
بسم الله الرحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله
تعالى على أشرف الأنبياء والمرسلين
محمّد المصطفى وعلى أهل بيته
المعصومين الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيرا واللعنة على
أعدائهم من الآن إلى يوم الدين آمين.
اصالة الاشتغال
قوله
: فصل لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب والتحريم ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان البراءة شرع في بيان الاشتغال. ولا يخفى أنّ أصالة
الاشتغال إحدى أصول العملية الأربعة المشهورة تجري في المورد الذي يكون الشك فيه
في المكلف به مع العلم بأصل التكليف من الايجاب ، أو التحريم ، مثلا إذا كان
الوجوب معلوما لنا ولكن الواجب مردّدا بين المتباينين تارة ، وبين الأقل والأكثر
الارتباطيين اخرى. فمورد جريان اصالة الاشتغال هو المورد الذي يكون العلم بنوع
التكليف فيه حاصلا ، ولكن يكون المكلف به مردّدا بين المتباينين سواء كان تباين
المكلف به بالذات كما لو علم إجمالا بوجوب عتق رقبة ، أو صيام شهرين ، أم كان
بالعرض كما لو علم بوجوب القصر ، أو التمام فانّ القصر انّما يباين التمام بلحاظ
أخذ بشرط لا في القصر بأن لا تكون الاخريين مع الاوليين وبشرط شيء في التمام بأن
بأن تكونا معهما ، فلا ينطبق أحدهما على الآخر ؛ وهذا بخلاف الأقل والأكثر فانّ
الأقل لا يباين الأكثر بل الأقل بعض الأكثر وهذا موجب لكون وجوده عين وجود الأكثر
، وذلك كالتسعة والعشرة مثلا.
وبتقرير آخر ؛ وهو
أنّه لا بدّ في كل علم إجمالي قائم بالمتباينين من إمكان فرض قضيتين شرطيتين مقدّم
احداهما أحد الأمرين وتاليهما نقيض الآخر ومقدم ثانيتهما عين الآخر وتاليها نقيض
مقدم الاولى كقولنا : إن كان العتق واجبا فليس الصيام واجبا ، وإن كان الصيام
واجبا فليس العتق واجبا ؛ وإن كان القصر واجبا فليس التمام واجبا. وإن كان التمام
واجبا ؛ فليس القصر واجبا هذا كلّه في المتباينين بالذات وبالعرض ، الاول كالعتق
والصيام ، والثاني كالتمام والقصر.
ولكن لا يصح
فرضهما في الأقل والأكثر. فلا يقال : إن كانت العشرة واجبة فليست التسعة واجبة ؛
وإن كانت التسعة واجبة فليست العشرة واجبة لأنّ التسعة بعض العشرة. وعليه فوجوب
العشرة وجوب التسعة وزيادة.
أمّا بعد فيقع
الكلام في مقامين :
المقام
الأوّل : في دوران الأمر
بين المتباينين فالمكلّف به إمّا مردّد بين المتباينين اللّذين لا يرتبط أحدهما
بالآخر ولا يحمل أحدهما على الآخر أصلا كصلاة الجمعة ، وصلاة الظهر مثلا ، إذ هما
متباينان كما وكيفا وأجزاء وشروطا بحيث يكون كل واحد منهما عبادة مستقلة ؛ وكذا
القصر والتمام حرفا بحرف وقد يكون الوجوب مسلما في دوران الأمر بين المتباينين
والواجب مردّدا بين أمرين كصلاة الجمعة والظهر ، إذ وجوب الصلاة مسلّم والواجب
مردّد بينهما ؛ وقد تكون الحرمة مسلمة والحرام مردّدا بين أمرين متباينين ، كما
إذا اشتبه إناء الخمر بإناء الخل وقد يكون العلم الاجمالي حاصلا لنا بوجوب شيء ،
أو بحرمة شيء آخر بحيث يكون متعلّق الوجوب والحرمة متفاوتا فيقال : إمّا هذا الشيء
واجب ؛ وامّا ذلك الشيء حرام.
أما الفرق بين الاولى
والثانية ان الترديد في الاولى يكون في الواجب والحرام ؛ والترديد في الثانية يكون
في الوجوب والحرمة ، هذا أوّلا.
المقام
الثاني : أن العلم في
الاولى في نوع التكليف ؛ وفي الثانية في جنس التكليف مع تردّد نوعه بين نوعين وهما
الوجوب والحرمة ، إذ نعلم بالالزام بالفعل ، أو الترك ولكن لا نعلم نوع الالزام من
الوجوب ، أو الحرمة والفعل والترك.
قوله : واخرى بين
الأقل والأكثر الارتباطيين ...
الأقل والأكثر
نوعان :
الأوّل :
استقلالي.
الثاني : ارتباطي
أمّا الأقل
والأكثر الاستقلاليان فلا إجمال في المكلف به لأنّ الأقل معلوم التكليف به والزائد
مشكوك التكليف بدوا ، مثلا علمنا إنّنا مديونون بزيد بن أرقم مثلا ، ولكن لا نعلم
ان الدين ثمانية دنانير ، أو عشرة دنانير فيكون الأقل متيقّنا والأكثر مشكوكا
فنجري البراءة بالإضافة إليه للشك في التكليف به وهو مجرى البراءة.
وأمّا الأقل والأكثر
الارتباطيان فيكون الاجمال في المكلف به ، مثلا لا نعلم أن الصلاة مركّبة من عشرة
أجزاء وهي : النيّة والتكبيرة والقراءة للحمد والسورة والركوع والسجود والتشهّد
والذكر للركوع والسجود والتشهّد والتسبيحات الأربع والتسليم ، أو من تسعة أجزاء
بإسقاط السورة الكاملة.
أمّا بيان الفرق
بينهما : فيقال : انّ امتثال البعض في الأوّل لا يكون مرتبطا بامتثال بعضه الآخر
كالدين المردّد بين الأقل والأكثر بخلاف الثاني. فانّ امتثال البعض فيه مرتبط
بامتثال بعضه الآخر ، إذ امتثال القراءة في الصلاة مرتبط بامتثال الركوع وامتثاله
مرتبط بامتثال السجدة ، وهكذا ، هذا أوّلا.
وثانيا : ينحل
العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي في الاستقلالي دون الارتباطي.
ويتحقّق الامتثال
في الاستقلالي بالأقل كما يتحقّق بالأكثر أمّا بخلاف الارتباطي فانّه لا يتحقّق
الامتثال بالأقل ، بل يتحقّق بالاكثر فقط.
ومن هنا قد انقدح
لك وجه تسمية الأقل والأكثر بالاستقلالي لاستقلال الأقل من حيث الامتثال بلا
احتياجه إلى الأكثر ، وبالارتباطي لارتباط الأقل بالأكثر من حيث الامتثال واحتياجه
إليه.
وممّا ذكرنا ظهر
الفرق بين المتباينين والأقل والأكثر الارتباطيين من التباين في الأوّل ، وعدمه في
الثاني ، فإنّ الأقل بعض الأكثر.
قوله
: لا يخفى أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقا ...
لا يخفى عليك ان
نوع التكليف معلوم بين المتباينين ، كالوجوب مثلا أو جنس التكليف معلوم بينهما ،
كالالزام ، ولكن لا يعلم ان الوجوب هل تعلق بالعتق ، أو بالصيام مثلا ، فالوجوب
معلوم والواجب مردّد بينهما ، أو لا يعلم ان الالزام هل تعلق بفعل هذا الشيء كي
يكون واجبا ، أو بترك ذاك الشيء حتّى يكون حراما. مثلا : يعلم إجمالا أنّه إمّا
هذا المعيّن واجب ، أو ذاك المعيّن حرام ، فيكون هذا العلم الاجمالي كالعلم الاجمالي
بحرمة أحد الأمرين ، أو بوجوب أحد الأمرين فالعلم الاجمالي يقتضي الاحتياط في
الثاني ، وهو يتحقّق بترك الأمرين معا. وبفعل الأمرين جميعا ، فكذا يقتضيه في
الأوّل ، وهو يتحقّق بإتيان محتمل الوجوب ؛ وبترك محتمل الحرمة.
ومن هذا البيان
فقد ظهر الفرق بين المحذورين والمتباينين ، إذ في الأوّل تعلّق الوجوب والحرمة
بشيء واحد ؛ وفي الثاني قد تعلّق الوجوب بشيء والحرمة بشيء آخر ؛ وقد يمكن أن
يتعلّق الوجوب فقط بهذا الشيء ، أو بشيء آخر ، هذا معيار الفرق بينهما.
ولا يخفى عليك
أيضا أن التكليف المعلوم بالاجمال إن كان فعليا من جميع الجهات بأن كان واجدا لما
هو العلّة التامّة للبعث والزجر من الإرادة والكراهة المنقدحتين في نفس المولى على
طبق الوجوب والحرمة ، كما تقدّم هذا المطلب في بحث الجمع بين الحكم الظاهري
والواقعي فهو منجّز يصح العقاب على مخالفته لا محالة وحينئذ تكون أدلّة البراءة
الشرعية مخصّصة عقلا لأجل وضوح مناقضتها مع الإرادة والكراهة المحققتين على طبق
التكليف المعلوم بالاجمال فلا تجري اصالة البراءة في أطراف العلم الاجمالي لا كلّا
ولا بعضا إذا كان على طبقه الإرادة والبعث أو الكراهة والزجر وإن كان عموم أدلّة
البراءة الشرعية الدالّة على الرفع والسعة والوضع والاباحة تشمل بعمومها لأطراف
العلم الاجمالي أيضا كما تشمل
للشبهات البدوية ،
ولكن يلزم تخصيصها هنا عقلا في المورد الذي يكون التكليف المعلوم بالاجمال فعليا
من جميع الجهات لأجل لزوم المناقضة لو لم نخصصها ، إذ يلزم من جريانها في هذا
المورد عدم لزوم الإتيان وعدم لزوم الترك ويلزم من جهة فعليته من جميع الجهات لزوم
الاتيان ، أو الترك فالجمع بينهما بالاضافة إلى التكليف المعلوم إجمالا تناقض صريح
كما لا يخفى.
وإن لم يكن فعليا
من جميع الجهات وإن كان فعليا من غير جهة العلم من البلوغ والعقل والقدرة على نحو
لو تعلّق به العلم التفصيلي لتنجّز وحصل به البعث أو الزجر والإرادة ، أو الكراهة
على طبقه لم يكن منجزا حينئذ وجرت أدلّة البراءة الشرعية في أطراف العلم الاجمالي
جميعا فضلا عن جريانها في بعضها ولم يجب الاحتياط في شيء من أطرافه لا كلّا ولا
بعضا لعدم المانع عن شمولها لها لا عقلا ولا شرعا.
أمّا عدم المانع
عقلا فلأن العلم الاجمالي ليس علّة تامّة للتنجّز كالعلم التفصيلي حتى يمتنع
الترخيص الشرعي في مخالفته إذ ليس هذا الترخيص بترخيص في المعصية كي يكون قبيحا في
نظر العقل ، كما سبق هذا في مبحث القطع.
وأمّا عدم المانع
شرعا فلأن المحتمل في المنع أحد أمرين :
الأوّل : أن موضوع أدلّة الاصول ما لم يعلم أنّه حرام وهذا
العنوان ممّا لا يحرز في كل واحد من الأطراف ، لأنّ المعلوم بالاجمال لما كان
معلوما أنّه حرام فمع احتمال انطباقه على كل واحد من الطرفين يكون كل واحد منهما
ممّا يحتمل أنّه معلوم الحرمة. ولا يخفى أنّ احتمال معلوم الحرمة ينافي احراز أنّه
لم يعلم أنّه حرام.
الثاني : لزوم التناقض في مدلول أدلّة الاصول لو بنى على تطبيق
صدره على كل واحد من الطرفين لكان اللّازم تطبيق ذيله على المعلوم بالاجمال فيلزم
التناقض لأنّ عدم حل المعلوم بالاجمال وحل كل واحد من طرفيه ممّا لا يجتمعان ،
كما لا يخفى.
وبتقرير آخر أنّ
مقتضى عموم كل شيء لك حلال حلية المشتبه بالشبهة البدوية ، وكل واحد من الأطراف في
الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ؛ ومقتضى ذيله أعني منه قوله عليهالسلام «حتى تعلم أنّه
حرام» هو تنجّز الحرمة بالعلم الاجمالي ، لأنّ قوله عليهالسلام : «تعلم» مطلق يشمل كل واحد من العلمين التفصيلي
والاجمالي.
وعلى هذا يلزم
الحكم بحرمة كل واحد من الطرفين بمقتضى الذيل كما يلزم الحكم باباحة الطرفين
بمقتضى الصدر ، وهذا تناقض صريح. وهذه الشبهة ذكرها المصنّف قدسسره في مجهول التاريخ في مبحث الاستصحاب ولم يذكرها هنا مع عدم
ظهور الفرق بين المقامين.
وحاصل الوجه في
دفعها أنّ العلم ليس من الصفات التي تسري إلى ما ينطبق عليه موضوعها كالصفات
الخارجية كالنجاسة والطهارة مثلا يوجب احتمال انطباق النجس الذي علم إجمالا على كل
واحد من الأطراف احتمال نجاسة كل واحد منها ، أمّا احتمال انطباق المعلوم الحرمة
إجمالا على كل واحد من الأطراف فلا يوجب لاحتمال كونه معلوم الحرمة لأنّ العلم
قائم بنفس صورة المعلوم بحيث لا يتعداها إلى ما تتحد معه تلك الصورة خارجا.
والوجه في ذلك :
أنّه لا ريب في مضادّة الشك للعلم ولهذا لا يحمل أحدهما على الآخر ، كما لا ريب في
كون كل واحد من الأطراف مشكوك الحرمة فيمتنع أن يكون كل واحد منها معلوم الحرمة
للزوم اجتماع الضدين في كل واحد منها ، وهذا وجه عدم سراية العلم من الصورة إلى ما
تتحد معه تلك الصورة خارجا ، وهذا واضح بأدنى تأمّل.
وأمّا الدفع
للتناقض ففيه : أنّ أدلّة البراءة لا تنحصر بكل شيء لك حلال كي يكون اجرائه
مستلزما للتناقض المذكور ، بل يكون من جملتها حديث الرفع والسعة
والحجب.
وعليه فلا مانع من
التمسّك بهذه الأحاديث لاجراء البراءة في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يكن الحكم
فعليا من جميع الجهات بأن لم يكن واجدا لإرادة المولى وكراهته وهما علّة البعث
والزجر إذا لم يكن العلم التفصيلي بالحكم حاصلا فلا مانع من شمول أدلّة البراءة
للأطراف لعدم استلزامها للتناقض من أجل عدم كونها مذيلة بالعلم إذا علم القسمان من
الحكم الفعلي الحتمي والتعليقي فاعلم أن الإرادة التي تستلزم البعث والتحريك حتمية
والكراهة التي تستتبع الزجر حتمية أيضا في الأول والإرادة والكراهة في الثاني
تعليقتان بحصول العلم التفصيلي بالحكم.
وعلى طبيعة الحال
؛ فلا تجري الأدلّة النافية للتكليف في أطراف هذا القسم بعد فرض شمولها لأطراف
العلم الاجمالي لأجل لزوم تخصيصها بالمخصص العقلي لاستلزام جريانها في هذا القسم
من الحكم الفعلي للترخيص في المعصية لأنّ المعلوم بالاجمال فيه واجد للبعث الأكيد
والزجر الشديد بحيث لا يرضى المولى بالمخالفة أصلا سواء علم المكلف بالحكم تفصيلا
، أم لم يعلم به كذلك.
وامّا القسم
الثاني فلم يصل التكليف إلى حد البعث الأكيد والزجر الشديد لعدم تحقّق الشرط بعد
وهو العلم التفصيلي به.
فاحراز كون الحكم
من قبيل الأوّل إذا كان موضوعه من قبيل الدماء والفروج والأموال الكثيرة ، وإذا
كان موضوعه من قبيل الخمر المردّد بين إناءين مثلا فيكون من قبيل الثاني ولهذا لا
نجري البراءة فيهما ونجريها في الثاني.
قوله
: ومن هنا انقدح أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي ...
قد علم من تقسيم
العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي إلى قسمين عدم الفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي
في القسم الأول في تنجّز التكليف ووجوب متابعته وحرمة مخالفته إلّا أنّه لا مجال
للحكم الظاهري في مورد العلم التفصيلي بالحكم
الفعلي ، إذ لا
تجري الاصول العملية والبراءة الشرعية فيه كي يثبت الحكم الظاهري على طبقها في هذا
المورد ، والوجه ظاهر.
وعلى طبيعة الحال
؛ فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات غير جهة العلم التفصيلي بالحكم
وإذا تحقّق به فيصير حينئذ فعليا من جميع الجهات جهة الميل والشوق وجهة الإرادة
وجهة البعث وجهة الكراهة والزجر فلا مورد لجريان الأصول العملية والبراءة الشرعية
كي يثبت الحكم الظاهري على طبقها فيه. اما الحكم الظاهري فله مجال واسع مع العلم
الاجمالي ، إذ يمكن أن لا يصير الحكم فعليا من جميع الجهات مع العلم الاجمالي
لاقتران العلم الاجمالي بالشك والترديد وهو يوجب جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم
الاجمالي وإن كان الحكم فعليا من سائر الجهات غير جهة العلم الاجمالي.
وعلى ضوء هذا فقد
حصل الفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي في القسم الثاني.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى
أنّه لا مجال للحكم الظاهري مع العلم التفصيلي لأنّ العلم التفصيلي لا يكون مقرونا
بالشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري ، فلا يمكن جعل الحكم الظاهري معه أصلا ، أمّا
بخلاف العلم الاجمالي فلاقترانه بالشك والترديد فيمكن جعل الحكم الظاهري معه كما
لا يخفى.
ففي صورة حصول
العلم التفصيلي بالتكليف يصير فعليا من جميع الجهات لأنّه علّة تامّة للبعث والزجر
وهما علّتان للامتثال للتكليف فعلا ، أو تركا ، فالعلم التفصيلي علّة للامتثال
لأنّ علّة العلّة علّة.
ومن الواضح بعد
تحقّق العلّة يتحقّق المعلول بلا تخلل الزماني بينهما فلا جرم يكون امتثال التكليف
قطعيا ؛ وامّا العلم الاجمالي فهو مقتض لثبوت التكليف لو لا
المانع عنه بموجود
، وامّا إذا كان المانع عنه موجودا ، وهو جعل الحكم الظاهري في مورد العلم
الاجمالي فلا يؤثر المقتضى بالكسر ، وهو العلم الاجمالي بالتكليف في المقتضى
بالفتح ، وهو امتثال التكليف فكم فرق بين العلمين التفصيلي والاجمالي.
عدم التفاوت بين المحصور وغير المحصور
قوله
: ثم انّ الظاهر أنّه لو فرض ان المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات ...
ذهب المشهور إلى
وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إذا كانت محصورة وعدم وجوبه إذا كانت
أطرافه غير محصورة.
قال المصنّف قدسسره : إنّ الملاك في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي هو
كون التكليف المعلوم بالاجمال فعليا من جميع الجهات بأن كان واجدا لما هو العلّة
التامّة للبعث والزجر أعني منها الإرادة والكراهة.
وعليه فالتكليف
المعلوم بالاجمال إذا كان فعليا من جميع الجهات وجب الاحتياط عقلا في الأطراف سواء
كانت محصورة ، أم كانت غير محصورة ، فالاحتياط إذا كان واجبا فهو واجب مطلقا ،
وإذا لم يجب فهو ليس بواجب مطلقا.
وعليه فلا معنى
للتفكيك بين المحصورة وغير المحصورة ، إذ العبرة بفعلية التكليف المعلوم بالاجمال
من جميع الجهات وعدمها وليست العبرة بحصر الأطراف وعدمه.
نعم ؛ قد توجب
كثرة الأطراف سقوط التكليف المعلوم بالاجمال عن الفعلية ، كما إذا كانت الأطراف
كثيرة بحيث لو اجتنب عن كلّها لوقع في العسر الأكيد والحرج الشديد وهما رافعان
للتكليف فلا يجب الاحتياط حينئذ لكن لا من جهة التفاوت في العلم الاجمالي من حيث
قلّة الأطراف وكثرتها ، بل من جهة التفاوت
في ناحية المعلوم
بالاجمال من حيث شدّة الاحتياج إلى ارتكابها وعدم شدّة الحاجة إليه. وسيأتي
التنبيه عليه في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.
وبالجملة لا يكاد
يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمه.
وعليه فان كان
العلم الاجمالي في المحصورة منجزا للتكليف كان منجزا له في غير المحصورة أيضا فيما
كان المعلوم إجمالا فعليا يبعث المولى نحوه فعلا إذا كان واجبا فعليا من جميع
الجهات ، أو يزجر عنه فعلا إذا كان حراما مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.
قوله
: هو أن عدم الحصر ربّما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم ...
يعني أن عدم حصر
الأطراف قد يلازم وجود المانع من فعلية الحكم من سائر الجهات بحيث لو لا المانع
الملازم لكان فعليا من سائر الجهات غير الجهة التي تضاد الترخيص ، ولأجل المانع لا
يكون فعليا من سائر الجهات بحيث لو علم به تفصيلا لما تنجز ؛ وذلك مثل الخروج عن
محل الابتلاء ، أو الاضطرار إلى الارتكاب أو غيرهما كما سيجيء.
الشبهة غير المحصورة
الحاصل : انّ
اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم الاجمالي ، إذ هو
منجز للتكليف سواء كانت أطرافه محصورة ، أم كانت غير محصورة ؛ ولو أوجب اختلاف
الأطراف تفاوتا من حيث التنجيز وعدمه فانّما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث ،
أو الزجر مع الحصر وعدم الفعلية مع عدم حصر الأطراف ، إذ الواقع المعلوم إذا كان
فعليا فيجب الاحتياط في الأطراف وإذا لم يكن فعليا فلا يجب الاحتياط فيها ،
فالواقع فعلي إذا كانت الأطراف محصورة وهو ليس
بفعلي إذا كانت
غير محصورة لأنّ الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة مستلزم للعسر والحرج وهما
يمنعان عن فعلية التكليف المعلوم بالاجمال مع كونه فعليا لو لا المانع عن فعليته
فلا يحصل التفاوت في العلم الاجمالي من حيث قلّة الأطراف وكثرتها كما عرفت آنفا ـ في
قوله : ومن هنا انقدح انّه لا فرق ـ انّه لا تفاوت بين العلم التفصيلي والاجمالي
في تنجيز الواقع ، إذ كلاهما ينجزان الواقع على المكلف ما لم يكن تفاوت في طرف
المعلوم أيضا من حيث الفعلية وعدمها.
قوله
: فتأمّل ...
تعرف العلم
الاجمالي وانّه منجز للتكليف المعلوم بالاجمال إذا لم يجعل الشارع المقدّس في
مورده حكما ظاهريا ، وأمّا إذا جعله فيه لأجل الاضطرار والحرج مثلا فالتكليف في
مورده حينئذ لا يكون فعليا من جميع الجهات وإلّا فلا تفاوت بينه وبين العلم
التفصيلي أصلا كما لا تفاوت في تنجيز الواقع به بين كون أطرافه محصورة ، أم كونها
غير محصورة.
بطلان التفصيل بين المخالفة والموافقة القطعيتين
قوله
: وقد انقدح أنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها ...
وقد ظهر ممّا سبق
من أن الملاك في وجوب الاحتياط في أطراف الاجمالي هو كون التكليف المعلوم بالاجمال
فعليا من جميع الجهات بأن كان واجدا لما هو العلّة التامّة للبعث والزجر ، أي
الإرادة والكراهة ، أنّه لا وجه للتفصيل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية
بأن تحرم الاولى ؛ ولا تجب الثانية فإنّ المعلوم بالاجمال إن كان فعليا من جميع
الجهات وكان على طبقه الإرادة والكراهة والبعث والزجر
وجبت الموافقة
القطعية قطعا ، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن علّته وهو محال ، وإن لم يكن فعليا
كذلك فلا تحرم المخالفة القطعية ولا تجب الموافقة القطعية.
فالنتيجة : إن كان
التكليف فعليا من جميع الجهات فتجب الموافقة القطعية وتحرم المخالفة القطعية ، وإن
لم يكن فعليا كذلك فلا تجب ولا تحرم. وعلى ضوء هذا البيان فلا معنى للتفكيك
بينهما.
هل يجب الاحتياط
في الأطراف التدريجية
قوله
: ومنه ظهر أنّه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا ...
وممّا ذكرنا من
أنّ المناط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي هو فعلية التكليف المعلوم
بالاجمال فعلية تامّة ، أي من جميع الجهات ، وليس المناط كون الأطراف محصورة بحيث
إذا كانت غير محصورة لا يكون الاحتياط بواجب ظهر أنّه لو لم تعلم فعلية التكليف
المعلوم بالاجمال من جميع الجهات.
إمّا من جهة عدم
الابتلاء ببعض أطراف العلم الاجمالي كما سيأتي شرحه في التنبيه الثاني.
أو من جهة
الاضطرار إلى بعض الاطراف معينا ، أو مردّدا كما سيأتي شرحه في التنبيه الأوّل.
أو من جهة تعلّق
التكليف بموضوع يعلم بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر وذاك الشهر ولا يعلم بتحقّقه
فعلا كي يكون التكليف فعليا ، وذلك كأيّام حيض المستحاضة مثلا ، ولكن بتحقّق
الشرطين :
الأول : أن يكون
الدم مستمرا من أوّل الشهر إلى آخره.
الثاني : أن تكون
المرأة ناسية الوقت سواء كانت ناسية العدد أيضا ، أم لم تكن ناسية له.
ولكن لا بأس
بازدياد الشرط الثالث في هذا المقام ، وهو أن تكون فاقدة للتميز على نحو لا يمكنها
الرجوع إلى الصفات التي بيّنت في الفقه الشريف من صفات دم الحيض ودم الاستحاضة.
فالموضوع هو دم
الحيض : وحرمة الصلاة والصوم والوطى والطواف مثلا حكم شرعي يتعلّق به تعلّم المرأة
إجمالا بتحقّق دم الحيض على حسب عادته وطبيعته لأنّها تحيض مرّة في كل شهر لم تجب
الموافقة القطعية ولم تحرم المخالفة العملية القطعية.
وأمّا بيان
الأمثلة فمثال عدم الابتلاء كما علم المكلف أن هذا الاناء امّا نجس ، واما الاناء
الذي يكون في أقصى بلاد الهند نجس فيكون هذا الاناء خارجا عن محل الابتلاء وهو ظاهر.
وامّا مثال
الاضطرار فالمكلّف إذا اضطر إلى ارتكاب بعض الاطراف معينا كما إذا كان الاناءان من
الماء موجودين بحيث يكون أحدهما باردا والآخر حارّا وهو اضطر إلى شرب البارد منهما
لرفع العطش ، أو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف مخيّرا امّا هذا وامّا ذاك لرفع
العطش كما إذا كان الإناءان من الماء باردين معا ، فعدم فعلية التكليف المعلوم
بالاجمال إمّا يكون لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، وإمّا يكون لاضطراره إلى
ارتكاب بعض الأطراف ، وامّا يكون لعدم تحقّق الموضوع تفصيلا ، بل يعلم بتحقّقه
اجمالا مثلا يعلم الزوج أن زوجته حائض في ثلاثة ليال وأيّام من الشهر ويكون وطيها
حراما. يعني إذا ابتلى الزوج بزوجته في أثناء الشهر فوجدها مستمرّة الدم حال كونها
فاقدة للتمييز وناسية للوقت فقط ، وإن كانت ذاكرة لعدد أيّام الحيض أنّه سبعة
أيّام مثلا فانّه يعلم بأنّ لها أيّام الحيض يحرم وطيها فيها لكن لا يدري انّها
فيما مضى من أيّام الشهر ، أو في الحال ، أو فيما يأتي.
أمّا لو علم
بفعليته ولو كان بين أطراف تدريجية بأن يكون وجود بعض
الأطراف مترتّبا
زمانا على وجود بعض الآخر ؛ كما لو نذر أن يصوم يوم الجمعة أو يوم السبت وهو يعلم
إجمالا بوجوب صوم أحد اليومين المذكورين بالنذر وهما مترتّبان زمانا ، ولكن لا
يقدح ترتبهما في وجوب الاحتياط ، وهو يتحقّق بصوم كليهما ، إذ في هذه الصورة يكون
التكليف فعليا ، ودعوى أن ما بعد يوم الجمعة مستقبل فلا يصح التكليف به لعدم
القدرة عليه قبل وجوده وتحقّقه.
وعليه فلا علم إجمالي
بالتكليف مندفعة بأنّه يصح التكليف بالاستقبالي ؛ كما يصح بالحالي ، كما في الواجب
المعلق ، إذ الوجوب فيه حالي فعلي والواجب استقبالي ، كما قد سبق تفصيله في بحث
مقدّمة الواجب.
ونظيره هو التكليف
بالحج في الموسم ، وهو أيّام الحج من شهر ذي الحجّة الحرام ، إذ بعد حصول
الاستطاعة يجب الحج قبل الموسم والواجب استقبالي ، إذ لا بد من فعله في ظرف الموسم
وبعد تحقّقه كما لا يخفى.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
قول المصنّف قدسسره ، أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالا في هذا
الشهر «كأيّام حيض المستحاضة» يصح إذا كان موضوع التكليف هو الحائض ، إذ الحيض
ممّا يقطع حينئذ بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر وذلك كشهر صفر المظفر ، مثلا ولكن لا
يعلم بتحقّق الحيض فعلا ، إذ يحتمل أن يكون فيما مضى ، أو فيما يأتي.
وأمّا إذا كان
موضوع التكليف هو النساء ، كما يظهر هذا من قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) فالمثال المذكور يكون من قبيل الواجب المعلق كالحج بعد
الاستطاعة قبل الموسم ؛ فيكون التكليف فيه حاليا والواجب استقباليا.
الاضطرار إلى بعض
الأطراف معيّنا ، أو مردّدا
قوله
: تنبيهات الأوّل : أن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف ...
اعلم أن الاضطرار
إلى مخالفة العلم الاجمالي في بعض الاطراف ؛ تارة يكون إلى واحد معيّن. واخرى يكون
إلى واحد غير معيّن ؛ وكل منهما إمّا يكون حال العلم ، وامّا يكون عارضا بعد العلم
، وكل منهما إمّا أن يرتفع الاضطرار بحيث يحسن التكليف به حال العلم معلقا على
ارتفاع الاضطرار ، أولا اما لاستمرار الاضطرار إلى آخر العمر ، أو لارتفاعه في
زمان بعيد عن العلم بحيث لا يحسن التكليف به. ولا بأس للتعرّض لأحكام كل واحدة من
الصور تفصيلا ، فنقول :
إذا كان الاضطرار
إلى معيّن حال العلم مستمرّا ، أو مرتفعا بحيث لا يحسن التكليف به حال العلم
معلّقا على رفع الاضطرار فلا ينبغي التأمّل في عدم وجوب الاحتياط في بقيّة الاطراف
لعدم العلم بالتكليف ، فإنّ الفرد المضطر إليه ممّا يعلم بعدم التكليف به والفرد
الآخر ممّا يشك في كونه موضوعا للتكليف فيكون التكليف به مشكوكا بدوا ونتمسك
بأصالة البراءة فيه ، هذه الصورة الاولى.
وإذا كان الاضطرار
إلى المعيّن حال العلم يعلم بارتفاعه بحيث يحسن التكليف بالفرد المضطر إليه بعد
رفع الاضطرار وجب الاحتياط في الطرف الآخر للعلم الاجمالي بالتكليف بالأمر المردّد
بينه وبين المضطر إليه بعد ارتفاع الاضطرار مثلا إذا حدث العلم بغصبية أحد
الإنائين يوم الخميس مع الاضطرار إلى استعمال الأبيض منهما في صباح يوم الجمعة
فانّه يعلم بوجوب الاجتناب إمّا عن الأبيض يوم الجمعة لو كان هو النجس ، أو الأسود
من الآن فيجب الاجتناب عن الأسود لأنّه أحد الفردين المعلوم وجوب الاجتناب عن
أحدهما ، هذه الصورة هي الثانية.
وإن حدث الاضطرار
إلى معيّن بعد حدوث العلم مستمرا بحيث لا يحسن التكليف به معلّقا حال العلم وجب
الاحتياط في الطرف الآخر لأنّ العلم الاجمالي
حين حدوثه لما
نجّز المعلوم بالاجمال المحتمل الانطباق على الطرف الآخر.
كما يحتمل انطباقه
على الفرد المضطر إليه قبل زمان طروء الاضطرار وجب الاحتياط في الطرف غير المضطر
إليه لأصالة الاشتغال والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وهو لا يتحقّق إلّا
بالاحتياط في الطرف غير المضطر إليه ، هذه الصورة هي الثالثة.
الاضطرار إلى واحد
معيّن
وإن كان الاضطرار
إلى المعين طارئا بعد حدوث العلم ولكن يعلم بارتفاعه في زمان يحسن التكليف بالمضطر
إليه حال العلم معلّقا برفع الاضطرار وجب الاحتياط في الطرف الآخر لاصالة الاشتغال
أوّلا. وثانيا للعلم الاجمالي بالمردّد بينه وبين المضطر إليه بعد العلم بالتكليف
كما عرفته في الصورة الثانية ، هذه الصورة هي الصورة الرابعة. فهذه صور أربع
للاضطرار إلى معين.
وعلى ضوء هذه
انقدح لك أنّه لا يجب الاحتياط في الاولى منها ويجب الاحتياط في الثلاث الأخيرة في
الطرف الآخر غير المضطر إليه ، هذا حكم صور الاضطرار إلى المعيّن.
أمّا إذا كان
الاضطرار إلى غير المعيّن فصورة أربع أيضا وهي الجارية في الاضطرار إلى معيّن حرفا
بحرف ، ففي الصورة الاولى لا يجب الاحتياط هنا ويجب في الثانية والثالثة والرابعة
، والوجه كما ذكر في الصور الأربع للاضطرار إلى المعيّن كما لا يخفى.
والتفصيل ؛ أنّه
لا فرق بين الاضطرار إلى الطرف المعيّن ؛ وإلى الطرف المخيّر إذ جواز الارتكاب ،
أو ترك الارتكاب مع العلم بحرمة الفعلية والوجوب الفعلي متنافيان وهما لا يجتمعان
فالاضطرار موجب لسقوط التكليف ، وكذا لا فرق بين أن
يكون الاضطرار على
نحو التعيين ، أو على نحو التخيير ، سابقا على حدوث العلم الاجمالي ، أو لا حقا
به. والوجه في ذلك كلّه أن التكليف الذي يكون موجودا بين الأطراف محدود من أوّل
الأمر ومقيّد ابتداء بعدم عروض الاضطرار بمتعلّق العلم الإجمالي.
فالنتيجة : إذا
اضطر المكلّف إلى بعض الأطراف فعلا ، أو تركا فينكشف من هذا الاضطرار ان متعلّق
العلم الاجمالي لا يكون فعليا من جميع الجهات لأنّه يحتمل أن يكون الطرف المضطر
إليه متعلّق العلم الاجمالي والاضطرار يوجب سقوط التكليف ؛ وأمّا بالإضافة إلى
الطرف الآخر فأصل ثبوت التكليف فيه مشكوك وهو يكون مشمولا لأدلّة البراءة كحديث
الرفع والوضع والحجب ، هذا كلّه إذا كان الاضطرار إلى بعض المعيّن.
وأمّا إذا كان
الاضطرار إلى غير المعيّن فكما إذا علم أن أحد إناءيه لاقى النجس وبعد الملاقاة
عرض العطش على المكلف ـ وهو فاقد للماء ـ لكونه في الصحراء مثلا فلا بدّ له أن
يشرب أحدهما لحفظ نفسه من الهلاك ، ففي جميع الموارد يكون الاضطرار مانعا عن فعلية
التكليف ولا يكون العلم الاجمالي منجزا للتكليف.
ولهذا لا يجب
الاحتياط في الطرف الآخر ، والوجه كما سبق وهو عبارة عن أن التكليف المعلوم
بالاجمال محدود بعدم طروّ الاضطرار في المعلوم وفي متعلّق التكليف فإذا عرض على
بعض الأطراف الاضطرار سواء كان إلى بعض المعيّن ، أم ان إلى بعض غير المعيّن ، إذ
لا يبقى للمكلّف حينئذ العلم بالتكليف ، إذ يحتمل أن يكون أن يكون التكليف في
الطرف المضطر إليه ، أو يحتمل أن يكون في الطرف الذي اختاره لرفع الاضطرار وفي
الطرف الآخر يكون مشكوكا فيه.
قوله
: لا يقال الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس كفقد بعضها ...
«واستشكل المستشكل»
بأنّه إذا فقد بعض الأطراف فالعلم الاجمالي منجز
للتكليف لأنّه
يبقى بحاله في الطرف الآخر فلا بد أن يجتنب عن الطرف الباقي ولا يمكن أن يقال ان
لنا بالإضافة إلى الطرف الموجود شكّا بدويا وهو مجرى البراءة ، وهذه المقالة غير
صحيحة ، فكذا الاضطرار حرفا بحرف.
غاية الأمر أنّ
العلم الاجمالي تحقّق أوّلا ثم عرض الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف ، أو إلى ارتكابه
، وكذا العلم الاجمالي تحقّق أوّلا ثم فقد ، فلا فرق بين الاضطرار وبين الفقدان
وكذا تحقّق العلم الاجمالي لا حقا بعروض الاضطرار مقارنا به ، إذ الاضطرار بأيّ
نحو كان موجب لسقوط التكليف عن الفعلية التامّة.
أمّا بخلاف
الفقدان فانّه إذا عرض على بعض الأطراف قبل العلم الاجمالي فهو يوجب رفع الاحتياط
في الطرف الآخر لأنّه يصير مشكوكا فيه ، إذ نحتمل أن يكون الطرف المفقود موضوعا
للتكليف من الوجوب والحرمة والاحتياط يتحقّق بالفعل في الشبهة الوجوبية وبالترك في
الشبهة التحريمية والاحتياط مسبب عن العلم الاجمالي ولا دليل على ارتفاعه ويحتمل
بقائه في الطرف الباقي مثلا إذا علمنا أن أحد الإناءين حرام ثم فقد أحدهما ، أو
علم أن أحد الميتين واجب الدفن ثم أكل السبع أحدهما ولا ريب في وجوب الاحتياط في
الطرف الموجود كي يحصل الفراغ اليقيني عن عهدة التكليف المنجز اليقيني وكذا
الاضطرار الحاصل بعد العلم الاجمالي حرفا بحرف.
الاضطرار إلى بعض
الأطراف
قوله
: فإنّه يقال : حيث إنّ فقد المكلف به ليس من حدود التكليف ...
أجاب المصنّف قدسسره عن هذا الاشكال بالفرق بين فقد بعض الأطراف والعجز عنه
والاضطرار إليه مع اشتراك هذه الثلاثة في كون عدمها دخيلا في التكليف في الجملة ـ
بحيث يصحّ أن يقال : يعتبر في التكليف عدم الاضطرار وعدم العجز ، وكون
موضوع التكليف في
مقام الابتلاء بحيث يكون موجودا لا مفقودا.
ولكن وجه الفرق
بينها : أن مقام شرطية عدم هذه الامور الثلاثة للتكليف مختلف جدّا ؛ فإنّ شرطية
عدم الاضطرار راجعة إلى شرطية عدم المزاحم للمصلحة المقتضية لجعل الحكم فإن
المفسدة في النجس مثلا إنّما تصلح للتأثير في حرمة شربه إذا لم تزاحم بمصلحة أهم
ملاكا ؛ كما إذا توقّف حفظ النفس من الهلاك على شربه ، وهو معنى الاضطرار إلى شرب
النجس. أمّا إذا زاحمت بها فقد كان شرب النجس أرجح من تركه وشرطية القدرة راجعة
إلى شرطية عدم المانع من تعلّق الإرادة من جهة قصور المكلف من حيث عدم القدرة لا
المكلف به من حيث الاستحالة ، وذلك كالطيران في الهواء مثلا ، وشرطية وجود الموضوع
راجعة إلى شرطية عدم المانع من اشتغال ذمّة المكلف فإن الاناء المفقود ممّا لا
قصور في مفسدته ؛ ولا في تعلّق الكراهة بشربه إلّا أن العلم بكراهته لا يصلح أن
يكون موجبا لاشتغال الذمّة به ، فيمتنع أن يكون وجوده شرطا للتكليف الذي هو في
الحقيقة شرط نفس الإرادة والكراهة ذاتا كما في القدرة ، أو عرضا كما في عدم
الاضطرار فوجود الموضوع والابتلاء به نظير وجود الحجّة على التكليف ليس شرطا
للتكليف وإن كان شرطا للاشتغال في نظر العقل.
وعلى ضوء هذا
فالتكليف الواقعي ليس بمقيّد بعدم فقدان متعلّقه ، إذ لا يقول الشارع المقدّس
اجتنب عن النجس إذا لم يفقد فيكون التكليف الواقعي مطلقا. وعليه فلا جرم يكون
باقيا على فعليته وتنجزه ويكون ذمّة المكلّف مشغولا بوجوب الاجتناب قطعا والشغل
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
فالنتيجة إذا فقد
بعض الأطراف ، فالتكليف باق على حاله وبقاءه يقتضي الاجتناب عن الطرف الباقي.
أمّا إذا فرض عروض
الاضطرار إلى بعض الأطراف فالتكليف مقيّد ابتداء بعدم
الاضطرار إلى
المخالفة بحيث لو اضطر إليها لما كان التكليف ثابتا.
فالنتيجة إذا اضطر
المكلف إلى بعض الأطراف فالتكليف ساقط بخصوص الطرف المضطر إليه قطعا فلا يشتغل ذمة
المكلف به بل يفرغ ذمته عنه ؛ وامّا بالنسبة إلى الطرف الآخر فيكون ثبوت أصل
التكليف مشكوكا فيه فلا جرم ينفى بأدلّة البراءة الشرعية والعقلية ، وهذا معنى
قوله قدسسره حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ،
وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه.
وعلى طبيعة الحال
فانقدح الأمران :
الأوّل : أن المراد من المكلف به في المقام هو الموضوع الذي
يتعلّق به فعل المكلف مثل الاناء النجس ، وفعل المكلف هو شربه وهو يتعلّق به.
الثاني : أنّه إذا حصل الاضطرار إلى بعض الأطراف فيكون الاحتياط
فعلا أو تركا إلى الطرف الآخر من قبيل الاحتياط في الشبهة البدوية ونحن لا نقول به
فيها مطلقا ، أي سواء كانت تحريمية ، أم كانت وجوبية.
فافهم الفرق بين
الفقدان والاضطرار والعجز فان هذا الفرق دقيق ، فالتأمّل فيه حقيق جدّا ، إذ لم
يقل المولى اجتنب عن الحرام ما دام موجودا ، إذ لا يقين باشتغال الذمة بالتكليف
بالمكلف به إلّا إلى حدّ الاضطرار ، اما بخلاف الاضطرار فانّه قال اجتنب عن الحرام
إذا لم تضطر إليه.
قوله
: الثاني أنّه لما كان النهي عن الشيء إنّما هو لأجل أن يصير داعيا ...
ولا ريب في أنّ
النهي عن الشيء إنّما يكون لأجل إيجاد الداعي في نفس المكلف لترك المنهي عنه ،
وهذا الايجاد يصحّ إذا لم يكن له داع آخر لتركه كما إذا لم يكن المنهي عنه موردا
للابتلاء وفي هذا الفرض يترك المنهي عنه قهرا بلا صدور النهي عن المولى بل يكون
صدوره عنه حينئذ لغوا وبلا فائدة ، إذ هو طلب لأمر الحاصل ، فإطلاق المنهي عنه على
الشيء الذي لا يكون موردا للابتلاء مجاز بعلاقة
الأوّل نظير من
قتل قتيلا فله سلبه ، أي مقتولا فاطلاق المقتول على الحي مجاز بعلاقة الأوّل.
وعليه فيشترط في
تأثير العلم الاجمالي في تنجيز التكليف إذا كان جميع أطرافه موردا للابتلاء غالبا
عادة.
وعلى طبيعة الحال
لا يكون النهي داعيا للمكلف نحو ترك المنهي عنه إلّا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به.
واما ما لا ابتلاء
فيه بحسب العادة فليس للنهي عنه مورد أصلا كما عرفت هذا آنفا.
إذ بدون الابتلاء
بجميع الأطراف لا علم بالتكليف الفعلي لاحتمال تعلّق الخطاب بما لا ابتلاء به ، إذ
نحتمل أن يكون نجسا واقعا وحراما ؛ فتعلّق خطاب اجتنب عن النجس ، أو عن الحرام
بمورد الابتلاء مشكوك فيه فتشمله أدلّة البراءة لحديث الرفع والحجب والسعة.
قوله
: ومنه قد انقدح ان الملاك في الابتلاء المصحّح لفعلية الزجر ...
قال المصنّف قدسسره : قد ظهر من كون النهي عن الشيء إنّما يكون لأجل احداث
الداعي في نفس المكلف إلى الترك ما هو الملاك في الابتلاء وعدمه ؛ يعني قد انقدح
لك ممّا ذكرنا الميزان الذي يعرف به كون الموضوع مبتلى به ؛ وغير مبتلى به هو كون
العلم بالموضوع موجبا لحدوث الداعي في نفس العبد إلى الترك إن كانت الشبهة تحريمية
، أو إلى الفعل إن كانت وجوبية كان الموضوع مبتلى به ، وإن لم يكن موجبا لذلك
فالموضوع غير مبتلى به.
فالنتيجة يشترط في
تنجز العلم الاجمالي أن تكون أطرافه موردا للابتلاء. وعلى ضوء هذا لو نشك في
الابتلاء لكان المرجع هو البراءة في الأطراف لعدم القطع باشتغال الذمة بالمعلوم
بالاجمال ليجب فيه الاحتياط من جهة الشك في
شرط الاحتياط «وهو
الابتلاء».
وليس المرجع حينئذ
اطلاق الخطاب شامل لمورد الابتلاء وعدمه ضرورة أن التمسّك بالاطلاق إنّما يكون في
صورة أن يكون الاطلاق صحيحا بلا قيد مثل اكرم العالم ، إذ اطلاق العالم من غير
تقييده بالعدالة صحيح مقبول ، ولا يكون التمسك بالاطلاق صحيحا إذا شك في صحته لأجل
احتمال اعتبار الشيء في الخطاب ، وذلك كالابتلاء بالنجس في خطاب اجتنب عن النجس إن
ابتليت به.
وعليه إذا شككنا
في تحقّق الابتلاء وعدمه فلا جرم يرجع هذا الشك في صحّة الاطلاق ولا يحرز الاطلاق
حينئذ حتّى يتمسّك به عند الشك في الابتلاء وعدمه.
فالنتيجة
: أنّ التمسك
بالاطلاق منوط باحراز صحّة اطلاق الخطاب ثبوتا في مشكوك القيدية ، وذلك كالايمان
بالاضافة إلى الرقبة لأنّه يصح الاطلاق في قول المولى إن ظاهرت فاعتق رقبة ثبوتا ،
ولا يصح التمسّك به إذا لم يصح الخطاب ثبوتا بدون ذلك القيد المشكوك فيه ، وذلك
كالابتلاء في مقام البحث وإلّا لزم خلوّه عن الفائدة كما عرفت سابقا.
وعلى ضوء هذا
البيان فالقيد على نحوين :
الأوّل : أن يكون مصحّحا للخطاب ، كالابتلاء في خطاب اجتنب عن
النجس إن ابتليت به.
الثاني
: أن لا يكون
مصححا للخطاب ، كالايمان مثلا في خطاب أعتق رقبة فالتمسك بالاطلاق في الثاني صحيح
مقبول في صورة الشك في الاطلاق والتقييد.
وفي الأوّل لا يصح
التمسك بالاطلاق عند الشك فيهما ، تأمّل لعلّك تعرف إن شاء الله تعالى ، وهو إشارة
إلى انّا نتمسّك بالاطلاق بمقدّمات الحكمة ونثبت بها الاطلاق وهو لا يصح في المقام
، إذ هو يصح فيما إذا شككنا في تقييد التكليف بشيء بعد الفراغ عن صحّة الاطلاق
بدون ذلك الشيء المشكوك من حيث القيدية
وعدمها كما إذا
أمر المولى بعتق رقابه ثم حصل لنا الشك والترديد في انّها مطلقة ، أو مقيّدة بقيد
الايمان ، فيجوز التمسّك بمقدّمات الحكمة لإثبات الاطلاق لا فيما شك في القيد الذي
يعتبر في صحّة الاطلاق فلا يصحّ التمسّك بالاطلاق إذا كان الشك في قيد لا يصح
الاطلاق بدونه كما فيما نحن فيه ، فإنّ الابتلاء قيد لا يصح الاطلاق بدونه كما إذا
كان أحد الإناءين خارجا عن محل الابتلاء فلا يصح أن يقول المولى : اجتنب عن الاناء
النجس الذي يكون خارجا عن مورد ابتلائك بل يصح أن يقول لعبده : اجتنب عن الاناء
النجس الذي يكون خارجا عن محل ابتلاءك فعلا إذا ابتليت به.
وقد بيّن المصنّف قدسسره إلى هنا شرطين من شرائط فعلية الحكم المعلوم بالاجمال
وتنجّزه وهما عدم الاضطرار إلى المكلف به ، والابتلاء به فعلا ، الأول منهما قد
ذكره في التنبيه الأوّل ، الثاني منهما قد بيّنه في طي التنبيه الثاني.
الشبهة غير المحصورة
قوله
: الثالث أنّه قد عرفت أنّه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت ...
وقد عرفت سابقا
أنّه إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات فلا فرق بين أن تكون
الأطراف محصورة ، أم كانت غير محصورة.
نعم ربّما كثرة
الأطراف توجب عدم وجوب الموافقة لا قطعية وعدم فعلية التكليف المعلوم بالاجمال.
لوجوه :
الأوّل : لتوجّه
الضرر من ناحية الموافقة القطعية الحاصلة بارتكاب جميع الأطراف ، أو باجتناب
تمامها.
الثاني : للزوم
العسر والحرج الشديدين من جهة الموافقة القطعية.
الثالث : لخروج
بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، وإلّا فكثرة الأطراف من
حيث هي هي لا ترفع
فعلية المعلوم بالاجمال ولا الوجوب الاحتياط عقلا عن الأطراف كما يمكن عروض أحد
هذه الموانع المذكورة في الشبهة المحصورة أيضا. وعليه فلا خصوصية في عدم حصر
الأطراف.
