

مقدمة الطبعة
الثانية
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد
الأحد الفرد الصمد المتعالي في عز جلاله عن إدراك كنهه أفهام العارفين ، المنزه
بكمال ذاته عن مشابهة الأنام ، فلا يبلغ صفته الواصفون ، ولا يحصى نعمائه العادون
، المتفضل بالمنن الجسام فلا يقوم بواجب شكره الحامدون.
وسبحانه حمداً
يقربني إلى رضاه ، وأشكره شكراً أستوجب به المزيد من مواهبه وعطاياه ، وأستقيله من
خطاياي استقالة عبد معترف بما جناه ، نادم على ما فرط في جنب مولاه ، وأسأله
العصمة من الخطأ ، والسداد في القول والعمل.
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ، الكريم الذي لا يخيب من دعاه ولا يقطع أمل من رجاه.
وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين ، وبيان الدين القويم ، وصلى الله عليه وعلى
آله الهداة المهديين وعترته الكرام الطيبين صلاة ترضيهم وتزيد على منتهى رضاهم
وتبلغهم غاية مرادهم ونهاية مناهم
وتكون لنا عدّة
وذخيرة يوم نلقى الله سبحانه ونلقاهم وسلم تسليما.
والعن من ناصبهم
العداء ، وانزلوا بهم وبشيعتهم فنون البلاء ، وجحدوا مراتبهم وانكروا حقهم ، من
الأولين والآخرين ودهر الداهرين.
وبعد فإن أولى ما
تُنفق في تحصيله كنوز الأعمار ، وتسموا في إطالة النظر بمعالمه الأفكار ، وتعز في
استنباطه الرجال هو العلم بالأحكام الشرعية والمسائل الفقهية.
فلعمري إنه المطلب
الذي يظفر بالنجاح طالبه ، والمغنم الذي يُبشر بالأرباح كاسبه ، والعلم الذي يعرج
بحامله إلى الذروة العليا ، وينال به السعادة في الدار الأخرى.
ولقد بذل علماؤنا
السابقون ، وسلفنا الصالحون رضوان الله عليهم أجمعين في تحقيق مباحثه جهدهم ،
وأكثروا في تنقيح مسائله كدّهم ، فكم فتحوا فيه مقفلا ببنان أفكارهم ، وكم شرحوا
منه مجملا ببيان آثارهم ، وكم صنفوا فيه من كتاب يهدي في ظلم الجهالة إلى سنن الصواب.
فكانت تلك
التصانيف عقداً منضداً في جيد المكتبة الاسلامية ، يبهر الناظرين ، فلمعت في
سلسلته هذه الدرة البيضاء التي صيغت عن خمس دورات في بحوث الخارج بمدينة قم
المقدسة ، ألقاها سماحة آية الله العظمى السيد محمد صادق الحسيني الروحاني دامت
بركاته.
فتمخض بيراعه عن
زبدتها هذا السفر الجليل الموسوم ب (زبدة الأصول)
وهي دورة كاملة
وافية حوت بين دفتيها جلّ الأقوال بعذب البيان لتمحّص
محاكمة بسبر
أغوارها تحقيقا وتدقيقا يميط اللثام عن الحق في مسائل هذا العلم.
ولذا كان ينبغي أن
تظهر بحلة تليق بها وتُدني للطالبين قطوفها.
فشرعت بمراجعة
مطالبها والتعليق عليها تلبية لأمر مؤلفها الفذ ، وهو الذي خُصّ باجتناء رحيق
أزهار مدرسة اساطين عصرهم من خرّيتي هذا الفن عنيت بهم :
١ ـ سماحة آية
الله العظمى الشيخ كاظم الشيرازي (قدِّس سره).
٢ ـ سماحة آية
الله العظمى الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني المعروف ب (كمباني) (قدِّس سره).
٣ ـ سماحة آية
الله العظمى الشيخ محمد علي الكاظمي (قدِّس سره).
٤ ـ سماحة آية
الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدِّس سره).
٥ ـ سماحة آية
الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (قدِّس سره).
٦ ـ سماحة آية
الله العظمى السيد البروجردي (قدس سره).
هؤلاء العظماء
الذين هم مفخرة الطائفة الامامية ، وسنام الحوزة العلمية في تاريخنا المعاصر ، ولا
غرو في ذلك ان كان من رشحات فيض مُشرّف الغري نميرهم ، فوردوا سلسبيل معارفه
ليصدروا ببهجة الرواء وقد ملئوا القرب إلى عقدها ينهلون الظّماءَ.
فكان في طليعة
المنتهلين سيدنا المؤلف (مدّ ظله) حيث حظي بأوفى النصيب احاطة بعناية من آلت اليه
زعامة الحوزة العلمية عدّة عقود من الزمن ، آية الله العظمى السيد أبو القاسم
الخوئي (ره).
وقد عبّر عن
المؤلف بعد مطالعة بعض تقريراته ـ حين كان له من العمر حوالي خمسة عشر سنة (أي سنة
١٣٦٠) ـ : بانه صاحب القريحة الوقادة والفكرة النقادة ... وقال ايضاً : اني لاحظت
منه مواقع عديدة وجملاً مفيدة فالفيتها تقريرات سديدة ، تعرب عن الحقائق التي
تلقّاها في محاضراتي التي كنت القيتها وتشف الشوارق التي اقتبسها من المباحث التي
كنت امليتها ، مما جعله عندي على صغر سنه كبيراً في فنه وكذا في دقة نظره ، وقوة
ذهنه ، واستقامة سيره ، وسرعة وصوله فيما حررّه وقرره في مباحث العلمين العظيمين
الكبيرين ، علم الفقه واصوله.
وقد تميزت هذه
الطبعة الجديدة بعدة امور :
١ ـ تبديل أو
اضافة بعض الكلمات في متن الكتاب زيادة في التوضيح ، وتم ذلك بعد مراجعة المؤلف
لها (دام ظله).
٢ ـ اصلاح الاخطاء
المطبعية مهما امكن.
٣ ـ اعادة ترتيب
مقاطع الكتاب وابراز الإشكالات وردها بما يسهل على القارئ الكريم تناول مطلوبه
بايسر الطرق.
٤ ـ اعادة ترتيب
فهرس الكتاب وابراز الاوامر والمقاصد والفصول والجهات بما يسهل على الباحث الوصول
إلى مبتغاه ومطلوبه بسرعة.
٥ ـ اخراج الآيات
والروايات والاقوال من مصادرها الاساسية مهما امكن.
٦ ـ كتابة بعض
الحواشي التوضيحية بما لا يخل بالاختصار ، مع نقل اقوال بعض العلماء نصاً اذا
استدعت الحاجة زيادة في الفائدة ، وبذلك اصبح الكتاب في ستة أجزاء بعد أن كانت
أربعة.
ولما لم يذكر
سماحته (مد ظله) مقدمة عن علم الأصول كما جرت
العادة واتماما
للفائدة اوردت هذه السطور لعلها تعطي الباحث صورة عامة عن سير هذا العلم وضرورته
في زمن الغيبة ـ عجل الله فرج صاحبها ـ ولو اجمالاً.
علم الأصول في سطور
إن مباحث علم
الأصول هي أهم الأسس لبناء واستنباط الأحكام الشرعية.
ومعرفة الفقه من
أسمى الغايات إذ أن العبد بعد الاعتقاد بالله سبحانه وتعالى لا طريق له لإظهار
العبودية والالتزام بأوامر المولى عزوجل إلا بمعرفة مسائل الفقه والعمل بها.
ولما كنّا قد
بعدنا عن عصر النص واختلطت الأمور وتداخلت المسائل كان لا بد من إيجاد قواعد تكون
أشبه بالدليل والميزان في معرفة أحكام الخالق المنّان فكان علم الأصول المتكفل
لبيان الأحكام واستخراجها من أدلتها.
فهو العلم الذي
يتمكن من خلاله الفقيه من التوصل إلى معرفة الأحكام الإلهية والتكاليف الشرعية
سواء كانت عباديّة ، أو معاملية ، اقتصادية ، أو نظاما عائليا ، أو قانونا جزائيا
أو غير ذلك ، من كل ما يتعلق بأفعال العباد وأنظمة البلاد.
وبعبارة أخرى بكل
ما يتعلق بتنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع.
وأول من فتح باب
هذا العلم وفتق مسائله الإمامان محمد الباقر وجعفر
الصادق فانهما قد
أمليا على جماعة من تلامذتهما قواعد ومسائل هذا العلم.
وقد جمعها
المتأخرون فيما بعد في كتب مستقلة ككتاب" أصول آل الرسول" للسيد هاشم بن
زين العابدين الموسوي الخونساري الاصفهاني.
" والفصول
المهمة في أصول الأئمة" لمحمد بن الحسن بن علي بن الحر العاملي.
" والأصول
الأصلية" للسيد عبد الله بن محمد رضا الشبري الحسيني النجفي .
وأول من أفرد بعض
مباحث هذا العلم وصنف فيه تلميذ الإمام الصادق هشام بن الحكم الكوفي وكان أيضاً من
أصحاب الإمام الكاظم حيث صنف كتاب الألفاظ ومباحثها ، وكان له مصنفات عديدة في علم الكلام ، والجدل ، والحديث
، وتوفي سنة ١٩٩ ه. ق ببغداد.
ثم اتى بعده يونس
بن عبد الرحمن الذي رأى الإمام الصادق ولم يروي عنه ، وروى عن الامامين الكاظم
والرضا ، وكان الإمام الرضا يشير اليه في العلم والفتيا ، وقد كان ليونس تصانيف
كثيرة في الحديث ، والفقه ، والكلام ، واما تصنيفه في علم الأصول فقد كان له كتاب (علل
الحديث) او (اختلاف الحديث). وقد وصفه النجاشي انه كان وجها في
__________________
اصحابنا متقدماً
عظيم المنزلة ... الخ. وغيرهما.
وكان أصحاب الأئمة
والعلماء يعملون بهذا العلم بقدر حاجتهم اليه وان كانت قليلة لقربهم من النص.
وممن عمل بهذا
العلم عقيب زمن الغيبة عجل الله فرجه الشريف أستاذ الشيخ المفيد أبو علي محمد بن
أحمد بن الجنيد الإسكافي صاحب" تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة" ، وكان
معاصرا للشيخ الكليني وقد قيل في وفاته أنها كانت سنة ٣٨١ في الري ، وفي العدّة
للشيخ الطوسي أنه توفي قبل سنة ٣٧٧ للهجرة .
وكان قد عمل قبل
الإسكافي في هذا الفن ابن أبي عقيل صاحب كتاب" المتمسك بحبل آل الرسول"
إلا أن أول من صنف
في هذا العلم من غير الشيعة محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة ٢٠٤ ه كتاب (الرسالة)
وشرحه جمع من علماء الشافعية.
ولما كان كتابه هو
اول كتاب بهذه الشمولية في علم الأصول اذ الذين سبقوه لم تكن كتبهم جامعة لمعظم
مباحث الأصول عدّه البعض كالفخر الرازي انه المؤسس لهذا العلم!
وفي هذه الدعوى
كلام لا يسع المجال لذكرها ، وفي غير مورد من مقدمات علم الأصول فند العلماء اعلى
الله مقامهم تفاصيل هذه الدعوى وأوضحوا
__________________
بطلانها.
ولعل أول من كتب
كتاباً متكاملاً عند الشيعة في هذا العلم الشيخ المفيد المتوفى سنة ٤١٣ ه سماه (التذكرة
بأصول الفقه) ، وبذلك يكون قد تأخرت كتابة علم الأصول عند الشيعة عن الشافعية ما
يقرب من ٢٠٠ عام.
والظاهر أن السبب
في هذا التأخير أن الشيعة لم يروا حاجة إلى هذا التصنيف مع وجود النص بوجود
المعصومين خلافا لمخالفيهم الذين يعتقدون انقطاع النص من حين استشهاد النبي الأكرم
(ص).
ثم كتب بعد الشيخ
المفيد تلميذة السيد المرتضى المتوفى سنة ٤٣٦ كتاب" الذريعة إلى أصول
الشيعة" وناقش فيه آراء السنة مناقشة جادة وقوية.
وبعده تلميذه
الشيخ الطوسي المتوفى عام ٤٦٠ ه كتاب" عدَّة الأصول" ولم يحدث تطورا في
هذا العلم إلى عهد العلامة الحلي حيث أبدع في هذا العلم وألف كتباً كثيرة أهمها :
" نهاية
الوصول في علم الأصول"
" تهذيب
الوصول في علم الأصول"
" مبادئ
الوصول في علم الأصول"
وممن أتى بعد
العلامة الحلي عمد إلى شرح كتبة ومنهم ضياء الدين الأعرجي في كتابة" منية
اللبيب" وعميد الدين الأعرجي في كتابه" شرح التهذيب" وهو من أعلام
القرن الثامن للهجري.
وجمع بين هذين
الكتابين وأضاف عليهما بعض تحقيقاته الشهيد الأول في
كتاب سماه"
جامع البين".
وبعد مدرسه
العلامة بقيت الحوزة العلمية بصورة عامة تحت ظل الاخباريين حتى أواسط القرن الثاني
عشر ، حيث استطاع العالم العظيم من خلال فكره الثاقب الوحيد البهبهاني المتوفى عام
١٢٠٥ ه إعادة الطريقة الأصولية إلى الحوزات العلمية.
وهنا نذكر بايجاز
أهم الفوارق بين المدرسة الاخبارية والاصولية :
١ ـ ذهب
الاخباريون إلى عدم جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريميّة.
بينما يذهب
الاصوليون إلى جريانها سواء في الشبهات الحكمية الوجوبية او التحريمية بالدليل
العقلي والنقلي ، الا عن بعض المتأخرين من الاصولين حيث التزم بعد جريان البراءة
العقلية دون الشرعية.
٢ ـ نفى
الاخباريون حجية الاجماع مطلقا ، بين يرى الاصوليون صحت التمسك بالاجماع المحصل
الكاشف عن رأي المعصوم ...
٣ ـ يرى
الأخباريون قطعية صدور كل ما ورد في الكتب الاربعة من الروايات اجمالا ، لاهتمام
اصحابها بتدوين ما يصح العمل به ، فالفقيه يصح له التمسك بروايات هذه الكتب دون
البحث عن اسانيدها.
بينما يقسم
الاصوليون الروايات بما في ذلك روايات الكتب الاربعة إلى اربعة اقسام : الصحيح ،
والحسن ، والموثق ، والضعيف ، وبعضهم يقسمها إلى اكثر من ذلك الا انهم لا ياخذون
بالاخير وبعضهم لا يأخذ ايضا بالموثق في
الجملة.
٤ ـ توقف
الاخباريون عن العمل بالكتاب العزيز ما لم يرد فيه بيان وايضاح من الروايات لوجود
المخصص والمقيد ، والنهي عن تفسير القرآن بالرأي.
بينما يفصل
الاصوليون بين ظواهر القرآن فيجوز العمل بها بعد اليأس عن المخصص ويعتبرون ان
الظواهر ليست من التفسير بالرأي المنهي عنه دون ما ليس بظاهر ... الخ
اما مدرسة الوحيد
البهبهاني فقد أنتجت الكثير من العلماء الذين كتبوا وألفوا في الأصول ومن أهم تلك
التأليفات :
القوانين لأبي
القاسم بن الحسن الجيلاني المعروف بالميرزا القمِّي.
وهداية المسترشدين
لمحمد تقي بن محمد رحيم الأصفهاني.
والفصول الغروية
لمحمد حسين بن محمد رحيم الأصفهاني.
ومفاتيح الأصول
للسيد المجاهد السيد محمد الطباطبائي.
والضوابط للسيد
إبراهيم القزويني.
ثم جاءت مدرسة
الشيخ الأعظم الأنصاري التي رفعت علم الأصول إلى القمة ، وكانت من أبحاثه فرائد
الأصول التي سيطرت على مدارس الأصول الشيعية فضلا عن السنية.
وأعطت الباحث
آفاقا واسعة في هذا المجال ، وخرجت المئات من فطاحل
العلماء الذي كان
من أبرزهم الآخوند الخراساني الذي ألف كتاب كفاية الأصول بعد حاشيته على الفرائد
فكان ولا زال من ابرز كتب التدريس في الحوزات العلمية.
ولا زال هذا العلم
في نمو واتساع بفضل جهود الأفذاذ من علمائنا الأعلام. وقد برز في هذا الميدان بعد
المحقق صاحب الكفاية عدّة من الاعلام على مستوى الدراسات والبحوث العليا ،
والتجديد والتطوير لهذا العلم.
ومن ابرز هؤلاء :
المحقق الميرزا حسين النائيني (قدِّس سره) (١٢٧٧ ـ ١٣٥٥ ه)
والمحقق الشيخ
محمد حسين الاصفهاني المعروف ب (الكُمباني) (قدِّس سره) (١٢٩٦ ـ ١٣٦١ ه)
والمحقق الشيخ
ضياء الدين العراقي (قدِّس سره) (المتوفى ١٣٦١ ه)
والمحقق آية الله
العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (قدِّس سره) وهو من أبرز تلامذة المحقق النائيني ،
وقد علق على تقريرات استاذه ، ثم القى بحوثه لسنوات عديدة في الحوزة العلمية في
النجف الاشرف ، وكانت له زعامتها (ره) لعقود من الزمن.
وقد برز من بين
فضلاء درسه نخبة من الاعلام الذين انتهلوا من معين علمه ليصبحوا منارات يهتدي بها
المهتدون ويلتمسوا من نورها العلم والمعرفة فكان السيد آية الله العظمى محمد صادق
الروحاني الاسبق في التدريس والاستنباط والتأليف في شتى المجالات : سواء الفقهية
منها كتأليفه موسوعة (فقه الصادق ٢٦ جزء) ، ومنهاج الفقاهة في ٦ اجزاء وغيرهما.
أو الأصولية حيث
كان له الدور البارز في اغناء الحوزة العلمية بقم المقدسة
بتدريس بحوث علم
الأصول ، والتأليف أيضا فكانت زبدة الأصول دورة كاملة في هذا الفن من مباحث
الالفاظ إلى الأصول العملية ، والتعادل والتراجيح.
وقد تعرض في هذه
الدورة بصورة اساسية إلى مناقشة عدّة من الاعلام المتقدمين منهم والمتأخرين ممن
دارت عليه رحى هذا العلم نقضاً أو تأييدا بالدليل والبرهان.
وأسأل الله تعالى
أن يمن عليَّ بالمزيد من فهم هذا الفن والعمل بقواعده بعد أن وفقني للحضور عند
عدّة من الاساطين فقدس الله أرواح الماضين وحفظ الباقين.
وقد تُوّجت تلك
الألطاف بالتعرف على عدّة من العظماء ومن حسن ثقتهم حظيت باهتمامهم فنسأل الله أن
نوفق لنكون عند حسن ظنهم.
ومنهم سماحة السيد
المؤلف مد ظله الذي كان المرشد والمشجع والموجه في خوض هذا المضمار.
وقد أولاني ثقة
عالية لمراجعة كتابه" زبدة الأصول" والتعليق عليه فجزاه الله كلّ خير.
ورجائي من إخواني
المؤمنين المعذرة عن كلّ تقصير أو اشتباه فالعصمة لأهلها ...
|
ولا تنسونا من صالح الدعاء
مكتب سماحة آية الله العظمى الروحانى
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما
أولانا من رد الفروع إلى الأصول ، والتفقه في الدين وتهذيب مباني الأحكام الشرعية
بالبحث في المسائل الأصولية ، واستخراج زبدتها ، وأفضل صلواته وأكمل تحياته على
صاحب الشريعة الخالدة الكفيلة بإسعاد المجتمع ومعالجة مشاكله ، وعلى آله العلماء
بالله الأمناء على حلاله وحرامه ، لا سيّما بقية الله في الأرضين ، الإمام الثاني
عشر ، الإمام المهدي أرواح من سواه فداه.
وبعد فهذه زبدة
الأصول جاد بها الفكر من خلال إلقاء المحاضرات في المسائل الأصولية على جماعة من
الأفاضل في خمس دورات ، وكنت أدوِّن ما القيه فلما تم تأليف الكتاب رأيت الأولى
إخراجه إلى عالم الظهور.
وحيث انه من النواميس
المطردة إهداء المؤلفات إلى كبير من أكابر الدهر ولا أجد اكبر من الإمام المهدى
روحي فداه (عج) ، فلذلك ارفع بكلتا يديَّ لأهدى هذا الكتاب إلى رفيع قدس الإمام ،
موقناً أني لست ممن يقوى على إنفاق بضاعته في مثل هذه السوق الغالية غير أني أقول
سيدي بما أنَّ هذا الذي بين يديَّ مسائل يستنبط منها الأحكام الشرعية المأثورة عنك
وعن آبائك الطاهرين ، فمنَّ عليَّ بقبول هذه البضاعة المزجاة وثبتها في ديوان
الحسنات ، ليكون ذخرا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقد رتبت كتابي هذا على مقدمة ومقاصد وخاتمة
المقدمة : وفيها
ستة عشر أمراً :
الأمر الأول : في
ثبوت المبادئ الأحكامية لعلم الأصول وعدمه.
الأمر الثاني : في
لزوم الموضوع للعلم وعدمه.
الأمر الثالث : في
لزوم البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه.
الأمر الرابع :
فيما به تمايز العلوم.
الأمر الخامس : في
موضوع علم الأصول.
الأمر السادس : في
تعريف علم الأصول.
الأمر السابع : في
الوضع.
الأمر الثامن : في
استعمال اللفظ في المعنى المجازى.
الأمر التاسع : في
استعمال اللفظ في نوعه ، ومثله ، وصنفه ، وشخصه.
الأمر العاشر : في
تبعية الدلالة للارادة.
الأمر الحادي عشر
: في وضع المركبات.
الأمر الثاني عشر
: في علامات الحقيقة والمجاز.
الأمر الثالث عشر
: في الحقيقة الشرعية والكلام فيها في جهات.
الأمر الرابع عشر
: في الصحيح والاعم.
الأمر الخامس عشر
: في الاشتراك.
الأمر السادس عشر
: في المشتق.
المقاصد : وهي
ثمانية :
المقصد الأول :
الأوامر
المقصد الثاني :
النواهي
المقصد الثالث :
المفاهيم
المقصد الرابع :
العام والخاص
المقصد الخامس :
المطلق والمقيد
المقصد السادس :
القطع وأقسامه وأحكامه
المقصد السابع :
الامارات
المقصد الثامن :
الأصول العملية
وفي كل مقصد من
هذه المقاصد فصول ومباحث.
وخاتمة : في
التعادل والترجيح.
مقدمة
علم الأصول
وفيها
ستة عشر أمراً
أما المقدمة ، ففي بيان أمور
في ثبوت المبادئ الأحكامية لعلم الأصول وعدمه
الامر الأول : لا
كلام في انه لكل علم ، مسائل ، ومبادئ تصورية ، وتصديقية.
أما المسائل : فهي
قضايا متشتتة جمعها اشتراكها في غرض خاص.
وأما المبادئ فهي
قسمان :
قسم راجع إلى حدود
تلك القضايا بأطرافها ، وهي المبادئ التصورية.
وقسم يتوقف عليه
التصديق بثبوت محمولات تلك القضايا لموضوعاتها ، وهي المبادئ التصديقية.
وأفاد المحقق
النائيني (ره) أن لعلم الأصول قسما ثالثا من المبادئ ، وهي المبادئ
الأحكامية ، وهي ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية من التكليفية والوضعية
بأقسامها ، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام من كونها متضادة ،
__________________
وكون الاحكام
الوضعية متأصلة في الجعل أو منتزعة عن التكليف وغير ذلك من حالات الحكم.
قال : ووجهه
اختصاص المبادى الاحكامية بعلم الأصول ، هو أن منه يستنتج الحكم الشرعي وواقع في
الطريق استنباطه.
أورد عليه المحقق
الأصفهاني (ره) بأن المبادئ الأحكامية ليست قسيما للتصورية والتصديقية.
" بل المبادئ
التصورية ، تارة لغوية ، وأخرى أحكامية ، وكذا المبادئ التصديقية.
فالبحث عن المعاني
الحرفية ، والخبر والإنشاء ، والحقيقية والمجاز وأشباهها من المبادئ التصورية
اللغوية يعرف بها مفاد الهيئات النسبية الإنشائية ، ومعنى حقيقتها ومجازها"
والبحث عن حقيقة
الحكم بما هو ، وعن التكليفي والوضعي ، والمطلق والمشروط ، وغير ذلك من تقسيمات
الحكم من المبادئ التصورية الأحكامية.
" والبحث عن
ثبوت الحقيقة الشرعية ، والصحيح والأعم من المبادئ التصديقية اللغوية ، بها يصح
حمل الصلاة مثلا على معناها المتداول شرعا ، وبها يحكم بإجمال اللفظ على الصحيح ،
فلا موقع للإطلاق ، أو بالبيان الذي معه مجال له على الأعم".
__________________
والبحث عن إمكان
اجتماع الحكمين وامتناعه من المبادئ التصديقية الأحكامية ـ فيحكم بناء على الإمكان
بعدم التعارض بين الدليلين المتكفلين للحكمين ، وعلى الامتناع بالتعارض ـ ولا بأس
به.
وكيف كان فجملة من
المسائل المدوَّنة في علم الأصول من قبيل المبادئ بأقسامها ، وإنما نتعرض لها من
جهة عدم التعرض لها في علوم أخر ودخالتها مع الواسطة في الاستنباط.
* * *
لزوم الموضوع للعلم وعدمه
الامر الثاني : في
لزوم الموضوع للعلم وعدمه. صرح أعلام الفن ، بلزوم الموضوع للعلم.
ولذلك صرح المحقق
الخراساني (ره) بأنه" ربما لا يكون لموضوع العلم وهو الكلي المتحد مع
موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص" كما في علم الأصول ،
ومحصل ما ذكروه في وجه ذلك : أن الغرض المترتب على كل علم بما انه أمر
واحد ، مثلاً : الغرض من علم الأصول القدرة على الاستنباط ، ومن علم النحو صون
اللسان عن الخطأ في المقال ، وهكذا سائر العلوم ، وهذا الغرض الواحد يترتب على
مجموع القضايا والمسائل المتشتتة والمختلفة
__________________
موضوعاً ومحمولاً.
وقد برهن في
محله" أن الواحد لا يصدر إلا عن الواحد" ، فلا بد وان يكون المؤثِّر فيه هو الجامع الذاتي
الوحداني.
وأيضاً لا بد وان
يكون ذاك هو الجامع بين موضوعات المسائل لا الجامع بين المحمولات ، لتقدم الموضوع
على المحمول ، وكونه من آثار ذلك الموضوع ، ويكون ذلك الجامع الوحداني هو موضوع
العلم.
وان شئت قلت انه
لا بد من رجوع الموضوعات إلى موضوع جامع.
ويرد عليه :
أولا : إن ذلك
الغرض الوحداني إما أن يكون واحدا شخصيا ، أو يكون واحدا نوعياً ، وعلى التقديرين
لا تكشف وحدة الغرض عن وجود الجامع.
أما على الأول :
فلأنه يترتب على مجموع القضايا ، وكل مسألة تكون جزءا من المؤثر ، والمؤثر هو
المجموع من حيث هو ، ويكون سببية المجموع سببية واحدة
__________________
شخصية ، والاستناد
إليه استناد معلول واحد إلى علة واحدة شخصية لا إلى علل عديدة.
وأما على الثاني :
فلان الغرض يكون كليا ذا أفراد يترتب كل فرد منه على واحدة من المسائل. مثلا يترتب
على مسألة حجية خبر الواحد ، الاقتدار على استنباط جملة من المسائل ، وهو غير
الاقتدار على استنباط المسائل المترتب على مسألة استلزام الأمر بالشيء للنهي عن
ضده ، وهما غير ما يترتب على مسألة حجية الاستصحاب.
اللهم إلا أن يقال
: إن الغرض الكلي إذا كان واحدا نوعيا حقيقيا ، وذلك الواحد بالذات الجامع بين
أفراده لا بد وان يكون له سنخية مع علته ، والسنخية تستدعى وحدة العلة لوحدة
المعلول.
نعم إذا كان الغرض
واحدا بالعنوان كما اختاره المحقق الأصفهاني (ره)
__________________
يتم هذا الجواب.
وثانيا : إن
المؤثر في الغرض ليس هو القضايا بوجوداتها ، النفس الأمرية وإلا لزم حصول الغرض
لكل شخص كان عنده كتاب يشتمل على تلك القضايا ، بل المؤثر فيه إنما هو العلم بتلك
القضايا وثبوت محمولاتها لموضوعاتها ، فلا بد من تصوير الجامع بين العلوم إذ
القضايا حينئذ من قبيل الشروط ، ولم يدع أحد لزوم وحدة الشروط مع فرض وحدة المعلول
، وعلى فرض التنزل لا بد من فرض جامع بين النسب الخاصة لا الموضوعات.
وثالثا : إن
موضوعات مسائل علم الفقه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بينها ، إذ بعض منها أمر وجودي
، والآخر أمر عدمي ، كترك الأكل في الصوم ، وبعضها من الجواهر كالبول والمني ،
وبعضها من قبيل الكيف المسموع كالقراءة ، وبعضها من قبيل مقولة الوضع كالركوع.
وقد برهن في محله
: انه لا يتصور الجامع بين المقولات العشر فضلا عن الوجود والعدم.
__________________
فالمتحصل مما
ذكرناه : انه لا ملزم لتصوير الجامع بين موضوعات المسائل ليكون هو موضوع العلم.
* * *
لزوم البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه
الامر الثالث : في
لزوم البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه.
قد طفحت كلمات
القوم وأهل الفن بان" موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية" ، مع أنهم صرحوا
بان العارض للشيء بواسطة أمر أخص عارض غريب لا ذاتي. فيشكل حينئذ بان اغلب محمولات
العلوم ، عارضة لأنواع موضوعاتها ، فتكون أعراضا غريبة بالنسبة إلى موضوع العلم.
وقبل الشروع في ما
ذكره الأصحاب في التفصي عن هذه العويصة ، وبيان ما هو الحق عندنا لا بد من تقديم
مقدمة :
وهي أن العوارض
جمع العارض ، لا العَرَض ، فإن جمعه الأعراض ، وهو
__________________
المحمول على الشيء
الخارج عنه ، فيشمل العرض ، المقابل في باب الكليات بالذاتي ، وهو ما يتألف منه
الشيء كالجنس والفصل ، وغيره ، كما يشمل الذاتي باصطلاح الحكماء وما يقابله ، وهما
، المحمول بالضميمة ، أي ما لا يحمل على الشيء إلا بعد ضم شيء آخر إليه كالعالم ،
حيث انه لا يحمل على الذات إلا بعد ضم العلم إليه ، وخارج المحمول ، أي ما يكون
خارجا عن حقيقة الشيء ، المحمول عليه بعد ملاحظة نفس الذات ، وان لم ينضم إليه شيء
آخر.
ثم إن أول من صرح
بهذا الكلام ، أي موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، بما انه من
الحكماء ، وتبعه غيره منهم ، وكان لا ينطبق ذلك على اصطلاحهم في الذاتي ، إذ اغلب
المحمولات بالنسبة إلى الموضوعات تكون من المحمولات بالضميمة ، ففسَّره أهل
المعقول ، بما فسَّره به صاحب الكفاية بقوله : " أي بلا واسطة في
العروض" .
والمراد به كون
العارض عارضا له حقيقة ، سواء كان بلا واسطة في الثبوت كإدراك الكليات العارضة
للنفس الناطقة ، أو مع الواسطة في الثبوت كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار.
والضابط : هو أن
لا يكون نسبة العرض إلى الشيء بالعناية والمسامحة ، من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه
من غير فرق بين كونها جليَّة كالحركة العارضة لجالس السفينة بواسطتها ، أو خفية
كالبياض المنتسب إلى الجسم ، فان المعروض
__________________
له حقيقة هو
السطح.
وبذلك يظهر أن
تعريف العارض الذاتي ، بما يعرض الشيء لذاته أو لجزئه المساوي وهو الفصل.
والعارض الغريب
بما يعرضه ، بواسطة الجزء الأعم ، أو أمر خارجي سواء كان أخص أو اعم أو المساوي ،
تام .
__________________
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم انه تفصى الأصحاب عن هذه العويصة بوجوه ، ولهم فيه مذاهب :
الأول : ما أفاده
صدر المحققين .
وأوضحه الحكيم
السبزواري " ، وإليه نظر المحقق الخراساني في الكفاية وهو أن الجنس إن أخذ لا بشرط فعوارض أنواعه ذاتية له ، وان
اخذ بشرط لا فعوارض أنواعه غريبة عنه ، مثلا لو اخذ الحيوان لا بشرط يكون التعجب
عارضا ذاتيا له ، وان اخذ بشرط لا يكون غريبا عنه ، وعلل بان الجنس إن اخذ لا بشرط
يكون نفس الأنواع ومتحدا معها ، فالعوارض لأنواعه عوارض له بلا واسطة.
وعلى ذلك فان أخذ
موضوع العلم لا بشرط تكون محمولات المسائل عوارض ذاتية له.
وفيه ، إنّ
كون" عوارض الأنواع عوارض غريبة للجنس" مبنى على اللابشرطية ، فاخذ
الجنس لا بشرط يصحح الحمل ، إذ لو اخذ بشرط لا يكون
__________________
مبايناً لمعروض
ذلك العارض ، والمباينة منافية للحمل ، وموجبة لعدم صحته ، فان أُخذ الجنس لا بشرط
، صح الحمل وكان العارض غريبا عنه لا ذاتيا ، إذ لو كان من عوارضه الذاتية لزم
كونه عارضا له في ضمن أي نوع تحقق ولو غير ذلك النوع ، وحيث انه بديهي البطلان
فيستكشف من ذلك انه إنما يعرضه بالعناية والمسامحة ، وان كان بنظر العرف منسوبا
إليه بالحقيقة ، مع انه لا يرتفع التهافت بين كلمات القوم بذلك ، فإنهم صرحوا بان العارض بواسطة أمر أخص ، عارض غريب ، مع انه من الواضح
أن مرادهم هو صورة أخذه لا بشرط.
وبما ذكرناه ظهر
ضعف ما نسب إلى المحقق الرشتي (ره) : من أن الملاك في كون العارض ذاتيا كون الواسطة وذي
الواسطة متحدين في الوجود حتى يكون العارض عارضا لكليهما. ولذا التزم بكون عوارض
النوع عوارض ذاتية للجنس ، ولم يبال بمخالفة القوم ، قائلا : إن الاشتباه من غير
المعصوم غير عزيز.
الثاني : ما ذكره
المحقق الأصفهاني (ره) في تعليقته : وهو أن موضوع كل
__________________
علم متحيث بحيثية
خاصة ، ولا يبحث في العلم عن جميع أحواله ، مثلا ، موضوع علم الفقه ليس هو فعل
المكلف من حيث هو ولا يبحث فيه عن جميع ما يعرض له ككونه مخلوقا لله تعالى أو
الناس مثلا أو غير ذلك ، بل يبحث فيه عن فعل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير ،
وكذا ، موضوع علم النحو ليس هو الكلمة والكلام بما هما ، بل من حيث الإعراب
والبناء ، وكذا سائر العلوم. والحيثيات المذكورة ليست عبارة عن الحيثيات اللاحقة
لموضوعات المسائل أي الحيثيات الفعلية ككون الكلمة معربة أو مبنية ، لان اخذ مبدأ
المحمول في الموضوع مستلزم لعروض الشيء لنفسه ، بل المراد الحيثيات السابقة ، أي
الحيثيات الاستعدادية ، ككون الكلمة مثلا مستعدة لعروض الإعراب أو البناء عليها ،
فهذه الحيثيات المتقدمة عناوين منتزعه من موضوعات المسائل ، فالكلمة من حيث
الفاعلية مستعدة لعروض الرفع عليها ، وفعل المكلف من حيث انه الصلاة مستعدة لعروض
الوجوب عليه ، وهكذا وحيث أن الأمر الانتزاعي لا وجود له ، ولا تحمل عليه
المحمولات ، وإنما هي تحمل على مناشئ انتزاعه ، فليس موضوع العلم كليا متخصصا في
مراتب تنزله بخصوصيات تكون واسطة في عروض اللواحق له ، بل هي تحمل على المعنونات
بلا توسط شيء في اللحوق والصدق.
وفيه : انه إن كان
مراده أن الموضوع هو الأمر الانتزاعي بما انه مشير إلى موضوعات المسائل ومرآة
إليها ومعرِّف لها ولا نظر إليه أصلاً ، فهو في الحقيقة إنكار لوجود الموضوع.
وان كان مراده أخذ
الأمر الانتزاعي بما هو موضوعا ، فلا ريب في أنَ
عوارض منشأ
انتزاعه عوارض غريبة له ، وبعبارة أخرى حاله أسوأ من الكلي الحقيقي الجامع بين
موضوعات المسائل ، حيث أن الكلي متحد في الوجود مع أفراده ، بخلاف الأمر الانتزاعي
الذي لا موطن له إلا الذهن ، ولا يكون متحدا مع منشأ انتزاعه ، فإذا كان عوارض
الفرد عوارض غريبة للكلي فعوارض منشأ الانتزاع أولى بان تكون عوارض غريبة للأمر
الانتزاعي.
وأما ما أورده
الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) عليه : من أن اقتضاء الموضوع لحمل المحمول عليه ، لا يكون
إلا في الفقه ، بناء على مذهب العدليَّة القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد
، وإلا فلا يتم ذلك في سائر العلوم ، إذ الكلمة مثلا من حيث الفاعلية غير مقتضية
لعروض الرفع عليها ، ولا اقتضاء فيها للحوقه ، بل إنما هو قانون مجعول.
فغير تام إذ مراده
من الحيثيات ، هي الحيثيات الاستعدادية ، أي استعداد الموضوع وقابليته لعروض
المحمول عليه ، وهذه الحيثيات عناوين انتزاعية لموضوعات المسائل ، مثلا الكلمة
المتحيثة بحيثية الإعراب والبناء عنوان انتزاعي من الفاعل والمفعول وغيرهما. ومرجع
ذلك إلى دعوى أن موضوع علم النحو مثلا هو الكلمة من حيث الفاعلية والمفعولية وما
شاكل ذلك ، وليس في كلامه (قدِّس سره) من الاقتضاء بالمعنى الذي هو أساس الإيراد
عين ولا اثر.
__________________
الثالث : ما ذكره
المحقق النائيني (ره) ، وتوضيحه يبتنى على بيان مقدمات :
الاولى : إن موضوع
العلم ليس هو الذات بما هو ، بل مقيدا بحيثية خاصة ، مثلا موضوع علم النحو ، ليس
هي الكلمة من حيث هي ، بل من حيث لحوق الإعراب والبناء لها ، كما إنّ موضوعات
المسائل ، ليست هي الذوات ، بل مقيدة بحيثيات خاصة ، مثلا الموضوع في" كل
فاعل مرفوع" ، إنما هو الفاعل من حيث قابلية عروض الرفع عليه وتكون الفاعلية
علة لعروض الرفع عليه ، قال : وهذه الحيثية من الأمور الاعتبارية ، مراده أنها من
الأمور الانتزاعية.
الثانية : إن
المراد بهذه الحيثية في الموردين ، هي الحيثية السابقة التي بها يستحق الإعراب
الفعلي ، لا الحيثية اللاحقة الإعرابية ، حتى يقال : إن الكلمة المعربة يستحيل
عروض الإعراب عليها.
الثالثة : إن
الأمور الانتزاعية والاعتبارية ، ليست من قبيل الجواهر التي تنحل في الخارج إلى
جزءين : مادة وصورة ، ولذا قد تنعدم الصورة وتبقى المادة المشتركة متصورة بصورة
أخرى ، ولا من قبيل الأعراض المنحلَّة بتعمّل من العقل إلى جزءين ، وان كانت في
الخارج بسيطة ، بل هي من سنخ الوجود الذي هو بسيط من جميع الجهات ، ويكون ما به
الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.
إذا عرفت هذه
الأمور ، تبيَّن لك أن موضوع العلم إنما يكون منطبقا على موضوعات المسائل بنحو
العينية ، ويكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع مسألة أخرى ، هو عين ما به
يشتركان ، فيكون عوارض موضوعات
__________________
المسائل عوارض
ذاتية لموضوع العلم.
ويتوجه عليه ، أن
خصوصيات موضوعات المسائل المنوعة ، أو المصنفة لها الموجبة لصيرورتها أنواعاً أو
أصنافاً ، تكون دخيلة في الموضوع ، لا أنها حيثيات تعليلية ، مثلا الموضوع في
قولنا ، " كل فاعل مرفوع" ، هو الفاعل بما هو فاعل ، وفي قولنا ، "
الصلاة واجبة" هي الصلاة بما هي صلاة وهكذا ..
وعليه فان ادعى أن
موضوع العلم هي نفس تلك الحيثية الانتزاعية بما أنها تشير إلى موضوعات المسائل ،
فمرجع ذلك إلى إنكار وجود الموضوع.
وان ادعى أن
الموضوع هي نفس تلك الحيثية بما هي ، فتكون المحمولات عوارض غريبة لها ، لكونها
تعرضها بواسطة موضوعات المسائل التي غير ذلك الأمر الانتزاعي.
وان ادعى أن
الموضوع هو الكلي الجامع بين موضوعات المسائل مقيدا بالحيثية المذكورة ، فيعود
المحذور ، ويضاف إليه أنّ المقيّد بالأمر الانتزاعي لا يكون من البسائط.
وبما ذكرناه ظهر
أنّ ما أفاده بعض الأساطين (ره) في دفع العويصة ـ
من أنَّ خصوصيات
موضوعات المسائل ، جهات تعليلية لترتب المحمولات على الذات." مثل : الرفع
والنصب وغيرهما من العوارض ، إنما تعرض على ذات الكلمة لا على أنواع خاصة"
فان الفاعلية والمفعولية وغيرهما من
__________________
الخصوصيات
المنوِّعة ، " بل هي جهات تعليلية لعروض العوارض المزبورة على الذات ، نظير
المجاورة للنار بالنسبة إلى حرارة الماء" وعلى ذلك فليس موضوع العلم إلا عين
موضوعات المسائل ، وليست بالنسبة إليه من قبيل الأنواع إلى جنسها ـ.
غير تام ، إذ
الخصوصيات دخيلة في الموضوع ، وتكون جهات تقييدية في عروض العوارض. وذلك في المسائل
الفقهية واضح فان الصلاة بما هي صلاة ، واجبة لا بما هي فعل المكلف الجامع بينها
وبين شرب الخمر. وأما في غيرها ، فلان المحمول في قولنا : " الفاعل
مرفوع" مثلا ، إنما هو جعل الرفع له ، ومن البديهي ، أن الجاعل إنما جعل لكل
نوع حركة خاصة ليمتاز كل من الأنواع عن الأخر.
فتحصل أن شيئا مما
قيل في دفع هذه العويصة لا يفيد.
فالحق هو الالتزام
بالإشكال ، وتعين رفع اليد عن أحد المبنيين ، والبناء :
إما على انه لا
يلزم أن تكون المحمولات عوارض ذاتية لموضوع العلم ، كما هو الصحيح ـ إذ لو ترتب
غرض على البحث عن العوارض الغريبة لموضوعات المسائل ، فضلا عن موضوع العلم ، صح
تدوين علم خاص ، وقد التزم به الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) .
__________________
وإما أن العارض
بواسطة أمر أخص كالنوع ، لا يكون عارضا غريبا للأعم كالجنس.
بما ذكرناه تندفع
الشبهة الناشئة من أعميَّة موضوعات مسائل علم الأصول عن موضوع العلم.
* * *
ما به تمايز العلوم
الامر الرابع :
فيما به تمايز العلوم.
قال المحقق
الخرساني : " وقد انقدح بما ذكرناه ، أن تمايز العلوم ، إنما
هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين" انتهى.
وأورد عليه : بأنه
لم يذكر ما يظهر منه ذلك ، ولكنه ناشئ عن عدم التدبُّر في كلماته فانه ذكر.
أولاً : إن موضوع
العلم ، هو الجامع بين موضوعات المسائل ، وأقام البرهان عليه ، بان موضوع العلم ،
ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وحيث أنّ ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، هو
موضوعات المسائل ، فيكون موضوع العلم هو موضوعات المسائل ، ومحمولاتها لواحقه ،
ونتيجة ذلك ، كون العلم عبارة عن جملة مسائل جمعها المدون وسماه باسم واحد.
وثانيا : أنّ الذي
أوجب جمع المسائل المتشتتة وجعلها واحدا اعتباريا ،
هو اشتراكها في
الدخل في الغرض ، الذي لأجله دون هذا العلم ، فيكون نتيجة ذلك كله ، أن تمايز
العلوم إنما يكون باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين.
ولكن يرد على ما
اختاره في ما به التمايز في مقابل المشهور القائلين ، بان
__________________
تمايز العلوم إنما
يكون بتمايز الموضوعات ، وهو أن تمايز العلوم إنما يكون بتمايز الأغراض التي دونت
العلوم لأجلها ، أمور :
الأول : انه يرد
عليه ما أورده هو (قدِّس سره) على المشهور ، " من انه يلزم أن يكون كل باب بل كل
مسألة من كل علم علما على حدة" ، إذ يترتب على كل مسألة غرض خاص غير الغرض
المترتب على مسألة أخرى ، مثلا الغرض في علم الأصول : الاقتدار على الاستنباط ،
وبديهي أن القدرة المترتبة على مسألة حجية خبر الواحد ، غير القدرة المترتبة على
مسألة حجية الاستصحاب.
الثاني : انه ربما
لا يترتب على علم غرض خاص كالفلسفة العالية.
الثالث : انه على
مسلكه (قدِّس سره) يستكشف من وحدة الغرض ، وحدة الموضوع ، الجامع بين موضوعات
المسائل المؤثرة في ذلك الغرض ، فلا يكون لعدوله وجه عن ما اختاره المشهور ، إذ مع
وجود المائز في المرتبة السابقة على الغرض لاوجه لجعله مائزا.
وأما ما أورده
المحقق النائيني عليه : أنَّ العلوم المدوَّنة ربما لا يترتب عليها
الأغراض المذكورة
، فلا يمكن أن يكون التمايز بها.
فغريب إذ ليس
المراد من الأغراض الوجودات الخارجية ، بل الاقتدار عليها ، مثلا الغرض من علم
النحو ليس صيانة المقال عن الألحان بل القدرة
__________________
عليها.
وحقُّ القول في
المقام ، انه لا ريب في أنّ كل مسألة من أي علم كانت لها واقع محفوظ ومتحققة في
نفس الأمر مع قطع النظر عن العلم والجهل ، كان المحمول فيها من الأمور الحقيقية ،
أو كان من الأمور الاعتبارية كالوجوب.
وتميز كل مسألة عن
غيرها ، تارة يكون بالموضوع ، وأخرى بالمحمول ، وثالثة بكليهما.
كما لا ريب في أن
هذه المسائل المتشتتة المتحققة في نفس الأمر ، يشترك كل طائفة منها في أمر واقعي
مع قطع النظر عن تدوين العلم ، وذلك الأمر ربما يكون هو الجامع بين موضوعات
المسائل ، وربما يكون هو الجامع بين المحمولات ، وثالثا يكون هو الغرض المترتب على
المجموع الجامع بين الأغراض الخاصة المترتبة على المسائل ، وذلك الجامع أيضاً
يختلف سعة وضيقا.
مثلا يترتب على
مسائل باب الفاعل ، غرض واحد في قبال باب المفعول. ويترتب على مسائل باب المرفوعات
، غرض وحداني أوسع من ذلك الغرض. ويترتب على مسائل النحو غرض أوسع. وهكذا ... هذا
حال المسائل قبل التدوين.
وأما بعد التدوين
وجعل كل طائفة من تلك المسائل علما مستقلا ، فيتوجه السؤال عن ما به تمايز العلوم
وانه بما ذا تمايز كل علم عن غيره.
وفي هذا المقام
أقول : إنّ التمايز تارة يكون المراد منه التمايز في مقام التعليم والتعلم لكي
يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه وان أيتها
داخلة في هذا العلم
، وأيتها خارجة عنه.
وأخرى يراد به
التمايز في مقام التدوين ، وانه ما ذا يكون داعيا وباعثا لاختيار المدون عدّة من
القضايا المتشتتة المتخالفة وتدوينها علما واحدا وتسميتها باسم واحد؟
أما التمايز في
المقام الأول : بالنسبة إلى الجاهل المتعلم ، فتارة يكون بالموضوع ولو مقيدا
بحيثية خاصة ، كما يقال : إن موضوع علم النحو ، الكلمة والكلام من حيث الإعراب
والبناء ، والمراد بالحيثية المذكورة ، حيثية استعداد ذات الموضوع لورود المحمول
عليه. وعليه ، فدعوى : " أنّ ذلك يرجع إلى التمييز بالمحمولات" ناشئة عن
عدم مراجعة كلمات أهل المعقول.
وأخرى يكون
بالمحمول ، كما يقال في تعريف علم الفقه : بأنه العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها
التفصيلية.
وثالثة يكون
بالغرض ، كما ترى من تعريف المنطق بأنه : قانون آلي يقي رعايته عن خطأ الفكر وهذا
غايته.
ورابعة يكون بذكر
فهرست المسائل إجمالاً .
وأما في المقام
الثاني : بالنسبة إلى المدوِّن ، فمناط اعتبار الوحدة لعدة مسائل
__________________
متشتتة وجعلها
علما واحدا ، ليس هو وحدة الموضوع ، أو المحمول ، أو الغرض ، لأنه ، وان كان لها
جامع حقيقي ، وهو تارة يكون بالموضوع ، وأخرى بالمحمول ، وثالثة بالغرض المترتب
عليها ، إلا أنّ ذلك الجامع يختلف سعة وضيقا كما مر تفصيله.
بل المناط : هو
غرض المصنف الشخصي ، مثلا تارة يتعلق غرضه بتدوين علم يترتب عليه غرض خاص كعلم
المنطق ، وأخرى يتعلق بتدوين ما يعرف فيه أحوال الإنسان من تمام جهاته ، وثالثة
يتعلق بتدوين ما يعرف به ما يعرضه الحركة والسكون ، وهكذا ... وهذا هو المصحح لهذا
الاعتبار ، كما هو واضح بعد التدبر في ما ذكرناه.
* * *
موضوع علم الأصول
الامر الخامس : في
موضوع علم الأصول.
مما ذكرناه ظهر
انه لا موضوع لهذا العلم ، ولكن لو تنزلنا عن ذلك ، وسلمنا أنَّ له موضوعا ، فيقع
الكلام في بيان ما هو الموضوع؟
ربما يقال : أن
موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها. واختار هذا القول ، المحقق القمي ، ونسب إلى كثير من الأصحاب ، بل قيل : انه المشهور بينهم.
أورد عليه : بان لازم ذلك ، خروج أكثر المسائل الأصولية عن علم
الأصول ، وكونها من مباديه ، كمباحث الحجج والأمارات ، ومباحث الاستلزامات العقلية
، والأصول العملية ، وغير ذلك من المباحث لان البحث
__________________
في مباحث الحجج
والأمارات بأسرها بحث عن الدليلية فهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية ،
فتدخل في مباديه.
والبحث في
الاستلزامات العقلية بحث عن أحوال الأحكام بما هي أحكام ، لا عن عوارض الأدلة بما
هي أدلة ، ولا بما هي هي ـ فتدخل في المبادئ الأحكامية ، وبذلك يظهر خروج الأصول
العملية.
ولذلك عدل صاحب
الفصول عن هذا المسلك ، واختار أن الموضوع" ذوات الأدلة بما
هي" ، وعليه فالبحث عن دليليتها ، بحث عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته.
ولكن يرد عليه :
أن البحث في حجية خبر الواحد ، وسائر الإمارات على هذا خارج عن علم الأصول.
فان المراد من
السنة : إن كان نفس قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره ، كما هو كذلك ، فالبحث عن
حجية الخبر بحث عن عوارض الحاكي للدليل لا عن عوارضه ، وأيضاً ، يلزم خروج مبحث
التعادل والترجيح ، وما شاكله من المباحث والاستلزامات العقلية عنه.
__________________
ولذلك التجأ الشيخ
الأعظم إلى إرجاع البحث عن حجية الخبر الواحد إلى البحث عن أحوال
السنة ، وقال : فمرجع هذه المسألة إلى أنّ السنة ، اعني قول الحجة ، أو فعله ، أو
تقريره ، هل تثبت بخبر الواحد أم لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة
، ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة. انتهى.
أورد عليه المحقق
الخرساني بقوله : فان البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد كان
التامة ، ليس بحثا عن عوارضه ، فإنها مفاد كان الناقصة.
لا يقال : هذا في
الثبوت الواقعي ، وأما الثبوت التعبدي كما هو المهم في هذه المباحث ، فهو في
الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.
فانه يقال نعم ،
لكنه مما لا يعرض السنة ، بل الخبر الحاكي لها ، فان الثبوت التعبدي ، يرجع إلى
وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به ، وهذا من عوارضه ، لا عوارضها.
انتهى.
وقد ذُكر ـ لإرجاع
البحث عن ثبوت السنة بالخبر بالثبوت التعبدي ، إلى البحث عن عوارض السنة انتصاراً
للشيخ الأعظم ـ وجهان :
أحدهما : ما في
تعليقة المحقق الأصفهاني على الكفاية ، وحاصله : أن
__________________
حجية الخبر ،
عبارة عن تنزيله منزلة السنة ، فهو وجود تنزيلي لها ، وهذا المعنى كما له مساس
بالخبر كذلك له مساس بالسنة ، فان حاصل البحث ، إثبات وجود تنزيلي للسنة ، وبهذا
الاعتبار يقال بثبوت السنة تعبدا.
وفيه أولاً : انه
قد حققنا في محله ، وسيأتي في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، أنه لا تنزيل في باب الحجج ، بل جعل الحجية ، عبارة عن
جعل الحكم المماثل ، أو تتميم الكشف ، فلا يكون مؤدى الخبر ، منزلاً منزلة الواقع.
فان قلت : إن جعل
الكاشفية للخبر ، يلازم جعل المنكشفية للسنة ، وصيرورتها محكية ، يرجع البحث فيها
إلى البحث عن عوارض السنة.
قلت : إن غرض
الأصولي متعلق بالجهة الأولى ، وأما الجهة الثانية فلا يبحث عنه الأصولي ، وإنما
هي لازمة لما يبحث عن ثبوته ، وهو كاشفية الخبر.
ثانيهما : إنَّ
حجية الخبر ، عبارة عن تنجز السنة بالخبر ، فالبحث عن حجية الخبر ، بحث عن عوارض
السنة.
وفيه : مضافا إلى
ما حقق في محله ، من عدم معقولية جعل المنجزية وسيأتي مفصلا في الجمع بين الحكم
الظاهري والواقعي.
أن المجعول هو
المنجزية للخبر لا المتنجزية للسنة ، وان كانت هي لازمة لما هو المجعول ، فهو
أشكال وجواب ، كالثبوت التعبدي.
فإيراد المحقق
الخراساني على الشيخ الأعظم ، متين لا يمكن الجواب عنه ،
__________________
فهذا الوجه أيضاً
لا يتم.
ولذلك عدل صاحب
الكفاية عن مسلك المشهور ، والتزم بان موضوع علم الأصول ، عبارة عن
جامع مقولي واحد لموضوعات مسائله. وقد مر ما في ذلك مفصلا.
فعلى فرض لزوم البناء
على وجود الموضوع.
فالحق أن يقال :
انه الجامع الانتزاعي من مجموع مسائله ، كعنوان ما يقع نتيجة البحث عنه في طريق
الاستنباط ، وتعيين الوظيفة في مقام العمل.
* * *
__________________
تعريف علم الأصول
الامر السادس : في
تعريف علم الأصول.
المعروف بين
الأصحاب في تعريف علم الأصول ، " أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم
الشرعي" .
قال في الكفاية : الأولى تعريفه : " بأنه صناعة ، يعرف بها القواعد
التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهي إليه في مقام
العمل" انتهى.
ووجه الأولوية
أمور ، عمدتها اثنان :
أحدهما : خلوه من
ذكر العلم.
وهو متين ، إذ
الأصول ليس هو العلم بالقواعد الخاصة ، بل هو الفن والصناعة ، وهي نفس المسائل
التي يتعلق بها العلم تارة ، والجهل أخرى ، وأما العلم بتلك القواعد ، فهو العلم
بالأصول ، لا علم الأصول.
ثانيهما : إضافة
قيد : " أو التي ينتهي إليها في مقام العمل" لتدخل مسألة
__________________
حجية الظن على
الحكومة ، ومسائل الأصول العملية في علم الأصول.
توضيح ذلك : انه (ره)
في أول مسألة البراءة ، صرح : بان الأصول العملية لا تقع في طريق استنباط الأحكام ،
لأنها وظائف مجعولة للجاهل بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على الحكم الشرعي.
وأما حجية الظن
على الحكومة في حال الانسداد ، فالمراد بها ، التبعيض في الاحتياط ،
والاكتفاء في مقام الامتثال بالامتثال الظني كما حققناه في محله ، فلو اقتصر في
التعريف ، على ما اشتهر ، لزم خروج هذه المسائل عن الأصول ، وهو بلا وجه. وهذا هو
الوجه لإضافة هذا القيد ، وعدم الاقتصار على تعريف المشهور.
لا ما أفاده
المحقق الأصفهاني (ره) : من أنّ الأصول العملية على قسمين : الأول : الأصول
الشرعية ، والثاني : الأصول العقلية ، والأصول الشرعية بأنفسها أحكام شرعية ، لا
أنها واسطة في استنباطها ، والأصول العقلية ، لا تنتهي إلى حكم شرعي أبداً ، والظن
الانسدادي لا ينتهي إلى حكم شرعي ، بل ظن به
__________________
أبدا.
ثم انه (ره) سرّى
هذا الإشكال إلى جل المسائل الأصولية ، بدعوى أن المجهول في الإمارات غير العلمية
سندا كخبر الواحد ، إما أحكام مماثلة لما اخبر به العادل ، أو منجزيتها للواقع ،
وعلى الأول ، تكون نتيجة البحث عن حجيتها ، حكما شرعيا ، وعلى الثاني ، لا ينتهي
إلى حكم شرعي ، وكذلك في الإمارات غير العلمية دلالة ، كالظواهر ، بل يتعين فيها
الثاني ، لان دليل حجيتها بناء العقلاء ، ولا معنى للالتزام بان هناك حكما من
العقلاء مماثلا لما دل عليه ظاهر اللفظ حتى يكون إمضاء الشارع أيضاً كذلك.
ثم ادخل مباحث
الألفاظ في ذلك من جهة أن نتائجها لا تقع في طريق الاستنباط إلا بتوسط حجية
الظواهر التي عرفت حالها.
ثم بعد ذلك
تصحيحاً لتعريف المشهور بنحو لا يرد عليه هذا الإيراد قال : " إذ ليس حقيقة الاستنباط والاجتهاد إلا تحصيل
الحجة على الحكم الشرعي".
وهذا المعنى كما
ينطبق على حجية الإمارات ، لأنها بأي معنى كانت دخيلة في إقامة الحجة على حكم
العمل في الفقه ، كذلك ينطبق على حجية الأصول العملية ، وعليه فعلم الأصول ، ما
يبحث فيه عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي من دون لزوم التعميم.
__________________
أما ما ذكره في
تعريف الاستنباط ، فهو مما لا تساعد عليه اللغة ، ولا الاصطلاح.
وأما الجواب ـ عن
اصل الإشكال بحيث يتم ما ذكره المشهور ، ويندفع ما أورد عليه ـ فيتوقف على بيان
مقدمات :
الأولى : إن
المراد من الأحكام الشرعية ، إنما هي الأحكام الكلية القابلة للإلقاء إلى المقلدين
، ويكون تطبيقها على مصاديقها بيد المقلدين لا المجتهدين ، فلا تشمل الأحكام
الجزئية ، كحرمة الخمر المعيَّنة الخارجية ، ولا الأحكام الكليَّة التي يكون أمر
تطبيقها بيد المجتهد ، ولا يقدر المقلِّد على ذلك ، وليست هي وظيفته.
الثانية : إن
المراد بها ، اعم من الأحكام الظاهرية والواقعية.
الثالثة : إن
المراد من القواعد التي تقع في طريق الاستنباط ، ما يمكن أن يقع
__________________
في طريق الاستنباط
، لا الواقعة في ذلك الطريق على كل تقدير.
وبعبارة أخرى ،
المراد بها ، المسائل التي تقع نتيجتها في طريق الاستنباط في الجملة وعلى بعض
التقادير ، ولا يعتبر وقوع النتيجة على جميع التقادير في طريق الاستنباط ، مثلا :
مسألة حجية الخبر الواحد ، مسألة تقع نتيجتها في طريق الاستنباط على تقدير القول
بالحجية ، ولا تقع في ذلك الطريق على فرض القول بعدم الحجية.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : أن الإمارات غير العلمية تقع في طريق الاستنباط بمعنى انه لو انضم إلى
نتيجة البحث فيها صغرياتها ، تكون النتيجة حكما كليا فرعيا ، سواء قلنا : بان
المجعول فيها ، الطريقية ، أو الحكم المماثل.
أما على الأول
فواضح.
وأما على الثاني
فلان نتيجة البحث فيها وان كان حكما شرعيا إلا أنه حكم غير قابل للإلقاء إلى
المقلدين ، بل أمر تطبيقها على صغرياتها بيد المجتهد ، وهذا بخلاف الحكم المستخرج
منها ، بعد ضم الصغرى إليها ، فانه يكون حكما كليا قابلا للإلقاء إلى المقلدين.
وبهذا ظهر حال
الأصول العمليَّة الشرعية كالاستصحاب ، فإنها وان كانت بأنفسها أحكاما إلا أنها لا
يصح إلقائها إلى المقلدين ، نعم بينهما فرق ، وهو أنّ المستخرج من الإمارات حكم
واقعي ، والحكم المستخرج من الأصول العملية حكم ظاهري ، وهذا لا يوجب الفرق فيما
هو ضابط كون المسألة أصولية.
وأما الأصول
العقلية ، فهي بأنفسها ليست من المسائل ، ولم تُعنون في
الأصول ، مثلا :
في الأصول ، لا يبحث عن قبح العقاب بلا بيان ، بل هي قاعدة مسلمة عند الجميع ، وهي
مسألة كلامية ، والمخالف فيها إنما هو الأشعري ، كما لا يبحث فيها عن وجوب دفع
الضرر المحتمل ، واستحالة الترجيح بلا مرجح ، والتكليف بما لا يطاق ، وإنما تكون
هذه ، قواعد مسلَّمة عند الكل ، بل في الأصول ، في مسألة البراءة ، إنما يبحث عن
انه هل يجب التوقف والاحتياط في الشبهة التحريمية لأخبار الاحتياط والتوقف أم لا
دليل على وجوبه؟
واختار الاخباريون
الأول ، وذهب الأصوليون إلى الثاني ، وحيث انه على تقدير ثبوت دلالة الأخبار على
وجوب الاحتياط تقع النتيجة في طريق الاستنباط ، لأنه إذا انضم إليها (إن شرب التتن
محتمل الحرمة) يستنج حكم فرعي كلي ، وهو عدم جواز شرب التتن ، فتكون المسألة
أصولية ، وان كان على تقدير العدم والدخول في قاعدة : " قبح العقاب بلا
بيان" لا يستنبط حكم أصلاً ، كما عرفت في المقدمة الثالثة.
كما انه في مبحث
الاشتغال ، إنما يبحث عن شمول أدلة البراءة ، كحديث الرفع وغيره ، لأطراف العلم
الإجمالي والشبهات قبل الفحص ، أم لا؟ وعلى تقدير العدم يرجع إلى قاعدة وجوب دفع
الضرر المحتمل فيما يمكن الموافقة والمخالفة ، واستحالة الترجيح بلا مرجح فيما لا
يمكن ، وحيث انه على تقدير الشمول ، يستنبط من ضم الصغرى إلى نتيجة المسألة حكم فرعي
كلي ، فتكون المسألة أصولية.
وقد يقال : انه
على ما ذكرت تكون ، قاعدة الطهارة وقاعدة لا ضرر ، وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده ، من المسائل الأصولية :
فانه يستنتج من
الجميع أحكام فرعية كليَّة ، مثلا يستنتج من الأولى طهارة الحديد ، ومن الثانية
عدم لزوم البيع الغبني ، ومن الثالثة أن البيع الفاسد يضمن به.
أقول : أما قاعدة
الطهارة ، فهي وان انطبقت عليها تعريف مسائل الأصول إلا أن وجه عدم عدِّها من
المسائل ، أمران :
الأول : اتفاق
الكل عليها ، ولم يخالف فيها أحد كي تُعنون وينازع فيها ، والذي يدلنا على أن هذا
هو وجه عدم التعرض لها ، إلغاؤهم لجملة من المباحث الأصولية وعدم تعرضهم لها ،
كمسألة حجية القياس ، ولذا تكون مذكورة في عداد المسائل في كتب القدماء.
الثاني : أن
المسائل الأصولية بالتتبع والاستقراء ، هي ما يفيد في جميع أبواب الفقه أو أكثرها
، وليست قاعدة الطهارة كذلك.
وأما قاعدة لا ضرر
فقد حققناه في محله ، وسيأتي في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، إن الضرر المنفي هو الضرر الشخصي ، لا النوعي ، وعليه
فلا يستنتج منها حكم كلي ، وإنما يستنتج منها أحكام جزئية شخصية ، ولذلك ذكرنا في
محله : انه لا يمكن إثبات خيار الغبن بحديث لا ضرر.
ومنه : يظهر ما في
قاعدة : " ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده" لما حقق
__________________
في محله ، من أن المراد بها ، انه كل عقد شخصي خارجي إن كان صحيحا
، يضمن به ، فكذلك على تقدير الفساد.
* * *
__________________
العلقة الوضعية ليست من الأمور الواقعية
الامر السابع : في
الوضع ، والكلام فيه في جهات :
الأولى : إن
العلقة الوضعية التي تكون بين اللفظ والمعنى ، ولاجلها يدل اللفظ على المعنى ، هل
هي ذاتية؟ أم جعلية محضة؟ أم تكون وسطا بينهما؟.
الثانية : انه على
فرض كون العلقة جعلية ، ما ذا يكون مجعولا؟.
الثالثة : في
أقسام الوضع إمكانا ، وأقسامه وقوعاً.
أما الجهة الأولى
: فقد يقال : أنها ذاتية ، بمعنى أنها من الأمور التكوينية الواقعية ، ولكنه فاسد ،
لان الأمور الواقعية على قسمين :
الأول : الموجودات
الخارجية.
الثاني : النفس
الأمرية التي يكون الخارج ظرفا لنفسها لا لوجودها ، أي لا وجود خارجي لها ، ومع
ذلك لا تكون فرضية واعتبارية كالملازمات ، واستحالة
__________________
اجتماع النقيضين ،
فإنها أمور واقعية ومع ذلك لا وجود لها.
والقسم الأول :
ينقسم إلى الجوهر والعرض ، أما عدم كون الوضع من الجواهر ، فلان الجوهر هو الموجود
لا في الموضوع ، والوضع ليس له وجود خارجي ، وعلى فرضه ، يكون وجوده بوجود
المرتبطين.
وأما عدم كونه من
الأعراض ، فلان هذه العلقة قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى لا بوجودهما ، ولذا يصح
الوضع للمعدوم بل للمستحيل ، وأما عدم كونه من الأمور النفس الأمرية ، فلان المراد
بكونه منها ، إن كان كونه من المدركات العقلية ، نظير الملازمة بين طلوع الشمس
والنهار ، فهو بديهي الفساد.
إذ لا ريب في انه
مع الجهل باللغة لا ينتقل الذهن إلى المعنى من تصور اللفظ. وان كان المراد ، ثبوت
المناسبة الذاتية بين كل لفظ ومعناه ، وان كانت تلك المناسبة بنحو لا يلتفت إليها
الواضع حين الوضع ، وهو وان لم يكن مستحيلا ، إلّا انه لا بد من إقامة البرهان
عليه.
والاستدلال له : ـ
بأنه بما أن نسبة جميع الألفاظ إلى كل معنى من المعاني على حدٍّ سواء فوضع لفظ خاص
لمعنى مخصوص من دون تلك المناسبة ، ترجيح بلا مرجح ، وهو محال ، فلا بد من
الالتزام بثبوتها ـ.
فاسد ، لعدم استحالة
الترجيح بلا مرجح ، كما حقق في محله ، لا سيما إذا كان هناك مرجح لاختيار الطبيعي
الجامع بين الأفراد ، فانه في هذه الصورة لا قبح فيه أيضاً ـ وسيأتي الكلام في ذلك
في مبحث الطلب والإرادة ـ مع أن المرجح يمكن أن يكون أمراً خارجيا ، كمن يسمى ولده
(رضا) لكونه متولدا
في يوم تولد
إمامنا الرضا مثلا.
مضافا إلى أن
الالتزام بذلك ، غير مربوط بالمدَّعى ، وهو كون العلقة أمراً واقعيا ، وإنما يكون
ذلك التزاما بان منشأها أمراً حقيقيا.
فتحصل عدم كون
دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية محضة.
وقد يدَّعى كما عن
المحقق النائيني (ره) بأن الوضع وسط بين الواقعيات والجعليات. وحاصل ما ذكره :
انه بعد ما نقطع بحسب التواريخ انه ليس هناك شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ للمعاني ،
ونرى عدم كون الدلالة ذاتية.
فلا محيص عن
الالتزام بان الواضع هو الله تعالى جعل لكل معنى لفظا خاصا لما بينهما من مناسبة
مجهولة عندنا ، وهذا الجعل منه تعالى ليس جعلا تكوينيا كحدوث العطش عند احتياج
المعدة إلى الماء ، ولا جعلا تشريعيا كجعل الأحكام المحتاج إيصالها إلى إرسال
الرسل ، بل يكون وسطا بينهما ، ويلهم الله تبارك وتعالى عباده على اختلافهم
بالتكلم بلفظ مخصوص عند إرادة معنى خاص ، فحقيقة الوضع هو التخصيص والجعل الإلهي.
ويرد عليه : مضافا
إلى أن لازم ما ذكره عدم كونه أمراً واقعيا بل جعليا ، غاية الأمر طريق إيصاله غير
طريق إيصال سائر المجعولات الشرعية وذلك لا يخرجه عن كونه جعلياً ، هذا البرهان
مؤلف من أمرين :
الأول عدم إمكان
كون الواضع هو البشر : لاستحالة إحداث شخص أو
__________________
أشخاص ألفاظ جديدة
بقدر ألفاظ أي لغة ، أو تعذره ، بل تصور المعاني أيضاً.
الثاني : عدم
تسجيل التاريخ ذلك ، ولو كان الواضع شخصا أو أشخاصاً لا محالة كان مسجلا في
التاريخ.
وفيهما نظر :
أما الأول ، فلأنه
من الممكن أن يكون الواضع جماعة يضعون كل لفظ خاص عند الاحتياج إلى إبراز المعاني
المخصوصة في مدَّة من الزمن. ومما يؤكد ذلك ، ما نرى من وضع ألفاظ خاصة للمعاني
الحادثة عند الابتلاء إلى إبرازها.
وأما الثاني ،
فلان الوضع التدريجي بالنحو المتقدم ، ليس من الأمور المهمة ، والحوادث التاريخية
، كي يتصدى الناس لضبطه.
فالمتحصل أن
العلقة الوضعية ليست ذاتية ولا يكون لها منشأ ذاتي.
بيان حقيقة الوضع
وأما الجهة
الثانية ، فقد ذهب كثير من المحققين ، إلى أنها حقيقة اعتبارية ، وذكروا في كيفيتها أموراً :
__________________
احدها : ما أفاده
المحقق الأصفهاني ، وحاصله : انه كما يكون للأسد مثلا نحوان من الوجود :
حقيقي وهو الحيوان المفترس ، واعتباري وهو الرجل الشجاع كذلك يكون للوضع نحوان من
الوجود : الحقيقي كوضع العلم على رأس الفرسخ لينتقل من النظر إليه ، أن هذا رأس
الفرسخ ، والاعتباري ، بمعنى أن الواضع يعتبر وضع لفظ خاص على معنى مخصوص.
وفيه : انه في باب
الوضع الحقيقي لا دلالة حقيقية ، بل هي فيه أيضاً تابعة للجعل والبناء فباب الوضع
الخارجي أجنبي عن باب الدلالة ، وان كان قد يتصادقان في مورد واحد كالمثال ، كما
انه قد يتصادق الرفع والدلالة ، كما لو بنى المولى على انه كلما عطش يرفع العمامة
من رأسه فيكون الرفع دالا على حدوث العطش ، وموجبا لانتقال الذهن إليه ، وعليه
فحقيقة الوضع ليست اعتبار مفهوم الوضع على حد الوضع الخارجي ، مع انه ينافي ذلك ما
سيصرح به (ره) في مبحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، من أن اللفظ ليس علامة
للمعنى بل يكون وجودا تنزيليا للمعنى ، وعليه يبنى عدم جواز الاستعمال المذكور.
وقد أورد عليه
الأستاذ الأعظم تارة : بان هذا المعنى أجنبي عن أذهان الواضعين لا سيما
الأطفال وأمثالهم الذين يصدر منهم الوضع كثيرا فكيف
__________________
يمكن صدور الوضع
مع كونه أمراً مغفولاً عنه.
وأخرى : بأنه في
الوضع الحقيقي ، المكان المخصوص موضوع عليه ، وكونه رأس الفرسخ ، موضوعا له
ومدلولا ، وفي المقام الموضوع له والموضوع عليه شيء واحد ، وهو المعنى.
وفيهما نظر :
أما الأول ، فلأنه
إن أراد بذلك أن الواضعين لا يتصورون الفرد الحقيقي ، ويكون حقيقة مغفولاً عنها ،
فيرد عليه انه لا يعتبر في الاعتباريات تصور الفرد الحقيقي والالتفات إليه حين
اعتبار ، ألا ترى أن أهل القرى والصبيان في معاوضاتهم يعتبرون الملكية مع انه لا
ينتقل أذهانهم إلى فردها الحقيقي الذي هو من الأعراض الخارجية والمقولات الواقعية؟
وان أراد أنهم لا يتصورون الاعتبار نفسه ، فيرد عليه : انه ما الفرق بين هذا
الاعتبار وسائر الاعتبارات كالملكية حيث أنهم يعرفونها ولا يعرفون هذا.
وأما الثاني :
فلأنه لا يعتبر في الوضع الحقيقي كون المدلول والموضوع له غير الموضوع عليه ، بل
قد يتحدان ، وأخرى يتعددان.
أما الأول ، فكما
في المثال ، حيث أن رأس الفرسخ الذي هو الموضوع له عنوان منطبق على نفس ذلك
المكان.
وأما الثاني ،
فكوضع العلم على باب البيت للدلالة على انعقاد مجلس خاص في البيت. وعليه فالمعنى
موضوع له وموضوع عليه في المقام ، واستغراب إطلاق الموضوع عليه على المعنى ، لعدم
شيوع هذا الاستعمال ، لا لعدم كونه
كذلك ، فالصحيح في
الإيراد ما ذكرناه.
الثاني ، اعتبار
كون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى. فيكون وجود اللفظ وجوداً للمعنى في عالم التنزيل.
وفيه : أن نتيجة
الوضع ، الانتقال من اللفظ إلى المعنى وكان المعنى هو الملقى إلى المخاطب ويحكم
عليه بما يشاء ، لا ترتيب آثار المعنى على اللفظ كي يصح هذا التنزيل.
وان شئت قلت أن
التنزيل الادعائي إنما يكون بلحاظ ترتيب آثار المنزَّل عليه على المنزل ومن الواضح
انه في باب الوضع ليس كذلك ، إذ الواضع لا يريد بالوضع ترتيب آثار المعنى على
اللفظ.
فالتحقيق أن حقيقة
الوضع ، ليست إلا ما اختاره جملة من أساطين المحققين ، منهم صاحب تشريح الأصول والأستاذ الأعظم ، وهو التعهد بذكر
اللفظ
__________________
عند تعلق قصد
المتكلم بتفهيم المعنى وإبرازه ، ويكون متعلق هذا الالتزام النفساني أمراً
اختياريا ، وهو التكلم بلفظ مخصوص عند إرادة إبراز معنى خاص ، والارتباط لا حقيقة
له ، وإنما ينتزع من ذلك.
وهذا المعنى ،
مضافا إلى كونه موافقاً لمعنى الوضع لغةً ، وهو الجعل والإقرار ، مما يساعده
الوجدان والارتكاز.
وأورد عليه
بإيرادات :
الأول : إن حقيقة
التعهد المزبور ، هي الإرادة المقومة لتفهيم المعنى باللفظ ، وحيث أنها إرادة
مقدمية توصلية فلا يعقل أن تتعلق بما لا يكون مقدمة لتفهيم المعنى إلّا بنفس هذه
الإرادة .
وفيه : أن المراد
بالتعهد المزبور ، هو البناء الكلي على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى به في
مرحلة الاستعمال ، وعليه ، فالتعهد المزبور ، غير متوقف على كون اللفظ مفهما فعلا
، بل يتوقف على كونه لائقا ومستعدا في نفسه لذلك. وذلك الاستعداد ، لا يتوقف على
التعهد ، وما يتوقف على كونه مفهما فعلا ،
__________________
هي الإرادة
الاستعماليّة التي هي غير هذا البناء الكلي.
الثاني : ما عن
المحقق العراقي (ره) من أن التعهد
المزبور ، إن كان راجعا إلى النطق باللفظ الخاص الذي هو مرآة للمعنى الخاص عند
إرادة ذلك ، فيرد عليه : أن ذلك يتوقف على مرآتية اللفظ للمعنى في رتبة سابقة ،
وهي يتوقف على الوضع وبعده يكون التعهد لغوا.
وفيه : أن التعهد
المزبور لا يتوقف على المرآتية الفعلية ، بل يتوقف على القابلية لذلك ، والمرآتية
الفعلية ، إنما تتحقق بنفس هذا التعهد ، وما يتوقف على المرآتية الفعلية إنما هو
الاستعمال.
الثالث : إن
التعهد لا بد وان يتعلق بأمر اختياري ، فالواضع متعهد لاستعمال نفس اللفظ المخصوص
عند إرادة معنى خاص ، وأما استعمال غيره ، فلا يكون مما تعهده الواضع .
وعليه ، فالأمر
يدور بين الالتزام بان من وضع لفظا لمعنى خاص يكون بعد ذلك كل فرد من الأفراد
المستعملين له فيه واضعا مستقلا ، وبين كون استعمال
__________________
غيره مجازا وبغير
الوضع ، وكلاهما كما ترى. فيستكشف من ذلك عدم تمامية ذلك.
وفيه : أن العقلاء
لهم بناءات عديدة كلية فيما يتوقف رفع احتياجاتهم عليه ، كبنائهم على حجية الظواهر
، واعتبارهم ملكية زيد لشيء خاص بعد شرائه له ، وغير ذلك من الموارد ، والمراد من
البناء في هذه الموارد ، ليس أنهم يشكلون مجلسا لذلك ، بل هو أمر ارتكازي للجميع
لا يتخطون عنده.
ومن هذه الموارد
الوضع ، فإن بناء العقلاء ـ لاحتياجهم إلى إبراز مقاصدهم بالألفاظ ـ يكون على
متابعة وضع من له الوضع في هذا التعهد ، وهم أيضاً يتعهدون لذلك تبعاً له ، فكل
فرد من الأفراد يكون متعهدا ، ولكن يستند الوضع إلى الجاعل الأول ، لسبقه ،
وصيرورة وضعه ، داعيا لوضع غيره.
ويترتب على ما
ذكرناه أمران :
أحدهما : إنّ كل
مستعمل واضع حقيقة.
ثانيهما : إن
العلقة الوضعية ، مختصة بصورة خاصة ، وهي ما إذا قصد المستعمل تفهيم المعنى باللفظ
، وما يرى من انتقال الذهن ، من سماع اللفظ إلى المعنى وان صدر من شخص بلا قصد
التفهيم ، أو عنه بلا شعور واختيار ، بل وان صدر من اصطكاك حجر بحجر ، فهو لا
ينافي ما ذكرناه ، ولا يكون مستندا إلى العلقة الوضعية ، بل هو من جهة الأنس
الحاصل بكثرة الاستعمال أو بغيرها.
ثم إن العلقة
تتحقق بالتصريح بإنشائه ، فيقول الواضع قد وضعت اللفظ
الفلاني للمعنى
الفلاني ، وباستعمال اللفظ في غير ما وضع له ، كما إذا وضع له ، بان يقصد الحكاية
عنه ، والدلالة عليه بنفسه ، لا بالقرينة ، ويسمى ذلك بقسميه بالوضع التعييني.
كذلك ربما تتحقق
بكثرة استعمال اللفظ في المعنى من شخص واحد أو من أشخاص متعددة ، إلى أن يحصل به
الاختصاص والارتباط الخاص ، ويسمى بالوضع التعيّني.
وقد أورد على
القسم الثاني من الوضع ، التعييني : بان الوضع يستدعى لحاظ اللفظ مستقلا ،
والاستعمال يستدعي لحاظه فانياً في المعنى.
فالوضع بالاستعمال
يلازم لحاظ اللفظ بوجهين وبلحاظين ، واجتماع اللحاظين في واحد شخصي محال .
ويرده أن الوضع
سواء كان اعتباريا ، أم كان هو الالتزام والتعهد النفساني ، أم تنزيليا ، فهو يكون
متحققاً قبل الاستعمال ، واستعمال اللفظ في المعنى ، أو التصريح به يكون مبرزا
لذلك ، فدائما يكون الوضع قبل الاستعمال.
مع أن المتكلم لا
بد وان يلاحظ اللفظ مستقلا في مقام الاستعمال دائما كي يصح الاستعمال. وإنما يلاحظه
السامع المخاطب آلة.
__________________
فان حقيقة
الاستعمال إلقاء اللفظ إلى المخاطب لينتقل ذهنه من اللفظ إلى المعنى ، ويحمل عليه
المتكلم بما أراده ، فاللاحظ آلة ، هو المخاطب دون المتكلم. والمتكلم لا بد وان
يلاحظ مستقلا ، فيكون فعل المتكلم من قبيل جعل المرآة ، وسماع المخاطب من قبيل
النظر إلى المرآة ليرى نفسه. ومن الواضح أن جاعل المرآة لا ينظر إليها آلة. فتدبر
فانه دقيق.
أضف إلى ذلك ، أن
الوضع عبارة عن جعل اللفظ بحيث يكون حاكيا ، والاستعمال هو جعله حاكيا فعليا ، وهو
لازم لجعله بحيث يكون حاكيا ، فكما انه في الإنشائيات ربما يجعل الشيء بنفسه ،
كجعل الوجوب والحرمة ، وتمليك العين في الهبة ، وربما يجعل الشيء بجعل لازمه ،
كجعل العقاب على ترك الفعل ، أو الإتيان به ، وتسليط المتهب الذي هو لازم التمليك
، كذلك في الوضع ، يمكن جعله مستقلا ، ويمكن جعله بجعل لازمه وهو جعل اللفظ حاكيا
فعليا بالاستعمال.
وأيضاً أورد عليه : بان الاستعمال يتوقف على كون اللفظ مفهما فعلا ، وهو
يتوقف على الوضع ، فإذا كان الوضع حاصلاً بالاستعمال ، كما هو المفروض ، يلزم
الدور.
وفيه : أن كون
اللفظ مفهماً بلا قرينة يتوقف على الوضع ، والاستعمال إنما يتوقف على كونه مفهما
ولو مع القرينة فلا دور. فالوضع التعييني بقسميه خالٍ عن الإشكال.
__________________
وأما الوضع
التعيني : فان بلغ فيه الاستعمال إلى حد حصل الارتباط بين اللفظ والمعنى ، بحيث
كان ينتقل الذهن إلى المعنى من سماعه ولكن لم يضع احد ذلك اللفظ لذلك المعنى ، لم
يتحقق الوضع لعدم التعهد ، والاعتبار ، والتنزيل.
وإن وضع أحدٌ أو
جماعة ، وأبرزه ولو بالاستعمال ، فهو يرجع إلى الوضع التعييني.
وبالجملة أن
الاستعمال وإن بلغ ما بلغ ، لا يؤثر بوجوده الخارجي في حصول الوضع قهرا ، ما لم
يكشف عن جعل المستعمل والتزامه ، ومعه يكون الوضع تعيينا فقط ، فلا وضع تعيني لنا.
أقسام الوضع إمكانا ، ووقوعا
وأما الجهة
الثالثة ، فالكلام فيها في موردين :
الأول : في أقسام
الوضع إمكاناً.
والثاني : في
أقسامه وقوعاً.
أما المورد الأول
: فملخص القول فيه ، أن الوضع سواء كان بمعنى التعهد أو الاعتبار أو التنزيل يكون
فعلا اختياريا للواضع ، فيتوقف تحققه على تصور اللفظ والمعنى ، وعليه فيقع الكلام
في مقامين : أحدهما في المعنى ، وثانيهما في ناحية اللفظ.
أما من ناحية
المعنى ، فالأنحاء المتصورة فيها أربعة :
الأول : الوضع
العام ، والموضوع له العام.
الثاني : الوضع
الخاص ، والموضوع له الخاص.
الثالث الوضع
العام ، والموضوع له الخاص.
الرابع : الوضع
الخاص ، والموضوع له العام ولا إشكال ، ولا كلام في معقولية القسمين الأولين ، بل
ووقوعهما.
وإنما الكلام في
الأخيرين.
وقبل بيان ما هو
المختار فيهما ، ينبغي تقديم مقدمات :
الأولى : انه لا
ريب في لزوم تصور ما يوضع له اللفظ قبل الوضع وإلّا لا يعقل الوضع الذي هو من
الأفعال الاختيارية بأي معنى كان ، وهذا من البداهة بمكان.
الثانية : لا
يعتبر كون الموضوع له متصورا ومعلوما تفصيلا ، بل لو تصوره الواضع إجمالاً كفى في
الوضع ، مثلا في الأعلام الشخصية ، تارة يلاحظ الشخص ، الموضوع له بجميع خصوصياته
فيضع له لفظا خاصا ، وأخرى يلاحظ بعنوان إجمالي منطبق عليه ، كما لو دقَّ الباب
شخص فوضع الواضع لفظا ، خاصا له ، ولاحظه بعنوان من يدق الباب ، الذي هو عنوان
إجمالي منطبق على ذلك الشخص. وفي الأنواع ، تارة يلاحظ الطبيعة بمالها من الذاتيات
، فيضع اللفظ لها ، كما لو لاحظ الطبيعة المركبة من الحيوان والناطق ، فوضع لها
الإنسان ، وأخرى يلاحظ إجمالاً كما لو لاحظ معروض الضحك ، فوضع له لفظ الإنسان ،
وهذا أيضاً بديهي.
الثالثة : إن
العنوان الكلي الملحوظ قبل الوضع ، ربما يكون من العناوين الذاتية ، أو منطبقا
عليها ، وبكلمة أخرى يكون جامعا ذاتيا بين الأفراد كالإنسان ، وربما يكون من
العناوين الانتزاعية الحاكية عن الخصوصيات إجمالاً ، مثل عنوان فرد الكلي.
إذا عرفت هذه
المقدمات فاعلم أن جماعة من الأصحاب التزموا بعدم معقولية الوضع العام والموضوع له
الخاص مستندا إلى استلزامه الوضع لما لم يلاحظ ، فان الملحوظ هو الطبيعي ، والموضوع
له هو الأفراد.
وجملة من المحققين
التزموا بإمكانه ، مستدلا له بان لحاظ الجامع لحاظ للأفراد إجمالاً ، ولا
يعتبر في الوضع أزيَد من ذلك.
وحق القول في
المقام ، أن الملحوظ إن كان من قبيل القسم الأول المذكور في المقدمة الثالثة ، لا
يعقل الوضع للأفراد ، لعدم حكاية الجامع عنها ، لمغايرته مع الخصوصيات ، فلا وجه
لدعوى أنّ لحاظ الجامع ، لحاظ للأفراد بوجه ، فحيث لا تكون الأفراد ملحوظة ، فلا
يصح الوضع لها ، كما عرفت في المقدمة الأولى.
وان كان من قبيل
القسم الثاني المذكور فيها ، لا استحالة في الوضع للأفراد ، فان العنوان الملحوظ ،
حاك إجمالاً عن جميع الخصوصيات ، وقد عرفت في المقدمة الثانية ، كفاية لحاظ
الموضوع له إجمالاً في الوضع.
__________________
ولعله بما ذكرناه
يجمع بين كلمات الأصحاب ، بان يكون نظر الطائفة الأولى إلى القسم الأول ، ونظر
الطائفة الثانية إلى القسم الثاني.
وأما الوضع الخاص
والموضوع له العام ، فعن المحقق صاحب الدرر إمكانه ، واستدل له ، بأنه إذا تصور الواضع شخصا وجزئيا خارجيا
، فوضع اللفظ للجامع بينه وبين سائر الأفراد ، فان كان عالما تفصيلا بالقدر
المشترك بينه وبين سائر الأفراد ، فلا محالة يكون الوضع عاما كالموضوع له ، ولكن
إذا لم يعلم به تفصيلا ، وعلم إجمالاً بوجود الجامع كما إذا رأى جسما من بعيد ولم
يعلم انه حيوان أو جماد فوضع اللفظ بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص ، لا يكون الوضع
إلّا خاصاً ، إذ الموضوع له العام لم يلاحظ إلّا بالوجه ، وهو الجزئي المتصور لفرض
عدم تعقل الجامع.
ويرد عليه : انه
قد مرَّ في المقدمة الثانية ، أنه لا يعتبر في صحة الوضع سوى لحاظ الموضوع له ،
ولو بعنوان مهمل حاك عنه ، وعليه فكما انه في الفرض الأول يكون تصور الخاص موجبا
لتصور العام ، فيكون الوضع كالموضوع له عاما ، كذلك في الفرض الثاني ، يكون تصور
الخاص موجبا لتصور عنوان عام مهمل منطبق على الموضوع له ، وهو الكلي المشترك بين
الشبح وغيره ، فانه بنفسه من العناوين العامة ، ولحاظ الخاص أوجب لحاظه وتصوره
والانتقال إليه ، فلا محالة يكون الوضع عاما.
__________________
فالأقوى عدم
معقولية هذا القسم ، بل دائما يوجب تصور الخاص تصور العام.
هذا كله في ناحية
المعنى.
وأما من ناحية
اللفظ ، فالواضع حين إرادة الوضع ، أما أن يلاحظ اللفظ بمادته وهيئته كما في أسماء
الأجناس ، وأعلام الأشخاص ، وأما أن يلاحظ المادة ، كما في مواد المشتقات ، وأما
أن يلاحظ الهيئة ، كما في هيئاتها ، وهيئات الجمل الناقصة والتامة.
فالوضع في الأول
والثاني شخصي ، أي لاحظ الواضع شخص اللفظ بوحدته الطبيعية ، وشخصيته الذاتية التي
امتاز بها في حد ذاته عما عداها ، وفي الثالث نوعي ، أي لاحظ الواضع اللفظ بجامع
عنواني ، كهيئة الفاعل.
وأما المورد الثاني
، وهو مرحلة الإثبات والوقوع ، فلا إشكال في وقوع الوضع العام والموضوع له العام ،
كوضع أسماء الأجناس ، كما لا شبهة في وقوع الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، كوضع
الأعلام الشخصية.
وأما الوضع العام
والموضوع له الخاص الذي مر انه ممكن ، فقد وقع الخلاف في وقوعه ، فذهب جماعة إلى
أنّ وضع الحروف وما يشبهها منه ، وأنكره جماعة منهم المحقق الخراساني.
في المعنى الحرفي
وتنقيح القول في
المقام ، يتوقف أولاً على تحقيق المعاني الحرفية ، ومفاهيم
الأدوات ، ثم
التكلم في أن الموضوع له فيهما كوضعهما عام أو انه خاص؟ فالكلام في مقامين :
الأول : في تحقيق
المعاني الحرفية ، ومفاهيم الأدوات ، وبيان المراد من عدم استقلالها. وليعلم انه
يترتب على البحث عن حقيقة المعنى الحرفي ثمرات مهمة :
منها : في الواجب
المشروط ، حيث انه لو قلنا : انه جزئي ، أو آلي مغفولا عنه ، لا يعقل رجوع القيد
إلى الهيئة ، إذ كونه مغفولاً عنه ، ينافي لحاظه مقيدا وكذلك الجزئية ، لا تلائم
التقييد ، ولأجل ذلك أنكر الشيخ الأعظم الواجب المشروط.
ومنها : في مفهوم
الشرط ، إذ لو كان المعنى الحرفي آليا مغفولاً عنه لا يعقل رجوع القيد إلى مفاد
الهيئة ، كما انه لو كان جزئيا ، لا بد من إنكار مفهوم الشرط فيما إذا كان الوجوب
مستفادا من الهيئة ، لان انتفاء الحكم الجزئي بانتفاء شرطه عقلي لا ربط له
بالمفهوم ، بل الدلالة على المفهوم تتوقف على كون المعلق على الشرط سنخ الحكم.
