا ، هو غير المقام الصادر فيه الايجاب والقبول عن اعتقاد كل منهما صحة ما انشأه ، ففيه يرجع إلى العمومات المقتضية للصحة.

واما المورد الثاني : ففيه أقول ، ثالثها التفصيل بين كون العقد فاسدا في نظر الجميع بحيث لا قائل بصحته ، كما لو فرضنا انه لا قائل بنفوذ العقد الفارسى المقدم ايجابه على قبوله فعدم الصحة ، وبين غيره فالصحة.

وقد بنى الشيخ الأعظم (١) القولين الاولين على ، ان الاحكام الظاهرية ـ المجتهد فيها ـ بمنزلة الواقعية الاضطرارية ، فالايحاب بالفارسي من المجتهد القائل بصحته عند من يراه باطلا ، بمنزلة اشارة الاخرس ، ام هي احكام ظاهرية لا يعذر فيها الا من اجتهد أو قلد فيها.

__________________

(١) كتاب المكاسب ج ٣ وفي ترقيم الموسوعة (١٦) ص ١٢٨ ـ ١٢٩ (فرع) ط مجمع الفكر الإسلامي.

واورد عليه بايرادين :

الأول : ما أفاده المحقق الخراساني (١) بأن مجرد كونه حكما واقعيا وبمنزلته لا يكفي في الحكم بالصحة ، بل لا بد وان يقيد بما إذا كان كذلك حتى في حق الغير الذي له مساس بالعقد ، فلو كان حكما واقعيا في حق المنشئ خاصة لم يجد في الحكم بالصحة بالاضافة إلى غيره.

وفيه : انه بما ان الملكية من الاحكام المجعولة الوضعية ، ومن الاعتباريات لا من الامور الواقعية فإذا فرضنا ان الايجاب بالفارسي وان كان عند القابل مما لا مصلحة في نفسه في جعل الملكية بعده ، الا انه من جهة قيام الامارة عند الموجب تحدث فيه مصلحة بهذا العنوان مقتضية لذلك ، فلا محالة للآخر القابل ترتيب الاثر ، لانه لا كشف خلاف لذلك ، ولا معنى للقول بأن المصلحة انما هي في حق الموجب خاصة ، فالملكية المجعولة انما تكون له خاصة. فتدبر فانه دقيق.

الثاني : ما افاده السيد في حاشيته على المكاسب (٢) وتبعه بعض مشايخنا المحققين (ره) ، وهو : ان ما ذكر على القول بكون الاحكام الظاهرية بمنزلة الواقعية انما يتم بالنسبة إلى ما لو كان الحكم المجتهد فيه مع متعلقه موضوعا لحكم الآخر ، كما لو كان رأيه جواز النكاح بالفارسي فزوج امرأة بالعقد الفارسي فانه يكون العقد صحيحا عنده ، فلا يجوز لغيره الذي يرى اعتبار

__________________

(١) حاشية كتاب المكاسب (للآخوند) ص ٢٩ (والاولان مبنيان على أن الأحكام الظاهرية).

(٢) حاشية المكاسب (لليزدي) ج ١ ص ٩٢ ـ ٩٣. مؤسسة إسماعيليان ١٣٧٨ ه‍. ق.

العربية تزويج تلك المرأة ، ولا ينفع بالنسبة إلى ما إذا كان المتعلق معروضا لحكمه ولحكم غيره في عرض واحد ، كما لو ذكى الذبح بغير الحديد فانه لا يجوز لمن يرى اعتبار كونه بالحديد الاكل من تلك الذبيحة.

والسر فيه : ان ذلك بعنوانه المجتهد فيه ليس موضوعا لحكم غيره ، فلا يجوز لغيره المخالف له في الرأي الاكل منه ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لان البيع فعل واحد تشريكي ، بمعنى انه قائم بطرفين ويجب على كل من المتبايعين ايجاد عقد البيع ، ولا يجوز لواحد منهما الاكل الا بعد ذلك. وبالجملة : الصحة لاحد الطرفين ليست موضوعة لحكم الطرف الآخر ، بل لا بد من إحراز كل منهما صحة مجموع السبب.

وفيه : ان هذا في الصحة الفعلية ، واما الصحة التأهلية ، فهي انما تكون لكل من الايجاب والقبول مستقلا ، وهي في الايجاب مثلا تكون موضوعة لحكم القابل. فتدبر.

فما افاده الشيخ (ره) متين (١).

وحيث لا دليل على ان الاحكام الظاهرية بمنزلة الواقعية مطلقا ، فالقول بعدم الصحة اقوى.

وبه يظهر حكم المورد الثالث بل الحق فيه البطلان حتى على القول بكون الاحكام الظاهرية بمنزلة الواقعية مطلقا وتمام الكلام في محله في كتاب البيع.

__________________

(١). وقد تعرض سماحته لذلك في كتابه فقه الصادق (ع) ج ١٥ باب (اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة) ص ٣٦٤. ط الثالثة.

الثاني : في اقتداء المجتهد أو مقلده ، بمجتهد آخر أو مقلده المخالف له في الفروع مع استعماله محل الخلاف في الصلاة ، فالظاهر هو جواز الاقتداء إذا كان المخل به في صلاة الامام من الفعل أو الترك بنظر المأموم ما لا يخل مطلق وجوده وانما يخل بها إذا كان عمديا وعن علم أو جهل تقصيري وهي جميع الاجزاء والشرائط والموانع غير الخمسة المستثناة في حديث لا تعاد الصلاة.

نعم في خصوص القراءة يشكل الحكم بالصحة كما حققناه في الجزء السادس من فقه الصادق (١).

وعدم الجواز إذا كان المخل به في صلاة الامام من الخمسة المستثناة. ولتنقيح القول في ذلك محل آخر.

الثالث : في معاملة الطاهر مع من يعتقد طهارة ما يراه نجسا. والكلام فيه محرر في الجزء الأول من فقه الصادق.

يستثنى مما ذكرناه من ان نفوذ الحكم الظاهري الثابت لشخص في حق غيره الذي يرى خلافه يحتاج إلى دليل ولا دليل.

مسألتان : احداهما ، مسألة النكاح ، والاخرى ، مسألة الطلاق.

اما الأولى : فيجب على كل احد ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح

__________________

(١) فقه الصادق ج ٦ من الطبعة الثالثة ، باب اختلاف الإمام والمأموم اجتهاداً أو تقليداً ص ٣١٦ وكان قد اشار سماحته إلى التفصيل في باب شرائط امام الجماعة ص ٢٩٠ ـ ٢٩١ من نفس الجزء.

كل قوم وان كان فاسدا في مذهبه ، فلو اعتقد شخص صحة النكاح بالعقد الفارسى وعقد على امرأة كذلك وراى الآخر بطلانه ، لزمه ترتيب آثار النكاح الصحيح وان كان فاسدا في نظره فلا يجوز له تزويج امرأته.

والدليل عليه مضافا إلى ما دل على انه لكل قوم نكاح (١). وامكان استفادته من الروايات ، السيرة القطعية الجارية بين المسلمين من لدن زمان صاحب الشرع (ص) إلى زماننا.

بل كل طائفة من المسلمين يرتبون آثار النكاح الصحيح على نكاح طائفة أخرى ولو كان فاسدا في مذهبهم. وبه يظهر الحال في المسألة الثانية.

* * *

__________________

(١) عن ابي بصير قال : سمعت أبا عبد الله (ع) يقول : نهى رسول الله (ص) ان يقال للإماء يا بنت كذا وكذا وقال لكل قوم نكاح. التهذيب ج ٧ ص ٤٧٢ باب من الزيادات في فقه النكاح ح ٩٩.

الفصل الرابع

في مقدمة الواجب

وقبل التعرض للمقصود يقع الكلام في عدة جهات :

الجهة الأولى : في بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام ، فنقول انه لا ريب ولا شك لاحد في ان المراد منه ليس ، هو الوجوب العقلي يعنى لابديَّة الاتيان بالمقدمة ، بداهة ان ذلك مساوق للمقدمية للواجب ، إذ العقل إذا أدرك توقف الواجب على مقدمته ورأى أن تركها يؤدى إلى ترك الواجب الذي فيه احتمال العقاب ، يستقل بلزوم إتيانها تحصيلا للأمن من العقوبة فيكون إنكاره إنكارا لها وهو خلف الفرض.

وأيضا لا ينبغي الشك في ان المراد من الوجوب المبحوث عنه ليس هو الوجوب المجازى بمعنى ان الوجوب المسند إلى ذي المقدمة أولاً وبالذات ، ينسب إلى مقدماته مجازا وثانياً وبالعرض ، ضرورة انه ليس شان الأصولي ولا الفقيه البحث عن ذلك مع ان صحة هذا الإسناد لا كلام فيها.

بل المراد منه ، اما الوجوب الاستقلالي الشرعي كما هو ظاهر المحقق القمي

(ره) (١) أو الوجوب التبعي الارتكازي ، بمعنى ان الامر لو كان ملتفتا إلى نفس المقدمة لاوجبها وسيجيء عند البحث عن ادلة الطرفين ما هو الحق في المقام.

وحيث ان للوجوب تقسيما آخر إذ ربما يكون نفسيا ناشئا عن مصلحة في المتعلق.

وربما يكون طريقيا جعل تحفظا على الملاكات الواقعية التي لا يرضى الشارع الاقدس بفوتها حتى في حال الجهل كوجوب الاحتياط في الابواب الثلاثة.

وثالثا يكون غيريا من جهة كون متعلقه مقدمة لما فيه الملاك الملزم.

وبديهي ان وجوب المقدمة ليس من القسمين الأولين ، فلا محالة هو على تقدير الثبوت من قبيل القسم الأخير.

مبحث المقدمة من المسائل الأصولية

الجهة الثانية : ان هذه المسألة هل هي من المسائل ، الاصولية ، أو الفقهية ، أو الكلامية ، أو المبادئ الاحكامية ، أو المبادئ التصديقية.

__________________

(١) راجع قوانين الأصول ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٠١ خاصة المقدمة الثالثة والسادسة من (وتحقيق هذا الأصل يقتضي تمهيد مقدمات) وفي المقدمة السادسة صرح ان الوجوب المتنازع فيه هو الوجوب الشرعي مقابل العقلي.

ففيها وجوه واقوال :

قد يقال انها من المسائل الفقهية : لان المبحوث عنه في هذه المسألة هو وجوب المقدمة.

وأجاب عنه المحقق النائيني (١) ، بأن المسألة تكون اصولية ، وان كان البحث عن وجوب المقدمة ، وعلله ، بأن علم الفقه متكفل لبيان احوال موضوعات خاصة ، كالصلاة ، والصوم ، وما شاكل ، والبحث عن وجوب المقدمة ، التي لا ينحصر صدقها ، بموضوع خاص ، لا يتكفله علم الفقه

ويرد عليه أن علم الفقه ، كما يكون متكفلا لبيان احوال الموضوعات الخاصة بعناوينها الاولية ، كذلك يكون متكفلا لبيان احوال العناوين العامة التي تنطبق على كثير من العناوين الخاصة ، كعنوان النذر ، والشرط ، واطاعة الوالد ، وما شاكل

وأجاب عنه المحقق العراقي (٢) على ما نسب إليه ، بأن وجوب المقدمة ليس حكما وحدانيا ناشئا عن ملاك واحد ، بل هو واحد عنوانا ومتعدد بتعدد ملاكات الواجبات النفسية ، والمسألة الفقهية ما تكون نتيجتها حكما فرعيا وحدانيا ناشئا من ملاك واحد سواء أكان متعلقه طبيعة شرعية كالصلاة والصوم ، ام عنوانا يشار به إلى مصاديقه التي هي متعلقات الاحكام كالموضوع

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢١٣ (الفصل الثاني من مقدمة الواجب) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣١٠.

(٢) راجع مقالات الأصول ج ١ ص ٢٨٩ ـ ٢٩١ (المقالة التاسعة عشر).

في قاعدة ما يضمن وأمثالها

وفيه : انه لا دليل على ما افيد بل الملاكات خارجة عن باب جعل الاحكام ولا كاشف عن وحدتها أو تعددها : والميزان في هذا الباب ملاحظة المجعول.

وفيه لا فرق بين قاعدة ما يضمن ومسألة وجوب المقدمة.

والحق في الجواب ان البحث في هذه المسألة ليس عن وجوب المقدمة ابتداء ، بل البحث فيها انما هو عن ثبوت الملازمة بين الامر بشيء والامر بمقدمته وعدم ثبوتها ، ومن المعلوم ان البحث عن ذلك لا ربط له باحوال فعل المكلفين وعوارضه بلا واسطة وما يوهمه ظاهر كلمات كثير من الاصحاب ، حيث انهم عنونوا المسألة بنحو تكون فقهية ، فلا بد من الحمل على إرادة الاهتمام بشان الوجوب ، والا فمحط بحثهم ثبوت الملازمة ، وعدمه ، ولذا لم يعقدوا لمسألة استحباب مقدمة المستحب بحثا خاصا ، بل انما يحكمون باستحباب مقدمة المستحب بملاك حكمهم في مقدمة الواجب بالوجوب ، وذلك كاشف عن ان نظرهم إلى الملازمة بين الحكمين.

وقد يقال انها من المبادئ الاحكامية وهي المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الاحكام التكليفية أو الوضعية كتضاد الاحكام وملازمة بعضها لبعض ، والبحث عن وجوب المقدمة من هذا القبيل ، فانه يبحث في هذه المسألة عن ملازمة وجوب المقدمة لوجوب ذي المقدمة

وفيه : انه لا مانع من كون المسألة فيها جهتان يوجب كل منهما تعنونها بعنوان مستقل ، وهذه المسألة كذلك ، فهي من حيث وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط كما سيمر عليك من المسائل الاصولية ، وان كانت فيها جهة مقتضية

لكونها من المبادئ الاحكامية.

وقد يقال انها من المبادئ التصديقية فإن موضوع علم الاصول الادلة الاربعة ومنها حكم العقل ، والمراد منه اذعان العقل بشيء فلا محالة تكون المسألة الاصولية هي ما يبحث عن لواحق حكم العقل ، واما ما يبحث فيه عن نفس حكم العقل فهو بحث عن ذات الموضوع لا عن عوارضه ، وحيث ان المبحوث عنه في هذه المسألة الملازمة العقلية بين الوجوبين نفسها فهي من المبادئ التصديقية.

وفيه : ما مر في اول الاصول من ان موضوع علم الاصول ليس هو الادلة الاربعة بل المسألة الاصولية هي ما يقع نتيجتها في طريق الاستنباط كانت باحثة عن عوارض الادلة الاربعة ام لا؟.

ومسألة الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة من هذا القبيل.

وبما ذكرناه ظهر ان المسألة من المسائل الاصولية فانه يستنبط من هذه المسألة الحكم الشرعي وتقع نتيجة هذه المسألة في طريق الاستنباط من دون حاجة إلى ضم مسألة اصولية أخرى واستفادة الحكم منها انما هو من باب الاستنباط لا من باب التطبيق.

واما ما قيل من انها من المسائل الكلامية نظرا إلى ان البحث عنها بحث عقلي فلا ربط لها بعالم اللفظ اصلا.

فيرد عليه ان مجرد كون البحث عنها عقليا لا يوجب دخولها في المسائل الكلامية فانها عبارة عن المسائل التي يبحث فيها عن احوال المبدأ والمعاد فحسب.

هذه المسألة من المسائل العقلية

الجهة الثالثة : الظاهر ان هذه المسألة ، من المسائل العقلية ، لا من مباحث الألفاظ كما يظهر من صاحب المعالم (١) ، إذ الحاكم بالملازمة انما هو العقل ، غاية الامر ان هذا الحكم العقلي ، انما هو من الاحكام العقلية غير المستقلة ، وهي ما لا يستنبط منها الأحكام الشرعية ، الا بعد ضم مقدمة شرعية إليها ، وليس من الاحكام العقلية المستقلة ، وهي ما يستنبط منها الاحكام الشرعية مستقلا بلا احتياج إلى ضم شيء آخر إليها.

وذلك لانه لا يستنبط من حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة ، حكم شرعي الا بعد ثبوت وجوب ذي المقدمة وضمه إليه ، وتوهم انحصار الاحكام العقلية بالقسم الثاني ، اوجب جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ ، والا فلا ربط لهذه المسألة بها.

وربما يقال انه يمكن ان يكون نظر صاحب المعالم إلى ان الملازمة ان كانت ثابتة بحكم العقل كان لازمه دلالة ما دل على وجوب ذي المقدمة على وجوب

__________________

(١) راجع معالم الدين ص ٦١ ـ ٦٢ فإنه بعد نقل كلام السيد المرتضى والذي يظهر منه اعتبار المسألة عقلية فرق بين المقدمة الذي يتوقف عليها ذيها وبين ما لا يتوقف ذيها عليها ، وهذه التفرقة كافية لاستظهار كون المسألة عنده عقلية ويؤكد ذلك انه نفي الدلالة اللفظية علة وجوب المقدمة بقوله : ليس لصيغة الأمر دلالة على ايجابه بواحدة من الثلاثة.

المقدمة بالدلالة الالتزامية فمن نفيها يستكشف عدمها

ويرد عليه ان الدلالة الالتزامية تتوقف على كون اللزوم عرفيا أو عقليا بينا بالمعنى الاخص بحيث يلزم من تصور الملزوم تصور اللازم.

واما ان كان اللزوم بينا بالمعنى الأعم وهو ما يجب معه الحكم باللزوم عند تصور الطرفين أو غير بيَّن فلا يدل الكلام الدال على الملزوم عليه بالدلالة الالتزامية ، فمن نفى الدلالة اللفظية لا يمكن ان يستدل على عدم الملازمة.

بيان خروج الاجزاء عن حريم النزاع

الجهة الرابعة : في تقسيمات المقدمة ، فقد ذكروا للمقدمات تقسيمات متعددة من جهات عديدة.

القسم الأول : تقسيمها إلى الداخلية وهي الاجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها والخارجية.

توضيح ذلك انه إذا لوحظ شيء مع المأمور به فلا يخلو الامر من احد امور ثلاثة :

١ ـ ان يكون داخلا في المأمور به قيدا وتقيدا كالقراءة بالاضافة إلى الصلاة ويسمى ذلك بالمقدمة الداخلية.

٢ ـ ان يكون خارجا عنه قيدا وتقيدا كالسير إلى الحجاز بالاضافة إلى الحج ويسمى ذلك بالمقدمة الخارجية بالمعنى الاخص.

٣ ـ ما يكون وسطا بين القسمين ويكون داخلا فيه تقيدا لا قيدا كالطهارة

بالاضافة إلى الصلاة ، ويسمى ذلك ، تارة بالمقدمة الخارجية بالمعنى الأعم ، واخرى بالداخلية بالمعنى الأعم ، وثالثة بالمتوسطة.

وبعد ذلك نقول لا اشكال في دخول القسم الثاني في محل النزاع ، وكذا الصنف الثالث بناءً على ما هو الحق خلافا للمحقق النائيني (ره) من عدم انبساط الامر المتعلق بالمركب الاعتباري على القيود والشرائط كما مر في مبحث الواجب المشروط.

انما الكلام في الصنف الأول : والكلام فيه تارة من حيث المقدمية موضوعا ، واخرى من حيث ثبوت حكم المقدمة الخارجية لها.

اما الكلام في الجهة الأولى فقد استدل لعدم كونها من المقدمة موضوعا بأن المركب ليس الا الاجزاء بالاسر والشيء لا يعقل ان يكون مقدمة لنفسه والا لزم تقدم الشيء على نفسه.

واجابوا عن ذلك باجوبة.

احدها : ما عن التقريرات وهو ان للاجزاء اعتبارين ، احدهما لحاظها بشرط لا وبهذه الملاحظة تكون اجزاء ومقدمة للكل

ثانيهما لحاظها لا بشرط وبها تكون متحدة مع الكل وعينه.

ثانيها : ما في الكفاية وهو ان المقدمة هي الاجزاء الملحوظة لا بشرط. وذا المقدمة انما هو الاجزاء بشرط الاجتماع أي الملحوظة مجتمعة ومعلوم ان المعروض له نحو تقدم على عارضه

واورد على ذلك بأن ما ذكر من اخذ الاجزاء لا بشرط يناقض ما ذكره

اهل المعقول من ان الاجزاء الخارجية كالهيولى والصورة هي الماهية المأخوذة بشرط لا ، وأجاب عنه ما ذكره في اواخر مبحث المشتق بما حاصله ان مراد القوم بذلك انما هو الفرق بين الاجزاء الخارجية والتحليلية ، وان الفرق بينهما انما هو بحسب المفهوم لا بحسب الاعتبار ، ولكن قد مر عدم تمامية ذلك فراجع

فالحق في الجواب عن المناقضة ، اختلاف المضاف إليه في اللابشرط ، وبشرط لا ، حيث ان مرادهم من بشرط لا في ذلك المقام هو بشرط لا عن الحمل ، والمراد من اللابشرط في المقام هو اللابشرطية من حيث الاجتماع.

وايضا مورد الكلام في ذلك المقام هو الاجزاء التحليلية التي تنحل إليها البسائط.

ومحل الكلام في المقام هو الاجزاء الخارجية للمركبات.

فالفرق بين المقامين واضح لا يخفى ، فلا وقع لهذا الايراد اصلا.

ثالثها : ما عن بعض المحققين (١) وهو ان مناط التقدم الطبيعي موجود في كل جزء بالنسبة إلى الكل إذ لا يمكن أن يكون هناك وجود للكل ولا وجود للجزء ، بخلاف العكس.

توضيحه : ان للمقدمة اطلاقين :

إذ ، تارة يراد بها ما يكون وجوده في الخارج غير وجود ذيها ، ويكون الوجود الثاني متوقفا على وجود الأول.

__________________

(١) كما أفاده المحقق الاصفهانى (ره) فى نهاية الدراية ج ١ ص ٢٩٨

واخرى يراد بها مطلق ما يتوقف عليه وجود الشيء وان لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه ، وهي بالاعتبار الأول وان لم تصدق على الاجزاء الا انها بالاعتبار الثاني تصدق عليها ، لبداهة توقف وجود الكل على وجود الاجزاء ، واما وجودها فلا يتوقف على وجوده فيكون وجود الجزء متقدما على وجود الكل طبعا ، فلا يعقل وجوده بدون وجوده ، وهذا معنى المقدمية.

ولكن يرد على الكل ان ما هو محل الكلام انما هو ما يمكن ان يترشح الوجوب من ذي المقدمة إليها المتوقف ذلك على الاثنينية الخارجية : إذ لا يعقل ترشح الوجوب من الوجوب المتعلق بشيء إلى نفس ذلك الشيء ، فاثبات التغاير في موطن العقل لا يفيد مع العينية الخارجية.

واما الجهة الثانية : فالكلام فيها تارة في انه ، هل يكون لاتصافها بالوجوب الغيري مقتض ام لا؟.

واخرى في انه على تقدير ثبوت المقتضي هل هناك مانع عن اتصافها به ام لا؟.

اما من حيث وجود المقتضي فالحق انه لا مقتضي له كما يظهر مما اوردناه على القوم واشار إليه المحقق الخراساني (ره) في هامش الكفاية (١) وحاصله ان ملاك الوجوب الغيري انما هو فيما إذا كان وجود المقدمة غير وجود ذيها في الخارج ليقع البحث في انه هل يترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى مقدمته ، واما مع العينية في الوجود فجعل وجوب غيري لها بعد كونها واجبة بالوجوب

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩١ هامش رقم ١.

النفسي لغو محض.

واما من حيث المانع ، فقد استدل في الكفاية لعدم امكان تعلق الوجوب المقدمي بالاجزاء حتى على فرض صدق المقدمة عليها موضوعا ، بأن كل جزء من الاجزاء متعلق للوجوب النفسي المتعلق بالمركب ، إذ الاجزاء بالاسر هي المركب المأمور به ، فالامر النفسي المتعلق بالمركب يكون منبسطا على اجزائه ، ومتعلقا بكل منها ، فيكون كل جزء واجبا بالوجوب النفسي ، فلا يعقل تعلق وجوب آخر بالاجزاء ، وإلا لزم اجتماع المثلين ، وهو ممتنع ، وان قلنا بكفاية تعدد الجهة ، وجواز اجتماع الامر والنهي ، لعدم التعدد هاهنا ، فإن عنوان المقدمية واسطة في ثبوت الحكم لذات المقدمة ، ولا يكون متعلقا له.

وفيه : انه لا يلزم اجتماع المثلين من تعلق الوجوب الغيري بها ، بل يلتزم بالوجوب الواحد الاكيد ، كما في نظائر المقام من موارد اجتماع ملاكي الوجوبين وموضوعيهما ، في مورد واحد.

وأجاب عنه المحقق العراقي (١) ، بأن ملاك الوجوب الغيري في الاجزاء انما هو في طول ملاك الوجوب النفسي في الكل ، ومع اختلاف الرتبة يستحيل اتحاد المتماثلين بالنوع.

وفيه : ان الطولية في الملاك لا يلازم الطولية في الحكم ، مع ان الحكم المتأخر رتبة وان لم يكن في مرتبة المتقدم ، الا ان المتقدم ثابت في مرتبة المتأخر ، فيلزم الاتحاد.

__________________

(١) نهاية الأفكار ج ٢ ص ٢٦٨.

اضف إلى ذلك ان المراد الاتحاد في الوجود الخارجي والتحقق وهذا لا ينافي مع تعدد المرتبة.

ونسب إلى المحقق العراقي (ره) (١) الاستدلال له : بانه بعد كون الاجزاء واجبة بالوجوب النفسي المتعلق بالمركب لانها نفس الكل المركب منها وجودا في الخارج ، تعلق الوجوب الغيري المتأخر عن ذلك الوجوب بكل جزء يكون بلا اثر ولغوا : إذ ان كان المأمور ممن يحركه امر المولى فالامر النفسي يوجب تحركه وان كان ممن لا يحركه الامر النفسي فالامر الغيري أيضا لا يحركه ، فأي فائدة في البعث إليه ثانيا ، وإذا كان البعث الغيري لغوا استحال على الحكيم صدوره منه.

وفيه : انه يمكن ان يكون شخص في حال لا يحركه الامر الواحد ولكن لو تعدد وصار مؤكدا يحركه ، ولذا ربما ينذر الاتيان بالواجب وليس ذلك الا لما ذكرناه ، ولولاه لزم عدم انعقاد هذا النذر لما ذكر مع انه ينعقد بلا كلام.

فالصحيح : ان يستدل له بما تقدم من منع المقدمية الخارجية إذ حينئذ لا معنى لترشح الوجوب من الوجوب المتعلق بالمركب إليها ، وان شئت قلت بأن الاجزاء محبوبة للمولى بانفسها ومتعلقة لارادته بذاتها ، فيستحيل كون محبوبيتها منشأً لمحبوبيتها بالمحبوبية الغيريَّة.

__________________

(١) كما في نهاية الافكار أيضا ج ٢ ص ٢٦٩.

وقد يقال كما عن بعض الاعاظم (١) بانه تظهر ثمرة النزاع في كون الاجزاء متصفة بالوجوب الغيري وعدمه ، في مسألة دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين : إذ على القول الأول لا ينحل العلم الاجمالي بوجوب احدهما إلى العلم التفصيلي بوجوب الاقل لان مناط الانحلال انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل على كل تقدير وفي المقام لا ينطبق عليه لان المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم بالتفصيل الجامع بين الوجوب النفسي والغيري فلا انحلال في البين وعلى الثاني ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الاقل النفسي والشك في اعتبار امر زائد.

وفيه : أولاً ان لازم اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري ليس عدم اتصافها بالوجوب النفسي فعلى كل تقدير يعلم تفصيلا بالوجوب النفسي المتعلق بالاقل غاية الامر على تقدير تكون الاجزاء متصفة أيضا بالوجوب الغيري دونه على تقدير آخر.

وثانياً : انه سيأتي في محله ان ضابط الانحلال عدم جريان الأصل في الاقل وجريانه في الزائد بلا معارض وفي ذلك لا فرق بين المسلكين كما لا يخفى.

__________________

(١) نسبه آية الله العظمى السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات إلى بعض الاعاظم ج ٢ ص ٣٠١. والظاهر انه مختار المحقق الآخوند في الكفاية ، راجع المقام الثاني في دوران الأمر بين الاقل والاكثر الارتباطين ص ٣٦٣ ـ ٣٦٤ في معرض رده على كلام الشيخ الأعظم الذي اختار ان الاقل واجب على كل حال / وقد اوضح بيان هذه الثمرة المحقق السيد الحكيم في تعليقه على الكفاية راجع حقائق الأصول ج ٢ ص ٣١٦ ـ ٣١٧.

القسم الثاني : تقسيم المقدمة : إلى العقلية ، والشرعية ، والعادية.

والظاهر انه لا وقع لهذا التقسيم ولا يترتب عليه ثمرة اصلا.

إذ المقدمة العقلية هي ما استحيل وجود ذي المقدمة بدونها وهي المقدمة الخارجية المتقدم بيانها ، والشرعية ، هي المتوسطة المتقدم ان نفسها من قبيل المقدمة الخارجية ، والتقيد بها من قسم المقدمة الداخلية.

واما العادية فإن اريد بها ، ما يتوقف عليه الواجب بحسب العادة ، بحيث يمكن تحقق ذي المقدمة بدونها ، الا انه جرت العادة على الاتيان بها مقدمة ، فلا مورد لتوهم دخولها في محل النزاع ، لعدم كونها مقدمة حقيقة ، وان اريد بها ما يكون التوقف عليها فعلا واقعيا الا انه لأجل عدم التمكن عادة من الاتيان بها ، فهي ترجع إلى المقدمة العقلية ، كما لا يخفى.

القسم الثالث : تقسيم المقدمة ، إلى مقدمة الوجود ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة العلم.

اما مقدمة الوجود فلا اشكال في دخولها في محل النزاع وهي المقدمة الخارجية العقلية وهي ما يتوقف وجود المأمور به عليها عقلا.

واما مقدمة الصحة فهي المقدمة المتوسطة بين الخارجية والداخلية ، التي تقدم انها بنفسها من قسم الخارجية العقلية ، ومن حيث التقيد بها من قسم الداخلية.

واما مقدمة الوجوب ، فقد استدل لخروجها عن حريم النزاع (١) بأن تلك المقدمة ما لم تتحقق لا وجوب لذي المقدمة كي يترشح الوجوب منه إليها ، وبعد تحققها وثبوت الوجوب لا يمكن الترشح لكونه طلبا للحاصل.

واورد عليه بأن ذلك انما يتم في الشروط المتقدم والمقارن ، ولا يتم في الشرط المتأخر.

ولكن يمكن ان يقال فيه بأن الشرط المتأخر ، ان كان خارجا عن الاختيار فلا كلام ، وان كان تحت الاختيار فحيث ان كون ذي المقدمة واجبا يتوقف على تحققه في ظرفه ، فلو لم يأت به لما وجب ذو المقدمة كي يجب بوجوبه ولو اتى به لا يمكن تعلق الوجوب به لكونه طلب الحاصل.

واما مقدمة العلم فليست بمقدمة اصلا ، إذ مثلا في الصلاة إلى اربع جوانب ليست الصلاة الواقعة إلى غير القبلة مقدمة للصلاة الواقعة إليها ، نعم الصلوات الواقعة إلى اربع جهات مقدمة لاحراز تحقق المأمور به ووجوده في الخارج.

ووجوبها انما يكون بمقتضى قاعدة الاشتغال لا من باب الملازمة كما لا يخفى.

__________________

(١) المستدل لخروجه عن حريم النزاع غير واحد منهم المحقق النائيني في بحوث في الأصول ج ١ ص ١٤٢ / ولآية الله الخوئي في المحاضرات ج ٢ ص ٣٠٢ / والسيد البروجردي في نهاية الأصول ص ١٥٨.

الشرط المتأخر

القسم الرابع : تقسيمها إلى المتقدم ، والمتأخر ، والمقارن.

وقد ورد في الشرع في جملة من الموارد ما ظاهره تقدم المشروط على الشرط زمانا مع انه قد برهن في محله انه لا يمكن تقدم المعلول على شيء من اجزاء علته ومنها الشرط.

واجماله انه لو تقدم يلزم ، اما تأثير المعدوم في الموجود ، أو عدم التأثير ، والاول ممتنع ، والثاني خلف ، وتوطئة لدفع هذا الاشكال قسم الاصحاب المقدمة ، ومن اقسامها الشرط كما مر ، إلى المتقدم ، والمقارن ، والمتأخر.

والمحقق الخراساني (١) بعد تقريب الاشكال في الشرط المتأخر اسرى الاشكال إلى الشرط المتقدم.

بدعوى انه من الضروري عدم جواز انفكاك المعلول عن العلة ، وعدم جواز انفكاكها عنه ، فكما انه لا يجوز تقدم المعلول على علته ، كذلك لا يجوز تقدم العلة على المعلول ، والا لزم اما تأثير المعدوم في الموجود ، أو الخلف.

واورد على المحقق الخراساني (٢) ، بأن من قوله في اول البحث ، ولا من تقدمها بجميع اجزائها على المعلول ، ان كان هو التقدم الرتبى ، فلا ينافيه

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٢ (ومنها تقسيمها إلى المتقدم والمقارن والمتأخر).

(٢) يتضح الايراد مما سياتي.

التأخير الزماني : إذ لا تضاد بين تأخر المعلول عن العلة رتبة ، وتقدمه عليها زمانا واما ان يكون هو التقدم الزماني ، فهو مضافا إلى منافاته لما صرح به بعد اسطر من اعتبار المقارنة الزمانية ، غير تام.

وفيه : ان مراده التقدم الرتبي ، الا انه يستلزم عدم التأخر زمانا : إذ التقدم الرتبى العلي ، معناه انه لا يعقل وجود المعلول وضرورة وجوده الا إذا وجدت العلة ووجبت ، ولازم ذلك في الزمانيات ان لا يتقدم المعلول على علته زمانا والا لم يكن وجوده تابعا لوجودها.

ولكن يرد على المحقق الخراساني (ره) أن إسراؤه الإشكال إلى الشرط المتقدم ، غير صحيح : فإن المقارنة الزمانية انما تعتبر في العلة التامة المؤثرة ، كالعلة البسيطة ، والجزء الاخير من العلة المركبة ، واما في العلَّة الناقصة ، والمقربة للأثر ، المعبر عنها بالمعدة فلا تعتبر المقارنة ، فالاشكال مختص بالشرط المتأخر.

وحيث ان الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها تكون على نحوين ، لان المتأخر قد يكون شرطا للتكليف أو الوضع ، وقد يكون شرطا للمأمور به.

فتنقيح القول فيها بالبحث في موردين :

الأول : في شرط الحكم.

الثاني : في شرط المأمور به.

اما الأول : فقد عرفت ان محذور تأخر الشرط انما هو تأثير المعدوم في الموجود ، أو عدم التأثير ، والاول ممتنع ، لانه لا يمكن ان يترشح موجود بالفعل ،

من معدوم بالفعل.

والثاني : خلف ، ولذلك ذهب جماعة من المحققين منهم المحقق النائيني (ره) (١) إلى امتناع ذلك.

وللقوم في تصوير الشرط المتأخر مسالك :

الأول : ما افاده المحقق الخراساني (٢) ، وحاصله ان شرط التكليف أو الوضع ، ليس الا ان للحاظه دخلا في الجعل كالشرط المقارن ، حيث ان الحكم تكليفاً كان أو وضعاً ، من الافعال الاختيارية للمولى ، فمن مبادئه تصور الشيء ولحاظ اطرافه ليرغب في طلبه ، وتسمى هذه الاطراف التي لتصورها دخل في الحكم بالشرط ، فالدخيل في الحكم في جميع الاقسام هو اللحاظ والتصور ، واما الأمور الموجودة في الخارج فهي متعلقة للحاظ لا دخيلة في الحكم ، وعلى ذلك فكما يمكن ان يلاحظ المولى الامر المقارن أو المتقدم فيأمر ، يمكن ان يلاحظ الامر المتأخر ، ففي موارد الشرط المتأخر لا يكون الشرط متاخرا كي يلزم تحقق

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣٠. وراجع أيضا كلامه في المطلق والمشروط ج ١ ص ١٤٣ ـ ١٤٤ (وبالجملة) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢١١ حيث قال : بالجملة لا بد وأن يقع المنشأ في الخارج على طبق الإنشاء فكما ان وجود الموضوع التام يستحيل ان يتخلف عن حكمه فكذلك وجود الحكم يستحيل ان يتخلف عن موضوعه فمحذور الشرط المتأخر ليس لزوم تأثير المعدوم في الموجود إذ الشرط لا يكون مؤثراً في الحكم أصلا بل المحذور هو لزوم الخلف من تقدم الحكم على موضوعه.

(٢) كفاية الأصول ص ٩٣.

المشروط قبل شرطه ، بل الشرط يكون مقارنا دائما.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن ذلك يتم في القضايا الخارجية التي لا يتوقف الحكم فيها على غير دواعي الحكم المؤثرة فيه بوجودها العلمي طابق الواقع ام لا ، وكذلك يتم في القضايا الحقيقية في شرائط الجعل ، فإن الدخيل في الجعل ليس الا اللحاظ ، ولا يتم في شرائط المجعول : فإن الدخيل في فعلية الحكم انما هو الوجودات الخارجية المأخوذة مفروضة الوجود ، فما لم يتحقق الموضوع في الخارج بجميع قيوده لا يصير الحكم فعليا : إذ نسبة الحكم إلى الموضوع نسبة المعلول إلى علته فيعود الاشكال ، فجعل شرائط الحكم مطلقا من دخل اللحاظ في الحكم ، انما نشأ من الخلط بين القضايا الحقيقية ، والخارجية.

وأجاب عنه الأستاذ الأعظم (٢) : بأن شرط الحكم وان كان لا بد من اخذه مفروض الوجود في مقام الجعل والانشاء الا ان ظرف وجوده المفروض يختلف باختلاف كيفية الجعل ، فربما يجعل الحكم على الموضوع مقيد بقيد اخذ مفروض الوجود مقارنا له أو متقدما عليه ، وربما يجعل الحكم على الموضوع المقيد بقيد اخذ مفروض الوجود بعد وجوده ، والقيد في جميع ذلك وان كان مفروض الوجود ، الا انه يختلف باختلاف ظرف وجود المأخوذ قيدا في الحكم انتهى.

وهذا هو الوجه الثاني للامكان.

ولكن يرد على ما افاده الأستاذ ، ان ذلك لا يتم بناءً على مسلك العدلية

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٢٣ (الأمر الرابع) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٢٦.

(٢) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ٣٢٨.

من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد : إذ بناءً عليه ، لا يكون اخذ القيد مفروض الوجود لغوا وجزافا ، بل لا محالة يكون من جهة دخله في اتصاف الفعل بالمصلحة ، وعليه فيعود الاشكال وهو ان المتأخر كيف يمكن ان يؤثر في المتقدم ، ويوجب اتصاف الفعل بالمصلحة قبل وجوده ، فهذا الوجه غير تام.

كما ان الوجه الأول لا يتم لما افاده المحقق النائيني (ره) فانه لا ريب في ان الدخيل في فعلية الحكم في القضايا الحقيقية هي الوجودات الخارجية ، لا الوجودات اللحاظية.

الثالث : ان استحالة الشرط المتأخر انما هي في التكوينيات ، واما في التشريعيات ، فبما ان الاعتبار والتشريع ، خفيف المئونة فلا محذور في تأخر شرائطه عقلا.

وأجاب عنه المحقق النائيني (١) بأن المتأخر ان لم يكن له دخل في هذا الاعتبار لا بنحو العلية ، ولا بنحو الموضوعية ، فلا معنى لكونه شرطا ، وان كان دخيلا فيه ، فكيف يعقل تأخره.

وفيه ان مجرد ذلك لا يكفي في الجواب : إذ للمستدل ان يلتزم بانه دخيل في هذا الاعتبار بنحو الموضوعية ، الا ان وجوده في ظرفه ، اوجب فعلية الحكم قبل وجوده بواسطة اعتبار المولى وجعله.

فالأولى : في الجواب ان يقال ، ان دخله في اتصاف الفعل بالمصلحة ، اوجب

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٢٨ (وفيه ان الأمر المتأخر) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣١.

دخله في الموضوع بناءً على مسلك العدلية ، ودخله فيه يكون تكوينيا فيعود المحذور.

الرابع : ان الممتنع تأخر المقتضي المترشح منه المعلول ، لا الشرائط التي لايت رشح منها المعلول.

وفيه : ان الشرط يؤثر في وجود المعلول ، اما بتأثيره في تتميم فاعلية الفاعل ، أو قابلية القابل فيعود الاشكال ، وهو ان المعدوم كيف يؤثر في الموجود بالفعل ، وقد استدل لامكانه بوجوه اخر واضح الفساد.

والحق في وجه امكان الشرط المتأخر في الاحكام ، ان يقال : ان الشرط ، والجزء ، يختلفان في كيفية الدخل في الموضوع بتبع الاختلاف في كيفية الدخل في اتصاف الفعل بالمصلحة ، إذ الجزء بنفسه دخيل فيه ، واما الشرط فالتقيد به دخيل في ذلك لا نفسه بل هو بوجوده الخارجي طرف لما يكون دخيلا في الموضوع ، وهو التقيد به ، وذلك امر مقارن للحكم.

مثلا في العرفيات ، الحمامي انما يرضى بالتصرف في الحمام وصرف الماء لمن يعطى العوض فيما بعد خروجه فمن علم من حال نفسه انه يعطى العوض فيما بعد حيث انه بالفعل مقيد بهذا ويتصف به يجوز له الدخول فيه.

وبالجملة الشرط بوجوده الخارجي في أي ظرف كان وجوده ، موجب لحصول ذلك التقيد المقارن ، لا انه بنفسه دخيل كي يلزم الاشكال والتقيد عبارة عن اضافة خاصة حاصلة للشيء إذا لوحظ مع غيره ، وتلك الاضافة كما تحصل له إذا لوحظ مع المقارن أو المتقدم كذلك تحصل له إذا لوحظ مع المتأخر.

فإن قلت : ان تلك الاضافة ان كانت حاصلة قبل تحقق ذلك الشرط ولم يكن حصولها منوطا بحصول ذلك المتأخر في ظرفه لزم ان لا يكون الشرط دخيلا ، وهو خلف الفرض ، وان كان منوطا بحصوله لزم تأثير المتأخر في حصول المتقدم فيعود الاشكال.

قلت : أولاً : يمكن ان يقال ان المؤثر في المصلحة والحكم هي الحصة الخاصة ، من ذلك الشيء وهي ما لو حصل بعده ذلك المتأخر ولا يكون مطلق وجوده دخيلا فيهما ، فلا يحصل عنوان آخر ، كي يقال انه كيف يوجد مع ان المؤثر فيه امر متاخر.

وثانياً : ان هذا البرهان انما يتم في الموجودات العينية ولا يتم في العناوين الاضافية الاعتبارية فيمكن ان يكون الشيء الذي يتعقبه شيء آخر معنونا بعنوان اعتباري اضافي ، ودخل العناوين الاعتبارية في المصالح في غاية الكثرة.

ألا ترى انه إذا علم الإنسان ، ان زيدا يعينه في حال مرضه ، أو سفره في السنة الآتية ، يرى في اكرامه بالفعل مصلحة ويشتاق إليه فيكرمه بالفعل.

وعلى الجملة حصول امر اعتباري اضافي من جهة تحقق المتأخر في ظرفه واضح ، ودخل العناوين الاعتبارية في المصالح في غاية الوضوح ، وعليه فلا محذور في الشرط المتأخر اصلا.

وهذا هو القول الفصل في المقام ..

الشرط المتأخر للمأمور به

المورد الثاني : في الشرط المتأخر للمأمور به ، كالاغسال الليلية المعتبرة في صحة صوم المستحاضة عند بعض.

وملخص القول فيه ، انه مما ذكرناه في وجه امكان الشرط المتأخر للحكم ، يظهر امكانه في المقام : إذ لا فرق بين القسمين ، سوى ان شرط الحكم ، هو ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، وشرط المأمور به ، ما يكون دخيلا في حصول المصلحة ، ولذلك الأول غير لازم التحصيل ، والثانى يكون لازما ، واما من الجهة التي اشكل على الشرط المتأخر فهما متحدان اشكالا ، وجوابا ، حيث ان المستشكل يقول ان المتأخر كيف يعقل ان يؤثر في حصول المصلحة من المتقدم.

والجواب عنه ما ذكرناه ، من ان الشرط بنفسه لا يكون دخيلا في المأمور به ، وفي حصول المصلحة ، بل تقيد المأمور به دخيل فيهما ، وهو بوجوده الخارجي طرف للاضافة ، وهي متحققة مقارنة ، لوجود المأمور به.

ويمكن تصحيح الشرط المتأخر في هذا القسم بوجه آخر يخصه ، وهو ان شرط المأمور به من حيث كونه شرطا له ، لا اشكال فيه اصلا ، بعد كون الحكم من الأمور الاعتبارية ، ومعنى كونه شرطا له تقيد المأمور به ، وبديهى ان هذا المعنى غير مربوط بالشرط في باب العلة والمعلول ، ولا يكون دخيلا في التأثير اصلا.

نعم بناءً على مسلك العدلية ، يتوجه الاشكال من حيث كونه دخيلا في

حصول المصلحة ، في ان المتأخر كيف يمكن ان يؤثر في المتقدم ، وهو يتوقف على امرين :

١ ـ دخالة المتأخر في المصلحة.

٢ ـ تحقق المصلحة قبل وجود الشرط ، ومع عدم ثبوت الامرين أو احدهما يرتفع الإشكال كما هو واضح.

ولنا منع كلا الامرين :

اما الأول : فلانه يمكن ان يكون الشرط كاشفا ومعرفا عن كون ذي المصلحة ، هو الحصة الخاصة ، ولا يكون الشرط دخيلا فيها اصلا.

واما الثاني : فلانه يمكن ان يقال ان المصلحة لا تستوفى ولا تتحقق قبل وجود الشرط ، بل الفعل المأمور به كصوم المستحاضة على القول باشتراطه بغسل الليل ، يكون مقتضيا لحصول المصلحة وغسل الليل دخيل في فعلية المصلحة ، نظير ذلك في العرفيات ، شرب المسهل المشروط تأثيره في حصول الاسهال بالنوم مثلا : فإن لازم شرطيته حصول الاثر بعد النوم لا قبله.

وعلى هذا فلا يلزم تأثير المتأخر في المتقدم ، فليكن الامر في الشرعيات على هذا المنهج.

والمحقق النائيني (ره) (١) بعد اختياره عدم جواز الشرط المتأخر في القسم الأول ، وانه لا بد من التأويل فيما ظاهره اشتراط الامر المتأخر ، بالارجاع إلى شرطية عنوان التعقب اختار الجواز في القسم الثاني (أي شرط المأمور به)

افاد في وجهه ، ان معنى كون شيء شرطا كون الدخيل في المأمور به التقيد به ، فهو لا يزيد على الجزء الدخيل فيه قيدا وتقيدا ، فكما لا اشكال في تأخر بعض الاجزاء عن بعضها كذلك لا ينبغى الاشكال في تأخر الشرط عن المشروط.

ثم اورد على نفسه (٢) : بانه في الاجزاء الامر ينبسط على تمامها وان كانت تدريجية الوجود ، واما الشرائط فحيث ان القيود خارجة عن المأمور به والدخيل هي التقيدات الحاصلة من اضافة المأمور به إلى الشرائط ، فيسأل ان هذه التقيدات توجد قبل وجود الشرائط أو حينها ، فعلى الأول يلزم وجود الامر الانتزاعي قبل وجود منشأ انتزاعه وهو محال ، وعلى الثاني يلزم وجود الاضافة مع عدم احد الطرفين وهو المشروط.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٢٨ (ومنها ان الشرط لو كان الأمر المتأخر ..) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣١ ـ ٣٣٢. ويحسن مراجعة كلامه في مبحث المطلق والمشروط (تنبيه) ص ١٤٢ ـ ١٤٧. وفي الطبعة الجديدة ص ٢١٠ ـ ٢١٦.

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٢٢٢ فإن قلت بين الأجزاء والشرائط فرق) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٢٣.

وأجاب عنه (١) بأن الامر المتعلق بالامر الانتزاعي لا محالة يكون متعلقا بمنشإ انتزاعه ، وعليه فالامر المتعلق بالتقيد امر بذلك القيد ولاجل ذلك لا بد وان تكون الشرائط اختيارية ، فامتثال الامر بالمركب انما يتحقق باتيان الشرط المتأخر في ظرفه ، كما ان امتثال الامر بالمركب انما يتحقق باتيان الجزء الاخير ، وكون تعلق الامر بالجزء انما هو من جهة دخله قيداً وتقيدا ، وتعلقه بالشرط من جهة دخله تقيدا فقط لا يكون فارقا بعد تعلقه بكل منهما ودخل كل منهما في الامتثال.

أقول : في كلامه (ره) مواقع للنظر :

الأول : ان الامر الانتزاعي وان كان امرا بمنشإ انتزاعه بلا كلام ولا ريب ، الا ان التقيد بشيء ، لا ينتزع من ذلك الشيء بل ذلك الشيء على ما عرفت طرف للاضافة وهي انما تتحقق حين صدور العمل بلحاظ تحقق المتأخر في ظرفه ، وعلى هذا يبتنى عدم لزوم كون الشرط اختياريا : إذ التقيد بالامر غير الاختياري بما انه تحت الاختيار ، وهو المتعلق للامر فيصح التكليف بشيء مشروطا بامر غير اختياري كالامر بعتق الرقبة المقيدة بالمؤمنة : فإن ايمان الغير وان كان خارجا عن تحت قدرة المكلف الا ان عتق الرقبة المقيدة بالمؤمنة تحت الاختيار فيصح التكليف.

الثاني : ان الالتزام بكون الامر المتعلق بالتقيد ، امرا بالقيد أيضا لا يدفع

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٢٢ (قد عرفت فيما تقدم ..) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٢٤.

الاشكال إذ الايراد انما هو في ان التقيد المعتبر متى يوجد ، هل هو قبل وجود الشرط ام بعده ، فعلى الأول يلزم وجود الامر الانتزاعي قبل وجود منشأ انتزاعه ، وعلى الثاني يلزم تحقق الاضافة مع عدم احد طرفيها ، والجواب عن ذلك بأن نفس القيد مأمور به لا ربط له بالاشكال.

الثالث : ان لازم الالتزام بتعلق الامر بالقيد نفسه ، عدم الفرق بين الشرط والجزء وكون الشرط أيضا من المقدمات الداخلية لا المتوسطة ، فلا مورد حينئذ لالتزامه بكونه من المتوسطة كما صرح به.

فالحق في الجواب عن الايراد المذكور ، مضافا إلى النقض بالاجزاء : فإن هذا الوجه يجري فيها أيضا إذ فيها أيضا التقيد داخل كالقيد ، مثلا في الصلاة الواجب هو التكبيرة ـ المتقيدة بمجيء التسليم بعدها ، فيسأل عن ظرف تحقق التقيد ، فإن كان حين التكبيرة لزم تحقق الامر الانتزاعي قبل تحقق منشأ انتزاعه ، وان كان حين التسليم لزم تحقق الاضافة مع عدم احد طرفيها.

ان التقيد المزبور ليس امرا انتزاعيا من وجود القيد في ظرفه ، بل هو طرف للإضافة فلاحظ.

الواجب المشروط

الجهة الخامسة : في تقسيمات الواجب.

منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط.

ولا يخفى ان اتصاف الواجب بهما انما يكون عرضيا والمتصف بهما أولاً

وبالذات ، هو الوجوب ، وهو الذي قد يكون مطلقا ، وقد يكون مشروطا.

ثم المراد من الإطلاق والاشتراط انما هو معناهما اللغوى ، وليس للقوم فيهما اصطلاح خاص فالمطلق هو المرسل ، والمشروط هو المربوط بشيء أو اشياء ، فالواجب الذي لا يكون وجوبه مشروطا بشيء يكون مطلقا ، والذى يكون وجوبه مربوطا يكون مشروطا ، وحيث انه ليس في الشرع واجب مطلق بقول مطلق ، بحيث لا يكون وجوبه مربوطا بشيء : إذ لا اقل من اشتراطه بالشرائط العامة ، وكذا ليس فيه ما يكون وجوبه مربوطا بجميع الاشياء ، فلا محالة يكون وصفا الإطلاق والاشتراط ، وصفين اضافيين فيلاحظ كل واجب مع قيد ، فإن كان بالقياس إليه وجوبه مربوطا به وغير مرسل ، فهو واجب مشروط بالنسبة إليه ، وان كان غير مربوط به فهو واجب مطلق كذلك.

وعلى هذا فلا يهمنا البحث فيما ذكر في تعريف المطلق والمشروط ، والنقض والابرام في ذلك.

هل القيد يرجع إلى المادة ، أو الهيئة ، أو المادة المنتسبة

وانما المهم في المقام تحقيق القول في ان القيد في الواجب المشروط ، هل يرجع إلى المادة كما عن الشيخ الأعظم (ره) (١) ، أو يرجع إلى الهيئة كما عن جماعة

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٤٨ (هداية) إلى ان قال : فإنه ليس في المقام ما يحتمل رجوعه بحسب القواعد العربية إلى الهيئة ليكون قيدا للأمر بحسب ما هو الظاهر وان كان راجعا إلى تقيد المادة كما عرفت .. الخ

منهم المحقق الخراساني (ره) (١) ، ام يرجع إلى المادة المنتسبة كما بنى عليه المحقق النائيني (٢) وبه وجه كلام الشيخ.

وقبل تنقيح القول في ذلك لا بد من التنبيه على امور :

١ ـ انه قد اورد على المحقق الخراساني بأن ما اختاره في المقام من رجوع القيد إلى الهيئة ، الذي نتيجته عدم ثبوت الحكم قبل تحققه ، ينافى ما صرح به في الشرط المتأخر من ان معنى كون شيء شرطا للحكم ليس الا ان للحاظه دخلا في الحكم من غير فرق بين اقسام الشرط ، وان الموجودات الخارجية غير دخيلة في الحكم فكيف التوفيق بين كلماته.

وقيل في توجيه كلامه في المقام بما يرتفع به التنافي ان ما علق عليه الحكم الظاهر في عدم فعلية الحكم قبله ، لا يكون شرطا حقيقيا ، بل هو ملازم لارتفاع المانع عن الفعلية ، فيكون قبل تحققه مانع عن الطلب فعلا ، فلا يصح الطلب منه الا معلقا على حصول ذلك الامر الملازم لارتفاع المانع فتأمل فإن ذلك لا

__________________

(١) وقد اعتبر رجوع الشرط إلى الهيئة ظاهر المشهور والقواعد العربية كما في الكفاية ص ١٠١ ، وفي درر الفوائد لم يستبعد رجوع القيد إلى المادة الا انه بحسب القواعد العربية راجع إلى الهيئة ص ٣٣٢.

(٢) أجود التقريرات ج ١ (الأمر الثاني في رجوع القيد في القضية الشرطية بحسب القواعد العربية إلى الهيئة أو المادة او الجملة المركبة منها) فبعد ان اختار رجوعه إلى المادة في ص ١٣٠ قال في ص ١٣٢ : «فلا بدّ ان يرجع القيد إلى المادة المنتسبة ...» وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٩٥ (وملخص ما ذكرناه)

يخلو عن الاشكال.

٢ ـ ان لازم رجوع القيد إلى المادة ـ الذي نسب إلى الشيخ (١) وان انكر السيد العلامة الشيرازي والمحقق النائيني هذه النسبة (٢) ـ هو إنكار الواجب المشروط ، وان القيد من قيود الواجب ، وكون الوجوب مطلقا فعليا ، فيرجع إلى الواجب المعلق باصطلاح صاحب الفصول (ره) (٣) ، ولازم القولين الآخرين البناء على وجود الواجب المشروط ، وكون القيد للوجوب ، لا للواجب فانكار الواجب المشروط ، والبناء عليه يبتنيان على البحث فيما يكون مرجع القيد.

٣ ـ انه لا ريب ولا كلام في ان ظاهر القضية الشرطية بحسب القواعد العربية رجوع الشرط إلى الهيئة ، بداهة ان استعمال قضية (إذا توضأت فصلِّ) في مقام طلب الصلاة المقيدة بالوضوء يعد من الاغلاط ، وظهور قضية (إذا زالت الشمس وجب الظهر) في عدم الوجوب قبل الزوال.

وقد عرفوا القضية الشرطية بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى ، ومعنى ذلك رجوع القيد إلى مفاد الجملة.

وبعبارة أخرى انها ظاهرة في كون المقدم قيدا للتالي وهو مفاد الهيئة فارجاع القيد إلى المادة خلاف الظاهر ، ومن التزم بذلك كالشيخ اعترف بأن قضية القواعد العربية انه من قيود الهيئة وانما التزم به لتخيل امتناع ذلك ثبوتا

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ١٣٠. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٩٤.

(٢) مطارح الانظار ص ٤٩.

(٣) الفصول الغروية ص ٧٩ ـ ٨٠ (تمهيد مقال لتوضيح حال).

وإثباتا.

وعلى ذلك لا بد من البحث في انه هل يمكن ارجاع القيد إلى الهيئة ام لا؟.

والقائلون بامتناع ذلك ، استندوا إلى وجوه : والشيخ زائدا على تلك الوجوه ، استدل لكون القيد من قيود المادة إلى لزوم ذلك ثبوتا.

وتنقيح القول بالبحث في موارد :

١ ـ في امكان كونه قيد للهيئة وامتناعه.

٢ ـ في لزوم كونه قيد للمادة.

٣ ـ في ان القيد قيد للمادة المنتسبة.

اما المورد الأول : فقد استدل للامتناع بامور :

الأول : ان معنى الهيئة معنى حرفي ، وهو جزئي غير قابل للتقييد والاطلاق لعدم صدقه على كثيرين ، نسب ذلك في التقريرات إلى الشيخ الأعظم (ره).

وقد اجاب المحقق الخراساني (١) عن هذا الوجه بانه لو سلم انه فرد فإنما يمنع عن التقييد لو انشأ أولاً غير مقيد لاما إذا انشأ من الأول مقيدا غاية الامر قد دل عليه بدالين وهو غير انشائه أولاً ثم تقييده ثانيا ،

وفيه : ان المعنى إذا كان جزئيا ، غير قابل للتقييد لا فرق فيه بين التقييد قبل الاستعمال ، وبعده ، الا بناءً على القول بانه بالاستعمال يصير جزئيا.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٧.

ولكن يرد على هذا الوجه :

أولاً : ما حققناه في المعنى الحرفي من انه ليس بجزئي بل كلى صادق على كثيرين فهو قابل للتقييد.

مثلا صلِّ في المسجد يمتثل بالصلاة في أي موضع من مواضع المسجد لصدق المأمور به عليها ، فهو قابل للتقييد بأن يقال صلِّ في الجهة الجنوبية من المسجد مثلا.

وثانياً : ان للتقييد معنيين : احدهما التضييق ، وفي مقابله الإطلاق بمعنى الصدق على كثيرين ، ثانيهما : الربط ، وفي مقابله الإطلاق بمعنى الارسال وعدم الربط.

وفي المقام المدعى هو التقييد بالمعنى الثاني ، والجزئي الحقيقي أيضا قابل للتقييد بهذا المعنى ، ألا ترى انه يقال ان الزوجية هي الربط بين الزوجين في مقابل الطلاق ، الذي هو بمعنى الارسال والبينونة ، وليس المدعى هو التقييد بالمعنى الأول ، وعليه فلو سلم كون مفاد الهيئة من المعاني الجزئية لا مانع من تقييده أيضا.

وبالجملة الاشتباه انما نشأ من الخلط بين الإطلاق والتقييد في المقام ، الذين هما بمعنى الارسال ، والارتباط ، وبين الإطلاق والتقييد في مبحث المطلق والمقيد ، والذى لا يعقل في الجزء انما هو التقييد بالمعنى الثاني ، والمدعى هو التقييد بالمعنى الأول.

الثاني : ما استند إليه المحقق النائيني (١) ، ولعله امتن من الأول ، وهو ان مفاد الهيئة معنى حرفي وملحوظ آلي ، والتقييد والاطلاق من شئون المفاهيم الاسمية الملحوظة استقلالا.

وفيه أولاً : قد مر في مبحث المعنى الحرفي ، انه ملحوظ استقلالا كالمعنى الاسمى ، وما اشتهر من ان المعاني الحرفية ، ملحوظات آلية ، حتى كاد ان يعد من الضروريات مما لا اصل له ، وقد ذكرنا في ذلك المبحث انه غالبا يكون للمعنى الحرفى مقصودا اصليا في الكلام ، بل الفرق بين المعنيين انما يكون في انفسهما لا في اللحاظ.

وثانياً : انه لو كان المحذور ذلك فإنما هو يمنع عن تقييد المعنى بعد اللحاظ لاما إذا قيد المعنى أولاً ثم لوحظ المعنى المقيد ، واستعمل اللفظ فيه بنحو تعدد الدال والمدلول.

الثالث : انه من المبرهن في محله ، ان الايجاد والوجود واحد حقيقة ، والفرق بينهما انما هو بالاعتبار حيث انه باعتبار استناده إلى الموجد ايجاد ، وباعتبار نفسه وجود ، وعليه فلا يعقل كون الايجاد فعليا والوجود استقباليا ، فكيف يمكن ان يكون الانشاء فعليا ، والمنشأ استقباليا.

وان شئت فقل ان الانشاء ايجاد للطلب فلا يمكن تأخر المنشأ عن الانشاء.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٦٩ (وأما فساد أصل الاستدلال) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

وأجاب عنه صاحب الكفاية (١) بأن المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله فلا بد ان لا يكون قبل حصوله طلب وبعث وإلا لتخلف عن انشائه ، وانشاء امر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان كما يشهد به الوجدان انتهى.

وفيه : انه فرق بين الاخبار والانشاء ، فإن الاخبار انما يكون حكاية ، فيمكن تعلقه بالامر المتأخر ، لتعلق الحكاية بالامر المتأخر ، بخلاف الانشاء الذي هو ايجاد ، والصحيح هو قياس الانشاء والمنشأ ، بالايجاد والوجود الخارجيين كما صنعه المستدل ، فكما لا يعقل التخلف هناك لا يعقل التخلف هنا ، وما افاده بقوله فلا بد ان لا يكون قبل حصوله طلب والا لتخلف عن انشائه ، وان كان متينا ، الا انه متفرع على امكان انشاء امر على تقدير الذي هو محل الكلام.

وأجاب عنه بعض المحققين (٢) ، بأن المنشأ هو الوجود الانشائى وهو يكون ملازما للانشاء ، ومتحققا بتحققه بل هو عينه ، والمتأخر انما هو فعلية المنشأ ، فلا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء.

وبعبارة أخرى هو الطلب الانشائى لا الفعلى وهو غير متخلف عن

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٧.

(٢) والظاهر أن الإجابة على ما ذهب إليه الآخوند كانت من غير واحد من الأعلام كآية الله الكلبايكاني في إفاضة العوائد (الأمر الثالث في الواجب المطلق والمشروط) ج ١ ص ١٦٦. / والمحقق الأصفهاني في بحوث في الأصول ج ١ ص ٤٠. / وآية الله السيد الخوئي في المحاضرات ج ١ ص ١٩١.

الانشاء.

وفيه : ان فعلية المنشأ عبارة أخرى عن تحققه فحينئذ يسأل عن هذا التحقق والوجود المعبر عنه بالفعلية هل يكون بانشاء احد ، ام وجد بنفسه ، وعلى الأول هل له انشاء آخر غير الانشاء الأول ام لا؟ لا سبيل إلى الأول والثالث ، فيتعين الثاني فيبقى المحذور على حاله.

والصحيح في الجواب يبتني على مقدمات :

١ ـ ان الشوق والاعتبار كسائر الصفات ذات الاضافة والافعال القائمة بالنفس التعليقية ، كالعلم والتصور وما شاكل ، يمكن تعلقهما بالامر المتأخر لاحظ اعتبار الملكية في باب الوصية ، وبالجملة الاعتبار النفساني ، والشوق ، يتعلقان بالامر المتأخر وهذا من البداهة بمكان.

٢ ـ ان ما اشتهر من ان الجمل الانشائية موجدة لمعانيها في نفس الامر مما لا اساس له ، بل هي مبرزة للامور القائمة بالنفس ، كالجمل الاخبارية وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث الانشاء والاخبار مفصلا.

٣ ـ انه قد تقدم في اول مبحث الاوامر ، ان هيئة" افعل" كسائر ما يستعمل في مقام البعث ، انما وضعت لابراز ان المادة متعلقة لشوق الامر ، أو لإبراز اعتبار الامر كون المادة على عهدة المأمور فراجع ما حققناه.

إذا عرفت هذه المقدمات وتوجهت إليها يظهر لك ان تعليق هيئة الامر على امر متأخر أمر ممكن ، سواء كان مفاد الهيئة ، ابراز الاعتبار النفساني ، ام كان هو ابراز الشوق ، وان اساس الشبهة انما هو تخيل ان الهيئة تكون موجدة

لمعناها في نفس الامر ، ولكن قد مر انه بمراحل عن الواقع.

فالمتحصل ان شيئا مما ذكر لامتناع كون القيد للهيئة لا يتم فهو امر ممكن.

واما المورد الثاني وهو لزوم كون القيد راجعا إلى المادة.

فقد استدل له : بأن العاقل إذا توجه إلى شيء ، والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه به ، أو لا يتعلق به طلبه اصلا ، لا كلام على الثاني ، وعلى الأول ، فاما ان يكون ذاك الشيء مورداً لطلبه وامره مطلقا على اختلاف طواريه ، أو على تقدير خاص وذاك التقدير ، تارة يكون من الأمور الاختيارية ، واخرى لا يكون كذلك ، وما كان من الأمور الاختيارية ، قد يكون ماخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف ، وقد لا يكون على اختلاف الاغراض الداعية إلى طلبه والامر به من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعية انتهى ما نقله المحقق الخراساني (١) عن التقريرات (٢).

وأجاب عنه هو (قدِّس سره) ـ بما حاصله (٣) ـ ان هناك شقا آخر ، لم يتعرض له الشيخ وهو ان يكون المقتضي للطلب ، موجودا ، بمعنى وجود المصلحة في الفعل ، وكونه موافقا للغرض ، ولكن لأجل وجود المانع عن الطلب فعلا قبل حصول ذلك الامر ، ليس للمولى ذلك ، بل يتعين عليه ان يبعث نحوه معلقا ، ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع الحصول الموجب لارتفاع المانع.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٦.

(٢) مطارح الأنظار ص ٢٥ (عند قوله بل التحقيق ...)

(٣) كفاية الأصول ص ٩٧.

ثم قال (قدِّس سره) (١) ان هذا بناءً على تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح ، واما بناءً على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها : فلأن التبعية كذلك انما تكون في الاحكام الواقعية بما هي واقعية لا بما هي فعلية ، فإن المنع عن فعلية تلك الاحكام غير عزيز كما في بعض الاحكام في اول البعثة بل إلى يوم طلوع شمس الهداية. وفي موارد الاصول والامارات على خلافها.

الظاهر ان ما ذكره مبتن على ما بنى عليه في تعليقته على الرسائل (٢) من ان الفرق بين الاحكام الواقعية والفعلية انما يكون بالجعل ، وانه يمكن تعلق الحرمة الواقعية بشيء كالخمر ، وعدم كون حرمتها فعلية حتى بعد وجوده.

ولكنه فاسد وقد رجع هو (قدِّس سره) عن ذلك ، فإن الحكم الواقعي المجعول لا يعقل عدم فعليته بعد وجود موضوعه كما اشبعنا الكلام في ذلك مرارا.

وأجاب عنه المحقق الأصفهاني (ره) (٣) ، بأن تبعية المصلحة للفعل ، تبعية المقتضي للمقتضي لا تبعية المعلول للعلة التامة ، فيمكن ان تكون هناك مفسدة مانعة عن البعث الفعلي ، او ان يكون هناك بعث آخر بالاهم وحينئذٍ فالبعث المطلق له مانع والبعث المعلق على عدم المانع ، لا مانع منه.

وفيه : ان هذا لا يتم في جميع الموارد ، لانه في الاحكام العرفية أيضا احكام مشروطة ، مثل ان يقول المولى لعبده اكرم زيدا ان جاءك ، مع انه لا مانع عن

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٨.

(٢) كما قد يظهر من كلامه في درر الفوائد (الجديدة) ص ٧٦ (تذنيب فيه تحقيق).

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٤١.

البعث الفعلى ، ولا بعث آخر بالاهم ، مضافا إلى انه لا يمكن الالتزام بأن جميع الواجبات الشرعية المشروطة من هذا القبيل.

وتحقيق القول في المقام انه يتصور الواجب المشروط في صورتين.

احداهما : في القيود غير الاختيارية الدخيلة في وجود المصلحة بناءً على عدم معقولية الواجب المعلق.

ثانيتهما : في القيود الدخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة.

توضيح ذلك يتوقف على بيان مقدمة :

وهي انه بناءً على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، إذا لوحظ قيد مع المأمور به ، لا يخلو من احدى حالات :

الأولى : كونه شرطا وقيدا في اتصاف الفعل بالمصلحة بحيث لا يكون الفعل ذا مصلحة الا بعد حصول ذلك القيد ، وذلك في العرفيات نظير المرض بالقياس إلى شرب المسهل ، حيث انه دخيل في اتصاف الشرب بالمصلحة ، ولا مصلحة في الشرب قبله ، وفي الشرعيات نظير الزوال بالاضافة إلى الصلاة ، والاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

الثانية : كونه دخيلا في استيفاء المصلحة لا في اتصافه بها ، نظير المشى قبل شرب المسهل أو بعده للمريض ، حيث ان الشرب بالنسبة إليه ذو مصلحة الا ان استيفائها متوقف على ذلك ، وفي الشرعيات الطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

وهذا النحو من القيود على قسمين ، الأول : ما هو اختياري للمكلف كالطهارة بالاضافة إلى الصلاة ، الثاني : ما يكون غير اختياري كايقاع الحج في

الايام الخاصة.

الثالثة : ما لا يكون القيد دخيلا ، لا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، ولا في استيفائها هذه هي الصور المتصورة في القيود.

إذا عرفت ذلك فاعلم ، انه إذا لم يكن القيد دخيلا في الاتصاف ولا في الاستيفاء ، لا بد من الطلب الفعلى المطلق بالفعل.

وان كان دخيلا في استيفاء المصلحة ، فإن كان ذلك القيد اختياريا كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، لا بد من الامر والطلب الفعلى بالمقيد والقيد ، وليس للمولى الامر بالمقيد معلقا على ذلك القيد ، وان كان غير اختياري كالكعبة بالاضافة إلى الصلاة حيث انها شرط للاستقبال الذي هو شرط للصلاة ، فليس للمولى الامر بالمقيد على أي تقدير ، ولا الامر به وبالقيد لعدم القدرة ، وعلى ذلك فقبل حصول الشرط لا بد من ان يطلب فعلا ويقيد الواجب به.

وبعبارة أخرى يطلب الفعل المقيد المقدور في ظرف حصول القيد ، بناءً على امكان الواجب التعليقي ، واما بناءً على امتناعه فالمقتضي للطلب فعلا وهو المصلحة وان كان موجودا ، الا انه لوجود المانع عن الطلب الحالى ، لا مناص ان يقيد الطلب بذلك القيد ، فيكون الواجب واجبا مشروطا.

وان كان القيد دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وصيرورته ذا مصلحة ، كالزوال بالنسبة إلى صلاة الظهر ، والسفر بالنسبة إلى صلاة القصر ، كان القيد اختياريا ، ام غير اختياري لا يصح الطلب الحالى قبل حصول الشرط بل يتعين ان يعلق الطلب على حصوله لعدم المصلحة في الفعل قبله ، فلا مقتضى للطلب قبل تحققه : لان الاوامر تابعة للمصالح فلا محالة يكون الواجب واجبا

مشروطا.

وما افاده الشيخ الأعظم (ره) (١) من انه إذا كان الفعل مطلوبا على تقدير دون جميع التقادير يكون الطلب متعلقا به مطلقا غير معلق ، ولكن المتعلق هو الفعل على ذلك التقدير.