وعلى هذا فلا بد
من ملاحظة الموجب لرفع التكليف المعلوم بالاجمال ولا يكون معه التكليف فعليا بعثا
كما إذا كانت الشبهة وجوبية ، أو زجرا كما إذا كانت تحريمية ، وأن الموجب يكون ،
أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون الموجب لرفع التكليف المعلوم بالاجمال لكن مع
كثرة أطراف العلم الاجمالي ، أو المعلوم بالاجمال ، دون قلتها ؛ ومن ملاحظة أن
الرافع مع أيّة مرتبة من كثرتها ، إذ قد يكون بعض مراتب الكثرة موجبا لرفع التكليف
المعلوم بالاجمال ؛ وبعض مراتبها غير موجب للرفع كما لا يخفى. مثلا إذا تردّد
الماء المطلق بين ألف الماء المضاف ولا ريب في أن هذه المرتبة من الكثرة توجب
العسر الشديد على تقدير وجوب الاحتياط في الأطراف ، فهو رافع للتكليف بالوضوء.
وامّا إذا تردّد
الماء المطلق بين ثلاثة من الماء المضاف مثلا فهذه الكثرة لا توجب العسر والحرج ،
فالتكليف بالوضوء باق على حاله ولا محيص من الاحتياط في هذا المورد بتكرار الوضوء
ثلاث مرّات. وفي كل وضوء تكرّر الصلاة ، فالميزان في رفع التكليف المعلوم بالاجمال
هو العسر على تقدير وجوب الاحتياط الذي يتحقّق بالاجتناب عن جميعها إذا كانت
الشبهة تحريمية وبالارتكاب لجميعها إذا كانت وجوبية.
ولو شك في عروض
الموجب لرفع التكليف كما لو كان أطراف العلم كثيرة لكنّا شككنا في أن الكثرة هل
وصلت إلى حد العسر ، أم لم تصل إلى حدّه ، وفي أن الكثرة هل توجب خروج أكثر
الأطراف ، أو بعضها عن محل الابتلاء ، أم لا ، فالمنبع حينئذ هو إطلاق دليل
التكليف إن كان موجودا في البين وإلّا يرجع إلى
البراءة لأجل الشك
في التكليف الفعلي ، وهو مجرى البراءة كما أن مجرى الاشتغال الشك في المكلف به مع
العلم بالتكليف ، كما تقدّم هذا في الشك في الابتلاء وعدمه ، ولا يخفى أنّه إذا
جاز التمسك بالاستصحاب في مورد فهو مقدّم على البراءة.
قوله
: هذا هو حق القول في المقام ...
هذا إشارة إلى
فساد قول الشيخ الأنصاري قدسسره.
عند المصنّف قدسسره أمّا بيان فساده فلأنّه لا ريب في ان التكليف مقيّد بعدم
العسر والحرج ، وعليه فإذا شك في تحقّق العسر وعدمه بنحو الشبهة المصداقية فلا
مجال للتمسّك بالاطلاق بلا كلام لأنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية
وهو لا يجوز قطعا ، بل لا بدّ من الرجوع إلى البراءة لأنّ الشك في عروض العسر يكون
بمعنى الشك في أصل التكليف وهو مجرى البراءة باتفاق الأصوليين. اللهمّ إلّا أن
يقال : انّا نتمسّك باستصحاب عدم العسر فيما كان له حالة سابقة عدم العسر فيقدم
على البراءة لأنّه أصل موضوعي والبراءة أصل حكمي ، ولا ريب في تقدّم الأصل
الموضوعي على الأصل الحكمي ، كما سيأتي هذا في مبحث الاستصحاب السببي والمسببي إن
شاء الله تعالى.
قوله
: وما قيل في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف ...
قد ذكر لتعريف
الشبهة غير المحصورة ولتحديدها وجوه :
الأوّل : انّ غير
المحصورة ما يعسر عدّه عند العداة ، وفيه :
أوّلا : أن عسر
العد لا انضباط له من جهة اختلاف الأشخاص واختلاف زمان العدّ ، إذ الألف يعسر عدّه
في خمس دقائق مثلا ولا يعسر عدّه في ساعة مثلا ، وكذا يعسر عدّه في مدّة خمس دقائق
لزيد بن أرقم ولا يعسر عدّه فيها لعمرو بن خالد. وعليه فكيف يمكن أن يكون عسر العد
ميزانا للشبهة غير المحصورة.
وثانيا : إذا
تردّدت شاة واحدة مغصوبة بين شياة البلد التي تكون ألفا بلا زيادة
فهذا من الشبهة
غير المحصورة عند الاعلام (رض) ؛ وإذا تردّد حبّة واحدة مغصوبة من الحنطة بين آلاف
منها مجتمعة في إناء واحد ، فهذا لا تعد عندهم من الشبهة غير المحصورة مع أن عدّ
الحبّات وإن كانت في اناء واحد أشكل وأعسر بمراتب من عدّ الشياة وإن كانت في بلدة
متعدّدة.
وعلى ضوء هذا
فيستكشف بذلك أن عسر العدّ ليس بضابط للشبهة غير المحصورة.
الثاني : أن
الشبهة غير المحصورة ما كان احتمال التكليف في كل واحد واحد من الأطراف موهوما
لكثرة الأطراف. وفيه أن موهومية احتمال التكليف لا يمنع من التنجيز لأنّ مجرّد
احتمال التكليف بأيّ مرتبة كان يساوق احتمال العقاب ، وهذا هو الملاك في تنجيز التكليف
على المكلف ما لم يحصل المؤمن منه.
الثالث : أن
الشبهة غير المحصورة ما يعسر موافقته القطعية لكثرة الأطراف ، وفيه أن العسر إنّما
يوجب ارتفاع التكليف بمقدار يرتفع به العسر لا مطلقا ، وعليه فالعسر لا يمنع عن
تنجيز العلم الاجمالي على الاطلاق ، كما هو المدعى للقائل بعدم التنجيز في الشبهة
غير المحصورة.
الرابع : أن
الميزان في كون الشبهة غير محصورة هو الصدق العرفي فما صدق عليه عرفا أنّه غير
محصور فيترتّب عليه حكمه ، ولكن يختلف ذلك باختلاف الموارد.
وفيه أن العرف لا
ضابطة لهم لتميز المحصور عن غيره ؛ والسرّ في ذلك أن عدم الحصر ليس من المعاني
المتأصلة ، إذ هو أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان كما لا يخفى.
ولأجل هذا قال
المصنّف قدسسره : لا يخلو الضبط لغير المحصورة بما ذكر من الوجوه الأربعة
المذكورة من الجزاف ، أي من دعوى بلا دليل وبرهان ، فالأولى هو
الموكول إلى
الابتلاء بتمام الأطراف وعدم الابتلاء بتمام الاطراف.
فالنتيجة أن كثرة
أطراف الشبهة ليست بمانعة عن فعلية التكليف المعلوم بالاجمال ، فالأول هو المحصورة
، والثاني هو غير المحصورة.
الملاقي لأحد أطراف العلم الاجمالي
قوله
: الرابع : أنّه إنّما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف ...
هل الاجتناب عن
ملاقي الشبهة المحصورة واجب شرعا ، أم لا ، ويمكن أن يكون الاجتناب عنه واجبا في
بعض الموارد ولا يجب في بعضها.
وقبل الشروع في
المقصد لا بدّ من تمهيد مقدّمة ، وهي : أن الثابت في كل واحد من المشتبهين هو وجوب
الاجتناب عنهما لأجل العلم الاجمالي بوجود الحرام الواقعي فيهما ؛ وان الثابت عقلا
رعاية الاحتياط المتحقّق باجتناب الأطراف إذا كانت الشبهة تحريمية ، أو بارتكابها
في الشبهة الوجوبية ، لكن في خصوص الأطراف ممّا يتوقّف على اجتنابه في التحريمية ،
أو يتوقف على ارتكابه في الشبهة الوجوبية حصول العلم بإتيان الواجب ، أو ترك
الحرام المعلومين في البين بالعلم الاجمالي.
فالنتيجة يتوقّف
العلم بالاجتناب عن البول الواقع في أحد الإناءين على اجتنابهما معا كما يتوقّف
العلم بإتيان الصلاة في ثوب طاهر على الاتيان بصلاتين فيما إذا اشتبه الثوب الطاهر
بالثوب النجس ولا يمكن تطهيرهما لمانع يمنع عنه دون غير الأطراف فانّه لا يجب
الاجتناب عن ذلك الغير وان كان حاله واقعا كحال بعض الأطراف في كون هذا الغير
محكوما بحكم بعض الأطراف واقعا مثلا إذا لاقى يد زيد بن عمر الاناء الأبيض مثلا ،
فيما إذا اشتبه الاناء النجس بينه وبين الاناء الأصفر
مثلا فقد كانت
اليد محكومة بحكم الاناء الأبيض واقعا.
والتفصيل فإن كان
نجسا واقعا كانت اليد نجسة ، وإن كان طاهرا واقعا كانت طاهرة واقعا لكنّه لا يجب
الاجتناب عن اليد الملاقية ، إذ هي بعد ما لم يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليها
فلا مقتضى للاحتياط فيه ، وإن وجب الاجتناب عن الإناءين الأبيض والأصفر معا.
ومن هذا البيان
يظهر الحال في مسألة ملاقاة الملاقي مع بعض أطراف الشبهة المقرونة بالعلم
الإجمالي.
ولتوضيح المقام
يقال : إنّ لمسألة الملاقاة ثلاث صور :
الاولى : أنّه يجب
الاجتناب عن الملاقى بالفتح وصاحبه دون الملاقي بالكسر إذا حصلت الملاقاة بعد
العلم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين : والسرّ في ذلك أن المكلّف إذا اجتنب عن
الملاقى وصاحبه فيصدق في حقّه أنّه اجتنب عن الحرام الواقعي والنجس الواقعي النفس
الأمري الذي كان في الأطراف وإن لم يجتنب عن الملاقي بالكسر لأنّ نجاسته على فرض
نجاسة الملاقى واقعا فرد آخر من النجاسة وهو مشكوك فيه فتمسّك باصالة البراءة ،
مثلا إذا علم المكلّف إجمالا بنجاسة أحد الإناءين مثلا : ثم علم بملاقاة إناء ثالث
لأحدهما فلا ريب في أنّه بعد العلم بالملاقاة يحدث علم إجمالي بنجاسة الملاقي
بالكسر ، أو صاحب الملاقى بالفتح ، فيكون حينئذ علمان يشتركان في طرف واحد وهو
صاحب الملاقى بالفتح ويختلفان بالملاقى والملاقي ، إذ العلم الاجمالي الأوّل قد
تعلّق بالملاقى بالفتح وصاحبه ، والعلم الاجمالي الثاني تعلّق بالملاقي بالكسر
وصاحب الملاقى بالفتح فصاحب الملاقى بالفتح يكون معلوما بالاجمال بعلمين الأول
والثاني.
أمّا العلم الأول
فقد تعلّق بالملاقى بالفتح والعلم الاجمالي الثاني يكون أحد طرفيه الملاقي بالكسر
لا الملاقى بالفتح. ولا يخفى أن مقتضى حجّية العلم
الاجمالي وجوب
الاحتياط في الملاقي بالكسر كما يجب في الملاقى بالفتح وصاحبه ولكن يدفع وجوب
الاحتياط فيه بأن التكليف بالاجتناب عنه تكليف زائد على التكليف المعلوم بالاجمال
، والأصل فيه البراءة ، وإن احتمل التكليف وهو وجوب الاجتناب عن الملاقي بالكسر
أيضا فيكون الملاقي كشيء آخر إذا شك في نجاسته لسبب فنجري البراءة عن نجاسته وندفع
بها وجوب الاجتناب عنه فكذا الملاقي بالكسر حرفا بحرف.
فإن قيل : ان
مقتضى تنجّز وجوب الاجتناب عن المعلوم بالاجمال الذي يعدّ منه الملاقى بالفتح وجوب
الاجتناب عن الملاقي بالكسر أيضا لصيرورته بالملاقاة في حكم الملاقى بالفتح.
قلنا : قد ظهر
ممّا سبق أن العلم الاجمالي يوجب تنجّز الاجتناب عن أطرافه فقط لا عن شيء آخر لا
علم لنا بحدوث النجاسة فيه ، وإن كنّا نحتمل حدوثه وتحقّقه فيه.
هذا مضافا إلى أن
العقل يحكم بلزوم رعاية الاحتياط في متعلّق العلم الاجمالي ، أي المعلوم بالاجمال.
قوله
: واخرى يجب الاجتناب عمّا لاقاه دونه فيما لو علم إجمالا نجاسته ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان حكم الصورة الاولى أخذ في بيان حكم الصورة الثانية
، وقال واخرى يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح في المورد الذي
علمنا بنجاسة الملاقي بالكسر ، أو نجاسة شيء آخر ، ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم
بنجاسة الملاقى بالفتح ، أو نجاسة صاحب الملاقى مثلا علمنا إجمالا إما تكون اليد
نجسة ، وامّا الاناء الأحمر ثم لاقت اليد الاناء الأبيض ثم حدث لنا العلم الاجمالي
بنجاسة الاناء الأبيض ، أو بنجاسة الاناء الأحمر فيجب
الاجتناب عن اليد
وعن الاناء الأحمر ، ولكن لا يجب الاجتناب عن الاناء الأبيض فانّ حال الملاقى في
الصورة الثانية مثل حال الملاقي بالكسر في الصورة الاولى في كون كل واحد منهما
خارجا عن طرف العلم الاجمالي لأنّ العلم الاجمالي في هذه الصورة على الفرض قد
تعلّق باليد والاناء الأحمر دون الاناء الأبيض ، أي تعلّق بالملاقي بالكسر وصاحبه
وعدله دون الملاقى بالفتح.
وعلى ضوء هذا
فيكون الملاقى بالفتح فردا آخر يشك في نجاسته والأصل البراءة من نجاسته وإن
احتملنا نجاسة واقعا على تقدير نجاسة ملاقيه واقعا ولكن ندفع هذا الاحتمال بأصل
البراءة بل بأصالة الطهارة فلا علم لنا بنجاسته لا تفصيلا ولا إجمالا.
أمّا تفصيلا فواضح
وإمّا إجمالا فلخروج هذا عن الطرف العلم الاجمالي ، وكذا يجب الاجتناب عن الملاقي
بالكسر ، وذلك كاليد ، مثلا دون الملاقى بالفتح فيما لو علم بالملاقاة ثم حدث
العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالفتح ، أو شيء آخر ولكن خرج الملاقى بالفتح عن
محل الابتلاء في حال حدوث العلم الاجمالي بنجاسته ، أو صاحبه وصار مبتلى به بعد
حدوث العلم الاجمالي المذكور ، مثلا علمنا ابتداء إجمالا بنجاسة اليد ، أو بنجاسة
الاناء الأحمر ثم لاقت اليد الاناء الأبيض ولكن خرج الاناء الأبيض عن محل الابتلاء
حال حدوث العلم الاجمالي بنجاسة هذا ، أو الاناء الأحمر ثم صار الاناء الأبيض
مبتلى به بعد حدوث العلم الاجمالي المذكور ، فيجب الاجتناب عن اليد الملاقية
والاناء الأحمر ولا يجب الاجتناب عن الاناء الأبيض فانّ طرفي العلم الاجمالي الاول
اليد والاناء الأحمر والاناء الأبيض خارج عن الطرف فيكون هذا فردا آخر يشك في
نجاسته والأصل البراءة عن نجاسته.
وعليه تكون الصورة
الثانية عكس الصورة الاولى ، إذ في الصورة الاولى يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح
وصاحبه ، وفي الثانية يجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر وشيء آخر دون الملاقى بالفتح
لأنّ العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح ، أو صاحبه لا أثر له لخروجه عن محل
الابتلاء فإذا اتفق أن صار في محل الابتلاء لا يجب الاجتناب عنه لما تقدّم في
الملاقي بالكسر في الصورة السابعة من أنّه فرد آخر مشكوك بدوا وليس طرفا لعلم
إجمالي منجز.
قوله
: وثالثة يجب الاجتناب عنهما فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم ...
وقد يجب الاجتناب
عن الملاقي بالكسر والملاقى بالفتح معا فيما لو حصل العلم بالملاقاة أوّلا ثم حدث
العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر ، أو شيء آخر ، مثلا لاقى الاناء الأخضر
الاناء الأبيض ثم حصل لنا العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الأخضر ، أو الاناء
الأسود.
وفي هذه الصورة
يجب الاجتناب عن الاناءات الثلاث الأخضر الملاقي بالكسر ؛ والأبيض الملاقى بالفتح
والأسود ضرورة أنّه حينئذ نعلم إجمالا امّا بنجاسة المتلاقيين الملاقي بالكسر
والملاقى بالفتح ، أو بنجاسة الاناء الآخر وهو الأسود ، فيكون كلّها من أطراف
العلم الاجمالي ، فلا جرم يكون التكليف بالاجتناب على نحو المنجز عن النجس بين
الثلاث وهو الواحد على تقدير نجاسة الاناء الأسود واقعا ، أو هو الاثنان على فرض
نجاسة الاناء الأخضر والاناء الأبيض في المثال المذكور.
الأقل والأكثر الارتباطيين
قوله
: المقام الثاني في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ...
المراد من الأكثر
الارتباطي هو المركب من أمرين ، أو أمور يترتّب عليها غرض واحد ، أو أغراض متعدّدة
متلازمة في مقام الثبوت والسقوط بحيث لا يترتّب الأثر المقصود على بعضها إلّا في
ظرف وجود الباقي ؛ ومن هنا لا يسقط الأمر ببعضها إلّا في ظرف سقوط الأمر بالباقي ،
وذلك كما علمنا بالتكليف ولكن كان المكلف به مردّدا بين الأقل والأكثر ، مثل
الصلاة مع السورة ، أو بلا سورة ، إذ نعلم علما قطعيا أن صلاة الظهر مثلا واجبة
علينا قطعا ، ولكن تكون هذه الصلاة المأمور بها مردّدة بين كونها عشرة أجزاء ، أو
تسعة أجزاء لأنّه لو كانت السورة بعد الحمد جزئها فأجزاؤها عشرة ؛ ويقابله الأكثر
الاستقلالي ، وذلك كالقضاء الفوائت المردّد بين الأقل والأكثر فانّ كل واحد من
أجزائه يترتّب عليه الفرض ولو في ظرف عدم الباقي فانّ قضاء كل صلاة يترتّب عليه
الفرض ولو مع عدم قضاء صلوات بقيّة الأيّام ، أو كصوم شهر رمضان المبارك ، فانّ
صوم كل يوم يترتّب عليه الفرض ولو مع عدم صوم بقيّة أيّامه.
وفي الأكثر
الارتباطي خلاف بين الأعلام (رض) من حيث البراءة والاشتغال ، الأول هو مختار الشيخ
الأنصاري قدسسره ، والثاني هو مختار المصنّف قدسسره قال الحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بين الأقل
والأكثر أيضا يقتضي الإتيان بالأكثر كما يقتضي بثبوته بين المتباينين كالجمعة
والظهر الاحتياط عقلا والإتيان بهما معا لأجل تنجّز التكليف بسبب العلم الاجمالي
حيث تعلّق العلم الاجمالي بثبوت التكليف فعلا ونقدا.
وانقدح من كلام
الشيخ الأنصاري قدسسره عدم كون العلم الاجمالي بثبوت التكليف بين الأقل والأكثر
منجزا له فلا يجب الإتيان بالأكثر وبالصلاة مع السورة لانحلاله إلى العلم التفصيلي
بوجوب الأقل وإلى الشك البدوي بالنسبة إلى الأكثر فيكون الدليل موجودا على نفي
وجوب الاحتياط المتحقّق بإتيان الأكثر ، وهو الانحلال المذكور.
والتوضيح أن الأمر
إذا دار بين الأقل والأكثر الارتباطيين فنسلّم وجوب الأقل قطعا سواء كان الأكثر
واجبا واقعا ، أم لم يكن واجبا واقعا أمّا إذا فرض كون الأكثر واجبا واقعا فلا ريب
في كون الأقل جزء الأكثر وإذا وجب الأكثر فقد وجب الأقل بالوجوب الغيري في ضمن
الأكثر وهو لازم الإتيان كي يتحقّق الأكثر الواجب ، وامّا لو فرض كون متعلق
التكليف الأقل فحسب فقد وجب الأقل مستقلّا بالوجوب النفسي.
وعلى كل تقدير
نقطع بوجوب الأقل إمّا غيريا وإمّا نفسيا تفصيلا ، ولكن وجوب الأكثر مشكوك فيه
وهذا يوجب أن يكون وجوبه مشكوكا بدوا ، ولا ريب في انحلال العلم الاجمالي بوجوب
الأقل ، أو وجوب الأكثر إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل ؛ وإلى الشك البدوي بوجوب
الأكثر. ولا يخفى أن الأقل على هذا الفرض محكوم بالوجوب النفسي ، أو محكوم بالوجوب
الغيري شرعا إذا تعلّق الوجوب بالأكثر والأقل يكون لازم الإتيان من باب وجوب
مقدّمة الواجب المطلق شرعا ، كما قال به بعض الأعلام (رض) ، أو يكون الأقل محكوما
بالوجوب الغيري عقلا من جهة وجوب مقدّمة الواجب المطلق عقلا ومع وجوب الأقل تفصيلا
لا يوجب العلم الاجمالي تنجز التكليف لو كان التكليف متعلّقا بالأكثر لكونه مشكوكا
بدوا بالاضافة إليه والأصل البراءة من وجوبه.
قوله
: فاسد قطعا ...
قال المصنّف قدسسره : ان هذا التوهّم فاسد قطعا لان الانحلال المذكور مستلزم
لأمر المحال ضرورة أن لزوم الأقل ووجوبه بالفعل سواء كان لنفسه ، أم كان لغيره
موقوفان على تنجّز التكليف سواء كان متعلّقه هو الأقل ، أم كان هو الأكثر.
وعليه فلو قلنا
بأن إتيان الأقل لازم لا الأكثر لكان هذا مستلزما لعدم تنجّز التكليف إلّا إذا كان
متعلّقه هو الأقل فقط ، وهذا خلاف الفرض ، إذ فرض المتوهّم أولا وجوب الأقل مطلقا
، أي نفسيا كان ، أو غيريا يعني الأقل كان له وجوبان : الأوّل النفسي ، والثاني
الغيري ، وثانيا فرض المتوهّم وجوب النفسي للأقل ، وهذا خلف ، والمتوهّم هو الشيخ
الأنصاري رحمهالله.
هذا مضافا إلى
أنّه يلزم من وجود الانحلال عدمه ، إذ لازم الانحلال المذكور تسليم عدم تنجّز
التكليف على كل تقدير وحال ، إذ معنى الانحلال عدم وجوب الأكثر وعدم وجوبه مستلزم
لعدم تنجّز التكليف على تقدير كون التكليف متعلّقا بالأقل ؛ وعلى تقدير كون
التكليف متعلّقا بالأكثر.
فعدم التنجّز على
كل حال وتقدير مستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقا ، أي الوجوب الغيري والنفسي لأن
الانحلال يقتضي عدم تنجّز التكليف النفسي على تقدير كون التكليف متعلّقا بالأكثر ،
وعدم تنجّز التكليف النفسي يقتضي عدم تنجّز الأقل مطلقا ولو كان واجبا غيريا لما
عرفت في بحث مقدّمة الواجب المطلق من تبعية تنجّز الوجوب الغيري لتنجّز الوجوب
النفسي وإذا لم يتنجّز وجوب الأقل لو كان غيريا امتنع الانحلال لأنّه يتوقّف على
تنجّز وجوب الأقل مطلقا ، أي كان وجوبه نفسيا ، أو غيريا.
والحال أنّ وجوبه
الغيري غير محرز وغير معلوم لنا ، وهذا معنى استلزام
وجود الانحلال عدم
الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال لأنّه تناقض وكل تناقض محال ، فهذا محال
قطعا.
وقد تحصّل ممّا
سبق ؛ ان الانحلال المذكور يستلزم عدم تنجّز التكليف النفسي بالإضافة إلى الأكثر
وهذا يستلزم عدم تنجّز وجوب الغيري للأقل وهذا يستلزم عدم الانحلال لأنّه يتوقف
على لزوم الأقل مطلقا ولو كان غيريا ، فتأمّل فيه فانّه دقيق.
قوله
: نعم انّما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة فانّ وجوبه حينئذ ...
قال المصنّف قدسسره : نعم يكون الانحلال المذكور تامّا إذا كان الأقل ذا مصلحة
ملزمة بحيث يجب على المكلف تحصيلها وبحيث لا يرضى المولى بفواتها على المكلف فيكون
وجوبه معلوما لنا قطعا والشك بينه وبين الأكثر انّما يكون لأجل كون الأكثر ذا
مصلحتين ، أو مصلحة واحدة أقوى من مصلحة الأقل ، أو لا يكون كذلك.
ومن الواضح أن
العقل يحكم في هذا الفرض بالإضافة إلى الأكثر بالبراءة بلا كلام ، إذ كون الأكثر
ذا مصلحتين ، أو ذا مصلحة أقوى مشكوك فيه والشك فيه مستلزم للشك في وجوبه والشك في
وجوبه يكون بمعنى الشك في أصل التكليف وهو مجرى البراءة العقلية والنقلية ولكن
لنسلم أن هذا الفرض خارج عن محل النقض والابرام في المقام لأنّ محل البحث في هذا
المقام يكون في الأقل والأكثر الارتباطيين. وهذا الفرض إنّما يكون في الأقل
والأكثر الاستقلاليين.
هذا هو الوجه
الأوّل لوجوب الاحتياط المتحقّق بإتيان الأكثر في مورد دوران الأمر بين الأقل
والأكثر الارتباطيين.
شبهة الغرض
قوله
: هذا مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلّا بالأكثر ...
أما الوجه الثاني
لوجوب الاحتياط عقلا في هذا الدوران ، فهو أن المشهور بين العدلية أن الأمر بالشيء
ناشئ عن غرض للآمر في ذلك الشيء.
وعليه يكون الأمر
دائما معلولا لذلك الغرض فالعلم بالأمر يستلزم العلم بالغرض لأنّ العلم بالمعلول
يستلزم العلم بالعلّة.
وحينئذ فيجب بحكم
العقل العلم بحصول ذلك الغرض ولكن مع الاقتصار على فعل الأقل يشك في حصوله فلا بد
من الاحتياط ليحصل العلم بحصوله ، فالشك في المقام راجع إلى الشك في محصل الغرض
بعد الجزم بثبوته لا في أصل ثبوته مع العلم بمحصله على تقدير ثبوته كما في الشبهة
البدوية ، ولا يخفى أن الشك في المحصل موضوع لقاعدة الاشتغال لا لاصالة البراءة.
هذا بناء على ما
ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في
المأمور بها والمنهي عنها.
أمّا بناء على ما
ذهب إليه جماعة من كون الغرض يحصل بنفس الأمر لا بفعل المأمور به فلا موجب
للاحتياط حينئذ للعلم بحصول الغرض بمجرّد الأمر وإن لم يؤت بالمأمور به.
قوله
: وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ...
الألطاف جمع تكسير
لطف ، وهو يطلق على الشيء الذي يقرّب العباد إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية ،
فالواجبات الشرعية مقرّبات للواجبات العقلية ومبعّدات عن خلافها ، أي الواجبات
الشرعية تقرّب العباد إلى الواجبات العقلية ، وهي وجوب إطاعة المولى وحرمة معصيته
، والقرب إليه جلّ وعلى ، إذ فعل
الواجبات إطاعة
المولى ويوجب لتخلية النفس عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، كما يشهد بهذا الأمر
قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) والبغي ، وقول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الصلاة قربان كل تقي ونقي ومعراج المؤمن» وغيرهما. لا
أن الواجبات الشرعية واجبات عقلية لو اطّلع العقل على جهاتها كما قال بهذا بعض
الأعلام (رض) لأنّه قال بالملازمة بين حكم العقل والشرع من الجانبين ، أي كلّما
حكم به العقل حكم به الشرع ؛ وكلّما حكم به الشرع حكم به العقل. ولكن نسلم الاولى
، ولا نسلم الثانية ، إذ حكم الشرع الأنور بأن صلاة الظهر مثلا أربع ركعات ولها
أجزاء كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهّد والذكر والتسليم ، وشرائط
كالطهارة والاستقبال والستر مثلا ، ولم يحكم العقل بهذه الامور المذكورة لأنّه لم
يدركها والحكم فرع الدرك.
وقد مرّ في بحث
التعبّدي والتوصّلي ان الغرض الذي يكون علّة الأمر حدوثا وبقاء لا يسقط في
التعبّديات إلّا مع قصد الاطاعة والاطاعة فيها تتوقّف على قصد أمرهما ، فما لم
يقصد أمرها لم يسقط الغرض الباعث للمولى الآمر على الأمر والبعث.
وعليه فلا بدّ من
احراز الغرض في احراز الاطاعة ، ومن المعلوم انّه لا يحصل العلم لنا بتحقّق الغرض
إلّا بالإتيان بالأكثر كما لا يخفى. لأنّه إذا اكتفينا بالأقل الصلاة بلا السورة
مثلا فنشك حينئذ في سقوطه فيحكم العقل مستقلّا بحصول الغرض وهو لا يحصل على اليقين
إلّا بالإتيان بالأكثر فيجب كي يحصل المؤمن من عقاب المولى.
قوله
: ولا وجه للتفصي عنه تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة ...
قال المصنّف قدسسره : ان الشيخ الأنصاري قدسسره استشكل في رسائله على القول
__________________
بالبراءة عن وجوب
الأكثر في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بأن الأوامر الشرعية
ونواهيها تابعتان للمصالح الواقعية والمفاسد النفس الأمرية في متعلقاتها ، أي
المأمور به والمنهي عنه ، أي فعل المكلف امّا ذو مصلحة وامّا ذو مفسدة.
وعليه إذا اكتفينا
بالأقل فنشك حينئذ في حصول غرض المولى ، وإذا كان الشك في حصول الغرض وفي محصله
فلا بدّ من الاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر الارتباطي.
ثم أجاب الشيخ
الأنصاري قدسسره عنه بجوابين :
الأوّل : أنّ
مسألة البراءة والاحتياط ليست بمبتنية على مسلك المشهور من العدلية من كون المصالح
والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، بل تكون متفرّعة على مسلك غير المشهور من
العدلية من كون المصالح في نفس الأمر لا في المأمور به ؛ وفي نفس النهي لا في
المنهي عنه ، أو تكون متفرّعة على مسلك الأشاعرة المنكرين لقيام الملاكات والمصالح
والمفاسد بالمتعلّقات والمأمور به والمنهي عنه ولقيامها في الأوامر والنواهي ، بل
الأحكام تابعة لإرادة الباري (عزّ اسمه) لأنّ الأشاعرة منكرون للحسن والقبح
العقليين وقالوا إن الحسن ما حسّنه الشارع المقدّس ؛ والقبيح ما قبّحه. وعلى هذين
المسلكين نجري البراءة عن وجوب الأكثر الارتباطي ويكون الأقل واجبا ولا محذور فيه
بناء عليهما.
الثاني : سلمنا أن
مسألة البراءة والاحتياط متفرّعة على مسلك المشهور من العدلية ، ولكن ليس هذا
الابتناء بموجب للاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر أو حصول المصلحة واللطف في
العبادات يترتّبان على إتيانها على وجه الإطاعة. ومن الواضح أن إتيانهما على وجه
الامتثال والإطاعة يتوقّف على معرفة أجزاءها تفصيلا أن هذا الجزء واجب ، وذاك
الجزء مستحب ، وذلك ركن ، أو غير ركن ، ليؤتى بها مع
قصد الوجه فاعتبار
المعرفة في تحقّق الامتثال الذي يعتبر في صحّة العبادة وفي حصول الغرض منها.
وعلى ضوء هذا إذا
احتاط وأتى بالأكثر فلا يمكن أن يدعى أن عمل العبادي أوتى على وجه الامتثال وعلى
وجه الاطاعة لاشتمالها على الجزء المشكوك على تقدير الإتيان بالأكثر فلا يؤتى مع
قصد الوجه ، إذ حال السورة غير معلوم فلا يوجد الطريق الواصل بحصول المصلحة التي
تكون داعية إلى الأمر والبعث إلّا بالإتيان بالشيء الذي قطع المكلّف بتعلّق
التكليف به ويحكم العقل بوجوبه وإن لم يكن فيه مصلحة ولطف ، إذ امتثاله بواسطة
تعلّق العلم الاجمالي به يكون حتميا وقطعيا.
وأمّا الأكثر فلا
يجب إتيانه وإن كان واجبا في الواقع ، بل يجوز مخالفته وليست العقوبة مترتّبة
عليها لأنّها تكون من قبيل العقوبة بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان
عقلا ، والقبيح لا يصدر من المولى الحكيم.
فالنتيجة اختار
الشيخ الأنصاري قدسسره البراءة عن وجوب الأكثر في مورد دوران الأمر بين الأقل
والأكثر الارتباطيين ، وذلك كالصلاة مع السورة ، أو بلا سورة إذ لا نعلم انّها
مركبة من عشرة أجزاء ، أو تسعة أجزاء وتبعه جمع من الأعاظم (رض).
جواب المصنّف قدسسره عنه
قوله
: وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة على مذهب الأشعري لا يجدي من ...
قال المصنّف قدسسره : ان حكم العقل بالبراءة عن وجوب الأكثر فيما نحن فيه بناء
على مذهب الأشعري القائل بعدم المصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه لا ينفع
من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح
والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها ، إذ لا يحصل له القطع بتحقّق المصلحة إلّا
بالإتيان بالأكثر.
فكذلك لا ينفع حكم
العقل بالبراءة المذكورة من ذهب إلى ما عليه غير المشهور من العدلية من كون
المصالح والمفاسد في نفس الأوامر والنواهي لتجويزه وجود المصلحة في المأمور به
ووجود المفسدة في المنهي عنه ، إذ كون المصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه
يكون عند غير المشهور من العدلية بعنوان لا بشرط.
ومن الواضح انّه
عام من بشرط والعام يتحقّق في ضمن الخاص ، فالمصلحة والمفسدة لا بدّ أن تكونا في
نفس الأمر والنهي عند غير المشهور من العدلية سواء كانا في المأمور به والمنهي عنه
، أم لم تكونا فيهما.
وعلى هذا فلا يحصل
له القطع أيضا بتحقّق المصلحة إلّا بالإتيان بالأكثر. هذا مضافا إلى كون الواجبات
الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية ، فهذا متّفق عليه عند العدلية وهو يقتضي
الإتيان بالأكثر كي يحصل للمكلف القطع بتحقّق اللطف الذي يقرّب العباد بساحة
المولى (جلّ وعلى).
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أنّ
من ذهب إلى كون المصلحة في الأمر فقط ، كالأوامر الامتحانية ، ولا يحتملها في
المأمور به كالأمر بذبح إسماعيل النبي على نبيّنا وآله وعليه الصلاة والسلام.
وعلى ضوء هذا كما
أن العقل يحكم بالبراءة عن وجوب الأكثر بناء على مذهب الأشعري المنكر للمصلحة
والغرض والحسن فكذلك يحكم بها بناء على مذهب بعض العدلية القائل بوجود المصلحة في
نفس الأمر فقط دون المأمور به.
هذا تمام الجواب
عن التفصّي الأوّل للشيخ الأنصاري قدسسره.
قوله
: وحصول اللطف والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقّف على الإتيان ...
قال الشيخ
الأنصاري قدسسره : ان حصول اللطف والمصلحة في العبادة يتوقف
على الإتيان بها
على وجه الامتثال والإطاعة وهو يتحقّق بإتيان كل جزء جزء منها على وجه الامتثال
والاطاعة. وهذا لا يمكن إلّا أن يكون لنا علم تفصيلا بجزئية كل واحد منها ولكن
الاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر لا يوجب إتيان كل واحد من الأجزاء على وجهه
لاشتماله على الجزء المشكوك جزئيته «وهو السورة مثلا» هذا فلا جرم من أن نقول
بالبراءة عن الأكثر هذا كلام الشيخ الأنصاري قدسسره.
أجاب المصنّف قدسسره عنه نعم يتوقّف حصول اللطف والمصلحة على إتيان العبادة على
وجه الامتثال والاطاعة ومع ذلك نقول : ان المعتبر في باب العبادة إتيان مجموع
أجزاءها من حيث المجموع على وجه الامتثال والاطاعة ولا يعتبر فيها إتيان كل جزء
جزء منها على وجه الامتثال وبقصد وجهه كي يتنافى الاحتياط الذي يتحقق باتيان
الأكثر ، أي لا يعتبر في حصول اللطف والمصلحة على إتيان العبادة معرفة أجزائها
تفصيلا وإتيانها على وجهها. ويدل على هذا الأمر عدم إشكال أحد من الأعلام (رض) في
إمكان الاحتياط الذي يتحقّق بإتيان الأكثر فيما نحن فيه كما لا يستشكل أحد منهم في
إمكانه في المتباينين كما مرّ شرحه في بحث دوران الأمر بين المتباينين.
ومن الواضح انّه
لو كان معرفة الأجزاء تفصيلا شرطا في حصول اللطف والمصلحة لما أمكن الاحتياط في
العبادات أصلا فلا محل لتصحيح الاحتياط فيها كما لا يخفى.
هذا جواب الأوّل
عن التفصّي الثاني.
قوله
: هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك ...
أجاب المصنّف قدسسره عن التفصّي الثاني ثانيا بأن احتمال اعتبار قصد الوجه من
الوجوب والندب بأن ينوي المكلف الوجوب في الاجزاء الواجبة والندب في الاجزاء
المندوبة باطل قطعا ، إذ لا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا كما مرّ تفصيل هذا
البحث في التعبّدي
والتوصّلي.
فإن قيل : قد صرّح
بعض الأصحاب (رض) بوجوب ايقاع الواجب على وجهه وبوجوب اقتران الواجب بقصد الوجه
ولعل المراد منه إتيان أجزاء العبادة على وجهها بأن ينوي الوجوب في الاجزاء
الواجبة والندب في الأجزاء المندوبة ويؤتى بها على وجهها.
قلنا : إنّ المراد
من هذا وجه نفس الواجب بمعنى أن يأتي المكلف بالواجب ، وذلك كصلاة الظهر مثلا ،
بنيّة أنّه واجب من قبل المولى الجليل ، فيأتي بالصلاة بقصد وجوبها النفسي ، وليس
المراد منه قصد وجه اجزاء الصلاة من وجوبها الغيري وجوبها الضمني فلا يعتبر قصد
ذلك أصلا للاجزاء.
توضيح في طي
الوجوب الغيري والوجوب الضمني
وهو إذا لاحظنا
جانب مقدّمية الأجزاء للواجب فيكون وجوبها غيريا من جهة كون وجوب المقدّمة غيريا
ترشحيا.
وعليه فوجوب
الاجزاء ليس لمصلحة في نفسها كي يكون وجوبها نفسيا بل المصلحة في المركب والكل
فيكون كل واحد من الأجزاء مقدّمة لتحقّق الكل. وإذا لاحظنا كون المتصف بالوجوب
أولا وبالذات هو الكل والمركب كما في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمّا وجوب الاجزاء فيكون ثانيا وبالعرض ، كعروض الحركة على
جالس السفينة.
ومن المعلوم أن
إتيان الواجب حال كونه مقترنا بوجهه على نحو الغاية بأن ينوي المكلف اني أفعل صلاة
الظهر لوجوبها ، أو على نحو التوصيف بأن ينوي انّي أفعل الصلاة الواجبة بإتيان
الأكثر بمكان عال من الامكان ، وذلك لأجل انطباق الواجب على المأتي به. ولو كان
الواجب واقعا هو الأقل فيتمكّن من المكلف مع
الإتيان بالأكثر
قصد الوجه واقتران الواجب بوجهه غاية ، أو وصفا.
فإن
قيل : انّ الأكثر مشتمل
على ما يحتمل أن لا يكون جزءا للمأمور به ، ومعه كيف يمكن للمكلف قصد الوجه بإتيان
الأكثر؟
قلنا
: احتمال اشتماله
على ما ليس من أجزاء المأمور به ليس بضائر في قصد الوجه إذا قصد المكلف وجوب
المأتي به على إجماله من غير تعيينه وتقييده بالأقل أو الأكثر ، أي ينوي إتيان
الواجب الواقعي بما له دخل في تحقّق الواجب من أجزائه على وجهه بلا تميز ما له دخل
في الواجب من أجزائه بحيث يعلم أن هذا الجزء واجب ، وذاك الجزء مندوب ، لا سيما
إذا دار أمر الزائد بين كونه جزء الماهية المأمور به والواجب وجزء الفرد الواجب ،
وجه الخصوصية ، كونه جزءا قطعا فيتمكّن المكلّف من قصد الوجه حينئذ قطعا.
غاية الأمر أنّه
يشك في كونه جزء للماهية إن كان واجبا ، أو جزءا للفرد إن كان مستحبّا ، وذلك
كالسورة مثلا ، بالإضافة إلى الصلاة الواجبة.
فإن قيل : ما
الفرق بين جزء الماهية ، وبين جزء الفرد؟
قلنا : ان الفرق
بينهما من وجهين :
الأوّل
: ان جزء الماهية
واجب وجزء الفرد مستحب ، كما علم هذا سابقا.
الثاني : أن جزء الماهية ما تنتفي الماهية بانتفائه ، وذلك
كالركوع والسجود ونحوهما من الأجزاء الواجبة سيما الأركان منها ، وأن جزء الفرد ما
ينتفي بانتفائه الفرد ، وذلك كالأجزاء المندوبة كالاستعاذة والقنوت وجلسة
الاستراحة مثلا. ولكن لا تنتفي الماهية بانتفائها لأنّ الصلاة تصدق على الواجدة
للاستعاذة وعلى الفاقدة لها ولكن لا تصدق على الفاقدة للركوع والسجود مثلا.
وعلى ضوء هذا ،
ينطبق الواجب على المأتي به حين دوران أمر الزائد بين
كونه جزءا للماهية
وجزءا للفرد بتمام المأتي به وكماله لأنّ الكلّي الطبيعي يصدق على الفرد مع
مشخّصاته وخصوصياته ، وذلك كالإنسان الذي يصدق على زيد فيقال : زيد إنسان باعتبار
انّه فرد للحيوان الناطق لأنّ الإنسان حيوان ناطق ، فإذا صدق على زيد إنسان فقد
صدق عليه أنّه حيوان ناطق مع ان له مشخّصات الفردية.
فالنتيجة : أن قصد
التميز في المقام متعذّر لا قصد الوجه على تقدير اعتباره ولا قصد القربة برجاء
وجوبه الواقعي لأنّ المكلف إذا أتى بالجزء المشكوك بقصد القربة والوجه جميعا برجاء
وجوبه الواقعي ، فقد وقع متقرّبا به وعلى وجهه.
قوله
: نعم لو دار بين كونه جزءا ، أو مقارنا لما كان منطبقا عليه بتمامه ...
نعم ، لو دار أمر
المشكوك بين كونه جزءا للعبادة ، أو كونه مقارنا بالواجب بحيث يكون الواجب ظرفا له
كالقنوت مثلا ، إذ أمره دائر بين أن يكون جزءا للواجب ، أو شيئا مقارنا به لما كان
الواجب منطبقا على المأتي به بتمامه وكماله لكن عدم الانطباق غير ضائر بقصد الوجه
، أي إتيان الواجب بقصد وجوبه النفسي لا الإتيان بالاجزاء التي تتصف بالوجوب
الغيري تارة ؛ وبالوجوب العرضي اخرى بقصد وجوبها الغيري العرضي لانطباق الواجب على
المأتي به وإن لم يكن الزائد المشكوك جزءا للواجب واقعا باعتبار الاجزاء التي تكون
جزئيتها معلومة لنا تفصيلا. غاية الأمر يكون الانطباق لا بتمامه وكماله ثابتا لعدم
إحراز كون الزائد المشكوك جزءا للواجب تفصيلا.
الجواب الثالث عن
التفصّي الثاني
قوله
: هذا مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس ممّا يقطع بخلافه ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن الجواب الأوّل والثاني شرع في الجواب الثالث
وقال رحمهالله : ولا يخفى عليك أن المصنّف قدسسره قد منع عن احتمال اعتبار معرفة الاجزاء وعن الإتيان بكل
منها على وجهه في الجواب الأوّل. وقد ادّعى بطلان اعتبار الإتيان بكل جزء على وجهه
في الجواب الثاني ؛ وقد منع عن أصل اعتبار قصد الوجه في العبادات مطلقا ، أي سواء
كان وجه الواجب بنفسه ، أم كان وجه اجزائه وابعاضه لعدم الدليل على اعتباره لا من
جانب العقل ولا من جهة الشرع الأقدس ، كما مرّ هذا في مبحث التعبّدي والتوصلي.
أمّا بخلاف قصد القربة فانّ العقل حاكم باعتباره في العبادات كما لا يخفى.
الجواب الرابع
قوله
: مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد ...
أجاب المصنّف قدسسره عنه رابعا بأن البحث لا ينحصر في الأقل والأكثر
الارتباطيين اللذين يعتبر فيهما قصد القربة ، أي العبادات حتى يحتمل فيهما اعتبار
قصد الوجه والتميز بل يجري في كل أمر ارتباطي سواء كان عباديا ، أم كان توصليا قد
دار أمره بين الأقل والأكثر ؛ أما مثال العبادات فواضحة ، واما مثال التوصليات
فكما إذا أمر المولى عبده باحضار المعجون الذي لا يعلم أنّه مركّب من تسعة أجزاء
أو من عشرة أجزاء قد دار أمره بين الأقل والأكثر الارتباطيين وجرى فيه النزاع
المذكور من البراءة والاشتغال. قال الشيخ الأنصاري قدسسره بالبراءة واختار المصنّف قدسسره إجراء اصالة الاشتغال بالاضافة إلى الأكثر وتبعهما جماعة
من الأعلام (رض) ولا يحتمل في التوصلي اعتبار قصد الوجه والتميز ؛ كما لا يشترط
فيها قصد القربة كي لا يحصل القطع بحصول المصلحة واللطف والغرض بدونه بل بدونهما
في التوصليات.
الجواب الخامس
قوله
: مع أنّه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردّد ...
أجاب المصنّف قدسسره عن التفصّي الثاني خامسا بأنّه لو قلنا باعتبار قصد الوجه
في العبادات على النحو الذي ينافيه التردّد بين الأقل والأكثر ، أي قلنا باعتبار
قصد وجه أجزاء العبادات والواجب لا وجه نفس الواجب بما هو واجب فحينئذ لو فرضنا أن
الغرض الأقصى لا يحصل أصلا بلا قصد الوجه فلا وجه لمراعاة التكليف المعلوم
بالاجمال ولو بإتيان الأقل ، وأمّا إذا فرضنا أن الغرض يحصل قطعا نظرا إلى عدم دخل
قصد الوجه مع التعذّر لأجل التردّد الذي ينافيه فلا محيص عن الإتيان بالأكثر ليحصل
القطع معه بحصوله لاحتمال أن لا يحصل القطع بحصوله بإتيان الأقل فالاحتياط الذي
يتحقّق بإتيان الأكثر لازم ليحصل القطع للمكلّف بالفراغ للذمة بعد القطع بالاشتغال
والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني والبراءة اليقينية إذ نحتمل بقاء الأمر
بسبب بقاء غرض الأمر مع الإتيان بالأقل.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
حصول الغرض بالأكثر الموجب للاحتياط بإتيانه خلاف الفرض لأن المفروض اعتبار قصد
الوجه وهو منوط بمعرفة أجزاء الواجب تفصيلا.
وعلى طبيعة الحال
يكون مقتضى توقف الغرض على قصد الوجه بهذا النحو عدم احراز حصول الغرض بإتيان
الأكثر فلا موجب لإتيانه.
هذا ولكن أجاب
المصنّف قدسسره عن اعتبار قصد الوجه بأنّه غير معتبر في العبادات ، هذا
مضافا إلى ان اعتبار قصد الوجه مع عدم الدليل عليه إنّما هو في الواجبات
الاستقلالية دون الواجبات الضمنية ، أي الاجزاء.
البراءة الشرعية
قوله
: وامّا النقل فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك ...
قال المصنّف قدسسره : وامّا النقل فهو يقضي برفع جزئية ما شك في جزئيته وذلك
كالسورة مثلا.
وبعبارة اخرى :
إنّ جميع ما تقدّم من أوّل البحث إلى هنا كان بيانا لعدم جريان البراءة العقلية
وهي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان ، واما البراءة النقلية فهي تجري عن جزئية ما شك
في جزئيته لأنّ عموم حديث الرفع نحو «رفع عن امّتي الخطأ والسهو والنسيان وما لا
يعلمون» والعموم مستفاد من كلمة ما الموصولة قاض برفع جزئية مشكوك الجزئية وكذا
حديث السعة مثل الناس في سعة ما لا يعلمون حرفا بحرف فبمثله ، أي بمثل حديث الرفع
يرتفع الاجمال والتردّد عن الماهية التي دار أمرها بين الأقل والأكثر ، إذ حديث
الرفع ومثله كحديث السعة يعيّنان الماهية في الأقل كما لا يخفى.
وعلى طبيعة الحال
اختار المصنّف قدسسره في هذا المقام التفصيل بين البراءة العقلية وبين البراءة النقلية
، إذ الاولى لا تجري والثانية تجري.
قوله
: لا يقال ان جزئية السورة المجهولة مثلا ليست بمجعولة ...
فإن قيل : ان
عنوان الجزئية ليس أمرا مجعولا شرعا بل المجعول شرعا هو نفس الجزء والجزئية حكم
وضعي انتزاعي ولا موضوعا ذا حكم شرعي.
والحال أنّه لا
بدّ أن يكون المرفوع بحديث الرفع حكما شرعيا ، أو موضوعا ذا حكم شرعي لأنّ وضعهما
يكون بيد الشارع المقدّس فيكون رفعهما بيده أيضا ، امّا بخلاف الجزئية فانّ وضعها
ليس بيد الشارع المقدّس فلا يكون رفعها بيده ، إذ من الواضح ان كلّما ليس وضعه
بيده فليس رفعه بيده أيضا ، وعليه كيف يمكن أن ترفع
الجزئية بحديث
الرفع والسعة؟
قلنا : ان جزئية الجزء في حدّ نفسها ليست أمرا مجعولا شرعا ،
ولكن يكون منشأ انتزاعها ، أي نفس الاجزاء بما هي أمرا مجعولا شرعا ، فهذا المقدار
من الجعل يكفي في رفع الجزئية لا بما هي بل باعتبار منشإ الانتزاع. وعلى هذا يصح
رفعها بهذا العناية والاعتبار.
فإن
قيل : ان المقصود من
جزئية السورة للصلاة المكتوبة وجوب إعادتها أداء في الوقت إذا أتى المكلف الصلاة
بلا سورة ، ولا ريب في أن وجوب الإعادة أثر شرعي فرفع الجزئية انّما يكون برفع
أثرها ، وهو وجوب الإعادة. فيرفع المحذور المذكور والإشكال المزبور. بمعنى أن
المكلّف لا يعلم بكون السورة جزءا للصلاة ولهذا أتاها بلا سورة ثم علم بكونها جزءا
لها ، والحال أن الوقت باق لم ينقض فيجب عليه الإعادة.