ولذلك فصَّل الشيخ
، بين ما كان الحكم في الجزاء ، مستفادا من المادة كقوله
__________________
عليهالسلامإذا زالت الشمس وجبت الصلاة ، وما كان مستفادا من الهيئة ، مثل إن جاءك زيد فأكرمه ،
حيث التزم بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأول دون الثاني ، بملاك أن
الحكم في الأول كلي وفي الثاني جزئي. وكيف كان فقد اختلفوا في حقيقة المعنى الحرفي
على أقوال :
منها : أن الحروف
لم توضع لمعنى أصلاً ، بل وضعت لان تكون قرينة على كيفية إرادة مدخولها ، نظير
الإعراب ، مثلا وضعت لفظة" في" لان تكون قرينة على ملاحظة الدار لا بما
هو موجود عيني خارجي ، بل بما هو موجود أيني وظرف مكان لشيء آخر ، حيث أن الدار
يلاحظ بنحوين : تارة بما أن لها وجود خارجي ، فيقال : دار زيد كذا ، وأخرى بما أن
لها وجود أيني أي ظرف مكان لشيء آخر ، فكلمة" في" وضعت لتدل على أن
الدار في قولنا : ضربت زيدا في الدار ، لوحظت بنحو الأينية لا العينية ، كما أن
الرفع ، مثلا قرينة على أن ما اتصل به من الاسم الواقع بعد الفعل ، كقولنا : ضرب
زيد ، هو الصادر عنه الفعل ، بلا دلالة على معنى خاص ، وهذا القول منسوب إلى
المحقق الرضي .
__________________
ومنها : ما يقابل
هذا القول تمام التقابل ، وهو انه لا فرق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء في عالم
المفهومية ، وإنما الفرق بينهما ، إنما يكون فيما هو خارج عن حريم المعنى
والمستعمل فيه ، وهو الاستقلالية والآلية اللتان هما من قيود الوضع ، ومميزاته على
ما ستعرف توضيحه ، من دون أن تكونا دخيلتين في الموضوع له.
فالمعنى في حد
ذاته لا يتصف بالاستقلال ولا بعدمه وإنما نشأ من اشتراط الواضع ، وهما من توابع
الاستعمال وشئونه ، واختار هذا القول المحقق
__________________
الخراساني ، ونسب إلى المحقق الرضي أيضاً .
ومنها : أن الحروف
لها معان في قبال المعاني الاسمية ، وهي في حد كونها معان ، أي في عالم التجرد
العقلاني معان غير مستقلة ، بخلاف المعاني الاسمية فإنها معان مستقلة ، فكما أن
الجوهر في وجوده لا يحتاج إلى موضوع بخلاف العرض ، مع أنهما في حد ذاتهما وكونهما
معاني لا يحتاجان إلى موضوع ، فكذلك المفاهيم الاسمية في عالم التجرد العقلاني
بجواهرها وأعراضها ، معاني مستقلة ، عكس المعاني الحرفية.
ثم إن أصحاب هذا
القول ، اختلفوا في بيان الخصوصية المميزة لكل منهما عن الآخِر على أقوال ، وستمر
وما هو الحق منها.
وأما القول الأول
فيرد عليه ـ مضافا إلى ما ستعرف عند ذكر البرهان على ما نختاره في المعنى الحرفي ـ
انه لا ريب في أن الجملة مفيدة لمعنى غير معاني مفرداتها من الأسماء ، مثلا"
زيد في الدار" مفيد لظرفية الدار لزيد ، وهي غير معنى زيد ودار وحيث أنها غير
مأخوذة في مفهوم الدار وليس شيء آخر في الكلام غير كلمة" في" يدل عليها
، فيتعين أن يكون الدال عليها كلمة" في" والقياس على علامات الإعراب وان
كان صحيحا إلّا انه نلتزم في المقيس عليه
__________________
أيضاً بذلك كما
سيمر عليك.
وأما القول الثاني
، فيرد عليه إن لازم ذلك جواز استعمال كل من الحرف والاسم في موضع الآخَر ، مع انه
لا ريب في كونه من أفحش الأغلاط ، لاحظ ما إذا استعملت مكان سرت من البصرة ، سير ،
ابتداء ، بصرة.
وهذا الأشكال ذكره
المحقق الخراساني (ره).
مختار المحقق الخراساني ونقده
بقوله : إن قلت :
على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ولزم كون مثل كلمة"
من" ولفظ" الابتداء" مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الآخَر
، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها ، وهو باطل بالضرورة كما هو
واضح.
وأجاب عنه بقوله :
قلت : الفرق بينهما ، إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع ، حيث انه وضع الاسم ليراد
منه معناه هو وفي نفسه ، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك ، بل بما هو حالة لغيره ،
كما مرت الإشارة إليه غير مرة ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا
لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر ، وان اتفقا في ما له الوضع ، وقد عرفت
بما لا مزيد عليه ، إن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته
ومقوماته. انتهى
__________________
وقد وقع الخلاف
بين الأكابر في بيان المراد مما أفاده.
وقد أفاد المحقق
النائيني : بان مرجع هذا القول في الحقيقة إلى أن كلا من لفظ"
من" ولفظ" الابتداء" موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية
وما لا يستقل ، فكان كل منهما في حد نفسه يجوز استعماله في مقام الآخَر ، إلّا أنّ
الواضع لم يجز ذلك ، ووضع لفظة من لان تستعمل فيما لا يستقل ، وبأن يكون قائما
بغيره ، ولفظة الابتداء لان تستعمل فيما يستقل ، وما يكون قائما بذاته ، فكأنه شرط
من قبل الواضع مأخوذ في ناحية الاستعمال من دون أن يكون مأخوذا في حقيقة المعنى.
أقول ليس مراد
المحقق الخراساني ما أفاده ، كما ستعرف عند بيان مراده ، ولكن لو سلم كون ذلك
مراده ، أو لا اقل من كونه مراد بعض آخر من الأعاظم.
يرد عليه : انه
إذا كان المعنى الحرفي والاسمي واحدا ، ولم يقيد الموضوع له في كل منهما بقيد غير
ما يكون الآخر مقيدا به ، ولم يضيق العلقة الوضعية ، يلزم منه جواز استعمال أحدهما
في موضع الآخر ، فان شرط الواضع لان يستعمل كل منهما في المعنى المشترك في حالة
خاصة ، بما انه لا يكون راجعا إلى الموضوع ، ولا الموضوع له ، ولا الوضع ، لا يكون
لازم الاتّباع.
__________________
وأما ما أورده هو (قدِّس
سره) عليه ، بان ما ذكره مستلزم لكون المعنى في نفسه لا مستقلا ولا غير مستقل وليس
هذا إلّا ارتفاع النقيضين.
فهو غير تام. إذ الاستقلالية
والآلية في كلماته أريد بهما الاستقلالية والآلية في اللحاظ ، فقبل تعلق اللحاظ
بالمعنى لا يكون متصفا بشيء منهما ، لعدم قابلية المعنى للاتصاف بأحدهما في نفسه ،
فلا يلزم ارتفاع النقيضين.
وعن بعض الأعاظم ، أن مراده : إن المعنى الاسمي والحرفي متحدان في طبيعي
المعنى ، وإنما الاختلاف بينهما في أن كلا منهما ، حصة خاصة من ذلك الطبيعي
الجامع.
توضيح ذلك : أن
المعنى الحرفي هو الطبيعي الملحوظ آلة ، والمعنى الاسمي هو الطبيعي الملحوظ
استقلالا ، وحيث أن الطبيعي ما لم يتحصص لم يوجد لا خارجا ولا ذهنا ، فكل حصة موجودة
بوجود تغاير سائر الحصص ، وان كان جميع الحصص مشتركة في اصل الطبيعي ، وهذا هو
معنى قولنا : أن نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة الأب
الواحد.
والحرف موضوع
للحصص الموجودة باللحاظ الآلي ، والاسم موضوع للحصص الموجودة باللحاظ الاستقلالي ،
ولا نعنى بذلك وضع كل منهما
__________________
للحصص مقيدة
باللحاظ الآلي ، أو الاستقلالي ، حتى يرد عليه المحاذير الثلاثة المذكورة في
الكفاية ، بل المراد وضعهما لذوات الحصص التوأمة مع اللحاظ ، وإنما يؤخذ اللحاظ
عنوانا معرفا ، وعليه فيصح أن يقال : إن الاسم والحرف وضعا لمفهوم واحد ومع ذلك لا
يجوز استعمال أحدهما في موضع الآخر.
وفيه : كما ستعرف
من أن مراده ليس ذلك أيضاً ـ انه لو سلم كون هذا مراده أن ما ذكروه في محله ـ من
أن الموجود لا بد وان يكون حصة من الطبيعي ، ولا يعقل أن يكون هو الطبيعي ، وإلّا
يلزم أن يكون شيء واحد موجودا بوجودات متباينة ، فيكون نسبة الطبيعي إلى الأفراد
نسبة الآباء إلى الأبناء ، إنما هو في الوجود الخارجي ، وأما في الوجود الذهني فلا
ينبغي التوقف في أن الموجود به ، أي المتصور والملحوظ إنما هو الطبيعي نفسه وإلّا
لما صح قولنا : الإنسان نوع ، إذ ما لم يتصور لا يصح الحمل ، ومعه يصير حصة لا
نوعا ، والسر في ذلك ، أن النفس من المجردات ، فيمكن إحاطة النفس بالطبيعي وليس
معنى الوجود الذهني إلّا ذلك ، فإذا الملحوظ آلة ، متحد مع الملحوظ استقلالا ذاتا
، لا أنهما متغايران.
مع أن لازم كون
الموجود بالوجود الذهني حصة من الطبيعي ، عدم الصدق على الخارجيات ، وامتناع
امتثال" سر من البصرة". إذ الحصة الموجودة بالوجود الذهني ، كما تغاير
الحصة الموجودة بالوجود الذهني الآخر ، كذلك تغاير الحصة الموجودة بالوجود
الخارجي. فلا يمكن الامتثال حتى مع التجريد ، وإلغاء الخصوصية.
ودعوى أن الحصة
الملحوظة حين الأمر ، تكون مرآةً لما يوجد في الخارج.
مندفعة ، بأنه بعد
كونهما متغايرتين ، لا معنى لذلك.
أضف إلى ذلك كله ،
أن لازم ما ذكره ، كون الموضوع له خاصا.
والمحقق الخراساني
، ملتزم بان الموضوع له عام. بل لازمه كون الموضوع له في الأسماء أيضاً خاصا ، كما
لا يخفى.
والظاهر أن مراد
المحقق الخراساني مما ذكره : أن المعنى الاسمي والحرفي واحد من جميع الجهات ،
وإنما الاختلاف بين الاسم والحرف ، يكون في العلقة الوضعية ، وهو المانع عن صحة
استعمال كل منهما موضع الآخر.
توضيح ذلك : انه
كما يكون للواضع أن يقيد الموضوع له ، ويوضع لفظ" البكاء" للبكاء الشديد
، ويقيد الموضوع ، ويوضع لفظ" محمد حسن" لشخص خاص ، كذلك له تضييق الوضع
، والعلقة الوضعية ، بان يقول : مثلا أني وضعت لفظ الماء ، للجسم السائل البارد
بالطبع في الشتاء.
بمعنى أني متعهد
بأني متى ما أردت ذلك الجسم في الشتاء ، أبرزه بهذا اللفظ ، وما لو أردته في الصيف
، فأبرزه بلفظ آخر ، ويكون ذلك ، نظير تقييد اعتبار الملكية في باب الوصية بما بعد
الموت ، وتقييد الطلب في الواجب المشروط.
وعليه فالمحقق
الخراساني يدعى أن لفظ" من" ولفظ" الابتداء" وضعا لمفهوم واحد
، إلّا أنّ الوضع في الأول ، مقيد بما إذا لوحظ ذلك المعنى حالة لغيره وآلة ، وفي
الثاني ، مقيد بما إذا لوحظ استقلالا ، فالعلقة الوضعية بين كل من اللفظين ، وذلك
المفهوم ، إنما تكون في حال دون حال. فلهذا لا يصح ،
استعمال أحدهما في
موضع الآخر.
وأنت بعد الإحاطة
بما ذكرناه ، والتدبر في كلمات المحقق الخراساني في الكفاية في المقام ، وفي
المشتق ، لا ترتاب في أن مراده ذلك.
ولكن ذلك أيضاً لا
يكون فارقا بين المعنيين ، فانه إن ادّعى كون الحرف ، موضوعا للمعنى حين ملاحظته
آلة لغيره ، فيلزم أن يكون كل ما يلاحظ معرفا لغيره معنى حرفيا.
توضيحه : إن
المفاهيم والعناوين الكلية ، قد تلاحظ استقلالا وبما هي ، ليحمل عليها بعض عوارضها
، كما إذا لوحظ الإنسان ، ليحمل عليه ، انه كلي أو حيوان ناطق ، وقد تلاحظ بما
أنها مرآة ، وآلة ووجه للمصاديق لها ليحمل عليها عوارض المصاديق ، كما إذا لوحظ
الإنسان ، ليحمل عليه انه ضاحك ، إذ بديهي ، أن الضاحك ، هو الفرد. وإنما يؤخذ
العنوان قنطرة إليه ، لتعذر تصور المصاديق بأجمعها.
وعليه ، فيلزم أن
تكون المفاهيم ـ حين ما تلاحظ مرآة للمصاديق ـ معان حرفية. وهو كما ترى.
أضف إليه ، أن
ملاحظة الشيء آلة لغيره ، لا مورد لها ، سوى المفاهيم ، بالإضافة إلى مصاديقها ،
إذ لا يصح جعل كل شيء ، مرآة لكل شيء. بل لا بد أن يكون بينهما مناسبة خاصة ، وهي
كون المعرف عين المعرف. ولذا لا يصح لحاظ الجدار ، مرآة للباري تعالى مع وجود
المناسبة بينهما ، وهي العِليَّة.
وعلى ذلك فلا يعقل
كون المعنى الحرفي ، ما لوحظ آلة لغيره. إذ لو أريد أن
الظرفية ، مثلا في
قولنا : " زيد في الدار" لوحظت مرآة للمصاديق ، فهي مفهوم كلي ومعنى
اسمي. وإن أريد أنها لوحظت مرآة بالنسبة إلى الطرفين أو أحدهما ، فهو غير صحيح كما
عرفت.
وان ادعي أن
المعنى الحرفي ، هو الملحوظ حالة لغيره ، فيلزم أن تكون المصادر معان حرفية.
توضيح ذلك : أن
الفرق بين المصادر ، وأسماء المصادر ـ على ما ذكره أهله ـ هو أن المعنى الحدثي كالإكرام : تارة يلاحظ بما هو موجود
في نفسه ، وأخرى بما انه وصف لمعروضه ، وحالة للمكرم.
فالأول ، هو اسم
المصدر.
والثاني ، هو
المصدر ، وكذلك الظرفية ، ربما تلاحظ بما هي ، وربما تلاحظ بما أنها حالة للدار ،
فإن لوحظت على النحو الأول ، فهي اسم المصدر. وان لوحظت على النحو الثاني. فهي
المصدر ، لا انه على الأول ، معنى اسمي ، وعلى الثاني ، معنى حرفي.
فالمتحصل مما
ذكرناه : فساد القولين الأولين. وان المعنى الاسمي والحرفي ، متباينان بالذات
والحقيقة.
ثم إن القائلين
بهذا القول ، اختلفوا في كيفية هذا التباين ، وما به الامتياز.
__________________
فقد يقال : أن
التغاير بينهما ليس بالتباين ، بل بالجزئية والكلية.
وفيه أنه إن أريد
ـ يكون المعنى الحرفي جزئيا ـ انه جزئي خارجي حقيقي.
فيرد عليه ، أن
لازم ذلك كون الأعلام الشخصية معان حرفية ، مع انه نرى استعمال الحرف في الكلي.
كقولنا : سر من البصرة ، وصلِّ في المسجد.
وإن أريد به ، أنه
جزئي إضافي ، كما عن صاحب الفصول.
فيرد عليه أن لازم
ذلك كون جميع الأسماء إلّا الأجناس العالية ، معان حرفية ، كما لا يخفى ، مع أنّ
الأجناس العالية ـ كغيرها من الأسماء ـ قابلة للتقييد بقيد ، فتصير جزئية إضافية.
وإن أريد به أنه
جزئي ذهني ، فيرد عليه ما تقدم ، من أنّ لحاظ كون المعنى آلة لغيره ، وحالة ، له ،
لا يوجب كون المعنى معنى حرفيا.
وأما ما أورده
المحقق الخراساني على هذا الوجه ، من الإيرادات الثلاثة ، فاثنان منها غير واردين.
أحدهما : أن هذا اللحاظ لا يكون مأخوذا في المعنى والمستعمل فيه ،
وإلّا فلا بد من لحاظ آخر متعلق بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصور المستعمل فيه مما لا
بد منه في استعمال الألفاظ ، وهو كما ترى.
__________________
فيرد عليه ، انه
يعتبر في الاستعمال لحاظ المستعمل فيه ، إذا لم يكن حاضرا بنفسه عند النفس ، من
جهة انه إذا لم يتوجه إليه ، لا يمكن أن يحكم عليه ، وان يستعمل اللفظ فيه. وإذا
كان المعنى من سنخ اللحاظ ، أو كان ذلك جزء له ، فلا حاجة في الحكم عليه واستعمال
اللفظ فيه لحاظ آخر.
ثانيهما : أن لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف ، ليس إلّا كلحاظه في
نفسه في الأسماء ، فكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه ، كذلك ذاك
اللحاظ.
ويرد عليه ، أن
المدعى أن لحاظ الآلية اخذ جزء للموضوع له ، ودخيلا فيه بخلاف لحاظ الاستقلالية في
الاسم ، ولذا يكون معنى الحرف جزئيا ، والمعنى الاسمي كليا.
نعم إيراده الثالث
، تام. قال : مع انه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات ، لامتناع صدق الكلي
العقلي عليها ، حيث لا موطن له إلّا الذهن.
__________________
مختار المحقق النائيني في المعنى الحرفي ونقده
وعن المحقق
النائيني (ره) اختيار مسلك آخر في الفرق بينهما.
وحاصله : أن
المعاني الاسمية : معان إخطارية ، ولها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل الذي هو وعاء
الإدراك ، ويكون استعمال الألفاظ فيها موجبا لإخطارها في الذهن ، والمعاني الحرفية
أمور إيجادية ، واستعمال الألفاظ فيها موجب لإيجاد معانيها من دون أن يكون لها نحو
تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل توجد هي في موطن الاستعمال.
ومحصل ما ذكره من
الفرق بينهما يبتنى على أركان أربعة :
الأول : أن
المعاني الاسمية مفاهيم إخطارية غير مربوط بعضها ببعض ، كمفهوم" زيد"
و" دار" ومفهوم النسبة الظرفية لا حقيقتها ، ويتوقف تأليف الكلام منها
إلى الربط ، ولو كان معاني الحروف أيضاً إخطارية لما وجد الربط ، بل كان حالها حال
المعاني الاسمية في الاحتياج إلى الربط ، فلا محالة تكون المعاني الحرفية بأجمعها
إيجادية موجدة للربط بين المفاهيم غير المرتبطة.
الثاني : أن لازم
كون المعاني الحرفية إيجادية ، إن لا واقع لها بما هي معان
__________________
حرفية في غير
التركيب الكلامي ، بخلاف المفاهيم الاسمية ، فإنها مفاهيم متقررة في عالم
مفهوميتها سواء استعمل اللفظ فيها أم لا.
الثالث : أن
المادة في الهيئة الإنشائية ، مثل" بعت" ، تكون إيجادية ، إلّا انه فرق
بين هذا النحو من الإيجاد والإيجاد في الحروف ، وهو أن الحرف موجد لمعنى غير
استقلالي ربطي بين مفهومين في مقام الاستعمال ، ولا واقع له غير هذا المقام ،
بخلاف البيع الذي يوجد بقول البائع : " بعت" فان إيجاده بمعونة الهيئة
ليس في عالم الاستعمال ، بل بتوسط الاستعمال يوجد المعنى في نفس الأمر في الأفق
المناسب لوجوده ، وهو عالم الاعتبار ، فكم فرق بين إيجاد معنى ربطي في الكلام بما
هو كلام ، وبين إيجاد معنى استقلالي في موطنه المناسب له.
الرابع : أن
المعنى الحرفي حين الاستعمال غير ملتفت إليه ، ويكون حاله حال اللفظ حين الاستعمال
، فكما أن المستعمل حين الاستعمال لا يرى إلّا المعنى ، ولا يلتفت إلى اللفظ ،
كذلك المعنى الحرفي غير ملتفت إليه حال الاستعمال. بل الملتفت إليه ، هي المعاني
الاسمية غير الاستقلالية. ولو التفت إليه يخرج عن كونه معنى حرفيا. ولذا لا يعقل
جعله مبتدئا يخبر عنه.
توضيح ذلك : انه
تارة تخبر عن نفس السير الخاص وتقول : " سرت من البصرة" فالنسبة
الابتدائية في هذا المقام ، مغفول عنها. وأخرى عن نفس النسبة ، فتقول النسبة
الابتدائية كذا ، فهي الملتفت إليها.
فالمتحصل من هذه
الأركان : إن الحروف ، لها معان في قبال المعاني الاسمية ، وهي في حد كونها معاني
ـ أي في عالم التجرد العقلاني ـ معان غير مستقلة وتكون المعاني الحرفية بأجمعها ،
إيجادية ، موجدة لمعنى ربطي في الكلام ، لا في
محل آخر ، كما في
مادة الهيئة الإنشائية.
بخلاف المعاني
الاسمية ، فإنها بجواهرها واعراضها في عالم التجرد العقلاني ، معان مستقلة ، وتكون
إخطارية.
ويرد على ما أفاده
(قدِّس سره) أمور :
الأول : أن الكلام
الذي هو مركب من الكلمات التي يكون كل كلمة منها فردا من مقولة الكيف المسموع ، من
حيث هو كلام لا يعقل الارتباط فيه. بل كون الكلام مرتبطا بعضه ببعض ، إنما يكون
بلحاظ ما يحكى عنه هذا الكلام ، وإنما يستند إليه ثانيا وبالعرض. وعلى ذلك :
إن كان مراده (قدِّس
سره) من أن الحرف يوجد الربط ، انه يوجد الربط في الكلام ، ويكون آلة لربط بعض
أجزائه ببعض ، فقد عرفت ما فيه.
وان كان مراده ،
انه يوجد الربط بين أجزاء المدلول بالعرض ، أي الواقع.
فهو غير معقول. إذ
الحاكي لا يمكن أن يؤثر في المحكي ، وإلّا لزم تقدم ما هو متأخر ، مضافا إلى
مخالفته للوجدان.
وان أريد انه يوجد
الربط في المدلول بالذات ، أي المفاهيم المتصورة.
فيرد عليه : إن
تلك المفاهيم ، إن لوحظت مرتبطا بعضها ببعض ، فالحرف لم يصر سببا لإيجاد الربط ،
بل يكون حاكيا عنه ، فيكون معناه إخطاريا.
وان لوحظت غير
مرتبط بعضها ببعض ، فلا يعقل إيجاد الربط بين أبعاضها ، إذ الشيء لا ينقلب عما هو
عليه.
وان شئت قلت : إن
الكلام يكون حاكيا عنها ومؤخرا ، فكيف يعقل تأثيره فيها.
الثاني : انه لو
سلمنا أن الحرف يوجد الربط بين أجزاء الكلام ، ولكن بما انه لا يكون حاكيا عن
النسبة الخارجية ، ولا حاكي ، عنها غيره ، فلا يصح السكوت عليه.
مثلا" زيد
قائم" مركب من الموضوع ، والمحمول ، والنسبة. والحاكي عن الموضوع والمحمول
الخارجيين ، هو الموضوع والمحمول في الكلام ، فليس في الكلام ما يحكي عن النسبة
الخارجية ، وعليه فلا بد أن لا يصح السكوت عليه ، إذ الكلام إنما يصح السكوت عليه
باعتبار مدلوله ، وهو كما ترى.
الثالث : أن ما
ذكره لكون المعنى الحرفي إيجاديا ولا واقع له سوى الكلام ولا يمكن لحاظه استقلالا
ويكون دائما مغفولاً عنه.
يرد عليه : انه
غالبا يكون المقصود الأصلي لإلقاء الكلام إلى المخاطب ، إفادة المعاني الحرفية ،
أي النسب الخارجية ، مثلا من علم وجود" زيد" و" الدار" ،
وأراد أن يخبر عن كون زيد في الدار ، يقول : زيد في الدار ، لإفادة النسبة الظرفية
، فكيف ، يمكن الالتزام بكونها مغفولاً عنها ، مع أن الكلام سيق لبيانها ، وإنما
ذكر الاسم مقدمة لإفادتها.
مختار الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) في المعنى الحرفي ونقده
وقد أفاد الأستاذ
الأعظم : بأن الحروف إنما وضعت لتضييقات المعاني الاسميَّة ، وتقيداتها بقيود
خارجة عن حقائقها في عالم المفهومية ، كان للمعنى وجود خارجي أم لم يكن.
توضيح ذلك : أن كل
مفهوم من المفاهيم الاسمية جزئيا كان أم كليا يكون مقسما لأقسام وله حصص.
غاية الأمر :
تارة يكون تقسيمه
بلحاظ أنواعه كالجنس.
وأخرى بلحاظ
أصنافه كالنوع.
وثالثة بلحاظ
أفراده.
ورابعة بلحاظ
حالات شخص واحد ولو كان بسيطا من جميع الجهات. وحيث أن حصص المعنى الواحد وأقسامه
ـ فضلا عن المعاني الكثيرة ـ غير متناهية ، الموجب ذلك لعدم إمكان وضع خاص لكل حصة
، وغرض المتكلم قد يتعلق بإبراز حصّة خاصة من المفهوم ، فلا بد للواضع من وضع ما
يوجب
__________________
تحصص المعنى
وتقيده ، وليس ذلك إلّا الحروف والهيئات الدالة على النسب الناقصة ، وهيئة الإضافة
أو التوصيف ، مثلا كلمة" في" في قولنا : الصلاة في المسجد ، لا تدل إلّا
على أن المراد من الصلاة ليس هي الطبعية السارية ، بل خصوص حصة منها ، كان تلك
الحصة موجودة في الخارج ، أم معدومة ممكنة ، أم ممتنعة. ولهذا يكون استعمال الحروف
في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد ، وبلا عناية في شيء منها.
ولكن يرد عليه ،
أن ما ذكر وان كان متينا ، إذ ليس شأن الأسماء التضييق ، بل ذلك شأن الحروف ، إلّا
أنّ ذلك اثر معاني الحروف ونتيجتها لا أنها وضعت لذلك. والشاهد عليه ، أن قولنا :
زيد في الدار ، يدل على ثبوت النسبة الظرفية التي هي غير المعاني الاسمية ، ولو مع
فرض إرادة الحصص منها ، والدال عليها ليس إلّا لفظ" في".
بيان المختار في المعنى الحرفي
والتحقيق يقتضي أن
يقال : أن الحروف إنما وضعت للنسب والروابط الصرفة.
توضيح ذلك : أن
الوجود ينقسم إلى أربعة أقسام :
الأول : ما يكون
في نفسه ولنفسه وبنفسه وهو وجود الواجب.
الثاني : ما يكون
في نفسه ولنفسه وبغيره ، وهو وجود الجوهر.
الثالث : ما يكون
في نفسه ولغيره وبغيره ، وهو وجود الأعراض ، ويعبر عنه
بالوجود الرابطي ،
ويعبر عن هذه الثلاثة ، بالوجود المحمولي ، ومفاد كان التامة وثبوت الشيء.
الرابع : ما يكون
في غيره ولغيره وبغيره وهو المعبّر عنه بالوجود الرابط ، وهو اضعف مراتب الوجود ،
حتى انه في الأسفار حكم بِتخالف الوجود الرابط مع الوجود المحمولي سنخاً ، وإنّ
إطلاق الوجود عليها من باب الاشتراك اللفظي ، والحروف والهيئات إنما وضعت لإفادة
هذا المعنى.
وبما ذكرناه ظهر
الفرق بين الحروف والأعراض.
فان قلت : الفرق بين
الحروف وجملة من الأعراض واضح مما ذكرت ، وأما الفرق بينها وبين الأعراض النسبية ،
كمقولة الأين فغير ظاهر.
قلت : الفرق
بينهما ، أن تلك الأعراض إنما وضعت لهيئات ذوات نسب ، مثلا مقولة الأين إنما هي
الهيئة القائمة بالكائن في المكان ، وأما الحروف فإنما وضعت للنسب الخاصة ، مثلا
كلمة" في" وضعت لنسبة الكون في المكان ، و" من" وضعت لنسبة
المبتدأ به بالمبتدإ منه.
فان قيل : إن مثل
قولنا : " زيد في الدار" يدل على مقولة الأين بلا ريب ، والدال عليها في
هذه الجملة احد أمرين :
فإما أن يكون هو
لفظ الدار ولو مجازا ، وهو خلاف الوجدان.
وإما أن يكون هو
لفظ" في" ، فيعلم من ذلك أن كلمة" في" إنما وضعت للعرض النسبي
المعبَّر عن وجوده بالوجود الرابطي ، لا لربط الأعراض بموضوعاتها المعبّر عنه
بالوجود الرابط.
أجبنا : إن الكلام
المزبور لا يدل على مقولة الأين ، نعم لازم ما يدل عليه ـ وهي نسبة الكون في
المكان ـ تحقق مقولة الأين ، ولكن الكلام لا يدل عليها ، وهذا نظير ما لو اخبر
المتكلم بمجيء احد المتلازمين ، فانه وان كان يستفاد منه مجيء الآخر إلّا أن
الكلام المسوق لبيان مجيء أحدهما لا يدل عليه.
فتحصل مما ذكرناه
أمور :
الأول : ثبوت
الفرق بين الحروف والأعراض النسبية ، فما نسب إلى المحقق العراقي (ره) من عدمه
ضعيف.
الثاني : انه لا
فرق بين الحروف والهيئات ، كما عليه جماعة من الحكماء منهم صدر المتألهين فإيراد المحقق العراقي عليه غير وارد.
الثالث : أن
المعنى الحرفي إخطاري لا إيجادي ، ومع ذلك يكون مباينا مع المعنى الاسمي ذاتا ،
لكونه متقوما وجودا وذاتا بالغير ، بخلاف المعنى الاسمي.
الرابع : أن
المعنى الحرفي ملحوظ استقلالا ، لكنه في ضمن لحاظ المنتسبين لا وحده ، فانه بنفسه
وذاته متقوم ، ومُتَدَلٌّ بهما ، ولا يكون ملحوظا آلة لغيره. فتدبر فانه حقيق به .
__________________
الوضع في الحروف عام والموضوع له عام
أما المقام الثاني
: وهو ان الموضوع له في الحروف عام أو خاص ، فقد اختلفت كلمات القوم فيه على أقوال
:
الأول : كون الوضع
عاما ، والموضوع له والمستعمل فيه خاصا.
الثاني : كون كل
من الوضع ، والموضوع له ، والمستعمل فيه عاما.
الثالث : كون
الوضع عاما ، وكل من الموضوع له ، والمستعمل فيه خاصا.
أما الوجه الأول ،
فهو بديهي البطلان إذ الوضع إنما يكون للاستعمال ، فلا معنى لوضع اللفظ لمعنى لا
يستعمل فيه أبدا ، ويستعمل في معنى آخر.
وأما الوجه الثاني
، ففيه مذاهب :
الأول : ما اختاره
المحقق الخراساني ، وقد عرفت ما فيه. نعم لو تم ما ذكره في المعنى الحرفي ،
صح ما بنى عليه.
__________________
الثاني : ما
اختاره أستاذ الأساتذة المحقق النائيني (ره) وحاصله : أن المراد من الكلية والجزئية في المقام ليس
بمعنى الصدق على الكثيرين وعدمه ، كما هو شأن المفاهيم الاسمية. إذ حقيقة المعنى
الحرفي ، هي حقيقة الربط الكلامي ، فلا يعقل صدق هذه النسبة على الخارج ، بل هي
مما ينطبق عليه المفهوم الاسمي بل المراد بالكلية والجزئية في المقام ، هو أن
المعنى الحرفي الذي يكون قوامه بالطرفين ، كما إن الطرفين خارجان عن حريم المعنى ،
هل التقيدات أيضاً خارجة فيكون الموضوع له واحدا وكليا؟
وبعبارة أخرى :
يكون ما أوجدته كلمة" من" مثلا في جميع الموارد هوية واحدة ، وتكون
الخصوصيات اللاحقة لذلك المعنى بتوسط الاستعمالات خارجة عن حريم المعنى؟
أم هي داخلة في
المعنى ، فيكون الموضوع له متعددا وخاصا؟
واختار (قدِّس سره)
الأول ، بدعوى إن المعاني الحرفية ، وان احتاجت في مقام وجودها إلى خصوصية الطرفين
، إلّا أنها في مقام ماهياتها لا تحتاج إليها ، فهي نظير الأعراض ، فكما أنها في
مقام تحققها في الخارج تحتاج إلى الموضوع ، لا في مقام ماهياتها ، فكذلك المعنى
الحرفي.
وفيه : أن الموضوع
له في الحروف إن كان هو القدر المشترك بين الروابط الخاصة الذي هو مفهوم من
المفاهيم ، تم ما ذكره في المقام : من أن الموضوع له عام ، إلّا أن لازمه كون
المعنى الحرفي إخطاريا.
__________________
وان كان الموضوع
له في الحرف حقيقة الربط الكلامي ، الذاتي تكون معنى جزئيا وان كانت خصوصيات
الأطراف خارجة عن حريم المعنى ، فيكون الموضوع له خاصا.
وبذلك يظهر أن ما
ذكره المحقق الرشتي (ره) من القول بكون المعنى الحرفي إيجاديا ، يستلزم كون الموضوع
له خاصا ، إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، متين ولا يمكن الجواب عنه بان الكلي
الطبيعي موجود في الخارج ، إذ هو وإن كان صحيحا إلّا انه لا يكون هو الموضوع له
على هذا المبنى.
والتحقيق يقتضى أن
يقال : بعد ما لا شك في أن النسب الخاصة
__________________
المتحققة ، إذا
لاحظناها نرى بالوجدان أن كل جملة منها متماثلة ، وتماثلها إنما يكون بأمر ذاتي
داخل في قوامها ، مثلا النسبة الظرفية التي تستعمل كلمة" في" فيها ، لها
جزئيات خارجية متماثلة ، وتلك الجزئيات متباينة مع جزئيات النسبة الابتدائية ،
وعلى ذلك وقع الكلام في أن تلك الجهة ، هل هي جامع حقيقي أم انتزاعي ، وهل تكون هي
الموضوع لها أم لا؟
فالكلام في موردين
:
الأول ، في إمكان
وجود الجامع الحقيقي بين تلك النسب.
والثاني ، في مقام
الإثبات.
أما الأول ، فقد
يقال كما عن المحقق الأصفهاني : بأنه لا يمكن وجود الجامع بين تلك النسب
الخاصة" حيث أن حقيقة النسبة في ذاتها متقومة بالمنتسبين ذهنا وعينا ، فلا
تقرر لها مع قطع النظر عن الوجودين ، بخلاف الماهيات ، فإنها متقررة في
ذواتها" .
__________________
وعليه فلا جامع
ذاتي بين حقائق النسب ، فان إلغاء الطرفين إعدام لذاتها ، فهي مع قطع النظر عنهما
لا شيء أصلاً حتى تقررا ، فلا يعقل أن يكون الموضوع له فيها عاما.
وفيه : أن المراد
بالكليَّة والجزئية ، والعموم والخصوص في الموضوع له فيها ، ليس عدم دخل المنتسبين
ودخلهما ، بل المراد انه كما تكون النسبة في وجودها وتقررها وذاتها تابعة لهما ـ وهي
بذاتها معنى متدل في الغير ـ كذلك تكون في كليتها وجزئيتها تابعة لهما.
فان كان الموضوع
له هي النسب الخاصة بين المنتسبين الخاصين بخصوصيتهما ، كان الموضوع له خاصا.
وان كان الموضوع
له هو النسبة القائمة بالمنتسبين العامين ، كان عاما ، مثلا
__________________
نقول : إنَّ"
في" وضعت لإفادة النسبة الظرفية التي بين الظرف كان هو الدار أو غيره ـ والمظروف
ـ كان هو زيد أو غيره ـ وهذا المعنى من العموم والخصوص يتصور في النسبة.
وأما المورد
الثاني : فالظاهر هو الوضع للعام ، لما نرى من استعمال الحروف في الجهات العامة
بلا عناية ، كما في قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة. فانه لا ريب في إن
كلمة" من" و" إلى" إنما استعملتا في طبيعي معناهما ، وعلى
الجملة ، المنساق إلى الذهن ، هو كون الموضوع له عاما.
فالمتحصل مما
ذكرناه كون الموضوع له عاما.
وبما ذكرناه ظهر
مدرك كونه خاصا ، ونقده.
تحقيق الإنشاء والأخبار
قال المحقق
الخراساني ، بعد ما اختار من أن المعنى الاسمي والحرفي متحدان بالذات والحقيقة
ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي وقد بينا مراده : لا يبعد ان يكون الاختلاف في
الخبر والإنشاء أيضاً كذلك ، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في
موطنه ، والإنشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته ، وان اتفقا فيما استعملا فيه انتهى
.
توضيح ذلك : إن
الصيغ المشتركة ـ كصيغة بعتُ ـ تستعمل في معنى
__________________
واحد مادة وهيئة
في مقامي الإنشاء والإخبار.
أما بحسب المادة
فلأنها وضعت للطبيعة المهملة ، وهي تستعمل فيها دائما.
وأما بحسب الهيئة
فلأنها تستعمل في نسبة ثبوت المادة إلى المتكلم في كلا المقامين ، غاية الأمر
العلقة الوضعية في كل منهما غير العلقة الوضعية في الآخر. فإنها في الجملة
الإنشائية تختص بما إذا قصد المتكلم ثبوت المعنى في الخارج ، وفي الجملة الخبرية
تختص بما إذا قصد الحكاية عنه.
وتبعه في ذلك جمع
من المحققين.
وأورد عليه
الأستاذ : بأنه لو كان الأمر كذلك لصح استعمال الجملة الاسمية في
مقام الطلب ، كالجملة الفعلية مع انه لا يصح ، فيكشف ذلك عن خصوصية في الأفعال.
وفيه : إن استعمال
الجملة الاسمية في مقام إنشاء الطلب كثير. لاحظ" أني طالب لقيامك" وفي
مقام الإنشاء في غير الطلب أكثر ، كقولنا : " هذا لزيد بعد وفاتي" ،
و" زوجتي طالق" ، و" عبدي حر".
وبالجملة فإن
استعمال الجملة الاسمية في مقام إنشاء الطلب وغيره غير عزيز. وعدم صحة استعمال بعض
الجمل الاسمية في مقام إنشاء الطلب كعدم صحة استعمال الفعل الماضي في مقام إنشاء
الطلب ، واستعمال المضارع في مقام إنشاء البيع ، إنما هو لخصوصية في المعنى.
مثلا" زيد قائم" ، لا يصح
__________________
استعماله في مقام
طلب القيام من زيد ، من جهة أن هيئة هذه الجملة وضعت لتفهيم ثبوت النسبة بين
القيام وزيد.
ثم انه (دام ظله) أفاد في مقام الفرق بينهما :
أن الإنشاء حقيقته
، هو إبراز أمر نفساني باللفظ ، غير قصد الحكاية ، فالمتكلم بمقتضى تعهده والتزامه
يكون اللفظ الصادر منه مبرز الاعتبار من الاعتبارات القائمة بنفسه ، وانه هو
الداعي لإيجاده ، مثلا هيئة" افعل" بمقتضى التعهد المزبور تكون مبرزة
لاعتبار الوجوب ، وكون المادة على عهدة المخاطب.
والإخبار حقيقته
إبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه في الجملة الاسمية ،
وإبراز قصد الحكاية عن تحقق المبدأ سابقا على التكلم في الفعل الماضي ، وإبراز قصد
الحكاية عن تلبس الذات بالمبدإ في حال التكلم أو بعده في المضارع.
واستدل لما اختاره
: بان حقيقة الإنشاء ، ليست عبارة عن إيجاد معنى كالطلب وغيره باللفظ. فان
الوجودات الحقيقية للمعاني ، لا يمكن إيجادها إلّا بأسبابها الخارجية ، واللفظ ليس
منها بالضرورة. وأما الوجودات الاعتبارية ، فاعتبار نفس المتكلم ، قائم بنفسه من غير
دخل للفظ فيه. وأما الاعتبارات
__________________
العقلائية ،
فالانشاءات وان كانت موضوعات لتلك الاعتبارات ، إلّا أنها مترتبة على قصد المعاني
بها. والكلام فعلا في بيان ذلك ، فلا مناص عن الالتزام بما ذكرناه في الإنشاء.
وأما الإخبار ،
مثلا الجملة الاسمية ، فهي غير موضوعة للنسبة الخارجية ، كما هو المعروف ، لعدم
وجودها في كثير من الجمل الاسمية. مع انه لا كاشفية لها من حيث هي عن تحقق النسبة
في الخارج ولو ظنا. فما معنى كونها موضوعة لها؟ فلا محالة تكون موضوعة لما ذكرناه.
أقول : ما ذكره في
الإخبار ، من انه موضوع لقصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، أو نفيه عنه ، أو
لقصد الحكاية عن انتساب المبدأ بالذات بالنسبة التحققية ، أو التلبسية ، تام.
ولا ينافي ما
ذكرناه تبعا لجماعة من المحققين ، من أن هذه الهيئات موضوعة كسائر الهيئات والحروف
للنسب الخاصة. إذ مرادنا ، هو ذلك لأجل أن الوضع بما انه هو التعهد ـ كما عرفت ـ فلا
بد وان يتعلق بأمر اختياري. وهو التكلم بلفظ مخصوص عند تعلق القصد بتفهيم معنى
خاص. فالمراد من وضع الهيئة للنسبة ، هو انه إذا تعلق القصد بتفهيم النسبة ، يجعل
مبرزها الهيئة. فتكون الجملة بنفسها ، مصداقا للحكاية.
فهذا الذي ذكره ،
يؤيد ما اخترناه في وضع الحروف.
وأما ما أفاده : من أن الإنشاء ليس عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، وان
ما اشتهر من أن الإنشاء ، هو قصد تحقق المعنى باللفظ مجرد لقلقة اللسان ، فهو على
فرض الأخذ بما هو ظاهر هذا الكلام في بادئ النظر ، حق ومتين.
ولكن يمكن أن يقال
: إن مراد المشهور ، كون الإنشاء موجبا لوجود المعنى في عالم الاعتبار ، أي اعتبار
العقلاء.
وعليه فهو حق لا
سترة عليه ، إذ لا ريب في انه إذا اعتبر المتبايعان مثلا : ملكية شيء للمشترى
بإزاء ملكية الثمن ، تتحقق الملكية في اعتبارهما ، وتتحقق في اعتبار العقلاء. وإذا
ابرز هذا الاعتبار النفساني باللفظ ، أو الفعل فبمقتضى البناء الارتكازي العقلائي
الكلي تتحقق الملكيَّة في عالم الاعتبار العقلائي. وليس المراد من إيجادية الإنشاء
، سوى ذلك.
ولذا يقول المحقق
الخراساني في فوائده : انه بالإنشاء يوجد الملكية في الوعاء المناسب لها ،
بالنحو الذي توجد بالحيازة ، والسبب الاضطراري ، كموت المورث.
وهذا أمر متين لا
سترة عليه.
وأما ما أفاده :
من أن الإنشاء إبراز أمر نفساني باللفظ ، غير قصد الحكاية ، فلا يتم.
__________________
إذ البرهان الذي
ذكره لعدم كون الجملة الخبرية مبرزة للنسبة الخارجية ، من انه لا كاشفية لها من
حيث هي ، عنها ، وإنها وضعت لإبراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع ، بعينه
يجري في الإنشاء ، ويقتضي عدم كون الإنشاء ، مبرزا للاعتبار النفساني ، وانه مبرز
لقصد تفهيم ذلك الاعتبار.
نعم لو كانت دلالة
الإنشاء على الاعتبار الخاص بالطبع ، كان ما ذكر تاما ، ولكن بما أنها أيضاً تكون
بالوضع ، فيجرى في الإنشاء ما يجري في الإخبار ، من ، أن الواضع تعهد بأنه متى ما
قصد تفهيم ثبوت ذلك الاعتبار النفساني ، يجعل مبرزه الجملة الإنشائية.
وعليه فالموضوع له
والمستعمل فيه ، فيهما واحد ، وهو قصد تفهيم انتساب البيع إلى البائع مثلا ،
والاختلاف بينهما إنما يكون من ناحية الدواعي بالنحو الذي ستعرفه.
والمنسوب إلى
المحقق العراقي (ره) القول : بان الإخبار والإنشاء يشتركان
__________________
في المحكي عنه
بالذات ، وهو نفس المفهوم الذي يتصوره النفس عند تصور الجملة الحاكية ، وإنما
يفترقان في المحكي عنه بالعرض. فانه في الإخبار ، يكون المحكي عنه بالعرض ، هو
الطبيعي المنطبق على أمر جزئي خارجي مفروغ الوجود ، موضوعا كان أو محمولا ، أو
نسبة ، يريد المتكلم ـ بكلامه ـ الكشف عنها وإعلام السامع بها.
وفي الإنشاء ،
الجملة بهيئتها ومادة المسند فيها ، تحكى عن طبيعي النسبة وطبيعي المسند ،
الحاكيان عن إيقاع المادة ونسبتها غير المفروغ وقوعهما. بل يرى وجودهما ، معلولين
لنفس هذا الإنشاء ، فوجود البيع الجزئي ، ونسبته الجزئية في الخارج ، يكون نتيجة
الإنشاء ، بقول : بعت.
ويرد على ما ظاهره
ما تقدم من أن القول بان حقيقة الإنشاء إيجاد معنى باللفظ ، صرف لقلقة اللسان وفي
الإنشاء أيضاً ، لا يوجد المسند والنسبة باللفظ. وإنما هما يتحققان قبله بالاعتبار
النفساني.
ولكنه يمكن توجيهه
بما ذكرناه ، بان يكون مراده إيجاد المعنى في عالم الاعتبار
__________________
العقلائي.
وبذلك كله يظهر أن
ما اختاره جماعة من المحققين ، من أن الفرق بينهما إنما يكون باختلاف الدواعي ،
وانه قد يكون الداعي وهو الإيجاد فهو الإنشاء ، وقد يكون الحكاية فهو الإخبار ،
متين جدا.
وخلاصة القول في
المقام : أن الموضوع له ، والمستعمل فيه ، في هيئة الصيغة المشتركة ـ مثل بعت ـ شيء
واحد ، وهي النسبة المحققة بين المسند ـ وهو الاعتبار النفساني ـ والمسند إليه ـ وهو
المتكلم ـ إذ في كلا المقامين يكون الاعتبار ـ أي اعتبار المتكلم ـ متحققا قبل
الاستعمال.
وإنما يفترقان في
الداعي ، فانه في الإنشاء الداعي للاستعمال في المعنى ، وإعلام انتساب الاعتبار
النفساني بالمتكلم ، وهو إيجاد الملكية.
مثلا في عالم
الاعتبار ، أي اعتبار العقلاء والشارع. حيث أن بناء العقلاء والشارع ، على عدم
اعتبار الملكية في البيع ـ مثلا ـ إلّا مع اعتبار المتعاملين بقيد الإعلام به.
فالإعلام إنما يكون بهذا الداعي.
وهذا بخلاف
الإخبار ، فان الداعي للإعلام فيه غير ذلك.
ولا فرق بينهما من
غير هذه الجهة ، وبهذا الاعتبار صح تسمية الإنشاء إيجادا ، بمعنى أنه بضميمة
الاعتبار النفساني ، موضوع لاعتبار العقلاء والشارع.
فتدبر في أطراف ما
ذكرناه حتى لا تبادر بالإشكال.
هذا في الصيغ
المشتركة.
وأما الصيغ
المختصة ، فالكلام فيها موكول إلى محل آخر.
أسماء الإشارة والضمائر
قال في الكفاية :
يمكن أن يقال : أن المستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما ، أيضاً عام.
وان تشخصه إنما جاء من قبل طور استعمالها ، حيث أن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها
إلى معانيها ، وكذا بعض الضمائر. وبعضها ليخاطب به المعنى.
والإشارة والتخاطب
يستدعيان التشخيص ، كما لا يخفى.
فدعوى إن المستعمل
فيه في مثل" هذا ، وهو ، وإياك" ، إنما هو المفرد المذكر. وتشخصه إنما
جاء من قبل الإشارة والتخاطب بهذه الألفاظ إليه. فان الإشارة والتخاطب لا يكاد
يكون إلّا إلى الشخص أو معه غير مجازفة انتهى.
والكلام فيها :
تارة فيما هو
الموضوع له.
وأخرى في أنه عام
أو خاص. أما الأول ، فعمدة الأقوال فيه ثلاثة :
الأول : ما ذكره
المحقق الخراساني : وهو أن اسم الإشارة ، مثل (هذا) أو (هو) أو (إياك) وضع
للمفرد المذكر ليشار به إليه. بمعنى أن الإشارة الموجبة
__________________
للشخص ، تكون من
مقومات الاستعمال ، لا الموضوع له ، أو المستعمل فيه.
وفيه : أن الإشارة
باللفظ إلى المعنى ، إن كان باستعماله فيه ، فجميع الألفاظ موضوعة لذلك. وان كان
بغير ذلك ، فهو مما لا نتعقله.
وان كان مراده
الإشارة إليه بالإشارة الخارجية ، فيرد عليه ـ مضافا إلى كونه خلاف ظاهر كلامه ـ انه
كثيرا ما يستعمل في معان يمتنع الإشارة إليها خارجا.
وان كان مراده ،
انه وضع ليستعمل مقرونة بالإشارة الذهنية إلى المعنى ، ففيه : أنّا لا نتعقل
للإشارة الذهنية معنى غير توجه النفس إلى المعنى وتصوره المشترك فيه استعمال جميع
الألفاظ في معانيها. مع أن الله تبارك وتعالى يستعمل هذه الأسماء ، ولا يمكن
الالتزام بذلك فيه.
وبذلك ظهر ما في
القول أيضا.
الثاني : الذي
اختاره المحقق الأصفهاني (ره) وهو أن أسماء الإشارة موضوعة للمعنى إذا صار مشارا إليه
بالاشارة الخارجية ، بمثل اليد أو العين ، أو الذهنية ـ فلا نعيد.
الثالث : أن اسم
الإشارة موضوع لإيجاد الإشارة به ، فيكون فردا جعلياً وضعيا لآلة الإشارة.
__________________
وبعبارة أخرى : أن
لفظة" ذا" مثلا بتعهد الواضع جعلت مكان اليد في كونها آلة للإشارة ،
وموجدها ، ولكن لا مطلقا ، بل فيما كان المشار إليه المفرد المذكر ، أي مصداقه ،
لا مفهومه. وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله : بذا لمفرد مذكر أشر .
وأورد عليه :
تارة بان لازم ذلك
كون أسماء الإشارة من الحروف ، لكونها إيجادية.
وأخرى ، بان لازمه
عدم صحة قولنا : هذا زيد : لان هذا المحمول ، لا يصح حمله على ما هو آلة للإشارة.
وفيهما نظر.
أما الأول : فلما
عرفت من عدم كون معاني الحروف إيجادية.
وأما الثاني :
فلان اسم الإشارة وان كان يوجد الإشارة ، إلا انه نظير الآلة الخارجية ، في أن
الإشارة الموجودة به ، طريق للانتقال إلى المشار إليه ليتوجه المخاطب إليه ويحكم
عليه بشيء ، أو به على شيء آخر.
وعليه ، فالموضوع
في القضية الواقعية المحكى عنها بالقضية اللفظية ـ في مثل هذا زيد ـ هو المشار
إليه الخارجي ، لا الإشارة ولا آلتها ، فان الآلة ، هي نفس اللفظ لا معناه.
والإشارة ، إنما تكون طريقا لإحضار المشار إليه. ولم يقم برهان على لزوم كون
الموضوع في القضية اللفظية ، وجودا لفظيا للمعنى ، بمعنى كونه موضوعا له. بل لا بد
من إحضار المعنى في ذهن السامع باللفظ ، إما
__________________
باستعماله فيه ، أو
بنحو آخر ، مثل الإشارة إليه.
بل الأظهر ، عدم
اعتبار كون الموجب لإحضاره اللفظ ، كما سيمر عليك.
وبذلك كله يظهر
الحال في الضمائر والموصولات.
وأما الكلام في
المورد الثاني ، فهو الكلام في وضع الحروف.
فالأظهر كونه عاما
، لأنه كثيرا ما يكون المشار إليه معان كلية كما لا يخفى ، وعليه فالتشخص الجائي
من قبل الإشارة ، ليس هو التشخص الخارجي كي يتوهم انه داخل في الموضوع له. بل هو
من جهة إضافتها إلى المشير والمشار إليه.
وقد ظهر مما
ذكرناه في الحروف : خروجه عن الموضوع له.
* * *
استعمال اللفظ في المعنى المجازي
الامر الثامن : في
استعمال اللفظ في المعنى المجازى.
اختلفوا في أن
استعمال اللفظ في المعنى المجازى ما هو ملاك صحته؟
فقد ذهب جماعة ،
منهم المحقق الخراساني ، إلى انه يصح بالطبع.
والآخرون ، إلى انه بالوضع أي ترخيص الواضع في الاستعمال ، وبدونه
لا يصح.
وأفاد صاحب الكفاية
ـ في وجه ما اختاره ، بشهادة الوجدان ـ بحسن الاستعمال فيه ولو منع الواضع
عنه. وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ، ولو مع ترخيصه. ولا معنى لصحته إلا
حسنه.
وليس مراده ـ مما
أفاده ـ انه في الاستعمالات المجازية يكون دلالة اللفظ على ما يستعمل فيه بالطبع ابتداءً
، حتى يورد عليه ، بان هذا عين الالتزام بالدلالة الذاتية ، أو ما يقرب من ذلك.
بل المراد ، أن
الألفاظ الموضوعة للمعاني الحقيقية بعد وضعها لها ، يصح استعمالها في المعاني
المناسبة لتلك المعاني الموجبة لادعاء العينية بينهما.
__________________
ففي الحقيقة يدّعى
، إن جواز هذا الاستعمال ، إنما يكون من شئون الوضع الأول بواسطة الطبع الذي يجول
في ميدان المعاني ، ويلحق بعضها ببعض.
وعليه ، فيشهد له
ـ مضافا إلى ما ذكره المحقق الخراساني ـ تقارب
المعاني المجازية
في اللغات المتعددة. فان استعمال الأسد وما يرادفه من سائر اللغات في الرجل الشجاع
يصح. فهل اتفق الواضعون على الترخيص فيه وفي غيره من المجازات الشائعة؟
وفي المقام أمران
، كل منهما يكفي في عدم الموضوع لهذا البحث.
أحدهما : ما نسب
إلى السكاكي ، من أن اللفظ في جميع الموارد ، يستعمل في المعنى الموضوع له . غاية الأمر أن التطبيق ، قد يكون مبنياً على التنزيل
والادعاء. يعنى أن المستعمل ، ينزل معنى من المعاني منزلة المعنى الحقيقي ،
__________________
ويعتبره هو ، فيستعمل
اللفظ فيه ، فيكون الاستعمال حقيقيا.
ونظير ذلك ، ما
أفاده المحقق الخراساني ، من أن كلمة" لا" الموضوعة لنفى الحقيقة ،
تستعمل دائما فيه ، حتى في مورد نفى الكمال. غاية الأمر في ذلك المورد ، يكون
استعمالها فيه على نحو الادعاء والمبالغة ، ولا تستعمل في نفى الكمال. ولا بعد في
ذلك. فان فيه ، المبالغة في الكلام الجارية على مقتضى الحال. ولذلك نرى بالوجدان ،
الفرق بين قولنا : زيد شجاع ، وقولنا : زيد اسد. ولو لا ذلك لما كان بينهما فرق.
وهو واضح.
ثانيهما : ان
الواضع لا يتعين في شخص ، كي يبحث عن اذنه وعدمه. بل كل مستعمل واضع حقيقة ، كما
مر تفصيل ذلك في مبحث الوضع.
* * *
__________________
استعمال اللفظ في نوعه
الامر التاسع : في
استعمال اللفظ في نوعه ، ومثله ، وصنفه ، وشخصه.
قال في الكفاية :
لا شبهة في صحة اطلاق اللفظ وإرادة نوعه ، كما إذا قيل : (ضرب) ، مثلا فعل ماض ، أو
صنفه ، كما إذا قيل : (زيد) ، في (ضرب زيد) فاعل ، إذا لم يقصد به شخص القول ، أو
مثله ، (كضرب) في المثال إذا قصد . انتهى.
وتنقيح القول في
المقام ، بالبحث في موارد :
الأول : في اطلاق
اللفظ وإرادة نوعه.
الثاني : في
اطلاقه وإرادة صنفه ، أو مثله.
الثالث : في
اطلاقه وإرادة شخصه.
اما المورد الأول
، ففى صحة اطلاق اللفظ وإرادة نوعه خلاف ، ذهب جماعة من المحققين ، منهم الخراساني
والنائيني إلى الأول ، واختار جماعة الثاني.
ثم ان القائلين
بالصحة. اختلفوا في انه ، هل يكون ذلك من باب
__________________
الاستعمال ، كما
عن المحقق النائيني (ره) ام يكون من باب القاء المعنى بنفسه ، كما اختاره الاستاذ
الاعظم ، ام يكون بغير ذلك؟ وقد ذكر المحقق النائيني في تقريب ما
ذهب إليه : ان استعمال اللفظ في المقام ، كاستعماله في سائر المعاني. فان المتكلم
يلتفت إلى طبيعة لفظ ضرب اولا ، ثم حين الاستعمال يكون اللفظ الصادر منه ، الذي هو
من افرادها مغفولا عنه بحيث لا يرى الا الطبيعة. ولا يلقى في الخارج الا اياها ،
كالاستعمال في المعاني. نعم بينه وبين الاستعمال في سائر المعاني فرق من جهتين :
الاولى : ان
المعنى في سائر الاستعمالات أمور متغايرة لطبيعة الألفاظ ، وفيما نحن فيه من
سنخها.
الثانية : ان
المصحح للاستعمال في سائر الموارد ، اما الوضع ، أو المناسبة بين المعنى الحقيقي ،
وما استعمل اللفظ فيه. وفي المقام كون اللفظ الملقى بنفسه متحدا مع المعنى فيه
خارجا ، والارتباط بينهما اشد من الارتباط الجعلى.
واورد عليه المحقق
العراقي (ره) : بان اللفظ المستعمل ، اما ان يكون هو
__________________
طبيعي اللفظ ، أو
شخصه ، فعلى الأول يلزم اتحاد الدال والمدلول ، وعلى الثاني يلزم عدم صحة
الاستعمال ، لعدم المسانخة بين المستعمل ، وهو الطبيعي والخصوصية المشخصة اي
المستعمل فيه ، إذ المركب من المباين وغيره مباين.
وفيه : ان له ان
يختار شقا آخر ، وهو كون المستعمل ، الحصة من الطبيعي التوأمة مع الخصوصية.
وهذا الجواب وان
كان محل تأمل بناء على المختار من وجود الكلى الطبيعي في الخارج ، الا ان هذا
المورد على مسلكه ليس له هذا الايراد.
وحق القول في
المقام بنحو يظهر ما في كلمات القوم ايضا ، يبتني على بيان مقدمتين:
الاولى : انه إذا
وجد فرد من الطبيعي في الخارج ، فكما ان الماهية الشخصية ، موجودة في الخارج بتبع
تحقق الوجود ، كذلك يكون الطبيعي موجودا بوجوده.
وبعبارة اخرى ان
الوجود الخارجي بناء على اصالة الوجود ، له حد مختص به. ولا يشترك فيه غيره ، وهو
المنشأ لانتزاع الماهية الشخصية ، وله حد آخر مشترك فيه مع غيره ، وهو المنشأ
لانتزاع الماهية النوعية.
__________________
وبتعبير ثالث ،
انه كما يكون الماهية الشخصية معروض الوجود في التحليل العقلي ، وفي مرحلة التصور
، وعينه في الخارج كذلك يكون الطبيعي معروضه تصورا ، وعينه خارجا. فاضافة الوجود
إلى الماهية الشخصية ، كاضافته إلى الطبيعي من دون كون وجود الفرد واسطة لعروض
الوجود على الطبيعي. ولذا يصح اطلاق الطبيعي ـ كالانسان ـ على كل فرد من الافراد
بما له من المعنى المشترك بين الجميع.
الثانية : ان
استعمال اللفظ ، انما هو بإيجاد الطبيعي في الخارج فانيا في معناه. بمعنى ان
الفناء صفة للطبيعي لا الفرد الخارجي. ضرورة ان الشخص يكون بالوجود وفي مرحلة
الاستعمال. فلا يعقل ان يكون هو المستعمل ، وإلا لزم تأخر ما هو متقدم والواضع
انما وضع الطبيعي لا الفرد.
إذا عرفت هاتين
المقدمتين ، تعرف انه لا يصح استعمال اللفظ في نوعه ، إذ يلزم اتحاد الدال
والمدلول. وهو محال.
وما ذكره المحقق
الأصفهاني (ره) من عدم استحالة ذلك ، واستدل له بقوله : " يا من دل
على ذاته بذاته" . وقوله : " انت دللتني عليك" .
غريب إذ الدلالة
في المقام ، عبارة عن ابراز المعنى باللفظ ، وكونه علامة له.
__________________
فكيف تقاس بدلالة
الذات على نفسه التي هي إما بمعنى كون الذات دالا بخلقته ، كما هو مقتضى قوله
تعالى : كنت كنزا مخفيا فاحببت أن اعرف ، فخلقت الخلق لكي اعرف . أو بمعنى كونه ، هو الظاهر بنفسه وظهور غيره لا بد وان
ينتهى إليه. كما يشير إليه قوله : ألغيرك من الظهور ، ما ليس لك حتى يكون هو
المظهر لك ؟ ولكن مع ذلك يصح اطلاق اللفظ وإرادة نوعه ، لا من باب
الاستعمال بل من باب احضار الموضوع في القضية الحقيقية بنفسه ، وإلقائه على السامع
من دون وساطة ما يستعمل فيه. فيكون الموضوع في القضية اللفظية متحدا مع ما هو
الموضوع في القضية الخارجية. ولا محذور في ذلك.
وقد يقال : ان
المثال الذي ذكره المحقق الخراساني ـ ضرب فعل ماض ـ إذا لم يقصد به شخص القول ليس
من استعمال اللفظ في نوعه. لعدم كون الحاكى فعلا ماضيا.
وعليه ، فهو من
باب الاستعمال في غيره.
وفيه : ان الفعل
الماضي ، ما يكون بوضعه دالا على تحقق الحدث في الخارج. ولا يعتبر فيه الدلالة
الفعلية ، فانها غير ثابتة قبل الاستعمال. فلفظ ضرب استعمل في معناه ام لم يستعمل
فيه ، فعل ماض. أي ما من شانه انه لو استعمل فيما وضع له يكون دالا على الحدث.
__________________
واما المورد
الثاني ، فالظاهر ان اطلاق اللفظ وإرادة صنفه أو مثله ، انما يكون من قبيل القاء
المعنى بنفسه ، وليس من باب الاستعمال.
وبعبارة اخرى يكون
الطبيعي ، ملقى إلى السامع بنفسه بلا وساطة الحاكى عنه. وحيث ان الغرض تعلق بافادة
حصة خاصة منه ، فلا بد من جعل الدال على ذلك. لاحظ. قولنا : زيد ، في (ضرب زيد) ،
فاعل. ولا مجال لتوهم استعمال الطبيعي في الصنف ، أو المثل ، أو الشخص. ويكون
الدال الآخر قرينة على ذلك. كما يظهر من ملاحظة موارد استعمال اللفظ في معناه
وإرادة حصة خاصة منه ، كقولنا : الصلاة في المسجد ، افضل من الصلاة في الدار. فانه
في هذه الموارد ، لا تستعمل الصلاة في الحصة الخاصة من تلك الطبيعة. بل استعملت في
نفس الطبيعة. وانما تستفاد الحصة ، بتعدد الدال. كما حقق في مبحث المطلق والمقيد.
فان هذا الكلام بعينه. يجرى في صورة القاء المعنى بنفسه واحضاره في ذهن السامع ،
بلا تفاوت.
اطلاق اللفظ وإرادة شخصه
واما المورد
الثالث ، فقال صاحب الفصول : واما لو اطلق واريد به شخص نفسه ، كقولك : زيد لفظ.
إدا اردت به شخصه ، ففي صحته بدون تأويل ، نظر. لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول ،
أو تركب القضية من جزءين مع عدم مساعدة
الاستعمال عليه . انتهى.
ووجهه المحقق
الخراساني بقوله : لان القضية اللفظية على هذا ، انما تكون حاكية عن المحمول
والنسبة لا الموضوع. فتكون القضية المحكية بها ، مركبة من جزءين مع امتناع التركب
الا من الثلاثة. ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين . انتهى.
واجاب عنه المحقق
الخراساني بوجهين :
أحدهما : ان اشكال تركب القضية من جزءين ، يبتنى على ان يكون
الموضوع في القضية الحقيقية ، محتاجا في حضوره ووجوده في الذهن إلى واسطة كاللفظ
بالاضافة إلى المعنى. فانه واسطة لذلك. وليس هو بنفسه ، موضوعا للقضية. بل هو ،
لفظ الموضوع ، وحاك عنه. فموضوعية اللفظ ، انما هي باعتبار انه الواسطة لاحضار ما
هو موضوع فيها حقيقة.
نعم هو ، موضوع في
القضية اللفظية ، وإذا فرضنا ان الموضوع في القضية الحقيقية لا يحتاج في وجوده
وحضوره في الذهن إلى الواسطة ، فلا يلزم محذور تركب القضية من جزءين. ومقامنا من
هذا القبيل. فان الموضوع في قولنا : زيد لفظ أو ثلاثى ، إذا اريد به شخصه ، شخص
ذلك اللفظ الذي هو من مقولة الكيف لا انه لفظ ـ وبديهى ان اللفظ ، لا يحتاج في
حضوره في الذهن إلى أي
__________________
واسطة ، لامكان
ايجاده على ما هو عليه واثبات المحمول له ـ فعليه فالقضية ، مركبة من اجزاء ثلاثة
: الموضوع ، وهو ذات اللفظ وشخصه ، والمحمول ، وهو لفظ ، أو ثلاثى مع النسبة
بينهما.
واورد عليه بان القضية حينئذ ، لا تكون لفظية ، لعدم الحاكى عن
الموضوع.
وفيه : ان القضية
، هي ما تكون مركبة من مسند ومسند اليه في عالم اللفظ. ولا يعتبر في صدقها ، تغاير
الموضوع فيها مع الموضوع في القضية المحكية. مع انه ، لا ضرر في عدم صدقها ، فانه
لا مشاحة في الاصطلاح.
ثانيهما : ان اتحاد الدال والمدلول ذاتا ، مع تعددهما اعتبارا لا
يضر. فمن حيث انه لفظ صادر عن لافظه ، كان دالا. ومن حيث انه نفسه وشخصه مراده ،
كان مدلولا.
وفيه : ان التعدد
الاعتباري ، غير مجد في المقام ، إذ الدلالة ، عبارة عن العلم بشيء من العلم بشيء
آخر ، فهى تتوقف على حصول علمين ، المتوقف على ثبوت معلومين ، فمع كون المعلوم
واحدا ، لا يعقل تعدد العلم ، والتعدد الاعتباري لا يجدى في تكثر العلم ، وكون أحد
العلمين ، معلولا لآخر.
وان شئت قلت : ان
استعمال شيء في شيء ، عبارة عن احضاره في ذهن
__________________
السامع ، لينتقل
ذهنه إلى المستعمل فيه. وفي المقام ، لا مورد للانتقال الثاني. فلا يكون من
الاستعمال في شيء مع ان الدال ، انما هو ذات الشيء لا بقيد انه لفظ صادر.
وبعبارة اخرى :
هذه الحيثية الاعتبارية ليست دخيلة في الدلالة كي توجب التعدد.
وقد ذكر المحقق
الأصفهاني (ره) في وجه تصحيح كلام المحقق الخراساني وجها دقيقا لا يخلو
ايراده عن فائدة ، وحاصله يتوقف على مقدمات :
الاولى : ان الشوق
، يستحيل تحققه مطلقا وبلا متعلق. ولا بد في تحققه من تعلقه بمتعلق. ولا يعقل
تعلقه بالموجود الخارجي. إذ الخارج عن افق النفس ، لا يعقل ان يكون مقوما لما في
النفس. ولا الموجود الذهني. إذ الشوق والعلم ، صفتان متباينتان وفعليتان ، ويستحيل
تقوم فعلية بفعلي آخر.
فان كل فعليَّة
تأبى عن فعليَّة اخرى ، مع ان الشوق ليس متعلقا بالموجود الذهني بالوجدان. فلا بد
وان يتعلق بالماهية المعراة عن الوجود الخارجي والموجود الذهني. وبتعلق الشوق بها
، تكون الماهية موجودة بالوجود الشوقي. كما توجد في الخارج بالوجود الخارجي ، وفي
الذهن بالوجود الذهني.
الثانية : ان
استعمال كل لفظ في معناه ، يتقوم بارادتين :
__________________
احداهما ، تتعلق
بايجاد المعنى باللفظ وابرازه به.
ثانيتهما ، تتعلق
بايجاد اللفظ تكوينا. وهذه الارادة ربما تنفك عن الاولى. كما إذا لم يكن المتكلم
في مقام الاستعمال والحكاية عن الواقع.
الثالثة : ان
عوارض الألفاظ ومحمولاتها ككون لفظ زيد ثلاثيا ـ كما تكون اوصافا للماهية الشخصية
الموجودة الخارجية ، كذلك تكون اوصافا للماهية الموجودة بالوجود الشوقي ، لانها ،
اوصاف لماهية الكيف المسموع على الفرض. وهي اينما تحققت تترتب عليها هذه الاوصاف.
إذا عرفت هذه
المقدمات ، فاعلم. ان المتكلم إذا قال : زيد ثلاثى ، واراد منه شخص نفسه ، تكون
هذه الماهية الشخصية بوجودها الخارجي ، دالة على الموجودة بالوجود الشوقي.
وبعبارة اخرى ،
يجعل اللفظ بوجوده الخارجي ، فانيا في اللفظ بوجوده الشوقي. ولا ينافي ذلك ، ارادة
شخص نفسه ، لأن المراد بالذات والمصادر : ماهية شخصية من غير جهة الارادة في قبال
ما إذا اريد افناء اللفظ في الطبيعة. كما ان فرض ارادة اخرى مصححة للدلالة ، لا
ينافي فرض ارادة شخصية وعدم اراءة غيره. إذ المرئي حينئذ ، نفس الماهية الشخصية.
غاية الامر ، ثبوتها في وعاء دال على ثبوتها في وعاء آخر.
وفيه : اولا : ان
الوجود ، مساوق للتشخص ، ففرض ثبوتين ، ملازم لفرض شخصين.
فيكون الحاكي شخصا
، غير المحكى ، فهو من استعمال اللفظ في مثله لا
شخصه.
وان شئت قلت : ان
الماهية الشخصية الثابتة بالثبوت الشوقي ، غير الماهية الموجودة بالوجود الخارجي.
وثانيا : ان الشوق
وان لم يكن متقوما بالوجود الخارجي ، لا لما ذكره (ره) من البرهان ، لانه يرد عليه
ما حققناه في محله من امكان تعلق العلم بنفس الموجود الخارجي ، بل من جهة عدم
الثبوت الخارجي حين وجود الشوق.
بل ربما لا يوجد
إلى الابد. ولا بالموجود الذهني بما هو هو ، ولكن لا نسلم تعلقه بالماهية وثبوتها
به.
فان الشوق من
الصفات ، والاعراض ذات الاضافة فهو بنفسه له ماهية خاصة موجودة بوجوده ، كما هو
الشأن في جميع الكيفيات النفسانية.
وعليه ، فلو كان
متعلقه الماهية الثابتة بثبوته ، لزم اتحاد الماهيتين المختلفتين ، وتحققهما بوجود
واحد ، وهو محال ، بل المتعلق ، هو الموجود الذهني بما انه فانٍ في الخارج ، وآلة
لملاحظة الموجود الحقيقي.
وبالجملة ان
الوجود ، منحصر بالوجود الخارجي والذهني على ما هو المسلم عند ارباب المعقول ،
وليس من الوجود الشوقي في كلماتهم عين ولا اثر.
وصدور مثل هذا
الكلام من مثل هذا المحقق النحرير ، ليس الا من باب ان الجواد قد يكبو ، ويؤيده ما
ذكره في مسألة تعلق الامر بالطبيعة : ان طبيعة الشوق ، من الطبائع التي لا تتعلق
إلا بما له جهة فقدان وجهة وجدان.
تبعية الدلالة للارادة
الأمر العاشر : في
تبعية الدلالة للارادة.
قال في الفصول :
فصل ، هل الألفاظ ، موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي أو من حيث كونها مرادة للافظها
وجهان . انتهى.
قبل البحث فى ذلك
، لا بد من التنبيه على امرين :
أحدهما : ان منشأ
هذا البحث ، ما حكى عن العلمين : الشيخ الرئيس ،
والمحقق الطوسى ، من مصيرهما إلى ان الدلالة ، تتبع الارادة .
ثانيهما : ان
الدلالة ـ أي دلالة الألفاظ على المقاصد ـ على اقسام ثلاثة :
__________________
القسم الأول :
الدلالة التصورية. وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ، وهذه الدلالة قهرية
بعد العلم بالوضع أو الانس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في المعنى ، وهي غير
مربوط بالدلالة الوضعية. بل لو فرض صدور اللفظ من غير اختيار أو اصطكاك حجر على
حجر ، ينتقل الذهن إلى المعنى.
القسم الثاني :
الدلالة التفهيمية : ويعبر عنها بالدلالة التصديقية فيما قال ، وهذه الدلالة ،
تتوقف زائدا على العلم بالوضع ، على احراز ان المتكلم في مقام التفهيم ، ولم ينصب
قرينة متصلة على الخلاف.
القسم الثالث :
الدلالة التصديقية فيما اراد. وهي ، الدلالة على مطابقة المراد الجدي للمراد
الاستعمالي. وهي ثابتة ببناء العقلاء.
وبعد ذلك نقول :
ان مراد العلمين مما افاداه ، ليس اخذ الارادة قيدا للموضوع له أو المستعمل فيه ،
ـ كما توهم صاحب الفصول ـ حتى يرد عليه :
__________________
١ ـ استحالة أخذ
ما هو من مقومات الاستعمال المتأخر بالطبع عن المستعمل فيه في الموضوع له أو
المستعمل فيه. وإلا لزم تقدم ما هو متاخر.
٢ ـ لزوم التجريد
عند ارادة الحمل. إذ المحمول على زيد ـ في زيد قائم مثلا ـ نفس القيام لا بما هو
مراد. وكذا الموضوع. فانه ، نفس زيد لا بما هو مراد.
٣ ـ لازمه كون وضع
عامة الألفاظ ، عاما والموضوع له خاصا. لمكان اعتبار خصوص ارادة اللافظين فيما وضع
له اللفظ.
ولا ما افاده
المحقق الخراساني ، من حمل الدلالة في كلامهما ، على الدلالة التصديقية فيما
اراد غير الوضعية فان تبعيتها للارادة في الواقع ونفس الامر واضحة لا مجال للكلام
فيها اصلا.
بل مرادهما أنَّ
العلقة الوضعية ، مختصة بصورة تعلق الارادة بتفهيم المعنى. وان الدلالة الوضعية ،
مختصة بالدلالة التصديقية فيما قال كما هو صريح كلامهما في بحث الدلالات للارادة
بتبعية مقام الاثبات للثبوت لاحظ كلامهما.
قال العلامة
الطوسى في محكى شرح منطق الاشارات ، في دفع
__________________
انتقاض تعريف
المفرد والمركب : دلالة اللفظ لما كانت وضعية ، كانت متعلقة بارادة المتلفظ
الجارية على قانون الوضع فما يتلفظ به ويراد منه معنى ما ، ويفهم عنه ذلك المعنى :
يقال : انه دال على ذلك المعنى وما سوى ذلك المعنى ، مما لا تتعلق به ارادة
المتلفظ. وان كان ذلك اللفظ ، أو جزء منه بحسب تلك اللغة أو لغة اخرى أو بارادة
اخرى ، يصلح لان يدل عليه. فلا يقال : انه ، دال عليه. ونحوه ، ما ذكره في محكى
شرح حكمة الاشراق في باب الدلالات الثلاث.
قال الشيخ الرئيس
في محكي الشفاء ان اللفظ بنفسه ، لا يدل البتة. ولو لا ذلك لكان لكل لفظ
حق من المعنى لا يجاوزه ، بل انما يدل بارادة اللافظ.
وعلى ذلك ، فما
افاده العلمان متين جدا.
وذلك على المختار
في حقيقة الوضع من كونه بمعنى الالتزام والتعهد ، واضح.
فان متعلق التعهد
والالتزام ، لا بد وان يكون امرا اختياريا. والامر غير الاختياري ، لا يعقل ان
يكون طرف الالتزام. وعليه ، فلا محالة يكون التعهد ، مختصا بصورة تفهيم المعنى
وارادته من اللفظ. وليس بين ذات المعنى واللفظ مع عدم الإرادة ، علقة وربط.
__________________
واما على القول :
بان الوضع ، عبارة عن جعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، أو اعتبار وضع اللفظ على
المعنى ، فلانه وان امكن ثبوت العلقة مع عدم الارادة والقصد.
الا انه من جهة
اختصاص فائدة الوضع ، وهي الافادة والاستفادة بصورة قصد التفهيم ، فلا محالة تكون
العلقة الوضعية ، مختصة بتلك الحالة مع فرض كون الموضوع له هو طبيعي المعنى من دون
تقييده بقيد. وما يرى من انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من التكلم بلا
اختيار ، فانما هو من جهة الانس لا من جهة العلقة الوضعية.
* * *
وضع المركبات
الأمر الحادي عشر
: في وضع المركبات.
في انه ، هل يحتاج
المركب إلى وضعه ثانيا بعد وضع مفرداته أولا ، ومنها الهيئة التركيبية ، ام لا؟
قولان : وقبل الشروع في البحث فيه ، لا بد وان يعلم ان محل
الكلام في المقام ـ كما افاده صاحب الفصول ـ في وضع المركب بما هو مركب ، أي وضعه
بمجموع اجزائه من الهيئة والمادة. مثلا في قولنا : زيد قائم ، قد وضعت كلمة"
زيد" لمعنى خاص ، وكلمة" قائم" لمعنى آخر ، والهيئة القائمة بهما
لمعنى ثالث.
وهذا كله ، لا
اشكال فيه.
انما الكلام في
انه هل يكون لمجموع المركب من هذه المواد وضع على حدة ام لا؟
__________________
فما افاده المحقق
النائيني (ره) : من ان المراد ليس ذلك ، فانه لا يمكن ان ينسب إلى احد من
العقلاء ، فضلا عن العلماء. بل النزاع في ان الموضوع للربط الكلامي في الكلام
العربي ـ كزيد قائم ـ هل هو الاعراب كما ذهب إليه بعض ، أو انه هو الضمير المقدر ـ
أي لفظه هو ـ كما افاده جماعة من اهل الميزان ، أو انه الهيئة التركيبية كما هو
المختار للمحققين؟
. غير تام ، فان
هذا النزاع ، انما حدث بين المتأخرين. واما النزاع الواقع بين القدماء ، فهو
النزاع الأول.
وكيف كان فالحق في
النزاع الأول ، عدم الوضع للمركبات.
لا لما في الكفاية
، من عدم الحاجة إليه بعد وضعها بموادها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى :
تارة بملاحظة وضع
نفسها ، واخرى بملاحظة وضع مفرداتها.
فانه يمكن الجواب
عن الايراد الأول ، بان الفائدة المترتبة على الوضع ليست الا امكان وقوعه مقدمة
للتفهيم والتفهم. ولا ريب في امكان وقوع وضع المركبات ، مقدمة لهما ، ولو في مورد
عدم العلم بوضع المفردات.
وعن الثاني ، بانه
، لا محذور في ذلك. إذ معاني المفردات ، لوحظت بنحو الانفراد. ومعنى المركب ملحوظ
بنحو الجمع. نظير الدار بالاضافة إلى البيت والجدران والسقف وغيرها. فلكل منهما ،
مدلول مستقل غير مربوط بالآخر.
__________________
فلا يلزم اجتماع
السببين على مسبب واحد ، مع انه لو سلم لزوم ذلك ، فليكن من قبيل اجتماع العلتين
على معلول واحد. فلا يكون مدلولان ودلالتان. بل مدلول واحد ودلالة واحدة مستندة
إلى مجموع العلتين.
بل الصحيح ان
يستدل لعدم وضعها ، بعدم الدليل عليه.
وبان الانتقال إلى
المعنى مرتين بالنحو الذي ذكرناه وان ممكنا الا انه غير واقع وهو آية عدم الوضع
والا لترتب عليه الانتقال لا محالة.
واما النزاع
الثاني فقد اورد على القول بان الموضوع للربط الكلامي هو الاعراب ، بان الاعراب
مشترك بين هذا النحو من التركيب وبقية التراكيب. وعلى القول بانه هو الضمير المقدر
أي لفظة هو ، بانه موضوع لمفهوم استقلالي اسمى فلا يكون مقيدا للمعنى الحرفى ، فلا
محالة يكون هو الهيئة التركيبية.
وافاد المحقق
النائيني (ره) ان ذلك انما هو في الهيئة التركيبية الاسمية ، واما الجمل
الأخر ، كضرب زيد ، أو كان زيد قائما ، فالمفيد للربط فيها هي هيئة الفعل بانواعها
وقد يكون الدال على الربط احد الافعال الناقصة كلفظة كان مثلا ولو كان للهيئة
التركيبية في الجمل الفعلية وضع على حدة لزم افادة المعنى الواحد مرتين وهو غير
معقول.
ويرد عليه امور :
الأول : ان هيئة
الفعل انما تدل على قيام الحدث بمحل ما وتشخيص ذلك
__________________
المحل لا دليل
عليه سوى الهيئة التركيبية ـ مثلا ـ ضرب انما يدل على حركة هذا المعنى من عالم
المفهومية إلى عالم التحقق والثبوت ، واما تشخيص الفاعل فهو لا يدل عليه وذكر لفظ
زيد بعده لا يفيد ذلك فيتعين الالتزام بوضع هيئة الجملة لذلك.
الثاني : ان هناك
مزايا اخر غير ما وضع له هيئة الفعل وان سلم دلالتها على تشخيص الفاعل ، كالحصر
والاستمرار ونحوهما ، لا تدل هيئة الفعل عليها ، فلا دال عليها سوى الهيئة
الكلامية.
الثالث : انه بناء
على مسلكه (ره) من وضع الهيئة لإيجاد الربط الكلامي ، لا بد له من الالتزام بوضع
المركبات لدلالة الجملة على الربط الخارجي ، والمفروض عدم وضع المفردات حتى الهيئة
له فلا بد من القول بوضع المركب لذلك الربط الخاص القائم بالطرفين ، ونحن في فسحة
من ذلك حيث التزمنا بان الهيئة وضعت لابراز ارادة تفهيم الربط الخارجي.
ويظهر مما ذكرناه
أن ما ذكره أهل الادب من تقسيم المجاز إلى المجاز في الفرد والمجاز في المركب.
غير تام : لان
الاستعمال المجازى فرع وجود الموضوع له وقد عرفت ان المركب لم يوضع لشيء ومعه لا يتصور
المجاز فيه.
نعم يجوز التشبيه
فيه بان يشبه المركب بالمركب كما في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) كما يجوز الكناية فيه كما في قولهم" اراك تقدم رجلا
وتؤخر اخرى" ، فانه كناية عن التردد الحاصل في النفس الموجب لذلك.
* * *
__________________
التبادر من علامات الحقيقة
الأمر الثاني عشر
: في علامات الحقيقة والمجاز.
وقد ذكر الاصحاب
للحقيقة علائم :
منها التبادر ،
وغاية ما قيل في وجه كونه علامة الحقيقة ، ان الانسباق إلى الذهن وخطور المعنى فيه
والانتقال من اللفظ إلى المعنى ، اما ان يكون ناشئا من العلقة الوضعية ، أو من جهة
المناسبة الذاتية ، أو من جهة قرينة خارجية ولو كانت هي الاطلاق ، وحيث ان المفروض
عدم الثالث ، وبطلان الثاني ، فلا بد وان يكون الانتقال مستندا إلى الوضع ، وكون
اللفظ موضوعا له.
وفيه : انه قد
يكون التبادر ناشئا عن الممارسة في كلمات اللغويين والمراجعة إليها فان ذلك ايضا
يوجب الانتقال إلى المعنى ، وليس ذلك آية كونه موضوعا له إذ هو لا يزيد على اصله
ومنشئه ، وهو قول اللغوي الذي لا يكون دليلا على الحقيقة ، فالتبادر لا يكون علامة
للحقيقة بقول مطلق ، بل إذا كان منشأ الانتقال ، وهو الارتكاز النفساني ، غير ناشئ
عن الممارسة في كلمات اللغويين فالعلامة الحصة الخاصة من التبادر ، وهو فهم المعنى
من اللفظ نفسه بلا معونة خارجية وهي كاشفة عن الوضع لا محالة.
وربما يورد على
ذلك ، باستلزامه الدور إذ من المعلوم بالضرورة ان الوضع بنفسه لا يوجب التبادر ،
بل الموجب هو العلم بالوضع ، فلو انتفى العلم به انتفى التبادر ، ولو كان التبادر
موجبا للعلم بالوضع لزم الدور.
واجاب عنه المحقق
العراقي على ما نسب إليه ، بان الموقوف فرد من العلم والموقوف عليه
فرد آخر منه ، فلا دور حتى مع توقف التبادر على العلم التفصيلي.
وفيه : انه مع فرض
وحدة المعلوم كيف يعقل تعدد العلم.
فالصحيح هو الجواب
عنه بما هو معروف وهو ان العلم بالوضع تفصيلا يتوقف على التبادر الاجمالي
الارتكازي.
توضيح ذلك : ان كل
فرد من افراد اهل المحاورة يستعمل الألفاظ الدارجة في معان مخصوصة عند الابتلاء
إليها وهو عالم بتلك المعاني بالارتكاز ، ولكنه غافل عن خصوصيات معلوماته ، كغيرها
من معلومات الانسان التي يغفل الانسان عن خصوصياتها مع كونها مرتكزة في ذهنه
بالاجمال ، فإذا كان في مقام معرفة معنى لفظ خاص يرجع إلى ذهنه ويفتش عن ما في
ضميره فان رأى تبادر معنى عند اطلاق لفظ خاص من دون استناد إلى القرينة فيكشف له
ان ذلك معنى ذلك اللفظ.
ويظهر مما ذكرناه
من توقف التبادر على العلم الارتكازي ، ان عدم التبادر ليس علامة المجاز إذ ليس كل
واحد عالما بمعاني جميع ما يستعملها اهل المحاورة حتى ما هو خارج عن محل ابتلائه.
__________________
كما ان تبادر معنى
لا يكون علامة كون غيره مجازا لاحتمال الوضع له ايضا مع عدم علمه به.
ثم انه لو كان لفظ
ظاهرا في معنى ، بمعنى انه كان يتبادر منه عند الاطلاق ، ولكن شك في ان هذا
التبادر ، هل يكون من حاق اللفظ فيكون ذلك المعنى موضوعا له ، ام يكون بواسطة
القرينة فلا يكون موضوعا له.
فان كانت القرينة
المحتملة عامة موجودة في جميع موارد استعمال اللفظ ، لا يترتب ثمرة على النزاع في
جريان اصالة عدم القرينة.
واما ان لم تكن
كذلك فقد يقال انه يجرى اصالة عدم القرينة ويثبت بها ان
هذا المعنى موضوع
له ، فيحمل عليه عند اطلاقه مجردا عن تلك القرينة.
واورد عليه : تارة بمعارضتها مع اصالة عدم الوضع لذلك المعنى.
واخرى ، بان اصالة
عدم القرينة لا تجرى في المقام ، سواء كان مدرك اصالة القرينة بناء العقلاء ، أو
اخبار الاستصحاب.
اما على الأول
فلان بناء العقلاء وان كان على عدم القرينة عند الشك فيها ، الا انه انما يكون في
مورد الشك في المراد مع احراز المعنى الحقيقي ، لا في مثل المقام مما احرز المراد
وشك في المعنى الحقيقي لان بنائهم مطلقا عملي يستكشف من العمل ، واما إذا كان
مدركها الاخبار أي ادلة الاستصحاب ،
__________________
فلان احراز المراد
من الآثار غير الشرعية ، فلا يثبت بتلك الادلة.
وفيهما نظر :
اما الأول : فلأن
اصالة عدم الوضع للمعنى المراد معارضة مع اصالة عدم الوضع لغيره للعلم اجمالا
بوضعه لمعنى من المعاني.
واما الثاني :
فلأنَّا نختار ان مدرك هذا الاصل بناء العقلاء ، ولا ندَّعي ثبوت بنائهم في مورد
احراز المراد ، بل المدَّعى انه إذا استعمل لفظ مرارا واريد منه معنى خاصا ثم بعد
ذلك استعمل مرة اخرى وشك في المراد منه من جهة انه يحتمل ان يكون فهمه ذلك المعنى
في تلك الموارد من جهة القرينة لا من حاق اللفظ وبناء العقلاء على كون ذلك المعنى
هو المراد ، وان شئت فاختبر ذلك من حال الموالى والعبيد العرفية فانه ، إذا امر
المولى عبده مرارا باتيان الماء وكان العبد يفهم منه ارادة الجسم السيّال المخصوص
، وبعد ذلك امره باتيانه ، وشك في ان فهم ذلك المعنى في تلك الموارد كان من جهة
القرينة غير الموجودة ، ام من حاق اللفظ وصار ذلك سبباً للشك في المراد ، فان احدا
لا يشك في انه موظف باتيان ذلك الجسم في نظر العقلاء وليس له الاعتذار عن عدم
الامتثال بعدم كشف المراد.
عدم صحة السلب من علامات الحقيقة
ومنها : عدم صحة
السلب وقد يعبر عنه بصحة الحمل ، وقالوا كما انه علامة الحقيقة كذلك تكون صحة
السلب علامة المجاز.
تحقيق القول في
المقام يقتضى البحث في مقامين :
المقام الأول : في
صحة الحمل وملخص القول فيها : ان الحمل على قسمين :
القسم الأول : حمل
الاولى الذاتي ، وهو عبارة عن حمل احد المفهومين على الآخر لما بينهما من الاتحاد
الماهوي لا المفهومي ، سواء كان احد المفهومين مجملا والآخر مفصلا ، كقولنا :
" الانسان حيوان ناطق" أم كان كل منهما مجملا ، " كقولنا الانسان
بشر".
فقد يقال ان صحة
هذا الحمل علامة الحقيقة ، فلو علم المستعلم عن معنى لفظ بشر ، معنى الانسان
تفصيلا ، جعله موضوعا ، وحمل عليه لفظ البشر بما له من المعنى الارتكازي في نفسه ،
فإذا صح الحمل كشف ذلك عن اتحاد المعنيين وان اللفظ المشكوك وضعه لذلك المعنى
موضوع له ، من غير فرق بين القسمين ، إذ كما انه يستكشف من صحة الحمل في المجملين
اتحاد المعنيين ، كذلك يستكشف في المجمل والمفصل اتحاد المعنيين ذاتا وماهية ،
ومجرد اختلافهما مفهوما لكون احدهما مركبا مفصلا ، والآخر بسيطا مجملا ، لا يضر باستكشاف
الاتحاد.
فما عن المحقق
العراقى (ره) من عدم تسليم كونها علامة الحقيقة في القسم الثاني ، في
غير محله.
__________________
ولكن يمكن ان يقال
ان غاية ما يدل عليه صحة الحمل اتحاد المعنيين ، واما كون اللفظ حقيقة في احد
المعنيين فهو امر آخر غير مربوط بصحة الحمل ، وبعبارة اخرى ان هذا المعنى للفظ
الذي جعل موضوعا في القضية سواء كان معناً حقيقيا للفظ ام مجازيا يصح حمل المعنى
الآخر عليه ، فلا يمكن اثبات كونه حقيقة بصحة الحمل ، فليست هذه علامة الحقيقة ،
وان تمسك بانسباقه إلى الذهن منه ، فهو استدلال بالتبادر ، والكلام في كون صحة
الحمل بنفسها علامة للحقيقة.