يتم في القيود غير الاختيارية الدخيلة في استيفاء المصلحة بناءً على امكان الواجب التعليقي ، ولا يتم في القيود الدخيلة في تحقق المصلحة في الفعل : إذ ليس المراد من الطلب الفعلي هو الانشاء كما هو واضح ، بل هو ، الشوق فعلا إلى الفعل ، أو اعتبار كون المادة على عهدة المأمور ، أو الطلب الفعلي على اختلاف المسالك ، ومن البديهي ان الفعل الذي لا مصلحة فيه بالفعل ، وانما يحدث فيه مصلحة بعد ذلك لا يكون متعلقا للشوق الفعلى للمولى ، ولا يعتبر ذلك الفعل على عهدة المأمور والا كان الاعتبار لغوا وبلا منشأ ، فلا مناص عن تعليق الامر على ذلك الشيء.

فالمتحصل ، انه في الواجب المشروط لا بد وان يرجع القيد إلى الهيئة ولا يصح جعله من قيود المادة.

واما المورد الثالث : وهو رجوع القيد إلى المادة المنتسبة.

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٤٦ الشطر الثالث (فظهر من ذلك ...) والعبارة الاوضح ص ٥٢ ـ ٥٣ الشطر ٣٢ عند قوله : فإن تقييد الطلب حقيقة مما لا معنى له ... الخ بتصرف.

فمحصل ما افاده المحقق النائيني (ره) (١) في توجيهه يبتني على بيان مقدمتين.

الأولى : ان النسبة مفهوم حرفي وملحوظ تبعي فلا يمكن ان يكون القيد قيدا لها : لأن الإطلاق والتقييد ، من شئون المفاهيم الاسمية ، والمادة وان كانت قابلة للتقييد الا انه لكونها مفهوما افراديا وأداة الشرط موضوعة لربط الجملتين ، وجعل مدخولها واقعا موقع الفرض والتقدير ، لا يكون القيد راجعا إليها.

الثانية : ان الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد ، وقد يكون متعلقا لها حين اتصافه بقيد في الخارج ، وفي الفرض الثاني ما لم يوجد القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به.

إذا عرفت هاتين المقدمتين تعرف ان القيد في القضايا الشرطية راجع إلى المادة بما هي منتسبة إلى الفاعل.

وبعبارة أخرى إلى المعنى المتحصل من المادة والهيئة وهو في الاخبارات مثل إذا طلعت الشمس فالنهار موجود نتيجة الحمل ، وهي وجود النهار وهو معلق على طلوع الشمس ، وفي الانشاءات نتيجة الجملة الانشائية ، وهي اتصاف الاكرام بالوجوب مثلا ، فالمعلق في الحقيقة هي المادة بعد الانتساب بالبعدية الرتبية ، هذا غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الوجه.

ولكن يرد عليه : أولاً : انا لا نتعقل هذا الكلام : لان المادة المنتسبة ليست

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٣١ ١٣٢ بتصرف وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ١٩٥.

شيئا غير المادة والانتساب ، فإن رجع القيد إلى المادة المنتسبة فهو عين الرجوع إلى المادة ، وان رجع إلى جهة انتسابها فهو عبارة أخرى عن رجوع القيد إلى الهيئة ، والاختلاف انما هو في التعبير.

إذ معروضية المادة للوجوب ، وعروض الوجوب للمادة شيء واحد ، وان شئت قلت : انه لا بد من التزامه (قدِّس سره) ، اما برجوع القيد إلى نفس المادة حال الانتساب ، أو إلى جهة الانتساب ، أو اليهما معا ، ولا رابع إذ نتيجة الجملة ليست شيئا غير المادة والانتساب ، والاول والثانى يرجعان إلى القولين الآخرين ، والثالث لاوجه لالتزامه به إذ لو لم يكن مانع عن رجوع القيد إلى الهيئة ، لاوجه للالتزام بهذا القول ، بعد كون مقتضى القواعد العربية هو الرجوع إلى الهيئة خاصة ، وان ترتب محذور وتال فاسد على رجوعه إليها ، فالالتزام برجوعه اليهما معا ، لا يستلزم عدم ترتب ذلك المحذور ، إذ المحذور انما يترتب على الرجوع إلى الهيئة ، لا على عدم الرجوع إلى غيرها ، كي يرتفع بالالتزام برجوعه اليهما معا.

وثانياً : لو تعقلنا ذلك وكان له معنى محصل ، يرد عليه ان البرهان الذي ذكره لعدم جواز الرجوع إلى الهيئة لو تم ، وهو كونه معنى آليا غير قابل للتقييد يقتضي عدم جواز الرجوع إلى المادة المنتسبة ، إذ المقيد بامر آلي حكمه ، حكمه في جواز التقييد وعدمه.

وثالثا : قد مر جواز رجوع القيد إلى الهيئة.

فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه ، ان الواجب المشروط بنحو يكون الواجب مقيدا بالقيد ولا يكون وجوب قبله ، وكونه من قيود الهيئة ، لا مانع عنه ثبوتا

وإثباتا ، بل يلزم كونه من قيود الهيئة ، وحيث عرفت ان قضية القواعد العربية أيضا رجوعه إليها فلا اشكال في الواجب المشروط ثبوتا وإثباتا وإمكانا ووقوعا.

بقي في المقام شبهة وهي انه إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا وبعثا حاليا فما فائدة الانشاء فعلا.

والجواب عنها ما ذكره المحقق الخراساني (١) وهو انه كفى فائدة له انه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط بلا حاجة إلى خطاب آخر ، مع شمول الخطاب كذلك للايجاب فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فيكون بعثا فعليا بالاضافة إليه وتقديريا بالنسبة إلى الفاقد له مع انه ربما لا يقدر الآمر بعد حصول الشرط على الامر ـ في الموالي العرفية ـ.

مقدمات الواجب المشروط

ثم انه يقع كلام في حكم المقدمات الوجودية للواجب المشروط.

وتنقيح القول يقتضي البحث في مقامات :

الأول : في حكم المقدمة التي علق عليها الوجوب ، أو الواجب على اختلاف المسلكين.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٨.

الثاني : في المقدمات الوجودية غير المفوتة.

الثالث : في التعليم والمعرفة.

الرابع : في المقدمات التي يترتب على تركها فوت الغرض في ظرفه.

اما المقام الأول : فبناء على ما اخترناه من رجوع القيود إلى الهيئة ، خروجها عن محل النزاع واضح ، لانها حينئذ من المقدمات الوجوبية التي تقدم في اول المبحث خروجها عن محل البحث والكلام.

واما بناءً على ما اختاره الشيخ الأعظم ، فهي وان كانت من المقدمات الوجودية ، الا انها اخذت على نحو لا يمكن ترشح الوجوب من ذي المقدمة إليها ، إذ هذا القيد اخذ مقدر الوجود فكيف يمكن ان يصير واجبا بالوجوب المترشح من هذا الوجوب ، وان شئت فقل ان الوجوب متفرع على موضوعه بجميع قيوده ومتاخر عنه رتبة ، فلا يعقل ترشح الوجوب من متعلقه إلى قيد من قيود موضوعه حيث انه يستدعى تقدم الوجوب عليه ليترشح منه إليه ، وقد فرض تأخره عنه ، فيلزم تأخر ما هو متقدم.

واما المقام الثاني : فبعد تحقق ذلك الشرط لا ريب في دخول المقدمات في محل النزاع.

واما قبل تحققه فبناء على مسلك الشيخ ، تكون داخلة في محل النزاع إذا علم بتحقق الشرط في ظرفه ، إذ الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ، ووجوب مقدماته ، انما تدعى بين الوجوبين ، لا الوجودين ، والمفروض ان وجوب ذي المقدمة فعلى ، وان كان ظرف وجوده فيما بعد فيترشح من وجوبه الوجوب إلى

مقدماته ، نعم ، لو علم بعدم تحقق الشرط في ظرفه ، أو شك فيه ، لا يحكم بوجوب المقدمات حتى على القول بالملازمة ، اما في الفرض الأول فلعدم وجوب ذي المقدمة ، واما في الثاني فلاستصحاب عدم تحقق الشرط الذي يترتب عليه عدم وجوب ذي المقدمة.

واما بناءً على ما اخترناه من رجوع القيد إلى الهيئة ، فقبل تحقق الشرط لا تكون المقدمات الوجودية غير المفوتة داخلة في محل النزاع ، إذ وجوب ذي المقدمة انما يكون فيما بعد ، ولا يعقل ان يترشح الوجوب الفعلى إلى المقدمات من الوجوب البعدى لذى المقدمة ، إذ الملازمة انما تدعى بين الوجوبين الفعليين لا الإنشائيين.

ومما ذكرناه ظهر ان ما ذكره المحقق الخراساني (١) بقوله ، الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع أيضا فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب المطلق ، ان كان جريانه في المقدمات بعد حصول الشرط فمتين.

ولا يرد عليه انه بعد حصول الشرط يكون مطلقا ، لا مشروطا ، لما سيأتي في محله من ان الواجب المشروط لا يصير مطلقا بحصول شرطه.

وان كان مراده دخولها في محل النزاع قبل حصول الشرط ، فغير تام.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٩.

حكم التعلم

واما المقام الثالث : فملخص القول فيه انه في التعليم والمعرفة مسالك ثلاثة.

الأول : ما ذهب إليه المحقق الاردبيلى (ره) وتبعه تلميذه صاحب المدارك ، وهو ان التعلم واجب نفسي تهيئي ، للنصوص (١) الدالة عليه ، وهو الاظهر عندنا كما سيأتي الكلام عليه في بحث الاشتغال ، ولازم ذلك هو وجوبه قبل

__________________

(١) نسب القول إلى المحقق الاردبيلي وصاحب المدارك ان التعلم واجب نفسي غير واحد منهم السيد الخوئي في كتابه الاجتهاد والتقليد بقوله «التجأ المحقق الاردبيلي ومن تبعه إلى الالتزام بالوجوب النفسي في المقام وذهبوا إلى ان التعلم واجب نفسي والعقاب انما هو على ترك التعلم نفسه لا انه على ترك الواجب الواقعي» ، كتاب الاجتهاد والتقليد ص ٢٩٥. ط دار الهادي ١٤١٠. وبعد مراجعة كلماتهم يمكن استظهار ذلك من مجمع الفائدة والبرهان من باب القراءة ، وصلاة الجمعة وفي الجزء السابع ص ٥٣٦ قال : «ويجب عليه التعلم ... لتحصيل الغرض». وفي معرض الحديث عن الصلاة في الدار المغصوبة قال : «فلا تبطل صلاة المضطر ولا الناسي بل ولا الجاهل لعدم النهي حين الفعل لان الناس في سعة ما لا يعلمون وان كان في الواقع مقصرا او معاقبا بالتقصير». ج ٢ ص ١١٠ (ويظهر منه ان الجاهل معاقب لعدم التعلم) واما صاحب المدارك فقد قال ج ٣ ص ٣٤٢ «ولا ريب في وجوب التعلم على الجاهل مع سعة الوقت لتوقف الواجب عليه». وقال في ج ٣ ص ٢١٩ : «اما الجاهل بالحكم فقد قطع الاصحاب بانه غير معذور لتقصيره في التعلم».

حصول الشرط أيضا لعدم اختصاص تلك الادلة بالواجبات المطلقة والمشروطة بعد حصول ، الشرط ، بل تشمل المشروطة قبل حصول شرطها ، ويترتب على هذا القول استحقاق العقاب على ترك التعلم سواء صادف عمله الواقع ام لم يصادف.

ثانيها : ما ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو المنسوب إلى المشهور ، وهو ادراج المقام في المقدمات المفوتة وجعله من صغريات باب القدرة ، فملاك وجوبه هو قاعدة الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار ، ويترتب عليه ، ان وجوبه وجوب مقدمى ، بملاك وجوب المقدمات المفوتة ، لكونه من متممات الخطاب بذى المقدمة ، ولازمه استحقاق العقاب على مخالفة الواقع.

ثالثها : ما اختاره المحقق النائيني (ره) (٢) وهو ان وجوبه طريقي من قبيل وجوب الاحتياط في موارد لزومه ، أي الوجوب الذي يكون بملاك التحفظ على ما في المتعلق للحكم الواقعي من المصلحة اللازمة الاستيفاء حتى عند الجهل.

وبعبارة أخرى المجعول تحفظا على الحكم الواقعي ، ويترتب عليه استحقاقه

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٥٤ وبعد بيانه المقدمة المفوتة وان الممتنع بالاختيار لا ينافي الاختيار قال : إلا ان التحقيق ان الممتنع بالاختيار ينافي الاختيار تكليفا وخطابا ولو كان ابتلائياً لعلم الممتنع عليه بامتناعه في حقه فلا يصلح للخطاب اصلا ، وانما لا ينافي الاختيار عقاباً كما ستعرف الوجه في ذلك ، فعلى هذا فالتارك المذكور معاقب ، ولكنه ليس مخاطباً وعقابه انما هو على عقاب تفويته التكليف على نفسه ..

(٢) أجود التقريرات ص ١٥٤ ـ ١٥٥ وفي الطبعة الجديدة ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

العقاب على ترك التعلم عند ادائه إلى مخالفة الواقع ، والفرق بينه وبين سابقه ظاهر.

وقد استدل المحقق الخراساني (١) لوجوبه قبل حصول شرط الوجوب بقوله ، من باب استقلال العقل بتنجيز الاحكام على الانام بمجرد قيام احتمالها الا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف فيستقل بعده بالبراءة انتهى.

وفيه : ان الاحتمال لا يزيد على العلم من حيث المنجزية للحكم ، فكما ان العلم بالتكليف المشروط قبل حصول شرطه موجب للتنجيز عند حصول الشرط مع بقائه على شرائط فعليته وتنجزه عند حصول الشرط فلذا لا عقاب على مخالفته مع عروض الغفلة عند حصول شرطه ، ولا يجب ابقاء الالتفات العلمي والتحفظ على عدم النسيان كذلك الاحتمال انما يوجب التنجيز في وقته مع بقائه على صفة الالتفات إلى حين تنجز التكليف ولا يجب بقاؤه بالتحفظ على عدم الغفلة المانعة عن الفحص عنه.

واما الشيخ الانصاري (ره) (٢) فقد استدل لما اختاره بما دل على وجوب المقدمات التي يترتب على تركها عدم القدرة على الواجب في ظرفه.

وسيأتي الكلام عليه عند بيان المختار.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ٩٩ ـ ١٠٠

(٢) مطارح الأنظار ص ٥٤.

واما المحقق النائيني (ره) (١) فقد استدل لما اختاره بعد الاعتراض على الشيخ الأعظم (ره) بأن التعلم ليس من المقدمات العقلية التي لها دخل في القدرة ، لان الجهل بالحكم لا يوجب سلب القدرة ومن هنا كانت الأحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

بما حاصله ان العقل يستقل بأن لكل من المولى والعبد وظيفة ، فوظيفة المولى إظهار مراداته وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد الوصول إليها ان لم يحدث هناك مانع فوظيفته إرسال الرسل وانزال الكتب وتشريع الاحكام ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد ، وانه على العبد الفحص عن مرادات المولى واحكامه ، وحينئذٍ يستقل العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته ، كما يستقل بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته ، ولو لا استقلال العقل بذلك لانسد طريق وجوب النظر إلى معجزة من يدعي النبوة ، وللزم افحام الانبياء ، إذ لو لم يجب على العبد النظر إلى معجزة مدعي النبوة ، لما كان للنبي ان يحتج على العبد بعدم تصديقه له ، إذ للعبد ان يقول لم اعلم بانك نبي.

وبالجملة كما يستقل العقل بلزوم النظر إلى معجزة من يدعي النبوة ، كذلك يستقل بوجوب تعلم احكام الشريعة ، والمناط في الجميع واحد وهو استقلال العقل بأن ذلك من وظيفة العبد ، ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ كما لا يختص وجوب النظر في معجزة النبي به ، بل يجب ذلك قبل

__________________

(١) فوائد الأصول ج ١ ص ٢٠٥ (والحاصل). أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٧ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٢٩ (هذا في غير التعلم).

البلوغ ان كان مميزا ليكون اول بلوغه مؤمنا مصدقا بالنبوة ، وإلا لزم عدم وجوب الايمان عليه اول البلوغ ، ويجب تعلم الصبي احكام العبادة الواجبة عليه اول البلوغ إذا لم يتمكن منه في وقته لو ترك التعلم قبل البلوغ.

وفي كلامه موقعان للنظر يظهر ببيان ما هو الحق في المقام.

وتفصيله : ان ترك التعلم قبل وقت الواجب أو شرطه يكون على اقسام :

احدها : ما لو تمكن المكلف مع تركه من تعلم الواجب بعد ذلك ، والامتثال العلمي التفصيلي ، كما لو ترك تعلم مسائل الحج قبل زمان وجوبه مع كونه متمكنا من تعلم احكامه تدريجا من الوقت الذي يحرم فيه إلى آخر أعمال الحج ، ومن الضروري انه لاوجه للقول بوجوب التعلم قبل دخول الوقت حينئذ على القول بعدم كون وجوبه نفسيا.

نعم بعد دخول الوقت لا يجوز له تركه مع عدم امكان الامتثال الاجمالي.

ويلحق بالقسم الأول :

ثانيها : وهو ما لو فرض انه لو ترك التعلم قبل الوقت لما تمكن من الامتثال العلمي التفصيلي ، الا انه كان متمكنا من الامتثال العلمي الاجمالي ، كما لو دار امر الواجب بين المتباينين كالقصر والاتمام وكان بحيث لو ترك التعلم قبل الوقت لما تمكن من تمييز الواجب عن غيره بعده ، ولكنه كان متمكنا من الاحتياط ، وكما لو لم يعلم بمقدار النفقة الواجبة عليه على فرض الزواج ولم يتمكن من معرفة ذلك بعده ، ولكنه كان متمكنا من الاحتياط ، بناءً على ما هو الحق من ان الامتثال الاجمالي انما هو في عرض الامتثال العلمي التفصيلي ،

فانه حينئذ لاوجه لوجوب التعلم قبل الزواج.

واما من حيث الامتثال في غير موارد دوران الامر بين المتباينين كما في المورد الثاني.

فقد يقال انه حيث يكون شاكا في التكليف فتجري البراءة عنه وان تمكن من الاحتياط فلا يجب عليه شيء.

لكنه توهم فاسد إذ بعد حصول الشرط بما انه يحتمل التكليف ، ولا محالة يحتمل العقاب على مخالفته ، والعقل مستقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل.

بمعنى انه لو كان واجبا ولم يأت به أو كان حراما ففعل ، وعاقبه المولى ، يكون عقابه في محله فلا بد من الاحتياط.

فإن قيل انه ما المانع من جريان البراءة عن ذلك التكليف المحتمل ، ويرفع احتمال العقاب بها ، فيرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

اجبنا عنه بأن عدم جريان البراءة العقلية انما هو من جهة ان موضوعها عدم البيان ، وحيث ان بيان المولى ، ليس بايصال التكليف إلى العبيد باى نحو امكن ، بل انما هو بجعل القانون ، ووضعه في معرض الوصول ، بحيث لو تفحصوا عنه لوصلوا إليه ، فلا موضوع لها في المورد ، ومن لم يتفحص عنه مع التمكن منه قبل حصول الشرط لا يجري في حقه هذه القاعدة.

فإن شئت فاختبر ذلك من حال الموالى والعبيد العرفية فانه إذا ارسل المولى مكتوبا إلى العبد ، وعين فيه تكاليفه في الشهر القادم ، ووصل المكتوب إلى العبد

ولكنه لم ينظر إليه حتى يعرف وظائفه ، مستندا إلى انه لا تجب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وبعد تحقق الشرط لم يتمكن من المراجعة إليه وتمكن من الاحتياط ، ومع ذلك لم يحتط وترك واجباته ، فهل يتوهم احد بانه ليس للمولى ان يعاقبه على ذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والظاهر ان هذا من الوضوح بمكان ، واما عدم جريان البراءة الشرعية : فلما سيأتي في مبحث البراءة والاشتغال من انها لا تجري في الشبهات قبل الفحص مطلقا.

ثالثها : ان المكلف لو ترك التعلم قبل الوقت فكما لا يتمكن من الامتثال العلمي التفصيلي ، كذلك لا يتمكن من الامتثال الاجمالي بعد الوقت ، ويكون متمكنا من الاتيان بذات الواجب أي الامتثال الاحتمالى ، كما إذا فرض ان الوقت ضيق لا يتمكن المكلف الا باتيان احدى الصلاتين ، الجمعة أو الظهر ، والقصر أو الاتمام ، وفي هذا القسم يجب التعلم لانه يحتمل ترك الواجب في ظرفه لو ترك التعلم قبل حصول الشرط ويكون احتمال ذلك مستندا إلى ترك التعلم فيجب التعلم ، لا للمقدمية ، ولا لما افاده الشيخ الأعظم (ره) ، مما دلَّ على وجوب المقدمة التي لو تركت قبل الوقت لما تمكن من امتثال الواجب في ظرفه كالسير إلى الحج.

بل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل حيث انه لاحتمال ترتب ترك الواجب على ترك التعلم يحتمل العقاب على المخالفة ولا مؤمن منه فيحكم العقل بوجوب الدفع ، وهو لا يمكن الا بالتعلم قبل الوقت.

رابعها : ما لو كان ترك التعلم قبل الوقت موجبا لترك الواجب في ظرفه ، اما للغفلة عن التكليف ، أو لعدم التمكن من امتثاله ، والاول كثيرا ما يتفق في

المعاملات فانه إذا لم يتعلم احكام المعاملات ولم يميز الصحيحة عن الفاسدة فاوقع المعاملة فاسدة في الخارج وتحقق الانتقال في نظره فلا محالة يتصرف فيما يراه منتقلا إليه غافلا عن حرمته ، والثانى كثيرا ما يتفق في العبادات كالصلاة حيث انها مركبة من عدة اجزاء وشرائط ، ومعلوم ان تعلمها يحتاج إلى مدة من الزمن لا سيما لمن لا يحسن اللغة العربية ، وفي هذا القسم يجب التعلم قبل الوقت ، لما افاده الشيخ الأعظم (ره) وهو الملاك الذي لاجله يبنى على وجوب المقدمة ، الموجب تركها فوت الواجب في ظرفه ، الآتي.

وبذلك يظهر ان ايراد المحقق النائيني ، في غير محله.

كما ان ما افاده من ان وجوب التعلم ثابت حتى فيما قبل البلوغ بالتقريب المتقدم.

يرده ما دل على رفع القلم عن الصبي ، فانه يشهد بعدم الوجوب ، ولم يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الطريقي بعدم شمول دليل الرفع له ، سوى ما قيل ، من ان وجوب التعلم عقلي ، وحديث الرفع لا يصلح لرفعه ، وهو مردود بانه بعد ورود التعبد من الشارع بانه لا شيء على الصبى من ناحية مخالفة الاحكام الشرعية لا يحكم العقل بوجوب التعلم.

فإن شئت قلت ، انه يرتفع موضوع الحكم العقلي بتعبد الشارع ، فلا يلزم من ذلك التخصيص في الحكم العقلي ، كي يقال انه ممتنع.

ثم انه قد حكم الشيخ الأعظم (ره) (١) في رسالته العملية بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو فيما يبتلى به عامة المكلفين.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (٢) ، بأن ذلك يبتنى على احد امور.

١ ـ اختيار مذهب المحقق الاردبيلي من كون وجوب التعلم نفسيا موجبا للعقاب.

٢ ـ كون التجري موجبا للفسق وان لم يوجب العقاب.

٣ ـ الفرق بين مسائل الشك والسهو وبين غيرها ، من جهة قضاء العادة باستلزام ترك التعلم فيما يكثر الابتلاء به ، لمخالفة الواقع.

والاول لم يلتزم هو (قدِّس سره) به.

واما الثاني فالالتزام به بعيد.

واما الثالث فالالتزام به ابعد فرض كون الوجوب طريقيا.

ويمكن ان يقال انه على القول بأن العدالة هي الملكة الباعثة للاتيان بالواجبات وترك المحرمات يتم ما افاده الشيخ لكشف التجرى عن عدم وجود الملكة في النفس وان لم يكن الفعل حراما.

__________________

(١) صراط النجاة ص ١٧٥ مسألة رقم ٦٨٢.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨ ـ ١٥٩ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣١ ـ ٢٣٢ (ثم أن الشيخ الأنصاري ...).

وجوب التعلم عند الشك في الابتلاء

هذا كله فيما لو علم المكلف بالابتلاء ، أو اطمأن به.

واما لو شك في ذلك ، فهل يجب التعلم؟ كما هو المشهور بين الاصحاب ، ام لا؟.

قد استدل للاول بما استدل به لوجوب التعلم مع العلم بالابتلاء.

ولكن قد يقال انه يمكن اجراء استصحاب عدم الابتلاء بالاضافة إلى الزمان المستقبل ، لليقين بعدم الابتلاء فعلا ، والشك في الابتلاء فيما بعد ، فيستصحب عدم الابتلاء ، بناءً على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن الاستصحاب انما يجري فيما إذا كان المستصحب اثرا شرعيا ، أو موضوعا ذا اثر شرعي ، والا كما في المقام ، حيث ان الاثر ، وهو استقلال العقل بوجوب التعلم انما هو مترتب على مجرد احتمال الابتلاء ، لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، لا على واقعه ، فلا يجري الاستصحاب.

وبعبارة أخرى ، ان الاثر في كل مورد كان مترتبا على نفس الشك

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨. وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣١ (ولكن لا يخفى ان جريان الاستصحاب).

والاحتمال دون الواقع ، متى شك فيه فالموضوع محرز بالوجدان ، ومعه لا مورد للتعبد بالواقع اصلا فانه لغو ، وما نحن فيه كذلك ، لان الموضوع هو احتمال الابتلاء ، وهو محرز بالوجدان ، واما الابتلاء الواقعي فلا اثر له كي يجري الاستصحاب فيه.

وفيه : ان التعبد بما هو محرز بالوجدان لغو صرف ، ومن اردأ انحاء تحصيل الحاصل ، والتخصيص في الحكم العقلي لا ريب في امتناعه ، اما التعبد بما يوجب رفع موضوع حكم العقل ، فلا محذور فيه.

وبعبارة أخرى ان الحكم العقلي قابل للتخصص والخروج الموضوعي ، وما نحن فيه من هذا القبيل : فإن موضوع حكم العقل هو الضرر المحتمل ، والمطلوب بالاستصحاب ليس هو اثبات وجوب الدفع ، بل المثبت بالاستصحاب عدم العقاب ، والضرر ، وبه يرتفع موضوع وجوب الدفع.

وعلى الجملة كما انه يصح رفع موضوع قبح العقاب بلا بيان باستصحاب الوجوب ، كذلك يصح رفع موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل بالاستصحاب المذكور ولا محذور في ذلك.

ولكن يمكن الاستدلال لوجوب الدفع ، وعدم جريان الأصل المذكور بوجهين.

١ ـ العلم الاجمالي بجملة من الاحكام الشرعية في ظرفها وهذا العلم الاجمالي مانع عن اجراء الأصل المذكور في كل ما هو من اطراف العلم الاجمالي.

٢ ـ اطلاق ما دل على وجوب التعلم : إذ لو اختص ذلك بموارد العلم أو الاطمينان بالابتلاء لم يبق تحت تلك الادلة الا موارد نادرة.

ثم ان الكلام في ان المستفاد من الادلة من الآيات والروايات ، ان وجوب التعلم ، نفسي ، أو طريقي ، أو ارشادى موكول إلى محله وقد استوفينا الكلام في ذلك في مبحث الاشتغال.

بيان حكم المقدمات المفوتة

واما المقام الرابع ، وهو بيان حكم المقدمات الوجودية للواجب التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها قبل مجيء وقت الواجب.

فتنقيح القول فيه يتوقف على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : انه من القواعد المسلمة" ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار" وهذه القاعدة لها موردان.

المورد الأول : ان امتناع الفعل الاختياري لأجل عدم تعلق الإرادة والاختيار به ، لا ينافى الاختيار ، والمخالف في هذا المورد الاشاعرة ، القائلون بالجبر.

بدعوى ان كل فعل من الافعال بما انه ممكن الوجود يحتاج في وجوده إلى العلة ، وهي اما موجودة ، أو معدومة ، فعلى الأول يجب وجوده ، وعلى الثاني يمتنع ، فلا يكون فعل من الافعال اختيارياً.

والجواب عن ذلك ان الفعل الاختياري يستحيل وجوده بلا اختيار وإرادة ، فإذا اعمل الفاعل قدرته في الفعل ففعل ، يكون صدور هذا الفعل عن اختياره ،

ووجوب الفعل بعد الاختيار غير مناف للاختيار بل من لوازمه ، وإذا اعمل قدرته في الترك فترك يمتنع وجود الفعل وهذا الامتناع انما هو امتناع بالاختيار ، وهو لا ينافى الاختيار بل يؤكده ، والامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار في هذا المورد عقابا وخطابا.

المورد الثاني : ان الفعل الاختياري بالواسطة ، امتناعه لأجل اختيار الواسطة ، لا ينافى الاختيار ، كمن القى نفسه من شاهق : فإن السقوط قبل الالقاء مقدور بواسطة القدرة على الالقاء وعدمه ، فامتناعه لأجل اختيار الالقاء لا ينافى الاختيار ، لان هذا الامتناع يكون منتهيا إلى الاختيار ، وهذا انما هو في خصوص العقاب إذ العقلاء لا يذمون المولى إذا عاقب مثل هذا الشخص ويرون هذا العقاب صحيحا ، واما في الخطاب : فالامتناع ينافيه وان كان بالاختيار ، والمخالف في هذا المورد أبو هاشم فانه قائل بأن الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار خطابا أيضا ، ولم يخالف في عدم منافاته للاختيار عقابا ، احد من العقلاء.

المقدمة الثانية : ان القدرة ، تارة لا يكون لها دخل في ملاك الحكم اصلا بل الفعل يتصف بالمصلحة كان المكلف قادرا ام غير قادر ، وفي هذا المورد القدرة شرط عقلي ، واخرى تكون القدرة شرطا ودخيلة في الملاك ، وفي اتصاف الفعل بالمصلحة ، وفي هذا المورد القدرة شرط شرعي كما في باب الوضوء حيث ان القدرة على الماء شرط شرعي كما هو المستفاد من الآية الشريفة ، وعلى الثاني ، تارة تكون القدرة المطلقة ولو قبل حصول الشرط دخيلة في الملاك ، واخرى تكون ، القدرة الخاصة كذلك ، وعلى الثاني ، تارة تكون الخصوصية المعتبرة فيها

هي حصولها في زمان الواجب فقط ، واخرى تكون هي حصولها بعد تحقق شرط الوجوب ولو كان ذلك قبل زمان الواجب ، فهذه شقوق اربعة.

إذا عرفت هاتين المقدمتين :

فاعلم انه في الشق الأول ، وهو ما إذا لم تكن القدرة دخيلة في الملاك والغرض اصلا ، أقوال :

الأول : ما نسب إلى المحقق العراقي (ره) (١) ، وهو انه لا يجب تحصيل تلك المقدمة التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها ، ولا يحكم العقل باستحقاقه العقاب ، لا على ترك المقدمة ، ولا على ترك ذي المقدمة.

بدعوى ، انه لو قصر المكلف قبل زمان الواجب في تحصيل المقدمات التي لو فعلها قبل تحقق وقت الخطاب لتمكن من امتثاله ، وتساهل في تحصيلها حتى حضر وقت التكليف ، وهو عاجز عن امتثاله ، لا يستحق العقاب على ترك شيء منهما ، اما عدم استحقاقه على ترك المقدمة فلعدم تعلق التكليف بها ، لا عقلا لعدم وجود ملاكه فيها ، ولا شرعا لعدم الدليل عليه ، واما عدم استحقاقه على ترك ذي المقدمة ، فلان التكليف غير متوجه إلى العبد ، لعدم القدرة ، فلا يكون العبد مقصرا في امتثال التكليف.

وفيه : ان العقل كما يستقل بأن تفويت الحكم وعدم التعرض لامتثاله مع وجوده موجب لاستحقاق العقاب ، كذلك يستقل بأن تفويت الغرض الملزم ،

__________________

(١) راجع نهاية الأفكار ج ٣ ص ٤٨١ (الجهة الثالثة : في استحقاق التارك للفحص للعقاب وعدمه).

الذي هو قوام الحكم وملاكه ، موجب لاستحقاق العقاب ، وان كان هناك مانع عن جعل الحكم ، ألا ترى انه لو علم العبد بأن المولى عطشان ، ومن شدة العطش لا يقدر على طلب الماء ، وهو قادر على الاتيان به ، لا ريب في استحقاقه العقاب على تركه.

وبالجملة لا ينبغى التوقف في حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم ، وعليه فلو ترك العبد المقدمة وبواسطة ذلك امتنع عليه الاتيان بذى المقدمة في ظرفه يستحق العقاب على تفويت ملاك ذي المقدمة في ظرفه : لما تقدم من ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار عقابا ، فاستحقاق العقاب يكون على ذلك لا على ترك المقدمة ، ولا على مخالفة التكليف فتدبر.

القول الثاني : ما اختاره المحقق النائيني (ره) (١) ، وهو وجوب المقدمة التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها قبل تحقق وقت الخطاب ، بدعوى انه يستكشف الوجوب شرعا من حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم بتركها حفظا للغرض فيكون متمما للجعل الأول ، واوضح ذلك بالقياس على الإرادة التكوينية ، فانه كما لا شك في ان من يعلم بابتلائه في السفر بالعطش لو ترك تحصيل الماء قبل السفر ، تتعلق إرادته التكوينية بايجاد القدرة قبل بلوغه إلى وقت العطش ، فكذلك في الإرادة التشريعية للملازمة بينهما كما مر سابقا.

ويتوجه على ما افاده من استكشاف الوجوب الشرعي من حكم العقل بقبح ترك المقدمة الموجب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه ، ان الحكم

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٥١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٢١.

العقلي الواقع في سلسلة علل الاحكام ، أي ما يكون دركا للمصلحة أو المفسدة الذي هو ملاك الحكم ، يستكشف منه الحكم الشرعي من باب الملازمة ، واما ما يكون واقعا في سلسلة معاليل الاحكام كقبح المعصية ، أو ما يكون نظيره ، والجامع ما لا يكون دركا للمصلحة أو المفسدة ، فلا يستكشف منه الحكم الشرعي ، والمقام من قبيل الثاني لكونه دركا لصحة العقاب على ترك ما فيه الغرض الملزم في ظرفه ، لا دركا للمصلحة وهو بنفسه يصلح لمحركية العبد ، فلا يصلح ان يكون كاشفا عن جعل شرعي مولوى متمم للجعل الأول.

فتحصل ان الاقوى هو القول الثالث ، وهو استحقاق العقاب بترك المقدمة المفوتة وعدم وجوبها الشرعي.

واما الشق الثاني : وهو ما إذا كانت القدرة المطلقة دخيلة في الملاك ، فحاله حال الشق الأول كما هو واضح. واما الشق الثالث : كالاستطاعة التي علق عليها وجوب الحج ، فإن الظاهر ان الاستطاعة في اشهر الحج توجب صيرورة الحج ذا ملاك ملزم ، وان كان ظرف افعاله متاخرا ، والاستطاعة قبلها لا اثر لها فمن يرى معقولية الواجب المعلق يلتزم بوجوب الحج من اول اشهر الحج مع تحقق الاستطاعة ، وعليه فوجوب سائر المقدمات التي يتوقف عليها الحج على القول بوجوب المقدمة ، واضح ، ومن يرى عدم معقولية المعلق ، يلتزم بأن وجوبه مشروط ، وعلى ذلك فالمقدمة التي يترتب على تركها فوت الواجب وعدم القدرة على الحج في ظرفه ، بعد حصول شرط الملاك ، وهو الاستطاعة في اشهر الحج ، حكمها حكم المقدمة المفوتة في الشقين الاولين ، والمقدمة التي يترتب على تركها ذلك قبل حصوله لا

محذور في تركها ، إذ العقل انما يحكم بقبح تفويت الملاك الملزم ، ولا يحكم بقبح ما يوجب عدم تحقق الملاك ، ألا ترى ان الصوم ذو ملاك ملزم بالنسبة إلى الحاضر ، ولا يحكم العقل بقبح المسافرة الموجبة لعدم كون الصوم بالنسبة إلى هذا الشخص ذا ملاك.

وعلى الجملة لا قبح في الفعل أو الترك المانع عن صيرورة فعل خاص ذا ملاك ملزم ، بخلاف ما يوجب فوت الملاك الملزم.

وبما ذكرناه يظهر حكم الشق الرابع ، وهو ما إذا كانت القدرة في زمان الواجب دخيلة في الملاك فانه لا يحكم العقل بالقبح لو ترك المقدمة الموجبة لفوت الواجب في ظرفه اصلا ، فإن ذلك يوجب عدم صيرورة الفعل ذا ملاك ملزم.

فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه عدم وجوب المقدمة التي تركها يوجب عدم القدرة على الواجب في ظرفه مطلقا ومنها التعلم ، وانما يوجب تركها العقاب فيما إذا لم تكن القدرة دخيله في الملاك ، أو كانت القدرة المطلقة دخيلة فيه ، ام كانت القدرة بعد حصول شرط خاص دخيلة وترك المقدمة بعده لا قبله ، ولا يوجب العقاب في غير هذه الموارد.

هذا كله فيما لو علم بافضاء الترك إلى فوت الواجب في ذلك.

واما لو احتمل ذلك فلا دليل على قبح ترك المقدمة وان اوجب فوت الملاك في ظرفه ، وعليه فلو صح ما نسب إلى المشهور من حكمهم بوجوب التعلم قبل الوقت وان احتمل الابتلاء بما لا يعلم حكمه ولم يعلم بذلك ، يكون ذلك من جهة كون وجوب التعلم واجبا نفسيا فتدبر فانه غير خال عن

الاشكال.

فإن قلت : انه بناءً على حكم العقل بقبح ترك المقدمة ، الموجب لترك الواجب في ظرفه ، انه احتمل ذلك فبما انه يحتمل تحقق العصيان في ظرفه بتركه المقدمة ، فلا محالة يحتمل العقاب ، فيحكم العقل بوجوب دفعه باتيانها دفعا للضرر المحتمل ، لعدم جريان البراءة في هذا المورد كما هو واضح ومر أيضا.

قلت : انه بناءً على ما حققناه في محله من جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية يجري في المقام استصحاب عدم فوت الواجب في ظرفه بغير اختيار منه ، فتأمل فإن ذلك يتم على القول بوجوب المقدمة التي يترتب على تركها فوت الواجب في ظرفه كما اختاره المحقق النائيني ، ولا يتم على ما اخترناه من عدم الوجوب ، لعدم الاثر الشرعي.

واما ما اورده المحقق النائيني (١) على هذا الاستصحاب ، بأن جريانه يتوقف على كون الواقع المشكوك فيه اثرا ، أو ذا أثر شرعي حتى يتعبد به في ظرف الشك ، واما إذا لم يكن هناك اثر شرعي ، أو كان الاثر مترتبا على نفس الشك المحرز وجدانا فلا معنى للتعبد به في مورده ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإن وجوب دفع الضرر المحتمل مترتب على نفس الاحتمال وجدانا ، وليس للواقع اثر شرعي يدفع احتماله بالاصل ، فلا يبقى مجال لجريان استصحاب العدم.

فغير تام ، إذ مستند منعه عن الجريان ان كان عدم ترتب اثر على الواقع ،

__________________

(١) كما مر تخريجه عن أجود التقريرات ج ١ ص ١٥٨ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣١.

فيرد عليه ان من لم يفت الملاك الملزم منه في ظرفه على تقدير ترك المقدمة ، لا تجب عليه المقدمة ، ووجوبها مترتب على الفوت في ظرفه ، وان كان ترتب اثر الواقع الذي اريد اثباته بالاستصحاب على نفس الاحتمال.

فيرد عليه انه لو تم فإنما هو فيما إذا كان المترتب على الاستصحاب نفس الحكم المترتب على الاحتمال ولا يتم فيما إذا كان المترتب عليه عدم ذلك الحكم كما هو واضح ، والمقام من قبيل الثاني إذ المترتب على الاستصحاب هو عدم الوجوب.

الواجب المعلق

ومن تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى المعلق ، والمنجز.

واول من قسم الواجب إلى هذين القسمين انما هو صاحب الفصول (١) ، قال انه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا ، وإلى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من اول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك للوجوب وهنا للفعل انتهى.

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٧٩ آخر الصفحة (تمهيد مقال لتوضيح حال)

وهذا التقسيم في نفسه وان كان متينا ، وله وجه وجيه ، إذ القيد الدخيل في الواجب أو الوجوب على اقسام.

١ ـ ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كزوال الشمس بالاضافة إلى صلاة الظهرين.

٢ ـ ما يكون دخيلا في حصول المصلحة مع كونه اختياريا كالطهارة بالاضافة إلى الصلاة.

٣ ـ ما يكون دخيلا في حصول المصلحة مع كونه غير اختياري ، كالايام المخصوصة المجعولة وقتا للحج ، فإن الحج يتصف بالمصلحة من اول زمان الاستطاعة ، أو من اول اشهر الحج أي من اول شوال ، أو من حين خروج الرفقة الا ان حصول المصلحة بفعل الحج متوقف على مجيء وقته.

وفي القسم الأول لا مناص عن جعل الوجوب مشروطا كما تقدم.

وفي القسم الثاني جعله مطلقا وايجاب ايجاد القيد.

وفي القسم الثالث جعل الوجوب حاليا والواجب استقباليا على فرض معقولية المعلق كما ستعرف.

الا ان الذي صار لتقسيم صاحب الفصول ، هو ما رأى في الفقه واجبات يكون ظرفها في ما بعد ، ومع ذلك تجب مقدماتها قبل زمانها ، منها : ان الفقهاء افتوا بلزوم المقدمات الوجودية للحج قبل وقت الحج.

ومنها : افتاؤهم بوجوب غسل الجنابة قبل الفجر ليلة الصيام.

ومنها : غير ذلك من الموارد ، ومن البديهي انه لا يتصور ان تكون المقدمات

واجبة مع عدم وجوب ذويها : إذ وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذي المقدمة ، فكيف يمكن تحققه ، وليست هي من الواجبات النفسية فلم ير بداً عن الالتزام بالواجب المعلق ، ولكن قد عرفت انه يمكن تصوير وجوب المقدمات المزبورة من وجه آخر من دون الالتزام بالواجب المعلق.

والمحقق الخراساني (ره) (١) اشكل عليه بأن وجوب المقدمة فعلا من آثار اطلاق وجوبه وحاليته لا من استقبالية الواجب ، ومراده على ما يصرح به فيما بعد انه يمكن تصوير فعلية وجوب ذي المقدمة كي يترشح منه الوجوب إلى المقدمة من دون ان يلتزم بالواجب المعلق وهو ارجاع القيد إلى الهيئة وكون الواجب مشروطا بنحو الشرط المتأخر ، فيكون الوجوب المشروط به حاليا ، ومنه يسرى الوجوب إلى مقدماته.

وبذلك ظهر انه لا يرد على ما ذكره في المقام بأن هذا ليس اشكالا على صاحب الفصول لانه انما يلتزم بالواجب المعلق لاثبات فعلية الوجوب ، وجه عدم الورود ما عرفت من انه يدعى امكان اثبات فعلية الوجوب مع عدم الالتزام بالمعلق.

ولكن يرد عليه ان الالتزام بوجوب المقدمات بالوجوب المقدمي في الموارد المشار إليها ، يتوقف على الالتزام بالشرط المتأخر ، والواجب المعلق معا ، وعلى فرض عدم معقولية الواجب المعلق لا يمكن اثبات وجوبها بالالتزام بالشرط المتأخر ، كما انه على فرض القول باستحالة الشرط المتأخر لا يمكن اثباته

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٠١ ـ ١٠٢ (ومنها تقسيمه إلى المعلق والمنجز) بتصرف.

بالالتزام بالواجب المعلق.

اما الأول : فلانه إذا كان القيد راجعا إلى الهيئة ، فإن لم يكن الواجب مقيدا به وكان مطلقا لزم كون الواجب حاليا والفعل مما يجب الاتيان به ولو قبل حصول الشرط لو علم بتحققه في ظرفه مثلا لو التزم بكون الامساك الواجب غير مقيد بطلوع الفجر لزم وجوبه من الليل ، وهو خلف الفرض ، وان كان مقيدا به كان الواجب معلقا.

واما الثاني : فلانه لو التزمنا بكون الوجوب فعليا والواجب استقباليا فاما ان يكون الوجوب فعليا حتى مع فرض عدم بقاء المكلف إلى ذلك الزمان ، أو عدم بقائه على وجه يصح توجه التكليف إليه كصيرورته مجنونا أو كون الفعل غير مقدور له ، أو يكون مشروطا ببقائه وبقائه على نحو يصح توجه التكليف إليه ، لا سبيل إلى الالتزام بالاول ، والثانى هو الالتزام بالشرط المتأخر ، ففعلية وجوب المقدمات بالوجوب المقدمي قبل زمان الواجب تتوقف على القول بالواجب المعلق والشرط المتأخر معا ، والالتزام بعدم معقولية الواجب المعلق يوجب عدم معقولية فعلية الوجوب ومجرد القول بالشرط المتأخر لا يصححها.

ما استدل به لعدم معقولية الواجب المعلق

وكيف كان فقد استدل لعدم معقولية الواجب المعلق بوجوه :

الأول : ما عن المحقق السيد محمد الأصفهاني (ره) (١) وحاصله ، ان الإرادة التشريعية ، أي الإرادة المتعلقة بفعل الغير ، وايجابه عليه ، والإرادة التكوينية توأم ولا فرق بينهما الا في ان الأولى متعلقة بفعل الغير ، والثانية متعلقة بفعل الشخص نفسه فيثبت للاولى ، جميع ما للثانية من الآثار والاحكام ، وحينئذٍ فحيث ان الإرادة التكوينية لا تتعلق بالامر المتأخر ، وإلا لزم انفكاك الإرادة عن المراد ، وهو غير معقول ، فكذلك الإرادة التشريعية ، فايجاب الامر الاستقبالي بنحو يكون الوجوب فعليا غير معقول.

وأجاب المحقق الخراساني (٢) عن ذلك بأن الإرادة التكوينية تتعلق بامر متأخر استقبالي ، ولذا ترى ان العقلاء يتحملون المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا كان المقصود بعيدة المسافة وليس ذلك الا لأجل تعلق الإرادة بامر استقبالي.

ومراد القوم من قولهم ان الإرادة هو الشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد ، انما هو بيان مرتبة الشوق التي تكون هي الإرادة وان لم يكن هناك فعلا تحريك لكون ما اشتاق إليه كمال الاشتياق امرا استقباليا.

ويتوجه عليه انه سواء كانت الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد هو الشوق المؤكد كما هو المشهور ، أم كانت هي إعمال النفس قدرتها في الفعل أو الترك

__________________

(١) نسب البعض هذا القول إلى المحقق النهاوندي ، في تشريح الأصول ، الا ان المصنف حفظه المولى نقله عن السيد الاصفهاني سماعا ، كما افادنا عند مراجعته.

(٢) كفاية الأصول ص ١٠٢.

كما هو الحق لا يعقل تعلقها بالامر المتأخر.

اما على الأول : فلان من يقول بأن الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد هو الشوق لا يقول انها مطلق الشوق بل الشوق البالغ حدا يكون علة للفعل وتلك المرتبة منه التي هي الإرادة لا يعقل انفكاكها عنه والا لزام انفكاك المعلول عن جزء علته الأخير وهو محال.

واما على الثاني : فلأن إعمال النفس قدرتها في الفعل انما يكون في ظرف امكان حصول الفعل ، وبديهى ان الامر المتأخر يستحيل صدوره بالفعل فلا تتعلق به إعمال القدرة.

واما ذكره من البرهان على ما افاده من انا نرى بالوجدان انه ربما يتعلق الشوق المؤكد بامر استقبالي ، ولذا يتحمل المشاق في تحصيل مقدماته.

فيرد عليه : أن ذلك الشوق الذي ينبعث منه الشوق إلى مقدماته ، ويصير ذلك سببا لتعلق الإرادة المحركة للعضلات بها ، لا يكون إرادة على المسلكين ، اما على المسلك الحق فواضح ، واما على المسلك الآخر فلان الشوق إلى ذي المقدمة لما لم يكن وصوله إلى حد الباعثية قبل مجيء زمانه فلا محالة لا يكون واصلا إلى مرتبة يكون هو تلك المرتبة المحركة للعضلات.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) (١) حيث انه (قدِّس سره) اختار تعلق الإرادة بالامر المتأخر إذا كان له مقدمات مقدورة ، بدعوى انه يكون حينئذ

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٣٦ ـ ١٣٧ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

مقدوراً ولو بواسطة القدرة على مقدمته فيتحرك نحوه ويوجد مقدماته بنفس التفاته إلى المقدمية ، واما إذا كان مقيدا بقيد اختياري فلا يعقل تعلق الإرادة به ، إذ المقيد بامر غير اختياري بما هو مقيد لا يكون اختياريا ، ولكن قد عرفت انه لا يعقل تعلق الإرادة التكوينية بالامر المتأخر مطلقا وان كان له مقدمات مقدورة.

فالحق في الجواب عن هذا الوجه ان ما ذكر من ترتب جميع احكام الإرادة التكوينية ، على الإرادة التشريعية غير تام ، إذ ايجاب المولى الذي هو المراد من الإرادة التشريعية عبارة عن ابراز الشوق النفساني أو ابراز اعتبار كون الفعل على ذمة المكلف وهو بكلا معنييه يتعلق ، بالامر المتأخر كما لا يخفى.

الوجه الثاني : ان القول بالواجب التعليقي يتوقف على القول بالشرط المتأخر كما عرفت وحيث انه محال فهذا أيضا غير معقول.

وفيه : انه قد مر في مبحث الشرط المتأخر معقوليته ، فالواجب المعلق من هذه الجهة لا محذور فيه.

الثالث : انه يعتبر في صحة التكليف القدرة على متعلقه حال البعث إلى فعلية الوجوب.

وحيث انه في الواجب المعلق يكون المتعلق حين فعلية الوجوب غير مقدور لتوقفه على امر غير مقدور فلا يكون معقولا.

وفيه : ان القدرة المعتبرة هي القدرة في ظرف امتثال الواجب والفرض تحققها ولا يعتبر القدرة قبل ذلك.

الرابع : ان القيد اما لا ربط له بالواجب اصلا فهو خارج عن محل الكلام أو يكون مربوطا به.

وعليه فاما ، ان يكون مفروض الوجود فيلزم تأخر الحكم عنه ويكون الواجب واجبا مشروطا ، أو يكون قيدا للواجب ، وحينئذٍ ، اما ان يكون القيد اختياريا فيكون الواجب منجزا أو يكون غير اختياري فلا يعقل تعلق التكليف به ، لكونه غير مقدور ، ولا بالفعل المقيد به إذ الفعل المقيد بامر غير اختياري غير اختياري.

لا يقال : ان المقيد بامر غير اختياري لا يعقل تعلق الطلب به مطلقا ، واما تعلقه به على فرض وجود القيد بنفسه فلا محذور فيه.

فانه يقال : ان هذا عبارة أخرى عن فرض وجود القيد الذي عرفت ان لازمه تأخر الحكم عنه ويكون الواجب مشروطا ، وعلى ذلك فلا يتصور الواجب المعلق.

وفيه : انه يمكن ان يكون القيد غير الاختياري قيدا للواجب وشرطا ولا يلزم من ذلك محذور ، إذ المحذور المتوهم ترتبه على حسب ما يستفاد من هذا الوجه امران :

احدهما : ان المقيد بامر غير اختياري خارج عن تحت القدرة.

ثانيهما : انه إذا كان نفس وجود القيد مفروض الوجود كان الواجب مشروطا فلا يكون الوجوب فعليا وشيء منهما لا يتم.

اما الأول : فيدفعه مضافا إلى النقض باغلب الواجبات فانها مقيدة بقيود

غير اختيارية مثلا الصلاة المأمور بها هي ما وقعت مستقبل القبلة ، وبديهى ان وجود الكعبة خارج عن تحت الاختيار.

ان قيد الواجب ربما يكون دخيلا فيه تقيدا وقيدا ، وقد يكون دخيلا تقيدا فقط ولا يكون القيد بنفسه دخيلا ، والاول يسمى بالجزء والثانى بالشرط ، وفي القسم الأول يعتبر كون القيد اختياريا ، وفي الثاني لا يعتبر ذلك ، فإن التقيد المعتبر اختياري على فرض وجود القيد غير الاختياري.

واما الثاني : فيدفعه ان القيد الذي يفرض وجوده في التكليف وان كان التكليف مشروطا به ، الا انه ان كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة تكون دخالته فيه بنحو الشرط المقارن ، وان كان دخيلا في استيفاء المصلحة ، تكون دخالته بنحو الشرط المتأخر ، فيكون الوجوب فعليا.

وبما ذكرناه ظهر عدم تمامية الوجه الخامس ، وهو ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) وحاصله : انه لو كان الواجب المعلق معقولا ، فإنما هو في القضايا الخارجية ، واما في القضايا الحقيقية ، فلا يمكن تصويره بوجه ، إذ فعلية الحكم فيها تتوقف على فعلية كل ما اخذ مفروض الوجود في الخطاب.

وعليه : فكل ما فرض وجوده في الخطاب لا محالة يتاخر التكليف عنه رتبة ، ويتوقف فعليته على فعليته وكل ما لم يكن كذلك وكان مأخوذا في الواجب ، فلا بد وان يكون الوجوب بالاضافة إليه مطلقا ، ويكون المكلف مأمورا بايجاده ، فامر التكليف دائر بين الإطلاق والاشتراط لا محالة ، ولا ثالث لهما.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٤١ (والحاصل) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

وجه عدم تماميته ما عرفت من ان القيد غير الاختياري الذي اخذ مفروض الوجود يتصور على نحوين ، إذ تارة يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، وحينئذٍ لا مناص عن الالتزام بتأخر الحكم عنه واخرى لا يكون دخيلا فيه وانما اخذ مفروض الوجود لكونه غير اختياري ، ويكون الملاك تاما قبل وجوده فيمكن فعلية الحكم قبل تحققه لكونه من قبيل الشرط المتأخر.

السادس : ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) (١) ، وحاصله : ان البعث انما يكون مقدمة لحصول فعل الغير إمكانا إذا ترتب عليه الانبعاث وخرج عن حد الامكان إلى الوجوب بتمكين المكلف له وانقياده ، فإذا كان الواجب مقيدا بامر غير اختياري متاخر فلا يعقل الانبعاث فكذلك البعث.

وبعبارة أخرى البعث والانبعاث متلازمان في الامكان ، فإذا لم يكن الثاني معقولا لم يكن الأول معقولا.

وان شئت قلت : ان ايجاب المولى انما يكون جعل ما يمكن ان يكون داعيا فإذا فرض عدم امكان داعويته قبل تحقق القيد لعدم القدرة عليه فلا يعقل الايجاب والبعث.

وقد اورد على نفسه ، بانه لو كان الامر كذلك لما امكن البعث نحو فعل الشيء في وقته مع عدم حصول مقدماته الوجودية إذ لا يمكن الانبعاث نحو ذي المقدمة الا بعد وجود مقدماته والمفروض ان البعث إلى مقدماته لا ينبعث الا عن البعث إلى ذيها.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٥٠ (الواجب المعلق والمنجز).

وأجاب عنه بأن عدم الامكان في الفرض انما يكون بالامتناع بالغير.

وعدم الامكان في محل الكلام انما هو بالامتناع الوقوعي.

ففيما هو محل الكلام يمتنع الانبعاث فيمتنع البعث ، وفى الفرض يمكن الانبعاث لامكان تحصيل مقدماته فيمكن البعث ، وامتناع الانبعاث بالغير لا يمنع عن البعث إذ ملاك امكان البعث وقوعيا امكان الانبعاث كذلك بامكان علته لا بوجود علته.

وفيه : انه لو كانت الملازمة ثابتة فإنما هي بين امكان البعث ، وامكان الانبعاث وعدم امتناعه ولو بالغير.

وبعبارة أخرى : ان امتناع الانبعاث بعدم إرادة الفعل لا ينافى امكان البعث ، واما امتناعه لأجل عدم تحقق مقدماته فهو يلازم عدم امكان البعث على فرض ثبوت الملازمة بينهما.

وان شئت قلت ، ان الانبعاث في مقدار من الزمان الذي يكون بقدر الاتيان بالمقدمات ، يمتنع بالامتناع الوقوعى ، فيمتنع البعث.

اضف إلى ذلك ان حقيقة الامر ، والايجاب على ما عرفت ليست الا ابراز كون المادة ، متعلقة لشوق المولى ، والبعث انما يكون من المفاهيم التي تصدق على الامر بعد وجوده ، ويكون الامر بنفسه مصداقا للبعث لكونه يبعث المأمور نحو الفعل ، وعليه فلا يعتبر في صحته سوى ما يخرج به عن اللغوية ، وكفى في ذلك وجوب مقدماته التي لو تركت لما تمكن المكلف من اتيان الواجب في ظرفه المقرر له ، وعدم الايكال إلى العقل الحاكم بذلك الذي ليس من الواضحات

التي يعرفها كل أحد.

فتحصل ان شيئا مما استدل به على عدم إمكان الواجب المعلق لا يدل عليه ، فالأظهر إمكانه ، وعليه فلا بد من ملاحظة الدليل في كل مورد ، فإن ساعد ظاهر الدليل على القول به أو دل دليل آخر عليه ، يتعين الالتزام به.

وقد يقال بأنه في الواجبات التي لها أجزاء تدريجية الوجود ، لا مناص عن القول بالواجب المعلق كالصوم الذي هو عمل واحد وله وجوب واحد ، وهو إنما يصير فعليا في أول وقت الإمساك ، فالجزء الأخير من الإمساك مطلوب من أول الوقت لفرض وحدة الطلب والمطلوب وهذا عين الالتزام بالواجب التعليقي.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (١) بأنه إذا كان الواجب وشرطه تدريجيين ، فلا محالة يكون الوجوب أيضا كذلك ، لان فعلية الحكم تساوق فعلية موضوعه ويستحيل التقدم والتأخر فالوجوب المتعلق بالجزء الأخير لا يكون فعليا في أول الوقت.

ويوجه عليه : ان ما ذكره على القول بامتناع الواجب المعلق وان كان متينا ، إلا انه بناءً على إمكانه لا سبيل إلى الالتزام بذلك بل يتعين القول بالواجب التعليقي إذ الملاك تام من أول الوقت ولا يكون القيد دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة فلا مناص عن عدم أخذه من قيود الحكم.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٤٦ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢١٤.

ثم انه خصص صاحب الفصول الواجب المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور.

واورد عليه في الكفاية (١) قال ثم لاوجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على امر غير مقدور بل ينبغي تعميمه إلى امر مقدور متأخر اخذ على نحو يكون مورد التكليف ويترشح عليه الوجوب من الواجب أولاً لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب تحصيل المقدمات التي لا يكاد يقدر عليها في زمان الواجب المعلق دون المشروط لثبوت الوجوب الحالي فيه فيترشح منه الوجوب على المقدمة بناءً على الملازمة دونه لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر وفرض وجوده كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب أيضا حاليا وليس الفرق بينه وبين المعلق حينئذ الا كونه مرتبطا بالشرط بخلافه وان ارتبط بالواجب انتهى.

وفيه : انه ان كان القيد راجعا إلى الهيئة وكان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة فالواجب يكون واجبا مشروطا ، وان كان راجعا إلى المادة ودخيلا في حصول المصلحة لا في اتصافه بها ، فإن كان أمرا مقدورا للمكلف وجب الإتيان به ويكون الواجب حينئذ منجزا كالطهارة التي تكون شرطا للصلاة ، وان كان غير مقدور له كان الواجب معلقا.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٠٣.

فتحصل : ان ما أفاده في الفصول (١) من اختصاص الواجب المعلق بما يتوقف حصوله على امر غير مقدور ، حق. ولا يرد عليه ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (٢).

ثم انه قد عرفت ان الذي أوجب تصدي الأصحاب لتقسيم الواجب إلى المعلق والمنجز هو ما ثبت من الشرع من وجوب بعض المقدمات قبل وقت الواجب الظاهر كونه قيدا للوجوب ، مثل الغسل في صوم شهر رمضان ، ومثل تحصيل الزاد والراحلة بعد الاستطاعة قبل مجيء موسم الحج وما شاكل.

والمحقق الخراساني أفاد انه يمكن التفصي عن هذه العويصة بغير التعلق بالتعليق.

مراده انه يمكن إثبات فعلية الوجوب بنحو آخر ، وهو إرجاع القيد إلى الهيئة بنحو الشرط المتأخر فيكون الوجوب فعليا فتحب مقدماته ، ولا يلزم الالتزام بالواجب التعليقي.

ولكن قد عرفت ان الالتزام بالشرط المتأخر في المقام وحده من دون الالتزام بالواجب المعلق لا يكفي : فانه لو لم يرجع القيد إلى المادة كان الواجب فعليا منجزا كالوجوب.

وقد أورد على صاحب الفصول والشيخ بإيرادين آخرين غير ما مر

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٨٠ (تمهيد مقال لتوضيح حال) قوله وما حققناه يتبين لك الفرق ... الخ.

(٢) كما يظهر من كلامه في كفاية الأصول ص ١٠٣ عند قوله ثم لاوجه لتخصيص المعلق.

ذكرهما المحقق الخراساني (ره) (١) في الكفاية بقوله : ان قلت : لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماتها ولو موسعا وليس كذلك بحيث يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر انتهى.

وهذا ينحل إلى إيرادين.

أحدهما : ان لازم كشف سبق وجوب ذي المقدمة من وجوب إحدى مقدماته لزوم الإتيان بجميع مقدماته بحيث لو فرض عدم التمكن من إحداها في الوقت وجبت المبادرة إليها وليس كذلك.

ثانيهما : انه يجوز الإتيان بجميع المقدمات قبل الوقت بداعي الوجوب لأنها تجب موسعا.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (٢) بقوله : قلت : لا محيص عنه الا إذا اخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة وهي القدرة عليه بعد مجيء زمانه لا القدرة عليه في زمانه من زمان وجوبه انتهى.

محصل ما ذكره (قدِّس سره) انه إذا ورد دليل على وجوب مقدمة من المقدمات قبل الوقت ، وورد أيضا انه من لم يتمكن من المقدمة الأخرى في الوقت لا يجب عليه المقدمة قبل الوقت وان قدر عليها كما إذا دل الدليل على وجوب حفظ

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٠٥ (ان قلت لو كان وجوب المقدمة ..)

(٢) كفاية الأصول ١٠٥.

الماء قبل الوقت (١) ، وحرمة إراقته لمن يعلم بعدم وجدان الماء في الوقت وورد أيضا ، ان من يعلم بعدم التمكن من الوضوء في الوقت لمرض ونحوه لو لم يتوضأ قبله لا يجب الوضوء قبل الوقت ، لما كان بينهما تنافي ، فانه وان كان يستكشف من الدليل الأول ، وجوب ذي المقدمة قبل الوقت ، ولكن من الدليل الثاني يستكشف ان الصلاة مع الوضوء إنما تتصف بالمصلحة إذا تمكن منه في الوقت ويكون القدرة عليه في وقت العمل شرطا شرعيا فإذا لم يتمكن منه في الوقت لا مصلحة للصلاة معه ، فلا يجب حفظ القدرة عليه من قبل الوقت إذ فعل ما يوجب اتصاف شيء بالمصلحة غير لازم كما هو واضح وهذا لا ينافي كشف وجوب ذي المقدمة قبل الوقت وبتبعه وجوب سائر مقدماته.

ولكن هذا الجواب إنما يفيد في رفع الإشكال الأول ، ولا يفيد في رفع الثاني ، وما ذكره بعضهم من انه يمكن ان يكون الوضوء الذي مقدمة للصلاة إنما هو الوضوء في الوقت لا قبله ، غير مفيد فإن لازم ذلك انه لو توضأ قبل الوقت لداعي آخر ، لا يجوز له الدخول في الصلاة.

ولا يخفى ان كل ذلك مجرد فرض لا واقع له.

__________________

(١) قال المحقق النائيني في وجوب حفظ الماء قبل الوقت ، انه حكى شيخنا الأستاذ بأنه وردت رواية في ذلك ولم اعثر عليها ، كما في فوائد الأصول ص ٢٠٠ / ولم اعثر في الكتب الروائية لا سيما الفقهية منها على ذلك.

تردد امر القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة

ولو دار امر القيد ثبوتا بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة ، فعن الشيخ استظهار رجوعه إلى المادة ، ولكنه غير خفي ان هذا البحث يصح بناءً على إمكان رجوع القيد إلى الهيئة ، وإلى رجوعه إلى المادة.

فمن يرى عدم إمكان رجوعه إلى الهيئة كالشيخ الأعظم (ره) (١) لاوجه له لانعقاد هذا البحث ، فمن ذلك يعلم ان عنوان هذا البحث من الشيخ (قدِّس سره) إنما يكون تنزيليا.

ثم ان الشك تارة يكون في كيفية رجوع القيد إلى الهيئة مع العلم بأنه راجع إليها ، وانه على نحو الشرط المقارن كي لا يجب الا بعد تحقق القيد ، أو بنحو الشرط المتأخر كي يجب قبله ، ففي هذه الصورة حيث يعلم بالوجوب بعد تحقق القيد ويشك في وجوبه قبله فتجري البراءة عنه.

وان علم رجوعه إلى المادة ، فقد تقدم انه لا يتصور الشك في وجوب القيد وعدمه إذ لو كان اختياريا كان واجبا لا محالة ، ولو كان غير اختياري لما وجب.

وأما لو شك في انه راجع إلى المادة فيجب تحصيله ، أو انه راجع إلى الهيئة فلا يجب ، وعلى الثاني فهل هو من قبيل الشرط المتأخر فذو المقدمة واجب قبل وجود المقدمة ، أو انه من قبيل الشرط المقارن فلا يجب قبله ، فالشك في هذه

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٤٨ ـ ٤٩ (هداية).

الصورة شكّين : الأول ، في وجوب المقدمة. الثاني ، في وجوب ذي المقدمة قبل وجود القيد ، ومقتضى أصالة البراءة عدم وجوبهما ، هذا ما تقتضيه الأصول العملية.

واما بحسب الأدلة الاجتهادية ، فقد ذكر الشيخ الأعظم (ره) (١) لترجيح رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة وجهين :

الوجه الأول : ان إطلاق الهيئة شمولي ، بمعنى ان مفاده ثبوت الوجوب على كل تقدير يمكن ان يتوجه معه الخطاب إلى المكلف ، بخلاف إطلاق المادة فانه بدلي بمعنى ان المطلوب فرد واحد من أفراد الطبيعة أي فرد كان لا كل فرد ، وإذا دار الأمر بينهما فالإطلاق البدلي أولى برفع اليد عنه وإبقاء الإطلاق الشمولي على حاله لكونه أقوى في العموم واظهر ، وعليه بنى تقديم الإطلاق الشمولي في مثل لا تكرم فاسقا على الإطلاق البدلي في مثل اكرم عالما في باب التعارض.

واورد عليه المحقق الخراساني في الكفاية (٢) ، أيضا إذا كان الدوران بين رفع اليد عما يكون شموله بالوضع أو رفع اليد عما يكون شموله بالإطلاق ومقدمات الحكمة يكون المتعين رفع اليد عن الثاني ، واما إذا كان الدوران بين رفع اليد عن أحد الاطلاقين فلا يمكن تقديم أحدهما على الآخر بمجرد كونه شموليا والآخر بدلياً.

__________________

(١) مطارح الانظار ص ٤٩.

(٢) كفاية الأصول ١٠٦ بتصرف.

والمحقق النائيني (ره) رجح ما اختاره الشيخ من تقديم الإطلاق الحالي على الإطلاق البدلي ووجهه بنحو لا يرد عليه هذا الإيراد.

وحاصله (١) ان الإطلاق الحالي لا يحتاج في شمول الحكم لجميع الأفراد إلى أزيد من الإطلاق ومقدمات الحكمة.

واما الإطلاق البدلي فهو يحتاج زائدا على ذلك إلى إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض حتى يحكم العقل بالتخيير ، والسر في ذلك انه في الإطلاق الحالي الحكم ينحل إلى أحكام عديدة ، وكل فرد محكوم بحكم واحد ، والإطلاق البدلي إمكانه يثبت حكما واحدا لفرد من الأفراد على البدل. وبعبارة أخرى لصرف وجود الطبيعة وتطبيق ذلك على كل فرد يتوقف على إحراز تساوى الأفراد في الوفاء بالغرض والا فالعقل لا يحكم بالتخيير ، وعليه فحيث ان شمول الإطلاق الحالي للمجمع تنجيزي غير متوقف على شيء وشمول الإطلاق البدلي له يتوقف على إحراز التساوي المتوقف على عدم شمول الإطلاق الحالي له فلا محالة لا يكون البدلي شاملا له ويكون المجمع مشمولا للإطلاق الحالي ، فانه يصلح ان يكون موجبا لعدم إحراز التساوي بل لإحراز عدمه.

وان شئت قلت ان رفع اليد عن الحالي اما ان يكون بلا وجه أو على وجه دائر بخلاف رفع اليد عن الإطلاق البدلي.

ويرد عليه أن المقدمة التي عليها بنى هذا الوجه وهو احتياج الإطلاق البدلي إلى إحراز تساوى الأفراد في الوفاء بالغرض غير تامة.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ١٦٢ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٣٦.

وذلك لوجهين :

الأول : انه لو تم ذلك لزم أن يكون قدر المتيقن مانعا عن التمسك بالإطلاق إذ مع وجوده لا يكون التساوي محرزا ، ومعه لاوجه للتمسك بالإطلاق ، فلو ورد اكرم عالما واحتمل الاختصاص بالهاشمي لزم الاقتصار عليه ، وعدم الاكتفاء بإكرام غير الهاشمي وهو كما ترى.

الثاني : ان إحراز التساوي إمكانه يكون من الإطلاق نفسه ، وذلك لان الحكم إذا ترتب على الطبيعة ولم يؤخذ فيه قيد من القيود لا وجودا ولا عدما يستكشف منه عدم دخل قيد في الغرض وعدم مضريته باستيفائه ، فالاكتفاء بإتيان كل فرد في الامتثال يكون مستفادا من الإطلاق ومقدمات الحكمة بلا حاجة إلى ضم شيء آخر إليها.

ولكن مع ذلك كله ما أفاده الشيخ الأعظم من تقدم الإطلاق الحالي على الإطلاق البدلي ، قوى : إذ الإطلاق الحالي الدال على ثبوت ما تضمنه من الحكم وملاكه في كل فرد من الأفراد ، يصلح ان يكون مانعا عن قابلية المجمع امتثالا للحكم الذي تضمنه دليل الإطلاق البدلي بخلاف العكس.

ـ وان شئت قلت ـ ان الجمع بين الدليلين إمكانه يقتضي الالتزام بتقييد الإطلاق البدلي إذ به يمتثل كلا التكليفين بخلاف العكس ، فانه يستلزم طرح أحد الحكمين وبعبارة ثالثة مناط الحكم الذي تضمنه دليل الإطلاق البدلي تخييري ومناط الآخر تعييني والأول لا يزاحم الثاني.

هذا كله بحسب الكبرى ، ولكن لا تنطبق هذه الكبرى على المقام فإن هذا المرجح كسائر المرجحات إنما يكون فيما إذا كان التعارض والتنافي بين الدليلين

ذاتياً واما إذا كان التنافي بينهما لأمر خارجي كالعلم الإجمالي بكذب أحدهما فلا وجه للرجوع إلى شيء من المرجحات ، ولا معنى لاقوائية أحدهما عن الآخر ، إذ نسبة العلم الإجمالي اليهما على حد سواء وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله والمقام من هذا القبيل فإن التنافي بينهما إمكانه عرض للعلم الإجمالي بعروض التقييد على أحدهما.