قلنا : ان وجوب
الإعادة انّما يكون أثر بقاء الأمر الأول الذي تعلّق بالمركب ولا يكون أثرا شرعيا
للجزئية الانتزاعية ، ولكن يكون وجوب الإعادة أثر بقاء الأمر الأوّل بعد التذكر
والعلم بجزئية السورة.
هذا مضافا إلى أن
وجوب الإعادة للصلاة التي ليست السورة بمقرونة فيها مع سائر أجزاءها والإطاعة لا
تتحقّق على نحو اليقين إلّا إذا أتى المكلّف الصلاة بتمام أجزائها وبكمال شرائطها.
قوله
: لا يقال إنّما يكون ارتفاع الأمر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعي ...
زعم المتوهّم ان
رفع جزئية السورة للصلاة باعتبار منشأ انتزاعها يتوقف على رفع منشأ انتزاعها ومنشأ
انتزاعها يكون بالأمر الأول الذي تعلّق بالصلاة ، وإذا ارتفع هذا الأمر فلا يكون
الأمر الآخر للصلاة وتبقى بلا أمر.
وبعبارة اخرى :
وهي يكون الأمر الواحد المتعلّق بالصلاة من قبل الشارع
المقدّس مع السورة
، أو بدونها موجودا لأن الشارع (المقدّس) إمّا قال صلّ مع السورة وإمّا قال صلّ
بلا سورة ، فلو رفع حديث الرفع الأمر الأوّل فلا يكون الأمر من قبل الشارع (المقدّس)
بالإضافة إلى سائر الأجزاء غير السورة بموجودة حتى تجب إطاعته وامتثاله فإن تعلّق
الأمر واقعا بالصلاة مع السورة فيرتفع بحديث الرفع أمر الصلاة وان تعلّق الأمر
واقعا بالصلاة بلا سورة فلا يكون المحل حينئذ لحديث الرفع والسعة.
الجواب عنه
قوله
: لأنّه يقال نعم وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه ...
قال المصنّف قدسسره : نعم يكون رفع جزئية السورة برفع منشأ انتزاعها ، إذ رفع
الأمر الانتزاعي انّما يكون برفع منشأ الانتزاع ، وذلك كرفع الزوجية برفع الأربعة
مثلا والفردية برفع الثلاثة مثلا.
والشارع المقدّس
أمر بالصلاة بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) والروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن الأئمّة الأطهار عليهمالسلام تبيّن كمياتها وكيفياتها وأجزائها وشرائطها ولكن حديث
الرفع حاكم بالاضافة عليها مثلا الرواية تدل على جزئية فاتحة الكتاب للصلاة وعلى
شرطية الطهارة لها لأنّ المعصوم عليهالسلام قال : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة إلّا بطهور ،
في حال العلم والجهل والنسيان والذكر والاختيار والاضطرار ، وحديث الرفع يختص
جزئيتها بحال العلم والذكر والتذكّر والاختيار ، ولكن الأمر بالصلاة باق على حاله.
والروايات التي
تدل على جزئيتها تقيد بحديث الرفع بهذه الامور ، أي تكون فاتحة الكتاب جزءا للصلاة
في حال العلم والذكر والاختيار.
وعلى طبيعة الحال
تكون نسبة حديث الرفع الناظر إلى الأدلّة الدالّة على
بيان أجزاء الصلاة
من باب الحكومة والتصرّف إلى هذه الأدلّة كنسبة الاستثناء إلى المستثنى منه في
تضييق الموضوع نحو (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء إلّا إبليس من الملائكة موجب لتضييق الموضوع ـ وهو
الملائكة ـ أي الملائكة غير إبليس سجدت لآدم (على نبيّنا وآله وعليه الصلاة
والسلام) كذا الحديث الشريف : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، أي لا صلاة في حال
العلم والذكر والاختيار إلّا بفاتحة الكتاب ، اما في حال الجهل والنسيان والاضطرار
فهي صلاة لرفع جزئية الفاتحة في حين عروض هذه الحالات على المكلف ، إذ بضميمة حديث
الرفع إلى أدلّة الاجزاء والشرائط يحكم باختصاص الجزئية بغير حال الجهل والنسيان
والاضطرار كما لا يخفى.
التمسك بالاستصحاب
قوله
: فتدبّر جيّدا ...
وهو إشارة إلى
الواجب الواقعي اللوح المحفوظي مردّد بين ما هو مقطوع البقاء ، وما هو مقطوع
الارتفاع فإنّ التكليف لو كان متعلّقا بالأقل ، فهو مرتفع بالإتيان به يقينا ، ولو
كان متعلّقا بالأكثر فهو باق يقينا.
أمّا بعد الإتيان
بالأقل فنشك في سقوط التكليف المتيقّن ثبوته قبل الإتيان به فيستصحب بقاؤه على نحو
القسم الثاني من استصحاب الكلي ، ولا يخفى أنّ بعد جريان هذا الاستصحاب وبعد الحكم
ببقاء التكليف تعبّدا يحكم العقل بوجوب الإتيان بالأكثر تحصيلا للعلم واليقين
بفراغ الذمة.
الشك في القيد للمأمور به
قوله
: وينبغي التنبيه على أمور ، الأوّل : أنّه قد ظهر ممّا سبق حال دوران الأمر ...
هذا شروع في حكم
الشك في شرطية شيء للمأمور به ؛ وفي حكم الدوران في الواجب بين التعيين والتخيير ،
مثلا إذا دار أمر المكلّف به بين المطلق كالرقبة وبين المشروط كالرقبة المؤمنة ،
ولا نعلم تفصيلا بكفاية عتق مطلق الرقبة في كفارة الظهار مثلا ، أو خصوص الرقبة
المؤمنة فقط والشك إنّما يكون في شرطية وصف الايمان للعتق الذي هو مأمور به.
وفي هذا الدوران
يحكم العقل بوجوب الاحتياط وبلزوم إتيان المشروط ، إذ لا مجال لانحلال العلم
الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب المطلق ، وإلى الشك البدوي بلزوم المقيّد
المشروط حتّى يقال بالبراءة العقلية بالنسبة إلى وجوب المشروط ، وكذا إذا دار أمر
المكلف به بين الخاص كالإنسان ، وبين العام كالحيوان. وفي هذا الدوران يحكم العقل
أيضا بوجوب الاحتياط وبلزوم إتيان الخاص ، إذ لا مجال للانحلال المذكور هنا أيضا.
والسرّ في ذلك ،
أي في عدم انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب المطلق والعام وإلى
الشك البدوي بوجوب المشروط والخاص أن الاجزاء للمأمور به على قسمين :
الأوّل
: جزء خارجي
كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود و ...
الثاني : جزء ذهني وهو التقيد لا القيد فإنّه أمر خارجي كالجزء
الخارجي بعينه ، والجزء الخارجي هو ما يتركّب منه المأمور به كالتكبيرة والركوع
والسجود والتشهّد مثلا والجزء الذهني هو الاتصاف الحاصل للصلاة من الوضوء ، أو
التستر أو الاستقبال ، فالاتصاف حاصل للمأمور به من فعل خارجي ، وهو الوضوء
والتستر والاستقبال ، مثلا أن وجود الطبيعي كالرقبة والحيوان في ضمن المقيّد
كالرقبة
المؤمنة ، والإنسان
لأن الإنسان مقيّد بوصف الناطقية ، إذ هو حيوان ناطق متّحد معه بل هو عينه خارجا
فلا انفكاك بينهما خارجا.
ومن الواضح أن
وجود الطبيعي في ضمن غير المقيد مباين للطبيعي الذي يوجد في ضمن هذا المقيّد
كالحيوان الذي يوجد في ضمن الإنسان فهو مباين للحيوان الذي يوجد في ضمن الفرس
ولهذا لا يحمل أحدهما على الآخر فلا يصح أن يقال : حيوان الصاهل حيوان ناطق ؛
وبالعكس ، وكذا الرقبة التي تتحقّق في ضمن الرقبة المؤمنة مباينة للرقبة التي
تتحقّق في ضمن الرقبة الكافرة.
حكم الشك في
الشرطية والخصوصية
وعلى ضوء هذا فلا
يكون هناك قدر متيقّن في البين لينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب
القدر المتيقّن ؛ وإلى الشك البدوي بالإضافة إلى وجوب الزائد عليه ، امّا بخلاف
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين فلوجود القدر المتيقّن في البين وهو
وجوب الأقل على كل تقدير ، أي سواء وجب الأكثر ، أم لم يجب ، وإذا لم ينحل العلم
الاجمالي فلا تجري البراءة العقلية عن وجوب القيد فالأقل إمّا يكون واجبا نفسيا
واقعا إذا لم يجب الأكثر واقعا ، وامّا يكون واجبا غيريا مقدّميا إذا يجب الأكثر
واقعا ، أمّا بخلاف دوران الأمر بين المشروط بشيء وبين مطلقه وبين الخاص المطلق
وبين عامّه فانّ الاجزاء التحليلية العقلية كالحيوانية والرقية ، انتزعت عن ذات
المأمور به ونفسه فليست بمقدّمة كي تجب بالوجوب غيري المقدمي ، إذ تشترط الاثنينية
بين المقدّمة وبين ذيها فلا تتصف باللزوم من باب المقدّمة عقلا.
نعم تتصف الأجزاء
الخارجية باللزوم من باب المقدّمة عقلا لأنّها قائمة برأسها من دون توقف بعضها على
بعض في الوجود الخارجي.
وعليه فلا يمكن أن
يقال : ان وجوب المطلق والعام متيقن ووجوب القيد والخاص كالايمان والإنسان مشكوك
فندفعه بالأصل ، وإذا لم يكن وجوب المقدمي ثابتا لها فلا يصح أن يقال : وجوبها
متيقن امّا نفسيا وامّا غيريا مقدّميا ووجوب القيد والخاص مشكوك فلا ينحل العلم
الاجمالي في هذين الدورانين كما لا يخفى.
فإن
قيل : يمكن هاهنا
تصوير انحلال العلم الاجمالي بهذا البيان بأن الرقبة والحيوان مطلوبان قطعا ، امّا
نفسا وامّا مع الغير فيكون طلبهما متيقّنا. واما مطلوبية القيد والخاص فمشكوكة.
فالنتيجة ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب المطلق
والعام ؛ والشك البدوي بوجوب القيد والخاص.
قلنا
: ان وجود المطلق
في ضمن المقيّد غير وجوده في ضمن المقيّد الآخر كالرقبة التي توجد في ضمن المؤمنة مباينة
للرقبة التي تتحقّق في ضمن الكافرة ، وكذا الحيوان الذي يوجد في ضمن الإنسان مثلا
مباين للحيوان الذي يتحقّق في ضمن الفرس مثلا ، كما تقدّم وجهه ، وكذا الصلاة
المشروطة كالصلاة مع التستر مثلا مباينة للصلاة التي تكون خالية عن التستر ، وكذا
الصلاة الخاصّة كصلاة الآيات مباينة للصلاة التي تتحقّق في ضمن صلاة العيدين.
وعلى ضوء هذا لا
يكون وجود الطبيعي ممتازا عن وجود أفراده ومصاديقه في الخارج لأن وجود الطبيعي
بمعنى وجود أشخاصه كي يكون وجوب المقيد والخاص مشكوكا ووجوب الطبيعي متيقّنا. وعلى
طبيعة الحال فلا انحلال هاهنا أصلا.
فالأمر في هذين
الدورانين أظهر من الأمر في الأقل والأكثر الارتباطيين أو وجود الأقل فيهما ممتاز
عن وجود الأكثر في الخارج لأنّ الصلاة بلا سورة ممتازة من حيث الوجود الخارجي عن
الصلاة مع السورة ، اما بخلاف الطبيعي فان وجوده
عين وجود أفراده
ومصاديقه في الخارج فليس وجوده ممتازا عن وجود القيد والخاص كما لا يخفى. كي يكون
وجوبه متيقنا ووجوبها مشكوك.
قوله
: نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الأمر بين ...
ولا يخفى عليك أن
غرض المصنّف قدسسره من كلامه هذا بيان الفرق بين المقيّد والمطلق وبين العام
والخاص ، بجريان البراءة النقلية في الأوّل دون الثاني لأنّ القيد ينتزع عن أمر
الشارع المقدّس ، كقوله : اعتق رقبة مؤمنة ، إذ شرطية ايمان الرقبة تستفاد من أمر
الشارع المقدّس.
وعليه فلا مانع من
نفي شرطيته بحديث الرفع ، عند الشك في شرطية القيد وهو وصف الايمان. اما بخلاف
خصوصية الإنسان فانّها منتزعة عن ذات المأمور به وشخصه ولا تنتزع من أمر خارج عن
ذات المأمور به حتى تنفى بالأصل.
وعلى طبيعة الحال
يدور الأمر بين وجوب الخاص ؛ ووجوب العام فيكونان من قبيل المتباينين كالظهر
والجمعة ، فالعقل يحكم بالاحتياط الذي يتحقق باتيان الظهر والجمعة معا وبإتيان
الخاص والمقيّد لاشتمالهما على المأمور به مع مزية وخصوصية كما إذا دار أمر
التسبيحات الأربعة بين الواحدة والثلاث فالعقل يحكم بإتيان الثلاث تحصيلا للفراغ
اليقيني.
قوله
: فتأمّل جيّدا ...
وهو إشارة إلى
أنّه لا تناقض بين كون الأجزاء واجبة نفسية وبين كونها واجبة غيرية لأنّ لحاظها
على نحوين :
الأوّل : أن تلحظ
منضمّة بعضها مع بعض.
الثاني : أن تلحظ
منفردة ، فهي بلحاظ الأوّل واجبة نفسية لأنّها حينئذ عين المركب المأمور به
والمركب عينها فلا اثنينية بينهما.
وبلحاظ الثاني
واجبة غيرية لأنّها حينئذ مقدّمة وجودية للمركّب المأمور به
والمقدّمية تقتضي
الاثنينية كي يكون شيء مقدّمة والآخر ذيها.
في نقيصة الجزء سهوا
قوله
: الثاني أنّه لا يخفى أن الأصل فيما إذا شك في جزئية شيء للمأمور به ...
قد وضع الشيخ
الأنصاري قدسسره المسائل الثلاث لاختلال الجزء نقيصة وزيادة :
إحداها : لنقيصة
الجزء سهوا.
وثانيتها : لزيادة
الجزء عمدا.
وثالثتها : لزيادة
الجزء سهوا.
وامّا نقيصة الجزء
عمدا فلا إشكال في بطلان العبادة بها وإلّا فلا يكون الجزء جزءا لأنّ المركب ينتفي
بانتفاء أحد أجزائه ، وكذا الشروط حرفا بحرف ، إذ الكلام فيها كالكلام في الأجزاء
عينا.
المسألة الاولى ان
المكلف إذا نقص جزء من أجزاء العبادة سهوا فهل القاعدة تقتضي بطلانها ، أم لا؟
قال المصنّف قدسسره : انّا نعلم بجزئية الفاتحة والسورة الكاملة بعدها للصلاة
الواجبة في حال الذكر ونعلم بشرطية الستر والاستقبال لها في حاله بحيث لو تركها
عامدا متذكّرا لبطلت الصلاة قطعا ، ولكن لا نعلم بالجزئية ، أي بجزئيتهما لها في
حال النسيان ، وكذا لا نعلم بشرطيتهما حاله بحيث إذا تركها نسيانا بطلت الصلاة.
ومقتضى القاعدة في
هذه المسألة أن الشك فيها كالشك في أصل الجزئية والشرطية ، أي كما قلنا في الشك في
أصل الجزئية كالسورة ، وفي أصل الشرطية كجلسة الاستراحة مثلا بالاحتياط الذي
يقتضيه الأصل العقلي لأنّ العقل يحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل وهو لا يدفع إلّا
بالاحتياط الذي يتحقّق بالإعادة في
الوقت مع الجزء
المنسي بعد التذكر ، ومع الشرط المنسي بعده ، أو القضاء في خارج الوقت والعقل يحكم
بالاشتغال بالإضافة إلى الجزء والشرط وهو يقتضي الفراغ اليقيني وهو لا يتحقّق إلّا
بالإعادة ، أو القضاء على النحو المذكور ، ولكن شرعا حديث الرفع وحديث السعة وحديث
الحجب تجري ويكون مقتضاها عدم جزئية المنسي وعدم شرطية المنسي للصلاة حال النسيان
بل تختصان بحال الذكر ، وكذا يجري في هذا المقام الحديث الشريف : لا تعاد الصلاة
إلّا من خمس الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود .
وعليه إذا شككنا
في الجزئية للسورة على نحو الاطلاق في حال الذكر وفي حال النسيان فيمكن لنا أن
نتمسك بحديث الرفع ونقول : ان السورة ليست بجزء حال النسيان ، إذ الناسي لا يعلم
جزئيتها حال النسيان كما لا يعلم الجاهل بجزئيتها جزئيتها حال الجهل فلا تلزم
الإعادة ولا القضاء للصلاة التي قرأها بلا سورة نسيانا ، وكذا حال الشرط المنسي
حرفا بحرف. وكذا يجوز لنا التمسّك لعدم الإعادة بحديث لا تعاد الصلاة ... الحديث ،
لأنّ الصلاة بلا سورة وبلا شرط داخلة في المستثنى منه لا المستثنى.
توضيح الاستدلال
بحديث لا تعاد يحتاج إلى بيان الأمرين :
الأوّل : ان
الاستثناء في الحديث الشريف يكون مفرغا لأنّ المستثنى منه مقدر محذوف ، أي لا تعاد
الصلاة من شيء إلّا من خمسة الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود.
والثاني : ان
الحديث الشريف انّما يكون لبيان حكم السهو والنسيان لا العمد.
وعلى ضوء هذا
فيشمل ما نحن فيه شمولا واضحا ، وعليه فلا تلزم الإعادة
__________________
قطعا ، ولا ريب في
اختصاص الجزئية والشرطية بحال الذكر بناء على هذا الاستدلال ولكن لو لا حديث الرفع
وأمثاله وحديث لا تعاد ليحكم بوجوب الإعادة على المكلف الذي فعل الصلاة بلا حمد
وبلا سورة نسيانا.
فإن قيل : لم رفعت
اليد عن حكم العقل بوجوب الإعادة فيعلم منه ان الحمد والسورة جزءان للصلاة في حال
الذكر وفي حال النسيان ، وعملت بحديث الرفع ولا تعاد فيما نحن فيه؟
قلنا : ان الأدلّة
النقلية ، كحديث الرفع وحديث لا تعاد ، حاكمة على حكم العقل من باب تضييق دائرة
الجزئية واختصاصها بحال الذكر.
إذ شأن الدليل
الحاكم انّما يكون توسيع دائرة موضوع دليل المحكوم مثل الطواف بالبيت صلاة ، وهو
حاكم على الدليل الذي دل على وجوب الصلاة نحو (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وموسع لدائرة موضوعه ، أو تضييق دائرة موضوعه نحو : لا شك
لكثير الشك ، وهو حاكم على الدليل الذي دل على البناء بالأكثر في الفريضة ، نحو
قول المعصوم عليهالسلام : «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع» ، فالأصل
الثانوي هو عدم وجوب الإعادة.
حكم ناسي الجزئية
كما أن لزوم
الإعادة ثابت إذا ثبت شرعا جزئية الشيء للمأمور به ، أو شرطيته له ولو في حال
النسيان من جهة الدليل الاجتهادي نحو : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ونحو : لا
صلاة إلّا بالطهور ، ونحو : لا صلاة لمن لم يقم صلبه. فالأوّل يدل على جزئية
الفاتحة للصلاة واطلاقه يدل عليها حال الذكر والعلم وحال النسيان والجهل ،
والثانيان يدلّان على شرطية الطهارة مطلقا وعلى شرطية قيام الطلب مطلقا
ولو في حال
النسيان ، أو من جهة الإجماع كتكبيرة الاحرام مثلا.
والفرق بين النص
والدليل الاجتهادي والاجماع أن الأوّل دليل لفظي والثاني دليل لبي.
ولا يخفى أن حديث
الرفع جار في الصلاة وغيرها من سائر العبادات والمعاملات ، اما بخلاف حديث لا تعاد
فانّه مختص بالصلاة وهذا معنى قوله مطلقا.
قوله
: ثم لا يذهب عليك أنّه كما يمكن رفع الجزئية ، أو الشرطية ...
ويمكن أن يستدل
بالدليل الاجتهادي على نفي الجزئية والشرطية في حال نسيان الجزء ، أو الشرط وعلى
تخصيص الجزئية ، أو الشرطية بحال الذكر فقط ، فكما نرفع جزئية شيء ، أو شرطيته
للصلاة في حال النسيان بحديث الرفع ولا تعاد ، كذلك يمكن لنا رفعهما بالدليل
الاجتهادي في حال النسيان بأحد الطرق الثلاثة :
أوّلها
: ان الخطاب بالعمل
الذي يكون خاليا عن الجزء المشكوك فيه ، أو عن الشرط المشكوك فيه وارد من قبل المولى
على نحو يشمل الذاكر والناسي ولكن يرد من قبل الشارع المقدّس الدليل الآخر الذي
يدل بالمطابقة على اختصاص الجزء والشرط في حق الذاكر.
وثانيها
: ان الخطاب بالعمل
متوجّه إلى الناسي بغير عنوان الناسي على نحو العام ، نحو : يا أيّها الرجل ، ونحو
: يا أيّها الناس ، أقيموا الصلاة بلا سورة ، أو على نحو الخاص بالناسي نحو : يا
أيّها البلغمي مثلا أقم الصلاة بلا سورة وبلا جلسة الاستراحة ، أو نحو : يا أيّها
الضعيف الدماغ ، أو على نحو العناوين الأخر التي تختص بالناسي ولا تشمل الذاكر من
نحو يا آكل الجبن ويا قارئ الواح القبور.
فإن قيل : لأي سبب
لا يجوز خطاب الناسي بقول : يا أيّها الناسي أقم الصلاة بلا سورة؟
قلنا : ان هذا
الخطاب في حق الناسي محال ، إذ يلزم من وجود النسيان عدمه
لأنّه إذا قيل له
: يا أيّها الناسي أقم الصلاة بلا سورة فيخرج عن كونه ناسيا ويصير ذاكرا.
وعليه لا يمكن أن
يطالب منه العمل الذي يكون فاقدا للجزء ، أو الشرط لأنّ طلبه يختص بحال النسيان.
ومن المعلوم أن ما
يلزم من وجوده عدمه محال فخطاب الناسي بعنوان الناسي محال.
وثالثها : ان الخطاب بالعمل الذي يكون واجدا لجميع الأجزاء ولتمام
الشرائط مختص بالذاكر ، ولكن العمل الذي يكون خاليا عن الجزء المنسي واجب في حق
الناسي وليس هذا بمستحيل عند المصنّف قدسسره وان زعم بعض الأعلام (رض) استحالة الخطاب بعنوان الناسي ،
كما قرّر هذا آنفا ، أي زعم بعض منهم (رض) استحالة تخصيص الجزئية والشرطية بحال
الذكر وايجاب العمل الخالي عن المنسي على الناسي.
قوله
: فلا تغفل ...
وهو إشارة إلى
قيام الدليل الاجتهادي على أن الجزء والشرط مختصان بحال الذكر. ولهذا إذا نسي
المكلف قراءة الحمد والسورة في الصلاة المكتوبة لم تجب سجدتا السهو لنسيانهما بل
تستحبّان.
والدليل الاجتهادي
على هذا الأمر المذكور هو حديث : لا تعاد الصلاة إلّا من خمس الطهارة والوقت
والقبلة والركوع والسجود ، وغيره من النصوص الواردة.
وعليه ، فالناسي
وإن كان غير ملتفت إلى نسيانه إلّا انّه ملتفت إلى ان ما يأتي به هو المأمور به.
غاية الأمر ان
الناسي يتخيّل أن ما يأتي به مماثل لما يأتي به غيره من الذاكرين وأن الأمر
المتوجّه إليه هو الأمر المتوجّه إليهم ، وهذا التخيل لا يضر بصحّة
العمل بعد وجود
الأمر الفعلي في حقّه. ومطابقة المأتي به للمأمور به وإن لم يكن الناسي ملتفتا إلى
كيفية الأمر.
وعلى ضوء هذا
فيمكن توجيه الخطاب إلى الناسي والحكم بصحّة عمله ، وان كان مخطئا في التطبيق.
نعم الأمر
بالأركان فيها مطلق بالنسبة إلى عامّة المكلّفين غير مقيّد بحال الذكر.
حكم الزيادة
وأمّا بقية
الأجزاء والشرائط فالأمر بها مختص بحال الذكر بمقتضى حديث لا تعاد ، وغيره من
النصوص الواردة في موارد خاصة.
وأمّا وجه عدم
استحالة خطاب الناسي بعنوان النسيان عند المصنّف قدسسره فيقال : ان خطابات الشرعية إنّما تكون على نحو القضية
الحقيقية من دون النظر إلى الافراد الخارجية كايجاب الحج على المستطيع الكلي.
ولهذا يقال : الحج
واجب على المستطيع ولا يقال : الحج واجب على زيد المستطيع وعلى عمرو المستطيع و ...
وكذا يقال : الصلاة واجبة على البالغ العاقل ، ولا يقال : الصلاة واجبة على زيد
البالغ العاقل وعلى بكر البالغ العاقل ، وكذا ما نحن فيه ، فانّه يصح أن يقال :
الصلاة الفاقدة للجزء ، أو الشرط واجبة على الناسي الكلّي ولا يصح أن يقال :
الصلاة الفاقدة للجزء ، أو الشرط واجبة على زيد الناسي وعلى أحمد الناسي مثلا.
وعلى ضوء هذا
فالاستحالة لخطاب الناسي بعنوان النسيان مختصة بمخاطبة الناسي الخارجي دون الناسي
الكلّي على نحو القضية الحقيقية. وهذا ليس بمحال.
في زيادة الجزء عمدا ، أو سهوا
قوله
: الثالث أنّه ظهر ممّا حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها ...
اعلم ان الجزء
المعتبر في المركب الاعتباري يمكن اعتباره على أحد وجوه :
فتارة : يعتبر
بنحو صرف الوجود كتكبيرة الاحرام.
واخرى : يعتبر
بشرط لا ، أي بشرط أن لا يتكرّر الوجود كالقراءة.
وثالثة : يعتبر
بشرط شيء ، أي بشرط أن يتكرّر وجوده كالسجود.
ورابعة : بنحو
يصدق على القليل والكثير ، كما في التسبيح في الركوع والسجود بناء على كون تمام
التسبيح المتعدّد واجبا لا بناء على القول بأن الواجب واحدا والزائد عليه مستحب ،
إذ لا يصدق الجزء الواجب على الكثير حينئذ ، وإذا تمهد هذه الوجوه الأربعة ، فاعلم
ان عنوان زيادة الجزء إنّما يصحّ في الصورتين الأوليين دون الاخيرتين.
أمّا المصنّف قدسسره فقد قال : قد ظهر ممّا ذكر في التنبيه الثاني من حال جزئية
الجزء وشرطية الشرط لحال الذكر والنسيان ، أو لحال الذكر فقط. حال زيادة الجزء إذا
شك في اعتبار عدمها شرطا ، أو شطرا.
والفرق بين الشرط
وبين الشطر أن التقيد داخل في المأمور به والقيد خارج عنه في الأوّل ، وذلك
كاشتراط الصلاة بالطهارة ، لأنّ الصلاة المقيّدة بالطهارة واجبة ومطلوبة ، وتقيدها
بها داخل في مطلوبيتها ، ولكن القيد الذي هو الطهارة خارج عن حقيقتها وماهيتها.
ولهذا يقال في مقام بيان حقيقتها وماهيتها أوّلها التكبير وآخرها التسليم ولا يقال
أوّلها الطهارة ، وان التقيّد والقيد داخلان في ماهية الصلاة المأمور بها على
الثاني. وذلك كتكبيرة الاحرام والركوع ونحوهما من الأجزاء لأنّ الصلاة المقيّدة بالتكبيرة
والركوع مطلوبة.
وعلى ضوء هذا يكون
مفاد الأوّل هكذا من شرائط الصلاة عدم قراءة الحمد
أو السورة مرّتين
في الركعة الاولى ، أو الثانية كما ان من شرائطها عدم السكوت الطويل ، وعدم البكاء
للدنيا مثلا. ويكون مفاد الثاني هكذا بأن كان عدم الزيادة جزءا من أجزاء الواجب.
هذا.
قوله
: مع عدم اعتباره في جزئيته وإلّا لم يكن من زيادته بل من نقصانه ...
أي يشترط في زيادة
الجزء عدم كون الجزء من الجزء الذي اعتبر فيه عدم الزيادة ، وذلك كالركوع وان
اعتبر فيه عدمها فتكون الزيادة نقصانا ومن نقيصة الجزء لا من الزيادة كمن ركع
ركوعين في ركعة ، فيشترط في زيادة الجزء عمدا ، أو سهوا أن يكون الجزء مأخوذا في
المركب الاعتباري بعنوان لا بشرط الوحدة ولا بشرط الزيادة.
قوله
: وذلك لاندراجه في الشك في دخل شيء فيه جزء ، أو شرط ...
وليعلم أن صورة
زيادة الجزء تكون من مصاديق الشك في دخل شيء بعنوان الجزء ، أو الشرط في الواجب ،
أي يكون الشك في أخذ عدم الزيادة شطرا ، أو شرطا في الواجب مثل الشك في أخذ وجود
الشيء شطرا ، أو شرطا فيه في جريان البراءة الشرعية فيه دون البراءة العقلية ، أي
فلولا البراءة النقلية ، كحديث الرفع ونحوه ، لكان مقتضى الاحتياط العقلي ، أي
الاحتياط الذي يحكم به العقل بطلان الواجب العبادي ولزوم إعادته أداء في الوقت
وقضاء في خارجه ، ولكن لا تلزم الإعادة سواء أتى بالزيادة عمدا تشريعا ، أم أتى
بها جهلا قصورا ، أو تقصيرا ، أو سهوا ، وان استقل العقل السليم لو لا النقل بلزوم
الاحتياط والإعادة تحصيلا للفراغ اليقيني بعد اشتغال اليقيني ، وهذا معنى قول
المصنّف قدسسره في طي التنبيه الثالث : أنّه ظهر ممّا مرّ حال زيادة
الجزء.
توضيح : وهو إذا
زاد المكلّف الجزء عمدا فلا إشكال في بطلان العبادة بالزيادة العمدية وإلّا لم يكن
الجزء جزءا ، إذ المركب سواء كان حقيقيا ـ كالخلّ
مثلا ـ أم كان
مركبا اعتباريا ـ كالصلاة ـ ينتفي بانتفاء أحد أجزائه كما ينتفي بانتفاء جميع
أجزائه ، وكذا الكلام في الشرط.
ثم الزيادة
العمدية تتصوّر على وجوه :
أحدها : أن يزيد جزءا من أجزاء الصلاة بقصد كون الزائد جزءا
مستقلّا كما لو اعتقد تشريعا أن الواجب في كل ركعة ركوعان كالسجود.
ثانيها
: أن يأتي بالزائد
بدلا عن المزيد عليه بعد رفع اليد عنه ، كما لو قرء سورة ، كالجحد مثلا ثم بدا له
في الأثناء ، أو بعد الفراغ اختيار قراءة سورة اخرى كالكوثر مثلا لغرض دنيوي ،
كالاستعجال ، أو لغرض ديني ، كالفضيلة ، كالقدر مثلا ، واما الايقاع الأوّل على
وجه الفاسد.
والتفصيل ؛ اما
الزيادة على الوجه الأوّل فلا إشكال في فساد العبادة بها إذا نوى ذلك قبل الدخول
في الصلاة ، أو في الأثناء لأنّ ما أتى به وقصد الامتثال به وهو المجموع المشتمل
على الزيادة غير ما أمر به وما أمر به وهو ما عدا تلك الزيادة من الأجزاء لم يقصد
الامتثال به.
ثالثها : أن يأتي بالزائد بقصد كون الزائد والمزيد عليه جزءا
واحدا فيرجع الشك في هذه الصورة الثالثة في كون الزائد والمزيد عليه هل تكونان
جزءا واحدا أم لا إلى الشك في شرطية عدم الزيادة والبراءة تقتضي عدمها.
فالنتيجة أن
الصلاة صحيحة فيها لكن مع اشتمالها على كراهة من أجل القران بين السورتين.
أمّا المصنّف قدسسره فقد حكم في كل هذه الصور الثلاث بالصحّة حيث قال : فتصح لو
أتى بها مع الزيادة عمدا تشريعا ، أو جهلا قصورا ، أو تقصيرا ... الخ نظرا إلى كون
المقام من الشك في جزئية عدم الزيادة ، أو شرطيته. فيندرج ما نحن فيه في الأقل
والأكثر الارتباطيين فتجري البراءة الشرعية فيه دون العقلية منها على مسلكه
الشريف المتقدّم
فيهما إلّا في التشريع في الجملة ، فقد حكم فيه بالبطلان إذا كان المركّب عبادة.
واما حكم نقيصة الجزء سهوا فقد سبق في طي التنبيه الثاني. أما حكم زيادة الجزء
سهوا فقد ألحق من حيث الحكم بالنقيصة السهوية التي قد سبق حكمها في التنبيه
الثاني.
قوله : نعم لو كان
عبادة وأتى به كذلك على نحو لو لم يكن للزائد ...
هذا استدراك على
قول المصنّف قدسسره فيصح لو أتى به مع الزيادة عمدا تشريعا ... الخ.
وخلاصته : أن
الواجب إذا كان توصليا ففي جميع صور الزيادة يصح العمل الواجب ولا تكون الزيادة من
حيث هي زيادة موجبة للبطلان.
نعم إذا كان
الواجب عباديا فلا بدّ حينئذ من ملاحظة أن الزيادة هل توجب فقدان قصد القربة ، أم
لا؟
والتفصيل أن العمل
المأتي به إذا كان عباديا والمكلف أتى بالجزء الذي لا يعلم بجزئيته فيه فالأمر لا
يخلو من حالين :
الأوّل : إذا قصد
المكلّف كون الزيادة جزءا للواجب بحيث لو لم تكن جزءا له لما أتى بالواجب أصلا ،
فالتشريع يكون على وجه التقييد حينئذ ، ولا ريب في بطلان العمل العبادي في هذا
الفرض سواء كان للزيادة دخل واقعا ، أم لم يكن لها دخل في الواجب وذلك لعدم انبعاث
هذا العمل عن أمر الشارع المقدّس ولفقدان قصد الامتثال والقربة في فرض عدم الدخل
واقعا ، إذ مع عدم دخل الزائد في الواجب واقعا ليس الأمر من قبل المولى بموجود حتى
يقصد امتثاله ويثبت هذا العمل عنه.
وعلى طبيعة الحال
؛ فالزائد امّا دخيل في الواجب واقعا ، واما ليس بدخيل فيه واقعا ، فعلى كلا
التقديرين يكون العمل باطلا. امّا على الأوّل فلعدم انبعاث هذا العمل عن أمر
الشارع المقدّس. بل هو منبعث عن كون الزيادة جزءا للواجب.
وأمّا على الثاني
فلفقدان قصد الامتثال والتقرّب ، أو يكون العمل باطلا في صورة عدم دخل الزائد في
الواجب العبادي واقعا لعدم قصد الامتثال حينئذ ، إذ الأمر واقعا بالعمل المشتمل
على الزائد كي يقصد امتثاله.
هذا ، مضافا إلى
استقلال العقل بلزوم الاعادة مع الجهل بدخل الزيادة في الواجب واقعا وعدمه فيه
واقعا.
ومن الواضح أنّه
مع هذا الجهل يشك في الامتثال الذي هو شرط صحّة العبادة عقلا ، ولذا يحكم العقل
بلزوم الإعادة لقاعدة الاشتغال وهي تقتضي الفراغ اليقيني وهو تتحقّق بالإعادة أداء
، أو قضاء.
فالنتيجة : أن الزيادة إمّا عمدية وإمّا سهوية ، وكذا النقيصة ،
إمّا عمدية ، وإمّا سهوية.
أمّا بيان حكم هذه
الصور الأربع : فيقال : ان حكم الزيادة العمدية والزيادة السهوية قد سبق في طي
التنبيه الثالث ، وهو عبارة عن حكم العقل بلزوم الاحتياط والإعادة لقاعدة الاشتغال
وجريان البراءة النقلية فيهما عند المصنّف قدسسره ومن تبعه ، ولهذا يحكم بصحّة العبادة والعمل. وأمّا حكم
نقيصة الجزء سهوا فالعقل يحكم مستقلّا بالإعادة للإخلال بجزء الواجب ، أو شرطه ،
ولكن حديث (الرفع) والحديث الشريف : (لا تعاد) يدلّان على عدم الإعادة في هذه
الصورة.
وأمّا حكم نقيصة
الجزء عمدا فلا إشكال في بطلان العبادة بها ، وإلّا لم يكن الجزء جزءا كما قد سبق
هذا آنفا.
هذا حكم العمل
الذي أوتي به بقصد جزئية الجزء بحيث لو لم يكن الجزء المذكور دخيلا في العمل
المأتي به لما كان وجوبه داعيا للمكلف على إتيانه فيبطل العمل الذي أوتي به مطلقا
، أي سواء كان الزائد دخيلا في العمل شطرا ، أو شرطا ، أم لم يكن دخيلا فيه هكذا ،
أو يبطل في خصوص المورد الذي لا يكون الجزء الزائد
دخيلا فيه ، إذ
ليس الامتثال حينئذ بمتصوّر على الفرض ، إذ ليس الأمر الواقعي داعيا للمكلف بإتيان
العمل ، هذا مع حكم العقل مستقلّا بالإعادة في صورة اشتباه الحال أي مع الجهل بدخل
الزيادة في العمل واقعا وعدم دخله فيه.
الحاصل : إن كان
الداعي للمكلف من الإتيان بالعمل وجوبه وأمر المولى به ولكن فعل الصلاة مع
السورتين بقصد الجزئية ، بحيث لو لم تكن السورة الزائدة جزء لما أتى بها ، وهو
مشرع بهذا القصد ، إذ لا يعلم جزئية السورتين فلو كانتا جزءا واقعا لكانت صلاته
صحيحة ، إذ أوجد الصلاة مع السورتين.
والحال لها أمر
واقعا وهو فعلها بقصد أمرها ؛ وأمّا إذا لم تكن السورة الزائدة جزءا واقعا فصلاة
هذا المشرع باطلة لأجل التشريع لأنّه لم يقصد إيجاد المأمور به لأمره ، والموجود
في الخارج ليس له أمر فينطبق قانون ما وقع ليس بمأمور به وهو لم يقع في الخارج ،
فيكون العمل المشرع باطلا على هذا الفرض ، إذ لم يمتثل أمر مولاه والعقل حاكم
بخلاف فعله فيكون فعله خلاف العقل والشرع.
وأمّا إذا كان قصد
المشرع إتيان الصلاة مع السورتين لأمرها بقصد الجزئية ولكن بحيث لو لم تكن السورة
الزائدة جزءا لأوتي بها من جهة قصد أمرها فصلاته صحيحة سواء كانت الزائدة جزءا لها
واقعا ، أم لم تكن جزءا. أمّا إذا كانت جزءا واقعا فهو قصد إتيان المأمور به واقعا
، وامّا إذا لم تكن جزءا واقعا فهو أوجدها بقصد أمرها ، وتشريعه خارج عن حقيقة
الصلاة لأنّه فعلها بقصد الأمر بحيث يكون الداعي لايجادها أمرها لا كون الزائدة
جزءا لها.
غاية الأمر قد
أخطأ في تطبيق المأتي مع المأمور به ، وهو لا يضرّ بصحّة العمل إذا كان الداعي
والمحرّك للمكلّف من إتيان الصلاة أمر المولى ، وإن كان اعتقاده فاسدا فتصح صلاته
حينئذ. وأمّا في صورة الجهل والسهو والنسيان فتصح صلاته في جميع الحالات إذا تمشّى
منه قصد القربة والتقرّب إلى ساحة المولى الجليل (جلّ جلاله).
استصحاب الصحّة
قوله
: ثم أنّه ربّما تمسّك لصحّة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحّة ...
قال المصنّف قدسسره : إنّه تمسّك بعض الأعلام (رض) لصحّة المركّب الاعتباري
إذا أوجده المكلف مع الزيادة كما أتى بالصلاة بسورتين بعد الفاتحة في الأوليين
باستصحاب الصحّة ، إذ قبل إيجاد الزيادة كانت الصحة متيقنة وبعد إيجادها نشك في
بقاء الصحة وزوالها فنستصحب بقائها بعد إيجادها ليقين السابق وشك اللاحق.
ولا يخفى عليك أن
هذا الاستصحاب يجري في الصورة التي لا يحتمل فيها البطلان في أوّل الأمر ، أي لا
يكون المكلّف قاصدا من أوّل الشروع في الصلاة للزيادة ولا يكون مشرّعا في إيجاده.
وعليه فلو قصد في
أول الصلاة زيادة السورة فيها لما كان المأتي به موافقا للمأمور به ، إذ ليس له
أمر حينئذ فليست للصحة حالة سابقة متيقّنة.
نعم إذا لم يكن
قاصدا من أوّل الصلاة زيادة السورة وفي الاثناء قصدها وزادها عمدا فللاستصحاب مجال
واسع حينئذ ، إذ كانت للصحّة حالة سابقة متيقّنة كما زادها في الأثناء سهوا.
ولكن المصنّف قدسسره أشار إلى أن هذا الاستصحاب لا يخلو من نقض وابرام لأنّ
استصحاب صحّة أجزاء السابقة لا ينفع لصحّة أجزاء اللاحقة ، إذ صحة أجزاء السابقة
معلّقة بانضمام أجزاء اللاحقة إليها بشرط أن لا ينضم إلى اللاحقة مانع يتخلّل
بينها فإذا انضم الزائد إليها فنشك في كونه مانعا عن الاتصال ، أم لا ، وهذا يوجب
الشك في صحة اجزاء اللاحقة ، ولا ريب في أن الشك في صحّة اللاحقة يوجب الشك في
صحّة السابقة ، إذ يحتمل أن يكون الزائد ، أي قاطعا لهيئة الاتصالية بين الاجزاء.
فإن قيل : ان اليقين
بصحّة الاجزاء السابقة يكفي في رفع هذا الشك فلا يكون الزائد مانعا متخللا.
قلنا : ان اليقين
بصحّة الاجزاء السابقة لا ينفع في رفع هذا الشك فضلا عن استصحاب صحّة السابقة لأنّ
اليقين بصحّة الاجزاء السابقة مشروط بانضمام الاجزاء اللاحقة الصحيحة إليها ،
وصحتها في أوّل الكلام لاحتمال كون السورة الزائدة متخلّلة بينها وبين السابقة فلا
يقين بصحّتها على هذا الفرض ، لاحتمال انقطاع الهيئة الاتصالية بالسورة الزائدة
كما تنقطع بالحدث في الأثناء وبالسكوت الطويل.
فإن قيل : ان
مجموع السابقة واللاحقة ذو صحة متيقنة فنستصحب حينئذ بقاء هذه الصحة بعد تحقق
السورة الزائدة في الأثناء ليقين السابق والشك اللاحق.
قلنا : ليس لمجموع
السابقة واللاحقة حالة سابقة.
فإن قيل : انّا
نستصحب قابلية الاجزاء السابقة للصحّة ، إذ قبل تحقّق الزيادة كانت القابلية
للصحّة متيقنة وبعد تحقّقها نشك في بقاء القابلية وزوالها فنستصحب بقائها.
قلنا : هذا
الاستصحاب لا يخلو من إشكال ، إذ ليس للصحّة المستصحبة حكم الشرعي إلّا على القول
بالأصل المثبت ، إذ لازم العقلي للصحة الاجزاء وسقوط الإعادة والقضاء.
ولكن قال المصنّف قدسسره : ان النقض والابرام في أطراف هذا الاستصحاب خارجان عمّا
هو المهم في هذا المقام ، لأنّ المهم لنا احراز صحّة العبادة مع زيادة السورة
الكاملة بحيث يسقط بهذه العبادة المشتملة على الزيادة أمر المولى الجليل (جلّت
عظمته).
ولا يخفى أن هذه
الصحة لا تثبت بالاستصحاب ، إذ المراد منها هو الصحة
الفعلية اليقينية
وتثبت به الصحة الاحتمالية التقديرية كما لا يخفى. وسيأتي تحقيق هذا في مبحث
الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
الشك في اطلاق الجزء ، أو الشرط لحال العجز
قوله
: الرابع أنّه لو علم بجزئية شيء ، أو شرطيته في الجملة ...
قال المصنّف قدسسره : التنبيه الرابع إذا علمنا إجمالا بجزئية القراءة للصلاة
وبشرطية الستر لها من طريق الاجماع ، أو من الدليل المعتبر ، ولكن نشك في كون
جزئيتها وشرطيته لها ثابتا في حال التمكن منهما وفي حال العجز عنهما ، أو ثابتا في
حال التمكّن والقدرة فقط ، فيكون لازم الجزئية المطلقة والشرطية على كل حال سقوط
الأمر بالمركب والمشروط بالمدة في حال العجز عنهما ، لأنّ المكلّف ليس بقادر على
إتيان المأمور به وإيجاده.
ولا ريب في أن
القدرة من شرائط التكليف كما يكون لازم الجزئية والشرطية في حال التمكن بقاء الأمر
بالمركب والمشروط في حال العجز عن القراءة والستر لأنّ المكلف قادر على إيجاد
المأمور به حينئذ لاختصاص الجزئية والشرطية في حال تمكّن المكلف عن القراءة والستر
وفي حال العجز عنهما ليست القراءة بجزء ولا يكون الستر بشرط.
وعليه فقد تمكن
المكلف من إتيان الصلاة بلا قراءة وبلا ستر ، وإذا شككنا في جزئية الشيء للمركب ،
أو في شرطيته له بهذا النحو من الشك.
والحال انّه ليس
الدليل الذي يعيّن الحال بموجود في البين وكذا ليس الدليل المطلق بموجود كي يعين
أحد طرفي الاحتمال المذكور. اما لو كان اطلاق دليل اعتبار الشيء المردّد جزء
موجودا ، أو شرطا ، أو إطلاق دليل المأمور به موجودا
لتعينا جزئية
القراءة وشرطية الستر على نحو الاطلاق بحيث يسقط التكليف بالمركب المشروط في حال
العجز عنهما.
وامّا لو كان دليل
الجزئية والشرطية إجماعا لتعين الجزئية والشرطية في حال التمكّن منهما لأنّ
الاجماع دليل لبي لا لسان له فيؤخذ القدر المتيقّن منه وهو اعتبار القراءة والستر
في المركب الاعتباري العبادي حال التمكن كما إذا كان دليل اعتبار الشيء المردّد
مجملا ، أو مهملا فيؤخذ حينئذ القدر المتيقّن أيضا وهو اعتبار كل واحد منهما في
حال التمكّن والقدرة.
أمّا لو لم يكن
واحد من الامور المذكورة من إطلاق دليل اعتبار الشيء المردّد ومن اطلاق دليل
المأمور به ومن الاجماع ومن إجمال دليل الاعتبار اهماله لكان مقتضى حكم العقل
براءة ذمّة المكلف عن وجوب سائر الأجزاء إذا عجز عن القراءة والستر لأنّ المعلوم
لنا هو الصلاة مع السورة والستر ، فالتكليف مقيّد بهما وإذا عجز عنهما فالتكليف لا
بدّ أن يكون ساقطا لانتفاء المقيّد بانتفاء قيده ولانعدام المشروط بانعدام شرطه
والتكليف بالصلاة الخالية عن السورة والستر مشكوك فيه وهو مجرى البراءة فإذا لم
يعلم التكليف من قبل المولى الجليل بوجوب الباقي فالعقل يحكم بالبراءة وبعدم وجوب
الباقي فالعقاب على ترك الباقي بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان وهما قبيحان
عقلا لأنّهما ظلم على العباد والظلم لا يصدر من المولى الحكيم لأنّه قبيح كما ان
العقل يحكم بقبح العقاب في جميع الشبهات البدوية.
الشك في اطلاق الجزئية والشرطية
قوله
: لا يقال نعم ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية الشرطية ...
قد مرّ سابقا أنّه
يستقل العقل بالبراءة عن وجوب الباقي في صورة العجز عن
القراءة والستر
ولكن زعم المتوهّم أن حديث الرفع يقتضي رفع الجزئية والشرطية في حال التعذّر
والعجز.
وعليه فيجب الباقي
كما إذا نشك في جزئية الشيء للمركب العبادي ، أو في شرطية الشيء له في حال الجهل
والنسيان. فيقتضي حديث الرفع وحديث الحجب وحديث السعة عدم جزئيته وعدم شرطيته.
خلاصة التوهّم :
انّه إذا عجز المكلف عن القراءة والستر فلا يحكم العقل بالبراءة عن وجوب الباقي بل
يكون المقام من موارد اصالة الاشتغال لا أصالة البراءة العقلية ، إذ يقتضي حديث
الرفع ان جزئية الشيء المردد كالقراءة وشرطيته كالستر تختصان بحال التمكن منهما.
وعليه إذا عجز
المكلف عنهما فتسقط الجزئية والشرطية وحينئذ لا بد أن يأتي سائر الاجزاء والشرائط
بحكم حديث الرفع ونحوه.
أجاب المصنّف قدسسره عنه بأنّه لا مجال لهذا التوهم في هذا المقام أصلا لأن
حديث الرفع ونحوه في مقام الامتنان على العباد والأمّة والامتنان يقتضي رفع
التكليف عنهم لا إثباته عليهم.
وعليه فلا يصح أن
يثبت وجوب سائر الاجزاء والشرائط بحديث الرفع يكون المراد منه جملة (رفع ما لا
يعلمون).
فإن قيل : لا
يرتفع وجوب الباقي بنسيان الجزء بالاتفاق ، فكذا لا يرتفع بالعجز عن الجزء ، أو
الشرط.
قلنا : فرق بين
العجز والنسيان بأن أجراء الحديث حال التعذر عن الجزء الشرط في المقام موجب لوجوب
فعل الباقي وهو موجب لكلفة المكلف وهي خلاف الامتنان وليس الأمر كذلك في النسيان
في اجراء الحديث فيه بعد الالتفات إلى النسيان وهو موجب لنفي وجوب الإعادة وفي ذلك
كمال الامتنان.
واما فعل الناسي
للناقص فليس مستندا إلى اجراء الحديث كي يقال انّه خلاف الامتنان ، بل هو مستند
إلى قاعدة الميسور ، وإلى الدليل الآخر.
قوله : نعم ربّما
يقال : بأن قضيّة الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي ...
قال المصنّف قدسسره : انّ بعض أرباب التحقيق (رض) تمسّك في بعض الصور بكون
الجزء المتعذر فيه قليلا بحيث يكون الباقي معظم الاجزاء بالاستصحاب.
أمّا بيانه فيقال
: انّ كل الاجزاء قبل تعذر بعض الاجزاء كان واجبا قطعا وبعد تعذّر بعض الأجزاء نشك
في بقاء وجوب الباقي وزواله فنستصحب وجوبه.