القسم الثاني :
حمل الشائع الصناعي وهو حمل احد المتحدين في الوجود الذهني أو الخارجي على الآخر
وهو على اقسام : إذ تارة يكون حمل الطبيعي على الفرد كزيد انسان ، واخرى يكون حمل
احد الكليين على الآخر مع كونهما متساويين مثل" الانسان ضاحك" ، وثالثة
يكون حمل الكلى الاعم على الاخص مثل" الانسان حيوان" ، وعلى كل تقدير ،
قد يكون الوجود المفروض وجودا لهما بالذات كما في حمل الطبيعي على مصداقه أو الكلى
الاخص منه مع كونه جهة جامعة له ولغيره ، وقد يكون وجودا لهما بالعرض مثل"
الضاحك متعجب" ، وثالثة يكون وجودا بالذات لاحدهما وبالعرض للآخر مثل"
الانسان ضاحك".
اما إذا كان وجودا
بالذات لهما ، فغاية ما يمكن ان يقال في وجه استكشاف الوضع منه في جميع الاقسام
انه مثلا في الطبيعي والفرد إذا اراد المستعلم ان يعلم تفصيلا معنى الانسان وكان
عالما بالطبيعي الذي يكون زيد احد افراده جعل ـ زيدا ـ موضوعا وحمل الانسان عليه
بما له المعنى الارتكازي في نفسه ،
فإذا صح هذا الحمل
انكشف كون معنى الانسان هو الجهة الجامعة بين زيد وغيره من افراد الحيوان الناطق ،
وهكذا في المتساويين مثل" الانسان ناطق" إذا كان النظر إلى المميز لهذا
النوع من غيره ، وفي الاعم والاخص ، مثل" الانسان حيوان" إذا كان النظر
إلى المعنى الموجود في ضمن النوع.
ولكنه غير تام :
فان ما ذكر غاية ما يستكشف منه كون المستعمل فيه كذلك لا الموضوع له ، ومع الاغماض
عن ذلك وتسليم ما ذكر فانما هو فيما إذا كان وجودا لهما بالذات. واما في غير ذلك
من موارد الحمل الشائع حتى في الفرد والكلى مثل" زيد ضاحك" ، فلا يمكن
استكشاف الوضع به ، الا إذا رجع إليه كما في المثال ، فانه ان علم معنى الهيئة ،
ولم يعلم تفصيلا معنى المادة واراد تشخيص معناها جعل الضاحك محمولا وحمله على زيد
بلحاظ الصفة القائمة به ، فمن صحة الحمل وان استكشف معنى المادة الا انه من جهة ان
كل ما بالعرض لا بد وان ينتهى إلى ما بالذات ، فلا محالة ينتهى الامر إلى الحمل
على تلك الصفة القائمة بالجسم وهو من حمل الكلي على فرده ، وبتبعه يستكشف ان
الضاحك معناه ما له تلك الصفة المسماة بالضحك ، وكذلك ان علم معنى المادة تفصيلا ،
واراد ان يعلم معنى الهيئة تفصيلا وانها موضوعة لاى نحو من انحاء النسبة فانه من
صحة حمل الضاحك على زيد يستكشف وضعها للنسبة الجامعة بين قيام الضحك بزيد وما
ماثله.
ومما ذكرناه ظهر
حكم حمل أحد العامين من وجه على الآخر ، وانما لم نذكره في العنوان لاجل انه لا
يعقل كون النسبة عموما من وجه ويوجدان بوجود واحد مع كونه وجودا لهما بالذات كما
لا يخفى ، هذا هو القول الفصل في
المقام ، ومنه
يظهر ما في كلمات المحققين من الخلط والاضطراب.
المقام الثاني :
في صحة السلب.
فملخص القول فيه :
ان السلب ايضا على قسمين :
القسم الأول ، نفى
الاتحاد الماهوي.
والقسم الثاني ،
نفس الاتحاد وجودا.
اما صحة السلب
بالمعنى الأول : فهى ليست امارة المجاز بقول مطلق فانها لا تدل على عدم كون
المسلوب عنه من افراد المسلوب كي لا يصح إطلاقه عليه. نعم ، هي امارة المجاز بمعنى
كون استعماله فيه مجازا.
واما صحة السلب
بالمعنى الثاني ، فعن جماعة من الاساطين كونها امارة المجاز بقول مطلق إذ لازم صحة السلب عدم
الاتحاد ماهية ولا وجودا فيكون المسلوب عنه اجنبيا عن المسلوب لا معناه الحقيقي
ولا فردا من افراده ، فلا يصح استعماله فيه ولا اطلاقه عليه.
ولكن : هذا انما
يتم بناء على عدم اعتبار كون الموضوع متحدا مع المحمول ماهية في الحمل الشائع ،
والا فلا يتم إذ صحة السلب بالمعنى المذكور على هذا المعنى ، لا تلازم تغايرهما
ماهية ، فلا تكون امارة كون المسلوب اجنبيا عن المسلوب عنه.
__________________
الإطراد علامة الحقيقة
ومنها الإطراد ،
وقد جعله جماعة من الاصحاب علامة للحقيقة ،.
وملخص القول فيه :
انه ان كان المراد منه كثرة استعمال اللفظ في معنى مخصوص ، فهو حاصل في المجاز
لانه إذا صح استعمال لفظ في معنى مرة صح استعماله فيه مرارا بعين ذلك الملاك. هذا
من حيث صحة الاستعمال ، واما من حيث نفسه فربما يكون الاستعمال في المعنى المجازى
كثيرا ، كما انه ربما يكون في المعنى الحقيقي قليلا لقلة الابتلاء به.
وكذلك ان كان
المراد منه صدق المعنى على تمام افراده في الخارج. وبعبارة اخرى. اريد من الإطراد
التكرار في التطبيق لا الاستعمال.
فانه وان توهم
المحقق الأصفهاني ان ذلك يختص بالمعنى الحقيقي فانه الذي يصح استعماله في
جميع موارد وجود ذلك المعنى كالانسان الذي يطلق على زيد بلحاظ كونه حيوانا ناطقا
فانه يصح اطلاقه على جميع افراد الحيوان
__________________
الناطق بخلاف
المعنى المجازى كالبدر الذي يطلق على زيد بلحاظ جماله ، فانه لا يصح اطلاقه على كل
جميل حتى النخلة الجملية.
لكنه غير تام إذ
صدق المعنى المستعمل فيه اللفظ على مصاديقه قهرى عقلي سواء كان الاستعمال مجازيا
ام حقيقيا.
نعم يمكن اخذ
خصوصية فيه لا يصدق لاجل ذلك على فاقد الخصوصية ، فان هذا يمكن في المعنى الحقيقي
ايضا ، وهذا هو السر في عدم صدق البدر على الجميل غير الانسان.
وان كان المراد من
كون الإطراد علامة الحقيقة انه إذا استعمل لفظ في معناه الموضوع له المردد عندنا
بين معان فيه يميز الموضوع له عن غيره ـ مثلا إذا رأينا انه يطلق الانسان على زيد
حقيقة ـ ولكنه لم نعرف انه من جهة قيام الضحك به ، أو كونه حيوانا ناطقا أو غير
ذلك فبالاطراد ـ وكثرة اطلاقه على موارده ومصاديقه يستكشف انه موضوع للحيوان
الناطق.
فيرد عليه انه
يجرى في المعنى المجازى ايضا ـ مثلا إذا رأينا صدق الاسد على زيد بما له من المعنى
المجازى ولم نعرف انه بلحاظ شجاعته ، أو غيرها من الصفات ، فبالاطراد يستكشف انه
انما يكون بلحاظ تلك الصفة.
مع انه ربما لا
يجرى في المعنى الحقيقي وهو ما لو احتمل ان يكون استعمال الانسان وإرادة زيد بلحاظ
ما هو من لوازم هذا النوع كالكتابة بالقوة كما لا يخفى.
أقول : يمكن ان
يكون المراد من الإطراد ، صحة استعمال اللفظ في معناه في
جميع موارد جعله
أو فرد من افراده موضوعا على اختلاف القضايا وتعدد المحمولات ـ مثلا ـ الانسان يصح
استعماله في معناه من دون فرق بين انواع المحمولات المنتسبة إليه ، وهذا بخلاف
المعنى المجازي فانه لا يصح استعماله فيه وجعله موضوعا في جميع القضايا ـ مثلا إذا
اردت اظهار الكراهة ممن هو في الجمال كالبدر لا يحسن ان تقول انى اكره البدر ،
وجعل الإطراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز بهذا المعنى لا بأس به.
وبعبارة اخرى :
المراد من الإطراد هو الإطراد في التراكيب المختلفة الكلامية مع حفظ وحدة المستعمل
فيه ، فان صح التعبير عنه بهذا اللفظ في أي تركيب من التراكيب المختلفة باختلاف
الفعل المنسوب إليه كاستعمال لفظ الاسد في الحيوان المفترس ، فهو علامة الحقيقة ،
وان لم يصح كما في لفظ الاسد في الرجل الشجاع فانه وان صح قولنا جاءني اسد ، ولا
يصح تزوج اسد ، نام اسد وغيرهما من الافعال غير المناسبة لاظهار الشجاعة ، فيكون
مجازا.
بقى الكلام في
ثمرة هذا البحث وانه ، يترتب على هذا النزاع اثر ام لا؟
قد يقال كما عن
بعض الاجلة انه لا يترتب ثمرة
على تشخيص المعنى الحقيقي إذ الظاهر حجة ، فان احرز ظهور اللفظ في معنى يكون ذلك
حجة سواء كان ذلك معناه الحقيقي أم كان هو المعنى المجازي ، وان لم يكن ظاهرا فيه
__________________
فلا يفيد تشخيص
كونه معنى حقيقيا إذ على أي تقدير لا يكون حجة.
وفيه : ان ثمرة
ذلك بناء على كون اصالة الحقيقة من الاصول العقلائية التعبدية ظاهرة لا تخفى.
واما بناء على عدم
كونها منها ودوران الحجية مدار الظهور الفعلي : فلان تشخيص المعنى الحقيقي من
مقدمات انعقاد الظهور الفعلي ، فانه إذا علم ذلك واستعمل اللفظ وشك في ارادة معناه
الحقيقي المحرز منه ، أو معناه المجازى من جهة احتمال وجود القرينة تجري اصالة عدم
القرينة ، ويحرز بها ارادة المعنى الحقيقي ويثبت بها الظهور الفعلي.
نعم فيما إذا احرز
الظهور الفعلي في معنى أو عدمه كما في اختفاف الكلام بما يصلح للقرينية لا يترتب
ثمرة على تشخيص المعنى الحقيقي ، لكنه يكفي ثمرة لهذا النزاع ما ذكرناه ، وهي ثمرة
مهمة مترتبة على تمييز المعاني الحقيقة عن المعاني المجازية.
تعارض الاحوال
ثم ان الاصحاب
ذكروا للفظ احوالا ، التخصيص ، التقييد ، الاشتراك ، المجاز ، الاضمار.
وذكروا لتقديم كل
واحد منها في صورة المعارضة وجوها.
وتنقيح القول في
المقام انه ان دار الامر بين المعنى الحقيقي وغيره :
فان كان المراد
معلوما فلا كلام إذ لا يترتب على النزاع في ان المراد هو المعنى الحقيقي أو غيره
مستندا.
وان لم يكن معلوما
، فان كان احتمال ارادة غير المعنى الحقيقي مستندا إلى وجود ما يصلح للقرينة يحكم
بالاجمال لعدم انعقاد الظهور معه.
وان كان مستندا
إلى احتمال وجود القرينة ، فيما إذا دار الامر بينه وبين المجاز ، أو التخصيص ،
والاضمار ، فيما إذا دار الامر بينه وبين الاضمار ، والنقل ، أو الوضع الثاني مع
بقاء الأول ، فيما دار الامر بينه وبين الاشتراك أو النقل ، يبنى على ان المراد هو
المعنى الحقيقي الأول لاصالة الحقيقة في الثلاث الأول.
وبعبارة اخرى
اصالة عدم القرينة ، وعدم التقدير والاضمار توجبان الحمل على المعنى الحقيقي ، كما
ان اصالة عدم النقل وعدم الوضع الثاني اللتين من الاصول التي عليها بناء العقلاء
تعينان ارادة المعنى الأول.
نعم فيما ثبت
النقل أو الاشتراك وشك في ان الاستعمال كان قبل ذلك أو بعده ، فيه كلام ، سيأتي
تنقيح القول فيه في المسألة الآتية فانتظر.
وان دار الامر بين
بعضها مع بعض آخر مع القطع بان المعنى الحقيقي الأول غير مراد ، فان كان اللفظ مع
الصارف عن المعنى الحقيقي ظاهرا في احدها ، يحمل عليه لحجية الظهور ، والا فيحكم
بالاجمال.
وما قيل في وجه
التقديم من الوجوه الاعتبارية الاستحسانية مثل كون بعضها اقرب إلى المعنى الحقيقي
ونحوه ، مما لا يعتمد عليه.
نعم فيما إذا كان
منشأ العلم بعدم ارادة المعنى الحقيقي هو تعارض الدليلين ، لا بد من الرجوع إلى ما
يقتضيه قواعد ذلك الباب من تقديم ما يكون دلالته بالعموم على غيره ، وما يكون
اطلاقه شموليا وغير ذلك من القواعد المقتضية لتقديم احد الدليلين على الآخر.
* * *
الحقيقة الشرعية
الأمر الثالث عشر
: في الحقيقة الشرعية والكلام فيها في جهات.
الجهة الاولى : في
محل النزاع ، والظاهر انه اللفظ المستعمل في الماهية المخترعة من الشارع بحيث لا
يعرفها اهل العرف كالصلاة وغيرها.
ويظهر من القوانين
اعميته من ذلك ، ومن سبب الموضوع العرفي كالبيع.
الجهة الثانية :
ان الوضع التعييني كما مر في مبحث الوضع على قسمين :
١ ـ تصريح الواضع
بانشائه.
٢ ـ استعمال اللفظ
في غير ما وضع له كما إذا وضع له. وقد مر الاشكال في معقولية القسم الثاني ونقده.
وقد يقال : ان هذا
الاستعمال أي الاستعمال بداعي الوضع لكونه بعد التعهد النفساني يكون حقيقة.
ولكن يمكن ان يوجه
عليه بما تقدَّم في مبحث الإخبار والانشاء انه في
__________________
امثال هذا الامر ،
العقلاء لا يرتبون الاثر عليه ما لم يبرز ، فالتعهد النفساني وحده لا يفيد.
فما افاده المحقق
الخراساني من ان هذا الاستعمال ليس بحقيقة ، تام.
كما ان ما افاده
من عدم كونه مجازا ، ايضا تام ، لعدم كونه في غير ما وضع له.
الجهة الثالثة :
الظاهر ثبوت الحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني بالمعنى الثاني.
ويمكن ان يستدل له
بوجوه :
الأول : انه وان
سلم عدم التصريح من الشارع بالوضع ، والا لوصل الينا لعدم كونه مما توافر الدواعي
لاخفائه بل توفر الدواعي لنقله ، الا ان بناء العقلاء دليل وضعه إذ لا ريب في ثبوت
بنائهم على ان كل من اخترع شيئا يسميه باسم خاص لا سيما مع كونه مورد الابتلاء ،
والظاهر ان الشارع المقدّس لم يتخط عن هذه الطريقة المألوفة ، وعليه فهو ايضا وضع
الفاظا لمخترعاته ، غاية الامر ، بما انه نعلم بعدم الوضع بالتصريح ، لا مناص عن
الالتزام بالوضع بنحو الاستعمال.
__________________
الثاني : ما ذكره
المحقق الخراساني قال ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته ،
ويؤيد ذلك انه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية فأيُّ
علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء انتهى.
واورد عليه : بان
التبادر الفعلي لا يفيد إذ ثبوت الحقيقة المتشرعية ليس محل الكلام والخلاف ، وهو
لا يدل الا عليه ، واما التبادر في زمان الشارع بمعنى انسباق ذهن اهل ذلك الزمان
من تلك الألفاظ المتداولة إلى المعاني الشرعية فمما لا طريق لنا إلى اثباته.
نعم لا يبعد دعوى
ثبوت الحقيقة في زمان الصادقين بل قبله.
ولكن الظاهر ان
مراده هو التبادر في محاورات الشارع وفي ذلك الزمان.
بتقريب ان العرب
المتدينين لما سمعوا الآيات المتضمنة للامر بتلك الألفاظ :
إما انهم لم
يفهموا شيئا من تلكم المفاهيم والمعاني المعروفة.
أو فهموها
بالقرينة.
أو فهموها من حاق
اللفظ ولا رابع ، والاولان واضحان البطلان ، فيتعين الثالث ، وهو علامة الحقيقة.
وبما ذكرنا يظهر
تمامية الاستدلال له بالآيات مثل قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) وقوله تعالى (وَأَذِّن فِي
النَّاسِ
__________________
بِالْحَجِ) وقوله تعالى (وَأَوْصَانِي
بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) إلى غير ذلك فانها بضميمة ما ذكرناه في تقريب الاستدلال
بالتبادر تدل على ذلك.
ولا يرد عليه ما
ذكره بعضهم بقوله ، ويرد عليه : اولا : ان صلاة الامم السابقة كما
نشاهد الآن ليست الا دعاء محضا ، وكذلك الحج والزكاة ، وثانيا ان غاية ما يستفاد
من هذه الآيات ثبوت هذه الماهيات المخترعة في الشرائع السابقة ، ولا تدل على انها
كانت مسماة بهذه الأسماء ، بل دعوى القطع بالعدم قريبة جدا ، إذ لغات الشرائع
السابقة غير عربية وهذه الفاظ عربية ، مع ان قوله تعالى في الآية الاولى" كما
كتب الخ" الضمير فيه يرجع إلى معنى الصوم لا إلى لفظه كي يستدل به.
الجهة الرابعة في
الثمرة بين القولين :
قال جماعة منهم
المحقق الخراساني بانه يظهر الثمرة في المسألة بحمل الألفاظ الواردة في
الكتاب والسنة بلا قرينة على المعاني اللغوية مع عدم الثبوت وعلى معانيها الشرعية
مع الثبوت إذا علم تاريخ الاستعمال.
__________________
ويرد عليه : انه
لا بد من تقييد ذلك بعدم صيرورتها مجازات مشهورة في ذلك الزمان في المعاني الشرعية
إذ الشهرة مانعة عن انعقاد الظهور في المعنى الحقيقي.
بل ربما توجب
انعقاد الظهور في المعنى المجازى ، بل يمكن ان يدّعى انه إذا احتمل صيرورتها كذلك
في زمانه (ص) لا بد من التوقف والحكم بالاجمال فيما لم يعلم تقدم الاستعمال على
ذلك.
فان اصالة عدم
وصولها إلى حد الشهرة إلى حين الاستعمال لو سلم جريانها ، تعارض استصحاب وصولها
إلى هذا الحد بنحو القهقرى إلى حين الاستعمال فتدبر.
كما انه : يرد على
ما ذكره من حملها على المعاني الشرعية على تقدير ثبوتها انه لا بد وان يقيد ذلك
بما إذا نقلت تلك الألفاظ عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية.
واما إذا كان
ثبوتها لا بهذا النحو بل بنحو الاشتراك فلا يتم ذلك بل يحكم بالاجمال.
ولا يبعد دعوى
كونها بنحو النقل على تقدير الثبوت. هذا كله إذا علم تاريخ الاستعمال.
واما إذا جهل
التاريخ : فتارة يكون زمان الاستعمال معلوما وزمان النقل مجهولا ، واخرى يكونان
بالعكس ، وثالثة يكون كلا الزمانين مجهولين.
اما في الصورة
الاولى : فقد يتوهم انه يحمل اللفظ على المعنى اللغوى ،
لاصالة عدم النقل
إلى حين الاستعمال ، ولا يرد عليه ما قيل من انها ليست اصلا عقلائيا.
فانه يمكن دفعه
بان بناء العقلاء على حمل الألفاظ على معانيها اللغوية مع احتمال ان يكون المستعمل
نقلها إلى معان اخر.
بل لان ذلك انما
يتم في ما إذا لم يحرز النقل والا فمع إحرازه والشك في تقدم الاستعمال وتاخره ،
يعارض هذا الاصل مع اصالة عدم النقل إلى حين الاستعمال بنحو القهقرى التي هي ايضا
في نفسها من الاصول العقلائية ، إذ لا ريب في ان العقلاء إذا رأوا لفظا مستعملا في
كلمات القدماء وله ظهور فعلا في معنى يحملونه عليه ، مع احتمال ان يكون الظهور
الفعلي لنقله عمَّا كان موضوعا عليه حين الاستعمال ، فتتساقطان ويحكم بالاجمال.
وبذلك ظهر وجه
الحكم بالاجمال في الصورتين الاخيرتين.
ولكن الذي يهون
الخطب ، عدم ورود رواية متضمنة لهذه الألفاظ مع عدم القرينة على ارادة المعاني
اللغوية أو الشرعية ، وهذا البحث مما لا يترتب عليه ثمرة عملية.
* * *
الصحيح والاعم
الامر الرابع عشر
: في الصحيح والاعم.
وقد وقع الخلاف في
ان الفاظ العبادات والمعاملات ، هل تكون اسام للصحيحة ، أو الاعم.
وقبل ذلك ينبغى
التنبيه على جهات :
الاولى : لا شبهة
في تأتى الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، واما على القول بعدم الثبوت
ففيه اشكال.
وقد ذكر في وجه
جريان النزاع على هذا القول وجوه :
منها : ما نقله في
الكفاية من ان النزاع وقع على هذا : في ان الاصل في هذه الألفاظ
المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الاعم ، بمعنى ان
ايهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر
بتبعه ومناسبته كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم
قرينة اخرى معينة.
وهو غير صحيح : إذ
المعنى المجازى الثاني ان كان بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة صح الاستعمال ،
ولكنه ليس سبك المجاز من المجاز ، والا لما صح الاستعمال وان كان بينه وبين المعنى
المجازى الأول مناسبة.
__________________
ثم ان كان مراد
المحقق الخراساني ممن نقل عنه هذا الكلام هو الشيخ الاعظم ، فالظاهر انه لم يحرر
النزاع بهذا النحو ، بل بنحو آخر.
وحاصله : ان اللفظ
قد استعمل مجازا عند الصحيحي ، في الصحيح دائما لعلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ،
واستعماله في الفاسد انما يكون من جهة التصرف في امر عقلي وهو تنزيل المعدوم منزلة
الموجود ، فدائما يكون المستعمل فيه عنده الصحيحي ، إما واقعا أو ادعاء.
واما الاعمِّي فهو
يدَّعي ان اللفظ دائما يستعمل في الجامع بين الصحيح والفاسد مجازا وهو الذي اعتبرت
العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ، وإفادة خصوصية الصحة انما تكون بدال آخر.
وعلى هذا فاللفظ
يحمل على الصحيح إذ استعمل في كلامه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي ـ عند
الصحيحي ـ ما لم ينصب قرينة على التصرف في امر عقلي ، كما انه عند الاعمي يحمل على
الجامع مع عدم الدليل على خصوصية الصحة.
وبهذا التقريب
يندفع ما اورده في الكفاية على الشيخ من الوجهين وهما : انه لا يكاد يصح هذا إلا إذا
علم ان العلاقة انما اعتبرت كذلك وان بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم نصب
قرينة اخرى على ارادته بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معينة اخرى
وانى لهم باثبات ذلك.
__________________
أما ما ذكره اولا
: فلأن الدليل على ذلك هو الدليل على الحقيقة المتشرعيّة إذ منشأ ثبوت تلك ،
استعمال اللفظ في ذلك المعنى مجازا في لسان الشارع وتابعيه حتى صار حقيقة فيه.
واما ما ذكره
ثانيا : فلأن كلاً من الصحيحي والأعمّي يدَّعي ان المستعمل فيه دائما شيء واحد فمع
عدم نصب القرينة على التصرف في امر عقلي ، أو على ارادة الصحيح يحكم بارادة
المستعمل فيه منه كما هو الشأن في جميع الموارد.
ولكن يرد على ما
أفاده الشيخ الأعظم من التصرف في أمر عقلي على القول بالأعم ، انه لا يتم في
موردين :
الأول : فيما إذا
أريد منه الفاسد وجعل موضوعا في قضية محمولها فاسد أو باطل ، مثل : الصلاة بلا
سورة فاسدة.
الثاني : فيما إذا
أريد منه الجامع بين الصحيح والفاسد كما لا يخفى.
ويمكن تصوير
النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية بوجه آخر ، وهو أن هذه الألفاظ
المتداولة التي صارت حقائق في المعاني الشرعية عند المتشرعة ، وتلك معانيها
المجازية في لسان الشارع ، هل لوحظت العلاقة المصححة للاستعمال بين معانيها
الحقيقية وخصوص الصحيحة من المعاني الشرعية ، أو لوحظت بينها وبين الأعم بنحو يكون
كلامه (ص) مع القرينة على عدم إرادة المعاني اللغوية ظاهرا فيما لوحظت العلاقة
بينها وبين المعاني الحقيقية ، إما لاستقرار ديدنه على ارادتها من تلك الألفاظ ،
أو لكثرة استعمال الشارع الألفاظ فيها فتدبر.
ومنها : ما نسب
إلى الباقلانى وهو ان يكون النزاع في ان قضية القرينة المضبوطة التي لا
يتعدى عنها الا بالاخرى الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الاجزاء
والشرائط أو هما في الجملة.
وفيه : ان الدال
على بقية الاجزاء والشرائط المعتبرة في موضوع الامر لا في المستعمل فيه ان كان
لفظا واحدا يستعمل فيها دائما صح هذا النزاع بالتقريب المذكور ولكن الباقلانى لا
يدّعي ذلك بل يدّعي ان الدال عليها انما هي الألفاظ الموضوعة لغة لكل واحد منها
وعليه فلا مجال لهذا النزاع.
الجهة الثانية في
معنى الصحّة : قال في الكفاية الظاهر ان الصحّة عند الكل بمعنى واحد وهو التمامية
وتفسيرها ، باسقاط القضاء كما عن الفقهاء ، أو بموافقة الشريعة كما عن المتكلمين ،
أو غير ذلك انما هو بالمهم من لوازمها.
إلى ان قال : ومنه
ينقدح ان الصحة والفساد امران اضافيان فيختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات
فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب اخرى.
وتنقيح القول
بالبحث في موردين :
احدهما : انه ما
المراد من التمامية وان الصحيحي هل يدعي الوضع للتام من أي جهة ، وان المراد هو
التمامية من جميع ما يعتبر في المأمور به ، أو تكون
__________________
التمامية من جهة
دون اخرى.
الثاني : في انه
على فرض كون المراد هو التام من جميع ما يعتبر في المأمور به ، هل الصحة والفساد
وصفان اضافيان ، كما افاده في الكفاية ام هما وصفان حقيقيان.
اما المورد الأول
: فلا اشكال في انه ليس المراد من التمامية ، التمامية من حيث اسقاط القضاء ، أو
من حيث موافقة الامر : لان الشيء لا يتصف بأحد العنوانين الا بعد الامر به وإتيانه
، ومثله لا يمكن ان يقع في حيز الامر ، بل الظاهر ان المراد منها هو التمامية من
حيث الاستجماع للاجزاء والشرائط والخصوصيات المعتبرة في المأمور به ولعله الظاهر
من الكفاية وصريح غيرها .
والحق انه لا يصح
دعوى الوضع للتام من جميع الجهات.
توضيح ذلك : ان
التمامية ، تارة تلاحظ بالاضافة إلى الاجزاء خاصة.
واخرى باضافة
الشرائط إليها.
وثالثة باضافة عدم
المزاحم الموجب لعدم الامر فيكون الصحيح هو المركب من الاجزاء والشرائط مع عدم
كونه مزاحما بواجب آخر.
ورابعة باضافة عدم
النهي إلى ما ذكر.
__________________
اما الاخيران فهما
خارجان عن المسمّى قطعا : لأنهما فرع المسمّى حتى ينهى عنه أو يسقط امره بوجود
المزاحم.
واما الشرائط فقد
يقال بخروجها عن محل النزاع لانها لا تعتبر في المسمّى قطعا ، إذ الشرط متاخر عن
المشروط رتبة فكيف يدخل في المسمّى المستلزم ذلك لتساويهما.
ولكنه مردود بان
تسمية المتقدم والمتأخر باسم واحد لا توجب تساويهما رتبة حتى لا تكون ممكنة ، نعم
الشرط الذي يأتي من قبل الامر كقصد الامر المعتبر في التعبديات لا يكون داخلا في
المسمّى وإلا لزم عدم استعمال اللفظ في معناه عند الامر به ولو في مورد ، وهو كما
ترى ، وستاتى تتمة البحث في ذلك عند البحث في تصوير الجامع على القول بالوضع
للصحيح.
واما المورد
الثاني : فالحق ان الصحة بمعنى التمامية من حيث الاستجماع لجميع ما يعتبر في
المأمور به وما يقابلها وصفان حقيقيان ، وما افاده المحقق الخراساني من انهما امران اضافيان ، لا يتم لانه علله بانه يختلف شيء
واحد صحة وفسادا بحسب الحالات فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب اخرى.
ويرده : انه من
الخصوصيات المعتبرة في المأمور به حالات المكلف فما يكون واجدا لجميع الخصوصيات لا
يتصف بالفساد ابدا ، مثلا صلاة الحاضر وان كانت فاسدة بالنسبة إلى المسافر ، الا
انه انما يكون لفقد خصوصية من الخصوصيات المعتبرة كما هو واضح.
__________________
فالحق انهما وصفان
حقيقيان لا امران اضافيان.
الاحتياج إلى تصوير الجامع
الجهة الثالثة ،
انه لا بدَّ على كلا القولين من تصوير جامع يشترك فيه جميع الافراد ، حتى يكون هو
القدر المشترك الذي وضع اللفظ بازائه ، أو استعمل فيه مجازا في لسان الشارع ، وعلى
نحو الحقيقة في لساننا وذلك : لعدم كون هذه الألفاظ من قبيل المشترك اللفظي بين
الافراد وهو بديهي.
ولا من قبيل
الموضوع له الخاص : لاستعمالها في الجامع بلا عناية : ولأنّا لا نتوقف عند سماع
لفظ الصلاة بلا قرينة ، بل ينتقل ذهننا إلى تلك العبادة المخترعة من دون دخل
الخصوصيات فيها : ولانه لا سبيل إلى شيء منهما ان كان وضعها تعيُّناً ، أو
تعيينياً بالاستعمال كما لا يخفى ، وان كان وضعها تعيينيا بالتصريح فهي كسائر
اسماء الاجناس ، فتكون من قبيل المشترك المعنوي ، فلا بد من تصوير الجامع لكونه
الموضوع له والمستعمل فيه.
وللمحقق النائيني
في المقام كلام وهو انه لا بد من تصوير الجامع وان كان الموضوع له خاصا إذ لا بد من قدر جامع به يشار إلى
الموضوع له.
وفيه : ما مرَّ
منا في مبحث الوضع انه إذا لاحظ الواضع القدر المشترك بين
__________________
الافراد لا يصح
وضع اللفظ للافراد إذ الجامع لا يكون مرآتا للخصوصيات وحاكيا عن الافراد ، بل لا
بد في الوضع للافراد من لحاظها تفصيلا أو لحاظ عنوان منتزع عن الخصوصيات.
وعليه فبناء على
كون الموضوع له خاصا ، لا يكون القدر المشترك لازما.
ثم انه قال المحقق
النائيني (ره) بعد ان اشكل على تصوير الجامع :
ويمكن دفع الاشكال
بالالتزام بان الموضوع له هي المرتبة العليا الواجدة لتمام الاجزاء والشرائط ،
والاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي أو الاعم منها على قول
الاعمي ، من باب الادعاء والتنزيل.
ثم قال وهذا يوجب
بطلان نزاع الصحيحي والأعمي رأسا.
وفيه : اولا : ان
المرتبة العليا ليست عبارة عن عدّة اجزاء وشرائط معينة بحيث لا يختلف قلّة وكثرة ،
بل هي تختلف بحسب اختلاف أقسام الصلاة ، مثل صلاة الصبح ، وصلاة الظهر ، وصلاة
العيدين ، والآيات ، والصلوات المستحبة ، فالالتزام بوضعها للمرتبة العليا يتوقف
ايضا على تصوير جامع لجميع الاقسام.
وثانيا : انا نرى
بالوجدان ان اطلاق الصلاة على المراتب النازلة كاطلاقها على المرتبة العليا انما
يكون من دون مسامحة وبلا تنزيل وتصرف في امر عقلي.
وثالثا : ان
المرتبة العليا لو سلم كونها قسما واحدا بما انها تكون صحيحة بالنسبة إلى بعض
المكلفين وفاسدة بالنسبة إلى آخرين ، فيمكن النزاع في ان
__________________
الموضوع له ، هي
تلك المرتبة اعم من ان تكون صحيحة أو فاسدة.
ورابعا : ان ما
ذكره (ره) فليكن احد الاحتمالات أي احتمالا ثالثا : وهذا لا يوجب
بطلان النزاع.
تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة
ثم إن تنقيح القول
بالبحث في مقامين :
الأول : في
العبادات. الثاني : في المعاملات.
أما الأول :
فالكلام فيه في موردين :
١ ـ في تصوير
الجامع.
٢ ـ في أدلة
الطرفين.
أما تصوير الجامع
فالكلام فيه في موضعين :
أحدهما في تصوير
الجامع بين الأفراد الصحيحة.
ثانيهما في تصويره
بين الأفراد الأعم من الصحيحة ، والفاسدة.
__________________
أما الأول : فقد
ذكر المحققون من الأصحاب لتصويره وجوها :
منها ما أفاده
المحقق صاحب الكفاية ، قال فيها : لا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة ، وإمكان
الإشارة إليه بخواصه وآثاره فان الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد
يؤثر الكل فيه بذاك الجامع فيصح تصوير المسمّى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن
الفحشاء وما هو معراج المؤمن انتهى.
وحاصله : أن
الجامع هو الذي يترتب عليه النهي عن الفحشاء الذي هو الغرض من الصلاة المأمور بها
فان وحدة الغرض تكشف عن وحدة المؤثر لان الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد.
وأورد عليه
بإيرادات :
الأول : ما أفاده
المحقق النائيني (ره) وحاصله أن العبادات بالنسبة إلى الأغراض المترتبة عليها من
قبيل العلل المعدّة وهي ما يتوسط بينها وبين المعلول أمر آخر كان ذلك أمرا
اختياريا أم غير اختياري ، وليست من قبيل الأسباب التوليدية ، وذلك يستكشف من تعلق
الأمر بها بأنفسها لاما يترتب عليها من الأغراض إذ لو كانت من قبيل الأسباب
التوليدية كان الأولى تعلق الأمر بالأغراض كما هو الشأن في جميع ما هو من هذا
القبيل ، نظير الطهارة الخبيثة لا بنفس الأجزاء والشرائط ، فلا يعقل أن يكون هناك
جامع يكون عنوانا للمصاديق في مقام التسمية وتعلق الخطاب ، والغرض تصوير الجامع في
هذا
__________________
المقام.
وبعبارة أخرى انه
كما لا يصح الأمر بالأغراض كذلك لا يصح أخذها قيداً للمأمور به لفرض خروجها عن تحت
قدرة المكلف ، ولا كاشفا عن المسمّى بداهة انه بعد ما كانت الملاكات من باب
الدواعي وكان تخلف الداعي عن الأفعال الاختيارية بمكان من الإمكان فكيف يصح أخذها
معرفا للمسمى.
وفيه : أن الغرض
المترتب على المأمور به أمران :
الأول : الغرض
الأعلى الذي يكون بالنسبة إلى المأمور به من قبيل المعلول بالنسبة إلى العلة
المعدّة.
الثاني : الغرض
الإعدادي المترتب عليه الذي يكون بالنسبة إليه من قبيل المعلول بالنسبة إلى العلة التامة
أو الجزء الأخير منها ، والذي يكون ملاكا للأمر هو الغرض الثاني ، لا الأول ، وهو
قابل لتعلق التكليف به بنفسه ، أو بجعله قيدا له ، لكونه تحت اختيار المكلف
بالواسطة وإنما لم يؤمر به وأمر بمحصله لأجل كونه من الأمور الذي لا يفهمه العرف.
الثاني : ما ذكره
المحقق النائيني (ره) أيضا ، وهو انه لو سلم كونها من قبيل الأسباب التوليدية
فلازمه أنه لا يمكن التمسك بالبراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط لرجوع الشك إلى
الشك في المحصل .
وفيه : ما حققناه
في محله من مبحث الأقل والأكثر ، من أن الغرض إذا كان
__________________
مما لا يفهمه
العرف ولا يعرفون محصّله ، والمولى لم يأمر به وأمر بمحصله ، كان الواجب على
المكلف هو الإتيان بالمحصّل الذي أمر به المولى ، وأما تحصيل الغرض حتى بإتيان ما
لم يأمر به فلا يحكم العقل بلزومه ، وعليه فالغرض بالمقدار الذي قام عليه من
المولى بيان يجب تحصيله ، وفي غير ذلك يكون مورد لأصالة البراءة وتمام الكلام في
محله.
الثالث : ما ذكره
الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) وهو أن الصلاة مركبة من مقولات متباينة ، وقد ثبت في محله
أنها أجناس عالية ولا يمكن تصوير الجامع الحقيقي بين فردين منها.
أضف إليه أن الصحة
في صلاة الصبح مثلا متوقفة على إيقاع التسليمة في الركعة الثانية ، وفي صلاة
المغرب متوقفة على إيقاعها في الثالثة وعدم إيقاعها في الثانية ، فكيف يمكن تصوير
الجامع بين المشروط بشيء والمشروط بعدمه.
أقول : هذان
الإيرادان كجملة من الإيرادات الأخر التي أوردوها عليه ، مبنيان على أن يكون
المحقق الخراساني مدعيا لوجود جامع حقيقي مقولي بين الأفراد كما صرح دام ظله به.
لكن الظاهر من
كلماته انه (قدِّس سره) يدّعي وجود جامع عنواني بسيط منطبق على كل واحد من أفراد الصلاة
الصحيحة الذي هو ملزوم عنوان المطلوب المساوي له ، لاحظ قوله إن الجامع إنما هو
مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات
__________________
المختلفة زيادة
ونقيصة بحسب اختلاف الحالات متحد معه بنحو اتحاد .
توضيح ذلك : أن
العنوان غير الذاتي يمكن أن يتحد مع كل واحدة من الحقائق المختلفة ، مثلا : عنوان
التعظيم ، قد ينطبق على القيام ، وقد ينطبق على الإيماء ، وقد ينطبق على الكيف
المسموع ، ومعلوم انه لا جامع مقولي بين هذه العناوين.
وعليه فيصح تصوير
المسمّى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما من
العناوين الاعتبارية المنطبقة على هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف
الحالات المتحدة معها نحو اتحاد ، وان شئت قلت : إن الصلاة مثلا عنوان جعلي
اعتباري ينطبق على كل فرد من أفراد الصلاة الصحيحة بما لها من الاختلاف بحسب
الأجزاء والشرائط.
الرابع : إن اتحاد
البسيط مع المركب محال ، ولا يعقل أن يكون المركب فرداً للبسيط .
وفيه : أن انطباق
عنوان بسيط جعلي اعتباري غير ذاتي على المركب لا استحالة فيه ، بل هو واقع كما في
التعظيم وما ماثله من العناوين.
الخامس : إن الغرض
المترتب على الصلاة واحد نوعي لا شخصي : إذ يترتب على كل فرد من أفراد الصلاة فرد
من الغرض ، غير ما يترتب على
__________________
غيرها. والبرهان
المزبور أي" الواحد لا يصدر إلا عن الواحد" على تقدير تماميته إنما يتم
في الواحد الشخصي دون النوعي .
ويرد عليه : ما
ذكرناه في أول الكتاب من جريان البرهان المزبور في الواحد النوعي أيضا .
السادس : ما ذكره
هو (قدِّس سره) في الكفاية وهو : أن لازم ذلك عدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء
العبادات وشرائطها لعدم الإجمال في المأمور به حينئذ بل فيما يتحقق به .
والجواب عنه هو
الذي ذكره بقوله إن الجامع إنما هو مفهوم واحد الخ . وحاصله أن هناك مسائل ثلاث :
الأولى : أن يكون
متعلق التكليف بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر ، كما إذا كان المأمور به في الصلاة
نفس الأجزاء والشرائط المرددة بين الأقل والأكثر ، وفي هذا القسم أكثر المحققين
اختاروا جريان البراءة.
الثانية : ما إذا
كان المأمور به عنوانا مسببا عن مركب مردد بين الأقل والأكثر وله وجود منحاز عن
ذلك المركب نظير الطهارة المسببة عن الغسل ،
__________________
وفي هذا القسم
الأكثر على عدم جريان البراءة ، وان كان المختار عندنا جريانها في بعض موارد هذا
القسم.
الثالثة : أن يكون
المأمور به عنوانا بسيطا منطبقا على ذلك المركب المردد بين الأقل والأكثر ، وفي
هذا القسم مختار الشيخ الأعظم (ره) عدم جريان البراءة ، والمحقق الخراساني على ما
صرح به في تعليقته على الفرائد في المسألة الرابعة من مسائل الأقل والأكثر ، اختار
جريان البراءة ، وعليه فالمقام بما انه من القسم الثالث لا الثاني ، فتجري فيه
البراءة.
فالصحيح أن يُورَد
عليه بان ذلك بخلاف ما ارتكز في أذهان المتشرعة ، وخلاف النصوص الواردة عن مخترعها
الذي هو المرجع في ذلك ، فإنها صريحة في كونها اسما للأجزاء والشرائط أنفسها.
ومن مطاوي ما
ذكرناه ظهر عدم إمكان تصوير الجامع المقولي الحقيقي.
كما ظهر مما
ذكرناه أن ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) ، من تصوير الجامع في خصوص الصلاة التي استكشفنا من أدلة
القواطع وجود هيئة اتصالية معتبرة فيها ، فيكون لفظ الصلاة موضوعا لتلك المادة
الحافظة لهذه الوحدة الاتصالية.
غير تام : إذ تلك
المادة سواء ، أريد بها ، الجامع المقولي ، أو العنواني لا
__________________
تكون الصلاة اسما
لها ، أما على الأول : فلعدم معقوليته ، وأما على الثاني : فلما مر فلا نعيد ،
ولان لازمه عدم جريان البراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط على مسلكه كما تقدم.
وقد يقال في تصوير
الجامع كما في تعليقة المحقق الأصفهاني (ره) بما حاصله أن في المعاني والماهيات الموضوع له في جميع
الموارد معيّن من جهة ومبهم من سائر الجهات ، مثلا : الخمر إنما وضعت للمائع
المسكر المعين من هذه الجهة المبهم من حيث اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما ، ومن
حيث اللون والطعم وغيرهما من الخصوصيات وتكون بحيث إذا أراد المتصور تصورها ، لم
يوجد في ذهنه إلا المائع المسكر المبهم من جميع الجهات ، وعليه فالموضوع له للفظ
الصلاة مع هذا الاختلاف الفاحش بين مراتبها كما وكيفا ، سنخ عمل معين من جهة وهي
النهي عن الفحشاء والمنكر أو غيرها من المعرفات المبهم من سائر الجهات ، فالموضوع
له للفظ الصلاة ، هو الناهي عن الفحشاء والمنكر.
ثم قال (ره) : أن
هذا البيان يجدي للأعمّي أيضا ، بدعوى : أن تلك الجهة المعينة كالناهي عن الفحشاء
والمنكر ، إن اخذ الناهي الفعلي معرِّفا للمسمّى فهو الجامع بين الأفراد الصحيحة ،
وان وضع بإزاء العمل المبهم إلا من حيث اقتضاء النهي عن الفحشاء دون الفعلية عمّ
الوضع وكان الموضوع له هو الأعم : إذ كل مرتبة من مراتب الصلاة لها اقتضاء النهي
عن الفحشاء لكن
__________________
فعلية التأثير
موقوفة على صدورها من أهلها لا ممن هو أهل لمرتبة أخرى.
وفي كل من تصويري
الجامع على الصحيحي ، وعلى الأعمّي ، نظر.
أما على الأول :
فلان العنوان المعلوم الذي هو الموضوع له أو المعرف لما وضع له ، إما أن يكون
ذاتيا للأفراد ، أو عرضيا :
وعلى الأول : فإما
أن يكون تمام الذاتي لها" كالإنسان" الموضوع للحيوان الناطق ، أو جزء
ذاتها" كالحيوان".
وعلى الثاني :
فإما أن يؤخذ العنوان المزبور معرفا للذات الموضوع له أو يكون الموضوع له نفس ذلك
العنوان.
فان كان مراده من
العنوان هو العنوان الذاتي.
فيرد عليه : أن
الجامع الذاتي بين أفراد الصلاة غير معقول لأنها مركبة من مقولات متباينة وقد ثبت
في محله أنها أجناس عالية ليس فوقها جنس.
وان كان مراده هو
العنوان العرضي بالنحو الأول.
فيرد عليه : انه
إنكار لوجود الجامع ، ويلزم أن يكون الموضوع له خاصا وهو خلاف الفرض.
وان كان مراده
العنوان العرضي بالنحو الثاني.
فهو يرجع إلى ما
ذكره المحقق الخراساني والكلام فيه هو الذي أوردناه عليه.
وأما على الثاني :
فلأنه لو تم هذا الجامع على الصحيحي لا يتم على الأعمّي ، لان ما ذكره إنما يفيد
بالنسبة إلى بعض الصلوات الفاسدة ولا يتم
بالنسبة إلى جميعها
، مثلا : الصلاة خمس ركعات ليس فيها اقتضاء النهي عن الفحشاء ولا تصح ولو من شخص
واحد.
وأفاد المحقق
العراقي (قدِّس سره) في تصوير الجامع وجها آخر.
وحاصله : أن
الجامع لا ينحصر بالجامع المقولي والعنواني ، بل هناك جامع آخر وهو الجامع الوجودي
والصلاة موضوعة له.
بيان ذلك أن
الصلاة مثلا وان كانت مركبة من الماهيات المتباينة ولكن بينها اشتراك وجودي وحصة
خاصة من الوجود الجامع بين تلك المقولات المتباينة ماهية فتكون الصلاة أمرا بسيطا
خاصا يصدق على الكثير والقليل والضعيف والقوي.
وبعبارة أخرى هي
موضوعة لمرتبة من الوجود الساري في جملة من المقولات المحدود من طرف القلة بعدد
أركان الصلاة مثلا ومن طرف الكثرة لوحظ لا بشرط بنحو يصح حمله على الفاقد لها
والواجد.
وفيه : مضافا إلى
أن المنسبق إلى الذهن من ألفاظ العبادات ليس مرتبة من الوجود المقترنة بالمقولات
الخاصة ، بل نفس تلك المقولات : إذ الوجود من دون الإضافة يكون جامعا ووجوديا بين
جميع الموجودات ، ومع الإضافة يكون وجودا خاصا ، وليس بين الوجودات جامع وجودي.
__________________
فالمتحصل عدم
تمامية شيء مما ذُكر في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة ليكون هو الموضوع له.
تصوير الجامع على الأعم
وأما الموضع
الثاني : فقد ذكر الأصحاب في تصوير الجامع على الأعم وجوها :
أحدها : ما ذهب
إليه المحقق القمي (ره) وهو أن يكون عبارة عن جملة من الأجزاء كالأركان في الصلاة
مثلا وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به لا في المسمّى.
وأورد عليه المحقق
الخراساني (ره) في الكفاية بإيرادات ثلاثة :
١ ـ التسمية بها
حقيقة لا تدور مدارها ضرورة صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان.
٢ ـ عدم الصدق
عليها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمّي.
٣ ـ انه يلزم أن
يكون الاستعمال فيما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه مجازا عنده وكان من باب
استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ولا يلتزم به
__________________
القائل بالأعم.
وأورد المحقق
النائيني (ره) عليه بإيرادين :
أحدهما : إن
الأركان مختلفة بحسب الموارد من القادر ، والعاجز وأمثالها ، فلا بد من تصوير جامع
آخر بين تلك المراتب فيعود الإشكال.
ثانيهما : إن بقية
الأجزاء إن كانت خارجة عن المسمّى دائما فهو ينافي الوضع للأعم فان المفروض صدقها
على الصحيحة أيضا ، وان كانت خارجة عند عدمها خاصة فيلزم دخول شيء في الماهية عند
وجوده وخروجه عنها عند عدمه ، وهو محال :
إذ التشكيك في
الماهية وان كان معقولا إلا انه في الماهيات البسيطة كالسواد والبياض وغيرهما ،
ولكنه لا يعقل في الماهيات المركبة كما حقق في محله.
والحق : أن الصحيح
في تصوير الجامع هو هذا الوجه بعد إصلاحه بان الموضوع له جملة من الأجزاء الخاصة
لا الأركان ، وان بقية الأجزاء على فرض وجودها داخلة في المسمّى.
وتنقيح القول فيه
يقتضي البحث في مقامين :
الأول في مقام
الثبوت ، وبعبارة أخرى في إمكانه.
والثاني في مقام
الإثبات وإقامة الدليل عليه.
__________________
أما المقام الأول
: فحق القول فيه بنحو يندفع جميع الإيرادات المتقدمة يقتضي تقديم مقدمات :
الأولى : انه لا
مانع من ضم ماهيات مختلفة التي لا جامع بينها وتسميتها باسم واحد ، وتصير بذلك
مركبا اعتباريا كما نرى ذلك بالوجدان في المركبات الاعتبارية لاحظ الأطعمة
والأشربة.
الثانية : انه لا
بد في المركب الاعتباري عند إرادة تعيين الموضوع له من الرجوع إلى مخترعه سواء كان
المخترع هو الشارع أو غيره.
الثالثة : انه في
المركب الاعتباري يمكن أن يكون شيء على تقدير وجوده جزءا وعلى تقدير عدمه غير مضر
، إن كان ما اخذ مقوِّما مأخوذا فيه لا بشرط ، وهذا لا يستلزم التشكيك في الماهية
، وغير مربوط به.
والدليل على ذلك
وقوعه كما في لفظ البستان فانه موضوع لما اشتمل على ساحة وحيطان وعدة أشجار ، وإذا
زيد على ذلك عدّة أشجار أخر أو حوض أو غيره ، فهي من أجزاء البستان وإلا فلا ، وما
اشتهر من أن المركب ينتفي بانتفاء أحد الأجزاء فإنما هو في المركب الحقيقي لا
الاعتباري.
الرابعة : انه في
المركب الاعتباري يمكن أن يكون المقوم أحد أمور على سبيل البدلية ، مثلا : المعجون
في اللغة موضوع للمركب من العسل وغيره أي شيء كان ، والحلو ، اسم لما طبخ من شكر
أو غيره من الحلويات وغيره سواء كان ذلك أيضا حنطة أو أرز أو غيرهما ، ولا يلزم في
ذلك تصوير جامع بين تلك الأمور.
إذا عرفت هذه
الأمور ، فاعلم انه يمكن أن يقال إن الصلاة مثلا اسم لجملة من الأجزاء والشرائط (وهي
كما ستعرف في المقام الثاني ، الطهارة ، والتكبيرة ، والركوع ، والتسليمة) ، وان
شئت فعبر عن هذه بالأركان بهذا الاعتبار ، وغيرهما من الأجزاء والشرائط حتى الفرد
الثاني من الركوع ، والسجود دخيلة في المأمور به ، خارجة عن حقيقتها ، ولكنه عند
الإتيان بها تدخل في المسمّى.
ولا يرد على ذلك
شيء من الإشكالات المتقدمة.
أما الأولان :
فلأنه لا سبيل إلى دعواهما بعد ورود الدليل من المخترع على ذلك.
وأما الثالث :
فلما عرفت في المقدمة الثالثة ، من أن بقية الأجزاء داخلة في المسمّى على تقدير
وجودها. فإطلاق الصلاة واستعمالها في مجموع الأجزاء والشرائط ، لا يكون مجازا ،
وأما الرابع : فلما عرفت في المقدمة الرابعة ، وأما الخامس فلما ذكرناه في المقدمة
الثالثة ، هذا كله بحسب مقام الثبوت.
وأما المقام
الثاني وهو إقامة الدليل عليه في مقام الإثبات ، فنتعرض للدليل على ذلك في خصوص
الصلاة التي هي العمدة في الباب ، وبه يظهر الحال في بقية العبادات ، وملخص القول
فيها ، أن لنا دعويين :
الأولى : كون
الموضوع له للفظ الصلاة ، هي الطهارة ، والتكبيرة ، والركوع ، والسجود ، والتسليمة
، والموالاة.
الثانية : أن بقية
الأجزاء والشرائط على فرض تحققها داخلة في المسمّى.
أما الأولى :
فيشهد لها : النصوص الكثيرة المتضمنة أن التكبيرة افتتاح الصلاة ، والتسليمة
اختتامها ، وانه لا صلاة إلا بطهور ، وان الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث الطهور ، وثلث
الركوع ، وثلث السجود فمفاد هذه النصوص كون الأجزاء الخمسة الأولى داخلة في
المسمّى ، وأما الموالاة فيشهد لاعتبارها في مسمى الصلاة الارتكاز العرفي : إذ لا
يشك أحد في أن من كبر في أول الصبح ، وركع في الظهر ، وسجد في الليل ، لا يصدق انه
صلى.
فالمتحصل انه إذا
رجعنا إلى الشارع المخترع يظهر لنا أن الأمور الستة المشار إليها داخلة في المسمّى
ومن أتى بها يصدق على ما فعله" صلاة" ولا يتوقف صدق الصلاة على شيء آخر.
وأما الثانية :
فيشهد لها : استعمال الصلاة عند المتشرعة في مجموع الأجزاء والشرائط بلا عناية
وتجوز ، بل في لسان الشارع الأقدس وحافظي شريعته وأيضا التعبير عن غير الستة
المذكورة في ألسنتهم بأجزاء الصلاة وقيودها وما يعتبر ، فان ذلك كاشف عن صدقها على
المجموع المركب من الستة المذكورة وغيرها حين وجود بقية الأجزاء والشرائط.
ويشهد به أيضا
النصوص المتضمنة : أن من زاد في صلاته فعليه الاعادة :
فان كل زيادة لا
شبهة في عدم مبطليتها كحك الرأس ، بل الزيادة المبطلة هي ما لو أتى بشيء بما انه
من أجزاء الصلاة ومبطليته حينئذ ليست من جهة التشريع بل من جهة الزيادة نفسها ،
فيستكشف من ذلك أن كل ما أتي به
__________________
بعنوان انه من
الصلاة يصير جزءا للصلاة وداخلا في المسمّى مع ان عدمه لا يضر بالصدق ، ومما يشهد
لذلك التعبير بكلمة (في) لا (على) فان ذلك آية صيرورته جزءاً للصلاة.
لا يقال : أن ما
تضمن أن التكبير افتتاح الصلاة ، ينافي ما دل على دخالة الطهور الذي يكون مقدما
عليها : إذ لو كان دخيلا كان هو افتتاحها.
فانه يقال : أن
الطهور من شرائط الصلاة لا أجزائها وفي الشرائط إنما يكون المعتبر تقيد الأجزاء
بها وليست بأنفسها دخيلة في المأمور به والمسمى كما سيأتي تنقيح القول في ذلك في
مبحث الشرط المتأخر.
لا يقال : انه في
حديث" لا تعاد الصلاة إلا من خمس" أطلقت الصلاة على الفاقدة للطهارة
والركوع والسجود فيعلم من ذلك عدم دخلها بالخصوص في المسمّى.
فانه يقال : أولاً
: أن الاستعمال اعم من الحقيقة وأصالة الحقيقة إنما يرجع إليها مع الشك في المراد
لامع معلوميته.
وثانيا : يمكن
الالتزام بعدم دخالة الطهور فيها ، وعدم جريان الحديث في الصلاة غير الواجدة
لطبيعي الركوع والسجود ، وانه مختص بما إذا أتى ولو بفرد واحد من الركوع مثلا ولم
يأت بغيره من الأفراد وأما إذا لم يأت ولو بفرد واحد فهو باطل من جهة عدم كونه
صلاة لا للحديث.
لا يقال : إن لازم
ما ذكرت عدم كون صلاة الغرقى صلاة ، مع انه يطلق عليها الصلاة.
فانه يقال : هذا
إشكال يرد على الأعمّي بأي نحو تصور الجامع.
والجواب عنه : انه
لا بد من الالتزام بأحد أمرين : اما عدم كونها صلاة بل هو عمل خاص به يستوفى مصلحة
الصلاة في ذلك الوقت ، أو الاشتراك اللفظي في لفظ الصلاة ولا محذور في شيء منهما.
فتحصل أن الصلاة
اسم لجملة من الأجزاء والشرائط الخاصة لا بشرط من الزيادة ، بمعنى أن كل ما زيد
عليها يدخل في المسمّى ، وعدم الإتيان به لا يضر في الصدق.
ومما يؤيد ما
اخترناه إفتاء الأصحاب بصحة صلاة الوتر ممن تطهّر ثم كبّر فنسي القراءة فركع وكذلك
نسي بقية الأجزاء سوى السجود والتسليم ، فان ذلك يؤيد ما اخترناه من تقوّم الصلاة
بتلكم الأمور الخاصة ، وبذلك يظهر الحال في الحج وغيره من العبادات.
الوجه الثاني لتصوير الجامع على الأعم
ثانيها : أن يكون
الجامع هو معظم الأجزاء ، فتكون الصلاة مثلا موضوعة لمعظم الأجزاء التي تدور
مدارها التسمية عرفا ، فصدق الاسم عليها كذلك يكشف عن وجود المسمّى وعدم صدقه عن
عدمه.
وقد نَسب الشيخ
الأعظم ذلك إلى المشهور .
وأورد عليها
المحقق الخراساني بإيرادات.
١ ـ أن لازم ذلك
كون استعمال الصلاة في مجموع الأجزاء والشرائط مجازا.
٢ ـ انه عليه
يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى فكان شيء واحد داخلا فيه تارة وخارجا عنه أخرى.
بل مرددا بين أن يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء.
٣ ـ مع ما عليه
العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.
والحق : انه مع
قطع النظر عمّا ذكرناه في تصوير الجامع ، هذا الوجه احسن الوجوه ولا يرد عليه شيء
مما ذكر وغيره مما لم نذكره : إذ لو التزمنا بان الموضوع له هو معظم الأجزاء ، لا
بمعنى مفهوم معظم الأجزاء ، بل المراد أن الموضوع له عدّة من الأجزاء معتنى بها.
وبعبارة أخرى اغلب
الأجزاء والشرائط فصاعدا بالتقريب المتقدم.
يندفع الإيرادان
الأولان ، فانه عند الاجتماع يكون كل جزء داخلا في المسمّى فلا مجاز ، ولا يتردد
أمر كل جزء بين أن يكون هو الخارج أو غيره ،
__________________
وعرفت انه لا مانع
من كون أحد أمور على البدل داخلا في المسمّى.
وأما الإيراد
الثالث فالجواب عنه وعن سائر ما أورد على هذا الوجه يظهر بعد بيان أمر ، وهو انه
لأغلب الماهيات والمفاهيم البسيطة ، أو المركبة بالتركيب الحقيقي ، أو بالتركيب
الاعتباري ـ مع تبين المفهوم عند الشخص في عالم المفهومية مصاديق مشكوك فيها ،
مثلا : الماء الذي يكون مفهومه من أوضح المفاهيم ، له مصاديق يشك في أنها من
مصاديق الماء أولاً؟.
وعلى ذلك ،
فالمدّعى أن مفهوم الصلاة ، واضح معين ، وهو معظم الأجزاء ولهذا المفهوم مصاديق
متيقنة كمعظم أجزاء صلاة الظهر ، ومصاديق مشكوك فيها كمعظم أجزاء صلاة الوتر مثلا
، وهذا لا يوجب عدم معلومية المفهوم عند المتشرعة وتردده حتى في عالم المفهومية.
نعم يرد على هذا
الوجه انه أمر ممكن إلا انه يحتاج في البناء عليه إلى دليل في مقام الإثبات وهو
مفقود.
الوجه الثالث والرابع لتصوير الجامع على الأعم
ثالثها : أن يكون
وضعها كوضع الأعلام الشخصية كزيد فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات
المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء
وزيادته كذلك في
المقام .
وأورد عليه المحقق
الخراساني (ره) بان الأعلام موضوعة للأشخاص ، والتشخص إنما يكون بالوجود
الخاص ويكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا وان تغيّرت عوارضه ، وأما ألفاظ
العبادات فهي موضوعة للمركبات ولا يكاد تكون موضوعة لها إلا ما كان جامعا لشتاتها
وحاويا لمتفرقاتها.
ويمكن توجيه هذا
الوجه بنحو يرجع إلى ما اخترناه في تصوير الجامع ولا يرد عليه ما ذكر ، بان يقال
أن من وضع له لفظ زيد ، إنما يكون مركبا من نفس وبدن.
__________________
ولا يكون الموضوع
له هو النفس ، لما نرى بالوجدان من صحة استناد الرؤية والضرب وغيرهما مما يعرض على
البدن إلى زيد. ولان لازمه عدم صحة استناد الموت إلى زيد فان النفس تكون باقية بعد
تفاوتها من البدن ويكون ذلك من قبيل خلع اللباس. مع أن هذا مما لا يفهمه أهل العرف
الذين هم الواضعون للأعلام الشخصية.
كما انه لا يكون
الموضوع له هو البدن ، لما نرى من صحة استناد العلم وما شابهه من عوارض النفس إلى
زيد ، مضافا إلى القطع بدخالة النفس في المسمّى. بل الموضوع له هو النفس مع عدّة
من أجزاء البدن فصاعدا ، وان شئت قلت الموضوع له هي الأجزاء التي تقوم بها الحياة
: ولذا ما دام لم تقطع رِجْلُ زيد تكون جزءا له ، ولو قطعت لا يضر بالصدق ، وتكون
الصلاة مثلا كذلك كما مر تقريبه ، فينطبق هذا الوجه على ما اخترناه فيكون وضع
الأعلام مؤيداً للمختار.
رابعها : أن ما
وضعت له الألفاظ ابتداءً هو الصحيح التام الواجد لجميع الأجزاء والشرائط إلا أن
العرف يتسامحون ويطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض تنزيلا له منزلة الواجد ثم يصير حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات
للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في الأثر.
__________________
ويرد عليه ـ مضافا
إلى ما أوردناه على المحقق النائيني في أول هذا المبحث ـ أن الاستعمال في غير تلك
المرتبة العليا ، إن كان في الأفراد ، فمضافا إلى انه خلاف الفرض وهو تصوير الجامع
، لا يوجب صيرورته حقيقة فيها كما لا يخفى ، وان كان في الجامع فلا بد من تصويره
أولاً : ، ثم الالتزام بذلك.
مع أن لازم ذلك
كونها من قبيل المشترك اللفظي ، إذ هذا النحو من الوضع لا يوجب هجر المعنى الأول.
وعليه فيلزم الاشتراك اللفظي في ألفاظ العبادات بين الصحيح والأعم. وهو خلاف ما
يدّعيه الأعمّي كما لا يخفى.
بيان ثمرة المسألة
ثم انه وقع الخلاف
في انه هل لهذه المسألة ثمرة أم لا؟
وقد ذكر جماعة لها
ثمرتين :
الثمرة الأولى :
ما ذكره جماعة
منهم المحقق الخراساني
وهو انه يجوز
التمسك بالإطلاق أو العموم على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شيء جزءا أو شرطا
، ولا يجوز التمسك به على القول بالصحيح ، بل يكون الخطاب مجملا ولا بد فيه من
الرجوع إلى الأصول العملية.
__________________
توضيح ذلك أن
التمسك بالإطلاق يتوقف على تمامية مقدمات :
الأولى : ورود
الحكم على المقسم بان يكون له قابلية الانطباق على نوعين أو أنواع.
الثانية : كون
المتكلم في مقام البيان.
الثالثة : عدم نصب
قرينة على التعيين.
فإذا تمت المقدمات
يصير الكلام مطلقا ويصح التمسك به لنفى اعتبار ما شك في اعتباره في المأمور به ،
وان شئت قلت انه يعتبر في التمسك بالإطلاق إحراز صدق ما تعلق الأمر به ويكون الشك
في اعتبار أمر زيدا على المسمّى ، فلو كان صدقه مشكوكا فيه على الفاقد لما شك في
اعتباره لم يصح التمسك بالإطلاق.
وعليه فعلى القول
بالوضع للأعم يتم المقدمات الثلاث لو تمت الأخيرتان أي كان الدليل في مقام البيان
، ولم ينصب قرينة على التعيين لان المقدمة الأولى التي هي الأساس تامة على هذا
المسلك لان الحكم حينئذ تعلق بالطبيعي الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة ، فيصح
التمسك بالإطلاق لدفع ما شك في اعتباره جزءا أو قيدا لأنه شك في اعتبار شيء زائدا
على صدق اللفظ.
بخلاف القول
بالوضع للصحيح فان المقدمة الأولى على هذا المسلك مفقودة إذ الحكم ورد على الواجد
لجميع الأجزاء والشرائط ، فلو شك في جزئية شيء أو شرطيته ، لا محالة يؤول الشك إلى
الشك في صدق اللفظ على الفاقد للمشكوك فيه لاحتمال دخله في المسمّى ومعه لا يصح التمسك
بالإطلاق.
وأورد على هذه
الثمرة بإيرادين :
الأول : أن
الخطابات المتعلقة بالعبادات الواردة في الكتاب والسنة ، إما أن لا تكون في مقام
البيان كما هو الغالب فلا يصح التمسك بإطلاقها ولو على الأعم ، واما أن تكون في
مقام بيان تعداد الأجزاء والشرائط كصحيح حمّاد ، فالصحيحي أيضا يتمسك بالإطلاق
كالأعمّي لعدم جزئية المشكوك فيه للسكوت عنها في مقام البيان ، وان شئت فاختبر ذلك
من حال المقلدين في مراجعة كتب الفتاوى حيث أن المجتهد إذا كان في مقام بيان تعداد
الأجزاء والشرائط ولم يبين جزئية المشكوك فيه يتمسكون بالإطلاق لنفى اعتباره ،
وكذلك عند مراجعة المريض إلى الطبيب فانه إذا كان في مقام بيان المعجون الفلاني
يتمسك المريض بالإطلاق لنفى ما يحتمل اعتباره إذا لم يصرح به الطبيب.
وفيه : أن هناك
صورة ثالثة ، غير ما ذكر ، وهي : ما إذا كان الدليل وارداً في مقام بيان وجوب ما يصدق
عليه الصلاة مثلا مع ما يعتبر في المأمور به : فانه حينئذ يتمسك الأعمّي بعد إحراز
صدق الصلاة بالاطلاق لدفع ما شك في اعتباره ، وأما الصحيحي فحيث أن الشك في اعتبار
أمر في المأمور به عنده
__________________
موجب للشك في صدق
الصلاة على فاقده فليس له التمسك بالإطلاق.
وان شئت قلت : إن
محل الكلام هو التمسك بالإطلاق اللفظي لا المقامي.
وما ذكر في تقريب
استدلال الصحيحي بالإطلاق ، إنما هو تمسك بالإطلاق المقامي والفرق بينهما ظاهر.
الإيراد الثاني :
أن الصحيحي وان كان لا يمكن له التمسك بالإطلاق إلا أن الأعمّي أيضا ليس له ذلك
فان المأمور به ليس هو الفاسد ولا الجامع بينه وبين الصحيح بل هو الصحيح ، فالمأمور
به مقيد بقيد ، صدقه على الفاقد لما شك في اعتباره ، مشكوك فيه ، فلا يمكن التمسك
بالإطلاق.
وفيه : انه للصحة
المستعملة في كلمات القوم في المقام معان :
أحدها : ما يقوله
الصحيحي في الوضع ، وهو العنوان البسيط الملزوم للمطلوب المنطبق على مجموع الأجزاء
والشرائط ، أو غيره مما قيل في وجوه تصوير الجامع على الصحيح الذي يدّعي الصحيحي
انه الموضوع له.
الثاني : ترتب
الأثر ، فالصحيح هو ما يترتب عليه الأثر ، ويكون وافيا بالغرض.
الثالث : مطابقة
المأتي به للمأمور به.
وشيء منها لا يكون
دخيلا في المأمور به على الأعم.
أما الأول : فلأن
دخل عنوان بسيط منطبق على مجموع الأجزاء والشرائط في المأمور به بنفسه مما لا دليل
عليه ، بل الدليل ظاهر في تعلقه بنفس الأجزاء والشرائط.
وأما الثاني :
فلأن المأمور به ليس هو المحصل للغرض بعد فرض كون بيان المحصل وظيفة الشارع ، وعلى
أي تقدير لا دليل على تقيد المأمور به.
وأما الثالث :
فلأنه مما لا يتأتى إلا من قبل الأمر فكيف يمكن أخذه في المتعلق ، وهل هذا إلا
تقدم ما هو متأخر وهو محال.
فتحصل انه كما لا
يكون الفاسد مأمورا به لا يكون الصحيح مأمورا به بل المتعلق هو الأجزاء والشرائط
الخارجية ، وبعد تعيين ما هو دخيل في المأمور به بالدليل الخاص أو بالإطلاق لو أتى
به المكلف يتصف ما أتى به بالصحة ، وعليه فعلى الأعم إذا أمر بالصلاة مثلا المفروض
أنها اسم لعدّة أجزاء خاصة وشك في اعتبار أمر آخر غير تلك الأجزاء في المأمور به
كجلسة الاستراحة ، يتمسك بالإطلاق لنفي اعتباره وببركته تنصف الصلاة الخارجية
الفاقدة لها بالصحة ، وهذا بخلاف القول بالوضع للصحيح ، فان المأمور به إنما هو
عنوان يشك صدقه على الفاقد لما شك في اعتباره لفرض كون المسمّى هو الواجد لجميع
الأجزاء والشرائط ، ومع الشك في صدق الموضوع لا مجال للتمسك بالإطلاق.
وبما ذكرناه ظهر
ما في كلمات المحقق العراقي (ره) في المقام ، حيث أورد على هذا الجواب ـ أي عدم
معقولية اخذ الصحة في المأمور به على الأعم ـ بأنه كما أن الصحّة لم تؤخذ في
المسمّى على الصحيح ، بل الموضوع له واستعمل فيه ، هي الحصة الخاصة المقارنة
للصحة.
كذلك يكون المأمور
به على الأعم هي تلك الحصة الخاصة ، فالأعمّي والصحيحي سواء في التمسك بالإطلاق
وعدمه.
وجه عدم تمامية
ذلك ما تقدم من أن الصحيحي لا يمكن له التمسك بالإطلاق لأجل الشك في صدق المسمّى ،
هذا بخلاف القول بالأعم.
فالمتحصل تمامية
هذه الثمرة.
الثمرة الثانية :
ما ذكره جماعة
منهم المحقق القمي (ره) وسيد الرياض من أن :
الأعمّي يتمسك
بالبراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به.
والصحيحي يتمسك
بالاشتغال ، فلو شك في دخل شيء في المأمور به ولم يكن هناك إطلاق يتمسك به يلزم
على الصحيحي الرجوع إلى قاعدة الاشتغال لرجوع شكه ، إلى الشك في الامتثال ، وأما
الأعمّي فهو يرجع إلى البراءة.
وأورد عليه الشيخ
الأعظم الأنصاري (ره) بان الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال على القولين يبتني على
انحلال العلم الإجمالي وعدمه.
__________________
إذ على الأول يرجع
إلى البراءة على القولين.
وعلى الثاني يرجع
إلى الاشتغال كذلك.
وأجاب عنه المحقق
النائيني (ره) ، بان الوضع للصحيح لا يمكن ، إلا بتقييد المسمّى إما من
ناحية المعلولات ، أو من ناحية العلل ، كما تقدم.
وعليه فحيث أن
تعلق التكليف بذلك القيد معلوم ، وحصوله بإتيان الأجزاء المعلومة مشكوك فيه ، فلا
بدَّ من الرجوع إلى الاشتغال حتى مع انحلال العلم الإجمالي ، وأما الأعمّي فهو لا
يرى تعلق التكليف بأمر خارج عن المأتي به ، فهو على الانحلال يرجع إلى البراءة.
أقول : هذا الجواب
وان كان متينا على مبنى العلامة الأنصاري من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال فيما إذا
كان المأمور به أمرا منطبقا على الأجزاء المرددة بين الأقل والأكثر الذي يصرح به
في المسألة الرابعة من مسائل الأقل والأكثر ويكون حكم هذه المسألة حكم ما إذا تعلق
التكليف بأمر حاصل منها.
إلا انه بناء على
ما هو الحق عندنا من جريان البراءة فيها لا يتم كما لا يخفى.
__________________
الثمرة الثالثة
بقي في المقام
أمران :
الأول : انه هل
يترتب على هذه المسألة ثمرة فقهية غير ما ذكر أم لا؟
والحق ترتبها
عليها ، وهو حمل الألفاظ الواقعة في لسان الشارع المأخوذة موضوعا لحكم آخر على
الصحيح على القول به ، وعلى الأعم على القول به ، مثلا ، دل الدليل على مرجوحية
صلاة الرجل ، إذا كانت امرأة تصلى بحياله أو قدّامه ، فلو كانت صلاتها فاسدة على
القول بالصحيح لا مرجوحية في صلاة الرجل بخلافه على الأعم.
وكذلك دل الدليل
على أن المسافر إذا قصد إقامة عشرة أيام وصلى صلاة رباعية ثم عدل عن قصده يتم ما
دام في ذلك المحل وإلا فيقصر ، وحينئذٍ لو صلى صلاة رباعية فاسدة ، فعلى الأعم يتم
، وعلى الصحيح يقصر.
وكذلك دل الدليل
على صحة الاقتداء بصلاة العادل فعلى الصحيح لا بد من إحراز صحة صلاته بخلافه على
الأعم. إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في الفقه ، وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذه
المسألة ولا ينقضي تعجبي عن الأساطين كيف غفلوا عن ذلك ولم يذكروها.
الثاني : لو شك في
الوضع للصحيح أو الأعم ولم يحرز شيء منهما ، هل يكون حكم الشاك في هذه الثمرات حكم
الصحيحي ، أو الأعمّي ، أم يفصّل بينها؟ وجوه :
أقواها الأخير :
وذلك لأنه بالنسبة إلى جريان البراءة أو الاشتغال يكون ملحقا بالأعمّي ، عند من شك
في الوضع للصحيح أو الأعم وكان عالما بان في
ترك الأجزاء
المعلومة عقاب ، وأما في ترك المشكوك فيه فلا يكون ذلك محرزا لأن المأمور به هو
ذوات الأجزاء والشرائط ، أو العنوان البسيط المنطبق على المجموع فيجري البراءة
ويحكم بعدم العقاب عليه.
وان شئت قلت انه
يجرى البراءة عن وجوب ذلك العنوان البسيط كما تجرى عن وجوب الجزء المشكوك فيه.
وأما التمسك
بالإطلاق فهو يشارك الصحيحي إذ الشاك لا يكون محرِزا لصدق المسمّى على الأجزاء
المعلومة كما لا يخفى.
وأما بالنسبة إلى
الثمرة الأخيرة ، فان أخذت الصلاة شرطا كما في الاقتداء ، فهو يشارك الصحيحي.
وان أخذت مانعا ،
كما في مثال الصلاة خلف امرأة فهو يشارك الأعمّي.
أدلة القول بالصحيح
الجهة الرابعة :
في أدلة القولين ، وقد استدل للصحيحي بوجوه :
أحدها : التبادر.
ويرده انه لا
يتصور الجامع بين الأفراد الصحيحة ، سوى ما أفاده المحقق
الخراساني ، وهو الالتزام بعنوان بسيط منطبق على مجموع الأجزاء
والشرائط ، ولا مورد لادعاء تبادر ذلك المعنى ، لما عرفت من انه لا يخطر ببال عامة
الناس وانه خلاف ما ارتكز في أذهان المتشرعة من معاني هذه الألفاظ ، ومعه كيف
يدّعى تبادره من لفظ الصلاة مثلا.
ثانيها : صحة
السلب عن الفاسد ، والمراد به ما يقابل الحمل الشائع الصناعي ، إذ صحته على نحو
الحمل الأولي الذاتي ، لا تكون علامة كما تقدم ، ولذلك هي ثابتة عند الأعمّي ،
لأنه يدّعى الوضع للجامع بين الصحيح والفاسد ، لا لخصوص الفاسد ولو بنحو المشترك
اللفظي.
ولكن يرد عليه انه
بعد ملاحظة موارد إطلاق هذه الألفاظ بما لها من المفاهيم ، في لسان الشارع
والمتشرعة وإرادة الأفراد الفاسدة التي هي كثيرة جدا ، لا سبيل إلى هذه الدعوى.
مع انه لو اخبر
شخص بان زيدا يصلى مع عدم علمه بصحة صلاته ، فهل تراه كاذبا في هذا الخبر؟ وهذه
آية قطعية على عدم صحة السلب.
ثالثها : الأخبار
الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل" الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر" ، أو" عمود الدين" ، أو" معراج
__________________
المؤمن" وما شاكل.
فإن هذه النصوص
بمقتضى الإطلاق تدل على أن كل صلاة يترتب عليها هذه الآثار ، فلازمه بمقتضى عكس
النقيض أن ما لا يترتب عليه هذه الآثار ليس بصلاة ، وبديهي عدم ترتبها على الصلاة
الفاسدة فتدل على أن الفاسدة ليست بصلاة ، وهكذا سائر العبادات.
وفيه : انه لو سلم
استعمال هذه الألفاظ في الصحاح لا يصح الاستدلال بها : لان أصالة الحقيقة إنما
يرجع إليها لتشخيص المراد بعد العلم بالمعنى الحقيقي والشك في انه المراد أو غيره
، ولا يرجع إليها لتشخيص المعنى الحقيقي بعد العلم بالمراد والشك في الموضوع له
كما أن أصالة
العموم أو الإطلاق تكون حجة فيما أحرز المصداقية وشك في الحكم لا فيما إذا شك في
المصداقية وأحرز الحكم والأثر كما في المقام.
أضف إلى ذلك انه
لو سلِّم انه يرجع إلى أصالة الحقيقة وكذا أصالة العموم لتشخيص المعنى الحقيقي ،
وثبت أن الاستعمال في المقام إنما يكون في
__________________
الموضوع له ، لا
يثبت مدّعي الوضع للصحيح : إذ الأعمّي إنما يدّعي الوضع للجامع بين الصحيح والفاسد
، وعليه فيمكن أن يكون إرادة الصحيح منها بتعدد الدال والمدلول ، ولا دليل على أن
هذه الألفاظ إنما استعملت وحدها في الصحيحة حتى يثبت مدّعي الصحيحي.
وأجاب المحقق
الأصفهاني (ره) عن هذا الدليل بجواب آخر وهو أنّ ظاهر هذه التراكيب الواردة في
مقام إفادة الخواص كالقضايا غير الشرعية المتضمنة لذلك كقولنا السنا مسهل ، والسم
قاتل ، وغيرهما ، سوقها لبيان الاقتضاء لا الفعلية ، ويؤيده أن الظاهر اتحاد
المراد من الصلاة عقيب الأمر والصلاة المؤثرة في النهي عن الفحشاء والمنكر مع أن
فعلية النهي عن الفحشاء موقوفة على قصد الامتثال الذي لا يمكن أخذه فيما وقع في
حيّز الأمر ، وعليه فهذه الأخبار دليل للأعمّي : إذ المقتضي لتلك الآثار هو نفس
تلك المراتب المتداخلة ، وحيثية الصدور غير دخيلة في الاقتضاء .
وفيه : أن ذلك يتم
إذا لم يلاحظ المصلى وقصّرنا النظر على ذات الفعل ، وأما إذا لوحظ المصلى ولو صدور
الفعل من شخص خاص كالمسافر والحاضر والمختار والمضطر وغير ذلك من العناوين الدخيلة
في المسمّى على الصحيحي ، فلا يتم إذ كل ما فيه اقتضاء ـ لترتب هذه الآثار ـ هي
الصلاة الصحيحة لا الفاسدة لأنها لا اقتضاء فيها لها أصلا كما لا يخفى ، فالصحيح
ما ذكرناه.
__________________
رابعها : ما في
الكفاية ، وهو ما تضمّن نفي ماهية المسميات وطبائعها مثل" لا
صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ونحوه مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة ، بمجرد فقد ما يعتبر
في الصحة شطرا أو شرطا.
ولكن الاستدلال
بهذه الأخبار لكون الموضوع له هو الصحيح بالمعنى الذي اختاره ، ينبغي أن يعدّ من
سهو القلم إذ مقتضى هذه الأخبار عدم صدقها على الفاقد للشرط أو الشطر وان صدر
العمل ممن لا يجب عليه ذلك.
مع أن الجامع الذي
تصوره ، هو الجامع بين الواجد لذلك القيد وفاقده.
ولأحد الشخصين
الاستدلال بها لمختاره :
١ ـ من يدّعي
الوضع للمرتبة العليا الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط
٢ ـ من يدّعي
الوضع لعدّة أجزاء فصاعدا كما اخترناه.
وحيث عرفت فساد
المسلك الأول ، فهذه الأخبار من الأدلة ما اخترناه.
غاية الأمر
بالنسبة إلى بعض ما في تلك الأخبار من الأجزاء كفاتحة الكتاب بالنسبة إلى الصلاة ،
حيث دل الدليل على عدم دخلها في المسمّى ولذا تصح الصلاة مع نسيانها وتستعمل
الصلاة في فاقدها بلا عناية ، فتحمل تلك الأخبار على كونها مسوقة لبيان أهمية هذا
الجزء وان الفاقد له كأنه ليس
__________________
بصلاة مثلا.
خامسها : دعوى
القطع بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة ، والظاهر أن
الشارع لم يتخط عن هذه الطريقة فيستنتج من المقدمتين أن الشارع وضع ألفاظ مخترعاته
من العبادات لخصوص ما كان تام الأجزاء والشرائط.
وفي كلتا
المقدمتين ، والنتيجة نظر :
أما الأولى :
فلأنّا لا نسلّم أن طريقة الواضعين ذلك ، بل مقتضى الحكمة الداعية إلى الوضع ، هو
الوضع للأعم ، لان الغرض قد يتعلق بالحكم على الناقص كالحكم على الصحيح التام ،
فهذا العرف ببابك لاحظ المركبات المخترعة لهم ، مثلا إذا اخترع معجونا لرفع وجع
الرأس ، وكان شرط تأثيره أكله قبل الطعام ، فهل يتوهم أحد أن الواضع المخترع وضع
اللفظ لخصوص الواجد للشرط ، وكذلك بالنسبة إلى الأجزاء.
وأما الثانية :
فلأنه لم يدل دليل قطعي على عدم تخطى الشارع الأقدس عن هذه الطريقة ، والظن لا
يغني من الحق شيئا.
وأما الثالثة :
فلأنه لو تمت المقدمتان كانت النتيجة هو الوضع للمرتبة العليا الواجدة لجميع
الأجزاء والشرائط ، ولا تكون النتيجة الوضع للقدر الجامع بين الواجد لتلكم الأجزاء
، وفاقدها.
فالمتحصل أن شيئاً
مما استدل به للوضع للصحيح لا يدل عليه ، بل بعضها يشهد بالوضع للأعم.
وجوه القول بالوضع للأعم
وقد استدل للأعمّي
بوجوه.
منها : تبادر
الأعم : وقد مر عند تصوير الجامع على القول بالوضع للأعم الدليل على أن الموضوع له
هو الجامع الذي تصورناه ، وأنه المتبادر عند الإطلاق.
ومنها : صحة
التقسيم إلى الصحيح والسقيم.
ومحصل هذا الوجه بتوضيح
منا أنّ صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيح والسقيم بما لها من المعنى المرتكز في
الأذهان آية كونها حقيقة في الأعم إذ لا ريب في كاشفية ذلك عن كون الجامع هو
الموضوع له.
ودعوى أن صحة
التقسيم بهذا النحو وان كانت كاشفة عن وجود الجامع بين الصحيح والفاسد ، وليس التقسيم
من باب تقسيم ما يطلق عليه اللفظ ولو مجازا كما هو كذلك في قولنا ، الإنسان إما له
روح وجسم وصورة ، أو يكون نقشا في الجدار ، وكاشفة عن كونها حقيقة في الجامع في
هذا العصر ، إلا أنها لا تكون كاشفة عن كونها حقيقة في الجامع في عصر الشارع
الأقدس.
مندفعة بأنه إن
ثبت كونها حقيقة في الجامع في هذا العصر ثبت كونها كذلك في عصر الشارع ، بواسطة
أصالة عدم النقل التي عليها بناء العقلاء كما مرَّ في مبحث الحقيقة الشرعية ،
وعرفت انه لولاها لانسد باب الاستظهار من النصوص بالمرّة.
ومنها : ما ذكره
غير واحد ، وهو استعمال الصلاة ، وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة ، وحيث
انه بلا قرينة فيكون علامة الحقيقة.
وهذا الوجه بعد
تصحيحه بإطلاق الصلاة وغيرها على الفاسدة ، إذ الأعمّي يدّعي الوضع للجامع بين
الصحيحة والفاسدة لا لخصوص الفاسدة ، ومعلوم أن استعمال اللفظ الموضوع للجامع في نوع
منه مجاز.
متين لا إيراد
عليه ، فان اغلب هذه الأخبار واردة في النواقض والمبطلات وهي كثيرة ، والالتزام
بان جميع تلك الاستعمالات من قبيل المجاز ومع القرينة الحالية بعيد. غاية الأمر
أنها آية لكون الموضوع له هو الجامع.
وبذلك يندفع
الإيراد عليه بان الاستعمال اعم من الحقيقة.
ومنها : قوله عليه
الصلاة والسلام." بنى الإسلام على الخمس : الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم
، والولاية ، فاخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ومات
بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة" فان الأخذ بالأربع لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي
الولاية إلا إذا كانت أسامٍ للأعم.
وأجاب عنه المحقق
الخراساني بجوابين :
__________________
أحدهما : أن
المراد هو خصوص الصحيح بقرينة أنها مما بنى عليها الإسلام.
وفيه : أن موضع
الاستدلال قوله" فأخذ الناس بالأربع" وتقريب الاستدلال به انه (ع)
استعمل الأربع وهي الصلاة وإخوتها المذكورة في الصدر في الفاسدة.
ثانيهما : انه لعل
أخذهم بها إنما كان بحسب اعتقادهم لا حقيقة ، وذلك لا يمقتضي استعمالها في الفاسد
أو الأعم.
وفيه : انه لا يصح
استناد فعل إلى شخص مع عدم استناده إليه حتى لو كان نفسه معتقدا ذلك ، مثلا : لو
كان شخص معتقدا انه اعلم الناس وكان الشخص الآخر عالما بخلافه ، لا يصح له أن يقول
انه اعلم الناس ، وهكذا سائر الأفعال فلو لم تكن ما فعلوها تلك العبادات لما صح
استنادها إليهم.
وأجيب عنه بوجهين
آخرين.
أحدهما : أن
الاستعمال اعم من الحقيقة ، وقد تقدم الكلام في ذلك.
ثانيهما : أن لفظة
الأربع في الخبر لم تستعمل في ألفاظ تلك العبادات ، وهي في معانيها ، بل استعملت
هي ابتداء في معانيها ، وعليه فلم تستعمل ألفاظ الصلاة ، والصوم ، وأخواتهما ، في
الفاسدة كي يستدل بها.
وفيه : أن لفظة
الأربع استعملت في معاني تلك الألفاظ لا في غيرها ، أي الأعمال التي تشبهها
فيستكشف من ذلك أن معانيها اعم من الصحيحة والفاسدة إذ المفروض فسادها في الفرض.
فالصحيح أن يجاب
عنه : أن لفظة" الأربع" إن كانت مصدَّرة بالألف واللام كانت تدل على ذلك
، فإنها حينئذ تكون إشارة إلى ما ذكرت في الصدر وهي الصلاة وأخواتها ، وان لم تكن
مصدّرة بهما ، لم تكن إشارة إلى ما ذكر في الصدر ، بل مفاد الخبر حينئذ أخذ الناس
بأربعة أشياء غير معينة ، القابلة لان يراد بها تلك الحقائق التي بُني الإسلام
عليها ، أو حقائق تشبهها ولا يدل الخبر على شيء منهما فلا يدل على المدّعى ، وحيث
أن النسخ مختلفة فلا يصح الاستدلال بتلك الأخبار.
فان قيل : انه
يمكن أن يستدل له بما في ذيل تلكم الأخبار من قولهم عليهمالسلام ، فلو أن أحدا صام نهاره .. الخ. فانه استعمل ألفاظ
العبادات في الفاسدة.
توجه عليه : أن
الاستعمال أعم من الحقيقة ، فلا يرجع إليها لتشخيص الموضوع له بعد معلومية المراد
، هذا بناء على أن المراد من عدم القبول الفساد ، وإلا فلا يصح الاستدلال بهذه
الرواية على كل تقدير.
ومنها قوله (ع):
" دعي الصلاة أيام أقرائك" ضرورة انه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة
النهي عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.
وأجاب عنه المحقق
الخراساني بان النهي في هذا الخبر للإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة
وإلا كان الإتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصلاة بل بما
__________________
يسمى في العرف بها
ولو أخل بما لا يضر الإخلال به بالتسمية عرفا محرما على الحائض ذاتا وان لم تقصد
به القربة ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية.
وقد أورد عليه بعض
الأكابر من المحققين : بأنه كما يعتبر في صحة النهي المولوي كون متعلقه مقدورا
كذلك يعتبر القدرة في متعلق النهي الإرشادي إذ الإرشاد إلى ترك المنهي عنه يستدعي
قابليته لان ينهى عنه .
وفيه : انه لا
يعتبر القدرة في متعلق النهي الإرشادي ، بل ربما يكون النهي إرشادا إلى عدم القدرة
على ما تعلق به ، وذلك فيما إذا لم يكن عدم القدرة على المنهي عنه مما يعلمه من
توجه إليه الخطاب ، وذلك واقع في المحاورات العرفية ألا ترى انه لو لم يعلم
الإنسان عدم قدرته على المشي إلى السوق لمانع
__________________
في الطريق يصح
لغيره أن ينهاه عن ذلك ويكون هذا النهي إرشادا إلى عدم القدرة.
وعلى ذلك فلو سلّم
ظهور النهي المتعلق بالعبادة في حال كالحيض أو مع شيء في كونه إرشادا إلى مانعية
تلك الحالة أو ذاك الشيء يتم جواب المحقق الخراساني إذ حينئذ كما يمكن أن يكون
النهي إرشادا إلى مانعيتها عن المأمور به ، يمكن أن يكون إرشادا إلى مانعيتها عن
تحقق المسمّى ، وعدم القدرة على المسمّى في تلك الحالة.
والمحقق الخراساني
يدّعي أن المستفاد من فتوى الأصحاب بعدم حرمة ما يسمّى بالصلاة مطلقا بل يعتبر في
الحرام جميع ما هو يعتبر في الصلاة ما عدى الطهارة من حدث الحيض ، ان النهي عن
الصلاة أيام الحيض إرشادي إلى عدم القدرة على الصلاة الصحيحة. فيتم جوابه.
ومنها : أنه لا
شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه ، وحصول الحنث بفعلها
وهذه علامة الوضع للأعم ، وهذا الوجه ينحل إلى أمرين :
أحدهما : أن
انعقاد النذر يتوقف على القدرة على المنذور في ظرفه كما هو شرط في صحة كل تكليف.
وعليه : فان كانت
الصلاة موضوعة للأعم يصح نذر من نذر أن لا يصلي في الحمام مثلا للقدرة عليها في
ظرفها ، وان كانت موضوعة للصحيحة لا ينعقد لعدم القدرة على الصلاة الصحيحة على فرض
انعقاد النذر الموجب لفساد الصلاة ، بل هو موجب للمحال فانه يلزم من وجوده عدمه ،
وحيث أن الفقهاء
أطبقوا على صحة
هذا النذر فيستكشف من ذلك وضعها للأعم.
ثانيهما : أن
الحنث لا يحصل بإتيان الصلاة الفاسدة على فرض كونها موضوعة للصحيحة ، فالصلاة في
تلك الموضع إذا نذر تركها بما أنها فاسدة على الفرض لا يحصل بها الحنث ، وإذا لم
يحصل به الحنث صحت ، وعلى فرض الصحة يحصل بها الحنث ، وما يلزم من وجوده عدمه ،
محال.
والجواب عن هذا
الاستدلال هو ما ذكرناه في أول هذا المبحث من المراد من الوضع للصحيح هو الوضع
للصحيح من غير ناحية الأمر أو النهي المتعلق به بعناوين أخرى فراجع ، فالصلاة
صحيحة بهذا المعنى حتى مع انعقاد النذر وفساد الصلاة.