الوجه الثاني : من الوجهين الذين استند اليهما الشيخ الأعظم (ره) (١) في ترجيح رجوع القيد إلى المادة : ان تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة إذ لو رجع إليها لم يكن الفعل مطلوبا قبل حصول القيد ، وهذا بخلاف العكس ، فانه لو رجع إلى المادة لا يوجب بطلان محل الإطلاق في الهيئة : إذ يمكن الحكم بالوجوب قبل تحقق القيد وكلما دار الأمر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان محل الإطلاق في الآخر متعينا : إذ لا فرق في مخالفة الأصل بين تقييد المطلق وعمل يشترك معه في النتيجة وهو بطلان محل الإطلاق.

وأجاب المحقق الخراساني (٢) عنه بأن ذلك إمكانه يتم في القيد الثابت بدليل منفصل ، ولا يتم في ما إذا كان التقييد بمتصل إذ معه لا ينعقد هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

ولكن الحق عدم تماميته في التقييد بالمنفصل إيرادين : فإن القيد إذا رجع

__________________

(١) مطارح الانظار ص ٤٩.

(٢) كفاية الأصول ص ١٠٧ (واما في الثاني).

إلى الهيئة يكون القيد دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وغير واقع في حيز الطلب ، وان رجع إلى المادة يكون دخيلا في حصول المصلحة وواقعا في حيز الطلب ان كان اختياريا ، ولا متيقن في البين ، بل هو من موارد دوران الأمر بين المتباينين ولا أولوية لأحدهما على الآخر ـ نعم ـ يتم فيما إذا كان القيد غير اختياري ودار الأمر بين رجوعه إلى الهيئة على نحو الشرط المقارن وبين رجوعه إلى المادة.

وقد ذكر المحقق النائيني (ره) (١) لترجيح رجوع القيد إلى المادة وجهين آخرين :

أحدهما : انه بناءً على انه في الواجب المشروط القيد راجع إلى المادة المنتسبة لا إلى الهيئة ، يكون الفرق بين المشروط والمعلق انه في الواجب المعلق تقيد المادة ثم يرد عليها الطلب ، وفي الواجب المشروط القيد يرجع إليها في حال الانتساب لا مطلقا ، وعليه ، ففي المقام نقول ان رجوع القيد إلى المادة متيقن وتقيده بحال الانتساب يحتاج إلى بيان اكثر من ذكر نفس القيد فالشك فيه يدفع بالأصل.

ثانيهما : ان القيد إذا كان راجعا إلى المادة بعد الانتساب لا بد وان يؤخذ مفروض الوجود ، وحيث ان أخذه كذلك يحتاج إلى بيان اكثر من ذكر القيد فيدفع احتماله بإطلاق القيد والفرق بين الوجهين انه يدفع احتمال رجوع القيد إلى مفاد الهيئة في الأول بإطلاق المادة المنتسبة وفي الثاني بإطلاق نفس القيد.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٠ ـ ٢٤١.

وأقول يرد على ما أفاده أمران :

الأول : ما تقدم من ان القيد في الواجب المشروط يرجع إلى الهيئة لا إلى المادة المنتسبة فراجع.

الثاني : انه لو سلم ذلك :

يدفع الوجه الأول : بأن المتيقن في المقام هو رجوع القيد إلى ذات المادة الملاءمة مع الواجب المشروط والمطلق ولكن في الواجب المطلق لا يكفي مجرد ذلك ، بل لا بد وان يرجع القيد إليها قبل الانتساب وهذا ليس متيقنا.

وبعبارة أخرى : الواجب المطلق كالواجب المشروط يحتاج إلى بيان اكثر من ذكر القيد ، وهو رجوعه إلى المادة قبل الانتساب ، فلا يكون هو متيقنا ، لو دار الأمر بين رجوعه إليها قبل الانتساب أو بعده ، فيكون الدوران بين المتباينين.

ويدفع الوجه الثاني : انه كما يحتاج الواجب المشروط ، إلى لحاظ القيد مفروض الوجود وأخذه كذلك ، ، كذلك يحتاج الواجب المطلق إلى أخذه في حيز الخطاب فليس أحدهما متيقنا.

فتحصل انه لا ظهور يتمسك به في مقام الشك وعند دوران الأمر بين رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية وقد عرفت ما يقتضيه الأصل.

الواجب النفسي والغيري

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى النفسي والغيري.

وتنقيح القول بالبحث في موضعين :

الأول : في تعريف النفسي والغيري.

الثاني : في انه إذا دار الأمر بين كون واجب كغسل الجنابة نفسيا أو غيريا ولم يحرز شيء منهما فهل القواعد والأصول تقتضي البناء على الأول أو الثاني.

وقبل الدخول في البحث لا بد وان يعلم انه تظهر ثمرة هذا البحث فيما إذا علم وجوب شيء كغسل الجنابة ولم يعلم ان وجوبه نفسي فيجب مطلقا ، أو غيري للصلاة وغيرها ، فلا يجب ما لم يجب ما يحتمل كونه واجبا لاجله فإذا لم تجب الصلاة لمانع من حيض أو غيره لا يجب.

وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذا البحث.

اما الموضع الأول : فقد ذكروا في تعريف النفسي والغيري أمران :

أحدهما : ما عن التقريرات نسبته إلى القوم وهو ان الواجب النفسي هو ما امر به لنفسه ويكون واجبا لا لأجل واجب آخر ، والغيري ما امر به لغيره ويكون وجوبه لغيره (١).

واورد عليه أيضا على هذا يكون جل الواجبات واجبات غيرية (٢) فإنها إمكانه وجبت لما فيها من المصالح.

__________________

(١) راجع مطارح الانظار ص ٦٦ من قوله (فاعلم انه قد فسر في غير واحد منهم الواجب النفسي بما امر به لنفسه ... الخ).

(٢) الظاهر ان هذا الايراد للمحقق الآخوند في الكفاية ص ١٠٨ (فالأولى ان يقال).

وبعبارة أخرى ان هذا التعريف غير جامع لعدم شموله لغير المعرفة.

وغير مانع لان غير المعرفة من الواجبات النفسية قد امر بها لأجل ترتب مصالح عليها.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم بأن تلك المصالح وان كانت محبوبة لزوما الا أنها لخروجها عن تحت قدرة المكلف لما كان يتعلق بها الإيجاب.

ورد المحقق الخراساني (ره) (١) هذا الجواب بأن تلك الغايات وان كانت غير مقدورة بلا واسطة الا أنها مع الواسطة مقدورة لدخول أسبابها تحت القدرة وبديهي ان القدرة على السبب قدرة على المسبب وإلا لم يصح وقوع مثل التطهير والتزويج إلى غير ذلك من المسببات مورد الحكم من الأحكام الشرعية.

ووجه المحقق النائيني (ره) (٢) جواب الشيخ بما حاصله ان الغايات المترتبة على أفعال المكلفين على ثلاثة أصناف.

١ ـ ما يترتب على الفعل الخارجي من دون توسط امر اختياري أو غير اختياري كالزوجية المترتبة على العقد.

٢ ـ ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط امر اختياري خاصة كالصعود على السطح الذي يكون واسطة بين نصب السلم والكون على السطح.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٠٨ (قلت : بل هي داخلة تحت القدرة).

(٢) نقل هذا التوجيه عن المحقق النائيني تلميذه المحقق السيد الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ج ٢ ص ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، وأيضا تجده في أجود التقريرات بعبارات أخرى ، المصدر الآتي.

٣ ـ ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط امر خارج عن اختيار الإنسان ، فتكون نسبة الفعل إليه نسبة المعد إلى المعد له لا نسبة السبب إلى المسبب.

كحصول الثمر من الزرع المتوقف ترتبه على الأفعال الاختيارية من زرع الحب في الأرض وسقيها وما شاكل ، على مقدمات أخر خارجة عن تحت الاختيار.

وتعلق التكليف بالغايات إمكانه يصح في الصنفين الأولين.

ولا يتم في الثالث لخروجه عن تحت الاختيار ، وما نحن فيه من هذا القبيل لان نسبة الأفعال الواجبة إلى المصالح المترتبة عليها نسبة المعد إلى المعد له حيث يتوسط بينهما أمور خارجة عن اختيار المكلف فجواب الشيخ تام.

واورد عليه سيدنا الأستاذ (قدِّس سره) (١) بأن ما أفاده وان تم بالقياس إلى الغرض الأقصى والغاية القصوى الا انه لا يتم بالإضافة إلى الغرض القريب وهو حيثية الإعداد للوصول إلى الغرض الأقصى حيث انه لا يتخلف عنها ، فيكون ترتبه عليها من ترتب المعلول على علته التامة.

وفيه : ان المطلوب بالأصالة هو الغرض الأقصى وهو الموجب لجعل الوجوب على الأفعال ، وحيث ان ترتبه على الواجب ترتب المعلول على علته المعدة ، فلا محالة لا يصح تعلق التكليف به لخروجها عن تحت القدرة.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٦٧ حاشية رقم ١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٣ حاشية رقم ٢ بتصرف.

ويمكن توجيه ما أفاده الشيخ (ره) بوجه آخر غير ما أفاده المحقق النائيني (ره) الذي عرفت انه متين ، وهو انه يعتبر في تعلق التكليف بشيء زائدا على القدرة على متعلقه ، ان يكون أمرا عرفيا وقابلا لان يقع في حيز التكليف بحسب أنظار العرف.

وتلك المصالح والأغراض ليست مما يفهمه العرف العام كي خارجة عن أذهان عامة الناس ومجهولة.

فالمتحصل تمامية تعريف الواجب النفسي أيضا واجب لا لواجب آخر وان كان وجوبه لشيء آخر ، والواجب الغيري ما وجب لواجب آخر ، وان شئت فقل ان المولى إذا لاحظ الفعل ورأى انه يترتب عليه مصلحة واوجبه حفظا لها فهو الواجب النفسي ، وان رأى ان الواجب الآخر يتوقف عليه وإلا فلا مصلحة فيه نفسه فهو الواجب الغيري. فالواجب النفسي ما وجب حفظا للمصلحة ، والغيري ما وجب لواجب آخر وإرادة أخرى. وان جواب الشيخ تام.

وأجاب السيد المرتضى (١) عن الإيراد بجواب آخر.

وهو ان المسبب التوليدي وسببه ليسا فعلين صادرين عن المكلف بل هما يتحققان

__________________

(١) راجع الذريعة ج ١ ص ٨٣ ـ ٨٥ (فصل في هل الأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به) عند قوله : ومما يوضح ذلك أن الأمر في الشريعة قد ورد على طريق ، وما أورد المصنف هنا هو الضرب الثاني بتصرف.

بفعل واحد وحركة واحدة مثلا ، الإحراق والإلقاء في النار موجودان بفعل واحد وحركة فاردة فلا يعقل تعلق تكليفين بهما ، بل التكليف المتعلق بهما واحد والذي يتعلق بأحدهما عين ما يتعلق بالآخر وعليه فالأمر وان تعلق بالمصلحة الا انه عين تعلقه بالفعل فلا يصح ان يقال ان الفعل إنما وجب لواجب آخر وهذا بخلاف الواجب الغيري.

ويرد عليه ما تقدم من ان نسبة الأفعال إلى المصالح ليست نسبة الأسباب إلى المسببات بل نسبة المعد إلى المعد له.

مع انه قد عرفت ان المصالح من جهة أخرى لا تكون قابلة لتعلق التكليف بها.

الأمر الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) ، وهو ان الواجب النفسي ما كان وجوبه لأجل حسنه في حد ذاته سواء أكان مع ذلك مقدمة لواجب آخر أم لم يكن والواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل غيره سواء أكان في نفسه أيضا حسنا كالطهارات الثلاث أم لم يكن.

ثم قال ولعله مراد من فسرهما بما امر به لنفسه وما امر به لأجل غيره.

وبعبارة أخرى ان ، ملاك الواجب النفسي حسن ذي الأثر من جهة انطباق عنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله بل وذم تاركه سواء كان مقدمة لواجب آخر أم لا ، وملاك الواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل حسن غيره وان كان في نفسه أيضا حسنا كالطهارات الثلاث.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٠٨ بتصرف.

ويرد عليه أولاً : ان العنوان الحسن المنطبق ان كان ناشئا عن ترتب المصلحة عليه ، فالإشكال باق بحاله ، فإن هذا العنوان يكون منطبقا على الواجب الغيري أيضا ، وان كان ثابتا في حد ذاته فيلزم ان لا يكون شيء من الواجبات النفسية متمحضا في النفسية لاشتمالها بأجمعها على ملاكين نظير صلاة الظهر الواجبة لنفسها ولكونها مقدمة لصلاة العصر وأفعال الحج فإن المتقدم منها واجب لنفسه ومقدمة لغيره.

وثانياً : ان دعوى الحسن الذاتي في جميع الواجبات دعوى جزافية لا دليل عليها من الشرع ولا من العقل.

بل الدليل إنما دل على عدمه فإن الدليل الشرعي متضمن لبيان علل الشرائع وهي المصالح المترتبة على الواجبات.

وقد يتوهم ان في المقام قسما آخر من الواجب لا يكون نفسيا ولا غيريا ـ وذلك ـ كالمقدمات المفوتة مثل غسل الجنب ليلا لصوم غد.

اما عدم كونه واجبا غيريا فلان وجوب الواجب الغيري معلول لوجوب واجب نفسي ومترشح منه فلا يعقل وجوبه قبل ايجابه.

واما عدم كونه واجبا نفسيا فلان الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب والمفروض ان ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه.

ولكن يرده مضافا إلى ما سيأتي من استحقاق العقاب على ترك الواجب الغيري ان وجوب تلك المقدمات إنما هو تحفظا لواجب آخر وعرفت ان هذا هو الملاك لكون الواجب واجبا غيريا.

لو دار الأمر بين كون الواجب نفسيا أو غيريا

واما الموضع الثاني : وهو ما لو شك في واجب انه نفسي أو غيري فهل الأصل اللفظي أو العملي يقتضي أحدهما خاصة ، فيحمل الأمر عليه حتى يثبت الآخر. أم لا؟.

والبحث فيه يقع في مقامين :

الأول : في الأصل اللفظي.

الثاني : في الأصل العملي.

اما المقام الأول : فيمكن التمسك بإطلاق دليل ذلك الواجب الذي يحتمل ان يكون هذا واجبا لاجله كدليل الصلاة أو نحوها ، لدفع احتمال كون هذا المشكوك فيه المردد بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا قيدا له.

ولازم ذلك كونه واجبا نفسيا.

بيان ذلك : انه إذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على تقييد الواجب كالصلاة بقيد ، فيتمسك بإطلاق دليل الصلاة لإثبات عدم تقييدها به ، ولازم ذلك هو عدم كون ما شك في قيديته واجبا غيريا ، وقد ثبت في محله ان الأصول اللفظية تثبت لوازمها.

والمشهور هو التمسك بإطلاق دليل وجوب ما علم وجوبه وتردد أمره بين كونه واجبا غيريا ، أو نفسيا كإطلاق ما تضمن الأمر بغسل الجنابة ، ويثبت به وجوبه النفسي.

توضيح ذلك ان الواجب النفسي وان كان في عالم الثبوت كالواجب الغيري مقيدا بقيد حيث انه الواجب لما يترتب عليه من المصلحة وليس هو الواجب المطلق غير المقيد ، الا انه في مقام الإثبات ، بما ان الواجب النفسي لا يحتاج إلى التنبيه على قيده ، بخلاف الواجب الغيري ، فلو كان غسل الجنابة واجبا نفسيا لما احتاج إلى أزيد من الأمر به ، بخلاف ما إذا كان واجبا غيريا فانه يحتاج إلى التنبيه على ان وجوبه مقيد بما إذا وجب ذلك الغير ، فمقتضى الإطلاق ومقدمات الحكمة البناء على انه واجب نفسي.

واورد عليه ، تارة بأن مفاد الهيئة معنى حرفي وهو جزئي غير قابل للإطلاق والتقييد ، فلا يصح التمسك بإطلاقها (١).

وأخرى بأنه لا ريب في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الهيئة ، ومن المعلوم ان الشيء لا يتصف بالمطلوبية الا بواسطة تعلق واقع الطلب وحقيقة الإرادة به لا بتعلق مفهومه به.

فيستكشف من ذلك ان مفاد الهيئة فرد ، وهو لا يقبل التقييد ، وكلا الايرادين منسوبين إلى الشيخ الأعظم (ره) (٢).

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ص ٤٨ ـ قوله : فعلى ما ذكرنا سابقا لاوجه للقول بتقيد الهيئة إذا لا يتصور في مفاد الهيئة إطلاق ـ

(٢) كما هو الظاهر من مطارح الأنظار ص ٦٧ قوله : «ولا حاجة إلى إقامة دليل على ذلك بعد شهادة الوجدان بأن المستفاد من الأمر خصوص أفراد الطلب من غير فرق بين اختلاف الدواعي التي تعتور باعتوارها النفسية والغيريَّة فلا وجه للاستناد إلى إطلاق

ولكن يندفع الإيراد الأول بما تقدم في الواجب المشروط ، وفي المعنى الحرفي من ان مفاد الهيئة ليس جزئيا ، مع : انه أمكن للشيخ إنكار الواجب المشروط لهذه الشبهة ، ولكنه لا ينكر الواجب الغيري فلا محالة يلتزم برجوع القيد إلى نتيجة الجملة وهو وجوب ذلك الشيء المستفاد من الدليل ، وعليه فيتمسك بإطلاقها لنفيه.

واما الإيراد الثاني : فقد أجاب عنه المحقق الخراساني (ره) (١) بقوله ففيه ان مفاد الهيئة كما مرت الإشارة إليه ليس الأفراد بل هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي والذي يكون بالجمل الشائع طلبا وإلا لما صح إنشاؤه بها ضرورة انه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو السبب لانشائه كما يكون غيره أحيانا واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والإرادة الحقيقية الداعية إلى إيقاع طلبه وإنشاء إرادته بعثا

__________________

الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها الأفراد التي لا يعقل فيها التقييد ، نعم لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صح القول بالإطلاق لكنه بمراحل عن الواقع إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الأمر ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها وذلك أمر ظاهر لا يكاد يعتريه ريب نعم يصح التمسك بالإطلاق من جهة المادة.

(١) كفاية الأصول ص ١٠٩.

نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مراده الواقعي لا ينافى اتصافه بالطلب الإنشائي أيضا والوجود الإنشائي لكل شيء ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظ كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن بل كان إنشائه بسبب آخر انتهى.

وحاصل ما يفيده ان اتصاف الفعل بالمطلوبية الحقيقية ليس بواسطة دلالة الصيغة على الطلب الحقيقي فحسب.

بل الفعل يتصف بالمطلوبية الإنشائية بحسب مدلول الصيغة ، وإنما يتصف بالمطلوبية الحقيقية نظرا إلى انه إذا لم يكن قرينة على كون الداعي إلى الإنشاء هو غير الطلب ، يكون بناء العقلاء على البناء على انه الداعي ، ولذا لو كانت قرينة كذلك لا يتصف الفعل إلا باعتبار الطلب المفهومي.

وإذا أحرزت الطلب الحقيقي من غير إنشائها اتصف باعتباره دون المفهومي.

أقول : ما يمكن ان يقال في مفاد الهيئة ومفهوم الطلب ومصداقه تقدم مفصلا ولا نعيد ، والذي نزيد في المقام ان التمسك بالإطلاق في المقام لا يبتنى على كون مفاد الهيئة فردا أم كليا حتى ينازع في ذلك : فانه على كلا المسلكين لا سبيل إلى التمسك بالإطلاق الافرادي ، اما على الأول فواضح ، واما على الثاني فلأنه لا يحتمل ان يكون المفاد متعددا إذ المنشأ فرد من الوجوب لا أزيد ، كما انه على المسلكين يصح التمسك بالإطلاق الاحوالي للفرد كما هو واضح.

وتوهم ان مفاد الهيئة لكونه معنى حرفيا مغفولاً عنه فلا يعقل توجه الإطلاق والتقييد إليه.

فاسد لما حققناه في محله من ان المعاني الحرفية ملحوظات استقلالا وليست بمغفول عنها.

واما المقام الثاني : وهو التمسك بالأصول العملية عند عدم وجود الأصول اللفظية.

فهي تختلف باختلاف الموارد ، توضيح ذلك انه مع الشك في كون فعل واجبا نفسيا أو غيريا ، تارة يعلم بتعلق الوجوب بما يشك في كونه مقيدا به ، وأخرى يشك في ذلك ، وثالثة يعلم بعدمه.

وفي الصورة الأولى ، تارة يعلم الوجوبين المفروضين من حيث الإطلاق والاشتراط ، وأخرى لا يعلم بذلك فها هنا صور أربع :

الأولى : ما إذا علم بفعلية التكليف المتعلق بما يشك كون هذا قيدا له ، مع تماثل الوجوبين ، كما إذا علم بوجوب الغسل وشك في انه واجب نفسي أو غيري للصلاة ، وعلم فعلية وجوب الصلاة ، وأيضا علم اشتراط الوجوبين بالزوال.

وفي هذه الصورة اختار المحقق النائيني جريان البراءة عن تقييد متعلق ما علم كونه نفسيا بالواجب الآخر ، وانه يثبت بذلك نتيجة الإطلاق ، ففي المثال يكون المكلف مخيرا بين الإتيان بالصلاة قبل الغسل ، والإتيان بها بعده.

واورد عليه الأستاذ الأعظم (١) بأن هذا الأصل ، يعارض أصالة البراءة عن

__________________

(١) حاشية أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٠ حاشية رقم ١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٨.

الوجوب النفسي المحتمل ثبوته للغسل ، إذ المتيقن ثبوته ، أصل الوجوب واما خصوصيته كونه نفسيا أو غيريا فهي مجهولة ، والعلم الإجمالي بثبوت إحدى الخصوصيتين يمنع عن جريان البراءة في كل منهما ، فاللازم هو الاحتياط ، والإتيان بالصلاة بعد الوضوء في المثال.

ولكن الحق ما أفاده المحقق النائيني ، إذ لا يجري الأصل عن كون الوجوب نفسيا ، لعدم ترتب الأثر الخاص على وجوبه النفسي ، لوجوب الإتيان بالغسل في المثال على التقديرين ، ويعاقب على تركه ، اما على المختار من استحقاقه العقاب على مخالفة الواجب الغيري فواضح ، واما على المشهور من عدم العقاب عليها فلأنه يعلم بالعقاب على تركه ، اما لكون وجوبه نفسيا ، أو لاستلزامه ترك الواجب النفسي وعليه ، فحيث يترتب على وجوبه الغيري اثر خاص ، وهو لزوم الإتيان بالصلاة بعد الوضوء ، فيجرى البراءة عنه بلا معارض.

الصورة الثانية : ما إذا علم بفعلية التكليف المتعلق بما يشك في كون هذا قيدا له مع عدم العلم بتماثل الوجوبين ، كما إذا علم باشتراط خصوص الوجوب المعلوم كونه نفسيا ، واما الواجب الآخر المجهول حاله فيحتمل فيه من الإطلاق والاشتراط من جهة الشك في كون وجوبه نفسيا أو غيريا ـ كما ـ إذا لم يعلم في المثال ان وجوب الغسل مطلق بالقياس إلى الوقت ، أم مشروط وفي هذه الصورة يتصور الشك من جهات.

الأولى : من جهة الشك في تقيد الصلاة بالغسل ، والكلام في هذه الجهة هو الكلام في الصورة الأولى.

الثانية : من جهة الشك في وجوب ما تردد أمره بين كون وجوبه نفسيا ، أم غيريا قبل تحقق شرط ما علم كونه نفسيا ، فقد اختار المحقق النائيني (ره) (١) جريان البراءة عن وجوبه قبل تحقق ذلك الشرط فتكون النتيجة من هذه الجهة نتيجة الغيريَّة ، فيختص وجوب الغسل في المثال بما بعد دخول الوقت.

ولكن الأظهر عدم جريانها ، اما العقلية منها فللعلم بعدم ترتب العقاب على تركه قبل الزوال خاصة ، إذ المفروض ان وجوبه غير مختص بما قبل الزوال بل هو على فرض وجوبه نفسيا موسع ، واما الشرعية منها فلأنها انما تجري لرفع الكلفة الزائدة لا لرفع التوسعة وجريان البراءة في ذلك موجب للتضييق لا للتوسعة ، بل البراءة في المقام تجرى عن لزوم إيقاع ذلك العمل بعد الشرط فتكون النتيجة من هذا الجهة أيضا نتيجة النفسية.

وبذلك ظهر حكم الشك من الجهة الثالثة وهو عدم لزوم الإتيان به بعد الشرط لو أتى به قبله كما لا يخفى.

الصورة الثالثة : ما لو لم يعلم إلا وجوب ما يدور أمره بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا ، لاحتمال ان يكون في الواقع واجب آخر فعلى يتوقف حصوله على ما علم وجوبه إجمالا.

وفي هذه الصورة نسب المحقق النائيني (ره) (٢) إلى الكفاية التمسك بالبراءة في المقام ، واورد عليه بأن استحقاق العقاب على ترك معلوم الوجوب إما لنفسه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٠ (وأما الصورة الثانية) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٨.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٧١ عند ذكر الصورة الثالثة وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٤٩.

أو لتوقف واجب فعلى عليه معلوم تفصيلا فيكون منجزا ، وان لم يكن ذاك الوجوب المحتمل ثبوته في الواقع منجزا من جهات أخر ، فإن عدم تنجزه من جهة لا ينافى تنجزه من جهة أخرى ، واصل البراءة لا ينافى فعليته واقعا وتنجزه بمقدار العلم ، بناءً على ما حقق في محله من صحة التفكيك في التنجز فلا تجرى البراءة في وجوب ما علم وجوبه المردد بين كونه نفسيا أو غيريا.

وما أفاده المحقق النائيني في نفسه حق لا ريب فيه ، إلا ان ما في الكفاية من الرجوع إلى البراءة هو في غير هذه الصورة ، بل مورد كلامه الصورة الرابعة الآتية ، واما هذه الصورة فهي داخلة في المورد الأول الذي اختار فيه عدم جريان البراءة.

الصورة الرابعة : ما إذا علم وجوب شيء في الشريعة كالوضوء وتردد أمره بين كونه واجبا نفسيا أم غيريا ومقدمة للصلاة التي لا تكون واجبة فعلا لمانع كالحيض.

وفي هذه الصورة تجرى البراءة عن وجوب الوضوء كما أفاده المحقق الخراساني (ره) إذ لو كان واجبا غيريا لما وجب فعلا. فيبقى الشك في وجوبه النفسي فتجرى البراءة عنه (١).

__________________

(١) ذكر هذه الصورة المحقق السيد الخوئي في المحاضرات ج ٢ ص ٣٨٩ وقال : هذا هو مراد المحقق صاحب الكفاية ، / أما في الكفاية فلم يذكر هذا التفصيل إنما قال : ومنها تقسيمه إلى النفسي ، ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري ، فالتحقيق أن الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمهما إلا أن إطلاقها

آثار الواجب النفسي والغيري

ثم انه يقع الكلام في آثارهما.

منها ما قيل من ، استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي ، واستحقاق العقاب على عصيانه ، وهما لا يترتبان على موافقة الأمر الغيري ومخالفته وتنقيح القول في مقامين :

المقام الأول : في الواجب النفسي.

المقام الثاني : في الواجب الغيري.

أما المقام الأول فالكلام فيه في موردين : أحدهما في العقاب ثانيهما في الثواب.

أما المورد الأول : فلا كلام في اصل استحقاق العقاب على مخالفته الأمر النفسي.

وانما الكلام في سبب ذلك. فالظاهر ، انه لا ريب في ان العقاب عليها ليس

__________________

يقتضي كونه نفسيا فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم. كفاية الأصول ١٠٨. وعلى هذا يظهر انه مع الشك يحمل على النفسي فيكون واجبا إلا أن واقع المثال ليس من هذا القبيل لعدم تمامية الإطلاق في المقام ومعه لا يتم النفسي ، والغيري معلوم العدم فيرجع الشك إلى الشك بالتكليف ولعل هذا هو مراد المحقق الخوئي.

لأجل عدم وصول المولى إلى غرضه لعلوه عما ينشأ من الجهة الحيوانية علوا كبيرا ، ولا لأجل عدم وصول العبد إلى الغرض المترتب على المتعلق إذ عدم تحصيل الغرض في نفسه لا يوجب استحقاق العقاب ، ولا لأجل تأديب العبد لئلا يعود إلى مخالفته المولى فإن هذا انما يحسن في دار التكليف لا في النشأة الآخرة التي ليست دار التكليف ، وليس لأجل إزالة القذارات الحاصلة بالمخالفة ليصير العبد لائقا لحضور مجلس السلطان وطاهرا قابلا لتنعمه بنعم دار الآخرة لعدم اجتماعه مع الخلود في العذاب فتدبر.

بل العقاب انما يكون بملاحظة أحد أمور ثلاثة.

الأول : بلحاظ جعل الشارع بدعوى ان قاعدة اللطف المقتضية لإرسال الرسل وانزال الكتب ، وبيان الأحكام واعلام العباد ما فيه الفساد أو الصلاح ، تقتضي تأكيد الدعوة في نفوس العامة بجعل العقاب.

الثاني : بملاحظة الحكم العقلي العملي الذي من شانه ان يدرك ما ينبغي فعله أو تركه أي القوة المميزة للحسن والقبح باعتبار مدركاته وهو يدرك ان مخالفة المولى خروج عن ذي الرقية ورسم العبودية فهو بذلك يصير ظالما وفاعل الظلم يستحق الذم من العقلاء والعقاب من الشارع بادراك من العقل.

الثالث : بملاحظة العلاقة اللزومية بمعنى ان أفعال العباد لما لها من الصور في هذا العالم تكون مادة لصور في عالم الآخرة ملائمة أو منافرة وتستعد لافاضة صورة كذائية ، ولكن الأخير مخالف لظاهر الآيات والروايات ، فالمتعين هو الأولان.

واما المورد الثاني : فالمشهور بين المتكلمين على ما نسب إليهم (١) ان الثواب انما هو بالاستحقاق والمفيد (ره) بنى على انه بالتفضل (٢) وتبعه المحقق النائيني وجمع من المحققين (٣).

واستدل المحقق النائيني (ره) (٤) له بأن إطاعة المولى والعمل على وفق العبودية لازم بحكم العقل وامتثال العبد لأوامر مولاه جرى منه على وظيفته لئلا يكون ظالما له وليس هو في عمله أجيرا للمولى حتى يستحق عليه شيئا.

ويرد عليه انه أخص من المدعى لاختصاصه بالواجبات ولا يعم المستحبات واستحقاق الثواب انما هو بملاك واحد.

والحق ان الثواب انما هو بملاحظة أحد أمور ثلاثة ، اما بلحاظ جعل الشارع ، أو بملاحظة درك العقل العملي ، أو بملاحظة العلاقة اللزومية على ما مر في العقاب ، واطلاق الاستحقاق بلحاظ الأول من جهة ان العبد بعمله بعد جعل الشارع يستحق ما جعله له ، وبلحاظ الثاني من جهة ان العبد بعمله يصير موردا للمدح بمعنى انه لو أثيب يكون الثواب واقعا في محله ، وبلحاظ

__________________

(١) نسبه في أجود التقريرات أنه المعروف بين الأصحاب ج ١ ص ١٧٢ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٥٠ ، ونسبه السيد الخوئي في الهداية في الأصول إلى المشهور ج ٢ ص ٨٣.

(٢) راجع كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد باب ١١٥ (القول في نعيم أهل الجنة أهو تفضل أو ثواب) ص ١١١.

(٣) كما أفاده في أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٢ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٥٠.

(٤) المصدر السابق في أجود التقريرات.

الثالث من جهة اقتضاء المادة القابلة لافاضة الصورة الكذائية ، وحيث ان الثالث مخالف لظاهر الآيات والروايات والاصحاب غير ملتزمين بذلك فلا يبعد ان يكون النزاع لفظيا لان المراد من الاستحقاق الذي ينفيه المفيد (ره) ومن تبعه هو اللزوم على المولى بحيث لو لم يثب على الطاعة فقد ظلم.

وبعبارة أخرى ثبوت حق للمكلف على المولى كما يثبت حق للمستاجر على المؤجر ، ولا اظن ان يكون هذا مراد المشهور من الاستحقاق ، بل الظاهر ان مرادهم به الاهلية واللياقة للثواب ، وان اعطاء الثواب للمطيع ليس كاعطائه للعاصي تفضلا صرفا بل ثواب واقع في محله.

وهذا المعنى من الاستحقاق لا اظن ان ينفيه المفيد ومن تبعه.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه في موردين الأول في العقاب ، الثاني في الثواب.

اما الأول : فقد ذهب جمع من المحققين إلى انه لا عقاب على مخالفة الامر الغيري من حيث هو. واستدل له بوجهين.

احدهما : ما افاده المحقق الخراساني (ره) (١) وهو ان العقاب دائر مدار البعد عن الله غير المتحقق عند مخالفة التكليف الغيري فلا عقاب عليها.

وفيه ان البعد المعنوي على فرض تعقله لا نتصور له معنى سوى معصية الله الصادقة على عدم الاتيان بما تعلق به التكليف الغيري ، مع انه لو سلم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٠ (تذنيبان) بتصرف.

كونه شيئا آخرا فالعقاب لا يترتب عليه وانما هو اثر لمخالفة المولى وعدم العمل بما عينه من الوظيفة.

واما ما افاده (١) في وجه العقاب بقوله لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة الخ.

فيرد عليه انه لو كان العقاب على مخالفة التكليف النفسي فما دام لم يخالف التكليف وان صارت المخالفة لازمة عليه لترك المقدمة لاوجه لاستحقاقه العقوبة لانه من قبيل القصاص قبل الجناية.

الوجه الثاني : ما افاده المحقق العراقي (ره) (٢) وهو انه لأجل عدم ترتب غرض عليه لا يعاقب على مخالفته.

وفيه ما تقدم آنفا من عدم دوران العقاب مدار الغرض ، وانما يدور مدار مخالفة المولى وعصيانه وهتك حرمته والتجاوز عن حد العبودية الصادقة على ترك المأمور به بالامر الغيري.

فالاظهر استحقاق العقاب على مخالفة التكليف الغيري من حيث هو.

واما المورد الثاني : ففيه أيضا خلاف ، والاظهر هو ترتب الثواب على موافقة الامر الغيري ، وبعين الملاك الذي يحكم باستحقاق من وافق التكليف

__________________

(١) المحقق الآخوند المصدر السابق.

(٢) مقالات الأصول ج ١ ص ٣٢٤ (الوجوب النفسي والغيري) قوله ثم إن المناط في استحقاق العقوبة في نظر العقل.

النفسي ، وهو ان موافقة امر المولى والاتيان بما تعلق به انما يكون تعظيما له ويكون هذا الفعل اظهارا لعظمة المولى ، فيكون مستحقا للثواب ، يحكم بأن الاتيان بالمأمور به بالامر الغيري يوجب استحقاق الثواب.

واما ما ذكر في وجه ذلك من ان الثواب على فعل المقدمة انما هو لكونه شروعا في اطاعة الامر النفسي.

فغير سديد : لعدم كونه شروعا في الاطاعة بل في مقدماتها.

كما ان ما ذكره المحقق الخراساني في وجه عدم الاستحقاق من ان موافقة الامر الغيري لا توجب قربا إلى المولى والمثوبة انما تكون من تبعات القرب.

غير تام : لما مر من انا لا نتصور معنى للقرب والبعد سوى اطاعة الله تعالى ، وعصيانه ، وعلى فرض كونهما بمعنى آخر لا يوجبان ، الثواب ، والعقاب.

بيان اشكال الطهارات الثلاث والجواب عنه

وبما حققناه اندفع احد الاشكالين الذين اوردا في الطهارات الثلاث ، وهو انه لا ريب في ترتب الثواب عليها مع ان الامر المتعلق بها غيرى.

واما الاشكال الثاني.

وهو انه لا ريب في ان الطهارات الثلاث عبادة مع ان الامر المتعلق بها غيرى وهو لا يوجب العبادية ، وقد ذكروا في تقريب هذا الاشكال وجهين احدهما : ان الامر الغيري غير ناش عن المصلحة في المتعلق وعن المحبوبية الذاتية وانما نشأ عن توقف محبوب عليه فهو لا يعقل ان يكون عباديا إذ لا

مثوبة على موافقته من حيث هي ولا يوجب القرب إليه تعالى وليس له موافقة بالاستقلال وبعبارة أخرى ـ بما انه غير مقرب ولا شأن له بالاستقلال فهو لا يصلح ان يكون موجبا للعبادية.

والجواب عن ذلك ان العبادة ليست الا اتيان الفعل الصالح لان يضاف إلى المولى مضافا إليه ، ولا دخل للمصلحة في ذلك ، فإذا كان فعل متعلقا لامر الشارع صح الاتيان به مضافا إليه.

بل ستعرف تحقق العبادة بالاتيان بالمقدمة للتوصل إلى ذي المقدمة حتى بناءً على عدم تعلق التكليف الغيري بها.

الوجه الثاني : انه لا اشكال في ان الطهارات الثلاث اخذت عبادة مقدمة للصلاة مثلا فالامر الغيري متوقف على عباديتها. وحيث ان العبادية تحتاج إلى وجود الامر. فاما ان يكون تعلق الامر الغيري بها فيلزم الدور. أو يكون الموجب هو الامر النفسي المتعلق بها فهو فاسد. لانه يصح الاتيان بقصد امرها الغيري وان لم يلتفت إلى رجحانها الذاتي.

واجابوا عن ذلك باجوبة :

الجواب الأول ، ما افاده المحقق الخراساني (١) وحاصله ، ان عباديتها انما تكون للامر النفسي المتعلق بها وانما يكتفى بقصد امرها الغيري من جهة ان الامر لا يدعو الا إلى متعلقه ، والمفروض ان المتعلق مستحب في نفسه ، فقصد الامر

__________________

(١) كفاية الأصول ١١١ بتصرف.

الغيري في الحقيقة قصد لذلك الامر النفسي.

واورد عليه بايرادات :

الأول : ان ذلك لا يتم في التيمم لعدم كونه مستحبا نفسيا.

وفيه : ما حققناه في الجزء الثاني من فقه الصادق (١) ، من انه مستحب نفسي أيضا كالغسل والوضوء.

الثاني : ان الامر النفسي الاستحبابى يزول وينعدم عند عروض الوجوب الغيري.

وفيه : انه بناءً على ما هو الحق من ان الفارق بين الندب والوجوب ، وليس الا ان الأول رخص في ترك ما تعتلق به ، والثانى لم يرخص فيه ، لا معنى لانعدام الامر الاستحبابى ، بل لو عرض الوجوب يتبدل الترخيص في الترك بعدم الترخيص فيه ، فلا تنافى بين كونها محكومة بحكم واحد ذي ملاكين احدهما يقتضي المنع من الترك والآخر لا يقتضيه ، وبما : ان المقرب هو ذات الطلب لا بقيد انه مما رخص في تركه ، فيصح الاتيان بها حال كونها مقدمة لغاية واجبة إذا قصد التقرب بالامر الاستحبابى النفسي.

مع ان دعوى (٢) بقاء الاستحباب النفسي حتى بناءً على كون الفارق بين

__________________

(١) فقه الصادق ج ١ ص ٢١٢ وج ٣ ص ٢٣ وج ١٨ ص ٤١٦ من الطبعة الثانية.

(٢) الظاهر أن هذا مبنى المحقق النائيني في المسألة في أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٠ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦١.

الوجوب والندب اختلاف الطلب شدة وضعفا ، بحده ومرتبته بالفعل قوية : إذ الوجوب الغيري لم يتعلق بذات ما تعلق به الامر الاستحبابى حتى يندك احدهما في الآخر ، بل تعلق به بداعي الامر الاستحبابى فالموضوع متعدد فلا مانع من الالتزام بانهما موجودان بالفعل.

مضافا إلى انه لو سلم اندكاك الامر الاستحبابى فبما ان المعدوم ليس هو ذات الطلب بل حده ومرتبته ، والمقرب هو ذات الطلب لا حيثية ضعفه فيصح الاتيان بها بداعي ذات الطلب الموجود في تلك المرتبة الاستحبابية وان كانت تلك المرتبة متبدلة إلى مرتبة أقوى منها.

هذا كله مضافا إلى انه على فرض تسليم عدم بقاء الأمر الاستحبابي لا بذاته ولا يقيده ومرتبته فبما أن ملاكه موجود فيصح الإتيان به بداعي ملاكه فتدبر فانه دقيق.

الثالث : انه على هذا لا بد وان يقصد الأمر النفسي كي تقع عبادة ولا يكتفي بقصد أمرها الغيري مع انه لا كلام في انه يكتفي به في مقام الامتثال.

وأجاب هو (قدِّس سره) (١) بما أشرنا إليه في ضمن تقريب كلامه.

وحاصله ، أن الاكتفاء به إنما هو لأجل انه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث انه لا يدعو إلا إلى ما هي المقدمة.

وفيه : أن قصد الأمر ليس من الأمور الواقعية الملائم تحققها ، مع عدم

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١١.

الالتفات ، بل قوامه إنما يكون بالالتفات فمن يكون غافلا عن تعلق الأمر النفسي بالوضوء ، أو معتقدا عدمه ، كيف يمكن أن يقال : إن قصد امر الغيري قصد لذلك الامر.

والحق في الجواب عن اصل الايراد ان يقال ، انه لا يعتبر في اتصاف الفعل بالعبادية سوى صلاحية الفعل للإضافة إلى المولى ، وإضافته إليه.

ولو بأن يؤتى به بقصد المحبوبية ، ففي المقام الطهارات الثلاث لفرض تعلق الامر النفسي بها ، صالحة للإضافة إلى المولى ، فلو أتى بها مضافة إلى المولى ولو بأن قصد أمرها الغيري وقعت عبادة.

ودعوى ، ان الجهة التي تفيد القرب أي الامر النفسي ، لم تقصد ، وما قصد وهو الامر الغيري لا يصلح لان يكون مقربا.

مندفعة ، بأن هذا الايراد إنما يكون مبتنيا على التقريب الأول لهذا الإشكال وقد عرفت الجواب عنه فراجع.

فتحصل ان جواب ، المحقق الخراساني عن إشكال الطهارات الثلاث متين لا يرد عليه شيء مما أورد عليه.

الجواب الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو أن الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة كالصلاة ، كما ان له تعلقا بأجزائها كذلك له تعلق بالشرائط المأخوذة فيها ، فلها أيضا حصة من الامر النفسي وهو الموجب لعباديتها

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٧٥ (والتحقيق بيان ذلك) وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٥٥.

فالموجب للعبادية في الاجزاء والشرائط على نحو واحد.

ويرد عليه ما تقدم منا في أول مبحث مقدمة الواجب في تقسيم المقدمة إلى الداخلية والخارجية ، من ان الامر المتعلق بذي المقدمة ، لا تعلق له بالشرائط أنفسها أصلا.

الجواب الثالث : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (١) وهو ان اعتبار التقرب فيها إنما يكون لأجل ان العناوين المنطبقة عليها التي بها صارت مقدمة للصلاة مثلا مجهولة وحيث انها تكون قصدية لا تتحقق في الخارج من دون تعلق القصد بها فلا مناص عن قصد امرها للاشارة إلى تلك العناوين المجهولة إذ الامر لا يدعو إلا إلى متعلقه فقصد الامر الغيري انما يكون لكونه طريقا إلى قصد عنوان المأمور به لا لكونه معتبرا فيها.

وفيه : ان لازم هذا الوجه صحة الطهارات الثلاث ، لو قصد الامر الغيري وصفا لا غاية ، أو غاية لا بنحو تمام الداعي بل بنحو جزء الداعي ، أو قصد عنوان المقدمية مع كون الداعي غير قربى.

الجواب الرابع : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (٢) أيضا وتقريبه بنحو يسلم عن جميع ما أورد عليه من ما في الكفاية وغيرها ، ان عبادية الطهارات الثلاث ليست من ناحية الامر النفسي المتعلق بها ، ولا من ناحية الامر الغيري ،

__________________

(١) كما يظهر من مطارح الأنظار ص ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) راجع مطارح الأنظار ص ٧١ (الأمر الثاني) عند قوله : والكلام إنما هو في قصد التعبد بالمقدمة من حيث أنها مقدمة ... الخ.

بل انما تكون لأجل ان الغرض من الواجبات المتوقفة عليها ، لا يحصل إلا بإتيانها عبادة ومضافة إلى المولى بمعنى ان المقدمة ليست طبيعي الوضوء مثلا بل الوضوء الذي أتى به مضافا إلى المولى ، وحيث انه يمكن ان يضاف إلى المولى مع قطع النظر عن الامر النفسي والغيري ، بأن يؤتى به بداعي التوصل إلى ذي المقدمة ، وليس كالأفعال التي لا تصح إضافتها إلى المولى مع قطع النظر عن الامر ، فعبادية الطهارات لا تتوقف على تعلق الامر الغيري بها حتى يرد المحذور المتقدم ، بل الامر الغيري متعلق بالطهارات التي يؤتى بها عبادة ، ولكن حيث ان الامر الغيري متعلق بذواتها أيضا ، فيصح ان يؤتى بها بداعي ذلك الامر وبه يتحقق الجزء الآخر فتدبر.

فتحصل من مجموع ما ذكرناه ان عبادية الطهارات الثلاث لا تتوقف على الامر الغيري بل متوقفة على أحد أمرين : إما تعلق الامر النفسي بها كما هو كذلك ، وإما توقف ما يتوقف عليها على إتيانها عبادة.

واما اتصافها خارجا بالعبادية فإنما يكون بأحد أمور : إما قصد الامر النفسي المتعلق بها ، أو قصد التوصل بها إلى ذي المقدمة ، أو قصد أمرها الغيري على القول به.

بقى في المقام شيء وهو انه لو أتى بواحدة من الطهارات الثلاث بداعي التوصل بها إلى غاية خاصة كما لو توضأ لصلاة جعفر ، وبعد ما توضأ بدا له عن الإتيان بها ، فهل يصح وضوءه مطلقا ، أم لا يصح كذلك ، أم يفصل بين القول بوجوب المقدمة الموصلة فلا يصح ، وبين القول بوجوب المقدمة مطلقا فيصح ، وجوه وأقوال.

وقد استدل المحقق النائيني (ره) (١) للقول الأخير : بأنه على القول بالمقدمة الموصلة عدم الإيصال الخارجي يكشف عن عدم تعلق الامر الغيري به وكان وجود الامر تخيلا من المكلف ، إما بناءً على عدم اعتبار الإيصال في وجوب المقدمة ، فيصح لوجود الامر.

ويرد عليه مضافا إلى انه خلاف مبناه فانه (ره) بنى على ان المصحح للعبادية ليس هو الامر الغيري بل الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة ، إذ عليه لا يتم هذا التفصيل لأنه لا فرق بين المسلكين بالنسبة إلى ذلك الامر كما لا يخفى.

انه قد عرفت : عدم انحصار المصحح للعبادية بالأمر الغيري ، وبناء على القول بالمقدمة الموصلة ، وان لم يكن تكليف غيري في الفرض متعلق بما أتى به ، إلا انه لأجل حصول القرب به خارجا لو أتى به لا بداعي ذلك الامر الغيري ، بل لأجل محبوبيته النفسية أو التوصل به إلى ذي المقدمة ، ولو مع عدم الامر به كما عرفت ، يصح الوضوء في الفرض على المسلكين : حتى وان لم يقصد شيئا منهما ، لكنه قد مر انه لا يعتبر في العبادة سوى ، صلاحية الفعل للتقرب الموجودة في المقام ، واضافته إلى المولى ولو من جهة غير منطبقة على ذلك الفعل.

مع ان قصد التوصل هو المصحح للعبادية المفروض تحققه في المقام ، وعدم الإيصال لا يكشف عن عدم صحة قصد التوصل ، ولا يوجب انقلاب الشيء

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٣ (يمضي في المقام شيء).

عما وقع عليه ، وان كان كاشفاً عن عدم الأمر الغيري ، وعدم الامر الغيري لا يلازم عدم صحة قصد التوصل ، كما ان عدم الإيصال لا يلازمه فتدبر فانه دقيق. فالأظهر هي الصحة مطلقا.

إذا عرفت هذه الجهات فتنقيح القول في هذا الفصل بالبحث في أمور.

الأقوال في وجوب المقدمة

الأول : لا شبهة ولا كلام في تبعية وجوب المقدمة ، لوجوب ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط بناءً على ثبوت الملازمة بين الوجوبين فلو كان وجوب ذي المقدمة مطلقا لا بد وان يكون وجوب المقدمة أيضا كذلك ولو كان مشروطا كان وجوبها كذلك.

انما الكلام في انه إذا كانت الملازمة ثابتة ، فهل الواجب مطلق المقدمة ، أم يكون خصوص حصة خاصة منها. وعلى الثاني اختلفوا في اعتبار الخصوصية على أقوال.

أحدها : ما نسب إلى صاحب المعالم (ره) (١) وهو اعتبار العزم والإرادة إتيان على ذيها.

__________________

(١) معالم الدين ص ٧١ قوله : «فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها.

ثانيها : ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الواجب المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب (١).

ثالثها : ما اختاره صاحب الفصول (ره) وهو ان الواجب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها (٢).

أما القول الأول فهو بظاهره بيِّن الفساد : إذ ان كان وجوب ذي المقدمة أيضا مشروطا بإرادة الإتيان به لزم طلب الحاصل ، مع انه يلزم الخروج عن كونه واجبا ، وصيرورته جائزا إذ لو لم يرد الإتيان به لما كان عليه شيء لعدم كونه واجبا ، وان لم يكن مشروطا بها ، لزم ان لا يكون وجوب المقدمة تابعا لوجوب ذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط.

واضف إلى ذلك ان وجوب المقدمة إذا كان مشروطا بارادة الاتيان بذي المقدمة لزم اشتراطه بارادة الاتيان بها أيضا ، إذ إرادة الاتيان بذي المقدمة لا تنفك عن إرادة الاتيان بالمقدمة ، فيلزم المحذور المتقدم.

ولعمري ان هذا من الوضوح بمكان لا ينبغي إطالة الكلام فيه ، واظن ان صاحب المعالم لم يرد ما هو ظاهر كلامه ، بل مراده كون إرادة ذي المقدمة من قيود الواجب لا الوجوب ، فيرجع إلى القول الثاني.

__________________

(١) وقد نسب هذه الأقوال لاصحابها المحقق السيد الخوئي في المحاضرات ج ٢ ص ٤٠٤ وسيأتي تخريجها عند التعرض لأقوال أصحابها إن شاء الله.

(٢) الفصول الغروية ص ١١٤.

اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل

واما القول الثاني : وهو اعتبار قصد التوصل إلى الواجب ، فهو وان نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) ولكن عبارات مقرر بحثه في المقام مشوشة (١). فإن ظاهر بعضها اعتبار قصد التوصل في تحقق امتثال الوجوب المقدمي. وظاهر بعضها الآخر اعتباره قيدا في خصوص المقدمة المحرمة المنحصرة. وظاهر بعضها الآخر اعتباره قيدا في متعلق الوجوب المقدمي مطلقا. فلا بد من البحث في جميع هذه المحتملات.

فإن كان نظر الشيخ الأعظم (ره) إلى اعتبار قصد التوصل ، بالمقدمة في حصول الامتثال والتقرب بها ، فيرد عليه : ما تقدم في الطهارات الثلاث من ان عباديتها انما تكون بقصد التوصل إلى ذي المقدمة ، أو بقصد امرها النفسي ، أو بقصد امرها الغيري.

فما اعترف به المحقق الخراساني (ره) عند رده للتقريرات من انه على تقدير عدم الاستحباب النفسي يعتبر قصد التوصل.

ضعيف : لابتنائه على عدم قابلية الامر الغيري للمقربية وقد عرفت ما فيه.

وان كان نظره (قدِّس سره) إلى اعتبار قصد التوصل قيدا في متعلق الوجوب

__________________

(١) كما وصفها المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٤ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٤٠ ، وللإطلاع على قوله راجع مطارح الأنظار ص ٧٢.

المقدمي ، فقد استدل له : بأن المقدمة انما تجب بما أنها مقدمة ، وعنوان المقدمية ، من العناوين القصدية ، نظير التأديب ، والتعظيم ، فيلزم قصدها في انطباق الواجب عليها.

واورد عليه المحققان الخراساني (١) ، والنائيني (٢) بما حاصله ، ان المقدمية من الجهات التعليلية والفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة لا من الجهات التقييدية والعناوين التوليدية المنطبقة عليها حتى يلزم قصدها.

وأجاب عنه المحقق الأصفهاني (ره) (٣) انتصارا للشيخ الأعظم ـ بما حاصله ـ يتوقف على بيان مقدمتين :

الأولى : ان الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها ، مثلا العقل ، لا يحسن ضرب اليتيم ، لغاية التأديب بل يحسن تأديبه.

وبعبارة أخرى الحيثيات التعليلية فيها راجعة إلى الحيثيات التقييدية.

الثانية : أنه يعتبر في اتصاف الفعل بالوجوب صدوره عن قصد وعمد ، وإلا فالفعل غير الاختياري ، لا يكون مصداقا للواجب.

إذا عرفت هاتين المقدمتين ، فاعلم ان العقل لا يحكم بوجوب فعل لأجل مقدميته بل تكون المقدمية عنوانا للواجب ، ويكون المطلوب المقدمة من حيث

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٤ بتصرف.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٤ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣٩.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ٣٩٠ (والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها).

أنها مقدمة ، فإذا أتى بها من حيث مقدميتها كان ممتثلا للأمر الغيري ، وإلا فلا وان كان مسقطا للغرض ووقع مقدمة لعدم قصد عنوان المقدمية الذي عنوان للمطلوب على الفرض.

ويتوجه عليه ان هذا المطلب وان كان دقيقا ومتينا في الأحكام العقلية كان الحكم العقلي من الأحكام العقلية النظرية التي يعبر عنها بما لا بد وان يعلم ، أم كان من الأحكام العقلية العملية التي يكون مبدأ المبادئ فيها حسن العدل وقبح الظلم ، إلا ان ذلك غير مربوط بالمقام فانه في المقام وجوب المقدمة انما يكون بحكم الشارع ، غاية الامر ان هذا الوجوب الشرعي مستكشف من ضم حكم شرعي إلى الحكم العقلي النظر كإدراكه استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين فإذا كان واجبا بالوجوب الشرعي فلا يكون عنوان المقدمية مأخوذا في المتعلق إذ الملازمة انما تدعى بين وجوب ذي المقدمة ، ووجوب ما هو مقدمة بالجمل الشائع ، والمقدمية تكون واسطة لثبوت الوجوب على الذات.

فتحصل ان الأظهر ، عدم اعتبار قصد التوصل قيدا في متعلق الوجوب الغيري.

وان كان نظره إلى دخل قصد التوصل في خصوص المقدمة المحرمة فقد وجه ذلك بوجهين.

الأول : ان المقدمة المحرمة إذا توقف عليها واجب أهم ، فغاية ما يقتضيه التوقف في مقام المزاحمة ارتفاع الحرمة عنها إذا أتى بها بقصد التوصل ، ومع عدم قصده لا مقتضى لارتفاع حرمتها.

الثاني : ان ملاك وجوب المقدمة ، هو التوقف والمقدمية ، ولازم ذلك هو

ترشح الامر الغيري إلى طبيعي ما يتوقف عليه الواجب ، ويكون المكلف مخيرا في تطبيق الطبيعي ، ولكن ذلك في صورة تساوى الأفراد بنظر العقل وإذا لم تكن متساوية فالعقل يحكم بلزوم تطبيق الطبيعي المزبور على خصوص الأفراد غير المشتملة على المنقصة ـ وعليه ـ فحيث ان المقدمة المحرمة التي يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة. إذا قصد بها ذلك تحقق مزية في نفس المقدمة ، وبها يضعف ملاك مبغوضيتها فالعقل مستقل بتعين اختيارها وتطبيق الطبيعي عليها.

وفيهما نظر :

أما الأول : فلان المزاحمة انما تكون بين وجوب ما يتوقف عليها ، وحرمة المقدمة ، ولفرض أهمية الواجب تسقط حرمة المقدمة من غير دخل لقصد التوصل فيه وعدمه.

نعم المزاحمة انما تقتضي سقوط حرمة المقدمة الموصلة لا مطلقها ، وستعرف ان الأقوى اختصاص الوجوب الغيري أيضا بها فانتظر لذلك مزيد توضيح.

واما الثاني : فيرد عليه مضافا إلى ما تقدم من ان المزاحمة انما هي بين حرمة المقدمة ووجوب ما يتوقف عليها.

ان قصد التوصل لا يكون موجبا لكون المقدمة ذات فردين كي يترتب عليه لزوم تطبيق الطبيعي على الفرد الراجح بل هو وعدمه حالتان للواحد الشخصي وغير دخيلين في مقدميته فلا وجه لاعتباره.

مع ان رجحان قصد التوصل ليس بحد اللزوم ، وإلا لزم الامر به في كل

مقدمة وان لم تكن محرمة ، فلا يستقل العقل إلا برجحان تطبيق الطبيعي عليه لا لزومه.

فتحصل ان اعتبار قصد التوصل في المقدمة مما لا يمكن الالتزام به.

المقدمة الموصلة

واما القول الثالث : وهو قول صاحب الفصول (ره) (١) ، من ان الواجب من المقدمة الحصة الموصلة أي الواقعة في سلسلة علة وجود ذيها دون غيرها فقبل تنقيح القول فيه ، ينبغي ان يعلم :

ان محل الكلام ليس كون الإيصال شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخر ، أو المقارن ، وذلك لان الثاني لازمه طلب الحاصل : إذ لازمه عدم اتصافها بالوجوب إلا بعد الاتيان بها وحصول الوصول إلى ذي المقدمة ، واما الأول فلان لازمه تعليق الوجوب ، على الإرادة فانه في ظرف عدم الاتيان بها بما انه يستلزم عدم الإيصال فلا تكون واجبة فيكون الوجوب مقيدا بصورة الاتيان.

وبعبارة أخرى : لازم ذلك عدم تصوير المخالفة لمثل هذا التكليف فانه لا مخالفة إلا في صورة عدم الاتيان بمتعلقه ، والمفروض في المقام انه في صورة عدم الاتيان لا وجوب لعدم حصول الشرط فلا مخالفة. ومعلوم ان جعل مثل هذا

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٩١ قوله : «إن المقدمة الواجبة هي ما يتوقف على فعلها فعل الواجب لا يتوقف فعله على فعلها بنية الوجوب».

الحكم لغو وغير صحيح. إذ التكليف انما يتوجه لإحداث الداعي للعبد. ولا يحدث الداعي إذا لم يكن في ترك المتعلق مخالفة المولى.

وبذلك يظهر بطلان القول بكون الإيصال قيد للوجوب على نحو لا يجب تحصيله كما لا يخفى.

فمحل الكلام هو كون الإيصال من قيود الواجب بنفسه ، أو لكونه مشيرا إلى الحصة الخاصة مع كونه لازم التحصيل.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه ، قد استدل للقول : بعدم اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة بوجوه.

الأول : ما في الكفاية (١) ـ وحاصله ـ ان الغرض المترتب على المقدمة الداعي إلى ايجابها هو التمكن من وجود ذي المقدمة ، وهذا كما يترتب على المقدمة الموصلة كذلك يترتب على غير الموصلة فلا وجه لتخصيص الوجوب بخصوص القسم الأول.

وتوهم ان الغرض هو ترتب ذي المقدمة ، فاسد : إذ هو ربما لا يترتب على مجموع المقدمات فضلا عن واحدة منها ، والغرض من الشيء ما يترتب عليه ويكون أثره ولا ينفك عنه.

وفيه : ان الغرض من المقدمة الداعي إلى ايجابها ، ليس هو التمكن من ذي المقدمة ، فانه اثر التمكن من إتيان المقدمة لا الاتيان بها ، ولذلك يتعلق

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٥ ـ ١١٦ بتصرف.

الوجوب به ، ومنه يترشح الوجوب إلى المقدمة ، فليس الغرض من إيجاب المقدمة التمكن من إتيان ذي المقدمة.

فإن قلت : ان الغرض منه الإمكان القياسي أي حفظ وجود ذي المقدمة من ناحية هذه المقدمة ، وسد باب عدمه من هذه الجهة ، وهذا اثر مشترك بين الموصلة وغيرها.

قلت : ان ذلك خلاف الوجدان ، فانه أقوى شاهد على ان الباعث إلى إيجاب المقدمة انما هو ترتب ذي المقدمة عليها ، وهو الموجب لمحبوبيتها التبعية لا حفظ وجود ذي المقدمة من ناحيتها ، فانه بنفسه لا يكون محبوبا للمولى فكيف يصير سببا لمحبوبية ما يترتب عليه.

الثاني : ما في الكفاية أيضا (١) ، وحاصله : انه بعد الاتيان بالمقدمة يسقط الامر بها ، وسقوطه إما ان يكون بالعصيان أو بارتفاع موضوع التكليف ، أو بالموافقة ، ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.

وفيه : انه بناءً على القول بخصوص الموصلة نختار انه يسقط امرها مراعى بالإتيان بذي المقدمة كما هو الحال في كل امر نفسي أو غيري ضمني.

مثلا : الامر بالتكبيرة لا يسقط بمجرد الاتيان بها رأسا ، ولا يكون الاتيان عصيانا له ، ولا من باب ارتفاع الموضوع ، بل يكون سقوطه مراعى بإتيان سائر الاجزاء.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٧.

الثالث : ما يظهر من كلمات المحقق الخراساني (١) في رد صاحب الفصول ، وهو ان القول باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة يستلزم الدور.

وتقريبه انما يكون بطريقين.

أحدهما ان الإيصال امر انتزاعي ينتزع من وجود ذي المقدمة ، فإذا كان دخيلا في المقدمة ، لزم ان يكون ذو المقدمة مقدمة للمقدمة ، إذ على فرض عدم تحققه ، لا تتحقق المقدمة ، وحيث ان المقدمة مقدمة له فيلزم الدور.

الثاني : ان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذي المقدمة ، ولازم القول باختصاص الوجوب بالموصلة ترشح الوجوب عن المقدمة إلى ذي المقدمة لفرض توقف قيدها وهو الإيصال عليه وهذا دور واضح.

ويرد على كلا التقريبين ، ان عنوان الموصلية انما ينتزع من المقدمة عند بلوغها مرتبة يمتنع انفكاكها عن ذي المقدمة ، فهو ملازم لترتب ذي المقدمة لا انه ينتزع منه.

وان شئت قلت ان هذا الوجه لا يصلح لدفع القول بالموصلة ، بمعنى ان الواجب هو المقدمة الموصلة لا بقيد الإيصال بل ذات ما تكون موصلة ويشير بهذا إلى تلك الحصة الخاصة.

مع انه يرد على التقريب الأول ان اعتبار الإيصال لا يستلزم كون ذي المقدمة مقدمة للمقدمة ، إذ الإيصال قيد زائد معتبر في المقدمة لا دخيل في

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١١٨ بتصرف.

المقدمة. وان شئت قلت ان فعلية المقدمة ملازمة لوجود ذي المقدمة لا متوقفه عليه.

ويرد على التقريب الثاني : ان اخذ قيد الإيصال في المتعلق لا يستلزم ترشح الوجوب النفسي لذي المقدمة من وجوب المقدمة كي يلزم الدور ، بل اللازم هو ترشح وجوب غيري آخر من وجوب المقدمة إلى ذي المقدمة ، ولا محذور في ذلك ، سوى توهم لزوم اجتماع المثلين وهو يندفع بالالتزام بالتأكد.

الرابع : ان لازم هذا القول ان لا تحصل الطهارة من الطهارات الثلاث إلا بعد إتيان ذي المقدمة كالصلاة لأنها لا تحصل إلا بعد امتثال الامر الغيري ، والمفروض انه لا يحصل إلا بعد إتيان الصلاة فيلزم تحقق الصلاة من دون تحقق الطهارة ، بل يلزم عدم تحقق الطهارة بعد الصلاة أيضا إذ هي بدون الطهارة كعدمها.

وفيه : انه لا تلازم بين عدم سقوط التكليف الغيري رأسا وعدم حصول الطهارة فإنها انما تحصل. من الغسلتين والمسحتين مثلا مع قصد القربة ، وان لم يسقط التكليف الغيري رأسا.

وهناك وجوه أخر : ذكروها لعدم اختصاص الوجوب بالموصلة ولأجل وضوح دفعها أغمضت عن ذكرها.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) بعد اختياره عدم إمكان تخصيص الوجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٤١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٥٠ في معرض رده على الشيخ الأعظم.

بخصوص الموصلة لبعض الوجوه المتقدمة ، قال ان الإطلاق أيضا محال لان الإطلاق والتقييد انما يتقابلان تقابل العدم والملكة ثبوتا وإثباتا فامتناع التقييد ، يستلزم امتناع الإطلاق. فلا مناص عن الإهمال.

وفيه : ما تقدم في مبحث التعبدي والتواصلي من ان امتناع التقييد إذا كان لأجل امتناع تخصيص الحكم بخصوص مورد خاص كتخصيص الولاية بالعالم الفاسق ، يكون تخصيص الحكم بما يقابله ، أو الإطلاق ضروريا ، فإذا لم يحتمل اختصاصه بما يقابله لا محالة يكون الإطلاق ضروريا.

وفي المقام بما ان امتناع التقييد انما هو لامتناع تخصيص الحكم بخصوص الموصلة ، ولا يحتمل اختصاص الوجوب بغير الموصلة ، فلا محالة يكون الإطلاق ضروريا ، ولكن عرفت عدم استحالة التقييد فراجع.

وقد استدل لاختصاص الوجوب بخصوص الموصلة بوجوه.

الوجه الأول : ما أفاده الأستاذ الأعظم (ره) (١) وهو ان كل مقدمة ليست واجبة بوجوب غيري مستقل ، بل كما ان ذا المقدمة واجب بوجوب واحد وان كان مركبا من أجزاء كذلك المقدمات بأجمعها واجبة بوجوب واحد غيري ، إذ الغرض المترتب على المجموع وهو التوصل إلى ذي المقدمة وتحققه في الخارج واحد ، وينبسط ذلك الامر الغيري المتعلق بمجموع المقدمات التي من جملتها الاختيار ، بناءً على ما هو الحق من اختياريته ، على كل مقدمة انبساط الوجوب.

__________________

(١) يظهر مختار آية الله الخوئي بمراجعة الحاشيتين من أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٧ و ٢٣٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٤٥ و ٣٤٧

على أجزاء الواجب ، وتكون كل مقدمة واجبة بوجوب ضمني غيري ، وعليه فحيث ان ترتب ذي المقدمة على مجموع المقدمات قهري ، وكل مقدمة واجبة بوجوب ضمني ، فإذا أتى بمجموع المقدمات تحقق الواجب في الخارج وكانت موصلة ، وان أتى ببعضها ولم يتوصل لما اتصف ما أتى به بالوجوب ولما كان مصداق الواجب إذ الواجب هو مجموع المقدمات ، فيكون كما إذا أتى ببعض أجزاء الواجب النفسي ولم يضم إليه سائر الاجزاء فانه لا يقع مصداقا للواجب فكل مقدمة انما تقع مصداقا للواجب إذا انضم إليها سائر المقدمات الملازم ذلك للإيصال وترتب ذي المقدمة ، ومع عدم الانضمام لا تقع مصداقا للواجب ، فالمقدمة الموصلة تكون واجبة أي ذات ما هي موصلة لا المقيدة بهذا القيد.

لا يقال ان ما من واجب إلا وله مقدمات غير اختيارية ولا اقل من بعض مبادى الاختيار ، فترتب ذي المقدمة على مجموع المقدمات الاختيارية المتعلقة للوجوب لا يكون دائميا.

فانه يقال : ان امثال تلك المقدمات تؤخذ مفروضة الوجود وفي ظرف وجود تلك المقدمات يكون الترتب دائميا.

وفيه : ان ذا المقدمة وان كان يترتب على مجموع المقدمات حتى الاختيار فيمكن ان يكون هو الغرض من ايجابها لترتبه عليها دائما.

إلا انه يرد عليه ان اختيار وجود ذي المقدمة متعلق للتكليف النفسي ، فانه وان تعلق بنفس ذي المقدمة الا انه لأجل ان التكليف انما يتوجه لأجل احداث الداعي للعبد ليختار الفعل ، وهو تحريك للعبد نحو الفعل باختياره فهو لا

يتعلق به التكليف الغيري.

وان شئت قلت ان الإرادة معلولة للتكليف النفسي ومتاخرة وواقعة في مرحلة امتثال الامر النفسي وهو المحرك نحوها فلا يعقل تعلق التكليف الغيري المترشح من الامر النفسي بها ، وعليه فبما ان ذا المقدمة لا يترتب على مجموع المقدمات غير الإرادة فليس هو الغرض من وجوبها.

الوجه الثاني : انه للمولى ان يأمر بشيء وينهى عن مقدمته التي لا تكون موصلة.

وليس له النهي عن خصوص الموصلة ، أو عن مطلق المقدمة ، وهذا آية الملازمة انما تكون بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته الموصلة.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) بوجهين :

الأول : انه ليس له النهي عن المقدمة غير الموصلة إذ يلزم منه ان لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا لعدم التمكن منه لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به.

وبالجملة يلزم ان يكون الايجاب مختصا بصورة الاتيان لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال.

وفيه : ان جواز المقدمة ووجوبها لا يكونان مقيدين باتيان ذي المقدمة ، بل المقيد به هو الواجب والجائز ، والمقدمة الخاصة تجوز بل تجب من الأول.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٠.

والاشكال انما نشأ من الخلط بين شرط الجواز والوجوب ، وشرط الواجب والجائز.

الثاني : انه لو نهى عن غير الموصلة فهي وان لم تتصف بالوجوب الا ان ذلك انما هو لأجل المانع عن الاتصاف بالوجوب ، وهو المنع عنها.

وفيه : ان امكان النهي وصحته آية عدم الملازمة ، والا لما صح.

الوجه الثالث : ما في الفصول (١) ، وهو ان وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور إلى ان قال وايضا حيث ان المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه وصريح الوجدان قاض بأن من يرد شيئا بمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ويلزم منه ان يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله انتهى.

واورد عليه في الكفاية (٢) بما يندفع بتوضيح ما في الفصول.

بأن يقال : ان مراده ان التكليف الغيري ليس ناشئا من الغرض المترتب على متعلقه وإلا انقلب نفسيا فلا مورد للنزاع في تعيين الغرض ، بل انما يكون التكليف الغيري ناشئا عن الغرض الأصلي المترتب على ذي المقدمة ، وهو كما أوجب محبوبية ذي المقدمة كذلك أوجب محبوبية المقدمة تبعا لان الحب إلى

__________________

(١) الفصول الغروية ص ٨٦.

(٢) راجع إيراده على صاحب الفصول ص ١١٩ من الكفاية.

الشيء يستلزم الحب التبعي إلى ما هو واقع في سلسلة مبادى وجوده ، وعليه فلا ينبغي التوقف في ان المحبوب بالتبع انما هو المقدمة التي تكون مقدمة فعلية وواقعة في سلسلة مبادى وجود المحبوب بالذات.

واما المقدمة بالقوة غير الواقعة في تلك السلسلة فلا تكون متعلقة للحب التبعي فإن من اشتاق إلى شيء انما يشتاق إلى مقدماته التوأمة والملازمة معه لا المفارقة عنه في الوجود وعليه فالواجب الغيري هو ذات المقدمة الموصلة لا بهذا القيد.

فتحصل مما ذكرناه اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

بيان ثمرة القول باختصاص الوجوب بالموصلة

بقي الكلام في بيان ثمرة هذا النزاع ، وقد ذكر الأصحاب ثمرات للنزاع في هذه المسألة وهي صنفان :

أحدهما ، ما يترتب على النزاع في ان الواجب خصوص المقدمة الموصلة ، أو مطلق المقدمة.

ثانيهما ما يترتب على النزاع في وجوب المقدمة وعدمه.

أما الصنف الأول : فهو ثمرتان :

إحداهما ما أفاده الأستاذ (١) ، وهي انه لو توقف واجب على محرم وكان الواجب أهم ، كما لو توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة لا تتصف تلك المقدمة بالحرمة ، وان لم توصل ، بل كان التصرف في ملك الغير لغرض آخر من التفريح ، والتكسب وما شاكل ، ولا يكون سفره سفر معصية.