فإن قيل : يشترط
في الاستصحاب بقاء الموضوع ، وفي المقام ليس الموضوع باقيا لأنّ كل الاجزاء غير
معظم الاجزاء يدل على هذه المغايرة عدم صحّة حمل أحدهما على الآخر فلا يصح أن تقول
كل جزء معظم الاجزاء وبالعكس.
قلنا : ان بقاء
الموضوع انّما يكون بنظر العرف لا بدقة العقل ولا ريب في ان الموضوع باق بنظر
العرف ، إذ يتحقّق في ضمن كل الأجزاء معظم الاجزاء ، والعرف لا يرى الفرق بينهما.
وبعبارة اخرى وهي
ان عمل المركب كان قبلا واجبا والآن كما كان باقيا على وجوبه.
فاستشكل على جريان
الاستصحاب بأن وجوب الاجزاء سابقا كان غيريا في حال التمكّن من جميع الاجزاء لأن
تحصيل الاجزاء مقدّمة لتحصيل الكل ، وهو مسمّى الصلاة ، والمسمّى يكون مأمورا به.
امّا الوجوب الذي يثبت بالاستصحاب فهو وجوب نفسي ، إذ ليس الكل بموجود كي يقال ان
تحقّقها مقدّمة لتحقّقه.
فالنتيجة أن وجوب الغيري مرتفع من جهة العجز عن القراءة والستر
يقينا والوجوب النفسي ليس له حالة سابقة ، فلا وجه للاستصحاب لأنّ السابق معدوم
والموجود غير مسبوق بالحالة السابقة. ولهذا أشار المصنّف قدسسره بقوله : ولكنّه لا يكاد
يصح إلّا بناء على
صحّة القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وهو عبارة عن وجود الكلّي في ضمن فرد معيّن
قطعا كتحقّق الحيوان في ضمن الحمار مثلا. ولكن علمنا بارتفاع هذا الفرد ولكن
احتملنا وجود فرد آخر مقارن مع وجود الفرد الأوّل أو مقارن مع ارتفاعه كما إذا
علمنا بوجود حمار في الدار وعلمنا بخروجه عنها لكن احتملنا بقاء الحيوان في الدار
لاحتمال دخول فرس فيها ولو مقارنا مع خروج الحمار عنها.
وكذا يقال فيما
نحن فيه ان الصلاة كانت واجبة في ضمن فرد الخاص الذي هو الصلاة مع السورة ومع
الستر ولكن يرتفع وجوب هذا الفرد الخاص بواسطة العجز عن القراءة والستر ، ولكن
احتملنا وجوب الصلاة في ضمن الفرد الآخر وهو الصلاة بلا قراءة وبلا ستر مقارنا مع
ارتفاع وجوب ذاك الفرد ، ولكن ثبت في محله ان هذا الاستصحاب ليس بحجّة. وعليه فلا
فائدة في استصحاب بقاء الوجوب ، هذه وجه الأوّل لصحّة الاستصحاب.
واما الوجه الثاني
لصحّة الاستصحاب في هذا المقام هو المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب.
أمّا بيانه فانّ
أجزاء الباقية والصلاة التي تعذّر فيها بعض الاجزاء يعدّان شيئا واحدا عرفا ،
فالموضوع بتسامح العرفي باق ويصح أن نستصحب الوجوب للباقي كما نستصحب بقاء كرية الماء
إذا تلف بعض أجزائه ونقول : ان هذا الماء كان كرا قبل تلف بعض الأجزاء وبعد التلف
نشك في بقاء كريته وزوالها فنستصحب بقاءها.
استصحاب الوجود
ولا يخفى عليك ان
هذا الماء بعد تلف بعض أجزائه يكون غير الماء قبل تلف
بعض الاجزاء بدقة
العقلية ، ولكن بنظر العرف يكون هذا الماء عين ذاك الماء ، وكذا ما نحن فيه ، إذ
يكون بنظر العرف باقي الاجزاء بعد تعذّر القراءة والستر عين الصلاة السابقة التي
كانت قبل تعذرهما.
وعليه فيكون
الاستصحاب مشروطا بأنّ تعذّر القراءة والستر غير موجب للمباينة بين الحالتين
السابقة واللاحقة بحيث يكون الباقي عين الصلاة السابقة. ولكن لا يخفى عليك أنّه
إذا تعذّر الركوع والسجود فلا يبعد أن لا يصدق البقاء ويكون الباقي غير الموجود
سابقا.
وبالجملة يشترط في
الاستصحاب بقاء الموضوع ولو كان ثابتا بتسامح العرفي.
خلاصة
الكلام إذا صدق عرفا مع
تعذّر كل واحد من القراءة ، أو الستر بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي ، إذ يرى
العرف ان الموضوع السابق باق بعد تعذّر بعض الأجزاء والشرائط ولا يرى العرف أن
الباقي أمر جديد حادث وارتفاع الوجوب للباقي لو قيل بعدم وجوب الباقي ، فبقاء
الوجوب للباقي وارتفاعه على تقدير وجوب الباقي وعلى تقدير عدم وجوب الباقي يدلّان
على ان بقاء الموضوع وعدم بقائه إنّما يكونان بنظر المسامحي أهل العرف وإلّا فيكون
معظم الاجزاء غير كل الاجزاء بالدقّة العقلية.
ويأتي شرح أقسام
استصحاب الكلّي وتحقيق الكلام في تعيين موضوع الاستصحاب وان المرجع في تعيينه هو
نظر أهل العرف دون العقل ودون لسان الدليل في آخر مبحث الاستصحاب إن شاء الله
تعالى.
ولا بأس بالإشارة
الاجمالية إلى بيان أقسام استصحاب الكلّي وهي أربعة :
القسم الأوّل ما
إذا علمنا بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن ثم شككنا في بقاء هذا الفرد وارتفاعه
فلا محالة نشك في بقاء الكلّي وارتفاعه أيضا ، إذ تحقّقه بتحقّق
الفرد وانعدامه
بانعدامه فإذا كان الأثر الشرعي للكلّي ، فيجري فيه الاستصحاب. أمّا مثاله فإذا
علمنا بوجود زيد في الدار فنعلم بوجود الإنسان فيها ثم شككنا في خروج زيد عنها
فنشك في بقاء الإنسان فيها ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في بقاء زيد فيها إذا
كان له أثر.
القسم
الثاني ما إذا علمنا
بوجود الكلي في ضمن فرد مردّد بين متيقّن البقاء ومتيقّن الارتفاع ، كما إذا علمنا
بوجود إنسان في الدار مع الشك في كونه زيدا أو عمروا ، ولكن مع العلم بأنّه لو كان
زيدا لخرج عنها يقينا ، ولو كان عمروا لبقى يقينا.
ومثاله في الحكم
الشرعي ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البول والمني فتوضأنا فنعلم أنّه لو كان
الحدث الموجود هو الأصغر لارتفع ، ولو كان هو الأكبر لبقى. فنجري الاستصحاب في
الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر ونحكم بترتّب أثره وذلك كحرمة مس كتابة القرآن
وعدم جواز الدخول في الصلاة ، وكذا نستصحب بقاء الإنسان الجامع بين زيد وعمرو في
الدار.
القسم
الثالث ما إذا علمنا
بوجود الكلّي في ضمن فرد معيّن ولكن علمنا بارتفاع هذا الفرد ، ولكن احتملنا وجود
فرد آخر مقارن مع وجود الفرد الأوّل أو مقارن مع ارتفاعه كما إذا علمنا بوجود زيد
في الدار وعلمنا بخروجه عنها لكن احتملنا بقاء الإنسان في الدار لاحتمال دخول عمرو
فيها ولو مقارنا مع خروجه عنها ، وهذا المثال قد مضى.
القسم
الرابع ما إذا علمنا
بوجود فرد معيّن وعلمنا بارتفاع هذا الفرد ، ولكن علمنا بوجود فرد معنون بعنوان
يحتمل انطباقه على الفرد الذي علمنا ارتفاعه ويحتمل انطباقه على فرد آخر.
وعليه فلو كان
العنوان المذكور منطبقا على الفرد المرتفع فقد ارتفع الكلّي
ولو كان منطبقا
على غيره لكان الكلي باق.
مثاله ؛ إذا علمنا
بوجود زيد في الدار وعلمنا بوجود متكلّم فيها ثم علمنا بخروج زيد عنها ، ولكن
احتملنا بقاء الإنسان فيها لاحتمال أن يكون عنوان المتكلّم منطبقا على فرد آخر.
مثاله في الحكم
الشرعي ما إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس مثلا واغتسلنا منها ثم رأينا المني في
ثوبنا يوم الجمعة مثلا فنعلم بكوننا جنبا حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل أن يكون
هذا المني من الجنابة التي اغتسلنا منها وأن يكون من غيرها ، هذه هي أقسام استصحاب
الكلّي.
وامّا تفصيل الفرق
بين كل واحد من الأقسام من القسم الآخر وكذا تفصيل جريان الاستصحاب فيها وعدم
جريانه فيها فيأتيان في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
قاعدة الميسور
قوله
: كما أن وجوب الباقي في الجملة ربّما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله ...
واستدل لوجوب
الباقي بعد حصول العجز عن المركب بتمامه بقاعدة الميسور المستفادة من الخبر النبوي
وهو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ، ومن الخبرين
العلويين وهما قوله عليهالسلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» و«ما لا يدرك كلّه لا يترك
كلّه» ، وكل واحد من هذه الروايات موجودة في كتاب غوالي اللئالي.
ولا يخفى أن دلالة
الأوّل على المدعى مبنيّة على كون كلمة (من) للتبعيض
وعلامته صحّة وقوع
لفظ بعض موقعها ، أي إذا أمرتكم بشيء فأتوا بعضه وقت استطاعتكم وقدرتكم ، نحو قوله
تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ) ، أي بعضهم ، أي إذا أمرتكم بشيء فأتوا بعضه وقت استطاعتكم
وزمان قدرتكم بعد تعذّر الإتيان بجميعه ، فالاستدلال به مبتن على كون كلمة (من) تبعيضية
وال (ما) مصدرية ظرفية أو موصولة ، أو موصوفة بدلا من (منه).
ويحتمل أن تكون
بيانية وهي التي يكون مدخولها جنسا نحو قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ، أي الذي هو الأوثان وعلامتها حلول لفظ الذي موقعه كما في
الآية الشريفة المذكورة ، وأن تكون بمعنى الباء جيئت للتعددية نحو قوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ، أي بطرف خفي ، وعلى هذين الاحتمالين لا يدل الحديث
الشريف على وجوب الإتيان ببعض أجزاء المركب بعد تعذر القراءة والستر ، إذ يصير
معناه وجوب الإتيان بشيء مقدور ، ولا نزاع فيه ، أي إذا أمرتكم بشيء فأتوا الذي
استطعتم به ، أو فأتوا بشيء استطعتم به.
ولكن الأظهر ان
الإتيان يتعدّى بالباء إلى المأتي به نحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَ) وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ). وعليه فالأظهر كون (من) تبعيضية.
وفي ضوء هذا لا
يدل على المدعى كما لا يخفى على أهل الفن ، ولكن ظهور كلمة (من) في التبعيض لا
يخفى على أحد ولكن ظهورها في تبعيض الاجزاء غير واضح لاحتمال أن يكون التبعيض
بلحاظ أفراد المأمور به لا بلحاظ أجزائه ، أي إذا أوجبت عليكم شيئا فأتوا منه ما
دام قدرتكم عليه ، فكل فرد من أفراد المأمور به إذا كان مقدورا لكم فأتوا منه وكل
فرد من أفراد المأمور به إذا لم يكن مقدورا لكم فهو ساقط عنكم ، هذا أوّلا.
وثانيا لو سلمنا
ظهورها في التبعيض بحسب الاجزاء فلا محيص عن أن
يكون بلحاظ
الافراد من جهة لزوم مطابقة الجواب للسؤال عن تكرار الحج بعد أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالحج.
والتفصيل انّه قد
روى أبو هريرة بطرق العامة قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أيّها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجّوا فقال
رجل : أكلّ عام يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فسكت صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى قالها ثلاثا ، أو فقال : ان الله كتب عليكم الحج فقام
عكاشة ويروى سراقة بن مالك فقال : في كل عام يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأعرض عنه حتى أعاد مرّتين ، أو ثلاثا ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجب ولو
وجب ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتم وانّما هلك من كان قبلكم بكثرة
سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم (عليهم الصلاة والسلام) فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه
ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، أو فدعوه. وترجمة الحديث واضح. ولا بأس
بالإشارة إلى ترجمته ، ويقال : ان بعد إعلام الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم الأمة بوجوب الحج قام سراقة بن مالك أو عكاشة فقال : ان
الحج واجب علينا في كل عام حتّى كرّر هذا الكلام فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم في مقام العتاب عليه : ويحك وما يؤمنك قولي نعم عن وجوب
الحج من قبل الله تعالى عليكم ولو وجب عليكم في كل سنة لما كان مقدورا لكم ولو
تركتم في كل عام الحج لكفرتم ، إذ ترك الحج عمدا موجب للكفر وخلّوا سبيلي ولا
تسألوا عنّي كثيرا ، إذ هلك الامم الماضية بكثرة السؤال وبكثرة الاختلاف والقيل
والقال إلى أنبيائهم في كثير من الأوقات والأزمان (عليهم الصلاة والسلام). وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا أوجبت عليكم شيئا فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم
عن شيء فدعوه ، أو فاجتنبوه.
قوله
: ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضا ...
قد ظهر لك من عدم
ظهور الخبر النبوي في التبعيض بحسب الاجزاء ، قد ظهر الاشكال في دلالة الخبر
الثاني على المدعى ، إذ يرد الاشكال في دلالته
من وجهين :
أحدهما : ان الميسور على نحوين :
الأوّل
: أن يكون بحسب
الاجزاء.
والثاني
: أن يكون بحسب
الافراد ، والمفروض كون الاستدلال به على المدعى منوطا بإرادة الميسور بحسب
الاجزاء ولكن يحتمل أن يكون الميسور بحسب الافراد.
وعليه لا يصلح
الاستدلال به لما نحن فيه ، إذ يحتمل عدم سقوط الميسور من الاجزاء بواسطة معسورها
، كذا يحتمل عدم سقوط الميسور من أفراد العام من جهة معسورها.
مثلا ؛ إذا أمرنا
المولى باكرام العلماء بقوله : أكرم العلماء ، ويكون مصاديقهم مائة كاملة ولكن
يمكن لنا إكرام ثمانين فردا من أفرادهم ولا يمكن لنا إكرام عشرين فردا من أفرادهم
ومصاديقهم فتجري القاعدة الميسور في هذا المقام ويكرم الثمانون فردا.
وفي ضوء هذا لا
ترتبط هذه القاعدة بما نحن فيه وهو عبارة عن الإتيان بالمركب ذي أجزاء إذا تعذّر
بعض أجزائه. وفيه : أنّه يحتمل احتمالا قويّا أن يكون المراد مطلق الميسور سواء
كان ذا أجزاء ، أم كان ذا أفراد نظرا إلى اطلاق الحديث.
وثانيهما : وهو أن شمول الميسور للمستحبّات مانع عن التمسّك بقاعدة
الميسور على وجوب الباقي من أجزاء المأمور به ، أو بتقرير آخر وهو أنّه لا يدل
الحديث المذكور على عدم السقوط لزوما بسبب المعسور لعدم اختصاصه بالواجب فيتعذّر
حمل قوله عليهالسلام «الميسور لا يسقط
بالمعسور» على الوجوب لأنّه يلزم منه خروج المستحبّات إذا تعذّر بعض أجزائها ، إذ
لا ريب في عدم وجوب الباقي فيها.
وعليه فيدور الأمر
حينئذ بين تخصيص الحديث الشريف بالواجبات فقط ،
وبين حمله على
ثبوت حكم الميسور ولو بنحو الاستحباب ، والثاني أولى من الاول لأنّه أظهر منه من
جهة الاطلاق ؛ فلا تدل قاعدة الميسور على وجوب الباقي كما لا يخفى.
قوله : إلّا أن
يكون المراد عدم سقوطه بما له من الحكم وجوبا كان ندبا ...
هذا استدراك على
الإشكال الوارد على الاستدلال بالحديث الشريف وخلاصة الاستدراك ودفع الاشكال أن
المراد من عدم السقوط ليس مجرّد المطلوبية ، أي مطلوبية إتيان الميسور بنحو الوجوب
حتّى يرد الإشكال المذكور. بل المراد منه عدم سقوط حكم الميسور وحينئذ تقتضي
القاعدة في الواجبات وجوب الباقي وفي المستحبّات استحبابه فيتم المطلوب.
فإن قيل : لم
يعبّر في الحديث الشريف بالحكم ، أي حكم الميسور لا يسقط.
قلنا : تعارف التعبير
عن مقام ثبوت الحكم التكليفي ، أو نفيه بثبوت موضوعه أو نفي موضوعه كما في حديث لا
ضرر ولا ضرار في الإسلام بناء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى من كون المراد من
هذا الحديث نفي الحكم الثابت للموضوع الضرري ، أي ليس الوجوب للوضوء الضرري وللغسل
الضرري مثلا. وكذا الحديث الشريف ، أي «حكم الميسور لا يسقط» بسبب تعسّر البعض
وكذا تعارف التعبير عن مقام ثبوت الحكم الوضعي ، أو نفيه بثبوت موضوعه ، أو نفي
موضوعه نحو : لا بيع إلّا بالتقابض ، أي لا صحّة لبيع الصرف إلّا بالتقابض.
وأمّا مثال ثبوت
الحكم التكليفي بثبوت موضوعه فمثل أن يقال : التكبيرة الاحرام مثلا ثابت في
الشريعة المقدّسة ، أي وجوبها ثابت فيها.
فالمراد من عدم
سقوط الميسور عدم سقوطه بما له من الحكم وجوبا كان ندبا ، كما أن الظاهر من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» هو نفي ما للضرر من الحكم
تكليفا كان ، أو وضعيا ، وليس المراد عدم سقوط الميسور بنفسه
وبقائه بعينه في
عهدة المكلف كي لا يشمل الحديث الشريف المستحبّات إذا كان عدم السقوط بنحو اللزوم
، أو لا يشمل الواجبات إذا كان عدم السقوط لا بنحو اللزوم.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
حمل عدم سقوط الميسور على البقاء في العهدة يلزم منه خروج المستحبّات جزما ، إذ لا
عهدة لها ، وانّما تكون العهدة للواجبات فقط ، أو إشارة إلى أن نفس الميسور باق
على حاله سواء كان واجبا ، أم كان مستحبّا.
والتفصيل فإن كان
كان واجبا فهو باق على حاله ، أي كان واجبا ؛ وإن كان مستحبّا فهو باق على حاله ،
أي كان مستحبّا.
وفي ضوء هذا فلا
يتغيّر حكم الميسور بعد تعسّر بعض الاجزاء والشرائط ، وعليه لا فرق بين حكم
الميسور قبل التعسّر وبعد التعسّر.
وفي ضوء هذا لا
حاجة إلى الالتزام بعدم سقوط بما له من الحكم بعد فرض أن المراد من عدم سقوط
الميسور عدم سقوطه بنفسه كما لا يخفى.
قوله
: وامّا الثالث فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الافرادي ...
قد استشكل في
دلالة الحديث الثالث على المدعى من وجوه أربعة :
أحدها
: ان جملة لا يترك
كلّه خبرية لكون ال (لا) فيها نافية وليست بناهية كي تكون إنشائية دالّة على حرمة
الترك مطابقة وكي تدل بالالتزام على وجوب إتيان معظم الاجزاء ، أو أكثر الافراد ،
وإذا كانت خبرية فلا تدل إلّا على الرجحان أو رجحان إتيان المعظم ولا تدل على حرمة
الترك كي تدل على وجوب الإتيان بالباقي.
ثانيها
: أنّه لو سلم
ظهورها في الحرمة من باب المماشاة مع الخصم فالأمر يدور بين حمل الجملة الخبرية
على مطلق المرجوحية كي تلائم عموم الموصول
الشامل للواجبات
والمندوبات جميعا ، وبين تخصيص الموصول بالواجبات واخراج المندوبات عنه ليلائم
ظهور الجملة في الحرمة بناء على كون اللا ناهية. ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
ثالثها
: أنّه من المحتمل
أن يكون لفظ الكل في قوله عليهالسلام «ما لا يدرك كلّه»
للعموم الافرادي لا العام المجموعي فيختص بعام له أفراد وذلك كالعالم مثلا في قولك
: أكرم كلّ عالم ، فلا يختص بمركّب له أجزاء كالصلاة والحج مثلا ليستدل به في
المقام.
وقد أشار المصنّف قدسسره إلى الإشكال الثالث بقوله : فبعد تسليم ظهور كون الكل في
المجموعي ، وإلى الإشكال الأوّل بقوله : إلّا على رجحان الإتيان ، وإلى الإشكال
الثاني بقوله : لو سلم موجبا لتخصيصه ، أي لتخصيص الموصول بالواجب لو لم يكن ظهوره
، أي ظهور الموصول في الأعم قرينة على التصرّف في ظهور «لا يترك» بحمله على
الكراهة ، أو مطلق المرجوحية من النفي ، وهو عبارة عن جملة لا يترك على تقدير كون
اللا فيها ناهية فتنتفي دلالة جملة لا يترك على الوجوب لكونها حينئذ جملة إنشائية
دالّة على الكراهة.
فإن قيل : انّه
على تقدير كون اللا ناهية تكون جملة لا يترك ظاهرة في الحرمة بل تكون حقيقة فيها.
وعلى هذا فلم حملت على الكراهة؟
قلنا : إنّ جملة
ما لا يدرك كلّه تشمل الواجبات والمستحبّات بواسطة الماء الموصولة.
ومن الواضح أنّه
لا يحرم ترك المستحبّات وحينئذ لا بد أن تكون ظاهرة في مطلق الرجحان ، أي رجحان
فعل الباقي ومرجوحية الترك سواء كان مع المنع من النقيض ، أم كان مع عدم المنع من
النقيض. وعليه فتشمل الجملة الواجبات والمستحبّات.
فإن قيل : إنّ
جملة لا يترك ظاهرة في الوجوب بالدلالة الالتزامية بواسطة كون اللاظاهرة في النهي
، والنهي حقيقة في الحرمة وهي تدل على حرمة ترك الباقي مطابقة ، وهي تدل بالالتزام
على وجوب الباقي وهذا قرينة على أن المراد من الموصول يكون واجبات فقط.
قلنا : ان الموصول
أظهر في التعميم من جملة لا يترك في الوجوب ، فهذا التعميم قرينة على أن المراد
مطلق المرجوحية ، أي مرجوحية الترك ، أو لأقل من أن يكون الفعل للباقي والترك له
متساويين ، وعليه فليس الحديث الشريف بظاهر في وجوب الباقي بل يصير الخبر حينئذ
مجملا.
وكيف كان فليس
النفي وهو عبارة عن جملة لا يترك ظاهرا في اللزوم والوجوب في هذا المقام لمعارضة
ظهور الموصول في الأعم من الواجب والمستحب مع ظهور لا يترك في الوجوب وعند
المعارضة يقدّم ظهوره على ظهورها لأنّ ظهور الموصول في العموم انّما يكون بالوضع
وظهور لا يترك في الوجوب بناء على كون اللا فيها ناهية إنّما يكون بالالتزام ، إذ
النهي قد دل على حرمة الترك ومن لازمه العقلي وجوب إتيان الباقي ولا ريب في أن
الدلالة الوضعية المطابقية أقوى من الدلالة الالتزامية والقوي لا يقاوم مع الأقوى
ولو قيل بظهوره في اللزوم في غير المقام إذا لم يكن لظهوره معارض أقوى.
بيان التوسعة وتضييق الروايات
قوله
: ثم إنّه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي ...
فلو قطعنا النظر
عن الإشكالات الواردة في سند هذه الروايات لأنها من
المراسيل الضعاف
ولا سيما أن راويها أبو هريرة الذي حاله أظهر من أن يخفى وقد تصدّى لإثبات كونه
متعمّدا في الكذب على الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم سماحة آية الكبرى السيّد شرف الدين العاملي رحمهالله ، وفي دلالتها لأنّ الاحتمالات في الاولى منها ثلاثة :
الاحتمال الأوّل :
أن تكون كلمة (ما) موصولة ومفعولا ل (فأتوا) ، وكلمة (من) تبعيضية متعلّقة بما
استطعتم ؛ فيكون مفاد الرواية وجوب الإتيان بما هو المقدور من أجزاء المأمور به وشرائطه
فالاستدلال بها مبني على هذا المعنى ، ولكن لا يمكن الالتزام بهذا المعنى لوجهين :
الأوّل
: فان المكلف الذي
يعلم بعدم قدرته على الطواف مثلا لا يجب عليه الإتيان بالبقية اتفاقا.
الثاني : لعدم مناسبة هذا المعنى للسؤال فانّ السؤال انّما هو عن
وجوب الحج في كل سنة ولا يناسبه الجواب بوجوب الإتيان بما هو مقدور له من اجزاء
المأمور به وشرائطه ، هذا مضافا إلى لحاظ كلمة من في التبعيض لا تشمل تعذّر الشرط
، وذلك كالستر مثلا.
الاحتمال الثاني :
أن تكون كلمة (ما) موصولة وكلمة (من) بيانية فيكون حاصل المعنى أنّه إذا أمرتكم
بطبيعة فأتوا ما استطعتم من أفرادها ، وهذا المعنى وإن كان متينا في نفسه إلّا
انّه لا ينطبق على مورد السؤال أيضا كالأوّل لعدم وجوب الإتيان بما هو مقدور من
أفراد الحج في كل سنة بلا خلاف بين المسلمين. هذا مضافا إلى كونه خلاف نفس الرواية
فانّها صريحة في عدم وجوب الحج في كل سنة فلاحظ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم ، فلا يمكن حملها على هذا
المعنى.
الاحتمال الثالث :
أن تكون كلمة (من) زائدة كما في قوله تعالى : (قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) ، أي يغضوا أبصارهم ، أو تكون للتعدية بمعنى الباء وكلمة
ما مصدرية زمانية فيكون حاصل المعنى أنّه إذا أمرتكم بشيء فأتوا به حين استطاعتكم
وقدرتكم فتكون الرواية لبيان اشتراط التكليف بالقدرة وهو جار في جميع التكاليف أعم
من الحج وغيره. وهذا المعنى ممّا لا مناص من الالتزام به بعد عدم إمكان الالتزام
بالاحتمالين الأولين.
وفي ضوء هذا فلا
مجال للاستدلال بهذه الرواية على قاعدة الميسور وعلى المدعى كما لا يخفى.
وامّا الرواية
الثالثة فأمرها دائر بحسب مقام التصوّر والثبوت بين صور الأربع :
الاولى
: أن يكون المراد
بالكل في كلتا الفقرتين العموم الاستغراقي.
الثانية
: أن يكون به
فيهما العموم المجموعي.
الثالثة : أن يكون المراد به في الفقرة الاولى العموم الاستغراقي ،
وفي الثانية العموم المجموعي.
الرابعة : عكس الثالثة : اما الصورة الاولى والثانية فلا يمكن
الالتزام بهما ، إذ لا يعقل الحكم بوجوب الإتيان بكل فرد فرد مع تعذّر الإتيان بكل
فرد فرد وكذا الحكم بوجوب الإتيان بالمجموع مع تعذّر الإتيان بالمجموع ، وكذا لا
يمكن الالتزام بالصورة الثالثة ، إذ لا يعقل وجوب الإتيان بالمجموع مع تعذّر
الإتيان بكل فرد فرد.
وفي ضوء هذا
فتعيّن الالتزام بالصورة الرابعة فيكون المراد هو النهي عن ترك لجميع عند تعذّر
المجموع فيكون مفاد الرواية أنّه إذا تعذّر الإتيان بالمجموع لا يجمع في الترك بل
يجب الإتيان بغير المتعذّر. ولا يخفى أن هذا المعنى يشمل الكلّي الذي له أفراد
متعدّدة تعذّر الجمع بينهما والكل الذي له أجزاء مختلفة الحقيقة قد تعذّر بعضها ،
وذلك كالصلاة التي تعذّر فيها القراءة والستر مثلا ، فتكون الرواية
أعم من المدعى كما
لا يخفى.
وأمّا الرواية
الثانية فهي المرسلة المنقولة عن كتاب الغوالي أيضا عن أمير المؤمنين عليهالسلام انّه قال : «الميسور لا يسقط بالمعسور» وهي كسابقتها من حيث
السند ، وامّا من حيث الدلالة حيث كان الملاك في قاعدة الميسور صدق عنوان الميسور
على الباقي عرفا سواء كان المتعذّر جزءا ، أم كان شرطا ، مثلا إذا تعذّرت القراءة
في الصلاة ، أو تعذّر الشرط فيصدق عنوان الميسور على بقيّة العمل عرفا بعد تعذّر
القراءة والستر مثلا حقيقة لا مجازا ، وعليه فالقاعدة جارية مع تعذّر الشرط أيضا
لصدق عنوان الميسور حقيقة على الباقي مع تعذّر الشرط عرفا كصدق عنوانه عليه مع
تعذّر الجزء في الجملة ، أي إذا تعذر قليل من الجزء لا معظم الاجزاء ولا ركنا.
امّا إذا تعذّر المعظم ، أو الركن من أركان الصلاة فلا يصدق حينئذ عرفا عنوان
الميسور على الباقي فصدق عنوان الميسور عرفا على الباقي حقيقة إذا تعذّر الشرط
ولكن يباين واجد الشرط لفاقد الشرط بنظر دقّة العقلي ، اما إذا كان الملاك في صدق
عنوان الميسور تشخيص العرف ولهذا يصدق على المشروط بدون شرطه أيضا ، كما يصدق عليه
مع وجوده وتحقّقه وبناء على كون الملاك في الصدق هو العرف لا العقل ربّما لا يكون
الباقي الفاقد لمعظم الاجزاء ، أو لركنها موردا للقاعدة إذا لم يصدق على الباقي
عنوان الميسور عرفا وإن كان الباقي الفاقد للركن ، أو للمعظم غير مباين للواجد
عقلا ، إذ الباقي الفاقد من مراتب الصلاة وميسورها عقلا فيكون الميسور العقلي أعم
من الميسور العرفي فكل الميسور العرفي ميسور العقلي وليس كل الميسور العقلي بميسور
العرفي مادة اجتماعهما فيما إذا تعذّر بعض الأجزاء والشروط ومادة الافتراق عن جانب
الميسور العقلي فيما إذا تعذّر معظم الاجزاء ، أو ركن من الأركان وهذا واضح. فيصدق
على الباقي حينئذ عنوان الميسور عقلا لأنّ الصلاة ذات مراتب :
مرتبة العليا :
وهي الصلاة التي تكون واجدة لجميع الأجزاء والشرائط.
ومرتبة الوسطى :
وهي الصلاة التي تكون فاقدة لبعض الاجزاء والشرائط.
ومرتبة الدنيا :
وهي الصلاة التي تكون فاقدة لمعظم الاجزاء ، أو فاقدة لركن من الأركان.
وأمّا الحديث
الثاني فمن حيث الدلالة تحتمل فيها أمور :
الأول : أن تكون
كلمة لا نهيا ابتداء ، ولكن التحقيق عدم إمكان الالتزام بهذا الاحتمال لأنّ النهي
سواء كان مولويا ، أم كان إرشاديا لا بد من أن يتعلق بفعل المكلف وما هو تحت قدرته
واختياره وجودا وعدما وسقوط الواجب عن ذمة المكلف كثبوته بيد الشارع المقدّس وليسا
بمقدورين للمكلف كي يصح النهي عن السقوط ولو إرشاديا.
الثاني : أن تكون
الجملة خبرية قصد بها الانشاء فالجملة وإن كانت خبرية ونافية بحسب الصورة اللفظية
إلّا انّها انشائية بحسب اللب والمعنى ، ولا ريب في أن هذا الاحتمال ساقط عن درجة
الاعتبار أيضا لعين ما ذكر في الاحتمال الاول ، إذ لا فرق بين الاحتمال الاول
والاحتمال الثاني إلّا بحسب الصورة فقط.
الثالث : أن تكون
الجملة خبرية محضة اريد بها الاخبار عن عدم سقوط الواجب والمستحب عند تعذّر بعض
أجزاء المركب ، أو تعذّر بعض أفراد الطبيعة أو اخبار عن عدم سقوط وجوب بعض الافراد
، أو استحبابه ؛ فان السقوط والثبوت كما يصح اسنادهما إلى الحكم وكذلك يصح
اسنادهما إلى الواجب والمستحب أيضا فكما يقال سقط الوجوب عن ذمّة المكلف ، أو ثبت
في ذمته كذلك يصح أن يقال سقط الواجب ، أو ثبت في ذمته ، وكيف كان فالرواية تدل
على هذا الاحتمال على بقاء الحكم ، أو متعلّقه في ذمة المكلف عند تعذّر بعض
الاجزاء بعض الافراد فتدل على وجوب المرتبة النازلة من الشيء إذا تعذرت المرتبة
العالية منه فيما إذا عدّت
المرتبة النازلة
ميسورة من المرتبة العالية بنظر العرف مثلا إذا تعذّر الايماء بالرأس والعين
للسجود على ما هو المنصوص فيجب الايماء باليد اليمنى له لقاعدة الميسور ، باعتبار
ان الايماء باليد مرتبة نازلة عن الايماء بالنسبة إلى الايماء بالرأس والعين.
هذا غاية ما يمكن
أن يقال في تقريب الاستدلال بالرواية للمقام.
قوله : نعم ربّما
يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا ...
فقد استدرك
المصنّف قدسسره على ما ذكره سابقا من كون الملاك في جريان قاعدة الميسور
هو صدق عنوان الميسور عرفا على الباقي بعد تعذر بعض الاجزاء وبعض الشرائط.
وقال : إنّ هذا
الملاك مطرد في جميع الموارد إلّا في الصلاة التي قام الدليل الخاص المعتبر على
إتيان بعض أجزائها وإن لم يصدق الميسور عرفا عليه كما أمر في الصلاة بأنّها لا
تترك أصلا وفي جميع الحالات ولو كان الباقي تكبيرة الاحرام فقط ، كما إذا كان
المكلف في حال الغرق ، أو الحرق ، أو الجهاد مع الكفّار بحيث لا يمكن له غير
التكبيرة للإحرام ، لأنّ الشرع قد نسب العرف إلى الخطأ والاشتباه فربّما يلحق شرعا
بالميسور ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئة الشرع العرف في عدم عدّ أهل العرف ذلك
الشيء أمرا ميسورا لعدم اطلاعهم على ما عليه الفاقد لمعظم الاجزاء في حال التعذر
له من قيامه بتمام ما قام عليه الواجد لتمام الاجزاء والشرائط في حال الاختيار من
المصلحة في حق هذا المكلف العاجز ، أو قام الفاقد للمعظم بمعظم ما قام عليه الواجد
له من معظم المصلحة في حقه ، ولهذا أوجب الشارع المقدّس هذه الصلاة على المكلف وقد
حكم ببقاء الوجوب تخطئة للعرف.
اما إذا كان العرف
مطلعا على ما اطّلع عليه الشرع فقد حكم ببقاء الوجوب أيضا. وقد يكون بالعكس بمعنى
أن الشيء ميسور بنظر العرف ولكن ليس بميسور
بنظر الشارع
المقدّس لعدم اشتماله على المصالح ولهذا لم يحكم الشرع بوجوبه.
مثلا إذا تعذّر
بعض أجزاء الوضوء ، أو الغسل فلم يكتف بميسورهما وكذا إذا تعذر بعض شرائطهما حرفا
بحرف ، بل أمر بالتيمّم بدلا منهما.
وعليه فالمناط في
هذه القاعدة صدق اتحاد العرفي بين الباقي والمركب ولكن تجوز للشارع المقدس تخطئة العرف
إثباتا ونفيا بحيث لو اطّلع العرف على اشتمال الباقي بمصلحة تمام المركب ، أو
بمعظم مصلحته لحكم ببقاء وجوبه.
وبالجملة فالمناط
في جريان القاعدة صدق الاتحاد عرفا ويستلزم هذا الاتحاد المذكور اشتمال الباقي على
مصلحة المركب وهي تقتضي في الواجبات وجوبها وفي المستحبّات استحبابها فيحكم ببقاء
حكم الميسور من الوجوب الاستحباب بملاحظة اطلاق الرواية الشريفة.
وامّا إذا لم يصدق
الاتحاد عرفا فلم يحكم بالبقاء إلّا إذا حكم الشرع بالحاق بعض أجزاء المركب
بالمركب وإن لم يتحد معه عرفا من جهة تخطئة الشرع العرف أو حكم الشارع المقدّس
بعدم الالحاق وبسقوط حكم الباقي في الموضع الذي اتحد الباقي مع المركب فيه عرفا
تخطئة واشتباها والشارع المقدّس قد أظهر بحكمه بعدم الالحاق تخطئة العرف.
قوله
: وإذا قام الدليل على أحدهما فيخرج ، أو يدرج تخطئة ، أو تخصيصا ...
والفرق بين
الاخراج والادراج تخطئة للعرف وبين الاخراج والادراج تخصيصا ، أو تشريكا ان
التخطئة لا تكون إلّا في الموضوع فالعرف يرى الموضوع ميسورا والشرع لا يراه ميسورا
، أو العرف لا يراه ميسورا والشرع يراه ميسورا بخلاف التخصيص في الاخراج ، أو
التشريك في الادراج فانّ كل واحد منهما لا يكون إلّا في الحكم مثلا ، فالفرد مع
كونه مندرجا في الموضوع ولكن يخرجه عنه الشارع المقدّس تخصيصا ، أو مع كونه خارجا
عن الموضوع ، ولكن يدرجه فيه الشارع
المقدس تشريكا.
وفي ضوء هذا
فالمراد من الأوّل في قول المصنّف قدسسره هو الاخراج عن تحت الميسور ، وذلك كصلاة فاقد الوضوء
والتيمّم ، حيث ان العرف يعدّها ميسورا ولكن الشارع المقدّس لم يعدّها ميسورا
وأخرجها منه موضوعا من جهة التخطئة أو أخرجها منه حكما من جهة التخصيص ، ومن
الثاني في قوله هو الالحاق والادراج فالتشريك يكون في الحكم من دون الاندراج في
الموضوع والتخطئة تكون بالادراج في الموضوع كما لا يخفى.
قوله
: فافهم ...
وهو اشارة إلى ان
الدليل الشرعي إذا قام على الاخراج ، أو الادراج فهو من باب التخصيص في الحكم ، أو
من باب التشريك فيه لا من باب التخطئة في الموضوع ، إذ لا وجه لتخطئة العرف في
عدّهم الفاقد ميسورا ، أو غير ميسور فانّ ملاك الصدق وعدمه أمر مضبوط عندهم ، وهو
عبارة عن كون الفاقد واجدا للمعظم أو غير واجد له.
وعليه فإذا كان
واجد المعظم الاجزاء فهو ميسور عرفا وإلّا فهو مباين للواجد.
نعم للشارع
المقدّس أن يخرج تخصيصا فردا ، أو يلحق فردا تشريكا من جهة اطلاعه الكامل على عدم
قيامه بشيء ممّا قام به الواجد من المصلحة مع كون الفاقد ميسورا عرفا ، أو من جهة
اطلاعه على قيام الفاقد بتمام ما قام به الواجد ، أو بمعظمه مع عدم كونه ميسورا
عرفا ، إذ للشارع المقدّس علم بحقائق الاشياء وليس هذا العلم لأهل العرف فالشارع
المقدّس قد يتصرّف في الموضوع وقد يتصرّف في الحكم سعة وضيقا كما لا يخفى.
دوران الأمر بين الجزئية والمانعية
قوله
: تذنيب لا يخفى أنّه إذا دار الأمر بين جزئية شيء ، أو شرطيته ...
قال المصنّف قدسسره : أنّه لا يخفى إذا دار الأمر بين جزئية شيء للمأمور به
وبين مانعيته له ، وذلك كالسورة الثانية في الركعة الاولى والثانية بناء على كون
القران بين السورتين مبطلا للصلاة كما ذهب إليه بعض الأعلام بناء على ان القران
بينهما منهي عنه والنهي حقيقة في الحرمة فالقران حرام وكل حرام مبطل كالتكفير
والضحك الكثير وأمثالهما فهذا مبطل. وكذا إذا دار الأمر بين شرطية شيء للمأمور به
، وبين قاطعيته له وذلك كالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث قيل بوجوبه وقال
الأكثر (رض) بوجوب الاخفات وبإبطال الجهر فالجهر بها فيه أمره دائر بين شرطيته
لظهر الجمعة وقاطعيته لهيئة الاتصالية فيما بين اجزاء الظهر.
قال المصنّف قدسسره : بلحاظ العلم بتكليف الصلاتي لا بدّ أن يكرّر المكلّف
الصلاة مرّتين مرّة مع ذاك الشيء المشكوك كونه جزء ، أو مانعا وكونه شرطا ، أو
قاطعا لأنّ هذا الدوران من قبيل الدوران بين الأمرين المتباينين مثال الأمرين
المتباينين كما لا نعلم تفصيلا ان صلاة الظهر امّا واجبة في يوم الجمعة وامّا صلاة
الجمعة واجبة فالمكلف لا بدّ أن يحتاط لإمكانه في هذا المقام وهو يتحقّق بإتيانهما
جميعا ، وكذا فيما نحن فيه يمكن الاحتياط بإتيان الصلاة مع السورة الثانية مرّة
وبإتيانها بدونها مرّة اخرى ، وبإتيانها مع الاستعاذة قبل البسملة مرّة ، وبدونها
قبلها مرّة اخرى. وكذا يمكن إتيان صلاة الظهر يوم الجمعة جهرا بالقراءة مرّة
واخفاتا مرّة اخرى ، ولا يكون هذا الدوران من قبيل الدوران بين المحذورين كي لا
يمكن الاحتياط هاهنا كما زعمه الشيخ الأنصاري قدسسره.
خلاصة الكلام ان
في كل موضع يمكن الاحتياط ، فالعقل يحكم بوجوبه كي
يحصل العلم بحصول
المكلف به وبفراغ الذمة.
واستدل الشيخ
الأنصاري قدسسره على مدعاه بأنّه لا يمكن الاحتياط فيه لأنّ المكلّف ان
أوجد الشيء المشكوك فتحتمل مانعيته وان تركه فتحتمل جزئيته ، وفي ضوء هذا فهو
مخيّر بحكم العقل بين الفعل والترك كما هو مخيّر بينهما في جميع موارد دوران الأمر
بين المحذورين واجيب عنه بأن حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك انّما يكون من
جهة عدم تمكّن الاحتياط ومن جهة عدم تحقّق الامتثال. واما إذا تمكّن المكلف من
امتثال التفصيلي ، أو الاجمالي الذي يتحقق بتكرار العمل والمكلف به فلا يحكم العقل
بالتخيير أصلا ، بل يحكم بالاحتياط والتكرار كما لا يخفى. بل هو أوضح من أن يخفى
على المتأمّل الصادق.
وبقي الفرق بين
الجزء والشرط وبين المانع والقاطع ويقال : ان المأمور به مقيّد بالاجزاء ومشروط
بشرائط ، وذلك كالصلاة التي تقيّدت بالاجزاء العديدة مثل تكبيرة الاحرام ،
والفاتحة ، والركوع ، والسجود ، والذكر ، والتشهّد ، والتسليم. واشترطت بالشرائط
المتكثّرة كالستر ، والاستقبال ، والطهارات الثلاث ، والجهر بالقراءة ، والاخفات
بها ، وإباحة المكان.
وأمّا الفرق بين
الجزء والشرط ففي الجزء التقيّد والقيد داخلان في المأمور به ، وفي الشرط التقيّد
داخل فيه والقيد خارج عنه ، مثلا تقيّدت الصلاة بالركوع فالتقيّد داخل فيها
والركوع داخل فيها لأنّ الصلاة عبارة عن أجزائها كما أن تقيّد الصلاة بالوضوء داخل
ولكن الوضوء خارج عن الصلاة.
وأمّا الفرق بين
المانع والقاطع ، فانّ الأوّل عدمه شرط للمأمور به من دون أن تنقطع به الهيئة
الاتصالية للاجزاء السابقة مع اللاحقة. ولكن الثاني عدمه شرط للمأمور به من جهة
انقطاع الهيئة الاتصالية به فالمانع مثل لبس جلد غير المأكول حال الصلاة مثلا ،
والقاطع كالحدث والاستدبار ونحوهما من القواطع ، والتفصيل موكول في الفقه الشريف.
شرائط الاصول العملية وبيان شرط الاحتياط
قوله
: خاتمة في شرائط الاصول اما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ...
قال المصنّف قدسسره : إنّ خاتمة كتاب البراءة والاشتغال في بيان شرائط الاصول
العملية وهي البراءة بقسميها العقلية والنقلية ، والاستصحاب على قول والاحتياط
والاشتغال ، والتخيير.
امّا الاحتياط
الذي يكون من الاصول العملية فلا يعتبر في حسنه عقلا شيء أصلا ، امّا بخلاف غيره
فانّه يعتبر في البراءة العقلية عدم البيان على التكليف ، وفي البراءة الشرعية
يعتبر عدم العلم والجهل بالحكم الواقعي ويشترط في كليهما الفحص عن الدليل والبيان
على الحكم الشرعي ، ويعتبر في التخيير عدم إمكان الاحتياط عقلا ويعتبر في
الاستصحاب اليقين السابق والشك اللاحق وبقاء الموضوع ، كما ستأتي هذه الشرائط في
محلّها إن شاء الله تعالى.
فالاحتياط حسن عقلا
ونقلا في جميع الحالات سواء كان قبل الفحص كان بعد الفحص سواء قام الدليل على
الحكم الشرعي ، أم لم يقم عليه سواء كان في العبادات ، أم كان في المعاملات.
نعم إذا كان موجبا
للعسر والحرج فلا يجب شرعا ولا يحسن عقلا كما أنّه إذا كان موجبا لاختلال النظام
فلا يجوز عقلا ولا شرعا ، بل يحكم العقل بقبحه حينئذ سواء كان مستلزما للتكرار في
العبادات ، أم لم يستلزم التكرار فيها عرفا.
وتوهّم كون
التكرار في العبادات عبثا ولعبا بأمر المولى (جلّت عظمته) ولا ريب في ان اللعب
والعبث بأمر المولى ينافيان مع قصد الامتثال والقربة التي تعتبر في العبادات عقلا
، وقد سبق هذا في بحث الواجب التعبّدي في الجزء الأوّل.
وفي ضوء هذا فإذا
استلزم التكرار في العبادات كما إذا اشتبه القبلة ، أو اشتبه الثوب الطاهر بالثوب
النجس فلا بدّ للمكلّف أن يفعل صلاة الظهر مثلا أربع مرّات في الجهات الأربع مع
سعة الوقت في الاشتباه الأوّل وأن يفعلها مرّتين في الاشتباه الثاني.
قال المصنّف قدسسره : هذا التوهّم فاسد قطعا لوضوح أن التكرار ربّما يكون بداع
صحيح عقلائي كما إذا اعتاد المكلّف نفسه بإتيان الصلاة ، أو للتقية والخوف ولكن
الداعي على هذا التكرار هو أمر المولى والتكرار بهذه الكيفية يكون طريق الامتثال
لأنّ كيفية ايجاد المأمور به على طرق ، فالمكلف مخيّر في الايجاد بأي طريق كما
انّه مخيّر في الايجاد بأي مكان مباح فقد يجده في المسجد وقد يجده في المدرسة أو
في الدار وقد يجده في أوّل الوقت ، أو في وسطه ، أو في آخره فهذه الكيفيات طرق
امتثال المأمور به وكذا إيجاده مكرّرا طريق الامتثال.
قوله
: مع أنّه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه ...
هذا إشارة إلى
الجواب الثاني ، وقال رحمهالله تعالى : مع أنّ تكرار المأمور به وإن لم يكن بداع صحيح
عقلائي ، ولكن كان أصل إتيان الفعل بداعي أمر مولى المكلّف بالكسر من دون أن يكون
للمكلف داع سوى أمر المولى الواحد الأحد (جلّ جلاله) لما ينافي هذا التكرار قصد
الامتثال والقربة لأنّ اللعب حينئذ في كيفية الإطاعة وليس اللعب بأصل الاطاعة
ونفسها كما لا يخفى ، لأنّ المفروض كون الإتيان بالمحتملات ناشئا من جهة أمر
المولى (عزّ اسمه) وفي ضوء هذا فاللعب انّما يكون في كيفية الامتثال لا في أصل
الامتثال.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
كيفية الامتثال عبارة عن نفس فعل محتملات الواقع فإذا
كانت كيفية
الامتثال لعبا ولغوا امتنع انطباق الاطاعة والانقياد عليها ، وعليه فلا يصح الواقع
إذا كان عبادة لمنافاة اللعب قصد الامتثال وقصد القربة.
والحال أن امتثال
الواقع بهذه الكيفية صحيح تام فيكشف صحّة الامتثال بهذه الكيفية عن انطباق الاطاعة
والانقياد على هذه الكيفية لأنّ العمل المكرّر ناش عن داعي الأمر المحتمل.
ومن الواضح ان
انبعاث العمل على الأمر المحتمل انقياد بل من أعلى مراتب العبودية وهو حسن عقلا
وراجح شرعا كما لا يخفى.
قوله
: بل يحسن أيضا فيما قامت الحجّة على البراءة من التكليف ...
كما يحسن الاحتياط
عقلا على كل حال كذا يحسن في موارد قيام الحجّة على البراءة وعلى عدم التكليف كما
إذا قامت الامارة المعتبرة على حلية شرب التبغ مثلا ، أو على عدم وجوب السورة في
الصلاة ، ومع هذا القيام يحسن الاحتياط وهو يتحقّق في الأوّل بترك شرب التبغ ، إذ
أمره دائر واقعا بين الحرمة والإباحة ، ولا ريب في أن الاحتياط في هذا الدوران
بالترك. وفي الثاني بالفعل لأنّ أمر السورة بعد الفاتحة في الصلاة دائر بين الوجوب
وغير الحرمة وغير الكراهة.
ومن الواضح أن في
هذا الدوران الاحتياط بالفعل ، إذ الفرض هو العلم بعدم مانعية زيادة السورة
الكاملة في الصلاة.
وعلّل المصنّف قدسسره حسن الاحتياط في هذا المورد بقوله : لئلا يقع المكلف في
المفسدة التي تكون في مخالفة التكليف على تقدير ثبوته مثلا إذا قام الخبر المعتبر
على جواز شرب التبغ فإذا ارتكبه المكلف ، ويحتمل أن يقع في مفسدة الحرام لاحتمال
حرمته واقعا وكان في الواقع حراما ، ولئلا يقع في فوت المصلحة التي تكون في
التكليف الواقعي بناء على مذهب العدلية والمعتزلة على فرض ثبوته ، مثلا إذا قامت
الامارة المعتبرة على عدم وجوب السورة في الصلاة ، ولهذا
تركها المكلف ،
ويحتمل أن يقع في فوت الواجب وهو يستلزم فوت المصلحة الواقعية ، وهذا علّة حسن
الاحتياط في هذا المورد المذكور.