مع انه يمكن أن
يقال إن متعلق النذر إن كان ترك الصلاة في تلك المواضع فلا ينعقد هذا النذر بناءً
على ما هو المسلّم عندهم من اعتبار رجحان المنذور ، فان ترك الصلاة لا رجحان فيه ،
إذ فعله أرجح كما سيأتي في العبادات المكروهة ، فصحة النذر بترك الصلاة في المكان
الذي يكره الصلاة فيه تتوقف على أن يكون المنذور ترك الخصوصية أي إيقاع الصلاة في
ذلك المكان ، وعليه فيسقط هذا الدليل رأسا كما لا يخفى. هذا كله في العبادات.
المقام الثاني في المعاملات
وتنقيح القول فيه
بالبحث في موضعين :
الأول : في أن
ألفاظ المعاملات كلفظ البيع ، والصلح ، والإجارة وما شاكل ،
هل هي أسامٍ
للصحيحة أو الأعم؟
الثاني : في
التمسك بإطلاقات أدلة الإمضاء عند الشك في اعتبار شيء فيها.
أما الأول : فقد
نص الشهيد الثاني في كتاب اليمين من المسالك على أن عقد البيع وغيره من العقود
حقيقة في الصحيح وتبعه غيره .
وقد ذهب جملة من
المحققين منهم المحقق الخراساني ، إلى أن أسام المعاملات إن كانت موضوعة للمسببات
، فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو الأعم : لعدم اتصافها بهما ، بل
بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، وأما إن كانت موضوعة للأسباب فللنزاع فيه مجال .
ثم إن المحقق
الخراساني نفى البعد عن كونها موضوعة للصحيحة أيضا .
وقد يوجه ما أفاده
من عدم جريان النزاع على القول بالوضع للمسببات بان للصحة معنيين :
أحدهما : ترتب
الأثر على الشيء في مقابل ما لا يترتب عليه الأثر.
__________________
ثانيهما : استجماع
الشيء لجميع الأجزاء والشرائط ، والمسبب في المعاملات لا يتصف بشيء منهما.
أما الأول فلأنه
لا يكون مؤثرا في أمر ، بل هو نفسه اثر.
وأما الثاني فلأنه
بسيط من جميع الجهات وليس له أجزاء وشرائط فهو إنما يتصف بالوجود تارة وبالعدم
أخرى ، لا بالصحة والفساد.
وقد أورد على
القول بأنه لا مجال للنزاع على القول بالوضع للمسببات بإيراد.
وعلى القول بأنها
موضوعة للصحيحة بإيرادين :
أما الأول : فأورد
المحقق العراقي على ما أفيد بان المسبب إن كان أمرا واقعيا متحققا عند
تحقق بعض أسبابه ، ويكون نهي الشارع عنه تخطئة للعرف فيما يراه سببا كان ما ذكر
تاما.
وأما إن كان أمرا
واقعيا متحققا بنحوين من الأسباب والشارع اشترط في ثبوت أحكامه أن يتحقق بسبب خاص
، أو كان هو بنظر العرف والشرع اعتباريا وشيئا واحدا إلا أن مصاديقه تختلف باختلاف
الاعتبار ، فللنزاع في أن أسام المعاملات مع وضعها للمسببات موضوعة للصحيحة أو
الأعم مجال ، إذ الصحيحي يدّعي وضعها للمعاملات التي يترتب عليها أثارها وأحكامها
إما للاشتراط أو للاختلاف في الاعتبار ، والأعمّي يدّعي وضعها للمسببات ترتب
__________________
عليها الآثار أم
لا؟
وأما ما أورد على
القول بوضعها للصحيحة فأمران :
أحدهما : أن لازم
ذلك الالتزام بالحقيقة الشرعية في المعاملات مع انه بالبداهة ليس كذلك ، كيف وقد
كان الشارع الأقدس يستعمل أساميها فيما كان يستعملها فيه أهل العرف ولم يصرح في
مورد يكون مراده غير ما يفهمه العرف.
ثانيهما : أن لازم
ذلك عدم جواز التمسك بإطلاقات أدلة العقود لنفي ما يشك في اعتباره فيها لإجمال
المعاني حينئذ مع أن سيرة علماء الإسلام على التمسك بها في هذه المقامات.
وأجاب الشيخ
الأعظم عن الإيراد الأول على وضعها للصحيحة : بان البيع مثلا إذا
استعمل في المسبب لا يستعمل إلا فيما هو مؤثر وصحيح ولو في نظرهم ، ثم إذا كان
مؤثرا عند الشارع كان بيعا عنده وإلا كان صورة بيع ، فالموضوع له هو الصحيح المفيد
للأثر ، ولا اختلاف في هذا المفهوم بين العرف والشرع ، وإنما الاختلاف في المصداق.
فان أهل العرف
يرون بعض البيوع مفيدا مؤثرا والشارع لا يراه كذلك ، وان شئت قلت : إن أهل العرف
ربما يعتقدون وجود المصلحة فيعتبرون الملكية عند البيع الخاص ، والشارع المقدّس
يخطئهم في ذلك فالتخطئة إنما تكون في
__________________
منشأ الاعتبار.
وأجاب عن الإيراد
الثاني بان البيع مثلا وان كان موضوعا للصحيح المؤثر ، إلا أن
المخاطب بالخطابات الشرعية بما انه أهل العرف فيحمل دليل إمضاء البيع على ما هو
الصحيح المؤثر عند العرف ، ولو كان مراده خلاف ما عليه العرف ، لزم عليه نصب
القرينة فمع عدمه يكون الموضوع هو البيع الصحيح عند العرف.
وتنقيح القول في
المقام بالبحث.
أولا : في انه إذا
كانت أسام المعاملات أسام للمسببات هل يصح النزاع في أنها أسامٍ للصحيحة أو الأعم
أم لا؟
وثانيا : في أنها
أسامٍ للأعم أو الصحيحة.
وأما مسألة التمسك
بالإطلاق فسيأتي البحث فيه مفصلا في الموضع الثاني.
أما الجهة الأولى
: فملخص القول فيها أن الصحة والفساد لا يتصف بهما إلا الموجود الخارجي : لان
الاتصاف بهما إنما يكون بلحاظ انطباقه على ما اخذ طرفا للحكم أو الاعتبار الشرعي
وعدمه ، وعليه فالمسببات أيضا تتصف بهما ، وذلك لأنه في باب المعاملات كالبيع ،
أمور أربعة :
١ ـ اعتبار
المتعاملين الملكية.
__________________
٢ ـ اعتبار
العقلاء وإمضائهم لذلك ، فإنهم ربما يعتبرون الملكية لمن اعتبرها المتعاملان ،
وربما لا يعتبرونها كمعاملة السفيه.
٣ ـ اعتبار الشارع
إياها ، فانه أيضا قد يمضى ما أمضاه العقلاء وقد لا يمضى.
٤ ـ إظهار ذلك
الأمر النفساني بمظهر خارجي.
أما الاعتبار
القائم بالعقلاء والاعتبار الشرعي ، فلم يوضع البيع مثلا لهما ، لأنه وسائر أسام
المعاملات أسماء لأفعال المتعاملين ، ولا يطلق على العقلاء ولا على الشارع الأقدس
عنوان البائع ، فعلى فرض كونه اسما للمسبب لا محيص عن كونه موضوعا للاعتبار القائم
بالبائع ، وحيث أن الشارع الأقدس لم يعتبر الملكية في كل مورد اعتبر المتعاملان
الملكية ، بل في بعض مواردها كما إذا كان مظهرا بمظهر خارجي ، من لفظ أو غيره ،
وكان المعتبر غير محجور عليه ، وغير ذلك من الخصوصيات ، فكل اعتبار شخصي خارجي ،
إن كان منطبقا على ما هو موضوع للاعتبار الشرعي وطرفا له ، فهو صحيح وإلا فهو فاسد
، فالمعاملات وان كانت أساميها أسامٍ للمسببات فهي تتصف بالصحة والفساد ، وان كانت
أسامٍ للأسباب فالأمر أوضح.
وقد حقق في محله
أنها أسامٍ للمسببات.
وأما الجهة
الثانية : فالظاهر أنها موضوعة للأعم لا لخصوص الصحيحة بالمعنى المتقدم : لما عرفت
من أن الصحة إنما تنتزع من مطابقة المأتي به لما هو طرف الاعتبار ، فهي متأخرة عن
الإمضاء فكيف يمكن أخذها في المرتبة السابقة عليه فتدبر.
فانه يمكن أن يقال
بوضعها للحصص الخاصة الملازمة للإمضاء الشرعي.
مع أن المعاملات
أمور عرفية أمضاها الشارع المقدّس ، وضروري انه لم يتصرف في وضعها ، ولم يستعملها
في غير ما وضعت تلك الألفاظ له في العرف ، بل استعملها في معانيها ، غاية الأمر اعتبر
في إمضائها قيودا.
وبما ذكرناه يظهر
ما في كلمات القوم في المقام.
نعم دعوى وضعها
لخصوص الصحيحة عند العرف أي الممضاة عند العرف والعقلاء ممكنة ، لكنها خلاف الظاهر
أيضا.
جواز التمسك بالإطلاق في المعاملات
وأما الموضع
الثاني : فالمشهور جواز التمسك بالإطلاق في المعاملات على كلا القولين ، ولا يختص الجواز باختيار القول بالأعم.
وربما يقال انه
بناء على كون أسام المعاملات أسام للمسببات ، لا يجوز التمسك على القولين سواء
كانت موضوعة للصحيحة أم للأعم ، أما على الأول فواضح ، وأما على الثاني : فلان
دليل الإمضاء إنما يدل على إمضاء المسببات ، ولا يدل على إمضاء الأسباب العرفية إذ
السبب والمسبب موجودان متغايران لا ربط لإمضاء أحدهما بإمضاء الآخر.
__________________
وأجاب عن ذلك
الأستاذ الأعظم ، بان هذا لو تم فإنما هو على مسلك القوم من كون نسبة صيغ
العقود إلى المعاملات نسبة الأسباب إلى المسببات.
وأما بناء على ما
هو الحق من كون الصيغ مظهرة للأمور الاعتبارية ، فلا يتم ذلك : فان مقتضى إطلاق
دليل الإمضاء إمضاء تلك الاعتبارات بأي نحو أظهرت.
وفيه : أن هذا
الإشكال على هذا المسلك أولى بالورود : إذ أن الاعتبار القائم بالمتعاقدين ـ ما لم
يظهر بمظهر لا يترتب عليه الأثر عند العرف والشارع ـ مما لا ريب فيه ، فإذا شك في
ترتب الآثار شرعا إذا ابرز بمظهر خاص كالعقد الفارسي لا يمكن التمسك بالإطلاق
الأفرادي لدليل إمضاء ذلك الأمر النفساني لرفع هذا الشك والالتزام بترتبها.
فالصحيح أن يقال ،
بناء على مسلك المشهور مقتضى إطلاق دليل المسبب الأفرادي إمضاء كل فرد من أفراد
المسبب في نظر المتعاقدين ، ولازمه إمضاء كل سبب يتسبب به إليه ، وإلا كان إطلاق
دليل المسبب مقيدا بغير ما حصل من ذلك السبب الذي يشك في إمضائه.
وأما بناء على
المسلك الحق فلا يصح التمسك بالإطلاق الأفرادي لما تقدم لكنه يمكن التمسك بالإطلاق
الاحوالي.
توضيح ذلك : أن
أدلة إمضاء المعاملات ـ مثل احل الله البيع ، كما أن لكل
__________________
واحد منها إطلاقا
أفراديا فيدل على إمضاء كل فرد من أفراد البيع مثلا ، كذلك له إطلاق أحوالي.
فمقتضى (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ). إمضاء كل فرد من أفراد البيع في جميع حالاته أي سواء ابرز
بالفارسية أو بالعربية أو بغيرهما ، ولازم ذلك إمضاء كل مظهر.
وقد أجاب المحقق
النائيني (ره) عن الإشكال بان نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة
الأسباب إلى المسببات حتى يكونا موجودين خارجيين فيرد المحذور المذكور ، بل نسبتها
إليها نسبة الآلة إلى ذيها ، والإرادة متعلقة بنفس المعاملة ابتداء ، فليس هناك
موجودان حتى لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر ، بل الموجود واحد غاية الأمر انه
باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم يقيده
بنوع خاص يستكشف عمومه لجيمع الأنواع.
وفيه : مضافا إلى
ضعف المبنى كما حققناه في مبحث الإنشاء والإخبار ، إن وجود الآلة مغاير مع وجود ذي الآلة كما يشهد له
الوجدان والضرورة ، والإرادة وان تعلقت حين البيع بذي الآلة ابتداء وبالآلة تتعلق
تبعا ، إلا انه في مقام الجعل لا بد من لحاظ الآلة مستقلا كي يرى صلاحية كل آلة أو
آلة خاصة ،
__________________
وعليه : فإذا كان
الإطلاق مسوقا لبيان ذي الآلة لا الآلة لا يصح الاستدلال بالإطلاق لصلاحية كل آلة
لذلك إلا بالنحو الذي قربناه ، وعليه : فلا فرق بين كونها من قبيل الأسباب
والمسببات ، أم من قبيل الآلة وذي الآلة.
هذا كله بناء على
وضعها للمسببات.
وأما بناء على
وضعها للأسباب أي المظهر لتلك الاعتبارات النفسانية فالتمسك بالإطلاق لإمضاء كل
مظهر أو سبب أو آلة على اختلاف المسالك أوضح من أن يبين.
ثم لو أغمضنا عن
ما ذكرناه وبنينا على دخل شيء آخر غير الاعتبار القائم بالمتعاقدين في المعاملات
وانه لا تصدق أسمائها بمجرد تلك الاعتبارات ، فلا يخلو الأمر من أمور :
١ ـ اعتبار إمضاء
العقلاء والعرف ، بمعنى أن كل معاملة واقعة بين المتعاملين ممضاة عند العقلاء فهي
بيع أو معاملة أخرى ، وإلا فلا.
٢ ـ اعتبار إمضاء
الشارع فيها.
٣ ـ اعتبار وجود
المصلحة والمناسبة الواقعية ، فالتمليك بعوض إن كان عن المصلحة والمناسبة الواقعية
فهو بيع وهكذا سائر المعاملات ، وإلا فلا.
٤ ـ أن يكون البيع
مثلا موضوعا لأمر واقعي ، ويكون نظر العرف والشرع طريقا إليه ، وعليه فيكون النهي
تخطئة للعرف في المصداق.
فلو كان المعتبر
هو الأمر الأول ، لو شك في دخالة شيء في إمضاء العرف والعقلاء لا يصح التمسك
بالإطلاق.
وأما لو أحرز ذلك
وشك في دخالته في الإمضاء الشرعي يتمسك بالإطلاق لنفيه.
ولو كان هو الثاني
لا يصح التمسك بالإطلاق اللفظي إذ كل ما شك في دخالته في الإمضاء الشرعي يحتمل
دخالته في المسمّى فمع عدمه لا يحرز صدق المسمّى ومعه لا يصح التمسك بالإطلاق.
نعم ، يمكن التمسك
بالإطلاق المقامي بتقريب أن الدليل إذا كان في مقام البيان ، ولم يبين فيه اختلاف
الشارع ، والعقلاء في البيع ، فلا محالة يستكشف ، أن كل بيع عرفي بيع شرعي ، وإلا
لزم الإجمال ونقض الغرض فتأمل.
فإن ذلك يتم إذا
لم يكن هناك قدر متيقن ، ودار الأمر بين أمور متباينة ، وأما إذا كان فرد متيقن ،
كما هو متحقق في المعاملات الرائجة ، فلا يتم ذلك ، فانه يمكن أن يعتمد الشارع
المقدّس عليه.
وبما ذكرناه ظهر
أن مراد صاحب الكفاية (قدِّس سره) حيث أفاد تبعا للمشهور من صحة التمسك بالإطلاق في
المعاملات وان كانت موضوعة للصحيح ، لا بد وان يكون أحد أمرين ، إما انه يصح
التمسك بالإطلاق الكلامي إذا كانت موضوعة للصحيح بنظر العرف ، أو انه يتمسك
بالإطلاق المقامي إذا كانت موضوعة للصحيح بنظر الشرع.
ولو كانت
المعاملات أسماء للأمور الواقعية ، ونظر العرف والشرع طريق
__________________
إليها ، أو كانت
أسماء للاعتبارات ولكن مقيدة بما إذا كانت عن المصالح والمناسبات الواقعية ، يمكن
التمسك بالإطلاق لنفي ما شك في اعتباره شرعا ، بتقريب : انه بما أن للشارع المقدّس
جهتين :
الأولى : كونه
مشرعا وجاعلا للأحكام.
الثانية : كونه من
العرف والعقلاء ، بل هو رئيسهم ، فإذا ، قال احل الله البيع ، ولم يعين البيع
الشرعي لا محالة يحمل على إرادة إمضاء البيع العرفي ، كما هو الشأن في جميع
المفاهيم الواقعة في الأدلة الشرعية ، وعليه فيتمسك بالإطلاق لنفي ما شك في
اعتباره شرعا.
فتحصل مما ذكرناه
انه يصح التمسك بالإطلاق على جميع الوجوه والأقوال ، إلا بناءً على كونها موضوعة
للصحيح عند الشارع.
ومع عدم الإطلاق
لا بد من الرجوع إلى أصالة الفساد أي عدم تحقق ذلك الأمر الاعتباري ، لو شك في
دخالة شيء في تحققه ، من غير فرق بين الوضع للصحيح ، أو للأعم.
أقسام دخل الشيء في المأمور به
بقي أمر وهو انه
قسّم جماعة ، ما يكون دخيلا في المأمور به وجودا أو عدما ، إلى قسمين :
ما يعتبر في حقيقة
المأمور به وماهيته.
وما يعتبر في
تشخصه وتحققه ، وقالوا ، انه كما يكون لما يعتبر في المركب الحقيقي قسمان : ما
يعتبر في الماهية ، وما يعتبر في الفرد. كذلك لما يعتبر في المركب الاعتباري
قسمان.
وتنقيح القول في
المقام يتوقف على بيان مقدمة.
وهي : أن الجزء ،
والشرط ، والمانع المصطلح عليها في باب العلل والمعلولات التكوينية ، غير ما هو
مصطلح في الأحكام :
فان الجزء في باب
العلل ، عبارة عن بعض ما يترشح منه المعلول ، والشرط عبارة عن ما يوجب تأثير
المقتضي فعلا ولايت رشح منه الأثر ، بل هو إما متمم لفاعلية الفاعل ، أو متمم
لقابلية القابل ، والمانع عبارة عمّا يزاحم المقتضي في التأثير.
وأما الجزء في
متعلقات الأحكام فهو عبارة عما يكون دخيلا فيه قيدا وتقيدا ، والشرط هو ما يعتبر
التقيد به في المأمور به دون القيد ، والمانع عبارة عما اخذ عدمه في المأمور به ،
والشرط على قسمين :
الأول : ما يعتبر
في جميع الأجزاء والأكوان.
الثاني : ما يعتبر
في الأجزاء خاصة.
ودعوى انه يمكن أن
يقال بان المراد بها في البابين واحد بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد ، فان الجزء هو بعض ما يؤثر في ما المصلحة ، والشرط ما يوجب
تأثير الأجزاء فيها والمانع ما يزاحم تأثيرها فيها.
مندفعة بان
المصالح غير معلومة عندنا كما أن كيفية ترتبها مجهولة ، والذي
هو معلوم عندنا
ترتبها على مجموع الأجزاء والشرائط وعدم المانع ، فلا سبيل إلى الدعوى المذكورة.
ومما يؤيد ذلك عدم
تسمية ما سمّي عند الفقهاء بالجزء والشرط في النصوص بهما.
وبعد بيان هذه
المقدمة يقع الكلام فيما انعقد له هذا الأمر ، وهو بيان الفرق بين ما هو دخيل في
الماهية ، وما يكون دخيلا في الفرد.
والكلام فيه في
موردين :
المورد الأول : في
المركب الحقيقي.
المورد الثاني :
في المركب الاعتباري.
أما المورد الأول
: فالموجود الخارجي ، كزيد له طبيعة موجودة بوجوده ، وهي في المثال طبيعة الإنسان
، المؤلفة من الجنس والفصل ومشخصات لتلك الطبيعة التي هي من لوازم وجودها في
الخارج ، وعليه فما كان من الأمور التي تتألف منها الطبيعة ، كالحيوان والناطق ،
يسمى بجزء الطبيعة ، وما كان من لوازم وجود الطبيعة في الخارج ، يسمى بجزء الفرد.
وأما المورد
الثاني : فالمراد من الجزء للطبيعة ، والجزء للفرد ، ليس هو جزء الطبيعة والفرد
بهذا المعنى ، فان المركب الاعتباري كالصلاة المركبة من مقولات متعددة ، وان كان
لكل جزء منها كالتكبيرة مثلا لوازم الوجود ، إلا أن محل الكلام ثبوت الجزء لفرد
هذا المركب الاعتباري بما هو مركب.
وعليه فجزء الفرد
بهذا المعنى مما لا معنى معقول له ، بل المراد بهما ، جزء
اصل الطبيعة ،
وجزء الطبيعة الفاضلة.
توضيح ذلك أن بعض
الأمور يكون دخيلا في حصول الغرض الملزم كالتكبيرة بالنسبة إلى مصلحة الصلاة ، فهو
جزء الطبيعة ، وبعض آخر لا يكون دخيلا في ذلك بل إنما يكون دخيلا في حصول الغرض
الأكمل.
وبعبارة أخرى ما
يكون دخيلا في حصول المزيّة غير لازمة التحصيل فهو جزء للفرد كالقنوت وكما أن
القسم الأول قد يكون دخيلا في حصول الغرض قيدا وتقيدا ، وقد يكون دخيلا فيه تقيدا
لا قيدا ، وقد يكون عدمه دخيلا كذلك ، وبهذا الاعتبار ينقسم إلى الجزء والشرط
والمانع.
كذلك القسم الثاني
، فالأول كالقنوت ، والثاني كإيقاع الصلاة في المسجد ، والثالث كالصلاة في الحمام.
ثم أن دخالة القسم
الأول بأقسامه في المسمّى على الصحيح أو الأعم تقدم الكلام فيها.
وأما الثاني فهو
لا يكون دخيلا فيه على كلا القولين لفرض عدم دخالته في صحة العبادة.
ومقتضى القاعدة هو
عدم فساد الصلاة بفساد الجزء بالمعنى الثاني : فان غاية ما يلزم منه عدم تحقق
الطبيعة الفاضلة.
فما عن بعض من الاستدلال للفساد : بان انتفاء جزء الفرد موجب لعدم
تحقق الطبيعي إذ لا يعقل وجوده من دون الفرد. وهمٌ غريب : فانه خلط بين جزء الفرد
في المركب الاعتباري وجزء الفرد في المركب الحقيقي.
نعم ، ما ذكرناه
إنما هو مقتضى القاعدة الأولية ، وأما مقتضى القاعدة الثانوية المستفادة من قوله (ع)
" من زاد في صلاته الخ" فالكلام فيه موكول إلى محله.
وأوضح من هذا
القسم في عدم الدخل في المسمّى وعدم موجبية فساده لفساد المركب ، ما يكون المركب
ظرفا لمطلوبيته بلا دخل له في العبادة أصلا كما لو نذر ان يدعو لزيد في صلاته.
* * *
__________________
الاشتراك
الأمر الخامس عشر
: في الاشتراك ، وتنقيح القول فيه ، بالبحث في مقامات :
الأول : في أن
الاشتراك ، محال ، أو واجب ، أو ممكن؟.
الثاني : في أن
الاشتراك واقع ، أم لا؟.
الثالث : في
استعماله في الكتاب المجيد.
أما المقام الأول
: فقبل شروع الكلام فيه لا بد من التنبيه على أمر وهو أن المراد من الوجوب
والاستحالة ، ليس هو الذاتي منهما : إذ بديهي أن ملاحظة الاشتراك لا تقتضي ضرورة
الوجود حتى يكون واجب الوجود ، وليس تصور مفهومه مقتضيا ضرورة العدم ، بل المراد
انه هل يلزم من فرض وقوعه محال حتى يكون ممتنعا ، أم يلزم المحال من فرض عدمه
فيكون واجبا ، أم لا يلزم شيء منهما فهو ممكن ، فالمراد هو الوقوعي منهما.
فقد استدل
للاستحالة بوجوه.
الوجه الأول :
منافاته لحكمة الوضع وهي التفهم والتفهيم إذ الاشتراك موجب لعدم حصول تفهيم المعنى
الأول ، ولا الثاني الذين هما الموضوع لهما.
وأجاب عن ذلك
المحقق الخراساني بجوابين :
__________________
الأول : إمكان
الاتكال في تفهيم المعنى على القرائن الواضحة.
وفيه : أن هذا
الجواب غير مربوط بالاستدلال : فان تقريب الاستدلال إن الغرض من الوضع ليس هو عدم
تفهيم المعنى لأنه محقق قبله ولا أمور أخر كإيقاظ النائم لعدم ترتبها على الوضع ،
بل الغرض منه هو تفهيم المعنى ، والاشتراك يوجب عدم ترتبه كما عرفت ، وما ذكره
المحقق الخراساني غير مرتبط بذلك ، بل هو جواب عما أدرجه هو في الاستدلال ، وهو أن
تفهيم المعنى بواسطة القرائن غير صحيح : فانه كثيرا ما تختفي القرائن.
الثاني : انه قد
يتعلق الغرض بالإجمال.
وفيه : ما تقدم من
أن الإجمال وعدم التفهيم ليس غرضا من الوضع.
فالصحيح في الجواب
عنه أن يقال : إن الانتقال في الجملة بمعنى الصرف عن بقية المعاني ثابت مع
الاشتراك ، فهو ليس منافيا لحكمة الوضع رأسا ، مع أن الوضع إنما يكون مقتضيا
للانتقال إلى المعنى لا علة تامة له ولذا عند نصب القرينة لا ينتقل إليه ، فكما أن
القرينة تمنع من ذلك ، كذلك الوضع الثاني ، فلو علمنا من الخارج أو من قرينة انه
لم يرد أحد المعنيين لا محالة ينتقل إلى الآخر ، وبهذا يمتاز عن الحقيقة والمجاز :
فان عدم إرادة الحقيقة لا يكفي في الانتقال إلى المعنى المجازى فيتوقف الانتقال
إليه الى ما يدل على إرادته ، وهذا بخلاف المشترك ، وهذا هو المراد مما اشتهر من
أن إرادة أحد المعنيين في المشترك تتوقف على القرينة الصارفة ، وأما المجاز
فإرادته تتوقف على القرينة المعينة.
الوجه الثاني : أن
لازم الاشتراك الانتقال إلى معنيين في آن واحد وهو غير ممكن.
وفيه : أن المراد
بالانتقال إن كان هو الانتقال التصوري فهو مما لا محذور فيه لان اجتماع شيئين في
آن واحد في النفس التي هي من المجردات لا مانع عنه ، بل هو واقع كثيرا ، ولذا يحكم
على الوجود والعدم بأنهما نقيضان ، ولو لا انهما يتصوران في آن واحد لما صح الحمل
للزوم تصور الموضوع حين الحمل.
ومنه يظهر أن ذلك
جار في جميع القضايا ، فان صحة الحمل تتوقف على تصور الموضوع والمحمول في آن واحد.
وان أريد الانتقال
التصديقي بمعنى انه يحكم بان المتكلم أرادهما معا ، فان بنينا على جواز استعمال
اللفظ في أكثر من معنى واحد كما هو الحق وستعرفه فلا محذور فيه ، وإلا فلازمه
الإجمال كما هو واضح.
الوجه الثالث :
وهو يختص بما بنينا عليه من أن حقيقة الوضع هو التعهد ، بذكر اللفظ عند إرادة
المعنى ، وحاصله أن التعهد الثاني ينافي التعهد الأول ومناقض له ولا يمكن بقائه
معه ، ألا ترى انه لو تعهد زيد بأنه لو لبس الثوب الأبيض فهو مريد للكوفة ، ثم
تعهد ثانيا : بأنه لو لبسه فهو مريد المشي إلى مكة ، يكون التعهد الثاني منافيا
للأول.
وفيه : أولاً :
سيأتي انه يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وعليه فلازم هذين التعهدين انه
عند ذكر اللفظ مريد لتفهيم معنيين ، ولازم ذلك انه عند عدم نصب القرنية يحمل على
إرادتهما معا.
وثانيا : أن
الواضع إنما يتعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، لا انه يتعهد إرادة المعنى
عند ذكر اللفظ والفرق بين التعهدين واضح لا يخفى.
فتحصل انه لا دليل
على الاستحالة.
وقد استدل لوجوبه
بان الألفاظ متناهية لتألفها من حروف الهجاء التي هي متناهية ، والمركب من
المتناهي متناه ، والمعاني غير متناهية فلا بد من الاشتراك فيها.
وأجاب عنه صاحب
الكفاية بأربعة أجوبة :
الأول : أن الوضع
لجميع المعاني غير المتناهية يستدعي الأوضاع غير المتناهية.
وفيه : أن الوضع
بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص أمر ممكن كما تقدم فكون المعاني غير متناهية
لا يوجب عدم تناهى الأوضاع لإمكان أن يكون بهذا النحو.
الثاني : انه لو
سلّم ذلك لا يجدي إلا في مقدار متناه ، لاستدعاء استعمال الألفاظ في جميع
الاستعمالات غير متناهية.
وفيه : أن المراد
من عدم التناهي في هذا المقام عدم التناهي العرفي ، وإلا فالعالم بأجمعها يكون
متناهيا ، وعليه فالاستعمالات غير المتناهية بالنسبة إلى شخص واحد ، وان امتنع إلا
انه بالنسبة إلى جميع أفراد البشر لا امتناع فيه كما لا يخفى.
الثالث : أن
المجاز باب واسع.
__________________
وفيه : أن
الاستعمال المجازى يتوقف على ذكر القرينة اللفظية غالبا لتعذر القرائن الحالية
بحسب الغالب.
وبذلك يظهر الجواب
عن جوابه الرابع.
وهو عدم لزوم
الوضع للجزئيات بل يوضع الألفاظ للكليات وهي متناهية.
فالصحيح في الجواب
عنه عدم تناهي الألفاظ كالمعاني.
وذلك : فإنه إذا
لاحظنا أن المركب الثنائي من حروف الهجاء يحصل منه ألفاظ كثيرة جدا ، حيث أن كل
واحد منها يمكن تركبه مع نفسه ومع أحد الحروف الأخر فيتولد من ذلك سبعمائة كلمة
مثلا ، ثم إن هذه الكلمة الثنائية ، تارة يكون أولها مفتوحا ، وأخرى مضموما ،
وثالثة مكسورا.
وثانيها أيضا قد
يكون مكسورا ، وأخرى مفتوحا ، وثالثة مضموما ، ورابعة ساكنا ، فلازم ذلك إمكان
تحقق ما يقرب من ثمان مائة ألف كلمة ثنائية ، وحينئذٍ نقطع بعدم تناهي الألفاظ
أيضا.
فتحصّل أن
الاشتراك ممكن لا واجب ولا ممتنع.
وأما المقام
الثاني : فالأظهر وقوعه كما نشاهد ذلك في الأعلام الشخصية وفي غيرها كالقُرء
الموضوع للحيض ، والطهر ، وما شاكل.
وما ذكره بعض
الأعلام من إنكار وقوع الاشتراك في غير الأعلام الشخصية ، وإرجاع كل مورد مما
ظاهره الاشتراك إلى وجود جامع بين المعاني
المتشتتة ، وانه
الموضوع له ، تكليف بارد كما صرح به المحقق العراقي (ره) .
وأما المقام
الثالث : فقد يتوهم انه يمتنع استعمال المشترك في القرآن المجيد ، لان الله تعالى.
إما أن لا يعتمد
في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك فيلزم التطويل بلا طائل.
وإما أن يعتمد على
شيء فيلزم الإهمال والإجمال وكلاهما غير لائقين بكلامه تعالى.
ويُردّ الأول :
انه إذا كان الاتكال على القرينة الحالية فلا يلزم التطويل ، وإذا كان الاتكال على
القرينة المقالية أتى بها لغرض آخر زائدا على بيان المراد لا يكون بلا طائل.
ويُردّ الثاني :
منع كون الإجمال غير لائق بكلامه ، إذ الغرض ربما يتعلق بالإجمال وقد اخبر الله
تعالى بوقوعه في كلامه فقال عزوجل : (مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات) والمتشابه هو المجمل.
ثم انه لا يهمنا
البحث في أن منشأ الاشتراك هل هو الوضع تعيينيا أو تعينيا.
__________________
أمَّا ما نقله
المحقق النائيني (ره) ـ عن بعض مؤرخي متأخري المتأخرين ، من أن حصول الاشتراك في
اللغات حصل من خلط اللغات بعضها ببعض ، فان العرب مثلا كانوا على طوائف فكل طائفة
قد وضعت لفظا خاصا لمعنى مخصوص غير اللفظ الذي وضعته طائفة أخرى له ، ولما جمعت
اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة واحدة حدث الاشتراك ـ. .
فان تحقيقه لا
يترتب عليه ثمرة.
استعمال اللفظ في أكثر من معنى
المهم هو البحث في
انه هل يصح استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، أم لا؟
ملخص القول فيه :
انه بعد ما ثبت إمكان الاشتراك ووقوعه.
لا إشكال في جواز
استعماله في كل واحد من المعنيين أو المعاني لوضعه له.
كما لا ينبغي
التوقف في جواز استعماله في الجامع ، غاية الأمر يكون مجازا.
كما لا إشكال في
جواز استعماله في المجموع.
__________________
إنما الكلام
والإشكال في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد على سبيل الاستقلال ، بان يراد كل
واحد كما إذا لم يستعمل إلا فيه ، ففي الحقيقة يكون الاستعمال متعددا بلفظ واحد.
وبذلك يظهر أن ما
ذكره صاحب المعالم (ره) في عنوان المسألة من قوله ، بان يستعمل في معنيين يكون كل
واحد مناطا للإثبات والنفي ومتعلقا لحكم واحد.
غير جيد : إذ تعلق
الحكم إنما يكون في مرتبة لاحقة للاستعمال ، والنسبة بين ما ذكره وما ذكرناه. عموم
من وجه.
وقد اختلفت
كلماتهم فيه على أقوال :
القول الاول : ما
ذهب إليه أكثر المحققين وهو عدم الجواز عقلا.
وقد استدل له
بوجوه :
الوجه الأول : ما
عن المحقق النائيني (قدِّس سره) من أن لازم الاستعمال في معنيين تعلق اللحاظ
الاستعمالي في آن واحد بمعنيين ، ولازمه الجمع بين اللحاظين وهو ممتنع عقلا .
وفيه : أن الجمع
بين اللحاظين في آن واحد مع كون الملحوظ متعددا لا استحالة فيه : فان معنى لحاظ
الشيء إحاطة النفس به وحيث أنها من المجردات
__________________
فلا مانع من
إحاطتها بشيئين في آن واحد ، وان شئت قلت أن الذهن يكون كالخارج كما انه في الخارج
يمكن أن يجتمع شيئان في الوجود كذلك في الذهن ، بل هو واقع كثيرا. ألا ترى انه
كثيرا ما يصدر عن الإنسان فعلان اختياريان كأن يمشي ويتكلم ، مع أن كلاً منهما
يتوقف تحققه على تصوره ولحاظه.
الوجه الثاني : ما
في الكفاية وحاصله : أن اجتماع اللحاظين في آن واحد وان كان لا محذور فيه إذا
كان الملحوظ متعددا ، إلا انه ممتنع إذا كان الملحوظ واحدا ، وعليه فالاستعمال في
أكثر من معنى وان كان لا محذور فيه من حيث لحاظ المعنيين في آن واحد ، إلا انه
ممتنع من ناحية المستعمل ، إذ حقيقة الاستعمال جعل اللفظ وجها وعنوانا للمعنى بل
بوجه نفسه كأنه الملقى ، وعلى ذلك فاستعمال اللفظ في معنى يستلزم لحاظ اللفظ فانيا
فيه أي لحاظه آلة للحاظه. ولا يعقل أن يكون في هذه الحالة ملحوظا بلحاظ آخر آليا
أم استقلاليا ، فاستعماله في معنى آخر لا يجوز ، لاستلزامه اجتماع اللحاظين
الآليين في شيء واحد.
وفيه : انه قد
تقدم منافي الوضع ان الوضع عبارة عن التعهد والالتزام بالتلفظ بلفظ خاص عند إرادة
تفهيم معنى مخصوص ، فحقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ،
وعليه فلا مانع من جعل اللفظ علامة لمعنيين لعدم استلزامه تعدد اللحاظين ، كما
نشاهد ذلك بالوجدان في التعهدات الخارجية. وعلى ذلك ، فالاستعمال في معنيين
كالاستعمال في معنى
__________________
واحد لا يلاحظ
اللفظ فيه إلا بلحاظ واحد استقلالي ، غاية الأمر تارة يكون الداعي له هو تفهيم
معنى واحد ، وأخرى يكون تفهيم معنيين.
الوجه الثالث : ما
ذكره المحقق الأصفهاني (ره) في حاشيته على الكفاية .
وحاصله : أن وجود
اللفظ في الخارج وجود لطبيعي اللفظ بالذات ، ووجود لطبيعي المعنى بالتنزيل
والمواضعة ، وحيث أن الموجود بالذات واحد فلا محالة يكون ذلك الوجود وجودا تنزيليا
واحدا ولا يعقل أن يكون وجودين تنزليين لمعنيين إذ كما أن الوجود الواحد لا يمكن
أن يكون وجود الماهيتين بالذات كذلك لا يعقل أن يكون وجودين تنزليين لمعنيين ،
وليس الاستعمال إلا إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي خارجا ، وقد مر أن الإيجاد
والوجود متحدان بالذات ، وحيث أن الوجود واحد فكذا الإيجاد ، ثم قال (قدِّس سره)
أن الاستعمال لو فرض محالا تحققه بلا لحاظ لكان محالا.
وفيه أولاً : ما
مر من أن حقيقة الوضع ليست إلا التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وليس
الاستعمال إلا فعليّة ذلك ، فحديث الوجود التنزيلي مما لا يرجع إلى محصل.
وثانيا : لازم ما
ذكره (قدِّس سره) الالتزام باستحالة الاشتراك إذ بعد ما صار وجود طبيعي اللفظ الذي
هو الموضوع له وجودا تنزيليا لمعنى خاص كيف يمكن صيرورته وجودا تنزيليا لآخر.
__________________
وبعبارة أخرى حيث
أن الاستعمال ليس إلا فعلية الوضع ويكون هو بنحو الذي وضع ، فان التزم هو في الوضع
بالوجود التنزيلي فليس له الالتزام بإمكان الاشتراك وإلا فليس له الالتزام بذلك في
مقام الاستعمال.
وثالثا : انه لا
محذور في صيرورة الوجود الحقيقي الواحد وجودين تنزليين لشيئين إذ الوجود التنزيلي
إنما يتحقق بالوضع والاعتبار وهو خفيف المئونة ، ألا ترى في عكس المسألة قد يكون
المنزل عليه واحدا كالأسد والمنزل متعددا كزيد ، وعمرو ، وغيرهما من أفراد
الإنسان.
والحل في ذلك ما
ذكرناه من أن الوجود التنزيلي أمر اعتباري يحصل بالوضع وهو خفيف المئونة.
فتحصل انه لا دليل
على الاستحالة.
القول الثاني :
إمكانه ثم أن القائلين بهذا القول اختلفوا على أقوال :
الأول : انه مجاز
مطلقا : واستدل له صاحب تشريح الأصول ، بان كل وضع مستقل ولا يكون ناظرا إلى الآخر
ومتمما له ، فالواضع حين وضع اللفظ لكل من المعنيين أو المعاني لم يتصور إلا
المعنى الواحد ، فيجب أن يكون الاستعمال على وفق الوضع بان يتصور أحد المعنيين أو
المعاني وإلا لزم الخروج عن طريقة الواضع.
وفيه : أن متابعة
الواضع لازمة في الخصوصيات الراجعة إلى الموضوع ، والموضوع له ، والوضع ، وأما في
غير ذلك فلا يعتبر مثلا من وضع لفظا لمعنى أو علما لشخص ، وكان في تلك الحالة
متعمما فهل يتوهم أحد لزوم كون
المستعمل حين
الاستعمال كذلك ، مع انه لا قطع بذلك ، ويحتمل أن يكون وضع المشترك لجميع
ما هو موضوع له في آن واحد.
الثاني : انه مجاز
في المفرد وحقيقة في التثنية والجمع.
وهذه الدعوى مركبة
من أمرين :
الأول : كونه
مجازا في المفرد ، واستدل له : بأن قيد الوحدة مأخوذة في الموضوع له ، فلو استعمل
اللفظ في معنيين لزم استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء وهو ذات المعنى بلا قيد
الوحدة :
وأجاب عنه المحقق
الخراساني بان لازم ذلك عدم جواز الاستعمال فان الأكثر ليس جزء
المقيد بالوحدة بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا.
وفيه : أن
المستعمل فيه إن كان هو الأكثر بقيد الانضمام كان ما ذكره تاما ، ولكنه خلاف الفرض
وهو الاستعمال في كل واحد مستقلا فالمستعمل فيه هو ذات المعنى بلا قيد ولا ريب في
كونه جزء الموضوع له على هذا القول.
فالصحيح في الجواب
منع اخذ قيد الوحدة في الموضوع له.
الثاني : كونه
حقيقة في التثنية والجمع ، والمراد بذلك ليس استعمال التثنية
__________________
مثلا في أربعة
أفراد فردين من طبيعة وفردين من طبيعة أخرى ، ولا استعمال التثنية في فردين من
طبيعة واحدة فان ذلك هو الموضوع له ، بل المراد استعمالها في فردين من طبيعتين.
واستدل لجوازه
بنحو الحقيقة بأن التثنية في قوة التكرار فكما انه لو كرر اللفظ المفرد مرتين
وأريد منه في كل مرة فردا من طبيعة يكون كلا الاستعمالين من الاستعمال في المعنى
الحقيقي ، كذلك لو ثنَّى وأطلق وأريد منه فردان من طبيعتين.
والحق في الجواب
يقتضي تقديم مقدمه.
وهي : انه في
المركبات قد تقدم أن المادة موضوعة بوضع خاص والهيئة موضوعة أيضا كذلك ، ولم يوضع
كل مركب بوضع خاص ، مثلا : رجلان وضع المادة للطبيعة الخاصة ، والهيئة لإفادة
فردين من مدخولها ، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك.
وعليه فإذا
استعملت التثنية في فردين من طبيعتين لا يخلو الأمر من أمرين :
إما بإرادتهما من
المادة وتكون الهيئة أي الألف والنون ، قرينة على إرادة ذلك فهذا مجاز على هذا
القول فان المادة استعملت في معنيين فهو كاستعمال المفرد ، بل هو هو ، مع انه خلاف
وضع الأداة.
وإما بان يراد من
المدخول فردا ومن الهيئة فردا آخر وهو أيضا بيِّن الفساد وحينئذٍ ، فلا محيص عن
استعمال المادة في الطبيعة الموضوعة لها ، والألف والنون في إرادة فردين منها ،
وعليه فلا يمكن إرادة فردين من طبيعتين بنحو الحقيقة.
وأما ما في
الكفاية من أن التثنية والجمع ، إنما هما بتأويل المفرد إلى
المسمّى به.
ففيه أن مفهوم
المسمّى به ليس موضوعا له ، ومصداقه هو الموجود الخارجي.
فالصحيح أن يقال
أن اللفظ فيهما إنما يستعمل في اللفظ الفاني في المعنى وهو الذي يثنى أو يجمع.
وبما ذكرناه ظهر
مدرك القول بامتناع الاستعمال في المفرد وجوازه في التثنية والجمع ، والجواب عنه.
الثالث : انه ممكن
وحقيقة في المفرد وغيره وستعرف ما في هذا القول عند بيان المختار.
وهو أن استعمال
المفرد في أكثر من معنى ممكن وحقيقة.
أما الأول : فلما
مرَّ من بطلان ما استدل به على عدم الإمكان ، وان شئت جعلت النظر في المقام إلى
المسببات التوليدية حيث انه لا محذور في تولد مسببين من سبب كإكرام زيد وإهانة
عمرو الناشئين من قيام واحد أو حركة خاصة مع القصد إليهما فيكون استعمال اللفظ في
أكثر من معنى كذلك.
وأما الثاني :
فلان الاستعمال في كل منهما استعمال فيما وضع له فيكون حقيقة.
__________________
وأما التثنية
والجمع فاستعمالهما في فردين ، أو أفراد ، من طبيعتين أو طبائع قد مر انه لا يصح ،
وأما استعمالهما في فردين أو أفراد من طبيعتين أو طبائع ، بان يراد من كل طبيعة
فردان ، أو أفراد ، وان كان ممكنا عقلا باستعمال الهيئة فيما وضعت له والمادة في
معنيين أو أكثر ، إلا أنه لا يبعد دعوى وضع الهيئة فيهما للدلالة على إرادة
المتعدد من أفراد طبيعة واحدة.
فتدبر فان هذه
الدعوى قابلة للمنع.
بقي الكلام في ثمرة هذا البحث
وهي انه لو قلنا
بجواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على نحو الحقيقة ، فإن تردد الأمر بينه وبين
استعماله في معنى خاص ، فقد يدَّعى الظهور العرفي في إرادة الواحد ، وقيل هذا
العرف والعقلاء ببابك ، فاختبر ذلك منهم فيما لو أمر المولى العرفي عبده بإتيان ما
له معان متعددة كالعين ، فإنهم لا يحكمون بلزوم إتيان جميع معانيه.
فلو تمت هذه
الدعوى ، وإلا فمقتضى الإطلاق الحكم بإرادة الجميع.
ولو دار الأمر بين
إرادة مجموع المعنيين ، أو جميعهما بنحو التعدد في الاستعمال ، فلا بد من الحمل
على إرادة المعنيين بالنحو الثاني ، إذ الاستعمال على الأول مجاز دون الثاني ،
وأصالة الحقيقة تُثبت الثاني.
وأما لو قلنا بعدم
جواز الاستعمال في أكثر من معنى ، فسواء تردد الأمر بينه وبين إرادة أحد المعنيين
، أو مجموعهما لا سبيل إلى الالتزام به كما هو
واضح ، وأما إن
قلنا بأنه ممكن ، ولكنه مجاز فان دار الأمر بين إرادتهما ذلك ، أو أحدهما يحمل على
الثاني لأصالة الحقيقة ، وان دار بين إرادتهما كذلك ، أو إرادة مجموع المعنيين
فحيث أن كلا منهما مجاز فلا اصل يعيِّن أحدهما فلا بد من الانتهاء إلى الأصول
العملية.
ثم انه قال المحقق
الخراساني (ره) بعد ما منع عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد : وهم ودفع
لعلك تتوهم أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدل على وقوع
استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن جوازه ، ولكنك غفلت عن انه لا دلالة
لها أصلا على أن إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ فلعلها كانت بإرادتها
في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها ، أو كان المراد
من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان كان أفهامنا قاصرة عن إدراكها انتهى.
ويرد على ما أفاده
: أن إرادة المعنى ، بمعنى تصوره حين استعمال اللفظ في غيره ، لا توجب كون ذلك
المتصور بطنا للقرآن ومعنى له بل كانت شيئا أجنبيا عنه أريدت حال التكلم بألفاظه ،
مع أن ذلك لا يوجب عظمة القرآن على غيره وفضيلته على سائر المحاورات لامكان أن
يراد المعاني بأنفسها حال التكلم بالألفاظ غير القرآن بل بالمهملات.
نعم ما أفاده
ثانيا من كون المراد بالبطون لوازم معناه وملزوماته التي لم
__________________
تصل إلى إدراكها
أفهامنا القاصرة ، تام.
ومن المحتمل أن
يكون المراد من هذه الأخبار انه لألفاظ القرآن معان جامعة بين ما نفهمه ونراه
ظاهرا ، وبين غيره ونظيره فيما نفهمه لفظ الميزان ، حيث أن معناه الظاهر عندنا أحد
مصاديق معناه الجامع ، والمصداق الآخر ، إمام المتقين عليهالسلام.
* * *
المشتق
الأمر السادس عشر
: في المشتق ، لا إشكال ولا كلام في انه يصح إطلاق المشتق على المتلبس بالمبدإ
فعلا ، وعلى من انقضى عنه المبدأ ، وعلى من سيتلبس به في المستقبل.
ولا خلاف في أن
إطلاقه على المتلبس بالمبدإ فعلا إطلاق حقيقي ويكون المشتق حقيقة في المتلبس
بالمبدإ به في الحال ، كما لا خلاف في أن إطلاقه على من سيتلبس بالمبدإ في
المستقبل إطلاق مجازى ، ويكون مجازا فيه.
وإنما الخلاف في
أن إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ هل هو مجاز أو حقيقة؟
فان قلنا بوضع
المشتق لخصوص المتلبس فيكون مجازا فيه.
وان قلنا بوضعه
للأعم فيكون إطلاقه عليه حقيقة.
وذهب إلى كل من
القولين جماعة.
وقبل تحقيق الحال
في المقام ينبغي تقديم أمور :
أحدها : أن
المعاني على أقسام :
منها : ما هو
متأصل في الوجود ويوجد في الخارج لا في الموضوع وهي الذي يعبر عنه بالجوهر
كالإنسان.
ومنها : ما له ما
بإزاء في عالم العين إلا انه لا بد وان يتحقق في الموضوع ، وهو
الذي يعبر عنه
بالعرض كالبياض.
ومنها : ما يتحقق
في عالم الاعتبار ، وهو الأمر الاعتباري كالملكية والزوجية.
ومنها : ما ليس له
ما بإزاء في الخارج ، لا في عالم العين ، ولا في عالم الاعتبار ، وإنما يكون
منتزعا من الذات أو بلحاظ ذاته كالإمكان أو من جهة مقايسته بشيء آخر كالفوقية ،
وهو الأمر الانتزاعي.
ومنها : النسب
المتحققة بين أحد الأقسام الأخيرة والقسم الأول ، وهي المعاني الحرفية على التفصيل
المتقدم.
وبازاء هذه
الطوائف الخمس من الألفاظ موضوعة لها وكل هذه الأقسام خارجة عن محل الكلام كما لا
يخفى وجهه.
وهناك طائفتان
أخريان من الألفاظ موضوعتان للمركب من الذات والصفة والنسبة.
الأولى : ما وضعت
للذات المتصفة بإحدى تلك الصفات الذاتية والحقيقة والاعتبارية والانتزاعية
بقسميها.
والثانية : ما
وضعت للأحداث المنتسبة إلى الذات لا المصادر والأفعال ، ومحل الكلام هي الطائفة
الأولى ، ومحصل البحث أن الذات إذا اتصفت بإحدى تلك الصفات وعرت عنها بعد ذلك هل
يصح حمل المشتق عليها أم لا؟
وهذه الطائفة على
أقسام :
الأول : ما يحمل
على جزء الذات المتصف بالجزء الآخر كالناطق.
الثاني : ما يحمل
على الذات باعتبار اتصافها بالمبدإ المنتزع من مقام الذات ولا يحاذيه شيء في
الخارج كعنوان العلية.
الثالث : ما يحمل
على الشيء ويكون المبدأ فيه من الأعراض التسعة.
الرابع : ما يحمل
عليه باعتبار اتصافه بأمر انتزاعي كالسابقية والاشدية.
الخامس : ما يحمل
على الذات باعتبار اتصافها بأمر اعتباري كالمالكية.
لا إشكال ولا كلام
في دخول الأقسام الثلاثة الأخيرة في محل النزاع.
وأما القسم الأول
والثاني : فقد ذهب جمع منهم المحقق النائيني (ره) إلى خروجهما من محل النزاع.
واستدل للأول :
بان شيئية الشيء إنما تكون بصورته النوعية ، فإذا تبدل الإنسان بالتراب فما هو
ملاك الإنسانية وهي الصورة النوعية قد زالت ، وأما المادة المشتركة الباقية التي
هي القوة الصرفة فهي غير متصفة بالإنسانية ، فالمتصف زال والباقي غير متصف.
واستدل للثاني :
بان المحمولات فيه تتبع نفس العناوين الذاتية.
وقد عرفت خروجها
عن محل الكلام.
ولكن يرد عليهما
أن الهيئة في مثل الناطق والممكن ونحوهما لم توضع بوضع خاص ، بل لها وضع واحد ، في
جميع الموارد ، ومع جميع المواد.
__________________
ومحل الكلام أنها
، هل وضعت للمتلبس ، أو للأعم منه ، ومما انقضى عنه المبدأ؟
وعدم معقولية
الانقضاء في بعض الموارد لخصوصية في المادة ، لا يوجب خروجه عن محل البحث ، فان
شئت فاختبر ذلك من لفظ (سيال) فان له فردين ، أحدهما ما يمكن فرض عدم سيلانه
كالماء ، ثانيهما ما لا يمكن فيه ذلك كالزمان ، فهل يتوهم اختصاص النزاع بالأول
ولا يشمل الثاني.
فتحصل أن الأظهر
دخول جميع الأقسام في محل النزاع.
ومما ذكرناه ظهر
أن تعميم ـ المحقق الخراساني (ره) ـ محل الكلام للعرض والعرضي في محله ، إذ مراده بالعرضي
على ما صرح به في الاستصحاب هي الأمور الاعتبارية لا المبادئ ، التي لا يحاذيها
شيء في الخارج .
__________________
كي يرد عليه ما
أورده المحقق النائيني (ره) من عدم انطباقه على الأمثلة المذكورة في الكفاية من
الزوجية وما شابهها.
وأما ما ذكره هو
من كونه الزوجية من مقولة الإضافة المعدودة من الأعراض التسعة .
فغير تام : إذ هي
من الأمور الاعتبارية ذات الإضافة لا من مقولة الإضافة التي هي من جملة المقولات
التسع.
ثمرة هذا البحث
قال : المحقق
الخراساني (ره) بعد اختياره جريان النزاع في هذا القسم من الجوامد كما يشهد به ما
عن الإيضاح في باب الرضاع في مسألة من كانت له
__________________
زوجتان كبيرتان
أرضعتا زوجته الصغيرة ما هذا لفظه :
" تحرم
المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين وأما المرضعة الآخرة ففي تحريمها
خلاف ، فاختار والدي المصنف (ره) وابن إدريس تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في
المشتق بقاء المشتق منه". انتهى .
وحيث أن هذه ثمرة
متفرعة على هذا المبحث فلا باس ببيانها إجمالا.
ومحصله انه :
تارة يفرض عدم
الدخول بالكبيرتين.
وأخرى يفرض الدخول
بالمرضعة الأولى.
وثالثة يفرض
الدخول بالثانية.
وأما حكم صورة
الدخول بهما فهو يظهر من بيان حكم هذه الفروض.
أما في الفرض
الأول ، فقد يقال أنه يبطل عقد المرضعة الأولى ، وعقد الرضيعة : إذ الجمع بين الأم
والنبت كما لا يجوز حدوثا لا يجوز بقاء والمفروض تحقق الأمومة للمرضعة ، والبنتية
للمرتضعة فلا يمكن بقاء زوجيتهما وحيث لا يمكن الالتزام ببقاء زوجية إحداهما دون
الأخرى ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح ،
__________________
فلا مناص من
البناء على بطلان زوجيتهما معا.
ولكن الحق انه بعد
عدم إمكان بقاء زوجيتهما معا ، يتعين البناء على التخيير : فان الضرورات تتقدر
بقدرها ، فبالرضاع لا يمكن بقاء زوجيتهما ، ولا مانع من بقاء زوجية إحداهما بنحو
التخيير لإمكانه ثبوتا ، وتعينه في مقام الإثبات على ما حققناه في كتابنا فقه
الصادق في مسألة الجمع بين الأختين .
وأما ما أفاده في
الكفاية من احتمال الرجوع إلى القرعة .
فغير تام لأنه
إنما يرجع إليها فيما إذا كان هناك واقع معين عند الله مشتبه عندنا لا مثل المقام.
وأما المرضعة
الثانية ، فبطلان زوجيتها مبنى على مسألة المشتق. فلو بنينا على أن المشتق حقيقة
في المتلبس لا تبطل زوجيتها ، ولو بنينا على كونه حقيقة في الأعم ، بطلت لأنه يصدق
عليها أنها أم الزوجة هذا في بطلان الزوجية.
وأما الحرمة الأبدية
فلا إشكال في عدم حرمة الرضيعة ، إذا كان اللبن من الغير لاشتراط حرمة الربيبة
حينئذ بالدخول بأمها.
وان كان اللبن من
الزوج تحرم البنت مؤبدا وان لم يدخل بأمها كما دلت عليه النصوص ، وتصويره إنما
يكون ، بأن وطأها بشبهة ، فحملت منه ، وولدت ، ثم تزوجها ولم يدخل بها حتى أرضعت
الصغيرة.
__________________
وأما حرمة المرضعة
الأولى ، فهي تتوقف على كون المشتق حقيقة في الأعم ليصدق عليها أم الزوجة وإلا فلا
تحرم : فانه في آن تحقق البنتية والأمومة إما أن تبطل زوجية كلتيهما كما هو
المشهور أو زوجية إحداهما كما هو المختار ، وعلى أي تقدير لا يتحقق زمان تكون
البنت زوجة ، والمرضعة أمها.
ودعوى ان مرتبة
سقوط الزوجية متأخرة عن مرتبة سقوط الأمومة والبنتية ، ففي المرتبة الأولى تصدق أم
الزوجة على الأم فتحرم.
مندفعة بان
الأحكام الشرعية مترتبة على الموجودات الزمانية دون الرتبة.
وقد استدل فخر
المحققين (ره) لحرمتها بوجهين :
أحدهما : أن أم
الزوجة كبنت الزوجة تحرم إن اتصفت بالأمومة بعد خروج البنت عن الزوجية ، وظاهر
المحقق النائيني ارتضائه.
وفيه : أن ظاهر
الآية الكريمة" وأمهات نسائكم" والنصوص أن المحرم هي أم الزوجة ، وفي
النسب لا يتصور تحقق الأمومة بعد الخروج عن الزوجية بخلاف بنت الزوجة ، فدليل
محرمية الرضاع لا يصلح لإثبات حرمة من اتصف بالأمومة بعد خروج البنت عن الزوجية.
ثانيهما : انه
يكفي في الحرمة صدق المشتق ، وتحقق الزوجية في زمان فتدخل
__________________
في عموم قوله
تعالى" وأمهات نسائكم ".
وفيه : انه إن
أريد به كون المشتق حقيقة في الأعم فهذا الذي أشرنا إليه وسيأتي الكلام في المبنى
، وان أريد به أن صدق الزوجة على البنت في زمان ما كاف في حرمة أمها أبداً : إذ لم
تقيد حرمة أم الزوجة في الآية بكونها أم الزوجة الفعلية فيكفى في الحرمة كونها أم
الزوجة السابقة ، فيرد عليه أن ذلك خلاف ظاهر الدليل فان ظاهر كل عنوان مأخوذ في
الموضوع دخله في فعلية الحكم ودوران الحكم بقاء وارتفاعا مدار بقائه وارتفاعه.
وأما خبر علي بن
مهزيار عن أبى جعفر (ع) الوارد في المسألة" تحرم عليه الجارية وامرأته التي
أرضعتها أولا فأما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته" فمع الإغماض عن سنده ، يكون مختصا بصورة الدخول وتمام الكلام في كتاب النكاح.
وأما المرضعة
الثانية فقد استدل الشهيد الثاني لحرمتها ـ بعد ما نسبها
__________________
إلى الحلي والمحقق في النافع واكثر المتأخرين .
أولا : بصدق أم
الزوجة عليها لعدم اشتراط بقاء المعنى في صدق المشتق.
ثانيا : وبمساواة
الرضاع للنسب وهو يحرم سابقا ولاحقا.
والأول سيأتي
الكلام في مبناه.
والثاني يندفع بان
ظاهر الآية الكريمة كون الموضوع أم الزوجة الفعلية ولا تشمل أم من كانت زوجته ،
اضف إليه انه لا نظير لها في النسب كي يحرم مثلها في الرضاع ، وأم الزوجة ، وأم
الزوجة المطلقة إنما تحرم لصدق أم الزوجة الفعلية قبل الطلاق عليها فتحرم أبداً.
فان قيل أن المراد
بالنساء في الآية الشريفة بقرينة السياق ما يعم من كانت زوجة ولو في زمان سابق
بقرينة قوله تعالى وَرَبَائِبُكم اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ حيث أن المراد من النساء في هذه الجملة أعم من الزوجة
الفعلية فكذلك النساء في قوله تعالى" وأمهات نسائكم" توجه عليه أن إرادة
الأعم من النساء في الآية الأولى إنما استفيدت من الخارج لا من نفس الآية.
وأما في الفرض
الثاني فعن المحقق النائيني انه لا إشكال في تحريم
__________________
الرضيعة وأمها
وبطلان زوجيتهما لكون الرضيعة بنت الزوجة المدخول بها ، وكون الأم أم الزوجة ،
وتحريم المرضعة الثانية مبتنٍ على النزاع في المشتق.
أقول : إما بطلان
زوجية الرضيعة وحرمتها أبداً فلا ريب فيهما : لان بنت الزوجة المدخول بها محرمة
أبداً حتى البنت التي توجد بعد خروجها عن حبالته.
فان قيل لا دليل
على حرمة بنت الزوجة الرضاعية.
أجبنا عنه بورود
النص بها أضف إليه ما حققناه في محله من أن العنوان المتولد من
النسب والمصاهرة يوجب التحريم إذا كان الحاصل بالرضاع العنوان النسبي كما في
المقام.
مع انه في صورة
كون اللبن له تكون الرضيعة بنتا رضاعية له فتحرم.
وأما المرضعة
الأولى فلا أرى وجها لبطلان نكاحها (غير خبر على بن مهزيار المتقدم) فانه عند تحقق
الرضاع تخرج الصغيرة عن حبالته وفي ذلك الآن تتحقق الأمومة فليس هناك زمان خارجي
تتصف فيه الكبيرة بأنها أم الزوجة.
فقول المحقق
النائيني (ره) كون الأم أم الزوجة ، غير تام.
وغاية ما قيل في
وجه خروجها عن زوجيته وبطلان نكاحها
__________________
١ ـ إن أم الزوجة
كبنت الزوجة كما أن الثانية تحرم وان وجدت بعد خروج الأم عن الزوجية كذلك الأولى
فالكبيرة أم من كانت زوجته.
٢ ـ إن المشتق اعم
من المتلبس ومن المنقضي عنه المبدأ فيصدق عليها أم الزوجة بهذا الاعتبار.
٣ ـ انه لمكان
اتصال آخر زمان زوجية الصغيرة بأول زمان أمومة الكبيرة ، تكون كالمجتمع معها زمانا
فيصدق على المرضعة بعد هذه المسامحة العرفية أنها صارت أم الزوجة حقيقة.
٤ ـ إن بطلان
زوجية البنت في طول حصول الأمومة والبنتية ، ففي تلك المرتبة يصدق عليها أم الزوجة
فتحرم.
والكل كما ترى :
أما الأول : فلما
مر من أن ظاهر الآية الكريمة والنصوص أن المحرّم هي أم الزوجة وفي النسب لا يتصور
تحقق الأمومة بعد الخروج عن الزوجية بخلاف بنت الزوجة ، فدليل محرمية الرضاع لا
يصلح لإثبات حرمة من اتصفت بالأمومة بعد خروج البنت عن الزوجية.
وأما الثاني :
فسيأتي الكلام في المبنى.
وأما الثالث :
فلان المسامحات العرفية في تطبيق المفاهيم على المصاديق تضرب على الجدار.
وأما الرابع :
فلان الأحكام الشرعية مترتبة على الموجودات الزمانية دون الرتبية
فالأظهر أن مقتضى
القاعدة عدم خروجها عن الزوجية ولا يبطل نكاحها ، ولا يلزم منه الترجيح بلا مرجح.
وقد استدل لحرمتها
بالوجهين المتقدمين في الفرض الأول الذين استدل بهما لحرمتها وقد عرفت الجواب
عنهما.
وأما الإجماع ،
فلا يكون تعبديا كاشفا عن حجة.
نعم خبر علي بن
مهزيار دال على حرمة نكاحها ، والخدشة في سنده لو تمت ينجبر بالعمل.
وأما المرضعة
الثانية : فحكمها حكم المرضعة الأولى في المسألة المتقدمة وعرفت عدم حرمتها ويدل
على عدم حرمتها خبر علي بن مهزيار .
وأما في الفرض
الثالث : فحكم الرضيعة ، والمرضعة الأولى ، حكمهما في الفرض الأول.
وأما المرضعة
الثانية ففي فرض خروج الرضيعة عن الزوجية لا تحرم ولا تبطل نكاحها.
وقد استدل لبطلان
نكاحها بوجوه ولحرمتها بوجهين : تقدم الجميع في الفرضين السابقين مع أجوبتها ، ومع
بقائها على زوجيتها ، يكون حكم المرضعة الثانية ، حكم المرضعة الأولى المتقدم في
الفرض السابق.
__________________
ثم إن هذه إحدى
ثمرات هذا البحث فمن رجع إلى الفقه يقف على كثير من المسائل المبتنية على هذه
المسألة ، كما لا يخفى على المتتبع في الفقه.
النزاع عام لاسم الزمان
الثاني : ربما
يتوهم خروج اسم الزمان عن حريم النزاع.
واستدل له : بان
الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم فكيف يصح النزاع في انه إذا بقى الذات
المتصفة وزال الوصف هل يصح استعمال المشتق وإطلاقه عليه ، وأجيب عنه بأجوبة.
الأول : ما في
الكفاية : قال إن انحصار مفهوم عام بفرد كما في المقام لا يوجب أن يكون وضع اللفظ
بإزاء الفرد ، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة ، مع أن الواجب موضوع
للمفهوم العام مع انحصار فرده فيه تبارك وتعالى .
ويتوجه عليه :
أولا : أن الأولى
كان تبديل التنظير بالواجب بالإله : فانه ، لا خلاف في وضعه للمعبود بالحق المنحصر
هذا المفهوم فيه تبارك وتعالى ، وأما الواجب ، فهو عام له تعالى ولغيره مما وجب
بالشرع أو بغيره. نعم ، واجب الوجود بالذات منحصر فيه تعالى ولكن ليس له وضع خاص.
__________________
وثانيا : أن ما
ذكر من إمكان وضع لفظ لمفهوم ينحصر فرده ومصداقه في فرد واحد ، حق وواقع كما عرفت
، بل يمكن وضع اللفظ لمفهوم يمتنع وجود جميع أفراده ومصاديقه كشريك الباري لو كان
له وضع خاص ، إلا أن ذلك إنما يتم فيما إذا فرض للوضع فائدة بان يوجد مورد يستعمل
فيه ، كلفظ الإله : حيث انه يستعمل فيه ، في" لا إله إلا الله" وأما اسم
الزمان فوضعه لمفهوم عام شامل للمتلبس والمنقضي عنه المبدأ لا يترتب عليه فائدة
لعدم الحاجة إلى استعماله فيه في مورد.
وان شئت قلت : أن
ثمرة هذا النزاع ، يظهر فيما انقضى عنه المبدأ ، وأما في المتلبس فلا فارق بين
الطرفين فحيث لا مصداق لما انقضى عنه المبدأ في اسم الزمان ولا حاجة إلى استعمال
اللفظ فيه أو إطلاقه عليه ، فيلغو هذا البحث.
الثاني : ما ذكره
المحقق النائيني (ره) وهو انه كما في لفظ السبت وأول الشهر وغيرهما من أسماء
الأزمنة يكون الموضوع لها معان كلية ، لها أفراد تدريجية كذلك أسماء الأزمنة
المصطلحة تكون موضوعة لزمان كلى له أفراد تدريجية متصف بالوصف مثلا ، المقتل موضوع
لزمان كلي كيوم العاشر من المحرم الذي وقع فيه القتل ، وعليه فيكون الذات باقية مع
انقضاء الوصف .
وفيه : أولا : أن
المتصف بالوصف فرد من ذلك الزمان الكلي المفروض ، والمفروض انه انعدم ، وحدث فرد
آخر وهو غير متصف فلا موقع لهذا النزاع ، فهل يتوهم أحدٌ ـ جريان هذا النزاع فيما
لو كان زيد متصفا بالعلم فزال عنه
__________________
هذا الوصف ومات
وتحقق فرد آخر من الإنسان كعمرو ، فيقال إن طبيعي الإنسان كان متصفا بالعلم فقد
زال عنه الوصف ، وهو بذاته باق ـ كلا.
وثانيا : أن
الزمان الكلي المدّعى دخوله في الموضوع له يتصور على وجوه مثلا في المقتل يتصور
مفاهيم كليّة من الأزمنة بحسب أفراد القتل الخارجي ، ففرد منه واقع في يوم السبت ،
وآخر في يوم الأحد ، وهكذا فأيها يؤخذ في الموضوع له فتدبر حتى لا تبادر بالإشكال.
الثالث : ما ذكره
المحقق العراقي (ره) في مقالاته بما حاصله : إن ماهية الزمان كغيرها من التدريجات كالتكلم
ماهية خاصة في قبال الماهيات القارة ، وقد اخذ فيها التصرم والتدرج ، فإذا انبسط
عليها الوجود يظهرها بما هي عليه من التدرج فما دام ذلك الأمر التدريجي في سير
وجوده يكون ذلك شخصا خاصا من أفراد الطبيعة ، وعليه فإذا وقع في أول هذا الوجود
الخاص حدث وانعدم ، صح أن يقال إن هذا الوجود الخاص كان متصفا بهذا الوصف وانقضى
عنه ذلك.
وفيه : أن ما ذكر
من أن للزمان وحدة اتصالية ، وبهذه الجهة يصح أن يقال ، أن هذا الزمان هو الذي وقع
فيه هذا الأمر مع انه وقع في جزء منه.
متين إلا أن الوصف
لا يكون منقضيا بهذا الاعتبار ، ألا ترى انه يصح أن يقال إن قتل سيد الشهداء عليهالسلام وقع في هذا الدهر : فانه في مثل ذلك كما لا يكون الظرف
منقضيا ، لا يكون المظروف منقضيا ، ومحل الكلام إنما هو
__________________
إسناد ذلك العنوان
إلى الزمان المتأخر الذي انقضى المبدأ بالقياس إليه ، الملازم ذلك لفرض كل جزء من
الزمان بحياله ، ولا ريب في انه إذا لوحظ هكذا يكون كل جزء من الزمان مباينا مع
الجزء الآخر.
ولذا ترى انه لا
يصح أن يقال وقع قتل ابن بنت رسوله الله (ص) في ليلة العشرين من المحرم ، مع انه
يصح أن يقال وقع قتله في المحرم ، ونظيره انه لو ضرب زيد بيده يصح إسناد الضرب إلى
زيد باعتبار صدوره من يده ، ولا يصح إسناده إلى رجله ، ويقال ضرب برجله.
الرابع : ما ذكره
الأستاذ الأعظم ، وحاصله أن هذا الإشكال يبتني على أن تكون هيئات أسماء
الأزمنة موضوعة مستقلة ، في قبال هيئات أسماء الأمكنة ، ولكن بما أن الوضع فيها
واحد ، مثلا هيئة" مفعل" وضعت لظرف الفعل أعم من كونه زمانا أو مكانا
فلا يتم ذلك ، فانه قد تقدم منا أن المفهوم إذا كان بالقياس إلى بعض أصنافه أو
أفراده يتصور فيه الانقضاء ، وبالقياس إلى بعضها الآخر لا يتصور كالعالم : فانه
بالنسبة إلى الباري تعالى لا يتصور فيه الانقضاء ، وبالقياس إلى غيره يتصور ،
فيجرى النزاع في ذلك المفهوم ، وعليه ففي المقام بما أن بعض أصناف هذه الهيئة
يتصور فيه الانقضاء ، وبعضها لا يتصور فيه ذلك يجرى النزاع فيه.
وهذا هو القول
الفصل في المقام.
__________________
عدم دلالة الأفعال على الزمان
الثالث : قد مر أن
المصادر والأفعال خارجة عن محل النزاع : لأنها غير جارية على الذوات ، لان المصادر
وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذات ولا يقبل الحمل عليها ، والأفعال وضعت
للدلالة على نسبة المادة إلى الذات على أنحائها المختلفة ومعلوم أن معانيها هذه
تأبى عن الحمل على الذوات.
ثم أن المشهور بين
النحويين دلالة الأفعال على الزمان ولذا زادوا في حدِّ الفعل الاقتران بإحدى الأزمنة الثلاثة.
ولكن الظاهر أن
مراد النحويين من دلالة الفعل على الزمان ، ليس ما هو ظاهره من أن فعل الماضي ما
دل على وقوع الحدث في الزمان الماضي ، وفعل المضارع ما دل على وقوع الفعل في الحال
أو المستقبل.
كي يرد عليهم :
بان الفعل قد يسند إلى الزمان ، مثل مضى شهر رمضان ، وقد يسند إلى المحيط بالزمان
كما يقال أن الله تعالى تكلم مع موسى (ع) ، أو خلق الله الأرواح وما شاكل ذلك ،
فيلزم منه حينئذ القول بالمجاز أو التجريد عند الإسناد في هذه الموارد.
بل المراد أن فعل
الماضي موضوع لإفادة النسبة التحققية السبقية ، والمضارع
__________________
وضع لإفادة النسبة
التحققية السبقية ، والمضارع وضع لافادة النسبة التحقيقية المعيّة ، أو الآتية ،
وهو حق لا ريب فيه.
توضيح ذلك انه لكل
فعل مادة وهيئة ولكل منهما وضع خاص ، فالمادة موضوعة للطبيعة في ضمن أي هيئة كانت
، والهيئة موضوعة لمعنى خاص مع أي مادة كانت ، أما المادة فهي موضوعة لنفس الطبيعة
الخاصة المهملة ، ولم يؤخذ فيها التحقق ولا عدمه ، ولا كونها متعلقة لاعتبار من الاعتبارات
وعدمه ، وأما الهيئة فقد وضعت لإفادة فعلية ما للمادة من القابلية لعروض التحقق أو
عدمه عليها ، ولعل هذا هو المراد مما في الخبر الشريف : " الفعل ما أنبأ عن
حركة المسمّى" ، أي ما يكون مظهر الحركة المادة من القوة إلى الفعلية.
فان قيل أن هذا أمر
يشترك فيه الأفعال والجمل الاسمية فهذا التعريف للفعل لا يكون مانعا؟
اجبنا عنه أن
المقسم هي الكلمة ، والجمل خارجة عنه.
ثم أن هيئة فعل
الماضي تدل على تحقق المادة في الخارج قبل التكلم ، والقبلية في كل شيء بحسبه ،
ولازم ذلك فيما نسب إلى الزماني وقوعه في الزمان الماضي ، وهيئة فعل المضارع
موضوعة لإفادة أن الحدث يتحرك من القوة إلى الفعلية حين التكلم أو بعده.
وبعبارة أخرى تدل
على أن الحدث لم يتحقق سابقا بل يخرج من القوة إلى
__________________
الفعلية بعده ، لازم
ذلك انه إذا اسند إلى الزماني وقوعه في الزمان الحال أو المستقبل.
لا يقال : أن لازم
ما ذكرت عدم صحة أن يقال ، جاءني زيد في العام الماضي ، وكان يأكل ويجيء زيد بعد
عام ، وقد حج قبله بشهر.
فانه يقال : إن
هذين الاستعمالين صحيحان ، ويعبر عن الأول بالحكاية عن حال الماضي ، وعن الثاني
بالحكاية عن حال المستقبل ، بمعنى أن المتكلم في المثال الأول يفرض نفسه في الزمان
الماضي فكأنه يتكلم في ذلك الزمان ، وفي المثال الأول يفرض نفسه في الزمان
المستقبل.
وأما ما أفاده
المحقق النائيني (ره) من أن فعل المضارع ، وضع للدلالة على مبدئية الذات للحدث
فعلا فلا بد من دلالته على الاستقبال من إلحاق كلمة سين أو سوف .
ففيه : مضافا إلى
ما نرى من كثرة استعمال المضارع في المستقبل في القرآن والأخبار وغيرهما بلا قرينة
: أن لازم ذلك الالتزام بالاشتراك اللفظي بمعنى أن فعل المضارع وضع مرّة مع كلمة
سين أو سوف ، وأخرى وحده ، وإلا فيقع التهافت بين مفاد سين أو سوف وبين مفاد
الفعل.
وأما فعل الأمر
والنهى فسيأتي الكلام فيهما في الأوامر فانتظر.
__________________
اختلاف المشتقات في المبادئ
الرابع : قال في
الكفاية إن اختلاف المشتقات في المبادئ وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة ، وفي
بعضها قوة وملكة ، وفي بعضها فعليا لا يوجب تفاوتا في دلالتها بحسب الهيئة ولا في
بالجهة المبحوث عنها انتهى.
والظاهر أن غرضه (قدِّس
سره) من بيان اختلاف المبادئ ، هو رد ما توهم من انه من التسالم على كون بعض
المشتقات حقيقة في الأعم ، كما في التاجر ، والصائغ ، والمجتهد فإنها تصدق بعد
انقضاء المبدأ بلا كلام ، يستكشف الوضع للأعم.
ومحصل جوابه أن
المبدأ في هذه الموارد لم يؤخذ فيه التلبس ، بل في بعض الموارد يكون حرفة وصناعة
كما في التاجر والصائغ وفي بعضها قوة وملكة كالمجتهد ، وذلك سبب الاختلاف في
المتلبس والانقضاء فما دام لم تزل ملكة الاستنباط يكون التلبس فعليا كما أن الصائغ
ما لم يعرض عن شغله يكون متلبسا به ، ولو لم يكن متلبسا بالصياغة أو الاستنباط.
ويرد عليه انه لو
كان ذلك من ناحية المبدأ لزم الالتزام به في الأفعال المشتقة من تلك المبادئ مع
انه لا يصح أن يقال اجتهد ، أو اتجر ، أو صاغ مثلا ، بمعنى صار ذا ملكة في
الاستنباط أو ذا حرفة في التجارة أو الصياغة ، فيعلم من
__________________
ذلك انه ليس ذلك
من باب التفاوت في نفس المعنى.
والحق أن يقال انه
قد شاع استعمال هذه العناوين في من صار الاستنباط ملكة له ، واتخذ التجارة أو
الصياغة حرفة ، ولعله في بعض الموارد من جهة أن العرف لا يرون الفترات المتخللة بين
تلك الأعمال موجبة لانقطاعها لينتفي التلبس ، وفي بعض الموارد تكون الهيئة موضوعة
لإفادة صلاحية الموضوع لقيام المبدأ به ، كما في اسم الآلة كالمفتاح ، وفي بعض
الموارد شاع استعمال المادة المتهيئة بهيئة خاصة في من له القوة والملكة ، كما في
المجتهد ، وعلى كلٍّ ، الانقضاء في هذه الموارد إنما يكون بانتفاء الصلاحية ،
وزوال الملكة ، والأعراض عن الحرفة.
وبما ذكرناه يظهر
عدم تمامية ما أفاده من خروج اسم الآلة عن محل النزاع ، معللا بان الهيئة فيه
موضوعة لإسناد المبدأ إلى ما يقوم به بالتهيؤ والاستعداد بمعنى أنها موضوعة لإفادة
صلاحية الموضوع لقيام المبدأ به فلا يشترط فيه التلبس بالمبدإ أصلا ، بداهة صدق
المفتاح مع عدم التلبس بالفتح به في زمان من الأزمنة.
فان الانقضاء في
مثل ذلك إنما يكون بخروجه عن الصلاحية والقابلية.
وأوضح من ذلك
إيراداً ما أفاده من خروج اسم المفعول عن حريم النزاع ، بدعوى انه موضوع لمن وقع عليه الفعل ، وهذا المعنى مما
لا يعقل فيه
__________________
الانقضاء أبداً
بداهة أن الشيء بعد وقوعه لا ينقلب عما هو عليه فصدق المشتق حال تلبسه وانقضائه
على نحو واحد.
إذ يرد عليه أولا
: النقض باسم الفاعل ، فانه موضوع لمن صدر عنه الفعل ، ولازم البرهان المذكور عدم
انقضاء المبدأ فيه.
وثانيا : بالحل
وهو انه لم يوضع اسم المفعول لعنوان من وقع عليه الفعل ، بل هو موضوع لمن يكون
نسبة المبدأ إليه نسبة الوقوع وهذا المعنى يتصور فيه التلبس ، وعدم التلبس ،
والانقضاء كما لا يخفى.
بيان المراد من الحال في العنوان
الخامس : قد ذكروا
في عنوان البحث ، إن المشتق هل هو حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال أو
الأعم منه ومن المنقضي عنه ، وبما أن الحال صار قيدا لمحل النزاع لزم بيان معناه
ليتضح محل البحث ، ولذلك وقع الكلام فيه.
فعن جماعة أن
المراد به حال النطق.
وعن آخرين إن
المراد به حال التلبس وستعرف انه الأظهر.
وقد استدل للأول
بوجهين :
الأول : ما ادعاه
العضدي من الاتفاق ، على أن مثل زيد ضارب غدا ، مجاز.
وأجاب عنه في
الكفاية : بان الظاهر انه فيما إذا كان الجري في الحال كما هو قضية الإطلاق والغد
إنما يكون لبيان زمان التلبس فيكون الجري والاتصاف في الحال والتلبس في الاستقبال
انتهى .
وفيه : أن الظاهر
من القيد رجوعه إلى ثبوت المحمول للموضوع ، وعليه فيتحد مفاد هذه الجملة مع مفاد ـ
زيد سيكون ضاربا غدا ـ التي لا شبهة في كونها حقيقة ، وعلى فرض القرينة على عدم
رجوعه إلى ذلك يتعين رجوعه إلى الموضوع ، فيكون الموضوع زيد المقيد بكونه في الغد
، أي قطعة من قطعات استمرار وجوده الملازم لتقيد المحمول والنسبة ، أو إلى المحمول
، فيكون المفاد حينئذ أن زيدا هو الضارب المقيد بكونه في الغد الملازم ذلك لتقيد
النسبة ، وعلى التقديرين أيضا يكون هذا المثال حقيقة ، وأما رجوع القيد إلى جزء
المحمول ـ أي المبدأ فيكون المفاد ، زيد ضارب فعلا بالضرب المقيد بكونه في الغد
الذي ذكره المحقق الخراساني فالظاهر عدم صحته.
فالصحيح في الجواب
عنه أن هذا اشتباه من العضدي.
الثاني : انه إذا
حمل المشتق على شيء لا ريب في ظهوره في كونه متلبسا بمبدئه حال النطق ، فيعلم من
ذلك أخذه فيه.
وفيه : أن هذا
إنما يكون من جهة ظهور الحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد في التحقق ، في
اتحاد زماني التلبس والجري اللفظي ولا ربط له بما هو محل الكلام من تعيين مفهوم
المشتق في نفسه.
__________________
ولعل هذا هو مراد
المحقق الخراساني من قوله ، انهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق لا
تعيين ما يراد منه بالقرينة.
ثم أن المراد من
الحال ليس هو زمان التلبس لعدم اخذ الزمان ، في مفهومه ، لوجوه :
الأول : اتفاق أهل
العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان.
الثاني : انه قد
تسند المشتقات بما لها من المعاني بلا تجريد إلى من لا يعقل إحاطة الزمان به ،
مثلا : يقال انه تعالى عالم ، خالق إلى غير ذلك من الأوصاف.
الثالث : أن
المشتق مركب من مادة وهيئة ، والأولى موضوعة لذلك المعنى الحدثي ، والثانية موضوعة
لانتساب ذلك الحدث إلى الذات ولم يؤخذ في شيء من ذلك الزمان ، بل المراد من الحال
في العنوان ليس إلّا فعلية التلبس الملازمة ذلك لزمان التلبس في الزمانيات.
وقد يقال كما عن
بعض أكابر المحققين : بان عنوان البحث بهذا النحو الذي في الكلمات ، وهو الوضع
للمتلبس أو الأعم ، غلط واشتباه.
إذ اللفظ لم يوضع
لشيء منهما وإنما وضع للماهية : إذ النزاع على الوجه المزبور مستلزم لفرض اخذ
التحقق الخارجي في الموضوع له كي ينازع في أن الموضوع له هو خصوص التلبس أو الأعم
ولم يؤخذ التحقق الخارجي فيه ، وإنما الموضوع له هي الطبيعة من حيث هي القابلة
لحمل الوجود والعدم عليها ،
__________________
ولذا يصح استعمال
القائم في معناه ولو لم يكن له مصداق خارجي ، فالموضوع له في القائم مثلا إنما هو
الذات المنتسب إليها القيام.
بل النزاع لا بد
وان يكون في مصداق هذا المفهوم ، وانه ، هل يصدق من انتسب إليه القيام سابقا أو
ينتسب إليه فيما بعد ، أم يختص بمن نسب إليه فعلا ، ثم اختار هو صدقه على الجميع.
ثم أورد على نفسه
: بان ذلك ينافي اتفاق الأصوليين على أن المشتق لا يصدق حقيقة على من لم يلتبس
بالمبدإ وان كان يتلبس به فيما بعد.
وأجاب عنه : بأنه
بعد مساعدة الدليل المؤيد بما نرى استعمال المشتق في المتلبس به في المستقبل ،
كاستعمال ـ محيى السنن ومميت البدع ـ في ولى العصر روحي له الفداء ، والمعذب
بالنار في الله تعالى ، لا يعتني بمخالفة القوم.
ثم قال : إن هذا
الاشتباه لا يختص بالأصوليين بل الفلاسفة أيضا وقعوا في الاشتباه من هذه الجهة ،
إذ لو كان الموضوع له هي الطبيعة ، لا معنى للنزاع المعروف بين المعلم الثاني
والشيخ الرئيس في الأوصاف ، حيث أن الأول اكتفى بإمكان التلبس والثاني زاد قيد
الفعلية ، ولذا قد يحمل عليه الممتنع ، فإذا كان الإمكان أو الفعلية مأخوذا في
الموضوع له لما أمكن حمل الممتنع عليه.
أقول : ما ذكره (قدِّس
سره) من أن الموضوع له هي الطبيعة والماهية ، متين ومما لا كلام فيه.
ولكن إشكاله ـ على
الفلاسفة كإشكاله على الأصوليين مبتنيا على ذلك ـ غير تام.
أما الأول : فلان
النزاع المعروف ، ليس في تعيين الموضوع له ، بل صرح الجميع بالوضع للماهية ، وإنما
يكون كلامهم في القضايا الحقيقية التي رتب الأحكام والمحمولات على المصاديق ، وعلم
من الخارج عدم إرادة الماهيات من حيث هي من الأوصاف المجعولة موضوعات في تلك
القضايا مثل ، النار محرقة ، فوقع النزاع في أن المحمولات في هذه القضايا مترتبة
على الأفراد الفعلية ، أم ثابتة للأفراد الممكنة أيضا.
وأما الثاني :
فلان محل النزاع بينهم بعد تسليم الوضع للماهية ، أن الموضوع له هي الطبيعة
الصادقة على خصوص المتلبس ، أم ما يكون أوسع من ذلك ولها مصداق آخر وهو المنقضي
عنه المبدأ.
وما ذكره من أن
النزاع إنما يكون في المصداق لا المفهوم ، اشتباه.
إذ النزاع في
المصداق يتصور على وجهين :
الأول : فيما كان
حدود المفهوم معلوما وكان الشك في المصداق من جهة الأمور الخارجية ، ومثل ذلك لا
يليق بالأصولي أن يبحث عنه.
الثاني : أن يكون
الشك في المصداق لأجل إجمال المفهوم كما في الغناء ، وفي مثل ذلك لو انعقد البحث
للتعيين ، لا بد وان يكون في المفهوم وتعيين حدوده ، وبه يرفع الشك في المصداق.
ثم لو تنزلنا عن
ذلك وسلمنا تعين المفهوم في المقام وهو الذات التي بينها وبين المبدأ نسبة ، وفرض
الشك والنزاع في المصداق ، لا نسلم صدق هذا المفهوم على من لم يتلبس بالمبدإ وإنما
يتلبس به فيما بعد ، والاستعمال في
الأمثلة المذكورة
في كلامه إنما يكون بلحاظ حال التلبس وإلا لما صح.
تعيين ما يقتضيه الأصل
السادس : قال صاحب
الكفاية لا اصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك .
ما أفاده متين إذ
لا اصل يتوهم كونه مرجعا عند الشك ، إلا أصالتي عدم لحاظ الخصوصية وعدم الوضع
للخاص ، وهما معارضتان مع أصالة عدم لحاظ العموم ، وعدم الوضع للعام.
ودعوى عدم جريان
أصالة عدم الوضع للخاص للوضع له على أي تقدير.
كما انه لا تجرى
أصالة عدم لحاظ العموم للحاظه ، إما مستقلا ، أو في ضمن لحاظ الخاص.
مندفعة : بأن
العموم والخصوص إنما هما في الصدق على الخارج ، وأما في المفهوم والمدرك العقلاني
، فكل مفهوم يباين مفهوما آخر وان كان بينهما عموم مطلق في المصاديق ، فعند دوران
الأمر بين لحاظ العام ، أو الخاص ، لا متيقن في البين ، كما انه لا متيقن عند
الدوران بين الوضع للعام أو الخاص ، وان شئت فقل إن لحاظ العام في ضمن الخاص لا
يفيد في الوضع للعام ، بل المفيد إنما هو لحاظه مستقلا.
__________________
أضف إلى ذلك أن
الأصلين المزبورين بعد عدم كونهما من الأصول العقلائية ، لا يجريان في أنفسهما ،
إذ لا يثبت بهما الوضع للخاص كما هو واضح فلا بد من الرجوع إلى الأصل في المسألة
الفقهية.
والكلام فيه في
مقامين :
الأول : فيما
يقتضيه الأصل اللفظي.
الثاني : في مقتضى
الأصول العملية.
أما المقام الأول
: فإذا ورد عام مثل قوله تعالى : (وَلا يَغْتَب بَعْضُكُم
بَعْضاً) وخصص ذلك بما اخذ في موضوعه عنوان اشتقاقي مثل ما دل على
جواز غيبة المعلن بالفسق ، فبالطبع بعد الشك في كون المشتق حقيقة في الأعم يشك في
أن من كان متلبسا سابقا بهذا الوصف وانقضى عنه المبدأ هل يكون باقيا تحت العام أو
هو مشمول لدليل الخاص والفرض كون الشبهة مفهومية ، فحينئذ إن كان المخصص متصلا
يصير العام مجملا ، ففي مورد الشك لا يمكن التمسك بالعام ولا بالخاص ، وان كان
منفصلا كما في المثال ، ففي المقدار المتيقن دخوله تحت عنوان الخاص يؤخذ بالخاص ،
وفي الزائد منه يرجع إلى العام كما حقق في محله.
وأما المقام
الثاني : فعن جماعة منهم المحقق الخراساني ، انه يرجع إلى
__________________
الاستصحاب إذا كان
الانقضاء بعد فعلية الجواز ، وإلا البراءة إذا كان قبله .
ولكن الأظهر عدم
جواز الرجوع إلى الاستصحاب في الفرض الأول أيضا ، وذلك لوجهين :
أحدهما : عدم
جريان الاستصحاب في الأحكام ، لكونه محكوما لاستصحاب عدم الجعل ، كما حققناه في
هذا الكتاب في مبحث الاستصحاب.
ثانيهما : ما
ذكرناه في ذلك المبحث تبعا للشيخ الأعظم ، من انه إذا تردد الموضوع بين الزائل
والباقي ، كما لو انقلب الكلب واستحال ملحا ، وشك في نجاسته ، من جهة الشك في أن
معروض النجاسة ، المادة المشتركة الباقية ، أو الصورة النوعية الزائلة ، لا يجرى
استصحاب بقاء الحكم ، حتى على القول بجريانه في الأحكام الكلية الشرعية ، ولا
استصحاب بقاء الموضوع.
أما عدم جريان
استصحاب الحكم فللشك في بقاء موضوعه.
وأما عدم جريان
الاستصحاب الموضوعي فلعدم الشك في الموجود الخارجي ، وتمام الكلام في محله.
وعلى ذلك فلا يجرى
الاستصحاب في المقام حتى فيما كان الإيجاب قبل الانقضاء ، لا الاستصحاب الحكمي ولا
الموضوعي.
ولا يخفى انه على
فرض جريان الاستصحاب الموضوعي لا فرق بين الصورتين فيجرى فيما إذا كان الإيجاب بعد
الانقضاء أيضا بناء على ما هو
__________________
الحق من انه لا
يعتبر في جريان الاستصحاب سوى ترتب الأثر حين الشك ، ولا يعتبر كون المستصحب ذا
اثر شرعي حين ما كان متيقنا.
وبذلك يظهر أن
مراد المحقق الخراساني من الاستصحاب هو الاستصحاب الحكمي ، وعليه فيرد عليه
الإيرادان.
فالمتحصل أن
المتعين هو الرجوع إلى البراءة في الموردين.
ما يدل على المختار في وضع المشتق
ثم انه يقع الكلام
بعد تمهيد هذه الأمور في اصل المسألة وفيها أقوال :
إلا انه كما أفاده
المحقق الخراساني أنها حدثت بين المتأخرين ، وإلا فالمسألة في الأصل ذات قولين بين
المتقدمين ، الوضع مطلقا لخصوص المتلبس ، أو للأعم منه ومن المنقضي
عنه المبدأ.