واما بناءً على اختصاص الوجوب بالموصلة لا يجوز التصرف في المثال في ملك الغير إلا في صورة الانجاء ، وإلا فهو حرام وسفره سفر معصية وان شئت فقل ان كل مقدمة من المقدمات إذا توقف عليها واجب أهم ، فبناء على وجوب مطلق المقدمة تتصف بالوجوب مطلقا ، واما بناءً على اختصاص الوجوب بالموصلة لا تتصف بالوجوب ما لم توصل بل تبقى على حكمها الأول.

ويرد عليه ان الوجوب المقدمي بما انه غير ناش عن المصلحة والغرض ، فلا يصلح للمعارضة مع الحرمة النفسية ، فلا محالة تقدم الحرمة عليه ، وعلى ذلك فلا مسقط للحرمة على المسلكين سوى وجوب ذي المقدمة ، وهو انما يوجب السقوط في ظرف الاتيان به دون عصيان أمره إذ الضرورات تقدر

__________________

(١) راجع محاضرات في الأصول ج ١ ص ٤٣١ ـ ١٣٢ (ثمرة النزاع في المسألة) وتعرض لذلك أيضا في الجزء ٣ في باب التزاحم والتعارض ص ٢٩١ واختار أن المسقط لحرمة المقدمة ليس هو امتثال ذي المقدمة بالفعل بل توقف ذي المقدمة على هذه المقدمة ، بمعنى أنه بدونها لا يمكنه امتثال المامور به.

بقدرها ، فهذه ليست ثمرة لهذا المبحث.

ثانيتهما : ما أفاده جماعة منهم صاحب الفصول (١) ، وهو انه إذا كان ترك عبادة مقدمة لواجب أهم كالصلاة التي يكون تركها مقدمة لإزالة النجاسة عن المسجد مثلا ، فعلى القول باختصاص الوجوب بالموصلة تصح صلاته لو صلى ولم يزل النجاسة ، واما على القول بوجوب المقدمة مطلقا ، فتكون فاسدة ، وذلك لان ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر ، فترك الصلاة مقدمة للإزالة ، فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة ، يجب تركها أزال أم لم يزل ، فيحرم فعلها الذي هو نقيض الترك ، والتحريم في العبادة مقتض للفساد ، واما على القول بالموصلة ، فحيث ان الواجب من ترك الصلاة هو الترك الموصل ، وإيجاب ذلك لا يستلزم تحريم الفعل ، لعدم كونه نقيضه ، بل نقيضه عدم الترك الخاص ، وهو قد يقارن الفعل ، وقد لا يقارنه ، وحرمة الشيء لا تستلزم حرمة ما قارنه.

واورد عليهم في التقريرات (٢) بأن فعل الضد وان لم يكن نقيضا للترك الخاص لان نقيضه رفعه وهو اعم من الفعل والترك الآخر المجرد إلا انه لازم لما هو من أفراد النقيض ، وهذا يكفي في إثبات الحرمة وإلا لم يكن الفعل المطلق محرما على القول بمطلق المقدمة : لان الفعل ليس نقيضا للترك لأنه وجودي

__________________

(١) راجع الفصول الغروية ص ٩٥ (الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أولاً) وكان قد تعرض لذلك ص ٨٧ (تظهر ثمرة النزاع في مواضع).

(٢) مطارح الانظار ص ٧٨ بتصرف.

ونقيض الترك انما هو رفعه ورفع الترك يلازم الفعل مصداقا وليس عينه فكما ان هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل فكذلك تكفى في المقام ، غاية الامر ان ما هو النقيض في مطلق الترك انما ينحصر مصداقه في الفعل ، واما النقيض للترك الخاص فله فرد ان وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده.

وأجاب عنه المحقق الخراساني (١) بالفرق بين الموردين بأن الفعل في الأول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، وحرمة الشيء لا تسري إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه احيانا ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني فإنه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا انه ملازم لما يعانده وينافيه ، فلو لم يكن عين ما يناقضه مفهوما لكنه متحد معه عينا وخارجا فإذا كان الترك واجبا لا محالة يكون الفعل منهيا عنه.

ويرد عليه أولاً ، ان المركب من أمرين ليس له نقيض واحد بل له نقيضان ، أي لكل منهما نقيض ، فيكون نقيض المركب مجموع النقيضين ، واما المركب من حيث هو فلا نقيض له ، وعليه فبناء على اختصاص الوجوب بالموصلة الواجب هو الترك المقيد بالإيصال ، فيكون نقيضه الفعل مع عدم الإيصال ، أي نقيض الترك هو الفعل ، ونقيض الإيصال عدمه وليس له نقيض واحد.

فإذا كان نقيض الواجب حراما يكون الفعل مع عدم الإيصال ، محكوما بالحرمة فلا محالة تنحل الحرمة كالوجوب فيكون الفعل أيضا محكوما بالحرمة غاية الامر حرمة ضمنية.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢١.

وان شئت قلت ان الوجوب المتعلق بالمقدمة الموصلة على مسلكه ينحل إلى وجوبين أحدهما متعلق بالترك والثاني متعلق بالخصوصية ونقيض الترك الواجب بالوجوب المقدمي الضمني هو الفعل فيكون حراما بالحرمة الضمنية فعلى فرض كون هذه ثمرة لوجوب المقدمة لا فرق بين القول بالموصلة والقول بوجوب مطلق المقدمة فإيراد الشيخ الأعظم في محله.

وثانياً : ان هذه الثمرة من اصلها غير تامة : وذلك لان ترك أحد الضدين ليس مقدمة لفعل الآخر ـ كما سيأتي في مبحث الضد ـ مع انه على فرض كونه مقدمة له. الفعل لا يكون حراما ، إذ نقيض الواجب ليس بحرام. مضافا إلى ان النهي الغيري المقدمي غير الناشئ عن المفسدة في الفعل لا يوجب الفساد كما سيأتي.

ثمرة القول بوجوب المقدمة

الصنف الثاني : ما ذكر ثمرة للنزاع في وجوب المقدمة وعدمه.

وهي أمور.

منها : انه إذا توقف واجب على مقدمة محرمة ، وكان الوجوب أهم ، فانه على القول بوجوب مطلق المقدمة تسقط الحرمة مطلقا ، وان لم يأت بذي المقدمة. وعلى القول بعدم الوجوب لا مسقط للحرمة سوى مزاحمتها مع وجوب ما هو أهم منها ، وهي انما تقتضي سقوط الحرمة في صورة الاتيان بالواجب لا مطلقا ، إذ الضرورات تتقدر بقدرها.

وفيه : ما تقدم من ان الوجوب الغيري المقدمي بما انه غير ناش عن المصلحة والغرض فلا يصلح لمعارضة الحرمة النفسية فلا محالة تقدم الحرمة وعليه فلا مسقط للحرمة على القولين سوى مزاحمتها مع وجوب ذي المقدمة فهذه الثمرة لا تكون ثمرة.

ومنها ان نفس وجوب المقدمة في نفسه انما يكون ثمرة للبحث عن ثبوت الملازمة وعدمه : إذ على الأول يحكم بالوجوب وعلى الثاني بالعدم.

واورد عليه بأنه حيث لا يترتب على وجوب المقدمة اثر من الثواب على امتثاله وحصول القرب به ، والعقاب على مخالفته وحصول البعد بها واما لابدَّية الاتيان بما تعلق به عقلا فهي لا تدور مدار القول بوجوبها شرعا.

فمثل هذا الحكم ليس شان الفقيه بيانه والإفتاء به فلا يصح جعله ثمرة لهذا البحث.

وفيه : أولاً : قد تقدم ان موافقة التكليف الغيري ، توجب استحقاق الثواب ، كما ان مخالفته توجب استحقاق العقوبة.

وثانياً : انه إذا ثبت وجوب المقدمة كالوضوء ، بضم الصغرى إلى نتيجة هذه المسألة ، فإشكال عدم ترتب اثر عملي عليه واضح الدفع : لان تطبيق كبريات أخر مستفادة من أدلتها كحصول البرء والإصرار على المعصية وغير ذلك مما سيأتي عليه يوجب ترتب اثر عملي عليه كما لا يخفى.

ومنها : انه على القول بوجوب المقدمة يلزم التوسعة فيما يوجب العبادية.

واورد عليه بأن قصد الأمر الغيري لا يوجب اتصاف الفعل بالعبادية ، وقد

تقدم الكلام في ذلك وعرفت انه يوجب القرب أيضا.

ولكن مثل هذه الثمرة لا توجب كون البحث المزبور أصوليا : إذ المسألة الأصولية ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلي الفرعي ، ومسألتنا هذه ليست كذلك فإن المترتب عليها انما هو ما ثبت من طريق آخر على إتيان المقدمة بقصد امرها فلا تصير المسألة بذلك أصولية ، إلا ان ذلك يكفي ثمرة عملية لوجوب المقدمة ويخرج بذلك عن كونه حكما لغوا ليس شأن الفقيه بيانه.

ومنها : انه من المسلم عند الأصحاب ، ان الامر المعاملي يوجب الضمان ، فلو امر بما له مقدمة فعلى القول بوجوب المقدمة يكون الامر ضامنا بالنسبة إليها أيضا ، وعلى القول بعدمه لا يكون ضامنا لها.

واورد عليه بأن الوجوب بنفسه لا يوجب الضمان ، والوجه في الضمان في الامر المعاملي ما ذكر في محله من رجوعه إلى معاملة خاصة وهو جعل العمل في مقابل مال خاص وان الظاهر من الامر ذلك ، وحينئذٍ في المقام بنينا على وجوب المقدمة أو على عدمه لا يفرق من هذه الجهة ، ووجوب المقدمة المترشح من وجوب آخر على القول به لا يوجب الضمان.

وفيه : ان الامر بنفسه ظاهر في كونه معامليا أي أمرا بالعمل لا مجانا ، فلو كان الامر بذي المقدمة مستلزما للأمر بالمقدمة ، فهو أيضا يوجب الضمان ، فلو أتى بالمقدمات ولم يأت بذي المقدمة ضمن.

اللهم إلا ان يقال ان الامر بذي المقدمة يوجب الضمان على المقدمات حتى بناءً على عدم استلزام الامر بذي المقدمة للأمر بالمقدمة ، فتأمل فإن المسألة

تحتاج إلى تأمل أزيد من ذلك.

وعلى كل حال يجري فيه ما ذكرناه في سابقه من عدم كون هذه الثمرة موجبة لكون البحث عن وجوب المقدمة أصوليا.

ولكنها تكفي أثرا عمليا موجبا لخروج وجوب المقدمة عن اللغوية.

ومنها : برء النذر بالإتيان بالمقدمة لو نذر الاتيان بواجب على القول بوجوب المقدمة.

والحق ان هذه الثمرة كسابقتها وان لم توجب بنفسها كون المسألة أصولية إذ ثمرة المسألة الأصولية لا بد وان يكون حكما فرعيا كليا مثل نفس وجوب الوفاء بالنذر ، واما تطبيق هذا الحكم على مصاديقه فليس نتيجة المسألة الأصولية.

ولكن تكفى ثمرة عملية يخرج وجوب المقدمة بذلك عما قيل من عدم كون بيانه وظيفة الفقيه لعدم ترتب الأثر عليه.

واما ما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) من ان البرء وعدمه انما يتبعان قصد الناذر.

ففيه : انه لو نذر الاتيان بمطلق ما تعلق به الوجوب الشرعي. كان حصول الوفاء بإتيان المقدمة مبتنيا على القول بوجوب المقدمة.

ومنها : انه يحصل الإصرار على الحرام الموجب لحصول الفسق بترك واجب

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٣.

له مقدمات إذا قلنا بوجوبها.

واورد عليه المحقق الخراساني (ره) (١) بأن العصيان انما يحصل بترك أول مقدمة لا يتمكن معه من الواجب فلا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا.

وفيه : ان سائر المقدمات وان سقط أمرها لكنه ليس للعصيان بل لسقوط أمر ذي المقدمة إلا أن سقوط أمر ذي المقدمة انما يكون بالعصيان ، فإذا كان الإصرار يحصل بترك واجبين تحقق بترك واجب له مقامات ، على القول بوجوب المقدمة ، وعلى القول بعدمه لا يحصل ، وبه يظهر الحال لو كان الإصرار يحصل بترك واجبات أربعة فانه على القول بوجوب المقدمة يحصل بترك واجبين نفسيين لهما مقدمات ولا يحصل به على القول بعدمه.

مع انه إذا فرضنا عدم ترتب المقدمات بعضها على بعض ، وكان الجميع في عرض واحد فإن بتركها يترك الجميع دفعة واحدة لا طولا ـ وعليه ـ فيحصل الإصرار في ذلك المورد.

واورد على هذه الثمرة المحقق النائيني (ره) (٢) والأستاذ الأعظم بأن المعصية انما تدور مدار الأمر النفسي فليس مخالفة الأمر الغيري بما هو معصية حتى يحصل الإصرار على المعصية بمخالفته.

وفيه : ما تقدم في محله من ان الإطاعة والعصيان ، انما يدوران مدار الامر نفسيا كان أم غيريا. إذ الامر الغيري أيضا يوجب موافقته القرب والثواب ،

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٤.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٤٥ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٥٦.

ومخالفته البعد والعقاب.

ولكن يرد على هذه الثمرة ما أوردناه على سوابقها.

مضافا إلى ما حقق في محله من ان المعصية مطلقا توجب الفسق وعليه ، فلا يبقى مورد لهذه الثمرة إذ بترك المقدمة يترك الواجب النفسي فيوجب الفسق على كل تقدير.

ومنها : عدم جواز اخذ الأجرة على فعل المقدمة على القول بوجوبها لعدم جواز اخذ الأجرة على فعل الواجب.

وفيه : مضافا إلى ما مر ، ما حقق في محله من ان اخذ الأجرة على الواجبات بما أنها واجبة لا مانع عنه ان لم يكن الواجب مما ألقى الشارع ماليته.

ومنها : اجتماع الوجوب والحرمة في المقدمة المحرمة إذا قيل بالملازمة فيما إذا كانت المقدمة محرمة فيبتنى على جواز اجتماع الامر النهي وعدمه بخلاف ما لو قيل بعدمها.

واورد المحقق الخراساني (ره) (١) على ذلك بأمور :

الأول : ان عنوان المقدمة من الجهات التعليلية فالواجب هو ما بالحمل الشائع مقدمة ، وحيث انه الحرام فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادات والمعاملات.

وفيه : ان الواجب على الملازمة ليس ذات المقدمة الخارجية بل هو العنوان

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٤.

الكلي المنطبق عليها ، وقد اجتمع العنوانان في المقدمة الخاصة فيكون من باب الاجتماع.

الثاني : انه إذا كانت المقدمة المحرمة غير منحصرة لما تعلق بها الوجوب بل هو متعلق بغيرها ، وان كانت منحصرة ، فإما لا وجوب لعدم وجوب ذي المقدمة لمزاحمته مع حرمة المقدمة ، واما لا حرمة لها لذلك فلا يلزم الاجتماع أصلا.

وفيه : انه في صورة عدم الانحصار ، لاوجه لاختصاص الوجوب بغير المحرم من المقدمات بعد كون تلك المقدمات وافية بتمام ما يفي به غيرها غاية الامر على تقدير القول بالامتناع وتقديم جانب النهي يسقط وجوبها لذلك.

الثالث : انه لو كانت المقدمة ، توصلية صح التوصل بها ولو لم نقل بجواز الاجتماع. ولو كانت تعبدية لما جاز التوصل بها على القول بالامتناع قيل بوجوب المقدمة ، أم لا ، وجاز التوصل بها على القول بالجواز على المسلكين.

بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المقام

الثاني : في بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة ، ليرجع إليه مع عدم الدليل على شيء من الأقوال ، والكلام فيه في موردين :

١ ـ في بيان الأصل في المسألة الأصولية.

٢ ـ فيما يقتضيه الأصل في المسألة الفقهية.

أما الأول : فقد يقال (١) إن الملازمة بين وجوب المقدمة ، ووجوب ذيها على فرض ثبوتها مسبوقة بالعدم لأنها من الحوادث فيستصحب عدمها.

واورد عليه المحقق العراقي (٢) بانه ليس لها حالة سابقة بل هي اما ثابتة أزلا أو معدومة أزلا فليست مورد الاستصحاب لا وجودا ، ولا عدما.

وفيه : ان الملازمة بما انها في التقرر تابعة لتحقق طرفيها فهي مسبوقة بالعدم ، غاية الامر بمفاد ليس التامة ، فلا مانع من استصحاب عدمها من هذه الجهة.

ولكن لا يجري الاستصحاب من جهة أخرى وهي انه لا يترتب الأثر على ذلك ، لعدم كون وجوب المقدمة أثرا للملازمة كما لا يخفى.

واما المورد الثاني : فمقتضى الاستصحاب عدم وجوب المقدمة : لمعلومية عدم وجوبها حال عدم وجوب ذيها.

وقد استدل لعدم جريانه بوجوه.

الأول : انه يعتبر في جريان الاستصحاب ان يكون التعبد الشرعي بالمستصحب وأثره ممكنا عقلا في نفسه. وحيث انه على تقدير ثبوت الملازمة بين الوجوبين لا يعقل التعبد بعدم وجوب المقدمة فالشك فيها يوجب الشك في إمكان التعبد بعدم وجوبها ، وقد عرفت انه مع عدم إحراز إمكان التعبد لا

__________________

(١) كما في كفاية الأصول ص ١٢٥ (في تأسيس الأصل في المسألة).

(٢) نهاية الأفكار ج ٢ ص ٣٥٠ (تأسيس الأصل في المسألة).

يجري الاستصحاب.

وأجاب المحقق الخراساني (ره) (١) عن ذلك بأن الملازمة على فرض ثبوتها فإنما هي بين الوجوبين الواقعيين ، وأصالة عدم وجوب المقدمة فعلا مع وجوب ذيها كذلك لا تنافى تلك ـ نعم ـ لو كانت الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الفعليين صح التمسك بذلك في إثبات بطلانها.

ويرد على ذلك على ما هو ظاهره بدوا ما أورده المحقق العراقي (ره) من ان من يدعى الملازمة انما يدعيها بين الفعليين أيضا.

ولكن الظاهر بعد التأمل انه اراد ما حاصله : ان الملازمة على فرض ثبوتها انما هي بين الوجوبين الواقعيين لابين الوجوبين الواصلين بهذا القيد. ففي مرحلة الوصول يمكن ان يصل وجوب ذي المقدمة ولا يصل وجوب المقدمة. فيحكم في الظاهر بعدم وجوبها غير المنافي لوجوبها واقعا ، وعلى هذا فهو متين جدا.

وبه يظهر عدم تمامية ما ذكره بعضهم من انه إذا جرى الأصل وثبت عدم وجوبها يستكشف منه عدم ثبوت الملازمة بين الملازمة بين الوجوبين. فانه بالاستصحاب لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت.

ويمكن ان يجاب عن هذا الوجه بجواب آخر ، وهو انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب إحراز إمكان التعبد بل يعتبر عدم إحراز استحالته : إذ

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٦ بتصرف.

الاستصحاب كسائر الأحكام الشرعية يلزم اتباعه ما لم يحرز الامتناع.

وبالجملة سيأتي في محله ان ظهورات كلمات المولى تكون متبعة ما لم تثبت الاستحالة ومجرد احتمالها لا يكون مانعا.

الثاني : ان وجوب المقدمة على تقدير الملازمة من قبيل لوازم الماهية غير مجعولة ولا اثر مجعول مترتباً عليه فلا يجري الأصل إذ يعتبر في جريانه كون المستصحب مجعولا شرعيا أو موضوعا لما هو مجعول شرعي.

وأجاب المحقق الخراساني عن ذلك بأن وجوب المقدمة وان كان غير مجعول بالذات لا بالجعل البسيط ، ولا بالجعل التأليفي الا انه مجعول بالعرض وبتبع جعل وجوب ذي المقدمة وهو كاف في جريان الأصل.

وتنقيح القول في ذلك : ان لوازم الماهية على قسمين :

الأول : ما إذا كان ذلك الشيء منتزعا عن الماهية بلحاظ نفسها مع قطع النظر عن الوجودين الذهني والخارجي ، كالإمكان بالقياس إلى الإنسان.

الثاني : ما يكون لازما للماهية سواء كانت موجودة في الذهن ، أو في العين كالزوجية بالقياس إلى الأربعة ومعلوم ان إرادة المقدمة بالنسبة إلى إرادة ذي المقدمة ليست من القسمين ، بل هي على تقدير الملازمة تابعة للوجود الخارجي لارادة ذي المقدمة فهو من لوازم الوجود الخارجي.

وحيث انه لوجوب المقدمة وجود غير ما لوجوب ذي المقدمة من الوجود فلبرهان وحدة الإيجاد والوجود يكون لكل منهما إيجاد مغاير للآخر فهو بنفسه مجعول شرعي فلا مانع من إجراء الأصل فيه.

الثالث : انه لو كان المستصحب حكما شرعيا يعتبر في جريان الأصل فيه ترتب ثمرة عملية عليه ، وحيث ان وجوب المقدمة لا يترتب عليه اثر عملي للأبدية الإتيان بها على كل تقدير وعدم ترتب الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته فلا يجري فيه الأصل.

وفيه : ما عرفت من ترتب عدة ثمرات على وجوب المقدمة غير لابدية الإتيان بها وعليه فيجري الأصل فيه ويترتب عليه تلك الآثار.

فتحصل ان الأظهر جريان أصالة عدم وجوب المقدمة فعلى فرض عدم الدليل على الوجوب يبني على عدم الوجوب.

دليل القول بوجوب المقدمة

الثالث : فيما استدلوا به لوجوب المقدمة وقد ذكروا وجوها.

منها : ما أفاده الشيخ الأعظم (١) وتبعه المحققان الخراساني (٢) والنائيني (٣) وحاصله ان من راجع وجدانه وانصف من نفسه يقطع بأن الملازمة بين الطلب المتعلق بالشيء والمتعلق بمقدماته ثابتة ، لا نقول بتعلق الطلب الفعلي بها ،

__________________

(١) مطارح الأنظار ص ٨٣.

(٢) كفاية الأصول ص ١٢٦.

(٣) راجع أجود التقريرات حيث ذكر أن الوجدان أقوى شاهد على الملازمة ج ١ ص ١٣٨ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٠٤ ، ثم في ج ١ ص ٢٣٢ اعتبر ان الوجدان حاكم بالملازمة مع قصد ذيها وترتبه عليها وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣٧ (الثاني).

كيف والبداهة قاضية بعدمه لجواز غفلة الطالب عن المقدمية ، إذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع حتى لا يتصور في حقه ذلك ، بل المقصود ان الطالب لشيء إذا التفت إلى مقدمات مطلوبه يجد من نفسه حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلقة بذيها كما قد يتفق هذا النحو من الطلب أيضا فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك أو إلى كونه ابنه فإن الطلب الفعلي في مثله غير متحقق لابتنائه على الالتفات لكن المعلوم من حاله انه لو التفت إلى ذلك لاراد من عبده الإنقاذ ، وهذه الحالة وان لم تكن طلبا فعليا إلا انها تشترك معه في الآثار ولهذا نرى بالوجدان في المثال المذكور انه لو لم ينقذ ابن المولى عد عاصيا ويستحق العقاب.

واوضحه المحقق النائيني (ره) (١) بما محصله.

انه كما ان من اشتاق إلى فعل نفسه لا محالة ينبعث منه الشوق إلى مقدماته كذلك لو اشتاق إلى ما هو فعل الغير ، فكما انه لو أراد شيئا وكان ذلك الشيء يتوقف على مقدمات ، لا محالة يريد تلك المقدمات وتتولد من تلك الإرادة إرادة المقدمات قهرا كذلك إرادة الامر ، ولا مورد للإيراد عليه بانه لا موجب لارادة المقدمات بعد حكم العقل بانه لا بد من إتيانها لتوقف الطاعة عليها ، وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها ، فانه ليس الكلام في الحاجة وعدم الحاجة بل كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الامر قهرا بحيث لا يمكن ان لا يريدها فلا تصل النوبة إلى الحاجة وعدمها.

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ج ١ ص ١٣٧ ـ ١٣٩ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

نعم لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة ، لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها وكان الأقوى حينئذ عدم وجوبها إلا انه ليس الكلام فيه بل في الوجوب القهري الترشحي وهذا النحو من الوجوب بما لا بد منه.

وبما ذكرناه في توضيح ما أفاده المحقق النائيني يظهر اندفاع ما أورده عليه بعض الأعاظم (١) وهو انه لم يقم برهان على عدم الفرق بين الارادتين في جميع اللوازم والآثار ، بل الدليل على خلافه. فإن استلزام تعلق الإرادة التكوينية بشيء لتعلق إرادة أخرى بمقدمته ، انما هو لأجل ان فعل المريد نفسه لا يتحقق إلا بعد الإتيان بالمقدمة فلا مناص عن إرادتها.

واما الإرادة التشريعية ، فحيث انها متعلقة بفعل الغير ، فلا تستلزم تعلق إرادة أخرى بمقدماته.

وبعبارة أخرى ان الاستلزام في الإرادة التكوينية انما هو لأجل توقف فعله على المقدمة المتوقفة على ارادتها ، وهذا المناط ليس في الإرادة التشريعية ، بل المتعلق لها انما هو فعل الغير وتحت اختياره فلا موجب لتعلق إرادة أخرى بمقدماته.

وان شئت قلت ان الإرادة التكوينية لا تتعلق بذي المقدمة الا بعد إيجاد المقدمة المتوقف على ارادتها ، فارادة ذي المقدمة متوقفة على إرادة المقدمة خارجا ، وهذا بخلاف الإرادة التشريعية كما لا يخفى.

__________________

(١) الظاهر أنه المحقق الأصفهاني في نهاية الدراية ج ١ ص ٤٧٢.

فإن هذا الايراد يتم لو كان المدعى تعلق إرادة مستقلة أصلية ، ولا يتم في القهرية التبعية الترشحية لو التفت إليها.

واورد عليه الأستاذ الأعظم (١) بايرادين :

الأول : ان تعلق الشوق بفعل الغير لا يستلزم تعقله بمقدماته بعد فرض كونه تحت اختيار الغير وان صدوره انما يكون باختياره.

وفيه : ان الشوق كما يتعلق بفعل الغير كذلك يتعلق بما لا يمكن مع عدمه وجود المشتاق إليه.

الثاني : ان التكليف ليس هو الشوق بل حقيقته اعتبار كون الفعل على ذمة الغير ، وهذا فعل من أفعال المولى ويحتاج في خروجه عن اللغوية إلى ترتب اثر عملي عليه ، وحيث ان صدور المقدمة خارجا لازم على المكلف وان لم يأمر به لتوقف الواجب النفسي عليه ، فالأمر بها لغو محض لا يصح صدوره من الحكيم.

وفيه : ان المدعى التبعية القهرية اذ المصلحة المترتبة على ذي المقدمة كما اوجبت جعل الوجوب له كذلك توجب جعل الوجوب قهرا لما هو واقع في سلسلة علل وجوده.

وبعبارة أخرى : كما ان الشوق يتعلق بها قهرا كذلك ما يتبعه وهو جعل

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٣٠ ـ ٢٣١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

الوجوب واختياريته انما تكون من جهة كون علته وهو جعل الوجوب على ذي المقدمة تحت الاختيار والقدرة لا من جهة تعلق القدرة به مستقلا.

فالمتحصل تمامية هذا الوجه.

ومنها : اتفاق أرباب العقول كافة عليه على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل نظير الإجماع الذي ادعى في علم الكلام على وجود الصانع أو على حدوث العالم ، فإن اتفاق أرباب العقول كاشف قطعي إجمالا عن حكم العقل ، وليس ذلك هو الإجماع المصطلح كي يورد عليه بعدم جواز التمسك بالإجماع في المسألة العقلية ، لعدم كونه كاشفا عن رأى المعصوم (ع).

ولكن يرد عليه انه لا مثبت لوجود هذا الاتفاق.

ومنها : ما عن المحقق السبزواري (١) ، وحاصله انه يلزم من عدم وجوب المقدمة عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقا للعقاب ، بيان الملازمة انه إذا كلف الشارع بالحج ولم يوجب المسير إليه فترك العبد المسير إليه ولم يأت بالحج ، فاما ان يستحق هذا التارك العقاب في زمان ترك المشي أو في زمان ترك الحج ، في موسمها المعلوم ، لا سبيل إلى الأول لانه لم يصدر منه في ذلك الزمان الا ترك المشي غير الواجب عليه ، ولا إلى الثاني لان إتيان الحج في ذلك الزمان ممتنع بالنسبة إليه فكيف يستحق العقاب بما يمتنع الصدور منه.

ثم نقول إذا فرضنا ان العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان الفعل

__________________

(١) كما حكاه عنه غير واحد كالمجدد الشيرازي في تقريراته ج ١ ص ٤١٣ ، والشيخ الأنصاري في مطارح الأنظار ص ٨٦ في رسالته المعمولة.

فاما ان يستحق العقاب أولاً ، لاوجه للثاني لانه ترك الواجب مع كونه مقدورا له فيثبت الأول ، فاما ان يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو قبلها لاوجه للأول ، لان العقاب انما يكون على الفعل القبيح ، ولا للثاني لان السابق على النوم لم يكن الا ترك المقدمة والمفروض عدم وجوبها.

وفيه : ان لنا اختيار كلا الشقين :

اما الأول : فقوله ان العقاب في زمان ترك المقدمة لاوجه له لعدم كونه واجبا.

يرد عليه : انه انما يستحق العقاب على ترك المقدمة لكونه سببا لترك الحج الواجب فإن تركه مستند إلى ترك المقدمة اختيارا.

واما الثاني : فقوله ان ترك الحج غير مقدور له فلا يمكن اتصافه بالقبح ولا استحقاق للعقاب عليه.

يرده ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وخطابا.

وبعبارة أخرى : ان الحج اوجبه الشارع وهو مقدور بواسطة القدرة على مقدماته فالعبد قد ترك الواجب المقدور عليه فيستحق العقاب بذلك وامتناعه في ظرفه انما هو بسوء اختيار العبد.

واما ما ذكره اخيرا من فرض العبد نائما حين الفعل ، فيرد عليه ، انه ان استند ترك الحج مثلا إلى النوم لا يستحق العقاب ولكن في الفرض انما يكون مستندا إلى ترك المقدمة في زمانها وهذا النوم المفروض وقوعه في زمان امتناع الفعل وجوده وعدمه سيان وهذا واضح.

ومنها : ما أفاده المحقق السبزواري (١) أيضا.

وحاصله انه ان لم تجب المقدمة فوجوب ذي المقدمة بالاضافة إليها وجودا وعدما اما ان يكون مطلقا أو يكون مشروطا بوجودها.

فإن كان مطلقا كان معناه وجوب ذي المقدمة في ظرف عدم الاتيان بالمقدمة وهو ممتنع لانه تكليف بما لا يطاق فيثبت كونه مشروطا باتيان المقدمة ولازمه عدم استحقاق العقاب بترك ذي المقدمة من ناحية ترك مقدمته لعدم الوجوب حينئذ لفقدان شرط الوجوب فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب.

وفيه : أولاً انه لو تم ما افيد لزم عدم وقوع الكذب في الأمور المستقبلة مثلا لو اخبر المخبر بانه يسافر غدا فعلى فرض عدم المسافرة لاوجه لتكذيبه إذ اخباره بالمسافرة اما ان يكون على تقدير ايجاد جميع المقدمات والمفروض عدم وجود واحدة أو اكثر منها فلا يكون كذبا إذ عدم تحقق الملزوم في فرض عدم تحقق اللازم ليس كذبا في القضية الشرطية.

وثانياً بالحل وهو ان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بين القيود فمعنى اطلاق وجوب ذي المقدمة انه لا نظر له إلى المقدمات وجودا وعدما والمفروض كونه في الفرضين تحت قدرته واختياره فلا اشكال فيه.

ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني (٢) وهو وجود الاوامر الغيريَّة في الشرعيات والعرفيات فإن ذلك من اوضح البرهان على وجوب المقدمة ، لوضوح انه لا

__________________

(١) كما حكاه عنه أيضا في تقريرات المجدد الشيرازي ج ٢ ص ٤١٦.

(٢) كفاية الأصول ص ١٢٦ (في تأسيس الأصل في المسألة).

يكاد يتعلق بمقدمة امر غيري الا إذ كان فيها مناطه ، وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصح تعلقه بها أيضا لتحقق ملاكه. والتفصيل بين السبب وغيره والشرط الشرعي وغيره سيأتي بطلانه.

وفيه : ان هذا يتم لو كانت تلك الاوامر مولوية ، وقد ثبت في محله ان الاوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط ظاهرة في الارشاد إلى شرطيتها وجزئيتها ، كظهور النواهي الواردة في الموانع والقواطع في الإرشاد إلى مانعيتها وقاطعيتها.

ومنها : ما ذكره البصري (١) ، وهو انه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها وحينئذٍ فإن بقى الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق ، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.

وفيه : ان الملازمة ممنوعة. سواء اريد بالجواز الجواز الشرعي ، بالمعنى الأعم ، أو الاخص ، أم اريد به الجواز اعم من الشرعي والعقلي.

اما على الأول : فلانه يمكن ان لا تكون محكومة بحكم اصلا.

ودعوى ، انه لا تخلو واقعة عن حكم شرعي متعلق بها.

مندفعة بأن هذا من حيث هو ، واما بلحاظ طرو المانع فربما تكون الواقعة غير محكومة بحكم ، كاستدبار الجدي حال الصلاة فانه لا يكون محكوما بحكم ترخيصي ، لمنافاته مع وجوب الاستقبال ، ولا محكوما بحكم الزامي لعدم المصلحة

__________________

(١) راجع المعتمد في أصول الفقه لأبو الحسن البصري الأشعري المتوفى سنة ٣٢٦ ه‍. ق ، ج ١ ص ٩٤. ونقله عنه في الكفاية ص ١٢٧.

والمفسدة.

واما على الثاني : فلان عدم الوجوب شرعا لا يلازم الجواز عقلا ، بل العقل يحكم بلزوم الاتيان بها كما في اطراف العلم الاجمالي حيث ان الالزام الشرعي ليس بازيد من واحد الا ان العقلي منه متعدد.

وان اريد بالجواز عدم المنع الشرعي من الترك ، فالملازمة وان كانت ثابتة ولكن مع حكم العقل بلزوم الاتيان بها لا يترتب محذور على الامر بذي المقدمة كما لا يخفى.

فالمتحصل تمامية الوجه الأول فحسب وكفى به مدركا للقول بوجوب المقدمة.

التفصيل بين المقدمة السببية وغيرها

وربما يفصل بين السبب وغيره بوجوب الأول دون الثاني.

واستدل لوجوب الأول بأن الامر المتعلق بالمسبب متعلق به.

ويرد عليه : مع قطع النظر عن كون ذلك خارجا عن محل الكلام.

غير تام في نفسه. وتنقيح القول فيه ان في تعلق الامر المتعلق بالمسبب بالسبب ، اقوالا :

احدها : انه متعلق بالسبب مطلقا عقلا.

ثانيها : انه متعلق به نفسه كذلك.

ثالثها : التفصيل : بين ما لو كانت الواسطة من قبيل الآلة مثل انكسار الخشبة المتحقق بإيصال الآلة قوة الإنسان إليها فالمتعلق هو المسبب ، وبين ما لو لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر ، كما في إلقاء النفس إلى السبع فيتلفها ، أو إلقاء شخص في النار فتحرقه ، فيرجع الامر إلى التعلق بالسبب.

وقد استدل للأول بوجهين :

احدهما : ان المعتبر في متعلق التكليف ان يكون فعلا صادرا عن المكلف ، والمسبب ليس كذلك فإن المسبب من فعل السبب والواسطة : لانفكاكه عن المكلف في بعض الاحيان ، كما إذا رمى سهما فمات فاصاب زيدا بعد موت الرامي ، فلو كان الفاعل هو المكلف الرامي لما جاز وجود القتل في ظرف عدم الرامي : لامتناع انفكاك المعلول عن علته زمانا فيكشف ذلك عن عدم كون الفاعل في المثال هو الرامي ، بل هو السهم غاية الامر انه لم يكن فاعلا بالطبع وانما يكون فاعليته من جهة احداث الرامي القوة فيه.

وفيه : ان المسبب من أفعال المكلف بنظر العرف ، فانه عندهم ليس هناك وجودان وايجادان ، بل وجود واحد ، وهذا يكفي في تعلق التكليف.

مع انه لم يدل دليل على اعتبار كون المتعلق من أفعال المكلف بل الذي دل عليه الدليل هو كون المأمور به بيد المكلف وباختياره وان كان من قبل الواسطة.

وبعبارة أخرى يعتبر كون المكلف به مستندا إلى المكلف وان لم يكن فعله.

الثاني : عدم كون المسبب مقدورا إذ هو مع قطع النظر عن سببه لا يقدر

عليه المكلف ومع وجوده يكون واجب الصدور فعلى أي تقدير غير مقدور.

ويرد عليه ان المسبب وان لم يكن مقدورا بالمباشرة الا انه مقدور بواسطة القدرة على سببه.

واستدل المحقق اليزدي (١) للثالث بأن متعلق الطلب لا بد وان يكون معنى مصدريا صادرا عن المكلف فلو لم يكن كذلك بأن لم يكن من معنى المصدر كما في الأعراض التي تكون بالنسبة إلى محالها كونها حالة فيها من دون ان تكون صادرة عن محالها كالموت والحياة والبياض والسواد ، أو كان ولم يكن صادرا من المأمور لم يمكن تعلق الأمر به.

اما الأول فواضح.

واما الثاني فلان الإرادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل إلى الفعل ولا يمكن تحريكها الا إلى فعل نفسه فإذا كان الطلب صورة متعلقا بما ليس من الفعل الصادر من الفاعل يجب توجيهه بما يرجع إلى ذلك ، وعليه فإذا تعلق بما ليس بينه وبين المكلف الا آلة توصل قوة الفاعل إلى القابل ، وما إذا تعلق بالافعال التي ليست فعلا له بل هي من أفعال الواسطة ، ففي الأول التكليف متعلق بنفس ذلك الفعل ، وفي الثاني يجب ارجاعه إلى السبب.

ويرده ان المعتبر في تعلق التكليف ، كونه من حركات المكلف ، ومستندا إليه ، ومن الواضح ان المسبب في الموردين من هذا القبيل.

__________________

(١) وهو العلامة المجدد آية الله الشيخ عبد الكريم بن محمد جعفر المهرجردي الحائري اليزدي المتوفى ١٣٥٥ في كتابه درر الفوائد ج ١ ص ٩٠.

فالأظهر هو التعلق بالمسبب.

نعم يمكن ان يوجه تعلقه بالسبب ، بما قد مر من ان المقدمات السببية خارجة عن محل الكلام وهي واجبة بالوجوب النفسي لا الوجوب المقدمي إذ إرادة المسبب بعينها إرادة السبب وكذلك البعث نحوه بعينه بعث نحو سببه وكذلك التحرك نحو احدهما عين التحرك نحو الآخر بل بالنظر العرفي ليس هناك الا وجودا واحدا وحركة واحدة فعلى هذا لا معنى لجعل وجوبين.

الواجب الاصلي والتبعي

ثم انه ذكر المحقق صاحب الكفاية (١) في المقام انقسام الواجب إلى الأصلي والتبعي مع ان المناسب عليه كان درج هذا التقسيم في الأمر الثالث لانه من شئون تقسيم الواجب وكيف كان ففي الكفاية.

والظاهر ان يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت حيث يكون الشيء تارة متعلقا للإرادة والطلب مستقلا للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه كان طلبه نفسيا أو غيريا وأخرى متعلقا للإرادة تبعا لارادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب إرادته. انتهى

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٢ (ومنها).

ولكن الأصلي والتبعي بالمعنى الذي ذكره لهما لا تقابل بينهما.

توضيح ذلك ان الأصلي والتبعي تارة يطلقان بلحاظ مقام الإثبات والدلالة فالمراد ، بالأصلي هو ما كان مقصودا بالإفهام من الخطاب بحيث تكون دلالة الكلام عليه بالمطابقة ، وبالتبعي هو ما لم يكن كذلك بل كانت دلالة الكلام عليه بالتبعية والالتزام ، وهذا التقسيم لا يترتب عليه ثمرة.

وأخرى يطلقان بلحاظ مقام الثبوت ، والاطلاق بلحاظ هذا المقام قد يكون بلحاظ تعلق الالتفات إذ ربما يكون المحبوب ملتفتا إليه مستقلا ، وربما يكون ملتفتا إليه ارتكازا واجمالا بمعنى انه لو التفت إلى موجبها لاراده.

وبهذا المعنى يتصف كل من النفسي والغيري بالأصلي والتبعي ، ولا يختص التقسيم اليهما بالغيري ، مثلا. تارة يعلم المولى بأن ابنه أشرف على الغرق وملتفت إلى ذلك ويأمر عبده بإنقاذه. وأخرى لا يلتفت إليه ويكون وجوب الإنقاذ حينئذ بحكم العقل ، وهذا هو الوجوب النفسي التبعي أي لو التفت إلى موجبه لأوجبه.

وقد يطلقان بلحاظ تعلق الإرادة ، فانه ربما يكون تعلق الإرادة لانه محبوب وفيه مصلحة ، وربما يكون من جهة ترشحها من إرادة متعلقة بشيء آخر ، وبهذا المعنى يختص الأصلي بالواجبات النفسية وهي منحصرة فيه. ويختص التبعي بالغيريَّة.

وبعبارة أخرى يكون هذا التقسيم بعينه التقسيم السابق أي التقسيم إلى النفسية والغيريَّة ، إذ الواجب النفسي ما يكون متعلقا للارادة مستقلا ناشئة عن محبوبيته ، والغيري يكون متعلقا للارادة ، المترشحة من إرادة أخرى ، فوجوب

الواجب النفسي أصلي ، ووجوب الغيري تبعي.

والمحقق الخراساني حيث جعل الأصلي بالمعنى الثاني ـ أي الملتفت إليه استقلالا ـ مقابلا وقسيما للتبعي بالمعنى الثالث أي المراد بالارادة المترشحة ، التزم بجريان القسمين في الواجبات الغيريَّة دون النفسية ، وبما ذكرناه عرفت عدم التقابل بينهما ، وان الواجب الغيري لا يعقل كونه ، اصليا بالمعنى الأخير.

وبالجملة ، هذا التقسيم باللحاظين الاولين لا يترتب عليه ثمرة ، وباللحاظ الاخير يرجع إلى التقسيم السابق.

قال في الكفاية (١) إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة فإذا شك في واجب انه أصلي أو تبعي فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت انه تبعي انتهى.

واورد عليه المحقق الأصفهاني (٢) بأن معنى عدم استقلالية الإرادة لو كان نشوها عن إرادة أخرى وترشحها منها فالأصلية موافقة للأصل إذ الترشح من إرادة أخرى أمر وجودي مسبوق بالعدم ، والاستقلال على هذا أمر عدمي ، وهو عدم نشوها عن إرادة أخرى.

وفيه ان الموضوع إذا قيد بأمر عدمي فإن كان ذلك هو عدم الاتصاف يجري الأصل فيه فإذا كان الجزء الآخر محرزا بالوجدان أو بالأصل يترتب عليه الأثر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٢٣.

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٤١٠ (تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي).

كما هو الشأن في كل موضوع مركب من أمرين وجوديين الذي لا يكون الدخيل وصف اجتماعهما أو غير ذلك من العناوين.

واما إذا كان ذلك هو الاتصاف بعدم ذلك القيد فإن كان لهذا العدم النعتي حالة سابقة يجري الأصل فيه ، وإلا فلا فإن استصحاب العدم المحمولي لاثبات العدم النعتي من الأصول المثبتة.

وحيث ان في المقام الوجوب الأصلي هو المقيد بعدم الترشح من الغير فالعدم المأخوذ فيه عدم نعتي فاستصحاب عدم الترشح بنحو العدم المحمولي لا يصلح لاثباته.

مقدمة الحرام

ثم انه مما ذكرناه في مقدمة الواجب يظهر الحال في مقدمة المستحب فإن الكلام فيهما واحد.

واما مقدمة الحرام فقد يقال ان ما ذكر في مقدمة الواجب بعينه يجري في مقدمة الحرام ، إذ ما يكون حراما لا محالة يكون تركه واجبا ، فترك المقدمة التي به يترك الحرام يكون مقدمة الواجب ، فعلى القول بوجوبها ، يجب ذلك الترك فيحرم فعلها إذ نقيض الواجب حرام.

نعم ، بين المقامين فرق ، وهو ان الفعل إذا وجب حيث انه يتوقف على جميع المقدمات فتجب الجميع ، واما إذا كان الترك واجبا ، فجميع التروك أي ترك المقدمات ليست مقدمة لترك ذي المقدمة ، بل هو يترك بترك مقدمة واحدة ، فهو

الواجب دون الجميع فيجب احداها تخييرا ولكن هذا ليس بفارق في المقام.

ويرد عليه ان ترك الحرام ليس بواجب ، لعدم المصلحة في الترك ، والوجوب تابع لها ، بل انما نهى عن الفعل لوجود المفسدة فيه.

وحق القول في المقام ان يقال ، ان مقدمة الحرام على قسمين :

الأول ما إذا لم يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وارادته.

الثاني ما يتوسط بينهما الإرادة.

اما الأول : فهو على أقسام.

١ ـ ما إذا لم تكن بينهما رابطة ولكن من باب الاتفاق صار كذلك كمن يعلم من نفسه انه لو دخل في المكان الفلاني لاضطر إلى ارتكاب الحرام قهرا.

٢ ـ ما إذا كان بينهما ارتباط وكانت المقدمة سببا وعلة لذي المقدمة ولكل منهما وجود يختص به كما في اسقاء السم المترتب عليه إزهاق الروح بعد مدة من الزمان. وكطلوع الشمس الذي يكون علة لضوء النهار وامثال ذلك من المسببات التوليدية.

٣ ـ ما إذا كان بينهما ارتباط وكانا موجودين بوجود واحد وكان هناك فعل واحد معنون بعنوانين طوليين كما في العناوين التوليدية مثل الانحناء والتعظيم ، وبحسب النظر العرفي كما في الإلقاء في النار والإحراق.

وكذا الحال في الطهارات الثلاث وفري الأوداج والقتل وامثال ذلك.

وقد حكم المحقق الخراساني (١) بحرمة المقدمة في جميع هذه الأقسام بالحرمة الترشحية الغيريَّة.

وحكم المحقق النائيني (ره) (٢) بحرمتها بالحرمة النفسية.

وأفاد في القسم الأول في غير المقام بأن المقدمة حينئذ من قبيل المقدمة المفوتة وتقدم منه ان العقل مستقل بقبحها وبضميمة قاعدة التلازم يستفاد حرمتها.

وأفاد في القسم الثاني ان المقدمة هي التي تعلق بها القدرة والإرادة أولاً وبالذات والمعلول انما يكون مقدورا بتبعها فتسري إليها الحرمة المتعلقة به.

وأفاد في القسم الثالث ان ما فيه المفسدة هو الفعل المعنون فلا محالة يكون هو المتعلق للحرمة غاية الامر لا بصورته الأولى بل بعنوانه الثانوي.

وبعبارة أخرى ان الصادر عن المكلف فعل واحد معنون بعنوانين طوليين أولي وثانوي فالحكم المتعلق بأحدهما متعلق بالآخر.

ما أفاده (قدِّس سره) في القسم الأخير متين جدا وان كان المثال الفقهي الذي ذكره ، وهو إجراء الماء على أجزاء البدن للوضوء المنصب على ارض مغصوبة بلا وساطة جريانه على ارض مباحة ليس من هذا القبيل : لان جريان الماء على

__________________

(١) كما هو الظاهر من كلامه (قدِّس سره) في كفاية الاصول ص ١٢٠ عند قوله : «ثم انه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى ... الخ».

(٢) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ٤ ص ١١١ ـ ١١٢.

أجزاء البدن خارجا مغاير وجودا لجريان الماء على الأرض المغصوبة.

واما ما أفاده في القسم الثاني فقد مر الكلام فيه في المقدمة السببية وعرفت ان المحرم هو المسبب والسبب لا حرمة نفسية له.

واما ما أفاده في القسم الأول فقد مر ما فيه في المقدمات المفوتة وبينا انه لا يستكشف الحكم من هذا الحكم العقلي.

نعم ، في القسم الثاني بناءً على ثبوت الملازمة يمكن ان يقال ان هذه المقدمة محكومة بحكم ترشحي مقدمي كما في مقدمة الواجب بعين الوجه الذي ذكرناه فيها.

ولعل مراد المحقق الخراساني هو هذا القسم دون القسمين الآخرين وعليه فما أفاده متين جدا (١).

والحمد لله أولاً وآخرا.

* * *

__________________

(١) إلى هنا تم الجزء الأول من الطبعة الأولى.

الفصل الخامس

في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدمه

وقبل الدخول في البحث لا بد من تقديم مقدمات :

المقدمة الأولى هل هذه المسألة من المبادئ الاحكامية ، أو من المبادئ التصديقية ، أو من المسائل الأصولية ، أو الفقهية ، فيه وجوه :

١ ـ انها من المبادئ الاحكامية ، وهي المسائل التي تكون محمولاتها من عوارض الاحكام التكليفية أو الوضعية كتضاد الاحكام وملازمة بعضها لبعض ، ومسألة الضد من هذا القبيل فانه يبحث فيها عن ملازمة الامر بشيء للنهي عن ضده.

وفيه انه لا مانع من كون المسألة فيها جهتان يوجب كل منهما تعنونها بعنوان مستقل ، وهذه المسألة كذلك لما ستعرف من وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط.

٢ ـ انها من المبادئ التصديقية ، فإن موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة ومنها حكم العقل ، والمراد به إذعان العقل بشيء ، فلا محالة تكون المسألة الأصولية هي ما يبحث عن لواحق حكم العقل ، واما ما يبحث فيه عن نفس حكم العقل فهو بحث عن ذات الموضوع ، لا عن عوارضه وحيث ان المبحوث عنه في هذه المسألة الملازمة العقلية بين وجوب شيء وحرمة ضده ، فهي من

المبادئ التصديقية.

وفيه ما مر في أول الأصول (١) من ان موضوع علم الأصول ليس هو الأدلة الأربعة ، بل المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط كانت باحثة عن عوارض الأدلة الأربعة أم لم يكن ومسألة الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده من هذا القبيل.

٣ ـ انها من المسائل الفقهية لان المبحوث عنه في هذه المسألة حرمة ضد الواجب.

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) (٢) بأن علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة ، كالصلاة ، والصوم ، وما شاكل. والبحث عن حرمة كلى ضد الواجب الذي لا ينحصر صدقه بموضوع خاص لا يتكفله علم الفقه.

ويرده ان علم الفقه كما يكون متكفلا لبيان احوال الموضوعات الخاصة بعناوينها الاولية كذلك يكون متكفلا لبيان احوال العناوين العامة التي تنطبق على كثير من العناوين الخاصة لاحظ : النذر ، والشرط ، واطاعة الوالد وما شاكل.

والحق في الجواب ان البحث ليس ابتداءً في حرمة الضد ، بل البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضده وعدم ثبوتها ، وبديهي ان البحث

__________________

(١) زبدة الأصول ج ١ ص ١٦ ، الطبعة الأولى وفي هذه الطبعة ص ٣٩.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢١٣ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣١٠ (وأما جعلها) في معرض الحديث عن مقدمة الواجب.

عن ذلك ليس بحثا فقهيا.

والصحيح انها من المسائل الأصولية ، لوقوع نتيجتها واسطة في استنباط الحكم الشرعي بلا حاجة إلى ضم كبرى أصولية أخرى : إذ يترتب على ثبوت الملازمة حرمة الضد وعلى عدم ثبوتها عدم حرمته.

ولو نوقش في ذلك وقيل ان حرمة الضد بما انها حرمة غيرية لا تصلح لان تكون ثمرة للمسألة الأصولية.

اجبنا عنه بانه على فرض القول بعدم ثبوت الملازمة يترتب على هذه المسألة صحة الضد العبادي ، وعلى ثبوتها عدم صحته ، كما سيمر عليك وهذا يكفي في كون المسألة أصولية.

المقدمة الثانية : الظاهر ان هذه المسألة من المسائل العقلية ، لا من مباحث الألفاظ : إذ الحاكم بالملازمة انما هو العقل ، غاية الامر ان هذا الحكم العقلي انما هو من الاحكام العقلية غير المستقلة ، وهي ما لا يستنبط منه الحكم إلا بعد ضم مقدمة شرعية إليه ، وليس من الاحكام العقلية المستقلة ، وهي التي يستنبط منها الاحكام بلا احتياج إلى ضم شيء آخر إليها : وذلك لانه لا يستنبط من حكم العقل بالملازمة حرمة شيء الا بعد ضم وجوب ضده إليه.

وتوهم انحصار الاحكام العقلية في القسم الثاني ، أوجب جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ وإلا فلا صلة لها بها.

المقدمة الثالثة : ان المراد بالضد هو مطلق المنافي ـ توضيح ذلك ـ ان المنافي تارة يكون وجوديا كالأضداد الخاصة ـ أو الجامع بينها ـ وأخرى يكون

عدميا كالترك الذي هو المسمى عندهم بالضد العام ـ وقد يعبر عن الجامع بين الأضداد الخاصة بالضد العام ـ والضد الخاص ، تارة يكون واحداً فيكون الضدان مما لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، وأخرى يكون متعددا وهو الضدان اللذان لهما ثالث.

المقدمة الرابعة : ان المراد بالاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره ، بل الأعم منه ومن الاقتضاء بنحو العينية والجزئية ليعم جميع الأقوال ، فانه من الأقوال القول بأن الامر بالشيء عين النهي عن ضده ، والقول بأن النهي عن الضد جزء من الامر بالشيء ، والقول باستلزام الامر بالشيء للنهي عن ضده.

إذا عرفت ذلك فتنقيح القول بالبحث في مقامين :

الأول : في الضد الخاص.

الثاني : في الضد العام.

الاستدلال للاقتضاء من طريق الملازمة في الضد الخاص

اما الكلام في المقام الأول :

فقد استدل لاقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص بطريقين :

الطريق الأول من طريق الملازمة : بتقريب ان وجود كل شيء ملازم لترك ضده ، والمتلازمان متحدان حكما ، ولا يعقل اختلافهما في الحكم فإذا كان أحد الضدين مأمورا به وواجبا ، لا محالة يكون عدم الآخر مأمورا به وواجبا ، فإذا

وجب عدمه كان وجوده منهيا عنه.

ويرد عليه ما تقدم في مبحث المقدمة ، من انه لا دليل على اتحاد المتلازمين في الحكم ، وانما اللازم عدم اختلافهما في الحكم ، والالتزام بخلو الواقعة عن الحكم وان كان أولاً وبالذات ، غير صحيح ، الا انه بواسطة العوارض لا محذور فيه ، كما إذا كان مانع عن الترخيص في فعل ، ولم يكن فيه مصلحة ولا مفسدة فمثل هذا الفعل لا يحكم عليه بشيء.

لا يقال : انه كما في الإرادة التكوينية إرادة أحد المتلازمين أو الملزوم أو اللازم مع الالتفات إلى الملازمة تلازم إرادة اللازم أو الملزوم أو الملازم. ولذا لو كان حراماً ، يكون فاعله معاقبا لصدوره باختياره وارادته.

يكون في الإرادة التشريعية أيضا كذلك لانهما توأمتان.

فانه يقال : قد مر غير مرة عدم ترتب جميع آثار الإرادة التكوينية على الإرادة التشريعية ، وفى التكوينية بما انهما متلازمتان وجودا ، يلازم إرادة احدهما إرادة الآخر ، بخلاف الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.

مع ان عدم الضد لو كان واجبا لما كان وجوده حراما إذ ترك الواجب ليس حراما كما مر.

وقد يفصل بين الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالاجتماع ، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، وبين الضدين الذين لهما ثالث ، بالذهاب إلى الاقتضاء بالدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأعم في الأول ، وعدم الاقتضاء في

الثاني كما عن المحقق النائيني (ره) (١) :

بتقريب انه بعد البناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده العام كما بنى عليه ، لا بد من الالتزام به في المقام نظرا إلى وجود ملاك النقيضين في الضدين الذين لا ثالث لهما وهو امتناع اجتماعهما ، وامتناع ارتفاعهما ، وهذا الملاك مفقود في الضدين الذين لهما ثالث.

ثم اورد على نفسه بانه لو سلمت الملازمة في الضدين الذين لا ثالث لهما ، لا بد من الالتزام بها في الضدين مطلقا : إذ الجامع بين الأضداد الوجودية مضاد للواجب ولا ثالث لهما ، فإذا كان الجامع حراما فيكون كل فرد منه في الخارج متصفا بالحرمة.

وأجاب عنه بأن الجامع بين الأضداد الوجودية ، ليس الا عبارة عن عنوان انتزاعي يشار به إلى نفس الأضداد ، فكل فرد منه مضاد بنفسه وبخصوصيته لا باعتبار انطباق عنوان الجامع عليه ، مع ان الجامع لو كان متأصلا الا ان الموجود في الخارج هو الفرد والمصداق ، ولا ملازمة بين تركه ووجود الضد الآخر على الفرض ، والجامع لا يوجد في الخارج بنفسه.

ويرد عليه :

أولاً : ما سيأتي من عدم تسليم الاقتضاء في النقيضين.

وثانياً : انه لو سلم فيهما لا نسلم في الضدين ، إذ الفرق بينهما مع

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٥٢ ـ ٢٥٣ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٧ ـ ٩ بتصرف.

المراجعة إلى العرف ظاهر : إذ العرف يرون ان احد النقيضين إذا كان محبوبا كان الآخر مبغوضا وليس الامر كذلك في الشيء ولازمه ومقارنه.

وثالثا : انه لو سلمت الدلالة الالتزامية في الضدين الذين لا ثالث لهما ، لا بد من التسليم في مطلق الضدين ، إذ ملاك الدلالة استلزام وجود الشيء لعدم ضده وهو امر مشترك بين جميع الأضداد ، واما استلزام عدم الشيء لوجود ضده المختص بما إذا لم يكن لهما ثالث ، فهو اجنبي عن الملاك المشار إليه.

الاستدلال للاقتضاء بالمقدمية

الطريق الثاني هو المقدمية : وهذا الدليل مركب من مقدمتين :

احداهما : صغرى القياس وهو كون عدم احد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر.

الثانية : كون مقدمة الواجب واجبة ، فيكون الامر بالضد مقتضيا لطلب ترك الضد الآخر ، وهو معنى النهي عنه أو فقل انه إذا وجب الترك حرم الفعل ، والكلام في هذا الطريق يقع في كل من المقدمتين :

اما المقدمة الأولى : فهي المهم من البحث هنا كما في الكفاية : والأقوال فيها خمسة :

الأول : ان عدم احد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر ، ووجود الضد الآخر مقدمة لعدم هذا الضد ، فتكون المقدمية من الطرفين ، ذهب إليه

العضدي والحاجبي (١).

الثاني : مقدمية عدم احدا لضدين لوجود الآخر ولا عكس ذهب إليه جماعة من المحققين (٢) منهم المحقق القمي (٣) وصاحب الحاشية (٤) والسبزواري ، وعلى هذا بنوا اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده.

الثالث : مقدمية وجود احد الضدين لعدم الآخر ، ولا عكس ، وعليه يبتنى شبهة الكعبي.

__________________

(١) راجع شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب ص ٩٢ ـ ٩٣ (استحالة كون الشيء واجبا حراما من جهة واحدة).

(٢) نسبه في مطارح الأنظار إلى المشهور بين المتأخرين من أصحابنا ... ص ١٠٨.

(٣) قوانين الأصول ج ١ ص ١١٠ ـ ١١١.

(٤) هداية المسترشدين ص ١٨٠ حيث قال : «إن قضية ذلك كون الأمر المتعلق بطبيعة الفعل قاضيا بتعلق النهي أيضا بطبيعة ضده وقضية النهي المتعلق بالطبيعة هو الدوام والاستمرار لعدم تحقق الترك إلا به» ، وقال : «لما كان قضيته الأمر المتعلق بالطبيعة هو الإتيان بتلك الطبيعة في الجملة ولو في ضمن المرة كان قضية النهي اللازم له هو طلب ترك ضده كذلك فإنه القدر اللازم للأمر المفروض» / وفي ص ٢٣٠ (في بيان ما هو العمدة من أدلة المسألة وهو مقدمية ترك الضد لفعل المأمور به ...) قال : «أن ترك كل من الأضداد الخاصة من مقدمات حصول الواجب نظرا إلى استحالة اجتماع كل منها مع فعل الواجب فيكون مانعا من حصولها وترك المانع من جملة المقدمات وقد مر أن مقدمة الواجب واجبة فتكون ترك الضد واجبا ، وإذا كان تركه واجبا كان فعله حراما وهو معنى النهي عنه».

الرابع : نفي المقدمية من الطرفين ، اختاره جماعة من المحققين والاساطين (١).

الخامس : التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم ، والالتزام بمقدمية عدم الأول لوجود الضد الآخر وعدم مقدمية عدم الثاني لوجوده.

وبعبارة أخرى فرقوا بين الرفع والدفع والتزموا بمقدمية العدم في الأول دون الثاني ، وهو الذي اختاره المحقق الخوانسارى (٢) ونسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (٣).

اما القول الأول : فهو دور واضح كما سيمر عليك ، ولازمه مقدمية الشيء لنفسه ، وتقدمه على نفسه وفساده من الوضوح بمكان.

واما القول الثاني : فقد استدلوا له : بانه لا ريب في ان العلة باجزائها مقدمة على المعلول والعلة مركبة من اجزاء ثلاثة.

المقتضي ، وهو الذي يترشح منه المقتضي والمعلول كالنار بالاضافة إلى الاحراق. والشرط ، وهو الذي يصحح فاعلية المقتضي كالمماسة. وعدم المنافي ، وهو الذي له دخل في فعلية تأثير المقتضي كعدم الرطوبة ، وحيث ان الضدين متمانعان فكل منهما مانع من الآخر ، فعدمه من اجزاء علة الآخر ومقدمة له.

__________________

(١) نسبه المحقق الرشتي في بدائع الأفكار ص ٣٧٢ إلى جمع من المحققين ومنهم سلطان العلماء وهو مختار سلطان العلماء في حاشيته على المعالم (حاشية السلطان) ص ٢٨٤ ـ ٢٨٥.

(٢) حكاه عنه في مطارح الانظار ص ١٠٨ / وفي أجود التقريرات ج ١ ص ٢٥٩ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٧.

(٣) كما هو ظاهر كلامه في مطارح الأنظار بعد مناقشة الأقوال ص ١١٢ ـ ١١٣.

واجيب عن هذا الوجه ، لمقدمية عدم احد الضدين لوجود الآخر بوجوه :

الجواب الأول : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو مبتن على مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان عدم المعلول انما يكون بعدم علته ، وهو تارة يكون :

بعدم المقتضي ، واخرى ، يكون بعدم الشرط ، وثالثة يكون بوجود المانع ، وحيث ان دخل كل منها يغاير الآخر : إذ المقتضي هو ما يترشح منه المعلول ، والشرط هو ما يكون دخيلا في فعلية تأثير المقتضي اثره ، وعدم المانع انما يكون دخله في المعلول من جهة مزاحمة وجوده تأثير المقتضي ، فاستناد العدم أي عدم المعلول إلى المانع ، انما يكون في ظرف تحقق المقتضي والشرائط ، إذ مع فرض عدم المقتضي لا يستند عدم المعلول إلى وجود المانع مثلا إذا لم تكن النار موجودة في العالم ، أو كانت موجودة ولم تكن مماسة للثوب ، فهل يتوهم احد صحة ان يقال ان الثوب لا يحترق فعلا لرطوبته ، كما ان استناد العدم إلى عدم الشرط انما يكون في ظرف تحقق المقتضي مثلا في المثال : إذا لم تكن النار موجودة لا يستند عدم الاحتراق إلى عدم المماسة ، فالمانع انما يتصف بالمانعية عند وجود المقتضي مع بقية الشرائط ، والا فلا يتصف بالمانعية ليكون عدمه من مقدمات وجود المعلول.

وعلى هذه المقدمة رتب في مبحث لباس المشكوك فيه عدم معقولية جعل الشرطية لاحد الضدين والمانعية للآخر ، بدعوى انه لو كان الضد الذي هو شرط موجودا فلا يعقل ان يوجد الضد الآخر ، حتى يتصف بالمانعية وان لم

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٥٥ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١١ ـ ١٢.

يكن موجودا فعدم المعلول يستند إلى عدمه لا إلى وجود الضد الآخر ففي هذا الظرف أيضا لا يتصف بالمانعية.

المقدمة الثانية : انه إذا فرض وجود احد الضدين يستحيل تحقق المقتضي للضد الآخر إذ تضاد الشيئين يستلزم تضاد مقتضيهما ـ وبعبارة أخرى ـ المحال لا يعقل تحقق مقتضيه واجتماع الضدين محال فتحقق مقتضيهما معا محال.

إذا عرفت هاتين المقدمتين يظهر لك انه مع وجود احد الضدين يستحيل وجود المقتضي للضد الآخر ، ومع استحالته عدم ذلك الضد يستند إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود الضد الآخر ، فوجود الضد لا يكون مانعا كي يكون عدمه من المقدمات.

ويتوجه عليه ان ما ذكره من المقدمة الأولى في غاية المتانة.

واما المقدمة الثانية : فهي غير تامة : إذ كل واحد من الضدين من الممكنات وليس محالا فيمكن تحقق المقتضي له وكذلك الضد الآخر ، والممتنع انما هو تحقق مقتض واحد لاجتماعهما وتحققهما معا ، فإذا تحقق المقتضي مع الشرائط لكليهما ، فوجود احدهما يتصف بكونه مانعا عن وجود الآخر.

وبعبارة أخرى : ان الشيء إذا كان في نفسه مما يمتنع وجوده لا يعقل تحقق المقتضي له ، واما إذا كان في نفسه ممكنا كما في المقام حيث ان كلا من الضدين يمكن وجوده في الخارج فثبوت المقتضي له امر ممكن ـ وبالجملة ـ انا لا ندعى وجود المقتضي لاجتماع الضدين ولكل من الضدين بوصف اجتماعه مع الآخر حتى يقال انه ممتنع وتحقق المقتضي للممتنع محال ، بل ندعى وجود المقتضي لكل واحد من الضدين في نفسه الذي هو ممكن ، ولو لا ما ذكرناه لما كان يستند

عدم المعلول إلى وجود المانع ولو في مورد من الموارد : إذ وجود المعلول مع وجود المانع ممتنع ، فلا يمكن تحقق المقتضي له ، ومعه يستند العدم إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع.

الجواب الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني (١) في الكفاية ، قال : لان المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي الا عدم اجتماعهما في التحقق وحيث لا منافاة اصلا بين احد العينين ، وما هو نقيض الآخر وبديله بل بينهما كمال الملاءمة كان احد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون ان يكون في البين ما يقتضي تقدم احدهما على الآخر انتهى.

توضيح ما أفاده يتوقف على بيان امرين :

احدهما : انه وقع الخلاف في ان عدم المانع ، هل هو من اجزاء العلة فيكون مقدما على المعلول بالتقدم العلى ، أم لا؟ أم هناك تفصيل.

ذهب إلى الثالث المحقق الخراساني على ما يصرح به في ذيل كلامه : والوجه في ذلك ان المانع ربما يكون مانعا عن وجود المقتضي والمعلول ، كما في كل من الضدين بالاضافة إلى وجود الآخر. وربما يكون مانعا من تأثير المقتضي كالرطوبة المانعة من تأثير النار في احراق الجسم الرطب ، والثانى من اجزاء العلة ، واما الأول فليس سوى كون وجوده مزاحما لوجود المعلول ومنافيا له في التحقق بلا دخل له في التأثير والعلية وعلى ذلك فلا يكون عدم احد الضدين من اجزاء علة الآخر.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٠ (الثاني)

ثانيهما : انه ذهب جماعة (١) إلى اعتبار وحدة المرتبة في الضدين والنقيضين زائدا على الوحدات الثمانية المعروفة.

وبعد التوجه إلى الامرين يظهر ان مراده (قدِّس سره) من هذا الجواب ان المنافرة بين الضدين كما تقتضي استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في زمان واحد كذلك تقتضي استحالة اجتماعهما في مرتبة واحدة وإذا استحال ذلك كان عدم احدهما في تلك المرتبة ضروريا ، والا فلا بد وان يكون وجوده فيها كذلك لاستحالة ارتفاع النقيضين عن الرتبة ـ مثلا ـ السواد والبياض متضادان ، ومقتضى تضادهما كما يكون امتناع اجتماعها في الوجود وفى آن واحد أو رتبة واحدة كذلك يكون ضرورة عدم واحد منهما في رتبة وجود الآخر لاستحالة ارتفاع النقيضين عن المرتبة أيضا.

والجواب عن ذلك ان ما أفاده يبتني على اصل غير تام.

وهو ان استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين انما تكون مع وحدة الرتبة ، واما مع تعددها فلا استحالة ابدا ، أو فقل انه يعتبر في التناقض أو التضاد وحدة الرتبة ، ومع اختلافهما فلا تضاد ولا تناقض.

ولكنه فاسد إذ المضادة والمناقضة والممانعة من صفات الموجودات الخارجية لا المراتب العقلية. والتضاد بين السواد والبياض مثلا انما هو في ظرف الخارج

__________________

(١) نسبه بعض المعاصرين إلى قائل واختاره آخر وهو ظاهراً المحقق العراقي في روائع الآمالي ج ٣ ص ١٢٣ وفي نهاية الأفكار اعتبر ان وحدة المرتبة من الوحدات الثمانية التي تعتبر في التناقض والتضاد ج ٣ ص ٣٩١.

والا فمع قطع النظر عن وجودهما في الخارج لا مضادة بينهما.

وعلى هذا فلا يتم ما أفاده من ان المعاندة والمنافرة بين الضدين تقتضي استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة فإذا استحال اجتماعهما فيها فلا محالة يكون عدم احدهما في تلك المرتبة ضروريا والا لزم اما ارتفاع النقيضين أو اجتماعهما وكلاهما محالان :

والوجه فيه ما عرفت من ان المنافرة بين الضدين انما هي بلحاظ الوجود الخارجي فحسب ، فإذاً لا مانع من ان يكون عدم احدهما متقدما على الآخر بالرتبة ، ولا يلزم عليه المحذور المذكور ، واما عدم تقدم احد الضدين على الآخر فليس لأجل التضاد ، بل من ناحية فقد ملاك التقدم أو التاخر ، هذا ما يظهر لى من كلامه (قدِّس سره).

وقد يقال ان مراده (قدِّس سره) ان الضدين انما يكونان في مرتبة واحدة ، لان كل واحد منهما بديل للآخر ، ووجود كل من الضدين مع عدم نفسه أيضا في مرتبة واحدة لانهما نقيضان وبديلان ، فتكون النتيجة ان وجود احد الضدين انما هو في مرتبة عدم الضد الآخر ولا تقدم ولا تأخر بينهما.

ولا يرد عليه ما توهم وروده عليه ، من ان بين احد الضدين وما هو نقيض الآخر وان كان كمال الملاءمة ، الا ان ذلك لا يستلزم كون احد الضدين مع نقيض الآخر في مرتبة واحدة ، فإن كل علة مع معلولها بينهما كمال الملاءمة ، وهما يوجدان في زمان واحد ، ومع ذلك يكون التقدم والتاخر بينهما ثابتين كما هو واضح.