اشتراط البراءة
العقلية بالفحص
قوله
: وامّا البراءة العقلية فلا يجوز اجرائها إلّا بعد الفحص واليأس ...
وامّا البراءة
العقلية فيشترط في جريانها الفحص عن الأدلّة الشرعية على التكليف والحكم ، وإذا
فحص المجتهد عنها ويئس منها فالعقل يحكم مستقلا بالبراءة وبقبح العقاب بلا بيان ،
وامّا بدون الفحص عنها فهو لا يستقل بها لعدم احراز العقل موضوعها وهو عدم البيان
بدون الفحص. وعليه فلا بد من الفحص واليأس في اجرائها كما مرّ هذا مفصلا بعد نقل
الكتاب والسنّة والاجماع على البراءة العقلية فليرجع هناك.
اشتراط البراءة
النقلية بالفحص
قوله
: وامّا البراءة النقلية فقضية اطلاق أدلّتها وان كان هو عدم اعتبار الفحص ...
امّا البراءة
النقلية فمقتضى اطلاق أدلّتها مثل كل شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام وحديث الرفع
، والحجب ، وحديث السعة ، وحديث الاطلاق عدم اعتبار الفحص عن الأدلّة على الحكم في
جريانها نظرا إلى إطلاق أدلّتها حيث لم تقيّد بالفحص عن الأدلّة كما هو حالها في
الشبهات الموضوعية ، فإن كانت تحريمية فلا إشكال في عدم وجوب الفحص ، ويدل عليه
إطلاق الأخبار مثل قوله عليهالسلام : «كل شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» ، وقوله عليهالسلام : «حتّى يستبين لك غير هذا ، أو تقوم به البيّنة» ، وقوله عليهالسلام : «حتّى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه الميتة» ، حيث لم
تقيّد هذه الأخبار بالفحص وإن كانت الشبهة وجوبية فمقتضى أدلّة البراءة حتى
العقل عدم وجوب
الفحص أيضا مثلا إذا قال المولى لعبده : أكرم المؤمنين ، فإنّه لا يجب الفحص في
المشكوك حاله في هذا المثال نعم من الشبهات الموضوعية التحريمية ما احرز اهتمام
الشارع المقدّس به جدّا كما في الفروج والدماء والأموال الخطيرة فلا تجري فيها
البراءة حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس.
وعليه فإذا احتمل
احتمالا معتدّا به ان هذه المرأة اخته من الرضاعة ، أو بنته من الرضاعة مثلا لم
يجز له تزويجها ولو بعد الفحص وبعد اليأس وكذا الشبهات الموضوعية الوجوبية التي
أحرز فيها اهتمام الشارع المقدّس كحقوق الناس وجب فيها الفحص بعد اليأس.
فخلاصة
الكلام : انّ الشبهات
الموضوعية التحريمية على نحوين :
الأوّل : ما لم تحرز شدّة اهتمام الشارع المقدّس به فتجري فيه
البراءة عقلا ونقلا من غير اعتبار الفحص في جريانها كما إذا تردّد أمر المائع بين
كونه خمرا ، أو خلّا ، أو بين كونه طاهرا ، أو نجسا.
الثاني : ما احرز فيه اهتمام الشارع المقدّس وفي مثله لا تجري
البراءة لا عقلا ولا نقلا حتّى بعد الفحص بحدّ اليأس إذا لم تزل الشبهة وبقيت على
حالها ، وان الشبهة الموضوعية الوجوبية على قسمين :
الأوّل
: ما احرز فيه
اهتمام الشارع المقدّس وتجري فيه البراءة بعد الفحص وذلك كحقوق الآدمي.
الثاني : ما لم يحرز فيه اهتمام الشارع المقدّس فلا يجب فيه الفحص
وتجري فيه البراءة عقلا ونقلا قبل الفحص فلا يجب الفحص في الشبهات الموضوعية التي
لم يحرز فيها اهتمام الشارع المقدّس بل تجري فيها البراءة لأنّ موضوعها مجرّد عدم
العلم بالواقع وهو حاصل قبل الفحص كما هو حاصل بعد الفحص.
وفي ضوء هذا فلا
ثمرة في الفحص ، نعم لو كان موضوع البراءة عدم الدليل
على الواقع لأشكل
تطبيق أدلّتها في الشبهات قبل الفحص لأجل الشك في الدليل ، بل وبعد الفحص أيضا
إلّا مع العلم بعدم الدليل بعد الفحص وإلّا مع جعل اليأس عن الدليل طريقا إلى
عدمه.
ولكن استدل بعض
أرباب التحقيق على وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بالاجماع أوّلا وبالدليل
العقلي ثانيا. أمّا تفصيل الدليل العقلي فانّه لا موقع للبراءة قبل الفحص لأنّا
نعلم إجمالا بثبوت التكاليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها.
ومن الواضح ان
العقل لا يجوّز اجراء البراءة ، والحال هذا بل حكم العقل بلزوم الفحص.
قوله
: ولا يخفى ان الاجماع هاهنا غير حاصل ونقله لوهنه بلا طائل ...
فقد ردّ المصنّف قدسسره الاجماع بأنّه لا يخفى أن الاجماع على نوعين : المحصل
والمنقول ، والمحصل منه في هذا المقام غير حاصل ، إذ لا يمكن لنا استيفاء أقوال
جميع العلماء (رض) في هذا المقام لتفرّقهم في البلاد النائية المتعدّدة.
وامّا الاجماع
المنقول فيقال : ان مثل هذا الاجماع بملاحظة وهنه وضعفه غير مفيد لعدم كونه حجّة
كما قد سبق هذا في بحث حجّية الاجماع.
وامّا الاجماع
المحصّل فيقال : انّه غير ممكن في الواقعة التي يكون الحاكم فيها العقل ، بل يكون
مستحيلا عادة فيها ، إذ نحتمل احتمالا قويّا أن يكون مستند كثير من العلماء (رض)
وجلّهم لو لا كلّهم حكم العقل ، أي العلم الاجمالي بالتكليف.
وتوضيحه : ان لنا
علما إجماليا بالتكليف فهو لا جرم يكون مانعا عن اجراء البراءة.
وفي ضوء هذا يكون
المستند لجلّهم هو العلم الاجمالي بالتكليف في بين المشتبهات لا رأي الإمام
المعصوم عليهالسلام بحيث يدّعون وصوله إليهم خلفا عن سلف
وجيلا بعد جيل.
إذا تمهّد هذا
فليعلم ان عدم حصول الإجماع لوجهين :
الأوّل
: من جهة حكم العقل
والعلم الاجمالي بالتكليف.
الثاني
: وهو عدم إمكان
استيفاء جميع أقوال العلماء (رض).
فالنتيجة
: أن هذا الاجماع
على تقدير حصوله مدركي فالاعتبار بالمدرك لا الإجماع.
جواب المصنّف عنه
قوله : وأن الكلام
في البراءة فيما لم يكن علم موجب للتنجّز امّا لانحلال العلم الاجمالي ...
قد أجاب المصنّف قدسسره عنه بأنّه لا علم إجمالي يوجب التنجيز للتكليف ويمنع عن
جريان البراءة ، امّا لانحلاله بالظفر على التكاليف بمقدار المعلوم بالاجمال ،
وامّا لعدم الابتلاء إلّا بموارد خاصّة من الشبهات التي لا علم لنا بالتكليف فيها
أصلا.
وقد ثبت في محله
أن احكام غير مورد الابتلاء غير منجزة ولا تجب إطاعتها وإن كان عدم الابتلاء من
جهة عدم الالتفات إلى الاحكام التي في بين الشبهات.
فالنتيجة أن اجراء البراءة في الشبهات الموضوعية ليس بمشروط بالفحص
، وهذا أوضح لمن أمعن النظر.
وجوب التعلّم
قوله
: فالأولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات والأخبار ...
واستدل لوجوب
الفحص في الشبهات الموضوعية ثالثا بالآيات المباركات
والأخبار الشريفة
وهي دالّة على وجوب التفقّه وعلى وجوب التعلّم وعلى ثبوت المؤاخذة على ترك التعلّم
في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وغيرهما من الآيات الدالّة على لزوم التفقّه وعلى وجوب
التعلّم.
وأمّا الأخبار
الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم فهي كثيرة ، مثل قوله عليهالسلام ـ أي قول أبي عبد
الله الصادق عليهالسلام ـ «تفقّهوا في
الدين فانّ من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي» ، ومثل قول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى
الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به وأنّه ليستغفر لطالب العلم
من في السماوات ومن في الأرض حتى الحوت في البحر.
وفضل العالم على
العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر وأنّ العلماء ورثة الأنبياء ان
الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن انّما أورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ
بحظّ وافر» ، ومثل قول الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا ان الله يحب بغاة
العلم» وغيرها من الروايات الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم بل بعضها يدل على
الذم على ترك السؤال عن الامور والمسائل مثل قول إمامنا الصادق عليهالسلام : «هل يسع الناس ترك المسألة عمّا يحتاجون إليه؟ قال عليهالسلام : لا».
ثم انّ مقتضى
الجمع بين الآيات والروايات الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم وبين ما دلّ
باطلاقه على البراءة ، وذلك كأحاديث البراءة هو وجوب تحصيل العلم
__________________
وإزالة الجهل
أوّلا.
وعليه فإذا
تفحّصنا ولم نتمكّن من إزالة الجهل فعند ذلك يكون المجهول مرفوعا شرعا وموضوعا
عنّا ونكون في سعة ما لا نعلم وراحة عنه.
قوله : والمؤاخذة
على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل ...
واستدلّ على وجوب
الفحص عن الدليل الشرعي بالمؤاخذة على ترك التعلّم في مقام الاعتذار عن عدم العمل
بعدم العلم بقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ، (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ويستفاد منهما ان العبد يؤاخذ يوم القيامة على ترك العمل
حال كون العبد معتذرا بعدم العلم ، وهذا العذر منه لا يقبل ، لأنّه يؤاخذ على ترك
التعلّم كما في الخبر المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام وهو أنّه يقال له يوم القيامة هل علمت فيقال له لم عملت
وان قال : ما علمت فيقال له : لم تعلّمت يستفاد منه عدم اجراء البراءة.
فالنتيجة أنّه يقيّد بها اخبار البراءة ، إذ نسبة هذه النصوص إلى
اخبار البراءة نسبة المقيّد إلى المطلق من حيث شمول أخبار البراءة لما قبل الفحص
وبعده واختصاص هذه النصوص المذكورة بالأوّل فتقدّم عليها كما يقدّم المقيّد على
المطلق ، نحو إن ظاهرت فاعتق رقبة وإن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وكذا ما نحن فيه ،
فالمقيّد هذه النصوص والمطلق أخبار البراءة فيقيد اجراء البراءة بما بعد الفحص ،
إذ يكون المراد من المطلق هو المقيد ، إذ هي أظهر وأقوى دلالة منها حال كونها
مقيّدة بالاجماع والعقل.
وامّا وجه كونها
أظهر وأقوى من أخبار البراءة فلأنّها تدل مطابقة على لزوم
__________________
التفقّه والتعلّم
واخبار البراءة تدل على البراءة بما قبل الفحص تضمّنا.
ومن المعلوم ان
الدلالة المطابقية أظهر وأقوى من الدلالة التضمّنية كما لا يخفى وقد سبق هذا
المطلب مكرّرا في الأجزاء المتقدّمة.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى ان
النسبة بينها هي المباينة لأن مورد هذه النصوص ترك العمل فيما علم وجوبه مثلا ولو
اجمالا. ومورد اخبار البراءة عدم العلم أصلا. ومن الواضح ان بين العلم بوجوب الشيء
مثلا وبين عدم العلم تباين وتضاد. وفي ضوء هذا فلا موجب لتقييد الثانية بالاولى.
فإن
قيل : ان الآيات
والروايات الدالّة على وجوب التفقّه والتعلّم وعلى المؤاخذة على ترك التعلّم انّما
هي محمولة على ما إذا علم إجمالا بالتكليف لا على الشبهات البدوية كي يقيد بها
اطلاق اخبار البراءة ويرفع بها اليد عن إطلاقها إذ لا ربط بينهما أصلا.
وقد دفعه المصنّف قدسسره بأنّ الآيات والأخبار المذكورة لها ظهور قوي في المؤاخذة
والاحتجاج بترك التعلّم والتفقّه في الشبهات البدوية وفيما لم يعلم بالتكليف
تفصيلا ولا إجمالا وليس لها ظهور قوي بترك العمل فيما علم من التكليف ولو إجمالا.
وعليه فلا مجال
للتوفيق بينهما بحمل الآيات والأخبار المذكورة على الشبهات المقرونة بالعلم
الاجمالي دون الشبهات البدوية بل تحمل عليها فيقع التعارض بينها وبين اخبار
البراءة بما قبل الفحص ويجمع بينهما بتقييد اخبار البراءة بما بعد الفحص فتكون
سالمة عن المعارض بما بعده.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
الذي له ظهور قوي في المؤاخذة والاحتجاج على ترك التعلّم فيما لم يعلم لا بترك
فيما علم إجمالا هو خصوص الخبر الأخير فقط ، ولكن صحّة سنده غير معلومة كي يقيد به
اخبار البراءة فليس مجموع الآيات والروايات بظاهرة في الشبهات البدوية حتى يصح
تقييد اخبار البراءة بها بما بعد الفحص.
اشتراط التخيير العقلي بالفحص
قوله
: ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة ...
كما يعتبر الفحص
عن الدليل في جريان اصالة الاحتياط والبراءة الشرعية والبراءة العقلية ، فكذا
يعتبر في اجراء اصالة التخيير في دوران الأمر بين المحذورين من جهة علم المكلف
بجنس الالزام ، امّا وجوب الفعل وامّا وجوب لزوم الترك ولكن لا يمكن للمكلّف الجمع
بين الفعل والترك من باب الاحتياط.
وفي ضوء هذا فيجب
فيه الفحص لذلك سواء قلنا بوجوبه في البراءة العقلية والنقلية ، وفي مورد اصالة
الاحتياط والاشتغال ، أم لم نقل به فيها ، إذ قبل الفحص لا يحكم العقل بالتخيير
بين الأخذ جانب الفعل ، أو جانب الترك لأنّه يحتمل أن يكون الدليل على ترجيح
أحدهما على الآخر وعلى تعيين أحدهما ، فلا يمكن استقلال العقل بالتخيير قبل الفحص
ففي التخيير العقلي يشترط الفحص عن الدليل كما يشترط في البراءة العقلية ، إذ
الفحص يكون محرزا لموضوع البراءة العقلية ، وهو عدم البيان كذا يكون محرزا لموضوع
اصالة التخيير العقلي ، وهو تساوي الاحتمالين احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ، فلا
تغفل.
بيان العمل بالبراءة قبل الفحص من الاحكام
قوله
: ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص ...
يقع الكلام في
أمور :
الأول
: أنّه لا ينبغي
التأمّل في عدم حسن العقاب بترك التعلم إذا كان عمل المكلف موافقا للاحتياط ، إذ
لا وجه له بعد تحقّق الانقياد وعدم المخالفة إلّا دعوى وجوب التعلّم نفسيا وهو
خلاف ظاهر الأدلّة.
الثاني
: أنّه لا ينبغي
التأمّل في استحقاق العقاب بترك التعلم إذا كان العمل مخالفا للواقع مع التفات
المكلف إليه حال العمل ، وهذا مقتضى النصوص الكثيرة.
الثالث : هل يدور العقاب مدار مخالفة الواقع مطلقا ، أي سواء كان
على خلافه طريق معتبر بحيث يعثر عليه المكلف بالفحص ، أم لم يكن على خلافه طريق
معتبر ودليل تام العيار ، أو يختص بما إذا لم يكن على خلافه طريق معتبر ، قولان
أقواهما الثاني.
الرابع
: لو ترك التعلم
فغفل عن الواقع وعمل حال غفلته فخالف الواقع فصريح المصنّف قدسسره انّه لا شبهة في استحقاق العقاب والغفلة حال المخالفة لا
تمنع من حسن العقاب عليها وإن كانت المخالفة حينئذ بلا اختيار لاستنادها إلى
تقصيره في ترك التعلم وقد تقرّر في علم الكلام حسن العقاب على ما ليس بالاختيار
إذا كان منتهيا إلى ما هو الاختيار ، إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار
لأنّ المكلف ترك التعلم بالاختيار والفحص بالإرادة حين التفاته إلى عدم خلو
الواقعة عن حكم فيصح العقاب على الغفلة لانتهائها إلى ترك التعلّم والفحص وهو أمر
اختياري المكلف فالانتهاء إلى الاختيار كاف في صحّة العقوبة بل مجرّد ترك التعلّم
والفحص
كاف في صحّة
العقوبة وان لم يكن ترك التعلّم والفحص مؤدّيا إلى مخالفة الواقع ، كما إذا شرب
التبغ من غير فحص عن حكمه الواقعي ومن غير تعلّمه عنه ثم انكشف عدم حرمته واقعا ،
ولكن مع احتمال المكلف أداء ترك التعلّم والفحص إلى المخالفة للواقع لأجل التجري
وعدم مبالاة المكلف بمخالفة الواقع.
فالنتيجة أن المحقّق الخراساني قدسسره قد اختار استحقاق تارك التعلّم والفحص للعقاب سواء أدّى
تركهما إلى مخالفة الواقع ، أم لم يؤد إليها ، امّا إذا أدّى إليها فواضح لتحقّق
العصيان والمعصية ، وامّا في صورة عدم ادائه إليها فلأجل التجري وعدم المبالاة بها
بناء على كون التجرّي موجبا لاستحقاق العقوبة كما هو مختار المصنّف قدسسره. ولا يخفى ان المراد من التبعة هو العقوبة.
قوله
: نعم يشكل في الواجب المشروط والموقت ...
نعم يصح استحقاق
العقاب على ترك التعلم والفحص في الواجبات المطلقة إذ تركهما يوجب تركها ، فلهذا
يصحّ على تركهما فيها ، ولكن يشكل استحقاق العقاب على تركهما في الواجب المشروط
وذلك كالحج بالنسبة إلى الاستطاعة ، وفي الواجب الموقت نحو الحج بالإضافة إلى
الموسم وكصلاة الجمعة ، ولهذا فاستدرك المصنّف قدسسره كلام السابق بأنّه يقع في مورد الاشكال في الواجب المشروط
وفي الواجب الموقت سواء انجر تركهما قبل حصول الشرط في الواجب المشروط وقبل تحقّق
الوقت في الواجب الموقت بمخالفة الواقع ، أم لم ينجر قبلهما إليها بأنّ المكلف في
الواجب المشروط قبل حصول الشرط لم يكن بصدد التعلّم والفحص وكذا في الواجب الموقت
قبل تحقّق الوقت ، أي وقت الواجب لم يكن متعلّما لأحكامه ولا متفحّصا عنها فالمكلف
مستحق لعدم العقوبة على الترك ، إذ قبل حصول الشرط وقبل تحقّق الوقت ليس التكليف
بالواجب المشروط والموقت بفعلي وعليه فكيف يعقل أن تكون مقدّمته وهي عبارة عن
التعلّم والفحص
والتفحّص محكومة
بالوجوب الفعلي كي يكون تركهما موجبا لاستحقاق العقوبة.
بل يقال كما انّه
قبل حصول الشرط والوقت لا يكون التكليف بالواجب فعليا ، كذا لا يكون به فعليا بعد
حصول الشرط وبعد تحقّق الوقت ، بل يكون التكليف به منتفيا ، إذ الفرض ترك المكلّف
تعلّم أحكام الواجب ، فهو لا يقدر على اتيانه ولا يتمكن من امتثال أمره. ومن
الواضح أن التكليف بغير المقدور قبيح عقلا.
وعلى طبيعة الحال
ان الواجب ليس وجوبه بفعلي بحيث يستحق فاعله المثوبة وتاركه العقوبة قبل حصول
الشرط في الواجب المشروط وقبل تحقّق الوقت في الواجب الموقت لأنّ الوجوب المشروط
والموقت انّما يكونان بعد الشرط والوقت على مبنى المشهور.
وعليه فلا يمكن أن
يترشّح منهما وجوب غيري يتعلّق بالتعلّم قبل الشرط والوقت.
إشكال وجوب التعلّم في المشروط والموقت
وامّا بعد حصول
الشرط وبعد تحقّق الوقت فليس إتيان الواجب بمقدور للمكلّف لأجل كون المكلّف غافلا
عن الواجب.
فالنتيجة يجوز
تركه ، ولهذا لأجل هذا الاشكال التجأ المحقّق الأردبيلي والسيّد السند صاحب
المدارك قدسسرهما إلى الالتزام بوجوب التفقّه والتعلّم نفسيا تهيئيّا.
وعليه فتكون
العقوبة على ترك التعلّم نفسه من حيث هو هو ولا تكون على مخالفة الواقع انجرّ ترك
التعلّم والتفقّه إليها ، وفي ضوء كونه واجبا نفسيا تهيئيا فلا إشكال حينئذ في
الواجب المشروط والموقت أصلا كما لا يخفى.
ثم قال المصنّف قدسسره : إذا ارتفع الإشكال بهذا البيان في الواجب المشروط
والموقت فإذا
استشكل أحد من الأعلام (رض) في حسن العقاب على ما ليس بالاختيار لانتهائه إلى ما
بالاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار يعني أن
توجّه النهي من قبل المولى إلى الغافل حين غفلته عن الواقع قبيح ، وهذا ممّا لا
ريب فيه.
وعليه فلا يحسن
العقاب على مخالفة الواقع المغفول عنه ، إذ ليس تركه بالاختيار كي يحسن العقاب
عليه ، ولا ينتهي تركه إلى ما هو بالاختيار.
أجاب المصنّف قدسسره عن هذه الصعوبة والعويصة : بأن العقاب انّما يكون على ترك
تعلّم أحكام الواجب الواقعي وترك التفحص عنها وهو أمر اختياري. وامّا عقاب الكفّار
على ترك تعلّم أحكام الواجب الواقعي وترك التفحّص عنها وهو أمر اختياري. وامّا
عقاب الكفّار على ترك الواجبات كالصلاة والصوم والحج وأمثالها والحال انّهم لا
يقدرون على الصحيحة منها ما بقيت على كفرهم بسوء اختياره حسن فلانتهائه إلى ما
بالاختيار وهو ترك اختيار الاسلام الحنيف بالاختيار فينتهي بالاخرة عقابهم إلى أمر
اختياري ، إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فانقدح لك بمبنى
المحقّقين الفاضلين الأردبيلي وصاحب المدارك قدسسرهما سهولة العويصة والصعوبة.
قوله
: ولا يخفى انّه لا يكاد ينحل هذا الإشكال إلّا بذاك ، أو الالتزام ...
انّه لا يكاد ينحل
إشكال استحقاق العقاب في الواجب المشروط والموقت إلّا بأحد وجهين على سبيل منع
الخلو امّا ان نلتزم بكون وجوب التعلّم والتفقّه نفسيا ليكون العقاب على تركه من
حيث هو هو كما هو مختار المحقّق الأردبيلي وصاحب المدارك قدسسرهما لا على مخالفة الواقع.
وامّا أن نلتزم
بكون الواجبات المشروطة ، وتلك كالحج بالنسبة إلى الاستطاعة ، وكالزكاة بالإضافة
إلى النصاب ، وكالصلاة بالإضافة إلى الوقت ، والموقتة
وتلك كالحج
بالنسبة إلى الموسم وكصلاة الجمعة بالإضافة إلى يومها ، كلّها واجبات مطلقة معلّقة
حتى يكون الوجوب فيها حاليا من قبل حصول الشرط ومن قبل تحقق الوقت فيترشّح منها
الوجوب الغيري إلى الفحص والتعلّم والتفقّه. وعليه فإذا تركهما بسوء اختياره فعلا
فيكون هو المصحّح للعقاب على الواقع المغفول عنه في محلّه بعدا.
فالنتيجة إذا قلنا
ان الشرط إذا كان من قيود المادة لا الهيئة كي يكون الوجوب مشروطا ، بل يكون
الوجوب حاليا مطلقا والواجب استقباليا وحينئذ نقول بترشّح الوجوب الغيري إلى
التفحّص والتعلّم.
وامّا إذا قلنا ان
الشرط من قيود الهيئة لا المادّة فيكون الوجوب مشروطا وقبل حصول الشرط لا وجوب
أصلا كي يترشّح الوجوب الغيري إلى التعلّم والتفحّص لكن الواجب المطلق المعلّق قد
اعتبر على نحو لا تتصف مقدّماته الوجودية بالوجوب عقلا قبل حصول الشرط ، أو الوقت
غير التعلّم والتفحّص فيكون الايجاب حاليا والواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا
يكاد يتصف بالوجوب شرط الوجوب وهو الاستطاعة والوقت والنصاب ولا غير التعلّم من مقدّماته
قبل شرطه ، أو وقته.
حكم العمل قبل
الفحص
فانقدح لك الفرق
بين مقدّمات وجودية الواجب وبين التعلّم بحيث يكون التعلّم واجبا قبل حصول زمان
الواجب وشرطه دون سائر مقدّماته الوجودية وعليه فلو ترك المكلف التعلّم في ظرف
وجوبه لاستحق العقوبة.
نعم ، لو قلنا بأن
الشرط وسائر المقدّمات يكونان قيدا للهيئة بحيث لا يتصف الواجب بالوجوب قبل حصول
الشرط وقبل تحقّق سائر المقدّمات بل يتّصف به بعد حصول الشرط وبعد تحقّق الزمان
ومقدّماته الوجودية كما هو ظاهر الأدلّة وفتاوى
المشهور.
فلو قلنا باستحقاق
العقاب على ترك التعلّم والتفحّص فلا محيص من أن يكون وجوبه نفسيا تهيئيا كي
يترتّب العقاب على تركهما ، ولا يترتّب على ما أدّى تركها إليه من مخالفة العمل مع
المأمور به الواقعي ؛ ولكن الالتزام بوجوبه نفسيا خال عن الاشكال والمحذور على
مبنى المصنّف قدسسره ومن تبعه ولا ينافي وجوبه النفسي ظاهر الأخبار يدل على
كونه واجبا غيريا مقدّميا لأنّ وجوب التعلّم إن كان لغيره بحسب دلالة الأخبار
فالوجوب الغيري يكون بمعنى أن وجوبه يحصل من طريق الترشح عن وجوب واجب آخر.
وعلى هذا نقول :
ان وجوب التعلّم مع كونه واجبا غيريا يتصف بوجوب النفسي ، ولا منافاة بينهما ، إذ
وجوبه النفسي يكون لغرض وهو عبارة عن التهيؤ لإتيان واجب آخر.
ومن الواضح أن في
كل واجب النفسي غرضا موجودا. فلا تهافت بين وجوب النفسي ، وبين وجود الغرض فالحكمة
في وجوب التعلّم لنفسه صيرورة المكلف قابلا للخطاب.
فإن قيل : ان
التنافي ظاهر بين وجوب النفسي ووجوب الغيري فكيف يجمع بينهما في التعلّم وما هذا
إلّا اجتماع المتنافين في الشيء الواحد وهو التعلّم.
قلنا : ان وجه عدم
المنافاة بينهما أن وجوب التعلّم لغيره ممّا لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشّح
وجوبه من وجوب غيره ، بل يكون نفسيا للتهيؤ لايجاب غيره.
وفي ضوء هذا
فالوجوب الغيري على نحوين :
أحدهما : وجوب
الغيري الترشحي بحيث يترشّح وجوبه من وجوب غيره. وذلك كوجوب الوضوء والغسل
والتيمّم مثلا.
وثانيهما : وجوب
الغيري التهيئي بحيث لا يترشّح وجوبه من وجوب غيره.
وذلك كوجوب
التعلّم والتفحّص فالمنافاة انّما تكون بين الواجب النفسي والواجب الغيري على
النحو الأوّل لا على النحو الثاني.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى ان
الوجوب النفسي التهيئي ممّا لا معنى محصل له فان الواجب إذا كان نفسيا فلا معنى
لكونه تهيئيا وان كان تهيئيا فلا معنى لكونه نفسيا فان عنوان التهيئي لا يطلق إلّا
على الواجب الغيري كما لا يخفى هذا على المتتبّع المحقّق هذا مضافا إلى ان ظاهر
أخبار الباب دال على كون التعلّم واجبا غيريا لا نفسيا تهيئيّا.
قوله
: وامّا الاحكام فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة ...
اما الاحكام التي
تترتّب على اجراء البراءة قبل الفحص غير العقاب فيقال انّه لا إشكال في وجوب
الإعادة أداء ، أو قضاء سواء كان العمل المأتي به مخالفا للواقع ، أم كان موافقا
له بشرط أن يكون العمل المذكور عبادة فيما إذا لا يتأتى من المكلف قصد القربة ،
وذلك لأنّ المكلف لم يأت بالمأمور به مع انّه لا دليل على الصحّة والاجزاء.
امّا إذا كان
العمل مخالفا للواقع كما إذا شك في جزئية السورة للصلاة وأجرى البراءة عن وجوبها
وأتى الصلاة بلا سورة وكانت في الواقع جزءا لها ، فعدم الاتيان بالمأمور به واضح
حينئذ.
وامّا إذا فعل
الصلاة مع السورة فهذا العمل وإن كان موافقا للواقع ولكن من جهة جهل المكلف بجزئية
السورة فلا يتأتى منه قصد القربة بها لأنّ المكلف متردّد في جزئيتها وعدم جزئيتها
وقصد القربة لا يتمشّى من المتردّد فوجه البطلان ووجوب الإعادة في صورة الموافقة
واضح أيضا ، كما انّه في صورة المخالفة واضح
لا سترة فيه.
فالنتيجة ان في
صورة المخالفة البطلان واضح فلأجل عدم الإتيان بالمأمور به ، واما في صورة
الموافقة البطلان واضح أيضا فلعدم تمشي قصد القربة منه لجهله بجزئيتها ولتردّده
فيها قبل الفحص إلّا في الموردين :
الأوّل
: قراءة الصلاة
الرباعية تماما في موضع القصر.
الثاني
: قراءة الصلاة
جهرا في مواضع الاخفات ، وقراءة الصلاة اخفاتا في موضع الجهر ، إذ قد ورد في النص
الصحيح وقد أفتى به المشهور صحّة الصلاة وتماميتها في الموضعين ، ولهذا اشتهر في
الألسن ان الجاهل سواء كان جهله عن قصور ، أم كان عن تقصير بالقصر والاتمام والجهر
والاخفات معذور.
امّا الصحيح الدال
على الأوّل فهو صحيح زرارة ومحمد بن مسلم (رض) قالا : قلنا لأبي جعفر باقر العلوم عليهالسلام رجل صلّى في السفر أربعا أيعيد ، أم لا؟ قال عليهالسلام : إن كان قرأت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعا
أعاد وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه .
وامّا الصحيح
الدال على الثاني فهو صحيح زرارة بن أعين رضى الله عنه عن أبي جعفر عليهالسلام في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي
الاخفاء عليه فقال عليهالسلام : أي ذلك فعل متعمّدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة فإن فعل
ذلك ناسيا ، أو ساهيا ، أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته وفي معناهما روايات أخر.
__________________
صحّة العمل قبل
الفحص في القصر والتمام والجهر والاخفات
قوله
: موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة ...
ولا ريب في أن
كلمة الموجب صفة للتقصير ، أي الجهل التقصيري موجب لاستحقاق العقوبة على ترك
الصلاة المأمور بها لأن ما أتى بها المكلف ليس بمأمور به كي لا يستحق العقوبة لأنّ
المأمور به هو صلاة القصر في السفر دون التمام ، وكذا يكون المأمور به صلاة الجهر
دون الاخفات ، أو صلاة الاخفات دون الجهر.
ومن الواضح أن ترك
الصلاة المأمور بها لا عن عذر يوجب استحقاق العقوبة والعقاب وإن كان الدليل ـ وهو
الصحيحان ـ دالين على صحتها وتماميتها إلّا انّها ليست بمأمور بها.
قوله
: إن قلت كيف يحكم بصحّتها مع عدم الأمر بها ...
كيف يحكم بصحّة
الصلاة التي قرأت تماما في موضع القصر ، والحال ليس لها أمر والعبادة غير صحيحة
إذا لم يكن لها أمر ، وكيف يصح الحكم باستحقاق المكلف العقوبة على ترك الصلاة التي
قد أمر بها فالجاهل في المواضع المذكورة معذور من حيث الحكم الوضعي فقط ، أي من
حيث الصحّة والإعادة دون الحكم التكليفي من حيث استحقاق العقوبة والمؤاخذة.
ومن الواضح أن
استحقاق العقوبة والمؤاخذة لا يكون إلّا مع بقاء التكليف بالواقع ، وهذا واضح.
فحينئذ يقع الكلام في أن الاتمام في موضع القصر إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط به
الواجب الفعلي وهو القصر ، وإن كان الاتمام مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع بقاء
الأمر بالقصر. وأمّا القصر في موضع التمام فلا يكفي بالاجماع هذا الاشكال الأوّل.
الإشكال الثاني
قوله
: وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان الإشكال الأوّل شرع في بيان الإشكال الثاني وقال رحمهالله : انّ ظاهر اطلاقات الأصحاب (رض) أن من أتى بالتمام في
موضع القصر جهلا بالحكم يستحق العقاب حتى فيما إذا تمكّن من الإعادة في الوقت بأن
ارتفع جهله به وقد بقى من الوقت مقدار إعادتها قصرا ، أو جهرا والاستحقاق المذكور
مشكل جدّا ، إذ لا وجه لاستحقاق العقاب بعد التمكّن من الإتيان بالمأمور به
والواجب في الوقت وفي وقته ، هذا تمام الإشكالين الواردين في هذا المقام.
أجاب المصنّف قدسسره عن الإشكال الأوّل بقوله : امّا صحّة الصلاة تكون بملاحظة
اشتمال صلاة التمام في موضع القصر على المصلحة التامّة التي تكون لازمة الاستيفاء
بحيث لو لم تشرع صلاة القصر لكانت صلاة التمام واجبة بالفعل ومأمورا بها ، ولكن
لما أمر فعلا بصلاة القصر وهي تكون ذات مصلحة تامّة وضد التمام.
ومن الواضح ان
الأمر بضدّين غير صحيح في وقت واحد ، ولهذا ليس لصلاة التمام أمر بالفعل ولكن لا
يلزم في صحّة الصلاة وجود الأمر بل اشتمالها على المصلحة التامّة يكفي في صحّتها
وقد سبق هذا المطلب في بحث اجتماع الأمر والنهي في الجزء الأوّل.
وعلى طبيعة الحال
فلا إشكال في صحتها. نعم يرد هذا الاشكال على من اعتبر في صحّة العبادات وجود
الأمر المولوي ، كالشيخ البهائي ومن تبعه ، ولا بدّ له من أن يقول بتحقّق الأمر
على نحو الترتّب ، أو بمنع تعلّق الأمر فعلا بالواقع المتروك وهو القصر والجهر ،
أو الاخفات ، أو بمنع التنافي بين الأمر بالقصر وبين الأمر بالتمام.
أجاب عن الإشكال
الثاني بأن مصلحة الواقع غير قابلة للاستيفاء والتدارك بعد الإتيان بصلاة التمام
في موضع القصر ، أو الجهر في موضع الاخفات ، أو بالعكس أي الاخفات في موضع الجهر
والاجهار جهلا بالحكم فاستحقاق العقاب انّما يكون لفوت الواقع عنه بسوء اختياره
وهو ترك التعلّم المفضي إلى فوت الواجب الواقعي اللوح المحفوظي فاستحقاق العقاب
ليس من جهة حكم الشارع المقدّس بصحّة الصلاة المأتي بها وهي التمام في موضع القصر
والجهر في موضع الاخفات أو الاخفات في موضع الجهر.
فحكم الشارع
المقدّس بالصحّة ليس بموجب لفوت الواقع بل إتيان العبد بالتمام موجب لعدم ادراك
مصلحة صلاة القصر ولفوت الواقع فإتيان العبد ثانيا صلاة القصر لغو ومستدرك لخلوّها
عن المصلحة الملزمة ، ولهذا لم يأمر بها الشارع المقدّس. ولهذا إذا التفت المكلف
في الوقت وارتفع جهله فيه وكان قادرا على الإعادة في الوقت فهو ليس بلازم لأنّه
لغو وإن لم ينقض الوقت فاستحقاق العقاب انّما يكون بواسطة فوت العبد الواقع
والمأمور به الواقعي من جهة ترك التعلّم. وفي ضوء هذا البيان يرتفع الإشكالان معا
كما لا يخفى.
قوله
: ان قلت على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب ...
فاستشكل أن بناء
على ما تقدّم آنفا من أن مع استيفاء مصلحة الاتمام في موضع القصر ، أو مصلحة كل من
الجهر والاخفات في موضع الآخر لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي هي في المأمور
به ، وعليه يكون الاتمام في موضع القصر جهلا ، وهكذا كل من الجهر والاخفات في موضع
الآخر كذلك سببا لتفويت الواجب الفعلي والسبب المفوّت للواجب حرام.
ومن الواضح ان
حرمة العبادة توجب لفسادها بلا كلام ، وفي ضوء هذا فكيف يقال : ان التمام صحّ وتمّ
وكذا الجهر ، أو الاخفات.
أجاب المصنّف قدسسره عنه : بأن التمام في موضع القصر وكذا كل من الجهر والاخفات
في موضع الآخر ليس سببا لفوت الواجب بحيث يتوقّف الواجب على عدمه على نحو توقّف
الشيء على عدم المانع كي يجب عدمه غيريا ومقدّميا وكي يحرم فعل التمام وكي يفسد ،
بل التمام والقصر ضدّان وكذا الجهر والاخفات ضدّان.
وعليه فعدم كل منهما
يكون في عرض وجود الآخر كما يكون عدم السواد في عرض وجود البياض لا تقدم لعدم
السواد على وجود البياض كما ان وجود كل منهما في عرض عدم الآخر لا تقدّم لوجود كل
واحد على عدم الآخر فليس بينهما توقف أصلا كي يكون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر.
وعليه فإذا وجب أحد
الضدّين لم يحرم ترك الضد الآخر مقدّمة له كي يحرم فعله وكي يفسد إذا كان عبادة ،
كما أنّه إذا وجب ترك أحد الضدّين لم يجب قبل الآخر مقدّمة له ، مثلا إذا أوجب
المولى الجليل في السفر قصرا على عبده فلم يحرم ترك التمام مقدّمة لفعل القصر كي
يحرم فعله ويفسد إذا كان عبادة كما انّه إذا وجب ترك أحد الضدّين لم يجب فعل الآخر
مقدّمة له.
وقد انقدح لك عدم
التمانع بين الضدّين وعدم التوقّف من الطرفين لا وجود هذا على عدم ذاك ولا عدم ذاك
على وجود هذا ، وقد تقدّم هذا في مبحث الضدّ مشروحا.
قوله
: لا يقال على هذا فلو صلّى تماما ، أو صلّى إخفاتا في موضع القصر والجهر ...
فإن
قيل : إذا اشتمل
التمام على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء موجبة لفوت مصلحة الواجب الفعلي وكذا
الجهر إذا اشتمل عليها وكذا الاخفات.
وعليه فلو صلّى
تماما ، أو صلّى اخفاتا في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما يلزم
الحكم بصحّة صلاة التمام من العالم بوجوب القصر
أيضا مع استحقاقه
العقوبة على مخالفة الواجب الفعلي وعلى مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر ، إذ الفرض
انّهما واجبان فعلا فتركهما عمدا يوجب استحقاق العقوبة.
والحال انّهما لا
تصحان من العالم بوجوب القصر في السفر وبوجوب الجهر في الجهرية.
فإنّه يقال : انّا
نكشف من الروايات الدالّة على صحّة صلاة التمام وتماميتها في موضع القصر حال الجهل
بالحكم وبوجوب القصر وعلى صحّة صلاة الجهر وتماميتها في موضع الاخفات وبالعكس
لاشتمالهما على المصلحة الملزمة. وعليه فلا مانع من القول بصحتهما وتماميتهما حال
العلم بوجوب القصر والجهر الاخفات مثل سائر موارد التزاحم كالصلاة في حال انقاذ
الغريق ، إذ اطلاق أدلّة صحّة الصلاة يدل على وجود مصلحة الصلاتي في حال التزاحم
ولهذا يحكم بصحتها حاله.
امّا فيما نحن فيه
فليس الدليل بموجود على صحتها في حال العلم ، إذ اطلاق أدلّة وجوب الصلاة تماما
يقيد بوجوب القصر في السفر بل يعدّ تاركه عاصيا في لسان الأخبار وكذلك اطلاق أدلّة
وجوب الصلاة ، كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) يقيد بوجوب الجهر في بعضها ، أو الاخفات في بعضها الآخر ،
فليس الدليل بموجود يدل على مصلحة الصلاتي في الجهر موضع الاخفات حال العلم بوجوبه
، أو في الاخفات موضع الجهر حاله بوجوبه.
فالنتيجة
إذا لم يكن الدليل
بموجود على المصلحة الملزمة في التمام موضع القصر حال العلم ونحتمل أن تكون مخصوصة
في حال الجهل.
وفي ضوء هذا إذا
أتى التمام موضع القصر ، أو الجهر موضع الاخفات أو بالعكس في حال العلم فنقطع
بالبطلان ، أو لا أقل نشك فيه ، إذ لا دليل على وجود المصلحة في التمام والجهر كي
نحكم بصحّتها وحينئذ يحكم العقل بوجوب الإعادة والقضاء.
وعلى طبيعة الحال
فانقدح لك الفرق بين حكم المسألة باعتبار حالة علم المكلف وجهله بحيث يحكم في صورة
الجهل بحكم وفي صورة العلم بحكم آخر.
قوله
: وقد صار بعض الفحول بعد بيان إمكان كون المأتي في غير موضعه ...
وقد تصدّى كاشف
الغطاء قدسسره تعلّق الأمر المولوي بالصلاة الواقعي وهي القصر ، والجهر ،
أو الاخفات ، وبضدّها وهو التمام ، أو الجهر ، أو الاخفات على نحو الترتيب بحيث
يكون الأمر بالصلاة الواقعي مطلقا وبلا شرط ، وبضدّها مقيّدا بعصيان الأمر الذي
تعلّق بالصلاة الواقعي ولكن أمرها بواسطة العصيان ساقط ولو كان العصيان جهلا.
والدليل على هذا
التقييد أن الأمر بضدّين في الآن الواحد ليس بصحيح ، وامّا الأمر بهما على نحو
الترتّب فهو صحيح كما تقدّم هذا المطلب مشروحا في مسألة الضدّ في تصحيح فعل غير
الأهم من الواجبين المضيقين إذا ترك المكلف الامتثال بالأهم كالصلاة الواجبة إذا
ضاق وقتها وكالإزالة فالمكلف إذا أتى بالصلاة الواقعي فلم يتوجّه الخطاب أصلا بضدّها
، إذ شرط خطاب هذه الصلاة عصيان الأمر الذي تعلّق بالصلاة الواقعي وإذا اختار بسوء
اختياره عصيان الأمر الاولي فيتحقق شرط الأمر الثاني ، وإذا خالفه أيضا فيستحق
العقاب على عصيانهما معا ، إذ توجه المكلف الخطاب إلى نفسه بهما بسوء اختياره
فالأمر بضدين على نحو الترتّب بحيث يكون الأمر بأحدهما مطلقا وبالآخر مقيّدا
ومشروطا بعصيان الأمر الأوّل ، فعصيان الأمر الأوّل شرط الأمر الثاني على نحو
الشرط المتأخّر ، هذا خلاصة الترتب في هذا المقام.
أجاب المصنّف قدسسره عن الترتّب بأنّه لا ينفع في رفع استحالة طلب الضدّين في آن
واحد ضرورة أن خطاب القصر فعلي بحيث لا يتوقّف على شيء ، ولكن خطاب التمام بالعزم
على العصيان يصير فعليا أيضا.
فالنتيجة أنّه في
ظرف العزم على العصيان يجتمع الطلبان بالضدّين في آن
واحد ، إذ لا يسقط
خطاب القصر إلّا باتمام التمام.
فمتى اشتغل المكلف
بقراءة التمام فالأمر بالقصر متوجّه إليه وهو فعلي ، إذ لا يتحقق عصيان أمر القصر
إلّا بالفراغ عن التمام. وفي ضوء هذا فلا يتمكّن لنا صحّة المأتي به كالتمام في
موضع القصر وكالجهر في موضع الاخفات ، أو بالعكس من طريق الترتّب ، إذ حقّق
المصنّف قدسسره في مبحث الضد امتناع الأمر بضدين ولو بنحو الترتّب بما لا
مزيد عليه فلا موقع لإعادته في هذا المقام لأنّه تكرار.
شروط البراءة
قوله
: ثم انّه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران أحدهما ...
قد ذكر الفاضل
التوني قدسسره لأصل البراءة شرطان آخران غير شرط الفحص واليأس :
أحدهما : أن لا
يكون اجراء أصل البراءة مستلزما لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى ، مثلا إذا علم إجمالا
بوقوع النجاسة في أحد الإناءين واشتبها فالتمسّك باصالة عدم وجوب الاجتناب عن
أحدهما المعيّن يستلزم وجوب الاجتناب عن الاناء الآخر بعينه ، وكذا الحكم في
الثوبين بحيث يكون أحدهما طاهرا والآخر نجسا واشتبه الطاهر منهما بالنجس.
وكذا ، إذ لاقى
الماء المشكوك الكرية نجسا فالتمسك بأصالة عدم كرية هذا الماء يستلزم وجوب
الاجتناب عنه ونجاسته ففي هذه الموارد لا تجري اصالة البراءة التي يكون شأنها نفي
التكليف والحكم لا إثباته.
فإن
قيل : أي شيء مانع من
إجرائها فيها؟
قلنا : المانع منه معارضة لأن اصالة عدم وجوب الاجتناب عن
الاناء الآخر
تعارض مع اصالة
عدم وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين ، وكذا في الثوبين المشتبهين حرفا بحرف وهكذا
سائر الموارد.
قوله : ثانيهما أن
لا يكون موجبا للضرر على آخر ...
قال الفاضل التوني
رحمهالله : الشرط الثاني لاجراء أصل البراءة أن لا يكون إجراؤها
موجبا للضرر على شخص آخر مثلا كما إذا فتح انسان قفس طائر فقد طار في الهواء ، أو
حبس شاة فقد مات ولدها ، أو أمسك رجلا في مكان فقد هربت دابته فان اجراء البراءة
فيها يوجب تضرّر المالك. وعلى هذا يحتمل اندراجه تحت قاعدة الاتلاف وعموم قول
الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فان المراد نفي الضرر من
غير جبران شرعا وإلّا فالضرر غير منفي ، فلا علم حينئذ ولا ظن بموجود بأن الواقعة
المذكورة غير منصوصة فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النص بل يحصل القطع
بتعلّق حكم شرعي بالضار ولكن لا يعلم انّه مجرّد التعزير ، أو الضمان ، أو هما معا
فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح ، هذا بحسب القواعد الفقهية.
فالنتيجة
انّه لا تجري
البراءة في الموارد المذكورة وذلك لأمرين :
أحدهما : أنّها ممّا توجب
الضرر على المالك ، أي مالك الطير ومالك الشاة ومالك الدابة ، وحينئذ يحتمل اندراج
المورد تحت قاعدتي الاتلاف والضرر والضرار فتكون هذه الموارد ممّا فيه النص لا
ممّا لا نصّ فيه كي تجري فيه البراءة عقلا ونقلا.
ثانيهما : أنّه يعلم إجمالا بتعلّق حكم بالضار الفاتح الحابس
الممسك ، امّا التعزير ، واما الضمان ، واما هما معا. ومن الواضح انّه مع هذا
العلم الاجمالي لا تجري البراءة لا عقلا ولا شرعا ، فيجب عليه تحصيل العلم ببراءة
الذمة ولو بالصلح كما لا يخفى.
ففي المقام يجب
الاحتياط ، إذ يجب الاحتياط في موارد :
أحدها
: في الشبهة
المقرونة بالعلم الاجمالي.
ثانيها : في الشبهة البدوية قبل الفحص واليأس.
وثالثها
: في الشبهة
البدوية بعد الفحص واليأس إذا كان المورد محلّا لاهتمام الشارع المقدّس بحيث لا
يرضى بترك الاحتياط فيه وذلك كالدماء والفروج والأموال الخطيرة.
ورابعها
: في مورد دوران
الأمر بين العام والخاص مثلا أمرنا المولى بإتيان الدابة فنحتاط بإتيان الإنسان لا
الحيوان لتحقّق العام في ضمن الخاص ولا يتحقّق الخاص في ضمن العام لانطباقه في ضمن
الخاص الآخر كالفرس مثلا.
خامسها
: في دوران الأمر
بين التخيير والتعيين ، مثلا يعلم إجمالا امّا صلاة الظهر واجبة في يوم الجمعة ،
وامّا صلاة الجمعة واجبة على التخيير ، وامّا صلاة الجمعة واجبة على التعيين.
قوله : ولا يخفى
أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص ...
قال المصنّف قدسسره : ان البراءة العقلية والنقلية تجريان في الشبهات البدوية
بعد الفحص واليأس.
ومن الواضح أن
مفاد البراءة العقلية عدم استحقاق العقاب كما أن مفاد البراءة النقلية إباحة الشيء
ورفع التكليف ، يعني فإذا جرت البراءة العقلية والنقلية وثبت بعد جريانها مضمونها
أعني عدم استحقاق العقوبة ورفع التكليف وكان مضمونهما ملزوما لحكم شرعي ، أو
ملازما له ، ولا بدّ حينئذ من العلم بذلك الحكم الشرعي لأنّ العلم بالملزوم يوجب
العلم باللازم ، وكذا العلم بالملازم يوجب العلم بملازمه ، مثلا إذا علمنا بطلوع
الشمس فقد علمنا بوجود النهار ، وكذا إذا علمنا بوجود النهار فقد علمنا بضياء
العالم.
وعليه فإن كان
مقصود المشترط انّها لا تجري أصلا بعد الفحص واليأس في مثل هذا المقام ، أي إذا
كان اجراء اصالة البراءة موجبا لثبوت حكم شرعي فذاك خلاف أدلّتها ، وان كان مقصوده
أنّها تجري لكن لا يترتّب الحكم اللّازم ، أو الملازم فذاك خلاف الدليل الدال على
اللزوم ، أو الملازمة فعدم استحقاق العقاب إن كان موضوعا لحكم شرعي وكذا الاباحة
إذا كان موضوعا له كما إذا دخل وقت الظهرين مثلا ، ولكن شك المكلف في اشتغال ذمّته
بواجب فوري وذلك كالدين المعجل فانّه تجري البراءة هنا لكون الشك في أصل التكليف
وهو مجرى البراءة وبواسطة جريانها يثبت وجوب الصلاة فعلا وهو ملازم لنفي الدين
ظاهرا ، وكذا أثبتنا بالأصل الشرعي حلية شرب التبغ وكذا يدل الدليل الشرعي على
جواز بيع كل ما كان حلالا.