والأظهر تبعا
للمحققين من المتأخرين ، انه موضوع لخصوص المتلبس.
وذلك بناء على كون
مفهوم المشتق بسيطا ، وانه نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط ، فواضح ، إذ عليه لا يتصور
الجامع بين المتلبس ، والمنقضي عنه ، فان المشتق حينئذ ملازم لصدق نفس المبدأ ومع
انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي ، فأي جامع يتصور بين وجود الشيء وعدمه ، كي يقال
انه الموضوع له.
__________________
فان قيل على هذا
لا بد من الالتزام بعدم جواز استعمال المشتق في المنقضي عنه المبدأ مجازا ، إذ أي
علاقة تتصور بين وجود الشيء وعدمه ، مع انه يجوز بلا كلام ، فيستكشف من ذلك عدم
تمامية هذا البرهان.
اجبنا عنه ، بان
وجه صحة الاستعمال حينئذ بقاء الذات المتصفة بالعنوان الاشتقاقي حين الاتصاف ،
وهذا هو الفارق بين المشتق ، والعنوان الذاتي كالإنسان ، حيث انه يصح استعمال
المشتق في المنقضي عنه المبدأ مجازا ، ولا يصح استعمال العنوان الذاتي بعد زوال
الصورة النوعية.
وأما على القول
بالتركب وان المشتق موضوع للذات مع المبدأ.
فقد يقال كما عن
المحقق النائيني بلزوم الالتزام بالوضع للأعم ، لان الركن الوطيد في المفهوم الموضوع له هو الذات ،
وانتساب المبدأ إليها كأنه جهة تعليلية لصدق المشتق عليها ، وعليه فحيث انه من
المعلوم انه لم يؤخذ الزمان قيدا في المفهوم الموضوع له ، والذات تكون باقية بعد الانقضاء.
فلا محالة يصدق المشتق عليها بحسب اقتضاء طبع المعنى ، وهذا بخلاف من لم يتلبس به
بعد ، فانه لأجل عدم تحقق الانتساب لا يصدق المشتق على الذات.
ولكنه (قدِّس سره)
رجع عن ذلك وبنى على أن الموضوع له خصوص المتلبس
__________________
على هذا القول
أيضا ولنعم ما أفاد.
وحاصله انه لا بد
من القول بالوضع لخصوص المتلبس حتى على هذا القول لأنه لا يتصور الجامع حتى بناء
على التركب : فان مفهوم المشتق على هذا القول ليس هي الذات المطلقة مع المبدأ بل
هي الذات المتقيدة به والمتصفة بوصف ما ، وبعبارة أخرى الذات مع المبدأ ، وبما انه
لا جامع بين الذات الواجدة لصفة ، والذات الفاقدة له إلا من ناحية الزمان والمفروض
انه لم يؤخذ في مفهوم المشتق وليس شيء آخر جامع بين المتلبس والمنقضي عنه مأخوذا
فيه ، فيتعين كونه موضوعا لخصوص المتلبس ، بعد عدم كونه موضوعا لخصوص المنقضي عنه
، ولا لهما بالاشتراك اللفظي.
وأورد على هذا ،
المحقق العراقي (قدِّس سره) ، بأنه على القول بوضع المشتق للذات والمبدأ والنسبة
فإن تصوير الجامع في غاية الوضوح إذ عليه يكون مفهوم المشتق هي الذات المنتسب
إليها المبدأ نسبة ما ، ولا ريب في انه قدر جامع بين الفردين ، وينطبق على كل
منهما بلا عناية .
وفيه : أن المفهوم
المركب من شيئين أو أزيد ينعدم بانعدام أحد جزئية أو أجزائه.
__________________
وعليه فان كان
المراد من نسبة ما ، اعم من النسبة الفعلية والسابقة فيرجع ذلك إلى اخذ الزمان في
مفهوم المشتق والمفروض عدمه ، وان كان المراد ذلك مع عدم اخذ الزمان فهو لا يرجع
إلى محصل.
وان كان المراد هي
النسبة الفعلية ، فهو لا يصدق على المنقضي عنه ، وبالجملة المفهوم المركب من الذات
والمبدأ والنسبة بلا اعتبار شيء آخر لا يصدق إلا في صورة فعلية المبدأ.
فالأظهر انه لا
جامع بين المتلبس والمنقضي عنه ، فالوضع للأعم مما لا معنى له ، وحيث أن الوضع
لخصوص المتلبس مما لا ريب فيه ، والوضع الآخر لخصوص المنقضي عنه مفروض العدم ، فلا
محالة يكون الموضوع له خصوص المتلبس ، فالاستعمال في المنقضي عنه يكون مجازا.
وقد استدل للوضع
لخصوص المتلبس بوجوه أخر غير ما قدمناه.
الأول : ما في
الكفاية قال ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال .
ويرده انه لو أريد
إثبات الوضع للمتلبس فهو ليس محل الخلاف ، وان أريد به انه لا يتبادر منه المنقضي
عنه المبدأ فيكون ذلك آية عدم كونه الموضوع له فهو يتوقف على كون عدم التبادر
علامة المجاز ، وقد مر انه ليس كذلك.
الثاني : صحة
السلب عما انقضى عنه المبدأ كالمتلبس به في الاستقبال ،
__________________
لوضوح أن مثل
القائم والعالم والضارب وما يرادفها من سائر اللغات لا يصدق على من تلبس بها قبل
الجري والانتساب ولم يكن متلبسا بها حينه ويصح سلبها عنه.
ولا يخفى أن هذا
الوجه يتم لو أريد من صحة السلب باعتبار الحمل الشائع ، بان يقال انه يصح سلب
عنوان المشتق مثل العالم بما له من المعنى المرتكز عما انقضى عنه المبدأ وذلك
علامة عدم الوضع للأعم إذ لو كان للأعم لما صح سلبه عما هو بعض مصاديقه ، وصحة
السلب بهذا المعنى علامة للمجازية سواء كان القيد أي زمان الحال قيداً للسلب ، أو المسلوب
، أو المسلوب عنه.
أما الأول فلأنه
حينئذ علامة عدم الوضع للجامع وإلا لما صح سلبه عن مصداقه في حين من الأحيان.
وأما الثاني فلأنه
إذا لوحظ المسلوب في حال الانقضاء وسلب عن الذات مطلقا يكون ذلك منافيا للوضع
للأعم فان المادة المقيدة كعدم كون زيد ضاربا بضرب اليوم وان لم تكن منافية للوضع
للأعم ، لعدم منافاته لكونه ضاربا فعلا بضرب الأمس ، إلا أن الهيئة المقيدة تكون
منافية له كما هو واضح.
وأما الثالث فلأنه
إذا قيد الذات بحال الانقضاء وسلب عنها مطلقا مطلق الوصف كان ذلك إمارة عدم الوضع
للجامع.
وبما ذكرناه اندفع
الإيراد على هذا الوجه :
بأنه إن أريد بصحة
السلب صحته مطلقا ، فغير سديد ، وان أريد مقيدا
فغير مفيد ، لان
علامة المجاز هي صحة السلب المطلق .
فانه يرده أن غير
المقيد هو تقيد المادة لا الهيئة.
كما ظهر أن ما
أجاب به المحقق الخراساني (ره) من انه لو أريد تقييد المسلوب الذي يكون سلبه اعم من سلب
المطلق ، فصحة سلبه وان لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه ، إلا أن تقييده
ممنوع.
فانه قد عرفت انه
وان أريد تقييد المسلوب ، بمعنى تقييد الهيئة ، لا المادة ، يكون ذلك علامة على
المجاز.
ويمكن تقريب
علامية صحة السلب بنحو الحمل الذاتي للمجازية بان صحة سلب المشتق بما له من المعنى
المرتكز في الأذهان عن المفهوم الأعم لا عن خصوص المنقضي عنه المبدأ ، يكشف عن عدم
الوضع للجامع.
ولكن يرد عليه ما
تقدم من عدم الجامع بين خصوص المتلبس وما انقضى عنه المبدأ فتأمل جيدا.
الثالث : انه لا
ريب في انه كما يكون التضاد بين المبادئ المتضادة ، كالسواد
__________________
والبياض ، والقيام
والقعود ، والحركة والسكون ، وما شاكل ، كذلك يكون بين مشتقاتها أيضا مضادة ،
فالقائم يضاد القاعد ، والأسود يضاد الأبيض ، والمتحرك يضاد الساكن ، وعليه فلو
كانت الذات متصفة بأحدها وانقضى عنه المبدأ ـ كمن كان قائما فقعد ـ يصدق عليه ما
يضاد العنوان الأول أي يصدق عليه القاعد ، فحيث يكون هذا العنوان مضادا للقائم فلا
يصدق عليه القائم حينئذ فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينهما مضادة بل
مخالفة لتصادق العنوانين على من كان قائما فقعد.
وأورد عليه بأن
التضاد بين المبادئ وان كان لا ينكر ، إلا انه يمكن أن يكون وضع الهيئة بنحو يوجب
ارتفاع التضاد. بمعنى أن التضاد إنما يكون بين المبادئ ، وهذا لا يلازم التضاد بين
المشتقات ، والمدّعي للوضع للأعم يدّعي ذلك .
وأجاب عنه المحقق
الخراساني (ره) بثبوته بين المشتقات أيضا بحسب ما ارتكز لها من المعاني في الأذهان
كما في مباديها .
وأيده بعض
المحققين (ره) بانا نرى بالوجدان انه لو اخبر شخص ، بان زيدا قائم ،
واخبر آخر بأنه قاعد ، يرى العرف بحسب ما ارتكز لهما من المعنى في أذهانهم التنافي
والتضاد بينهما.
__________________
أقول أن هذا
التضاد أيضا لا ينكر ، إلا انه يمكن أن يكون من جهة أن ظاهر الحمل الشائع اتحاد
زماني الجري والنسبة مع زمان التلبس ، لا من جهة ظهور المشتق في نفسه في ذلك.
أدلة القول بالوضع للأعم
وقد استدل للقول
بالوضع للأعم بوجوه :
أحدها : التبادر :
وقد مر الكلام فيه.
ثانيها : عدم صحة
السلب في مضروب ومقتول عمن انقضى عنه المبدأ.
وأورد عليه المحقق
الخراساني بان عدم صحته في مثلهما إنما هو لأجل انه أريد من المبدأ معنى يكون
التلبس به باقيا في الحال ولو مجازا .
وفيه : مضافا إلى
أنَّا لا نتعقل إرادة معنى من الضرب أو القتل يكون باقيا بعد انقضاء المعنى الحدثي
: انه بالوجدان لا يتصرف في مادتي الضرب والقتل إذا هيئتا بهيئة المفعول بل الظاهر
انه أريد بهما في ضمنهما ، ما يراد منهما إذا كانتا بهيئة الفاعل.
فاختصاص اسم
المفعول بعدم صحة السلب ، دون اسم الفاعل ، مع انهما متضائفان ، غير سديد.
__________________
فالصحيح في الجواب
أن يقال إن كثرة استعمال اسم المفعول فيما انقضى عنه المبدأ ولو بلحاظ حال التلبس
، أوجب عدم ظهوره في اتحاد زمان النسبة والتلبس عند لإطلاق والحمل وأوجب ذلك توهم
عدم صحة السلب ، وذلك لا ينافي وضعه لخصوص المتلبس.
ثالثها :
استدلالهم (ع) بقوله تعالى : لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا للخلافة تعريضا بمن
تصدى لها ممن عبد الصنم. ومن الواضح توقف ذلك على كون المشتق موضوعا للأعم ، وإلا
لما صح التعريض لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة.
تنقيح القول في
المقام أن الظاهر كون استدلال الإمام (ع) بظاهر الآية ، فلا يصح أن يقال انه
استدلال بباطنها ، وأيضا المفروض في الاستدلال أن المراد بالعهد هو الإمامة
والخلافة لا النبوة كما عن جماعة من المفسرين ، وأيضا المفروض في الآية شمول الظلم للظلم بالنفس وان من
ليس بمعصوم فهو ظالم إما لنفسه أو لغيره وهو كذلك.
__________________
ثم أن القوم
أجابوا عن الاستدلال بها على الوضع للأعم بوجوه :
١ ـ ما في الكفاية
وهو انه يمكن أن يكون استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس فيكون معنى الآية : إن من
كان ظالما ولو آنا ما في الزمان السابق لا ينال عهدي أبداً .
وفيه : أن الظاهر
من إطلاق المشتق إن التلبس حاصل حال النسبة لا قبلها ، وبعبارة أخرى أن الظاهر
اتحاد زماني التلبس والنسبة الحملية أو إسناد الحكم إليه فالظاهر من الآية عدم نيل
الخلافة في حال الظلم.
٢ ـ ما فيها أيضا
، قال : إن الآية الشريفة في بيان جلالة قد الإمامة والخلافة وعظم خطرها ورفعة
محلها وان لها خصوصية من بين المناصب الإلهية ، ومن المعلوم أن المناسب لذلك هوان
لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا انتهى .
ويرده انه مجرد
استحسان لا يصلح أن يكون صارفا عما هو المستفاد من ظاهر الآية.
٣ ـ ما أفاده
المحقق النائيني (ره) أن استدلال الإمام (ع) بالآية مبتن على أن يكون حدوث الظلم
ولو آنا ما علة لعدم نيل الخلافة حدوثا وبقاءً ، وحيث أن هذه القضية قضية حقيقية
ففعلية موضوعه فمن اتصف بالظلم في زمان ما
__________________
يشمله الحكم قطعا
وهو أن عهد الله لا يناله أبداً.
وفيه : إن كون
القضية حقيقية يقتضي خلاف ما أفاده فإن الظاهر من القضية الحقيقية بضميمة ظهور
العنوان المأخوذ في الموضوع في كون فعليته مدار فعلية الحكم حدوثا وبقاء ، إن عدم
النيل بالخلافة إنما يكون ما دام كون المتقمص بها متلبسا بالظلم ، وكفاية التلبس
بالظلم آنا ما في عدم النيل بالخلافة خلاف الظاهر.
٤ ـ ما أفاده
المحقق العراقي (ره) ، وحاصله انه لا ريب في عدم اختصاص الحكم في الآية الكريمة
بخصوص الكافر ، بل تشمل كل ظالم ، وحيث أن بعض أفراد الظلم آني الوجود ولا دوام له
كضرب اليتيم ، فيدور الأمر بين أن يكون الموضوع عنوان الظالم ، وبين أن يكون هو
نفس فاعل الظلم ويكون الظلم علة لطرو الحكم عليه ولكن جعل العنوان هو الموضوع
متوقف على وضعه للأعم من المتلبس وحيث لا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر فلا يصح
الاستدلال.
وفيه : أن ظاهر
القضية كون العنوان المأخوذ في الموضوع مما يدور الحكم مداره ولا يتوقف ذلك على
وضع المشتق للأعم ، بل هذا الظهور قرينة على اختصاص الآية ببعض أفراد الظلم ولا
تشمل جميعها ، لان ظهور القرينة مقدم على ظهور ذي القرينة.
٥ ـ ما أفاده شيخ
الطائفة من أن من تلبس بالظلم تناولته الآية في حال كونه ظالما فإذا نفى أن يناله
فقد حكم عليه بأنه لا ينالها ولم يقيد أنه لا ينالها في
__________________
هذه الحال دون
غيرها فيجب أن تحمل الآية على عموم الأوقات في ذلك ولا ينالها وان تاب فيما بعد .
وإلى ذلك نظر
الفخر الرازي فانه لما تعرض لتفسير هذه الآية الشريفة وذكر استدلال
الشيعة بها على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهية لأنهم كانوا عابدين
للصنم مدة مديدة ، أجاب عنه بان استدلالهم إنما يتم بناء على كون المشتق حقيقة في
الأعم من المنقضي عنه والمتلبس به وهو ممنوع.
قال ـ إيرادا على
نفسه ـ انهم فيما كانوا متلبسين بالظلم شملهم قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين
فدلت الآية الكريمة على عدم لياقتهم للخلافة أبداً ، فان تم ذلك وإلا فيتعين
الالتزام بان الإمام (ع) فسرها بما هو عالم بالمراد منها واقعا وان لم تكن الآية
ظاهرة فيه ، وليس في الروايات على كثرتها حتى ما روى عن النبي (ص) ما يشهد بكون
الاستدلال بظاهر الآية الشريفة.
ثم إن تمام الكلام
في تفسير هذه الآية الكريمة واستفادة اعتبار العصمة في الإمام (ع) منها سيما
بقرينة ما قبلها من الآية ودلالتهما على انفصال الإمامة عن النبوة ، وان النبي
ربما يكون إماما وقد لا يكون إماما ، وان منزلة الإمامة ارفع من رتبة النبوة ،
وغيره ذلك من الدقائق والمعارف الحقة موكول إلى محله.
الرابع : إن آية
حد السارق والسارقة ، وآية حد الزاني والزانية تدلان على
__________________
أن المشتق حقيقة
في الأعم فان ظاهر الآيتين كون الجري متحدا زمانا مع وجوب القطع والحد ، وضروري أن
الحكمين إنما يكونان ثابتين لمن انقضى عنه المبدأ.
وقد استدل بهما
للتفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به باختيار عدم الاشتراط في الأول كما في
الكفاية .
ويرده أن إرادة
المنقضي عنه المبدأ مع القرينة ، لا محذور فيها ، وليست هي محل الكلام والخلاف.
والتمسك بأصالة
الحقيقة لإثبات كون المستعمل فيه هو المعنى الموضوع له.
قد عرفت مرارا انه
، غير تام : لأنه إنما يرجع إليها لتشخيص المراد بعد معلومية الموضوع له ، لا
لتشخيص الموضوع له بعد معلومية المراد ، أضف اليه انه يمكن أن يكون الجري بلحاظ حال
التلبس وان كان ذلك أيضا خلاف الظاهر.
مع أن الاستدلال
بهما للتفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به ، واضح البطلان كما أفاده المحقق
الخراساني لوضوح بطلان تعدد الوضع حسب وقوعه محكوما عليه أو به.
وبما ذكرناه ظهر
مدارك سائر الأقوال وما يرد عليها.
كما ظهر أن الحق
كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ.
__________________
في بساطة مفهوم المشتق وتركبه
وينبغي التنبيه
على أمور :
الأمر الأول : أن
مفهوم المشتق هل هو بسيط ، أو مركب.
وملخص القول فيه
أن ، عمدة الأقوال في المسألة التي تصلح أن تقع مورد النقض والإبرام ثلاثة :
الأول : أن مفهوم
المشتق مركب من الذات والمبدأ والنسبة ، اختاره جمع من الأساطين ، منهم الأستاذ
الأعظم ، ولعله الأقوى.
الثاني : أن مفاده
الحدث المنتسب إلى الذات ، فيكون مفهومه مركبا من المبدأ والنسبة. اختاره المحقق
الشريف ، وتبعه المحقق العراقي.
لا يقال أن المحقق
الشريف يصرح بالبساطة فكيف ينسب إليه هذا القول.
فانه يقال أن
مراده بالبساطة على ما ظهر من استدلاله عدم اخذ الذات في مفهومه.
الثالث : أن مفاد
المشتق هو المبدأ الملحوظ اتحاده مع الذات ويكون الذات والنسبة خارجتين عن مدلوله
، اختاره المحقق الدواني ، وتبعه المحقق النائيني .
__________________
وقبل الشروع في
بيان أدلة الأقوال ينبغي التنبيه على أمرين :
الأول : أن محل
الكلام ومورد النقض والإبرام ليس هو التركب والبساطة بحسب اللحاظ والتصور : فان
بساطته بهذا النحو مورد اتفاق الجميع : إذ لم يدع أحد أن تصور القائم ـ مثلا ـ عبارة
عن تصور مفاهيم الشيء والقيام والنسبة ، ولا ريب في انه إذا سمع العاقل لفظ القائم
لا يتصور ولا ينتقل ذهنه إلا إلى معنى واحد بل محل الكلام إن مفهوم المشتق بحسب
التحليل العقلي ، هل هو شيء واحد ، أم مركب من شيئين أو ثلاثة أشياء.
الثاني : أن من
يدّعي اخذ الذات في مفهوم المشتق إنما يدّعي اخذ المفهوم فيه ، والمراد به على ما
ستعرف ، هو المعنى المبهم من جميع الجهات غير جهة قيام المبدأ به ، لا اخذ الذوات
الخاصة حسب اختلاف الموارد كي يلزم كون المشتق من قبيل متكثر المعنى ، إذ لا ريب
في أن المشتق الذي يستعمل في موارد مختلفة كالقائم ، إنما يكون له معنى واحد.
__________________
مع أن لازم الوجه
الآخر عدم انتقال الذهن إلى معنى مع عدم استناده إلى ذات خاصة ، وذكره منفردا ،
وهو خلاف الوجدان.
وبما ذكرناه من
الأمرين تقدر على دفع جملة مما أورد على القول بالتركب.
وكيف كان فقد
استدل المحقق الشريف لعدم اخذ الذات في مفهوم المشتق ، في هامش شرح المطالع ،
في مقام الاعتراض على الشارح ، حيث أجاب عما توهم من عدم تمامية ما ذكره المشهور
في تعريف الفكر ، بأنه ترتيب أمور معلومة لتحصيل المجهول لأنه ربما يقع المعرف
مفردا كالتعريف بالفصل القريب ، أو العرض العام .
بان ما وقع في
التعريف من قبيل المشتق وهو مركب ، لأنهما ينحلان إلى شيء ثابت له المبدأ المأخوذ
فيه فيكون في الحقيقة ترتيب أمور معلومة.
بما حاصله أن
الشيء لا يمكن أخذه في مفهوم الناطق مثلا ، إذ لو كان المراد اخذ مصداق الشيء فيه
لزم انقلاب مادة إلا مكان الخاص ضرورة ، بداهة أن ما
__________________
صدق عليه الشيء هو
الإنسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري ، ولو كان المراد اخذ مفهومه فيه لزم دخول
العرض العام في الفصل.
وأورد عليه المحقق
النائيني (ره) بان لازم أخذ مفهوم الشيء في المشتق ، دخول الجنس في الفصل ، لا
العرض العام ، لان الشيء ليس من العرض العام بل هو جنس الأجناس .
وتنقيح القول
بالبحث في مقامين :
١ ـ فيما أفاده
المحقق النائيني من كون الشيء جنسا عاليا لجميع الماهيات.
٢ ـ في بيان اصل
المطلب وانه هل يلزم محذور من اخذ الشيء في مفهوم المشتق أم لا؟
أما المقام الأول
: فقد استدل المحقق النائيني (ره) بان العرض العام هو ما كان خاصة للجنس والشيئية تعرض لكل
ماهية من الماهيات ، وليس ورائها أمر آخر يكون هي الجهة المشتركة بين جميع
الماهيات وجنس الأجناس حتى تكون الشيئية عارضة وخاصة له بل هي جهة مشتركة بين
جميعها ، فتكون جنس الأجناس.
وعليه تفرع أمرين
:
الأول : أن شيئية
الشيء إنما تكون بماهيته لا بوجوده ، والمراد من كون
__________________
الشيئية مساوقة
للوجود اتحاد هما بحسب الصدق لا بحسب المفهوم.
الثاني : إن ما
اشتهر من أن المقولات العشر أجناس عالية لتمام الممكنات ولا جنس فوقها ، مما لا
اصل له.
وأورد عليه
الأستاذ الأعظم (قدِّس سره) : بان الشيء يصدق على الوجود الواجبي والإمكاني ، وعلى
الماهيات ، وعلى المستحيلات ، وعليه فكيف يمكن أن يقال انه جنس عال لتمام الماهيات
.
وعند التحليل يرجع
هذا الإيراد إلى إيرادين :
الأول : أن الشيء
بما انه يصدق على الوجود ، والمستحيلات ، والماهيات ، فلازم القول المزبور كونه
جهة مشتركة بين الوجود ، والعدم. والماهية ، وجنسا لها ، مع انه مضافا إلى عدم
الجامع بينها ، الجنس إنما يتصور في الماهية ولا جنس للوجود.
الثاني : انه يصدق
على الوجود الواجبي فلو كان جنسا لزم تركبه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وفيهما نظر :
أما الأول : فلأنه
(قدِّس سره) أجاب عن ما توهم من صدقه على الوجود : بأنه لا يصدق عليه ، بل المراد
من ان الماهية مساوقة للوجود ، اتحادهما خارجا بمعنى أن الشيء يوجد ، واللاشيء لا
يعقل وجوده ، وأما صدقه على المستحيلات فإنما هو
__________________
من جهة الماهية
المستحيل وجودها ففي الحقيقة يطلق على الماهية لا العدم.
وأما الثاني :
فلان قوله (ع) في خطبته المعروفة انه شيء لا كالأشياء ، جواب عن هذا الإيراد.
فالصحيح في الجواب
عنه أن يقال ، انه إنما يصدق الشيء على الفصل كصدقه على الجنس فلو كان جنسا عاليا
، وجهة مشتركة ، لاحتاج الفصل إلى فصل آخر ، وهو خلف ، مضافا إلى لزوم التسلسل :
فانه ينتقل الكلام إلى الفصل الثاني ويقال انه يصدق عليه الشيء فيحتاج إلى فصل آخر
وهكذا ، فلا يمكن الالتزام بكونه جنس الأجناس.
وأما ما استدل به
لعدم كونه عرضا عاما ، وهو أن العرض العام ما كان خاصة للجنس البعيد أو القريب ،
فهو مما لا ملزم له ـ لا أقول : شعر بلا ضرورة ، فلو لزم محذور من أخذه فهو ما ذكره
المحقق الشريف ، لاما ذكره المحقق النائيني (ره).
وأما المقام
الثاني : فقد أجيب عن استدلال المحقق الشريف بوجهين :
الأول : ما أفاده
صاحب الفصول وهو أن الناطق مثلا جعل فصلا مبنيا على عرف المنطقيين حيث
اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب وضعه لغة لذلك.
__________________
وفيه : أن المقطوع
عدم التصرف في معنى اللفظ ، بل إنما يجعل فصلا بما له من المعنى اللغوي.
الثاني : ما في
الكفاية قال أن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي ، بل لازم ما هو الفصل
واظهر خواصه وإنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه بل لا
يكاد يعلم كما حقق في محله. انتهى.
فلا يلزم من اخذ
مفهوم الشيء فيه إلا اخذ العرض العام في الخاصة لا في الفصل.
وأورد عليه المحقق
النائيني بان الناطق بمعنى التكلم أو إدراك الكليات وان كان من
عوارض الإنسان ، إلا انه بمعنى صاحب النفس الناطقة يكون فصلا حقيقيا فيعود
المحذور.
وأجاب عنه الأستاذ
الأعظم بان صاحب النفس الناطقة هو الإنسان وهو نوع لا فصل فلا
مناص عن كون الناطق فصلا مشهوريا لا حقيقيا.
وحق القول في
المقام بنحو يظهر ما هو الصحيح ، وفساد جميع ما قيل في المقام.
أن مادة الناطق ،
أي النطق بأي معنى كانت ليست فصلا بل هو من اظهر
__________________
آثاره وخواصه ،
ولكن الناطق وهو الشيء الذي له النطق ويكون ذلك أثره وخاصته ، يكون فصلا حقيقيا لا
نوعا ، فما أفاده الأستاذ بين الإشكال.
وأما ما أفاده
المحقق النائيني ، فيرده أن الشيء المأخوذ في الناطق ، إنما هو المفهوم المبهم من
جميع الجهات إلا جهة انتساب النطق إليه فيكون فصلا حقيقيا من دون أن يلزم اخذ
العرض العام في الفصل.
وأما ما أفاده
المحقق الخراساني ، فلان النطق وان كان فصلا مشهوريا ، إلا أن الناطق فصل حقيقي.
فان قلت أن لازم
البيان المذكور كون الضاحك فصلا فان الضحك من آثار الفصل الحقيقي وخواصه كالناطق ،
مع انه بين الفساد.
اجبنا عنه ، بأنه
في أمثال هذا المثال حيث يكون النظر إلى المادة نفسها وإنما تتهيأ بهذه الهيئة ،
تصحيحا للحمل ولا يكون النظر إلى ما له الأثر بخلاف الناطق حين ما يجعل فصلا ، فلا
يكون الضاحك فصلا.
وبذلك يظهر أن
الماشي أيضا لا يكون جنسا فتدبر حتى لا تبادر بالإشكال.
وقد استدل المحقق
النائيني ، لعدم اخذ الذات في مفهوم المشتق بوجوه اخر .
منها : إن مادة
المشتق موضوعة للمعنى الحدثي ، وهيئته موضوعة لقلب
__________________
المادة من
البشرطلائية إلى اللابشرطية ، واتحاد المبدأ مع موضوعه كي يصح الحمل ، فلم يبق
هناك ما يدل على الذات.
وفيه : أن ملاك
الحمل هو الاتحاد في الوجود والمبدأ الذي هو من الأعراض ، أو من الأمور الاعتبارية
، لا يعقل اتحاده مع موضوعه الذي هو من الجواهر ، واعتبار اللابشرطية لا يوجب
اتحاد المتغايرين ، فلا محيص عن الالتزام بوضعها للنسبة وحدها أو مع الذات تصحيحا
للحمل ، وستعرف أن الثاني أقوى.
ومنها : أن اخذ
الذات في مفهوم المشتق مستلزم لأخذ المحمول بشرط شيء وهو ينافي المحمولية الصرفة.
وفيه : أن الذات
بمعنى المعنى المبهم من جميع الجهات غير جهة قيام المبدأ بها ، لا يلزم من أخذها
في مفهومه اخذ المحمول بشرط شيء.
ومنها : انه يلزم
منه اخذ المعروض في العرض وكل من الجنس والفصل في الآخر وهو خلف. بل يلزم انقلاب
كل منهما إلى النوع.
وفيه : أن هذا لو
لزم فإنما هو لو اخذ مصداق الذات في المفهوم لا مفهومها بالمعنى المتقدم.
ومنها : أن الواضع
الحكيم لا بد وان يلاحظ في أوضاعه فائدة مترتبة عليها ، ولا يترتب على اخذ الذات
فائدة أصلا.
وفيه : أن فائدته
إمكان جعل المشتق موضوعا في القضية ، ولا يصلح ذلك بدونه كما ستعرف.
وبما ذكرناه ظهر
اندفاع سائر ما ذكره فلا وجه للإطالة.
وقد استدل لعدم
اخذ النسبة في مفهومه بوجهين .
الأول : إن النسبة
بما أنها معنى حرفي لزم من أخذها في مفهومه كونه مبنيا لتضمنه المعنى الحرفي ،
وحيث انه معرب فيستكشف عدم أخذها فيه.
ويرد عليه أن ما
صرح به أئمة الأدبيات ، من أن المتضمن للمعنى الحرفي مبنى ، ليس مرادهم ذلك ، بل
يكون نظرهم إلى أسماء الإشارة ونحوها مما يكون معانيها غير مستقلة في أنفسها
ويتوقف فهم المراد منها إلى ضم شيء آخر إليها ، وإلا فلو كان مجرد الاشتمال على
المعنى الحرفي ، موجبا لكون المتضمن مبنيا لزم كون المصادر لا سيما المزيد منها
مبنية كما لا يخفى.
الثاني : أن اخذ
النسبة في المفهوم مستلزم لأخذ الذات فيه : إذ النسبة قائمة بالطرفين فما دل على
عدم اخذ الذات فيه ، يدل على عدم اخذ النسبة أيضا.
وفيه مضافا إلى ما
تقدم من عدم اخذ الذات فيه : انه على فرض وجوده لا يلزم من اخذ النسبة فيه اخذ
الذات كي يدل على عدمه : إذ النسبة في مقام تحققها وان احتاجت إلى الطرفين ، إلا
انه في مقام دلالة اللفظ عليها لا تتوقف على الطرفين ، ألا ترى أن المعنى الحرفي
غير مستقل بذاته بل هو متقوم بالمعنى الاسمي كما تقدم ، ولا يلزم اخذ المعنى
الاسمي في مدلول الحرف.
فتحصل أن شيئا مما
ذكر في وجه عدم اخذ الذات أو النسبة في مفهوم المشتق لا يدل عليه.
__________________
دليل تركب المشتق
بل الظاهر أخذهما
في مفهومه ، إما اخذ النسبة فيه : فلأنه لو لا ذلك لما صح الحمل المتوقف صحته على
الاتحاد في الوجود بعد كون المبدأ من الأعراض التسعة ، أو الأمور الاعتبارية
والموضوع من الجواهر : فانه لا يعقل اتحادهما ولو بعد ألف اعتبار.
فما ذكره المحقق
النائيني (ره) من أن الهيئة وضعت لقلب المادة من البشرطلائية العاصية عن الحمل إلى
اللابشرطية .
غير تام : إذا
المبدأ لا يقبل الحمل على الموضوع بمجرد ذلك ، فلا بد من اخذ الذات والنسبة ، أو
النسبة وحدها في مفهومه كي يصح الحمل.
ودعوى أن العرض
يكون وجوده مندكا في وجود المحل ويعد من أطواره وكيفياته فحينئذ :
تارة يلاحظ على
نحو يحكى عن الوجود النعتي المندك في المحل ، وهو المراد من قوله يلاحظ على نحو
اللابشرط فيصح حمله عليه.
وأخرى يلاحظ على
نحو الاستقلال وهو المراد من ملاحظته بشرط لا ولا يصح حمله حينئذ.
__________________
مندفعة ، بأنه
مضافا إلى أن هذا التوجيه خلاف الاصطلاح انه أيضا لا يفيد في صحة الحمل : إذ
الوجود التبعي المندك في الغير ، وان لوحظ كذلك يغاير مع ذلك الغير ، ولا يكون
متحدا معه كما لا يخفى.
وأما اخذ الذات
فيه : فلان المشتق بنفسه يجعل موضوعا في القضية الحملية ومسندا إليه في غيرها مثلا
يقال اكرم العالم (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) ، وهذه آية اخذ الذات في مفهومه كما لا يخفى على من تدبر ،
مضافا إلى انه يدل على أخذهما فيه : التبادر والوجدان ، ألا ترى انه عند سماع لفظ
القائم ينتقل الذهن إلى ذات ثبت له القيام ، لا خصوص القيام ، وعند سماع المضروب
ينتقل إلى من وقع عليه الضرب وهكذا سائر المشتقات.
فتحصل أن الأقوى
كون المشتق مركبا من الذات والنسبة والمبدأ.
الفرق بين المشتق ومبدئه
الأمر الثاني :
المشهور بين جماعة من المحققين أن الفرق بين المبدأ والمشتق
__________________
إنما هو باعتبار
اللابشرط وبشرط لا ، فحدث الضرب إن اعتبر بشرط لا كان مدلولا للفظ الضرب وامتنع
حمله على الذات وان اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ الضارب وصح حمله عليها.
فاخذ صاحب الفصول
بعد نقل ذلك في نقده والاعتراض عليه ، بما حاصله : أن صحة الحمل وعدمها لا تختلف من حيث اعتبار
شيء لا بشرط أو بشرط لا ، لان العلم والحركة والشرب وما شاكلها يمتنع حملها على
الذوات وان اعتبرت لا بشرط ألف مرة.
وأجاب عنه المحقق
الخراساني ، بان مراد الفلاسفة مما ذكروه ليس ما توهمه صاحب الفصول
من كون الفرق بينهما بالاعتبار ، بل مرادهم أن المشتق يغاير مبدأه مفهوما وان
المشتق بمفهومه لا يابى عن الحمل على ما تلبس بالمبدإ ولا يعصى عن الجري عليه لما
هما عليه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ : فانه بمعناه يأبى عن ذلك ، بل إذا
قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو ، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد
والهوهوية.
ثم انه (قدِّس سره)
نظر في المقام بما ذكروه في مقام الفرق بين الصورة والمادة ، والفصل والجنس ، حيث
قالوا : إن الجنس كالحيوان مأخوذ لا بشرط فصح حمله ،
__________________
والمادة مأخوذة
بشرط لا فلا يصح حملها ، وكذلك الفصل والصورة ، بدعوى أن مرادهم هو التفرقة بحسب
المفهوم لا بالاعتبار.
وحق القول في
المقام في البحث في موارد ثلاثة :
الأول : في أن
الفرق بين الجنس والفصل ، والمادة والصورة ، هل هو بالاعتبار ، أم بالفرق في
المفهوم؟
الثاني : في أن
مراد القوم في المقام هو ما فهمه صاحب الفصول ، أم ما فهمه المحقق الخراساني.
الثالث : في بيان
ما هو الحق في الفرق بين المشتق ومبدئه.
أما المورد الأول
: فالحق هو أن مرادهم التفرقة بالاعتبار : فإنهم صرحوا بان الأجزاء في المركبات
الحقيقية التي يكون التركيب فيها اتحاديا لا انضماميا إن لوحظت بما هي أجزاء
متغايرة وبشرط لا ، فهي المادة والصورة ، وان لوحظت بما هي موجودة بوجود واحد ولا
بشرط ، فهي الجنس والفصل.
وقال الحكيم
السبزواري : وفيه إشارة إلى أن كلا من هاتين (أي المادة والصورة) مع كل من هذين (أي
الجنس والفصل) متحد ذاتا مختلف اعتبارا ، وقريب منه كلام غيره ، ولا أظن أن من
تدبر كلماتهم يشك في أن مرادهم ما ذكرناه.
وأما الثاني :
فالأظهر هو ما فهمه صاحب الفصول : لأنه الظاهر من
كلماتهم ، كيف وقد
نسب إلى المحقق الدواني ، انه صرح بان الأعراض كالبياض والعلم وأمثالهما من مبادئ
المشتقات ، تارة تلاحظ بما أنها موجودات مستقلة في الخارج في قبال وجود الجواهر ،
فلا يصح حمل شيء منها على الجواهر ، وهذه مبدأ المشتقات ، وأخرى تلاحظ بما أنها من
كيفيات الوجود الجوهري ومن أطواره ، فيصح الحمل ، وهذه هي المشتقات ، وقريب منه
كلام غيره وعليه ، فإيراد صاحب الفصول وارد عليهم كما مر توضيحه.
وأما الثالث :
فالحق أن الفرق بينهما إنما يكون في المفهوم ، ومفهوم المشتق مفهوم عند التحليل
ينحل إلى ذات له المبدأ ولهذا يصح حمله ، وأما مفهوم المبدأ فهو ، ينطبق على نفس
ذلك الوجود العرضي المغاير مع وجود الجوهر ولذا لا يصح حمله.
ملاك الحمل
الأمر الثالث :
قال في الكفاية ملاك الحمل هو الهوهوية والاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر .
__________________
أقول : لا ريب في
انه يعتبر في صحة الحمل أمران أحدهما الاتحاد من وجه حتى يصير هذا ذاك ، والآخر
المغايرة من وجه كي يصير هذا وذاك ، ولا يلزم حمل الشيء على نفسه ، وحينئذٍ.
ربما يكون الاتحاد
ذاتيا والمغايرة تكون بالاعتبار ، نظير حمل الجنس والفصل على النوع ـ مثل ـ الإنسان
حيوان ناطق ، حيث انهما واحد ذاتا والمغايرة إنما تكون بالإجمال والتفصيل.
وأخرى يكون
المغايرة ذاتية ـ أي التغاير بينهما إنما يكون بحسب المفهوم ـ فحينئذ ، إن كانا
متحدا بحسب الوجود الخارجي كما في الحمل الشائع صح الحمل لما ذكرناه وان كانا
مغايرين في الوجود ، فلا مصحح للحمل أصلا.
وصاحب الفصول (ره)
حيث توهم ، أن التركيب بين الجنس والفصل ، يكون انضماميا ورأى انه يصح حمل أحدهما
على الآخر ، التزم بأنه يكفي في صحة الحمل إذا كان الموضوع والمحمول متغايرين
مفهوما ووجودا ، الاتحاد الاعتباري وانه يصح الحمل بشروط ثلاثة :
١ ـ اخذ المجموع
من حيث المجموع موضوعا.
٢ ـ اخذ الأجزاء
لا بشرط.
٣ ـ اعتبار الحمل
بالنسبة إلى المجموع من حيث المجموع .
__________________
وعليه فلا يرد
عليه ما في الكفاية من انه لا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين :
لأنه غير مربوط
بما ذكره في الفصول : فانه يدّعي اعتبار الشروط الثلاثة في حمل أحد المتغايرين على
الآخر ، لا فيما كانا متحدين في الوجود.
وأما الإيراد عليه
كما في الكفاية أيضا بأنه يكون لحاظ ذلك مخلا لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية
.
فيمكن الجواب عنه
: بأنه إذا فرض اتحاد المجموع واخذ في الموضوع ، وحمل عليه الجزء المأخوذ لا بشرط
صح الحمل ، ولا يرد عليه المحذور المذكور : لمكان الاتحاد في الوجود ، في الوجود
الاعتباري ، وإنما لا يصح الحمل بلحاظ الوجود الخارجي الذي يكون جزء مغايرا للآخر.
ومما ذكرناه ظهر
عدم ورود إيراده الثالث الذي ذكره بقوله ، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في
التحديدات الخ.
فانه إنما لا
يلاحظه ذلك في التحديدات من جهة ثبوت الاتحاد المعتبر في صحة الحمل بوجه آخر.
فالصحيح أن يورد
عليه ، مضافا إلى ما هو المحقق في محله من أن التركيب
__________________
بين الجنس والفصل
اتحادي ، بل صدر المحققين جعل من أدلة كون التركيب اتحاديا صحة حمل أحدهما على
الآخر : أن الوحدة الاعتبارية إنما تصحح الحمل في الوجود الاعتباري لا في الوجود
الخارجي.
ما هي النسبة بين المبدأ والذات
الأمر الرابع :
صاحب الفصول (ره) التزم بالتجوز أو النقل في الصفات الجارية على الله تعالى
وذلك لوجهين :
أحدهما : انه
يعتبر التغاير بين المبدأ والذات التي يجرى عليها المشتق ولا يتم هذا في الصفات
الجارية على الله تعالى لان المبدأ فيها متحد مع الذات بل هو عينها خارجا كما هو
واضح.
وأورد عليه المحقق
الخراساني (ره) بأنه يكفي في التغاير المعتبر في الحمل التغاير المفهومي
بين مبدأ المشتق مع ما يجرى عليه المشتق ، وان اتحدا عينا وخارجا.
وفيه : انه لا
يعتبر التغاير والاتحاد إلا بين الموضوع والمحمول ، لابين مبدأ المحمول مع ما يجرى
عليه ، وحينئذٍ :
فتارة يكون المبدأ
مغايرا مع ما يجرى المشتق عليه مفهوما وخارجا ولكن لا
__________________
تغاير بين المشتق
والموضوع خارجا ، كزيد عالم : فان العلم غير زيد وجودا ومفهوما ، بخلاف العالم.
وأخرى يكونان ، أي
المبدأ وما يجرى عليه ، متغايرين مفهوما متحدين وجودا ، كما في الصفات الجارية على
الله تعالى ، مثل الله عالم.
وثالثة يكونان
متحدين وجودا ومفهوما ، إلا أن المشتق يغاير ما يجرى عليه مفهوما ، مثل الوجود
موجود ، وفي جميع هذه الصور يصح الحمل لثبوت التغاير بين الموضوع والمحمول من وجه
، وأما التغاير بين مبدأ المحمول والموضوع ، فهو قد يكون وقد لا يكون ، وعلى
التقديرين يصح الحمل.
وما ذكره بعض
المحققين في وجه صحة حمل الموجود على الوجود ، من أن الحمل عبارة عن
ثبوت شيء لشيء ووجدان الشيء لنفسه واضح.
غير تام والا لزم
صحة حمل النائم على النوم مثلا ، والضارب على الضرب وهكذا مع انه باطل بالضرورة ،
بل الوجه في صحة الحمل كون الوجود بنفسه من مصاديق الموجود ، إذ الماهيات توجد
بالوجود وهو موجود بنفس ذاته ، وهذا بخلاف الأمثلة المشار إليها.
ثانيهما : عدم
قيام مبادئ الأسماء الحسنى والصفات الجارية على الله تعالى بذاته المقدسة لعينيتها
له تعالى.
وبعبارة أخرى لا
نسبة هناك لعدم تعقل النسبة بين الشيء ونفسه فالعالم بما
__________________
له من المعنى ،
وهو الذات الثابت لها العلم لا يعقل حمله على الله تعالى لعينيته معه.
وأجاب عنه المحقق
الخراساني بان قيام المبدأ بالذات لا يستدعى التغاير بل يجتمع مع العينية ، فالعلم
وما شاكل من مبادئ الصفات العليا قائمة بذاته المقدسة بنحو العينية والاتحاد ، ثم
أورد على صاحب الفصول بقوله.
كيف ولو كانت بغير
معانيها العامة الجارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة لسان وألفاظ بلا معنى فان غير
تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم الا بما يقابلها
ففي مثل ما إذا قلنا انه تعالى عالم إما أن نعني انه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك
المعنى العام ، أو انه مصداق لما يقابل ذاك المعنى فتعالى عن ذلك علوا كبيرا واما
أن لا نعني شيئا فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة وكونها بلا معنى انتهى.
يرد على جوابه أن
لازم ما أفاده صحة حمل المشتقات على مبادئها ومن البديهي أن مفهوم عالم وضارب
وقادر وقاتل لا ينطبق على نفس المبادئ ليكون العلم عالما والقتل قاتلا والضرب
ضاربا وهكذا.
ويرد على ما أورده
عليه أن صاحب الفصول يدّعي النقل أو التجوز من مفهوم المشتق إلى المبدأ ، فالمراد
من العالم نفس العلم والحضور ، ومن القادر نفس القدرة والإحاطة ولا يلزم من ذلك
شيء من المحاذير المذكورة.
__________________
ويمكن الجواب عن
صاحب الفصول بان النسبة المأخوذة في المشتق ليست نسبة خارجية ، بل المراد بها
تضييق المفهوم بلا نظر إلى الوجود والعدم فلا محذور في حمل المشتق بما له من
المفهوم على الله تعالى ، ومع ذلك كله الالتزام بنفي الصفات عنه تعالى الذي هو
كمال الإخلاص وان هذه الصفات العليا عبارات عن كمال وجوده حسب ما للكمال عندنا من
التعبيرات أولى.
ولعله إليه يرجع
ما في الفصول.
ما هو المتنازع فيه في المشتق
الأمر الخامس : أن
محل الكلام في المشتق هو معرفة مفهومه ومعناه سعة وضيقا ، وأما تطبيق هذا المفهوم
على موارده وإسناده إليها هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز فهو خارج عن محل الكلام
ونسب إلى صاحب الفصول اعتبار الإسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة.
وأورد عليه في
الكفاية بأنه لا يعتبر في صدق المشتق حقيقة التلبس بالمبدإ حقيقة وبلا واسطة في
العروض ، بل يكفي التلبس به ولو مجازا كما في الميزاب الجاري ، فإسنادا الجريان
إلى الميزاب وان كان إسناد إلى غير ما هو له وبالمجاز إلا انه في الإسناد لا في
الكلمة .
تحقيق القول في
المقام بالبحث في مقامين :
__________________
الأول : هل يعتبر
في صدق المشتق على الذات وجريه عليها ، التلبس الحقيقي بالمبدإ أم لا؟
الثاني : انه هل
يعتبر في استعمال المشتق في مفهومه كون الإسناد حقيقيا أم لا؟
أما المقام الأول
: فالأظهر اعتباره ، ألا ترى لو قيل زيد عالم مع عدم اتصافه بالعلم لا يكون هذا الإسناد
حقيقيا.
وأما المقام
الثاني : فالظاهر عدم اعتباره فان الاستعمال الحقيقي هو استعمال اللفظ في ما وضع
له ، ولا يعتبر في ذلك كون إسناده إسنادا إلى من هو له ، بل لو كان غيره أيضا كان
هذا الاستعمال حقيقيا ، والظاهر أن نظر صاحب الفصول إلى المقام الأول ، فإيراد
المحقق الخراساني عليه في غير محله.
والحمد لله أولا
وآخراً.
المقصد الأول
من مقاصد علم الأصول
في الأوامر
وفيه فصول :
المقصد الأول
في الأوامر ، وفيه
فصول :
الفصل
الأول : فيما يتعلق بمادة
بمادة الأمر (ا ـ م ـ ر) والكلام فيه في جهات :
الجهة
الأولى : ذكر جماعة ان
مادة الأمر موضوعة بحسب اللغة لعدة معان ، الطلب ، الشأن ، الشيء ، الحادثة ،
الغرض ، الفعل ، القدرة ، الصفة وغير ذلك وقد أنهاها بعضهم إلى خمسة عشر.
اختار صاحب الفصول
أنها موضوعة لمعنيين وهما الطلب ، والشأن .
وافاد المحقق
الخراساني بعد ذكر جملة من المعاني : ولا يخفى ان عد بعض هذه المعاني من معاني
الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم إذ الأمر لم يستعمل في نفس هذه المعاني وانما
استعمل في معناه ولكنه قد يكون مصداقه.
ثم قال : ولا يبعد
دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة ، والشيء .
__________________
وذهب المحقق النائيني
(ره) إلى ان لفظ الأمر موضوع لمعنى واحد ، وهو الواقعة التي لها أهمية في الجملة ،
وجميع ما ذكر له من المعاني ، يرجع إلى هذا المعنى الواحد حتى الطلب المنشأ بإحدى
الصيغ الموضوعة له : فانه أيضا من الأمور التي لها أهمية فلا يكون للفظ الأمر إلا
معنى واحد تندرج فيه كل المعاني المذكورة ، وتصور الجامع القريب بين الجميع وان
كان صعبا ، إلا أنا نرى بالوجدان الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد ومعه ينتفي
الاشتراك اللفظي ، نعم لا بد وان يكون المستعمل فيه من قبيل الأفعال والصفات فلا
يطلق على الجوامد .
وتنقيح القول
بالبحث في موارد :
١ ـ ان جملة من
المعاني التي ذكروها للأمر الظاهر انها اشتباه.
ففي الكفاية ،
ومنها الفعل كما في قوله تعالى (وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) .
ويرده ان لفظ
الأمر في الآية لم يستعمل في الفعل ، بل استعمل في معناه الذي يستعمل فيه في مقام
الطلب.
قال ومنها الفعل
العجيب كما في قوله تعالى (فَلَمَّا جَاء
أَمْرُنَا) .
__________________
ويرده ان لفظ
الأمر في هذه الآية استعمل في الإرادة التكوينية لا في الفعل العجيب.
قال ومنها الغرض
كما تقول جاء زيد لامر كذا.
ويرده ان لفظ
الامر لم يستعمل في مفهوم الغرض ولا مصداقه لان لفظ لام يفيد ذلك والامر انما هو
متعلق ذلك.
واما ما افاده
المحقق الخراساني من ان عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم.
فيرده مضافا إلى
ما مر من عدم كون جملة منها من معاني لفظ امر ولا مصاديقه : ان اشتباه المفهوم
بالمصداق انما يكون فيما إذا كان اللفظ موضوعا للمصداق بما هو مصداق لذلك المعنى
المتوهم وضع اللفظ له.
واما إذا كان
مصداقا ولكن لم يلاحظ مصداقية له في مقام وضع اللفظ والاستعمال ، فليس من باب خلط
المفهوم بالمصداق وهذه الموارد من قبيل الثاني كما لا يخفى.
٢ ـ ان المعاني
المتعددة التي ذكروها للفظ الامر هل ترجع إلى معنى واحد ، ام لا؟
وقد مر اختيار
المحقق النائيني (ره) للاول ، واستدل له بانا نرى بالوجدان ان الاستعمال في جميع
الموارد بمعنى واحد.
__________________
ولكن ما افاده
مخدوش :
اولا : ان الامر
ربما يستعمل فيما لا أهمية له ويسلب عنه الاهمية ، ويقال ان هذا امر لا أهمية فيه
والاستعمال في هذا المورد ، انما يكون في معناه الموضوع له حسب ما ارتكز في
الاذهان ، ومنه يعلم عدم اخذ الاهمية في مفهومه.
وثانيا : انا نرى
ان الامر الذي ، يستعمل في مقام الطلب يجمع على اوامر ، وما يستعمل في غيره يجمع
على امور ، واستعمال احد الجمعين في مورد الأخر يعد من الاغلاط ، ولو كان للفظ
الامر معنى واحد وكان الجمع بذاك اللحاظ لما كان وجه لعدم صحة استعمال احدهما في
مورد الأخر ، فذلك كاشف عن تعدد المعنى.
وثالثا : ان الامر
المستعمل في مقام الطلب قابل لان تطرأ عليه الهيئات ، مثل امر ، يأمر ، آمر ،
مأمور ، وغير ذلك وبالمعنى الآخر غير قابل لذلك ، ولو كان موضوعا للجامع بينهما
لما صح طرو الهيئات عليه : إذ الجامع بين ما يقبل طروها ، وما لا يقبل ، غير قابل
لذلك ، فمن قابلية ما يستعمل في مقام الطلب ، وعدم قابلية غيره ، يستكشف تعدد
المعنى ، وكون لفظ الامر من المشترك اللفظي.
٣ ـ ان الظاهر كون
الامر المستعمل في مقام الطلب مفهومه هو الذي يكون مفاد صيغة الامر الذي سيجيء
الكلام فيه.
واما المستعمل في
غيره فالظاهر ان مفاده شيء واحد وجميع المعاني المذكورة ترجع اليه ، وهو الشيء
الذي يكون من قبيل الصفات أو الأفعال ، وليس له في الفارسي مرادف ، ولا في العربي
، ولا يكون هو الشيء كما افاده في الكفاية لعدم
صدقه على الجواهر
، والشيء يصدق عليها ، وذلك المعنى الجامع هو المستعمل فيه في جميع تلك الموارد :
لانه كل ما اطلق لفظ الامر في غير مقام الطلب يرى الإنسان عند المراجعة إلى نفسه ،
انه ينتقل ذهنه إلى معنى قابل للانطباق على معان متعددة ويصح ترجمته بسائر اللغات
ولو بالالفاظ المركبة ، بنحو يصلح ان ينطبق على كل واحد من تلك ، المعاني.
مثلا : إذا قال
القائل رأيت اليوم امرا عجيبا ، ينتقل ذهن السامع إلى انه رأى شيئا ، يكون من قبيل
الاعراض ، لا الجواهر ، وحينئذٍ قد يفسره ، بما يكون من قبيل الأفعال ، كان يقول
رأيت صبيا يخطب خطبة بليغة ، وقد يفسره بما يكون من قبيل الصفات ، كأن يقول رأيت
فرسا طويلا.
٤ ـ ان الامر
المستعمل في مقام الطلب حقيقة في ذلك المعنى الذي ستقف عليه.
واما المستعمل في
غيره ، فهل يكون حقيقة فيما يستعمل فيه ، ام يكون مجازا ، وجهان؟
اقواهما : الأول ،
لانا نرى بالوجدان انه يستعمل فيه بلا عناية وهو آية الحقيقة ، اضف إليه انه لا
علاقة مصححة للاستعمال بين الطلب وبعض ما يراد من لفظ الامر ، إذا استعمل في
المعنى الآخر ، مثلا إذا قال القائل رأيت اليوم امرا لم اكن رأيته قبل ذلك ، ثم
فسره بنزول المطر الشديد ، فاى علاقة بين ذلك والمعنى الذي يستعمل فيه الامر في
مقام الطلب؟ وحيث لا ريب في اعتبار العلاقة المصححة للاستعمال بين المعنى الحقيقي
والمعنى المجازى ، فيستكشف من ذلك ان استعماله فيه ليس مجازا.
واما ما ذكره بعض
الاكابر ، في وجه كونه حقيقة فيه ، من ان لفظ الامر لو كان حقيقة
في الطلب مجازا في غيره لما اختلف جمع الامر باحد المعنيين مع الجمع بالمعنى الآخر
كما هو المشاهد في سائر المعاني الحقيقة والمجازية ، مع ان جمع الامر بمعنى الطلب
على" اوامر" وجمعه بالمعنى الآخر ، على" امور".
ففيه : ان اختلاف
الجمع وتعدده كاشف عن عدم وضعه للجامع بين المعنيين ، حيث : ان المفهوم الواحد
المنطبق على مصداقين ، لا يعقل ان يكون جمع ما يدل عليه ووضع له ، بنحوين بلحاظ
اختلاف المصداقين بعد كون المستعمل فيه واحدا ، كما عرفت.
واما بعد تسليم
تعدد المعنى ، فلا يصح تعيين كونه حقيقة فيهما ، بذلك : لامكان ان يكون احد
الجمعين بلحاظ معناه الحقيقي ، والآخر بلحاظ معناه المجازى ، وقد صرح بذلك بعض
ائمة الادب ومثل له باليد ، حيث ان جمعه بلحاظ معناها الحقيقي على (ايدي) وبلحاظ
معناها المجازى وهي النعمة على ايادي.
ومما ذكرناه ظهر
عدم تمامية ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) من ان لفظ الامر وضع لمعنى واحد وهو
الجامع بين ما يصح ان يتعلق به الطلب تكوينا وما يتعلق به تشريعا ، وان الاصل فيه
ان يجمع على امور .
وجه الظهور ما مر
من عدم الجامع الذاتي بين المعنى الحدثى والمعنى الجامد
__________________
ليكون الامر
موضوعا بازائه.
المعنى الاصطلاحي للفظ الامر
قال المحقق
الخراساني ، واما بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتفاق على انه حقيقة في
القول المخصوص ومجاز في غيره ولا يخفى انه عليه لا يمكن منه الاشتقاق فان معناه
حينئذ لا يكون معنا حدثيا مع ان الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح
عليه بينهم لا بالمعنى الآخر ، ويمكن ان يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه
تعبيرا عنه بما يدل عليه انتهى.
وقد اورد عليه
المحقق الأصفهاني (ره) بعد بيان مقدمة.
وهي : ان الاشتقاق
المعنوي عبارة عن قبول المبدأ للنسبة ، وهذا انما يكون فيما له نحو من انحاء
القيام بشيء قيام العرض بموضوعة والفرق بين المعنى الجامد والمعنى الاشتقاقى ، ان
الأول لا يكون قابلا للحاظ نسبته إلى شيء بذاته ، بخلاف الثاني.
وحاصل ما ذكره
مبتنيا على ذلك ان وجه الاشكال ان كان توهم ان الموضوع حينئذ لفظ لا معنى فضلا عن
كونه حدثيا.
__________________
فيرد عليه : ان طبيعة
الكيف المسموع كسائر الطبائع قابلة للحكاية عنها بلفظ ، واللفظ ، وان كان وجودا
لفظيا لطبيعة الكيف المسموع الا انه يمكن ان يكون وجودها اللفظي حاكيا عن لفظ آخر
، ووجودا تنزيليا له ايضا.
وان كان الوجه :
توهم عدم كونه حدثيا.
ففيه : ان لفظ
اضرب مثلا صنف من اصناف طبيعة الكيف المسموع ، وهو من الاعراض.
وعليه فتارة يلاحظ
نفسه فهو المبدأ الحقيقي.
واخرى يلاحظ قيامه
فقط فهو المعنى المصدرى.
وثالثة يلاحظ
قيامه وصدوره في الزمان الماضي فهو المعنى الماضوى ، وهكذا ، فليس هذا القول
كالاعيان الخارجية غير القائمة بشيء حتى لا يكون لحاظ قيامه فقط أو في احد
الأزمنة.
وفيه : انا نختار
الشق الثاني.
ويمكن دفع ما ذكره
: بان ملاك امكان الاشتقاق من شيء ليس كونه عرضا قائما بالغير بل الملاك فيه وفي
عروض النسب عليه ، كون المعنى لوحظ فيه النسبة : والدليل عليه اولا ، ملاحظة ـ البياض
ـ والاسم ـ والفعل ـ والجملة ـ وغير ذلك مما يكون من الاعراض ولا يصح الاشتقاق
منها.
وثانيا : ان اللفظ
الموضوع لمعنى عرضى ، ان لوحظ في الوضع نفس المعنى من حيث هو ولم يلاحظ حيث
انتسابه لا يعقل عروض النسب عليه إذ المقيد بعدم النسبة كيف يعقل عروض النسبة عليه
، فلا يصح الاشتقاق منه ، ومن
هذا القبيل
الامثلة المتقدمة ، وان لوحظ بما هو منتسب واخذ فيه النسبة فيصح عروضها عليه ،
كالضرب ونحوه ، وفي المقام حيث ان المنقول إليه ان ثبت ، انما هو ذلك القول
المخصوص من غير اخذ النسبة فيه فلا يصح الاشتقاق منه.
والذى يسهل الخطب
انه من المستبعد جدا ان يكون للاصوليين في لفظ الامر اصطلاح خاص ، ووضعه للقول
المخصوص : لعدم ترتب ثمرة على الوضع أو النقل ، إذ المباحث الآتية كاجتماع الامر
والنهى وغيره لا تختص بالقول المخصوص بل هي احكام للبعث والطلب أي ذلك الامر
النفساني الذي ستعرف حقيقته ، المبرز باللفظ أو بغيره ، وتفسيرهم الامر بالقول
المخصوص انما يكون لاجل ان المبرز له غالبا يكون هو القول المخصوص.
ثم انه بناءً على
ما ذكرناه في معنى الامر وانه مشترك لفظي بين معنيين ، لا يكون مورد يشك في كونه
مستعملا في ايهما : لان هذه المادة المستعملة في مقام الطلب في القرآن والسنة انما
تكون بالالفاظ المشتقة ، وقد عرفت ان الامر إذا استعمل في معناه الآخر لا يصح
الاشتقاق منه.
مع : ان الامر
المستعمل في مقام الطلب يحتاج إلى المتعلق لكون معناه من الأمور التعلقية بخلاف
المستعمل في المعنى الآخر.
مع ان جمعه
بالمعنى الأول (اوامر) وبالمعنى الثاني على امور.
وعلى ذلك فلا اظن
وجود مورد يشك في معناه ، وعلى فرض وجوده لا
محاله يصير مجملا
إذ لاوجه لانصرافه إلى الطلب كما افاده المحقق
الخراساني .
اعتبار العلو في معنى الامر
الجهة الثانية :
في انه هل يعتبر العلو في معنى الامر ام لا.
وملخص القول في
ذلك ، انه لا اشكال في ان طلب السافل مع عدم الاستعلاء لا يكون امرا ، انما الكلام
في موردين :
الأول : في طلب
السافل من العالي المستعلى عليه.
فقد يقال بانه
يصدق عليه الامر : والشاهد عليه تقبيح الطالب السافل من العالي المستعلى عليه
وتوبيخه بمثل لم تأمره.
وفيه : مضافا إلى
ان الاستعمال اعم من الحقيقة ، ان اطلاق الامر على طلبه ، انما يكون مبنيا على
الادعاء والعناية ، حيث ان فرض نفسه عاليا فلا محالة يكون طلبه امرا ، فيكون نظير
اطلاق الفتوى على الحكم من غير استناد إلى الادلة ـ في النصوص المتضمنة حكم من
افتى بغير علم ـ مع ان الفتوى عبارة عن الحكم المستنبط من الأدلة وليس ذلك الا من
جهة فرض نفسه مجتهدا :
والشاهد على كونه
ادعائيا لا حقيقيا ، عدم صحة إطلاق الأمر عليه في مقام النقل ، ويقال ان السافل
امر العالي بكذا ، ولو كان حقيقة في المورد صح
__________________
نقله.
واما ذكره المحقق
الخراساني في مقام الجواب من ان التقبيح انما يكون على استعلائه لا على امره حقيقة
بعد استعلائه .
فغير مربوط
بالمقام لان الاستدلال لم يكن بالتقبيح بل ، باطلاق الامر على طلبه.
الثاني : انه إذا
كان الطالب عاليا ، فهل يعتبر استعلائه ايضا ام لا؟
الحق ان الاستعلاء
بالمعنى المقابل لخفض الجناح الذي هو من الاخلاق الحميدة لا يكون معتبرا قطعا ،
ولا يصح نسبة اعتباره إلى احد.
وبمعنى صدور الامر
من العالي بما هو عال لا بما هو شافع أو طبيب أو مصلح ، لا ينبغى التأمل في
اعتباره ، ولذا لا يكون الاوامر الارشادية اوامر حقيقة.
ويشهد له ، مضافا
إلى وضوحه قضية بريرة حيث قال في مقام (ص) الجواب عن ، أتأمرني يا رسول الله (ص)؟
لا بل انا شافع ، وعدم تصريح القوم باعتبار ذلك ، انما هو للاكتفاء عن
اعتبار العلو عن ذلك بنحو من اللطافة ، وهو ان مرادهم من اعتبار العلو اعتبار صدور
الامر من العالي بما هو عال لا من ذات العالي أو للاكتفاء عنه باعتبارهم ان يكون
بداعي البعث. فتدبر جيدا.
__________________
وبما ذكرناه يمكن
الجمع بين كلمات القوم ، ويظهر انه لا خلاف بينهم في هذا المقام.
الامر محمول على الوجوب
الجهة الثالثة :
لا اشكال في ان الامر محمول على الوجوب.
انما الكلام في
انه ، هل يكون منشأ ذلك وضعه للدلالة عليه ، أو الاطلاق ومقدمات الحكمة ، أو حكم العقل.
المعروف والمشهور
بين الاصحاب هو الأول.
واختار جماعة القول الثاني.
وذهب جمع من
المحققين منهم المحقق النائيني (ره) إلى الثالث ، وهو الاظهر.
__________________
والوجه في ذلك
سيأتي في مقام بيان وجه دلالة الصيغة على الوجوب ، فانه يجرى في المقام لان معنى
لفظ الامر المستعمل في مقام الطلب هو معنى صيغة الامر ، فالكلام فيهما واحد.
وقد استدل المحقق
الخراساني للقول الأول بانسباق الوجوب عنه عند اطلاقه .
ويرده انه ممنوع
بعد استعماله في الكتاب والسنة في موارد الاستحباب كثيرا ، وكذا في العرف ، وصحة
تقسيمه اليهما ولو باعتبار الأمور الخارجية ، وصحة السؤال عن كونه وجوبيا ام
استحبابيا بعد الامر بشيء ، مع انه نرى بالوجدان انه لا يصح ان يقال : ان زيارة
الحسين ـ عليهالسلام ـ أو صلاة الليل ، لم يؤمر بها في الاسلام فلو كان حقيقة
في الوجوب لصح هذه الدعوى ، ثم انه. أيد ما افاده بامور اربعة :
الأول : قوله
تعالى (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) .
وتقريب كونه مؤيدا
: ان التحذير في الآية الشريفة رتب على الامر غير المقيد بشيء ، فمقتضى اطلاقها ان
الامر ملازم للتحذر ، ومعلوم ان هذا لازم الامر الوجوبي لا الاستحبابى.
وفيه : ان اصالة
العموم أو الاطلاق انما يرجع إليها لتسرية الحكم إلى ما
__________________
علم كونه فردا
للعام أو المطلق ، وشك في ثبوت الحكم له ، لا فيما علم ثبوت الحكم أو عدمه ، وشك
في كونه فردا له فلا يصح التمسك بها لاثبات فردية المشكوك فيه أو عدمها.
الثاني : قوله (ص)
" لو لا أن أشق على امتى لامرتهم بالسواك" .
وتقريب الاستدلال
به أو جعلة مؤيدا امران :
الأول : ما مر
والجواب عنه ما عرفت.
الثاني : ان
مفهومه انه بما ان الامر يوجب المشقة فما امرت بالسواك ، مع ان الطلب الندبى متعلق
بالسواك قطعا ، فيستكشف من ذلك عدم صدق الامر على الطلب الندبى.
وفيه : ان التمسك
باصالة الظهور انما يكون فيما كان اللفظ ظاهرا في شيء ولم يعلم كونه مرادا كما لو
احرز وضع لفظ الاسد للحيوان المفترس ، وقال المولى جئني بأسد ، ولم يحرز ان
المطلوب هو ذلك ، أو الرجل الشجاع ، فيرجع إلى اصالة الظهور لاثبات ان المطلوب هو
ما يكون اللفظ ظاهرا فيه ، واما لو كان المراد معلوما ، فلا يصح التمسك بها لاثبات
انه المعنى الحقيقي إذ مدركها بناء العقلاء وهو انما يكون على التمسك بها لكشف
المراد ، لا لكيفية الاستعمال بعد معلومية المراد.
وفي المقام حيث
انه علم ان المراد من عدم الامر به عدم الامر الوجوبي لا
__________________
يصح التمسك باصالة
الظهور لاثبات ان الامر الوجوبي يكون موضوعا له بخصوصه.
وبذلك : ظهر تقريب
دلالة قوله لبريرة بعد قوله (ص) أتامرني يا رسول الله ، لا بل انا شافع ، والجواب
عنه.
مع انك قد عرفت في
مبحث اعتبار العلو عدم كون مثل ذلك امرا حقيقة ولو كان ندبيا فراجع ، فهو اجنبي عن
المقام بالمرة.
الرابع : صحة
الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة امره وتوبيخه على مجرد مخالفته كما في
قوله تعالى (قَالَ مَا مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) .
وفيه : انا نسلم
ذلك ولكن نقول انه من جهة حكم العقل بوجوب اطاعة المولى ما لم يرخص في ترك ما امر
به وليس في ذلك دلالة على كون الوجوب هو الموضوع ، له وسياتى لذلك زيادة توضيح
فانتظر.
* * *
__________________
الجهة الرابعة : في اتحاد الطلب والارادة
ولا يخفى اني كتبت
سابقا رسالة مستقلة في الجبر والتفويض ثم كررت النظر فيها فغيرت بعض مطالبها واضفت
إليها بعض المطالب فها انا أذكرها في المقام بتمامها مع هذه التغييرات ليعم
الانتفاع بها.
* * *
الجبر والاختيار
من المسائل المهمة
مسألة" الجبر والاختيار" ، وهي من أقدم الابحاث العلمية ، اشتغل بها
المتفكرون والفلاسفة ، والآراء فيها كثيرة سنذكر عمدتها.
وقد عرفت أن أشهر
المتفكرين السابقين المتعرضين للمسألة هو" أرسطو" وقد تعرض للمسألة في
كتاب" الاخلاق إلى نيقوماخوس".
وأساس الآراء
والعقائد" الجبر" و" التفويض" و" الامر بين الامرين" ، لان أفعال الإنسان دائرة بحسب الاحتمال العقلي بين أمور ثلاثة
:
__________________
الأول : أن لا
يكون لقدرته وارادته دخل فيها.
الثاني : أن لا
يكون المؤثر فيها سوى قدرته وارادته.
الثالث : أن يكون
حصول الفعل مستندا إليه نفسه وإلى الله تعالى. فالاول هو" الجبر"
والثانى" التفويض" والثالث" الامر بين الامرين".
أقوال الجبريين
أما الجبريون فلهم
مسالك شتى عمدتها مسلكان :
__________________
أحدهما : ما عن
الجبريين على الاطلاق ، منهم جهم بن صفوان
واتباعه ، وهو أن
أفعال العباد غير اختيارية لهم وهم مقهورون في أفعالهم وليس لارادتهم دخل فيها ولا
كسب. ولا فرق عندهم بين مشى زيد وحركة يد المرتعش ، ولابين الصاعد إلى السطح
والساقط منه.
الثاني : ما ذهب
إليه جماعة منهم أبو الحسن الاشعري وأتباعه وهم
__________________
كثيرون ، فانهم
لما رأوا شناعة المذهب الأول فروا منه بما لا ينفعهم ، وقالوا : ان أفعال العباد
الاختيارية واقعة بقدرة الله وحده وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى
عادته بأنه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك صانع أوجد فيه فعله
المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى ابداعا وإحداثا ومكسوبا
للعبد.
وقد ذكروا في
المراد من الكسب وجوها ، أحسنها ما قاله القاضى أبو بكر الباقلانى ، وهو أن الإنسان ، وان كان فعله صادرا عنه بغير تأثير منه
في صدوره ، الا أن تلونه بلون حسن أو قبيح انما يكون بقدرته واختياره. مثلا : ضرب
اليتيم إذا صدر منه يكون المؤثر في أصل تحققه هو الله تعالى ، الا أن قصد كونه
للتربية فيكون حسنا أو الظلم فيكون قبيحا انما فوض إلى العبد ، وهذا هو المعيار
للثواب والعقاب .
ولكن الظاهر أنه
لا ينفعهم ذلك أيضا ، إذا القصد بنفسه فعل من
__________________
الأفعال ، فعلى
القول بالكسب لا بد وأن يكون ذلك أيضا صادرا عن إرادة الله تعالى وقدرته ، فلا
اختيار أصلا.
ولعله لذلك قال العلامة
المجلسي (ره) : والمراد بكسبه اياه مقارنته لقدرته وارادته ، من غير أن يكون هناك
تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلا له .
وقالوا نسبة الفعل
إلى العبد باعتبار قيامه به لا باعتبار ايجاده له.
والالتزام بأحد
هذين المذهبين مستلزم لانكار التحسين والتقبيح العقليين
بالاضافة إلى
أفعال العباد ، لانهما انما يكونان على الأفعال الاختيارية.
ألا ترى أن السيف
إذا وقع آلة لقتل من يحسن قتله لا يحسِّنه العقلاء.
وعلى القول بالجبر
السياف والسيف متساويان في القتل وكل منهما آلة لوقوعه ، فالسياف أيضا لا يستحق
التحسين.
كما ان القائلين
بأحد هذين القولين" أي الجبر" وقعوا في اشكال تكليف العصاة ، لانه ان لم
تكن إرادته تعالى متعلقة بالفعل فلا يكون التكليف جديا ، وان كانت إرادته متعلقة
به فكيف تتخلف عن المراد.
وفي مقام الجواب
عن هذه العويصة ، التزموا بأن التكليف انما يكون طلبا ، وهو غير الإرادة ، وتخلف
إرادته تعالى عن المراد غير ممكن ، وأما طلبه فلا محذور
__________________
في تخلفه عن
المطلوب.
فمع فرض عدم تعلق
إرادته تعالى بالصلاة مثلا يأمر بها ، وبه يوجد الطلب ، وتخلفه عن المطلوب لا
محذور فيه.
ولذلك التزموا بأن
التكليف بما لا يطاق جائز ولا بأس به.
وبما ذكرناه ظهر
أن توجيه المحقق الخراساني (ره) ـ كلام الاشاعرة القائلين بالمغايرة بين الطلب والارادة ،
بأن المراد من المغايرة مغايرة الانشائى من الطلب كما هو المنصرف إليه اطلاقه ،
والحقيقي من الإرادة كما هو المراد منه غالبا حين اطلاقها ، فيكون النزاع لفظيا ـ توجيه
في غير محله.
وحيث لا ريب ان
الله تعالى يعاقب طائفة لاجل ترك الواجبات وفعل المحرمات ، فلا مناص لهم من انكار
التحسين والتقبيح العقليين بالاضافة إليه تعالى أيضا ، والا فبناء على القول بهما
لاوجه لعقابه على الفعل غير الاختياري.
ويترتب على
الالتزام بأنه يعاقب على الأمور غير الاختيارية سلب العدالة عنه ، ولذا التزموا
بأن له أن يعاقب أشرف الانبياء ويثيب أشقى الاشقياء ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
__________________
القول بالتفويض
وأما المفوضة فحفظا لعدالة الله تعالى التزموا بأن أفعال العباد غير
مربوطة به تعالى وتمام المؤثر فيها هو العبد .
ولكن لازم هذا
القول نفى السلطنة عنه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
والمثال العرفي
الذي يوضح هذا المذهب : انه إذا فرضنا أن المولى أعطى
__________________
لعبده كأساً من
الخمر مع علمه بأنه يشربه وبعد ذلك خرج أمر الشرب عن اختياره بحيث لو شاء أن لا
يقع في الخارج لما تمكن منه ، فالشرب إذا صدر منه باختياره لا يكون مستندا إلى
المولى بوجه ، فانه حين صدوره عنه يكون أجنبيا عنه بالمرة.
وأكثر القائلين
بالتفويض ـ وهم المعتزلة ـ قائلون بوجوب الفعل بعد إرادة العبد.
وبعضهم قال بعدم
وجوب الفعل بل يصير أولى.
قال المحقق الطوسي
: ذهب مشايخ المعتزلة وأبو الحسن البصري وإمام الحرمين من أهل السنة إلى أن العبد
له قدرة قبل الفعل وإرادة بها تتم مؤثريته فيصدر منه الفعل ، فيكون العبد مختارا
إذا كان فعله بقدرته الصالحة للفعل والترك تبعا لداعيه الذي هو إرادته. والفعل
يكون بالقياس إلى القدرة وحدها ممكنا ، وبالقياس إليها مع الإرادة يصير واجبا.
وقال محمود
الملاحمي وغيره من المعتزلة : ان الفعل عند وجود القدرة والارادة يصير أولى
بالوجود ، حذرا من أن يلزمهم القول بالجبر لو قالوا بالوجوب ، انتهى .
ولا يخفى ان
للتفويض معنيين آخرين :
أحدهما : رفع
الحظر والمنع عن أفعال العباد وان جميع أفعالهم مباحة.
__________________
قال الشيخ المفيد في شرح الاعتقادات : والتفويض هو القول برفع الحظر عن
الخلق في الأفعال والاباحة لهم ما شاءوا من الاعمال ، وهذا قول الزنادقة وأصحاب
الاباحات ، انتهى.
ثانيهما : ايكال
أمر الخلق والرزق وتدبير العالم إلى بعض العباد ، قال الامام علي ابن موسى الرضا :
على ما في خبر رواه الصدوق باسناده عن يزيد بن عمير : ومن زعم أن الله عزوجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه فقد قال بالتفويض .
__________________
معنى الامر بين الامرين
وأما" الامر
بين الامرين" فهو أمر دقيق لا يعلمه الا العالم أو من علمه اياه العالم كما
في خبر صالح بن سهل ، وسر الله كما في النبوى وبمعناهما أخبار أخر.
وقد قال الفخر
الرازي : حال هذه المسألة عجيبة ، فان الناس كانوا فيها مختلفين أبدا بسبب أن ما
يمكن الرجوع فيها إليه متعارض متدافع.
ثم ذكر جملة من
أدلة الطرفين ثم قال : وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملو
__________________
مما يوهم الامرين
وكذا الآثار ، وان من أمة من الامم لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الاوضاع
والحكايات متدافعة من الجانبين ، حتى قيل ان وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على
القدر . انتهى.
ومثله في الاعتراف
بالشك والحيرة محيى الدين بن العربي في محكى الفتوحات.
ولعلمائنا في
تحقيقه مسالك :
الأول : ما ذهب
إليه الشيخ المفيد (ره) في شرحه على الاعتقادات وهو أن الله أقدر الخلق على
أفعالهم ومكنهم من أعمالهم وحد لهم الحدود في ذلك ونهاهم عن القبائح بالزجر
والتخويف والوعد والوعيد ، فلم يكن بتمكينهم من الاعمال مجبرا لهم عليها ، ولم
يفوض الاعمال إليهم لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم
عن قبيحها. ثم قال : فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض ، انتهى.
وهو حسن ، ولكن لا
يصح تنزيل الاخبار الكثيرة الواردة في بيان الامر بين الامرين التي ستمر عليك جملة
منها على ذلك.
الثاني : أن
المراد به أن الله تعالى جعل عباده مختارين في الفعل والترك مع قدرته على صرفهم
عما يختارون وعلى جبرهم على فعل ما لا يفعلون.
__________________
وهذا أيضا حسن ،
الا أن الظاهر كون الامر بين الامرين أدق من ذلك كما سيمر عليك.
الثالث : أن
المراد به أن الاسباب القربية للفعل بقدرة العبد والاسباب البعيدة كالآلات
والادوات والجوارح والاعضاء والقوى بقدرة الله سبحانه ، فقد حصل الفعل بمجموع
القدرتين.
وإليه يؤول ما نسب
إلى المحقق العراقى في تقريرات بحثه ، قال بعد كلام له : ومعه يصح أن يقال لا جبر
في البين ، لكون أحد مبادئ الفعل هو اختيار الإنسان المنتهي إلى ذاته ، ولا تفويض
بملاحظة كون بقية مبادئه الاخرى مستندة إليه تعالى ، ولا مانع من أن يكون ما
ذكرناه هو المقصود
بقوله عليهالسلام" لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين" .
ويرده أن التفويض
بهذا المعنى لم يقل به أحد يحتاج إلى نفيه.
الرابع : أن
التفويض المنفى هو تفويض الخلق والرزق وتدبير العالم إلى بعض العباد.
وهذا أيضا غير
مربوط بما تعرضت له النصوص الكثيرة المروية عنهم عليهمالسلام.
الخامس : أن
المراد به أن فعل العبد واقع بمجموع القدرتين والارادتين والتأثيرين من العبد ومن
الرب سبحانه ، والعبد لا يستقل في ايجاد فعله وليس
__________________
قدرة العبد بحيث
لا تأثير لها في فعله أصلا ، وستعرف ما فيه.
السادس : ما ذكره
المحدث الكاشانى (ره) في الوافي ، قال بعد كلام له : ولنذكر في بيانه ما ذكره
بعض المحققين موافقا لما حققه المحقق الطوسى نصير الملة والدين في بعض رسائله
المعمولة في ذلك ، قال : قد ثبت أن ما يوجد في هذا العالم فقد قدر بهيئته وزمانه
في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده ، وقد ثبت أن الله تعالى قادر على جميع
الممكنات ولم يخرج شيء من الاشياء عن مصلحته وعمله وقدرته وايجاده والا لم يصلح
لمبدئية الكل.
إلى أن قال :
فأعمالنا وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه وقدره ، وهي واجبة الصدور منا
بذلك ولكن بتوسط أسباب وعلل من ادراكاتنا وارادتنا وحركاتنا وسكناتنا وغير ذلك من
الاسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا.
__________________
إلى أن قال : ولما
كان من جملة الأسباب ارادتنا وتفكرنا وتخيلنا فالفعل اختياري لنا ، فان الله تعالى
أعطانا القوة والاستطاعة ليبلونا أينا أحسن عملا مع احاطة علمه ، فوجوبه لا ينافي
امكانه واضطراريته لا تدافع كونه اختياريا ، كيف وانه ما وجب الا بالاختيار.
ثم أخذ في بيان
عدم اختيارية الارادة إلى أن قال : فنحن اذاً في عين الاختيار مجبورون . فنحن إذا مجبورون على الاختيار.
وهو كما سيمر عليك
ليس أمرا بين الامرين بل هو عين الجبر.
وللاصحاب تقاريب
أخر له ، ولكن بعضها يرجع إلى ما تقدم وبعضها يؤول إلى الجبر.
والحق في تصويره
أن يقال : ان الجبر المنفى هو قول الاشاعرة والجبرية المتقدم ، والتفويض المنفى هو
قول المعتزلة أنه تعالى أوجد العباد واقدرهم على أعمالهم وفوض إليهم الاختيار ،
فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيتهم وقدرتهم ، وليس لله تعالى في أعمالهم صنع.
وأما الامر بين
الامرين فهو أن الفعل انما يصدر عن اختيار العبد وقدرته ،
__________________
وله أن يفعل وأن
لا يفعل ، ومع ذلك حياته وقدرته واختياره كلها متحققة بافاضة الباري تعالى ، بحيث
لو لم يفض إليه واحدا منها لزم منه عدم صدور الفعل وعدم تحققه.
والمثال العرفي ـ الذي
يوضح ذلك ـ انه : إذا فرضنا أن العبد لا يتمكن من تحريك اليد الا مع ايصال القوة
الكهربائية ، فأوصل المولى القوة إليها آنا فآنا ، فذهب العبد باختياره إلى قتل
نفس والمولى يعلم بذلك ، فالفعل بما أنه صادر من العبد باختياره فهو اختياري له ،
وبما أن المولى يعطى القوة للعبد آنا فآنا فالفعل مستند إليه ، وكل من الاسنادين
حقيقي بلا تكلف وعناية.
وهذا واقع"
الامر بين الامرين" الذي تطابقت عليه الروايات الواردة عن المعصومين (ع).
وقد صرح بذلك
المحقق النائيني (ره) .
وإليه يرجع ما
أفاده المحقق الأصفهاني (ره) قال : ان العلة الفاعلية ذات المباشر بارادته وهي
العلة القريبة ووجوده وقدرته علمه وارادته لها دخل في فاعلية الفاعل ، ومعطى هذه
الأمور هو الواجب تعالى ، فهو الفاعل البعيد. فمن قصر النظر على الأول حكم
بالتفويض ، ومن قصر النظر على الثاني حكم بالجبر ، والناقد البصير ينبغى أن يكون
ذا عينين انتهى.
__________________
كما أنه يمكن
توجيه ما أفاده العلامة المجلسي (ره) في جملة من كتبه بنحو يرجع إلى ذلك.
أدلة الجبريين لما ذهبوا إليه
الوجه الأول :
وقد استدل للقول
بالجبر بقسمين من الوجوه :
أحدهما من ناحية
العوامل الطبيعية.
الثاني من ناحية
ما وراء الطبيعة.
أما الأول : فقد
استدل له بأن الفعل يصدر عن الإرادة ومعلول لها ، والارادة اما أن تكون ارادية
صادرة عن إرادة أخرى أو تكون غير ارادية ، فان كانت
__________________
ارادية كانت
معلولة لارادة أخرى ، وينتقل الكلام إلى تلك الإرادة التي تكون علة لهذه الإرادة ،
فلا بد وأن تنتهي إلى أمر غير ارادي والا لزم التسلسل.
فان انتهت إلى أمر
غير اختياري ، أو التزمنا بأنها غير ارادية فلا محالة يكون الفعل غير اختياري ،
وذلك لان الجبر على العلة جبر على المعلول.
وبعبارة أخرى :
المعلول لامر غير اختياري خارج عن تحت الاختيار ، كما هو واضح.
جواب الحكماء ونقده
وقد أجيب عن ذلك
بأجوبة :
أحدها : ما عن
الحكماء ، وهو أن وجوب الفعل وكونه ضروريا من ناحية إرادته لا ينافي الاختيار.
وبعبارة أخرى :
ضرورية الفعل ووجوبه وعدم امكان تركه لا تنافى الاختيار ، بل الفعل الاختياري هو
الفعل الذي ان شاء فعل وان شاء لم يفعل ، ولا يلزم في صدق القضية الشرطية أن يكون
طرفاه ممكنين ، بل يمكن أن يكونا واجبين ويمكن أن يكونا ممتنعين.
فضرورية الفعل أو
الترك لا تنافى الاختيار ، والا فلو كان وجوب الفعل موجبا لخروج الفعل عن الاختيار
لزم أن لا يكون الله سبحانه فاعلا مختارا ، إذ الصادر الأول منه تعالى لا بد أن
يكون ذاته تعالى علة تامة لوجوده ، إذ المفروض
أنه ليس هناك شيء
آخر غير ذاته ، فصدور الصادر الأول يكون واجبا ضروريا والا لزم تخلف المعلول عن
علته التامة.
وفيه : ان وجوب
الفعل من ناحية علته لا ينافي امكانه لكنه ينافي مع اختياريته ، وأما وجوب الصادر
الأول فسيأتي الكلام فيه.
جواب المحقق العراقي ونقده
الجواب الثاني :
ما عن المحقق العراقي (ره) وحاصله :
إن الإرادة
والاختيار من قبيل العوارض اللازمة لوجود الإنسان غير المحتاجة إلى جعل آخر وراء
جعل المعروض ، كما هو الشأن في كل ما هو عارض لازم للماهية أو الوجود ، كالحرارة
للنار.
فالانسان ، ولو في
بعض مراتب وجوده ، مقهور بالاتصاف بصفة الاختيار ، ويكفى في تحقق صفة الاختيار
للانسان تعلق الإرادة بوجود الإنسان.
ولا ريب في أن كل
فعل صادر من الإنسان بارادة له مباد ، كعلم بفائدته ، وكشوق إليه وقدرة عليه.
وعليه فيكون الفعل
الصادر عن الإنسان له نسبتان :
__________________
احداهما إليه
باعتبار تعلق اختياره به الذي هو من لوازم وجود الإنسان المجعولة بجعله لا بجعل مستقل
، والاخرى إلى الله تعالى باعتبار ايجاد سائر المبادئ ، وحينئذٍ فليس الفعل مفوضا
إليه بقول مطلق ولا مستندا إليه سبحانه كذلك ليكون العبد مقهورا عليه.
وفيه : أولا : ان
ما هو؟ مجعول بجعل الإنسان على فرض تسليم كونه من لوازم وجود الانسان هو قوة
الاختيار ، وصيرورة تلك فعلية انما تكون تدريجية وتتجدد على النفس وتنعدم ، فيبقى
السؤال عن أن فعلية تلك القوة تحتاج إلى علة تامة ، فيعود المحذور.
وثانيا : ان لازم
هذا التقريب هو كون الاختيار نفسه غير اختياري ، فيبقى إشكال أن الجبر على العلة
جبر على المعلول.
ما هو الحق في نقد هذا الوجه
وهناك أجوبة أخر
لا يهمنا التعرض لها.
والحق في الجواب
عن هذا الوجه يبتني على بيان مقدمات :
تجرد النفس عن المادة
الاولى : ان كل
انسان يجد في نفسه مشاهدة أن له وراء الاعضاء وأجزاء
بدنه التي يشعر
بها بالحسِّ أو بنحو من الاستدلال كالاعضاء الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة
والاعضاء الباطنة التي عرفها بالحسِّ والتجربة ، معنى يحكي عنه ب" أنا"
، وتارة يعبر عنه ب" الروح" ، وأخرى ب" الذات" ، وثالثة
ب" النفس".
والدليل على كون
تلك الحقيقة غير الاعضاء الظاهرة والغرائز والشئون الداخلية أمور :
١ ـ ان بقية الاجزاء
تكون غافلة عن أنفسها ، مثلا : أعصاب اليد لا تتوجه إلى أنها أعصاب اليد وهكذا.
وهذه الحقيقة لا
تغفل عن نفسها ، بل تشعر بها وبسائر الاعضاء.
٢ ـ ان هذه تحدد
الغرائز وتتبارز معها ، ولا يعقل مبارزة الشيء مع نفسه.
٣ ـ انه لو كانت ـ
هي : البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه أو خاصة من خواصه الموجودة فيه ، وهي
جميعا مادية ، ومن أحكام المادة الانقسام ، والتجزئ ، والتغيُّر التدريجي ـ لكانت
مادية قابلة للانقسام ومتغيرة ، وليست كذلك ، فانا نجد من أنفسنا بعد المراجعة إلى
هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لانفسنا ، ونذكر ما كنا نجده من هذه المشاهدة منذ
أول شعورنا بأنفسنا ، معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تغير وتعدد ،
كما نجد أبداننا وأجزاءها والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة في
موادها وأشكالها وسائر أحوالها وصورها ، وكذا نجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام
والتجزي كما نجد البدن وأجزاءه وخواصه.
فليست تلك الحقيقة
هو البدن ولا شيئا من أجزائه ، ولا خاصة من خواصه.
وأنكر الماديون
وجود هذه الحقيقة ، وقالوا : ان الإنية التي نشاهد ليست إلا سلسلة الاعصاب التي
تؤدي الادراكات إلى العضو المركزي ، وهو الجزء الدماغي على التوالى وفي نهاية
السرعة ، غاية الامر على صفة الوحدة.
ففى ذلك الجزء
الدماغي مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها وقيام
الآخر مقامه ، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب"
أنا" ، فالذي نرى أنه ثابت فهو في الحقيقة مشتبه على المشاهدة من جهة توالي
الواردات الادراكية وسرعة ورودها.
وذكر بعضهم في
تنظيره بقوله : كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو
مملوء دائما ، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا وهو بحسب الواقع لا واحد
ولا ثابت ، وكذا يجد صورة الإنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا وليس بواحد
ثابت بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لأجزاء الماء فيه.
وعلى هذا النحو
وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس ، والذى نرى أنه غير جميع أجزائنا
صحيح لكنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه ، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالى
والتوارد لا تغفل عنه ، فان لازم الغفلة وقوف الاعصاب عن أفعالها ، وهو الموت.
وأيضا قالوا : ان
كل خاصة من الخواص البدنية وجدنا علتها المادية ولم نجد
أثرا روحيا لا
يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى نحكم بوجود حقيقة الإنيّة.
وقال المتأخرون
منهم : ان المتحصل من التشريح والفزيولوجيا ان الخواص الروحية الحيوية تستند إلى
جراثيم الحياة والخلايا التي هي الاصول في حياة الإنسان ، فالنفس أثر مخصوص لكل
واحد منها أرواح متعددة ، فالإنيّة المشهودة للانسان على صفة الوحدة مجموعة متكونة
من أرواح غير محصورة على صفة الاجتماع ، ولذا هذه الخواص الروحية تبطل بموت
الخلايا وتفسد بفسادها ، فلا معنى للروح المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني.
هذه هي عمدة ما
استدل بها الماديون على نفى أمر آخر وراء أعضاء البدن ، وهناك وجوه أخر يظهر ما
فيها مما نورده على هذه الوجود.