ولكن يرد عليه ان قياس المساوات في الزمان تام ـ مثلا إذا كان قيام زيد

في زمان قيام عمرو ـ وقيام عمر في زمان مجيء بكر لا محالة يكون قيام زيد في زمان مجيء بكر ، ولا يتم في السبق بالرتبة ، ويمكن ان يكون شيئان في مرتبة واحدة ولم يكن بينهما تقدم وتاخر ، ومع ذلك يكون احدهما متقدما رتبة على شيء ثالث لوجود ملاك السبق فيه ، ولا يكون الآخر متقدما عليه ، لعدم وجود ملاكه فيه ، مثلا وجود الشرط متقدم رتبة على وجود المشروط ، ولكن عدمه ليس متقدما عليه. وبالجملة التقدم بالعلية انما هو شأن العلة لاما مع العلة ، فالتقدم بالعلية الثابت لعدم شيء لا يسرى إلى نقيضه وهو وجوده كي يقال ان وجود الضدين في مرتبة واحدة.

الجواب الثالث : ما ذكره المحقق الخراساني (ره) (١) أيضا قال فكما ان قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع احدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين انتهى.

وفيه انه في النقيضين عدم كل منهما عين الآخر ، وارتفاع الوجود عين العدم البديل له وكذلك العكس فلا معنى لتوقف احدهما على عدم الآخر ، واما في الضدين فحيث لا ريب في ان عدم كل منهما غير وجود الآخر فقد ادعى انه مقدمة له بالبرهان المتقدم فلا بد من اقامة البرهان على عدم المقدمية.

الجواب الرابع : ما في الكفاية (٢) أيضا وحاصله ان التمانع بين شيئين بأن يكون كل واحد منهما مانعا عن الآخر ويكون من اجزاء علته ، غير معقول :

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٠.

(٢) كفاية الأصول ص ١٣١ بتصرف.

وذلك لان التمانع بين الشيئين بأن يكون عدم كل منهما مقدمة لوجود الآخر ، امران :

احدهما : تقدم عدم المانع على وجود الممنوع لكونه من اجزاء علته.

ثانيهما : تقدم وجود المانع على عدم المعلول ، إذ لو فرض وجود المقتضي له مع الشرائط واستند عدمه إلى وجود المانع ، لا محالة يكون وجوده مقدما رتبة على عدمه ، فعلى هذا التمانع بين الضدين مستلزم للدور : إذ يلزم منه تقدم وجود كل منهما على عدم الآخر وعدمه على وجوده ، فيلزم تقدم وجود كل منهما وتوقفه على وجوده.

توضيح ذلك ، ان وجود الضد انما يستند إلى عدم ضده فعدمه مقدم رتبة عليه ، وعدم ذلك الضد إذا كان مقتضيه وشرائطه موجودة ، يستند إلى وجود هذا الضد ، فهو مقدم رتبة على عدم ذلك الضد ، فيلزم تقدم عدم الضد على ما فرضناه متاخرا عنه وهو دور واضح.

وقد اجاب عن ذلك المحقق الخوانسارى (١) ـ ونسب إلى الشيخ الأعظم ـ ونقله في الكفاية (٢) بأن توقف وجود احد الضدين على عدم الآخر فعلى ، بخلاف توقف عدم الآخر على وجوده فانه شانى : إذ وجود احد الضدين انما يكون بوجود علته في الخارج ومن اجزائها عدم المانع ، وبديهى ان توقف وجود

__________________

(١) نقل كلامه الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار ص ١٠٩ بقوله : «وأجاب عنه المحقق الخوانساري .. الخ».

(٢) كفاية الأصول ص ١٣٠.

المعلول على جميع اجزاء علته ومنها عدم المانع فعلى لدخل جميعها في تحققه ووجوده في الخارج ، واما عدم الضد فهو قد يكون بعدم المقتضي ، وآخر بفقد الشرط ، وثالثا بوجود المانع ، وانما يستند إلى وجود الضد في فرض وجود المقتضي ، مع شرائر شرائطه ، ولعله ممتنع لاحتمال ان يكون وقوع احد الضدين في الخارج ، وعدم وقوع الآخر فيه منتهيين إلى تعلق الإرادة الازلية بالاول وعدم تعلقها بالثاني : فانها علة العلل وجميع الاسباب الممكنة لا بد وان تنتهى إلى سبب واجب وهو الإرادة الازلية فيكون عدم الضد حينئذ مستندا إلى عدم وجود المقتضي لا إلى وجود المانع ليلزم الدور.

فإن قيل ان هذا لو تم فإنما هو في موردين :

١ ـ في الموجودات التكوينية.

٢ ـ في الافعال الارادية إذا كان الضدان منتهيين إلى إرادة شخص واحد ، فإن إرادة شخص واحد للضدين محال كان الضدان منتهيين إلى الإرادة الازلية أم لم ينتهيا إليها ، فإذا اراد احدهما فلا محالة يكون عدم الآخر مستندا إلى عدم الإرادة والمقتضي لا إلى وجود الآخر ، واما في الافعال الارادية التي كان كل منهما متعلقا لارادة شخص غير ما يكون الآخر متعلقا لإرادته ـ كما إذا اراد شخص حركة شيء واراد الآخر سكونه ـ فلا محالة يتصور وجود المقتضي وهو إرادة الآخر الذي لم يوجد فعدمه مستند إلى وجود المانع لا إلى عدم المقتضي لفرض وجوده وهو الإرادة ، إذا إرادة الضدين من شخصين امر ممكن.

اجبنا عنه بأن عدم الضد حينئذ مستند إلى قصور المقتضي ، فإن الإرادة الضعيفة مع مزاحمتها بالارادة القوية لا تؤثر : لخروج متعلقها عن تحت القدرة

فعدم الآخر حينئذ يستند إلى عدم قدرة الآخر على ما اراده.

وان شئت فقل ان عدمه حينئذ يستند إلى فقد الشرط اعني به القدرة على الايجاد مع تعلق الإرادة القوية بخلافه فلا يستند إلى وجود المانع.

وأجاب عن ذلك المحقق الخراساني (قدِّس سره) (١) بما حاصله ان هذا وان كان موجبا لرفع الدور ولكن ما هو ملاك استحالة الدور وهو توقف الشيء على ما يصلح ان يكون متوقفا عليه باق.

وبعبارة أخرى : كيف يمكن ان يكون ما هو من اجزاء العلة لشيء معلولا له بعينه وكيف يمكن الالتزام بتقدم الشيء على ما يصلح ان يكون متقدما عليه فانه في قوة ان يقال انه من الممكن تقدم الشيء على نفسه.

ولكن يمكن ان يورد عليه بامور :

١ ـ ما تقدم في مبحث الطلب والإرادة من عدم انتهاء افعال العباد إلى إرادة الله تعالى والا لزم الجبر ، اضف إليه ان ارادته تعالى ليست ازلية.

٢ ـ ان وجود المقتضي لوجود الضد المعدوم امر ممكن حتى مع وجود الضد الآخر كما فصلنا القول في ذلك في جواب المحقق النائيني (ره).

٣ ـ انه لو كان ذلك امرا ممتنعا لزم من ذلك بطلان مقدمية عدم الضد لوجود الضد الآخر كما أفاده المحقق النائيني (ره) (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣١.

(٢) كما هو ظاهر عبارته في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٥٨ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٥.

٤ ـ ان عدم تحقق احد الضدين مع تحقق الآخر انما يكون من جهة المانع كما سيمر عليك عند بيان ما هو الحق في المقام.

الجواب الخامس : ان عدم المانع ليس من اجزاء العلة لان العدم لا مناسبة له مع الوجود كي يكون مؤثرا فيه.

وفيه ان الاعدام والملكات كالحيثيات الاستعدادية أمور انتزاعية من أمور وجودية ، مثلا عدم المانع انما يؤثر في المعلول من جهة انه ينتزع من خلو المحل عن المانع الذي هو امر وجودي فلا مانع من تأثيره في الوجود.

فالحق في تقريب منع المقدمية ان يقال انه لو فرضنا شيئا قابلا لوجود احد الضدين كالجسم المعلق في الفضاء القابل للحركة إلى طرف المشرق ، والحركة إلى طرف المغرب ، فتارة لا يوجد المقتضي مع الشرائط لهما ، واخرى يوجد لاحدهما ، وثالثة يوجد لهما معا.

اما في الصورة الأولى : فعدم كل منهما انما يستند إلى عدم المقتضي له ، لا إلى وجود المانع كما هو واضح.

وكذلك في الصورة الثانية عدم ما لا مقتضى له يستند إلى ذلك لا إلى وجود الضد الآخر.

واما في الصورة الثالثة : فإن كان المقتضيان متكافئين في القوة ، فلا محالة لا يوجد شيء منهما : إذ تحققهما معا مستلزم لاجتماع الضدين ، وتحقق احدهما دون الآخر ، مستلزم للترجيح بلا مرجح ، فيكون عدم كل منهما غير مستند إلى عدم المقتضي لفرض وجوده ، ولا إلى وجود الضد الآخر لفرض عدمه ،

فيستكشف من ذلك ان المانع هو مقتضى الآخر وعدم كل منهما مستند إلى وجود مقتضى ضده ، فالمانع هو المقتضي بالكسر لوجود الضد ، والممنوع هو المقتضي بالفتح ، أي وجود الضد الآخر ، فالمانع متمحض في المانعية ، والممنوع أيضا متمحض في الممنوعية ، فالتمانع غير محقق ، وكذلك لو فرضنا اقوائية احد المقتضيين فانه يوجد مقتضاه خاصة ، وعدم الآخر يستند إلى وجود هذا المقتضي الأقوى لا إلى مقتضاه.

وبعبارة اوضح ، ان الضدين قد يكون المقتضي لكل منهما موجودا ، وقد لا يكون المقتضي لشيء منهما موجودا ، وقد يكون المقتضي لاحدهما موجودا دون الآخر.

اما الفرضان الاخيران ، فخارجان عن محل الكلام ، لان عدم ما لا مقتضى له مستند إلى عدم المقتضي ، لا إلى وجود الآخر ، ومحل الكلام هو الفرض الأول ، وفى ذلك الفرض قد يكون المقتضيان متساويين قوة وضعفا ، وقد يكون احدهما اقوى.

اما في المورد الأول ، فلا يوجد شيء منهما لاستحالة تأثير كل منهما اثره معا لامتناع اجتماع الضدين وتأثير احدهما المعين ، ترجح بلا مرجح ، فلا محالة لا يوجد شيء منهما وحينئذٍ يسأل ما الموجب لعدم التحقق بعد وجود المقتضي والشرائط ، وليس الا وجود المقتضي للآخر ، فمقتضى كل منهما يكون مانعا عن الآخر وعن تأثير مقتضيه في تحققه.

واما في المورد الثاني فيوجد الضد الذي يكون مقتضيه اقوى ، ولا يوجد الآخر وعدمه حينئذ ليس لفقد المقتضي ، إذ لو لم يكن المقتضي الا قوى

موجودا لكان مؤثرا في تحقق مقتضاه وانما المانع هو اقوائية المقتضي للضد الموجود.

وهذا كما يجري في الموجودات التكوينية يكون في الافعال الاختيارية.

اما بالنسبة إلى إرادة شخص واحد فانه إذا كان الشوق المتعلق بانقاذ احد الغريقين الذين لا يتمكن من انقاذهما معا اقوى ، لوجود مرجح لاعمال القدرة في انقاذه ككونه ابنه مثلا ، لا محالة يكون هو الموجب لعدم تحقق الآخر وعدم انقاذه ، ولذا لو لم يكن هذا لكان ينقذ من ترك انقاذه.

واما بالنسبة إلى إرادة شخصين كما لو فرضنا ان احد الشخصين اراد تحريك الجسم الساكن إلى طرف المشرق والآخر اراد تحريكه إلى طرف المغرب فإن تساويا في القوة لا يتحرك إلى شيء من الطرفين ، والمانع انما هو مقتضى الحركة وان كان احدهما أقوى فيكون هو المانع عن تأثير إرادة الآخر في حركة الجسم إلى الطرف المقابل وهذا من الوضوح بمكان.

فالمتحصل ان المانع في الضدين انما هو مقتضى كل منهما بالنسبة إلى الآخر فلا يكون عدم أحد الضدين من أجزاء العلة لوجود الضد الآخر ، فلا تمانع بين الضدين.

التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم

واما القول الخامس : وهو التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم ، والالتزام بأن عدم الثاني ليس من اجزاء العلة بمعنى عدم مانعية وجوده ، وعدم الأول من

اجزائها.

واستدل للشق الأول بما تقدم.

وللشق الثاني ، بأنه لا ريب في ان قابلية المحل من الشرائط ، ومع فرض وجود الضد لا يكون قابلا لعروض الضد الآخر ، فعدم الضد الموجود وارتفاعه انما يكون مما يتوقف عليه الضد الآخر.

وفيه : انه لا ريب في انه يعتبر في الضدين ما يعتبر في النقيضين من الوحدات الثمانية ، لان عدم اجتماع الضدين من فروع عدم اجتماع النقيضين ، فالبياض الثابت لجسم في زمان ، لا يكون ضدا للسواد الثابت له في زمان آخر.

فحينئذ أقول ان الضد الموجود وجوده الفعلي ليس ضد الوجود الضد الآخر في الآن المتأخر ، بل التضاد انما يكون بين وجود هذا الضد في الزمان المتأخر ، مع وجود الآخر في ذلك الزمان ، وحيث ان وجوده في الزمان المتأخر غير متحقق بالفعل ، فالمضادة دائما تكون بين الشيئين غير موجودين ، وعليه فيأتي فيه التفصيل المتقدم آنفا من انه تارة لا يكون المقتضي لهما متحققا ، وأخرى يكون لاحدهما ، وثالثة لهما على نحو تقدم.

لا يقال ان هذا لا يتم بناءً على ما قيل من ان البقاء لا يحتاج إلى المؤثر وان العلة المحدثة بنفسها علة مبقية.

وبعبارة أخرى : على تقدير القول باستغناء البقاء عن المؤثر وكفاية العلة للحدوث كان وجود الضد المستغنى عن العلة مانعا عن حدوث ضده ، فلا

محالة يتوقف حدوث ضده على ارتفاعه ، نعم على القول الآخر ان لم يكن للضد مقتض ، أو لم يكن شرطه متحققا فعدمه يستند إلى عدم المقتضي أو عدم الشرط ، وان كانا موجودين ومع ذلك لم يوجد كان ذلك مستندا إلى مقتضى الضد الموجود أي مقتضى البقاء المانع من تأثير مقتضى ضده.

فانه يرد عليه : ان المبنى فاسد ، لان سرّ الحاجة في وجود الممكن إلى العلة انما هو إمكانه وفقره الحقيقي ، وفى هذه العلة لا فرق بين الحدوث والبقاء ، بل الحدوث والبقاء شيء واحد ، وهو الوجود والتحقق في عالم الكون ، غاية الأمر ان كان الوجود مسبوقا بالعدم كان هو الحدوث ، وان كان مسبوقا بمثله يعبر عنه بالبقاء ، وان لوحظ ذلك في الموجودات يظهر بداهة ذلك ، ولو فرضنا ان السراج أضيء فما دام يكون متصلا بالقوة الكهربائية أو كان النفط في المنبع أو ما شاكل يكون مضيئا ، ومع انتفاء العلة ينعدم الضوء وهكذا في سائر موارد العلة المعدومة.

واما ما يرى من بقاء جسم موضوع على الأرض ما لم يرفع برافع ، وبقاء العمارات التي بناها البناءون سنين متطاولة ، وبقاء الجبال ، والأحجار ونحوها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض ، فهو ليس من بقاء الموجود بلا علة ، بل العلة للبقاء انما هي خصائص تلك المواد الطبيعية وقوة الجاذبة العامة التي تفرض عليها المحافظة على وضعها ـ وقد صارت عمومية تلك القاعدة في هذه الأيام من الواضحات ـ وقد أودعها الله تعالى في هذه الكرة الأرضية للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها ونظامها الخاص.

فالمتحصل احتياج البقاء إلى المؤثر.

أضف إلى ذلك انه لو تم ذلك فإنما هو في الموجودات العينية الخارجية لا في أفعال العباد فانه ليس لاحد التفوه بأن من شرع في فعل يتم ذلك وان لم تبق ارادته المتعلقة به مثلا من كبر يتم صلاته بنفسها وان انعدمت الإرادة : والوجه في ذلك ما تقدم في مبحث الطلب والإرادة من ان الفعل الاختياري ما سبقه أعمال القدرة والاختيار وهو فعل اختياري للنفس وليس من الصفات ويكون هو الواسطة بين الشوق والفعل الخارجي ، وعليه فالفعل الإرادي تابع لاعمال النفس قدرتها في الفعل فإن لم يعملها استحال تحققه.

وأيضا هو من الضروريات ومن القضايا التي قياساتها معها بلا حاجة إلى تشكيل قياس والاستدلال له.

بقي الكلام فيما ذهب إليه الكعبي (١) من القول بانتفاء المباح الذي عرفت ان مبناه هو القول الثالث ، وكيف كان فهو يتوقف على مقدمتين :

الأولى : ان ترك الحرام متوقف على فعل من الأفعال الوجودية ، بدعوى استحالة خلو المكلف عن فعل من الأفعال الاختيارية.

الثانية : احتياج الحادث في بقائه إلى المؤثر وان العلة المحدثة لا تكفى في البقاء ، وعليه فبما ان ترك الحرام يتوقف حدوثا وبقاءً على إيجاد فعل من الأفعال فيكون واجبا بالوجوب المقدمي ولا يمكن فرض مباح في الخارج.

وفيه ان المقدمة الأولى مخدوشة ، إذ ترك الحرام انما يكون بعدم ارادته وحينئذٍ

__________________

(١) حكاه منه في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٥٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٠ ـ ١١. وقد مر تخريجه في شرح المختصر للعضدي ج ١ ص ٩٦.

وجوب فعل آخر ، اما ان يكون من باب مقدمية وجوده لعدم ضده تقدم المانع على عدم ممنوعه ، أو من باب التلازم واتحاد حكم المتلازمين ، وكلاهما فاسدان.

اما الأول : فلما مر مفصلا من انه في الضدين لا تمانع بينهما بل المانع هو مقتضى كل منهما.

واما الثاني : فلما مر من ان المتلازمين لا يمكن اختلافهما في الحكم ولا يجب توافقهما فيه.

وبعبارة أخرى : ان عدم تحقق الضد انما يكون بعدم ارادته لا لوجود الضد الآخر ، نعم ، إذا علم المكلف في مورد انه لو لم يأت بفعل من الأفعال يصدر عنه الحرام بإرادته يحكم العقل بلزوم الإتيان به ولا يكون ذلك واجبا شرعيا.

اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد العام

واما المقام الثاني : وهو ان الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده العام وهو الترك أم لا ففيه وجوه واقوال أربعة :

١ ـ كون الأمر بالشيء عين النهي عن ضده.

٢ ـ كونه متضمنا للنهي عن ضده.

٣ ـ كونه ملزوما للنهي عن ضده باللزوم البين بالمعنى الأخص ودلالة الأمر عليه بالالتزام.

٤ ـ كونه ملزوما له باللزوم البين بالمعنى الأعم.

اما القول الأول : فقد استدل له : بأن عدم العدم وان كان مغايرا للوجود مفهوما الا انه عينه خارجا ، لان نقيض العدم هو الوجود ، وعدم العدم عنوان للوجود لا انه يلازمه ، فطلب ترك الترك عين طلب الفعل ، والفرق بينهما انما يكون بحسب المفهوم.

وفيه : أولاً سيأتي ان النهي ليس طلبا للترك بل انما هو زجر عن المتعلق الناشئ عن المفسدة وعليه فعدم الاقتضاء بمعنى العينية واضح إذ البعث ، والزجر ، وكذا ، الكراهة ، والإرادة ، والمصلحة ، والمفسدة ، من المتباينات فكيف يمكن ان يكون احدهما عين الآخر :

وثانياً انه فرق بين ما هو محل الكلام ، وهو ان الامر بالشيء هل هو عين النهي عن ضده أم لا؟ وبين هذا الدليل ، وحاصله انه إذا ورد أمر بالفعل ونهى عن الترك فهما متحدان لا تغاير بينهما وهذا لا يلازم الأول كيف ربما يغفل الامر عن ترك تركه فضلا عن ان يأمر به.

ويمكن تصحيح قول من يدعى ان الامر بالشيء عين النهي عن ضده ، بأن يقال ان المراد بالعينية انه إذا رأى المولى في فعل مصلحة وصار ذلك سببا لشوقه إلى تحقق ذلك الفعل فله في الوصول إلى مقصودة طريقان وكل منهما عين الآخر في الوصول إلى الغرض ، احدهما : ان يأمر بالفعل ، ثانيهما : ان ينهى عن الترك كما ورد في المستحاضة أنها لا تدع الصلاة.

ثم ان المحقق الخراساني (ره) (١) وجه المدعى بوجه لطيف ، وحاصله ان الامر

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٣.

بالشيء انما يكون طلبا واحدا وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا وتحريكا نحوه كذلك يصح ان ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز : لان التحريك نحو الشيء والتقريب إليه يلازم التحريك عن نقيضه والتبعيد عنه ، كما يظهر من التحريك والتقريب الخارجيين فإن التحريك والتقريب إلى محل يكون تحريكا عن محل آخر وتبعيدا عنه. فيكون الامر بالشيء ردعا عن نقيضه.

أضف إلى ذلك انه لو سلم ان حقيقة النهي عبارة عن طلب الترك كما هو المنسوب إلى المشهور ، فلا يرجع هذا البحث إلى البحث عن أمر معقول ذي اثر وذلك لان معنى اقتضائه للنهي عن الضد ، اقتضائه لطلب ترك الترك الذي هو الوجود والفعل ، لما حقق في محله ، من ان الوجود والعدم نقيضان لا واسطة بينهما ، والعناوين الأخر ، كعدم العدم من العناوين الانتزاعية من احدهما ، وعليه : فمآل هذا البحث إلى ان الامر بالشيء ، هل يقتضي طلب ذلك الشيء أم لا؟ وهذا لا يرجع إلى محصل لان ثبوت الشيء لنفسه ضروري.

واما الثاني : وهو ان الامر بالشيء متضمن للنهي عن ضده.

فقد استدل له بما اشتهر من ان الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك.

ولكن قد تقدم في مبحث الأوامر انه لا اصل له وان الوجوب بسيط غير مركب.

وحاصله ان الوجوب اما ان يكون هو الشوق الأكيد أو يكون منتزعا عن اعتبار كون المادة على عهدة المكلف ، وعلى الأول فهو من الأعراض وهي بسائط ، وعلى الثاني يكون هو من سنخ الوجود وبساطته اظهر من ان تذكر.

واما ما اشتهر من ان الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك فالظاهر كما أفاده المحقق الخراساني (ره) (١) انهم في مقام تحديد تلك المرتبة البسيطة من الطلب وتعينها ، فالمنع من الترك ليس من اجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه ، بمعنى انه لو التفت إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة وكان يبغضه البتة.

واما القول الثالث : وهو دلالة الامر على النهي عن ضده بالالتزام ، بمعنى ثبوت الملازمة بين الامر بالشيء والنهى عن ضده فدعواه وان كانت معقولة ، وقد اختاره المحقق النائيني (ره) (٢).

ولكنها غير صحيحة : وذلك لان النهي يكون ناشئا عن المفسدة ، والامر عن المصلحة فالأمر بالشيء يكشف عن المصلحة فيه ، وهذا لا يلازم ثبوت المفسدة في تركه كي يكون ذلك مقتضيا للنهي عنه ، بل لا يكون الترك الا ترك ما فيه المصلحة ، وان أردت ان تطمئن نفسك فراجع الأوامر العرفية حيث ترى بالوجدان ان الامر بالشيء لا يلازم المفسدة في تركه ، فالالتزام باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، بإرجاع كل أمر إلى حكمين ، احدهما متعلق بالفعل ، والآخر بتركه ويكون الترك مخالفة لحكمين وموجبا لاستحقاق عقابين مما لا يمكننا المساعدة عليه.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٣ (الأمر الثالث).

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٥٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٧ قوله : وأما دعوى الدلالة عليه بالالتزام ... فليست ببعيدة.

وبما ذكرناه يظهر حال ما أفاد المحقق النائيني (ره) (١) وما فيه : من ان دعوى الدلالة عليه بالالتزام بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص بأن يكون تصور الوجوب كافيا في تصور المنع من الترك فليست ببعيدة ، وعلى تقدير التنزل عنها فالدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأعم ، مما لا إشكال فيها ولا كلام.

ويمكن توجيه دعوى الملازمة بأن يقال ان المراد من النهي عدم الترخيص وعليه فحيث ان الإلزام بالفعل يضاد الترخيص في الترك ، فالأمر بالفعل يلازم عدم الترخيص في الترك لكنه لا يناسب ان ينعقد له بحث في الأصول.

فالمتحصل ان الامر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا.

ثمرة البحث في الاقتضاء وعدمه

المشهور بين الأصحاب انه تظهر الثمرة في موردين :

الأول : ما إذا وقعت المزاحمة ، بين واجب موسع كالصلاة ، وبين واجب مضيق كالإزالة ، وصلاة الآيات عند الزلزلة وما شاكل.

الثاني : ما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين احدهما أهم من الآخر كما في الدوران بين الإتيان باليومية في آخر الوقت ، وصلاة الآيات ، مثلا ، لانه على القول باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، يقع الواجب الموسع أو

__________________

(١) المصدر السابق.

المهم فاسدا ، إذا كان عبادة بناءً على ما سيأتي من ان النهي عن العبادة يوجب الفساد ، وعلى القول بعدم الاقتضاء يقع صحيحا إذ المقتضي للفساد هو النهي ولا نهي على الفرض.

وقد أورد على هذه الثمرة بإيرادين متقابلين :

الأول : ما عن الشيخ البهائي (قدِّس سره) (١) من بطلان العبادة مطلقا حتى على القول بعدم اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده : مستندا إلى ان الفساد لا يحتاج إلى النهي بل يكفي فيه عدم الامر ، ولا شبهة في ان الامر بالشيء يقتضي عدم الامر بضده لاستحالة تعلق الامر بالضدين معا فلو كانت العبادة المضادة غير مأمور بها فلا محالة تقع فاسدة.

ثانيهما : ما عن جماعة منهم المحقق النائيني (ره) (٢) وهو صحة العبادة على القولين ، بناءً على ما هو الحق عندهم من كفاية الملاك والمحبوبية الذاتية في صحة العبادة ، وان لم يؤمر بها لأجل المزاحمة.

اما على القول بعدم الاقتضاء ، فواضح لوجود المقتضي للصحة وعدم المانع.

واما بناءً على القول بالاقتضاء ، فلان العبادة حينئذ وان كانت منهيا عنها

__________________

(١) كما هو الظاهر في كتابه الرسالة الاثنا عشرية ص ٥٥ الناشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي ١٤٠٩ ه‍. ق. قم.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٢ عند قوله : «وأورد عليه بأنه اما ان يعتبر في صحة العبادة ... الخ».

الا ان هذا النهي غيري نشأ من مقدمية تركها أو ملازمته للمأمور به ولم ينشأ عن مفسدة في متعلقة ليكون موجبا لاضمحلال ما فيه من الملاك الصالح للتقرب بما اشتمل عليه.

وعليه فالعبادة باقية على ما كانت عليه من الملاك والمصلحة والمحبوبية الذاتية الصالحة للتقرب بها ، والنهى المتعلق بها بما انه غيري لم ينشأ عن المفسدة وعن المبغوضية للمولى ، ولذلك قالوا انه لا يوجب البعد عن الله تعالى ولا العقاب على مخالفته فلا يكون صالحا للمانعية.

فالمقتضي للصحة موجود ، والمانع مفقود ، فلا بد من البناء عليها.

ثم ان المحقق الثاني (١) أورد على إنكار الثمرة في الصورة الأولى ، وهي مزاحمة الموسع بالمضيق بما أوضحه جماعة من المحققين (٢) منهم المحقق النائيني (٣) وحاصله يبتني على أمور :

(١) ان الامر بالعبادة انما يكون متعلقا بالطبيعة الملغاة عنها جميع الخصوصيات والتشخصات ، دون الأفراد ، وبعبارة أخرى : ان التكليف انما تعلق بصرف وجود الطبيعة دون خصوصيات أفرادها كي يرجع التخيير بينها إلى التخيير الشرعي ، ومقتضى إطلاق الامر بها ترخيص المكلف في تطبيق تلك الطبيعة على أي فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه من الأفراد العرضية

__________________

(١) كما مر تخريجه عن جامع المقاصد ج ٥ ص ١٣ ـ ١٤.

(٢) كالميرزا الرشتي في بدائع الأفكار ص ٣٨٩.

(٣) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٢ ، وأورد المحقق الثاني.

والطولية.

ولكن هذا انما يكون إذا لم يكن هناك مانع عن التطبيق ، وإلا كما إذا كان بعض أفرادها منهيا عنه فلا محالة يقيد إطلاق الامر المتعلق بتلك الطبيعة بغير هذا الفرد المنهي عنه لاستحالة انطباق الواجب على الحرام.

٢ ـ انه يكفي القدرة على بعض الأفراد في صحة تعلق التكليف بصرف وجود الطبيعة لان المأمور به حينئذ مقدور إذ القدرة على فرد قدرة على الطبيعة ولا دخل لعدم القدرة على فرد آخر منها في ذلك.

وبعبارة أخرى : انه لا يعتبر في صحة تعلق التكليف بالطبيعة إذا كان المطلوب هو صرف الوجود القدرة على جميع أفرادها بل لا يوجد طبيعة تكون مقدورة كذلك ، وعليه فعدم القدرة على فرد منها لا يوجب تقييدا في المتعلق.

٣ ـ ان ملاك الامتثال انما هو انطباق المأمور به على المأتي به ، لاكون الفرد بشخصه مأمورا به.

٤ ـ ان الواجب الموسع بما ان له أفرادا غير مزاحمة ، وصرف وجود الطبيعة منه مقدور للمكلف وغير مزاحم بالواجب المضيق ، فالأمر بالمضيق لا يوجب سقوط الامر بالموسع ، إذ غير المقدور حينئذ هو الفرد وهو غير مأمور به ، والمأمور به هو الطبيعة ، وهو غير مزاحم بالمضيق ، فلا يكون التكليف بالموسع متقيدا بشيء.

وعلى هذا ، فعلى القول بعدم كفاية الملاك ، إذا كان الامر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده كان الفرد المزاحم من الواجب الموسع منهيا عنه فيقيد به

إطلاق الامر به ، لامتناع ان يكون الحرام مصداقا للواجب ونتيجة ذلك التقييد هي وقوعه فاسدا لعدم الامر حينئذ.

واما على القول بعدم الاقتضاء ، فالأمر بالمضيق لا يوجب تقييدا في الموسع لان غايته عدم القدرة شرعا على الفرد المزاحم وهو كعدم القدرة عقلا ، والفرض ان الفرد غير مأمور به ، فملاك الامتثال ، وهو انطباق المأمور به على المأتي به فيه موجود كسائر الأفراد ، فإنها ليست مأمورا بها وانما يكتفي بها في مقام الامتثال لانطباق الطبيعة المأمور بها عليها ، وهذا الملاك بعينه موجود في الفرد المزاحم فلا مناص من البناء على القول بالإجزاء والصحة.

وبعبارة أخرى : ان ما هو غير مقدور شرعا لا يكون مأمورا به ، وما هو مأمور به وهو الطبيعة مقدور ، وعليه فيصح الإتيان بالفرد المزاحم إذ الانطباق قهري والاجزاء عقلي.

واورد على هذا التفصيل المحقق النائيني (ره) (١) بما حاصله ان ما أفاده يتم على القول بأن اعتبار القدرة في المتعلق انما هو بحكم العقل بقبح تكليف العاجز : إذ يمكن ان يقال ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه.

فإذا كان المكلف قادرا على الموسع للقدرة على غير الفرد المزاحم ، فلا يكون التكليف به قبيحا. وبما ان انطباقه على الفرد المزاحم قهري يكون اجزائه عقليا.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٤ بتصرف.

واما إذا بنينا على ان اعتبار القدرة انما هو باقتضاء نفس التكليف ذلك ، لا لحكم العقل بقبح تكليف العاجز ، ضرورة ان الاستناد إلى أمر ذاتي سابق على الاستناد إلى أمر عرضي ، فلا يمكن تصحيح الفرد المزاحم بذلك.

توضيح ذلك : ان المختار عنده (قدِّس سره) ان منشأ اعتبار القدرة انما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك ، فإن الغرض من التكليف جعل الداعي للمكلف نحو الفعل ليحرك عضلاته نحوه بالإرادة ، وترجيح أحد طرفي الممكن ، وهذا المعنى بنفسه يقتضي كون متعلقة مقدورا لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع شرعا أو عقلا.

فالبعث لا يكون الا نحو المقدور ، فيخرج الأفراد غير المقدورة عن حيز الطلب.

وعليه فإذا كان التكليف مقتضيا لاعتبار القدرة ، فلا محالة يكون المأمور به ، هو الحصة الخاصة من الطبيعة ، وهي الحصة المقدورة.

واما الحصة غير المقدورة فهي خارجة عن متعلقة فالفرد المزاحم بما انه غير مقدور شرعا وهو كغير المقدور عقلا خارج عن حيز الامر ، فلا يكون المأمور به منطبقا على المأتي به فلا يكون مجزيا.

حول اعتبار القدرة في المتعلق

وتفصيل القول في المقام بالبحث في جهات :

الأولى : في انه ، هل يعتبر القدرة في متعلق التكليف ، أم لا؟ وما هو الوجه

في ذلك.

أقول : تارة يكون جميع الأفراد للطبيعة المطلوب صرف وجودها غير مقدورة ، وأخرى يكون بعض الأفراد كذلك ، وعلى الثاني : قد يكون تمام الأفراد العرضية في زمان خاص غير مقدورة ، وقد يكون بعض تلك الأفراد العرضية كذلك ، وعلى كل تقدير ، قد يكون عدم القدرة عقليا وقد يكون شرعيا.

وقد استدل لاعتبار القدرة في متعلق التكليف بوجوه ، جملة منها واضحة الدفع ، من قبيل : انصراف المادة ، أو الهيئة ، إلى الحصة المقدورة ، واعتبار الحسن الفاعلي في العبادة زائدا على الحسن الفعلي. وقد تعرضنا لها في مبحث التعبدي والتواصلي ، والمهم منها أربعة اوجه :

احدها : ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) وقد ذكرناه آنفا فيما أفاده ردا على المحقق الثاني.

ويتوجه عليه ان حقيقة الامر كما مر في أول مبحث الأوامر عبارة عن ، إظهار شوق الآمر إلى فعل المأمور ، أو إبراز اعتبار كون المادة على عهدته ، وشيء منهما لا ينافى مع كونه غير مقدور ، واما البعث والطلب وما شاكل فهي عناوين للأمر لا أنها مداليل له.

ثانيها : قبح تكليف العاجز الذي يستقل به العقل.

__________________

(١) المصدر السابق.

ويتوجه عليه ان امتثال التكليف الذي هو موكول إلى العقل مشروط بالقدرة ، ومع العجز لا يحكم العقل بلزوم الامتثال.

وبعبارة أخرى : قد بينا في مبحث الأوامر بأن الوجوب والاستحباب خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، وانما هما أمران انتزاعيان من حكم العقل بلزوم الامتثال لو أمر المولى بشيء ولم يرخص في تركه وعدمه لو أمر به ورخص في تركه.

وعليه فإذا كان الفعل المأمور به غير مقدور ، لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ، ولا يجوز العقاب على مخالفة أمر المولى ، وعلى ذلك فغاية ما يستقل به العقل اعتبار القدرة في التنجيز دون اصل الامر.

ثالثها : الآيات والروايات المتضمنة لعدم التكليف بغير المقدور.

ويتوجه عليه ان التكليف انما يطلق على الامر والنهى باعتبار ما يتبعهما من إلزام العقل بالفعل أو الترك وفى فرض عدم القدرة حيث لا حكم للعقل فلا يكون الامر تكليفا.

وبعبارة أخرى : ان شئت قلت انه لا يستفاد من الآيات والروايات أزيد مما يحكم به العقل من اعتبار القدرة في التنجيز فتدبر حتى لا تبادر بالإشكال.

رابعها : ان الامر فعل اختياري للمولى فإن لم يترتب عليه اثر عملي يكون لغوا ، وصدوره من الحكيم محال ، فالأمر بغير المقدور حيث يكون لغوا يكون محالا.

وهذا الوجه متين لكنه يختص بالقدرة العقلية ولا يجري في موارد عدم

القدرة الشرعية كما هو واضح ونزيده وضوحا :

انه لو كان التكليف الواقعي هو الوجوب وقامت الأمارة على حرمتها ، فلا ريب في عدم قدرة المكلف شرعا على امتثال التكليف الواقعي لكونه موظفا بالانزجار ، ومعه لا يقدر على الانبعاث ، وحينئذٍ ان التزم بسقوط التكليف الواقعي لزم التصويب المجمع على بطلانه ، وان التزم ببقائه لزم الالتزام بعدم اعتبار القدرة في التكليف.

ويمكن ان يقال انه لو سلم دلالة الآيات والروايات على اعتبار القدرة ، فإنما هي بالنسبة إلى القدرة العقلية دون الشرعية.

فإن قيل ، انه في ما هو محل البحث وهو تزاحم الواجبين لا يقدر عقلا على امتثال كلا الحكمين فلا بد من سقوط احدهما أو كليهما فإذا كان هناك مرجح لاحدهما يبقى ذلك فيتعين سقوط الآخر.

توجه عليه : انه لو كان هناك أمر واحد بهما كان ذلك أمرا بغير المقدور وحيث ان المفروض انهما أمران والمكلف قادر على امتثال كل منهما في نفسه لا يبقى لذلك مجال.

وأيضا ان مقتضى الوجه المختار ، والآيات والروايات (١) انه إذا كان بعض

__________________

(١) حيث أن الأوامر فيهما مطلقة ولم يؤخذ فيها قيد زائد عن القدرة العقلية المانعة من التكليف ، ويكفي في تعلق الأوامر بالطبيعة تحقق فرد من أفرادها ، وما ورد من تقييد بعض التكاليف أو رفعها فالظاهر أنها قيود للفعلية فلا تمنع من أصل التكليف ، ولا يكون المورد من التكليف بالمحال.

أفراد الطبيعة المأمور بها مقدورا يكون التكليف صحيحا.

وبعبارة أخرى : انهما يدلان على اعتبار عدم عجز المكلف عن جميع الأفراد ولا يدلان على عدم صحة التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور.

وبما ذكرناه يظهر انه في المقام بما ان الضدين لم يتعلق بهما تكليف واحد ، بل كل منهما متعلق لتكليف مستقل ، والمفروض القدرة على امتثاله فلا مانع من ثبوت الامر بالضد ، وعليه فيأتي به بداعي الامر.

كما انه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره).

ويتوجه عليه مضافا إلى ذلك كله ، انه لو سلم اعتبار القدرة الشرعية في المتعلق ، لو فرضنا ان الأفراد العرضية كانت غير مقدورة كما في مزاحمة الواجب الموسع في أول الوقت ، والمضيق ، فعلى القول باستحالة الواجب المعلق ، وعدم صحة تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه ، كما بنى عليه المحقق النائيني ، تكون الطبيعة بجميع أفرادها ، غير مقدورة ، اما الأفراد العرضية ، فللمزاحمة ، واما الأفراد المتأخرة الطولية ، فللتأخر ، وامتناع تعلق التكليف بالأمر المتأخر.

وبذلك يظهر ان ما سلمه المحقق النائيني من صحة العبادة المزاحمة على فرض كون مدرك اعتبار القدرة حكم العقل ، نظرا إلى انه لا يحكم العقل باعتبارها مع فرض القدرة على بعض أفراد الموسع ، غير تام على مسلكه.

واما على القول بإمكان الواجب المعلق كما هو الحق ، فيصح تعلق التكليف بصرف وجود الطبيعة من غير فرق بين المسلكين في اعتبار القدرة.

اما على مسلك كون المدرك هو حكم العقل ، فواضح.

واما على مسلك المحقق النائيني ، فلانه وان سلم كون الغرض من التكليف إمكان صيرورته داعيا للمكلف في فعله ، يكون هذا الغرض متحققا في الفرض ، لان المفروض كون المتعلق هو صرف وجود الطبيعة ، لا الأفراد وهو انما يكون مقدورا بالقدرة على بعض الأفراد.

فتفصيل المحقق النائيني (ره) بين المسلكين في غير محله.

النهي الغيري يوجب الفساد

الجهة الثانية : في ان النهي الغيري عن العبادة ، هل يوجب الفساد ، أم لا؟ ذهب المحقق النائيني (ره) (١) إلى الثاني ، واختار المحقق الثاني (٢) وجماعة الأول (٣).

واستدل المحقق النائيني (ره) (٤) له بأن النهي الغيري لا ينشأ عن مفسدة في متعلقة ليكشف عن عدم تمامية ملاك الامر وبما انه قد عرفت في مبحث

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٥ قوله : «نعم إذا بنينا على كفاية ... الخ».

(٢) جامع المقاصد ج ١ ص ١٥٢ ـ ١٥٣ عند قوله : «ولو اشتبه بالمغصوب وجب اجتنابها».

(٣) وحكى المحقق في بدائع الأفكار عن المشهور ان النهي الغيري يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات ص ٣٦٩.

(٤) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٥ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٥ : «نعم اذا بنينا على كفاية الاشتمال ...».

التعبدي والتواصلي كفاية قصد الملاك في صحة العبادة وعدم اشتراطها بقصد الامر تعرف ان الأقوى في محل الكلام صحة الفرد المزاحم ولو بنينا على كونه منهيا عنه بالنهي الغيري.

أقول سيأتي الكلام في الجهة الثالثة في انه : هل يصح إتيان العبادة بداعي المحبوبية والملاك ،؟ وانه هل هناك كاشف عن الملاك مع عدم الامر أم لا؟

وانما الكلام في هذه الجهة متمحض في انه بناءً على كفاية الملاك ووجود الكاشف عنه غير الامر ، هل النهي الغيري يصلح للمانعية أم لا؟ والأظهر هو صلاحيته لذلك ، وكونه مقتضيا للفساد : إذ النهي الغيري وان لم يكن ناشئا عن المفسدة والمبغوضية ، الا انه مانع عن التقرب بالملاك والمحبوبية إذ التقرب به انما يكون ، لأجل كونه موردا لاشتياق المولى والمولى يحب وجوده في الخارج ، ومع فرض نهي المولى وتسبيبه إلى إعدام الفعل لا محالة لا يمكن التقرب بذلك الملاك ، وبعبارة أخرى : الملاك الذي مع وجوده يسبب المولى إلى إعدامه لا يصلح للمقربية.

مضافا ، إلى ما تقدم من ان مخالفة التكليف الغيري أيضا توجب العقاب فراجع ما ذكرناه.

واما ما قيل من ان النهي الغيري وان لم يوجب الفساد الا انه لأجل إفضائه إلى ترك محبوب أهم لا يمكن التقرب به.

فغير سديد : إذ عدم استيفاء المصلحة المتحققة في فعل لا يصلح ان يكون مانعا عن التقرب بما في فعل آخر من المصلحة.

الإتيان بالعبادة مع عدم الامر

الجهة الثالثة : في انه على القول بعدم الامر بالواجب الموسع المزاحم بالواجب المضيق أو المهم مع مزاحمته بالأهم ولو بنحو الترتب ، هل هناك طريق إلى الحكم بالصحة والاجزاء ، أم لا؟

ونخبة القول فيها ان القول بالصحة والاكتفاء به يتوقف على مقدمتين :

إحداهما : كون الفرد المزاحم الساقط أمره واجدا للملاك كسائر الأفراد.

ثانيتها : الاكتفاء بذلك في صحة العبادة.

اما المقدمة الثانية : فقد مر الكلام فيها ، في مبحث التعبدي والتواصلي ، وعرفت عدم كفاية قصد الملاك والمصلحة في صحة العبادة.

وفى المقام ذكر المحقق الخراساني (ره) (١) كلاما ، صار ذلك عويصة لمن تأخر عنه.

قال ، نعم فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة بالأهم في بعض الوقت لا في تمامه ، يمكن ان يقال انه حيث كان الامر بها على حاله ، وان صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها عن تحتها ، أمكن ان يؤتى بما زوحم منها ، بداعي الملاك ، وان كان الفرد خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، الا انه لما كان وافيا بغرضها ، كالباقي تحتها ، كان عقلا مثله في الإتيان به في مقام الامتثال ،

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٦.

والإتيان به بداعي ذلك الامر إلى ان يقول هذا على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع ، واما بناءً على تعلقها بالأفراد ، فكذلك ، وان كان جريانه عليه أخفى.

ويمكن توجيه ما أفاده بأحد أنحاء :

١ ـ انه على القول بتعلق الأوامر بالطبائع يكون نظره إلى ما وجهنا به كلام المحقق الثاني (١) ، وبه يظهر وجه قوله على القول بتعلق الأوامر بالأفراد جريانه أخفى ، ولكن ذلك لا يتم على القول بتعلقها بالأفراد.

٢ ـ ان يكون نظره إلى انه يمكن إتيانه بداعي إسقاط الامر بالفرد الآخر ، نظرا إلى انه واجد للملاك والغرض الموجب للأمر فبإتيانه يستوفى الملاك والغرض ، فيسقط الامر وإلا بقي بلا ملاك وسقوطه ذلك ليس بالعصيان فلا محالة يكون بالامتثال فيصح الإتيان بالفرد المزاحم امتثالا للأمر المتعلق بالفرد غير المزاحم.

٣ ـ ان يكون نظره الشريف إلى ان الامر انما يدعو إلى ما تعلق به ، بملاك انه محصل للغرض ، لا بما انه متعلق للأمر ، وهذا الملاك موجود في غير ما تعلق به الامر فيصح إتيانه بداعي الامر.

__________________

(١) راجع جامع المقاصد ج ٥ ص ١٣ ـ ١٤ (المطلب الأول من المقصد الأول من كتاب الدين) وقد نقل كلامه ملخصا المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٢ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٢.

طريق استكشاف الملاك

واما المقدمة الأولى : فقد استدل لها ولوجود الملاك في الفرد الساقط أمره بوجوه :

احدها : ما عن المحقق الخراساني (ره) (١) وهو دعوى القطع بأن الفرد المزاحم تام الملاك ، وانه وان كان خارجا عن الطبيعة المأمور بها لكنه يكون وافيا بالغرض كباقي الأفراد ، لفرض ان سقوط الامر ليس لعدم المقتضي ، بل انما هو لأجل عدم قدرة العبد على الامتثال ولوجود المانع.

وبعبارة أخرى : لا يكون خارجا عن تحت الطبيعة المأمور بها بالتخصيص كي يقال بأنه قاصر عن الوفاء بالغرض ، بل يكون من جهة عدم إمكان تعلق الامر به عقلا ، فالعقل لا يرى تفاوتا بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بالغرض.

ولكن يرد عليه ان طريق استكشاف الملاك انما يكون بأحد طرق :

الأول : إحاطة العقل بالواقعيات وكشفه الملاك.

الثاني : إخبار الشارع ولو ببيان الملاك علة للحكم.

الثالث : كون الشيء بنفسه متعلق الامر بناءً على ما هو الصحيح من تبعية الاحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد.

الرابع : ما إذ كان الفرد مصداقا للمأمور به بما هو مأمور به ، فانه يكشف

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٦ بتصرف.

عن وفائه بغرض المأمور به وكونه واجدا للملاك.

واما إذا لم يكن شيء من ذلك كما في المقام كما هو واضح ، فلا كاشف عن وجود الملاك ، ودعوى القطع بوجود الملاك بعد احتمال ان لا يكون في فرض سقوط الامر ملاك له أصلا غير مسموعة ، وبالجملة ان الكاشف عن الملاك بعد عدم الإحاطة بالواقعيات وعدم التنصيص من الشارع هو الامر ومع سقوطه لا كاشف عنه.

ثانيها : ما عن جماعة منهم المحقق العراقي (ره) (١) وحاصله :

انه إذا كان للكلام دلالات متعددة وظهورات كذلك ، كما إذا كان له دلالة مطابقية ، ودلالة التزامية أو دلالة مطابقية ، ودلالة تضمنية كما في العام المجموعي كقولنا اكرم عشرة من العلماء ، فانه يدل على وجوب إكرام المجموع بالدلالة المطابقية وعلى إكرام كل واحد بالدلالة التضمنية ، وسقط اللفظ عن الحجية بالاضافة إلى احد مدلوليه وهو الدلالة المطابقية مثلا لم يستلزم ذلك سقوطها عنها بالاضافة إلى مدلوله الآخر : إذ الضرورات تتقدر بقدرها.

وبعبارة أخرى : الدلالة الالتزامية ، أو التضمنية وان كانت تابعة للمطابقية في مقام الثبوت والإثبات الا أنها ليست تابعة لها في الحجية ، لان كل ظهور للكلام بنفسه متعلق للحجية بمقتضى أدلة حجية الظهورات وسقوط اللفظ عن الحجية بالاضافة إلى احد الظهورات من جهة قيام حجة أقوى على خلافه

__________________

(١) تعرض المحقق العراقي لعدم التلازم بين الدلالتين في الحجية في عدة موارد منها مقالات الأصول ج ٢ ص ١٩٥.

لا يوجب رفع اليد عن الظهور الآخر الذي لا مانع من البناء على حجيته.

وان شئت قلت ان الكلام الذي له مدلولان : مطابقي ، والتزامي ، أو تضمني ، يكون منحلا إلى اخبارين ، ودليل الاعتبار يدل على حجية كل واحد مستقلا ، فسقوط احدهما عن الحجية لحجة أقوى لا يوجب سقوط الآخر.

والمقام من هذا القبيل إذ مقتضى اطلاق الامر المتعلق بالعبادة كونها مأمورا بها حتى في صورة المزاحمة ، ودلالته هذه تكون بالدلالة المطابقية ، وبالدلالة الالتزامية يدل على ثبوت الملاك والمصلحة في كل فرد في جميع حالاته حتى في هذه الحال ، وبالمزاحمة سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية ، بمعنى ان الإطلاق قيد بالقرينة العقلية ، الا ان ظهوره في كون الفعل ذا مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه.

وبعبارة أخرى : الدال على ثبوت الامر في كل فرد يدل على وجود الملاك فيه بالدلالة الالتزامية ، فإذا قيد ذلك في مدلوله المطابقي ، يدخل في الكبرى الكلية من انه إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لا يسقط الدلالة الالتزامية ، إذ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا لا حجية.

وعلى هذا المبنى بنوا في التعادل والترجيح على ان الخبرين المتعارضين يسقطان في المؤدى على القاعدة الا انه ينفى الثالث بهما.

وفيه : أولاً النقض بموارد التخصيص فإن دليل العام يدل على ثبوت الحكم في كل فرد ، وبالدلالة الالتزامية يدل على ثبوت الملاك فيها ، فإذا ورد التخصيص يقيد اطلاقه بالنظر إلى الحكم فقط ولا مخصص له بالقياس إلى الملاك ، لانه لا يدل على عدم وجوده في ذلك الفرد إذ عدم الحكم كما يمكن ان

يكون لعدم الملاك يمكن ان يكون لأجل المانع ، فعلى هذا المسلك لا بد وان يبنى على ثبوت الملاك في ذلك الفرد ، وهذا مما لم يلتزم به احد.

وبانه إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول فهي بالدلالة الالتزامية تدل على نجاسته فإذا علمنا من الخارج عدم مطابقة مدلولها المطابقي للواقع ، ولكن احتملنا ثبوت النجاسة ، فهل يتوهم احد انه يبنى على النجاسة لهذه الكبرى الكلية.

وثانياً : بالحل ، وهو ان من يخبر عن شيء مثلا ، وبالدلالة الالتزامية عن لازمه ، انما يخبر عن لازمه لا مطلقا بل عن الحصة منه الملازمة لهذا الشيء ، مثلا من يخبر عن ملاقاة البول للثوب انما يخبر عن النجاسة الخاصة الحاصلة من ملاقاة البول ، لا مطلقا فحينئذ إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية وعلم بكذبه مثلا لا محالة تسقط الدلالة الالتزامية ، فالدلالة الالتزامية كما تكون تابعة للدلالة المطابقية وجودا ، كذلك تكون تابعة لها بقاءً وحجية.

وعلى ذلك في المقام نقول ان ما دل على ثبوت الحكم ، غير مقيد بالقدرة ، وان كان يدل على ثبوت الملاك الملزم ، الا انه لا يدل على ثبوته على نحو الإطلاق حتى مع قطع النظر عن ثبوت الحكم ، بل انما يدل على ثبوت الملاك الملازم للوجوب والحكم ، فيكون دالا على ثبوت حصة خاصة من الملاك وهي الحصة الملازمة لذلك الحكم والمنشأ له فإذا سقطت الدلالة على الحكم لمانع لا يبقى دلالته على الملاك الذي هو السبب له فلا علم لنا بوجود الملاك ، وبالجملة مع فرض سقوط الكاشف على الملاك ، لا معنى لادعاء العلم بوجود المنكشف.

ولا تقاس الدلالة الالتزامية بالدلالة التضمنية ، فإن دلالة الكلام على

المدلول الالتزامي انما تكون من جهة كونه لازما للمدلول المطابقي فلا بقاء له بعد سقوطه ، واما الدلالة التضمنية فليست من هذا القبيل بل الدلالة المطابقية تنحل في الواقع إلى دلالات تضمنية باعتبار كل جزء منه فإذا سقط بعضها ، لا موجب لسقوط البقية.

وعلى الجملة لا ملازمة ولا تبعية بين المداليل التضمنية بعضها بالاضافة إلى بعضها الآخر لعدم كون احدها معلولا للآخر ولا علة له ولا معلولان لعلة ثالثة في الواقع.

أضف إلى جميع ذلك ان إحراز الملاك في فعل ، انما يكون تابعا للإرادة الجدية لا الإنشائية لان ثبوت الملاك على مسلك العدلية انما يكون في متعلق الإرادة الجدية فتبعية الملاك تدور مدار الإرادة الجدية ، فمع فرض عدم كون فرد متعلقا للإرادة الجدية لا كاشف عن وجود الملاك فتدبر.

الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وحاصله انه.

تارة تؤخذ القدرة في متعلق التكليف لفظا ، كما في آيتي الحج والوضوء ، فانه يكون دلالة اللفظ على اعتبار القدرة في الأولى بالمطابقة ، وفى الثانية بالالتزام ، فانه يستفاد ذلك من جهة اخذ عدم وجدان الماء في موضوع وجوب التيمم مطابقة ، والتفصيل قاطع للشركة لا محالة ، وفي مثل ذلك يستفاد ان القدرة دخيلة في الملاك ، بداهة انه لا معنى لاخذ قيد في متعلق الحكم في مقام الإثبات ، إذا لم يكن له دخل في مقام الثبوت ، وعلى ذلك بنوا على عدم إمكان

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٦ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٢٧.

تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك.

وعلى الجملة التقييد يكشف عن ان ما فيه الملاك مقيد بالقدرة ، وغير المقدور لا ملاك فيه.

وأخرى لا يكون المتعلق مقيدا بها ، بل هو مطلق ، ولكن تعلق الطلب قيد بالقدرة ، اما من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، أو من جهة اقتضاء نفس الخطاب ذلك ، فمعروض الطلب في المرتبة السابقة على عروضه وهي مرتبة اقتضاء المتعلق لعروض الطلب عليه التي هي عبارة أخرى عن مرتبة واجديته للملاك لا محالة يكون مطلقا ، والتقييد في المرتبة اللاحقة ، وهي مرتبة عروض الطلب ، لا يعقل ان يكون تقييدا للمرتبة السابقة ، كما في كل ما لا يتأتى الا من قبل الامر كقصد القربة ، ففي المرتبة السابقة بما انه مطلق يستكشف عدم دخل القدرة في الملاك وعن كون ذات العمل الذي هو معروض الطلب واجدا للملاك التام ، وإلا لكان عليه البيان والتقييد فبإطلاق المادة يتمسك لاثبات وجود الملاك في مورد المزاحمة الموجبة لسقوط الامر بالمهم من جهة عدم القدرة على امتثالهما معا.

فإن قيل انه فيما لم يؤخذ القدرة في المتعلق لو سلم عدم القطع بالتقييد شرعا الكاشف عن دخل القدرة في الملاك ، الا أنا نحتمل ذلك بالبداهة ، ولا دافع لذلك الاحتمال ، إذ لو كانت دخيلة فيه لجاز للمتكلم ان يكتفي في بيانه بنفس إيقاع الطلب على ما كان فيه الملاك فيكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ومعه لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

توجه عليه انه بعد ما عرفت من استحالة اخذ ما لا يتأتى الا من قبل

الامر في المتعلق لسبقه على تعلق الطلب ، لا يحتمل قرينية إيقاع الطلب ، فلا يكون داخلا في تلك الكبرى الكلية ليدعى الإجمال.

وان قيل ان اطلاق المتعلق انما يكشف عن عدم دخل القيد في الملاك إذا لزم نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الإثبات مع دخل القيد في مقام الثبوت ، وإذا لم يلزم ذلك لا يكون الإطلاق كاشفا في مقام الثبوت ، وعليه ففي المقام بما ان القدرة لعدم تمكن المكلف من إيجاد غير المقدور في الخارج ، لا يلزم من عدم بيان قيديتها نقض الغرض ولو كانت القدرة دخيلة في الملاك واقعا.

اجبنا عنه أولاً بعدم كون ذلك من مقدمات الإطلاق كما هو محرر في محله.

وثانياً ، انه لا يلزم نقض الغرض في مورد القدرة التكوينية دون الشرعية ، إذ المكلف قادر تكوينا على إتيان الواجب المزاحم بما هو مقدم عليه.

وفيه : ان المراد من الإطلاق ان كان هو الإطلاق اللفظي ، أي ما يتمسك به لاستكشاف مراد المتكلم من ظهور كلامه.

فيرد عليه ان التمسك بالاطلاق فرع كون المتكلم في مقام البيان ، وبديهي ان المولى في مقام الامر بشيء ، انما هو بصدد بيان المأمور به ، لاما فيه الملاك ، فلا يصح التمسك بالاطلاق ، مع انه لو سلم كونه في مقام البيان حتى من هذه الجهة ، لا يمكن التمسك بالاطلاق أيضا ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، إذ يمكن ان يكون المولى قد اتكل في تقييد ما فيه الملاك إلى حكم العقل باعتبار القدرة في المتعلق ، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك. فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق.

وما أفاده من استحالة كون ذلك بيانا ومقيدا لاطلاق متعلقة في مرتبة سابقة.

غير تام لان انقسام الفعل إلى المقدور وغيره من الانقسامات الاولية وليست القدرة من قبيل قصد الامر ، أو العلم بالحكم الذي لا يتأتى الا بعد الامر ، فإذا كانت من الانقسامات الاولية ، فلا بد وان يكون الحكم الوارد على الطبيعة المنقسمة إلى المقدورة وغير المقدورة ، اما مطلقا أو مقيدا بعد عدم تعقل الإهمال النفس الامري ، ولا يفرق في ذلك بين بيان القيد وابراز دخله قبل الامر أو بعده ، فإن عدم وجود القيد قبل الامر غير كون ابرازه بعده فتدبر فانه دقيق.

وان كان مراده من الإطلاق كشف الملاك من باب كشف المعلول عن علته سواءً كان المولى في مقام البيان أم لا؟

وبعبارة أخرى : اراد من الإطلاق ما لا يتوقف على التفات المولى فضلا عن كونه في مقام البيان كما هو صريح كلامه.

فغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه انه لا ريب بناءً على مذهب العدلية ان ما يرد عليه الطلب لا بد وان يكون ذا ملاك ومصلحة ، والمفروض ان ما يرد عليه الطلب في ظاهر كلام المولى هو الفعل المطلق قبل تعلق الطلب به دون المقيد ، فيكشف ذلك عن ان الواجد للملاك هو مطلق الفعل دون المقيد منه.

ولكن يرد عليه ان لزوم كون متعلق الطلب ذا ملاك ومصلحة ، مما لم تدل عليه آية أو رواية معتبرة كي يتمسك باطلاقها ويحكم بثبوت الملاك ، حتى مع عدم الامر ، بل انما هو لأجل ان الحكيم لا يفعل الجزاف ولا يامر بما لا مصلحة

فيه ، وغاية ما يقتضيه هذا البرهان هو ثبوت الملاك في خصوص الحصة التوأمة مع الامر والطلب.

وفي المقام بما ان الامر انما تعلق بالحصة من الطبيعة غير المزاحمة مع ما هو اهم منها ، فلا محالة يكون ما فيه الملاك تلك الحصة لا الطبيعة المطلقة.

وبعبارة أخرى : ان المعلول انما يكشف عن وجود علته بمقدار سعته دون الزائد ، فإذا كان المعلول هو الحكم في خصوص الحصة من الطبيعة المقدورة ، لا محالة يكشف ذلك ، عن وجود الملاك في خصوص تلك الحصة دون غيرها.

فالمتحصل انه على فرض عدم الامر لا كاشف عن وجود الملاك كما أفاده صاحب الجواهر (ره) (١) ، اضف إليه ما تقدم في مبحث التعبدي والتواصلي من ان قصد الملاك والمصلحة لا يوجب اتصاف العمل بالعبادية كما أفاده صاحب الجواهر (ره) (٢).

__________________

(١) فقد حكى هذا القول عن صاحب الجواهر عدّة من الاعلام منهم المحقق النائيني في أجود التقريرات ج ١ ص ٣٨٦ ، وفي ط. الجديدة ج ٢ ص ٢٠٠ / فإن صاحب الجواهر (ره) اعتبر المصحح للعبادة هو وجود الأمر ومع عدمه لا مصحح للعبادة راجع جواهر الكلام ج ٨ ص ٢٨٥ وفي ج ٩ ص ١٥٥ اعتبر أن مقومات العبادة تعلق الأمر بها / وفي ج ١٦ ص ٣٢٨ في حديثه عن عدم صحة صوم المجنون قال : لفوات الأمر المعتبر بقاؤه في صحة العبادة.

(٢) كما هو الظاهر من كلامه ج ٤ ص ٣٤٨ في معرض الحديث عن نقل الميت أنه لا يجوز نقله لعدم علمنا بوجود مصلحة في نقله تقابل المفسدة ... وان المصالح لا يعلمها إلا علام الغيوب ومن أودعهم.

مسألة الترتب

ثم انه قد تصدى جماعة من المحققين (١) لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب على عصيان الامر بالأهم ، أو البناء عليه.

وقبل تنقيح القول في المقام نذكر امورا.

الأول : ان البحث في هذه المسألة يترتب عليه ثمرة إذا لم يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بواجب مقدم عليها بالوجهين المتقدمين. وهما الملاك ، والامر ، وقد مر ان تصحيحها بالامر نظرا إلى عدم اعتبار القدرة الشرعية اظهر ، خصوصا في مورد تزاحم الواجب الموسع والمضيق ، بل ستعرف خروج هذا المورد من موضوع البحث واختصاصه بتزاحم الواجبين المضيقين.

الثاني : ان للواجبين الممتنع اجتماعهما في زمان واحد صورا.

فإن كانا موسعين كالصلاة اليومية ، وصلاة الآيات في سعة وقتهما فلا شبهة في خروجها عن كبرى باب التزاحم. لان المكلف متمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون مزاحمة فيكون الامر بكل منهما فعليا بلا تناف ولم يستشكل فيه احد.

وان كانا مضيقين كما في الإزالة والصلاة في آخر وقتها بحيث لو اشتغل

__________________

(١) كما حكاه في الكفاية جماعة من الأفاضل ص ١٣٤ وهو مختار المحقق الثاني وكاشف الغطاء والميرزا الكبير الشيرازي وتلميذه المحقق السيد محمد الأصفهاني والميرزا النائيني خلافا للشيخ الأعظم كما حكاه البعض ، ويأتي تخريج بعض المصادر.

بالإزالة فاتته الصلاة ، فلا كلام في كونها داخلة في كبرى باب التزاحم ، وكونها محل النزاع في الترتب.

وان كان احدهما موسعا والآخر مضيقا كما في صلاة الظهر في سعة وقتها ، وازالة النجاسة عن المسجد ، ففي هذه الصورة اختلفت كلمات المحققين.

فعن المحقق النائيني (قدِّس سره) (١) دخولها في كبرى باب التزاحم ، نظرا إلى ان تقييد الحكم بخصوص الفرد المزاحم ممتنع ، فلا محالة يكون اطلاقه وشموله له محالا ، لان التقابل بين الإطلاق والتقييد ، تقابل العدم والملكة ، فإذا امتنع احدهما امتنع الآخر ، ويترتب على ذلك وقوع المزاحمة بين ، اطلاق الواجب الموسع ، وخطاب الواجب المضيق فلا يمكن الجمع بينهما إذ على تقدير فعلية خطاب المضيق يستحيل اطلاق الواجب الموسع بالإضافة إلى الفرد المزاحم ، فلا بد من رفع اليد عن اطلاق الموسع والتحفظ على فعلية خطاب المضيق أو رفع اليد عن الخطاب المضيق والتحفظ على اطلاق الموسع ، فتكون هذه الصورة داخلة في محل النزاع كالصورة الثانية ، غاية الامر التزاحم في تلك الصورة بين الخطابين ، وفى هذه الصورة بين اطلاق احدهما وخطاب الآخر.

ولكن يتوجه عليه ما عرفت في مبحث التعبدي والتواصلي ، من عدم تمامية ما أفاده من انه إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق فراجع ما حققناه ، ونزيده وضوحا ان الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها ، ودخالة كل قيد في الحكم ، فمعنى اطلاق الواجب الموسع كون الواجب صرف وجود الطبيعة ،

__________________

(١) حكاه عنه آية الله السيد الخوئي في محاضرات في الأصول ج ٣ ص ٩٢ (مسألة الترتب).

وعدم دخل شيء من خصوصيات الأفراد فيه ، فالفرد المزاحم كغيره في عدم دخله في متعلق الوجوب ، ونتيجة ذلك ان الواجب الموسع مطلق بالنسبة إلى الفرد المزاحم ولا ينافى ذلك مع فعلية خطاب الإزالة ، فلا تكون هذه الصورة داخلة في كبرى التزاحم ولا يجري نزاع الترتب فيه بل يصح إتيان الفرد المزاحم بداعي امر الموسع بلا توقف على إمكان الترتب.

إمكان الترتب ملازم لوقوعه

الثالث : انه على فرض إمكان الترتب ، يلازم ذلك لوقوعه ، وان شئت فعبر بانه كفى ذلك لوقوعه فلا بد من الالتزام بوقوعه :

وذلك لان الامر بالأهم بوجوده لا يزاحم الامر بالمهم على الفرض ، ومزاحمته معه انما تكون في ظرف امتثاله فانه موجب لعدم قدرة العبد على امتثال الامر بالمهم ، كما ان مزاحمة الامر بالمهم للامر بالأهم ، انما تكون في ظرف امتثاله لا مطلقا ، فلا بد من سقوط اطلاق احد الخطابين لا سقوط اصل خطاب احدهما.

وبالجملة : التزاحم انما يكون بين الاطلاقين لابين الخطابين فإن ابقيا على اطلاقهما بقي التزاحم ، وان ارتفع احد الاطلاقين ارتفع التزاحم فلا موجب لرفع اليد عن اصل خطاب احدهما والحكم بسقوطه ، إذ الضرورات تتقدر بقدرها ، فإذا فرض أهمية احدهما يبقى اطلاقه على حاله ويحكم بسقوط اطلاق الآخر ، فبالنسبة إلى اصل الخطاب به يتمسك باطلاق دليله الافرادي

ويحكم بثبوته.

وان شئت قلت ان سقوط الخطاب لا بد وان يكون لعجز تكويني أو شرعي.

اما العجز الشرعي ، فمفقود ، لفرض إمكان الترتب وان الامر بالأهم بوجوده لا يزاحم الامر بالمهم بنحو الترتب.

واما العجز التكويني فهو مختص بصورة امتثال الامر بالأهم ، ومع عدم الامتثال يكون القدرة على امتثال الامر بالمهم موجودة ، فلا موجب لسقوطه في هذا الفرض.

وحينئذٍ ففي صورة عصيان الامر بالأهم يتمسك لاثبات الامر بالمهم باطلاق دليله الافرادي : مثلا إذا تزاحم الامر بالصلاة ، مع الامر بالإزالة ، وقدم الثاني ، ففي صورة عصيان الامر بها يتمسك باطلاق اقيموا الصلاة ونحوه من المطلقات لشمول الامر لمثل هذه الصلاة ، وانما خرجنا عن اطلاقها الاحوالي وقيدناه في صورة امتثال الامر بالإزالة لا مطلقا ، فوقوع الترتب بعد اثبات امكانه لا يحتاج إلى دليل ، بل دليله حينئذ نفس اطلاق الادلة.

ويتفرع على ذلك انه لو وقع التزاحم بين المتساويين.

فبناءً على إمكان الترتب يكون كلا الامرين فعليين بنحو الترتب بمعنى ان الامر بكل منهما فعلى مشروط بعدم الاتيان بالآخر : إذ التزاحم انما يكون بين اطلاقيهما ، وحيث لا مرجح لاحدهما على الآخر يسقطان معا ، فكل منهما يقيد بعدم الاتيان بالآخر ، ففي صورة عدم الاتيان ، بهما يكون الامران فعليين

ويكون التخيير عقليا ، ولو أتى بأحدهما يسقطان معا احدهما بالامتثال والآخر بارتفاع موضوعه وعدم تحقق شرطه ، ولو لم يأت بهما فقد خالف أمرين.

واما بناءً على استحالة الترتب وكون التزاحم بين نفس الحكمين ، فلا محالة يسقط الامران معا.

وعليه : فبناء على كشف الملاك مع عدم الامر بأحد الطريقين المتقدمين ، حيث ان الملاكين موجودان والمكلف يتمكن من تحصيل احدهما ، فيكشف العقل ثبوت خطاب تخييري شرعي ، فيكون التخيير شرعيا.

وبناءً على ما أسلفناه من انه مع عدم الامر لا كاشف عن الملاك لا مجال لاستكشاف ذلك أيضا.

فرع :

بقي في المقام : وهو انه لو وقع التزاحم بين حكمين ، واحتمل أهمية احدهما دون الآخر.

فبناء على إمكان الترتب ، يكون سقوط اطلاق خطاب ما لم يحتمل أهميته متيقنا ، كان الآخر أهم أم كانا متساويين ، واما ما يحتمل أهميته فسقوط اطلاق خطابه مشكوك فيه لاحتمال أهميته فلا موجب للحكم بسقوطه : إذ لا ريب في التمسك بالاطلاق لو شك في سقوطه فيكون خطاب محتمل الاهمية مطلقا والخطاب الآخر مقيدا بعدم الاتيان بطرفه.

واما بناءً على استحالة الترتب ، فحيث ان التزاحم انما يكون بين نفس الخطابين فيسقطان معا كان الآخر اهم أم لم يكن غاية الامر بناءً على

استكشاف الملاك يكشف وجود خطاب ، وهو على فرض التساوي متعلق باحدهما على نحو التخيير ، وعلى فرض الاهمية متعلق به تعيينا ، فإذا احتمل الاهمية يكون امر الخطاب دائرا بين التعيين والتخيير.

فعلى القول بأصالة الاحتياط في تلك المسألة يبنى على ان المتعين الاتيان بما يحتمل أهميته.

وعلى القول بأصالة البراءة في تلك المسألة يحكم بالتخيير في المقام ، وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذه المسألة.

الرابع : ان الواجب الأهم إذا كان آنيا غير قابل للدوام والبقاء فالتكليف بالمهم لا يتوقف على القول بجواز الترتب وامكانه لان عصيان الامر بالأهم في الآن الأول القابل لوجود الأهم فيه موجب لسقوط أمره في الآن الثاني بسقوط موضوعه ومعه لا مانع من

فعلية الامر بالمهم على الفرض ، لان المانع هو فعلية الامر بالأهم ، فحينئذ يصح الاتيان بالمهم ولو على القول باستحالة الترتب فهذا الفرض خارج عن مورد النزاع فإن ما هو محل النزاع ما إذا كان الامر بالأهم فعليا ومع ذلك وقع الكلام في فعلية الامر بالمهم.