فالنتيجة : ان رفع التكليف ظاهرا الثابت بالبراءة لو كان ملازما
لحكم شرعي فلا محيص عن ترتّب ذلك الحكم الشرعي ، فإذا دخل على المكلف الوقت وشك في
دين حال بحيث يجب اداءه الآن على نحو يسقط به تنجّز الأمر بالصلاة فعلا لفورية
الدين وسعة وقت الصلاة تجري البراءة ويثبت بها الحكم الشرعي الملازم للنفي الظاهري
فإنّ مجرّد انتفاء الدين وإن كان ظاهرا بحسب الأصل وبوسيلته يكفي في وجوب الصلاة
فعلا بعد دخول وقتها. نعم لا يثبت بها الحكم الشرعي الملازم للنفي الواقعي ، وذلك
لابتنائه على القول بالأصل المثبت ولا نقول به كما سيأتي هذا إن شاء الله تعالى في
محلّه.
قوله
: فان لم يكن مترتّبا عليه بل على نفي التكليف واقعا ...
أي فان لم يكن
الحكم الشرعي مترتّبا على رفع التكليف ظاهرا الثابت بالبراءة بل كان مترتّبا ، أو
ملازما لنفي التكليف واقعا كما في مثال الإناءين المشتبهين ، إذ وجوب الاجتناب عن
الآخر ملازم لنفي وجوب الاجتناب عن
أحدهما واقعا لا
ظاهرا بالبراءة ونحوها كما لا يخفى.
قوله
: وهذا ليس بالاشتراط ...
أي عدم ترتّب ذاك
الحكم لعدم ثبوت ما يترتّب عليه بالبراءة ليس بشرط للبراءة فعدم ترتّب حكم شرعي
على نفي التكليف بالبراءة انّما هو لأجل انتفاء موضوع ذلك الحكم ، إذ موضوعه
بالفرض عدم الحكم واقعا وهذا لا يثبت بالبراءة لأنّ الثابت بها نفي الحكم ظاهرا ـ
كما مرّ هذا في بحث البراءة ـ وذلك كعدم ترتّب وجوب الحج على نفي وجوب اداء الدين
بأصل البراءة وذلك انّما هو لعدم موضوعه أعني عدم الدين واقعا لا لأجل اشتراط
جريان البراءة بعدم ترتّب حكم شرعي عليه.
وفي ضوء هذا
فالمراد بالموصول هو الموضوع والمراد من الضمير المستتر في جملة يترتّب هو الحكم
والضمير في عليه عائد الموصول والضمير في بها راجع إلى البراءة ، أي عدم ترتّب
الحكم إنّما يكون لعدم ثبوت الموضوع الذي يترتّب الحكم على هذا الموضوع.
فالنتيجة
ان حكم الشرعي إذا
كان لازما لجريان البراءة ، أو ملازما له فلا محيص عن ترتّبه على جريان البراءة ،
إذ الحكم يترتّب على موضوعه بعد احرازه وفي ضوء هذا فالشرط فاسد.
قوله
: واما اعتبار ان لا يكون موجبا للضرر فكل مقام تعمه ...
ولا ريب في أن
المورد إذا كان ممّا تجري فيه قاعدة الضرر فلا مجال حينئذ لجريان البراءة في هذا
المورد لكون هذه القاعدة دليلا اجتهاديا والبراءة أصلا عمليا.
ومن الواضح انّه
لا مجال للأصل العملي مع الدليل الاجتهادي لوروده عليه كما سيأتي هذا في بحث
التعادل والتراجح إن شاء الله تعالى.
وإذا كان ممّا لا
تجري فيه قاعدة الضرر فلا مانع حينئذ من جريان البراءة فيه فالكبرى مسلّمة وانّما
الكلام في احراز الصغرى ، ولكن مجرّد احتمال صغروية المورد لهذه القاعدة لا يمنع
عن جريان البراءة فيه مع الفحص واليأس عن الدليل على حكم الضرر ، فكل مقام تشمله
قاعدة نفي الضرر فلم يكن مجال في هذا المقام لاصالة البراءة لأنّ الدليل الاجتهادي
رافع لموضوعها ، كما ان عدم المجال حال البراءة مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة
الاجتهادية وهي عبارة عن قاعدة : من أتلف مال الغير فهو له ضامن ، وقاعدة : على
اليد ما أخذت حتى تؤدّيه ، ونحو : كل امرئ بما كسبت رهينة ونحوها.
فالنتيجة مع وجود الدليل الاجتهادي سواء كان قاعدة الضرر والضرار ،
أم كان غيرها لا مجال للبراءة أصلا ، وذلك لعدم المقتضى لها حينئذ فعدم جريانها مع
وجود الدليل الاجتهادي انّما هو لعدم المقتضى لها لا لعدم شرطها ضرورة أن الشرط
متأخّر رتبة عن المقتضى فلا يطلق الشرط إلّا مع احراز المقتضى أوّلا فجريان
البراءة موقوف بعدم الدليل الاجتهادي سواء كان دليل نفي الضرر ، أم كان غيره ،
وهذا لا يختص بالبراءة بل كل أصل عملي يتوقّف جريانه على فقد الدليل الاجتهادي في
مورده.
قوله
: فإن كان المراد من الاشتراط ذلك ...
فإن كان مراد
الفاضل التوني قدسسره من الاشتراط الثاني عدم بقاء مورد للأصل مع تحقّق قاعدة
نفي الضرر فلا بد من اشتراط عدم مطلق دليل اجتهادي على خلاف أصالة البراءة لا خصوص
قاعدة نفي الضرر والضرار ، إذ الوجه في عدم جريانها مع تحقّق قاعدة نفي الضرر
والضرار هو كونها رافعة لموضوع البراءة.
ولا ريب في أن هذا
الوجه جار في جميع الأدلّة الاجتهادية لا خصوص قاعدة الضرر لعدم الفرق بينها وبين
سائر الأدلّة الاجتهادية والقواعد الاجتهادية في
رفع الشك الذي هو
موضوع البراءة فتدبّر والحمد لله على كل حال والشكر له على كل نعمة «وهو تدقيقي»
لظهور كلمة فتدبّر في التدقيق مثل كلمة فافهم أما بخلاف كلمة فتأمّل فانّها ظاهرة
في التمريض وهذا لو خلى وطبعه ، وأمّا إذا كانت قرينة دالّة على العكس فمفادها
متبع بلا إشكال.
قاعدة نفي الضرر
قوله
: ثم انّه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار ...
قال المصنّف قدسسره : إذا انتهى الكلام بذكر الضرر والضرار فلا بأس بذكر قاعدة
الضرر والضرار على نحو الايجاز وتوضيح مدركها وشرح مفادها وايضاح نسبتها ومعارضتها
مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية كثبوت الوجوب
للصلاة بما هي صلاة والصوم بما هو صوم مثلا والحرمة للقتل بما هو قتل مثلا ، أو مع
الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الثانوية مثل ثبوت الوجوب
للصلاة في حال المرض ، أو الخوف وكأدلّة نفي العسر والحرج كثبوت الحرمة للغنم في
حال كونه موطوء الإنسان وكيفية تقديم هذه القاعدة على الأدلّة ولكن شرح المطالب
المذكورة خارج عن مقاصد الرسالة والكتاب لكون قاعدة الضرر والضرار من القواعد
الفقهية فمحل بحثها هو الفقه الشريف ونتعرّض لهذه المطالب إجابة لالتماس بعض
الأحبّة.
ثم انّه قد استدل
على هذه القاعدة بأخبار كثيرة وشرع المصنّف قدسسره في بيان مدركها وهو روايات كثيرة منها ما هو أشهرها قصّة
وأصحّها سندا وأكثرها طرقا ، ما رواه في الوسائل في احياء الموات في باب عدم جواز
الاضرار بالمسلم عن عدّة من أصحابنا مسندا عن عبد الله بن بكير عن زرارة بن أعين قدسسره عن أبي جعفر
الباقر عليهالسلام ان سمرة بن جندب ـ وهو رجل بخيل ، بل من المنافقين ـ كان
له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى
نخلته ولا يستأذن فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلمّا يأبى جاء
الأنصاري إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فشكا إليه وخبّره الخبر فأرسل إليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال : إذا أردت الدخول
فاستأذن فأبى ، فلما أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع ،
فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة فأبى أن يقبل فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه فانّه لا ضرر ولا
ضرار .
وفي رواية الحذاء
عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام مثل ذلك إلّا أنّه فيها بعد الإباء ما أراك يا سمرة إلّا
مضارا اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه. إلى غير ذلك من الروايات الواردة في
قصّة سمرة بن جندب وهي كثيرة كرواية عبد الله بن مسكان عن زرارة بن أعين رحمهالله عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام وكرواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام وقد ادعى تواترها مع اختلافها لفظا وموردا.
امّا اختلافها
لفظا فلأنّ في بعضها كلمة في الاسلام موجودة وفي بعضها كلمة على مؤمن موجودة وفي
بعضها ليست هذه موجودة ولا تلك موجودة.
وأمّا اختلافها
موردا فان مورد بعض نصوص الباب قصة سمرة بن جندب ومورد بعضها الآخر هو حق الشفعة
لأحد الشريكين في غير المنقول ومورد بعضها الآخر منع فضل الماء والكلاء على كراهة
عن البيع ، إذ قضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بين أهل المدينة في مشاوب النخل أنّه لا يمنع نفع شيء ،
وقضى بين أهل البادية أنّه
__________________
لا يمنع فضل ماء
ليمنع فضل كلاء فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا ضرر ولا ضرار.
فإن قيل : ان
التواتر اما لفظي واما معنوي ، فالأوّل : عبارة عن حصول التواتر بألفاظ المخصوصة ،
أو بلفظ خاص كحديث الغدير وكحديث انّما الأعمال بالنيّات مثلا ، وهذا غير حاصل في
قضية نفي الضرر لوضوح عدم تحقّق التواتر على كلمة لا ضرر ولا ضرار.
والثاني : عبارة
عن شمول كل واحد من الأخبار على قدر مشترك بينها تضمنا أو التزاما فيحصل العلم
بذلك القدر المشترك ويسمّى القدر المشترك بالتواتر المعنوي. أما مثال التضمن فكما
إذا أخبر رجل بأن زيدا ضرب عمروا وأخبر بكر بأن زيدا ضرب خالدا وأخبر فرعون بأن
زيدا ضرب شدادا وهكذا فيحصل العلم من مجموع هذه الأخبار بأن زيدا رجل ضارب ، إذ كل
واحد منها متضمّن للضرب. وأمّا مثال الالتزام فكما إذا أخبر أبو ذر الغفاري رضى
الله عنه بأن أمير المؤمنين عليا عليهالسلام قتل في غزوة الخندق عمرو بن عبد ود (لع) وأخبر سلمان
الفارسي رضى الله عنه بأن أمير المؤمنين علي عليه وعلى أولاده المعصومين السلام
قتل في غزوة خيبر مرحب الخيبري والحارث الخيبري ، وأخبر المقداد بن الأسود الكندي
رضى الله عنه أن أمير المؤمنين علي عليهالسلام قتل في غزوة أحد كذا وكذا فيحصل لنا العلم من مجموعها بأن
أمير المؤمنين عليهالسلام رجل شجاع ، إذ كل واحد منها يدل بالالتزام على شجاعته ، إذ
لازم القتل شجاعة القاتل.
قلنا : ان المراد
من التواتر هنا إجمالي بمعنى القطع بصدور بعضها عن الإمام المعصوم عليهالسلام وهو يحصل بالقطع بصدور بعض الروايات عن المعصوم عليهالسلام وان لم يحصل لنا القطع بصدور جميعها عنه فملاك الفرق بين
التواتر اللفظي والتواتر المعنوي والتواتر الاجمالي بعد اشتراك كل واحد منها في
كثرة الرواة بحيث يمتنع
عادة اتفاقهم على
الكذب وبحيث يستحيل عادة تواطئهم على الاشتباه وبعد اشتراك ورود كل واحد منها في
قضايا متعدّدة غير مرتبط بعضها مع بعض انّه في الأوّل يشترط الاتفاق في اللفظ ،
وفي الثاني الاتفاق في المعنى التضمّني ، أو الالتزامي ، وفي الثالث ليس الاتفاق
في اللفظ ولا في المعنى ، كما إذا وردت رواية في وجوب سجدة السهو في صورة القيام
في غير محلّه مثلا ، ورواية في وجوب القصر على المسافر ورواية في وجوب التمام على
العاصي بسفره فانّا نعلم إجمالا بصدور بعضها ، وكذا فيما نحن فيه ، إذ نعلم إجمالا
بصدور رواية من روايات نفي الضرر والضرار.
قال المصنّف قدسسره : والانصاف أنّه ليس في دعوى تواتر أخبار الباب إجمالا
جزاف ـ وكلمة الجزاف مثلثة الجيم بمعنى التكلّم من غير قانون وبدون تبصّر ـ
على ثبوت التواتر
الاجمالي مع استناد المشهور من الفقهاء (رض) إلى تلك الروايات في مقام الافتاء
والفتوى في موارد الضرار والضرر وهذا الأمر يوجب لكمال الوثوق بها ولانجبار ضعفها
من حيث السند ، إذ أكثرها نبوي عامّي ، ولكن عمل المشهور على طبقها موجب لضعفها
سندا. هذا ، أي خذ ذا مع أن بعضها موثق وذلك كخبر زرارة بن أعين قدسسره وموثقته عن أبي جعفر الباقر عليهالسلام وقد تقدّم.
وفي ضوء هذا فلا
مجال حينئذ للإشكال في تلك الروايات من جهة سندها كما لا يخفى.
بيان مفاد القاعدة
قوله
: وأمّا دلالتها فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن الجهة الاولى شرع في الجهة الثانية من الجهات الثلاث.
قال صاحب النهاية
والقاموس : ان الضرر هو ما يقابل النفع ، كما قال صاحب الصحاح والمصباح : ان الضرر
اسم مصدر كالغسل بالضم مثلا والمصدر هو الضر مثل ضرّ يضرّ ضرّا كمدّ يمدّ مدّا.
وعليه فالضر فعل
الضار ، والضرر نتيجته كالتوضؤ وهو فعل المتوضئ والوضوء نتيجته ، أي نتيجة التوضؤ
وكذا الغسل بالضم والغسل بالفتح ، والضرر عبارة عن النقص الوارد في النفس ، أو
الطرف كاليد والرجل والاذن مثلا ، أو في العرض ، أو المال. فالتقابل بين النفع
والضرر هو تقابل العدم والملكة كالتقابل بين العمى والبصر والفقر والغنى مثلا لأن
الضرر لا يطلق إلّا على محل قابل للوجودي وهو النفع كما لا يطلق العمى إلّا على
محل قابل للبصر ولا يطلق الفقر إلّا على محل قابل للغناء فالضرر لا يطلق إلّا على
محل قابل للنفع.
قوله
: كما أن الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر ...
قال بعض اللغويين
: ان الضرار فعل الاثنين والضرر فعل واحد ، وقال بعضهم الآخر : ان الضرار هو
الجزاء على الضرر ، وقال أكثرهم : أن الضرار والضرر بمعنى واحد ، واختاره المصنّف قدسسره. وقال بعض الثالث : ان الضرر ما تضر صاحبك وتنتفع به وأن
الضرار ما تضر صاحبك ولا تنتفع به.
ولكن الأظهر أن
يكون الضرار بمعنى الضرر جيء به تأكيدا من باب التأكيد اللفظي مثل جاءني زيد زيد
مثلا ويشهد بهذا المطلب اطلاق عنوان المضار على سمرة بن جندب كما في رواية الحذاء
، وقد سبق ، وكذا في رواية ابن مسكان.
ومن الواضح أن
الضرر كان من ناحية سمرة فقط لا الأنصاري كما صرّح صاحب الصحاح أن ضرّه وضارّه
بمعنى واحد كما يشهد به أيضا حكاية اتحادهما معنى عن كتاب النهاية لابن أثير لا أن
يكون الضرار فعل الاثنين ، وإن كان فعل الاثنين هو الأصل في باب المفاعلة والظاهر
في بابها كضارب زيد عمرا وقاتل بكر
خالدا ، وكذا يكون
فعل الاثنين ظاهرا في باب التفاعل نحو تضارب زيد عمرو ونحو تقاتل بكر خالد. وامّا
الفرق بين البابين فانّه في الأوّل يكون الاسم الأول مرفوعا والثاني منصوبا ، وفي
الثاني يكون الاسم الأوّل والثاني مرفوعين ، وان البادي في الفعل في الأول يكون
الاسم المرفوع ، وان البادي في الفعل في الثاني ليس بمعلوم لنا بل نحتمل أن يكون
الاسم الاول ، أو الثاني.
وفي ضوء هذا
فالفرق بينهما من جهة اللفظ ، إذ الاسمان معا مرفوعان في الثاني امّا بخلاف الأوّل
فان الأوّل فقط مرفوع.
والانصاف ان فعل
الاثنين يكون في باب المفاعلة غالبي لا كلّي مثل : سافر زيد في طهران ومثل سافرت
الدهر وعاقبت اللص.
ومن الواضح ان
المسافرة ليس من الطرفين وكذا المعاقبة حرفا بحرف ، وكذا لا شبهة في ان الضرار
يكون مصدر باب المفاعلة كالقتال فانّه يقال ضارّ يضارّ مضارّة ضرارا وضيرارا كما
يقال : قاتل يقاتل مقاتلة وقتالا وقيتالا ، ولكن لا يكون فعل الاثنين كليا في باب
المفاعلة بل هو غالبي فيه.
وليس معنى الضرار
لغة الجزاء على الضرر لعدم تعاهد هذا المعنى من باب المفاعلة أصلا لأنّ هذا المعنى
متفرّع على تحقّق الاثنين على نحو الكلّي في باب المفاعلة.
ومن الواضح انّه
إذا لم يتحقّق المتفرّع عليه لم يتحقّق المتفرع. خلاصة الكلام : أنّه لم يثبت
للضرار معنى آخر غير الضرر.
قوله : كما أنّ
الظاهر أن يكون لا لنفي الحقيقة كما هو الأصل في هذا ...
لا ريب في أن
الأصل في كلمة (لا) أن تكون لنفي جنس مدخولها نحو : لا رجل في الدار ، أي ليس جنس
الرجل في الدار ، ولكن حيث تعذّر حملها على نفي الجنس والحقيقة فيما نحن فيه لوجود
الضرر والضرار كثيرا في العالم فلا بد
حينئذ من التصرّف
فيها بحملها على ما هو أقرب إلى نفي الجنس من المعاني المجازية بمقتضى القاعدة
المشهورة ، وهي إذا تعذّرت الحقيقة وتعدّدت المجازات فأقرب المجازات أولى بالإرادة
فيدور الأمر بدوا بين معان :
الأوّل : نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الخواص والآثار كما هي كذلك
في مثل قوله عليهالسلام : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد».
الثاني : نفي نوع من الحقيقة حقيقة وهو خصوص الضرر الآتي من قبل
الحكم الشرعي فانّه ممّا يمكن نفيه حقيقة بنفي سببه ، وهو الحكم.
الثالث
: نفي نوع منها
حقيقة وهو عبارة عن الضرر غير المتدارك فيستكشف منه أن كل ضرر متدارك بجعل الشارع
المقدّس للضمان ، أو للخيار ، أو غيرها.
الرابع
: جعل مدخلوها هو
الحكم على نحو المجاز في الحذف ، أو في الكلمة باستعمال لفظ الضرر في الحكم المؤدى
إليه بعلاقة السببية.
الخامس : جعلها ناهية بأن يكون المقصود من نفي الضرر في الخارج هو
الزجر عنه واحداث الداعي إلى عدمه في الخارج نظير قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ
فِي الْحَجِ) وإذا علم معنى الضرر والضرار فليعلم أن المراد من هذا
التركيب هل هو نفي الحكم الضرري يعني أن الشارع المقدّس لم يجعل الحكم الضرري في
الشريعة المقدّسة ، أو يكون المراد نفي الضرر غير المتدارك. يعني ان الشارع
المقدّس لم يجعل الضرر غير المتدارك في الشريعة المقدّسة ، وكل واحد منهما يحتمل
في هذا المقام ، إذ إرادة المعنى الحقيقي من هذا التركيب غير ممكن لاستلزامه الكذب
والخلاف للواقع فلهذا لا بد أن يكون المراد منه أحد هذين المعنيين ، أو يكون
المراد منه نهيا عن الضرر والزجر عنه.
وأمّا المصنّف قدسسره فقد قال : ان الظاهر منه نفي الضرر في الإسلام ادعاء على
نحو الكناية عن نفي الآثار والخواص نظير : لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ،
ونظير : يا أشباه
الرجال ولا رجال فيكم ، أي ليس قرب على نحو الأكمل والزلفى التامّة والقربانية
الكاملة والمعراجية التامّة لصلاة جار المسجد إذا لم تفعل في المسجد بل تفعل في
المنزل مثلا ، وكذا ليس أوصاف الرجال وخواصهم في جماعة أهل الكوفة الحاضرين في
الكرب والبلاء لقتال ابن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم روحي له الفداء وجسمي له الوقاء.
فهذان الكلامان
كنايتان عن نفي جميع الآثار والخواص ، فكذا ما نحن فيه كناية عن نفي جميع الآثار
والخواص ، يعني رفع آثار الأفعال كانت لها على تقدير عدم كونها ضررية إذا صارت
ضررية ، وهذا المعنى أقرب إلى المعنى الحقيقي وأبلغ في مقام البلاغة لأنّ الشيء
إذا لم يكن له آثار وخواص فهو في حكم المعدوم كأنّه ليس بشيء.
وليس المراد نفي
الحكم على تقدير المضاف ، أي لا حكم ضرري في الإسلام ، وليس المراد نفي الضرر غير
المتدارك على تقدير الصفة ، أي لا ضرر غير المتدارك في الإسلام.
أما الأوّل ـ أي
حذف المضاف ـ فهو بعيد عن طريقة البلاغة لأنّه بعيد نفي الضرر ظاهرا وفي الحقيقة
يكون المراد نفي سبب من أسباب الضرر ، وهو حكم الشارع المقدّس ، إذ أسباب الضرر
كثيرة.
وامّا الثاني ـ أي
حذف الصفة ـ فلا تكون القرينة عليه موجودة ومجرّد تعذّر معنى الحقيقي ليس بمعيّن
لهذا ، وعليه فالأظهر أن تكون لا النافية لنفي الحقيقة ادعاء ومبالغة ، إذ الغرض
نفي آثار شرعي الضرر ، ولكن إرادة التحريم من النفي على أن تكون اللا في كلمة لا
ضرر ولا ضرار ناهية لا نافية وإن كان هذا ممكنا غير معهود في كلام العرب بلا قرينة
، وهي مفقودة هذا مضافا إلى أن لا الناهية لا تدخل إلّا على الفعل المضارع.
فالنتيجة أن نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الحكم حقيقة كما هو مختار
المصنّف قدسسره ، أو بلحاظ نفي الصفة كما هو مختار الشيخ الأنصاري قدسسره غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في التقدير ، أو في الكلمة.
والمصنّف قدسسره قد استدل لترجيح إرادة نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الحكم
، كما في لا ضرر ولا ضرار ، أو بلحاظ نفي الصفة كما في نحو : لا صلاة لجار المسجد
إلّا في لمسجد ، على إرادة نفي الحكم ، أو الصفة ابتداء بوجهين :
الأوّل : ان قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء
على نحو الكناية لا نفي الحكم ولا نفي الصفة وإلّا لما دلّ هذا التركيب نحو : لا
صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد وأمثالهما على
المبالغة كناية عن نفي الآثار والخواص ، كما قد سبق هذا المطلب في بحث الصحيح والأعم.
وفي ضوء هذا فلا
يتوهّم في المقام أنّه كما يمكن إرادة نفي الحقيقة ادعاء كناية عن نفي الآثار
والخواص فكذلك يمكن نفي الحكم ابتداء ، أو نفي الصفة من الصحّة ، أو الكمال كما في
نحو : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، أي لا صلاة صحيحة إلّا بالفاتحة ، وفي نحو :
لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ، أي لا صلاة كاملة لجار المسجد إلّا في
المسجد.
فأجاب المصنّف عن
هذا التوهّم بقوله : فإنّ قضية البلاغة في الكلام إلى الأخير.
الثاني : لزوم التجوز ، اما في التقدير ، كما إذا قدرنا لفظ الحكم
، أي لا حكم ضرري. واما في الكلمة بأن يراد من لفظ الضرر الحكم الضرري ، ومن لفظ
الصلاة الصلاة الكاملة فالتجوّز خلاف الأصل فيقال حينئذ بإرادة نفي الحقيقة ادعاء
كناية عن نفي الآثار والخواص على سبيل المبالغة.
فإن
قيل : الكناية عبارة
عن ذكر الملزوم وإرادة اللازم مع جواز إرادة الملزوم أيضا مثل : زيد كثير الرماد ،
فذكر الملزم وهو كثرة الرماد واريد لازمها وهو جود زيد
وفي المقام ، أي
شيء يكون ملزوما وأي شيء يكون لازما حتى تصح الكناية؟
قلنا : ان الملزوم
في قاعدة نفي الضرر والضرار هو نفي الحقيقة ويكون لازمه نفي الآثار والخواص ، أي
لا آثار للضرر في الإسلام ، مثلا إذا كان الصوم ضرريا فليس له آثار وخواص من
الوجوب والرجحان والثواب و ...
قوله : وقد انقدح
بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرري ، أو الضرر غير المتدارك ...
ولا يخفى أن
الوجوه الثلاثة موجودة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار :
الأوّل : أن تكون لنفي الحكم الضرري ، بمعنى نفي الحكم الشرعي
الذي يلزم منه ضرر على العباد تكليفيا كان ، أو وضعيا كوجوب الصوم مع المرض وكلزوم
البيع مع الغبن ونحو ذلك.
الثاني
: أن تكون لنفي
الضرر المجرّد عن التدارك ، أي لا ضرر لم يحكم الشارع المقدّس بلزوم تداركه
وجبرانه.
الثالث : أن يكون النفي فيها للنهي ، كما في قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ
فِي الْحَجِ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).
ثم ان الوجه
الأوّل يقع على نحوين :
فتارة : ينفي حقيقة الضرر والضرار وماهيته ادعاء كناية عن نفي
الآثار والحكم الضرري.
واخرى
: ينفي نفس الحكم
الضرري ابتداء مجازا امّا في التقدير ، أو في الكلمة على التفصيل المتقدّم آنفا.
وقد استدل المصنّف
قدسسره على فساد الوجه الأوّل : بأنّ نفي الحكم الضرري ابتداء
مجازا ، اما في التقدير ، واما في الكلمة وعلى بطلان الوجه الثاني بقوله : أو خصوص
إرادة غير المتدارك من الضرر بأنّه قبيح غير متعارف. وعلى بطلان الوجه الثالث
بأنّه غير متعارف بعيد عن البلاغة.
قوله
: ومثله لو اريد ذاك بنحو التقييد ...
ومثل استعمال
الضرر وإرادة خصوص الضرر غير المتدارك في البشاعة والقباحة لو اريد ذلك بنحو
التقييد وبنحو تعدّد الدال والمدلول ، كما في نحو : اعتق رقبة مؤمنة ، فالمقيّد هو
الرقبة قد اريد من لفظها والقيد هو الايمان من لفظ آخر وهو لفظ المؤمنة. فهذا وإن
لم يكن ببعيد ولكنّه بلا دلالة وقرينة على القيد غير سديد ، إذ لا قرينة في خبر
النبوي تدل على تقييد الضرر بغير المتدارك كما لا يخفى.
قوله
: وإرادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز إلّا انّه لم يعهد ...
ولا يخفى أن إرادة
النهي من النفي الداخل على الفعل ليس بعزيز كما في قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وكما في قوله عليهالسلام : «لا يغتسل ولا يعيد» ولكنّها لم تعهد في مثل هذا التركيب
ممّا كان المدخول عليه هو اسم المصدر والمصدر ذلك كالضرر والضرار ، إذ الأوّل اسم
المصدر ، والثاني مصدر باب المفاعلة كالقتال مثلا ، فإرادة النهي من النفي معهود
إذا كان المدخول عليه فعلا مضارعا ، وامّا إذا كان المدخول عليه اسما فهو غير معهود
في كلام العرب والفصحاء والبلاغاء وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة من مثل لا
ضرر ولا ضرار في الاسلام لا يكون قرينة على إرادة واحد من الامور الثلاثة
المتقدّمة بعد إمكان حمل النفي على نفي الحقيقة ادعاء ، بل كان حمله على نفيها
ادعاء هو الغالب في موارد الاستعمالات استعمالات هذا النفي كما لا يخفى على أهل
التتبّع والاستقراء.
فالنتيجة ان لحمل النفي على نفي الحقيقة ادعاء قرينتين :
إحداهما : أقربيته إلى البلاغة من سائر المعاني المجازية المذكورة
آنفا.
ثانيتهما : غلبة إرادة نفي الحقيقة ادعاء كناية عن نفي الآثار والخواص
بحسب موارد الاستعمالات فهاتان موجبتان لتعين إرادة نفي الحقيقة ادعاء.
قوله
: ثم الحكم الذي اريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت
ولا ريب في أنّ
الحكم الذي تنفيه قاعدة نفي الضرر والضرار هو الحكم الثابت للفعل بعنوانه الأولي
قبل عروض عنوان الضرر عليه ، ولا تنفى الحكم المترتّب على نفس عنوان الضرر بما هو
ضرر.
وعليه فالوضوء ،
أو الغسل قبل طرو عنوان الضرر عليهما قد تعلّق بهما حكم شرعي وهو الوجوب الغيري ،
أو الندب النفسي ، وكل واحد منهما ثابت لهما في الشريعة المقدّسة. أمّا إذا طرأ
عليهما عنوان الضرر فيرتفع به هذا الحكم الشرعي ولا يمكن أن يرتفع به الحكم الشرعي
المترتّب على نفس عنوان الضرر كما إذا ضرّ زيد بعمرو مثلا فعليه كذا وكذا ، فإنّ
الموضوع ، وهو الضرر والاضرار إذا تحقّق فلا يمكن رفع حكمه بل يقتضيه على نحو
اقتضاء العلّة لمعلولها لأنّ الموضوع علّة للحكم وهو معلولها ، كما ان عنوان الضرر
علّة لنفي الحكم وهو معلولها.
قوله
: أو المتوهّم ثبوته لها كذلك ...
فالضرر في مثل
الوضوء والغسل والصوم ممّا يرتفع به الوجوب الثابت لكل واحد منها بعنوانها الأولي
لأنّ الوضوء بما هو وضوء واجب والغسل بما هو غسل واجب في الشريعة المقدّسة وكذا
الصوم. أمّا في مثل الدعاء عند رؤية الهلال ونحوه ممّا هو شبهة بدوية للوجوب
كالإقامة مثلا يرتفع بعروض عنوان الضرر عليه الوجوب المتوهّم ثبوته للدعاء عند
الرؤية وللإقامة بعنوانهما الأوّلي.
بيان نسبة القاعدة
مع أدلّة الأحكام الأولية ، أو الثانوية
قوله
: ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الاحكام ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان الجهة الاولى وهي بيان سندها والجهة الثانية وهي
بيان دلالتها شرع في بيان الجهة الثالثة وهي توضيح نسبة القاعدة مع الأدلة الأحكام
الثابتة للأفعال بعناوينها الأوّلية كأدلّة وجوب الصلاة والصيام
ونحوهما ،
الثانوية كأدلّة نفي العسر والحرج مثلا.
أمّا بيان نسبتها
مع الأدلّة الأحكام المتكفّلة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الثانوية فسيأتي
تفصيلها إن شاء الله تعالى. وشأن العامين من وجه الرجوع في مورد المعارضة لهما إلى
قواعد التعارض ، أو الأصل العملي.
وأمّا مع الأولية
فخلاصتها : أن وجه تقديم دليل نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأولية مع ان النسبة
بينهما من النسب الأربع عموم من وجه ومادة الافتراق عن جانب الضرر إذا كان الضرر
في غير الصوم ومادة الافتراق عن جانب الصوم إذا كان الصوم موجودا بلا ضرر ، وكذا
في الوضوء والغسل حرفا بحرف حيث أنّه يوفق بينهما عرفا بحمل احدهما على الاقتضائي
والآخر على العلية التامّة والتوفيق العرفي ليس إلّا فيما كان الدليلان على نحو
بحيث لو عرضا على أهل العرف لوفّق بينهما بحمل أحدهما على الاقتضائي والآخر على العلية
التامة.
واما إذا عرض
الضرر على العناوين الأوّلية فهو رافع لفعلية ذلك الحكم الثابت للعنوان الأوّلي
كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة ، أو النافية لحكم الأفعال
بعناوينها الثانوية والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الاولية فيوفق بينهما بحمل
العناوين الأولية على الاقتضائية والثانوية على العلية التامة.
ثم انّ الأدلة
المثبتة لحكم الأفعال بالعناوين الثانوية هي مثل أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، أو
النذر ، أو العهد ، أو اليمين ، أو أدلّة وجوب إطاعة الوالدين ، أو الزوج ، أو
المولى ونحو ذلك.
وأمّا الأدلّة
النافية للأحكام بالعناوين الثانوية فهي مثل أدلّة نفي الحرج والضرر ، أو دليل رفع
الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما استكرهوا عليه ونحو ذلك.
غاية الأمر ؛ أن
نفي الحرج والضرر بناء على كونهما لنفي الأحكام الحرجية
والضررية نفي
واقعي ونفي البقية نفي ظاهري بمعنى أن المرفوع فيها خصوص مرتبة التنجّز فقط لا
الحكم من أصله.
ومن هنا يظهر أن
حكومة أدلّة الحرج والضرر بناء على كونها لنفي الأحكام الحرجية والضررية حكومة
واقعية من قبيل قوله عليهالسلام : «لا شك لكثير الشك» ، وفي البقية حكومة ظاهرية من قبيل
حكومة قاعدة الطهارة على دليل اشتراط الصلاة والطواف بها.
ولكن ذهب المصنّف قدسسره في الجميع إلى التوفيق العرفي وسيأتي شرح الحكومة الواقعية
والظاهرية في آخر بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
فالنتيجة : أن وجه
تقدّم قاعدة لا ضرر ولا ضرار على سائر أدلّة الأحكام بعناوينها الاولى فعليتها
والضرر عنوان ثانوي ، ولا ريب في أن أهل العرف يعدّون العنوان الأوّلي اقتضائيا
والعنوان الثانوي فعليا ، وهم يقدّمون الفعلي على الاقتضائي كما يقدّمون العنوان
الثانوي على العنوان الأوّلي في صورة المعارضة بينهما مثل تقدّم عنوان الحرج والاضطرار
والاكراه على العناوين الأوّلية مثلا الآية الشريفة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تقتضي وجوب الصوم وجوبا اقتضائيا شأنيا بحيث ان الصوم مع
قطع النظر عن طرو الضرر والاكراه ، أمّا إذا طرأ عليه عنوان الضرر فلا تقتضي وجوبه
، إذ يقدم العنوان الثانوي على العنوان الأوّلي ، وكذا عنوان الاكراه والحرج
والسهو والنسيان والجهل وعدم الطاقة تقدّم على العناوين الأوّلية.
قوله
: نعم ربّما يعكس الأمر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ...
وقد يكون الأمر
بالعكس ، أي قد يقدّم دليل الحكم الأوّلي ، أو دليل الحكم الثانوي على قاعدة لا
ضرر ولا ضرار فيما احرز بوجه معتبر ان الفعل بعنوانه الأولي ،
__________________
أو الثانوي علّة
تامّة للحكم ، وذلك كالدفاع نفسا ومالا عن الدين الحنيف عن بيضة الاسلام ، أو عن
النفس لأنّه علم من الخارج ان هذا الموضوع وهو عبارة عن الامور المذكورة علّة وجوب
الدفاع مطلقا ، أي سواء كان مستلزما للضرر ، أم لم يستلزمه.
ففي هذه الموارد
لا بد أن يكون دليل لا ضرر مقيّدا بعدم كون الموضوع علّة للحكم ، وامّا إذا كان
دليل وجوب الدفاع دالّا على العلية المذكورة فهو يقدّم على دليل لا ضرر ولا ضرار
كما لا يخفى. وكذا حرمة قتل المؤمن فانّها حكم بعنوان أولي بنحو العلية التامّة ،
ولكن لا ترتفع حرمة القتل بعنوان ثانوي كالضرر والحرج والاضطرار والاكراه إلّا
بالخطإ والنسيان وبعدم العلم ، إذ لم يعهد من قبل الشارع المقدّس ثبوت حكم على
حاله وإن كان الحكم في مرتبة العليا من القوّة مع تحقّق أحد العناوين الثلاثة
المذكورة آنفا ، بل يرتفع بها ولو رفعا ظاهريا بمعنى رفع تنجّزه فقط لا رفع الحكم
الواقعي من أصله المشترك بين الخاطي والعامد والذاكر والناسي والعالم والجاهل
جميعا.
قوله
: وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أولى تارة يكون بنحو العلية ...
الحكم الثابت
بالعنوان الأوّلي لا يخلو من وجهين :
ألف) أن يكون
الحكم فعليا مطلقا ، أي سواء عرض على موضوعه عنوان من العناوين الثانوية ، أم لم
يعرض عليه ، ففي هذا الفرض لا يجوز الاغماض ورفع اليد عن دليل حكم أولى بسبب دليل
الحكم الذي يكون مخالفا له ، وذلك كعروض الضرر والضرار على عنوان الدفاع عن بيضة
الإسلام الحنيف مثلا فلا يرفع اليد عن وجوب الدفاع المذكور بسبب دليل لا ضرر ولا
ضرار في الإسلام.
ب) أن يكون الحكم
فعليا بشرط أن لا يوجد دليل مخالف له ، وامّا إذا وجد الدليل المخالف له فيجوز رفع
اليد عن دليل حكم الأوّلي.
وبعبارة اخرى :
اجتماع حكم الأوّلي مع حكم الثانوي قرينة على أن الحكم
الأوّلي يكون
اقتضائيا شأنيا والحكم العارض يكون مانعا عن الحكم الأوّلي لأنّ الحكم العارض
مبيّن لحكم الفعلي.
فالحكم الاولي على
ثلاثة أنحاء :
الأوّل : فعلي مطلقا ، ومثاله قد سبق آنفا.
الثاني : فعلي بالإضافة إلى عارض دون عارض ، وذلك كحرمة قتل
المؤمن فانّها لا ترتفع بعروض الضرر والحرج
والاضطرار والاكراه ، ولكن
ترتفع بالخطإ والنسيان وما لا يعلمون ، إذ لا يعقل ثبوت حكم على حاله مع وجود أحد
العناوين الثلاثة ، بل يرتفع بها لا محالة ، ولهذا لا يكون القصاص ثابتا على قتل
الخطائي.
الثالث : اقتضائي مطلقا إذا لم يعرض على موضوعه عنوان ثانوي ،
وذلك كوجوب الصوم والوضوء والغسل لأنّه إذا عرض عليها عنوان الضرر فيسقط وجوبها
ويبدّل وجوبها بالحرمة العرضية.
قوله
: هذا لو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت نظره ...
هذا الذي ذكرنا من
تقديم أدلّة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام على أدلّة حكم الأوّلي لو لم نقل بحكومة
دليل لا ضرر ولا ضرار على دليل حكم الأوّلي بعدم ثبوت نظره إليه ، أي إلى مدلوله
كما قال بعدم الحكومة الشيخ الأنصاري قدسسره ، وأمّا إذا قلنا بحكومته عليه لنظره إليه فمن الواضح ان
قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الاسلام تقدّم على أدلّة الاحكام الاولية لوضوح تقديم
دليل الحاكم على دليل المحكوم. وامّا وجه حكومتها عليها فلانّها تضيق دائرة موضوعات
الأحكام الأولية والحاكم امّا مضيّق وامّا موسّع لدائرة موضوع دليل المحكوم
فالأوّل نحو : لا شك لكثير الشك مثلا ، والثاني نحو : الطواف بالبيت صلاة ، لأنّ
الشارع المقدّس نزّل الطواف منزلة الصلاة ، أي كأنّ الطواف صلاة.
قوله
: ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ...
ثم ظهر لك بما
تقدّم آنفا من بيان حال توارد العناوين الثانوية مع العناوين الأوّلية حال توارد
العنوانين الثانويين كما إذا دار الأمر بين لزوم الضرر ولزوم العسر ، فالمالك إذا
حفر البالوعة في داره ولكن تضرّر بها جاره. والحال أنّه لا ضرر ولا ضرار في
الإسلام وإذا لم يحفرها وقع المالك في الحرج الشديد والحال انّه قال الحكيم في
كتابه الكريم (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فيعامل معهما معاملة المتعارضين إن لم يثبت المقتضى إلّا
في أحدهما ويعامل معهما معاملة المتزاحمين إذا ثبت المقتضى في كليهما جميعا فيقدم
الأقوى منهما مناطا وان كان أضعف سندا وإلّا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وان كان
دليل الآخر أرجح وأولى. ولكن لا يبعد أن الغالب من توارد العارضين أن يكون من باب
التزاحم لثبوت المقتضى فيهما فتوارد العارضين يكون غالبا من صغريات كبير التزاحم
وليس غالبا من صغريات باب التعارض الذي يكون المقتضى فيه في أحد الدليلين فقط.
هذا حال تعارض
الضرر مع عنوان أولي ، أو مع عنوان ثانوي غير عنوان الضرر من التوفيق العرفي بين
تعارض عنوان الضرر مع عنوان أوّلي ومن اجراء حكم التزاحم ، أو التعارض إذا تعارض
عنوان الضرر مع عنوان العسر والحرج مثلا.
تعارض الضررين
قوله
: واما لو تعارض مع ضرر آخر فمجمل القول فيه ...
وقد علم ممّا سبق
حال عنوان الضرر وحال مطلق العناوين الثانوية كعنوان الخطأ وعنوان الاضطرار
والاكراه والسهو والنسيان مع العناوين الأوّلية وقد علم
__________________
أيضا ممّا سبق ان
المصنّف قدسسره ذهب إلى تقديم العناوين الثانوية على العناوين الأوّلية
بالتوفيق العرفي بينهما في صورة تعارضهما وتواردهما. والشيخ الأنصاري قدسسره ذهب إلى حكومتها عليها وكذا علم ممّا تقدّم أيضا حال توارد
العنوانين الثانويين بعضهما مع بعض ، وعلم انّه يقدّم الأهم ملاكا وأقوى مناطا إذا
كانا من باب تزاحم المقتضيين وإلّا فيعامل معهما معاملة المتعارضين.
وامّا الفرق بين
المتزاحمين والمتعارضين فسيأتي إن شاء الله تعالى في بحث التعادل والتراجح. ولكن
بقي في المقام بيان حال توارد ضرر مع ضرر آخر.
قال المصنّف صاحب
الكفاية قدسسره : انّ مجمل القول وخلاصة الكلام في الضررين دوران الأمر
بينهما على أنحاء ثلاثة :
الأوّل : أن يدور
الأمر بين ضرري شخص واحد ، كما إذا دار أمر زيد بن أرقم بين أن يلقي نفسه من أعلى
الجبل فيتكسّر حينئذ رجله ، أو جنبه ، أو رأسه ، وبين أن يبقى في مكانه ومحله
فيحترق جسمه ويموت.
الثاني : أن يدور
الأمر بين ضرري زيد وعمرو كما إذا دخلت دابة زيد في دار عمرو بحيث لا تخرج منها
إلّا بهدم بابها.
الثالث : أن يدور
الأمر بين ضرر نفس شخص زيد وبين ضرر غيره ، كما لو كان تصرّف المالك في ملكه موجبا
لتضرّر جاره وترك تصرّفه فيه موجبا لضرر نفسه وشخصه ، كما إذا دار الأمر بين أن
يحفر بالوعة في بيته فيتضرّر جاره في بئره التي يستسقى منها وبين أن لا يحفرها
فيتضرّر المالك في جدران بيته ، إذ تهدم بترك الحفر.
أمّا المصنّف قدسسره فقد قال في الاولين انّه يجب اختيار الضرر الأقل وتلزم
مراعاة الضرر الأقوى إذا اختلفا في الرتبة ، وامّا إذا تساويا فيها فالمكلف يتخيّر
عقلا
بين ارتكاب أحدهما
امّا هذا وامّا ذاك.
وفي الثالث قال :
انّه لا يجب على الإنسان المكلف أن يتحمّل الضرر لئلا يتضرّر غيره وإن كان ضرر الغير
أقوى من ضرر نفسه وأكثر منه. وقد علّله بأن نفي الضرر عن الأمّة يكون على نحو
الامتنان والمنة ولا منة على تحمّل الضرر لأجل دفع الضرر عن الشخص الآخر وإن كان
الضرر الوارد على الآخر أكثر من ضرر نفسه وأقوى منه.
قوله
: نعم لو كان الضرر متوجّها إليه ليس له دفعه عن نفسه ...
هذا استدراك عن
قوله السابق فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر ولو كان ضرر الآخر أكثر ، وقال : نعم
إذا كان الضرر بطبعه الأوّلي متوجّها إلى نفس زيد كما إذا توجّه السيل إلى داره ،
أو أرضه مثلا ، لكن إذا غيّر المجرى توجّه إلى دار غيره أو أرض غيره وقد أفتى
المصنّف قدسسره في هذه الصورة بعدم جواز دفعه عن نفسه وايراده على الآخر ،
كما قال : نعم لو كان الضرر متوجّها إليه ليس له دفعه عن نفسه بايراده على الآخر ،
امّا إذا لم يكن الضرر لو خلى وطبعه متوجّها إلى شخص بالخصوص كما في حفر البالوعة
فله أن لا يتحمّل الضرر لدفعه عن الجار وان كان ضرر الجار أكثر وأقوى من ضرر نفسه.
قوله
: اللهمّ إلّا أن يقال : ان نفي الضرر وإن كان للمنة إلّا انّه بلحاظ النوع ...
هذا استدراك عن
قول المصنّف قدسسره : ولا منة على تحمّل الضرر لدفعه عن الآخر وقال متمسكا
بكلمة اللهمّ أن ذلك الأمر ، أي عدم الامتنان على تحمّل الضرر لأجل دفعه عن الآخر
انّما يتمّ لو لوحظ كل واحد من الأمة في قبال غيره وذلك كملاحظة زيد في قبال عمرو
وكملاحظة بكر في قبال خالد مثلا و ... وامّا إذا لوحظ مجموع الأمّة أمرا واحدا فقد
كان الحال في تحقّق الامتنان على الأمة برفع أكثر
الضررين كما لو
تعارض ضررا شخص واحد فالعقل يحكم برفع أكثر الضررين وكذا امتنان رفع الضرر يحكم
برفع أكثرهما.
قوله
: فتأمّل ...
وهو إشارة إلى أن
الظاهر كون الامتنان بلحاظ كل واحد واحد من أفراد الامة في نفسه وعليه.
ثم انّه حيث بنى
على جواز التصرّف الذي يؤدّي إلى ضرر الغير إذا كان يلزم من ترك التصرّف الضرر على
المالك فالمعروف بين الأعلام (رض) عدم الضمان لقاعدة السلطنة لأنّ الناس مسلّطون
على أموالهم وكأنّ الوجه عدم الدليل عليه بعد البناء على جواز تصرّف كل مالك في
ملكه.
ولكنّه لا يخلو عن
الإشكال لأنّ جواز التصرّف أعم من عدم الضمان. وفي ضوء هذا فلا موجب لرفع اليد عن
عموم ما يقتضي الضمان من قاعدة الاتلاف وهي عبارة عن قول المعصوم عليهالسلام : من أتلف مال الغير فهو له ضامن.
كما أنّه يشكل
التصرّف الذي يؤدي إلى ضرر الغير إذا لم يكن في تركه ضرر على المالك بل كان في هذا
التصرّف منفعة عائدة إلى المالك لعموم نفي الضرر والضرار في الإسلام.
فإن
قيل : ان ترك التصرف
في هذا الفرض حرج على المالك وهو منفي في الشريعة المقدّسة.
قلنا : ان هذه الدعوى ممنوعة في الفرض المذكور ، إذ يلزم على
المالك على هذا الفرض فوت المنفعة ولا يلزم الحرج عليه أصلا ، ومنه يظهر المنع عن
التصرّف فيما إذا كان التصرّف لغير منفعة عائدة إلى المالك مع تضرّر الغير بذلك
التصرّف.
إذا اعتقد المكلف
كون استعمال الماء ضررا عليه فيتمّم وصلّى ، ثم انكشف الخلاف فهل يحكم بصحّة صلاته
بحيث لا يجب عليه الإعادة في الوقت ولا القضاء
في خارجه ، أم لا؟
نسب المحقّق
النائيني قدسسره الحكم بالصحّة إلى المشهور وقد ذكر في تقريبه أن موضوع
التيمّم من لم يتمكّن من استعمال الماء لكونه ضرريا فالموضوع محرز بالوجدان فصح
تيمّمه حينئذ ، وكذا الحال في معتقد فقدان الماء حرفا بحرف.
|
إلى
هنا انتهى الكلام فيما قصد توضيحه من مباحث البراءة والاشتغال والحمد لله سبحانه
وتعالى على كل حال. وكان ذلك في قم المقدّسة ليلة السبت العاشر من شوّال المكرّم
من السنة الثمانية والعشرة بعد الألف والأربعمائة هجرية على مهاجرها أفضل الصلاة
وأكملها وأتمّ السلام على يد الأحقر علي بن قربانعلي الزارع غفر الله تعالى لي
وله وللمؤمنين يوم يقوم الحساب آمين.
|
الاستصحاب وتعريفه
قوله
: فصل في الاستصحاب وفي حجّيته إثباتا ونفيا أقوال للأصحاب (رض) ...
وهو مصدر باب
الاستفعال كما يقال استصحب يستصحب استصحابا على وزن استخرج يستخرج استخراجا ، وله
معنى اللغوي والاصطلاحي. امّا اللغوي فهو بمعنى الملازمة وأخذ الشيء مصاحبا ، كما
يقال : استصحب زيد الشيء ، أي لازمه وصاحبه. ومنه استصحاب أجزاء ما لا يؤكل في حال
الصلاة.
وفي الاصطلاح هو
بمعنى بقاء ما كان على ما كان. وللأصحاب (رض) في الاستصحاب من حيث كونه حجّة ومن
حيث كونه غير حجّة أقوال :
الأوّل : هو القول بالحجّية مطلقا.
الثاني : هو القول بعدم الحجّية مطلقا.
الثالث : هو القول بالتفصيل بين الوجودي والعدمي فيعتبر في الثاني
دون الأوّل.