ويرد على الوجه
الأول : انه إذا كان المفروض أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ، وليس وراء تلك
الأمور شيء آخر ، وكون ما نرى من الامر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه
الادراكات الكثيرة.
فما الموجب لحصول
هذا الواحد الذي لا يشاهد غيره ، ومن أين حصلت الوحدة؟.
وما ذكروه من
الوحدة الاجتماعية غير مربوطة بالمقام ، فان الواحد الاجتماعي هو الكثير في الواقع
الواحد في الحس أو الخيال ، لا في نفسه ، والمدَّعى في المقام كون الادراكات
الكثيرة في أنفسها هي شعور واحد عند أنفسها.
وان قيل : ان
المدرك في المقام هو الجزء الدماغي.
توجه عليه : ان
المفروض أن ليس للجزء الدماغي ادراك آخر وراء هذه الادراكات متعلقا بها كتعلق
القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صورا حسية.
وان قيل : انه لا
وحدة لها وانما يشتبه الامر على الحس أو القوة المدركة فتدرك الكثير واحدا.
أجبنا عنه : بأن
الاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بمقايسة ما عند الحس بما في الخارج من واقع
هذه المشهودات.
وأما ما عند الحس
في نفسه فهو أمر واقعى.
مثلا : نشاهد
الجرم العظيم من بعيد صغيرا كنقطة سوداء ، فما عند الحس ـ وهي النقطة السوداء ـ لا
اشتباه فيها ، وانما الاشتباه يكون لو قايسنا ما عنده بما في في الخارج من واقع
ذلك المشهود. والمفروض في المقام أن لا مقام آخر وراء الادراكات الكثيرة كي يحكم
بالاشتباه والغلط من مقايسة ما فيه بتلك الادراكات.
ويرد على الوجه
الثاني : ان المثبتين لا يسندون بعض الافاعيل البدنية إلى البدن وبعضها إلى النفس
، والاول فيما علله ظاهرة ، والثانى فيما علله مجهولة كي يرد عليهم ما ذكر. بل
يسندون جميع الافاعيل إلى البدن بلا واسطة وإلى تلك الحقيقة مع الواسطة ، وانما
أسندوا إلى النفس ما لا يمكن اسناده إلى البدن ، وهو علم الإنسان بنفسه ومشاهدته
ذاته كما تقدم.
ويرد على الوجه
الثالث مضافا إلى ما أوردناه على الوجه الأول : ان غاية ما
يمكن أن يثبت بما
ذكر من الاصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي : ان العلل الطبيعية لا تقى بوجود
الروح ، ولا تصلح أن يستنتج منها وجوده. وقديما قالوا" عدم الوجدان لا يدل
على عدم الوجود".
فالمتحصل : ان
وجود تلك الحقيقة المعبر عنها ب" أنا" غير قابل للانكار.
وتلك الحقيقة لها
حكومة على سائر الاعضاء والغرائز ولها أن تفشل ما يميل إليه سائر الاعضاء ، وهي
العاملة القوية الموجبة لحصول الاعتدال بين ما هو أساس الغرائز ، وهو حس جلب النفع
ودفع الضرر ، مع التكاليف الاجتماعية والدينية ، وبالنتيجة تصير الأفعال موافقة
للقوانين الخارجية.
الشوق ليس علة للفعل الاختياري
الثانية : ان
الموجب لصدور الفعل الاختياري هو أعمال هذه الحقيقة قدرتها في العمل لا الشوق ، إذ
نرى بالوجدان أنه بعد تحقق الشوق الاكيد المتعلق بالهدف وبنفس الفعل ، يمكن لتلك
الحقيقة المشار إليها آنفا أن تمنع عن الفعل وتمنع عن تحققه وتوجب أن لا يوجد.
قال ارسطو : ان ما
هو سبب صدور الفعل هو ذلك لا الشوق المشترك بين الإنسان وسائر الحيوانات.
وأيضا ربما يعارض
ذلك مع الشوق والرغبة ولا يعقل المبارزة الا مع التعدد.
وأيضا ان الشوق
يتعلق بالمجال والممتنع ولا يعقل تعلق الاختيار به.
نعم ، لا ننكر أن
العوامل الخارجية والداخلية ربما تبلغ من الشدة إلى حد تغفل الحقيقة الإنية عن
نفسها ، مثلا : لو استمعت صوتا حسنا وغفلت عن نفسها ، وفي مثل ذلك لا محالة يصدر
الفعل لكنه فعل غير اختياري وخارج عن تحت القدرة.
وبالجملة : لا ريب
في أن مجرد الشوق لا يوجب تحرك العضلات لما يرى بالوجدان أنه ربما يشتاق الإنسان
إلى شيء ولا يتحقق المشتاق إليه الا بعد أعمال القدرة وحملة النفس. مثلا : لو وقف
الإنسان على قنطرة وكان في أحد طرفيها بساتين فيها رياحين واشتاق إلى الذهاب إليها
كمال الاشتياق وكان في الطرف الآخر النار مشتعلة لودنا منها لاحترق وكره الذهاب
إليها كمال الكراهة ، ومع ذلك لا يتحقق ما تعلق شوقه به ، بل يرى نفسه بعد ذلك
قادرا على الذهاب إلى كلا الطرفين.
فمن هذا يستكشف أن
الشوق لا يكون علة للفعل ، بل بينهما واسطة ، وهو أعمال القدرة ، حيث أن زمام
البدن بيد النفس تقلبه حيث ما شاءت ، فبعد تحقق الشوق لها أن تعمل قدرتها في الفعل
فيفعل ، وهذا معنى ما يقال" شئت ففعلت" ، ولها أن لا تعمل فلا يتحقق الفعل.
وهذا الاعمال الذي
يكون فعل النفس ، يعبر عنه بالمشيئة والاختيار ، وحملة النفس والارادة والفعل يصدر
عنه لا عن الشوق.
قانون العلية العامة
الثالثة ان قانون
العليَّة والمعلولية ، بمعنى أن الموجود يحتاج إلى علة لاجل وجوده ووجوب تحقق
المعلول عند تحقق العلة بتمام أجزائها وامتناع تحققه مع عدم جزء منها ، وان تم في
الموجودات غير الأفعال الاختيارية الا أنه لا يتم في الاختيار ، بحيث يكون
الاختيار لازم التحقق عند تمامية علته وان لا يعقل وجوده مع عدم العلة.
وبعبارة أخرى :
احتياج كل ممكن حادث إلى علة لا ينفك عنها ، ممنوع ، لعدم البرهان عليه ، بل
البرهان على خلافه ، فان الاختيار فعل النفس ، والنفس توجده ولا تكون الأمور
الخارجية ولا الغرائز الداخلية التي أساسها حب البقاء المنشعب منه حس جلب النفع
ودفع الضرر ، إذ ربما يكون جميع ذلك موجودة والنفس متوجهة إليها ومع ذلك لا يختار
الفعل.
وما ذكره المحقق
الأصفهاني (ره) من أن دعوى عدم احتياج بعض
__________________
الممكنات إلى
العلة من الغرائب ، إذ الممكن مساوق للمفتقر.
مندفع : بأنا لا
ندّعي وجود الممكن بذاته ونلتزم بافتقاره إلى الموجد ، الا أنا نقول : ان احتياج
كل ممكن ولو كان فعلا اختيارا إلى العلة التامة ـ أي ما لا ينفك عن وجوده الفعل
يحتاج إلى دليل مفقود في المقام.
ومما يؤيد ما
ذكرناه انه لا عين ولا أثر في الآيات والروايات عن عليّة الله تعالى للموجودات ،
واحتياج الممكن إلى العلة ، بل انما عبر فيها باحتياج الممكن إلى الموجد والخالق
والصانع.
إذا عرفت هذه
المقدمات ، يظهر لك أن السبب لوجود الفعل الاختياري ليس هو الشوق ، حتى تكون شبهة
الجبر شبهة لا يمكن دفعها ، بل السبب هو أعمال النفس قدرتها في الفعل وأنها تامة
في الأفعال الاختيارية بلا محرك آخر ، فالجواب عنها واضح.
ايرادات هذا الجواب ونقدها
وربما يورد على
هذا الجواب بايرادات :
__________________
أحدها أن الاختيار
بهذا المعنى حادث أم واجب ، فان كان واجبا لزم أن يصحبه من أول وجوده ، وان كان
حادثا ولكل حادث محدث فوجود الاختيار يكون بايجاد الموجد.
والموجد اما أن
يكون هو أو غيره؟
فان كان هو بنفسه
فان كان باختيار آخر لزم التسلسل ، فلا بد وأن يكون وجود الاختيار بغير الاختيار ،
فيكون مجبورا على الاختيار من غيره.
وبما أن الجبر على
العلة جبر على المعلول فالفعل يصدر جبرا.
وبعبارة أخرى :
الاختيار لا يكون واجبا بالبداهة بل هو ممكن ، وبما أن كل ممكن يحتاج في وجوده إلى
العلة التامة فهو معلول لعلة وتلك العلة اختيارية أم غير اختيارية ، فان كانت
اختيارية وصادرة عن اختيار آخر ينقل الكلام إلى ذلك الاختيار ، فلا بد وأن ينتهي
إلى علة غير اختيارية وإلا لزم التسلسل.
فان انتهى إلى علة
غير اختيارية أو من الأول التزمنا بذلك فيعود المحذور ويثبت الجبر ، إذ القصر على
العلة قصر على المعلول.
وفيه : ان الجواب
عن هذه الشبهة يتوقف على بيان مقدمتين :
الاولى : انه لا
يعتبر في انصاف الفعل بكونه اختياريا سوى القدرة عليه واستناد الفعل إليها ، ولا
يعتبر سبق الاختيار وان كان اختيارية الفعل الخارجي مساوقة لذلك. ولا يكفي مجرد
القدرة ، فلو كان الشخص قادرا على الذهاب إلى محل خاص ولكن لم يعمل قدرته في ذلك
بل أجبر عليه وكان بتحريك الغير ، لا يكون هذا الفعل اختياريا.
الثانية : ان كل
ممكن بما أن الوجود والعدم بالاضافة إليه على حد سواء لا يعقل وجوده بنفسه ، فلا
محالة يحتاج إلى الموجد ليخرج به عن حد الاستواء ، وغير الأفعال الاختيارية من
الموجودات يحتاج إلى العلة التامة ، وأما الأفعال الاختيارية فلا يتوقف صدورها
عليها ، بحيث يكون الموجد لها لا يكاد ينفك عنها كما عرفت. وبعبارة أخرى : دعوى
احتياج الأفعال الاختيارية إلى شيء يستحيل انفكاكها عنه ، من الاشتباهات الناشئة
عن التعبير باحتياج الممكن في وجوده إلى العلة.
وبهذا البيان
يندفع ما يقال : كيف يلتزم بوجود الصانع القديم وحدوث الممكنات ، ولو كان الله
تعالى علة لما أمكن التخلف ولزم القدم في جميع الممكنات.
إذا عرفت هاتين
المقدمتين :
فاعلم : ان أعمال
القدرة والاختيار انما يكون فعلا قائما بالنفس ، وهي موجدة له بنفسها ويكون هو
اختياريا بلا احتياج إلى العلة التامة.
والنفس ليست علة
تامة له حتى يستحيل انفكاكه عنها فيعود المحذور ، بل النفس موجدة له ، فتارة يوجد
الداعي لها فتوجده ، وأخرى لا ينقدح لها الداعي فلا توجده ، فالفعل الخارجي
اختياري للنفس بوساطة اختيارية فعل النفس لا بنفسه ، لانه ليس من أفعالها ولكن
لسلطنة النفس على البدن وكون العضلات منقارة للنفس في حركاتها وليس لها مزاحم في
سلطانها يكون الفعل الخارجي اختياريا للنفس.
ومعنى كونه
اختياريا لها صدوره مسبوقا بالاختيار.
وأما فعل النفس ،
وهو أعمال القدرة ، فهو اختياري لها بنفسه بلا وساطة شيء آخر وبلا احتياج إلى سبق
اختيار آخر.
وهذا نظير العلم ،
حيث أن المعلوم ينكشف بوساطته وهو منكشف بنفسه ، ولعل هذا هو المراد من الرواية
الشريفة المتضمنة انه" خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق" الاشياء
بالمشيئة" ، فلا وجه لتوجيهها بتوجيهات بعيدة كما عن بعض المحقين.
وما ذكره المحقق
الأصفهاني من أن إرادته تعالى التي هي أيضا من أفعاله ، يستحيل أن تكون عين ذاته ،
لاستحالة كون الفعل عين فاعله ، فلا محالة تكون قائمة بذاته. فان كانت قديمة بقدمه
كان حال هذا القائل حال الاشعري الملتزم بقدم الصفات الزائدة على الذات وهو باطل
بالضرورة.
وان كانت حادثة
كان محلها الواجب ، إذ لا شيء آخر يقوم به ، فيلزم كون الواجب محلا للحوادث ،
فيكون حال هذا القائل حال الكرامية القائلين بحدوث الصفات .
مندفع بما ستعرف
من أن إرادته تعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات ، وليست أفعاله تعالى نظير
أفعالنا ، بل إرادته ليست الا خلقه وأرزاقه وغيرهما من أفعاله.
__________________
وعليه فدعوى عدم
كون إرادته من سنخ الأفعال الصادرة عن الاختيار ، حتى يكون موجودا قائما بنفسه أو
بموجود آخر ، فاسدة.
وعلى الجملة ليس
قيامها به الا كقيام سائر الأفعال به ، بل هي هي.
الثاني ما في
مقالات المحقق العراقي (ره) من أن انعزال الإرادة (أي الشوق) عن التأثير وكون تمام
المؤثر هو الاختيار (أي أعمال القدرة) خلاف الوجدان. كيف ويعتبر في العبادات أن
تكون ارادة قربية ، ولو انعزلت الإرادة عن التأثير فلا معنى لارادية العبادة ولا
لنشوّها عن قصد القربة ، وهو كما ترى .
أقول : ينبغى أن
يعد صدور هذا الكلام من هذا المحقق النحرير من الغرائب ، وذلك لان المراد من
ارادية الفعل صدوره عن الاختيار الذي يكون واسطة بين الشوق والفعل ، ومعنى اعتبار
الإرادة القربية في العبادة أنه حيث يكون الاختيار بدواعى مختلفة فيعتبر في
العبادات أن يكون بداع القربة ويكون المحرك أمر المولى ، وهذا لا ينافي ثبوت
الواسطة بين الشوق والعمل.
الثالث ما في
تقريرات بحثه ، وحاصله : انا لا نتعقل شيئا في النفس يحدث بعد الإرادة ، إذ للنفس
قسمان من الفعل ، الجانحي ، والجارحي ، والاول ينحصر في التصور والتصديق ونحوهما
مما يكون من مبادئ الإرادة ولا يعقل تأخره عنها ، والثانى نفس الأفعال الخارجية.
وفيه : ان المدعى
ثبوت فعل من ما يكون من قبيل القسم الأول أي الفعل
__________________
الجانحى ، ولكن
دعوى عدم معقولية تأخره عن الشوق فاسدة ، إذ لو أريد تأخر ما يكون متقدما عليه ،
فهو واضح البطلان وأما لو أريد به وجود فعل آخر ـ وهو حملة النفس الذي عرفت أن
الوجدان يساعد على وجوده ـ فهو لا يكون متقدما كي يلزم منه تأخر ما هو متقدم.
عدم استحالة الترجيح بلا مرجح
تذنيب : لا يخفى
أنه بعد ما عرفت من عدم كون الشوق علة للفعل ، فاعلم أنه الداعي والمرجح لوجود
الاختيار غالبا ، لان الاختيار في وجوده يحتاج إلى موجد وهو النفس ومرجح وهو الشوق
غالبا ، والاحتياج إلى المرجح انما يكون لاجل الخروج عن اللغوية ، والا فيمكن
ايجاد الفعل الاختياري بلا مرجح ، لعدم استحالة الترجيح بلا مرجح.
توضيح ذلك : انه
لا اشكال ولا كلام في استحالة الترجح بلا مرجح ، بمعنى وجود الشيء بلا موجد ، لان
الممكن في وجوده محتاج إلى المؤثر وهو المرجح للوجود. وهذا من البداهة بمكان.
وأما الترجيح بلا
مرجح فقد وقع الخلاف في امكانه.
فالتزم اكثر
الفلاسفة والحكماء بامتناعه.
وذهب جماعة من
المحققين إلى امكانه ، وهو الاقوى عندي.
إذ محصل البرهان
الذي ذكر للامتناع أن الترجيح بلا مرجح يرجع إلى الوجود بلا موجد ، وحيث أنه محال
فهذا أيضا محال.
توضيحه : أنه لو فرضنا
تساوى الفعلين من جميع الجهات وكانت نسبة الإرادة اليهما متساوية فتعلق الإرادة
الذي هو موجود من الموجودات بأحدهما دون الآخر يكون بلا مرجح وبلا موجد ، فيلزم
الوجود بلا موجد ، ومن البديهي امتناعه.
وفيه : انه بعد ما
عرفت من أن الموجد للاختيار هو النفس لا يلزم الوجود بلا موجد من الترجيح بلا مرجح
، إذ ليس لتعلق الإرادة بالفعل وجود آخر غير وجود الإرادة والاختيار ، بل للاختيار
وتعلقه بالفعل وجود واحد ، لكونه من الصفات التعلقية ، وموجد هذا الوجود هو النفس.
فلا يلزم المحذور
المذكور ، اذ لها الخيار في ايجاد كل منهما ، فلا يترتب على ايجاد أحدهما دون
الآخر محذور عقلي.
فالاقوى بحسب
البرهان امكان الترجيح بلا مرجح.
ويضاف إلى ذلك
الوجدان ، فراجعه في موارده ترى أن ما ادعيناه واضح لا سترة عليه. بداهة أن الهارب
يختار أحد الطرفين مع عدم مرجح له بالخصوص.
ودعوى وجود
المرجحات الخفية في أمثال هذا المورد. لا يمكن المساعدة عليها ، فعهدة اثباتها على
مدعيها. هذا كله في امكان الترجيح بلا مرجح.
وأما الكلام في
قبحه ، فالحق هو التفصيل.
توضيح ذلك : أن
ترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، ومنه ترجيح الفعل على الترك إذا كان مرجوحا ،
وأما إذا تساويا فان لم يكن ترجيح في نوع الفعل :
بأن لم تترتب
فائدة على الفعلين أصلا ، يكون قبيحا أيضا ، إذ مرجع ذلك إلى ايجاد الفعل بلا
فائدة ، وهو قبيح لكونه عبثا.
وأما إذا كان
المرجح في النوع ولم يكن في واحد بالخصوص فلا بد من التفصيل بين التكوينيات
والتشريعيات ، والالتزام بالقبح في الثانية دون الاولى ، وذلك لانه في التشريعيات
إذا فرضنا قيام المصلحة بالجامع بين الفعلين أو بكل منهما ولم يكن لاحدهما ترجيح
على الآخر ، فحيث أن الأمر بالجامع أو أحدهما ممكن لا محذور فيه ، كما هو المفروض.
فالامر بأحدهما لاوجه له ، لان المصلحة لا تختص به ، فالتخصيص قبيح.
وأما في
التكوينيات فحيث أن اختيار الجامع وايجاده بلا خصوصية محال وما يوجد لا محالة يكون
مع احدى الخصوصيتين فلا يكون ترجيح أحدهما قبيحا ، بداهة أن الجائع يختار أحد
القرصين مع عدم مرجح لاحدهما ، ولا يعد فعله قبيحا ، بل قد يعد عدم الترجيح قبيحا
، كما لو لم يختر أحدهما حتى مات من الجوع.
قانون الوراثة
وقد يستدل للجبر
بقانون الوراثة والعادة :
وتقريب الأول :
انه لا اشكال ولا ريب في أن الاوصاف الجسمية والروحية للابوين لها تأثير تام في
صفات الولد ، وهي تكون سببا للفعل ومؤثرة فيه بلا كلام.
ولكنه يندفع : بأن
قانون الوراثة لا ينكر وقد أشير إليه في كثير من الروايات ، ولذلك حدد الشارع
الاقدس للتزويج حدودا من الطرفين معللة بتأثير روحيات الابوين في الولد ، الا أنه
ليس تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف ، وذلك لما نرى بالوجدان أنه ربما يتولد من الابوين الخبيثين
أولاد طيبون وبالعكس.
وأيضا لو كان
تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف لكانت التربية لغوا.
أضف اليهما أنا
نرى بالوجدان أنه قد يغير الآداب والرسوم في زمان واحد في مجتمع ، وهذا أقوى شاهد
على أن الوراثة لا تقدر على اجبار الإنسان ، مع أن القوانين المجعولة للاقوام
والملل تصلح شاهدة على ذلك.
الاعتياد
وتقريب الثاني :
ان العادة من الغرائز الداخلية الارتكازية الموجبة بعد طى مراحلها الثلاث ،
لصيرورة الفعل غير اختياري ، وقالوا : ان العادة طبيعة ثانوية ، وان العادة توجب
كون الفعل غير ارادي.
وفيه : ان العادة
لا تصلح مانعة عن تسلط الحقيقة الآنية ونظارتها على الغرائز الداخلية والاعضاء
الظاهرية. وصيرورة الفعل غير اختياري فانها وان كانت توجب عدم التوجه حين الاتيان
بالفعل بخصوصياته وعدم تعلق الإرادة التفصيلية المستقلة بكل جزء من أجزائه ،
ولكنها لا تصير سببا لعدم التمكن
من ترك الفعل ،
وليس معنى اختيارية الفعل الا ذلك.
الندامة واحساس المسئولية
وبعد ما عرفت من
عدم تمامية ما استدل به على الجبر من حيث العوامل الطبيعية ، يمكن أن يستدل
للاختيار من تلك الناحية بوجوه :
منها : أنا نرى
بالوجدان الفرق بين حركة يد المرتعش وحركة اليد الإرادية ، فالاولى جبرية ،
والثانية اختيارية ، ولا برهان أصدق من الوجدان.
ومنها انه لا
اشكال في أن كل فرد من أفراد الإنسان يجد في نفسه حالة الندامة وفي غيره آثارها مع
التقصير في بعض الأفعال الموجب لتوجه ضرر إليه أو إلى غيره أو سلب نفع عنه ، ولا
يجدها مع عدم التقصير ، كما لو وجد ذلك الفعل من غير اختيار ، وليس ذلك الا من جهة
كون الأول اختياريا دون الثاني.
مثلا : إذا لم يقم
لمن يلزم احترامه وانطبق عليه عنوان الهتك والاهانة ، فان كان ذلك عن تقصير تحصل
الندامة ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، كما إذا لم يتوجه إلى وروده ، وهكذا في سائر
الأفعال. وهذه آية قطعية على اختيارية بعض الأفعال.
ومنها ان الإنسان
يحس بالمسئولية أمام القانون أعم من الالهى أو الحكومي ، ولو لم يكن هناك اختيار
لما كان لذلك وجه ، لان العمل غير الاختياري لا يصح المؤاخذة عليه عقلا.
فان قيل : ان
احساس المسئولية انما هو من جهة جعل الجزاء على العمل ، وهو انما يكون من جهة
تأثيره في تبديل العمل.
وبعبارة أوضح : ان
جعل ذلك انما هو اضافة عامل داخلي آخر إلى العوامل الداخلية المؤثرة في الإرادة
والاختيار جبرا ، فلا يكون ذلك آية كون الاختيار اختياريا.
قلنا : ان فرض
تأثير هذا الجعل في تغيير مصير الإرادة فرض اختيارية الإرادة ، إذ لو لا كونها
اختيارية لم يكن يؤثر هذا الجعل في تغييرها.
الاستدلال للجبر بمبدئية الله سبحانه
القسم الثاني ما
استدل به للجبر من ناحية ما وراء الطبيعة ، وهو أمور :
أحدها : أنه قد
ثبت في محله أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات وانه مبدأ الكل ولا مؤثر في
الوجود الا هو ، ومن جملة الاشياء أفعالنا الاختيارية ، فهي مخلوقة لله سبحانه
ابداعا وإحداثا ، قال الله عزوجل (ذَلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ لاإِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) ، وقال سبحانه (وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وقال تعالى (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
__________________
اللهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ) فكل ما يصدق عليه اسم شيء ـ ومن ذلك الأفعال الاختيارية ـ فهو
مخلوق لله تعالى منسوب إليه.
أقول : انه كما لا
تنافى بين تأثير العلل والاسباب الطبيعية في المعلولات والمسببات نظير تأثير النار
في الحرارة وما شاكل ، وبين مبدئيته تعالى بعد كون زمام أمر العلل والاسباب بيده
سبحانه ، ولذلك قد يسند القرآن الأفعال الطبيعية إلى فواعلها ، وقد يسند الجميع
إلى الله سبحانه. كذلك لا تنافى بين كون الفعل الاختياري منسوبا إلى الإنسان وبين
استناده إلى الله تعالى بعد كون أصل وجوده وحياته وقدرته حدوثا وبقاءً بافاضة من
الله.
ولذلك نرى أنه قد
جمع في كثير من الآيات بين الاثباتين جميعا ، فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله
سبحانه ، كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَمَا تَعْمَلُونَ) ، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه
تعالى ، وقوله عزوجل (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً
إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إليه تعالى.
مع أن الآيات
المشار إليها انما هي في غير الأفعال الاختيارية ، بل فيما يجعل شريكا لله تعالى
من الجن والشمس والقمر وما شاكل ذلك وتدل على أنها
__________________
بأجمعها مخلوقة
له.
أضف إلى ذلك أن
غاية ما هناك دلالة الآيات على كون جميع الاشياء مخلوقة لله تعالى ، ومنها الأفعال
الاختيارية ، فيخصص عمومها بالآيات الكثيرة المتضمنة لنسبة الأفعال الاختيارية إلى
العباد البالغة مائة آية ، كقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وقوله سبحانه : (فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن
دَسَّاهَا) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
بل لو تدبرنا في
القرآن الكريم نجد أنه تعالى نسب في ما يقرب من ثلاثمائة آية العمل والفعل إلى
الإنسان ، وعليه فلا شك في تخصيص الآية الشريفة بها.
الاستدلال للجبر بانتهاء الأفعال إلى إرادة الله تعالى
ثانيها : ان أفعال
العباد اما أن تكون متعلقة لمشيئة الله وارادته الازلية.
واما أن لا تكون
كذلك.
وعلى الأول يجب
وجودها وإلا لزم تخلف المراد عن إرادته.
وعلى الثاني يمتنع
وجودها ، إذ بما أن أفعال العباد من الممكنات وكل ممكن
__________________
لا بد وأن يوجد
بارادته وإلا لزم التصرف في سلطان المولى ، فيمتنع وجودها ان لم تكن إرادته تعالى
متعلقة بها ، فجميع أفعال العباد انما توجد بارادة الله فيجب وجودها وليس للعبد
اختيار في الفعل.
توضيح كلام المحقق الخراساني
وأجاب عنه المحقق
الخراسان (ره) في الكفاية ـ بعد ما وجه تكليف العصاة بأن إرادته تعالى هو العلم
بالصلاح ، فان كان المعلوم ما هو صلاح بحسب النظام الكلى فنفس هذا العلم من دون
حالة منتظرة علة للتكوين ، وان المعلوم ما هو صلاح بحسب بعض الاشخاص لا بحسب النظام
التام فهو علة لاعلام ذلك الشخص بما هو صلاحه ، وفيه المصلحة والمفسدة ، وما لا
محيص عنه في الأفعال الاختيارية المتعلقة للتكاليف هو الثاني دون الأول.
نعم إذا توافقا لا
بد من الاطاعة والايمان ، وان تخالفا لا محيص عن اختيار الكفر والعصيان.
وأورد على نفسه :
بأنه إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان بارادة الله تعالى التكوينية التي
لا تتخلف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف لكونها خارجة عن الاختيار
المعتبر فيه عقلا. بما حاصله بتوضيح منا :
ان إرادة الله
تعالى لو كانت متعلقة بفعل العبد وان لم يرد لكان ذلك
__________________
مستلزما للجبر
وعدم قدرة العبد وارادته في الفعل لفرض وجوب صدوره ، ففيما اراده العبد من باب
الاتفاق يكونان ، أي الفعل والارادة معلولين لعلة واحدة وهي الإرادة الالهية. واما
ان كانت متعلقة بفعله بما له من المبادئ المصححة لاختياريته في حد ذاته من القدرة
والارادة والشعور ، فلا يستلزم ذلك الجبر ، لفرض عدم تعلق الإرادة بالفعل وان لم
يرده العبد بل بماله من المبادئ الاختيارية أيضا ، فلا مجال لدعوى الاختيارية
لوجوب الصدور.
ثم أورد على نفسه
أيضا : بأن ما ذكر يكفي في صحة التكليف ويخرج بذلك عن اللغوية. لا أنه يبقى السؤال
عن وجه المؤاخذة والعقاب ، لان اشكال وجوب الفعل بارادة الباري ـ الذي توهمه
الاشعري ـ يندفع بما ذكر ، كما أن اشكال وجوب الفعل بارادة الفاعل ، مندفع بأن ذلك
يؤكد اراديته ، الا أن اشكال وجوب الإرادة نفسها التي هي من الممكنات المستندة إلى
إرادة الباري الواجبة بالذات الموجبة لعدم اختيارية الفعل المعلول لها لان الجبر
على العلة جبر على المعلول ، يبقى بحاله. ومعه لا يصح العقاب ، لانه لا يصح
المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار.
وأجاب عنه : بأن
العقاب تابع للكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن
الشقاوة الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما.
وليس مراده بذلك
ما احتمله بعض من أن المثوبة والعقوبة من تبعات الأفعال ولوازم الاعمال ونتائج
الملكات الفاضلة وآثار الملكات الرذيلة ، ومثل هذه العقوبة على النفس لخطيئتها
كالمرض على البدن ، المؤيد ذلك بقوله
تعالى : (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُواْ
يَعْمَلُون).
وقوله (ص) "
انما هي أعمالكم ترد اليكم" . لا من جهة منافاة ذلك لظاهر الكتاب والسنة ، فانه يمكن أن
يقال : ان المادة حيث كانت مستعدة فهي مستحقة لافاضة الصورة المنافرة من الله
تعالى ، ونسبة التعذيب والادخال في النار إليه تعالى بملاحظة أن افاضة تلك الصورة
المؤلمة منه تعالى بتوسط ملائكة العذاب.
بل من جهة أن
الجواب لا يناسب مع مبنى الاشكال ، وهو أنه كيف يؤاخذ على ما لا ينتهي بالآخرة إلى
الاختيار ، ولامع قوله بأنه عقاب على الكفر والعصيان الناشئين عن الاختيار.
بل الظاهر أن
مراده أن العقاب انما هو من معاقب خارجي ، غاية الامر يكفي في صحة المؤاخذة التي
يكون استحقاقها بحكم العقل والعقلاء ، هذا المقدار من الاختيار المصحح للتكليف ،
كما نشاهد ذلك بالنسبة إلى الموالى العرفية ومؤاخذة العبد إذا أمروه بشيء وخالفه ،
إذ لو كان الفعل بمجرد استناده إلى الله تعالى غير اختياري وغير صالح للمؤاخذة لما
صحت مؤاخذة الموالى العرفية أيضا ، وإذا كان الفعل في حد ذاته قابلا للمؤاخذة عليه
لم يكن هناك فرق بين كون المؤاخذة ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة أو غيره.
__________________
غاية الامر يبقى
سؤال ، وهو أنه تعالى لم أوجد من سيوجد منه المهلكات ، أو لم أوجد نفس مقدمات
الاختيار الموجبة لأنواع العقوبات ، وهل لا يكون ذلك منافيا لرحمة رب الارباب؟
والظاهر أن
قوله" اللازمة لخصوص ذاتهما" الخ ، اشارة إلى الجواب عن ذلك.
وجه ايجاد من سيوجد منه المهلكات
وحاصله كما أفاده
بعض المحققين يظهر بعد بيان مقدمات :
الأولى : ان لكل
ماهية من الماهيات في حد ذاتها حدا معينا بحيث لو زيد عليه أو نقص عنه خرجت عن
كونها تلك الماهية. مثلا : ماهية الشجر جوهر ممتد نام ، ولو زيد عليه الحاسية صار
حيوانا ، ولو نقص عنه النمو صار جمادا.
الثانية : ان
لماهية الاشياء نحو وجود في العلم الازلي الربوبي بتبع العلم بالوجودات.
الثالثة : ان
المجعول بالأصالة هو الوجود والماهية مجعولة بالتبع والعرض ، وجدانها لذاتها
وذاتياتها ولوازمها غير محتاج إلى جعل وتأثير ، ولا يعقل الجعل
__________________
بين الشيء ونفسه
ولا بينه وبين لوازمه.
الرابعة : ان كل
ممكن غير متوقف على ممتنع بالذات يجب وجوده ، إذ لا نقص في طرف مبدأ المبادئ ولا
في المعلول لفرض امكانه ولا في الوسائط والاسباب لفرض عدم التوقف على الممتنع
بالذات ، وغيره يجرى فيه هذا البيان.
إذا عرفت هذه
المقدمات :
يظهر لك أن تفاوت
الماهيات في أنفسها ولوازمها بنفس ذواتها لا بجعل جاعل وتأثير مؤثر ، فمنهم شقي
ومنهم سعد بنفس ذاته وماهويته ، حيث أن الماهيات كانت موجودة في العلم الازلي
وطلبت بلسان حال استعدادها الدخول في دار الوجود ، وكان معطي الوجود فياضا بذاته
غنيا بنفسه فيجب عليه افاضة الوجود ويمتنع عليه الامساك عنه ، وحيث ان الجود
بمقدار قبول القابل وعلى طبق حال السائل كانت الافاضة عدلا وصوابا.
فالاعتراض ان كان
بالقياس إلى الماهية فهو باطل بأن الشقي شقي في حد ذاته ، والسعيد سعيد في حد
ذاته.
وان كان بالاضافة
إلى الوجود.
فيدفعه أن افاضة
الوجود على وفق قبول القابل عدلٌ وصواب.
ويمكن أن يقال :
ان ما في النبوى الشريف مع قطع النظر عما ورد في
تفسيره"
الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه" يكون اشارة إلى ذلك ، والاختصاص ببطن الأم اما لانه أول
النشآت الوجودية عند الجمهور ، أو أن المراد بالبطن مكنون الماهية ، واطلاق الأم
على الماهية بلحاظ جهة قبولها كما أطلق الاب على الله تعالى في بعض الكتب السماوية
بلحاظ جهة فاعليته.
الموجب لاختيار الله تعالى العقاب
ويبقى السؤال عن أنه
: ما الموجب لاختيار الله تعالى العقاب بعد استحالة التشفي في حقه؟
ويمكن الجواب عنه
بوجهين :
احدهما : ما عن
جماعة من الاساطين منهم الشيخ الرئيس والمحقق
__________________
الأصفهاني (ره) وهو أن التعذيب من باب تصديق التخويف والايفاء بالوعيد
الواجبين في الحكمة الالهية ، فان خلاف الميعاد مناف للحكمة وموجب لعدم ارتداع
النفوس من التوعيد.
وفيه : ان وجهه
حفظ النظام ، والحكيم يراعى المصلحة العامة الكلية ، فكما لو لا تخويف من يرتدع
حقيقة بالردع لما ارتدع ولم يبق نظام الكل محفوظا كذلك لو احتمل المجرم بما هو
مجرم أنه لا يعذب ، فعموم التخويف له دخل في حفظ النظام الذي لا أتم منه نظام.
ثانيهما : ان
استحقاق العقاب انما هو بحكم العقل ، من جهة أن العصيان والمخالفة خروج عن زى
الرقية ورسم العبودية ، وهو ظلم والظالم يستحق العقاب.
هذا كله فيما يرجع
إلى شرح مطالب الكفاية ، وانما أطلنا الكلام في ذلك دفعا للشبهة المغروسة في أذهان
الاكثر من أن المحقق الخراساني يصرح بالجبر.
ومع ذلك ففى كلامه
مواقع للنظر يظهر عند بيان المختار في الجواب عن هذا الوجه.
__________________
إرادة الله تعالى على قسمين
وحاصله يبتني على
بيان أمور :
الأمر الأول : ان
إرادة الله تعالى على قسمين التكوينية والتشريعية ، والمراد بالاولى هو فعله تعالى
واحداثه وخلقه كما نطقت بذلك النصوص الكثيرة.
لاحظ صحيح صفوان
بن يحيى قلت لابي الحسن عليهالسلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال : الإرادة من
الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله تعالى فارادته احداثه
لا غير ذلك ، لانه لا يروي ولا يهمّ ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات
الخلق ، فارادة الله لا غير ذلك ، يقوله له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا
همّة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له . ونحوه غيره.
والمراد بالارادة
التشريعية جعل الاحكام.
وبما ذكرناه يظهر أن
ما أفاده المحقق الخراساني (قدِّس سره) ـ تبعا للحكماء والفلاسفة من تفسير إرادة
الله تعالى بالعلم.
في غير محله ، فان
العلم عين ذاته تعالى والارادة فعله واحداثه ، وبينهما بون بعيد.
__________________
وأضعف من ذلك ما
عن جماعة منهم ، من ارجاع الإرادة في الله تعالى إلى العلم مفهوما.
مع أنه لو أغمض
عما ذكرناه وسلم كونها عين ذاته ، ما استدلوا به على تغاير العلم والقدرة والحياة
في الله سبحانه ، وهذا يجرى في الإرادة أيضا.
والوجدان أقوى
شاهد على التغاير ، فان قولنا" الله عالم" و" الله مريد" ليسا
من قبيل المترادفين نظير" زيد انسان" و" زيد بشر" بل الضرورة
قاضية بأنه يفهم من كملة" الله عالم" شيء" ومن كلمة" الله
مريد" شيء آخر.
وأيضا قاضية بأن
الاعتقاد بان الله تعالى عالم ليس اعتقادا بأنه مريد ، والبرهان على كونه عالما لا
يكون برهانا على أنه مريد.
نعم لو التزمنا
بثبوت إرادة ذاتية فيه سبحانه وراء الارادة في مرتبة فعله ، لا مصداق له فيه سوى
علمه تعالى ، ولكن لا دليل على ثبوتها.
إرادة الله من صفات الفعل
الامر الثاني ان
إرادة الله تعالى من صفات الفعل لا من الصفات الذاتية ، وذلك لوجوه :
الأول انطباق ما
ذكرناه ضابطا لصفات الفعل من اتصافه بما يقابلها أيضا على إرادته ، ويقال : ان
الله تعالى مريد لوجود الإنسان وغير مريد لوجود العنقاء.
الثاني ان وجود
الموجودات ليس كمالا له تعالى حتى تكون إرادة وجودها من الصفات الكمالية الذاتية.
الثالث تطابق
الروايات الواردة عن المعصومين عليهمالسلام على ذلك.
لاحظ صحيح عاصم بن
حميد عن أبي عبد الله قال : قلت لم يزل الله مريدا؟
قال (ع) : ان
المريد لا يكون إلا المراد معه ، لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد . وهذا الخبر صريح في أن إرادته ليست من الصفات الذاتية.
وصحيح محمد بن
مسلم عنه (ع) : المشيئة محدثة . ونحوهما غيرهما.
أفعال العباد غير متعلقة لإرادة الله تعالى
الثالث ان إرادته
تعالى لو كانت من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة لكانت متعلقة بجميع الممكنات ،
ومنها أفعالنا لان الصفات الذاتية المتحدة مع الذات متعلقة بالجميع ، والا فلو لم
تكن متعلقة ببعض الممكنات لصح سلبها عنه تعالى بالاضافة إليه. وقد تقدم أن الصفات
الذاتية لا يمكن سلبها عنه.
ولكن بعد ما عرفت
من أنها من صفات الفعل ، فاعلم أن متعلقها الأعيان
__________________
الخارجية وأفعاله
، وأما أفعال العباد فلا تكون متعلقة لإرادته تعالى وان كان فيض الوجود والقدرة
وسائر المبادئ من قبل الله تبارك وتعالى ، بل موجد فعل العبد هو النفس بوساطة أعمال
القدرة بلا دخل لإرادته فيه ، فلا تكون أفعال العباد متعلقة لإرادته حتى يلزم
الجبر.
ولأئمتنا الأطهار
عليهم الصلاة والسلام كلمات في هذا الموضوع تشير إلى ما ذكرناه :
منها : ما رواه
المحقق المجلسي عن إمامنا الهادي (ع) : أنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله؟
فقال : لو كان خالقا لها لما تبرأ منها .
ومنها : خبر صالح
النيلي عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث : ولكن حين كفر كان في إرادة الله تعالى أن يكفر ،
وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير ، قلت : أراد منهم ان
يكفروا؟ قال عليهالسلام : ليس هكذا أقول ، ولكني أقول علم أنهم سيكفرون . ونحوهما غيرهما.
وعلى الجملة كون
إرادة الله تعالى من الصفات الفعلية وعدم تعلقها بأفعال العباد الاختيارية ، ينبغي
أن يعد من الأمور المسلّمة.
وما عن المتكلمين
من النزاع والجدال في أن إرادته تعالى حادثة أم قديمة ، يبتنى على أن يكون المراد
من الإرادة هو الشوق.
__________________
ولكن بعد ما عرفت
من أن الإرادة عبارة عن أعمال القدرة ، فكل ما قيل في هذا المقام في غير محله ، إذ
على ذلك لا ريب في أنها حادثة مخلوقة له.
فان قلت : ان
إرادته تعالى وان لم تكن متعلقة بفعل العبد الا أن إرادة العبد بما أنها خارجة عن
تحت قدرته فهي معلولة لإرادته تعالى وموجودة بايحاده ، فتكون إرادته علة لعلة
الفعل ، فتكون العلة واجبة الصدور والا لزم تخلف مراده عن إرادته ، فالفعل أيضا
يكون واجب الصدور ، لان الجبر على العلة جبر على المعلول.
توجه عليك ما تقدم
مفصلا من أن الاختيار فعل النفس. وهي موجدة له واختياري بنفس ذاته ، فلا تكون
إرادة العبد متعلقة لإرادة الله.
إذا تبينت لك هذه
الأمور انكشف جليا دفع هذا الوجه ، فان إرادة الله تعالى لا تكون متعلقة بأفعال
العباد ليلزم وجودها ولا يلزم من وجودها من دون تعلق إرادته به التصرف في سلطان
المولى ، بعد كون المبادئ بأجمعها تحت اختياره وقدرته كما مر ، فلا جبر.
الآيات التي استدل بها على تعلق إرادة الله تعالى بالأفعال
وقد يقال : ان في
القرآن الكريم قد انتسبت الإرادة ومشقاتها في ثلاث وأربعين آية إلى الله تعالى ،
وعلى ذلك فهي متعلقة بأفعال العباد وارادته لا تتخلف عن المراد ، فيعود محذور
الجبر.
ولكن يرد عليه أن
تلك الآيات على طوائف :
الأولى : الآيات
الدالة على عدم تخلف المراد عن إرادته.
نظير قوله تعالى :
(إِنَّمَا أَمْرُهُ
إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقوله عزوجل : (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ
لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ
نَفْعًا بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
وهذه الطائفة لا
تعين ما تتعلق به الإرادة ، بل تدل على أنه ان تعلقت إرادته بشيء يتحقق ذلك الشيء.
وهذا مما لا كلام فيه ولا نزاع حوله.
الثانية : الآيات
المتضمنة لجعل إرادة الإنسان موردا لإرادة الله تعالى.
كقوله سبحان : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا
لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا
مَذْمُومًا مَّدْحُورًا* وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا* كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلاء
وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا).
وهذه الطائفة لا
تدل على تعلق إرادة الله بالفعل الاختياري ، بل تدل على أن الإنسان مختار في كل ما
يريد ولا يكون مجبورا فيه ، غاية الامر ان الله تعالى يمد الفاعل المختار أيا ما
أراد بإعطاء الوجود والقدرة وسائر مبادئ الفعل ، فهذه الطائفة تدل على الاختيار
دون الجبر.
__________________
الثالثة : ما يدل
على أن الله تعالى لا يريد الظلم.
نظير قوله سبحانه
: (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ).
وعدم دلالة هذه
على المدّعى واضح. نعم ان كان للوصف واللقب مفهوم لكانت دالة على إرادة غير الظلم.
الرابعة : ما دل
على تعلق إرادته باليسر.
كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
وهذه الطائفة دالة
على تعلق الارادة التشريعية باليسر دون العسر ، وقد مر أنها تتخلف عن المراد.
وأما الآية
الكريمة : (وَلَا يَنفَعُكُمْ
نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن
يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) التي توهم دلالتها على ذلك ، بتقريب انها تدل على أن عدم
إيمان قوم نوح عليهالسلام انما كان من جهة إرادة الله تعالى المتعلقة بأفعالهم.
فيرد على
الاستدلال بها : ان الغي ليس بمعنى الضلالة ، بل من المحتمل إرادة البأس أو العقاب
منه.
وعلى الأول تدل
الآية على أن البأس الذي هو نتيجة أفعالهم الاختيارية
__________________
مورد لارادة الله
تعالى ، وإرادة النتيجة غير إرادة الفعل.
وبه يظهر ما فيه
على الثاني ، مع أنه لو كان بمعنى الضلالة يرد على الاستدلال بها ما سيأتي في
الآيات التي نسب فيها الضلال إلى الله.
وأما الآية
الشريفة : (فَمَن يُرِدِ اللهُ
أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ
يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
فذيلها قرينة على
أن جعل الله تعالى صدره ضيقا انما هو من جهة أن الكافر لم يؤمن باختياره ، فيكون
سبيل الآية الكريمة سبيل النصوص الكثيرة الدالة على ان العبد ربما يكون مخذولا
ومحروما من عناية الله تعالى بسبب ارتكابه بعض المعاصي ، كما أنه ربما يكون موفقا
بالحسنات والخيرات بواسطة التزامه ببعض الخيرات والحسنات فبعضها يكون معدا للآخر
ويعطي القابلية لان يوفقه الله تعالى لمرضاته ، وإذا ثبت ذلك في الضلالة ثبت في
الهداية أيضا.
المشيئة الالهية وافعال العباد
ولا يخفى أن كثير
من الآيات الكريمة تضمنت للمشيئة الإلهية.
واستدل بها تارة
لكون أفعال العباد الاختيارية متعلقة لها ، فلا بدَّ من
__________________
وجودها لاتحاد
الارادة والمشيئة ، وأخرى للجبر ، كقوله تعالى : (وَمَا تَشَاؤُونَ
إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ) ، وقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) ، وقوله عزوجل : (لِّلَّهِ ما فِي
السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن
يَشَاء) ، وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ) ، وقوله سبحانه : (قَالَ سَتَجِدُنِي
إِن شَاء اللهُ صَابِرًا) ، وقوله تعالى : (قُل لَّا أَمْلِكُ
لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاء اللهُ) ، وقوله عزوجل : (لَّوْ يَشَاء اللهُ
لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) ، وقوله تعالى : (وَلَا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا* إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ) إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة للمشيئة البالغة مائتي
آية.
ولكن لا دلالة في
شيء منها على ما استدل بها له.
__________________
أما الآية الأولى
وما بمضمونها ، فلان صدرها متضمن لبيان أن القرآن يكون هاديا وان الإنسان يكون
متمكنا من الهداية إلى الحق بواسطته ، ولكن الضالين لا يشاءون هذه الهداية بسوء
اختيارهم. فهي بقرينته تدل على أن الله تعالى لو شاء أن يجبرهم على أن يتخذوا إلى
ربهم سبيلا كان له ذلك ، ولكنه لم يشأ لان دار الدنيا دار الاسباب والاختيار ، بل
جعل ذلك تحت اختيارهم ومشيئتهم.
ويمكن أن يقال :
ان المراد بها" ما تشاءون الاسلام الا أن يشاء الله أن يلطف لكم في
الاستقامة" ، لما في الكلام من معنى النعمة.
وأما الآية
الثانية وما بمضمونها نظير قوله تعالى : (وَاللهُ يَهْدِي مَن
يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) ، وقوله سبحانه : (لَّيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) ، وقوله : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) إلى غير ذلك من الآيات ، فهي تدل على أن الهداية الخاصة
وكذا ما يقابلها مختصة بطائفة خاصة.
توضيحة : ان
الهداية هي الارشاد والدلالة ، والهدى ضد الضلال ، الهداية من الله تعالى على
قسمين عامة وخاصة.
والاولى : قد تكون
تكوينية ، وقد تكون تشريعية.
__________________
والهداية العامة
التكوينية ما أعدها الله تعالى في طبيعة كل موجود ، فهي تسري بطبعها أو باختيارها
نحو كمالها ، الفارة تفر من الهرَّة ولا تفر من الشاة ، والنمل يهتدي إلى تشكيل
جمعية وحكومة ، والطفل يهتدي إلى ثدي أمه. وهكذا ، قال تعالى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).
والهداية
التشريعية العامة هي افاضة العقل على الإنسان ثم ارسال الرسل وانزال الكتب.
وأما الهداية
الخاصة ، فهي عناية ربانية خصَّ الله بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته ، فيهيئ
له ما به يهتدى إلى كماله ويصل إلى مقصوده ، ولو لا تسديده لوقع في الغي والضلالة
، ومع ذلك لا يكون مجبورا في ذلك.
وفي امثال هذه
الآية أشير إلى نكتة لطيفة ، وهي الرد على القائلين بإله الخير وإله الشر ، أي
المجوس الملتزمين بأن وسائل الشر انما تكون متحققة بايجاد إله الشر ، وان الله
تعالى لايهيأ تلك الوسائل ، وتدل على ان الأسباب كلها من الله تعالى.
وأما الآية
الثالثة : وما بمضمونها فإنما تدل على أن جميع الأفعال واقعة تحت المحاسبة ، سواء أكانت
ظاهرة أم لا ، غاية الامر لله تعالى أن يغفر لمن يشاء.
وأما الرابعة ،
والخامسة : وما بمضمونهما من الآيات فغاية ما تدل عليه أنه حيث يحتمل من يريد أن
يعمل عملا أن يحدث ما يمنع عنه ، فعليه أن يتوجه إلى
__________________
الله تعالى ويسأله
أن تكون الحوادث بنحو لا تمنعه عما يريد.
وأما السادسة :
وما بمضمونها فملخص القول فيها ان المراد بالنفع والضرر ان كان هو الطبيعي منهما
فعدم ارتباطها بالمقام ظاهر ، وان كان ما ينشأ عن عدم العمل بالوظائف فكونه منوطا
بمشيئة الله تعالى انما هو من جهة كون جعل الوظيفة وبيانها على الله تعالى.
وبما ذكرناه في
الآيات السابقة يظهر ما في السابعة والثامنة.
الاستدلال للجبر بعلم الله تعالى
ثالثها ان الثابت
في محله أن علمه تعالى متعلق بجميع الموجودات ولم يخرج شيء عن تحت علمه ، ومنها
أفعالنا ، فكل ما يصدر منا متعلق لعلمه فيجب وجوده وإلا لزم كون علمه تعالى جهلا.
وان شئت قلت : انه
لتعلق علمه بالفعل لا بد وأن يوجد الفعل جبرا ، أو يتبدل علمه بالجهل ، وحيث أن
الثاني محال فيتعين الأول.
ويتضح الجواب عن
ذلك ببيان أمور :
الأول ان علمه
تعالى لا يكون متعلقا بأفعالنا فقط ، بل هو متعلق بها وبمقدماتها ، وإلا لزم كون
علمه محدودا ، واتصافه بمقابل العلم ، وهذا ينافي كون العلم من الصفات الذاتية.
وحيث ان من مقدمات
الفعل الاختياري الاختيار والارادة ، فيكون عالما
بصدور الفعل عن
الاختيار. ولو التزمنا بالجبر ولزوم صدور الفعل لزم انقلاب علمه جهلا ، إذ المعلوم
كون الفعل صادرا عن الاختيار ، والواقع صدوره جبرا.
الثاني أن علمه
تعالى ليس علّة للفعل ، كما أن علمنا بأنا سنفعل كذا لا يكون هذا العلم علة لذلك
الفعل ، فان حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه ولا ربط لذلك بصدور ذلك
الفعل ليكون علة له.
وأيضا فلو كان
علمه علّة لم يكن هناك حاجة إلى الإرادة ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وفي غير ذلك من الآيات والروايات جعلت الإرادة غير العلم ،
وقد تقدمت.
وقد عرفت أن تفسير
جماعة إرادته تعالى بعلمه غلط واشتباه مناف للاخبار والآيات.
فإن قيل : ما معنى
تصريح كثير من الفلاسفة بأن علمه تعالى فعلى لا انفعالي ، بعد كون ظاهره أن علمه
ليس تابعا للمعلوم بل المعلوم تابع له؟
قلنا : ان مرادهم
بذلك أن العلم :
تارة يطلق ويراد
منه نفس الاضافة المتأخرة عن وجود الطرفين التي هي المضاف الحقيقي.
وأخرى يطلق ويراد
منه مبدأ تلك الاضافة. والعلم بالمعنى الأول ليس من
__________________
الصفات الذاتية له
تعالى وإلا يلزم أن يكون لغير ذاته مدخلية في كمال ذاته ، وهو مستلزم لمدخلية غيره
في ذاته ، وهو ضروري البطلان.
بل العلم بالمعنى
الثاني ، أي مبدأ تلك الاضافة الخاصة كمال له وعين ذاته ، فعلمه بمعنى ما هو مبدأ
العالمية.
أو المراد أن علمه
بما أنه من الصفات الذاتية متحد مع ذاته ، وحيث أن ذاته مبدأ لجميع الموجودات حتى
أفعال العباد لان مبادئها من قبل الله تعالى ، فكذلك علمه المتحد مع ذاته ، فليس
معنى فعليّة علمه كونه علة لجميع الموجودات. وحيث أن ذاته لا تكون علة لافعال
العباد بل الموجد لها هو العبد ، فكذلك علمه المتحد مع ذاته.
الثالث أن علمه
تعالى كما يكون متعلقا بأفعال العباد كذلك يكون متعلقا بأفعاله ، فلو كان علة لزم
الالتزام بالجبر حتى في أفعاله سبحانه.
الاستدلال للجبر بسلطنة الله تعالى
رابعها : أن اثبات
القدرة للعبد واسناد الفعل إليه استقلالا أو مع الله والالتزام بأنه الموجد يستلزم
ثبوت الشريك له ، فلا بد من الالتزام بالجبر حفظا لسلطنة الله وأنه المتصرف
الوحيد.
وفيه : ان ذلك
انما يلزم لو كان للعبد استقلال ووجود وقدرة بنفسه ، وأما مع الالتزام بأنه محتاج
في وجوده وقدرته وسائر مبادئ الفعل بل بالنظر الدقيق هو كسائر الموجودات عين
الحاجة لا شيء محتاج ، فلا يلزم من اسناد الفعل إلى
العبد حقيقة عزل
الله تعالى عن ملكه أو تصرف الغير في سلطانه ، كيف هو وقدرته وجميع شئونه موجودة
بايجاده.
ولنمثل لتقريب ذلك
مثالا وان كان دون ما نحن فيه بكثير ، وهو : أن الغنى القادر القوى لو أعطى الضعيف
وأغنى الفقير ، وهو قادر في كل حين على سلبه وابقائه ، هل يتوهم أحد أن يعد الضعيف
شريكا للقوي؟ كلا.
وبهذا الذي ذكرناه
أخبر أمير المؤمنين (ع) عباية الاسدي حين سأله عن الاستطاعة التي يقوم بها ويقعد
ويفعل ويترك.
فقال له أمير
المؤمنين (ع) : اسألك عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية.
فقال له أمير
المؤمنين (ع) : قل يا عباية. قال : وما أقول؟
قال : ان قلت انك
تملكها من دون الله قتلتك ، وان قلت تملكها مع الله قلتك. قال : فما أقول؟
قال : تقول انك
تملكها بالله الذي يملكها من دونك . الحديث
فانظر إلى هذا
الحديث كيف كشف الغطاء ولم يدع على هذه الحقيقة من ستار.
__________________
الاستدلال للجبر باسناد الاضلال إلى الله تعالى
خامسها : انه قد نسب
الاضلال إلى الله تعال في كثير من الآيات ، قال الله تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي
مَن يَشَاء) ، وقال عزوجل : (قُلْ إِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) وقال سبحانه : (وَمَن يُرِدْ أَن
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي
السَّمَاء) فتدل هذه الآيات على أنه تعالى خالق الضلال والكفر في
العبيد ، فيصدهم عن الايمان ويحول بينهم وبينه.
وربما قالوا : ان
هذا هو حقيقة اللفظ بحسب اللغة ، لان الاضلال عبارة عن جعل الشيء ضالا ، كما أن
الاخراج والادخال عبارتان عن جعل الشيء خارجا وداخلا.
وأورد العدلية على
ذلك بوجوه :
الأول : انه لا
يقال لمن صد الطريق أنه أضله بل يقال منعه ، وانما يقال اضله إذا أغواه.
الثاني : ان الله
تعالى وصف الشيطان وفرعون وأمثالهما بالاضلال ، ومعلوم
__________________
أنهم ليسوا خالقين
للضلال في قلب أحد ، قال الله تعالى : (إِنَّهُ عَدُوٌّ
مُضِلٌّ مُبِينٌ) ، وقال : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ
قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) .
الثالث ان ذلك
يضاد كثيرا من الآيات ، كقوله : (وَمَا مَنَعَ
النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى) وقوله سبحانه : (فَمَا لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) ، وقوله عزوجل : (أَنَّى يُصْرَفُونَ) ، إلى غير ذلك من الآيات.
الرابع : ان الله
تعالى ذم ابليس ومن سلك سبيله في الاضلال والاغواء وأمر بالاستعاذة منهم.
قال سبحانه : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مِن
شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) ، وقال : (وَقُل رَبِّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد) ، وقال سبحانه : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ
__________________
قَوْمَهُ
وَمَا هَدَى) ، فلو كان الله تعالى هو المضل الحقيقي فكيف ذمهم عليه.
وأيضا لو وجبت
الاستعاذة منه كما وجبت منهم ، ولاستحق المذمة كما استحقوا ، ولوجب أن يتخذوه عدوا
كما وجب اتخاذ ابليس عدوا.
الخامس انه عزوجل في كثير من الآيات نسب الضلال إلى العصاة ، كما في قوله
تعالى : (وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ) ، وقوله سبحانه : (كَذَلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) .
فلو كان المراد
بالضلال هو ما هم فيه لزم منه تحصيل الحاصل وهو محال :
وأيضا فأمثال هذه
الآيات صريحة في أنه يفعل بهلم الاضلال بعد فسقهم ، فيكون مغايرا له.
السادس انه تعالى
يذكر هذا الضلال جزاءً لهم على سوء فعلهم وعقوبة عليه ، فلو كان المراد ما هم عليه
لكان ذلك تهديدا لهم بشيء هم عليه مقبلون وبه متلذذون.
ولذلك كله ذهب
العدلية إلى أنه يجب المصير إلى وجوه أخرى من التأويل :
الأول ـ أن يحمل
الاضلال على الاضلال عن الجنة.
الثاني ـ أن يحمل
الاضلال على الهلاك والابطال ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ
__________________
كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) ، وقوله تعالى : (وَقَالُوا أَإِذَا
ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
الثالث ـ أن
الضلال والاضلال هو العقاب والتعذيب ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ
وَسُعُر) .
الرابع ـ أن يكون
الاضلال هو التخلية وترك المنع ، فيقال أضل فلان ابنه إذا لم يتعاهده بالتأديب.
ويؤيده ما عن
العيون عن الامام الرضا (ع) في قوله تعالى" وتركهم في ظلمات لا يبصرون"
، قال : ان الله تعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، لكنه متى علم أنهم لا
يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم .
وقريب منه غيره.
الخامس ـ وهو أحسن
الوجوه ، انه إذا ضلَّ الإنسان باختياره عند حضور شيء من دون أن يكون ذلك علَّة
لضلاله بل غايته كونه من مقدماته البعيدة وعلله المعدة ، يقال انه أضله.
__________________
قال الله تعالى في
حق الاصنام (رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ، أي ضلوا بهن ، وقال (وَلَا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْرًا* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) ، أي ضل بهم كثير من الناس.
والاضلال بهذا
المعنى منسوب إلى الله تعالى نظرا إلى أن الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان
لها مبادئ خارجة عن دائرة اختياره ، كوجود الإنسان وحياته وإدراكه للفعل وشوقه
إليه ، وملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه وقدرته على ايجاده ، وتلك المبادئ موجدها
هو موجد الإنسان نفسه ، وقد ثبت في محله أن بقاء الاشياء واستمرارها في الوجود
محتاج إلى المؤثر في كل آن.
وعلى هذا فالكفر
والفسق إذا صدرا عن العبد باختياره بما أن مبادئهما من قبل الله تعالى فلذلك يصح
أن ينسبا إليه تعالى.
وبذلك يظهر الجواب
عما أورد على القرآن المجيد بأنه : قد يسند الفعل إلى العبد واختياره ، وقد يسند
الأفعال إلى الله تعالى ، وهذا تناقض واضح.
__________________
كلام العارف الشيرازي في معنى الاضلال
وللعارف الصدر
الشيرازي كلام في توجيه نسبة الاضلال إلى الله تعالى لا بأس بنقله ملخصاً ،
لاشتماله على مطالب دقيقة :
قال : ان الله
تعالى متجل للخلق بجميع صفات كماله وأسمائه ومفيض على عباده وعوالمه بكل نعوت
جماله وجلاله ، فالاول ما تجلى في ذاته لذاته ، فظهر من تجليه عالم أسمائه وصفاته
، فهي أول حجب الاحدية ، ثم تجلى بها على عالم الجبروت ، فحصلت من تجليه أنوار
عقلية وملائكة مهيمنة قدسية ، وهي سرادقات جبروتية ثم تجلى من خلق تلك الانوار على
العالم الملكوت الاعلى والاسفل ثم على أشباحها الغيبية والمثالية ، ثم على عالم
الطبيعة السماوية والارضية.
ولكل من هذه
العوالم والحضرات منازل وطبقات متفاوتة ، وكلما وقع النزول أكثر قلت هذه الانوار
الاحدية بكثرة هذه الحجب الامكانية ، وتراكمت النقائص والشرور بمصادمات الاعدام.
أو لا ترى أن كلا من الصفات السبعة الالهية التي هي أئمة سائر الصفات برية من
النقصان والامكان والكثرة والحدثان.
ثم إذا وقعت
ظلالها في هذا العالم الادنى حجبتها الآفات والشرور ولزمتها الاعدام والنقائص ،
فإذا ارتفعت عن عالم الاجسام زالت عنها تلك النقائص والشرور ورجعت إلى اقليم
الوحدة.
ثم زعم أن هذا هو
معنى الامر بين الامرين من الجبر والقدر ، وهو أن النقائص والقصورات اللازمة في
هذا العالم لبعض الصفات المنسوبة إلى الحق تارة وإلى الخلق ، اخرى انما نشأت ولزمت
من خصوصية هذا الموطن فعادت الينا لا إلى الصفة الالهية ، وهو معنى قوله تعالى في الحديث
القدسي" أنت أولى بسيئاتك منى" ، ومعنى قوله : (لا يُسْأَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) أن الأفعال الصادرة منه بلا واسطة وكذا الصفات الالهية
الثابتة له في مقام التوحيد قبل عالم الكثرة ليس فيها شائبة النقص والقبح حتى يرد
فيها السؤال ، لان عالم الالوهية كله نور وكمال.
ثم نقل عن بعض
أصحاب القلوب ، والظاهر أنه ابن العربي ، أنه ذكر تقريبا للطبائع والافهام وتسهيلا
لفهم التوحيد الافعالى على العقول فيما يضاف إلى الجمادات والاعجام ، فان الحجاب
عن ادراك هذا التحقيق أمران :
احدهما اختيار
الإنسان والحيوان.
وثانيهما ما ينسب
إلى الجمادات وسائر الاجرام.
اما الأول : فان
نسبة إرادة الإنسان إلى مشيئة الله تعالى كنسبة ادراك الحواس إلى ادراك العقل.
__________________
كما في قوله تعالى
: (وَمَا تَشَاءُونَ
إِلّا أَن يَشَاء اللهُ) ، ونسبة مصادر أفعالها من الابدان والاعضاء كنسبة الجوارح إلى القلب الذي هو
أمير الجوارح ، كما دل عليه قوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) وقوله : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ
اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) ، وقوله تعالى : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) .
وأما الثاني فقد
انكشف لدى البصائر المستنيرة أن الشمس والقمر والغيم والمطر والارض وكل حيوان
وجماد مسخرات بأمره تعالى ومقبوضات بقبض قدرته ، كالقلم الذي هو مسخر للكاتب وعلمه
وارادته وقدرته وقوته التي في عصبه واصبعه ، كما أن علمه ومشيئته واردتان من خزائن
غيب الملكوت ، وكتابة قلم اللاهوت على ترتيب ونظام وتقدم وتأخر من الاعلى فالاعلى
إلى الادنى حتى انتهى أثر القدرة من احدى حاشيتي الوجود إلى الاخرى من القلم
الاعلى إلى القصب الادنى.
وهذا مما يشاهده
من انشرح صدره بنور الله ويسمع بسمعه المنور من يدرك ويفهم تسبيح الجمادات
وتقديسها وشهادتها على أنفسها بالعجز والسخرية بلسان ذلق أنطقها الله به الذي أنطق
كل شيء بلا حرف وصوت ما لا يسمعه ، الذين هم عن السمع لمعزولون.
__________________
فقال بعض الناظرين
من هذا المشكاة للكاغذ وقد رآه اسودَّ وجهه : لم تسوَّد وجهك وتشوَّش بياضك بهذا
السواد؟
فقال بلسان الحال
: سلوا هذا المداد الذي ورد عليّ وغير هيئتي وجبلّتي.
فقال للمداد : لم
فعلت ذلك؟
فقال : كنت مستقرا
في قعر الدواة لا صعود لى بنفسى عن ذلك القعر فوردت على قصبة تسمى القلم فرقاني من
مقعري ، ولو لا نزوله ما كان لي صعود.
فقال للقلم : لم
فعلت ذلك؟
فقال : كنت قصبا
ثابتا في بعض البقاع لا حركة منى ولا سعى فورد على قهرمان سكين بيد قاطع فقطعني عن
أصلي ومزق على ثيابي وشق رأسي ثم غمسني في سواد الحبر ومرارته.
فقال للسكين : لم
فعلت؟
فأشارت إلى اليد ،
فاعترض عليها فقالت : ما أنا الا لحم ودم وعظم
حركني فارس يقال
له القدرة فاسألها. فلما سألها عن ظلمها وتعديها على اليد أشارت إلى الإرادة.
فقال لها : ما
الذي قواك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة؟
__________________
فقالت : لا تعجل
لعل لنا عذرا وأنت تلوم ، فانى ما انبعثت بنفسى ولكن بعثنى حكم حاكم وأمر جازم من
حضرة القلب وهو رسول العلم على لسان العقل بالاشخاص للقدرة والالتزام لها في الفعل
، فانى مسكين مسخر تحت قهر العلم والعقل فلا أدرى بأى جرم سخرت لهما وألزمت لهما
الطاعة ، ولكني أدرى أن تسخيري اياها بأمر هذا الحاكم العادل أو الظالم.
فأقبل على العلم
والعقل والقلب طالبا ومعاتبا اياهم على سبب استنهاض الإرادة وانهاضها للقدرة.
فقال العقل : أما
انا فسراج ما اشتعلت بنفسى ولكن اشعلت.
وقال القلب : اما
أنا فلوح ما انسبطت ولكن بُسطت وما انتشرت ولكن نشرني من بيده نشر الصحائف.
واما العلم فقال :
انما انا نقش في منقوش وصورة في بياض لوح القلب لما أشرق العقل ، وما انحططت بنفسى
فكم كان هذا اللوح قبلى خاليا فاسأل القلم عنى واسأله عن هذا.
فرجع إلى القلم
تارة أخرى بعد قطع هذه المنازل والبوادى وسير هذه المراحل والمقامات ، فوقع في
الحيرة حيث لم يعلم قلما الا من القصب ولا لوحا الا من العظم والخشب ولا خطا الا
بالحبر ولا سراجا الا من النار ، وكان يسمع في هذا المنزل هذه الاسامي ولا يشاهد
شيئا من مسماها.
فقال له العلم :
زادك قليل وبضاعتك مزجاة ومركبك ضعيف ، فالصواب لك أن تؤمن بهذه المسميات ايمانا
بالغيب وتنصرف وتدع ما انت فيه.
فلما سمع السالك
ذلك استشعر قصور نفسه فاشتغل قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه لما رآه بعين النقص ،
ولقد كان زيته في مشكاة قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار ، لقوة استعداد كبريائيته
في مادته ، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نورا على نور.
فقال له العلم :
اغتنم الفرصة وافتح بصرك فلعلك تجد على هذه النار هدى.
ففتح بصره فرأى
القلم الالهى كما سمع نعته من العلم أنه ليس من قصب ولا خشب ولا له رأس وذنب ، وهو
يكتب على الدوام في صحائف قلوب الانام أصناف العلوم والحقائق ، وكان له في كل قلب
رأس ولا رأس له ، فقضى منه العجب فودع عند هذا العلم وشكره وقال : لقد طال مقامي
عندك وأنا عازم على السفر إلى حضرة القلم.
فلما جاءه وقص
عليه القصص وسأله ما بالك تخط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الارادات
إلى أشخاص القدرة وصرفها إلى المقدورات؟
فقال : لقد نسيت
ما رأيت في عالم الملك وسمعته من جواب القلم عن سؤالك.
قال : لم أنس.
فقال : جوابي مثل جوابه لتطابق عالمى الملك والملكوت ، أما سمعت أن الله تعال خلق
آدم على صورته ، فاسأل عن شأني الملقب ب" يمين الملك" فاني مقهور في
قبضته مسخر ، فلا فرق بين قلم الآدمي والخلق الالهي في معنى التسخير انما الفرق في
ظاهر الصورة والتصوير.
قال : ومن يمين
الملك؟
قال : أما سمعت
قوله تعالى : (وَالسَّماوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، هو الذي يرددها.
فسأل اليمين عن
شأنه وتحريكه للقلم.
فقال : جوابي ما
سمعت من اليمين الذي في عالم الشهادة وهو الحوالة إلى القدرة ، فلما سار إلى عالم
القدرة فرأى فيه من العجائب ما استحقر غيرها ، فأقيل عند ذلك عليها فسألها عن
تحريك اليمين.
فقالت : أنا صفة
فاسأل القادر إذ العهدة على الموصوفات لا على الصفات.
وعند هذا كاد أن
يزيغ وينطق بالجرأة على السؤال ، فثبت بالقول الثابت ونودى من سرادقات الحضرة (لايُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ) ، فغشيته الحضرة فخر صعقا ، فلما أفاق قال : سبحانك ما
أعظم شأنك تبت اليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار ، فلا أخاف
غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ الا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك وبك منك؟
فأقول : اشرح لى
صدري لاعرفك ، واحلل عقدة الصمت من لساني لاثنى عليك.
__________________
فعند هذا رجع
السالك واعتذر عن سؤاله ومعاتبته.
فقال لليمين
والقلم والعلم والارادة والقدرة وما بعدها : اقبلوا عذرى فانى غريبا كنت في بلادكم
ولكل داخل دهشة فما كان انكاري عليكم الا عن قصوري وجهلي والآن قد صح عندي عذركم
وانكشف لى ان المتفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار والكل تحت
تسخيره وهو الأول والآخر والظاهر والباطن.
فهذا هو الكلام في
تفسير الاضلال . انتهى.
الآيات التي استدل بها للجبر
سادسها جملة من
الآيات الشريفة ، وهي طوائف :
منها : ما تقدم من
الآيات المتضمنة لاسناد الاضلال إلى الله تعالى وقد مر الجواب عنها.
ومنها : الآيات
المتضمنة لنسبة الهداية إلى الله سبحانه ، وقد مر عند الاستدلال بها لتعلق إرادته
تعالى ومشيئته بأفعال العباد الجواب عنها.
وملخصه أن للهداية
أنواعا :
__________________
أولها : الهداية
العامة التكوينية ، وهي الهداية إلى جلب المنافع ودفع المضار ، باضافة المشاعر
الظاهرة والمدارك الباطنة والقوة العاقلة ، قال الله سبحانه : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) .
ثانيها : نصب
الدلائل العقلية الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد ، وإليه يشير قوله
تعالى : (وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ) .
ثالثها : الهداية
العامة التشريعية بارسال الرسل وانزال الكتب وإليه يشير قوله سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) ، وقوله عزوجل : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُوراً) .
رابعها : الهداية
الخاصة التكوينية ، وهي الهداية إلى طريق السير إلى حصار القدس والسلوك إلى مقامات
الانس بانطماس آثار التعلقات البدنية واندراس أكدار الجلابيب الجسمية والاستغراق
في ملاحظة أسرار الكمال ومطالعة أنوار الجمال ، وهذا النوع عناية ربانية خص الله
بها بعض عباده حسب ما يقتضيه حكمته.
وإلى هذا النوع
يشير كثير من الآيات ، قال عز من قائل (ليْسَ عَلَيْكَ
__________________
هُدَاهُمْ
وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) ، (إِنَّ اللهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (وَاللهُ يَهْدِي مَن
يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم) ، (إِنَّكَ لَا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
ومنها : الآيات
المتضمنة لنسبة أفعال العباد إلى الله تعالى ، وقد تقدمت جملة منها.
والجواب عنها : ما
مر من أن فعل العبد وسط بين الجبر والتفويض وله حظ من كل منهما ، لان القدرة وسائر
المبادئ حين الفعل تفاض من الله تعالى واعمال القدرة في أخرى ، وكل من الاسنادين
حقيقي ، والآيات الكريمة ناظرة إلى هذا المعنى.
ومنها : قوله عز
من قائل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ
بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ
بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) .
وفيه : ان اللام
في قوله" لجهنم" ليست للعلة ، بل للعاقبة والمآل والصيرورة ، كما في قول
الشاعر" لدوا للموت وابنوا للخراب". فالآية
__________________
الشريفة لا تدل
على أن كثيرا من الانس والجن خلقوا ليدخلوا السعير ، بل تدل على أن عاقبة كثير من
الطائفتين هو دخول جهنم وذيلها يدل على أن هذه العاقبة التي في انتظارهم ليست بجبر
من الله تعالى ، بل من ناحية أنهم افشلوا وسائل ادراكاتهم بالمعاصى عن اختيار.
وبذلك يظهر الجواب
عن الاستدلال له بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى
أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) فان هذه الآية واردة في الذين كفروا باختيارهم.
ولا يبعد أن يكون
المراد بهم الكفار من كبراء مكة الذين عاندوا في أمر الدين ولم يألوا جهدا في ذلك
، تدل خصوصا بقرينة تغيير السياق ـ حيث نسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إليهم
أنفسهم ـ على أن فيهم حجابين : حجابا في أنفسهم ، وحجابا من الله تعالى عقيب كفرهم
، فأعمالهم متوسطة بين حجابين من ذاتهم ومن الله تعالى.
القول بالجبر مخالف للوجدان
فالمتحصل مما
ذكرناه أن شيئا من البراهين التي أقيمت على الجبر لا يتم.
__________________
وأضف إلى ذلك أن
القول به مخالف للحس والوجدان ، وذلك لان كل انسان يجد ويدرك بفطرته أنه قادر على
جملة من الأفعال ويتمكن من أن يفعلها أو يتركها ، ولا يفعلها الا ويرى أنه قادر
على تركها.
وهذا الحكم فطري
لا يشك فيه أحد ما لم يعتريه شبهة من الخارج.
وقد أطبق العقلاء
كافة على استحقاق فاعل القبيح للذم وفاعل الحسن للمدح ، مع اطباقهم على أن الذم
والمدح انما يتوجهان إلى المختار دون المضطر ، فكون جملة من الأفعال اختيارية مما
بنى عليه بناء العقلاء.
مع أنه يترتب على
القول بالجبر عدة توال فاسدة ، قد أشرنا إليها سابقا ، وهي : انكار التحسين
والتقبيح العقليين.
وسلب العدالة عن
الله تعالى.
وان التكليف بما
لا يطاق لا محذور فيه.
وكل واحد من هذه
التوالي كاف في الرد على الجبرية.
التحسين والتقبيح العقليان
ولا بأس بالإشارة
الاجمالية إلى وجه فساد كل واحد منها وان كان واضحا غير محتاج إلى بيان ، فأقول :
أما الحسن والقبح
العقليان فذهبت الاشاعرة ـ خلاقا للمعتزلة والامامية ـ
إلى انكار الحسن
والقبح العقليين ، وأنه مع قطع النظر عن كون الأفعال ملائمة للطبع أو منافرة له
تكون الأفعال متساوية لا تفاوت بينها في الحسن والقبح ، سوى أن أفعال العباد قد
تتصف بالحسن والقبح بعد تعلق الاحكام الشرعية بها باعتبار موافقتها للشرع
ومخالفتها ، بخلاف أفعاله تعالى فانها لا تتصف بهما من هذه الجهة أيضا ، ولا مجال
للعقل أن يحكم فيها بتحسين أو تقبيح.
وقد استندوا في
ذلك إلى أمرين :
الأول : ان الفعل
عرض والحسن والقبح العقليان من قسم العرض أيضا ، والعرض لا يعرض عليه عرض ولا يتصف
به ، فالفعل لا يمكن اتصافه بالحسن والقبح العقليين.
وفيه : أولا النقض
، بأن الالوان كالبياض والحمرة والسواد أعراض ، والشدة ، والضعف ، والحسن ، والقبح
أيضا من الاعراض ، وغير خفي أن الشدة والضعف والحسن والقبح تعرض على الالوان وتتصف
الالوان بها ، هذا اللون شديد وذاك ضعيف ، هذا حسن وذلك قبيح ، فكيف جاز هنا اتصاف
العرض بالعرض.
وثانيا بالحل ،
وهو أنه فرق بين العرض الوجودى والعرض الانتزاعي ، والذي وقع محل الكلام في عروضه
على العرض انما هو القسم الأول كالالوان ، وأما القسم الثاني كالحسن والقبح والشدة
والضعف فليس لاحد دعوى عدم عروضها على الاعراض.
الثاني : وهو يختص
بانكارهما بالاضافة إلى أفعاله تعالى ، وهو أنه لو سلم الحسن والقبح العقليان في
أفعال العباد أنا لا نسلمهما في أفعاله تعالى.
ضرورة أنه ليس
للعقل التحكم على الله تعالى ، فيقول : هذا الفعل منه قبيح فيجب تركه ، أو حسن
فيجب فعله.
كيف وهو الفعال
لما يشاء ، وكل ما يفعل يكون تصرفا في ملكه ، لا يسأل عما يفعل.
وفيه : ان هذا
اشتباه نشأ من التعبير بأن العقل يحكم بالحسن والقبح ، وقد حققنا في محله أن شأن
القوة العاقلة حتى بالنسبة إلى أفعال العباد ليس هو التشريع وجعل الاحكام ، بل هذا
المقام من مختصات الله تعالى وسفرائه ، بل شأنها الدرك ، فالقوة العاقلة دراكة لا
مشرعة.
وعليه فنقول في
المقام : ان الحسن والقبح لا يكونان بتحكم من العقل ، بل هما صفتان واقعيتان
يدركهما العقل.
توضيح ذلك : أنه
كما يكون لكل واحدة من الحواس الخمس ملائمات ومنافرات ـ مثلا : السمع تلذه الاصوات
الحسنة وتزعجه الاصوات القبيحة ـ كذلك تكون للعقل الذي به انسانية الإنسان والا
فهو كغيره من الحيوانات ملائمات ومنافرات.
ضرورة أن القوة
العاقلة قوة درّاكة ، فإذا لاحظت الأفعال فقد تراها ملائمة لها وترى استحقاق
فاعلها للمدح كالعدل فيقال انها حسنة ، وقد تراها منافرة لها ترى استحقاق فاعلها
للذم كالظلم فيقال انها قبيحة ، وقد تراها خالية عن الجهتين فتختلف بالوجوه
والاعتبارات.
وان شئت توضيح ذلك
بالمثال العرفي : فانظر إلى رجل قد أحسن اليك
غاية الاحسان ثم
احتاج اليك بأهون شيء ، فلا شبهة في أن العقل مع قطع النظر عن الشرع يدرك حسن قضاء
حاجته وقبح مقابلته بالرد والهوان ، مع أن قضاء حاجته لا يلائم الشهوات ورده لا
ينافرها ، فليس ذلك الا لان للعقل ملائمات ومنافرات مع قطع النظر عن كل شيء.
وبالجملة بما أن
للعقل نورانية تنكشف لها الحقائق على ما هي عليه ، يحكم (أي يدرك) بقبح بعض
الأفعال وحسن بعضها ، فانكار الحسن والقبح العقليين مكابرة.
عدالة الله تعالى
وأما عدله تعالى :
فانا نشهد أنه العدل الذي لا يجور والحكيم الذي لا يظلم ، وانه لا يكلف عباده ما
لا يطيقون ولا يتعبدهم بما ليس لهم إليه سبيل ، ولا يكلف نفسا الا وسعها ، ولا
يعذب أحدا على ما ليس من فعله ، ولا يلومه على ما خلقه فيه.
وهو المنزه عن
القبائح والمبرأ من الفواحش ، والمتعالي عن فعل الظلم والعدوان ، ولا يريد ظلما
للعباد ، ولا يظلم مثقال ذرة.
وأما من يخالفنا ـ
وهم الاشاعرة ـ فقالوا : ان من الله جور الجائرين وفساد المعتدين ، وانه صرف أكثر
خلقه عن الايمان والخير وأوقعهم في الكفر والشرك ، وان من أنفذ وفعل ما شاء عذبه
ومن رد قضاءه وأنكر قدره وخالف مشيئته
أثابه ونعمه ،
وأنه خلق أكثر خلقه للنار ولم يمكنهم من طاعته ثم أمرهم بها وهو عالم بأنهم لا
يقدرون عليها ولا يجدون السبيل إليها ، ثم استبطأهم لمّا لمْ يفعلوا ما لم يقدروا
عليه لمَّا لمْ يوجدوا ما لم يمكنهم منه.
وان الحسن ما فعله
ولو كان ذلك عقاب أشرف الانبياء ، والقبيح ما تركه ولو كان ذلك ثواب أشقى
الاشقياء.
واستدلوا لما
قالوا بأنه ليس للعقل التحكم على الله تعالى ، بل هو ساقط في هذا المقام.
ولكنك بعد ما عرفت
من ثبوت الحسن والقبح العقليين فثبوت عدالته تعالى لا يحتاج إلى مزيد بيان ، إذ
العقل يدرك حسن العدل وان تركه للقادر عليه قبيح.
وان فعل القبيح
ينافر الحكمة والكمال فلا يكاد يصدر منه تعالى.
وبالجملة العقل
يدرك أنه سبحانه لكماله وحكمته وقدرته وغناه صدور القبيح منه محال ، ولا يفعل
القبيح. لانه لو فعل القبيح والظلم لكان :
اما جاهلا بالقبيح
، أو عالما به عاجزا عن تركه ، أو محتاجا إلى فعله ، أو قادرا غير محتاج بل يفعله
عبثا.
وعلى الأول يلزم
كونه جاهلا ، وعلى الثاني كونه عاجزا ، وعلى الثالث كونه محتاجا ، وعلى الرابع
كونه سفيها.
والكل عليه محال.
التكليف بما لا يطاق
وأما التكليف بما
لا يطاق ، فالتزمت الاشاعرة بعدم قبحه وعدم قبح العقاب على مخالفته ، خلافا
للعدلية.
أما قبح العقاب
على مخالفة التكليف بما لا يطاق فمما لا يمكن انكاره بعد الالتزام بالتحسين
والتقبيح العقليين ، لان العقاب حينئذ مصداق للظلم ، وهو قبيح بلا ريب.
وأما التكليف بما
لا يطاق ، ففيه قولان للعدلية.
وقد استدل على
استحاليته بوجوه : ليس المقام موردا لذكرها كلها وانما نشير إلى الوجوه المهمة
منها :
الأول : ما عن
المحقق النائيني (قدِّس سره) ، وهو أن الطلب التشريعي انما هو تحريك لعضلات العبد
نحو المطلوب بارادته واختياره وجعل الداعي له لأن يفعل ، ومن البدهي أنه لا يمكن
جعل الداعي للفعل غير الارادي .
وفيه : ان الوضع
ليس الا التعهد بذكر اللفظ عند تعلق قصد المتكلم بتفهيم المعنى وابرازه ، وفي
الامر ـ على ما حقق في محله ـ يكون المبرز باللفظ كون صدور المادة من المخاطب
متعلقا لشوق المتكلم.
__________________
وعلى ذلك فحيث انه
لا ريب في امكان تعلق شوق المولى بفعل غير اختياري للعبد ، بل بفعل غير اختياري لنفسه
إذا كان المولى من الموالى العرفية ، وانه يمكن ابراز هذا الشوق باللفظ الذي هو
واقع الامر فالايراد عليه واضح.
نعم حكم العقل
بلزوم اطاعة المولى يتوقف على كونه مقدورا له.
الثاني : ما عن
المحقق النائيني (ره) أيضا ، وهو أن المطلوب على المذهب الحق لا بد وأن يكون حسنا
بالحسن الفاعلي ، وهو لا يتحقق في الفعل غير الارادي .
وفيه : ان اعتبار
الحسن الفاعلى في اتصاف الفعل بالوجوب ، مما لم يقم عليه دليل ، إذ الوجوب تابع
للملاك ، فان كان الملاك في الفعل وان لم يكن متصفا بالحسن الفاعلي كان الوجوب
متعلقا به كذلك.
بل يمكن دعوى
اتفاقهم على عدم اعتباره ، لانهم التزموا في التوصليات بأن الفعل يقع مصداقا
للواجب وان لم يؤت به بقصد التقرب إلى الله بل بالدواعي النفسانية. وغير خفي أن
الفعل الصادر عن غير الداع القربي لا يكون متصفا بالحسن الفاعلي.
الثالث : ما ذكره
بعض المحققين من أن البعث والانبعاث متضائفان ، والمتضايفان متكافئان في القوة
والفعلية ، فإذا لم يمكن الانبعاث ولم يقدر العبد عليه لا يمكن البعث أيضا.
__________________
وفيه : ما حقق في
محله في بيان حقيقة الامر من أنه ليس الامر الا ابراز كون المادة متعلقة لشوق
المولى.
الرابع : ان ابراز
المولى شوقه إلى الفعل لا بد وأن يكون بداع من الدواعي ، والا يكون لغوا وصدوره من
الحكيم محالا ، وفائدة ذلك ليست الا اتيان العبد به وتحصيل ملاكه ومصلحته ، فإذا
لم يكن مقدورا فلا يترتب على الابراز ثمرة فيكون لغوا.
والحق : أن هذا
وجه قوي ، الا أنه يختص بالتكليف بغير المقدور مستقلا ، ولا يجرى في التكليف
بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، فانه يمكن فرض فائدة في ذلك المورد ، وهو أنه
لو صدر منه ذلك الفعل غير المقدور بغير اختياره لكان مجزيا عن الاتيان بالفرد
المقدور ويسقط التكليف بذلك ، كما انه يختص بالقدرة العقلية ولا يجرى في موارد عدم
القدرة الشرعية ، كعدم القدرة على الامر المهم في موارد التزاحم.
ولصاحب بن عبّاد كلام في هذا المقام لا بأس بنقله :
قال في فصل له في
هذا الباب : كيف بأمره بالايمان وقد منعه منه ، وينهاه
__________________
عن الكفر وقد حمله
عليه ، وكيف يصرفهم عن الايمان ثم يقول" أنى يصرفون" ويخلق فيهم الكفر
ثم يقول" فأنى تؤفكون" ، وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول" لم
تكفرون" ، وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول" ولا تلبسوا الحق
بالباطل" ، وصدهم عن السبيل ثم يقول" لم تصدون عن سبيل الله" ،
وحال بينهم وبين الايمان ثم قال" وما ذا عليهم لو آمنوا" ، وذهب بهم عن
الرشد ثم قال" فأين تذهبون" ، وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال"
فما لهم عن التذكرة معرضين".
وغيرها من الآيات
الدالة على أن التكليف بما لا يطاق لم يقع ، قال سبحانه : (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَهَا) ، وقال : (وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وقال : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال.
فالمتحصل من مجموع
ما ذكرناه : ان القول بالجبر لا يساعده البرهان ، بل يخالفه ، والوجدان يرده وينافيه
، والآيات القرآنية المباركة ، والنصوص الواردة عن المعصومين ترده ، ويترتب عليه
عدّة توالٍ فاسدة.
__________________
الاستدلال للقول بالتفويض ونقده
الطائفة الثانية
من المسلمين ـ وهم المعتزلة ـ حفظا لعدالة الله تعالى التزموا بأن أفعال العباد
الاختيارية غير مربوطة به تعالى ، بل تمام المؤثر هو الإنسان.
وقد مرَّ عند نقل
الأقوال في المسألة ، ان اكثر القائلين بالتفويض قالوا بوجوب الفعل بعد إرادة
الإنسان ، وذهب جماعة منهم إلى عدم الوجوب.
واستدلوا له بعد
الرد على الجبرية والبناء على أن الأفعال الاختيارية تصدر عن الإنسان باختياره.
بأن مبادئ الأفعال
من نفس وجود الإنسان وحياته ، وادراكه للفعل ، وشوقه إليه ، وملاءمة ذلك الفعل
لقوة من قواه ، وقدرته على ايجاده ، وان كان حدوثها من قبل الله عزوجل ، الا أن بقاءها واستمرارها في الوجود لا يحتاج إلى المؤثر
في كل آن.
ويكون مثل خالق
الاشياء معها ، مثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه وتبقى الكتابة نفسها ، أو
مثل البناء يقيم الجدار بصنعه ثم يستغني الجدار عن بانيه ويستمر وجوده وان فني
صانعه.
وعليه فلا يحتاج
العبد في صدور الفعل منه ـ بعد افاضة الوجود وسائر المبادئ ـ إلى شيء ، وهو المؤثر
التام فيه.
وفيه : ان الممكن
كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر كذلك يحتاج في بقائه إليه ،
لانه لا يخرج عن
امكانه بالوجود ، ففى كل آن من الآنات بما أنه ممكن والافتقار من لوازم ذاته محتاج
إلى المؤثر ليفيض إليه الوجود ، ومفتقر إلى مدد مبدعه الأول في كل حين والا لانعدم
، بل بالنظر الدقى الحقيقي انه عين الحاجة لا شيء محتاج.
فالانسان في كل
حين ـ حتى حين الفعل ـ مفتقر إلى موجده ليفيض إليه الوجود وسائر المبادئ ، والا
لما تمكن من ايجاد الفعل ، ويكون مثله تعالى (ولله المثل الاعلى) كتأثير القوة
الكهربائية في الضوء ، فان الضوء لا يوجد الا حين تمده القوة بتيارها ويفتقر في
بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين.
مع أن الله تعالى
نفسه في مقام التشريع ، والتشريع لا يلائم التفويض ، إذ لا معنى للتكليف المولوي
فيما لا يملك المولى منه شيئا.
مع أن التفويض لا
يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه ، وقد قال سبحانه : (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
وقال : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) .
وقال : (للهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ) .
__________________
الامر بين الامرين
إذا عرفت فساد قول
هاتين الطائفتين ـ أي قول الجبرية ، والمفوضة ـ وشناعة تينك المقالتين.
فاعلم أن الحق هو
القول بالامر بين الامرين الذي هو الخير كله ، وقد مر تقريبه وتوضيحه بالمثال ،
ففعل العبد الاختياري وسط بين الجبر والتفويض ، لانه بعد ما عرفت من نفى الجبر
والتفويض بالبرهان العقلي.
فالافعال
الاختيارية الصادرة عن العباد بما أنها تصدر منهم بالاختيار وليس في صدورها منهم
قهر واجبار ، فهم مختارون فيها ، والافعال تستند إليهم وهم الموجدون لها.
وبما أن فيض
الوجود والقدرة وسائر المبادئ يكون بافاضة الله تعالى آناً فآنا بحيث لو انقطع
الفيض لما تمكن العبد من ايجاد الفعل ، فالفعل مستند إليه تعالى.
وكل من الاسنادين
حقيقي ، فالعلم ينادى بأعلى صوته موافقا لمذهب الحق انه : لا جبر ولا تفويض بل أمر
بين الامرين.
والآيات القرآنية
كما مر ناظرة إلى هذا المعنى ، وان اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة
الله وسلطانه.
وما حققناه
وأوضحناه وأوضحنا المنزلة بين المنزلتين ووفينا دليلها ، دقيقة غامضة تكون من
أسرار العلوم الالهية وخلاصة الفلسفة الحقة ، مأخوذة عن
ارشادات أهل البيت
عليهمالسلام وعلومهم ، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
بحث روائي
وإليك بعض ما ورد
عنهم (ع) :
روى الصدوق بسند
صحيح عن الامام الرضا (ع) قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال (ع) : ألا أعلمكم
في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد الا كسرتموه؟
قلنا : ان رأيت
ذلك.