نعم ، تعلق الامر بالمهم في الآن الأول القابل لتحقق الأهم فيه خارجا يكون محل الكلام ، فالقائل بالترتب يلتزم بإمكانه والقائل باستحالته يلتزم بعدم امكانه ، فنزاع الترتب في هذا القسم ينحصر في خصوص الامر بالمهم في الآن الأول.

فالمتحصل انه إذا كان الواجب الأهم آنيا دون الواجب المهم ، اثبات الامر بالمهم في الآن الثاني لا يتوقف على القول بالترتب ، وان كانا آنيين فإثبات الامر بالمهم يكون مبتنيا على القول بالترتب.

الخامس : انه إذا كان كل من الاهم والمهم تدريجيا كالصلاة والازالة عند وقوع المزاحمة بينهما فلا إشكال في انه داخل في محل الكلام.

فإن قيل ان عصيان الامر بالأهم آناً ما شرط لفعلية الامر بالمهم في جميع أزمنة امتثاله بلا توقف فعليته في الآنات المتأخرة على استمرار معصية الامر بالأهم في تلك الآنات بل لو تبدلت المعصية بالإطاعة في الآن الثاني كان الامر بالمهم باقيا على فعليته لتحقق شرطه ، وهو عصيان الامر بالأهم في الآن الأول.

فلا ريب في امتناع ذلك ، فانه يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدين.

والظاهر من المنكرين للترتب كالمحقق الخراساني (١) كون نظرهم إلى هذا المورد.

ولكن ليس ذلك مراد القائلين بالترتب ، بل محل بحثهم ومحط نظرهم ما لو فرض كون عصيان الامر بالأهم في جميع أزمنة امتثاله شرطا لفعلية الامر بالمهم ، بمعنى ان فعلية الامر بالمهم تدور مدار عصيان الامر بالأهم حدوثا وبقاءً ، فلا يكفي عصيانه آنا ما لبقاء أمره إلى الجزء الأخير منه ، ففعلية الامر بالصلاة مثلا عند مزاحمته بالامر بالإزالة ، مشروطة ببقاء عصيان الامر بالإزالة ،

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٤ ـ ١٣٥.

واستمراره إلى آخر أزمنة امتثال الامر بالصلاة.

إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم ان تنقيح القول بالبحث في مقامين :

الأول : في أدلة إمكان الترتب.

الثاني : في بيان ما قيل في وجه الاستحالة.

اما المقام الأول : فأدلة الإمكان نوعان : الدليل الإني : والدليل اللمِّي.

الدليل الإني لإمكان الترتب

فالكلام أولاً في الدليل الإنِّي : وملخص القول فيه انه يشهد بإمكانه ، مضافا إلى شهادة الوجدان وقوعه في العرفيات كثيرا من دون ان يتجاوز الآمر عن الامر بالأهم وطلبه حقيقة ولاكون الامر بالمهم إرشادا إلى محبوبيته.

ووقوعه في الشرعيات وهو أقوى الدليل على امكانه فلاحظ.

١ ما لو حرمت الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى زوال الشمس وعصى المكلف هذا الخطاب واقام ، فلا اشكال في انه يجب عليه الصوم ويكون مخاطبا به ، ولا ينطبق ذلك الا على الترتب إذ في الآن الأول من الفجر توجه إليه كل من خطاب ، لا تقم ، وصم على تقدير الإقامة ، وعصيان الخطاب الأول مترتبا ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة ، وهذا المثال عين القول بالترتب الذي هو عنوان كلام القوم ، على القول بأن الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فانه يكون خطاب الصوم مترتبا على عصيان خطاب الإقامة بلا توسط شيء كترتب خطاب المهم على عصيان خطاب الاهم.

نعم لو قلنا بأن الإقامة قاطعة للسفر موضوعا ، كان خطاب الصوم مترتبا على عنوان غير المسافر والحاضر لا على عصيان خطاب الإقامة ، ولكن يكون عصيان حرمة الإقامة علة لتحقق ما هو موضوع وجوب الصوم ، لانه بعصيان خطاب الاقامة يتحقق عنوان الحاضر وبتحقق ذلك العنوان يتوجه خطاب الصوم فيتوسط بين عصيان خطاب الاقامة وخطاب الصوم هذا العنوان.

ولكن توسط العنوان لا يكون رافعا لما قيل انه محذور في الترتب.

٢ ما لو وجبت الاقامة توجه إليه خطاب القصر ، فيكون خطاب القصر مترتبا على عصيان الامر بقصد الاقامة وتركه في الخارج.

٣ ما لو حرمت الاقامة ، فعصى واقام ، فانه يتوجه إليه خطاب إتمام الصلاة ، إلى غير ذلك من الفروع التي لا تجتمع مع عدم الترتب.

الدليل اللمي لإمكان الترتب

واما الدليل اللمي للإمكان الذي هو المهم في المقام ، فللقوم في تقريبه وجوه ، وحيث ان الموجب للوقوع في مضيقة المحال ، هو استحالة طلب الضدين ، ووجوه الإمكان ناظرة إلى ذلك ، وإلا فبقية وجوه المنع واضحة الدفع. فلا بد أولاً من تقريب وجه الاستحالة ثم تعقيبه بوجوه الإمكان.

وحاصله ان ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد ، آت في طلبهما بنحو الترتب إذ لو كان التكليف بهما مترتبا وان لم يكن في مرتبة طلب الاهم

اجتماع طلبهما الا انه كان في مرتبة الامر بالمهم اجتماعهما لفعلية الامر بالأهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها مع فعلية الامر بغيره أيضا لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا.

ودعوى الفرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك فإن الطلب في كل منهما في الأول يطارد الآخر بخلافه في الثاني إذ الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم فانه يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم.

مندفعة بانه لا معنى للمطاردة سوى فعلية الامرين ومضادة متعلقيهما فإن كل امر انما يقتضي ايجاد متعلقه في فرض فعليته فمع فرض فعلية كل منهما لا محالة يكون هناك اقتضاءان مع عدم قدرة المكلف الا على الاتيان بواحد من المقتضيين بالفتح ، فلا محالة يلزم من اجتماعهما في زمان واحد المطاردة بينهما في ذلك الزمان.

وقد ذكر المحققون في الجواب عن ذلك تصحيحا للترتب وجوها :

الوجه الأول : ان التكليف بالمهم لما كان معلقا على امر اختياري للمكلف ، وهو معصية التكليف الأول أو على امر حصوله بيد المكلف واختياره ، وهو كون المكلف ممن يعصى للتكليف الأول جاز تنجزه عند حصول شرطه ، ولزوم ايجاد المتنافيين في زمان لا يسع لهما ، لا يمنع عن صحة التكليف ، لان التكليف بالمحال إذا كان ناشئا من اختيار المكلف لا ضير فيه : إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وفيه أولاً : ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار عقابا لا خطابا ، وإلا فلا فرق في قبح التكليف بالمحال وغير المقدور بين ما إذا كان سبب الخروج عن

القدرة هو المكلف ، أم كان المكلف به خارجا عن القدرة بنفسه ومن جهة العوامل الخارجية.

وثانياً : انه لو سلم ذلك وانه لا ينافيه خطابا أيضا فإنما هو فيما إذا كان المتعلق مقدورا والعبد بسوء اختياره صيره غير مقدور ، لا فيما إذا كان غير مقدور من الأول ، وعلق الحكم على امر اختياري كما لو قال : يجب عليك الجمع بين النقيضين ان صعدت على السطح ، فانه لم يتوهم احد جواز هذا التكليف ، والمقام من هذا القبيل فإن الجمع بين الضدين محال من الأول وتعليق طلبه على عصيان الامر بالأهم لا يصححه.

الوجه الثاني : ان التكليف المشروط أي التكليف بالمهم ليس في رتبة التكليف المطلق المتعلق بالأهم ومعه لا مانع من تحققهما.

توضيح ذلك ان التكليف بالأهم لا يكون مشروطا بوجود متعلقه ، ولا مشروطا بعدمه ولو بنتيجة التقييد وإلا لزم طلب الحاصل أو طلب النقيضين كما هو واضح ، وإذا لم يصح التقييد والاشتراط لم يكن فيه اطلاق بالنسبة اليهما ، إذ الإطلاق عبارة عن عدم الاشتراط في مورد يسوغ ذلك ، لا مجرد عدم الاشتراط ، فالتكليف الأول ، بالنسبة إلى هذا التقدير لا مطلق ولا مشروط.

واما التكليف بالمهم ، فهو غير ثابت في المرتبة المتقدمة على العصيان أي عصيان الامر بالأهم لاشتراطه به ، بل هو ثابت في المرتبة المتأخرة ، فليس شيء من التكليفين ثابتا في مرتبة ثبوت الآخر ، والتكليف بالمتنافيين لا يصح إذا كان ذلك في مرتبة واحدة.

وفيه : ان هذه الأحكام أحكام للزمان لا للرتبة ، فثبوت التكليف بأحد

المتنافيين في زمان ثبوت التكليف بالآخر ممتنع ، وان كانا في مرتبتين ، وحيث ، انه في زمان ثبوت التكليف بالمهم ، لا يكون التكليف بالأهم ساقطا كما هو المفروض ، بل هو أيضا باق فيلزم ثبوتهما في زمان واحد ، وهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدين الممتنع ، مع ان التنافي بين الحكمين ليس تنافيا بالذات أو من حيث المبدأ والملاك بل انما يكون تنافيا بالعرض من جهة تضاد المتعلقين فاختلاف الحكمين رتبة بل وزمانا مع فرض وحدة زمان المتعلقين رتبة وزمانا لا يوجب ارتفاع ملاك التنافي كما هو واضح.

ما أفاده المحقق النائيني في تصحيح الترتب

الوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني (ره) (١) وقد بنى جوابه على مقدمات خمس ، وبعضها وان لم يكن صحيحا ، وبعضها غير دخيل في اثبات صحة الترتب ، وبعضها مترتب على صحة الترتب ، الا انه لاشتمالها على فوائد جمة ، نذكر كل مقدمة منها ثم نعقبها بما يختلج بالبال.

المقدمة الأولى :

لا كلام في ان الموجب لوقوع المكلف في مضيقة المحال هو إيجاب الجمع بين الضدين ، إذ مع عدمه لا يقع المكلف في المضيقة فالمحذور كل المحذور انما ينشأ

__________________

(١) راجع فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ٣٣٦ وتنتهي المقدمة الخامسة ص ٣٥٤ ، إلا ان المصنف (دام ظله) ذكر المقدمة الأولى فقط من الفوائد ثم شرع في ذكر المقدمات الخمس من اجود التقريرات ، كما سيأتي تخريجها.

من إيجاب الجمع بين الضدين ، ولا كلام أيضا في انه لا بد من سقوط ما هو منشأ إيجاب الجمع ولاوجه لسقوط غير ذلك ، وهذان الامران لا كلام فيهما.

فالكلام كله انما هو في ان الموجب للجمع بين الضدين ، هل هو نفس الخطابين وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما ، أو ان الموجب للجمع هو اطلاق كل من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر وعدمه.

والمنكرون للترتب يدعون الأول ، والمصححون الثاني ، ونحن إذا راجعنا إلى غير باب الضدين كالصلاة والصوم ، نرى انه إذا امر الشارع بهما مع تقييد كل من الامرين بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، أو كان احدهما مشروطا بذلك ، لما كانت النتيجة إيجاب الجمع بين الصوم والصلاة فليكن كذلك في باب الضدين.

ثم قال (قدِّس سره) وعلى ذلك يبتني المسلكان في التخيير بين المتزاحمين المتساويين من حيث كون التخيير عقليا أو شرعيا ، فانه إذا كان المقتضي للجمع ، هو اطلاق الخطابين فالساقط هو الإطلاق ليس الا مع بقاء اصل الخطاب ، فيكون كل من الخطابين مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر لحصول القدرة عليه عند ترك الآخر ، وينتج التقييد عقلا ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأن المقتضي لإيجاب الجمع ، هو اصل الخطابين فانه يسقطان معا ولمكان تمامية الملاك في كل منهما يستكشف العقل خطابا شرعيا تخييريا باحدهما ويكون كسائر التخييرات الشرعية كخصال الكفارات ، غايته ان التخيير في الخصال ، يكون بجعل ابتدائي وفى المقام يكون بجعل طارئ.

ثم قال (قدِّس سره) (١) ومن الغريب ما صدر من الشيخ حيث انه في الضدين الذين يكون احدهما اهم ينكر الترتب (٢) ، غاية الإنكار ، ولكن في مبحث التعادل والترجيح (٣) التزم بالترتب من الجانبين ويصرح بأن التخيير في الواجبين المتزاحمين ، انما هو من نتيجة اشتراط كل منهما بالقدرة عليه وتحقق القدرة في حال تركب الآخر ، فيجب كل منهما عند ترك الآخر ، فيلزم الترتب من الجانبين ، مع انه أنكر الترتب من جانب واحد هكذا في تقريرات المحقق الكاظمي (٤).

وفي تقريرات المحقق الأكبر الخوئي (٥).

المقدمة الأولى في بيان أمرين (٦) :

الأمر الأول : ان الفعلين المتضادين ، إذا كان التكليف بهما ، أو باحدهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر فلا محالة يكون التكليفان طوليين لا

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ص ٣٣٨.

(٢) راجع فرائد الأصول ج ٢ ص ٥٢٤ في معرض الرد على ما ذكره كاشف الغطاء من الترتب بين المهم والأهم المضيقين قال : انا لا نعقل الترتب في المقامين ... الخ.

(٣) راجع فرائد الأصول مبحث التعادل والتراجيح المقام الأول في المتكافئين ج ٢ ص ٧٦١.

(٤) فوائد الأصول للنائيني ، تقريرات المحقق محمد علي الكاظمي الخرساني ، ولم يتابع المصنف ذكر بقية المقدمات من الفوائد.

(٥) في أجود التقريرات ذكر أيضا خمس مقدمات ولكن ببيان آخر عن فوائد الأصول ج ١ ص ٢٨٦ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٥٥ وتنتهي المقدمة الخامسة ص ٧٣. بتصرف

(٦) المصدر السابق من اجود التقريرات (الأولى : في بيان امرين).

عرضيين ، فلا يلزم من الطلبين كذلك طلب الجمع بين الضدين ولذا لو فرضنا إمكان الجمع بين متعلقي الطلبين كذلك كدخول المسجد وقراءة القرآن ومع ذلك كان الطلبان بنحو الترتب امتنع وقوعهما في الخارج على صفة المطلوبية ، فيستكشف من ذلك ان نفس ترتب الخطابين يمنع تحقق طلب الجمع بين متعلقيهما.

الأمر الثاني : ان التزاحم بين التكليفين لعدم القدرة على امتثالهما معا ، وان كان يستلزم سقوط ما به يرتفع التزاحم لاستحالة التكليف بغير المقدور ، الا انه لا بد من الاقتصار على ما به يرتفع التزاحم ، ولاوجه لسقوط الزائد عليه.

ولذلك وقع الكلام في ان الموجب للتزاحم ، هل هو اطلاق الخطابين ، ليكون الساقط هو اطلاق خطاب المهم دون اصل خطابه مشروطا بعدم الاتيان بالأهم ، أو ان الموجب له نفس فعلية الخطابين ليسقط خطاب المهم من اصله.

ثم ينقل عن الشيخ الأعظم ما ذكره المحقق الكاظمي ويورد عليه بما مر.

أقول ان الامر الأول الذي ذكره المحقق الخوئي وان كان متينا الا انه يحتاج إلى الإثبات وهو (دام ظله) لم يقم برهانا على ذلك سوى التمثيل ، وهو لا يكفي في اثبات هذا الامر ، فإن قيل ، ان برهانه ما سيأتي فيما بعد ، قلت فذكر هذا في المقدمات بلا وجه.

واما الامر الثاني : فهو في نفسه أيضا تام وقد أشبعنا الكلام فيه الا ان ذلك من آثار إمكان الترتب واستحالته لا من مقدمات اثبات امكانه.

واما ما أفاده المحقق الكاظمي.

فيرد عليه انه لا اشكال في ان تقييد الاطلاقين ، يوجب رفع التزاحم ، وارتفاع المحذور والكلام في الترتب انما هو في انه ، هل يرتفع المحذور بتقييد اطلاق خصوص الامر بالمهم وابقاء اطلاق الامر بالأهم أم لا؟

والمحقق الخراساني والشيخ يدعيان انه لا يرتفع المحذور بذلك فإن مقتضى اطلاق الخطاب بالأهم لزوم الاتيان به حتى مع الاتيان بالمهم ففي ذلك التقدير يلزم طلب الجمع بين الضدين ، وبذلك يرتفع التهافت بين كلمات الشيخ الأعظم (ره).

المقدمة الثانية (١)

ان شرائط التكليف كلها ترجع إلى قيود الموضوع ، ولا بد من أخذها مفروض الوجود في مقام الجعل والإنشاء وفعلية الحكم تتوقف على فعليتها وتحققها في الخارج فحالها حال الموضوع بعينه إذ كل موضوع شرط وكل شرط موضوع ، وبديهي ان الموضوع بعد وجوده خارجا لا ينسلخ عن الموضوعية ويكون الحكم بلا موضوع ، فالواجب المشروط بعد تحقق شرطه لا ينقلب مطلقا : إذ هو مساوق للقول بأن الموضوع بعد وجوده خارجا ينسلخ عن موضوعيته.

ويترتب على ذلك فساد توهم ان الالتزام بالترتب لا يدفع محذور التزاحم بين

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٨٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٥٧

الخطابين ، بتوهم ان الامر بالمهم بعد حصول عصيان الامر بالأهم المفروض كونه شرطا له يكون في عرض الامر بالأهم فيقع بينهما التزاحم لا محالة.

ويتوجه عليه ان الالتزام بعدم صيرورة الواجب المشروط واجبا مطلقا بوجود شرطه لا يتوقف على إرجاع شرائط الحكم إلى قيود الموضوع ، بل هو كذلك حتى على القول بكونها وسائط في ثبوت الحكم للموضوع. فإن الحكم حينئذ يدور مدار وجودها حدوثا وبقاءً كما هو الشأن في جميع العلل بأجزائها.

فالجواب عما أورد على الترتب بانه بعد تحقق شرط التكليف بالمهم وهو عصيان الامر بالأهم يكون كلا التكليفين مطلقين وكل منهما في عرض الآخر فيقع التزاحم بينهما. لا يتوقف على هذه المقدمة.

بل الجواب عنه ان الواجب المشروط لا يصير واجبا مطلقا بحصول شرطه ، بل بعد على مشروطيته ، سواء رجعت الشروط إلى قيود الموضوع ، أم كانت من قبيل العلة لثبوت الحكم لموضوعه ، فهذه المقدمة أيضا غير دخيلة في اثبات الترتب.

المقدمة الثالثة (١)

في بيان ان زمان شرط الامر بالأهم وزمان فعلية خطابه وزمان امتثاله أو عصيانه الذي هو شرط للامر بالمهم كلها متحدة ، كما ان الشأن هو ذلك بالقياس إلى الامر بالمهم وشرط فعليته وامتثاله أو عصيانه ، ولا تقدم ولا تأخر

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٨٨ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٥٩.

في جميع ما تقدم بالزمان.

والوجه في مقارنة زمان شرط الامر مع زمان فعلية الخطاب ، ان ما فرض جزءا اخيراً لموضوع الحكم ، اما ان يكون حكمه وخطابه فعليا عند تحققه بلا فصل زماني فهو المطلوب ، واما ان تكون فعليته متوقفة على مضى آن ما فيلزم ان لا يكون ما فرضناه جزءا اخيرا للموضوع جزءا اخيرا له وهو خلف.

وبذلك يظهر ان تأخر الامتثال عن الخطاب أيضا رتبي لا زماني فإن نسبة الامتثال إلى الخطاب كنسبة المعلول إلى علته ، واول زمان الخطاب هو اول زمان الامتثال.

نعم في الموسعات لا يلزم مقارنة زمان الامتثال لزمان الخطاب.

وبالجملة الامتثال بالإضافة إلى الخطاب كالمعلول بالإضافة إلى علته فلا مانع من مقارنته إياه زمانا فلا موجب لفرض وجود الخطاب قبله بأن ما.

مع : ان وجود الخطاب قبل زمان الامتثال لغو محض : إذ المكلف ان كان عالما بالحكم يكون محركه الخطاب المقارن لصدور متعلقه وإلا فالخطاب لا اثر له رأسا.

مضافا إلى انه لا اشكال في صحة العبادات الموسعة كالصلاة إذا وقعت في اول وقتها والقول بلزوم تقدم الخطاب على زمان الامتثال في المضيقات يستلزم القول بلزوم تقدمه عليه في الموسعات ، لعدم الفرق في ذلك بين لزوم مقارنة الامتثال لاول الوقت وجوازها كما في الموسعات ، مع انهم لا يقولون بلزوم التقدم فيها.

أضف إلى ذلك كله ان تقدم الخطاب على الامتثال يستلزم فعلية الخطاب قبل وجود شرطه فلا بد من الالتزام بالواجب المعلق.

ثم انه (قدِّس سره) رتب على هذه المقدمة دفع جملة من الإيرادات على الترتب.

منها : ان الشرط للامر بالمهم ان كان عصيان الامر بالأهم لزم تأخر الامر بالمهم عن سقوط الامر بالأهم ، وهذا مما لا كلام في جوازه ، وان كان كون المكلف ممن يعصى فيما بعد اعني وصف التعقب بالعصيان لزم طلب الجمع بين الضدين إذ المفروض ان خطاب الاهم مطلق وفعلي ، وقد تحقق وخطاب المهم فعلى بتحقق شرطه فيكون كلا الضدين مأمورا بهما في آن واحد.

ومنها : ان عصيان الامر بالأهم متحد زمانا مع امتثال خطاب المهم فلا بد من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله وهو يستلزم الالتزام بالشرط المتأخر ، والواجب المعلق وكلاهما باطلان.

ويتوجه عليه ان الجواب عن الإيرادين لا يتوقف جوابه على هذه المقدمة ، اما الإيراد الثاني فجوابه ما تقدم من عدم استحالة الشرط المتأخر ، ولا الواجب المعلق.

واما الإيراد الأول فجوابه لا يتوقف على اثبات كون الشرط للامر بالمهم هو ، عصيان الامر بالأهم بنحو الشرط المقارن ، بل لو كان الشرط هو عصيان الامر به بنحو الشرط المتأخر ، والتزمنا بفعلية الامر بالمهم ، قبل زمان امتثال الامر بالأهم أو عصيانه ، لم يلزم طلب الجمع بين الضدين.

كما انه لو قيل بشرطية البناء لذلك لم يلزم هذا المحذور : وذلك لانه : ان

كان الشرط هو العصيان بنحو الشرط المتأخر ، فيكون المأمور به هو المهم الملازم لعدم الاتيان بالأهم في ظرفه ، كالصلاة الملازمة لعدم الإزالة في ظرفها ، فطبيعي الصلاة لم يأمر بها وانما الحصة منها التوأمة مع عدم الإزالة هي التي تكون مأمورا بها فمثل هذا الامر بالإزالة على جميع التقادير ، لا يكون طلبا للجمع بين الضدين إذ لو امتثل الامر بالإزالة فقد هدم موضوع الامر بالصلاة فلا تكون مأمورا بها.

وبالجملة : لا فرق في عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين بين كون العصيان شرطا مقارنا ، أم شرطا متأخرا.

وان كان الشرط هو البناء بنحو الاستمرار لا حدوثا فقط ، فالأمر بالمهم مع الامر بالأهم لا يكونان من طلب الجمع بين الضدين أيضا ، إذ لو أطاع الامر بالأهم ، ورفع اليد عن بنائه فقد هدم موضوع الامر بالمهم ، فإثبات كون الشرط هو العصيان نفسه بنحو الشرط المقارن مما لا دخل له في اثبات الترتب.

ثم انه يمكن الجواب عن شبهة كون فعلية الامر بالمهم بعد سقوط الامر بالأهم لو كان العصيان شرطا مقارنا بوجه آخر غير ما أفاده في المقدمة ، ـ وان كان ما أفاده متينا ـ وان شئت فاجعل ما اذكره توجيها لما أفاده.

وهو ان منشأ هذه الشبهة توهم ان العصيان متى تحقق ووجد في الخارج ، فهو مسقط للامر ، وهو فاسد إذ الموجب لسقوط الطلب أمران :

الأمر الأول : امتثاله من جهة انه يوجب حصول الغرض منه ، وبديهي ان الغرض إذا تحقق فلا يمكن بقاء الامر المعلول له ، فالامتثال يكون مسقطا لا لكونه امتثالا فانه معلول للامر ، فكيف يعقل ان يكون معد ما له ، وبعبارة

أخرى : وجود المعلول خارجا يستحيل ان يكون علة لعدم وجود علته ، بل من جهة انه يوجب حصول الغرض فلا محالة يسقط الامر حينئذ لانتهاء أمد اقتضائه وبعد تحققه لا اقتضاء له أبدا.

الأمر الثاني : امتناع الامتثال وعدم تمكن المكلف منه ، فانه يوجب سقوط التكليف لقبح التكليف بغير المقدور سواء كان عدم التمكن لضيق الوقت ، أو من ناحية وجود مانع آخر.

وعلى الجملة العصيان لا يعقل ان يكون مسقطا للامر لان ثبوت الامر في حالتي العصيان والامتثال امر ضروري ، وإلا لم يكن لهما معنى معقولا ، وانما يسقط الامر لو استمر العصيان إلى زمان لا يتمكن المكلف بعده من الامتثال.

وعليه فإذا كان المكلف متمكنا من الامتثال ولكنه عصى ولم يأت به في الآن الأول ، فلا محالة لا يوجب سقوط الامر فالتكليف بالأهم لا يكون ساقطا بعصيانه عن الآن الأول مع تمكن المكلف من امتثاله في الآن الثاني فإذاً يجتمع الامران في زمان واحد ، وهو زمان عصيان الاهم.

ثم ان ما ذكره المحقق النائيني (ره) (١) من ان العصيان شرط مقارن وان لم يكن دخيلا في اثبات الترتب الا انه في نفسه :

تام إذ مقتضى الجمع بين اطلاق دليل الاهم ، واطلاق دليل المهم المقيدين بالقدرة مع فرض عدم القدرة على امتثالهما ، هو تقييد دليل المهم بمقدار يكون

__________________

(١) فوائد الأصول للنائيني ج ١ ص ٣٧٥.

امتثاله غير مقدور ، وفي غير ذلك يكون امره باقيا لاطلاق دليله ، والمهم انما لا يقدر عليه في حال الاشتغال بالأهم فيسقط امره في خصوص تلك الحالة.

المقدمة الرابعة (١)

ان انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير والانقسامات يكون على احد أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : ما إذا كان الانحفاظ بالاطلاق أو التقييد اللحاظي وذلك بالنسبة إلى كل انقسام يتصور في المتعلق سابق على الحكم ومع قطع النظر عن ورود الخطاب.

النحو الثاني : ان يكون الانحفاظ نتيجة الإطلاق أو التقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل انقسام وتقدير لاحق للمتعلق بعد تعلق الخطاب به بحيث لا يكون لذلك التقدير وجود الا بعد ورود الخطاب كتقديري العلم والجهل وقد تقدم تفصيل القسمين في التعبدي والتوصلي.

النحو الثالث : ما إذا كان الانحفاظ من جهة اقتضاء الخطاب بنفسه وضع ذلك التقدير أو رفعه فيكون محفوظا في الصورتين ، وهذا مختص بباب الطاعة والعصيان ، فيكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه وباقتضاء هوية ذاته ، لا بإطلاقه لحاظا أو نتيجة : إذ لا يعقل الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري فعل متعلق الخطاب وتركه بل يؤخذ المتعلق معرى عن حينية فعله

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٩٣ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٦٦.

وتركه ويلاحظ نفس ذاته ، فيحمل عليه بالفعل ، ان كان الخطاب وجوبيا ، وبالترك ان كان الخطاب تحريميا فيكون الخطاب نحو الفعل ، أو الترك ، نظير حمل الوجود أو العدم على شيء حيث انه يؤخذ ذلك الشيء معرى عن الوجود والعدم إذ في حمل الوجود عليه لو قيد بالوجود لزم حمل الشيء على نفسه ، ولو قيد بالعدم لزم اجتماع النقيضين ، ولو أطلق لزم كلا المحذورين.

وكذا في المقام لا يمكن تقييد المتعلق بالفعل في مقام البعث إليه لاستلزامه طلب الحاصل ، ولا تقييده بالترك لاستلزامه طلب الجمع بين النقيضين ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى تقديري الفعل والترك ، للزوم كلا المحذورين.

فلا بدَّ من لحاظ المتعلق مهملا معرى عن كلا تقديري الفعل والترك فيخاطب به بعثا أو زجرا وليس فيه تقييد ولا اطلاق ، لا لحاظا ، ولا نتيجة.

ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا في كلتا حالتي الفعل والترك ، ما لم يتحقق الامتثال أو العصيان ، وانحفاظ الخطاب انما يكون باقتضاء ذاته.

ويترتب على الفرق بين النحوين الاولين ، والنحو الأخير من هذه الجهة أمران :

احدهما : ان نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالإضافة إليه في الاولين نسبة العلة إلى المعلول ، اما في مورد التقييد ، فلما مر من ان مرجع كل تقدير كان الخطاب مشروطا به ، إلى كونه مأخوذا في موضوعه ، وعرفت ان رتبة الموضوع من حكمه رتبة العلة من معلولها ، واما في مورد الإطلاق فلما مر من اتحاد مرتبتي الإطلاق والتقييد ، لان الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في مورد قابل له ، فإذا كانت مرتبة التقييد سابقة على مرتبة الحكم المقيد به كانت مرتبة

الإطلاق أيضا كذلك.

واما في النحو الاخير فنسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالاضافة إليه نسبة المعلول إلى علته لما مر من ان الخطاب له نحو علية بالاضافة إلى الامتثال ، لان الخطاب هو الذي يقتضي وضع احد التقديرين وهدم الآخر ، فإذا كان نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلة إلى معلولها كان الحال ذلك بالاضافة إلى العصيان أيضا ، لان مرتبة العصيان هي بعينها مرتبة الامتثال.

ثانيهما : ان نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب في النحوين الاولين بما انه نسبة الموضوع إلى حكمه ، فلا محالة لا يكون الخطاب متعرضا لحاله أصلا وضعا ورفعا ، مثلا خطاب الحج لا يكون متعرضا لحال الاستطاعة ليكون مقتضيا لوجودها أو عدمها ، بخلاف التقدير المحفوظ فيه الخطاب في النحو الاخير ، فانه متعرض لحاله رفعا ووضعا ، إذ المفروض انه هو المقتضي لوضع احد التقديرين ورفع الآخر.

ومن ذلك يظهر ان خطاب المهم لكونه غير متعرض لحال عصيان الاهم لكونه موضوعا له لا يعقل ان يترقى ويصعد إلى مرتبة الاهم ويكون فيه اقتضاءً لموضوعه ، كما ان خطاب الاهم المتعرض لهذه الحال واقتضائه رفعها لا يعقل ان يتنزل ويقتضى شيئا آخر غير رفع موضوع خطاب المهم ، فكلا الخطابين وان كانا محفوظين في ظرف العصيان ومتحدين زمانا الا انهما في مرتبتين طوليتين.

وبالجملة طلب الاهم يقتضي هدم موضوع طلب المهم من دون ان يقتضي شيئا آخر على تقدير عدم تحقق مقتضاه في الخارج ، واما طلب المهم فهو لا يقتضي وجود موضوعه ووضعه وانما يقتضي وجود المهم على تقدير تحقق

موضوعه فليس الطلبان في عرض واحد ليقع المزاحمة بينهما من جهة امتناع الجمع بين متعلقيهما في زمان واحد.

وفي كلامه مواقع للنظر :

١ ـ ما ذكره في الإطلاق والتقييد في النحوين ، الاولين من الالتزام بالاطلاق ـ اللحاظي والذاتي والملاكي ـ وقد مرَّ تفصيله في التعبدي والتوصلي.

٢ ـ ما افاده من ترتب المحذورين في الإطلاق في النحو الاخير.

وهو غير تام : لان حقيقة الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها ، فمعنى كون المتعلق مطلقا كونه غير مقيد بالوجود والعدم ، لا كونه مقيدا بهما ، ومن الواضح ان المستحيل انما هو دخل وجود المتعلق أو عدمه في الطلب ، واما عدم دخلهما فيه ، فهو ضروري لا مستحيل وقد مرَّ في مبحث التعبدي والتوصلي انه إذا استحال التقييد بكل من القيود المتصورة لا محالة يكون الإطلاق ضروريا لا مستحيلا ، وعلى ذلك فانحفاظ الخطاب في تقدير لا محالة يستند إلى التقييد أو الإطلاق اللحاظي بالاضافة إلى ذلك التقدير وليس للنحو الثاني والثالث من انحفاظ الخطاب في تقدير ، موضوع اصلا.

٣ ـ ما افاده (ره) من ان نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالاضافة إليه في النحوين الاولين نسبة العلة إلى معلولها ، واما في مورد التقييد فلرجوعه إلى الموضوع ، واما في الإطلاق فلاتحاد مرتبة الإطلاق والتقييد.

فانه يرد عليه ان ما ذكر يتم في التقييد ولا يتم في الإطلاق إذ معنى

الإطلاق عدم دخل قيد ما في الحكم ، وبديهى ان تأخر حكم عما له دخل في فعليته لا يستلزم تأخره عما ليس له دخل فيها ، وكون الإطلاق والتقييد في مرتبة واحدة لا يوجب تقدمه على ما يكون القيد مقدما عليه لان التقدم والتأخر لا بد وان يكون بملاك يقتضيهما ، ولذلك قالوا ان وجود العلة متقدم على وجود المعلول ولكن عدم العلة مع كونه في مرتبة وجود العلة لا موجب لتقدمه على وجود المعلول. وقياس المساواة انما يتم في الزمان دون الرتبة.

٤ ـ لا دخل لهذه المقدمة في اثبات الترتب بل قوامه انما هو بما رتبه عليها وهو ان خطاب الاهم من جهة اقتضائه لرفع موضوع المهم ، وهو العصيان وهدمه إلى آخر ما افاده.

فالمتحصل ان المقدمات الاربع (١) غير دخيلة في اثبات الترتب.

بيان ما هو الحق في المقام

وتمام الدخل انما هو للمقدمة الخامسة ومحصلها

بعد الغاء ما لا ربط له باثبات الترتب وتبديل بعض الخصوصيات ، ان القول بالترتب لا يترتب عليه طلب الجمع بين الضدين ، وانه انما يترتب على اطلاق الخطابين ، لان الشرط الذي يترتب عليه الخطاب ، تارة يكون غير

__________________

(١) اضافة إلى المقدمة الأولى من فوائد الأصول وسياتي الحديث عن المقدمة الخامسة من أجود التقريرات عند بيان الحق في المقام.

اختياري كما في دلوك الشمس بالنسبة إلى الامر بالصلاة ، واخرى يكون اختياريا ، وعلى الثاني قد لا يكون الخطاب الآخر المجامع معه متعرضا له ، كالاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج في عام الاستطاعة ، وقد نذر زيارة الإمام الحسين (ع) في ذلك العام فإن الامر بزيارته (ع) ليس متعرضا للاستطاعة.

وقد يكون الخطاب الآخر المجامع معه متعرضا له ، وعلى الثاني قد يكون الحكم بنفسه معدما لذلك القيد ، والشرط كما في الخطاب باخراج ناقة واحدة زكاة قبل تمام سنة الربح ، فإن تعلق الخطاب بنفسه يوجب خروج العين عن عنوان فاضل المئونة الذي اخذ قيدا وموضوعا لوجوب الخمس ، وقد يكون بامتثاله معدما لذلك التقدير والموضوع كما فيما نحن فيه فإن خطاب المهم إذا قيد بعصيان الامر بالاهم الذي هو اختياري وقابل للتصرف الشرعي ، فالخطاب الآخر المجامع معه في الزمان وهو خطاب الاهم ، متعرض لقيد الخطاب بالمهم ، ومعدم له بامتثاله لا بنفسه ، ويكون المطلوب فيه في الحقيقة هو هدم موضوع الخطاب بالمهم.

ومحل الكلام هو هذا القسم الاخير والمدعى ان توجه خطابين كذلك إلى مكلف واحد في زمان واحد لا يستلزم طلب الجمع بين المتعلقين الضدين : إذ طلب الجمع انما يكون فيما لو كان متعلق كل منهما مقيدا بحال الاتيان بالآخر ، أو كان متعلق احدهما مقيدا بذلك دون العكس ، أو كان كل منهما مطلقا بالاضافة إلى امتثال الآخر.

واما إذا فرضنا ان متعلق احدهما مقيد بعدم الاتيان بالآخر إنشاءً وفعلية

فهما لا يقتضيان الجمع بين الضدين ، لانه يلزم منه حينئذ اجتماع النقيضين أو الخلف. وذلك لان المهم مطلوب في ظرف عدم الاتيان بالاهم ، فلو فرض وجوده يلزم من فعلية الامر بالمهم ، إما اجتماع النقيضين لو التزمنا بتحقق شرطه وهو عدم الاتيان بالاهم.

أو الخلف لو التزمنا بفعليته مع عدم شرطه ، وكلاهما محالان ، فلا محالة فعلية الخطابين بنحو الترتب لا تستلزم طلب الجمع فتدبر فانه دقيق.

وجه آخر لصحة الترتب

وان شئت قلت ان طلب الضدين لا يكون قبيحا بنفسه ، وانما يتصف بالقبح ، فيما إذا لزم منه إرادة الجمع بينهما وإذا لم يلزم منه ذلك فلا مانع منه : إذ المانع من التكليف بذلك بعد فرض عدم التنافي بين الحكمين انفسهما ، وعدم التنافي بين مبدأيهما من المصلحة والحب والشوق ، ليس الا التنافي بين الامتثالين ، وبعبارة أخرى التكليف بغير المقدور ، والخارج عن قدرة المكلف ، هو الجمع بينهما.

والتكليف باحد المتنافيين حال التكليف بالآخر ، انما يلزم منه إرادة الجمع إذا كان كلاهما مطلقين أو مقيدين بحال الاتيان بالآخر ، أو كان احدهما مطلقا والآخر مقيدا بذلك ، واما لو كان احدهما مطلقا ، والآخر مقيدا بعدم ايجاد المكلف متعلق الآخر فلا يلزم منه ذلك.

بيانه : ان لازم مطلوبية الجمع وقوع كل منهما في الخارج على صفة المطلوبية ، وان كان في حال وقوع الآخر لو فرض امكان الجمع ووقوعه ، واللازم

على تقدير تقييد احد الامرين بعدم وقوع متعلق الآخر في الخارج منتف ، ضرورة انه مع وقوع ما يكون عدمه شرطا في تحقق التكليف بالآخر يكون وقوع الآخر على غير صفة المطلوبية لفقد شرط مطلوبيته.

وان شئت التوضيح فافرض الترتب ، في التكليفين المتعلقين بما يمكن الجمع بينهما مثلا لو قال الآمر صم يوم الخميس وكن في المسجد في ذلك اليوم من اوله إلى آخره إذا تركت الصيام فيه ، فانه على تقدير الجمع بين الصيام ، والدخول في المسجد لا يقع الثاني منهما على صفة المطلوبية فإن مطلوبيته مقيدة بعدم فعل الصيام.

فإن قلت ان مانع التكليف بالمتنافيين وهي إرادة الجمع متحققة في هذا الفرض ، غاية الامر ان تحققه مبنى على امر محال وهو تحقق التناقض ، وذلك لانه مع فرض تنجز التكليف المشروط بمعصية التكليف الآخر يكون ذلك التكليف أيضا ثابتا لانه لم يحدث بعد ما يوجب سقوطه من مضى زمانه أو امتثاله ، ولازم بقائه حينئذ وجود متعلقه على صفة المطلوبية في هذه الحال وهو الشيء حال عدمه ، والمفروض ان متعلق التكليف بالمهم إذا وجد في هذه الحال يوجد على صفة المطلوبية لان شرط مطلوبيته الذي هو عدم وجود متعلق الأول حاصل.

قلت : لازم المحال محال.

وتوضيحه : ان مطلوبية المهم مع وجود متعلق الآخر الذي هو اهم انما هي مترتبة على امر محال وهو عدم متعلق التكليف بالاهم في حال وجوده والمترتب على المحال محال ، ومعنى بقاء التكليف بالاهم في حال تحقق شرط التكليف

بالمهم ، ليس مطلوبية الفعل في حال عدمه مقرونا بعدمه ، بل معناه مطلوبية عدم استمرار العدم ، وبقاء هذا التكليف مع فرض عدم تحقق المتعلق ، انما هو لكون متعلقه باقيا على اختيار المكلف ومقدورا له في هذه الحال ، فهذا المحال لو فرض امكانه أيضا لا يكون وقوع الفعل معه على صفة المطلوبية.

والحاصل انه في هذا الفرض يمكن منع مطلوبية كل من متعلقي الامرين.

فإن قلت هذا التوجيه لا يتم في مسألة الضد ، لان محبوبية غير الاهم ليست مقيدة بحال عدم فعل الاهم غاية الامر ان التكليف بالاهم يمنع عن التكليف به.

قلت : ان محبوبية غير الاهم وان كانت مطلقة الا ان تعلق التكليف به مقيد بذلك كما تقدم والترتب المدعى انما هو في التكليف لا في المحبوبية.

ادلة استحالة الترتب ونقدها

المقام الثاني : في بيان ما قيل في وجه استحالة الترتب ونقده.

وقد ذكروا في وجهها امورا :

الوجه الأول : ما نقلناه في اول المقام الأول ، وذكره المحقق الخراساني (١) في الكفاية ، وحاصله ان ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في طلبهما بنحو الترتب فانه وان لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع الطلبين الا

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٤ (الأمر الرابع).

انه كان في مرتبة الامر بغير الاهم اجتماعهما ، لفرض عدم سقوط الامر بالاهم بعصيانه ، ولازم اجتماع الطلبين في زمان واحد ، مطاردة كل منهما للآخر ، واقتضاؤهما الجمع بين الضدين في ذلك الزمان ، لان نسبة الحكم إلى متعلقه نسبة المقتضي إلى مقتضاه في الخارج ، فكما ان الامر بالاهم يقتضي ايجاد متعلقه في ذلك الزمان كذلك الامر بالمهم يقتضي ايجاده فيه لفرض فعليته فيه ، ولا معنى للفعلية الا اقتضاء ايجاد متعلقه فيه خارجا ودعوته إليه.

فيلزم من اجتماع الطلبين في زمان واحد المطاردة بينهما في ذلك الزمان.

اضف إليه انه لو سلم عدم كون الامر بالمهم مقتضيا لطرد الاهم فالامر بالاهم لا محالة يقتضي طرد الامر بالمهم ، وهذا يكفي في استحالة طلبه.

ويرد عليه ان الامر بالمهم ان كان مطلقا أو كان مقيدا بالاتيان بمتعلق الاهم كان لا محالة في عرض الامر بالاهم ووقعت المطاردة بينهما ، وكذا لو كان الامر به على تقدير تقييده بعصيان الاهم مقتضيا لعصيانه وتركه في الخارج بأن يكون ترك الاهم من قبيل قيد الواجب ، فانه يقع المطاردة بينهما.

ولكن التقادير كلها خلاف مفروض الكلام ، اما الاولان فواضح واما الاخير ، فلما تقدم من ان المدعى كون عصيان الامر بالاهم من قبيل قيد الوجوب للمهم ، وقد مر مستوفى من ان قيد الوجوب يرجع إلى الموضوع ، وايضا قد عرفت انه يستحيل كون الحكم مقتضيا لوجود موضوعه وناظرا إليه رفعا ووضعا ، وعليه فالامر بالمهم لكونه مقيدا بعصيان الاهم لا يمكن كونه طاردا للامر بالاهم فانه يكون لا اقتضاء له بالاضافة إلى اتيان متعلق الاهم وتركه ، وبديهى ان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء.

وعلى الجملة الامر بالمهم من جهة ثبوته على تقدير عصيان الامر بالاهم وترك متعلقه لا يعقل استناد عصيان الاهم إليه بل هو مستند إلى سوء سريرته فإذاً المطاردة من الجانبين غير متحققة.

واما ما افاده من ان الامر بالاهم يطارد الامر بالمهم فحسب وهذا يكفي في الاستحالة.

فيدفعه ان الامر بالاهم لا نظر له إلى متعلق الامر بالمهم بل انما هو ناظر إلى موضوعه ومقتضيا ، لرفعه ، والامر بالمهم يكون ناظرا إلى متعلقه دون موضوعه فكل منهما يقتضي شيئا لا يكون الآخر مقتضيا له فلا تزاحم بينهما ، ولاطرد لاحدهما للآخر ، إذ الطرد انما يتصور في صورة المزاحمة ، ولا مزاحمة بين ما لا اقتضاء له ، وما فيه الاقتضاء فتدبر فانه دقيق.

الوجه الثاني : ما افاده المحقق الخراساني (١) في صدر كلامه ، وحاصله ان القول بالترتب بما انه مبني على فعلية كلا الامرين في زمان واحد ، فلا محالة يستلزم طلب الجمع بين الضدين ، وهو محال.

وجوابه ما تقدم ، وملخصه ان الامر بالمهم لا يكون متعرضا لعصيان الامر بالاهم ولا نظر له إليه رفعا ووضعا لكونه ماخوذا في موضوعه ، والحكم يستحيل ان يكون مقتضيا لوجود موضوعه أو عدمه ، والامر بالاهم انما يكون ناظرا إليه ومقتضيا لهدمه ورفعه ، ومن الواضح ان الجمع بين ما لا اقتضاء له وما فيه الاقتضاء لا يستلزم الجمع بل هو في طرفي النقيض معه.

__________________

(١) كفاية الأصول ص ١٣٤ بتصرف.

ولذلك لو امكن الجمع بينهما خارجا لم يقعا على صفة المطلوبية ، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الواجب الاهم دون المهم ، وحيث ان المكلف قادر على الاتيان بالمهم في ظرف ترك الاهم ، فلا مانع من تعلق التكليف به.

وعلى الجملة حيث ان الامر بالمهم ، ليس مطلقا ، ولا مشروطا باتيان الاهم ، بل مشروط بعصيانه ومع ذلك لا يكون ناظرا إليه ، فلا يكون ذلك مع الامر بالاهم طلبا للجمع بين الضدين ، نعم يلزم منه الجمع بين الطلبين.

ودعوى انه لا يمكن الانبعاث عن كلا الامرين.

مندفعة بأن الانبعاث عنهما بنحو الترتب ممكن.

واما ما اجاب به عن هذا الوجه المحقق النائيني (ره) (١) من ان الامرين وان كانا فعليين حال العصيان ، الا انه من جهة اختلافهما رتبة لا يلزم من فعليتهما معا طلب الجمع ، إذ الامر بالاهم في رتبة يقتضي هدم موضوع الامر بالمهم ، واما هو فلا يقتضي وضع موضوعه ، وانما يقتضي ايجاد متعلقه على تقدير وجود الموضوع.

وحاصله ان ملاك عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الامرين في زمان واحد ، انما هو اختلاف رتبتهما.

فيرد عليه ما تقدم مرارا من ان الاحكام الشرعية ثابتة للموجودات الزمانية ولا اثر لاختلافهما في الرتبة بعد ما لم يلزم من اختلافهما في الرتبة

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٠٦ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٨٥ قوله : وجه الفساد.

الاختلاف زمانا ، ولذلك جاز اجتماع الضدين أو النقيضين في رتبة واحدة ، كما جاز ارتفاعهما عنها.

اضف إليه ما تقدم في بعض المقدمات التي افادها (ره) (١) لتصحيح الترتب ، من ان الامر بالاهم لا يكون متقدما على الامر بالمهم رتبة إذ التقدم الرتبي يحتاج إلى ملاك غير موجود فيهما.

الوجه الثالث : ان المكلف غير قادر على امتثال الخطابين فحيث ان صحة الخطاب مشروطة بالقدرة على متعلقه ، فلا مناص عن الالتزام بوحدة الخطاب ، فكيف يعقل الالتزام بفعلية الخطابين معا.

وفيه : ان الخطابين المترتب احدهما على عصيان الآخر كل منهما مما يقدر المكلف على امتثاله حيث انه يأمر المولى أولاً بالاهم ، وهو قادر على الاتيان به ، وعلى فرض امتثاله لا امر بالمهم ، وعلى فرض عصيانه يأمر بالمهم وهو قادر على امتثاله.

الوجه الرابع : انه لا يمكن الخطاب المولوي ، الا فيما يصح ان يعاقب على مخالفته حتى يمكن ان يصير داعيا إلى المكلف نحو الفعل ، لفرض ان داعوية الخطاب بالنسبة إلى غالب الناس انما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب ، فإذا لم يكن الخطاب مستتبعا للثواب على موافقته ، ولا العقاب على مخالفته لم يكن خطابا مولويا ، وعلى ذلك فإن ترك المكلف امتثال كلا الواجبين معا ، فاما ان يلتزم بتعدد العقاب ، أو بوحدته ، لا سبيل إلى الأول ، إذ كما لا

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٩٢ من المقدمة الثالثة وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٦٤.

يمكن تعلق التكليف بغير المقدور كذلك لا يمكن العقاب عليه وبما ان المفروض استحالة الجمع بين المتعلقين فيستحيل العقاب على تركهما معاً ، والثاني ملازم لانكار الترتب وانحصار الامر المولوي بالاهم ، وكون الامر بالمهم ارشادا محضا إلى كونه واجدا للملاك ، لعدم معنى لوجود الامر المولوي الالزامي وعدم ترتب العقاب على مخالفته.

ويرد عليه ، انه خلط بين ان يكون العقاب على ترك الجمع بين الاهم والمهم ، وان يكون العقاب على الجمع في الترك ، بمعنى انه يعاقب على ترك كل منهما في حال ترك الآخر ، والمستحيل هو الأول لانه غير مقدور دون الثاني.

وان شئت قلت ان العقابين ليسا لعدم الجمع بين المتعلقين ، كي يقال انه ممتنع وكذلك ما يستتبعه ، بل على الجمع بين العصيانين وهما مقدوران للمكلف كما تقدم في الجواب عن الوجه المتقدم.

فإن قلت ان الاطاعة والعصيان ترتضعان من ثدى واحد ، وحيث ان المكلف غير قادر على اطاعتين فهو لا يقدر الا على عصيان واحد ، فلا يستحق اكثر من عقاب واحد.

قلت : ان وحدة العصيان وتعدده تابعان لوحدة التكليف وتعدده ، وربما لا يكون هناك في صورة الموافقة الا اطاعة واحدة ولكن في صورة العصيان معاصي عديدة ، كما في الواجب الكفائي فانه في صورة الموافقة يطيع شخص واحد ، ولا يمكن للجميع الاطاعة والامتثال لكنه في صورة ترك الجميع هناك تعدد في العصيان بعدد المكلفين.

وبالجملة بما ان كلا من التكليفين اجنبي عن الآخر ، والمكلف قادر على

امتثاله في فرض توجهه ، فيوجب مخالفته استحقاق العقوبة على ذلك.

الترتب في مقام الجعل

ثم انه ينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأول : المشهور بين الاصحاب صحة الصلاة جهرا في موضع الاخفات ، وبالعكس (١) ، وصحة الصلاة تماما في موضع القصر ، وذهب جماعة إلى صحة الصلاة قصرا في موضع التمام للمقيم عشرة ايام كل ذلك في فرض الجهل عن تقصير ، وايضا التزم المشهور ، بأن الجاهل المقصر في تلك الموارد يستحق العقاب على مخالفة الواقع وتركه.

ومن هنا وقع الاشكال في الجمع بين هاتين الجهتين ، وانه كيف يمكن الحكم بصحة المأتي به خارجا وإجزاؤه عن الواقع وعدم وجوب الاعادة مع بقاء الوقت ، والحكم باستحقاق العقاب.

واجابوا عنه باجوبة :

منها : ما نسب إلى الشيخ الكبير كاشف الغطاء (ره) (٢) من الالتزام

__________________

(١) نسبه المحقق الخوئي (قدِّس سره) في المحاضرات ج ٣ ص ١٦٠ إلى المشهور وفي مصباح الأصول ج ٢ ص ٥٠٦ إلى أنه المتسالم عليه بين الفقهاء.

(٢) نسبه غير واحد اليه منهم المحقق السيد الخوئي في المحاضرات ج ٣ ص ١٦٠ / ونسبه اليه أيضا في أجود التقريرات ج ١ ص ٣١٠ وفي الطبعة الجديد ج ٢ ص ٩١ بتصرف / راجع كشف الغطاء ص ٢٧.

بالترتب ، بتقريب ان الواجب على المكلف ابتداء هو الصلاة جهرا ، مثلا ، وعلى تقدير تركه وعصيان امره فالواجب هو الاخفات ، أو بالعكس فالصحة تكون لامتثال الامر الثاني ، والعقاب على ترك التكليف الأول وعصيانه.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) وغيره بايرادات :

احدها : ان محل الكلام في المقام ما إذا كان التضاد بين المتعلقين اتفاقيا واما إذا كان التضاد دائميا كمثال الجهر والاخفات ، لكان التنافي في مقام الجعل الذي هو الضابط للتعارض لا في مقام المجعول الذي هو الملاك في كونه من باب التزاحم ، وعلى ذلك فيخرج المثال بذلك عن موضوع بحث الترتب لا محالة.

وفيه : انه فيما إذا كان التضاد دائميا بما ان التنافي في مقام الجعل ليس لعدم الملاك ، بل لكون التكليفين المتعلقين بالضدين كذلك موجبا للتكليف بالمحال ، وهو انما يلزم إذا كان كل منهما مطلقا ، واما إذا قيد كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، أو قيد احدهما بذلك فلا يلزم التنافي بينهما ، فلا محذور في الالتزام بالترتب ، غاية الامر الترتب انما يكون في مقام الجعل بتقييد جعل احد الحكمين المتعارضين بعصيان الآخر ، والترتب المعنون في كلمات الفقهاء هو الترتب في مقام الفعلية بتقييد فعلية خطاب المهم بعصيان الاهم.

نعم الترتب في مقام الجعل ، كما في المسألتين يمتاز عن الترتب في مقام الفعلية بأمرين :

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣١٠ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٩١ ـ ٩٥.

احدهما : ان الترتب في مقام الفعلية لا يحتاج إلى دليل ، بل على فرض امكانه لا بد من البناء على وقوعه كما مر تقريبه ، واما الترتب في مقام الجعل ، فلا يكفي امكانه في وقوعه ، بل لا بدَّ من إقامة الدليل عليه ، ولكن الشيخ الكبير يدعى ان الدليل قد دل على وقوعه في المسألتين ، وهو الروايات الصحيحة الدالة على الصحة بضميمة ما دل على العقاب على مخالفة الواقع.

الثاني : ان المأخوذ في موضوع خطاب المهم في المسألتين هو عدم الاتيان بمتعلق الآخر في حال الجهل لا مطلقا.

الإيراد الثاني : انه يختص الترتب بما إذا كان للواجبين المتضادين ثالث كما تقدم ، ويأتي ولا ثالث لهما في المقام : لان الجهر ، والاخفات من الضدين الذين لا ثالث لهما.

وفيه : ان المأمور به هو القراءة الجهرية ، أو الاخفاتية ، لا الجهر والاخفات في القراءة ، ومن البديهي انهما من الضدين الذين لهما ثالث وهو ترك القراءة.

الإيراد الثالث : ان مورد الخطاب الترتبي هو ما إذا كان خطاب المهم مترتبا على عصيان خطاب الاهم كما في مسألة الصلاة والازالة وهذا لا يمكن في المقام إذ المكلف ان التفت إلى كونه عاصيا للتكليف بالأهم انقلب الموضوع ، وان لم يلتفت إلى ذلك فكيف يعقل ان يكون الحكم المجعول على هذا العنوان محركا للمكلف.

وفيه : انه لم يرد آية ولا رواية دالة على اختصاص الترتب بما إذا قيد الامر بالمهم بعصيان الامر بالأهم ، بل يصح الترتب مع كون المعلق عليه هو مطلق الترك ، وهذا العنوان مما يمكن ان يلتفت إليه الجاهل ولا ينقلب الموضوع.

لا يقال : انه لا يمكن الالتزام بذلك في المقام إذ لازمه فعلية التكليف بالثاني ، عند ترك الأول حتى في حال العلم وهو مما لم يلتزم به فقيه.

فانه يقال : انه بمقتضى الجمع بين النصوص والفتاوى نلتزم بأن تركه في حال العلم خارج عن الموضوع بل الموضوع غيره كما لا يخفى.

وبما ذكرناه يندفع إيراده الرابع على القول بالترتب في المقام بأن العصيان لخطاب يتوقف على فعلية ذلك الخطاب وتنجزه ، وفى المسألتين لا يكون الخطاب الواقعي منجز الفرض الجهل به.

وبعبارة أخرى : المكلف بالاخفات في الواقع إذا اجهر بالقراءة فإما ان يكون عالما بوجوب الاخفات عليه ، أولاً ، اما الأول ، فهو خارج عن محل الكلام : إذ المفروض فيه توقف صحة الجهر على الجهل بوجوب الاخفات ، واما على الثاني فعصيان وجوب الاخفات وان كان متحققا في الواقع ، الا انه من جهة كون التكليف بالاخفات مجهولا ، لا يكون متنجزا ، فلا محالة يكون العصيان حقيقة بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل ، وهو وجوب التعلم ، أو الاحتياط ، عند المصادفة ، دون الخطاب الواقعي المجهول.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه ، ان الوجه السابق كان مبناه على فقد العلم بالعصيان وهذا الوجه انما هو لفقد العصيان نفسه.

والجواب عنه ما تقدم من عدم اختصاص الترتب باخذ العصيان في موضوع الخطاب بالمهم ، بل اخذ المخالفة للتكليف بالاهم فيه.

اضف إليه ما حقق في محله من ان العقاب ليس على مخالفة الوجوب

الطريقي الواصل المصادف للواقع ، بل انما هو على مخالفة الواقع ، فانه بعد تنجزه ، بوجوب التعلم ، أو الاحتياط لا محالة يوجب مخالفته العقاب.

واورد الأستاذ (١) على كاشف الغطاء ، بانه وردت الروايات ان الواجب على المكلف في كل يوم خمس صلوات وهي تكفي في إبطال القول بالترتب في المقام.

وفيه : ان الترتب المدعى في المقام انما هو بين وجوب القراءة الجهرية ، ووجوب القراءة الاخفاتية ، في صلاة واحدة ، لا في الصلاتين المشتملة احداهما على الأولى ، والاخرى على الثانية.

الإيراد السادس ان وجوب الصلاة بما انه موسع فلا ينزع عنوان العصيان من تركها في جزء من الوقت ، بل من تركها في مجموع الوقت المضروب لها ، وعليه فلا يعقل تحقق العصيان في أثناء الوقت كي يصير الحكم الثاني فعليا.

والجواب عنه : هو الجواب عن الوجه الثالث الذي أفاده المحقق النائيني (ره) (٢).

ومحصله ان الملاك لامكان الترتب هو كون الواجب المهم في ظرف عدم الاتيان بالأهم وتركه في الخارج مقدورا للمكلف وعليه فلا يكون تعلق الامر به

__________________

(١) دراسات في علم الاصول ج ٣ ص ٤٨٥ ـ ٤٨٦ / الهداية في الاصول ج ٣ ص ٥١٨ / وأجاب (قدِّس سره) بنفس الجواب في مصباح الاصول ج ٢ ص ٥٠٨ بعد ايراد كلام المحقق كاشف الغطاء والردود عليه قال : «والصحيح ان يقال .. الخ».

(٢) اجود التقريرات ج ١ ص ٣١١ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٩٣ بتصرف.

على هذا التقدير قبيحا. فالشرط لتعلق الامر بالمهم هو عدم الاتيان بالأهم لا عصيانه ، وعلى هذا بنينا على جريان الترتب في الأوامر الاستحبابية وعدم اختصاصه بالأوامر الإلزامية والتعبير عن ذلك في كلماتهم بالعصيان انما هو للإشارة إلى ما هو شرط في الواقع.

وعلى هذا فلا مانع من الالتزام بالترتب في المسألتين ودفع الإشكال المتقدم به غاية الامر ان الترتب فيهما يحتاج وقوعه إلى الدليل والدليل موجود وهو الروايات ـ ويمكن دفع الإشكال بوجه آخر سيأتي التعرض له.

وقد أجيب عن اصل الإشكال بأجوبة أخر :

منها ما أفاده الشيخ الأعظم (ره) (١) من الالتزام ، تارة بعدم تعلق الامر بالصلاة الاخفاتية مثلا عند الجهل بالحكم ، والعقاب انما يكون على ترك التعلم ، وأخرى بعدم تعلق الامر بالصلاة الجهرية المأتي بها في حال الجهل بل هي مسقطة للواجب ، والمأمور به هو الصلاة الاخفاتية والعقاب يكون على ترك المأمور به.

ولكن يرد على ما أفاده :

أولاً : انه لو سلم كون العقاب على ترك التعلم في موارد المصادفة للواقع

__________________

(١) فقد التزم في الفرائد ج ٢ ص ٥١٢ على أن العقاب على ترك المأمور به لا على ترك التعلم ... الخ ، وفي ص ٥٢٣ من نفس الجزء قال : «نعم يعاقب على عدم ازالة الغفلة كما تقدم استظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه. ويحسن مراجعة كلامه بدقة زيادة في الفائدة».

وان مر عدم تماميته ، لا نسلم ذلك عند عدم المصادفة للواقع لفرض عدم الحكم الواقعي.

وثانياً : ان الظاهر من الروايات كون المأتي به في حالة الجهل مأمورا به وقد اعترف هو (قدِّس سره) بذلك.

ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني (١) وقد نقلنا مع ما أورد عليه وما يمكن ان يورد عليه في آخر مسألة البراءة والاشتغال.

ويمكن الجواب بوجه آخر وهو عدم تمامية ما هو المنسوب إلى المشهور من الجمع بين الحكم بالصحة في المسألتين واستحقاق العقاب على ترك الواجب الواقعي : لان الجاهل بوجوب الاخفات مثلا لو صلى إخفاتا وتحقق منه قصد القربة ، فإما ان يحكم بفساد صلاته عند انكشاف الحال؟ أو يحكم بصحتها؟

وعلى الأول فمقتضاه ان الواجب على المكلف تعيينا عند الجهل هو الجهر فلا معنى لاستحقاق العقاب على ترك الاخفات.

ودعوى استحقاقه على ترك التعلم ، قد عرفت ما فيها.

ودعوى الإجماع عليه ، غريبة لعدم كونه من الأحكام الشرعية ، مع انه غير ثابت لخلو كلمات كثير منهم عن ذلك.

وعلى الثاني فلا بد وان يكون الحكم الواقعي هو التخيير بين الجهر والاخفات ، وبديهي اجزاء الاتيان بأحد طرفي التخيير وعدم استحقاق العقاب

__________________

(١) راجع كلامه في كفاية الاصول ص ٣٧٥ (وأما البراءة النقلية).

على ترك الآخر.

فالمتحصل مما ذكرناه أمران :

الأول : انه يمكن الجواب عن الإشكال بالالتزام بالترتب في مقام الجعل.

الثاني : إنكار استحقاق العقاب فتدبر فانه نافع.

التنبيه الثاني والثالث

التنبيه الثاني : لا فرق في إمكان الترتب ، ووقوعه بين كون شرط الامر بالمهم عصيان الامر بالأهم ، أو ما هو معلول له ، فلو حرمت الإقامة في محل ، فعصى المكلف واقام يتوجه إليه خطاب الصوم ، والصلاة تماما.

فعلى القول بأن قصد الإقامة قاطع للسفر موضوعا ، يكون الامر بالصوم ، والصلاة تماما معلقا على الحضر المعلول لعصيان النهي عن الإقامة ، وقد مر تفصيل القول فيه.

التنبيه الثالث : انه كما يمكن الترتب بين الخطابين من طرف واحد ، يمكن الترتب بينهما من طرفين ، كما في مثل اجلس في المسجد في الساعة الخاصة ان لم تقرأ القرآن ، واقرأ القرآن ان لم تجلس فيه في تلك الساعة ، وما ذكرناه من البرهان لامكانه ، وهو عدم لزوم الطلبين كذلك طلب الجمع بين الضدين وعدم محذور آخر ، يقتضي الإمكان في الترتب من الجانبين.

وبما ذكرناه يظهر التنافي بين كلمات الشيخ الأعظم (ره) حيث انه في آخر مسألة البراءة والاشتغال في جواب الشيخ الكبير المصحح لصحة عمل الجاهل المقصر في مسألتي الجهر والاخفات والقصر والإتمام مع استحقاق العقاب على

مخالفة الواقع بالالتزام بالترتب ـ يصرح بعدم معقولية الترتب ـ (١)

وفي اول بحث التعادل والترجيح في تعارض الخبرين على القول بالسببية يقول ان مقتضى القاعدة هو التخيير لا التساقط كما في كل واجبين متزاحمين لم تثبت أهمية احدهما (٢) فانه يقرب وجه التخيير بالالتزام بوجوب كل منهما مقيدا بعدم الاتيان بالآخر ، وهذا هو حقيقة الترتب من الجانبين بعد فرض ان الشرط ليس خصوص العصيان بل ترك متعلق الامر الآخر.

التنبيه الرابع : يعتبر في إمكان الترتب القدرة على المهم في ظرف عصيان الامر بالأهم ، اما إذا فرضنا عدم القدرة عليه في ذلك الفرض : لامتناع وجوده كما في المتلازمين في الوجود ، أو لكون وجوده ضروريا كما في الضدين الذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فلا يعقل الترتب إذ الامر بالمهم كسائر التكاليف مشروط بالقدرة على متعلقه ، فمع عدمها لا سبيل إلى الامر به.

ومن هنا ينشأ اشكال في المثال المعروف للترتب ، وهو الصلاة والازالة ، إذ بعد الشروع في الصلاة الامر بالإزالة فعلى على الفرض ، ومقتضى هذا الامر إبطال الصلاة ، ومقتضى الامر بها المضي فيها ، والإبطال والمضي في الصلاة ضدان لا ثالث لهما وعلى فرض عدم الإبطال المضي قهري لا اختياري فلا

__________________

(١) فرائد الاصول ج ٢ ص ٥٢٤ (الثاني من قوله ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص بأمور) عند قوله ونرده انا لا نعقل الترتب في المقامين في معرض رده على المحقق كاشف الغطاء (ره).

(٢) راجع فرائد الاصول ج ٢ ص ٧٦٦ (المقام الأول) وكان قد أشار إلى ذلك ص ٧٤٤.

يجري الترتب في هذا المثال.

وفيه أولاً : ان المأمور به الاهم ليس هو إبطال الصلاة بل المتعلق هو ذات المبطل وهي الإزالة وهي مع الصلاة من الضدين الذي لهما ثالث.

وثانياً : انه لو سلم ان الاهم ، هو الإبطال ، لكن ليس هو مطلق الإبطال ، بل الحصة منه التوأمة مع الإزالة ، وهي مع الإزالة من الضدين الذين لهما ثالث كما لا يخفى.

الترتب في المشروط بالقدرة شرعا

التنبيه الخامس : ان الترتب إمكانا ووقوعا ، يختص بما إذا كان الخطاب بالمهم غير مشروط بالقدرة شرعا ، وإلا كما في الامر بالوضوء إذا زاحمه واجب اهم ، بأن كان له مقدار من الماء يكفي للوضوء أو حفظ نفس محترمة ، فلا يمكن تصحيحه بالترتب إذ نفس ذلك التكليف يكون معجزا شرعيا ، ويوجب صيرورته غير قادر شرعا ، لا امتثاله.

وبعبارة أخرى : نفس خطاب الاهم موجب لإعدام موضوع المهم فانه بنفسه يوجب صيرورته غير واجد الذي هو موضوع لوجوب التيمم ويرفع الوجدان الذي جعل موضوعا لوجوب الوضوء من غير فرق بين صورة الامتثال والعصيان.

وعليه فبما ان فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه فلا محالة يستحيل

فعلية الحكم في فرض وجود الرافع لموضوعه ، فلا يعقل فعليته في ظرف العصيان ولا يكون الوضوء ذا ملاك حينئذ لاختصاص الملاك بصورة الوجدان ، فلا يصح إتيان الوضوء بداعي الامر ولا بداعي الملاك في صورة المزاحمة ، وان عصى المكلف ذلك التكليف.

وبالجملة بعد اخذ القدرة والوجدان في موضوع حكم ، يكون نفس التكليف الشرعي في مورد المزاحمة رافعا لموضوع ذلك الحكم لكونه معجزا شرعيا ، فلا سبيل إلى الالتزام بالترتب فيه ، وهذا بخلاف سائر الموارد التي عرفت ان امتثال المزاحم رافع للموضوع ، لا التكليف نفسه.

وقد حكي (١) عن صاحب الفصول (ره) (٢) انه لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة ، أو الذهب ، أو الفضة على نحو يحرم عليه الاغتراف منه للوضوء ، ولم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، بل كان بنائه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما يكفيه لغسل الوجه فقط ، انه لا مانع من صحة وضوئه حينئذ بالامر الترتبي فانه يكون واجدا للماء بعد ما كان يعصى في الغرفة الثانية ، والثالثة التي يتم بها الغسلات الثلاث للوضوء ، فيكون امره بالوضوء نظير امره بالصلاة ، إذا كان مما يستمر عصيانه للإزالة إلى آخر الصلاة

__________________

(١) نقل الحكاية عنه غير واحد منهم المحقق النائيني (قدِّس سره) في فوائد الاصول ج ١ ص ٣٧٨.

(٢) راجع الفصول ص ٨٠ (تمهيد مقال لتوضيح حال) عند قوله : «وتظهر الثمرة في وجوب المقدمات التي يؤتى بها قبلها ...» إلى ان قال : «ويظهر أيضا فيما لو كانت المقدمة المحرمة مما يعتبر حصولها في أثناء التشاغل بالواجب كالاغتراف من الآنية المغصوبة في الطهارة الحدثية مع الانحصار ... الخ».

إذ المصحح للامر بالصلاة انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء منها حال وجوده لمكان عصيان الامر بالإزالة في ذلك وتعقبه بالعصيان بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة.

وفى الوضوء يأتي هذا البيان أيضا إذ القدرة على كل غسلة من غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة لمكان العصيان بالتصرف في الآنية المغصوبة والعصيان في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين فيجرى في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) مبتنيا على ما ذكرناه في هذا التنبيه ، بانه فرق بين باب الوضوء وباب الصلاة إذ الصلاة لا يعتبر فيها ازيد من القدرة العقلية على اجزائها المفروض حصولها باستمرار عصيان الإزالة ، فلا مانع من الامر الترتبي فيها ، واما في الوضوء فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون شرعية ومما لها دخل في الملاك ، ولا قدرة شرعية على الوضوء بعد ما كان موقوفا على التصرف في الآنية المفروضة ولا ملاك له حينئذ فيكون غسل الوجه بالغرفة الأولى لغوا لا اثر له فلا يجري في الوضوء الامر الترتبي.

أقول : ما أفاده صاحب الفصول خلافا للمشهور بين الأصحاب ، من بطلان الوضوء في الفرض تام ، وإيراد المحقق النائيني (ره) عليه غير صحيح.

وذلك لأنه وان كان لا ريب في اعتبار القدرة شرعا في وجوب الوضوء ،

__________________

(١) فوائد الاصول ج ١ ص ٣٧٩ (الأمر الرابع)

ولازمه عدم الملاك له مع عدم القدرة بخلاف موارد دخل القدرة عقلا ، الا ان المعتبر هو القدرة في ظرف العمل والامتثال ، ولذلك لا شبهة في انه لو فرض تجدد القدرة التكوينية بعد كل غسلة للغسلة اللاحقة لها ، كما لو كان عنده من الماء ما يكفي لغسل وجهه وشرع في الوضوء رجاءً لنزول المطر ، ونزل بعد غسل الوجه وغسل يديه به ، أو كان عنده ثلج يذوب شيئا فشيئا ولم يكن عنده إناء ليجمعه فيه ، يجب عليه الوضوء ولا ينتقل وظيفته إلى التيمم.

وإذا انضم إلى ذلك أمران :

احدهما : ان الشرط المتأخر ممكن ، فلا مانع من كون القدرة حين الغسلة الأخيرة شرطا لوجوب الوضوء من اول غسل الوجه.