الرابع
: هو القول
بالتفصيل بين الحكم الشرعي وبين الأمور الخارجية فيعتبر في الأوّل دون الثاني.
الخامس : هو القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعية الكلية وبين
غيرها فلا يعتبر الاستصحاب في الأوّل ويعتبر في الثاني ، وكل هذه الأقوال سيأتي في
محلّها إن شاء الله تعالى.
قوله
: ولا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كان شتى ...
عرّفه أكثر الأصحاب
(رض) بأنّه ابقاء ما كان على ما كان. وعرّفه بعضهم بأنّه إثبات الحكم في الزمان
الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأوّل. وعرّفه بعضهم
الآخر : بأنّه كون
حكم ، أو وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق وغيرها من
التعاريف التي هي مذكورة في المطوّلات.
ولكن قال المصنّف قدسسره : ان التعاريف المتعدّدة للاستصحاب تشير إلى مفهوم واحد
ومعنى فارد وهو عبارة عن الحكم ببقاء حكم ، أو موضوع ذي حكم شك في بقاء كل واحد
منهما مثلا كانت صلاة الجمعة واجبة في زمان الحضور يقينا وفي عصر الغيبة شك في
وجوبها فنستصحب بقاء وجوبها في عصر الغيبة هذا مثال بقاء الحكم على ما كان وكان
زيد عادلا في شهر شعبان المعظّم. أمّا في شهر رمضان المبارك فنشك في بقاء عدالته
فنستصحب بقاء عدالته في شهر رمضان المبارك هذا مثال بقاء موضوع ذي حكم ، إذ يترتّب
على عدالته جواز الائتمام به وجواز قبول شهادته وجواز التقليد منه إن كان مجتهدا
جامعا للشرائط.
ويدل على الحكم
بالبقاء أمور :
أحدها : بناء العقلاء بما هم عقلاء على البقاء في أحكامهم
العرفية ، بل من ذوي الشعور من كافّة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة
السابقة مطلقا ، أو في الجملة تعبّدا إشارة إلى بعض التفصيلات الآتية.
ثانيها
: هو الظن بالبقاء
الناشئ عن ملاحظة ثبوت الشيء سابقا.
ثالثها
: هو دلالة النص
المعتبر على بقاء الشيء بعد ثبوته سابقا وهو لا تنقض اليقين بالشك ، كما يأتي
الإشارة إلى ذلك الأمر كذلك ، أو في الجملة.
رابعها
: دعوى الاجماع
على البقاء في الزمان اللاحق وكل هذه الوجوه ستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى ، فكل
من قال بالحجّية فقد تمسّك بأحد الوجوه المذكورة آنفا.
وقد تعرّض المصنّف
قدسسره قبل الخوض في بيان أدلّة الاستصحاب وحجّيته أمورا ثلاثة :
الأوّل
: تعريف
الاستصحاب.
الثاني
: اثبات كون
الاستصحاب مسألة أصولية.
الثالث
: اعتبار وحدة
القضية المتيقّنة والقضية المشكوكة موضوعا ومحمولا.
واختلف الأصوليون (رض)
بأن الحكم بالبقاء هل يكون ببناء العقلاء تعبّدا عقلا من دون ملاحظة الظن بالبقاء
، أو يكون الحكم بالبقاء بملاحظة الظن به غالبا من جهة وجود السابق الشيء. قال
أكثرهم بالأوّل وذهب بعضهم إلى الثاني ، فالاختلاف في جهات :
الجهة
الاولى : انّهم اختلفوا
في حجّيته وعدم حجّيته.
الجهة
الثانية : انّهم اختلفوا
في مدرك حجّيته هل هو بناء العقلاء بالبقاء تعبّدا أو هو بناءهم به بملاحظة حصول
الظن ببقاء الحكم ، أو الموضوع الذي له حكم من الأحكام ، أو هو نص ، أو هو دعوى
الاجماع عليها ، أي على الحجية.
الجهة
الثالثة : انّهم اختلفوا
في حجّيته مطلقا ، أي في جميع الموارد ، أو في بعض الموارد وسيأتي تفصيل هذا إن
شاء الله تعالى.
ولا يخفى أن الحكم
بالبقاء هو القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفي هذا المعنى وإثبات ذاك
المعنى مطلقا ، أو في الجملة وأن يقع فيه النزاع في وجه ثبوته هل دليل ثبوت الحكم
ببقاء الحكم ، أو الموضوع الذي له حكم من الأحكام هو النص ، أو بناء العقلاء ، أو
الاجماع على أقوال ؛ امّا بخلاف ما لو عرّفنا الاستصحاب بأنّه بناء العقلاء على
البقاء ، أو بأنّه هو الظن بالبقاء الناشئ من العلم بثبوت البقاء سابقا ، فلا
تقابل فيه الأقوال يعني الأقوال في ثبوت الاستصحاب ونفيه. فالقائل بثبوت الاستصحاب
قد لا يثبت البناء المذكور بل يقول بثبوته من الأخبار والقائل بنفيه قد لا ينفى
البناء المذكور لكنّه لا يرى البناء حجّة وكذا لو كان هو الظن ، إذ القائل بثبوت
الاستصحاب قد لا يعترف بثبوت الظن المذكور والقائل بنفيه قد
لا يلتزم بنفي
الظن بل يمنع الدليل على حجّيته.
وبالجملة أن حاصل
مرام المصنّف قدسسره في هذا المقام من أوّل الفصل إلى هنا ان عبارات الأصحاب (رض)
وان كانت هي مختلفة في تعريف الاستصحاب ولكنّها تشير إلى معنى واحد وهو الحكم
ببقاء حكم ، أو موضوع ذي حكم شك في بقاء كل واحد منهما.
وهذا المعنى هو
القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف نفيا وإثباتا مطلقا ، أو في الجملة ضرورة أن
معنى الاستصحاب لو كان يختلف باختلاف مداركه ووجوه الاستدلال عليه فلو كان الأمر
كذلك لما تقابل الأقوال في المسألة ولما كان النفي والاثبات واردين على مورد واحد
بل على موردين لأنّه كان مراد النافي معنى ومراد المثبت معنى آخر ومراد المفصل
الأول معنى ثالث ومراد المفصل الثاني معنى الرابع ومراد المفصل الثالث معنى خامس ،
وهذا واضح لا سترة فيه.
قوله
: بل في موردين ...
لأنّ القائل بثبوت
الاستصحاب لم يعترف بثبوت بناء العقلاء ، بل هو قائل بثبوته من جهة دلالة الأخبار
على ثبوته والمنكر لم ينف بناء العقلاء بل يقبله ولكن لم يكن حجّة عنده ، كما ان
الاستصحاب إذا كان نفس الظن ببقاء ما كان على ما كان فالقائل بثبوت الاستصحاب لم
يعترف بثبوت هذا الظن. وامّا النافي فلم ينف هذا الظن بل يقول انّه ليس الدليل على
حجيته.
خلاصة الكلام ان
الاستصحاب لو كان نفس البناء المذكور ، أو نفس الظن بالبقاء لكان محل النفي
والاثبات أمرين ، إذ القائل بثبوت الاستصحاب يقول بثبوت البناء والظن. وامّا
المنكر فلم يستشكل بثبوتهما بل ينكر حجّيتهما.
قوله
: وتعريفه بما ينطبق على بعضها وإن كان ربّما يوهم أن لا يكون ...
ولا يخفى أنّه ليس
في التعاريف المتقدّمة على الظاهر ما ينطبق على نفس بناء العقلاء على البقاء ، أو
على الظن بالبقاء ، وإن كان فيها ما قد يوهم أن لا يكون الاستصحاب هو الحكم
بالبقاء.
وعليه كيف تقول
أيّها المصنّف ان جميع التعاريف يشير إلى معنى واحد.
والحال ان بعضها
لا ينطبق على البناء وعلى الظن بالبقاء مثل تعريف المحقّق القمّي قدسسره بان الاستصحاب عبارة عن كون حكم ، أو وصف يقيني الحصول في
الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ولم يتعرّض الحكم بالبقاء كما رأيت رؤية
واضحة ، بل يكون الاستصحاب نفس ذاك الوجه المذكور في التعريف. والحال انّه ليس نفس
ذاك الوجه.
ولهذا قال المصنّف
قدسسره : ولا بأس بموجود ، إذ ليس هذا التعريف بحدّ ولا برسم بل
يكون من قبيل شرح الاسم ، أي ليس بالجنس القريب والفصل القريب كي يكون حدّا تامّا
ولا بالجنس البعيد والفصل القريب ، أو بالفصل القريب وحده كي يكون حدّا ناقصا ،
ولا بالجنس القريب مع الغرض الخاص حتّى يكون رسما تامّا ولا بالجنس البعيد والعرض
الخاص ، أو بالعرض الخاص وحده حتى يكون رسما ناقصا بل هو تعريف لفظي جيء به لحصول
الميز في الجملة ، أي لحصول الميز والامتياز عن بعض ما عداه لأن العلم بحقيقة
الأشياء مختص بعلّام الغيوب كما هو الحال في التعريفات والحدود غالبا لم يكن لها
دلالة على ان هذا التعريف نفس وجه المعرّف بالفتح وكنهه وحقيقته ، إذ غالبها لفظي.
وتبديل لفظ بلفظ
أوضح كقولك السعدانة نبت والثناء دواء بل المقصود من هذا التعريف الإشارة إلى
الشيء الذي قصد تعريفه من هذا الوجه والطريق ومن أجل كون التعريف لفظيا لا وقع
للاشكال على ما ذكر في تعريف الاستصحاب بعدم الطرد وبعدم مانعية الاغيار وبعدم
العكس وبعدم جامعية الافراد ، إذ لا بأس بهذا
الاشكال الوارد
على تعريف الاستصحاب من عدم الطرد ومن عدم العكس لأنّه ليس بحد ولا برسم والحال ان
الطرد والعكس مختصان بالتعريف الحقيقي الواقع في جواب (ما) الحقيقية.
واما التعريف
اللفظي فهو الواقع في جواب (ما) الشارحة ولا بأس بالإشارة إلى إشكال عدم الطرد
والعكس في هذا المقام فيقال :
ومن جملة تعريفه
بإثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأول وهذا غير منعكس
لخروج استصحاب بقاء الموضوع الذي له حكم ، وذلك كاستصحاب عدالة زيد وحياة عمرو
مثلا ، إذ يترتّب على الأول جواز الائتمام وجواز التقليد ، أو وجوبه إذا كان
مجتهدا وصار أعلم.
وعلى الثاني وجوب
نفقة أهله من ماله إذا كان له مال مع اعسار أهله. ومن جملة تعريفه بأنّه ابقاء ما
كان في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأول فهذا يشمل لقاعدة اليقين
أيضا ، مثلا إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الاربعاء ولكن شككنا يوم الجمعة
في عدالته يوم الاربعاء لاحتمال أن يكون علمنا السابق جهلا مركّبا وهذا مورد قاعدة
اليقين.
فانقدح أن ذكر
التعريفات ، أي تعريفات القوم للاستصحاب وما ذكر فيها من الاشكال والنقض والابرام
بلا حاصل وتطويل بلا طائل بعد كون تعريفات القوم لفظيا.
وامّا قيد الغالب
فلا خراج تعريف العقود والايقاعات مثلا إذا عرّفنا البيع بأنّه عبارة عن مبادلة
مال بمال على التراضي من جانب البائع ومن جهة المشتري بعقد خاص فهذا حقيقة البيع ،
وكذا إذا عرّفنا الطلاق بأنّه عبارة عن إزالة علقة الزوجية بصيغة خاصة مع العوض ،
أو بلا عوض فهذا حقيقة الطلاق و ...
كون المسألة
أصولية
قوله
: ثم لا يخفى ان البحث في حجّيته مسألة أصولية ...
قال المصنّف قدسسره : انّه لا يخفى أن البحث في حجّية الاستصحاب مسألة أصولية
لأنّ المقصود هو البحث عنها لتأسيس القاعدة التي تقع في طريق الاستنباط الأحكام
الفرعية وهذا الأمر خاصية المسألة الأصولية ، ولا يخفى أن مفاد حجّية الاستصحاب
ليس حكم العمل ، أي ليس الاستصحاب بمسألة فرعية مربوطة بعمل المكلف بلا واسطة
فالمقصود عن حجّيته أنّه لا يتعلّق بعمل المكلّف بلا واسطة كي تكون مسألة فرعية ،
ولكن لا ينكر كون حجّية الاستصحاب أمرا ينتهي بالاخرة بعمل المكلف بحيث يستفيد في
مقام العمل من الاستصحاب فالمقصود أن الاستصحاب لا يتعلّق بعمل المكلف بلا واسطة
كتعلّق الوجوب بإقامة الصلاة وكتعلّق الحرمة بشرب الخمر مثلا ، وليس الاستصحاب
كذلك لأنّه يتعلّق بعمل المكلّف بواسطة اليقين السابق ، فمسألة الاستصحاب ليست
بفرعية لعدم تعلّقه بالعمل بلا واسطة بل هي مسألة أصولية لانطباق قاعدتها عليها
وهي وقوع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام الفرعية الكلية وربّما لا يكون مجرى
الاستصحاب إلّا حكما أصوليا كالحجّية مثلا كانت قبلا حجية العام محرزا ومسلما ثم
نشك في بقائها بواسطة الأمر الذي يكون كونه مخصصا مشكوكا فنستصحب بقاء حجّيته.
ومن الواضح أن
عنوان الحجّية ليس من الامور التي تتعلّق بعمل المكلف بلا واسطة كي تكون من
المسائل الفرعية الفقهية فكيف يكون مفاد مسألة الاستصحاب حكم العمل بلا واسطة ،
وقد لا يكون المستصحب إلّا حكما أصوليا كحجيّة هذا عدم حجية ذاك لا حكما فرعيا
متعلّقا بالعمل بلا واسطة كوجوب هذا ، أو عدم وجوب ذاك.
ثم قال المصنّف قدسسره : انّ كون الاستصحاب من المسائل الاصولية لو كان
عبارة عن الحكم
ببقاء ما ثبت سابقا وامّا لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ،
أو كان الاستصحاب عبارة عن الظن بالبقاء الناشئ من ملاحظة ثبوته وتحقّقه قبلا ،
فلا إشكال حينئذ في كون الاستصحاب مسألة أصولية لأنّ بناء العقلاء والظن بالبقاء
لا يرتبطان بعمل المكلف بلا واسطة.
توضيح : وهو بيان الفرق بين المسائل الثلاث مسألة عملية فقهية ،
ومسألة أصولية ، ومسألة اعتقادية.
فيقال : قد اشتهر
تعريف الحكم الفرعي بأنّه ما يتعلّق بالعمل بلا واسطة.
وتعريف الحكم
الأصولي بأنّه ما يتعلّق بالأدلّة لا بالعمل.
وتعريف الحكم
الاعتقادي بأنّه ما يتعلّق بالعمل بواسطة اعتبار موضوعه في صحّة العمل مثلا يتعلّق
بصحّة العمل اعتقاد المبدأ والرسالة.
ومن هنا قد انقدح
لك أن تقييد التعلّق بالعمل في تعريف الحكم الفرعي انّما يكون لاخراج الأحكام
الأصولية فانّها تتعلّق بالأدلّة ، وأن تقييد العمل بعدم الواسطة لاخراج الاحكام
الاعتقادية فانّها تتعلّق بالعمل بواسطة اعتبار موضوعها في صحّة العمل.
الامور المعتبرة
في الاستصحاب
قوله
: وكيف كان فقد ظهر ممّا ذكرنا في تعريفه اعتبار الأمرين ...
قال المصنّف قدسسره : فقد ظهر من تعريف الاستصحاب اعتبار الأمرين بل اعتبار
أمور :
الأوّل : هو اليقين بثبوت شيء وهذا يستفاد من كلمة شك في بقاء
الحكم في بقاء موضوع ذي حكم في الزمن اللاحق لأنّ الشك في البقاء يستلزم حدوث
البقاء وحدوث البقاء يستلزم أصل البقاء وأصل البقاء يستلزم تيقن البقاء.
الثاني : هو الشك في البقاء وهذا مصرّح به في تعريفه.
الثالث : أن يكون الشك متعلّقا ببقاء ما تيقّن به مثلا كان زيد
عادلا في الأمس ونشك في بقاء عدالته في هذا اليوم فنستصحب بقاء عدالته فيه ولا
يتعلّق بأصل ما تيقّن به كما في قاعدة اليقين ، كما تيقّن عمرو بعدالة زيد في يوم
الجمعة ثم شك في أصل عدالته في ذلك اليوم لزوال منشأ علمه بعدالته فهذه القاعدة
قاعدة أخرى غير الاستصحاب تسمى بقاعدة اليقين وقد يطلق عليها الشك الساري وسيأتي
بحثها في أخير بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
الرابع : بقاء الموضوع في الاستصحاب بمعنى أنّه يعتبر في
الاستصحاب اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة موضوعا كما يعتبر اتحادهما
محمولا ، من تيقّن بقيام زيد مثلا فلا يجوز له استصحاب علمه فانّه محمول آخر فكذا
لا يجوز له استصحاب قيام عمرو فانّه موضوع آخر.
ويدل على اعتبار
الاتحاد المذكور انّه لا يتحقّق الشك في البقاء إلّا مع اتحاد القضيتين موضوعا
ومحمولا ، إذ من تقيّن بعدالة زيد إذا شك في علمه فهو ليس بشك في بقاء ما تيقّن به
فكذلك إذا شك في بقاء عدالة عمرو فهو ليس بشك في بقاء ما تيقن به ، وهذا الشرط
ممّا لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة كعدالة زيد مثلا ، أو اجتهاده
، أو فقره ، أو غناه ونحو ذلك في الجملة ، أي في غالبها.
اما بخلاف الزمان
وبعض الزمانيات كالدم الخارج من أنف زيد مثلا فانّها وإن لم تكن مجتمعة الأجزاء
بحسب الوجود الخارجي لتصرمها ، ولكن الانصاف ان وحدتها حقيقة لا تنثلم بذلك ما
دامت الأجزاء متصلة لم يتخلّل العدم بينها ولأجل هذا يجوز استصحاب الليل والنهار
ويجوز استصحاب جريان الماء من منبعه والدم من مجراه ، هذا مثال الزمانيات ، فملاك
الاتحاد هو نظر العرف وقيل : ان المعيار في الاتحاد هو نظر العقل.
نعم لا يجري
الاستصحاب في بعض الموضوعات الخارجية لعدم صدق بقاء الموضوع بنظر أهل العرف كما
إذا كان الماء قليلا فاضيف إليه مقدار من الماء يحتمل بلوغه حد الكر فانّه لا يجري
استصحاب الموضوع في هذا المقام لشك أهل العرف في بقاء الموضوع حينئذ فالتقييد
بكلمة انّما يكون لاخراج ما إذا شك أهل العرف في بقاء الموضوع كالمثال المتقدّم
آنفا.
تفصيل الاخباريين بين الحكم الشرعي وغيره
قوله
: وامّا الأحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل ، أم كان النقل ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية شرع في
بيانه في الاحكام الشرعية.
وأمّا الاخباريون (رض)
فقد فصّلوا بين الحكم الشرعي الكلّي فلا يعتبرون الاستصحاب فيه إلّا في عدم النسخ
وبين غيره فيعتبرون الاستصحاب فيه.
وامّا الاصوليون (رض)
فيقولون بأن جريانه فيها مشكل سواء كان مدركها العقل مثل حسن الصدق وقبح الكذب ،
إذ العقل يدرك حسن الأوّل ثم يحكم به وقبح الثاني فيحكم به ، أم كان مدركها النقل
كالكتاب الشريف والسنّة الشريفة ، إذ هما يكونان مدركين لأغلب الأحكام الشرعية ،
لأنّ الشك في بقاء الحكم انّما يكون في زمان الشك في بقاء الموضوع بواسطة تغير
الشيء الذي يحتمل أن يكون دخيلا في حدوث الموضوع ، أو بقائه وإلّا يكن كذلك فلا بد
أن يكون الحكم باقيا لبقاء علّته وهي موضوعة.
ومن الواضح انّه
إذا بقيت العلّة فقد بقي المعلول كما انّه إذا زالت العلّة فقد زال المعلول.
فالنتيجة لا
يتخلّف الحكم عن موضوعه أصلا إلّا بنحو البداء الذي يستحيل في حق الباري عزّ اسمه
المبارك.
وليعلم ان البداء
بالمعنى الذي يستحيل في حق الباري جلّ وعلى عبارة عن ظهور الخطأ والاشتباه في حكم
الحاكم وجعل الجاعل وتقنين المقنن مع بقاء الموضوع بحاله ، ولهذا يعدل عنه وجعل
حكما آخر.
ومن الواضح ان هذا
المعنى مستلزم لجهل الحاكم ابتداء والجهل مستحيل في حقّه (جلّ جلاله) تعالى عن ذلك
علوّا كبيرا.
وبتقرير أخصر وهو
أن البداء بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه مستحيل في حق الباري (جلّت عظمته) لاستلزامه
الجهل بعواقب الحكم والجعل والتقنين.
وامّا البداء بمعنى
اظهار الشيء بعد اخفائه فليس بمستحيل في حقّه (عزّ اسمه) لعدم استلزامه الجهل بل يستلزم
العلم بالعواقب والنتائج ، كما لا يخفى.
ولأجل هذا يكون
النسخ بحسب الحقيقة والواقع دفعا لا رفعا وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، ولا بد هنا
من بيان الأمرين :
الأوّل : هو توضيح دخل الشيء حدوثا في الموضوع ودخله فيه بقاء.
أمّا دخل الشيء حدوثا فكالأعلمية في مرجع التقليد.
وعليه فإذا قلّده
زيد مثلا حال كونه أعلم من غيره ثم صار غيره أعلم فالأعلمية ممّا يحتمل دخله في
وجوب التقليد حدوثا كما يحتمل دخله فيه بقاء.
وأمّا دخل الشيء
بقاء فكما إذا احتمل دخل عدم فسخ الصبي الذي عقد له الولي في بقاء العقد بعد بلوغه
ورشده. وعليه فإذا فسخه بعد البلوغ والرشد فلا يمكن اجراء الاستصحاب ، أي استصحاب
بقاء أثر العقد لاحتمال دخل عدم فسخ المعقود له ، وهو الصبي في بقاء أثر العقد
وحينئذ فلا يحرز بقاء الموضوع مع الفسخ المذكور كما لا يمكن اجراء استصحاب بقاء
وجوب تقليد زيد الأعلم بعد
صيرورة عمرو أعلم
منه لزوال الموضوع. ومن الواضح أنّه إذا زال الموضوع زال الحكم قهرا.
الثاني : هو توضيح الفرق بين الدفع والرفع وهو ان الدفع عبارة عن
اعدام الشيء قبل وجوده وتحقّقه ، والرفع عبارة عن اعدام الشيء بعد وجوده وتحقّقه
ولهذا يقال : ان الدفع أسهل من الرفع.
وعليه يقال في
النسخ : ان الحكم المجعول لم يكن شاملا لما بعد وقت النسخ واقعا ، وإن كان في
الظاهر شاملا له وهذا لا يستلزم الجهل أصلا. وأمّا لو كان النسخ رفعا فالحكم
المجعول كان شاملا لما بعد وقت النسخ ثم يرفع به وهذا غير ممكن في حق الباري (جلّ
جلاله) فإنّه مستلزم للجهل ـ وهو محال في حقّه سبحانه وتعالى ـ والاستمرار
والدوام.
وعليه فلا يقتضي
جعل الحكم وتقنين القانون بل يكونا مقتضيين لهما إلى زمان التغيير والتبديل
والنسخ. اما بخلاف الرفع فانّه يقتضي الدوام والاستمرار في جعل الحكم وتقنين
القانون ، ولكن الجاعل عدل عنه ووضع غيره موضعه فهذا مستلزم للجهل ، إذ يبدو
للجاعل الخطأ في جعله وللحاكم الاشتباه في حكمه من دون اختلاف في موضوعه أصلا.
استصحاب حكم الشرع المستند إلى حكم العقل
قوله
: ويندفع هذا الإشكال بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما ...
قال المصنّف قدسسره : يمكن أن يندفع الإشكال الوارد في جريان الاستصحاب
بالإضافة إلى الأحكام الشرعية بهذا البيان وهو أنّه سيأتي إن شاء الله تعالى ان
المدار في اتحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة وفي تعددهما هو العرف لا العقل
ولا الدليل.
وعليه يبتني جواز
استصحاب بقاء الحكم الشرعي بارتفاع بعض القيود المأخوذة في لسان الدليل في موضوع
الحكم ، كما لو دل الدليل على نجاسة الماء المتغيّر بسبب النجاسة لونا ، أو طعما ،
أو ريحا ، فإذا زال تغيّره بنفسه فيشك حينئذ في بقاء نجاسته فانّه يجوز استصحاب
النجاسة لذات الماء بعد زوال التغير بنفسه. لعدم كون التغير مقوما للموضوع عرفا
ولا يكون زواله موجبا للتعدّد وحينئذ فإذا جاز الاستصحاب في ذلك الماء جاز مع
اختلال بعض القيود التي ترجع إلى الموضوع إذا كانت ليست مقوّمة للموضوع في نظر العرف
لأنّ بعض الخصوصيات التي تلحظ في الموضوعات بحيث تبقى الاحكام بتحققها وتنعدم
بانعدامها ولكنّها بنظر العرف تعدّ من حالاتها وإن كانت بحسب الواقع من قيودها
ومقوّماتها.
وعلى هذا المبنى
والأساس يمكن جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية التي تكون مشكوكة البقاء من جهة
انتفاء بعض الامور التي تحتمل دخالتها في بقاء الموضوع لاحتمال كونها من قيود
الموضوعات ومقوّماتها ، ولكن العرف يراها من حالاتها بحيث لا يكون ارتفاعها موجبا
لارتفاع الموضوع ، كما هو شأن القيود.
وبالجملة مبنى هذه
الشبهة كون المرجع في بقاء الموضوع في الاستصحاب هو العقل وسيأتي إن شاء الله
تعالى ان المرجع في بقائه هو العرف.
فالنتيجة إذا كان الاتحاد بنظر العرف كافيا في تحقّق الاتحاد وفي
صدق الحكم ببقاء ما نشك في بقائه من الحكم الشرعي ، والحال أنّه كان بعض ما عليه
الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم للموضوع وبعض الخصوصيات يعدّ
بنظر أهل العرف من حالات الموضوع وان كان بعض الخصوصيات واقعا من قيود الموضوع
ومقوّماته لكان جريان الاستصحاب في
الأحكام الشرعية
الثابتة لموضوعاتها عند الشك في بقائها لأجل عروض انتفاء بعض ما احتمل دخله في
الموضوعات ممّا عدّ عرفا من حالاتها لا من مقوّماتها بمكان عال من الامكان ضرورة
صحّة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء تعبّدا على تمام الوجوه الأربعة التي
ستأتي إن شاء الله تعالى في محلّها.
ولا بأس بالإشارة
إليها وهي عبارة عن اعتبار الاستصحاب ببناء العقلاء تعبّدا ، أو لكون البقاء مظنونا
في الآن اللاحق سواء كان الحكم مظنونا البقاء بالظن الشخصي ، أم كان مظنونا البقاء
بالظن النوعي وعن اعتبار الاستصحاب من جهة دلالة النص المعتبر عليه وعن اعتباره من
جهة قيام الاجماع عليه لأنّه يجري كل واحد منها عند طرو انتفاء بعض ما احتمل دخله
في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها ممّا عدّ عرفا من حالات الموضوعات لا من
مقوّماتها لأنّ المدار في صحّة جريان الاستصحاب على صدق الشك في البقاء ، ومن
الواضح صدقه على الاتحاد العرفي موضوعا ومحمولا بين القضية المتيقّنة والمشكوكة
على تمام الوجوه الأربعة المذكورة بلا تفاوت في بنائهم على البقاء بين كون دليل
الحكم نقلا أو عقلا خلافا للشيخ الأنصاري قدسسره حيث ذهب إلى التفصيل في الأحكام الشرعية الكلية بين ما كان
مدركها العقل فلا يعتبر الاستصحاب فيه ، وبين ما كان مدركها النقل فيعتبر
الاستصحاب فيه فردّ المصنّف قدسسره هذا التفصيل.
وخلاصة كلام
المصنّف قدسسره ان عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية يكون من
جهة الشك في بقاء الموضوع من جهة تغيير بعض أجزاء الموضوع وقيوده يحتمل دخلهما في
حدوث الموضوع ، أو في بقائه ، وهذا الأمر يوجب الترديد في بقائه.
ومن الواضح أنّه
ما لم يحرز الموضوع وجدانا ، أو تعبّدا وما لم يحرز عدم الموضوع بأحدهما فلا يصح
استصحاب بقاء الحكم ، أو زواله ، إذ يشترط في
الاستصحاب أن تكون
القضية المشكوكة مع القضية المتيقّنة متّحدتين موضوعا ومحمولا.
وعليه فإذا تغيّر
قيد الموضوع وجزءه فيمكن أن يقال : ان الموضوع في القضية المشكوكة تكون متباينة مع
الموضوع في القضية المتيقّنة وفي ضوء هذا فلا محل للاستصحاب حينئذ في الأحكام
الشرعية الكلّية.
خلاصة جواب
المصنّف قدسسره : عن هذا الاشكال انّا سلّمنا كون شرط الاستصحاب اتحاد
القضية المشكوكة والمتيقّنة موضوعا ومحمولا وسلمنا أيضا كون تغير قيد الموضوع
موجبا لتغير الموضوع في القضية المتيقنة ، ولكن نقول : أن أهل العرف لا يرى تغير
القيد الذي لا يحرز كونه مقوّما للموضوع موجبا لتغيّر الموضوع ولتبدّله فلا جرم
يكون اتحاد القضيتين محفوظا بنظر العرف فشرط الاستصحاب موجود فلا مانع من جريانه
فيها فلا وجه حينئذ لتفصيل الاخباريين (رض) ومنعهم عن جريان الاستصحاب في الأحكام
الشرعية الكلية.
تفصيل الشيخ
الأنصاري قدسسره بين ما كان مدركه العقل ، أو النقل
قوله
: بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا ، أو عقلا ...
ذهب الشيخ
الأنصاري قدسسره إلى التفصيل بين ما كان مدركها العقل وذلك كقبح التصرف في
مال الغير عدوانا لانه ظلم وكل ظلم قبيح ، فهذا قبيح ثم عرض الاضطرار بالتصرّف
المذكور واحتمل به انتفاء قبح التصرف عدوانا فاذن نحتمل انتفاء حكم العقلي من جهة
انتفاء القيد الذي يكون ملحوظا في موضوع حكم العقل.
ومن الواضح انّه
إذا انتفى قيد الموضوع انتفى الحكم لاحتمال دخل القيد في مناط التقبيح العقلي بحيث
إذا انتفى القيد انتفى التقبيح العقلي بالنسبة إلى التصرّف العدواني لمال الغير.
قال الشيخ
الأنصاري قدسسره : وامّا إذا كان مدرك الحكم دليل النقل فلا مانع حينئذ من
جريان الاستصحاب لأنّ الموضوع يكون بيد الشارع المقدّس يتصرّف فيه بقاء وزوالا كيف
يشاء فاذا تغيّر بعض قيود الموضوع وبعض أجزائه لم يحرز لنا كونه مقوّما للموضوع
فهو لا يوجب تغيّر الموضوع وزواله فلا جرم يكون الاتحاد بين القضيتين محفوظا من
حيث الموضوع والمحمول بنظر العرف فيكون شرط الاستصحاب موجودا فلا مانع من جريانه
فيها والشارع المقدّس يكون من أهل العرف بل رئيسهم وإمامهم.
امّا المصنّف صاحب
الكفاية قدسسره فقد ذهب إلى بقاء الموضوع بحاله إذا تغيّر بعض قيوده
وأجزائه سواء كان مدرك الحكم دليل العقل ، أم كان دليل النقل.
أمّا الثاني فواضح
لأنّ تشخيص وحدة الموضوع في القضيتين انّما يكون بيد أهل العرف قطعا لأنّه مقصود
بفهم الأحكام الشرعية وهو مخاطب بها.
وعليه فإذا كان
الموضوع باقيا فلا إشكال حينئذ في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الكلية.
وأمّا الأوّل
فلأنّ الحكم الشرعي الذي يستكشف بالعقل ، وذلك كقبح الظلم وحسن العدل لأنّهما
يستكشفان بالعقل ولهذا حكم الشارع المقدّس بحرمة الأوّل ووجوب الثاني ، ولكن إذا
عرض الاضطرار والضرورة إلى إتيان الأوّل وترك الثاني فينتفي حينئذ ما احتمل دخله
في موضوع الحكم الشرعي وذلك كعنوان الضرر بالنسبة إلى حرمة الكذب المضر.
فإنّ الضرر ممّا
يحتمل دخله في الموضوع لكنّه ليس مقوّما للموضوع لأنّ الكذب حرام شرعا سواء كان
مضرّا ، أم لم يكن مضرّا ، وكذا عنوان النفع بالإضافة إلى وجوب الصدق فانّه ممّا
يحتمل دخله في الموضوع لكنّه ليس مقوّما للموضوع لأن الصدق واجب شرعا سواء كان
نافعا ، أم لم يكن بنافع ، وكذا عنوان القبح
بالإضافة إلى حرمة
الظلم فانّه ممّا يحتمل دخله في الموضوع لكنّه ليس بمقوّم للموضوع لأنّ الظلم حرام
شرعا سواء كان قبيحا ، أم لم يكن بقبيح.
وكذا وصف الحسن
بالنسبة إلى وجوب العدل شرعا حرفا بحرف فالعرف لا يرى هذه الامور مقوّمات للموضوع
وإن كانت هذه الامور مقومات للموضوع بالنظر الدقي العقلي لأنّه لو لا دخلها فيه
لكان أخذها فيه لغوا ومستدركا.
وفي ضوء اعتبار
بقاء الموضوع بنظر أهل العرف ففي صورة انتفاء ما يحتمل دخله في الموضوع حدوثا
وبقاء فيحكم ببقاء الموضوع ويكون مشكوك البقاء عرفا لاحتمال عدم دخله فيه واقعا
وإن كان لا حكم للعقل بدون قيد الموضوع قطعا مثلا إذا تنجس الماء بالتغيّر ولكن
زال تغيّره بنفسه فذات الماء مقيّد بالتغيّر ، فبعد زوال التغيّر لا يحكم العقل
بنجاسته ، ولكن قد حكم الشرع الأقدس بعد زوال التغيّر بنجاسته امّا بخلاف الجاري
والنابع إذا زال تغيّره بنفسه فقد طهرا لاتصالهما بالمادة. وفي ضوء هذا فقد انقدح
لك أن هذا حكم الراكد كالكرّ.
وخلاصة كلام
المصنّف قدسسره : أن حكم العقلي بعد الشك في موضوعه يكون مقطوع العدم ، أي
لا حكم للعقل حينئذ ولكن الحكم الشرعي الذي استفيد من الملازمة بين حكم العقل
والشرع باق ، فلذا استكشفنا ان الشارع المقدّس أوجب رد الوديعة مثلا وإن كان الضرر
في الرد فلا حكم للعقل بوجوب ردّها حينئذ وإذا شككنا في بقاء الوجوب وفي ارتفاعه
فقد استصحبنا بقاء وجوب ردّها ، إذ نحتمل أن لا يؤخذ عدم الضرر في موضوع وجوب
ردّها شرعا.
فلا إشكال في ان
كل قيد من القيود المأخوذة في موضوع الحكم العقلي يكون ممّا ينتفي بانتفائه الحكم
العقلي ، لكن لا يلزم من انتفائه انتفاء ملاكه ومناطه إذ يجوز أن الشيء ممّا له
دخل في حصول القطع بوجود الملاك ولا يكون له دخل في وجود الملاك واقعا بحيث لا
يحرز العقل وجود ملاك حكمه إلّا في ظرف القيد ، وإن
لم يكن لوجود
القيد دخل واقعا في نفس وجود الملاك ، ولازم ذلك المطلب انّه إذا انتفى مثل القيد
المذكور ينتفي حكم العقل جزما ويكون ملاكه محتمل البقاء واحتمال بقاء الملاك ملزوم
لاحتمال بقاء الحكم الشرعي لأنّه تابع له. وعليه فإذا فرض أن انتفاء القيد لا يوجب
تعدّد الموضوع في نظر العرف يصدق على الشك في الحكم أنّه شك في بقائه فيشمله دليل
الاستصحاب فلا نسلم ان ارتفاع القيد موجب لارتفاع الملاك واقعا فلا مانع من جريان
الاستصحاب في الحكم الشرعي.
هذا مضافا إلى
أنّه لو سلم أن ارتفاع القيد موجب لارتفاع الملاك واقعا لكن لا مانع من احتمال
وجوب ملاك آخر للحكم الشرعي لم يطلع عليه العقل فيحتمل لأجله بقاء الحكم.
غاية الأمر ان
الحكم الشرعي بحدوثه يستند إلى الجامع بين الملاكين وببقائه يستند إلى الملاك الآخر
الذي لم يرتفع بارتفاع القيد واختلاف علّة الحدوث والبقاء لا يوجب تعدّدا في وجود
المعلول فضلا عمّا إذا كان بهذا المقدار من الاختلاف الاستناد ليس إلّا إلى
الجامع.
غاية الأمر ان
الجامع كان موجودا أوّلا في ضمن فردين ثم صار موجودا في ضمن أحدهما. وعلى طبيعة الحال
فلا اصطكاك بين حكم العقل وبين حكم الشرع.
قوله : إن قلت كيف
هذا مع الملازمة بين الحكمين ...
فإن قيل : كيف
يستصحب الحكم الشرعي الذي يستكشف من حكم العقل عند طرو انتفاء ما احتمل دخله فيه
مع وجود الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بحيث كلّما حكم به العقل حكم به الشرع
وكلّما حكم به الشرع حكم به العقل ، أي يكونان معا وجودا وعدما.
وعليه فإذا استصحب
حكم الشرعي في مورد فلا بدّ من أن يستصحب حكم العقلي أيضا فلم قلت باستصحاب حكم
الشرعي في الماء المتغيّر إذا زال تغيّره
بنفسه وكذا في
وجوب رد الوديعة إذا كان في ردّها ضرر على الودعي ولم تقل باستصحاب حكم العقلي.
الجواب عنه
قوله
: قلت ذلك لأنّ الملازمة انّما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف ...
نعم انّما تكون
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وجودا وعدما في مقام الإثبات بحيث لو حكم العقل
في مورد علم منه حكم الشرع لا في مقام الثبوت ، أي لا يصدق قولنا لو لم يكن حكم
للعقل في مورد لم يكن حكم للشرع الأقدس فيه لعدم الدليل عليه ، بل الدليل على
خلافه ضرورة صدق قولنا قد يكون حكم الشرع ولا يكون حكم العقل كما إذا كان ملاك
الحكم العقلي موجودا ، ولكن لم يطّلع عليه العقل فإنّه لا حكم للعقل حينئذ لعدم
احراز ملاكه ، ولكن يثبت حكم الشرع لأجل احراز ملاكه عند الشارع المقدّس. وقد يكون
للشرع حكم ولا يكون للعقل حكم إذا كان ملاك حكم العقل موجودا ولكن لم يطّلع عليه
العقل حتى يحكم بحكم ولكن يكون الملاك محرزا عند الشرع فيحكم قهرا بحكم فوجه
انفكاك حكم الشرع عن حكم العقل بحيث يجوز استصحاب حكم الشرع ولا يمكن استصحاب حكم
العقل عدم تلازمهما في مقام الثبوت.
قوله
: فعدم استقلال العقل إلّا في حال غير ملازم لحكم الشرع ...
فعدم استقلال
العقل بالحكم إلّا في حال وجدان جميع قيود الموضوع غير ملازم لعدم حكم الشرع في
حال انتفاء بعض قيوده وشروطه كي لا يكون للشرع حكم في حال انتفاء بعض قيوده وشروطه
، ويدل على عدم هذه الملازمة بين الحكمين ثبوتا احتمال أن يكون ما هو ملاك حكم
الشرع من المصلحة في الواجبات ومن المفسدة في المحرّمات وهما تكونان باقيين على
حالهما في كلتا
الحالتين حالة
وجود قيد الموضوع وحالة عدم قيد الموضوع وانتفائه ولكن العقل لم يدرك ذاك الملاك
إلّا في حال وجود قيد الموضوع وتحقّقه ويدل على ذلك المطلب احتمال عدم دخل تلك
الحالة التي كانت سابقا كالتغير ، أو كالقبح ، أو الحسن مثلا في ملاك حكم الشرع
فالحكم الشرعي باق بحاله مع ذهاب تلك الحالة أو احتمال أن يكون مع الملاك الموجود
في حال التغير والقبح والحسن ملاك آخر بأن كان لنجاسة الماء المتغيّر ملاكان
أحدهما ملازم للتغير بحيث ينتفي بانتفائه ويذهب بذهابه ويبقى الملاك الثاني بلا
دخل لتلك الحالة الزائلة في الملاك الآخر أصلا وإن كان لتلك الحالة الزائلة دخل في
الحكم الذي لو اطلع العقل عليه ، أي على ملاكه ، لحكم بهذا الحكم وذلك كالتغير
والاضطرار فانّهما دخيلان في موضوع حكم العقل بالنجاسة والقبح ولكن انّهما غير
دخيلين في المفسدة الواقعية التي لم يطلع عليها العقل.
وبالجملة حكم
الشرع انّما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا من المصلحة والمفسدة ولا يتبع ما هو
مناط حكمه فعلا بحيث إذا حكم العقل فعلا حكم الشرع أيضا وإلّا فلا ، بل يكون حكم
الشرع تابعا للمصلحة الواقعية والمفسدة النفس الامرية سواء اطلع عليهما العقل ، أم
لم يطلع عليهما العقل.
وموضوع حكم العقل
فعلا ممّا لا يكاد يتطرّق إليه الاهمال والاجمال لأنّ العقل إذا أدرك المناط وأحرز
الموضوع احرازا تامّا كاملا فيحكم حكما بتيا جزميا فلا يتطرّق الشك في الأحكام
العقلية كي تستصحب مع تطرق الاهمال والاجمال في موضوع حكمه الشأني لاحتمال وجود
مصالح ومفاسد في الأفعال واقعا ولكن لم يطلع عليها العقل كما كان الأمر كذلك في
أكثر الأحكام الشرعية.
وقد انقدح لك ان
للعقل حكمين : أحدهما شأني ، والآخر فعلي. فالاهمال لا يكون في حكمه الفعلي ،
والوجه كما تقدّم آنفا.
وبتقرير آخر وهو
ان للعقل حكما واقعيا تعليقيا بحيث لو أدرك العقل المصلحة والمفسدة لحكم بالوجوب ،
أو الحرمة وحكما واقعيا فعليا وهو الذي لا يكون إلّا بعد إدراك المصلحة والمفسدة.
فملاك حكم الأوّل
هو نفس المصلحة والمفسدة بما هما هما من دون دخل للإدراك فيه أصلا.
وملاك حكم الثاني
هي المصلحة والمفسدة المحرزتان للعقل احرازا تامّا لا بما هما هما ، فإذا لم
يدركهما العقل لم يحكم على طبقهما بالوجوب والحرمة حكما فعليا.
هذا معيار الفرق
بين الحكمين الشأني التعليقي والواقعي الفعلي.
والتفصيل : فإن كان الغرض انكار الاهمال في حكمه الفعلي فهذا متين
لأنه إذا أحاط بمناط حكمه حكم وإلّا فلا يحكم لكن زوال الوصف وهو التغير والقبح
انّما يوجب انتفاء الحكم الفعلي ولا يوجب انتفاء الملاك الواقعي. وان كان الغرض
انكار الاهمال في حكم العقل الشأني فهذا غير ظاهر لاحتمال وجود مصالح ومفاسد في
الأفعال واقعا لم يطّلع عليها العقل كما تقدّم هذا الوجه آنفا وحيث احتمل وجود
ملاك الواقعي مع زوال الوصف فالشك في بقاء الحكم متحقّق ومع هذا يجري الاستصحاب.
فالنتيجة ربّ
خصوصية لها دخل في استقلال العقل في حكمه الفعلي ، وتلك كالتغير مثلا ، مع احتمال
بقاء ملاك العقل واقعا بعد زوال الوصف. ولا ريب في أنّه بقاء الملاك واقعا يحتمل
بقاء حكم الشرع جدّا لأجل دوران حكم الشرع مدار الملاك الواقعي وجودا وعدما وهذا
واضح لا غبار عليه ، وليس دورانه مدار الملاك المعلوم وجودا وعدما كما لا يخفى.
فتلخّص ممّا أفاده
المصنّف قدسسره أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب في
الشبهات الحكمية
بين ما إذا كان دليل الاستصحاب عقلا ، أو نقلا إذا صدق اتحاد القضيتين المتيقّنة
والمشكوكة موضوعا ومحمولا عرفا.
قوله
: فافهم جيّدا ...
وهو تدقيقي بقرينة
التقييد بكلمة الجيّد.
قوله
: ثم انّه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب قدسسرهم في
حجية الاستصحاب ...
ذهب بعضهم بل
أكثرهم إلى حجّيته مطلقا وذهب بعض الآخر إلى عدم حجّيته مطلقا ، واختار بعض الثالث
التفصيل بين الموضوعات وبين الاحكام وارتضى بعض الرابع التفصيل بين الشك في
المقتضى وبين الشك في الرافع. ومن هذا علم ان الاطلاقين الأوّلين يكونان في قبال
التفصيلين المتقدمين ، فالتفصيل الأوّل عبارة عن حجّية الاستصحاب في الموضوعات
وعدم حجّيته في الاحكام الشرعية ، كما ان التفصيل الثاني عبارة عن حجّية الاستصحاب
إذا كان الشك في المقتضى وعدم حجّيته إذا كان الشك في الرافع.
وفي المقام تفاصيل
الأخر الكثيرة :
ومنها تفصيل
الاخباريين قدسسرهم بين الأحكام الشرعية الكلّية وبين غيرها.
ومنها تفصيل الشيخ
الأنصاري قدسسره في الأحكام الشرعية بين ما كان مدركها العقل ، أو النقل.
ومنها تفصيل
الفاضل التوني قدسسره بين استصحاب الأحكام التكليفية والوضعية وبين استصحاب
السبب والشرط ، أو المانع وسيأتي شرح هذه التفاصيل إن شاء الله تعالى.
ولكن قال المصنّف قدسسره : لا فائدة لنا في نقلها ونقل الاستدلالات والبراهين عليها
، كما لا فائدة لنا في استقصاء الأقوال في المسألة ، بل المهم والمفيد لنا إثبات
الحجّية مطلقا ، أو عدم إثبات الحجّية مطلقا ، فلا بد لنا حينئذ بيان الاستدلال
على
المختار من
الحجّية مطلقا على نحو يثبت المدعى ويظهر استدلال سائر الأقوال وبطلانها. فاستدل
على المختار بوجوه أربعة :
الأوّل : استقرار
بناء العقلاء من الإنسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوانات على العمل على طبق
الحالة السابقة لأنّ العقلاء بما هم عقلاء سواء كانوا متدينين ، أم كانوا غير
متدينين على العمل على طبق الحالة السابقة ، مثلا كان زيد في السنة الماضية حيّا
ولكن نحتمل موته في السنة الحاضرة فلا يرفعون اليد من حياته ومن آثار حياته
ويعاملون معه ارسال المرسول ولا يتصرّفون في أموالهم ولا تختار زوجته بعلا آخر ،
وكذا إذا كان البلد موجودا في محل ، ولكن نحتمل هدمه وغرقه مثلا ولا يرفعون اليد
بهذا الاحتمال من آثار بقائه ، بل جميع الوحوش والطيور يرجع في الليل إلى المحل
المألوف ، وحيث لم يردع عن هذا البناء الشارع المقدّس فلا جرم يكون هذا البناء
ممضي وماضيا عنده وإلّا لوصل إلينا وحيث لم يصل إلينا فنكشف من عدم الوصول عدم
الردع عنه ثم نكشف منه رضاءه.
الجواب عنه
قوله
: وفيه أوّلا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّدا بل امّا رجاء واحتياطا ...
أجاب المصنّف قدسسره بالمنع عن استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة
السابقة تعبّدا ، يستقرّ بنائهم عليه بملاكات متعدّدة ؛ فقد يكون رجاء واحتياطا
وقد يكون اطمينانا بالبقاء ، وقد يكون ظنّا ولو نوعا ، وقد يكون غفلة كما هو الحال
في الحيوانات دائما لاختصاص اليقين والشك بالإنسان فلا يستند عمل الحيوان بالحالة
السابقة إلى الاستصحاب ، بل يكون عمل الإنسان على طبق محض العادة الناشئة من تكرّر
العمل. وكذا يكون عمل الإنسان أحيانا بمحض العادة المذكورة.
قوله
: وثانيا سلمنا استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة ...
لكنه لم يعلم ان
الشارع المقدّس يكون بهذا البناء راضيا وهذا عنده ماض ويكفي في الردع عن مثل هذا
البناء ما دل من الكتاب الكريم والسنّة الشريفة على النهي عن اتباع غير العلم ،
نحو قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وغيره من الآيات الأخر. ويعلم من هذا النهي عدم رضاء
الشارع المقدّس بالعمل على الحالة السابقة تعبّدا ، أو من باب الظن النوعي. ومن
الواضح ان الاستصحاب لا يفيد إلّا الظن.
هذا مضافا إلى ان
الشارع المقدّس قد جعل في مورد الشك قواعد أخر كالأدلة الدالّة على البراءة ، أو
الاحتياط في الشبهات ، وهي تدل بعمومها على ان حكم المشكوك عند الشارع المقدس
مطلقا براءة ، أو احتياط سواء كان له حالة سابقة ، أم لم يكن له حالة سابقة.
نعم يصح التمسك
باخبار الاستصحاب على امضاء العمل على طبق الحالة السابقة واليقين السابق.
فإن
قيل : ان أخبار
البراءة وأخبار الاحتياط تكون في قبال أخبار الاستصحاب فتكون بصدد المعارضة مع
أخبار الاستصحاب فيرجع حينئذ إلى قانون التعارض من المرجحات المنصوصة سندا ، أو
دلالة وسيأتي بيانها في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله تعالى فلا يعمل بأخبار
الاستصحاب لاحتمال ترجيحها عليها سندا ، أو دلالة.
قلنا
: ان أخبار
الاستصحاب حاكمة عليها ، إذ لسان أخبار البراءة براءة ذمّة المكلّف عن الحكم
المشكوك فيه سواء كان مسبوقا باليقين ، أم لم يكن مسبوقا به ولسان أخبار الاحتياط
اشتغال ذمّة المكلّف بالحكم المجهول سواء كان مسبوقا بالعلم ، أم لم يكن مسبوقا به
، ولسان أخبار الاستصحاب اشتغال ذمة المكلف بالحكم المشكوك فيه إذا كان مسبوقا
باليقين. فأخبار الاستصحاب مضيقة
لموضوعهما فلا
يكتفى بالسيرة التي لا يكون الامضاء فيها بمعلوم فلا وجه لاتباع هذا البناء في
المورد الذي لا بد أن يكون فيه الدليل المسلّم على الامضاء.