فقال (ع) : ان
الله عزوجل لم يطع باكراه ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه ، هو
المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه.
فإن ائتمر العباد
بطاعته لم يكن الله منها صادا ولا منها مانعا ، وان ائتمروا
__________________
بمعصيته فشاء أن
يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وان لم يحل فعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه.
ثم قال (ع) : من
يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه .
فانظر إلى هذا
الحديث كيف أثبت الامر بين الامرين ونفى الطرفين بكلمتين موجزتين ، حيث أنه نفى
التفويض بقوله" وهو المالك ، هو القادر" ، ونفى الجبر بقوله" لما
ملكهم وأقدرهم".
توضيحه : انه قد
عرفت أن المفوضة انما ذهبوا إلى ما قالوا من جهة توهم استغناء الممكن في بقائه عن
المؤثر وان حدوثه كاف في بقائه ، فلزمهم من ذلك نفى سلطنة الله تعالى وقدرته وخروج
الاشياء بالوجود عن ملكه ، فقد نفى (ع) ذلك بقوله" هو المالك" كما صرح
بذلك في الآيات القرآنية على ما تقدم.
وحاصل كلامه (ع) :
ان الله جل شأنه قادر على كل شيء ومالك كل شيء حتى اختيار الإنسان ، فلا معنى لقول
المفوضة.
والجبرية انما
التزموا بما قالوا من جهة توهم عدم مالكية العبد وعدم قدرته ، لتخيل احتياج كل
ممكن إلى علة موجبة ، أو تخيل كون علمه تعالى أو إرادته علة لصدور الفعل ، أو
منافاة القدرة لسلطنة الله تعالى ، فقد نفى جميع ذلك بقوله عليهالسلام" لما ملكهم" و" على ما أقدرهم".
__________________
وحاصل كلامه : ان
علمه تعالى وارادته متعلقان بقدرة العبد ومالكيته ، فالفعل يصدر عن القدرة ، وحيث
أنه هو المالك والقادر فلا تنافي قدرة العبد مع قدرته وسلطنته.
وروى الكليني (قدِّس
سره) في الكافي عن أمير المؤمنين (ع) بسند فيه رفع ، ورواه الصدوق (ره) في
العيون بعدة طرق ، والعلامة (ره) في شرح التجريد ، وغيرهم في سائر الكتب
الحديثية والكلامية : انه لما انصرف أمير المؤمنين (ع) من صفين إذ
أقبل شيخ فجثى بين يديه ثم قال له : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل
الشام بقضاء من الله وقدر؟
فقال أمير
المؤمنين (ع) : أجل يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله
وقدر.
فقال له الشيخ :
عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟
فقال له : مه يا
شيخ فو الله لكم الاجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم
وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.
فقال له الشيخ :
كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا
ومنقلبنا ومنصرفنا؟
__________________
فقال (ع) له :
وتظن أنه كان قضاء وقدرا لازما؟!!
انه لو كان كذلك
لبطل الثواب والعقاب والامر والنهى والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ،
فلم تكن لائمة للمذنب ، ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالاحسان من المحسن
، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة اخوان عبدة الاوثان ، وخصماء
الرحمن وحزب الشيطان ، وقدرية هذه الامّة ومجوسها ، ان الله تبارك وتعالى كلف
تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها
، ولم يملك مفوضا ، ولم يخلق السماوات والارض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيين
مبشرين ومنذرين عبثا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، الحديث.
فانظر إلى هذه
الرواية أيها الطالب للحقيقة كيف جمع فيها تحقيقات دقيقة ونفى الجبر والتفويض
بالبرهان وذكر التوالى الفاسدة المترتبة على الجبر ، وذلك أنه لما سأله الشيخ عن
مسيرهم إلى الشام أبقضاء من الله وقدر ،
قال (ع) : أجل كل
ما فعلتم كان بقضائه وقدره ، فتوهم الشيخ من هذه الجملة الجبر ، من جهة أنه صور
القضاء والقدر واستنتج نتيجته ، وهي : ان إرادة الله تعالى الازلية التي لا تتخلف
عن المراد متعلقة بأفعال الإنسان ، وكان لازم ذلك ارتفاع الحسن والقبح ، ولذلك لما
سمع الشيخ منه (ع) كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في حال اليأس : عند الله احتسب
عنائي ، أي فعلي هذا كان مسيرى من حيث تعلق إرادة الله تعالى غير اختياري لى فلم
يبق لى الا العناء والتعب!!.
فأوضح (ع) مراده
وقال : وتظن انه كان قضاءً حتما وقدرا لازما لا دخل
لاختيار العبد
وارادته ، ليس كذلك بل العبد مختار في فعله.
فالقضاء والقدر
عبارة عن الامر والحكم ، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية كما صرح بذلك في
رواية اخرى في ذيل هذا الحديث.
ثم أخذ (ع)
بالاصول العقلائية التي أساس التشريع مبنى عليها ، إلى أن قال : ولم يعص مغلوبا
ولم يطع مكرها ، والظاهر أن المراد به أنه لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر
ولم يطع والحال ان طوعه مكروه للمطيع.
وأما قوله"
ولكان المذنب أولى بالاحسان" الخ ، فالظاهر أنه (ع) أشار بذلك إلى مطلب دقيق
، وهو : أنه على مسلك الجبرية بما أن ذات المذنب اقتضت الاحسان في الدنيا باللذات
فينبغي أن تكون في الآخرة أيضا كذلك لعدم تغير الذات في النشأتين وبما ان ذات
المطيع اقتضت المشقة في الدنيا وايلام المطيع ، بالتكاليف الشاقة فينبغي أن تكون
في الآخرة أيضا كذلك.
ثم اشار (ع) إلى
بعض المطالب الدقيقة لا تساعدنا الظروف لشرحها ، ثم أبطل التفويض بقوله" لم
يملك مفوضا".
وفي التوحيد عن
الامامين الصادقين (عليهاالسلام) : ان الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها ،
والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون.
__________________
قال : فسئلا (عليهاالسلام) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟
قالا : نعم أوسع
مما بين السماء والارض .
وفيه أيضا عن محمد
بن عجلان قال : قلت لابي عبد الله عليهالسلام : فوض الله الامر إلى العباد؟ قال (ع) : أكرم من أن يفوض
إليهم. قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال (ع) : الله أعدل من يجبر عبدا
على فعل ثم يعذبه عليه .
وفيه أيضا عن
الامام الصادق (ع) قال رسول الله (ص) : من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد
كذب على الله تعالى ، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من
سلطانه ، ومن زعم أن المعاصي بغيره قوة الله فقد كذب على الله .
وفيه أيضا عن مهزم
قال أبو عبد الله (ع) : أخبرني عما اختلف فيه من خلقك من موالينا. قال : قلت في
الجبر والتفويض.
قال : فاسألني.
قلت : أجبر الله العباد على المعاصي؟
قال : الله اقهر
لهم من ذلك.
قلت ففوض اليهم؟
__________________
قال : الله أقدر عليهم
من ذلك.
قال : قلت فأي شيء
هذا أصلحك الله؟
قال : فقلب يده
مرتين أو ثلاثا ثم قال : لو أجبتك فيه لكفرت .
قوله (ع) "
الله أقهر لهم من ذلك" معناه : ان الله أقوى من أن يقهر عباده ينحو يبطل به
مقاومة القوة الفاعلة ، بل هو يريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى اختياره
، فيأتى به من غير أن يبطل إرادته.
وعن تحف العقول كتب علي بن محمد إلى شيعته من أهل الاهواز
كتابا مفصلا وهو
مشحون بالتحقيقات مشتمل على البرهان لاثبات الامر بين الامرين ولغيره من المطالب
الدقيقة ، ولا يساعد وضع الكتاب لنقله بتمامه ، وانما نذكر بعض ما رواه عن آبائه (ع)
:
قال (ع) : فانا
نبدأ بقول الصادق (ع): " لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين"
وهي صحة الخلقة وتخلية السرب والمهلة في الوقت والزاد مثل الراحلة والسبب المهيج
للفاعل على الفعل ، فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق (ع) جوامع الفضل.
__________________
ثم في آخر الرسالة
فسر كلام الامام الصادق (ع) ، ففسر صحة الخلقة بكمال الخلق للانسان بكمال الحواس
وثبات العقل والتمييز واطلاق اللسان بالنطق ، وفسر تخلية السرب بأنه الذي ليس عليه
رقيب يمنعه العمل مما أمر الله تعالى به ، وفسر المهلة في الوقت بالعمل الذي يمتنع
به الإنسان من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت وذلك من وقت تمييزه وبلوغ
الحلم إلى أن يأتيه أجله ، وفسر الزاد بالجدة والبلغة التي يستعين بها العبد على
ما أمر الله تعالى به مثل الراحلة للحج ، وفسر السبب المهيج بالنية التي هي داعية
الإنسان إلى جميع الأفعال وحاستها القلب.
وروى عن الامام
الصادق (ع) أيضا انه سئل : هل أجبر الله العباد على المعاصي؟
فقال الصادق (ع)
هو أعدل من ذلك.
فقيل له : فهل فوض
اليهم؟ فقال (ع) هو أعز وأقهر من ذلك.
وروي عنه (ع) أنه
قال في القدر : على ثلاثة اوجه :
رجل يزعم أن الامر
مفوض إليه! فقد وهن الله تعالى في سلطانه فهو هالك.
ورجل يزعم أن الله
جل وعز اجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون! فقد ظلم الله تعالى في حكمه
فهو هالك.
ورجل يزعم أن الله
كلف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء
استغفر الله فهذا مسلم بالغ.
وروى (ع) في
أخريات الرسالة ما أخبر به أمير المؤمنين (ع) عباية الاسدي حين سأله عن الاستطاعة
التي يقوم بها ويقعد ويفعل ويترك ، فقال له أمير المؤمنين (ع) : أسألك عن
الاستطاعة تملكها من دون الله تعالى أو مع الله؟
فسكت عباية ، فقال
أمير المؤمنين : قل يا عباية.
قال : وما أقول؟
قال (ع) : ان قلت
انك تملكها من دون الله قتلتك.
وان قلت تملكها مع
الله قتلتك.
قال فما اقول؟ قال
: تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك.
فان يملكها اياك
كان ذلك من عطائه وان يسلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملكك والقادر على
ما أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون" لا حول ولا قوة
الا بالله".
قال عباية : وما
تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال (ع) : لا حول عن معاصي الله الا بعصمة الله ، ولا
قوة على طاعة الله الا بعون الله.
ثم روى (ع) روايات
أخرى عن آبائه (ع) ، ثم أخذ في بيان حقيقة المنزلة بين المنزلين واثباتها ،
والاحتجاج عليها حتى صيَّرها أظهر من الشمس.
على أن لكل واحد
من الائمة الاثنى عشر (ع) الذين هم خزان علم الله ومعادن حكمته كلمات وافية في هذا
الموضوع ومقالات موضحة للمنزلة بين المنزلتين ، ولم يدعوا على هذه الحقيقة من
ستار.
دفع الشبهة عن الحديث القدسي
خاتمه في بيان
أمور :
الأول ان في جملة
من نصوص المقام ، فقد تمسك المعصومون (ع) بما ورد في الحديث القدسي
من قول الله عزوجل" اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني " ، والمقصود من هذا الامر دفع الشبهة التي ربما تورد
على هذه الجملة.
وحاصلها ان نسبة
الفعل في الطاعة والمعصية إلى الله تعالى وإلى العبد نسبة واحدة ، وفي الموردين
منتسب إلى الله عزوجل من جهة وإلى العبد من جهة أخرى ، فما الوجه في الاولوية من
الطرفين؟
وقد ذكر في دفعها
وجوه :
الأول : ان الله
تعالى جعل في قبال القوى النفسانية التي هي جنود الجهل ، من الغضب والطمع وغيرهما
، قوى رحمانية ، وعبّر عنها في النصوص بجنود العقل والرحمن ، لئلا يكون العبد
مجبولا على اطاعة النفس ويكون مختارا في
__________________
الطاعة والمعصية ،
ويكون متمكنا من المجاهدة وتقديم المرجحات الالهية.
فحينئذ إذا تعارضت
القوى النفسانية مع القوى الرحمانية وقدم المرجح الالهى فالله عزوجل أولى بالفعل ، وان قدم المرجح النفساني وغلبت جنود الجهل
فهو أولى بالفعل لمغلوبية الجهة الالهية ، فالامر بين الامرين لا ينافي الاولوية.
الثاني : انه قد
ورد في النصوص الكثيرة أن بعض الحسنات يكون معدا للآخر ويعطي القابلية لان يوفقه
الله تعالى لمرضاته ، كما أن بعض المعاصي موجب للخذلان ، وهذه الجملة تكون ناظرة
إلى ذلك.
ومحصل مفادها
حينئذ : انه إن أطاع ، فالله أولى به لانه الموفق ، وإن عصى فالعبد أولى به لانه
اتبع فيه هوى نفسه وشهواته.
الثالث : ان منشأ
الاولوية هو أن الله تعالى انما أعطى نعمة الوجود والقدرة والشعور وغيرها وأمر
بصرفها في محلها ، فان فعل ذلك فقد عمل بوظيفته ومع ذلك فالله هو ولى الاحسان الذي
مكنه من ذلك ، وان لم يفعل ذلك وصرف النعمة في غير محلها فقد فعل بسوء اختياره ،
وهذا حسن.
ويؤيده تذييل هذه
الجملة في بعض تلك النصوص بقوله تعالى" عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك ".
__________________
حقيقة السعادة والشقاوة
الثاني : انه قد
مر أن المحقق الخراساني (ره) التزم بأن الكفر والعصيان تابعان للاختيار الناشئ عن
مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ، واستشهد لذلك بخبرين
:
احدهما : "
السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه" .
والثانى"
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة" ، قال والذاتى لا يعلل .
وفيه : ان السعادة
والشقاوة ليستا ذاتيتين ، وذلك لان السعادة عبارة عما يوجب دخول الجنة والراحة
الابدية واللذات الدائمة ، والشقاوة عبارة عما يوجب دخول النار والعقوبات والآلام.
ويتضح ذلك بعد
بيان حقيقة السعادة والشقاوة.
__________________
وهي : أن سعادة كل
شيء هي بلوغه منتهى كماله وغاية فعليته بحسب نوعه ، وهي الفعلية التامة من جميع ما
لنوعه من الاستعداد.
وهذه هي المرتبة
العليا من السعادة.
ويقابلها الشقاوة
المطلقة ، وهي عدم كمال عن موضوع قابل له ، وما بين أقصى الطرفين مراتب لا تحصى.
وحيث أن المرتبة
العليا من السعادة قليلة جدا وهي في الإنسان أقل ، بل من أول الدهر إلى آخره
الإنسان الكامل بتمام معنى الكلمة البالغ غاية فعلية هذا النوع منحصر في فرد واحد
، وهو أشرف الانبياء والمرسلين محمد صلىاللهعليهوآله ، فلا محالة سعادة كل انسان ممزوجة بالشقاوة ، بمقدار نقص
حظ الإنسان من السعادة له حظ من الشقاوة.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : انهما تنتزعان عن الاطاعة التي توجب القرب إلى الله تعالى وصيرورة الإنسان
كاملا ، والعصيان الموجب للبعد ، ولنقص حظ الإنسان من الكمال فلا معنى لكون
الاطاعة ناشئة عن السعادة والعصيان ناشئا عن الشقاوة ، فهما ليستا ذاتيين.
لا يقال : ان
منشأهما من الصفات النفسانية المعبر عنها في الاخبار بجنود العقل وجنود الجهل ، من
الذاتيات.
فانه يقال : ان
الله سبحانه أعطى بحكمته الكاملة كل مكلف قوتين داعيتين إلى الخير والشر ، احداهما
العقل ، والاخرى الجهل. وخلق صفات حسنة تقوى العقل في دعوته إلى الخير ، وخلق ضدها
من الرذائل تقوى الجهل في دعوته إلى
الشر ، فلا تخص
الصفات الحسنة بطائفة والرذيلة بطائفة أخرى حتى يقال : ان بعض الناس سعيد ذاتا
والآخر شقى كذلك باعتبار منشأهما.
وأما الرواية
الاولى التي استدل بها على مختاره ، فهي بظاهرها ، وان كانت دالة على ما اختاره ،
الا أنه لا بد من صرفها عن ظاهرها لوجهين :
الأول : ان
الروايات الواردة عن المعصومين عليهمالسلام يفسر بعضها بعضا ، كما ورد عنهم عليهمالسلام ، وهذه الرواية قد فسرت في الروايات الاخرى بأن المراد
منها ان الله يعلم وهو في بطن أمه أنه يعمل أعمال الاشقياء أو السعداء.
لاحظ خبر ان ابى
عمير قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام عن معنى قول رسول الله صلىاللهعليهوآله" الشقى من شقى في بطن والسعيد من سعد في بطن
أمه". فقال : الشقى من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الاشقياء ،
والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء ، الحديث.
الثاني : أنه مع
قطع النظر عن الروايات المفسرة لا محيص عن صرفها عن
ظاهرها ، لان من
كان مطيعا فصار عاصيا أو كان عاصيا فصار مطيعا ، هل يكون في بطن أمه شقيا أم سعيدا
، فان كان سعيدا يلزم أن لا يكون الشقي في بطن أمه شقيا لانه حين عصيانه شقي ،
أولا يكون عصيانه ناشئا عن الشقاوة ،
__________________
وان كان شقيا لزم
أن لا يكون السعيد في بطن أمه سعيدا لانه حين اطاعته سعيد ، أولا تكون اطاعته
ناشئة عن السعادة الذاتية.
وأما الرواية
الثانية فهي أجنبية عما اختاره بالمرة ، وذلك لان مفادها أنه كما أن معادن الذهب
والفضة مختلفة تنقسم إلى الجيد والرديء كذلك الناس مختلفون باختلاف الغرائز
والاستعدادات والصفات النفسانية ، وذلك لا يلزم سلب الاختيار ، بل الاختيار في
الجميع يكون موجودا ولا يكون أحد مجبورا على الاطاعة أو العصيان كما مر تحقيق ذلك.
وأين هذا من
الالتزام بأن الاطاعة والعصيان ناشئتان عن السعادة والشقاوة الذاتيتين.
اختلاف الناس في الصفات النفسانية
الثالث : لا يخفى
أنا لا ندّعي تساوى جميع الافراد في المرجحات الداعية إلى اختيار الطاعة أو
العصيان وعدم مدخلية الصفات النفسانية ، التي هي جنود العقل وجنود الجهل فيه ، لان
هذا مخالف للعيان ويرده الآيات الشريفة والروايات المستفيضة.
بل ندّعي وجود
الاختيار في الجميع وان المطيع يطيع باختياره والعاصي يخالف التكليف باختياره ،
والا فلو كان مجبورا على الفعل لا يكون بالنسبة إلى ذلك الفعل مطيعا ولا عاصيا ولا
يستحق الثواب ولا العقاب عليه.
وبعبارة أخرى : لا
بد من اشتراك جميع المكلفين في قدرتهم على الفعل
والترك حتى يصح
التكليف والثواب والعقاب ، وأما زائدا على ذلك بحيث يلزم تساوى الجميع في الاستعدادات
والصفات النفسانية الداعية إلى اختيار الطاعة أو العصيان فغير لازم ، ولا محذور في
اختلاف الناس فيها كاختلافهم في الجمال وأشباهه.
وتلك الاستعدادات
والصفات النفسانية قسمان : قسم يكون كسبيا اراديا يحصل من الاطاعة والعصيان. كما
ورد في الروايات الكثيرة ان بعض الحسنات يكون معدا للآخر ويعطى القابلية لان يوفقه
الله تعالى لمرضاته ، كما أن بعض المعاصي موجب للخذلان. وقسم يحصل من أمور غير
اختيارية ، وعلى أي حال لا يوجب سلب القدرة.
البداء في التكوين
ولمناسبات غير
خفية ينبغى لنا البحث في مسألتين :
الاولى مسألة
البداء في التكوين :
لا خلاف بين
علمائنا في القول بالبداء ، وما عن المحقق الطوسى (قدِّس سره). في نقد المحصل في
الرد على الفخر الرازي ، من أن الامامية لا يقولون بالبداء ، يتعين أن يكون مراده
هو البداء الذي نسبه الفخر إلى الامامية ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر
بخلاف ما اعتقده.
وبه يندفع استغراب
ـ جماعة من المحققين منهم السيد الداماد والعلامة
المجلسي ـ هذا
الجواب.
وكيف كان فيشهد له
: من الكتاب قوله تعالى (يَمْحُو اللهُ مَا
يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) ، وسيمر عليك معنى الآية الكريمة.
والنصوص الكثيرة ،
لاحظ خبر زرارة عن أحدهما (عليهاالسلام) : ما عبد الله بشيء مثل البداء ، وخبر هشام بن سالم وحفض بن البخترى وغيرهما عن أبى عبد
الله قال في هذه الآية" يمحو الله ما يشاء ويثبت" قال : فقال وهل يمحى
الا ما كان ثابتا وهل يثبت الا ما لم يكن .
وخبر عبد الله (ع)
بن سنان عنه عليهالسلام : ما بد لله في شيء الا كان في علمه قبل أن يبدو له .
وخبر ابن ابي عمير
عن هشام بن سالم عنه (ع) : ما عظم الله عزوجل بمثل البداء.
وخبر الريان بن
الصلت قال : سمعت الرضا (ع) يقول : ما بعث الله نبيا قط الا بتحريم الخمر وان يقر
له بالبداء.
وخبر الجهنى قال :
سمعت أبا عبد الله (ع) يقولون : لو يعلم الناس ما في
__________________
القول بالبداء من
الاجر ما فتروا عن الكلام فيه . إلى غير ذلك من النصوص المتواترة الواردة في ذلك.
انما الكلام في
المراد من البداء ، فان المخالفين نسبوا إلى الشيعة ما هم برآء منه ، قال الفخر
الرازى عند تفسيره قوله تعالى" يمحو الله ما يشاء ويثبت" : قالت الرافضة
البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما
اعتقده ، انتهى.
كلمات علمائنا في معنى البداء
ولعلمائنا الابرار
في تحقيق البداء معان :
احدها : ما عن
السيد المرتضى في جواب مسائل أهل الري ، وهو أن المراد بالبداء النسخ
نفسه ، وادعى أنه ليس بخارج عن معناه اللغوى.
وقريب منه ما ذكره
الشيخ في محكي العدّة ، الا أنه صرح بأن اطلاقه على
__________________
النسخ على ضرب من
التوسع والتجوز.
ووافقهما في ذلك
الفيلسوف النحرير السيد السند محمد باقر الداماد في نبراس الضياء.
ثانيها : ما ذكره
الصدوق في كتاب التوحيد قال : ليس البداء كما يظنه جهال الناس بأنه بداء ندامة ،
ولكن يجب علينا أن نقر لله عزوجل بأن له البداء ، ومعناه أن له ان يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه
قبل كل شيء ثم يعدم ذلك الشيء ، ويبدأ بخلق غيره ويأمره بأمره ثم ينهى عن مثله ،
أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه .
ثالثها : ما ذكره
بعض المحققين في شرحه على الكافي وتبعه المحدث الكاشاني (ره) في الوافى ، وهو أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع
من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهى تلك الأمور ، بل انما ينتقش فيها الحوادث شيئا
فشيئا وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمر ونظام مستقر ، فمهما حصل لها
العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم ،
وربما تأخر بعض الاسباب الا موجب لوقوع الحوادث على خلاف ما يوجبه بقية الاسباب لو
لا ذلك السبب ولم يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، لو لا
ذلك السبب ولم
__________________
يحصل لها العلم
بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثم لما جاء أو انه واطلعت عليه حكمت
بخلاف الحكم الأول ، فينمحي عنها نقش الحكم السابق ويثبت الحكم الآخر.
وهذا هو السبب في
البداء في امور العالم ، فإذا اتصلت بتلك القوى نفس النبي (ص) أو الامام (ع) فرأى
فيها بعض تلك الأمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه أو شاهده بنور بصره أو سمعه
بأذن قلبه ، وأما نسبة ذلك كله إلى الله تعالى فلان كل ما يجرى في العالم الملكوتى
انما يجرى بارادة الله تعالى بل فعلهم بعينه فعل الله ، فكل كتابة تكون في هذه
الالواح فهو أيضا مكتوب لله تعالى بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأول ، فيصح أن
يصف الله نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار.
رابعها : ما عن
الفاضل المدقق الميرزا رفيعا ، وحاصله : أن الأمور كلها منتفشة في اللوح ، والفائض منه
على الملائكة والنفوس العلوية والنفوس السفلية قد يكون الامر العام أو المطلق
المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة ،
__________________
ويتأخر المبين إلى
وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، وهذه النفوس العلوية وما يشبهها يعبر عنها بكتاب
المحو والاثبات ، البداء عبارة عن هذا التغير في ذلك الكتاب.
خامسها : ما
اختاره المحقق المجلسي (ره) وحاصله : ان المعصومين عليهمالسلام انما بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين يقولون ان
الله قد فرغ من الامر ، وعلى النظام وبعض المعتزلة القائلين ان الله خلق الموجودات
دفعة واحدة والتقدم انما يقع في ظهورها ، وعلى بعض الفلاسفة القائلين بأن الله
تعالى لم يؤثر حقيقة الا في العقل الأول ، وعلى آخرين منهم قالوا ان الله سبحانه
أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة وانما ترتبها في الازمان فقط.
فنفوا عنه كل ذلك
، واثبتوا أن الله تعالى كل يوم في شأن من اعدام شيء واحداث آخر وإماتة شخص واحياء
آخر إلى غير ذلك.
وهناك أقوال أخر
لا يهمنا التعرض لها.
ما هو الحق في معنى البداء
وحق القول في
المقام يتوقف على بيان أمور :
الأول : لا شك في
أن ما يحدث في عالم الكون بأجمعه تحت قدرة الله
__________________
وسلطانه ، وان
وجود أي ممكن منوط بمشيئة الله تعالى. وهذا من البداهة بمكان.
الثاني : ان
للاشياء بأجمعها تعينا علميا في علم الله الازلي ، ويعبر عن هذا التعين العلمي
تارة بتقدير الله وأخرى بقضائه ، ولكن ليس العلم الالهى متعلقا بالموجودات خاصة بل
يكون متعلقا بها بما لها من المبادئ والخصوصيات.
وعليه فحيث أن
الممكنات بأجمعها تحت قدرة الله ومنوطة بتعلق المشيئة والإرداة بها ، فيكون العلم
بها منذ الأول غير مزاحم لقدرته عليها حين ايجادها ، فمعنى قضاء الله وتقديره أن
الاشياء بأجمعها متعينة في العلم الالهى الازلي على ما هو عليه من أن وجودها معلق
على أن تتعلق الإرادة والاختيار والمشيئة بها حسب ما تقتضيه المصالح والمفاسد
المختلفة باختلاف الظروف.
الثالث : ان وجود
كل موجود له نسبتان :
نسبة إلى علته
التامة التي يستحيل عدمه معها.
ونسبة إلى مقتضيه
الذي يحتاج الشيء في وجوده معه إلى ، شرط ، وعدم مانع.
فمع وجود الشروط ،
وعدم الموانع يوجد ، ومع وجود المانع أو فقد الشرط لا يكاد يتحقق.
وعلى هذا فمع تحقق
المقتضى كان الظاهر ذلك الشيء ثم بعد ما وجد المانع ظهر منه خلاف ما كان يظهر من
المقتضي ، وإلى هذا يشير جملة من الاخبار :
روى العياشي عن
الفضيل قال : سمعت أبا جعفر (ع) يقول : من الامور
أمور محتومة لا
محالة ، ومن الامور امور موقوفة عند الله يقدم ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت منها
يشاء ، لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة ، فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا
يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته . ونحوه غيره.
الرابع : حيث عرفت
أن العلم الالهي يتعلق بالاشياء على واقعها ، لان انكشاف الشيء لا يزيد على واقع
ذلك الشيء ، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله حسب ما تقتضيه المصالح والمفاسد
كان العلم متعلقا به على هذه الحالة ، والا لم يكن العلم علما به على وجهه
وانكشافا له على واقعه.
فيكون لله علمان :
علم بالاشياء من جهة عللها التامة وهو العلم الذي لابداء فيه أصلا ، وله علم
بالاشياء من جهة مقتضياتها التي موقوفة التأثير على وجود الشروط وفقد الموانع.
وهذا العلم يمكن أن يظهر خلاف ما كان ظاهرا منه بفقد شرط أو وجود مانع.
وإلى هذا المعنى
يشير كثير من الاخبار المروية عن المعصومين (عليهمالسلام) ، قال الامام الرضا (ع) لسليمان المروزي في حديث : ان
عليا (ع)؟ كان يقول : العلم علمان : فعلم علمه الله ملائكته ورسله فما علمه
ملائكته ورسله فانه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ورسله ، وعلم عنده مخزون لم
يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ويثبت ما يشاء .
__________________
وفي الكافي عن ابى
بصير عبد الله (ع) : ان لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه الا هو من ذلك يكون
البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه . ونحوهما غيرهما.
إذا تدبرت فيما
ذكرناه يظهر لك أن البداء انما يكون في القضاء الموقوف المعبر عنه بلوح المحو
والاثبات ، وأما القضاء الحتمي المعبّر عنه بأم الكتاب والعلم المخزون عند الله
تعالى فيستحيل أن يقع فيه البداء.
ففى خبر عبد الله
بن سنان عن ابى عبد الله (ع) قال : ما بدا لله في شيء الا كان في علمه قبل أن يبدو
له.
وفي خبر الجهني
عنه (ع) : ان الله لم يبدله من جهل.
وفي خبر منصور بن
حازم عنه (ع) قال : سألته هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالامس؟ قال : لا
، من قال (ع) هذا فأخزاه الله.
قلت : أرأيت ما
كان ما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق .
إلى غير ذلك من
الاخبار الكثيرة.
وإلى ما ذكرناه
نظر العلامة المجلسي (ره) قال : اعلم أن الآيات والاخبار تدل على أن الله تعالى
خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات : أحدهما
__________________
اللوح المحفوظ
الذي لا تغير فيه أصلا وهو مطابق لعلمه تعالى ، والآخر لوح المحو والاثبات فيثبت
فيه شيئا ثم يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولى الالباب.
مثلا : يكتب فيه
أن عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما
يقتضى طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون ويكتب مكانه الستون وإذا
قطعها يكتب مكانه أربعون ، وفي اللوح المحفوظ أنه يصل وعمره ستون ، كما أن الطبيب
الحاذق إذا اطلع على مزاج شخص يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاح يكون ستين سنة فإذا
شرب سما ومات أو قتله انسان فنقص من ذلك أو استعمل دواء قوى مزاجه فزاد عليه لم
يخالف قول الطبيب.
والتغيير الواقع
في هذا اللوح مسمى بالبداء اما لانه مشبه به كما في سائر ما يطلق عليه ، تعالى من
الابتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها ، أو لانه يظهر للملائكة أو للخلق إذا أخبر
بالاول ما اعلموا أولا ، انتهى
تنبيهات
وتمام الكلام في
المقام بالتنبيه على أمور :
الأول : أن ما
ذكرناه في معنى البداء المستفاد من الاخبار ، هو الظاهر من
__________________
الآية الكريمة
المتقدمة (يَمْحُو اللهُ مَا
يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) ، لان محو الشيء هو اذهاب رسمه وأثره ، وقد قوبل في الآية
الشريفة بالاثبات وهو اقرار الشيء في مستقره بحيث لا يضطرب ، فالمحو هو ازالة
الشيء بعد ثبوته برسمه.
وحيث أنه ذكر
الآية بعد قوله تعالى" لكل أجل كتاب" وذكر في ذيلها" وعنده أم
الكتاب" ، فالظاهر منها أن لكل وقت كتابا يخصه ، فتخلف الكتب باختلاف
الاوقات.
وان هذا الاختلاف
ظهر من ناحية اختلاف التصرف الالهي بمشيئته حسب ما تقتضيه المصالح لا من جهة
اختلافها في انفسها ، ومع ذلك فعند الله أم الكتاب أي الاصل الذي ينشأ منه الشيء
ويرجع إليه هذه الكتب التي تمحى وتثبت بحسب الاوقات.
وبعبارة أوضح : ان
لله سبحانه في كل وقت كتابا وقضاءً ، وانه يمحو ما يشاء من تلك الاقضية ويثبت ما
يشاء ، ومع ذلك عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء محتوم لا يتغير ، وهو الاصل الذي
يرجع إليه سائر الاقضية.
وبهذا البيان يظهر
أن ما قيل في تفسير الآية الشريفة من الوجوه والاقوال كلها في غير محلها ، ولتمام
الكلام محل آخر.
الثاني : ان
البداء بالمعنى الذي يقول به الامامية هو الابداء والاظهار حقيقة ،
__________________
واطلاق لفظ"
البداء" عليه مبني على التنزيل والمشاكلة.
الثالث : ان القول
بالبداء اعتراف بأن لله تعالى السلطنة التامة على الممكنات وأنها بأجمعها تحت
سلطانه وقدرته حدوثا وبقاء ، وانه يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه منه اجابة
دعائه وكفاية مهماته.
وإلى هذا تشير
الاخبار المتضمنة للاهتمام بشأن البداء ، وعليه يحمل ما دل على أن الصدقة تزيد في
العمر وكذلك صلة الرحم وما شاكل.
الرابع : ان ما
وقع في كلمات المعصومين من الانباء بالحوادث الآتية ، انما هو على نحوين :
أحدهما : ما أخبر
بوقوع الامر المستقبل على سبيل الجزم ، فهو كاشف عن أن ما أخبر به مما جرى به
القضاء المحتوم.
والآخر : ما أخبر
به معلقا على أن لا تتعلق بخلافه المشيئة الالهية ولو مع قرينة منفصلة ، فهو كاشف
عن كون المخبر به مما جرى به القضاء الموقوف الذي هو مورد للبداء.
الكلام النفسي
الثانية : مسألة
الكلام النفسي :
قد اتفقت الاشاعرة
على أن للكلام نوعا آخر غير النوع اللفظي المعروف المسمَّى عندهم بالكلام النفسي.
ثم اختلفوا :
فذهب جماعة منهم
إلى أنه مدلول للكلام اللفظي ومعناه.
وذهب آخرون إلى
أنه مغاير لمدلول اللفظ وان دلالة اللفظ عليه من قبيل دلالة الفعل الاختياري على
إرادة الفاعل.
وعلى ذلك بنوا
القول بقدم القرآن ، نظرا إلى أنه كلام الله الذي هو من صفاته الذاتية القديمة
بقدمه ، والمعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام ، الا أن الفاضل القوشجي نسب إلى
بعضهم القول بقدم جلد القرآن وغلافه أيضا.
وفي مقابل هذه
الطائفة ، ذهب غيرها من طوائف المسلمين إلى حدوث القرآن ، وان كلامه اللفظي مخلوق
له ، وليس هناك نوع آخر من الكلام.
أدلة الاشاعرة على الكلام النفسي
وقد استدل
القائلون بثبوت الكلام النفسي على مدعاهم بوجوه :
الأول : ان الكلام
اللفظي المؤلف من الحروف الهجائية المتدرجة في الوجود أمر حادث يستحيل اتصاف الله
تعالى به في الأزل وغير الازل وإلا لزم اتحاد القديم مع الحادث وهو محال ، لأن
صفات الله عزوجل عين ذاته.
__________________
وحيث ان الله
تعالى وصف نفسه بهذه الصفة في كتابه فقال سبحانه (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى
تَكْلِيمًا) وكذلك وصفه بها المعصومون (عليهمالسلام) في الاخبار والادعية ، فلا مناص من البناء على ثبوت
الكلام النفسي وان الله تبارك وتعالى متصف به ، وذلك الكلام مجتمعة اجزاؤه وجودا.
والجواب عن ذلك
يبتني على بيان مقدمة :
وهي : ان صفاته
تعالى على قسمين :
الصفات الذاتية ،
والصفات الفعلية.
والفارق بينهما أن
صفات الله الذاتية هي التي ، لا يمكن نفيها عنه ، ويستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها
أبدا كالعلم والقدرة ، حيث أنه لا يمكن نفيهما عنه ، ولسنا نصفه بالعجز والجهل.
وصفاته الفعلية هي
التي يمكن أن يتصف بها في حال وبنقيضها في حال آخر كالخلق والرزق ، فيقال : ان
الله تعالى خلق كذا ولم يخلق كذا ، ورزق فلانا ولدا ولم يرزقه مالا.
وأيضا الصفات
الذاتية لا تتعلق بها القدرة ولا الإرادة ، لانهما تتعلقان بالممكنات دون غيرها.
والقسم الأول متحد
مع ذاته سبحانه قديم بقدمه.
وأما القسم الثاني
فهو من مخلوقاته ومن آياته ، ولا يكون متحدا مع ذاته
__________________
ولا قديما بقدمه.
إذا عرفت هذه
المقدمة يظهر لك جليا أن التكلم انما هو من الصفات الفعلية ، لانطباق ما ذكر ضابطا
لها عليه ، فانه يصح أن يتصف الله تعالى بمقابله ويصح سلبه عنه ، ويقال كلم الله
موسى ولم يكلم فرعون ، وتتعلق قدرته به لانه سبحانه كان قادرا على التكلم مع موسى
وبتبع ذلك تتعلق إرادته به.
مع أنه يدل على
كونه من صفات الفعل ما رواه الكليني (ره) باسناده عن ابى بصير قال : سمعت أبا عبد
الله (ع) يقول : لم يزل الله عزوجل ربنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ،
والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلما أحدث الاشياء وكان المعلوم
وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على
المقدور. قال : فقال تعالى الله عن ذلك ، ان الحركة صفة محدثة بالفعل. قال : قلت
فلم يزل الله متكلما؟ قال : فقال ان الكلام صفة محدثة ليست بأزلية ، كان الله عزوجل ولا متكلم .
وعلى ذلك فلا يلزم
من اتصاف الله تعالى بالكلام اللفظي اتحاد الحادث والقديم.
الثاني : ما عن
المحقق الدواني (ره) ، وهو أن ترتيب الكلمات وجعلها
__________________
جملا مترتبة في
الذهن هو الكلام النفسي ، لانه معنى قائم بالنفس وجدانا غير العلم.
وفيه : ان هذا عين
العلم التصورى ، غاية الامر كون المتصور الكلمات. وبعبارة أخرى : هو الوجود الذهني
الذي يعم الأفعال الاختيارية كافة.
الثالث : ان
انكشاف ثبوت المبدأ والمحمول للموضوع للنفس علم ، وأما قرار النفس وحكمها بذلك فهو
غير العلم ، فهو الكلام النفسي وصفة من الصفات النفسانية.
وفيه : ان للعلم
فردين ، احدهما تصوري ، والآخر تصديقي ، وما ذكر ليس
__________________
وراء العلم
التصديقي شيئا.
الرابع : انه يطلق
الكلام على الموجود منه في النفس ، يقال : ان في نفسي كلاما لا أريد أن ابديه :
قال الله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) .
وفيه : ان هذا لا
يختص بالكلام ، مثلا يقول المهندس ان في نفسي صورة بناء سأنقشها ، ويقول الصائم ان
في نفسي أن أصوم غدا ، وهكذا ، والحال ان ذلك ليس وراء الوجود الذهني والتصور
شيئا.
الخامس : انه يطلق
المتكلم على الله تعالى ، وهذه الهيئة ـ أي هيئة اسم الفاعل ـ وضعت لافادة قيام
المبدأ بالذات قياما وصفيا ، ولذا لا يطلق النائم على من أوجد النوم في الغير بل
على من اتصف به.
وحيث أن من الواضح
أنه لا يتصف الله تعالى بالكلام اللفظي ، لاستحالة اتصاف القديم بالحادث ، فلا بد
من الالتزام بالكلام القديم ، وليس هو الا الكلام النفسي.
وفيه : أولا : ان
المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام ، فانه كيفية عارضة للصوت الحاصل من تموج
الهواء ، وهو قائم بالهواء لا بالمتكلم ، بل المبدأ في صيغة المتكلم هو التكلم
ومعناه ايجاد الكلام ، فاطلاقه على الله تعالى وغيره بمعنى واحد.
__________________
وثانيا : ان ما
ذكر من أن هيئة اسم الفاعل وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا ، فهو غلط
بل هي وضعت لافادة قيام المبدأ بالذات نحو قيام.
وأما خصوصية كونه
قياما حلوليا أو ايجاديا أو غيرهما فهي تختلف باختلاف الموارد ولا تدخل تحت ضابط
كلي ، فالنائم لا يطلق على الموجد للنوم ، لكن الضار والنافع يطلقان على موجد هذين
المبدأين.
وعليه فلا مانع من
صدق المتكلم على الموجد للكلام.
السادس : انه لا
كلام في صحة الاوامر الامتحانية وتحققها عند عدم تعلق الإرادة الحقيقية بمتعلقاتها
، وتلك الاوامر تدل على معنى قائم في النفس ليس بإرادة لانتفائها وجدانا ولا
بغيرها من الصفات المعروفة من العلم والترجي وما شاكل ، وليس هو الا الطلب الذي هو
الكلام النفسي في الانشائيات ويكون قائما بالنفس.
وفيه : ان الاوامر
الامتحانية على قسمين :
أحدهما : ما يكون
مقصود الامر هو صدور العمل وتحققه خارجا لاستكشاف قدرة المأمور على ذلك العمل لا
لمصلحة فيه ، وفي ذلك لا محالة تتعلق إرادة الامر بنفس العمل لتوقف غرضه الباعث له
على الآمر على تحقق العمل.
ثانيهما : ما يكون
المقصود استكشاف استعداد المأمور لطاعة الآمر وعدمه ، وفي مثل ذلك نلتزم بأنه ليس
الامر سوى ابراز الاعتبار النفساني ، وهو جعل المادة على عهدة المأمور ، وليس هناك
إرادة ولا طلب.
فانقدح أنه لا
برهان على وجود الكلام النفسي.
الدليل على عدم ثبوت الكلام النفسي
بل الوجدان يرده
وينفيه ، ويظهر ذلك بعد بيان مقدمة ، وهي :
انه لا ريب في أن
للنفس صفات وكيفيات كالشوق ، والحب ، والكراهة ، وما شاكل ، كما أنه لا كلام في أن
لها أفعالا كالتأمل والتفكر والبناء وغيرها ، والعلم على مسلك المتقدمين من
الفلاسفة من الصفات وعلى مسلك المتأخرين منهم من أفعال النفس.
إذا عرفت ذلك
فاعلم : أن دعوى وجود صفة في النفس غير الصفات المعلومة المعينة وتسمى بالكلام
النفسي ، مردودة.
والنزاع ينقطع
بالرجوع إلى ما في النفس وجعل الوجدان قاضيا وحاكما ، حيث يرى الناظر المنصف أنه
ليس في النفس صفة غير تلك الصفات.
وان اردت أن يطمئن
قلبك فراجع نفسك ، ترى أن كل صفة وفعل توجد في النفس ويصدر منها عند إرادة التكلم
تكون موجودة وصادرة منها عند إرادة الاكل مثلا بلا فرق بينهما أصلا ، فكما أنه إذا
أراد المتكلم أن يتكلم يتصوره ويتصور دواعيه ثم يحصل له التصديق بالفائدة فيحصل
الميل ثم الجزم والعزم عليه فيعمل قدرته فيتكلم ، كذلك عند إرادة الاكل جميع هذه
موجودة بلا نقيصة ، فوجود صفة أخرى في النفس عند إرادة التكلم وتكون مدلولة للكلام
اللفظي مما لا
يساعده الوجدان.
وان شئت توضيح ذلك
فاعلم : ان الجمل اما خبرية أو انشائية :
أما الجمل الخبرية
فليس في مواردها ، غير تسعة أمور :
١ ـ مفردات الجملة
،
٢ ـ معاني
المفردات ،
٣ ـ الهيئة
التركيبية لها ،
٤ ـ مدلول الهيئة
التركيبية ،
٥ ـ تصور المخبر
مادة الجملة وهيئتها ،
٦ ـ تصور مدلول
الجملة ،
٧ ـ مطابقة النسبة
لما في الخارج أو عدم مطابقتها له ،
٨ ـ علم المخبر
بالمطابقة أو عدمها أو شكه فيها ،
٩ ـ إرادة المتكلم
لايجاد الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها.
واعترف المثبتون
له بعدم كون شيء من هذه هو الكلام النفسي.
أما الجمل
الانشائية فهي كالجمل الخبرية ، والفارق بينهما أنه ليس في مواردها خارج تطابقه أو
لا تطابقه.
وعليه فالامور
التي لا بد منها في الجملة الانشائية سبعة ، وهي غير السابع والثامن من الأمور
المذكورة.
وقد علمت أن
الكلام النفسي عند القائلين به ليس واحدا منهما.
فالمتحصل : مما
ذكرناه : ان الكلام النفسي أمر خيالي لا برهان على وجوده ، بل البرهان والوجدان
على خلافه ، والروايات المروية عن المعصومين عليهمالسلام ترده.
وقد وقع الفراغ من
هذه الرسالة
في اليوم الثامن
من شهر صفر سنة ١٣٩٠ ه
والحمد لله أولا
وآخرا.
* * *
الفصل الثاني : فيما يتعلق بصيغة الامر
وفيه مباحث :
المبحث الأول :
ربما يذكر لصيغة الامر معان :
الطلب ، التهديد ،
الترجي ، التمني ، الانذار ، الاهانة ، الاحتقار ، التعجيز ، التسخير وغير ذلك.
وعن حاشية المعالم
ذكر خمسة عشر معنى لها.
ولكن الذي اختاره
جماعة من المحققين كالخراساني والنائيني والاصفهاني وغير هم ان لها معنى واحدا.
وتنقيح القول
بالبحث في موارد :
الأول : في تعيين
معنى صيغة الامر إذا استعملت في مقام الطلب.
الثاني : في ان
الصيغة المستعملة في مقام التهديد والترجي وما شابه ، هل استعملت فيما تستعمل فيه
إذا كانت في مقام الطلب ، ام غيره؟
__________________
الثالث : في انه ،
هل هي من قبيل المشترك اللفظي ، أو الحقيقة والمجاز؟
اما المورد الأول
: فقد ذكر في تعيينه وجوه :
منها : ما اختاره
المحقق الخراساني من انها موضوعة للطلب الانشائى وتستعمل فيه دائما نعم يختلف
الداعي إلى انشائه ، فقد يكون هو الطلب الحقيقي ، وقد يكون التهديد ، وقد يكون امر
آخر ، فتخيل ان لها معان متعددة منشأه اشتباه الداعي بالمعنى.
نعم ، يمكن ان
يدعى انها موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداع البعث والتحريك ، لابداع آخر
منها ، فاستعمالها في الطلب بسائر الدواعي خلاف الوضع لا الموضوع له .
ولكنك عرفت في
مبحث الطلب والارادة ، ان الطلب عبارة عن التصدي نحو المطلوب ، وان الامر بعد
تحققه يكون مصداقا للطلب لا ان الانشاء يتعلق به ، وعرفت ان الطلب الانشائي لا
نتعقل له معنى معقولا.
ومنها : ما اختاره
المحقق النائيني وهو ان الصيغة انما وضعت للنسبة الانشائية الايقاعية .
وفيه : ان المراد
ان كان وقوع المادة على المكلف في عالم التشريع ، وجعله في كلفتها ، فهي توجد
بالصيغة اذ بها يقع المكلف في الكلفة والكلام انما هو في
__________________
معنى الصيغة أي
الذي تستعمل فيه ، وان كان غير ذلك ، فعليه زيادة التوضيح والبيان.
ومنها : ما عن
جماعة منهم المحقق العراقي ، والمحقق الأصفهاني (ره) ، من انه عبارة عن البعث الملحوظ نسبة بين المادة التي
طرئت عليها الصيغة وبين المخاطب بها.
وفيه : ان البعث
كالطلب من المفاهيم التي تصدق على الامر بعد وجوده ويكون الامر بنفسه مصداقا له :
لكونه يبعث المأمور نحو الفعل لا انه يكون الامر مستعملا فيه.
فالصحيح ان يقال :
ان هيئة الامر بمقتضى التعهد الوضعي مبرزة لقصد تفهيم كون صدور المادة من المخاطب
متعلقا لشوق المتكلم.
وبعبارة اخرى وضعت
لافادة تلك النسبة ، ولعل ما عن جماعة من كون الحكم عبارة عن الإرادة ، يرجع إلى
ذلك.
واما ما افاده
الاستاذ الاعظم من انها موضوعة لابراز اعتبار الوجوب ، وكون المادة على
عهدة المخاطب.
__________________
فهو لا يرد عليه
شيء ، ويؤيده النصوص المعبرة عن التكاليف بالديون ، الا ان الاظهر بعد مراجعة
موارد استعمالها عند العرف هو ما اخترناه.
واما المورد
الثاني : فقد اختار المحقق الخراساني انها تستعمل في معنى واحد دائما وانما الاختلاف من ناحية
الداعي.
ولكن بعد ما عرفت
في مبحث الانشاء والاخبار ، من ان ما هو المشهور ، ان حقيقة الانشاء عبارة عن
ايجاد المعنى باللفظ ، باطل ، وليس الانشاء الا ابراز امر نفساني وعرفت ان الصيغة
المستعملة في مقام الطلب تكون مبرزة لشوق المتكلم إلى الفعل لا يبقى مورد لهذا
الكلام.
والحق ان يقال
بتعدد المستعمل فيه ، إذ في مورد الطلب يكون المستعمل فيه هو الشوق إلى الفعل ،
وفي الموارد الأخر ليس كذلك كما هو واضح ، ولذا تكون الصيغة في المورد الأول
مصداقا للطلب ، ويصدق على الامر الطالب وعلى المأمور به المطلوب منه ، وهذا بخلاف
الموارد الأخر.
واما المورد
الثالث : ففى الكفاية اختيار ان الصيغة موضوعة لانشاء الطلب إذا كان بداعي البعث
والتحريك فتكون حقيقة فيه خاصة.
ولكن لا كلام في
انه عند عدم نصب القرينة تكون الصيغة محمولة على انها استعملت بداعي الجد ، ولا
يعتنى باحتمال إرادة التهديد مثلا منها ، اما
__________________
للانصراف ، أو
للاصل العقلائي : لان بناء العقلاء على حمل الاقوال والافعال على الجد حتى يظهر
خلافه ، أو لما افاده (قدِّس سره).
الصفح عن هذا
البحث اولى لعدم ترتب اثر عليه.
دلالة صيغة الامر على الوجوب وعدمها
المبحث الثاني :
لا شك في ، ان الاوامر الصادرة من الشارع الا قدس على نحوين :
احدهما : ما يكون
المكلف ملزما بامتثاله ، ويعاقب على مخالفته.
ثانيهما : ما يكون
مقرونا بالترخيص على نحو يجوز مخالفته.
ويسمى الأول
بالوجوب ، والثاني بالندب.
وعلى هذا وقع
الكلام في انه إذا ورد امر من الشارع ، ولم تقم قرينة على تعيين احدهما فهل الصيغة
تحمل على الوجوب أو الندب.
وتنقيح القول
بالبحث في موردين :
احدهما : فيما
يمتاز به الوجوب عن الندب : وفيه اقوال :
١ ـ ما ذهب إليه
المتقدمون من الاصحاب من تركب الوجوب والاستحباب من جنس ، وهو طلب
الفعل ، وفصل وهو المنع من الترك ، أو الاذن فيه.
٢ ـ ما اختاره
المحققون من المتأخرين وهو انهما مرتبتان بسيطتان من الطلب ، والمنع من الترك ،
وعدمه من لوازم شدة الطلب وضعفه ، لا انهما مقومان لحقيقة الوجوب والندب.
٣ ـ ما اختاره
جماعة منهم المحقق النائيني ، والاستاذ ، من ان الوجوب والاستحباب ليسا من كيفية المستعمل فيه ،
وهما خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، بل المستعمل فيه كالموضوع له واحد
فيهما حقيقة في كلا الموردين ، والاختلاف بينهما انما هو من ناحية حكم العقل بلزوم
العمل وعدمه ، فالوجوب والاستحباب امران انتزاعيان ينتزعان من ترخيص المولى في ترك
المأمور به وعدمه.
__________________
ولعله إلى ذلك نظر
المحقق القمي حيث جعل الوجوب من لوازم صدور الصيغة من المولى ، الا انه
ارجعه بالآخرة إلى المدلول اللفظي.
اما القول الأول :
فيرده انه لا يخطر المعنى المركب عند استعمال الصيغة في الوجوب أو الاستحباب.
وبعبارة اخرى ان
الصيغة انما تحكى عن الإرادة والشوق ، ولا تحكى عن المنع من الترك أو الاذن فيه
كما يظهر ذلك بعد المراجعة إلى المرتكزات العرفية والمتفاهم العرفي عند الامر
بشيء.
واما القول الثاني
: الذي اختاره المتأخرون.
فاورد عليه المحقق
النائيني بان ما يستعمل فيه الصيغة في جميع الموارد هي النسبة
الانشائية ، وهي لا شدة فيها ولا ضعف ، واما الإرادة فيه وان كانت قابلة للشدة
والضعف في حد نفسها ، الا انها ما لم تشتد لا تكون إرادة سواء أكان المراد فعلا من
الأفعال الضرورية ام غيرها.
واما الطلب الذي
هو عين الاختيار فهو ايضا في جميع الأفعال على حد سواء.
__________________
وفيه ، اولا : ما
عرفت من ان ما يستعمل فيه الصيغة ليس هو النسبة الايقاعية بل ابراز الشوق بالمادة.
وثانيا : انه لو
سلم عدم ثبوت المراتب في الإرادة التكوينية بكلا معنييها ، لا نسلم ذلك في الإرادة
التشريعية أي الشوق المتعلق بفعل العبد : إذ لا ريب في ان له مراتب من جهة اختلاف
المصالح الموجبة لتعلق الشوق بالفعل المأمور به.
ودعوى : ان
الإرادة التشريعية ، والارادة التكوينية توأمان.
مندفعة : بان ذلك
غير تام كما مر.
فالصحيح في
الايراد عليه ، ان يقال ان مراتب الشوق مختلفة في الواجبات ايضا ، ويكون الشوق
المتعلق ببعضها آكد من الشوق المتعلق بالآخر ، بل يمكن ان يدعى القطع بان الشوق
والميل المتعلق ببعض المستحبات كزيارة ابى عبد الله (ع) آكد بمراتب من الشوق
المتعلق ببعض الواجبات ، وعليه فلا يمكن ان يكون الوجوب والاستحباب ، مرتبتين من
الطلب.
فان قيل انه يمكن
ان يقال ، ان الطلب الوجوبي ، هو ما نشأ عن المصلحة اللزومية ، والاستحبابي ما كان
عن المصلحة غير اللزومية.
اجبنا عنه ، بان
الوجوب والاستحباب ، متحققان حتى مع عدم وجود المصلحة فكيف يصح جعل المصلحة ملاكا
للوجوب والاستحباب ، مع انه لا يمكن ان تكون المصلحة دخيلة في الموضوع له : لانها
من دواعي الامر ومقدمة عليه ، فكيف يصح اخذها في المستعمل فيه ، وهل هذا الا تأخر
ما هو متقدم فتأمل.
فالاظهر ان
المستعمل فيه في الموردين واحد حقيقة ، والاختلاف بينهما انما يكون من ناحية حكم
العقل بلزوم الامتثال وعدمه.
توضيح ذلك : انه
إذا امر المولى عبده بشيء ، فان رخص في مخالفته فلا سبيل للعقل إلى الحكم بلزوم
اتيان المأمور به ، وان لم يرخص في الترك ، فالعقل من باب لزوم دفع الضرر المحتمل
يحكم بلزوم الاتيان بالمأمور به ، بمعنى ان العقل يدرك استحقاق العقاب على
مخالفته.
وبعبارة اخرى ،
انه لو عاقبه المولى على ترك ما امر به ، لا يعد المولى مذموما بل العقلاء يرون ان
له ذلك ، وان العبد مستحق له ، جرياً على قانون المولوية والعبودية ، وهذا الحكم
من العقل ثابت حتى مع علم العبد بعدم المصلحة في المأمور به.
وبذلك يظهر امور :
١ ـ ان ما عن
المحقق النائيني (ره) ، من ان الاختلاف انما هو من حيث المبادئ ، حيث ان إيقاع
المادة على المخاطب ، تارة ينشأ عن مصلحة لزومية ، واخرى عن مصلحة غير لزومية ،
غير تام.
٢ ـ ان ما عبّر به
في كلمات القوم ، من ان الامر حقيقة في الوجوب ، مسامحة في التعيني ، فان الوجوب
انما يحكم به العقل لو امر المولى بشيء ولم يرخص في تركه ، بل لو لم يصل الترخيص
إلى العبد.
ولذا يحكم بالوجوب
مع عدم وصول الترخيص وان احتمل وجوده.
٣ ـ ان حمل الامر
على الوجوب ليس من الظهور اللفظي ، ولذا يحكم به ،
ولو انشأ الحكم
بغير اللفظ.
٤ ـ انه إذا
استعمل الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب معا ، كما في قوله اغتسل للجمعة
والجنابة ، ورخص في ترك احدهما دون الآخر ، كما لو قال لا بأس بترك غسل الجمعة ،
يحكم بوجوب ما لم يرخص في تركه ، واستحباب ما رخص فيه من دون ان يستلزم استعمال
اللفظ في اكثر من معنى ، أو استعماله في الطلب الجامع غير المتفصل بفصل ، أو غير
محدود بحد الشدّة والضعف ، أو يلزم خلاف ظاهر من الظهورات المتبعة وهذا بخلاف
المسلكين الآخرين كما لا يخفى.
فهذه ثمرة مهمة
مترتبة على ما حققناه.
المورد الثاني :
هل يحمل الامر على الوجوب مع عدم القرينة ام لا؟
أقول : على ما
اخترناه ، حمل الامر على الوجوب واضح.
واما على المسلكين
الآخرين : فقد يقال كما عن جماعة منهم المحقق الخراساني انه حقيقة في الوجوب.
واستدل لذلك بان
المنساق إلى الذهن والمتبادر هو الوجوب عند استعماله بلا قرينة .
ويرده ان التبادر
وان كان علامة الحقيقة الا انه فيما إذا كان ذلك من حاق اللفظ والا فلو احتمل ان
يكون لغير ذلك كما في المقام إذ لعله يكون من جهة
__________________
الاطلاق ومقدمات
الحكمة ، كما ذهب إليه بعض ، أو من جهة حكم العقل كما اخترناه ، فلا يكون هذا
الانسباق علامة الحقيقة.
واورد صاحب المعالم
على القوم ، انه لو سلم كون الصيغة حقيقة في الوجوب الا ان كثرة استعمالها في
الندب في الكتاب والسنة وغيرهما تكون سببا لصيرورة الندب مجازا مشهورا ، والشهرة
تارة تصل إلى حد تحصل العلقة الوضعية فحينئذ لو هجر المعنى الحقيقي يصير هو معناه
المنقول إليه ، والا فيكون من قبيل المشترك اللفظي ، وان لم تصل إلى هذا الحد ،
فلا يحمل اللفظ المجرد عن القرينة على شيء منهما .
واجاب عنه المحقق
الخراساني باجوبة ثلاثة :
الأول : ان كثرة
الاستعمال في المعنى المجازى توجب النقل ، أو الحمل عليه ، أو التوقف فيما إذا لم
يكن اللفظ مستعملا في المعنى الحقيقي كثيرا ، والا فلا توجب شيئا من ذلك ، والمقام
من هذا القبيل لكثرة استعمال الصيغة في الوجوب ايضا.
وفيه : ان استعمال
الصيغة في الاستحباب اكثر من استعمالها في الوجوب بمراتب ، بل نسبة الثاني إلى
الأول نسبة الواحد إلى المائة ، كما يظهر لمن راجع الواجبات كالصلاة ، فان
مستحباتها ازيد من واجباتها كما لا يخفى ، هذا مضافا إلى المستحبات المستقلة كآداب
الاكل ونحوها.
__________________
الثاني : ان
المجاز المشهور انما يكون فيما إذا كان استعمال اللفظ فيه بلا قرينة ، والا فان
كان مع القرينة المصحوبة لا تكون كثرة الاستعمال موجبا لصيرورته مجازا مشهورا.
وفيه : ان المجاز
المشهور هو ما كثر استعمال اللفظ فيه مع القرينة ، ثم وصل إلى حد يحمل اللفظ
المجرد عن القرينة عليه ، أو يتوقف ولا يحمل لا عليه ولا على المعنى الحقيقي.
الثالث : النقض
بصيغة العموم حيث انه كثر استعماله في الخاص حتى قيل ما من عام الا وقد خص ولا
ينثلم بذلك ظهوره بل تحمل على العموم ما لم تقم قرينة على إرادة الخصوص.
وفيه : اولا : ان
مسلكه المتصور ، ان التخصيص لا يوجب استعمال العام في الخاص ، بل العام مستعمل
فيما وضع له وان التخصيص يكون بتعدد الدال والمدلول.
وثانيا : لو
اغمضنا عن ذلك ، فبما انه في موارد كون التخصيص بدال متصل بالعام لا بدليل متصل
ليس شائبة المجازية كما لا يخفى ، فلا يتم ما ذكره لعدم كون التخصيص بالمنفصل
كثيرا كي يصح النقص المزبور.
وثالثا : ان الفاظ
العموم ليس لها اوضاع خاصة في الشرعيات ، وحيث ان التخصيص في غير الشرعيات من
موارد استعمال العموم قليل جدا.
فدعوى كثرة
التخصيص واستعمال العام في الخاص بالنسبة إلى استعماله فيما وضع له ، ممنوعة.
وربما يورد على
صاحب (ره) المعالم بوجه آخر ، وهو ان كثرة الاستعمال الموجبة لكون المجاز مجازا
مشهورا ، انما تكون في الاعلام الشخصية واسماء الاجناس ، لا في مثل الهيئات التي
تختلف باختلاف المواد المتهيئة بها التي ينتزع منها على اختلافها جامع يعبر عنه
بصيغة افعل مثلا واستعمال هيئات خاصة في الندب لا يوجب انس الذهن بالنسبة إلى غير
تلك الهيئات.
وفيه : انه قد مر
في اوائل الكتاب ان الهيئات موضوعة بالوضع النوعي فلكل هيئة وضع واحد في
ضمن أي مادة تحققت فهي تستعمل دائما في الجامع.
فالمتحصل ان ما
افاده صاحب المعالم متين.
وفي المقام نزاع
آخر وهو انه على فرض عدم كونها حقيقة في الوجوب ، هل لا تكون ظاهرة فيه ايضا؟.
أقول : بناء على
ما اخترناه من خروج الوجوب والاستحباب عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه ، لا يبقى
مورد لعقد هذا البحث ، كما هو واضح.
واما على القول
الآخر ، فقد استدل لظهورها في الوجوب ، بوجوه :
الأول : غلبة
استعمالها في الوجوب.
الثاني : غلبة
وجوده.
والجواب عنهما ما
ذكرناه انتصارا لصاحب المعالم (ره) من ان استعمالها في
__________________
الندب اكثر من
استعمالها في الوجوب لغلبة وجوده فراجع.
الثالث : ما ذكره
صاحب الحاشية ، وهو اكملية الوجوب وهي توجب ظهور اللفظ فيه وانصرافه
إليه ، وهو بظاهره بيّن الفساد.
ويرد عليه ما
افاده المحقق الخراساني من ان الاكملية غير موجبة للظهور إذ الظهور لا يكاد يكون
الا لشدة انس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجها له ومجرد الاكملية لا يوجبه.
ولكن الظاهر ولا
اقل من المحتمل انه اراد بذلك ما اختاره المحقق الخراساني كما ستعرف.
الرابع : ما افاده
المحقق الخراساني انه لو كان الآمر بصدد البيان فقضية
__________________
مقدمات الحكمة هو
الحمل على الوجوب ، فان الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم
المنع من الترك بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه.
وهذا الوجه لو قصر
النظر على ما هو ظاهره بين الفساد :
لان الوجوب يحتاج
إلى مئونة بيان التقييد بالمنع من الترك ، دون الندب الذي قيده عدم المنع من الترك
: إذ يكفي في اثباته عدم نصب القرينة على المنع.
فالاطلاق يقتضى
الحمل على الندب لا الوجوب.
ولكن الظاهر ان
المحقق الخراساني ينبه بما ذكره على امر دقيق لطيف ، وهو ان الوجوب والاستحباب
امران بسيطان لا مركبان ، من طلب شيء مع المنع من الترك ، أو الاذن فيه ، والوجوب
هو الطلب التام الذي لا حد له من جهة النقص وبلغ مرتبة لا يرضى الآمر بترك ما تعلق
به ، والندب هو الطلب المحدود الفاقد لمرتبة من الإرادة فهو متفصل بفصل عدمي ليس
من سنخ الطلب.
وعليه فإذا كان
المتكلم في مقام البيان ولم ينصب قرينة على إرادة الحد يحمل الكلام على إرادة
المرتبة التامة الخالصة غير المحتاجة إلى بيان الحد لعدم الحد له ، ولعل هذا هو
مراد صاحب الحاشية من الاكملية.
والشاهد عليه ،
قوله : ان الانصراف الموجب لتبادر الوجوب من الصيغة
انصراف حقيقة
الطلب ولبّه لا انصراف الصيغة .
ويرد على ذلك
مضافا إلى انه امر دقيق لا يتكل عليه عند بيان أمر عرفي ، ان لازم ذلك حمل الامر
على اعلى مراتب الوجوب في الشدة والتأكد.
فالصحيح في وجه
ظهور الامر في الوجوب بناء على ذلك هو بناء العقلاء كما يظهر بالمراجعة إلى
الاوامر الصادرة عن الموالى العرفية :
فانه لا ريب في
عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال الندب ، ويصح عقاب المولى على مخالفته ، وان
لم يعين الوجوب ، راجع المحاورات العرفية.
دلالة الجملة الخبرية على الوجوب
المبحث الثالث :
هل الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب ككلمة اعاد ـ يعيد ـ أو ما شاكلهما
ظاهرة في الوجوب ام لا؟
والكلام فيها يقع
في مقامين.
المقام الأول : في
ان الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب ، هل تستعمل في غير معناها ، أو تكون
مستعملة في معناها؟
__________________
وعلى الأول : فهل
تستعمل فيه مجازا ، ام بنحو الحقيقة؟
وعلى الثاني : فهل
هو استعمال فيه بداعي الاعلام ، أو انه من قبيل الاخبار عن تحق المقتضى ، لاجل
العلم بتحقق المقتضي (بالكسر) للغفلة عن مانعه أو عدم شرطه ، أو عدم الاعتناء به؟
كما هو كذلك في اخبار المنجمين والاطباء وجوه واقوال :
اما الوجه الأول :
فقد اختاره القدماء ، وهو خلاف الاستعمالات الشائعة المتعارفة.
واما الوجه الثاني
: فقد اختاره الاستاذ الاعظم ، وقد تقدم الكلام في توضيح ما ذكره في هذا المقام ،
وما يرد عليه في اوائل الكتاب في مبحث الاخبار والانشاء فراجع .
واما الوجه الرابع
: فيرد عليه ان امر المولى وطلبه ليس مقتضيا للفعل بل يكون داعيا إليه ، وعلى فرض
كونه مقتضيا ليست إرادة المأمور من قبيل الشرائط التي تغفل عنها ولا يعتنى باحتمال
عدمها عند العرف والعقلاء.
واما الوجه الثالث
: فافاده المحقق النائيني (ره) قال ان المستعمل فيه في الموردين أي مقامي الانشاء
والاخبار شيء واحد وهو ـ النسبة التلبسية ـ غاية الامر انها إذا استعملت في مقام
الاخبار يكون ظرف النسبة الخارج وتدل على
__________________
النسبة التلبسية
في الخارج وإذا استعملت في مقام الانشاء يكون ظرفها هو عالم التشريع.
وفيه : ان هيئة
فعل المضارع لم توضع لكل نسبة تلبسية ، بل للنسبة التلبسية الصدورية ، وعليه فإذا
استعملت في مقام الانشاء لا تكون مستعملة فيما وضعت له على هذا فان النسبة
المتحققة بالطلب في عالم التشريع غير هذه النسبة.
والحق : ان يقال
انها تستعمل في معنى واحد سواء ، أكانت مستعملة في مقام الاخبار ، ام استعملت في
مقام الانشاء ، ولكن في المورد الثاني يكون الاستعمال كنائيا أي استعملت في معناها
واريد منه الانتقال إلى لازمه ، وهو تعلق الشوق بالفعل ، وهذا النحو من من
الاستعمال شايع.
المقام الثاني :
في وجه دلالتها على الوجوب.
وملخص القول فيه ،
ان الكلام في ذلك هو الكلام في دلالة صيغة الامر على الوجوب ، من حيث الاقوال ،
والمختار ، والادلة.
الا ان في المقام
وجها آخر للدلالة على الوجوب ذكره المحقق الخراساني ،
وحاصله : ان
الاخبار بالوقوع في مقام الطلب كاشف عن كون المتعلق مطلوبا بنحو لا يرضى المولى
الا بوقوعه وتحققه.
ولكن يمكن ان يورد
عليه ، بعدم انحصار النكتة المصححة لاستعمال الجملة
__________________
الخبرية في مقام
الطلب في ذلك ، بل نفس كون المتعلق موردا للشوق ومطلوبا للمولى ، يصلح لذلك لكونه
محركا لوقوعه في الخارج ، فالحق انها كصيغة الامر في ذلك بلا تفاوت بينهما.
التعبدي والتوصلي
المبحث الرابع :
في الواجب التعبدي والتوصلى وقبل بيانهما نقدم مقدمات.
المقدمة الاولى :
ان الواجب التوصلي يطلق على معنيين.
الأول : ما لا
يعتبر فيه قصد القربة ، كدفن الميت ، وكفنه ، ورد السلام ، وما شاكل ذلك ، وفي
مقابله الوظيفة الشرعية التي شرعت لاجل التعبد والتقرب بها.
الثاني : ما لا
يعتبر فيه المباشرة ، أو الاختيار ، أو الاتيان به في ضمن فرد سائغ فلو تحقق من
دون التفات ، او بغير اختيار ، او فعله الغير ، او في ضمن فرد محرم كفى.
وبعبارة اخرى :
الواجب التوصلي مرة يطلق ويراد منه ما لا يعتبر فيه المباشرة من المكلف.
واخرى يطلق ويراد
منه ، ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار.
وثالثة يطلق ويراد
منه ما لا يعتبر فيه ان يكون في ضمن فرد غير محرم ،
ويقابل الأول ما
يعتبر فيه المباشرة ، والثانى ما يعتبر فيه الاختيار ، والثالث ما يعتبر ان يكون
في ضمن فرد سائغ.
والنسبة بين
التعبدي بالمعنى الأول وهو ما يعتبر فيه قصد القربة ، والقسم الأول من التعبدي
بالمعنى الثاني عموم من وجه إذ جملة من الواجبات التعبدية بالمعنى الأول توصلي
بالمعنى الثاني ، منها : الزكاة فإنها واجبة تعبدية يعتبر فيها قصد القربة ، وتسقط
عن ذمة المكلف بفعل الغير سواء كان بالاستنابة أو بالتبرع مع الاذن ، واما سقوطها
بالتبرع من دون الاذن فلا يخلو عن إشكال.
ومنها : الصلوات
الواجبة على ولى الميت فانها تسقط عن ذمته باتيان غيره.
ومنها : صلاة
الميت فانها تسقط عن ذمة المكلف بفعل الصبى غير المميز.
ومنها : الحج فانه
واجب على المستطيع ويسقط عنه بفعل غيره إذا كان عاجزا ومنها غير ذلك.
وجملة من الواجبات
التعبدية بالمعنى الثاني توصلية بالمعنى الأول ، كرد السلام.
وجملة منها
تعبديّة بكلا المعنيين ، كالصلوات اليومية ، وصيام شهر رمضان وما شاكل ذلك.
كما ان النسبة بين
التعبدي بالمعنى الأول ، والقسم الثاني من التعبدي بالمعنى الثاني عموم من وجه :
لتصادقهما على الصلوات الواجبة :
وافتراق الأول في
الواجبات التعبدية الصادرة عن الغير كالصلوات الواجبة على ولي الميت إذا اتى به
غيره فان فعل الغير خارج عن تحت اختياره
وقدرته ، وافتراق
الثاني ، في رد السلام.
نعم النسبة بين
التعبدي بالمعنى الأول ، والقسم الثالث من التعبدي بالمعنى الثاني عموم مطلق إذ لا
واجب يعتبر فيه قصد القربة ويسقط بالاتيان في ضمن فرد محرم كما لا يخفى.
المقدمة الثانية :
قد فسر المحقق الخراساني التوصلي والتعبدي بالمعنى الأول بقوله : الوجوب التوصلي
هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ويسقط بمجرد وجوده بخلاف التعبدي فان
الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك بل لا بد في سقوطه وحصول غرضه من الاتيان به متقربا
به منه تعالى انتهى.
وفيه اولا : ان
الفرق بينهما انما يكون من ناحية الغرض المترتب على الواجب ، ولا فرق بينهما من
ناحية الغرض من الوجوب.
توضيح ذلك : انه
في كل امر من اوامر المولى الحكيم غرضان ، احدهما في طول الآخر ، فان المولى إذا
لاحظ الفعل الصادر من العبد اختيارا فربما يرى ان فيه مصلحة فيشتاق إلى فعله ،
فيحصل من ذلك غرض في الامر به ، وهو جعل ما يمكن ان يكون داعيا للعبد إلى الفعل :
إذ لو امر المولى ، ولم يرخص في تركه يصير هذا الامر صغرى لكبرى عقلية ، وهي قبح
مخالفة المولى.
فامر المولى
بضميمة تلك الكبرى يحرك العبد نحو الفعل ، فاحد الغرضين مترتب على الآخر ، ويكون
احدهما مترتبا على الواجب ، وهو الغرض الأول ،
__________________
والآخر مترتبا على
الوجوب وهو الثاني ، والغرض المترتب على الامر والوجوب يترتب على نفس الامر في
جميع الموارد بلا توقف على شيء آخر سوى الوصول إلى العبد.
وبعبارة اخرى
يترتب الغرض عليه في ظرف وصول التكليف إلى العبد ، واما الغرض المترتب على الواجب
، أي المصلحة فتارة يترتب على مطلق وجوده ، واخرى يترتب عليه إذا اتى به بقصد
القربة ، ففى المورد الأول يكون الواجب توصليا ، وفي المورد الثاني يكون تعبديا.
ويترتب على هذا
مضافا إلى عدم تمامية ما ذكره المحقق الخراساني ان الاطلاق الذي هو محل الكلام من
انه يقتضي التعبدية أو التوصلية هو اطلاق المادة لا اطلاق الصيغة ، ويكون جعل هذا
المبحث من مباحث الصيغة في غير محله.
وثانيا : مع
الاغماض عن هذه المسامحة الواضحة ، جعل التعبدي خصوص ما لا يحصل الغرض المترتب
عليه الا مع اتيانه بقصد القربة ، غير صحيح :
إذ من المطلوبات
التعبدية العبادات الذاتية وهي ما تكون بنفس ذاتها مع قطع النظر عن انطباق عنوان
اطاعة المولى عليها التي هي السبب لصيرورة غيرها عبادة ، يصدق عليها عنوان التخضع
والتذلل واظهار العبودية كالسجود وغيره من الأفعال التي بنى العقلاء قاطبة على
الاتيان بها في مقام اظهار العبودية والتخضع ، ولا يعتبر في اتصاف هذه الأفعال
بالعبادية : الاتيان بها بقصد القربة ، بل تتصف بها لو اتى بها بقصد عناوين انفسها
، كعنوان السجود ، مع قصد كونها تعظيما لشخص خاص ، ما لم ينه عنها الشارع.
فان سئل ان ما هو
عبادة كذلك كيف يعقل النهي عنه؟
اجبنا عنه : بانه
ربما يكون المكلف معه من الارجاس ، ما يوجب عدم قابليته لان يعبد ربه ، ولهذا يصح
النهي عنه.
فالمتحصل مما
ذكرناه ان الاولى في مقام الفرق بينهما ، ان يقال ان التعبدي هو ما لا يحصل الغرض
المترتب على الفعل الا مع الاتيان به بنحو ينطبق عليه عنوان التخضع ، والتذلل ،
واظهار العبودية والتوصلي غيره.
وقد اورد المحقق
النائيني (ره) على من فرّق بينهما من ناحية الغرض مبتنيا على ما ذكره في
مبحث الصحيح والاعم ، من ان الأفعال بالاضافة إلى المصالح من قبيل العلل المعدّة ،
لا من قبيل الاسباب بالاضافة إلى مسبباتها ، ولذلك التزم باستحالة جعلها متعلقة
للتكليف.
وحاصل الايراد ان
حصول المصلحة ، وعدمها ، اجنبيان عن المكلف ، فلا معنى لكونه بصدد تحصيلها ، بل هو
مكلف بايجاد المأمور به في الخارج.
وفيه : مضافا إلى
ما تقدم في ذلك المبحث ، من ان نسبة الأفعال إلى الاغراض الموجبة للامر بها ، نسبة
الاسباب إلى مسبباتها ، وان كانت بالاضافة إلى الغرض الاقصى من قبيل العلل المعدة.
انه لو سلم ذلك
يتم الفرق المذكور ايضا ، إذ حينئذ يقال ، ان الواجب التوصلي هو ما كان نفس وجود
الفعل من قبيل العلة المعدة ، والواجب
__________________
التعبدي هو ما كان
الفعل المأتي به بنحو ينطبق عليه عنوان التخضع ، والتذلل من قبيل العلة المعدة ،
لا مجرد وجود الفعل.
الدواعي القربية
المقدمة الثالثة :
هل الداعي القربي أي ما يوجب اتصاف الفعل بالعبادية :
يكون منحصرا في
قصد الامر كما اختاره صاحب الجواهر (ره).
ام يعم قصد
المحبوبية؟ كما هو الاقوى.
ام هناك دواع
قربية غيرهما؟ وجوه ، واقوال :
الاظهر هو القول
الثاني ، وهو انحصار الداعي القربي في الامر ، والمحبوبية ، واما غيرهما مما توهم
كونه من الدواعي القربية فلا تكون بانفسها منها.
توضيح ذلك ان ما
يتوهم ان يكون منها امور :
الأول : حصول
القرب إليه تعالى.
الثاني : شكر
نعمه.
الثالث : تحصيل
رضاه ، والفرار من سخطه.
الرابع : رجاء
الثواب ، ورفع العقاب الخامس : حصول المصلحة الكامنة في الفعل.
وشيء منها بنفسه
لا يكون موجبا للعبادية : إذ القرب إليه تعالى سواء أكان
المراد منه القرب
الروحانى ، ام القرب المكانى الادعائي لا يحصل الا باتيان المطلوب الشرعي امتثالا
لامره تعالى.
كما ان ، نعمه لا
تشكر الا به ، ورضاه لا يحصل الا بذلك.
واما رجاء ثوابه
والتخلص من النار ، فهما ايضا يترتبان على امتثال امره تعالى فلو كان قصده ذلك على
وجه المعاوضة بلا توسيط قصد الامر ، لا يكون المأتي به عبادة ولا يصح.
وعليه فيتم ما عن
العلامة في جواب المسائل المهنائية : اتفقت العدلية على ان من فعل فعلا لطلب الثواب أو لخوف
العقاب لا يستحق بذلك ثوابا.
ومما ذكرناه ، ظهر
حال المصلحة الكامنة إذ استيفائها في العبادات لا يمكن الا باتيانها امتثالا لامره
تعالى ، فلو اتى بالعبادة من دون قصد القربة ، ولو كان من قصده حصول المصلحة لا
تستوفي تلك لترتبها على الفعل المأتي به امتثالا لامره تعالى.
مع ان اتيان العمل
بداعي حصول المصلحة يكون كالتجارة للربح لا يوجب القرب إلى الله تعالى فلا يكون
ذلك من الدواعي القربية ، وان كانت المصلحة مترتبة على ذات الفعل.
وبالجملة شيء من
الأمور المذكورة لا يترتب في العبادات على ذات العمل
__________________
كي يقصد به ذلك ،
فلا يحسن عد شيء منها في قبال قصد الامر من الدواعي القربية.
ثم انه بعد ما
عرفت من ان العبادة في غير العبادات الذاتية لا تتحقق الا باتيان الفعل بقصد الامر
أو المحبوبية.
فاعلم انه حيث
تكون الأمور الخمسة المذكورة آنفا وغيرها من قبيل داعي الداعي ، فيكون لغايات
الامتثال درجات.
أحدها : وهو
اعلاها ، ان يكون الداعي والمحرك لاتيان الفعل بقصد القربة ، اهليّة المطاع
للعبادة ، وهذه المرتبة لا توجد الا للأوحدي ، بل ليس لاحد دعواها الا لمن ادعاها
، بقوله (ع) الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة
فعبدتك .
الثاني : ان يكون
اقصى غرضه حصول القرب إليه تعالى ، أو تحصيل رضاه ، أو شكر نعمه التي لا تحصى.
الثالث : ان يقصد
به حصول الثواب ورفع العقاب ، أو حصول المصلحة ، أو زيادة النعم الدنيوية إلى غير
ذلك.
__________________
أخذ قصد الامر في المتعلق
وبعد ذلك نقول لا
كلام ولا اشكال فيما إذا علم كون الواجب توصليا أو تعبديا بالمعنى الأول أو
الثاني.
وانما الكلام
والاشكال فيما إذا شك في كون الواجب توصليا أو تعبديا والكلام فيه في مقامين :
الأول في الشك في
التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول.
الثاني في الشك في
التعبدي والتوصلي بالمعنى الثاني.
اما المقام الأول
: فالكلام فيه في قسمين.
الأول ، في مقتضى
الاصل اللفظي من عموم أو اطلاق ،
الثاني : في مقتضى
الاصل العملي وانه يقتضي البناء على كونه تعبديا ، أو توصليا.
اما القسم الأول :
فالمعروف بين الاصحاب انه لا اطلاق في المقام كي يتمسك به لاثبات كون الواجب
توصليا ، وهذه الدعوى مبتنية على امرين :
الأول : دعوى
استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم امكانه.
الثاني : دعوى عدم
امكان التمسك بالاطلاق في صورة استحالة التقييد ، فلا بد من البحث في هاتين
الدعويين.
اما الدعوى الاولى
فتنقيح القول فيها بالبحث في موارد.
١ ـ هل يمكن اخذ
قصد الامر في متعلق الامر الأول ، فيكون دخل قصد القربة في العبادات كدخل سائر
الاجزاء والشرائط باخذه تحت الامر وفي حيز الخطاب بالمركب ، ام لا؟.
٢ ـ انه هل يمكن
دخله في المتعلق بالامر الثاني بحيث يكون في كل عبادة امران ـ احدهما متعلق بذات
العمل ـ والثانى باتيانه بداعي امره ، ام يستحيل ذلك ، أو غير واقع؟.
٣ ـ إذا لم يمكن
اخذ قصد الامر في المتعلق لا بامر واحد ولا بامرين ، هل يمكن اخذ الجامع بين قصد
الامر وغيره من الدواعي القربية ، ام لا يمكن؟.
٤ ـ إذا لم يمكن
شيء من ذلك ، هل يمكن اخذ ما يلازم قصد الامر في المتعلق ام لا؟.
٥ ـ هل يكون دخل
قصد القربة في العبادات من باب دخله في حصول الغرض بلا اخذه في خطاب ، فيكون
الالزام به عقليا من باب لزوم تحصيل غرض المولى ، ام لا يعقل ذلك.
استحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر
اما المورد الأول
: فقد استدل لاستحالة اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول بوجوه :
الوجه الأول : ما
افاده المحقق الخراساني في الكفاية ، وهو انه يلزم تقدم الحكم على نفسه ، وقد قربه في صدر
كلامه بما حاصله :
ان قصد الامر
متأخر عن الامر ، لانه يتأتى من قبل الامر ، فلا يمكن اخذه في المتعلق الذي هو
متقدم على الامر ، وإلا لزم تقدم ما هو متأخر.
وظاهر ذلك ان
المحذور انما هو في مقام جعل الحكم.
وحيث ان هذا الوجه
كان واضح الفساد ، لان ما لا يتاتى الا من قبل الامر انما هو قصد الامر خارجا ،
وما يعتبر في متعلق الامر هو لحاظه قبل الامر ولا تنافي في تأخر الشيء خارجا
وتقدمه لحاظا.
فقد غيّر هذا
التقريب بقوله : فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال
امرها.
ونظره إلى لزوم
الدور في مرحلة الاتصاف خارجا كما صرح به في حاشيته على رسائل الشيخ الاعظم في
رسالة القطع.
قال في التعليقة ،
وبالجملة ما لم يكن الامر متعلقا بنفس الصلاة بما اعتبر فيها من الاجزاء والشرائط
وحدها من دون تقييد بالقربة ونحوها لم يكد يتمكن منها بداهة توقف اتيانها بداعي
امرها على كون الامر بها وحدها ، ومن هنا انقدح لزوم الدور الصريح في ذلك في اتصاف
الصلاة المأتي بها بقصد القربة مثلا بالوجوب أو الاستحباب.
__________________
تقريره انه يتوقف
حينئذ اتصافها باحدهما وكونها واجبة أو مستحبة على قصد امتثال الامر بها ضرورة
توقف تحقق الصيغة والاتصاف على الموصوف والمفروض انه لا يتحقق بدونه ويتوقف قصد
امتثال الامر بها وإتيانها بداعي امرها على كونها واجبة أو مستحبة ومحكومة باحدهما
لما عرفت من عدم التمكن منه بدونه انتهى.
فيكون هذا وجها
آخر للامتناع.
ثم انه (قدِّس سره)
اورد عليه في الكفاية ، بانه إذا لم يكن محذور في عالم الجعل كما هو المفروض
لإمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر ، المستلزم ذلك لتعلق الامر بنفس
الصلاة في ضمن الامر بالصلاة المقيدة بقصد الامر ، فلا محالة يمكن اتيان الصلاة
بداعي الامر الضمنى المتعلق بها فلا يلزم تقدم ما هو متاخر.
واجاب عن ذلك بان
اعتبار قصد الامر ان كان من قبيل الشرط ويكون الدخيل التقيد به دون القيد ، فذات
المقيد لا تكون مامورا بها فان الجزء التحليلي لا يتصف بالوجوب أصلا ، ولا ينحل
الأمر بالمقيد إلى الأمر بذاته والأمر بقيده ، وان كان من قبيل الجزء فيكون
المأمور به نفس الصلاة ، وقصد الأمر ، ويكون قصد الأمر جزءاً للمأمور به :
فهو وان لم يلزم
منه ما ذكر من المحذور إلا انه يرد عليه أمران :
__________________
الأول : ان
اعتباره كذلك موجب لتعلق الوجوب بامر غير اختياري إذ الفعل وان كان بالارادة
اختياريا الا ان الإرادة ليست اختيارية والا لزم التسلسل.
الثاني : ان
الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه انما يصح إذا اتى بالمركب بهذا الداعي ، لا إذا
اتى به وحده مثلا انما يصح الاتيان بالركوع بقصد الامر بالصلاة في ضمن الاتيان
بالصلاة لا فيما إذا اتى به وحده وهذا غير ممكن في المقام إذ لا يمكن الاتيان
بالمركب من قصد الامر بداعي امتثال امره وإلا لزم كون الامر داعيا إلى داعوية نفسه
، وهو في حد عليّة الشيء لعلّة نفسه .
ولكن يمكن ان
يختار كون قصد الامر جزءاً للمأمور به.
ولا يرد عليه ما
ذكره من الامرين :
اما الأول : فلان
قصد الامر ليس هو الإرادة بل يكون من دواعيها ، إذ المحرك والداعى للارادة ، ربما
يكون امرا إلهيا ، وربما يكون نفسانيا ، ويعتبر في العبادات ان يكون من قبيل الأول
، مع ان لزوم التسلسل من محاذير لابدية اختيارية الإرادة ، واما ان الإرادة هل
يمكن ان تتحقق متصفة بالاختيارية فهو لا يترتب عليه ذلك المحذور ، وبديهى انه يمكن
، وذلك لانه وان سلم تحقق الإرادة في بعض الاحيان من غير اختيار المريد ، الا انه
لا شبهة في انه قد يتحقق بالارادة ، ويضاف إلى ذلك ما حققناه في محله من ان
الإرادة ارادية بنفس ذاتها لا بارادة اخرى فلا يلزم التسلسل.
__________________
واما الثاني :
فوضوح وجه النظر فيه يتوقف على بيان مقدمات.
الاولى : ان الامر
المتعلق بمركب اعتباري من الموجودات المتعددة ينحل إلى اوامر عديدة : فان الامر
ليس الا ابراز شوق المتكلم بتحقق المأمور به ، فإذا كان له وجودات متعددة فلا
محالة يكون كل موجود متعلقا لشوق المولى المبرز بالامر ، فيكون كل جزء محكوما بحكم
، غاية الامر حيث تكون المصلحة المترتبة عليها واحدة وهي لا تستوفى الا باتيان
جميع الاجزاء ، فلا محالة يكون لهذه الاحكام المتعددة ، امتثال واحد ، وعصيان واحد
، فتكون ارتباطية.
الثانية : ان
المتعلق للامر ان كان واجبا توصليا ، وأتى المكلف ببعض تلك الاجزاء بداعي القربة ،
وببعضها الآخر لا بداعي القربة ، يثاب على اتيانه بما قصد به الامتثال ، ولا يتوقف
ذلك على اتيان الجميع بداعي امتثال الامر كما لو كان الداعي لغسل الثوب مقدمة
للصلاة ، في الغسلة الاولى هو امر المولى ، وفي الغسلة الثانية غيره.
الثالثة : انه
ربما يكون بعض اجزاء المأمور به تعبديا وبعضها توصليا ، نظير ما لو نذر ان يصلى في
هذه الليلة ، صلاة الليل ، وبكرم العالم بنحو يكون المجموع متعلقا لنذر واحد :
فان جزء المأمور
به بالامر الوجوبي ، وهي الصلاة ، تعبدي ، وجزئه الآخر وهو اكرام العالم ، توصلي ،
بل الظاهر ان اكثر الواجبات التعبدية كذلك ، باعتبار اكثر شروطها.
ألا ترى : ان
الصلاة التي هي من الواجبات التعبدية مشروطة بالاستقبال والتستر الذين هما واجبان
توصليان فيها ، فلو ستر لا لقصد الامر صحت
صلاته.
ودعوى : ان لازم
ذلك كون الامر الواحد تعبديا وتوصليا : وذلك كاستعمال اللفظ في اكثر من معنى بل
اردأ منه.
مندفعة : بما عرفت
من ان الوجوب في التعبدي والتوصلى واحد ، ولا اختلاف فيه ، وانما الاختلاف بينهما
يكون من ناحية الغرض المترتب على الواجب ، فالتعبدي والتوصلي عنوانان طارئان عليه
باعتبار ذلك ، لا انهما من الخصوصيات الذاتية الموجبة لتعدد الامر.
إذا عرفت هذه
المقدمات.
فاعلم ، انه يمكن
ان يؤخذ ، قصد الامر في المتعلق من دون ان يلزم هذا المحذور : إذ المأمور به حينئذ
شيئان :
احدهما : الصلاة
التي هي من الأفعال الجوارحية.
ثانيهما : قصد
الامر الذي هو فعل جانحي ، وكل منهما له امر خاص غير الآخر ، ويكون احدهما وهي
الصلاة من الواجبات التعبدية ، والآخر واجبا توصليا ، والامر المتعلق بقصد الامر
انما يدعو إلى اتيان الجزء الآخر أي الصلاة بقصد امرها لا بداعي آخر ، فمتعلق هذا
الامر الضمني انما هو قصد ذلك الامر الضمني ، فيكون محركا نحو اتيان ذلك المأمور
به بداعي امره ، فلا يلزم كون الامر داعيا إلى داعوية نفسه ، بل إلى داعوية غيره
بمعنى جعله داعيا.
ومما ذكرناه ظهر
عدم تمامية الوجه الثالث من الوجوه التي ذكروها لامتناع اخذ قصد الامر في المتعلق.
وهو ما ذكره بعض
المحققين (ره) ، وحاصله انه لا ريب في ان الامر انما يحرك نحو المتعلق فلو جعلت
دعوة الامر ومحركيته ، التي هي معنى قصد الامر ، بعض المتعلق لزم كون الامر محركا
نحو جعل نفسه محركا ، وهو محال : فانه على حد كون الشيء علة لعلية نفسه الذي هو
اوضح فسادا من كون الشيء علة لنفسه .
ويرد عليه مضافا
إلى ما تقدم :
ان الامر لا يكون
محركا لا بوجوده الواقعي ولا بوجوده العملي.
اما الأول :
فواضح.