ثانيهما : إمكان الترتب ، يستنتج من ذلك صحة الوضوء بالماء المأخوذ من ذلك الإناء بالاغتراف لان المكلف بعد اغترافه الماء يقدر على الوضوء بمقدار غسل الوجه ، وبما انه بأن على ارتكاب المحرم ثانيا وثالثا إلى ان يتم الوضوء يعلم بطرو التمكن والقدرة عليه من غسل سائر الاعضاء ، وعليه فلا مانع من الالتزام بثبوت الامر به مترتبا على عصيانه.

واولى من ذلك صورة عدم انحصار الماء في الأواني المزبورة إذ يصح الوضوء بالاغتراف من الأواني حتى على القول باعتبار القدرة الفعلية على الغسلات الثلاث ، وعدم كفاية القدرة التدريجية لفرض ان المكلف متمكن من الطهارة المائية بالفعل وحتى على القول باستحالة الترتب إذ غاية ما هناك انه بسوء اختياره قد ارتكب فعلا محرما ، ولا يضر ذلك بصحة وضوئه بعد ما كان الماء الموجود في يده مباحا.

وأيضا أولى من ذلك صورة تمكن المكلف من تفريغ الماء في ظرف آخر إذ يصح الوضوء حينئذ بالاغتراف على جميع هذه المباني ، نعم ، الوضوء من تلك الأواني بنحو الارتماس إذا صدق عليه التصرف فيها ، أو بصب الماء منها على الاعضاء بحيث كان غسل الاعضاء متحدا وجودا مع التصرف فيها يكون فاسدا ، لان المحرم لا يمكن ان يكون مصداقا للمأمور به ، وحيث ان الوضوء بنفسه محرم فيمتنع ان ينطبق الواجب عليه.

فقد انقدح حكم جميع صور الوضوء من تلك الأواني.

كما انه ظهر بطلان ما عن المشهور من بطلان الوضوء في صورة انحصار الماء فيها ، ولم يفرغ الماء من الإناء دفعة وكان الوضوء بالاغتراف منها تدريجا ، وان ما أفاده صاحب الفصول (ره) من الصحة هو الأظهر.

والغريب ما أفاده السيد الفقيه الطباطبائي (قدِّس سره) (١) قال إذا انحصر ماء الوضوء أو الغسل في إحدى الآنيتين ، فإن أمكن تفريغه في ظرف آخر وجب ، والا سقط وجوب الوضوء أو الغسل ووجب التيمم وان توضأ أو اغتسل فيها بطل ... سواء اخذ الماء منهما بيده أو صب على محل الوضوء بهما أو ارتمس فيهما ، وان كان له ماء آخر أو امكن التفريغ في ظرف آخر ، ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما فالاقوى أيضا البطلان.

فانه لا يمكن الموافقة على ما افاده بوجه ، ولا يمكن ان يذكر لما افاده وجه ، سوى دعوى صدق التصرف في الإناء على الوضوء منها ولو بالاغتراف ، فيكون

__________________

(١) العروة الوثقى ج ١ ص ١٢١ مسألة ١٤ (فصل في حكم الأواني) مطبعة إسماعيليان ١٤١٢ ه‍.

منهيا عنه فلا يمكن ان يقع مصداقا للمأمور به ، فلا مناص عن البناء على البطلان في جميع الفروض.

وهو توهم غير صحيح إذ الوضوء منها بالاغتراف لا ينطبق عليه العنوان المنهي عنه إذ المأمور به هو صب الماء على الوجه واليدين وهو ليس تصرفا فيها والمنهي عنه هو اخذ الماء من تلك الأواني ومع تعدد الوجود والفرض عدم سراية الحكم من متعلقه إلى مقارناته ولوازمه الاتفاقية لاوجه لاعمال قاعدة اجتماع الامر والنهي ، بل المتعين الرجوع إلى قاعدة باب التزاحم.

التنبيه السادس :

افاد المحقق النائيني (ره) (١) انه إذا كان خطاب الاهم استمراريا فقد يكون العلم به قبل الشروع في امتثال خطاب المهم ، وقد يكون بعد الشروع فيه ، وان كان قبل الشروع فتدور صحة خطاب المهم ابتداء واستدامة مدار القول بالترتب ، وان كان بعده وكان الواجب مما لا يحرم قطعه فكذلك ، واما ان كان مما يحرم قطعه كما إذا علم بتنجس المسجد بعد الشروع في الصلاة الفريضة ، فلا يتوقف بقاء خطاب المهم على القول بالترتب إذ إزالة النجاسة انما كانت اهم من الصلاة لأجل فوريتها وسعة وقت الصلاة فإذا شرع فيها وحرم قطعها على الفرض لم يبق موجب لتقدم خطاب الازالة على خطابها فلا يتحقق حينئذ عصيان خطاب الازالة ليكون الامر بإتمام الصلاة متوقفا على جواز الترتب فالأمر بإتمامها يكون متقدما على الخطاب الازالة لا محالة.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣١٦ (تتميم) وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٩٩.

ولكن يرد عليه ما حققناه في محله من انه لا دليل على حرمة قطع الصلاة سوى الإجماع والمتيقن منه غير المقام.

أضف إليه انه لو سلم لدليل حرمة القطع اطلاق شامل للمقام وكان لدليل وجوب الازالة أيضا اطلاق وقعت المزاحمة بينهما فيحكم بالتخيير ، ولاوجه لما في تقريرات المحقق الكاظمي (١) من ان امتثال الامر بالإزالة انما يكون على القول بالترتب.

نعم إذا كان لدليل حرمة القطع اطلاق ، ولم يكن دليل وجوب الازالة مطلقا. تم ما افاده.

بيان حقيقة التزاحم

ثم ان المحقق النائيني (ره) ذكر للتزاحم أقساما (٢) ، وجعل كل قسم عنوانا لمسألة وبحث فيها عن جريان الترتب فيه وعدمه ، ونحن نتبعه في ذلك.

وتنقيح القول بالبحث في جهات :

الأولى : في بيان حقيقة التزاحم.

الثانية : في بيان أقسامه.

__________________

(١) راجع فوائد الاصول ج ١ ص ٣٨٢ (المسألة الثانية) بتصرف.

(٢) وقد جعلها ستة ، راجع أجود التقريرات ج ١ ص ٣١٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١٠٢.

الثالثة : فيما تقتضيه القاعدة في باب التزاحم وبيان مرجحات ذلك الباب.

الرابعة : في البحث عن جريان الترتب وعدمه.

واما بيان حقيقة التعارض ، وما تقتضيه القاعدة فيه ، ومرجحات باب التعارض فموكول إلى باب التعادل والترجيح.

كما ان البحث في انه في موارد عدم القدرة على إتيان جميع اجزاء المركب الاعتباري المأمور به ، ولزوم ترك بعضها غير المعين هل المحكَّم هو قواعد باب التزاحم كما هو المشهور ، أم يتعين إعمال قواعد باب التعارض ، موكول إلى كتاب الصلاة ، وقد أشبعنا الكلام فيه في الجزء الرابع من كتابنا فقه الصادق (١) ، وكيف كان فالبحث في المقام في جهات :

الجهة الأولى : في بيان حقيقة التزاحم ، أقول : التزاحم على نوعين :

النوع الأول : التزاحم بين الملاكات بأن يكون في فعل مقدار من المصلحة يقتضي ايجابه ، ومقدار من المفسدة يقتضي تحريمه ، أو مقدار من المصلحة يقتضي استحبابه ومقدار من المفسدة يقتضي كراهته ، أو كانت مصلحة في فعل ، ومصلحة أخرى في فعل آخر مضاد له ، أو كانت المصلحتان في فعلين متضادين بحيث لم يمكن استيفائهما معا ، وهكذا.

وبديهي ان الامر في هذه الموارد بيد المولى ، وعليه ان يلاحظ الملاكات

__________________

(١) فقه الصادق ج ٤ ص ٦٥ (الموضع السادس) وأيضاً ص ٣٧٧ (دوران الأمر بين الامور المعتبرة في الصلاة).

ويقدم ما هو الاهم والأقوى ويجعل الحكم على طبقه ، ولا ربط لذلك بالعبد بشيء فإن وظيفته امتثال أوامر المولى والخروج عن عهدة الأحكام من دون ملاحظة جهات المصالح والمفاسد ، بل لو زعم ان المولى قد اشتبه عليه الامر كما قد يتفق ذلك في الموالى العرفية فجعل الوجوب مثلا مع انه لا مصلحة فيه ، لم يكن له بمقتضى العبودية مخالفة ذلك الامر.

أضف إلى ذلك انه ليس للعبد طريق إلى إحراز جهات المصالح والمفاسد في متعلقات الأحكام الشرعية مع قطع النظر عن ثبوتها ، وهذا النوع من التزاحم غير مربوط بنا ولا يكون في مقابل التعارض.

النوع الثاني : تزاحم الأحكام بعضها مع بعض ، في مقام الامتثال والفعلية ومنشؤه عدم قدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معا.

وبعبارة أخرى : مورد هذا التزاحم ما إذا لم يكن بين جعل الحكمين معا على موضوعيهما الذي يكون بنحو القضية الحقيقية بلا تعرض لحال موضوعه وجودا وعدما ، تمانع وتناف كما في جعل وجوب انقاذ الغريق ، وحرمة التصرف في مال الغير ، في ما لو توقف الأول على الثاني ، بل التنافي والتمانع انما هو في مرتبة فعلية الاحكام وزمن امتثالهما.

توضيح ذلك : انه قد مر مرارا ان لكل حكم مرتبتين :

الأولى مرتبة الجعل والإنشاء ، وهي جعله لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون تعرض له لحال موضوعه.

الثانية : مرتبة الفعلية وهي تتحقق بفعلية موضوعه في الخارج ، وعلى هذا

فحيث انه من شرائط التكليف القدرة على امتثاله فيلزم من عدم القدرة عدم الفعلية ، وعليه فإذا ورد حكمان ، فإن لم يمكن اجتماع الملاكين كما في موارد اجتماع الامر والنهي على القول بالامتناع ، أو علم من الخارج عدم احد الحكمين ، أو كان الحكمان مما لا يتمكن المكلف من امتثالهما معا أبدا كما في الامر بالضدين خصوصا إذا كانا مما لا ثالث لهما ، لا محالة يقع التنافي بينهما في مقام الجعل ، فهو داخل في باب التعارض.

وان كان بحيث لم يكن هناك تناف في مقام الجعل كما في وجوب انقاذ الغريق وحرمة التصرف في مال الغير ، وكما في الصلاة مع الازالة ، ضرورة ان هذا المقدار من التنافي الاتفاقي بالنسبة إلى شخص ما لا يمنع من جعلهما على نحو القضية الحقيقية إذ المانع المتوهم ليس الا عدم القدرة على امتثالهما معا فيكون جعلهما لغوا ومن الواضح انه لا يوجب ذلك باعتبار كونه تنافيا اتفاقيا ، والموجب له انما هو التنافي الدائمي بالنسبة إلى جميع المكلفين كما هو الحال في الضدين حيث انه لا يمكن للشارع ايجابهما بنحو الإطلاق معا ، فانه لغو محض ، وصدوره من الحكيم محال ، بل التنافي انما يكون في مرتبة الفعلية لان فعلية كل من الحكمين المتزاحمين تأبى عن فعلية الآخر لاستحالة فعلية كليهما معا ، إذ القدرة الواحدة لا تفي الا بإعمالها في احدهما ولا تكفي للجمع بينهما في مقام الاتيان والامتثال فلا محالة كان اختيار كل منهما موجبا للعجز عن الآخر فينتفي الحكم الآخر بانتفاء قيده وهو القدرة على القول باشتراطها من دون ان يوجب ذلك تصرفا في دليله.

وعلى الجملة ان باب التعارض انما هو فيما لو كان تمانع وتناف بين جعل

الحكمين بنحو القضية الحقيقية.

اما من ناحية المبدأ حيث ان المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة أو الغالبة عليها والمفسدة كذلك متضادتان لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد ، وكذلك الإرادة والكراهة بالنسبة إلى متعلق واحد.

واما من ناحية المنتهى لعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين ولزوم التكليف بما لا يطاق لتضاد المتعلقين ذاتا مع اتحادهما في الحكم كما إذا وجب القيام دائما والقعود كذلك.

أو لتلازم المتعلقين تلازما دائميا مع اختلافهما في الحكم كما إذا وجب استقبال المشرق ، وحرم استدبار المغرب ، أو غير ذلك مما لا يمكن الجمع بين الحكمين ثبوتا.

واما إذا لم يكن بينهما التنافي لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ولم يلزم من جعلهما ، اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة في متعلق واحد ولا يلزم التكليف بما لا يطاق ، كوجوب صلاة الفريضة ، ووجوب ازالة النجاسة عن المسجد ، فلا يكون هناك مانع من جعلهما معا.

وبعبارة أخرى : إذا لم يكن بين الحكمين تناف في مقام الجعل والتشريع ، بل كان بينهما كمال الملاءمة وانما نشأ التنافي في مقام فعلية كليهما وتحقق موضوعهما خارجا اتفاقا فهو باب التزاحم ، فالملاك للدخول في باب التزاحم هو ان يكون التضاد بين المتعلقين اتفاقيا وكان منشأه عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال اتفاقا بعد ما كان قادرا على الاتيان بكل واحد من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ولم يقدر على الجمع بينهما

صدفة.

فالمتحصل ، ان المنشأ الأساسي لوقوع التزاحم بين الحكمين جعل الشارع كلا الحكمين في عرض واحد ، ولازمه اقتضاء كل منهما لامتثاله في عرض اقتضاء الآخر له ، وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال اتفاقا ، فإذا تحقق هذان الامران تحققت المزاحمة بينهما ، وإذا انتفى احد الامرين لا مزاحمة أصلا.

ثم ان للمحقق النائيني (ره) (١) كلا ما في المقام وهو ان التزاحم قد ينشأ من شيء آخر لا من عدم قدرة المكلف ، ومثل له بما إذا صار المكلف واجدا للنصاب الخامس من الإبل الذي يجب فيه خمس شياه ثم بعد انقضاء ستة اشهر مثلا ملك ناقة أخرى ، فحصل النصاب السادس ، الذي يجب فيه بنت مخاض. فإن المكلف وان كان قادرا على دفع خمس شياه بعد انقضاء ستة اشهر من ملكه للنصاب الخامس ، وعلى دفع بنت مخاض بعد مضي حول النصاب السادس ، الا ان قيام الدليل على ان المال الواحد لا يزكَّى في عام واحد مرتين ، اوجب التزاحم بين الحكمين.

ولكن يرد عليه ان قيام الدليل المذكور ، يوجب العلم بتقييد ، ما دل على وجوب خمس شياه على من ملك النصاب الخامس ، ومضى عليه الحول ، أو ما دلَّ على وجوب بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٨٥ (الخامس : موارد التلازم الاتفاقي) وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٥٣.

الحول فيقع التعارض بين اطلاقي الدليلين ولا ربط لذلك بباب التزاحم ، وكأنه تخيل اختصاص باب التعارض بتعارض الدليلين رأسا ولا يشمل تعارض اطلاقيهما.

أقسام التزاحم

الجهة الثانية : في بيان أقسام التزاحم ، فقد ذكر المحقق النائيني (ره) (١) أقساما خمسة للتزاحم ، وذكر ان منشأ التزاحم أمور خمسة :

الأول : تضاد المتعلقين بمعنى انه اجتمع المتعلقان في زمان واحد بحيث لا يمكن للمكلف فعلهما ، كما في الصلاة ، والازالة.

الثاني : عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين ، مع اختلاف زمانهما ، كما إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى ، والثانية معا ، بل كان قادرا على القيام في احداهما فقط ، والفرق بين هذا القسم ، وسابقه ، هو ان عدم القدرة في هذا القسم ناش عن عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين ، وفى سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان المتعلقين ، من دون ان يكون المكلف عاجزا لو لا اتحاد الزمان.

الثالث : تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم كما إذا وجب استقبال

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٣٢١ (المقام الثاني) في منشأ التزاحم وهو أمور خمسة.

القبلة وحرم استدبار الجدي مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

الرابع : ما إذا كان الحرام مقدمة للواجب فيما إذا لم يكن التوقف دائميا ، كما إذا توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه.

الخامس : موارد اجتماع الامر والنهى ، فيما إذا كان هناك ماهيتان اتحدتا في الخارج نحو اتحاد كالصلاة والغصب بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها.

ولا يهمنا البحث في انه ما ذا يكون اثر هذا التقسيم وانه لا يترتب عليه أية ثمرة ، ويكون نظير تقسيم ان التزاحم ، قد يكون بين وجوبين ، وقد يكون بين تحريمين وقد يكون بين وجوب وتحريم وهكذا.

وايضا لا يهمنا البحث في رجوع بعض هذه الأقسام إلى بعض ، مثلا مورد جواز اجتماع الامر والنهى ، الذي هو المورد الخامس للتزاحم ، يرجع إلى الثالث.

بيان ما تقتضيه القاعدة في هذا الباب ومرجحاته

الجهة الثالثة : في بيان ما تقتضيه القاعدة في باب التزاحم ، ومرجحات هذا الباب.

فالكلام في موردين :

المورد الأول : فيما تقتضيه القاعدة ، وقد مرَّ مفصلا أنها تقتضي التخيير ، إذ المانع عن فعلية الحكمين المتزاحمين انما هو عدم القدرة على امتثالهما وعليه ،

فبما ان المكلف قادر على إتيان كل منهما عند ترك الآخر يتعين عليه بحكم العقل البناء على وجوب كل منهما مقيدا بعدم إتيان الآخر ، وان شئت فقل ، ان التزاحم ليس بين اصل الخطابين ، بل التزاحم بين اطلاق كل منهما بالنسبة إلى صورة الاتيان بمتعلق الآخر ، مع اطلاق الآخر كذلك ، وحيث ان الضرورات تتقدر بقدرها فيتعين حينئذ تقييد كل من الاطلاقين ، فتكون النتيجة هو التخيير وعليه فإذا أتى بأحدهما سقط التكليفان ، احدهما بالامتثال ، والآخر بارتفاع موضوعه وقد مر اعتراف الشيخ الأعظم بذلك أيضا فراجع ما قدمناه.

المورد الثاني : في مرجحات باب التزاحم ، وقد ذكر المحقق النائيني لهذا الباب مرجحات (١).

ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل

المرجح الأول : كون احد الواجبين مما ليس له بدل والآخر مما له بدل ، وأفاد أن هذا يتحقق في احد موردين :

احدهما : ما إذا كان لاحد الواجبين بدل في عرضه ، كما لو زاحم واجب موسع له افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له كما في مزاحمة وجوب الازالة الذي هو فوري مع وجوب الصلاة في سعة وقتها ، أو زاحم احد افراد الواجب

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٣٢١ ـ ٣٢٢ (في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور).

التخييري الشرعي لواجب تعييني ، كما إذا كان لشخص عشرة دنانير ، ودار أمرها بين ان يصرفها في مئونة من تجب عليه مئونته ، وبين ان يصرفها في كفارة شهر رمضان ، حيث ان لكفارة شهر رمضان بدلا وهو صوم شهرين متتابعين ، فانه لا اشكال في تقدم ما لا بدل له على ما له البدل.

بل قد مر ان هذا في الحقيقة خارج عن التزاحم ، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي إذ ما لا اقتضاء فيه لا يمكن ان يزاحم ما له اقتضاء ، لان دليل الواجب التخييري أو الموسع لا يقتضي لزوم الاتيان بخصوص الفرد المزاحم ، بخلاف دليل الواجب المضيق أو المعين.

المورد الثاني : لهذا المرجح ، ما إذا كان لاحد الواجبين بدل في طوله دون الآخر كما لو زاحم وجوب الوضوء مع وجوب انجاء النفس المحترمة من الهلاكة ، ومثل لذلك بمثالين :

احدهما ما إذا وقع التزاحم بين الامر بالوضوء والامر بتطهير البدن أو اللباس للصلاة فبما ان الوضوء له بدل وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة امره مع امر التطهير فيقدم رفع الخبث ويكتفى بالصلاة مع الطهارة الترابية.

ثانيهما : ما إذا دار الامر بين ادراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وادراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية.

ثم اورد على نفسه : بأن ادراك ركعة واحدة في الوقت بدل عن تمام الصلاة فيه فيكون الدوران بين واجبين لكل منهما بدل.

وأجاب عنه بأن بدلية ادراك الركعة الواحدة عن تمام الصلاة في الوقت انما

هي على تقدير العجز عن ادراك تمام الصلاة فيه وقد فرضنا قدرة المكلف على ادراك تمامها فيه فلا موجب لسقوط التكليف باتيان تمام الصلاة في وقتها فيجب الاتيان بتمام الصلاة في وقتها مع الطهارة الترابية.

اقول : ما ذكره في المورد الثاني من الكبرى الكلية.

تام إذ كل مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة ، لانه لا معنى لجعل شيء بدلا طوليا لشيء الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشيء وحيث ان التفصيل قاطع للشركة فلازمه تقييد ذلك الواجب بالتمكن والقدرة ، سواء صرح في لسان الدليل بذلك كآية التيمم أو لم يقع التصريح به في لسان الدليل ، فتكون كما صرح به.

واما المثالان اللذان ذكرهما فلا تكون هذه الكبرى منطبقة عليهما لوجهين :

الأول : ما حققناه في كتابنا فقه الصادق في الجزء الرابع (١) ، من ان موارد دوران الامر بين الواجبين الضمنيين من موارد التعارض ، لا التزاحم ، فإن التنافي حينئذ بين الجعلين لا الفعليين فراجع ما حققناه.

الثاني : انه في المثالين لكل من الواجبين بدل ، اما في الأول فلان الصلاة مع اللباس النجس أو عاريا بدل عن الصلاة مع الطهارة الخبثية.

واما في الثاني فلما اورده (قدِّس سره) على نفسه.

__________________

(١) راجع فقه الصادق ج ٤ ص ١١٩ (الاضطرار إلى ترك بعض الاجزاء والشرائط).

وجوابه عنه غير تام ، إذ التيمم أيضا يكون بدلا عن الوضوء في صورة العجز عن الطهارة المائية.

وبعبارة أخرى : انه ان لوحظ كل من الواجبين في نفسه وبالاضافة إلى الصلاة التامة الأجزاء والشرائط ، فهو عاجز عنه ، فلا يصح ان يقال انه متمكن من الصلاة أربع ركعات في الوقت مع الطهارة الترابية فلا يكون عاجزا ، إذ يصح ان يعكس حينئذ فيقال انه متمكن من الصلاة في الوقت بادراك ركعة منها فيه مع الطهارة المائية فلا ينتقل الفرض إلى التيمم.

تقديم المشروط بالقدرة العقلية

المرجح الثاني : ما إذا كانت القدرة في احد الواجبين شرطا شرعيا ، وفى الآخر شرطا عقليا.

والمراد بكون القدرة شرطا شرعيا هي ما أخذت في لسان الدليل كما في الحج والوضوء ، فيقدم ما يكون مشروطا بالقدرة عقلا على ما يكون مشروطا بالقدرة شرعا.

وقد افاد المحقق النائيني (ره) (١) في وجه ذلك ، ان غير المشروط بها يصلح لان

__________________

(١) فوائد الاصول ج ١ ص ٣٢٢ (الأمر الثاني).

يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها ، ولا عكس ، حيث ان وجوبه لا يكون مشروطا بشرط سوى القدرة العقلية والمفروض انها حاصلة فالمقتضي لوجوبه موجود وهو اطلاق الدليل والمانع مفقود ، فلا بد من البناء على وجود المقتضي بالفتح ، ومعه يخرج ما كان مشروطا بالقدرة شرعا عن تحت سلطانه وقدرته شرعا للزوم صرف قدرته في ذلك ، والممنوع شرعا كالممنوع عقلا ، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب لانتفاء شرطه وهو القدرة.

والحاصل ان ما يكون مشروطا بالقدرة عقلا بنفسه معجز مولوي ، فيكون رافعا لموضوع ما يكون مشروطا بالقدرة شرعا ولا عكس.

وهو لم يستند في وجه التقديم إلى ان ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلا تام ، فلا مانع من ايجابه وهو يمنع عن ثبوت الملاك للواجب الآخر ، بل ذكر ذلك من آثار الوجه الذي قدمناه.

فلا يرد عليه ما اورده الأستاذ (١) ، من انه لا طريق لنا إلى كشف الملاك ، مع ان تقديم احد المتزاحمين على الآخر ، بمرجح لا يرتكز بوجهة نظر مذهب دون آخر فلا بد من ذكر وجه يعم حتى مذهب الاشعري المنكر لتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وقد اورد على نفسه (٢) بانه ربما يختلج بالبال انه لا طريق لنا إلى كشف عدم

__________________

(١) كما في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٦٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٠ ـ ٣١ وقد أشار إلى ذلك في غير مورد من المحاضرات أيضا.

(٢) فوائد الاصول ج ١ ص ٣٢٣ (الأمر الثاني).

تقييد المتعلق بالقدرة شرعا ، وانه لا يمكن التمسك بالاطلاق لنفيه وذكر في وجه ذلك امورا ، وقد قدمناها مع نقدها عند التعرض لطريق كشف الملاك في أوائل مبحث الضد فراجع.

الترجيح بالمتقدم زمانا

ثم انه في موارد هذه المرجحات ، لا يلاحظ الاهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني.

واما لو فرض تساوى المتزاحمين في هذه المرجحات ، بأن كان كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا أو مشروطا بالقدرة شرعا ، وكان الواجبان مضيقين ، وتعينيين ، فتصل النوبة إلى الترجيح بالسبق واللحوق ، والاهمية والمهمية.

وتفصيل القول في ذلك انه إذا تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات المتقدمة ، فاما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا ، أو يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا.

اما في المورد الأول وهو ما كانت القدرة في كل منهما شرطا شرعيا ، فيقدم فيه ما كان بحسب الزمان متقدما ، اما بأن كان زمان امتثاله متقدما ، كما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب صوم يوم الخميس ووجوب صوم يوم الجمعة ، بأن نذر صوم اليومين ولم يقدر الا على اتيان احدهما ، أو كان زمان امتثالهما متحدا ولكن تقدم زمان خطاب احدهما ، كما لو وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ، فيما لو نذر في شهر رمضان المبيت ليلة عرفة في مشهد الحسين (ع) ، وبعد ذلك عرض له الاستطاعة.

(وفي المثال كلام سيأتي) وفي مثل ذلك لا يلاحظ اهمية المتأخر ، بل يكون السابق متقدما مطلقا.

والوجه في التقديم واضح ، فإن زمان فعلية وجوب السابق يكون قادرا عليه عقلا وشرعا لعدم فعلية الآخر ليكون مانعا ومعجزا شرعيا وهو حينئذ يكون معجزا بالنسبة إلى متعلق الآخر ومانعا عن فعلية موضوعه ، ومع عدمها لا يعقل فعلية الحكم ، ولا يلاحظ الاهمية فإن لحاظ ذلك يستدعي ثبوت ملاكين وتحقق الموضوعين ، ومع فرض عدم القدرة الا على احدهما لا يكون هناك الا ملاك واحد ولا يصير من الموضوعين فعليا الا واحد فلا معنى للرجوع إلى الاهمية.

ثم ان المحقق النائيني (ره) (١) ذكر ان هذا المرجح انما يكون مرجحا فيما إذا لم يكن هناك جهة أخرى توجب تقديم احد الواجبين ولو كان متأخرا عنه زمانا ، ومثل لذلك بالمثال المتقدم إذ النذر وان كان سابقا زمانا على اشهر الحج ولكن من جهة اشتراط وجوب الوفاء بالنذر ، بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضا ، والوفاء بالنذر في المثال يستلزم ترك الواجب في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به ، فلا يشمله أدلة وجوب الوفاء به ، فإذاً ينحل النذر بذلك ، ويصير وجوب الحج فعليا رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه.

واورد عليه بإيرادات :

١ ـ ان هذه المسألة غير مربوطة بما هو محل الكلام وهو كون كل من الواجبين مشروطا بالقدرة شرعا ، لعدم كون دليل وجوب الوفاء بالنذر مشروطا

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٦ ـ ٣٧.

بها.

وفيه : ان وجوب الوفاء تابع لما التزم به المكلف على نفسه وما التزم به المكلف على نفسه هو المقدور فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة ، وخطاب الوفاء متأخر عن الالتزام ، فالخطاب يرد على الفعل الذي أخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود الخطاب ، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا.

٢ ـ عدم اخذ القدرة في دليل وجوب الحج ، لان موضوعه وان كان هو الاستطاعة ، الا انها فسرت الاستطاعة في الأخبار بالزاد والراحلة ، فلا يكون اعتبارها فيه شرعيا.

وفيه أولاً : انه في جملة من الأخبار اخذ عدم مزاحمة تكليف آخر معه من قيود الاستطاعة ، لاحظ :

صحيح الحلبي عن الإمام الصادق (ع) إذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرايع الإسلام (١).

فإن المستفاد منه ان كل عذر رافع للفرض ، وبديهي ان الوفاء بالنذر عذر شرعي فيكون رافعا له.

وثانياً ، ان النصوص المفسرة للاستطاعة في مقام بيان اعتبار قيود فيها ، ولا

__________________

(١) التهذيب ج ٥ ص ١٨ باب كيفية لزوم فرض الحج من الزمان ح ٦ / الوسائل ج ١١ باب ٦ من ابواب وجوب الحج وشرائطه ح ١٤١٥٢.

نظر لها إلى عدم اعتبار نفس الاستطاعة بما لها من المفهوم.

٣ ـ ان دليل وجوب الوفاء بالنذر يصلح رافعا لملاك الحج وموضوعه ، ومانعا عن وجوبه : لان ملاك النذر تام لا مانع منه سوى وجوب الحج فيشمل دليله الفرض وبه تنتفي الاستطاعة ، وبتبعه يرتفع الوجوب.

وفيه : ان مانعية وجوب الوفاء بالنذر عن وجوب الحج دورية : فإن فعلية وجوب الوفاء ، متوقفة على عدم التكليف بالحج ، وإلا يلزم منه تحليل الحرام ، فلو كان عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب الوفاء لزم الدور.

٤ ـ ما استدل به لتقديم النذر في المثال على ما أفتى به المشهور ، وهو ان النذر حين انعقاده لم يكن مانع عنه فينعقد فيجب الاتيان بالمنذور ، وهو يصلح مانعا عن تحقق الاستطاعة لان المانع الشرعي كالمانع العقلي فلا يجب الحج.

وفيه : انه بعد اعتبار عدم كون النذر محللا للحرام في وجوب الوفاء لا مجال لما أفيد فإن المعتبر عدم كونه محللا في ظرف العمل لا حين النذر.

فالمتحصل مما ذكرناه تمامية ما افاده المحقق النائيني (ره) فيقدم دليل وجوب الحج في المثال.

ويعضده ما افاده الأستاذ (١) قال : ان وجوب الوفاء بالنذر لو كان مانعا عن تحقق الاستطاعة وسقوط وجوب الحج عن المكلف للزم إمكان التخلص عن

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٣ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧ (والتحقيق أن تزاحم وجوب الوفاء بالنذر .. الخ)

وجوب الحج بكل نذر يضاد متعلقه للاتيان بمناسك الحج في ظرفها مع ان ذلك يقطع ببطلانه انتهى.

حول المتزاحمين المشروط كل منهما بالقدرة

وإذا فرضنا ان الواجبين المتزاحمين ، المشروط كل منهما بالقدرة شرعا ، غير الممتاز احدهما عن الآخر بثبوت البدل له خاصة ، لم يسبق احدهما على الآخر زمانا ، واتحدا من حيث الزمان ، فهل يقدم الاهم كما اختاره الأستاذ (١) ، أم لا يكون هناك مورد للترجيح بالاهمية كما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) (٢) وجهان :

استدل للثاني : بأن الترجيح بالاهمية انما يكون فيما إذا كان كل من الواجبين ، واجدا للملاك التام فعلا كما سيمر عليك ، وفى مثل المقام بما ان كلا من التكليفين مشروط بالقدرة شرعا ، والمفروض انه لا قدرة للمكلف على امتثال كلا الخطابين ، فلا محالة يكون احد الخطابين واجدا للملاك دون الآخر ، والاهمية على تقدير وجود الملاك في طرف لا تكون كاشفة عن وجود الملاك في ذلك الطرف ، دون الطرف الآخر ، فلعل الملاك عند المزاحمة فيه ، لا في الطرف الذي لو فرض تحقق الملاك فيه لكان اهم من غيره.

وبعبارة أخرى : بما ان كلا من الخطابين مشروط بالقدرة شرعا ، ولها دخل فيه وفى ملاكه ، يمكن ان يكون كل منهما رافعا للملاك في الطرف الآخر ، من

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٣٧ ـ ٣٨.

دون فرق بين تساوى الملاكين ، وكون احدهما اهم من الآخر على فرض تحققه ، وكون اهمية الملاك على تقدير وجوده كاشفة عن وجوده وفعليته ، دون ملاك الطرف الآخر ، دون اثباته خرط القتاد.

واورد عليه الأستاذ (١) بأن شرط فعلية ملاك الواجب المفروض كونه اهم من غيره ، وهي القدرة عليه متحقق وجدانا إذ المفروض كونه مقدورا عقلا ، وعدم المنع من صرف القدرة فيه شرعا ، فلا وجه لتفويت المولى الملاك الاهم بعدم الامر به ، وهذا بخلاف الواجب الآخر ، فانه وان كان مقدورا عقلا ، الا ان الزام المولى بصرف القدرة في غيره ، يوجب عجز المكلف عن ايجاده وسالبا لملاكه.

ويرد عليه : ان مفروض الكلام باب التزاحم ، وهو عدم التنافي في مقام الجعل وكون التمانع في مقام الفعلية ، وايضا المفروض ان فعلية كل منهما توجب ارتفاع ملاك الآخر وعلى ذلك.

ففرض فعلية ما ملاكه على فرض وجوده اهم ، دون الآخر مع ان نسبة القدرة التي هي شرط في فعلية كل منهما على حد سواء.

غريب ، ولا ربط لهذا الباب بما افاده من انه لاوجه لعدم الامر بما ملاكه اهم فالتحقيق هو التخيير مطلقا.

ثم انه اختار المحقق النائيني (ره) (٢) كون التخيير شرعيا كشف عنه العقل ،

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٦ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤١ ـ ٤٢.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٢ ـ ٤٣.

فإن كلا من الواجبين إذا كان واجد الملاك الزامي في ظرف القدرة عليه كما هو المفروض ففي فرض التزاحم يكون احدهما لا بعينه ذا ملاك الزامي ، فلا بد للمولى من ايجابه ، ضرورة انه لا يجوز للحكيم ان يرفع يده عن تكليفه بالواحد لا بعينه ، مع فرض وجدانه للملاك الإلزامي ، بمجرد عجز المكلف عن الاتيان بكلا الفعلين ، فلا محالة يوجب المولى احد الفعلين لا بعينه.

واورد عليه الأستاذ (١) ، بانه إذا كان المفروض قدرة المكلف على كل من الواجبين في نفسه وفى ظرف ترك الآخر ، وان الشارع لم يلزمه باحدهما المعين لانه بلا مرجح ، فلا بد ان يكون كل منهما واجدا للملاك في ظرف ترك الآخر ، ولازم ذلك تعلق الامر بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، فالتخيير يكون عقليا لا شرعيا.

وفيه : ان هذا الوجه يتم فيما إذا كانت القدرة شرطا عقليا.

واما على فرض كونها شرطا شرعيا ، فلا يتم إذ قوله كل منهما مقدور في ظرف ترك الآخر.

غير تام ، لانه وان كان مقدورا عقلا ، الا انه غير مقدور شرعا وهو واضح.

فالاظهر كون التخيير حينئذ شرعيا بالتقريب الذي افاده المحقق النائيني

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٢.

الترجيح بالاهمية

واما المورد الثاني (١) : وهو ما كان كل من الواجبين مشروطا بالقدرة عقلا ، فقد يكون احدهما اهم ، وقد يحتمل اهميته ، وقد يكونان متساويين. فهاهنا فروض :

الأول : ما إذا كان احدهما اهم من الآخر ـ فلا كلام ولا اشكال في انه يقدم الاهم سواء كان الاهم مقارنا زمانا مع المهم ، أو سابقا عليه ، أو متأخرا عنه ، اما في الاولين فواضح : لان المهم بالنسبة إلى الاهم يكون من قبيل المستحب بالنسبة إلى الواجب ، فكما ان المستحب لا يصلح ان يزاحم مع الواجب كذلك المهم لا يصلح لان يزاحم الاهم ، وان شئت قلت ان العقل الحاكم في باب الإطاعة والعصيان مستقل بتقديم الاهم.

وبعبارة أخرى : ان التكليفين المتزاحمين لا يمكن ثبوتهما معا ، ولا سقوطهما كذلك لكونه بلا موجب ، فيدور الامر بين سقوط المهم ، دون الاهم وبالعكس ، والثاني غير معقول لكونه ترجيحا للمرجوح على الراجح ، فيتعين الأول.

واما في الصورة الأخيرة : فلان الاهم وان كان متأخرا زمانا ، الا ان ملاكه تام في ظرفه على الفرض ، اما من جهة ان الواجب المعلق ممكن فيستكشف من الوجوب الفعلي تمامية الملاك أو من جهة الاستفادة من الخارج ، كما في حفظ النفس المحترمة وحفظ بيضة الإسلام ، وامثال ذلك على القول باستحالة

__________________

(١) وهذا المورد مقابل المورد الأول الذي كانت القدرة في كل منهما شرطا شرعيا ، ص ٣٥٠.

الواجب المعلق كما عليه المحقق النائيني (ره) وعلى كل تقدير يجب حفظ القدرة عليه في وقته لئلا يفوت.

إذ العقل كما يستقل بقبح تفويت الواجب الفعلي كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه ، وعليه فحيث ان اتيان المهم فعلا يوجب تفويت ملاك الاهم في ظرفه فلا يجوز ، فيكون وجوب حفظ القدرة عليه في زمانه الذي يحكم به العقل معجِّزا للمكلف بالإضافة إلى امتثال المهم بالفعل.

وعلى الجملة العقل الحاكم بالتقديم لا يفرق بين الموردين ، فلو فرضنا انه دار الامر بين حفظ مال المؤمن في يوم الخميس ، أو حفظ نفسه في يوم الجمعة يكون الثاني مقدما.

الثاني : ما إذا كان احدهما محتمل الاهمية ، فيكون هو المقدم وقد مر في الامر الثالث الذي قدمناه على مسألة الترتب ما هو الوجه في ذلك ، فراجع.

الثالث : ما إذا لم يكن احدهما اهم ولا محتمل الاهمية فهل يكون السبق زمانا موجبا للترجيح أم لا؟ فلو فرضنا ان ظالما حكم بقتل إنسان في يوم الخميس وإنسان آخر ، في يوم الجمعة ويقبل شفاعة المكلف اما في يوم الخميس أو يوم الجمعة ، فهل يكون ذلك من المرجحات أم لا؟

فقد بنى المحقق النائيني (ره) (١) ذلك على القول بأن التخيير بين المتزاحمين المتساويين ، هل يكون عقليا ، أم يكون شرعيا؟ إذ على الأول حيث ان مبناه

__________________

(١) راجع فرائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٣٣٧ (المقدمة الأولى).

القول بالترتب وتقييد اطلاق كل من الخطابين ، بعدم الاتيان بالآخر ، لا بد من البناء على الترجيح به ، لان التكليف بالمتقدم هو الذي يكون فعليا ، دون المتأخر ، لان سقوط كل من التكليفين المتزاحمين بناءً عليه ، لا يكون الا بامتثال الآخر ، وبما ان امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجا لتأخر متعلقه فلا يكون للتكليف بالمتقدم مسقط في عرضه ، فيتعين امتثاله على المكلف بحكم العقل ، واما على القول بالتخيير الشرعي ومبناه سقوط الخطابين ، واستكشاف خطاب آخر من الملاكين.

فلا بدّ من البناء على عدم الترجيح به كما هو واضح ، وحيث انه يختار الأول ، فيرى ذلك من المرجحات.

اقول الظاهر عدم كون ذلك من المرجحات ، اما على القول بإمكان الشرط المتأخر فلانه لا مانع من تقييد اطلاق خطاب السابق بترك الآخر في ظرفه ، واما على ما اختاره من امتناعه فحيث انه يرى عدم الفرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي ، وتفويت الملاك الملزم في ظرفه فكما يحكم بقبح الأول ، يحكم بقبح الثاني ، فلا محالة لا بد له من البناء على التخيير بالتقريب المتقدم ، فلا يكون السبق زمانا من المرجحات ، فمع تساوى المتزاحمين من حيث الاهمية يحكم بالتخيير مطلقا.

اللهم الا ان يقال انه على فرض احتمال مرجحية السبق الزماني فحيث ان تقييد اطلاق خطاب المتأخر متيقن وتقييد السابق مشكوك فيه ، فالأصل يقتضي بقاء اطلاقه فتدبر حتى لا تبادر بالإشكال.

واما على فرض التساوي فالحكم هو التخيير.

واما الكلام في كون التخيير شرعيا كما ذهب إليه المحقق صاحب الحاشية ، والمحقق الرشتي ، ام يكون عقليا كما ذهب إليه المحقق النائيني ، فقد تقدم في الامر الثالث من الأمور التي قدمناها على مسألة الترتب ، وقد عرفت ان الثاني أقوى نظرا إلى ان التنافي ليس بين الخطابين بل بين اطلاقيهما ، فلا بد من التقييد ولاوجه لرفع اليد عن اصل الخطاب لان الضرورات تتقدر بقدرها ولازم ذلك هو التخيير العقلي فراجع.

فالمتحصل مما ذكرناه ان الترجيح بالسبق انما هو في صورة كون التكليفين مشروطين بالقدرة شرعا ، والترجيح بالاهمية فيما لو كانا مشروطين بها عقلا ، دون شرعا ، كما ان التخيير في الصورة الأولى شرعي ، وفى الصورة الثانية عقلي ، هذا تمام الكلام في تزاحم الحكمين المستقلين.

واما الكلام في التمانع بين التكليفين الضمنيين فموكول إلى محل آخر وقد تعرضنا له في كتاب فقه الصادق الجزء الرابع في مبحث القبلة (١).

الترتب في الواجبين الطوليين

الجهة الرابعة : في جريان الترتب في سائر أقسام التزاحم غير ما إذا كان التضاد بين الواجبين اتفاقيا ، وقد عرفت انها أربعة ، فالكلام في مسائل أربع :

__________________

(١) فقه الصادق ج ٤ ص ١١٩ (الاضطرار إلى ترك بعض الاجزاء والشرائط) ط ٣.

المسألة الأولى : ما إذا كان منشأ التزاحم قصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما من دون ان يكون بين المتعلقين تضاد ولو اتفاقيا لاختلاف زمانهما.

وبعبارة أخرى : إذا وقعت المزاحمة بين واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا وكان المتأخر اهم وقدمناه.

فقد وقع الكلام بين القائلين بإمكان الترتب في انه ، هل يمكن الالتزام بالترتب وتعلق الامر بالمتقدم مترتبا على عصيان الامر المتعلق بالواجب المتأخر ، ام لا؟ اختار المحقق النائيني (ره) الثاني (١).

ومحصل ما افاده في وجه ذلك : ان الخطاب الترتبي ، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتعلق بالمتأخر ، أو يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه وهو وجوب التحفظ لقدرته للواجب المتأخر المستكشف من حكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم ولزوم تحصيله.

فإن كان الأول : فاما ان يكون الشرط هو عصيان الخطاب ، أو يكون هو عنوان التعقب بالعصيان ، أو العزم على العصيان :

والأول : أي كون الشرط هو عصيان الخطاب المتأخر ، يستلزم محذورين :

احدهما : الالتزام بالشرط المتأخر وقد مر انه غير معقول.

__________________

(١) فوائد الاصول ج ١ ص ٣٨٠ / وقد أشار إلى ذلك أيضا في أجود التقريرات ج ١ ص ٢٧٧ وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ٤٣ / وحكاه عنه المحقق السيد الخوئي في المحاضرات ج ٣ ص ٣٣٧ وفي غيره.

ثانيهما : انه لا يجدي في رفع المزاحمة فإن المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ، ولو كان اهم ، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه وهو لزوم حفظ القدرة له ، ومعلوم انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب ـ احفظ قدرتك ـ فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها وخطاب احفظ قدرتك موجب للتعجيز عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر.

واما الثاني : وهو كون الشرط عنوان التعقب.

فيرد عليه : أولاً : ان ذلك يدور مدار قيام الدليل عليه ولم يقم من غير جهة اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية دليل على ذلك ، فيكون الالتزام بالترتب في المقام على خلاف القاعدة من غير دليل يقتضي ذلك.

وثانياً : ان ذلك لا يوجب رفع محذور طلب الجمع وصيرورة المهم مقدورا بواسطة هذا التقييد مع فرض الخطاب الفعلي بحفظ القدرة للواجب المتأخر المفروض كونه الاهم ومعجزا عن الواجب المتقدم.

واما الثالث : وهو كون الشرط العزم على العصيان فهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدين.

واما الرابع : وهو لحاظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب احفظ قدرتك.

فإن كان الشرط هو العزم والبناء على عصيان خطاب الحفظ ، لزم طلب الجمع بين الضدين.

وان كان الشرط نفس العصيان المتحقق بصرف القدرة ، فيرد عليه ان عدم حفظ القدرة لا يكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة عليه وذلك الفعل الوجودي ، اما نفس الواجب المتقدم ، أو فعل آخر ، أو الجامع بينهما.

وان كان الأول يلزم طلب الحاصل ، وان كان الثاني يلزم تعلق التكليف بالممتنع : فانه مع صرف قدرته في المتقدم بإتيانه يكون طلبه طلب الحاصل ، ومع صرفه في فعل آخر يتعذر عليه الواجب المتقدم ، وان كان الثالث يلزم كلا المحذورين.

ولا يقاس المقام بالصلاة والازالة فإن ترك الازالة ممكن بدون الصلاة وفعل آخر ـ واما عدم حفظ القدرة فلا يمكن بدون فعل ما فتدبر.

وفي كلماته (قدِّس سره) مواقع للنظر :

الأول : ما افاده من ان كون الشرط هو عصيان خطاب الاهم ، يلزم منه الالتزام بالشرط المتأخر ، وهو محال.

فانه يرد عليه : ما تقدم منا من امكانه غاية الامر وقوعه في الخارج ، يحتاج إلى دليل ، وهو في المقام موجود ، وهو عدم جواز رفع اليد عن اصل التكليف ، إذا امكن التحفظ عليه بنحو من الأنحاء ، وفى المقام يمكن التحفظ عليه على نحو الالتزام بالشرط المتأخر.

الثاني : ما افاده من ان شرطية عنوان التعقب تحتاج إلى دليل ، وهو مفقود في المقام ، وانما التزمنا به في اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية كالصلاة ونحوها ، من جهة ان استمرار العصيان عبارة أخرى عن استمرار

القدرة المعتبرة فيها التي لا يمكن الا بكون الشرط عنوان التعقب لمكان اعتبار الوحدة في الأجزاء التدريجية.

فانه يرد عليه : انه على القول باستحالة الشرط المتأخر ، نفس الدليل الدال على الترتب ، وهو انه إذا امكن الترتب واشتراط احدهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر كان مقتضى الدليل الالتزام بذلك ولا موجب لرفع اليد عن اصل الخطاب ، يدل على شرطية عنوان التعقب في التدريجيات ، ضرورة انه إذا امكن طلب المهم مشروطا بتعقبه بترك الواجب المتأخر الاهم ، فلا موجب لرفع اليد عن اصل الخطاب وانما اللازم هو رفع اليد عن اطلاقه بمقدار يرتفع به التزاحم ، اعني به اطلاقه بالإضافة إلى حال امتثال الواجب المتأخر في ظرفه.

وبعبارة أخرى : ان كون احد الخطابين مشروطا بترك امتثال الآخر لم يرد في لسان دليل من الادلة كي نقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره ، بل انما هو من ناحية حكم العقل بعدم امكان تعلق الخطاب بفعلين متضادين الا على هذا التقدير ، وعليه فإذا لم يمكن في مورد تقييد اطلاق الخطاب بالمهم بترك امتثال خطاب الاهم من جهة استلزامه القول بالشرط المتأخر يستقل العقل بتقييده بالعزم عليه ، أو بعنوان التعقب بعين هذا الملاك.

الثالث : ما افاده من ان شرطية العزم تستلزم طلب الجمع بين الضدين.

فانه يرد عليه انه لو كان العزم بحدوثه خاصة شرطا لفعلية الامر بالمهم ، فلا محالة يلزم ذلك ، إذ بعد حدوثه يصير الامر بالمهم فعليا ومطلقا كالامر بالاهم ، لكنه غير صحيح ، بل كما يلتزم بأن الشرط في مورد كونه العصيان هو العصيان المستمر نلتزم ، بأن الشرط هو الاستمرار على العزم لا حدوث العزم

آنا ما.

الرابع : ما افاده من ان عصيان وجوب حفظ القدرة اما ان يتحقق بصرف القدرة في المهم أو بصرفها في فعل آخر إلى آخر ما افاد.

فانه يرد عليه ان ترك التحفظ على القدرة للواجب المتأخر ، ان كان عين صرفها في الواجب المتقدم المهم ، أو صرفها في شيء آخر كان لما افاده وجه ، ولكن الامر ليس كذلك لان التحفظ عبارة عن ابقاء القدرة على حالها ، وعدم اعمالها في شيء وهو ملازم هنا لترك المهم ، وعدم الاتيان به في الخارج ، ومعنى ترك التحفظ عدم ابقائها على حالها ، وهو ملازم في المقام لفعل المهم أو لفعل آخر ، لا انه عينه فيكون نظير الازالة والصلاة.

الخامس : ما افاده من انه لو كان الشرط هو عصيان خطاب الاهم أو عنوان التعقب أو العزم على العصيان لما كان يجدي في رفع المحذور لان وجوب حفظ القدرة له معجز عن الاتيان بالمهم ، فلا يكون معه قادرا عليه شرعا.

فانه يرد عليه : أولاً : النقض بوجوب الاهم إذا كان مقارنا مع المهم زمانا بعد فرض عدم سقوط الوجوب بعصيانه.

وثانياً : بالحل وهو ان نفس وجود الخطاب لا يكون مانعا إذ ليس المحذور الجمع بين الطلبين بل المحذور كله ، في طلب الجمع بين الضدين ، وهو انما يكون إذا كان في عرضه لا في طوله ، وعلى نحو الترتب لما مر مفصلا من عدم التنافي بين مقتضى الامرين كذلك.

أضف إلى ذلك كله ان وجوب حفظ القدرة ليس وجوبا شرعيا مولويا ،

بل وجوبه عقلي ، وحيث انه واقع في سلسلة معلول الحكم فلا يكون مستتبعا لحكم شرعي ، وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه وبين وجوب المهم إذ لا شأن للوجوب العقلي سوى ادراكه حفظ القدرة للواجب الاهم فالمزاحمة انما هي بين وجوب المهم ووجوب الاهم وهي ترتفع بالالتزام بأحد الأمور المتقدمة.

فالمتحصل مما ذكرناه امكان الترتب هنا أيضا ، بالالتزام باشتراط وجوب السابق بعصيان خطاب المتأخر ، وعلى فرض عدم امكان الشرط المتأخر بتقييده بالعزم على عصيانه المستمر ، أو عنوان التعقب به فتدبر فانه حقيق به.

جريان الترتب في المقدمة المحرمة

المسألة الثانية : إذا وقعت المزاحمة بين المقدمة وذيها ، فهل يجري الترتب فيها ، ام لا؟ وملخص القول فيها ان المقدمة تارة تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض الغير لانقاذ الغريق ، واخرى تكون مقارنة في الوجود لذيها كتوقف احد الضدين على ترك الآخر بناءً على كونه مقدمة له ، فالكلام في مقامين :

المقام الأول : فإذا فرضنا ان الواجب المتوقف على الحرام اهم منه وقدمناه فلا اشكال في سقوط حرمة المقدمة في فرض الاتيان بالواجب.

انما الكلام في انه على فرض العصيان هل تكون المقدمة حراما من باب الترتب ام لا؟

والمحذور المتوهم للترتب في خصوص المقام امران :

احدهما : ان الامر الترتبي في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة والوجوب والحرمة متضادان لا يمكن اجتماعهما.

ثانيهما : ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول بالشرط المتأخر ، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في خصوص المقام حتى نرجعه إلى وصف التعقب.

ولكن يندفع الأول ، أولاً : بما تقدم مستوفى من اختصاص الوجوب المقدمي بالمقدمة الموصلة.

وثانياً : ان الوجوب الغيري التبعي غير الناشئ عن ملاك مستقل لا يصلح لمعارضة الحكم النفسي الذي صححناه معلقا على عصيان الواجب النفسي الاهم ، وان شئت قلت ان وجوب المقدمة وجوب عقلي ، وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه وبين الحرمة إذ لا شأن للوجوب العقلي الا ادراكه انه لا بد للاتيان به تحفظا على الواجب النفسي الاهم فعلى فرض عصيانه وعدم الاتيان به لا محالة لا يصلح لمعارضة الحرمة النفسية.

ويندفع الثاني بما مر من امكان الشرط المتأخر أولاً ، وانه لا مانع من الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب بعصيان الاهم في ظرفه ، أو العزم على عصيانه ثانيا : إذ لا موجب لرفع اليد عن اطلاق دليل الحرمة بالاضافة إلى حال التعقب أو العزم عليه وحيث ان الضرورات تتقدر بقدرها ، فاللازم هو رفع اليد عن اطلاق الدليل بمقدار يقتضيه الضرورة وهو في غير تلك الحالة.

واما في المقدمة المقارنة فالكلام فيها قد تقدم في اول مبحث الضد مستوفى فلا نعيد.

جريان الترتب في موارد اجتماع الامر والنهي

المسألة الثالثة : إذا وقعت المزاحمة بين الامر والنهى كما في موارد اجتماعهما بناءً على القول بالجواز وكون التركيب بينهما انضماميا ، ووقوع المزاحمة بينهما فهل يجري الترتب هناك ام لا؟ قولان :

ذهب المحقق النائيني (ره) (١) إلى الثاني نظرا إلى ان عصيان النهي في مورد الاجتماع كالنهي عن الغصب اما ان يكون باتيان فعل مضاد للصلاة المأمور بها مثلا كأن يشتغل بالاكل ، واما ان يكون بنفس الاتيان بالصلاة ، وعلى التقديرين ، لا يمكن جريان الامر الترتبي ، لان الأول مستلزم لطلب الجمع بين الضدين والثاني مستلزم لطلب الحاصل وان التزم بكون الشرط هو الأعم ، لزم كلا المحذورين ، وان التزم بأن الشرط هو العزم على الغصب لا نفسه ، لزم الامر بالضدين على الوجه المحال.

ولكن يرد عليه انه لا يلزم من الالتزام بكون الامر بالصلاة مشروطا بعصيان النهي عن الغصب على القول بكون التركيب انضماميا لا اتحاديا ، المحذور الأول : إذ الشرط هو الكون في الأرض المغصوبة ، وهو غير الصلاة وغيرها من الأفعال الوجودية الأخر ، ولذا لو فرض خلو المكلف عن جميع تلك الأفعال الخاصة ، ومع ذلك كان تصرفا في مال الغير وغصبا.

وان شئت قلت ان المكلف قادر على الصلاة عند كونه في الأرض

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١١٤ (واما القسم الرابع).

المغصوبة وان فرض كونه في ضمن احد الأفعال المزبورة لفرض كونه قادرا على تركه والاشتغال بالصلاة.

نعم لو كان الكون في الأرض المغصوبة ، عين احد الأفعال المزبورة ، وكان التركيب اتحاديا تم ما أفيد ، الا انه خارج عن مورد التزاحم ، ويدخل في باب التعارض ، وتمام الكلام في مبحث اجتماع الامر والنهي.

عدم جريان الترتب في المتلازمين

المسألة الرابعة : إذا كان التزاحم ناشئا من ملازمة وجود الواجب ، لوجود الحرام اتفاقا ، كما إذا فرضنا حرمة استدبار الجدي المستلزمة ذلك لوقوع التزاحم بينها وبين وجوب استقبال القبلة بالنسبة إلى أهل العراق وما سامته من النقاط ، فلا ريب في كون ذلك من باب التزاحم ، فيرجع فيه إلى قواعد ومرجحات ذلك الباب ، فإن كان لاحدهما مرجح يقدم ، وإلا فيحكم بالتخيير.

وهل يمكن جريان الترتب في هذا المورد ، ام لا؟ الظاهر هو الثاني كما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) (١) إذ لا يعقل ان يكون حرمة استدبار الجدي مثلا مشروطا بعدم استقبال القبلة وعصيان الامر به ، لان ترك استدبار الجدي حينئذ قهري ، فالنهى عنه لغو محض وطلب للحاصل فلا يصدر من الحكيم ، وكذلك لا يعقل ان يكون وجوب استقبال القبلة مشروطا بعصيان النهي عن استدبار

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٣٢٦ ، وفي الطبعة الجديدة ج ٢ ص ١١٤ (واما القسم الثالث).

الجدي والإتيان بمتعلقه ، فإن استقبال القبلة حينئذ ضروري الوجود فلا يعقل الامر به من الحكيم.

فالمتحصل عدم امكان الترتب بين المتلازمين لا من جانب واحد ولا من جانبين.

وقد ظهر من مجموع ما ذكرناه جريان الترتب في الاقسام الاربعة من اقسام التزاحم بين الحكمين ، وعدم جريانه في خصوص القسم الاخير.

واما موارد التزاحم بين الملاكين ، فقد عرفت انه داخل في باب التعارض ولا معنى للنزاع في جريان الترتب فيها ، وعليك بالتأمل التام فيما حققناه.

* * *

الفصل السادس

في امر الآمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه

ذكر المحقق الخراساني (ره) في الكفاية (١) انه لا يجوز لان الشرط من اجزاء العلة فيستحيل ان يوجد الشيء بدونه ، الا ان يكون المراد من لفظ الامر ، الامر ببعض مراتبه وهو مرتبة الانشاء ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الأخر وهو الفعلية ، فيكون النزاع في ان امر الآمر يجوز انشائه مع علمه بانتفاء شرط فعليته ، وعدم بلوغه تلك المرتبة فاذن لا اشكال في جوازه بل وقوع ذلك في الشرعيات والعرفيات : لان الامر الصوري إذا كان الداعي له الامتحان أو نحوه لا البعث والتحريك حقيقة واقع في العرف والشرع.

واورد عليه المحقق الأصفهاني (ره) (٢) بانه لا يجوز الامر بشيء مع العلم بانتفاء شرط الفعلية ، إذ الانشاء بداع البعث مع العلم بانتفاء شرط الفعلية غير معقول للغوية وبداع آخر لا يترقب منه البلوغ إلى مرتبة البعث الجدي ، فلا مورد لدعوى العلم بانتفاء شرطها ، ولا يدخل في العنوان ، وبلا داع محال.

وأفاد المحقق النائيني (ره) (٣) ان هذه المسألة باطلة من اصلها لا في القضية

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٣٧ (فصل : لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه).

(٢) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٠ (عدم جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه).

(٣) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤ (الفصل السادس).

الحقيقية ولا في القضية الخارجية ، اما في الأولى فلان فعلية الحكم فيها منوطة بالموجود الخارجي ويستحيل تخلفها عنه وعلم الآمر بوجوده أو بعدمه أجنبي عن ذلك ، واما في الثانية فلان الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم وهو تمام العلة له ، والوجود الخارجي وعدمه أجنبيان عن الحكم فلا معنى للبحث عن الجواز المزبور.

وملخص القول في المقام انه حيث يكون لكل حكم مرتبتان ، مرتبة الجعل ، ومرتبة المجعول فيقع الكلام ، تارة في شرائط الجعل واخرى في شرائط المجعول.

اما الكلام في الأولى : فبما ان الجعل فعل اختياري للمولى وكل فعل اختياري مسبوق بالإرادة بما لها من المقدمات فانتفاء الجعل بانتفاء شرطه من الواضحات ، ولم ينقل النزاع فيه عن احد ، إذ بديهي ان جعل الحكم معلول للإرادة ومباديها ومشروط بها ، واستحالة وجود المعلول بدون وجود علته التامة ظاهرة.

فجعل المحقق الخراساني (١) ذلك محل الكلام غير سديد ، كما ان ما ذكره من الجواز إذا لم يكن الامر بداعي البعث والتحريك بل كان بداعي الامتحان ونحوه ، غير مربوط بما هو محل الكلام ، لان محل البحث في الجواز وعدمه هو الاوامر الحقيقية ، والا ففي الاوامر الصورية التي ليس الداعي فيها البعث فلا اشكال ولا كلام في جوازه.

واما في الثانية : أي شرائط المجعول ففي خصوص القدرة من تلك الشرائط

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، بتصرف.

على القول بدخلها في الفعلية لا في التنجز ، يكون المخالف هو الاشاعرة فانهم التزموا بجواز الامر بغير المقدور.

واما في غيرها فحيث عرفت في بحث الواجب المطلق والمشروط ان كل قيد اخذ مفروض الوجود في مقام الجعل يستحيل فعلية الحكم بدون فعليته ووجوده في الخارج.

فإن اريد من الامر هو الحكم الفعلي ، فامتناعه واضح لانه يرجع إلى فعلية الحكم مع عدم فعلية موضوعه.

وان كان المراد منه هو الانشاء والجعل كما هو الظاهر ، فالظاهر هو التفصيل بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، والالتزام بعدم الإمكان في الأولى والإمكان في الثانية.

اما عدم الإمكان في الأولى فلانه في القضايا الخارجية انما يجعل الحكم على الموضوع الموجود الخارجي ، فمع فرض العلم بانتفاء الموضوع ، لا يعقل الحكم عليه بنحو القضية الخارجية.

واما الإمكان في الثانية فلان القضية الحقيقية عبارة عن جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده ، وهذا لا ينافى عدم تحقق الموضوع خارجا إلى الأبد ، فانه حكم على تقدير وجود الموضوع.

نعم ، يعتبر في صحته ان يترتب على مثل هذا الجعل اثر ، والا يلزم اللغوية ، ويكفى في الخروج عن ذلك ما إذا فرضنا ان الجعل بنفسه يمنع عن تحقق الموضوع ، ويتصور ذلك في الاحكام المجعولة قصاصا ، ونحوها : مثلا إذا

فرضنا ان جعل القصاص المترتب على القتل العمدي اوجب عدم تحقق القتل في الخارج ، أو وجوب الحد للزاني ، اوجب ، عدم تحقق الزنا في الخارج ، وما شاكل ذلك ومن المعلوم انه مضافا إلى انه لا مانع من مثل هذا الجعل تقتضيه المصلحة العامة.

نعم ، إذا فرضنا ان امتناع الشرط لم يكن مستندا إلى الجعل بل كان من ناحية أخرى ، كما إذا امر بشيء على تقدير الصعود إلى السماء يكون ذلك لغوا وصدوره من الحكيم محال ، وحيث ان محل الكلام هي القضايا الحقيقية ، فصح ان يقال انه يجوز امر الآمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه ، والحكم بعدم الجواز نشأ من الخلط بين القضايا الخارجية والحقيقية.

وبذلك يندفع ايراد المحقق الاصفهاني (ره) (١) بأن الانشاء بداعي البعث مع العلم بانتفاء شرطه غير معقول للغوية : لما عرفت من عدم لزوم اللغوية لو كان انتفاء الشرط مستندا إلى الجعل وهو الذي اوجب عدم تحققه في الخارج.

كما انه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره) (٢) إذ النزاع في المسألة ليس في دخل علم الآمر بوجود الموضوع ، أو بعدم وجوده في فعلية الحكم ليتم ما افاده ، بل النزاع في ان جعل الحكم في القضية الحقيقية للموضوع المقدر وجوده مع علم الجاعل بعدم تحقق الموضوع في الخارج هل يجوز ام لا؟

وقد عرفت ان هذا النزاع معقول ، نعم ، في بعض موارده يكون الجعل

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٠.

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

لغوا.

وبعبارة أخرى : ان النزاع ليس في فعلية الحكم مع علم الحاكم بانتفاء موضوعه خارجا بل انما هو في جواز اصل جعل الحكم.

وقد يقال بترتب ثمرة على هذه المسألة ، وهي انه على القول بجواز الامر بشيء مع العلم بانتفاء شرطه ، تجب الكفارة على من افطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط وجوب الصوم له إلى الليل ، كما إذا افطر أولاً ثم سافر ، أو وجد مانع آخر من الصوم كالمرض أو نحوه ، فانه مأمور حينئذ بالصوم فيشمله ما دل على وجوب الكفارة على الصائم إذا افطر ولا تجب الكفارة بناءً على عدم جواز الامر مع انتفاء شرطه عليه حينئذ.

وفيه : ان المعنى المعقول لما هو محل الكلام غير مرتبط بما ذكر ، بل وجوب الكفارة في المثال وعدمه مبنيان على ان الموضوع له ، هل هو الإفطار في زمان يجب عليه الإمساك ولو لم يكن صوما ، فيجب الكفارة لو افطر ، ام يكون هو الإفطار في حال كونه صائما حقيقة فلا تجب.

والظاهر انه إلى ذلك نظر الأستاذ (١) حيث قال ان وجوب الكفارة مترتب على الإفطار العمدي في نهار شهر رمضان بلا عذر مسوغ له سواء طرأ عليه مانع من الصوم بعد ذلك ام لم يطرأ.

ولكن لم افهم مراده من قوله وذلك لاطلاق الروايات الدالة عليه ، فإن كان

__________________

(١) محاضرات في الاصول ج ٤ ص ١٠ ـ ١١ (والثالث انه لا ثمرة لهذه المسألة أصلاً).

نظره إلى روايات الكفارة فهي مختصة بالافطار حال كونه صائما ، وان كان إلى غيرها فلم يصل الينا رواية فضلا عن الروايات.

واما ما افاده المحقق النائيني (ره) (١) من ابتناء وجوب الكفارة في هذا الفرض على ان وجوب الصوم ، هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد الآنات ، أو هو تكليف واحد مشروط بشرط متأخر وهو بقاء شرائط الوجوب إلى المغرب ، وعلى الثاني فهل لنا تكليف آخر بإمساك بعض اليوم في خصوص ما إذا ارتفع شرط الوجوب بالاختيار أو مطلقا ، ام لا؟ فهو ليس مبنى هذه المسألة بل هو مبنى وجوب الإمساك قبل طرو المانع وعدمه.

* * *

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٩ ـ ٢١٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٤ (واما الثمرة التي رتبوها عليها).

الفصل السابع

هل الأوامر متعلقة بالطبائع أو الأفراد؟

وحيث ان هذا النزاع بظاهره لا معنى له إذ لا يتوهم احد تعلق الامر بالموجود الخارجي لانه مسقط للامر فلا يعقل تعلقه به ، ولا تعلق الامر بالطبيعة الصرفة ومن حيث هي مع قطع النظر عن حيثية انطباقها على الموجود الخارجي ، فلا بد لنا من تحرير محل النزاع في المقام أولاً ثم بيان ما هو الحق فيه ثانيا.

فاقول : ان محل النزاع يمكن ان يكون احد امور :

احدها : ان المتعلق هو وجود الطبيعي أو الفرد ، ويكون هذا النزاع مبتنيا على مسألة امكان وجود الطبيعي في الخارج ، وامتناعه.

فمن يقول بتعلق التكليف بالفرد ، انما يكون قائلا بامتناع وجود الطبيعي في الخارج ففرارا عن تعلق التكليف بغير المقدور ، يلتزم بتعلقه بالفرد.

ولا يكون لازم قوله دخول لوازم التشخص في المكلف به.

نعم لازم القول بتعلق التكليف بالفرد كون التخيير شرعيا دائما بخلاف تعلقه بالطبيعة فانه يستلزم كون التخيير عقليا.

فما ينقله المحقق النائيني (ره) (١) عن بعض الاساطين من تفسير تعلق الامر بالافراد بانكار التخيير العقلي بين الأفراد الطولية والعرضية ، وان التخيير بينها يكون شرعيا دائما بخلاف تعلقه بالطبيعة فانه يكون عقليا يكون نظره إلى ذلك.

ولا يرد عليه ما اورده المحقق النائيني (ره) (٢) من استبعاد احتياج تعلق الطلب بشيء إلى تقدير كلمة أو بمقدار أفراده العرضية والطولية ، مع عدم تناهيها غالبا ، مضافا إلى ان وجود التخيير العقلي في الجملة مما تسالم عليه الجميع ظاهرا.

فانه يندفع بانه انما يدعى ان متعلق التكليف في الواقع هو الأفراد ، والا ففي ظاهر الدليل أخذت الطبيعة في المتعلق مشيرا إلى الأفراد فالتخيير العقلي بلحاظ ظاهر الدليل في قبال ما صرح به في لسان الدليل فتدبر.

ثانيها : ان المتعلق هو الوجود ، أو الماهية ويكون النزاع حينئذ مبنيا على مسألة فلسفية أخرى من ان الأصل في التحقق هو الوجود أو الماهية ، فمن جعله الوجود قال بتعلق التكليف به ، وهو المراد بتعلقه بالفرد ، ومن جعله الماهية قال بتعلق التكليف بالماهية والطبيعة.

والمحقق الاصفهاني (ره) (٣) يقول ان ظني ان المراد بتعلق الامر بالطبيعة أو

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ٢١٠ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٥ (الفصل السابع).

(٢) نفس المصدر.

(٣) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٠ (الاوامر والنواهي متعلقة بالطبائع) بتصرف.

الفرد يكون احد هذين الوجهين ، وايضا يقول (١) ولعل ذهاب المشهور إلى تعلق الامر بالطبيعة لذهاب المشهور من الحكماء والمتكلمين إلى اصالة الماهية وتعلق الجعل بها.

ثالثها : ان متعلق الطلب هل هو صرف وجود الطبيعة العاري عن جميع الأمور التي لا تنفك عن الوجود خارجا كالأعراض الملازمة مع الوجود الجوهري التي يطلق عليها المشخصات بضرب من المسامحة والعناية ، والا فالتشخص انما يكون بالوجود ، ولذا قالوا الشيء ما لم يوجد لم يتشخص ، ام يكون المتعلق تلك المشخصات أيضا ، ولا يكون الامر واقفا على نفس الوجود السعي.

وبعبارة أخرى : يكون النزاع في ان الامر بالشيء ، هل يكون أمرا بما لا ينفك في الوجود عنه ، ام لا؟

وقد اختار المحققان الخراساني (٢) والنائيني (٣) ان محل النزاع ذلك.

وقد اورد على كون المتعلق هو الوجود ، سواء أكان هو وجود الطبيعة أو الفرد ، بأن الوجود الخارجي مسقط للامر وعلة لعدمه ، فلا يعقل ان يكون معروضا له ، فإن المعروض مقتض لعارضه ، لا انه علة لعدمه.

__________________

(١) نهاية الدراية ج ١ ص ٤٨٣.

(٢) كفاية الاصول ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٣) اضافة إلى ما ذكره في الفصل السابع (راجع الحاشية السابقة) فقد تعرض لذلك في مقدمة المبحث السادس : في الوجوب الكفائي ج ١ ص ١٨٧ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٠.

مع انه يلزم طلب الحاصل.

أضف إليه ان كثيرا ما يكون الطلب والتكليف موجودا ، ولا يوجد ذلك الشيء في الخارج فكيف يكون متعلقا به.

وبعبارة أخرى : يلزم بقاء العارض بلا معروض ، بل الامر والتكليف يكون موجودا قبل وجود متعلقه ، وهو معلول له فكيف يكون معروضه.

وأجاب عنه المحقق الخراساني في الكفاية (١) ، بأن معنى تعلقه بالوجود ، ان الطالب يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة وافاضته.

ويرد عليه ان المحقق في محله ، ان الايجاد والوجود متحدان ذاتا ، والتغاير بينهما اعتباري ، فإذا امتنع تعلقه بالوجود امتنع تعلقه بالايجاد.