واما الثاني : فلان
كثيرا من الناس يصل إليهم الامر ، ولا يتحركون كالفساق ، فمن ذلك يعلم ان الامر
ليس علة للحركة بل هو لا يكون الا ما يمكن كونه محركا وداعيا.
وان شئت قلت ان
الامر لا يكون علة للحركة في شيء من الموارد : إذ تحريك العضلات انما يكون بتأثير
الإرادة واعمال النفس قدرتها.
نعم المرجح لذلك
يكون هو الامر ، فكما ان المرجح قد يكون الشوق النفساني ، وقد يكون امر المولى.
__________________
وعليه فدعوى كون
اخذ قصد الامر في المتعلق على حد كون الشيء علة لعلية نفسه ، ممنوعة.
الوجه الرابع : من
امتناع أخذ قصد الأمر في المتعلق ما ذكره المحقق النائيني (قدِّس سره) وهو العمدة في المقام وهو ان اخذ قصد الامر في المتعلق
مستلزم لتوقف الشيء على نفسه وفرضه موجودا قبل وجوده ، في مقام الانشاء ، والفعلية
، والامتثال.
وتوضيح ما ذكره
يتوقف على بيان مقدمة مفروضة في استدلاله ، التي عليها يبتنى ما ذكره في وجه
الاستحالة.
وهي ان كل حكم من
الاحكام الشرعية ، له متعلق وموضوع ، والاول هو ما يطلبه المولى ويجب ايجاده في
الواجبات ، والثانى هو المكلف الذي طولب بالفعل أو الترك بما له من الشرائط من
العقل والبلوغ ونحوهما.
ثم ان المتعلق ،
تارة يكون له متعلق ، وهو يكون على قسمين :
الأول ما يكون
وجوده ، تحت قدرة المكلف ، مثل العقد الذي هو متعلق للوفاء الذي هو متعلق للوجوب.
__________________
والثاني ما يكون
وجوده خارجا عن تحت قدرة العبد ، كالكعبة التي هي متعلقة الاستقبال الذي هو مأمور
به.
وعلى كلا
التقديرين متعلق المتعلق لا يكون متعلقا للتكليف ، بل هو موضوع له وحكمه حكم
المكلف وقيوده ، ولا بد ان يكون مفروض الوجود في القضايا الحقيقية بفرض ينطبق على
ما في الخارج ، ولازم ذلك توقف فعلية الحكم على فعليته وعدم امكان فعليته قبل
فعليته ، كما لا يخفى.
إذا عرفت هذه
المقدمة فاعلم ان المحذور المذكور يلزم في المراحل الثلاث من اخذ قصد الامر في
المتعلق.
اما في مقام
الانشاء فلان قصد الامر إذا كان متعلقا فالامر يكون موضوعا ، فلا بد وان يفرض
الامر في مقام الانشاء موجودا بفرض ينطبق على ما في الخارج والمفروض ان الامر
يتحقق بنفس الانشاء فيلزم فرض وجود الامر قبل وجوده وهو بعينه محذور الدور.
وبما ذكرناه في
تقريب كلامه (قدِّس سره) يندفع ما اورده عليه بعض المحققين من ان الموضوع لا بد
وان يفرض وجوده في مقام جعل الحكم لا المتعلق وقصد الامر متعلق للحكم لا موضوع له
، وذلك لأن كلامه (قدِّس سره) في الامر لا في قصد الامر.
واما في مقام
الفعلية فلان الامر حيث انه موضوع فلا بد وان يصير فعليا قبل فعلية الحكم الذي هو
نفس هذا الامر ، فيلزم فعلية الامر قبل فعلية ، نفسه.
وبعبارة اخرى ما
لم يصير الموضوع فعليا لا يصير الحكم فعليا ومن المفروض ان الامر موضوع فلا بد وان
يصير فعليا حتى يصير الحكم الذي هو
الامر فعليا
فيتوقف فعلية الحكم على فعلية نفسه.
واما في مقام
الامتثال فلان قصد الامتثال متاخر عن اتيان تمام الاجزاء والشرائط طبعا فان قصد
الامتثال انما يكون باتيانها ، وحيث انه من المفروض كون قصد الامتثال الذي هو
عبارة عن دعوة شخص ذلك الامر من الاجزاء والقيود ، فلا بد وان يكون المكلف في مقام
الامتثال قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله.
واورد الاستاذ
الاعظم على المقدمة التي عليها بناء هذا الوجه بان لزوم اخذ قيد
في مقام الانشاء مفروض الوجود الذي لازمه كونه شرطا لفعلية الحكم ، اما ان يكون من
جهة الظهور العرفي كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
واما من جهة
استلزام عدم اخذه كذلك التكليف بما لا يطاق ، كما إذا امر المولى بايقاع الصلاة في
الوقت.
واما في غير ذلك
فلا ملزم لاخذه مفروض الوجود ، وفي المقام بما ان القيد نفس الامر المتحقق في ظرف
الانشاء لا ملزم لاخذه مفروض الوجود من ظهور عرف أو غيره.
وفيه : ان دعوى
الظهور العرفي لو تمت في مثل اوفوا بالعقود ، لتمَّت في
__________________
جميع القيود
الدخيلة في الحكم التي لم يؤمر بها ـ من غير الجهة التي سنذكرها ـ.
والتحقيق الذي
يقتضيه النظر الدقيق ، يقتضي ان يقال ان القيود الدخيلة على قسمين :
القسم الأول : ما
يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، كالوقت بالاضافة إلى الصلاة ، والعقد
بالنسبة إلى الوفاء ، والمرض بالاضافة إلى شرب المسهل.
القسم الثاني : ما
يكون دخيلا في حصول المصلحة ، وفي العرفيات كعدم اكل المريض الخبز قبل شرب المسهل.
وفي القسم الأول
لا مناص عن أخذ القيد مفروض الوجود سواء كان ذلك القيد اختياريا ، ام كان غير
اختياري.
وفي القسم الثاني
، ان كان القيد اختياريا لا بد للمولى من الامر به ، وان كان غير اختياري فليس
للمولى الامر به وحينئذٍ ، ان لزم من التكليف بذلك الفعل بنحو الاطلاق التكليف بما
لا يطاق كامر المستطيع بالحج ، قبل مجيء الايام الخاصة فلا بد للمولى من اخذه
مفروض الوجود ، لئلا يلزم المحذور المذكور ، والا فلا ملزم لذلك ، ولذا لا يلزم
اخذ وجود الكعبة مفروض الوجود ، بالنسبة إلى الاستقبال الواجب في الصلاة.
والمقام من هذا
القبيل أي من قبيل القسم الاخير : إذ الامر من القيود الدخيلة في حصول المصلحة ،
لا في اتصاف الفعل بها لكونه معلولا لها ، فلا يعقل كونه دخيلا في الاتصاف ، وهو
وان كان غير اختياري الا انه لفرض تحققه
في ظرف الانشاء لا
يلزم من عدم اخذه مفروض الوجود التكليف بما لا يطاق فلا ملزم لاخذه مفروض الوجود ،
وعلى ذلك :
فما ذكره ، من
لزوم فرض وجود الامر قبل وجوده في مقام الانشاء ، ومن لزوم توقف فعلية الحكم على
نفسها في مقام الفعلية من اخذ قصد الامر في المتعلق ، غير تام.
اما ما ذكره في
مقام الانشاء فلعدم الملزم لاخذ الامر مفروض الوجود.
واما ما ذكره في
مقام الفعلية فلانه ايضا يتوقف على لزوم اخذ الامر مفروض الوجود في مرحلة الانشاء
الذي عرفت فساده.
واما ما ذكره من
ان لازم الاخذ المزبور توقف قصد الامتثال على نفسه في ذلك المقام.
فهو يندفع : بما
ذكرناه في مقام الجواب عن ما ذكر في وجه الاستحالة من لزوم داعوية الشيء إلى
داعوية نفسه ، من انحلال الامر بالمركب إلى اوامر عديدة حسب ما للمركب من الاجزاء
، وانه لا مانع من كون بعض الاوامر الضمنية ، تعبديا وبعضه توصليا : فانه على ذلك
يكون المأخوذ في المتعلق قصد الامر الضمنى المتعلق بالصلاة ، والمكلف يقصد امتثال
ذلك الامر الضمنى فلا يلزم تقدم الشيء على نفسه.
فالمتحصل من مجموع
ما ذكرناه ، امكان اخذ الامر في المتعلق ، وكونه من اجزاء المأمور به.
اخذ قصد الامر في المتعلق بالامر الثاني
واما المورد
الثاني : وهو اخذ قصد الامر في المتعلق بالامر الثاني ، بان يتعلق امر بذات الفعل
، وأمر آخر ، باتيانه بداعي امره.
فملخص القول فيه :
ان الجعل الشرعي ربما يكون تاما ، ويكون ما تعلق به وافيا بالغرض ، فلا محالة يكون
الاتيان به مجزيا عقلا ، وربما لا يكون كذلك ، من جهة عدم تمكن المولى من الامر
بجميع ما يفي بغرضه بامر واحد ، ففى المورد الثاني ، لا محالة لا بد للمولى من
متمم للجعل ، وذلك كما في الغسل للجنابة ، قبل الفجر ، فيما إذا وجب صوم الغد ،
فانه على فرض عدم معقولية الواجب المعلق ، حيث ان الغرض مترتب على الصوم المقيد
بالطهارة ويستحيل ان يأمر بهما بامر واحدا جامع بين ما قبل الفجر ، وما بعد الفجر
، فلا مناص من استيفاء غرضه بامرين.
احدهما : بالصوم
بعد الفجر. والآخر : بالغسل قبله ، حيث يكون الامران ناشئين عن غرض واحد فهما في
حكم امر واحد ، واطاعتهما ، كعصيانهما ، واحدة ، والمقام على فرض عدم امكان اخذ
قصد الامر في متعلق الامر الأول من هذا القبيل : إذ لو كان الغرض مترتبا على
الصلاة بداعي القربة ، والمفروض انه لا يمكن استيفائه بامر واحد ، فلا بد له من
الامرين ، امر متعلق بذات الصلاة ، وأمر متعلق باتيانها بقصد القربة.
واورد عليه في
الكفاية بايرادين :
١ ـ القطع بانه
ليس في العبادات الا امر واحد كغيرها من الواجبات والمستحبات.
ويرده انه لا سبيل
إلى هذه الدعوى ، بعد ملاحظة ان بناء الشارع ليس على اخذ تمام اجزاء المأمور به
التي يمكن اخذها في متعلق الامر الأول فيه ، بل غالبا بامر بالقيود والاجزاء
باوامر عديدة كما لا يخفى.
٢ ـ ان الامر
الأول ان كان يسقط بمجرد موافقته ولو لم يقصد به الامتثال كما هو قضية الامر
الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله فلا يتوسل
الامر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة وان لم يسقط بذلك فلا يكاد يكون له وجه الا
عدم حصول غرضه بذلك من امره لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، والا لما كان موجبا
لحدوثه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الامر لاستقلال العقل
مع عدم حصول غرض الامر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه
فيسقط امره انتهى.
والظاهر ان مراده
ان الامر الثاني المتعلق باتيان العمل بقصد امره ، ان كان تأسيسيا اقتضى ان يكون
اتيان متعلق الامر الأول لا بداعي امره تحت اختيار المكلف وقدرته عقلا وشرعا مع
قطع النظر عن الامر الثاني ، والا فلو كان العقل يحكم بلزوم اتيانه بقصد امره لم
يكن هذا الامر الثاني تأسيسيا ، ولما كان المولى محتاجا في تحصيل غرضه إلى وسيلة
تعدد الامر ، ولازم ذلك سقوط الامر
__________________
الأول بمجرد
موافقته ولو لم يقصد به الامتثال ، ومعه لا يبقى مجال لموافقة الثاني فلا يتوسل
الامر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة ، فتدبر فانه لطيف.
واورد عليه المحقق
النائيني (ره) بان شأن العقل انما هو الادراك وان هذا الشيء مما اراده
الشارع ام لا وليس شانه الامر والتشريع ، فلا معنى لحكم العقل بلزوم الاتيان
بمتعلق الامر بقصد امره مع قطع النظر عن الامر الثاني فيكون عدم سقوط الامر الأول
بمجرد الموافقة من قبل الامر الثاني ، لا من قبل حكم العقل ، كي لا يحتاج المولى
في استيفاء غرضه إلى الامر الثاني.
ودعوى ان الامر
حينئذ تأسيسي ولازمه سقوط الامر الأول بمجرد الموافقة.
مندفعة بانه بما
ان الامرين ناشئان عن غرض واحد ، فلا محالة لا يعقل سقوط احدهما دون الآخر.
وفيه : ان الظاهر
ان مراد المحقق الخراساني من ان العقل يحكم بوجوب الموافقة بنحو يحصل الغرض ، وهو
الاتيان بالفعل بقصد الامر مع عدم حصول الغرض بمجرد موافقة الامر ، ومعه لا حاجة
إلى الامر الثاني ، ليس كون العقل مشرعا وآمرا في قبال الشارع المقدس ، بل مراده
به حكم العقل بالاحتياط في المقام إذا شك في سقوط الامر الأول وحصول الغرض ودون
قصد الامر ، لعدم جريان البراءة في الفرض على ما سنبينه انشاء الله تعالى.
وعليه فهذا
الاشكال غير وارد عليه.
__________________
وقد يورد عليه كما
عن المحقق الأصفهاني (ره) في حاشيته : بانا نختار سقوط الامر الأول بمجرد الموافقة ، ولكن نقول
ان موافقة الأول ، ليست علة تامة لحصول الغرض بل يمكن اعادة المأتي به لتحصيل
الغرض المترتب على الفعل بداعي الامر.
توضيحه : ان ذات
الصلاة مثلا لها مصلحة ملزمة والصلاة المأتي بها بداعي امرها لها مصلحة ملزمة اخرى
، أو تلك المصلحة بنحو أوفى بحيث يكون بحدها لازمة الاستيفاء ، فلو اتى بالصلاة
وحدها فقد سقط امرها ، ومع ذلك حيث تكون المصلحة الاخرى لازمة الاستيفاء وهو متمكن
من الاستيفاء بالاعادة تجب الاعادة لتحصيل الغرض الثاني فإذا اتى بها بقصد الامر يستوفى
الغرضان.
وفيه : اولا ان
هذا مترتب على امكان تبديل الامتثال ، والا فمع عدم امكانه لو فرض سقوط الامر
الأول بمجرد الموافقة لا يبقى مجال لموافقة الثاني ، لانها متفرعة على بقاء الامر
الأول كي يمكن الاتيان بالمتعلق بداعي امره والمفروض سقوطه ، وستعرف امتناعه.
وثانيا : لو فرضنا
صحة ذلك فلازمه ان يثاب من صلى بقصد الامر بثوابين ، وان يعاقب من تركها بالمرة
بعقابين ، وان يعاقب من صلى بلا قصد القربة بعقاب واحد ، كما هو الشأن في نظائر
الفرض ـ كالصلاة الواجبة التي نذر المكلف الاتيان بها ـ وشيء من ذلك مما لا يمكن
ان يلتزم به فقيه.
__________________
فالصحيح في مقام
الجواب عن ما ذكره المحقق الخراساني ان يقال :
إن ما بني عليه
هذا البرهان وهو حكم العقل بالاحتياط. فاسد : لما سيأتي عند تعرضه له.
وستعرف ان الاظهر
جريان البراءة في امثال المقام ايضا ، وان بنينا على عدم امكان اخذ قصد الامر في
متعلق الامر الأول ، مع : انه لو صح المبنى ، لا يتم البناء إذ العقل لو حكم
بالاحتياط تخلصا من العقاب في مورد لا يكون ذلك مانعا عن امر المولى به.
ولا يصح ان يقال
انه مع استقلال العقل بذلك لا حاجة إلى الامر ، لعدم انحصار الغرض من الامر في
اتيان العمل باى نحو كان كي لا يصح الامر المولوي في الفرض ، بل يمكن ان يأمر به
لان يكون المكلف على بصيرة من امره ويعرف وظيفته تفصيلا.
فتحصل ، انه على
فرض عدم امكان اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول ، يمكن اخذه في المأمور به بالامر
الثاني.
اخذ الجامع بين قصد الامر وغيره في المتعلق
واما المورد
الثالث : وهو اخذ الجامع بين قصد الامر وغيره من الدواعي القربية في المتعلق.
فملخص القول فيه
انه بعد الفراغ عن امرين :
الأول : ان اتصاف
الفعل بالعبادية لا يتوقف على خصوص قصد الامر بل يتصف بها لو أتى به بقصد
المحبوبية ، نعم سائر الدواعي انما هي في طول هذين الداعيين ـ كما مر تفصيل ذلك في
المقدمات.
الثاني : عدم
اعتبار قصد خصوص المحبوبية.
يقع الكلام في ان
اخذ الجامع المنطبق على جميع الدواعي القربية في المأمور به ، ممكن ، ام ممتنع ،
وعلى الأول ، هل يمكن دعوى القطع بعدم الاخذ ، ام لا.
وقد استدل على
الامتناع بوجهين :
الوجه الأول : ما
ذكره المحقق النائيني (ره) من ان الداعي اياً ما فرض فانما هو في مرتبة سابقة على
الإرادة المحركة للعمل فيستحيل كونه في عرض العمل الصادر عنها وإلا لزم تأخر ما هو
متقدم ، فإذا لم يمكن تعلق الإرادة التكوينية به امتنع تعلق الإرادة التشريعية به
، بداهة ان متعلق الإرادة التشريعية هو بعينه ما تتعلق به الإرادة التكوينية ، فلو
لم يمكن تعلق الإرادة التكوينية بشيء لا يمكن تعلق الإرادة التشريعية به.
وفيه : اولا : ان
لازم ذلك عدم صحة تعلق الامر به ولو كان بجعل المتمم ، مع انه (قدِّس سره) يصرح
بامكانه.
وبعبارة اخرى إذا
كان المانع عن تعلق التكليف به ثبوتيا وعقليا ، وهو عدم تعلق الاختيار به ، لم يكن
فرق في ذلك بين كون تعلق التكليف به بامر واحد ،
__________________
أو بامرين فكيف
يلتزم هو (قدِّس سره) بامكان تعلقه به بامرين :
وثانيا : ان قصد
القربة الذي هو من دواعي اختيار الفعل الخارجي ، بنفسه فعل من أفعال النفس ويتعلق
به الاختيار كما صرح بذلك المحقق النائيني (قدِّس سره) في باب النية.
والبرهان المتقدم
انما يقتضي عدم امكان تعلق شخص الإرادة المتعلقة بالفعل الخارجي به ، واما تعلق
اختيار آخر به غير ذلك الاختيار فهو لا يقتضي امتناعه بل هو ممكن.
وان شئت قلت ان
سلب الاخص لا يلازم سلب الاعم وعلى ذلك ، فهناك اختياران :
احدهما متعلق
بالفعل الخارجي ، والآخر متعلق بالفعل النفساني ، فحينئذ بما ان الغرض المترتب على
الفعلين واحد لا متعدد ، فلا محالة يكون الامر المتعلق بهما واحدا : إذ وحدة الامر
وتعدده يتبعان وحدة الغرض وتعدده ، لا وحدة الإرادة وتعددها.
الوجه الثاني :
انه إذا كان اخذ قصد الامر في المتعلق محالا ، فاخذ الجامع الشامل له ولغيره ايضا
محال .
وفيه : مضافا إلى
ما تقدم من امكان اخذ قصد الامر : ان الاطلاق عبارة
__________________
عن ، رفض القيود ،
وعدم دخل شيء من الخصوصيات في الحكم ، لا دخل كل خصوصية فيه ، فامتناع اخذ قصد
الامر بخصوصه لا يلازم امتناع اخذ الجامع.
وقد استدل المحقق
الخراساني (ره) للقول الأول وهو عدم اخذه في المتعلق قطعا : بكفاية
الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت عدم امكان اخذه فيه.
وفيه : ان هذا
البرهان يقتضي عدم اخذ خصوص غير قصد الامر في المأمور به وليس هو محل الكلام بل
المدعى هو اخذ الجامع فيه.
اخذ ما يلازم قصد الامر في المتعلق
واما المورد
الرابع : وهو اخذ ما يلازم قصد الامر في المتعلق وبه يتوسل المولى إلى غرضه ـ وقد
نسب إلى بعض تقريرات السيد الشيرازي فالظاهر
__________________
امكانه.
وملخص القول فيه
انه يمكن اخذ عنوان آخر في المأمور به ملازم للداعي القربي كما لو قيد المأمور به
بعدم اتيانه بغير الداعي القربي.
وبعبارة اخرى
يقيده بعدم ضد الداعي القربي ، وبذلك يتوسل المولى إلى غرضه إذ الفعل الاختياري لا
بد وان يصدر عن داع من الدواعي ، وهو اما ان يكون من الدواعي القربية أو من
الدواعي النفسانية ، فإذا كان الغرض مترتبا على اتيانه بداعي القربة ولم يتمكن
المولى من التصريح به لمانع في ذلك له ان يأمر بالفعل مقيدا بان لا يكون مع
الدواعي النفسانية.
ولا يرد عليه شيء
من المحاذير المتقدمة.
وقد اورد عليه
بايرادات.
الأول : ما ذكره
المحقق النائيني (ره) وهو انه لو فرض محالا انفكاك ذلك العنوان عن احد الدواعي
القربية لا بد من الالتزام بصحة العبادة مع انه لم يلتزم به فقيه.
وفيه : انه مع
تسليم تلازم ذلك العنوان لاحد الدواعي القربية خارجا ، لا
__________________
اثر لفرض المحال ،
إذ لا يلزم من مثل هذا التكليف نقض الغرض ، وغيره من التوالى الفاسدة ، مثلا لو
تعلق الغرض بالمشي إلى المقصد ، من احد الطريقين ، ولم يكن هناك طريق ثالث ، كما
يصح للمولى ، الامر بالمشي من ذلك الطريق ، ويتوسل بذلك إلى غرضه ، كذلك يصح له
الامر بالمشي مقيدا بكونه من غير الطريق الآخر.
الثاني : ان ما
ذكر ليس من العناوين الملازمة لاحد الدواعي القربية : إذ يمكن ايجاد الفعل بلا داع
من الدواعي.
وفيه : انه ممتنع
، ولو امكن فله ان يقيد المأمور به بعدم هذا الضد ايضا ، ويقول مثلا صل لا بداعي
النفساني ولا بلا داع.
الثالث : ان
القدرة على المأمور به على هذا التقدير متوقفة على الامر ، إذ مع عدمه لا يتمكن
المكلف من الفعل لا بداعي النفساني ، والقدرة من شرائط صحة التكليف قطعا.
وفيه : ان القدرة
المعتبرة هي القدرة في ظرف العمل ، لا حين التكليف ، وفي المقام بما انه يقدر على
اتيان المأمور به في ظرفه لفرض تعلق الامر به ، فلا مانع عنه من هذه الجهة ايضا.
فالمتحصل مما
ذكرناه امكان اخذ قصد الامتثال في المتعلق ، بجميع الانحاء الاربعة.
واما المورد
الخامس ، وهو حكم العقل بدخالة قصد الامر في العبادات ، فقد مر في المورد الثاني
تقريبه وما يرد عليه.
ما يقتضيه الاصل اللفظي
اما الدعوى
الثانية : وهي عدم امكان التمسك بالاصل اللفظي ـ فملخص القول فيها.
انه اختلفت كلمات
القوم في ان الاصل اللفظي من الاطلاق وغيره ما ذا يقتضي؟ على اقوال :
١ ـ ما اختاره
جماعة منهم الشيخ والاستاذ وهو انه يقتضى البناء على كون الواجب توصليا.
٢ ـ ما ذهب إليه
جماعة منهم صاحب الاشارات وهو البناء على كونه تعبديا .
__________________
٣ ـ اما اختاره
المحققان الخراساني والنائيني ، وهو الاهمال وعدم الاطلاق مطلقا.
وتنقيح القول
بالبحث في مقامين :
الأول : فيما
يقتضيه الاصل بناءً على امكان اخذ قصد الامتثال في المأمور به.
الثاني : في مقتضى
الاصل اللفظي بناء على عدم امكانه.
اما المقام الأول
فالمختار فيه ان الاصل يقتضي كون الواجب توصليا : إذ بعد ما عرفت من امكان اخذ قصد
القربة في المتعلق يكون هو كسائر الاجزاء والشرائط لو شك في اعتباره ، ولم يدل
دليل عليه ، مقتضى الاطلاق عدم اعتباره ، وبه يثبت كون الواجب توصليا.
وقد استدل لاصالة
التعبدية بوجوه :
الوجه الأول : ان
امر المولى بما انه فعل من افعاله الاختيارية فلا بد وان
__________________
يكون لغرض ليخرج
بذلك عن اللغوية ، والغرض منه جعل امره محركا اياه نحو العمل فالامر بنفسه جعل
للداعي والمحرك ، فما دام لم يقم قرينة على التوصلية كان مقتضى نفس الامر هو
التعبدية.
وفيه اولا : ما
تقدم من ان الغرض من الامر ليس جعل الداعي ، والا لما تخلف عنه ، ولما صدرت
المخالفة من العصاة ، بل الغرض منه جعل ما يمكن ان يكون داعيا : إذ المولى إذا رأى
في فعل من الأفعال الاختيارية للعبد مصلحة واشتاق إليه يتصدى لايجاده بالامر به ،
ليوجد العبد ذلك الفعل جريا على ما يقتضيه قانون العبودية والمولوية ، وهذا الغرض
يشترك فيه التعبديات والتوصليات.
وانما الاختلاف
بينهما في الغرض المترتب على الواجب : فانه ان ترتب على مطلق وجود الفعل ، فالواجب
توصلي ، وان ترتب على الاتيان به بقصد القربة فالواجب تعبدي ، وعلى فرض استكشاف
ترتب الغرض على مطلق وجود الفعل ، ولو بمقتضى الاطلاق لما كان الامر داعيا إلى
ايجاده بقصد القربة.
ويؤيد ما ذكرناه
ملاحظة حال النواهي ، حيث ان هذا البرهان جار فيها بعينه لانه يمكن ان يقال ان
النهي فعل اختياري للمولى ولا بدَّ وان يكون لغرض ، والغرض منه انزجار العبد ،
فالنهي جعل للزاجر مطلقا.
فالاصل في النواهي
ايضا هو التعبدية ، مع انه لم يتفوه به احد.
وثانيا : انه لو
سلمنا كون الغرض من الامر جعل الداعي ، نقول انه بعد استكشاف كون الغرض المترتب
على المأمور به مترتبا على مطلق وجوده ، ولو بواسطة الاطلاق ، لو اتى المكلف
بالفعل بلا قصد القربة لا محالة يحصل
الغرض ، فاما ان
يسقط الامر ، فهو المطلوب ، والا لزم بقائه مع عدم الملاك بعد فرض عدم وجود غرض
آخر ، وهو كما ترى ينافي مسلك العديلة.
وان شئت قلت : ان
اللازم على المكلف الاتيان بالمأمور به المحصل للغرض ، واما الغرض من الامر فليس
لازم التحصيل ، فحينئذ لو استكشفنا ترتب الغرض على مطلق وجود الفعل ، فالعقل انما
يحكم بلزوم اتيان الفعل تحصيلا له ، ولا يحكم بلزوم اتيان الفعل بقصد الامر كي
يتحصل الغرض من الامر.
الوجه الثاني :
قوله تعالى : وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حيث انه يقتضي الحصر المستفاد من لفظه" الا" ،
يدل على عبادية جميع الواجبات ، بل كل امر به ، خرج ما خرج.
واجاب عنه : الشيخ
الاعظم بجوابين :
الأول : ان هذا
المعنى مستلزم لتخصيص الاكثر ، فان اكثر الواجبات توصليات فيستكشف من ذلك عدم
إرادة هذا المعنى من الآية الشريفة.
الثاني : ان الآية
الشريفة في مقام بيان تعيين المعبود وحصره في الله تعالى ، لا في مقام بيان حال
الاوامر كما تشهد له الفقرة السابقة عليه ، وهي :
قوله عزوجل : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
__________________
مُنفَكِّينَ
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) .
أقول : لو تم هذان
الجوابان فهو ، والا فيمكن ان يجاب عنه : بان الآية الشريفة انما تدل على ان الغرض
الاقصى من الاوامر ، هو عبادة الله تعالى ، كما انها المقصود من ارسال الرسل
وانزال الكتب ، وهذا لا ينافي كون جملة من الواجبات توصليات والشاهد على ذلك ـ ان
الامر لا يتعدى بلام ، كما يظهر لمن راجع موارد استعماله بل اما ان يتعدى بنفسه ،
أو بباء ، فاللام انما هي لافادة الغرض وان مدخولها الغرض الاصلي من الاوامر.
هذا بناء على رجوع
الضمير في قوله تعالى وما امروا الا ليعبدوا الله الخ إلى عامة المكلفين.
واما بناء على
رجوعه إلى اهل الكتاب ، كما يشهد لتعيُّن ذلك ملاحظة الآيات السابقة على هذه الآية
، فهي اجنبية عن المقام بالمرة ، وانما تدل على ان التفرق الموجود بين اهل الكتاب
انما نشأ من قبل انفسهم بعد ما جاءتهم البينة وهم لم يكونوا مامورين الا بعبادة
الله تعالى.
الوجه الثالث :
النصوص الواردة بالسنة مختلفة المتضمنة ان العمل بلا نيّة
__________________
كلا عمل ، كقوله (ص)
الاعمال بالنيات ، وهي تدل على اعتبار النية في جميع الأفعال فما لم تقم
قرينة على صحة العمل بلا نيّة لا يعتد به في مقام الامتثال.
وفيه : ان المراد
من النية ليس هو قصد القربة لان هذا الاصطلاح من الفقهاء ، واما بحسب معناها
اللغوى ، فهي بمعنى القصد ، وعليه ، فمفاد هذه النصوص ان روح العمل انما يكون
بالقصد ، فلو ضرب اليتيم بقصد التاديب يتصف بالحسن ، وان ضربه للتشفي يتصف بالقبح
وان تأدب بذلك ، وان جاهد لله فالعمل له تعالى ، وان جاهد لطلب المال فله ما نوى ،
فهذه الروايات اجنبية عن كون الاوامر عبادية.
فتحصل انه بناء
على امكان اخذ قصد القربة في المتعلق مقتضى الاصل اللفظي هو التوصلية.
المقام الثاني :
واما بناء على عدم
امكانه الذي هو المقام الثاني من الكلام ، فقد يقال كما عن الشيخ الاعظم ، بانه يتمسك بالاطلاق ويثبت به كون الواجب توصليا :
واستدل لمختاره ، بانه لا يمكن تقييد المأمور به بقصد الامر ، فالاطلاق ثابت.
__________________
واورد عليه المحقق
النائيني (ره) ، بان ذلك يتم لو كان التقابل بين التقييد والاطلاق تقابل
السلب والايجاب ، ولكن حيث يكون الاطلاق متوقفا على ورود الحكم على المقسم وتمامية
مقدمات الحكمة فالتقابل بينهما يكون تقابل العدم والملكة ، وعليه ، فإذا فرضنا في
مورد عدم ورود الحكم على المقسم فلا معنى للتمسك بالاطلاق.
وما نحن فيه من
هذا القبيل فان انقسام المتعلق بما إذا اتى به بقصد الامر وعدمه يتوقف على ورود
الامر وليس في مرتبة سابقة عليه مقسم اصلا ، فالحكم لم يرد عليه ، فلا معنى للتمسك
بالاطلاق ، وعلى ذلك بنى على ان كل مورد لم يكن قابلا للتقييد يمتنع الاطلاق فيه
ايضا.
واورد عليه
الاستاذ الاعظم ، بان من اشتاق إلى فعل وكان ملتفتاً إلى امكان وجوده في
الخارج على وجوه.
فاما ان يتعلق
شوقه بخصوص حصة خاصة منه مقيدة بقيد وجودي أو عدمي.
أو يتعلق بمطلق
وجوده القابل للانطباق على كل واحد من الوجودات الخاصة ، من غير فرق بين التقسيمات
الاولية ككون الصلاة بطهارة أو بدونها.
وبين التقسيمات
الثانوية ككون المكلف عالما بالحكم أو جاهلا ، وكون
__________________
الصلاة مع قصد
القربة أو بدونه : لان متعلق الشوق لا بد وان يكون متعينا في ظرف تعلقه به ويستحيل
فرض الاهمال في الواقع وتعلق الشوق بما لا تعين له في فرض تعلقه به ، فكما ان
الملتفت إلى انقسام الماء إلى حار وبارد إذا اشتاق إلى شربه لا مناص له من تعلق
شوقه اما بالمطلق أو بالمقيد فكذلك الملتفت إلى انقسام الصلاة إلى قسمين ، باعتبار
انه تارة يؤتى بها مع قصد القربة ، واخرى بدونه اما ان يتعلق شوقه بالمطلق أو
بالمقيد ، وعليه فإذا فرض استحالة التقييد باتيانها مع قصد القربة كان الاطلاق أو
التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا ، وإذا فرض استحالة التقييد بالخلاف ايضا فالاطلاق
يكون ضروريا.
واورد على ما
استدل به المحقق النائيني لاستلزام استحالة التقييد استحالة الاطلاق : بان التقابل
بينهما تقابل العدم والملكة :
بان القابلية
المعتبرة فيه لا يلزم ان تكون شخصية دائما بل يجوز ان تكون صنفية أو نوعية أو
جنسية ، ألا ترى انه يصدق على الإنسان انه جاهل بحقيقة ذات الواجب مع انه يستحيل
ان يكون عالما بها .
أقول : تحقيق
القول في المقام على نحو يظهر ما هو الحق عندنا وما يرد على هؤلاء الاساطين يقتضي
ان يقال :
انه في الانقسامات
الاولية والثانوية امتناع التقييد في مقام الثبوت إلى جعل الحكم.
__________________
تارة يكون لاجل
امتناع شمول الحكم للمقيد بهذا القيد ، مثل تقييد الصلاة الواجبة بالافراد الخارجة
عن تحت قدرة المكلف.
واخرى يكون لاجل
امتناع تخصيص الحكم بالمقيد بهذا القيد كتخصيص الولاية بالفاسق : فانه مستلزم
لترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح ، وصدوره من الحكيم محال.
وثالثة لاجل مانع
في نفس الجعل ، والا فشمول الحكم له بعد جعله لا محذور فيه كما ان التخصيص به مما
لا يترتب عليه محذور.
فان كان الامتناع
من الجهة الاولى ، فلا محالة يمتنع الاطلاق ايضا فانه لا فرق في شمول الحكم بين
كونه ثابتا له بالخصوص أو لما يعمه ، فكما ان التكليف بغير المقدور ممتنع ، كذلك
التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، فتأمل فإن في خصوص المثال كلاما تقدم.
وان كان الامتناع
من الجهة الثانية فالاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروري فان المانع انما هو
في التخصيص لا في شمول الحكم.
وان كان من الجهة
الثالثة ، فان كان الاطلاق عبارة عن دخل جميع الخصوصيات في الحكم ، فإن امتناع
التقييد مستلزم لامتناع الاطلاق ، إذ لا فرق في امتناع الجعل بين كونه بنحو
التقييد ، أو الاطلاق ، وان كان الاطلاق عبارة عن رفض القيود ، وعدم دخل شيء من
الخصوصيات في الحكم ، فامتناع التقييد لا يستلزم امتناع الاطلاق ، ولا كونه ضروريا
، كما لا يستلزم كون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا.
اما الأول فلانه
يمكن جعل الحكم على الطبيعة الجامعة.
ودعوى ان الاطلاق
يتوقف على ورود الحكم على المقسم ، وهو ممتنع في الانقسامات الثانوية كما في المقام
إذ ليس في مرتبة سابقة على جعل الحكم مقسم اصلا فلا يمكن ورود الحكم عليه.
مندفعة بانه يعتبر
في الاطلاق ورود الحكم على ذات المقسم وهي الطبيعة الجامعة المعراة عن جميع
الخصوصيات ، لا بما هو مقسم فعلي.
واما الاخيران :
فلانه يمكن ان يكون الغرض مترتبا على المقيد ، بهذا القيد وشوق المولى متعلقا به
خاصة ، وانما لم يؤمر به لمانع في الجعل وعليه ، فليس له جعل الحكم مطلقا ولا
مقيدا بخلاف ذلك القيد ، هذا بحسب مقام الثبوت.
واما في مقام
الاثبات ، فإذا امتنع التقييد لا يمكن التمسك بالاطلاق إذ من مقدمات الحكمة انه
كان له ان يقيّد ولم يقيّد وهذه المقدمة غير جارية في الفرض.
فتحصل مما ذكرناه
انه في المقام لو فرض عدم امكان اخذ قصد الامر في المتعلق لا يمكن التمسك بالاطلاق
لاثبات كون الواجب توصليا ، فلا مناص عن الرجوع إلى ما يقتضيه الاطلاق المقامي لو
كان ، والا فإلى ما تقتضيه الاصول العملية وستعرف تنقيح القول فيهما.
كما انه ظهر عدم
تمامية شيء من كلمات ائمة الفن فان مورد كلامهم هو امتناع التقييد من الجهة
الثالثة.
وعليه فما افاده
الشيخ الاعظم (ره) من ان امتناع التقييد يوجب كون
الاطلاق ضروريا
وثابتا.
وما افاده الاستاذ
الاعظم من كونه مستلزما لكون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا.
يرد عليهما انه
يمكن ان يكون ما فيه الغرض ومتعلق الشوق المقيد بهذا القيد.
واما ما افاده
العلامة النائيني (ره) فلأنه يتوقف على كون الاطلاق عبارة عن دخل جميع الخصوصيات
في الحكم.
وقد عرفت ما فيه
فتدبر فإن ما ذكرناه في المقام هو القول الحق.
ما يقتضيه الاطلاق المقامي
ثم انه على فرض
الاغماض عما ذكرناه من امكان اخذ قصد القربة في المتعلق ، الذي عليه بنينا جواز
التمسك بالاطلاق اللفظي ، وفرض امتناع اخذه في المأمور به ، يكون مقتضى الاطلاق
المقامى البناء على كون الواجب توصليا حتى تثبت التعبدية :
وذلك لان المولى
إذا كان في مقام البيان وكان القيد على فرض دخالته مما لا يمكن اخذه في المأمور به
، فان كان القيد مما لا يغفل عنه العامة كقصد القربة ، وكان مما يحكم العقل ولو من
باب الاحتياط بلزوم الاتيان به ، فعدم بيان المولى دخله في حصول الغرض ، ولو بنحو
الأخبار ، لا يعد إخلالا بالغرض فلا يصح
التمسك بالإطلاق
المقامي لإثبات عدم دخله في المأمور به : إذ للمولى ان يتكل في بيان ما يحصل به
الغرض على ما يحكم به العقل.
واما لو انتفى احد
القيدين ، بمعنى ان العقل لم يكن حاكما بلزوم الاتيان به ، بل كان يحكم بقبح
العقاب بلا بيان ، أو كان القيد مما يغفل عنه العامة كقصد الوجه والتمييز ، فيصح
التمسك بالاطلاق المقامى ، المتوقف على ان يكون عدم بيان دخل القيد على فرض دخالته
اخلالا بالغرض حتى يصح ان يقال ان الحكيم حيث لا يخل بالغرض فيستكشف من عدم البيان
عدم دخله في ما يحصل به الغرض ، الذي هو حقيقة الاطلاق المقامي.
اما مع انتفاء
القيد الأول فواضح.
واما مع انتفاء
القيد الثاني فلان القيد لو كان دخيلا ليس للمولى الاتكال على حكم العقل بلزوم
الاتيان به لانه فرع الالتفات المفقود في الفرض ، وحيث ان المختار في جميع القيود
المشكوك دخلها ، عدم الرجوع إلى قاعدة الاشتغال على ما ستعرف ، فيتمسك بالاطلاق
المقامي لإثبات كون الواجب توصليا.
وبما ذكرناه ظهر
امور :
الأول : ان
الاطلاق المقامي يقتضي البناء على كون الواجب توصليا.
الثاني : ان ما
اختاره المحقق الخراساني من عدم التمسك بالاطلاق المقامي في قصد القربة انما يكون
صحيحا على ما بنى عليه ، من حكم العقل بلزوم الاحتياط عند الشك في دخله في حصول
الغرض.
الثالث : ان ما في
الكفاية من انه إذا كان الامر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه ولم
ينصب قرينة على دخل قصد الامتثال في حصوله يحكم بعدم دخله.
لا ربط له
بالاطلاق المقامي ، فان هذا الوجه يتوقف على احراز كون المولى بصدد بيان تمام ما
له دخل في الغرض ، والاطلاق المقامى من مقدماته لزوم القيام مقام البيان ، والا
يكون اخلالا بالغرض.
الرابع : ان ما
افاده المحقق الخراساني ، من انه يتمسك بالاطلاق المقامي لإثبات عدم دخل الوجه
والتمييز في الطاعة بالعبادة ، تام.
ولا ينافي مع ما
افاده من عدم التمسك به لإثبات عدم اعتبار قصد القربة .
ما يقتضيه الاصل العملي
واما القسم الثاني
من المقام الأول : الشك في التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول وهو ما يقتضيه الاصل
العملي ، فبناء على ما هو الحق من امكان اخذ قصد الامر في المأمور به ، لو شك في
واجب انه تعبدي أو توصلي ، ولم يكن هناك اطلاق يثبت التوصلية.
__________________
لا كلام في ان
المرجع هي اصالة البراءة بناءً على جريانها فيما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر
الارتباطيين : لعدم الفرق بين هذا القيد وسائر القيود.
واما بناءً على
عدم امكان اخذه في المتعلق ، كما بنى عليه المحقق الخراساني ، فقد يقال كما في
الكفاية.
انه لا مجال الا
لاصالة الاشتغال وانه لا تجرى البراءة العقلية ولا الشرعية ، وان بنينا على
جريانهما في ما إذا دار الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين.
اما عدم جريان
البراءة العقلية في المقام مع جريانها في تلك المسألة فلان الشك هناك في نفس
التكليف ، فإذا ترددت الصلاة الواجبة بين المشتملة على جلسة الاستراحة وفاقدتها ،
يرجع الشك ، إلى الشك في التكليف بجلسة الاستراحة وعدمه.
وهذا بخلاف المقام
، فانه لا شك في التكليف سواء كان قصد الامر دخيلا ام لا ، بل الشك انما يكون في
سقوط التكليف بمجرد الفعل بلا قصد القربة لحصول الغرض ، وعدم سقوطه لعدم حصوله ،
ومعلوم ان الشك في السقوط مورد لقاعدة الاشتغال.
واما عدم جريان
البراءة الشرعية : فلانه في سائر موارد الاقل والاكثر ، دخل الجزء أو الشرط في
حصول الغرض ، وان كان واقعيا غير قابل للوضع والرفع ، ولكن دخله في المأمور به
شرعي وقابل للرفع والوضع ، فبدليل الرفع يكشف انه ليس هناك امر فعلي بما يعتبر فيه
المشكوك فيه يجب الخروج عن عهدته عقلا.
بخلاف المقام فان
قصد الامتثال على فرض دخله ، كما لا يكون دخله في حصول الغرض شرعيا قابلا للرفع ،
كذلك لا يكون دخله في المأمور به شرعيا بمعنى انه ليس للشارع وضعه ، فليس له رفعه
، فهو غير قابل لتعلق الرفع الشرعي به ، وعلى ذلك فبما انه شك في سقوط الامر للشك
في سقوط الغرض ، لو اتى بالفعل بلا قصد القربة ولا تجرى البراءة ، فلا مناص عن
الرجوع إلى ما يستقل به العقل من لزوم الخروج عن عهدة التكليف ، وانه لا يكون
العقاب مع الشك وعدم احراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.
هذا محصل كلامه (قدِّس
سره) بتوضيح منا.
واورد عليه المحقق
النائيني بايرادين :
احدهما انه بناء
على لزوم تحصيل الغرض ، لا بد من البناء على الاشتغال في سائر موارد دوران الامر
بين الاقل والاكثر الارتباطيين وعدم الجدوى في جريان البراءة الشرعية ، والكلام في
ذلك موكول إلى محله.
ثانيهما : ان
الوجه في كون المرجع في المقام هي قاعدة الاشتغال ان كان من جهة رجوع الشك إلى
الشك في حصول الغرض اللازم الاستيفاء لو اتى بالفعل مجردا عن قصد القربة كما هو
ظاهر كلامه.
فيرد عليه ان ترتب
الملاكات على الأفعال ليس من قبيل ترتب المسببات
__________________
التوليدية على
اسبابها كي يصح تعلق التكليف بها ، بل من قبيل ترتب المعلولات على عللها المعدة ،
فليست تحت اختيار المكلف فلا يصح تعلق التكليف بها ، بل وظيفة المكلف حينئذ ليست
الا الاتيان بالمأمور به كما تقدم تفصيل ذلك في مبحث الصحيح والاعم.
وعليه فلو اتى
بالمأمور به وشك في حصول الغرض لا يحكم العقل بلزوم الاتيان بالفعل بنحو يسقط
الغرض وهو اتيانه مع قصد الامتثال.
والجواب عن ذلك قد
تقدم في مبحث الصحيح والاعم وعرفت ان نسبة الاغراض إلى الواجبات نسبة المسببات إلى
اسبابها ، فراجع ولا نعيد ما ذكرناه.
فالصحيح في الجواب
عن ما افاده المحقق الخراساني ان الاغراض المترتبة على الواجبات على قسمين :
الأول : ما يفهمه
العرف والعامة ويكون محصله ايضا معلوما عندهم بمعنى ان له قدرا متيقنا ثابتا عندهم
، كالقتل ، والطهارة ، وفي هذا القسم يصح التكليف بالغرض وإذا شك في المحصل لا بد
من الاتيان بما يقطع معه بحصول الغرض.
الثاني : ما لا
يفهمه العرف ولا يدرون ما ذا يحصله ، وفي مثل ذلك لا يصح التكليف به ، بل وظيفة
المولى حينئذ الامر بما يحصله ووظيفة المكلف الاتيان بالمأمور به واكثر الواجبات
الشرعية من هذا القبيل ، فحينئذ لو اتى بالمأمور به بتمامه ومع ذلك شك في حصول
الغرض لا مورد لقاعدة الاشتغال إذ تطبيق ما يفي بالغرض على ما امر به انما هو
وظيفة المولى ولا يجب على العبد سوى الاتيان بالمأمور به.
فان قيل ان كان
المشكوك دخله في الغرض مما امكن اخذه في المتعلق تم ما ذكرت ، إذ يصح الرجوع إلى
قبح العقاب بلا بيان.
واما إذا كان مما
لا يمكن اخذه كقصد القربة على الفرض ، فحيث انه لو كان دخيلا في حصول الغرض لما
تمكن المولى من بيانه ، فلا مورد للرجوع إلى تلك القاعدة العقلية.
اجبنا عنه : ان
المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوعا لذلك الحكم العقلي ، ليس هو الامر ، بل
المراد به الوصول ، وايصال المولى ، تارة يكون بامره ، واخرى بجعل وجوب الاحتياط ،
وثالثة بالاخبار ، فانه ايضا ايصال ويرتفع به موضوع قبح العقاب بلا بيان ، وفي
المقام وان كان لا يمكن الايصال بالامر ، الا انه للمولى الاخبار بدخله في حصول
الغرض ، فإذا لم يبين يكون المرجع القاعدة المزبورة.
فتحصل انه بناء
على جريان البراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين تجرى البراءة في المقام ايضا ،
فالاصل العملي ايضا يقتضى كون الواجب توصليا.
الشك في سقوط الواجب بفعل المحرم
واما المقام
الثاني : وهو ما إذا شك في واجب انه توصلي أو تعبدي بالمعنى الثاني فالكلام فيه
يقع في مواضع.
الموضع الأول :
انه لو شك في واجب انه ، هل يسقط بفعل المحرم ، ام لا.؟
فهل الخطاب يقتضى
عدم السقوط بمعنى انه يقتضى اعتبار صدوره على
وجه غير محرم ، ام
لا؟ وجهان :
اقواهما الأول :
إذ لا ريب في تضاد الاحكام كما سيأتي تنقيح القول فيه في مبحث اجتماع الامر والنهى
، وعليه فإذا فرضنا بقاء الحرمة ، فلا يمكن ان ينطبق الطبيعة المأمور بها على ذلك
الفرد في موارد امتناع الاجتماع وهي الموارد التي تنطبق الطبيعتان المتعلقة
احداهما للامر ، والاخرى للنهي ، على الموجود الواحد.
نعم في موارد جواز
الاجتماع وهو ما لو كان كل من الطبيعتين منطبقة على موجود ، غير ما ينطبق عليه
الاخرى ، مقتضى القاعدة سقوط الأمر باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم ، من
غير فرق بين التعبدي ، والتوصلي ، على ما سيأتي تحقيق القول في ذلك في محله.
وستعرف ان ما ذكره
ـ المحقق النائيني ، من اعتبار الحسن الفاعلى في اتصاف الفعل الخارجي بالوجوب ،
وعليه بنى عدم الصحة حتى في مورد جواز اجتماع الامر والنهي ـ غير تام.
مع انه في مورد
جواز الاجتماع ، لفرض ان للمأمور به وجودا ، غير وجود المنهى عنه ، يكون الحسن
الفاعلى باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم موجودا : إذ كما ان الوجود متعدد
كذلك الايجاد لاتحاد الوجود والايجاد ، وتمام الكلام في محله.
ثم انه نسب إلى
المحقق العراقي القول بان مقتضى القاعدة السقوط حتى في موارد امتناع الاجتماع.
واستدل له بانه لو
كان للكلام ظهورات ودلالات متعددة ، فلا يسقط بعضها لاجل سقوط بعضها الآخر ، بل
مقتضى القاعدة بقائه على الحجية.
والمقام كذلك : إذ
للهيئة ظهوران واطلاقان :
احدهما : كون جميع
افراد المادة مامورا بها.
ثانيهما : كون كل
فرد من ما يصدق عليه المادة ذا مصلحة ملزمة.
فاطلاقها من الجهة
الاولى قد قيد عقلا بالفرد غير المحرم ، فلا وجه لسقوط اطلاقها من الجهة الثانية
عن الحجية ، وعليه فإذا اتى بالفرد المحرم يحصل الغرض ، وبتبع ذلك يسقط الامر.
ودعوى ان مقتضى
الاطلاق الاحوالي للمقيد لزوم الاتيان بالفرد غير المحرم سواء اتى بالفرد المحرم
غير المأمور به قبله ام لا ، فيقع التنافي بين هذين الاطلاقين.
مندفعة : بانه بما
ان التقييد انما يكون بدليل منفصل فهو لا يقتضى سوى سقوط حجية ظهور المطلق في
اطلاق ، ولا يوجب ذلك انعقاد ظهور للمقيد في التقييد. هذا محصل كلامه (قدِّس سره) .
وفيه : ان كشف
وجود الملاك والغرض في مورد يتوقف على احد امرين :
الأول : إما كون
الدليل في مقام بيانه ولو بالاطلاق.
__________________
الثاني : او ثبوت
الامر الفعلي فيه ليكشف عن وجود الملاك كشف المعلول عن علته.
وليس في المقام
بالنسبة إلى الفرد المحرم شيء منهما.
اما الأول فلان
الدليل المتضمن لبيان الحكم انما يكون في مقام البيان من هذه الجهة ولا يكون في
مقام بيان ما فيه الغرض زائدا على ذلك ، فلا يصح التمسك باطلاق الدليل لاثبات ذلك
: فانه فرع تمامية مقدماته ، ومن جملتها كون المولى في مقام البيان ، وكونه في
مقام البيان من جهة لا يكفي في التمسك بالاطلاق من الجهة الاخرى.
واما الثاني :
فلفرض عدمه فلا كاشف عن وجود الملاك.
فتحصل انه في
موارد امتناع اجتماع الامر والنهى ، لو قدم جانب النهي مقتضى القاعدة عدم السقوط
باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم ، الا إذا قامت قرينة على السقوط الكاشف عن
تحقق المصلحة ، فهي حينئذ تكون دليلا على ان التكليف مشروط بعدم هذا الفرد ، وعليه
فلو شك في سقوطه بالفعل المحرم يشك في الاشتراط وعدمه ، ومقتضى الاصل اللفظي لو
كان ، والعملي مع عدمه ، البناء على عدم الاشتراط ، فالاصل يقتضى عدم التوصلية
بهذا المعنى.
الشك في سقوط الواجب بالفعل غير الاختياري
الموضع الثاني :
لو شك في واجب انه ، هل يسقط إذا تحقق الفعل من دون إرادة واختيار ، ام لا؟
أقول : بناءً على
ما تقدم في مبحث الطلب والارادة ، ويأتى في مبحث الضد من امكان تعلق التكليف
بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، لا مانع من التمسك بالاطلاق لو كان ، لاثبات
عدم اعتبار القدرة شرعا في المأمور به ، ومع عدمه مقتضى اصالة البراءة عن اعتبار
امر زائد على المقدار المعلوم تعلق التكليف به ذلك ، فالاصل هو التوصلية بهذا
المعنى.
وقد استدل
للاختصاص بالمقدور بوجوه :
الوجه الأول :
الانصراف ، اما بدعوى انصراف مادة الأفعال إلى خصوص ما إذا صدرت عن إرادة واختيار
، أو بدعوى انصراف هيئاتها إلى ذلك ، فلا يصح التمسك بالاطلاق والاصل ، لعدم
اعتبار القدرة والاختيار.
ولكن الدعويين
فاسدتان :
اما الاولى : فلان
المادة ان كانت قصدية بحيث لا يتحقق الا مع القصد كالتعظيم والتوهين فلا كلام فيها
، وان لم تكن بنفسها كذلك كالقيام والضرب ، فلا وجه لانصرافها إلى خصوص ما إذا
صدرت بارادة واختيار.
واما الثانية :
فقد اجاب عنها المحقق النائيني (ره) بان هيئات الأفعال موضوعة لافادة قيام المبادئ وانتسابها
إلى فاعلها ، وهذا امر يشترك فيه جميع المواد على اختلافها اعم من ان تكون صادرة
بالاختيار وصادرة من غير اختيار ، فدعوى الانصراف في الهيئة المشتركة بين الجميع
خالية عن الدليل.
__________________
ولكن هذا الجواب
أي عدم الوجه للانصراف المزبور ، وان كان متينا على ما حققناه في بيان ما وضعت هيئة
الامر له ، الا انه ليس للمحقق النائيني (ره) ان يجيب بذلك : فان دعوى المستدل وان
كانت عامة الا ان محط نظره في المقام خصوص هيئة الامر ، فمثل المحقق النائيني (ره)
الذي يرى انها وضعت لتحريك عضلات العبد نحو المطلوب ، لا مناص له من تسليم هذه
الدعوى وارجاعها إلى ما افاده (قدِّس سره) في وجه الاختصاص.
الوجه الثاني : ما
افاده المحقق النائيني ، وحاصله ان الغرض من الامر هو بعثه وايجاد الداعي له
لتحريك عضلاته نحو ايجاد المأمور به ، وهذا يستلزم كون المتعلق مقدورا له لانه من
البديهي انه انما يمكن جعل الداعي في خصوص الفعل الارادي ، فحيث انه لا يمكن
التخيير بينهما عقلا فيرجع الشك إلى الشك في اشتراط الخطاب وعدمه ، فالاطلاق
والاصل يقتضيان عدم الاشتراط.
والجواب عن ذلك ان
التكليف بخصوص غير المقدور الممتنع الوجود لغو لا يصدر عن الحكيم ، واما تعلق
التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور الصادر من المكلف بغير اختياره فلا ارى
فيه محذورا.
الوجه الثالث : ما
افاده المحقق النائيني ايضا ، وهو انه يعتبر في المأمور به زائدا على الحسن الفعلي
الحسن الفاعلى ، ولازمه تعلق التكليف بخصوص الحصة المقدورة إذ غير المقدورة لا حسن
فاعلي فيها وان كان لها حسن فعلى.
__________________
والجواب عنه مضافا
إلى منع اعتباره كما مر ، ان لازمه كون الاصل في الواجبات التعبدية بمعنى اعتبار
قصد القربة فيها كما لا يخفى.
فالمتحصل ان مقتضى
الاطلاق كون الواجب هو الجامع ، وسقوط التكليف بالفعل غير الاختياري ، والاصل
العملي يقتضى ذلك ايضا : إذ تقيد التكليف بخصوص الحصة المقدورة مشكوك فيه ، والاصل
عدمه.
الشك في سقوط الواجب بفعل الغير
الموضع الثالث :
لو شك في سقوط الواجب بفعل الغير ، فهل الاصل اللفظي أو العملي يقتضى السقوط ، أو
عدمه ، وجهان ، بل قولان.
ولقد اطال المحقق
النائيني في المقام ، وقسم السقوط بفعل الغير إلى السقوط به مع
الاستنابة وبدونها ، وافاد في كل من القسمين تحقيقات ، الا ان اقتضاء الاصل له ،
لا يتوقف عليها.
والمنسوب إلى
المشهور ان مقتضى الاطلاق سقوطه وكون الواجب توصليا بهذا المعنى من غير فرق بين
كونه بالتسبيب أو بالتبرع أو بغير ذلك.
وحق القول في
المقام : ان احتمال سقوط التكليف بفعل الغير في عالم الثبوت يتصور على انحاء.
__________________
احدها : احتمال
كون التكليف متعلقا بفعل نفسه أو غيره بنحو التخيير الشرعي ، أو بالجامع بينهما
فيكون التخيير عقليا.
ثانيها : احتمال
كون المتعلق هو فعله أو استنابته لغيره ، ونتيجة ذلك تخييره بين قيام نفس المكلف
به وبين الاستنابة لآخر.
ثالثها : ان يكون
التكليف مرددا بين كونه مشروطا بعدم قيام غير (المكلف به فيسقط بفعل غيره ، وبين
كونه مطلقا أي سواء قام به غيره ام لم يقم فلا يسقط.
وعلى الاولين ،
يدور امر الواجب بين كونه ، تعيينيا ، أو تخييريا.
وعلى الثالث يدور
امر الوجوب بين كونه مطلقا أو مشروطا.
وقد مر وسياتى في
محله ان مقتضى الاطلاق كون الواجب تعيينيا عند دوران الامر بينه وبين كونه تخييريا
، كما ان مقتضى الاطلاق كون الوجوب مطلقا عند دوران الامر بينه وبين المشروط.
اضف إلى ذلك ان
الاحتمال الأول غير معقول : لان تعلق التكليف المتوجه إلى شخص بفعل غيره غير معقول
، وكذا بالجامع بينه وبين فعل نفسه ، والاحتمال الثاني لازمه كفاية الاستنابة
ومسقطيتها بنفسها ، ولو لم يأت بالفعل في الخارج وهو خلاف الفرض. اضف إلى ذلك كله
، ان الظاهر من الدليل في مقام الاثبات هو ذلك ، إذ كما انه إذا استند الفعل
الماضي أو المضارع إلى شخص ، يكون ظاهرا في صدور المادة منه بالمباشرة ، كقولنا
ضرب زيد فانه ظاهر في صدور الضرب من زيد بالمباشرة ، كذلك ، إذا امر به ، ووجه
الخطاب إليه ،
وقال فليضرب زيد
يكون ظاهرا في ان المطلوب هو صدوره منه بنفسه ، وعلى ذلك فاحتمال السقوط بفعل
الغير ، مرجعه إلى الشك في اشتراط الوجوب بعدم فعل الغير ، فمقتضى اطلاق الخطاب لو
كان هو عدم الاشتراط.
واما الاصل العملي
فالشك في الوجوب بعد فعل الغير على الاحتمال الثالث المعقول الذي لا محذور فيه ،
شك في سقوط التكليف بعد ثبوته لا في اصل الثبوت ، فهو مورد لقاعدة الاشتغال
والاستصحاب ، لا البراءة.
لا يقال انه لو شك
في الوجوب من ناحية الشك في كونه مشروطا أو مطلقا مع الشك في وجود الشرط يكون
المرجع اصالة البراءة لكون الشك في ثبوت الحكم لا في السقوط.
فانه يقال انه يتم
ذلك مع عدم احراز فعلية التكليف ، كما لو شك في فعلية وجوب اكرام زيد من ناحية عدم
مجيئه ، واحتمال شرطية المجيء لوجوب اكرامه ، واما مع احراز الفعلية كما في المقام
واحتمال عدم التكليف من ناحية احتمال سقوطه بفعل الغير ، كما في تحنيط الميت لو
فعله الصبى المميز ، فلا يتم لانه شك في سقوط التكليف بعد ثبوته فتدبر فانه دقيق.
فالمتحصل مما
ذكرناه ان الاصل هو التوصلية في هذا المقام.
تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري
المبحث الخامس :
إذا علم بوجوب شيء ، وتردد امره بين ، الوجوب النفسي والغيري ، أو بين التعييني
والتخييري ، أو بين العينى والكفائي ، فما ذا
يقتضيه الاصل
والقاعدة؟ فالكلام في مسائل ثلاث :
المسألة الاولى
إذا دار امر الوجوب بين النفسي والغيري ، فافاد المحقق الخراساني ان اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا لان الوجوب الغيرى
مقيد إذ معنى كونه غيريا انه منوط بوجوب شيء آخر والنفسي مطلق ، إذ هو الوجوب غير
المنوط بشيء والاطلاق ينفى التقييد.
واورد عليه بان
الوجوب النفسي هو الوجوب لا لغيره ، لا الوجوب المطلق ، غاية الامران قيده من
القيود العدمية ، فالامر دائر بين ان يكون مشروطا بشيء وان يكون بشرط لا والاطلاق
يثبت اللابشرطية لا بشرط اللائية.
وفيه : يمكن ان
يقال انه بالاطلاق يثبت عدم كون الوجوب مترشحا من الغير ، ولازم ذلك كون الوجوب
نفسيا غير مترشح من الغير ، وبديهى ان الاصل اللفظي كما يثبت به الشيء يثبت به
لوازمه كما في سائر الامارات ، ولعله إلى ذلك يرجع ما افاده المحقق الخراساني.
وايضا يكون ذلك
مراد بعض المحققين حيث قال ردا على الايراد ان القيود العدمية يكفي فيها عدم
القرينة على الوجودية بدعوى ان مجرد ذلك دليل عدمها وإلا لزم نقض الغرض.
المسألة الثانية :
لو شك في واجب انه تعييني أو تخييري.
__________________
فبناء على كون
التخييري هو الوجوب المتعلق بالجامع الحقيقي أو العنوانى بين الفعلين ، فمقتضى
ظهور الصيغة المتضمنة للامر بالفعل بخصوصه ، هو كون الواجب تعيينيا : إذ حمل
المتعلق على إرادة الجامع بينه وبين غيره خلاف الظاهر.
واما بناء على
كونه هو الوجوب المتعلق بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، فمقتضى
اطلاقها ذلك : فانه لو دار الامر بين الوجوب المطلق والمشروط ، الاطلاق يعين الأول
: كما عرفت.
ومما ذكرناه ظهر
حكم (المسألة الثالثة) ما لو دار الامر بين كون الوجوب عينيا ، ام كفائيا : إذ لو
كان الوجوب الكفائي ، هو الوجوب المتعلق باحد المكلفين مقتضى ظهور الصيغة كون
الوجوب عينيا ولو كان عبارة عن الوجوب المتعلق بجميع الافراد الساقط عن الجميع
باتيان واحد منهم مقتضى اطلاق الصيغة ذلك.
الامر عقيب الحظر
المبحث السادس :
إذا وقع الامر عقيب الحظر أو توهمه فهل يدل على الوجوب كما عن كثير من العامة ، أو
على الاباحة كما هو المشهور بين الاصحاب ، أو هو تابع لما قبل النهي ان علق الامر
بزوال علة النهي ، أو يحكم بالاجمال وعدم الدلالة على شيء ، وجوه واقوال.
والتحقيق يقتضي ان
يقال : ان الضابط في الحجية وحمل الكلام على إرادة معنى خاص انما هو الظهور العرفي
وليس الضابط كون المستعمل فيه حقيقيا كي يحتاج إلى اثبات كون المستعمل فيه كذلك ،
بدعوى ان الاصل في الاستعمال كونه حقيقة كما ذهب إليه السيد المرتضى (قدِّس سره) .
وبالجملة بناء
العقلاء انما هو على ان المتكلم اراد ما يكون كلامه ظاهرا فيه ، وعليه فإذا كان
الكلام محفوفا بما يصلح للقرينية كان ذلك الكلام منعدم الظهور عندهم فيحكمون
بالاجمال.
ومن تلك الموارد
ما نحن فيه : إذ ورود الامر عقيب الحظر أو توهمه مما يحتمل عند العقلاء كونه قرينة
على عدم إرادة المتكلم الوجوب من الصيغة بناءً على كونها ظاهرة فيه بنفسها وضعا أو
انصرافا على ما تقدم من المحقق الخراساني وعلى كون الامر مما يجوز ترك متعلقه ، بناء على كونه بحكم
العقل كما هو المختار.
وبعبارة اخرى : ان
وقوع الامر عقيب الحظر يصلح ان يكون قرينة على
__________________
الترخيص في الترك
ومعه لا يحكم العقل بلزوم الاتيان بمتعلقه.
وان شئت قلت ان
العقل انما يحكم بلزوم الاتيان إذا لم يكن الامر واردا في هذا المورد ، فلا يحمل
الامر الواقع عقيب الحظر أو توهمه على الوجوب على المسلكين.
فالقول ببقاء
ظهوره في الوجوب ساقط.
كما ان القول
بظهوره في الاباحة فاسد : إذ هو تحكم لعدم الدليل على ذلك من وضع أو غيره.
كما ان القول
بتبعيته لما قبل النهي ان علق الامر بزوال علة النهي ، كما في الآية الشريفة : (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) بعد ان الحكم السابق ارتفع بالنهي وعوده يحتاج إلى دليل ـ قول
من غير دليل ـ وانما استفيد ذلك من الآية الشريفة بدليل آخر.
فتحصل ان الصيغة
في هذا المورد فاقدة للظهور فلا اصل لفظي يرجع إليه في المقام ، فلا بد من الرجوع
إلى الاصل العملي ، ومؤداه يختلف باختلاف الموارد.
فان المأمور به
إذا كان عبادة احتمال الكراهة والاباحة منتف قطعا ، إذ العبادة لا تكون مرجوحة ولا
مباحة ، والمفروض زوال الحرمة ، فيدور الامر بين الاستحباب والوجوب فبضميمة قبح
العقاب بلا بيان ، يثبت الاستحباب فتدبر.
__________________
وان كان غير عبادي
يبنى على الاباحة ، بناءً على جريان البراءة الشرعية في الاحكام غير اللزومية إذ
تجرى البراءة عن الوجوب والكراهة والاستحباب فيثبت الاباحة.
المرة والتكرار
المبحث السابع :
لا اشكال في ان الوظائف الشرعية على قسمين :
الأول : ما يكون
انحلاليا يتعدد بتعدد الموضوع ، كالاحكام التحريمية ، وكوجوب الصوم والصلاة ، فان
تعدد وجوب الصوم انما هو بتعدد شهود شهر رمضان فقوله تعالى : (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) ينحل إلى احكام عديدة ، كما ان وجوب الصلاة يتعدد بتعدد
دلوك الشمس.
الثاني : ما لا
يكون انحلاليا كوجوب الحج فانه لا يتعدد بتعدد الاستطاعة.
ولقد افاد المحقق
النائيني (ره) انه : من نظر إلى القسم الأول : حكم باستفادة التكرار من
الامر ، ومن نظر إلى القسم الثاني ، حكم باستفادة المرة.
والتحقيق : بطلان
هذا النزاع رأسا فان تعدد الحكم بتعدد موضوعه ووحدته بوحدته اجنبي عن دلالة الامر
على التكرار والمرة.
__________________
وتنقيح القول في
المقام يقتضى تقديم امور :
الامر الأول : ان
صاحب الفصول استدل على ان محل الكلام ليس دلالة المادة على المرة أو
التكرار ، بل محل الكلام اما خصوص الهيئة أو هي مع المادة : باتفاق ائمة الادب على
ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية المعراة عن لحاظ المرة
والتكرار ، حيث ان اتفاقهم على ذلك في المادة قرينة على ان نزاعهم انما هو في
غيرها.
واجاب عنه المحقق
الخراساني ، بان هذا يتم بناء على كون المصدر مادة للمشتقات.
وهو فاسد : فانه
مشتق في عرض سائر المشتقات وله مادة وهيئة : لاشتماله لفظا على هيئة خاصة ، ومعنى
على خصوصية زائدة ، على المعنى الاشتقاقى السارى في جميع المشتقات وهي النسبة
الناقصة ، بل المادة لجميع المشتقات هي المادة المشتركة بين جميع الألفاظ التي
تكون لا بشرط لفظا من حيث كل هيئة من الهيئات ومعنى من حيث قبولها لطرو انحاء
النسب عليها.
وفيه : ان ما ذكره
(ره) من عدم كون المصدر مادة لسائر المشتقات ، وان كان حقا لا ريب فيه ، الا انه
لا يكون جوابا عن صاحب الفصول : إذ اتفاقهم على ان المصدر لا يدل على شيء من المرة
والتكرار يكون كاشفا عن عدم دلالة المادة عليها لاشتماله حينئذ ، على المادة
وهيئة.
__________________
وبعبارة اخرى
المشتق هي المادة المتهيئة بهيئة خاصة فهو مشتمل على كون تلك الخصوصية زائدة ، فمن
عدم دلالة احد المشتقات على خصوصية يستكشف عدم كون تلك الخصوصية ماخوذة في المادة
، فإذا ثبت عدم دلالة المصدر على شيء من المرة والتكرار يثبت عدم دلالة المادة في
ضمن أي هيئة كانت على ذلك.
الأمر الثاني :
قال في الكفاية ثم المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات ، أو الفرد
والافراد ، والتحقيق ان يقعا بكلا المعنيين في محل النزاع انتهى. وهو متين.
وما عن الفصول ، من ان المراد لو كان هو الواجد الواحد والوجودات ، كان
اللازم ان يجعل هذا المبحث من تتمة البحث الآتي ، وهو ان الامر ، هل هو متعلق
بالطبيعة أو الفرد ، فمن ذهب إلى تعلقه بالطبيعة فلا يصح له هذا النزاع ، ومن
اختار تعلقه بالفرد يأتي نزاع آخر ، وهو انه هل هو متعلق بفرد واحد أو افراد ، ولو
كان المراد هي الدفعة والدفعات يصح النزاع على كل من المسلكين.
غير تام : إذ
المراد من الطبيعة والفرد في تلك المسألة دخل الخصوصيات المفردة في الحكم وعدمه ،
وعليه فيمكن : ان ينازع على القول الأول : في ان الامر المتعلق بالطبيعة أي
ايجادها الذي يكون لا محالة في ضمن فرد ما ، هل يدل على
__________________
ان المطلوب هو
ايجاد الطبيعة في ضمن فرد أو افراد.
وبعبارة اخرى هل
المطلوب وجود واحد للطبيعة أو وجودات.
الأمر الثالث :
انه قد يتوهم ان هذا البحث هو بعينه البحث عن اجزاء الاتيان بالمأمور به عن اعادته
ثانيا.
فالقائل بالاجزاء
يتعين له القول بدلالة الامر على المرة.
والقائل بعدمه يتعين
ان يلتزم بدلالته على التكرار.
وهو فاسد : إذ هذا
البحث انما هو لتعيين المكلف به ، وبحث الاجزاء ، انما يتكفل لبيان ، ان الاتيان
بالمكلف به على حده هل يجزى عن اعادته ثانيا ام لا؟
إذا عرفت هذه
الأمور :
فاعلم ان الامر لا
يدل على المرة ولا التكرار لان الأمر مركب من المادة والهيئة ، والاولى موضوعة
للماهية لا بشرط ، والثانية موضوعة لابراز الشوق ، فكل من المرة والتكرار خارج عن
مدلولهما ، وليس للمركب وضع آخر حتى يدعى دخل احدهما فيه.
نعم ، مقتضى الاصل
اللفظي والعملي هو كون المطلوب وجودا واحدا.
اما الأصل اللفظي
: فلانه إذا تمت مقدمات الحكمة وثبت الاطلاق يكون الثابت به ان المطلوب صرف وجود
الطبيعة المنطبق على اول الوجودات ، فما لم ينصب قرينة على كون المطلوب وجودات
عديدة ، لا بد من البناء على ذلك ، من غير فرق في ذلك بين الواجبات المستقلة
والضمنية.
كما ان مقتضى
الاطلاق ان المطلوب ينطبق على الوجود الأول : ، وان انضم إليه الوجود الثاني.
وبعبارة اخرى انه
كما يقتضى كون المطلوب وجودا واحدا غير مقيد بانضمام سائر الافراد إليه ، كذلك
يقتضى انه المطلوب غير مقيد بعدم انضمام غيره إليه.
واما الأصل العملي
: فلانه يشك في وجوب غير الفرد الأول : المطلوب قطعا ، فتجري اصالة البراءة ويحكم
بعدم الوجوب.
واما اتيان
المأمور به ثانيا بعد اتيانه اولا المسمى ذلك بالامتثال عقيب الامتثال فسيأتى
الكلام فيه في الاجزاء مفصلا.
الفور والتراخي
المبحث الثامن :
هل الصيغة تدل على الفور ، أو التراخي ، ام لا يدل على شيء منهما؟.
معنى كون الواجب
فوريا هو تضييقه ولزوم البدار إلى امتثاله.
كما ان معنى جواز
التراخي هو توسعته ، وعلى ذلك فانقدح مما حققناه في مبحث المرة والتكرار انه لا
دلالة للصيغة على الفور ولا على التراخي :
لانها لو دلت على
احدهما قطعيا ، اما ان تكون من ناحية المادة ، أو من ناحية الهيئة. والمادة كما
عرفت موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع
الخصوصيات.
والهيئة وضعت للدلالة على ابراز الشوق أو اعتبار كون المادة على عهدة المأمور فلا
دلالة في شيء منهما على ذلك.
والاستدلال لدلالة
الهيئة على الفور ـ بان البعث الشرعي انما هو بمنزلة العلّة في التكوينيات فكما
انها لا تنفك عن المعلول في اول ازمنة الامكان كذلك ما هو منزل منزلها ـ.
فاسد : لعدم تسليم
صحة التنزيل المزبور ، مع ان البعث الشرعي انما هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا.
نعم مقتضى الاطلاق
جواز التراخي : فان مقتضاه كون الواجب هو الطبيعي المطلق بلا اعتبار خصوصية زائدة
من الفور أو التراخي ، ولازم ذلك جواز التراخي ، وقد مر ان الاصول اللفظية حجة في
مثبتاتها ، هذا إذا كان هناك اطلاق والا فيرجع إلى الاصل العملي وهو ايضا يقتضى
ذلك لاصالة البراءة عن الخصوصية الزائدة.
وقد يقال : ان
مقتضى القاعدة والاصل وان كان ذلك ، الا انه قامت القرينة العامة على الفور وهي
قوله تعالى : (وَسَارِعُواْ إِلَى
مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ) وقوله عزوجل : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ) .
بدعوى ان الامر
ظاهر في الوجوب ، فالآيتان تدلان على وجوب المسارعة
__________________
والاستباق ،
وبديهى ان الواجبات الشرعية من اظهر افراد المغفرة والخير ، فيجب المسارعة
والاستباق إليها باتيانها في اول ازمنة الامكان.
واجاب عنه المحقق
الخراساني باجوبة :
احدها : ان سياق
الآيتين انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون
استتباع تركهما الغضب والشر ضرورة ان تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث
بالتحذر عنهما انسب.
وهذه بظاهره بيّن
الوهن ، فان المستدل انما يستدل بظاهر الامر فلو تم ذلك لزم عدم ظهور الامر في
مورد في الوجوب.
وبعبارة اخرى انه
لو تم لجرى ذلك في سائر الواجبات المقتصر في بيانها على البعث من غير ضم وعيد على
الترك.
ولذلك ربما يقال
انه اراد بما ذكره مطلبا آخر وان كانت العبارة قاصرة عن افادته.
وحاصله ان تعلق
الامر في الآيتين بعنواني ، المسارعة إلى المغفرة ، والاستباق إلى الخيرات ، بنفسه
دال على الاستحباب ، لدلالته على تحقق الخير والمغفرة في كلتا صورتي المسارعة
والاستباق ، وعدمهما ، ولازم ذلك عدم كون الامر وجوبيا ، والا لم يكن الاتيان
بالفعل في الازمنة اللاحقة مغفرة وخيرا ، ولازم ذلك عدم كونه في الآن الأول ،
مسارعة إلى المغفرة واستباقا إلى الخير.
__________________
ولكن يرد عليه :
ان لازم هذا الوجه عدم كون الاستباق من قيود المأمور به مقوما للمصلحة اللزومية ،
واما عدم كونه واجبا آخر ناشئا عن مصلحة اخرى قائمة به ، فهذا الوجه لا يكفي في
رده ، وعليه فحيث ان الظاهر هو الوجوب ، فيتعين الالتزام به.
اللهم الا ان يقال
ان الامر المتعلق بخصوصية من خصوصيات المأمور به يكون ظاهرا في كونه ارشادا إلى
جزئيتها أو شرطيتها ، وانها معتبرة فيه ، ولو دل الدليل على عدم كونها من القيود
اللزومية ، يحمل على كونها من القيود غير اللزومية ، ولذلك يبنى على ان القنوت من
الاجزاء المستحبة للصلاة ، وفي المقام بما ان اتيان المأمور به في اول ازمنة
الامكان من خصوصيات المأمور به فالامر به ظاهر في اعتباره في المأمور به ، وحيث
انه لا يمكن حمله على الوجوب لما تقدم ، فيحمل على إرادة افضلية الاتيان بالمأمور
به في اول ازمنة الامكان فتدبر فانه دقيق.
ثانيها : لزوم
كثرة تخصيصه في المستحبات واكثر الواجبات من حمل الامر فيهما على الوجوب فيتعين
حمله على الاستحباب.
ثالثها : ان العقل
مستقل بحسن المسارعة والاستباق فما ورد في مقام البعث نحوه ارشاد إلى ذلك كالآيات
والروايات الواردة في البعث على أصول الطاعة.
وفيه : ان الاحكام
العقلية التي لا معنى لها سوى الادراكات العقلية ـ لان العقل ليس مشرعا بل شأن
القوة العاقلة ـ هو الدرك.
ان كانت واقعة في
سلسلة علل الأحكام الشرعية كما لو حكم العقل بقبح شيء لما فيه من المفسدة الشخصية
أو النوعية ، لا محالة يكون الحكم
الشرعي الوارد في
ذلك المورد حكما مولويا نفسيا ، كما هو كذلك فيما دل على حرمة الظلم الذي استقل
العقل بقبحه.
وان كانت واقعة في
سلسلة معاليل الاحكام ، كحكمه بحسن الاطاعة وقبح المعصية ، لا يصح ان يرد من
الشارع حكم مولوي فيما حكم به العقل كما حقق في محله ، والا لزم التسلسل واللغوية
وغيرهما من التوالى الفاسدة ، وفي المقام بما ان حكم العقل بحسن المسارعة ،
والاستباق حكم عقلي واقع في سلسلة علة الحكم الشرعي ، فالامر الوارد في هذا المورد
يحمل على المولوية.
مع ان حكم العقل
بحسن المسارعة ليس حكما لزوميا كما هو الظاهر لمن راجع إلى مرتكزه الذهني ، فحكم
الشارع بوجوبها لا يكون حكما ارشاديا إلى ما حكم به العقل ، فالعمدة هي الوجهان
الاولان.
بناءً على الفورية هل يجب فورا ففورا
ثم انه بناء على
القول بعدم دلالة صيغة الامر على الفور ، ولا التراخي ، أو دلالتها على التراخي
فلا كلام.
واما بناء على
دلالتها على الفور ، فهل يسقط الامر بالطبيعة مع عدم الاتيان فلا يجب الاتيان بها
بعد ذلك ، ام لا يسقط؟
وعلى الفرض الثاني
، فهل يجب الاتيان بالمكلف به في الزمان الثاني فورا ايضا ام لا؟
وعليه ، فالكلام
يقع في موردين :
الأول : في سقوط
الامر بالطبيعة مع عصيان الامر بالاستباق ، وعدمه.
الثاني : انه هل
يجب الاتيان بالمأمور به في الزمان الثاني فورا ، ام لا؟
اما المورد الأول
: فعن المحقق العراقي (ره) ، انه ان كان منشأ القول بالفورية ، هو الصيغة بان استفيدت
الفورية منها ، تعين البناء على سقوط التكليف رأسا : لان الفورية دخيلة في الواجب
كدخل سائر الاجزاء والشرائط ، فكما انه يسقط الامر بالمركب بتعذر تلك القيود ،
فكذلك هذا القيد ، وان كان المنشأ ما كان خارجا عنها ـ كالآيتين فالظاهر انها تكون من قبيل الواجب في الواجب على نحو تعدد
المطلوب.
وفيه : ما تقدم من
ان الامر بقيد في المأمور به ظاهر في كونه ارشادا إلى الجزئية أو الشرطية ، وعليه
فلا فرق بين كون المنشأ نفس الصيغة أو امرا خارجيا ، فالتفصيل في غير محله.
فالمتحصل مما
ذكرناه ، أنه لو دل الدليل على وجوب الفور ، لدل على كون الواجب بنحو وحدة المطلوب
، وسقوط الامر بعدم اتيان المأمور به فورا.
وبما ذكرناه يظهر
، ما في كلمات المحقق الخراساني في الكفاية ، من ابتناء
__________________
الوجهين : على ان
مفاد الصيغة على هذا القول هو وحدة المطلوب أو تعدده ، ثم اختيار انه لا يكون لها
دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده ، حتى على القول بدلالتها على الفور.
وعلى فرض التنزل
وتسليم عدم سقوط الامر ، يقع الكلام في المورد الثاني. وهو انه هل يجب الاتيان به
في الزمان الثاني ايضا فورا ، ام لا يجب؟
وقد استدل للاول ،
بان منشأ القول بالفور ، ان كان هو ما كان خارجا عن الصيغة كالآيتين ، فهو يدل ان
كل ما هو خير ومغفرة يجب المسارعة والاستباق إليه ، والفعل بعد عدم اتيانه في
الزمان الأول : بما ان التكليف به باق ، فهو خير ومغفرة في الزمان الثاني فيجب
المسارعة نحوه بمقتضى عموم الآيتين وهكذا في الازمنة المتأخرة.
وفيه : ان عنوان
المسارعة المطلوبة ان كان يصدق على غير الاتيان به في الزمان الأول : ، فلازم ذلك
التخيير بين افراد السبق والمسارعة ، والا ، فلا دليل على لزوم الاتيان به في
الزمان الثاني فورا.
وان شئت قلت ان
الظاهر منهما وجوب المسارعة بقول مطلق ، وليس لهذا العنوان إلا فرد واحد ، وهو
الاتيان في الزمان الأول : وإتيان الفعل في الزمان الثاني ، وان صدق عليه المسارعة
بالاضافة ، الا انه لا دليل على مطلوبيتها : لان الدليل دل على مطلوبية المسارعة
بقول مطلق ، لا مطلق المسارعة.
فتحصل انه لا فرق
في كون منشأ القول بالفور ، هي الصيغة ، ام كان خارجا عنها كالآيتين في عدم دلالته
على لزوم الاتيان به فوراً ففوراً فتدبر.
تم بعونه تعالى
الجزء الأول
ويليه
الجزء الثاني
وأوله
الفصل الثالث من المقصد الأول
مبحث الإجزاء
فهرس الموضوعات
مقدمة
التحقيق................................................................ ٥
علم
الأصول في سطور......................................................... ٩
الفهرس
الاجمالي للكتاب : مقدمة ومقاصد وخاتمة................................... ١٨
مقدمة علم الأصول : في ستة عشر أمرا
في
ثبوت المبادئ الأحكامية لعلم الاصول وعدمه.................................... ٢١
لزوم
الموضوع للعلم وعدمه....................................................... ٢٤
لزوم
البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه............................... ٢٩
ما
به تمايز العلوم............................................................... ٤٠
موضوع
علم الاصول............................................................ ٤٥
تعريف
علم الاصول............................................................ ٥٠
العلقة
الوضعية ليست من الأمور الواقعية........................................... ٥٨
بيان
حقيقة الوضع........................................................... ٦١
أقسام
الوضع امكانا ، ووقوعا.................................................. ٧٠
في
المعنى الحرفي............................................................... ٧٤
مختار
المحقق الخراساني ونقده.................................................... ٧٩
مختار
المحقق النائيني في المعنى الحرفي ونقده........................................ ٨٨
مختار
الأستاذ الأعظم في المعنى الحرفي ونقده...................................... ٩٢
بيان
المختار في المعنى الحرفي.................................................... ٩٣
الوضع
في الحروف عام والموضوع له عام......................................... ٩٦
تحقيق
الإنشاء والأخبار...................................................... ١٠١
اسماء
الإشارة والضمائر...................................................... ١٠٩
استعمال
اللفظ في المعنى المجازي................................................. ١١٣
استعمال
اللفظ في نوعه........................................................ ١١٦
إطلاق
اللفظ وارادة شخصه................................................. ١٢١
تبعية
الدلالة للارادة........................................................... ١٢٧
وضع
المركبات................................................................ ١٣٢
التبادر
من علامات الحقيقة..................................................... ١٣٧
عدم
صحة السلب من علامات الحقيقة....................................... ١٤٠
الإطراد
علامة الحقيقة....................................................... ١٤٥
تعارض
الاحوال............................................................ ١٤٨
الحقيقة
الشرعية............................................................... ١٥١
الصحيح
والاعم.............................................................. ١٥٧
الاحتياج
إلى تصوير الجامع.................................................. ١٦٣
تصوير
الجامع بين الأفراد الصحيحة........................................... ١٦٥
تصوير
الجامع على الأعم.................................................... ١٧٥
الوجه
الثاني لتصوير الجامع على الأعم......................................... ١٨١
الوجه
الثالث والرابع لتصوير الجامع على الأعم................................. ١٨٣
بيان
ثمرة المسألة............................................................ ١٨٦
الثمرة
الثالثة............................................................... ١٩٣
أدلة
القول بالصحيح....................................................... ١٩٤
وجوه
القول بالوضع للأعم................................................... ٢٠٠
المقام
الثاني في المعاملات..................................................... ٢٠٦
جواز
التمسك بالإطلاق في المعاملات......................................... ٢١٢
أقسام
دخل الشيء في المأمور به.............................................. ٢١٧
الاشتراك..................................................................... ٢٢٢
استعمال
اللفظ في أكثر من معنى............................................. ٢٢٨
بقي
الكلام في ثمرة هذا البحث............................................... ٢٣٦
المشتق....................................................................... ٢٣٩
ثمرة
هذا البحث............................................................ ٢٤٣
النزاع
عام لإسم الزمان...................................................... ٢٥٢
عدم
دلالة الأفعال على الزمان............................................... ٢٥٦
إختلاف
المشتقات في المبادئ................................................ ٢٥٩
بيان
المراد من الحال في العنوان................................................ ٢٦١
تعيين
ما يقتضيه الأصل..................................................... ٢٦٦
ما
يدل على المختار في وضع المشتق........................................... ٢٦٩
أدلة
القول بالوضع للأعم................................................... ٢٧٦
في
بساطة مفهوم المشتق وتركبه............................................... ٢٨٢
دليل
تركب المشتق.......................................................... ٢٩٢
الفرق
بين المشتق ومبدأه..................................................... ٢٩٣
ملاك
الحمل............................................................... ٢٩٦
ما
هي النسبة بين المبدأ والذات.............................................. ٢٩٩
ما
هو المتنازع فيه في المشتق.................................................. ٣٠٢
المقصد الأول : الأوامر
في
الأوامر وفيه فصول......................................................... ٣٠٥
الفصل
الأول : في مادة الأمر................................................... ٣٠٥
المعنى
الاصطلاحي للفظ الامر............................................... ٣١١
اعتبار
العلو في معنى الامر................................................... ٣١٤
الامر
محمول على الوجوب................................................... ٣١٦
الجهة
الرابعة : في اتحاد الطلب والارادة........................................ ٣٢٠
الجبر
والاختيار................................................................ ٣٢١
أقوال
الجبريين.............................................................. ٣٢٢
القول
بالتفويض............................................................ ٣٢٧
معنى
الامر بين الامرين...................................................... ٣٣٠
أدلة
الجبريين لما ذهبوا إليه................................................... ٣٣٦
جواب
الحكماء ونقده....................................................... ٣٣٧
جواب
المحقق العراقي ونقده.................................................. ٣٣٨
ما
هو الحق في نقد هذا الوجه................................................ ٣٣٩
تجرد
النفس عن المادة....................................................... ٣٣٩
الشوق
ليس علة للفعل الاختياري............................................ ٣٤٤
قانون
العلية العامة.......................................................... ٣٤٦
ايرادات
هذا الجواب ونقدها.................................................. ٣٤٧
عدم
استحالة الترجيح بلا مرجح.............................................. ٣٥٢
قانون
الوراثة............................................................... ٣٥٤
الاعتياد................................................................... ٣٥٥
الندامة
واحساس المسؤولية................................................... ٣٥٦
الاستدلال
للجبر بمببدئية الله سبحانه......................................... ٣٥٧
الاستدلال
للجبر بانتهاء الأفعال إلى إرادة الله تعالى............................. ٣٥٩
توضيح
كلام المحقق الخراساني................................................. ٣٦٠
وجه
ايجاد من سيوجد منه المهلكات........................................... ٣٦٣
الموجب
لاختيار الله تعالى العقاب............................................. ٣٦٥
إرادة
الله تعالى على قسمين.................................................. ٣٦٧
إرادة
الله من صفات الفعل................................................... ٣٦٨
أفعال
العباد غير متعلقة لإرادة الله تعالى........................................ ٣٦٩
الآيات
التي استدل بها على تعلق إرادة الله تعالى بالأفعال......................... ٣٧١
المشيئة
الالهية وافعال العباد................................................... ٣٧٤
الاستدلال
للجبر يعلم الله تعالى.............................................. ٣٧٨
الاستدلال
للجبر بسلطنة الله تعالى............................................ ٣٨٠
الاستدلال
للجبر باسناد الاضلال إلى الله تعالى................................. ٣٨٢
كلام
المعارف الشيرازي في معنى الاضلال...................................... ٣٨٧
الآيات
التي استدل بها للجبر................................................. ٣٩٤
القول
بالجبر مخالف للوجدان................................................. ٣٩٧
التحسين
والتقبيح العقليان................................................... ٣٩٨
عدالة
الله تعالى............................................................. ٤٠١
التكليف
بما لا يطاق....................................................... ٤٠٣
الاستدلال
للقول بالتفويض ونقده............................................ ٤٠٧
الامر
بين الامرين........................................................... ٤٠٩
بحث
روائي................................................................ ٤١٠
دفع
الشبهة عن الحديث القدسي............................................. ٤١٩
حقيقة
السعادة والشقاوة..................................................... ٤٢١
اختلاف
الناس في الصفات النفسانية......................................... ٤٢٤
البداء
في التكوين........................................................... ٤٢٥
كلمات
علمائنا في معنى البداء............................................... ٤٢٧
ما
هو الحق في معنى البداء................................................... ٤٣٠
تنبيهات................................................................... ٤٣٤
الكلام
النفسي............................................................. ٤٣٦
أدلة
الاشاعرة على الكلام النفسي............................................ ٤٣٧
الدليل
على عدم ثبوت الكلام النفسي........................................ ٤٤٣
الفصل
الثاني : فيما يتعلق بصيغة الامر.......................................... ٤٤٦
دلالة
صيغة الامر على الوجوب وعدمها....................................... ٤٥٠
دلالة
الجملة الخيرية على الوجوب............................................. ٤٦١
التعبدي
والتوصلي.......................................................... ٤٦٤
الدواعي
القربية............................................................. ٤٦٩
اخذ
قصد الامر في المتعلق................................................... ٤٧٢
استحالة
أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر...................................... ٤٧٣
اخذ
قصد الامر في المتعلق بالامر الثاني........................................ ٤٨٥
اخذ
الجامع بين قصد الامر وغيره في المتعلق.................................... ٤٨٩
اخذ
ما يلازم قصد الامر في المتعلق............................................ ٤٩٢
ما
يقتضيه الاصل اللفظي.................................................... ٤٩٥
ما
يقتضيه الاطلاق المقامي.................................................. ٥٠٥
ما
يقتضيه الاصل العملي.................................................... ٥٠٧
الشك
في سقوط الواجب بفعل المحرم.......................................... ٥١١
الشك
في سقوط الواجب بالفعل غير الاختياري................................ ٥١٤
الشك
في سقوط الواجب بفعل الغير.......................................... ٥١٧
تقسيم
الواجب إلى النفسي والغيري........................................... ٥١٩
الامر
عقيب الحظر......................................................... ٥٢١
المرة
والتكرار............................................................... ٥٢٤
الفور
والتراخي............................................................. ٥٢٨
بناءا
على الفورية هل يجب فورا ففورا.......................................... ٥٣٢
فهرست
الموضوعات........................................................... ٥٣٦
* * *
|