وأجاب عنه بعض المحققين (٢) بأن المراد ان الطلب يتعلق بالطبيعة وقد جعل وجودها غاية لطلبها.

واورد عليه في الكفاية بأن الطبيعة بما هي هي ليست الا هي لا يعقل ان يتعلق بها الطلب لتوجد أو تترك ، وانه لا بد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود ، أو العدم معها.

ولكن يرد على ما في الكفاية ان كون الطبيعة من حيث هي خالية عن

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٣٩ (دفع وهم).

(٢) لم يعلم القائل به ولكن صاحب الكفاية اورده وأجاب عليه ص ١٣٩.

جميع الاوصاف ، كما لا ينافى حمل موجودة ، أو معدومة عليها بالحمل الشائع ، كذلك لا ينافى عروض وصف المطلوبية لها ، فلا منافاة بين كون الصلاة في حد ذاتها لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وبلحاظ تعلق الطلب بها مطلوبة.

وحق القول في الجواب عن ذلك وعن اصل الايراد ان متعلق الغرض وما فيه المصلحة بما انه هو الوجود ، لا الطبيعة من حيث هي ، فليست هي متعلقة الامر والشوق ، وحيث ان الامر والشوق لا يتعلقان ، بما هو الموجود من جميع الجهات كمالا يخفى فلا يتعلقان به ، فلا محالة يتعلقان بالطبيعة الملحوظة بما انها خارجية بمعنى انها تلاحظ فانية في الخارج ومرآةً وآلة له ، بحيث لا يلتفت إلى مغايرتها للخارج ، ولا يرى في هذا اللحاظ سوى الموجود الخارجي الذي هو منشأ انتزاعها.

وان شئت قلت ان الشوق كالعلم لا يتشخص الا بمتعلقه ، ولكن طبيعة الشوق من الطبائع التي لا تتعلق الا بما له جهة فقدان وجهة وجدان ، إذ لو كان موجودا من كل جهة كان طلبه تحصيلا للحاصل ، ولو كان مفقودا من كل جهة لم يكن طرف يتقوم به ، فلو كان متعلقه موجودا من حيث حضوره للنفس ، ومفقودا من حيث الوجود الخارجي ، يرتفع جميع المحاذير ، فإن العقل لقوته يلاحظ الموجود الخارجي فيشتاق إليه ، فالموجود بالفرض والتقدير ، مقوم للشوق ، لا بما هو هو ، بل بما هو آلة لملاحظة الموجود الخارجي ، والشوق يوجب خروجه من حد الفرض إلى الفعلية والتحقق ، وهذا هو المراد من تعلق الشوق ، والامر ، بوجود الطبيعة ، فلا يرد عليه شيء مما ذكر.

وحيث ان النزاع على الوجهين الاولين ، لا يترتب عليه ثمرة فالصفح عنه

اولى.

واما على الوجه الاخير : فإن كان مدعى تعلق الطلب بالافراد ، يدعى تعلق طلب مستقل بالخصوصيات غير ما تعلق بصرف وجود الطبيعة ، فهو بديهي البطلان ، وان كان يدعى تعلق طلب قهري ناش عن تعلقه بما فيه المصلحة.

فالقول : بتعلقه بالافراد يبتنى على احد المسلكين :

١ ـ القول بوجوب مقدمة الواجب ، وكون الخصوصيات الفردية من مقدمات وجود الطبيعة ، فانه حينئذ يصح تعلق الطلب القهري المقدمي بالافراد.

٢ ـ اتحاد المتلازمين في الوجود ، في الحكم ، فإن الطبيعة لا يمكن ان يوجد الا في ضمن الأفراد فالامر بالطبيعة امر بها على هذا.

وحيث عرفت في مبحث الضد ، ان الخصوصيات ليست من مقدمات وجود الطبيعة المطلوبة بل من ملازمات وجوده ، وايضا عرفت انه لا ملزم لاتحاد المتلازمين في الحكم ، بل يمكن ان يكون احدهما محكوما بحكم ، ولا يكون الآخر محكوما به ، كما في استدبار الجدي ، واستقبال القبلة في العراق مثلا ، فالامر بصرف وجود الطبيعة ، لا يستلزم الامر بالافراد ، ولا بالحصص المقارنة لها ، فمتعلق الامر هو الطبيعة على ما هو ظاهر الدليل ، دون الأفراد.

وهذا النزاع يترتب عليه ثمرة في مبحث اجتماع الامر والنهى ، كما سيمر عليك.

الفصل الثامن

هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب

إذا نسخ الوجوب ففيه أقوال : احدها : انه يثبت الجواز بالمعنى الأعم. ثانيها : انه يثبت الاستحباب. ثالثها : انه لا يثبت شيء منهما.

والكلام تارة فيما تقتضيه الادلة الاجتهادية.

واخرى في مقتضى الأصول العملية :

اما الأول : فالاظهر انه لا دليل على شيء من القولين الاولين ، لان ما يتوهم دلالته لا يخلو من ان يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ وشيء منهما لا يدل عليه ، أي لا يدل على الجواز ، ولا على الاستحباب ، اما دليل الناسخ فلانه انما يكون متضمنا لرفع الوجوب ، وعدم الوجوب يلائم مع كل واحد من الاحكام الاربعة الأخر ، ولازم اعم للجواز ودليل اللازم الأعم لا يثبت الملزوم الأخص ، واما دليل المنسوخ فانه دل على ثبوت الوجوب وقد نسخ ولم يدل على شيء آخر.

وقد استدل للأول بانه يثبت بدليل المنسوخ امران :

احدهما : جنس الوجوب وهو الجواز. والآخر فصله وهو المنع من الترك.

والقدر المتيقن مما يرفعه دليل الناسخ هو الفصل وبقاء الجنس متفصلا بفصل آخر حيث يكون ممكنا في تبدل الصور في الموجودات الجوهرية ، وفى

مقام الاثبات دلالة دليل المنسوخ على بقائه تامة ، والمتيقن من دليل الناسخ رفع غيره كما عرفت ، فلا مناص عن الالتزام به.

وفيه أولاً : انه لو تم هذا الوجه لزم الحكم ببقاء الرجحان الجامع بين الوجوب والاستحباب ، إذ هو الجنس القريب ، والجواز جنس بعيد فتأمل فانه يرده ما سيأتي :

وثانياً : ان ما ذكر من بقاء الجنس والمادة المشتركة بعد انعدام صورة الشيء كالكلب الذي يصير ملحا ، يتم في الجواهر التي لها اجزاء خارجية ، ولا يتم في الاعراض التي ليس لها الا اجزاء تحليلية عقلية ، فضلا عن مثل الاحكام التي هي بسائط من جميع الجهات ، وليس لها اجزاء خارجية ولا عقلية كما لا يخفى.

واستدل للقول الثاني وهو ثبوت الاستحباب :

بانه حيث يكون للوجوب مراتب عديدة ، وهي : الجواز ، والرجحان ، والالزام ، ورفعه كما يمكن ان يكون برفع الجواز ، يمكن ان يكون برفع الرجحان مع بقاء الجواز ، ورفع الإلزام مع بقاء الرجحان وفي مقام الاثبات لا دليل على رفع مرتبة خاصة منها فلا بدَّ من الأخذ بالمتيقن ، وهو رفع الإلزام خاصة ، وفيما عداه يؤخذ بدليل المنسوخ ويحكم باستحباب الفعل.

وان شئت قلت ان المقام نظير ما إذا ورد امر بشيء ورد دليل آخر صريح في عدم الوجوب ، فكما انه في ذلك المورد بناء الفقهاء على حمل الظاهر على النص ، والجمع بينهما بالحمل على الاستحباب ، فكذلك في المقام إذ لا فرق بينهما الا ان في ذلك المورد دليل نفى الوجوب ينفيه من الأول ، وفى المقام ينفيه بعد مضى زمان ومجرد ذلك لا يوجب الفرق في هذا الجمع العرفي كما لا

يخفى ، وعلى ذلك فيتعين البناء على الاستحباب.

وفيه : ان الفرق بين البابين واضح حيث انه في ذلك الباب انما يجمع بين الدليلين إذا لم يتعرض دليل نفى الوجوب أي الصريح في جواز الترك لحال الطلب ، ولا ينفيه ، بل انما يرخص في ترك المطلوب ، ولذلك يبنى على الاستحباب الذي لا حقيقة له سوى ذلك ، أي ينتزع من الامر بشيء مع الترخيص في تركه.

واما في المقام فالمفروض ان دليل الناسخ متعرض لحال دليل المنسوخ ، ويدل على ارتفاع ما تضمنه ذلك الدليل وهو الطلب ، فلا وجه لقياس احد البابين بالآخر.

واما القول بأن المتيقن منه رفع خصوص الإلزام.

فالجواب عنه ما تقدم في الجواب عن القول الأول ، مضافا إلى ان خصوصية الإلزام ليست مدلولة للامر كي يمكن القول بأن المتيقن من رفع الوجوب رفع تلك الخصوصية وبقاء الجامع كما حققناه في مبحث الانشاء والاخبار.

واما الثاني : وهو ما تقتضيه الأصول العملية.

فقد يقال ان الثابت بدليل المنسوخ الوجوب ، والرجحان لان الواجب راجح ، والمتيقن ارتفاعه هو الوجوب واما الرجحان فيشك في ارتفاعه فيستصحب بقائه.

وفيه : ان هذا الاستصحاب يكون من قبيل استصحاب الكلي القسم الثالث من أقسامه وهو ما لو شك في بقاء الكلي للشك في حدوث فرد مقارنا

لزوال ما حدث يقينا ، وقد حقق في محله عدم جريانه.

ودعوى : ان الوجوب والاستحباب مرتبتان من الوجود الواحد متفاوتتان بالشدة والضعف ، كالبياض الشديد والضعيف وفى مثل ذلك يجري استصحاب الكلي.

مندفعة بأن ذلك يتم فيما إذا لم يكن المتفاوتان بالرتبة متباينين بنظر العرف ، والوجوب والاستحباب كذلك فلا يجري الاستصحاب في شيء منهما ، فيتعين الرجوع إلى اصالة البراءة وهي تقتضي الجواز.

* * *

الفصل التاسع

الواجب التخييري

قد اختلف العلماء فيما إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء إلى عدة آراء ومذاهب :

الأول : ان الواجب هو واقع احدهما أو احد الأشياء على وجه الإبهام والترديد الذي لا تعين له في الواقع وهو الذي اختاره المحقق النائيني (ره) (١).

المذهب الثاني : ان الواجب هو الجامع الحقيقي بين الفعلين أو الأفعال ، ويكون التخيير قد صدر من الشارع بنحو الإرشاد إلى افراد الواجب التعييني الذي تعلق به غرضه وخفيت على المكلفين أفراده ، فيكون إنشاء التكليف به بصورة التخيير بين امور متباينة كي يستفاد منه حدود الواجب إجمالا اختاره المحقق الخراساني (ره) (٢) فيما إذا كان الغرض واحدا.

المذهب الثالث : كون جميع الإبدال واجبا والالتزام بأن للوجوب سنخا آخر غير التعييني يتعلق بما زاد عن الفعل الواحد ويكون امتثاله باتيان بعض الابدال أو جميعها وعصيانه بترك الجميع وهو الوجوب التخييري ، والظاهر ان

__________________

(١) فوائد الاصول للنائيني ج ١ ص ٢٣٥ (الوجه الرابع من تقسيمات الواجب).

(٢) كفاية الاصول ص ١٤٠ ـ ١٤١ (فصل : اذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الاشياء).

المحقق الخراساني اختار ذلك (١) فيما علم كون الغرض متعددا لا يكاد يحصل الغرض مع حصول الغرض في الآخر باتيانه.

وبعبارة أخرى : كون الاغراض متزاحمة لا يمكن جمعها في الوجود الخارجي ولاجله تقع المزاحمة بين الامور.

المذهب الرابع : كون كل واحد من الفعلين واجبا بالوجوب التعييني ولكن المتعلق في كل منهما مشروط بعدم الاتيان بالآخر ، ويتصور ذلك فيما كان الغرضان متزاحمين كما في الوجه السابق ، أو ان المولى ارفاقا وتسهيلا على المكلفين لم يوجب الجمع بين الغرضين.

المذهب الخامس : ان يكون الواجب هو الواحد من الفعلين أو الافعال معينا وهو الذي يعلم الله تعالى ان العبد يختاره.

المذهب السادس : كون الواجب هو الواحد المعين عند الله ويكون اتيان الآخر من باب اسقاط المباح للواجب.

المذهب السابع : ان الواجب هو الجامع الانتزاعي وهو مفهوم احدهما أو احدها الصادق على كل منهما أو من الافعال.

وقد استدل المحقق الخراساني (٢) لما ذهب إليه فيما كان الغرض واحدا ، بوضوح ان الواحد لا يصدر من اثنين بما هما اثنان ما لم يكن جامع بينهما

__________________

(١) راجع كفاية الاصول ص ١٤١.

(٢) نفس المصدر.

لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان ان الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين فيكون التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا.

واورد عليه المحقق النائيني (ره) (١) بأن متعلق التكليف لا بد وان يكون مما يفهمه العرف كي يمتثله فالجامع الملاكي المستكشف تحققه بالبرهان لا يكفي في جواز تعلق التكليف به.

ولكن يمكن الجواب عنه بأن ذلك يتم إذا لم ينبه الشارع على مصاديقه ، وتعلق الامر في ظاهر الدليل بافراد ذلك الجامع انما هو ليستفاد منه حدود ذلك الواجب اجمالا ، ولذا التزم بأن التخيير وان كان بحسب ظاهر الدليل شرعيا الا انه بحسب اللب والواقع عقلي.

وعلى الجملة إذا تم البرهان المذكور كان اللازم هو تعلق الإرادة بنفس النوع الجامع بين تلك الأفراد لانه المشتمل على الملاك وكانت الخصوصيات خارجة عن مركز الإرادة ولكن حيث ان العرف لا يفهم ذلك الجامع امر المولى بالافراد إرشادا إلى كونها أفرادا للنوع الذي تعلق به الإرادة.

والمهم في الايراد على المحقق الخراساني انه لا طريق لنا إلى استكشاف كون الملاك واحدا وظاهر الدليل خلافه لتعلق الامر على الفرض بالخصوصيات.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٤ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٧ (واما الوجه الثاني).

أضف إلى ذلك عدم تمامية البرهان المذكور في الواحد النوعي ألا ترى انه ربما يحصل الحرارة من الحركة وآخر تحصل من النار ، والأول من قسم العرض ، والثاني من الجواهر ، ولا يعقل تصور الجامع بين الجوهر والعرض ، وتمام الكلام في محله.

واما المذهب الثالث : فهو بظاهره بين الفساد ، إذ حقيقة الوجوب لا تجتمع مع جواز الترك ولو جوازا في الجملة وإلى بدل ، الا ان يرفع اليد عن الوجوب في تلك الحالة فلا يكون وجوب كل من الأفراد مطلقا ، بل يكون مشروطا بعدم الاتيان بالآخر ، فلا بد من إصلاحه بأن المراد انه بعد تزاحم الملاكين في الامر بأحد الشيئين ، أو عدم وجوب الجمع بينهما تقع المزاحمة بين الامرين فيكون كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر.

فيرجع هذا القول إلى القول الرابع.

ويرد عليه حينئذ ان ذلك مناف لظاهر أدلة الواجب التخييري حيث ان الظاهر منها كون الواجب واحدا لا متعددا.

مع ان الغرضين الغير الممكن استيفائهما ان كانا بحيث لا يمكن استيفائهما حتى مع تقارن الفعلين ، فلازمه عدم تحقق الامتثال لو أتى بهما معا ، إذ الغرضان لا يستوفيان على الفرض واحد هما دون الآخر لا يستوفى والا لزم الترجيح بلا مرجح ، فلا محالة لا يستوفى شيء منهما ، فلا يسقط التكليف ، وان كانا بحيث يمكن استيفائهما معا مع التقارن ، فلازمه كون كل منهما واجبا تعيينيا ولزوم ايجادهما معا إذا كان الجمع بينهما ممكنا للمكلف كما هو واضح.

أضف إليه ان فرض وجود غرضين كذلك لعله ملحق بأنياب الاغوال.

هذا كله مضافا إلى ان مثل المحقق الخراساني ليس له الالتزام بهذا القول ، لانه ممن يرى استحالة الترتب.

وصحة التكليفين المشروط كل منهما بعدم الاتيان بالآخر تبتنى على امكان الترتب فانه من قبيل الترتب من الطرفين الذي مر امكانه عندنا.

ثم انه لو فرضنا وجود غرضين كذلك لكان المتعين هو الالتزام بكون كل من الفعلين متعلقا لتكليف مشروط بعدم الاتيان بالآخر بناءً على امكان الترتب لتبعية الحكم للملاك والغرض.

ودعوى ان الملاكين على الفرض يتزاحمان في الملاكية ومعلوم ان الملاك المزاحم بملاك آخر لا يصلح ان يكون داعيا إلى التكليف ، فلا مناص من كون احد الملاكين على البدل ملاكا فعليا وقابلا للدعوة فتكون النتيجة خطابا واحدا باحد الشيئين لا خطابين مشروطين.

مندفعة بانه في المقام لا تزاحم بين الملاكين في الملاكية لعدم المانع من الجعلين سوى عدم امكان استيفائهما في الخارج.

واما المذهب الخامس : فيرد عليه مضافا إلى كونه خلاف ظاهر الادلة الدالة على الوجوب التخييري ، ومنافاته للاشتراك في التكليف ، انه في فرض عدم الاتيان بشيء من الفعلين ان لم يكن التكليف متحققا فلا عصيان ولا عقاب ، والالتزام بوجود تكليف الزامي لا عقاب على مخالفته ولا تحقق له في فرض عصيانه كما ترى ، وان كان متحققا فيسأل انه متعلق بأي شيء فلا مناص من الالتزام باحد المسالك الأخر.

واما المسلك السادس : ففساده غني عن البيان.

فيدور الامر بين القول الأول ، وهو كون الواجب واقع احدهما ، أو أحد الأشياء على وجه الإبهام والترديد ، والأخير ، وهو كون الواجب هو الجامع الانتزاعي.

اما الأول : فقد افاد المحقق النائيني (ره) (١) في توجيهه انه حيث يكون ظاهر العطف بكلمة أو كون الغرض المترتب على كل من الفعلين أو الافعال المأخوذة في متعلق التكليف في التخييري امرا واحدا مترتبا على واحد من الفعلين أو الافعال على البدل ، فلا بد وان يتعلق طلب المولى بأحدها على البدل أيضا لعدم الترجيح وليس هنا ما يتوهم كونه مانعا عن تعلق الطلب بشيئين أو الأشياء كذلك لا ثبوتا ولا إثباتا ، الا امتناع تعلق الإرادة بالمبهم ، والمردد ، وهو لا يصلح مانعا :

فإن عدم تعلق الإرادة التكوينية غير المنفكة عن المراد الموجود بها ، لا يعقل تعلقها بالمردد ، لأنها علة لإيجاد المراد ، ولا يعقل تعلقها الا بالشخص ، لمساوقة الوجود للتشخص والتعين ، الا ان ذلك من لوازم تكوينية الإرادة ، لا الإرادة نفسها ، ومعلوم ان كل قيد اعتبر في الإرادة التكوينية بما انها إرادة ، لا بد وان يكون قيدا للتشريعية أيضا.

واما ما يعتبر فيها بما انها تكوينية فلا يعتبر في التشريعية ، وكذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٣ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٦ (والذي يترجح في النظر ..).

العكس ، مثلا تنقسم الإرادة التشريعية إلى تعبدية ، وتوصلية باعتبار سقوطها باتيان المتعلق وان لم يقصد به التقرب ، وعدمه الا مع الاتيان بقصد التقرب ، وهذا من خواص الإرادة التشريعية التي تتعلق بفعل الغير ، ولا يعم الإرادة التكوينية بالضرورة ، وكذلك يمكن تعلق الإرادة التشريعية بالكلي الملغى عنه الخصوصيات الفردية ، والصنفية ، بل هي كذلك دائما ، وهذا بخلاف الإرادة التكوينية ، فإنها لأجل كونها علة لإيجاد المراد لا تتعلق الا بالشخص ، وعليه فالظاهر ان امتناع تعلق الإرادة التكوينية بالمردد وما له بدل من لوازمها خاصة ، ولا يعم الإرادة التشريعية.

ويرد على ما افاده امور :

١ ـ ان الإرادة تكوينية كانت أو تشريعية لا يعقل تعلقها بالامر المتشخص بالوجود ، فإن من مبادئ الإرادة تصور الفعل المراد ، وشخص الفعل الخارجي لا يعقل تصوره قبل تشخصه ، بل النفس تأخذ صور الأشياء من الخارج ثم توجد في الخارج على منوالها ، وتلك الصورة وان كانت من جهة كثرة القيود المأخوذة فيها لا مصداق فعلي لها ، سوى الشخص الموجود الخارجي ، الا انها ليست بشخصية ، بل كلية.

وعلى الجملة ان النفس انما ترغب في الشيء وتريده وتشتاق إليه حيث لا يكون موجودا في الخارج ، فإذا وجد امتنع تعلق الإرادة به ، فإذا ثبت ان متعلق الإرادة لا بد وان يكون غير موجود ، فيلزم كونه أمرا كليا ، وان انحصر مصداقه في الخارج في واحد.

٢ ـ ان الإرادة لا تتعلق بفعل من الافعال الا بلحاظ اشتماله على

المصلحة ، فلا محالة يكون موضوع تلك المصلحة شيئا متعينا في نفسه قابلا لان يتشخص في الخارج بوجوده ، ومفهوم احدهما المردد ، لا ذات له ولا وجود ، ولا تحقق ، وكل ما وجد لا محالة يكون معينا ، فيمتنع ان يكون موضوعا لتلك المصلحة.

٣ ـ ان الإرادة التشريعية انما تكون محركة نحو الفعل ، وموجبة للارادة التكوينية ، وللعضلات ، فإذا فرض المحقق النائيني وسلم ان الإرادة التكوينية لا تتعلق بالمردد ، فلا يعقل تعلق الإرادة التشريعية به ، وهل هو الا التكليف بغير المقدور.

فالاظهر هو القول الاخير ، وهو كون المتعلق الكلي الانتزاعي وهو عنوان احدهما ، ولا مانع من تعلق التكليف بالامور الانتزاعية إذا كان منشأ انتزاعها بيد المكلف ، ومن المعلوم ان هذا العنوان الانتزاعي قابل للانطباق على كل فرد من افراد الواجب التخييري

وان شئت توضيح ذلك ، فهو يظهر ببيان مقدمتين :

الأولى : انه يمكن تعلق صفة حقيقية كالعلم باحد الامرين أو الامور ، ويكون هذا العنوان معلوما ، مثلا إذا علمنا اجمالا بنجاسة احد الشيئين ، واحتملنا نجاسة الآخر ، وكانا في الواقع نجسين ، فحيث ان نسبة العلم الاجمالي إلى كل منهما على حد سواء فلا يكون المعلوم بالاجمال احدهما المعين ، وليست النجاستين الواقعيتين متعلقتين للعلم على الفرض ولا يكون المعلوم النجاسة الكلية الجامعة لفرض العلم بإحدى الخصوصيتين فلا محالة يكون المتعلق احدى النجاستين على نحو الاهمال والتردد ، فإذا امكن تعلق الصفات الحقيقية

بعنوان احدهما ، فتعلق الامور الاعتبارية به لا يحتاج إلى بيان.

الثانية : ان التكليف لا بد وان يتعلق بما فيه المصلحة ، بالتقريب المتقدم في تعلق الامر بالافراد لا بالطبيعة.

فعلى هذا في المقام بما ان كلا من الفعلين يفي بالغرض الباعث إلى الامر وجعل الوجوب ، فلا محالة يلاحظ المولى عنوان احد الفعلين ويأمر به فانيا في الخارج ولا ادّعي ان الواجب هو احدهما المردد الذي لا ذات له ولا وجود ، بل عنوان احدهما الذي هو كلى انتزاعي قابل للانطباق على كل واحد من الوجودين المنطبق على اول الوجودين.

فعلى هذا الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي ، اعتباري محض إذ لو كان متعلق التكليف هو الجامع الحقيقي يسمى ذلك بالتخيير العقلي ولو كان هو الجامع الانتزاعي يسمى بالتخيير الشرعي.

وبما ذكرنا ظهر انه لا تقاس الإرادة التشريعية بالارادة التكوينية إذ في الثانية الإرادة علة للوجود الخارجي وهو معين ولا يعقل ان يكون هو عنوان احدهما ، وفى الأولى الإرادة تكون علة للبعث الذي يمكن تعلقه بعنوان احدهما.

فتحصل مما ذكرناه ان في الواجب التخييري الواجب انما هو عنوان احدهما أو احدها فانيا في الخارج القابل للانطباق على كل واحد من الفعلين أو الافعال ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة.

التخيير بين الأقل والأكثر

بقي الكلام في انه ، هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر ، ام لا؟ وجهان :

محل الإشكال هو ما إذا كان نفس الفعل المتعلق للتكليف مرددا بين الأقل والأكثر وكان للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل ، كما لو امر تخييرا بين التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث ، أو امر تخييرا بين المشي فرسخا ، أو فرسخين ، أو رسم خط تدريجا مخيرا بين القصير والطويل.

واما إذا لم يكن الفعل المتعلق للتكليف مرددا بين الأقل والأكثر ، بل كان متعلقه كذلك كما إذا امر تخييرا بالإتيان بعصا طولها عشرة اذرع أو بعصا طولها خمسة اذرع ، أو امر بإكرام عشرة دفعة أو خمسة كذلك ، أو لم يكن للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل كما إذا امر بالمسح بالكف أو بإصبع واحد ، فلا اشكال أصلا بل الموردين من قبيل دوران الامر بين المتباينين.

وكيف كان فقد افاد المحقق الخراساني (ره) (١) انه يمكن تصوير ذلك فيما إذا كان الأقل بحده محصلا للغرض الذي يحصله الاتيان بالأكثر.

وبعبارة أخرى : يكون هناك غرض واحد وذلك الغرض يحصله الأكثر ، والأقل بشرط عدم الانضمام لا الأقل مطلقا بل حصة خاصة منه ولا يفرق في ذلك بين ان يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر كتسبيحة واحدة في

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٤٢.

ضمن ثلاث تسبيحات وان لا يكون له وجود مستقل كالخط القصير في ضمن الخط الطويل.

وبكلمة أخرى ان التخيير انما يكون بين الأقل بشرط لا ، والأقل بشرط شيء ، أي بين الأقل بحده والأكثر كذلك ، ووافقه المحقق النائيني (ره) (١).

وفيه أولاً : ان التقييد بشرط لا ، لا يدفع المحذور الذي اورد على التخيير بينهما ، وهو ان الأقل يوجد دائما قبل الأكثر فيسقط الواجب فلا يتصف الزائد بالواجب ابدا : إذ المحذور انما يرتفع إذا كان التباين خارجيا لا عقليا والتقييد به يوجب التباين العقلي لا الخارجي ، ـ وبعبارة أخرى ـ بعد الاتيان بالاقل وتحققه ان كان الاتيان بالزائد واجبا كان الاكثر واجبا تعينيا ، والا خرج عن كونه واجبا ، ولا محصل للقول بانه ان أتى به يتصف بالوجوب واما قبله فلا وجوب فتدبر ، نعم ، لو قيد الأقل بقيد آخر ، صح التخيير كما في القصر والإتمام لكنه خارج عن التخيير بين الأقل والأكثر بالبداهة.

وثانياً : ان الالتزام بتقييد الأقل بذلك لا ريب في كونه خلاف ظاهر الادلة ، ورجوعه ، إلى التخيير بين المتباينين لان الأقل بشرط لا يباين الأقل بشرط شيء والتصرف فيما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر بذلك ، وحمله على خلاف ظاهره ، ليس بأولى من رفع اليد عن ظهور الامر بالأكثر وحمله على الاستحباب بل الثاني اولى كما لا يخفى.

ثم انه قد انقدح مما قدمناه انه لا يمكن حل الإشكال بلحاظ فردية الاكثر

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٦ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٦٩ (تتميم).

كالأقل للطبيعة التي يترتب الغرض على صرف وجودها ، لانه ان قيل الأقل الذي يتحقق قبل الاكثر (وان كان الاكثر بعد تحققه فردا واحدا لانه إذا لم يتخلل العدم بين نحو وجود الطبيعة يكون الشخص الموجود باقيا على تشخصه لا انه تتبدل تشخصاته) بشرط لا من انضمام الزائد إليه فهو يرجع إلى الوجه المتقدم ، وان اخذ لا بشرط من الانضمام ، كان الغرض مترتبا عليه كذلك ، فهو بتحققه يحصل الغرض فيسقط الوجوب فلا امر بالزائد فهذا الوجه الذي أساسه لحاظ فردية الاكثر للطبيعة كالاقل لا يفيد ما لم يقيد الاقل بعدم انضمامه إلى ما يتقوم به الاكثر ، ومعه يرجع إلى الوجه الأول ، الذي أساسه لحاظ ترتب الغرض على الاقل بشرط لا وعلى الاكثر.

فالاظهر عدم معقولية التخيير بين الاقل والأكثر ولا يساعد الدليل على ذلك في مثل أذكار الركوع والسجود ، والتسبيحة في الاخيرتين التي توهم انه في تلك الموارد يكون التخيير بين الاقل والاكثر ، بل الظاهر منها ان الاقل واجب والزائد مطلوب استحبابا.

* * *

الفصل العاشر

في الواجب الكفائي

وللاصحاب في بيان حقيقته مسالك : الأول : كون الاختلاف بين الكفائي والعيني من ناحية الوجوب وهو الظاهر من الكفاية.

قال المحقق الخراساني (ره) (١) والتحقيق انه سنخ من الوجوب وله تعلق بكل واحد بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا وان سقط عنهم لو أتى به بعضهم وذلك لانه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد حصل بفعل واحد صادر عن الكل أو البعض انتهى.

ويرد عليه انه ليس للوجوب حقائق مختلفة بل سنخ الكفائي هو سنخ العيني.

الثاني : كون الاختلاف بينهما من ناحية المكلف وهو الذي اختاره جمع من المحققين. منهم المحقق النائيني (ره) (٢) ومحصله : انه كما ان الغرض من المأمور به :

تارة يترتب على صرف وجود الطبيعة.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٤٣ (فصل في الوجوب الكفائي).

(٢) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٧ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٠ (المبحث السادس في الواجب الكفائي).

واخرى على مطلق وجودها.

والأول منهما يستتبع حكما واحدا متعلقا بصرف وجود الطبيعة ويكفي في امتثاله الاتيان بفرد واحد.

وهذا بخلاف الثاني فإن المجعول في المورد الثاني أحكام عديدة حسب ما للطبيعة من الأفراد ، ولا يكتفى في مقام الامتثال بإيجاد فرد منها ، كذلك يختلف الغرض بالاضافة إلى المكلف :

إذ تارة يترتب على صدور الفعل من صرف وجود المكلف.

واخرى يترتب على صدوره من مطلق وجوده.

وعلى الثاني يكون الوجوب عينيا ، لا يسقط بفعل واحد منهم على الآخرين.

وعلى الأول يكون الوجوب متوجها إلى صرف وجود المكلف فبامتثال احد المكلفين يتحقق الفعل من صرف وجود الطبيعة ، فيسقط الغرض ، فلا يبقى مجال لامتثال الباقين.

ولكن يرد على ذلك ان تعلق التكليف بصرف وجود طبيعي الفعل والناقض للعدم ، المنطبق على اول الوجودات ، امر ممكن ، واما كون المكلف هو صرف وجوده فمما لا اتعقله ، إذ اول وجود المكلف هو سن المكلفين ، واول من قام بالفعل ، لا يكون منطبق عنوان صرف وجود المكلف ، إذ المكلف لا بدَّ وان يكون مفروض الثبوت قبل الفعل ، ولا يتعلق التكليف بتحصيله.

ودعوى كون المكلف هو الطبيعي الملحوظ بحيث لا يكون دخل لشيء من

الخصوصيات فيه وهو المعبر عنه باللابشرط القسمي.

مندفعة بأن الطبيعي مع قطع النظر عن وجوده غير مكلف ، وبلحاظه بما انه موجود بوجودات متعددة ، يقع الكلام في انه أي وجود من تلكم الوجودات يكون مكلفا.

وقد يقال في بيان حقيقة الوجوب الكفائي انه عبارة عن الوجوب المتعلق بكلى المكلف بما هو ، بدعوى ان الايجاب كالملكية من الامور الاعتبارية ، فكما ان الملكية تقوم بالكلى ، كما في تعلق ملكية الزكاة والخمس بطبيعي الفقير ، والسيد ، كذلك يتعلق الايجاب بالكلي ، فمن قام بالفعل يتعين فيه الكلي الذي وجب عليه الفعل.

وفيه : ان الايجاب بنفسه وان كان امرا اعتباريا قابلا لان يتعلق بالكلي ، ولكن بما انه جعل للداعي ومحرك لارادة المكلف نحو الفعل ، فلا محالة لا يعقل تعلقه بالكلي بما هو كلى بل بالمكلف بالحمل الشائع.

الثالث : ان الاختلاف بينهما من ناحية المكلف به ، وهو الذي اختاره المشهور ، وهو الحق : بيانه ان الوجوب الكفائي متوجه إلى جميع آحاد المكلفين ، ومتعلق بالفعل ، غاية الامر مع خصوصية يمتاز بها عن ما هو متعلق الوجوب التعييني ، وهي اشتراطه بعدم الفعل من الآخرين فهناك خطابات عديدة بحسب ما للمكلفين من الأفراد ، وكل واحد منها مشروط بعدم اتيان الآخرين بالفعل.

واورد عليه بايرادات :

الأول : ما افاده المحقق النائيني (ره) (١) وهو ان الغرض حيث انه واحد ومترتب على صرف الوجود فيلزم ان يكون الخطاب واحدا لانه يتبعه ويستحيل تخلفه عنه ، والا لكان بلا داع وغرض وهو محال.

وفيه : ان مثل هذا التعدد الذي لا يأمر المولى باتيان الجميع ولا يريد الا صدور فعل واحد من أحدهم ، لا ينافي مع وحدة الغرض.

وبعبارة أخرى : ان الغرض وان كان واحدا الا انه لما كان يحصل بفعل كل واحد منهم ، فليس للمولى الا الامر بالجميع بنحو يكون مطلوبه صدور الفعل من واحد منهم لا من الجميع وليس هو الا بهذا النحو.

الثاني : ما افاده الأستاذ الأعظم (٢) ، وهو ان الترك المفروض كونه شرطا ، ان كان هو مطلق الترك ولو كان ذلك في برهة من الزمان قابلة للاتيان به فيها ، فاللازم عند تحقق ذلك انه يجب على كل مكلف ان يأتي به ولو مع فرض اتيان غيره به ، وان كان الشرط هو الترك في جميع الازمنة القابلة لتحقق الواجب فيها ، فاللازم عند صدور الفعل من الجميع في عرض واحد ان لا يتحقق الامتثال منهم اصلا إذ المفروض عدم تحقق الشرط على هذا التقدير.

وفيه : ان هناك شقا ثالثا ، وهو ان يكون الشرط عدم اتيان غيره بالفعل قبل شروعه في ذلك ، ولا يرد على هذا شيء من المحذورين كما لا يخفى.

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٨ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٢ (المبحث السادس) عند قوله إلا أن الغرض حيث أنه واحد .. الخ.

(٢) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٨ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧١ ـ ٢٧٢.

الثالث : انه مع عدم اتيان الجميع يلزم فعلية جميع الخطابات مع عدم امكان امتثال الجميع.

وفيه : انه حيث يكون كل خطاب مشروطا بعدم اتيان الآخرين فلا يكون نتيجة فعلية جميع الخطابات طلب الجمع كما حقق في الترتب ، مع ان المحذور لو كان في المقام فليس هو عدم امكان الامتثال إذ كل فرد قادر على الاتيان ، بل المحذور ما افاده المحقق النائيني (ره) الذي عرفت ما فيه.

ثم ان في المقام وجهين آخرين لوضوح فسادهما لا نطيل الكلام بذكرهما مع نقدهما مفصلا ونشير اليهما :

احدهما : ان المكلف واحد معين عند الله ولكنه يسقط عنه بفعل غيره.

ويرده أولاً انه لو كان كذلك لما كان الثواب على فعل غيره.

وثانياً ان سقوط الواجب بفعل المباح يحتاج إلى دليل ولا مجال لتوهم دلالة ما دلَّ على انه يسقط باتيان بعض افراد المكلفين لانه انما يكون من ناحية شمول التكليف له ولذا يثاب عليه ، وثالثا انه غير معقول لان المفروض حينئذ انه كل واحد من المكلفين يشك في كون التكليف متوجها إليه فيجرى البراءة فالمولى لا يصل إلى غرضه بمثل هذا التكليف.

ثانيهما : ان المكلف مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع.

ويرده ان لازمه عدم الامتثال بفعل البعض ، مع انه لو تم لاقتضى كون التكليف متوجها إلى صرف وجود مجموع المكلفين لان بعض الواجبات الكفائية بل كلها غير قابل لان يصدر عن المجموع.

فالمتحصل مما ذكرناه ان الواجب الكفائي ، عبارة عن الفعل الواجب على عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي ، فيكون واجبا على كل واحد منهم على نحو السريان ، غاية الامر وجوبه على كل فرد مشروط بعدم اتيان الآخرين به :

ثم ان المحقق النائيني (١) ذكر في المقام فرعا وهو انه إذا كان شخصان ، متيممين ، ووجدا ماء يكفي لوضوء احدهما ، فهل يبطل تيمم كل واحد منهما ، ام لا يبطل شيء منهما ، أو يبطل واحد منهما على البدل ، لكل وجه ، الا انه قوّى الوجه الأول ، وأفاد ان في المقام امورا ثلاثة :

١ ـ الامر بالوضوء.

٢ ـ الامر بالحيازة ، أي حيازة الماء

٣ ـ القدرة على الحيازة.

قال لا اشكال في ان الامر بالوضوء مترتب على الحيازة الخارجية ، وكون الماء في تصرفه.

واما الامر بالحيازة فهو مشروط بعدم سبق الآخر إلى حيازته.

واما القدرة على الحيازة ، فهي بالقياس إلى كل منهما فعلية ، لتمكن كل منهما لحيازة الماء ، وعدم كفاية الماء الا لوضوء واحد ، انما يكون منشئا لتحقق

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٨ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٣ ، فإذا فرضنا شخصين فاقدين الماء .. الخ.

التزاحم في مقام فعلية الحيازة خارجا.

واما فعلية قدرة كل منهما على الحيازة فلا تزاحم فيها اصلا ، وبما ان بطلان التيمم ، لم يترتب في لسان الدليل ، على الامر بالوضوء ، بل هو مترتب على وجدان الماء المتحقق في ظرف القدرة على الحيازة ، فيبطل التيممان معا ، ومن الضروري ان تزاحم الخطابين في ناحية الوضوء لا يستلزم التزاحم في ناحية الحكم ببطلان التيممين.

ويرد على ما افاده امور :

الأول : ما افاده من ان الامر بالوضوء مترتب على الحيازة الخارجية.

غير تام ، بل هو مترتب على الوجدان المتحقق بالقدرة على الحيازة.

الثاني : ما ذكره من انه لا تزاحم بين قدرة كل منهما على الحيازة مع قدرة الآخر عليها ، وانما التزاحم في مقام فعلية الحيازة منهما خارجا.

مردود بأن المفروض ان المورد غير قابل لحيازتين ، بل هو صالح لاحداهما ومعه كيف يكون كل منهما قادرا عليها بلا تزاحم بين القدرتين.

الثالث : ما افاده من ان تزاحم الخطابين في ناحية الوضوء لا يستلزم التزاحم في ناحية الحكم ببطلان التيممين.

فانه يرد عليه ان بطلان التيمم وان لم يترتب على الامر بالوضوء الا انهما معا مترتبان على وجدان الماء وعليه فالتزاحم في ناحية الوضوء يلازم التزاحم في ناحية الحكم ببطلان التيمم.

والحق ان يقال انه بناءً على المختار في الواجب الكفائي من توجه

التكليف إلى جميع آحاد المكلفين يكون الامر بالوضوء متوجها إلى كل منهما مقيدا بعدم سبق الآخر ، فلا محالة يبطل تيممهما.

واما ما افاده الأستاذ (١) من ان ذلك في فرض عدم سبق احدهما إلى الحيازة ، فإن كان نظره الشريف إلى صورة سبق احدهما إليها قبل توجه الآخر إليه ، فهو متين ولكنه خارج عن الفرض ، وان كان نظره إلى صورة توجه الخطاب اليهما ثم استباق احدهما إليه ، فلا يتم إذ الآن قبل الاستباق يبطل التيممان كما مر.

* * *

__________________

(١) في حاشيته على أجود التقريرات ج ١ ص ١٨٩ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٣ ، بتصرف.

الفصل الحادي عشر

الواجب الموسع والمضيق

ينقسم الواجب باعتبار تحديد الامر به بزمان مخصوص ، وعدم تحديده به ، إلى موقت ، وغير موقت ، وينقسم الموقت باعتبار اوسعية الوقت المحدد له على ما يفي من الزمان باتيان الواجب فيه ، وكونه بمقدار زمان الواجب ، إلى مضيق ، وموسع ، كما ان غير الموقت ينقسم باعتبار تقيد الامر به باتيانه فورا ، وعلى فرض العصيان ، ففورا ، أو إلى الأبد ، وعدم تقيده به إلى فوري باقسامه ، وغير فوري ، ومحل الكلام في هذا الفصل ، هو الموسع والمضيق.

وربما يستشكل في وجود الواجب الموسع تارة ، وفى الواجب المضيق أخرى.

اما في الأول : فبانه يستلزم جواز ترك الواجب في اول الوقت والوجوب غير ملائم لجواز الترك.

والجواب عنه : ان المأمور به هو طبيعي الفعل الواقع في طبيعي الوقت المحدود بحدين ، وقد نظره بعض مشايخنا (١) بالحركة التوسطية وهو الكون بين المبدأ والمنتهى قال : فكما ان الكون المتوسط بالنسبة إلى الأكوان المتعاقبة الموافية

__________________

(١) والظاهر أنه المحقق الاصفهاني في نهاية الدراية ج ١ ص ٥٠٢ (الواجب الموسع).

المحدود كالطبيعي بالنسبة إلى أفراده كذلك الفعل المتقيد بالوقت المحدود بالأول والآخر بالاضافة إلى كل فرد من الفعل المتقيد بقطعة من الزمان المحدود بحدين ، انتهى.

فالواجب لا يجوز تركه ، وما يجوز تركه ليس بواجب.

وبالجملة الوجوب متعلق بالجامع بين الأفراد الطولية فيكون المكلف مخيرا بينها ، كما في التخيير بين الأفراد العرضية.

واما في الثاني : فبان الانبعاث لا بد وان يتأخر عن البعث ولو آناً ما ، فلا بد من فرض زمان يسع البعث والانبعاث معا ، ولازم ذلك اوسعية زمان الوجوب عن زمان الواجب وعدم وجود المضيق.

والجواب عنه : ان تأخر الانبعاث عن البعث رتبي لا زماني وعليه فللعالم بالبعث ان ينبعث في اول زمان تحققه ، ولا يلزم التأخير عنه ، وهذا كله واضح لا يهمنا البحث فيه.

تبعية القضاء للأداء

انما المهم هو البحث في انه هل يجب الاتيان بالموقت في خارج وقته إذا فات في الوقت اختيارا أو لعذر ، أو انه يسقط بخروج الوقت ، ولو وجب فهو بأمر جديد.

والكلام فيه يقع في مقامين :

الأول : في مقام الثبوت.

الثاني : في مقام الاثبات.

اما المقام الأول : فالصور المعقولة أربع :

احداها : ان يكون هناك مصلحتان ، احداهما : مترتبة على الفعل ، والثانية : مترتبة على ايقاعه في الوقت ، وبتبع ذلك يكون هناك امران ، احدهما : متعلق بالفعل ، والآخر : بايقاعه في الوقت.

ثانيتها : ان تكون المصلحة المترتبة على الفعل في الوقت واحدة ، والامر المتعلق به واحدا ولكن بعد مضى الوقت توجد مصلحة أخرى في الفعل موجبة للامر به في خارج الوقت.

ثالثتها : عين هذه الصورة مع كون المصلحة المترتبة عليه في خارج الوقت مرتبة ضعيفة من المترتبة على الفعل في الوقت.

رابعتها : كون المصلحة واحدة ، مع عدم المصلحة في الفعل في خارج الوقت اصلا.

وفى الصورة الأولى يكون القضاء واجبا بالامر الأول ، وفى الصورة الثانية والثالثة واجبا بامر جديد ، وفى الصورة الرابعة لا يجب.

واما المقام الثاني : فالكلام فيه يقع في موردين : تارة فيما يقتضيه الأصول العملية ، واخرى في مقتضى الادلة الاجتهادية.

اما الأصول ، فإن علم ان الواجب بنحو وحدة المطلوب ، لا تعدده ، ولكن شك في انه هل يجب القضاء لأجل حدوث مصلحة أخرى ام لا؟

لا سبيل إلى جريان الاستصحاب ، لانه ان اريد استصحاب شخص

الوجوب الثابت له في الوقت فهو متيقن الارتفاع بتبع ارتفاع المصلحة.

وان اريد استصحاب بقاء الكلي فهو من قبيل القسم الثالث من اقسام الكلي والمختار عدم جريان الاستصحاب فيه كما حقق في محله.

واما إذا شك في انه بنحو تعدد المطلوب ، أو وحدته.

فقد يقال انه يجري الاستصحاب فيه لانه من قبيل القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلي ، إذ لو كان بنحو تعدد المطلوب يكون الوجوب المتعلق بالفعل باقيا بعد الوقت ولو كان بنحو وحدة المطلوب كان امده آخر الوقت فيكون الحادث مرددا بين الطويل والقصير وعليه فيجرى الاستصحاب فيه.

وبذلك يظهر ان ما افاده المحقق الخراساني (١) :

ـ من انه لا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت وقضية اصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت ـ غير تام.

ولكن بما ان الحق عدم جريان الاستصحاب في الاحكام مطلقا لكونه محكوما لاستصحاب عدم الجعل فلا يجري هذا الأصل فيتعين الرجوع في جميع الموارد إلى اصالة البراءة.

واما المورد الثالث : وهو ما تقتضيه الادلة الاجتهادية ، فإن ورد امر بالمقيد ، فلا ظهور له ولا اطلاق في ثبوت الوجوب بعد الوقت ، بل ظاهره عدم بقائه ،

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٤٤ عند قوله : «وبالجملة التقيد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ..» الخ.

وان كان التوقيت بدليل منفصل.

فإن كان لدليل التوقيت اطلاق فلا محالة يقيد اطلاق الدليل الأول وتكون النتيجة ثبوت الوجوب للموقت مطلقا ، ولازم ذلك ارتفاعه بمضي الوقت.

وان لم يكن له اطلاق ، وكان لدليل الواجب اطلاق فقد قال المحقق الخراساني (١) ان قضية اطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا اصله.

وليس مراده ان المتيقن من القيد الثابت بدليل منفصل مجمل ، تقييد مرتبة من الطلب وهي مرتبة تأكده ، لا تقييد الطلب بجميع مراتبه ، وفى المراتب الأخر يؤخذ باطلاق دليل الواجب كما قيل.

فانه يرد عليه ان مدلول دليل الواجب ثبوت وجوب واحد بسيط وليس هو ذا مراتب ، وقد صرح بذلك المحقق الخراساني (ره) (٢) في مسألة ما إذا نسخ الوجوب وشك في الاستحباب وغيره فراجع.

بل مراده ان المتيقن من دليل التوقيت هو تقييد الإطلاق في صورة التمكن من اتيان العمل في الوقت ، اما العاجز فاطلاق الدليل بالنسبة إليه بلا مقيد فيؤخذ به ويثبت وجوب القضاء في حقه بالاطلاق ثم يلحق به المتمكن العاصي ، بضميمة عدم الفصل ، وهو حسن.

__________________

(١) كفاية الاصول ص ١٤٤.

(٢) راجع كفاية الاصول ص ١٣٩ ـ ١٤٠ (فصل : إذا نسخ الوجوب).

وربما يفصل بين كون القرينة على التقييد متصلة وبين ما إذا كانت منفصلة ، فعلى الأول ان كانت القرينة بصورة القضية الشرطية ، فهي تدل على عدم وجوب إتيانه خارج الوقت بناءً على ثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، وكذلك على القول بثبوت المفهوم للوصف وكانت القضية وصفية.

واما على ما هو الحق من عدم ثبوت المفهوم لها فهي لا تدل على عدم الوجوب ، ولا تدل على الوجوب أيضا ، إذ لا ينعقد للكلام ظهور الا في الوجوب في الوقت.

واما إذا كانت القرينة منفصلة فحيث انها لا توجب انقلاب ظهور الدليل الأول في الإطلاق إلى التقييد ، بل غاية ما هناك دلالته على انه مطلوب في الوقت أيضا ، فاطلاق الدليل الأول يدل على وجوبه في خارج الوقت أيضا.

وفيه : ان القرينة المنفصلة وان لم توجب انقلاب ظهور الدليل الأول في الإطلاق وليس من مقدمات الحكمة عدم البيان ولو منفصلا كما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) (١) الا انها مانعة عن حجية ظهوره في الإطلاق وتوجب تقييد مراد المولى.

وعليه فحيث ان ظاهر الامر بقيد في المأمور به كونه إرشادا إلى جزئيته أو شرطيته كما في بقية القيود غير الوقت فلا محالة تكون النتيجة ان الواجب هو الحصة الخاصة من الطبيعة وهي الواقعة في الوقت.

__________________

(١) وهو ظاهر كلامه في مطارح الانظار ص ٢١٨.

وهذا هو مراد المحقق النائيني (ره) (١) حيث قال في جواب هذا الوجه انه : ان ادعى ان ذلك هو مقتضى القاعدة في تمام التقييدات فهو سد لباب حمل المطلق على المقيد وان ادعى اختصاص ذلك بخصوص الزمان دون الزماني فهي دعوى بلا بينة ولا برهان مع وحدة الملاك في كلا المقامين وهو ظهور القيد في الركنية وتضييق دائرة المطلوب الأول.

ثم انه بقي الكلام في امور لا بد من التعرض لها.

الأول : ان ما افاده المحقق الخراساني واوضحناه لا يختص بالتقييد بالوقت ، بل يعم جميع القيود المأخوذة في الواجب بدليل منفصل ، فانه ان كان لدليل القيد اطلاق كما في الطهارة بالاضافة إلى الصلاة كان مقتضى القاعدة اختصاص وجوب الصلاة بصورة التمكن من الطهارة ، وان لم يكن له اطلاق كما في الطمأنينة في حال القيام فإن مدركه الإجماع ، والمتيقن منه صورة التمكن ففي فرض عدم التمكن لا بد من اتيان الصلاة قائما مع فقد هذا القيد.

الثاني : انه في موارد ثبوت وجوب القضاء كما في الصلوات اليومية والصوم والنذر المعين ، وقع الكلام في انه بعد قيام الدليل ، هل يكون التقييد بالوقت من قبيل تعدد المطلوب ، وكونه واجبا في واجب ، أو يكون من باب التقييد ولكن قيديته منه مقصورة بحال التمكن ، أو انه لا يكون هذا ولا ذاك بل يكون القضاء واجبا آخر مغايرا للواجب في الوقت ، ولهذا البحث اثران :

__________________

(١) أجود التقريرات ج ١ ص ١٩١ وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٢٧٧ عند قوله واما في المنفصلة ..

احدهما : يظهر في التقييد بسائر القيود غير الزمان ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، فانه لو كان من قبيل الأول كان اللازم هو حصول الامتثال بالنسبة إلى اصل الواجب لو ترك القيد عمدا أو بغير اختيار ، ولو كان من قبيل الثاني كان اللازم هو عدم حصول الامتثال لو تركه عمدا ، ولو كان من قبيل الثالث كان اللازم هو عدم حصول الامتثال لو تركه مطلقا.

ثانيهما : ما لو مضى الوقت وشك في اتيان المأمور به ولم يكن موردا لقاعدة الشك بعد الوقت كما في الصوم ، أو شك في صحة المأتي به وفساده مع محفوظية صورة العمل والشك في مطابقة العمل للواقع ، وعدم مطابقته له ، كما لو صلى إلى جهة معينة وشك في ان القبلة هي تلك الجهة أو غيرها ، أو توضأ بمائع شك في كونه ماء فانه لا يجري قاعدة الفراغ في هذا المورد فانه ان كان من قبيل تعدد المطلوب لا بد من البناء على وجوب الاتيان لاستصحاب بقاء الامر.

وبعبارة أخرى : ان التكليف المتعلق بها معلوم والشك انما هو في الامتثال وسقوط التكليف وفراغ الذمة عنه ، ومعلوم ان المعتمد حينئذ قاعدة الاشتغال ، وان كان القضاء بامر جديد لا محالة يكون ذلك التكليف المعلوم ساقطا قطعا بالعصيان أو الامتثال والشك انما هو في حدوث تكليف آخر فالمرجع هو اصالة البراءة.

ثم ان الظاهر كون القضاء بأمر جديد ، ولو لم يدل عنوان القضاء والفوت على ان الواجب في خارج الوقت مغاير لما وجب أولاً وان ما وجب أولاً قد فات وان هذا الواجب هو قضاء ذلك ، لما دل على بقاء الامر وكون التقييد

بنحو تعدد المطلوب وعليه ففي موارد الشك المومئ إليها يرجع إلى اصالة البراءة.

الثالث : انه بناءً على ان القضاء بامر جديد لو خرج الوقت وشك المكلف في الاتيان بالمأمور به في وقته فهل يمكن اثبات وجوب الاتيان به باستصحاب عدم الاتيان به ام لا؟ وجهان مبنيان :

على ان الفوت الذي علق عليه وجوب القضاء ، هل هو امر وجودي وهو خلو الوقت عن الواجب.

أو هو امر عدمي وعبارة عن عدم الاتيان به في الوقت.

فعلى الأول لا يجري الاستصحاب الا على القول بحجيته في مثبتاته.

وعلى الثاني يجري كما هو واضح.

والاظهر هو ان الفوت امر وجودي كما يظهر بالمراجعة إلى المتفاهم العرفي ، مثلا ، المتفاهم العرفي من قولنا فات شيء من زيد هو ذهاب شيء من كيسه لا الامر العدمي ، وعليه فلا يمكن اثبات وجوب القضاء بالاستصحاب.

وعلى فرض التنزل وتسليم الشك في ان الفوت امر وجودي ، ملازم لعدم الفعل في الوقت أو امر عدمي ، لا يجري الاستصحاب ، لانه لا يحرز ان رفع اليد عن المتيقن السابق من نقض اليقين بالشك ومعه يكون التمسك باطلاق دليله ، تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ، هذا كله ما يقتضيه القاعدة.

ولكن المستفاد من الاخبار الخاصة في الصلاة كون الموضوع هو ترك الصلاة.

لاحظ صحيح زرارة وفضيل عن الإمام الباقر في حديث متى استيقنت أو شككت في وقتها انك لم تصلها ، أو في وقت فوتها انك لم تصلها صليتها ، (فإن) وان شككت بعد ما خرج وقت الفوت (فقد) وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن فإن استيقنت فعليك ان تصليها في أي حالة كنت (١)

فإن متعلق اليقين في قوله وان استيقنت بقرينة ما تقدم ، ترك الصلاة ، وعدم الاتيان بها كان ذلك لعذر شرعي ام عقلي أو لا عن عذر فمقتضى الصحيح ان الموضوع هو الترك وعليه فلا مانع من اثبات وجوب القضاء بالاستصحاب.

* * *

__________________

(١) ما كان بين قوسين فهو في نسخة الكافي ج ٣ باب من نام عن الصلاة أو سها عنها ح ١٠ / الوسائل ج ٤ باب ٦٠ من ابواب المواقيت ح ٥١٦٨ ، وفي الطبعة القديمة ح ١.

الفصل الثاني عشر

الامر بالامر بفعل امر به

إذا امر بالامر بشيء كما في امر الشارع بأمر الأولياء الصبيان بالصلاة ، فهل هو امر بذلك الفعل مطلقا ، أو مع توسيط الامر الثاني.

أم لا يكون أمرا به ، وجوه :

وتنقيح القول في المقام انه بحسب الواقع ومقام الثبوت يتصور على وجوه :

الأول : ان يكون الغرض مترتبا على نفس الامر الثاني بدون ان يكون غرض للمولى في الفعل.

الثاني : ان يكون الغرض مترتبا على الفعل من دون دخل لتوسيط الامر الثاني فيه.

الثالث : ان يكون الغرض مترتبا على الفعل في صورة توسيط الامر.

فعلى الأول ، لا يكون الامر بالامر بشيء أمرا بذلك الشيء.

وعلى الأخيرين يكون أمرا به ، غاية الامر على الأول منهما لا موضوعية للامر ، وعلى الثاني منهما له موضوعية في ذلك هذا بحسب مقام الثبوت.

اما ما يقتضيه ظواهر الادلة ـ فهو الوجه الاخير ـ وذلك : لانه يدفع الوجه الثاني ، وهو كون الامر الذي تعلق به الامر مأخوذا على نحو الطريقية

المحضة بحيث لا دخل له في المصلحة والفرض أصلا.

ظهور الامر بالامر : إذ لو كان كذلك كان يأمر بالتبليغ لا بالامر ، فمقتضى مدلوله المطابقي نفي هذا الوجه.

فما استظهره المحقق النائيني (ره) (١) من الادلة ، من أخذه طريقيا ، غير صحيح.

وما أيد به الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) (٢) ذلك ، من ان هذا العرف ببابك فراجع ألا ترى انه لو امر المولى احد عبيده ان يأمر الآخر باشتراء اللحم لا يشك احد في كونه امرا باشتراء اللحم ويجب على المأمور الثاني الاشتراء وان لم يتوسط الامر.

يرد عليه ، انه في امثال هذا المورد انما يحرز من الخارج كون الغرض مترتبا على الفعل فقط ، فهي غير مربوطة بالمقام.

ويدفع الوجه الأول : ان الظاهر من الامر الذي امر به كما في سائر موارد استعماله إرادة البعث الجدي منه لا الامر الصوري فقط ، وعلى ذلك فمقتضى الظهور تعين الوجه الثاني.

فالظاهر من الادلة كون الامر بالامر بشيء امرا به مشروطا بما إذا امر المأمور الأول.

__________________

(١) اجود التقريرات ج ١ ص ٢٠٩ ، وفي الطبعة الجديدة ج ١ ص ٣٠٣.

(٢) محاضرات في الاصول ج ٤ ص ٧٥.

اللهم الا ان يثبت عدم ترتب غرض على توسيط الامر الأول ، فحينئذ يكون امرا به مطلقا هذا ما يقتضيه الادلة الاجتهادية.

ولو لم يظهر من الادلة شيء من هذه الاحتمالات فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي وهو يقتضي الوجه الاخير ، لو دار الامر بين الوجهين الأخيرين.

واما مع احتمال الوجه الأول ، فهو مقتضى الأصل ، كل ذلك مما يقتضيه اصالة البراءة.

ويظهر ثمرة هذا البحث في شرعية عبادات الصبي وعدمها ، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الثامن من فقه الصادق في كتاب الحج (١).

* * *

__________________

(١) تعرض سماحته لعبادات الصبي في غير مورد من فقه الصادق منها ج ٢ ص ٤٥١ ، وج ٤ ص ٧٦ ، وج ٩ من الطبعة الثالثة من كتاب الحج ص ٣٦٢ (حقيقة النيابة وشروطها).

الفصل الثالث عشر

الامر بشيء بعد الامر به

إذا ورد امر بشيء بعد الامر به قبل امتثاله ، فهل يوجب تكرار ذلك الشيء ، أو تأكيد الامر الأول ، وجهان :

الأظهر هو حمل الامر على التأكيد وذلك لوجهين :

الأول : ان ظاهر المادة هو ذلك إذ الطبيعة الواحدة لا يتعلق بها الامر تأسيسا مرتين ، ولا يعارض ذلك ظاهر الهيئة ، فإن ما قيل من ظهورها في التأسيس في نفسه ـ ممنوع ـ بناءً على المختار في الإنشاء من انه إبراز للامر النفساني لا إيجاد لشيء كما تقدم.

نعم ، إرادة التأكيد خلاف مقتضى البلاغة إذا لم يكن لنكتة مقتضية لذلك.

الثاني : ان حمل الامر على التأسيس يستلزم تقييد اطلاق المادة الواقعة في حيز الخطاب الأول بفرد وتقييد المادة الواقعة في حيز الخطاب الثاني بفرد آخر ، إذ كما ان الطلب مرتين لا يتعلق بصرف وجود الطبيعة كذلك لا يتعلق احدهما بصرف الوجود والآخر بالفرد بل لا بد من تقييد كلا المتعلقين ، وعليه فلو سلم كون حمل الامر على التأكيد خلاف الظاهر فليس بحد يصلح للمقاومة مع هذين الظهورين.

تم بعونه تعالى

الجزء الثاني

ويليه

الجزء الثالث

وأوله

المقصد الثاني

في النواهي

فهرس الموضوعات

الفصل الثالث.................................................................. ٧

في مبحث الاجزاء.............................................................. ٧

بيان المراد من الاقتضاء ، والاجزاء................................................ ٩

الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار.................................... ١٢

اجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره................................................ ١٤

عدم جواز تبديل الامتثال بامتثال اخر........................................... ١٥

اجزاء الاتيان بالمأمور بالأمر الاضطراري......................................... ٢٦

ارتفاع العذر في الوقت........................................................ ٣٣

بيان ما تقتضيه الادلة في مقام الاثبات.......................................... ٣٧

جواز البدار وعدمه........................................................... ٤١

اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري............................................... ٤٥

ما تقتضيه الاصول العملية.................................................... ٥٦

ما تقتضيه الادلة الثانوية...................................................... ٦٣

الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطا.......................................... ٦٦

العدول من مجتهد إلى آخر.................................................... ٦٨

في اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخصين........................................ ٧٠

الفصل الرابع................................................................. ٧٦

في مقدمة الواجب............................................................ ٧٦

مبحث المقدمة من المسائل الأصولية............................................ ٧٧

هذه المسألة من المسائل العقلية................................................. ٨١

بيان خروج الاجزاء عن حريم النزاع............................................. ٨٢

الشرط المتأخر............................................................... ٩١

الشرط المتأخر للمأمور به..................................................... ٩٨

الواجب المشروط........................................................... ١٠٢

هل القيد يرجع إلى المادة ، أو الهيئة ، أو المادة المنتسبة........................... ١٠٣

مقدمات الواجب المشروط................................................... ١١٨

حكم التعلم............................................................... ١٢١

وجوب التعلم عند الشك في الابتلاء.......................................... ١٣٠

بيان حكم المقدمات المفوتة.................................................. ١٣٢

الواجب المعلق.............................................................. ١٣٩

ما استدل به لعدم معقولية الواجب المعلق...................................... ١٤٢

تردد امر القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة.................................... ١٥٥

الواجب النفسي والغيري..................................................... ١٦١

لو دار الأمر بين كون الواجب نفسيا أو غيريا.................................. ١٦٨

آثار الواجب النفسي والغيري................................................ ١٧٦

بيان اشكال الطهارات الثلاث والجواب عنه.................................... ١٨١

الأقوال في وجوب المقدمة.................................................... ١٨٩

اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل......................................... ١٩١

المقدمة الموصلة............................................................. ١٩٥

بيان ثمرة القول باختصاص الوجوب بالموصلة.................................... ٢٠٤

ثمرة القول بوجوب المقدمة.................................................... ٢٠٨

بيان ما يقتضية الأصل العملي في المقام........................................ ٢١٤

دليل القول بوجوب المقدمة.................................................. ٢١٨

التفصيل بين المقدمة السبية وغيرها............................................ ٢٢٦

الواجب الأصلي والتبعي..................................................... ٢٢٩

مقدمة الحرام............................................................... ٢٣٢

الفصل الخامس............................................................. ٢٣٦

في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدمه................................ ٢٣٦

الاستدلال للاقتضاء من طريق الملازمة في الضد الخاص.......................... ٢٣٩

الاستدلال للاقتضاء بالمقدمية................................................ ٢٤٢

التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم........................................... ٢٥٦

اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد العام.................................... ٢٦٠

ثمرة البحث في الاقتضاء وعدمه.............................................. ٢٦٤

حول اعتبار القدرة في المتعلق................................................. ٢٦٩

النهي الغيري يوجب الفساد.................................................. ٢٧٤

الإتيان بالعبادة مع عدم الأمر................................................ ٢٧٦

طريق استكشاف الملاك..................................................... ٢٧٨

مسألة الترتب............................................................... ٢٨٧

إمكان الترتب ملازم لوقوعه.................................................. ٢٨٩

الدليل الاني لإمكان الترتب.................................................. ٢٩٤

الدليل اللمي لإمكان الترتب................................................. ٢٩٥

ما أفاده المحقق النائيني في تصحيح الترتب...................................... ٢٩٨

بيان ما هو الحق في المقام.................................................... ٣١٢

وجه آخر لصحة الترتب..................................................... ٣١٤

أدلة استحالة الترتب ونقدها................................................. ٣١٦

الترتب في مقام الجعل....................................................... ٣٢٢

الترتب في المشروط باقدرة شرعا.............................................. ٣٣١

بيان حقيقة التزاحم......................................................... ٣٣٧

أقسام التزاحم.............................................................. ٣٤٣

بيان ما تقتضيه القاعدة في هذا الباب ومرجحانة................................ ٣٤٤

ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل........................................... ٣٤٥

تقديم المشروط بالقدرة العقلية................................................ ٣٤٨

الترجيح بالمتقدم زمانا........................................................ ٣٥٠

حول المتزاحمين المشروط كل منهما بالقدرة...................................... ٣٥٤

الترجيح بالاهمية............................................................ ٣٥٧

الترتب في الواجبين الطوليين................................................. ٣٦٠

جريان الترتب في المقدمة المحرمة............................................... ٣٦٦

جريان الترتب في موارد اجتماع الامر والنهي.................................... ٣٦٨

عدم جريان الترتب في المتلازمين.............................................. ٣٦٩

الفصل السادس............................................................. ٣٧١

في أمر الأمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه..................................... ٣٧١

الفصل السابع.............................................................. ٣٧٧

هل الأوامر متعلقة بالطبائع أو الأفراد؟........................................ ٣٧٧

الفصل الثامن............................................................... ٣٨٣

هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب............................................ ٣٨٣

الفصل التاسع............................................................... ٣٨٧

الواجب التخييري.......................................................... ٣٨٧

التخيير بين الاقل والاكثر................................................... ٣٩٦

الفصل العاشر............................................................... ٣٩٩

في الواجب الكفائي......................................................... ٣٩٩

الفصل الحادي عشر........................................................ ٤٠٧

الواجب الموسع والمضيق..................................................... ٤٠٧

تبعية القضاء للاداء......................................................... ٤٠٨

الفصل الثاني عشر.......................................................... ٤١٧

الامر بالامر بفعل امر به.................................................... ٤١٧

الفصل الثالث عشر......................................................... ٤٢٠

الامر بشيء بعد الامر به.................................................... ٤٢٠

فهرس الموضوعات.......................................................... ٤٢٢

* * *

زبدة الأصول - ٢

المؤلف: آية الله السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني
الصفحات: 426
ISBN: 964-8812-35-7
  • الفصل الثالث 7
  • في مبحث الاجزاء 7
  • بيان المراد من الاقتضاء ، والاجزاء 9
  • الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة المرة والتكرار 12
  • اجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره 14
  • عدم جواز تبديل الامتثال بامتثال اخر 15
  • اجزاء الاتيان بالمأمور بالأمر الاضطراري 26
  • ارتفاع العذر في الوقت 33
  • بيان ما تقتضيه الادلة في مقام الاثبات 37
  • جواز البدار وعدمه 41
  • اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري 45
  • ما تقتضيه الاصول العملية 56
  • ما تقتضيه الادلة الثانوية 63
  • الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطا 66
  • العدول من مجتهد إلى آخر 68
  • في اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخصين 70
  • الفصل الرابع 76
  • في مقدمة الواجب 76
  • مبحث المقدمة من المسائل الأصولية 77
  • هذه المسألة من المسائل العقلية 81
  • بيان خروج الاجزاء عن حريم النزاع 82
  • الشرط المتأخر 91
  • الشرط المتأخر للمأمور به 98
  • الواجب المشروط 102
  • هل القيد يرجع إلى المادة ، أو الهيئة ، أو المادة المنتسبة 103
  • مقدمات الواجب المشروط 118
  • حكم التعلم 121
  • وجوب التعلم عند الشك في الابتلاء 130
  • بيان حكم المقدمات المفوتة 132
  • الواجب المعلق 139
  • ما استدل به لعدم معقولية الواجب المعلق 142
  • تردد امر القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة 155
  • الواجب النفسي والغيري 161
  • لو دار الأمر بين كون الواجب نفسيا أو غيريا 168
  • آثار الواجب النفسي والغيري 176
  • بيان اشكال الطهارات الثلاث والجواب عنه 181
  • الأقوال في وجوب المقدمة 189
  • اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل 191
  • المقدمة الموصلة 195
  • بيان ثمرة القول باختصاص الوجوب بالموصلة 204
  • ثمرة القول بوجوب المقدمة 208
  • بيان ما يقتضية الأصل العملي في المقام 214
  • دليل القول بوجوب المقدمة 218
  • التفصيل بين المقدمة السبية وغيرها 226
  • الواجب الأصلي والتبعي 229
  • مقدمة الحرام 232
  • الفصل الخامس 236
  • في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدمه 236
  • الاستدلال للاقتضاء من طريق الملازمة في الضد الخاص 239
  • الاستدلال للاقتضاء بالمقدمية 242
  • التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم 256
  • اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد العام 260
  • ثمرة البحث في الاقتضاء وعدمه 264
  • حول اعتبار القدرة في المتعلق 269
  • النهي الغيري يوجب الفساد 274
  • الإتيان بالعبادة مع عدم الأمر 276
  • طريق استكشاف الملاك 278
  • مسألة الترتب 287
  • إمكان الترتب ملازم لوقوعه 289
  • الدليل الاني لإمكان الترتب 294
  • الدليل اللمي لإمكان الترتب 295
  • ما أفاده المحقق النائيني في تصحيح الترتب 298
  • بيان ما هو الحق في المقام 312
  • وجه آخر لصحة الترتب 314
  • أدلة استحالة الترتب ونقدها 316
  • الترتب في مقام الجعل 322
  • الترتب في المشروط باقدرة شرعا 331
  • بيان حقيقة التزاحم 337
  • أقسام التزاحم 343
  • بيان ما تقتضيه القاعدة في هذا الباب ومرجحانة 344
  • ترجيح ما لا بدل له على ما له بدل 345
  • تقديم المشروط بالقدرة العقلية 348
  • الترجيح بالمتقدم زمانا 350
  • حول المتزاحمين المشروط كل منهما بالقدرة 354
  • الترجيح بالاهمية 357
  • الترتب في الواجبين الطوليين 360
  • جريان الترتب في المقدمة المحرمة 366
  • جريان الترتب في موارد اجتماع الامر والنهي 368
  • عدم جريان الترتب في المتلازمين 369
  • الفصل السادس 371
  • في أمر الأمر بشيء مع علمه بانتفاء شرطه 371
  • الفصل السابع 377
  • هل الأوامر متعلقة بالطبائع أو الأفراد؟ 377
  • الفصل الثامن 383
  • هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب 383
  • الفصل التاسع 387
  • الواجب التخييري 387
  • التخيير بين الاقل والاكثر 396
  • الفصل العاشر 399
  • في الواجب الكفائي 399
  • الفصل الحادي عشر 407
  • الواجب الموسع والمضيق 407
  • تبعية القضاء للاداء 408
  • الفصل الثاني عشر 417
  • الامر بالامر بفعل امر به 417
  • الفصل الثالث عشر 420
  • الامر بشيء بعد الامر به 420
  • فهرس الموضوعات 422