قوله
: فتأمّل جيّدا ...
وهو إشارة إلى عدم
لزوم الدور لو ثبتت حجّية الاستصحاب بالسيرة العقلاء بأن يقال في المقام ان رادعية
الآيات الناهية عن اتباع غير العلم متوقفة على عموم الآيات المذكورة لحجّية
الاستصحاب وعمومها لها يتوقف على عدم تخصيص الآيات ببناء العقلاء وعدم تخصيصها
يتوقف على عدم حجّية بناء العقلاء وسيرتهم ، إذ لو كان حجّة لخصص بناء العقلاء
عموم الآيات.
فإثبات عدم حجّية
بنائهم على الاستصحاب بأصالة عموم الآيات الناهية يتوقف على عموم الآيات الناهية
عن اتباع غير العلم وعمومها يتوقف على عدم حجّية بناء العقلاء وسيرتهم ، كما قيل
هذا الدور في مسألة حجية خبر الواحد بالسيرة ، أي سيرة العقلاء.
وقد تقدّم هذا في
بحث حجّية خبر الواحد ، ولكن الفرق موجود بين مسألة حجّية خبر الواحد ومسألة حجّية
الاستصحاب ، إذ حجّية سيرة العقلاء ثابتة على طبق العمل على الخبر الثقة ، ولكن
حجّية السيرة على العمل على طبق الحالة السابقة تتوقف على حجّية الاستصحاب وهي لم
تثبت بعد فحجيّة السيرة لم تثبت إذ لا دليل على اعتبار هذه السيرة على الحالة
السابقة.
فالنتيجة ان عموم الآيات يتوقّف على عدم حجّية بناء العقلاء وعدم
حجّية بنائهم لا يتوقف على عمومها ، إذ عدم حجّيته ثابت سواء كانت الآيات عامة
بحيث تشمل كل ظن من الظنون ، أم لم تكن بعامة لأنّ عدم حجّيته انّما يكون لأجل عدم
الدليل المعتبر في هذا المورد.
وفي ضوء هذا فكيف
تخصص الآيات الرادعة عن اتباع غير العلم بالسيرة
التي لم تثبت
حجّيّتها شرعا.
الوجه الثاني
قوله
: الوجه الثاني ان الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق ...
قال المصنّف قدسسره : الدليل الثاني لحجّية الاستصحاب ان ثبوت المستصحب في
الزمن السابق ، وذلك كعدالة زيد مثلا ، موجب للظن ببقائه في الزمن اللاحق ، ولهذا
يعامل العقلاء معه آثار البقاء من نفاذ قضائه وجواز الائتمام به وقبول شهادته
وجواز التقليد منه إذا كان مجتهدا ، أو وجوب التقليد منه إذا كان أعلم إلى أن
يعلموا بزوالها.
الجواب عنه
قوله
: وفيه منع اقتضاء مجرّد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا ...
قال المصنّف قدسسره : انّا لا نسلم ان صرف ثبوت المستصحب في الزمن السابق موجب
للظن الشخصي ، أو النوعي ببقائه في الزمن اللاحق ، إذ غالب الأشياء التي هي قابلة
للدوام والاستمرار يمكن فيه عدم الدوام والاستمرار.
والحال انّه ليس
لنا العلم بدوامه وعدم دوامه ، بل ليس لنا الظنّ بواحد منهما بالخصوص وعلى تقدير
حصول الظن بالدوام والاستمرار في غالب الأشياء لا يكون الدليل على اعتباره من باب
اعتبار الظن الخاص ، بل الحجّة العامة قائمة على عدم اعتباره ، وهي الآيات الناهية
عن اتباع غير العلم.
وبالجملة فهذا
فاسد من وجهين :
أحدهما
: لا نسلم كون
ثبوت الشيء في الزمن السابق موجبا للظن الشخصي أو النوعي ببقائه في الزمن اللاحق.
وثانيا : سلمنا ذلك ، ولكن ليس الدليل على اعتبار هذا الظن بل
يكون الدليل على عدم اعتباره ، إذ الأصل الأولي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج
بالدليل.
الوجه الثالث
قوله
: الوجه الثالث دعوى الاجماع عليه كما عن المبادى ...
قد ادعى صاحب
المبادى الاجماع على حجية الاستصحاب لأنّ الفقهاء (رض) قد أجمعوا على ان الحكم إذا
ثبت في زمان وشك في بقائه وزواله في زمان آخر هل عرض عليه ما يزيله ، أم لا؟
فالواجب هو الحكم ببقائه.
وعليه فلو لم يكن
الاستصحاب حجّة للزم ترجيح أحد طرفي الممكن الوجود والعدم على الآخر من غير مرجح
فعلم ان العلماء (رض) اتفقوا على حجّية الاستصحاب ، وكذا ادعاه المحقّق قدسسره صاحب المعارج في المعارج ، انتهى كلامه.
في ردّه
قوله
: وفيه ان تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة ممّا له مبان ...
وفيه ان تحصيل
الاجماع على نحو يستكشف من هذا الاجماع رأي الامام عليهالسلام في مثل هذه المسألة التي تكون بها مبان مختلفة بين الأعلام
(رض) ولها مدارك متعدّدة يكون في غاية الإشكال ولو مع الاتفاق في هذه المسألة لأنّ
الذاهب إلى الحجّية انّما يذهب إليها على تقدير صحّة مبناه وإلّا فهو يذهب إلى عدم
الحجّية.
وعليه فكيف يكون
هذا الاجماع كاشفا عن رأي المعصوم عليهالسلام لأنّه مدركي والاعتماد عليه هذا مضافا إلى انّه ليس
الاتفاق من الكل بمتحقّق لأنّ معظم الأصحاب (رض) قد ذهبوا إلى عدم حجّية الاستصحاب
مطلقا ، أو إذا كان الشك في المقتضى فنقل الاجماع في هذا المقام موهون وضعيف جدّا
لأجل خلاف المعظم.
ولو قيل بحجّية
الاجماع المنقول على تقدير عدم الخلاف في البين.
فخلاصة الكلام :
ان الاجماع المحصل وإن كان حجّة لكن هو غير حاصل في هذا المقام لأجل تحقّق الخلاف
من المعظم ، والمنقول من الاجماع ليس بحجّة أولا ولو سلمنا حجّيته فهذا مدركي ليس
بكاشف عن رأي الإمام عليهالسلام ثانيا ، ولو سلمنا عدم كونه مدركيا فهذا غير متحقّق في
المقام لأجل اختلاف المعظم (رض).
وفي ضوء هذا قد
انقدح لك فساد الوجوه الثلاثة التي اقيمت على حجّية الاستصحاب.
الاستدلال على حجّية الاستصحاب بالأخبار
قوله
: الوجه الرابع وهو العمدة في الباب الأخبار المستفيضة ...
منها : صحيحة
زرارة بن أعين رضى الله عنه قال : قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة
والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ،
فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإنّ حرّك على جنبه شيء ولم
يعلم به؟ قال : لا حتى يستيقن أنّه قد نام حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلّا فانّه
على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشك وانّما تنقضه بيقين آخر .
وهذه الرواية وإن
كانت مضمرة يعني لم يذكر اسم المعصوم عليهالسلام فيها ، أي قال قلت له ولم يعلم ان زرارة نقل هذا الخبر عن
الإمام المعصوم عليهالسلام ولكن اضمارها لا يضرّ باعتبارها حيث كان مضمرها مثل زرارة
بن أعين مرادي رضى الله عنه وهو أعلم تلامذة إمامنا الصادق عليهالسلام فهو لا يروي قانونا إلّا عن الإمام المعصوم عليهالسلام كما انّه لا يستفتي من غير الإمام عليهالسلام لما ذكر آنفا لا سيما مع هذا الاهتمام الذي استفيد من
تكرير السؤال المذكور في متن الحديث بل إثبات الشيخ الطوسي قدسسره في كتب
__________________
الحديث وإثبات
حمّاد بن عيسى رضى الله عنه في أصله راويا لها عن حريز شهادة قطعية على كونها
رواية عن المعصوم عليهالسلام.
وتقريب الاستدلال
بهذه الرواية أن قول المعصوم عليهالسلام وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا
ظاهر في انّه لا يجوز نقض اليقين بشيء بالشك وظاهر في انّ المعصوم عليهالسلام في صدد بيان علّة
الحكم الذي بيّن الإمام عليهالسلام بقوله في جواب سؤال بقول الراوي فان حرّك في جنبه شيء يعني
قال الإمام عليهالسلام فلو وجدت امارة النوم لما رفع الرجل يده من الوضوء لأنّه
على يقين من وضوئه وهو قد شك في النوم ولا ينبغي له أن يرفع اليد من اليقين بالشك
وأن ينقض اليقين بالشك ، إذ قاعدة كلية ارتكازية عقلائية عدم نقض اليقين السابق
بالشك اللاحق بل نقضه باليقين الآخر.
وعلى هذا التقريب
فالرواية تامّة من حيث الاستدلال ولا تختص بباب الوضوء فقط ، إذ لم يبيّن الإمام عليهالسلام لزرارة بن أعين رضى الله عنه علّة تعبدية لأنّه لو كان
البناء على التعبّد لكفى قوله عليهالسلام لا بل بيّن له قاعدة كلّية ارتكازية عقلائية وهي عبارة عن
عدم جواز نقض اليقين بالشك ، فالإمام عليهالسلام أعلم لزرارة رضى الله عنه ان هذا الرجل كان على يقين من
الوضوء وشك في النوم ومن الارتكازي انّه لا ينقض اليقين بالشك أبدا فالإمام عليهالسلام بيّن له تطبيق الكبرى المسلّمة على مورد السؤال فيستفاد من
بيانه عليهالسلام قاعدة كلية ارتكازية من بيان من كان على يقين في شيء سواء
كان وضوءا ، أم كان غيره فشك فليمض على يقينه.
فالشرط عبارة عن
جملة وان لم يستيقن أنّه قد نام وهي مستفادة من كلمة وإلّا في الحديث والجزاء
عبارة عن جملة فليس عليه إعادة الوضوء وهي مستفادة من كلمة لا في قول الإمام عليهالسلام وعلّة الجزاء عبارة عن اندراج اليقين والشك في مورد السؤال
في القضية المرتكزة في أذهان العقلاء ، أي ارتكز في أذهانهم مناسبة
العلّة للحكم كما
يقال : أكرم زيدا لأنّه عالم فهو تعليل بأمر ارتكازي لأنّ صفة الطول لا تناسب في
نظر العقلاء علّة لوجوب الاكرام بخلاف صفة العلم ، وفي المقام حيثية اليقين الذي
يطرأ ويعرض على موضوعه الشك ممّا يرتكز في أذهان العقلاء صلاحيته للحكم بعدم جواز
النقض ولا ريب في أنّ هذا الارتكاز لا يختص بباب دون باب والقضية الارتكازية لا
تختص بموضوع دون موضوع ، بل تعمّ جميع الأبواب والموضوعات فلا بد حينئذ من تعميم
الحكم ، إذ لو بنى على تخصيصه بباب دون باب ، أي بباب الوضوء فقط ، لكان التعليل
المذكور في قوله عليهالسلام فانّه على يقين من وضوئه تعبديا لا ارتكازيا وهو خلاف
الأصل العقلائي في التعليل لأنّ الغرض من التعليل تنبيه المتكلّم المخاطب على وجه
الحكم بحسب ما عند المخاطب.
وعليه فلو كان
تعبّديا محضا فلم يترتّب عليه الغرض المذكور من التنبيه للمخاطب على القاعدة
المرتكزة في الأذهان وهي عدم جواز نقض اليقين بالشك.
تقريب الاستدلال
بالاخبار
قوله : واحتمال أن
يكون الجزاء هو قوله فانّه على يقين ولا ينقض اليقين بالشك ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن الاحتمال الأوّل في الرواية شرع في الاحتمال الثاني
وقال : وامّا احتمال أن تكون جملة فانّه على يقين نفس الجزاء للشرط ولا تكون علّة
الجزاء الذي تنوب علّته منابه ولا يكون الجزاء هو المعنى الذي استفيد من كلمة (لا)
، أي فلا يجب عليه إعادة الوضوء.
وعلى هذا فالحديث
لا يدل على حجّية الاستصحاب على نحو الكلي. والتوضيح : ان الامام عليهالسلام كان مراده من قوله فانّه على يقين من وضوئه إثبات حكم
اليقين بالوضوء ولا يكون مراده منه صرف بيان الموضوع.
وبتقرير آخر : ان
الامام عليهالسلام بيّن بلسان جعل الموضوع حكمه ، وعليه فتكون جملة ولا ينقض
اليقين بالشك ، عطفا تفسيريا لجملة : فانّه على يقين من وضوئه.
وعلى هذا المعنى
فالحديث لا يدل على حجّية الاستصحاب على نحو القانون الكلي والقاعدة الكلية ، بل
يدل على حجّية الاستصحاب في باب الوضوء فقط ، لأنّ الظاهر من كلمة اليقين في قوله
: ولا ينقض اليقين يقين بالوضوء.
قال المصنّف قدسسره : ان هذا الاحتمال مدفوع ، إذ هذا الاحتمال صحيح تام إذا
اريد من جملة خبرية «فانّه على يقين من وضوئه» معنى انشائي ويكون مراد الإمام عليهالسلام لزوم العمل على طبق اليقين السابق ، وإذا اريد من جملة
الخبرية معنى إنشائي فهو بعيد غاية البعد ، إذ هذا التصرّف يكون على خلاف الظاهر ،
وهذا ظاهر.
فإن قيل : لأي داع
اريد من الخبر معنى إنشائي كي يلزم التصرّف على خلاف الظاهر؟
قلنا : ان الداعي
على هذا التصرّف عدم ارتباط الجزاء بالشرط لأنّ الشرط لا بدّ أن يكون سببا للجزاء
الذي هو مسبّب عن الشرط نحو : ان تضرب زيدا اضربه فضرب المخاطب سبب لضرب المتكلّم
في هذا المثال ، وكذا في سائر الموارد والأمثلة.
ومن الواضح ان عدم
اليقين بالنوم ليس بسبب لليقين بالوضوء سابقا لأنّ اليقين بالوضوء سابقا ثابت سواء
استيقن بالنوم ، أم لم يستيقن به.
نعم يكون عدم
اليقين بالنوم بواسطة الخفقة ، أو الخفقتين سببا للزوم العمل على طبق يقينه
السابق.
قوله
: وأبعد منه كون الجزاء قوله ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان احتمال الثاني أخذ في احتمال الثالث ، إذ في قوله عليهالسلام : فإنّه على يقين من وضوئه احتمالات ثلاثة :
الأوّل : ان يكون هذا علّة للجزاء المقدّر في نظم الحديث وهو
مستفاد من قوله عليهالسلام لا ، أي فلا يجب عليه إعادة الوضوء.
الثاني : أن يكون جزاء للشرط المستفاد من قوله عليهالسلام وإلّا ، أي وان لم يستيقن أنّه قد نام وقد سبق توضيحهما
مفصّلا.
الثالث : أن يكون الجزاء للشرط قوله عليهالسلام : ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ، وقوله عليهالسلام : فإنّه على يقين من وضوئه قد ذكر توطئة للجزاء كذكر
المبدل منه في الكلام فانّ ذكره توطئة لذكر البدل لأنّه مقصود بالحكم والمبدل منه
يكون في حكم السقوط نحو جاءني زيد أخوك ، أي جاءني أخوك وكذا فيما نحن فيه ، أي
وإن لم يستيقن أنّه نام فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ، أي وإن
لم يستقين انّه نام ولا ينقض اليقين بالشك أبدا.
قال المصنّف قدسسره هذا الاحتمال أبعد من سابقه من وجهين :
أحدهما
: مربوط باللفظ
وهو عبارة عن اقتران جملة ولا ينقض بالواو ، إذ لو كانت جزاء للشرط للزم خلوّها عن
الواو واقترانها بالفاء الجزائية.
وثانيهما : مربوط بالمعنى وهو أنّه يلزم كون القضية من قبيل القضية
الشرطية المساقة لتحقيق الموضوع مثل : إن رزقت ولدا فاختنه لامتناع فرض الجزاء في
هذه الشرطية إلّا في فرض تحقّق الشرط ، إذ يجب الختان مع تحقّق الولد في الخارج. وكذا
فيما نحن فيه ، إذ يحرم نقض اليقين بالشك مع تحقّق عدم اليقين بالنوم بسبب الخفقة
، أو الخفقتين.
هذا مضافا إلى ان
الظاهر أن تكون جملة فانّه على يقين من وضوئه علّة للجزاء وليس ذكرها بتمهيد له مع
لزوم كون الكلام وهو جملة ولا ينقض اليقين بالشك بمنزلة التأكيد لما قبله وهو
عبارة عن جملة فانّه على يقين من وضوئه كما في الاحتمال الثاني.
أمّا بخلاف ما لو
حمل هذا الكلام على المعنى الأوّل فانّه يدل على علّة الحكم وعلى ثبوت الكبرى
الكلّية المطردة في باب الوضوء الذي هو يكون مورد الرواية وتتحقّق الصغرى والكبرى
في هذا المقام.
إذ قوله عليهالسلام فانّه على يقين من وضوئه بمنزلة الصغرى ، وقوله عليهالسلام ولا ينقض اليقين بالشك أبدا بمنزلة الكبرى. ويقال في
ترتيبهما هكذا فالرجل على يقين من وضوئه (هذه صغرى) وكل يقين لا ينقض بالشك (هذه
كبرى) فالرجل لا ينقض يقينه بالشك أبدا (فهذه نتيجة).
قوله
: وقد انقدح بما ذكرنا ضعف احتمال اختصاص قضية ...
وقد ظهر من حمل
جملة فانّه على يقين من وضوئه على التعليل للجزاء المقدر في نظم الكلام ضعف اختصاص
قضية لا تنقض اليقين بالشك باليقين والشك في باب الوضوء فقط لأنّ الإمام عليهالسلام لم يعلّل بأمر تعبّدي كي يختص اليقين والشك المذكوران في
متن الحديث باليقين والشك في باب الوضوء ، بل يعلّل الامام عليهالسلام عدم وجوب إعادة الوضوء على الرجل الذي عرض عليه الخفقة ،
أو الخفقتان بأمر ارتكازي عقلي وهو عبارة عن اليقين والشك بكل شيء ولا يختص الأمر
الارتكازي باليقين في باب الوضوء وبالشك فيه ، بل يعمّ جميع موارد اليقين والشك
فاختصاصهما في باب الوضوء وظهور التعليل في الأمر الارتكازي متنافيان الاختصاص
يقتضي كون التعليل تعبّديا لا ارتكازيا وظهور التعليل يقتضي كونه ارتكازيا لا
تعبّديا وما هذا إلّا تناف ظاهر وتناقض صريح.
ويؤيّد كون
التعليل ارتكازيا لا تعبّديا تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء من الطهارة
والنجاسة وأمثالهما في غير هذه الرواية بهذه القضية الكلية ، أو بما يرادفها من
نحو لا ترفع اليد عن يقينك بالشك ولا تترك قطعك السابق بترديدك اللاحق مثلا للحكم
بالمضي والعمل باليقين مع الشك في غير الوضوء فهو يعلّل
باليقين والشك
ويستفاد من هذا التعليل في غير الوضوء عدم اختصاص هذه الصغرى والكبرى بباب الوضوء.
فإن قيل : ان
الألف واللام يحتمل أن يكون للعهد الذكرى وهو إشارة إلى اليقين بالوضوء المذكور في
قوله عليهالسلام : فانّه على يقين من وضوئه ، كما ان الألف واللام في
الرسول في نحو : (فَعَصى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ) إشارة إلى الرسول الذي ذكر في قوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ
رَسُولاً) فحكمه كحكم ضمير الغائب تقدّم ذكره لفظا ، أو معنى ، أو
حكما ، فكذا لا بدّ أن يذكر معهوده سابقا لفظا أو معنى أو حكما ، فسبق يقين الوضوء
ربّما يوهم كونه للعهد الذكرى بحيث لو فرض إرادة خصوص يقين الوضوء من قوله عليهالسلام : ولا تنقض اليقين بالشك أبدا ، لم يكن بعيدا عن سياق
الكلام.
وعلى هذا فيكون
المستفاد من الصحيحة المذكورة قاعدة كلّية مختصّة بباب الوضوء فقط لا قاعدة كلّية
ارتكازية غير مختصة بباب دون باب كما هو المطلوب في المقام.
قلنا : ان ظاهر
التعليل ، وهو عبارة عن قول الإمام عليهالسلام : فانّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ،
هو التعليل باندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلّية المرتكزة في
أذهان العقلاء من عدم نقض اليقين بالشك أبدا ، ولو كان اللام للعهد الذكري لكان
تعليلا باندراجهما في القضية التعبّدية وهي عبارة عن عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك
، إذ ليس خصوص عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك قضية مرتكزة في أذهان العقلاء كما لا
يخفى.
قوله
: مع انّه لا موجب لاحتماله ...
أي مع أنّه لا
موجب لاحتمال الاختصاص بباب الوضوء إلّا احتمال كون اللام للعهد الذكري مع ان
الظاهر كون اللام للجنس لأنّه أصل فيه لوضعه له ابتداء.
قوله : فتأمّل
جيّدا ...
وهو تدقيقي ،
بقرينة تعقيبه بكلمة الجيّد.
هذا ، مضافا إلى
ان ظهور التعليل بأمر ارتكازي هو أقوى من ظهور اللام في العهد الذكري. وعلى طبيعة
الحال إذا اريد من اللام الجنس فلا ركاكة في الحديث الشريف.
وأمّا إذا اريد
العهد الذكري من اللام وكان التعليل بأمر تعبّدي فيكون الحديث ركيكا جدّا نظير
تكأكأتم وافرنقعوا عني لأنّ عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك فيه غير مأنوس في
الأذهان وغير مرتكز في أذهان العقلاء ، بل المرتكز في أذهانهم هو عدم نقض اليقين
بطور الكلي بالشك.
هذا مضافا إلى ان
الظاهر ان اللام للجنس لا للعهد الذكري ولا للتزيين ، وسبق فانّه على يقين من
وضوئه من حيث الذكر لا يكون قرينة دالّة على كون اللام للعهد الذكري مع كمال
الملاءمة مع الجنس أيضا.
فالنتيجة انّ مجرّد سبق المدخول لا يكون قرينة لفظية على كون اللام
للعهد الذكري في صورة ملائمة الكلام من حيث المعنى كما فيما نحن فيه ، أي جنس
اليقين لا ينقض بالشك أبدا لا اليقين بالوضوء لا ينقض بالشك ، وامّا سائر اليقين
فينقض بالشك ، وهذا المعنى ممّا يضحك به الثكلى.
نعم يكون سبق
المدخول قرينة لفظية دالّة على كون اللام للعهد الذكري إذا لم تكن الملاءمة في
الكلام من حيث المعنى مع كونها للجنس كما في قوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ، إذ عصيان فرعون اللعين انّما يكون للمعهود الرسول الذي
أرسل إليه لهدايته وإرشاده ، وهو موسى بن عمران على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة
وأتم السلام ولا يتحقّق العصيان منه بالإضافة إلى جنس الرسول أبدا ، وهذا
__________________
ظاهر.
وعلى طبيعة الحال
فصار اليقين بالوضوء من أفراد اليقين وصغرى من صغرياته.
فإن قيل : لم جعل
المصنّف قدسسره هذا الوجه تأييدا للمدعى لا دليلا عليه؟
قلنا : انّه يحتمل
أن يكون لسان التعليل للعهد الذكري كما في الصحيحة الآتية إن شاء الله تعالى ، فلا
بد حينئذ من قرينة اخرى لإثبات كون اللام للجنس غير الملاءمة مع الجنس ولكن هي
موجودة في المقام وهي عبارة عن كون الأصل في التعليل أن يكون ارتكازيا لا تعبّديا
والارتكازية تناسب مع الجنس لا العهد. وأمّا الفرق بين الدليل وبين التأييد فقد
سبق مكرّرا فلا حاجة إلى الإعادة.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
الملاءمة ، أي ملائمة التعليل مع الجنس لا تمنع عن كون اللام للعهد الذكري ، إذ
الملاءمة تكون مع العهد الذكري أيضا.
وعليه فالعمدة في
منع العهد الذكري ظهور التعليل في ادخال المورد ، أي مورد اليقين بالوضوء والشك
فيه في القضية الكلّية الارتكازية غير المختصة بباب واحد فقط.
وعليه فالجملة
فانّه على يقين من وضوئه ، وجملة «ولا ينقض اليقين بالشك» تشكّلان الصغرى والكبرى
بهيئة الشكل الأوّل بهذا الترتيب بحيث يكون اليقين المطلق حدّا وسطا في متن
القياس. ويقال لا يجب على المكلف الوضوء فانه على يقين من وضوئه ، هذه الجملة
صغرى. وكل يقين لا ينقض بالشك ، هذه الجملة كبرى ، فالوضوء لا ينقض بالشك هذه
الجملة نتيجة.
ويقال في مقام
بيان علّة عدم وجوب إعادة الوضوء في صورة عدم التيقّن بالنوم بواسطة الخفقة ، أو
الخفقتين ، فإنّه كان ثابتا من طرف وضوئه على يقين
ولا ينقض اليقين
بالشك أبدا.
ومن الواضح ان
قضية الكبرى ظاهرة في عموم اليقين وعموم الشك لا سيما إذا لوحظ تطبيقهما في
الأخبار الأخر في غير الوضوء أيضا.
الحاصل ان هذا
الخبر بلحاظ صدره وذيله وبملاحظة سائر الاخبار التي تشتمل على تطبيق الكبرى على
الصغرى ظاهر في ان المناط هو اليقين والشك وخصوص الوضوء مورد. ومن المعلوم ان
المورد لا يكون مخصصا ولا معمّما وهو ليس بدخيل في الحكم.
فان
قيل : لم سمي الجار
والمجرور بالظرف والحال ان الظرف امّا مكان كالمدرسة مثلا وامّا زمان كيوم الجمعة
مثلا وهما ليسا باحدهما.
قلنا
: ان التسمية
انّما تكون باعتبار الغالب ، إذ غالبا يكون المجرور ظرفا نحو في الدار وفي الأمس
وحمل الأقل على الأغلب فكأنّه يكون المجرور ظرفا كلا فسمّى الجار والمجرور معا
ظرفا من باب تسمية الكل باسم الجزء ، هذا أوّلا.
وثانيا عبّر عنهما
به تشبيها لهما به من حيث احتياج كل واحد من الجار والمجرور والظرف إلى المتعلق (بالفتح)
ولهذا عبّر عنهما بالظرف كما قد يعبّر عن الرجل الشجاع بالأسد ، ويقال هذا أسد
لمشابهته له في وصف الشجاعة والجرأة.
بقي
في المقام توضيح امور :
الأوّل : بيان معنى اللغوي للخفقة وتوضيحه فيقال : الخفقة حركة
الرأس بسبب النعاس ، يقال : خفق برأسه خفقة ، أو خفقتين إذا أخذته حركة من النعاس
برأسه فمال برأسه دون سائر جسده.
الثاني : في بيان توضيح أفعال العموم وهي أربعة : الكون والثبوت
والوجود والحصول وسائرها خصوص.
الثالث
: في توضيح وجه
التسمية للافعال المذكورة ويقال كلّما تحقّق فعل من
الأفعال في الخارج
تحقّق الكون والوجود وغيرهما وليس كلّما تحقّق الكون والوجود تحقّق الضرب ، أو
القتل ، إذ يتحقّق الكون في ضمن فعل من الأفعال.
قوله
: مع انّه غير ظاهر في اليقين بالوضوء ...
وليعلم ان الظرف
على قسمين :
أحدهما : ظرف
مستقر ، وهو عبارة عن الظرف الذي حذف متعلّقه سواء كان من أفعال العموم وأسماء
العموم ، أم كان من أفعال الخصوص وأسماء الخصوص.
وثانيهما : ظرف
لغو ، وهو عبارة عن الظرف الذي ذكر متعلّقه في نظم الكلام سواء كان من أفعال
العموم ، أم كان من أفعال الخصوص وسواء كان من أسماء العموم أم كان من أسماء
الخصوص. وفي ضوء هذا انّا نقول : ان الأصل في اللام أن يكون بمعنى الجنس.
ومن الواضح انّه
متى أمكن استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي وإذا لم تقم قرينة على استعماله في
المعنى المجازي فلا يصار إلى المجاز لأنّه خلاف الأصل.
فإن قيل : انّ هذا
الكلام صحيح إذا لم تكن قرينة على المجاز ، ولكن ذكر جملة فانّه على يقين من وضوئه
في الكلام قرينة على ان المراد من اللام في اليقين للعهد الذكري.
قلنا : ان إرادة
المعنى الحقيقي من اللفظ متى أمكن وكان مناسبا مع مورد الرواية فلا موجب حينئذ
لإرادة المعنى المجازي.
هذا مضافا إلى ان
اللام في اليقين لو كان للعهد الذكري ولا يكون معهوده اليقين بالوضوء ، بل يكون
مطلق اليقين ، إذ كلمة من وضوئه تكون جارا ومجرورا متعلّق بكائن ، أو ثابت فتكون
ظرفا مستقرّا ، إذ متعلّقه محذوف من نظم الكلام فيكون تقدير الحديث هكذا وإلّا
فإنّه كان ثابتا من ناحية وضوئه على يقين ولا ينقض اليقين الكلّي بالشك الكلّي ،
أي وإن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه
إعادة الوضوء
فإنّه كان ثابتا من جهة وضوئه على يقين.
تفصيل الشيخ رحمهالله بين الشك في المقتضى والشك في الرافع
قوله
: ثم لا يخفى حسن اسناد النقض وهو ضد الابرام إلى اليقين ...
استشكل الشيخ
الأنصاري قدسسره تبعا للمحقّق الخوانساري قدسسره في دلالة الأخبار على ثبوت الاستصحاب إذا كان الشك في
البقاء مستندا إلى الشك في المقتضى فلا يكون الاستصحاب حجّة فيه. وامّا إذا كان
الشك في البقاء مستندا إلى الشك في الرافع فيكون حجّة فيه ، إذ في الأخبار التي
تمسّك الأصوليون (رض) بها على حجّية الاستصحاب جاءت كلمة لا تنقض اليقين بالشك ،
ويستفاد منها اقتضاء المستصحب البقاء والدوام.
والشك في البقاء
انّما يكون من جهة حصول الرافع ، إذ حقيقة النقض الذي هو ضد الابرام فك الفتل ورفع
الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل ، وهذا لا يمكن في صورة تعلّق النقض باليقين ،
إذ ليس له هيئة اتصالية فلا بد من إرادة المعنى الأقرب إليه ، وهذا معنى حقيقي له
، ومعنى مجازي وهو رفع اليد عن الأمر المستحكم الذي فيه اقتضاء الثبوت والاستمرار
والبقاء ، وهذا أقرب إلى المعنى الحقيقي ومعنى مجازي آخر وهو عبارة عن مطلق رفع
اليد عن الشيء وترك العمل به ولو لعدم المقتضى له وهذا أبعد منه إلى المعنى
الحقيقي.
وفي ضوء هذا إذا
تعذّر المعنى الحقيقي في المقام وتعدّد المعنى المجازي فيتعيّن أقربه إليه ، وهو
المعنى المجازي الأوّل فيختص اليقين حينئذ بما إذا كان متعلّقه أمرا ثابتا مستحكما
فيه اقتضاء الثبوت والدوام وذلك كالعدالة والملكية ونحوهما ممّا يحتاج رفعه إلى
وجود رافع وتحقق مزيل دون ما ليس فيه اقتضاء الثبوت والدوام والاستمرار بل يرتفع
بنفسه من دون الاحتياج إلى وجود رافع وذلك
كالآنات والساعات
والليل والنهار مثلا واشتعال السراج إذا شك في بقائه للشك في استعداده للدوام
والاستمرار.
ولا بأس بذكر
المثال لتوضيح الممثل حتّى يتبيّن الشك في الرافع والشك في المقتضى إذا أشعلنا
السراج ساعة قبل مثلا وبعد مضي الساعة من اشتعاله حصل لنا الشك في بقاء اشتعاله
وعدمه.
وحصول الشك
المذكور بسبب أحد الأمرين :
الأوّل
: انّا نحرز
استعداد بقاء اشتعاله إلى عشر ساعات مثلا ، ولكن نحتمل تحقّق الرافع لاشتعاله وذلك
كالريح العاصف الذي يوجب اطفائه فيكون الشك حينئذ في الرافع.
الثاني : انّا لم نحرز استعداد بقاء اشتعاله إلى ثمانية ساعات من
حين اشتعاله ويكون الشك حينئذ في المقتضى مثلا لا نعلم مقدار دوام اشتعاله من جهة
عدم علمنا بمقدار دهن السراج المشتعل.
فالشيخ الأنصاري قدسسره استفاد حجّية الاستصحاب إذا كان الشك في الرافع دون ما إذا
كان الشك في المقتضى من كلمة (نقض) ومن جملة (ولا تنقض اليقين بالشك) ، إذ حقيقة
النقض عبارة عن رفع الهيئة الاتصالية. وذلك كالطناب الذي غزل من صوف ، أو شعر ، أو
قطن فإذا رفع الإنسان هيئة اتصاله تحقّق النقض والنقض يكون بهذا المعنى في صورة
الشك في الرافع لا الشك في المقتضى.
جواب المصنّف قدسسره عنه
فمحصل كلامه في
الجواب عنه : ان النقض ضد الابرام فلا بدّ من أن يكون متعلّق النقض أمرا محكما
مستحكما ، وذلك مثل البيعة والعهد وأمثالهما لكن نفس
اليقين في نظر
العرف يكون ذا استحكام وابرام بحيث يصدق في نقضه كسر امّا بخلاف الظن والشك فانّه
ليس لهما استحكام وابرام في نظر العرف. ولهذا لا يقال : نقضت الظن والشك ، كما
يقال : نقضت اليقين سواء كان متعلّقا بالشيء الذي ليس له مقتضى للدوام والاستمرار
، وذلك كالسراج الذي اشتعل ثم شك في بقاء اشتعاله إلى هذه الساعة من جهة نفاد دهنه
وتمامه وهو مقتض لاشتعاله ويكون هذا الشك في المقتضى ويصدق نقض اليقين بالاشتعال
وإن كان الشك في المقتضى.
فالنتيجة : ان حسن
اسناد النقض إلى اليقين بعد تعذّر إرادة المعنى الحقيقي ليس لليقين هيئة اتصالية
كي ترفع وتنقض ليس بملاحظة متعلّقه ، أي المتيقّن حتى يوجب تخصيصه بالمتيقن الذي
يكون من شأنه الثبوت والاستمرار لأجل ما يتخيّل في اليقين من الاستحكام والابرام
سواء كان متعلّقا بما فيه اقتضاء الثبوت والاستمرار ، أم تعلّق بما فيه عدم اقتضاء
الثبوت والدوام والاستمرار. اما بخلاف الظن فانّه ليس فيه إبرام واستحكام.
وعلى طبيعة الحال
يكون الاستصحاب حجّة سواء كان في مورد الشك في الرافع ، أم كان في مورد الشك في
المقتضى ، إذ المراد من جملة : ولا تنقض اليقين بالشك نقض نفس اليقين لا نقض
المتيقّن كي يختص النقض بالمتيقّن الذي له اقتضاء الثبوت والدوام وحتى يكون الشك
في الرافع والمزيل لا في المقتضى ، فتفصيل الشيخ الأنصاري قدسسره بين الشك في الرافع وبين الشك في المقتضى فاسد لأنّ الشارع
المقدّس أمر بحرمة نقض اليقين بالشك في كل موضع كان فيه اليقين والشك ، فعلم في ان
اليقين استحكاما وابراما. ولذا يصح نقضه والظن لا يصح نقضه إذ ليس فيه استحكام
وابرام وان كان متعلّقا بما فيه اقتضاء البقاء والاستمرار.
وفي ضوء هذا يصح
اسناد النقض إليه ويقال : نقضت اليقين.
قوله
: وإلّا لما صحّ أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضى له ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان الشاهد الأوّل الذي يصحّح اسناد النقض إلى اليقين
وهو عبارة عن صحّة قول نقضت اليقين كما قد سبق هذا شرع في بيان الشاهد الثاني وقال
: وإن لم يكن مصحّح النقض ما في اليقين من الابرام والاستحكام بل كان المصحّح
للنقض ما في المتيقن من اقتضاء الدوام والبقاء لكان استعمال النقض فيما فيه مقتضى
البقاء والاستمرار صحيحا حسنا مع عدم حسنه وصحّته لركاكة قولنا : نقضت الحجر من
مكانه ، ولا ريب في ان الحجر لو خلى وطبعه يقتضي بقائه في مكانه لأجل ثقالته
فالحجر لا ينفصل عن مكانه إلّا برافع. ولكن يصح أن يقال : نقضت الحجر بمعنى كسرته
لأنّ الحجر في نفسه لا يخلو من نوع من الابرام والاستحكام بين أجزائه كالحديد مثلا
، كما يصح أن يقال : نقضت البناء إذا أزلته عن مكانه لأنّ كونه في مكانه لا يخلو
من ابرام واستحكام أيضا.
والغرض من ذكر
هذين المثالين توضيح اسناد النقض إلى الشيء الذي له ابرام واستحكام وذلك كالحجر
والبناء ، وكذا اليقين.
امّا بخلاف الظن
والشك فانّه لا يصح اسناد النقض إليهما لعدم الابرام والاستحكام فيهما.
فالنتيجة : وان لم
يحسن اسناد النقض إلى اليقين إلّا إذا كان متعلّقا بما فيه اقتضاء البقاء
والاستمرار لصح اسناد النقض إلى نفس ما فيه اقتضاء البقاء والاستمرار كما في نقضت
الحجر من مكانه.
ولمّا صح اسناد
النقض إلى اليقين المتعلّق بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار كما في انتقض
اليقين باشتعال السراج فيما إذا شك في بقاء الاشتعال للشك في استعداده مع انّه
يصحّ اسناده إليه مثل ما يصح اسناده إلى اليقين المتعلّق بما فيه اقتضاء البقاء
والاستمرار ، وذلك كاليقين بالطهارة والنجاسة والزوجية والملكية وأمثالها.
هذا كلّه يدللنا
إلى حسن اسناد النقض إلى اليقين ليس بملاك تعلّقه بما فيه اقتضاء البقاء
والاستمرار ، بل يكون بملاك كون نفس اليقين ممّا يتخيّل فيه الابرام والاستحكام.
وامّا بيان وجه
ركاكة المثال المذكور ، فانّما هو بلحاظ لفظة من مكانه وهي دالّة على إرادة رفع
الحجر ، أو نقله من مكانه من لفظ النقض وهو غير مناسب مع المعنى الحقيقي الذي هو
عبارة عن رفع الهيئة الاتصالية كما تقدّم هذا ، لأنّه لا بد في الاستعمال المجازي
من العلاقة المصحّحة للتجوّز وليست بين المعنى الحقيقي للنقض والرفع ، أو النقل من
المكان ، إذ ليست بينهما علاقة المشابهة ولا علاقة الكل والجزء ولا علاقة الملازمة
ولا علاقة السببية والمسببية ولا علاقة المجاورة ولا علاقة الحالية والمحلية و ....
وامّا إذا اسند النقض
إلى الحجر وحده من دون كلمة من مكانه كما يقال : نقضت الحجر ، لصح الاسناد وحسن
كما في قولك : نقضت البناء. والوجه ان الابرام والاستحكام ثابتان في الحجر
والبناء.
احتجاج الشيخ
الأنصاري
واستدل الشيخ
الأنصاري قدسسره لمدّعاه بأنّ النقض لا بدّ أن يتعلّق بأمر مبرم مستحكم
والشك انّما يكون في رافعه ومتى تعذّرت الحقيقة ، إذ ليس في موارد اطلاق النقض في
الاخبار أمر مبرم مستحكم كي يرفع اتصاله فلا بد أن يراد من لفظ النقض أقرب
المجازات وهو عبارة عن تعلّق النقض بالشيء الذي يقتضي البقاء والاستمرار والشك
انّما يكون في رافعه ومزيله لا في المقتضى.
وامّا ردّه فقد
علم ممّا سبق آنفا فلا حاجة إلى التكرار لأنّه ممل وكل ممل ليس بمستحسن ، فهذا ليس
بمستحسن.
قوله : مثل ذلك
الأمر ...
أي بعد تعذّر
إرادة مثل ذاك الأمر المبرم المستحكم ، أي بعد تعذّر إرادة المعنى الحقيقي للفظ
النقض حقيقة ، وهو عبارة عن ما يصح اسناد النقض إليه حقيقة.
قوله
: فإن قلت نعم ولكنّه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب ...
نعم انّما يكون
حسن اسناد النقض إلى اليقين بملاحظة نفسه وذاته ، إذ فيه ابرام واستحكام لا
بملاحظة المتيقن (بالفتح) لكن لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة والانتقاض
حقيقة انّما يكون في قاعدة اليقين ، وسيأتي الفرق بين الاستصحاب وبين قاعدة اليقين
في محلّه إن شاء الله تعالى مفصّلا.
وامّا خلاصة الفرق
بين الاستصحاب وقاعدة اليقين أن كلا من اليقين والشك في الاستصحاب قد تعلّق بغير
ما تعلّق به الآخر.
وفي قاعدة اليقين
قد تعلّق كل واحد منهما بعين ما تعلّق به الآخر فيتّحد متعلّقهما فيها. ولا بد من
ذكر المثال هنا وهو (فإذا تيقّن) بالوضوء في أوّل النهار ولكن شك في الوضوء في وسط
النهار فهذا مجرى الاستصحاب ولا انتقاض حقيقة هنا فإن ما تعلّق به اليقين السابق
وهو الوضوء في أوّل النهار لم يتعلّق به الشك اللّاحق وما تعلّق به الشك اللّاحق ـ
وهو الوضوء في وسط النهار ـ لم يتعلّق به اليقين السابق.
وامّا إذا تيقّن
بالوضوء في أوّل النهار وشك في وسط النهار في أصل وضوئه في أوّل النهار فهذا مجرى
قاعدة اليقين ، وفيه انتقاض اليقين السابق حقيقة.
وعليه فإذا لم يكن
انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة فإن كان المتيقّن ممّا ليس فيه اقتضاء
البقاء والاستمرار لم يصح اسناد النقض إلى اليقين ولو مجازا ، وإن كان فيه اقتضاء
البقاء والاستمرار صحّ اسناد النقض إليه ولو مجازا ، فإنّ اليقين كانه تعلّق بأمر
مستمر باق قد انقطع هذا الأمر المستمرّ بسبب الشك في
الرافع ، أي فان
اليقين مع اقتضاء المتيقن للبقاء والاستمرار تعلّق بأمر مستمر قد انحل وانفصم بسبب
الشك في الأمر المستحكم من جهة الشك في رافعه ومزيله دون الشك في مقتضى بقاء
المتيقّن.
فالخلاصة أن
المستشكل يقول : ان تفصيل الشيخ الأنصاري قدسسره تام مقبول إذ اسناد النقض إلى المتيقن صحيح إذا كان في
المتيقن استعداد البقاء والدوام ، وعليه فتختص حجّية الاستصحاب بما إذا كان الشك
في الرافع دون المقتضى.
جواب المصنّف عن
الإشكال
قوله
: قلت الظاهر أن وجه الاسناد هو لحاظ اتحاد متعلّقي اليقين والشك ذاتا ...
ولا ريب في أن عدم
انتقاض اليقين في باب الاستصحاب حقيقة انّما يكون لأجل تعدّد متعلّقي اليقين والشك
، وهذا الأمر انّما يكون على المداقة العقلية ، وامّا على المسامحة العرفية وعدم
ملاحظة تعددهما زمانا فالانتقاض محقّق عرفا فكأن الشك اللاحق قد تعلّق بعين ما
تعلّق به اليقين السابق.
وعليه فإذا لم
يعامل معاملة اليقين في ظرف الشك صدق عليه عرفا أنّه قد نقض اليقين بالشك فيكون
اسناد النقض إليه حسنا عرفا ولو مجازا بتخيّل ما فيه من الابرام والاستحكام من غير
فرق بين كون متعلّقه ممّا فيه اقتضاء البقاء والاستمرار ، أم لا.
نعم ان الاسناد
إليه مع اقتضاء البقاء والاستمرار في المتيقّن هو أقرب اعتبارا ولكنّه ليس ممّا
يوجب تعيّنه عرفا لأنّ المتّبع في الأقربية إلى المعنى الحقيقي هو نظر أهل العرف
وفهم أهل اللسان لا على الاعتبار والاستحسان ، كما لا يخفى.
توضيح : في طي قول
المصنّف قدسسره فلا موجب لإرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم ، أو أشبه
بالمتين المستحكم.
وهو أنّه لا ريب
في ان اليقين كالبيعة والعهد في حسن اسناد النقض إلى كل واحد من اليقين والبيعة
والعهد باعتبار نفس كل واحد منها لا بلحاظ متعلّق كل واحد منها ، أي المتيقن (بالفتح)
والواقعة التي وقعت البيعة وتحقّقت لأجلها ، والمعهود عليه فيقال نقضت البيعة ونقض
العهد فكذا يقال : نقض اليقين ونقضته.
وفي ضوء هذا فلا
موجب موجود لإرادة المعنى الذي هو أقرب من غيره إلى الأمر المبرم الذي هو معنى حقيقي
لليقين الذي وقع الكلام حال كونه متعلّقا للنقض في لسان الروايات حتى يستعمل النقض
في معناه الحقيقي الذي هو عبارة عن رفع اتصال أجزاء الشيء الذي له ابرام واستحكام
وهذا متعذّر ، لأن النقض مأخوذ من نقضت الحبل فيلزم أن يكون في متعلّق النقض وهو
اليقين الابرام محرزا ومسلّما حتّى يصح ادخال كلمة النقض عليه.
ومن الواضح أن في
عبارة لا تنقض اليقين بالشك ليس الابرام والاستحكام بمحرزين ، إذ ورد اليقين في
لسان الأخبار في باب الوضوء.
فلا جرم يدور
الأمر بين الأمرين ، اما أن يستعمل لفظ النقض في لسان الروايات بمعنى رفع اليد عن
الشيء وإن كان له مقتض للبقاء والاستمرار.
وامّا أن يستعمل
لفظ النقض في لسان الاخبار بمعنى رفع اليد عن الشيء الذي ليس له مقتض للبقاء
والاستمرار ، وحيث كان معنى الأوّل أقرب إلى المعنى الحقيقي للنقض فهو أولى
بالإرادة بمقتضى القاعدة المعروفة وهي عبارة عن قول إذا تعذرت الحقيقة وتعدّدت
المجازات فأقرب المجازات إلى الحقيقة المتعذّرة أولى بالإرادة هذا الاستعمال يكون
مجازيا.
أو شبه اليقين
بالشيء الذي ليس له إبرام واستحكام وذلك كاليقين بالوضوء أو كاليقين بالعقد
الانقطاعي بين بكر وهند مثلا باليقين بالشيء الذي له ابرام وبقاء على سبيل
الاستعارة ، وذلك كاليقين بالعقد الدائم بين الزوجين زيد وكلثوم مثلا ،
لأجل تحقّق وجه
الشبه بينهما. ثم اللفظ الذي وضع للمشتبه به استعمل في المشبه ، ويقال : زيد أسد
على سبيل الاستعارة ، وكذا ما نحن فيه. ويقال : اليقين بالوضوء وبالعقد الانقطاع
يقين ، وهذا مراد من قول ، أو أشبه بالمتين المستحكم.
وامّا الفرق بين
الاستعارة والتشبيه ان في الأوّل لم تذكر أداة التشبيه أصلا نحو : زيد أسد.
وفي الثاني ذكر
أداة التشبيه في نظم الكلام مثل : زيد كالأسد. وتفصيل بحثهما موكول في علم البيان.
امّا المصنّف قدسسره فيقول في ردّ هذه المقالة : ان اليقين حقيقة لم يكن مقتضيا
للبقاء والدوام ، ولكن يتخيّل انّه من الامور المستحكمة التي تقتضي البقاء
والاستمرار لو خلى وطبعه. فلهذا يصح دخول كلمة النقض عليه وإن كان المتيقّن لا
يقتضي البقاء والاستمرار ، إذ نفس تخيّل الاستمرار والبقاء في نفس اليقين يوجب حسن
اسناد النقض إليه بخلاف الظن والشك ، إذ ليس البقاء والاستمرار بموجودين فيهما.
وعلى طبيعة الحال
فيستفاد من قضية لا تنقض اليقين بالشك أبدا كون الاستصحاب حجّة في مطلق الأشياء
سواء كان لها مقتض للبقاء والاستمرار ويكون الشك مستندا إلى الرافع ، أم كان الشك
ناشئا عن وجود المقتضى للبقاء والاستمرار ، والمثال قد مضى في اشتعال السراج. هذا
كلّه في المادّة ، أي مادّة النقض.
بيان الهيئة
قوله
: وامّا الهيئة فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض ...
ولا ريب في أن أمر
الشارع المقدّس قد تعلّق بأمر مقدور للمكلّف ، فالأمر
بغير المقدور محال
عقلا وصدوره قبيح وهو لا يصدر عن المولى الحكيم جلّ وعلى وكذا نهى الشارع المقدّس
حرفا بحرف فنقض اليقين بوسيلة الشك منهي عنه وكل منهي عنه بالنهي التحريمي حرام
فنقضه به حرام.
فإن
قيل : ان نقض اليقين
بالشك ليس باختياري لأنّ اليقين الذي هو عبارة عن اعتقاد الجازم الراسخ المطابق
للواقع يزول قهرا بعروض الشك وينقض به فيكون نقض اليقين بالشك أمرا غير اختياري
حتى ينهى الشارع المقدّس عنه بقوله : لا تنقض اليقين بالشك أبدا.
وعليه فلا بد من
أن يكون المراد عدم نقض اليقين بالشك بحسب البناء والعمل ، أي اعمل أيّها المكلّف
الشاك عمل المتيقّن (بالكسر) ولا تعتن بشكك أبدا ، مثلا إذا كنت متيقنا بحياة زيد
بن أرقم مثلا في السنة الماضية وتكون شاكّا في حياته في السنة الحاضرة فرتب آثار
يقينك من وجوب نفقة أهله من ماله وعدم قسمة أمواله بين ورثته و ....
إذ نقض الحقيقي
بعد عروض الشك غير مقدور لأنّ صفة اليقين ترتفع بمجرّد عروض الشك قهرا فليس اليقين
بموجود كي ينتقض بالشك ، فلا جرم من أن يكون المراد من عدم النقض لليقين بالشك
بحسب البناء والعمل سواء كان المراد عدم نقض نفس اليقين كما هو ظاهر قضية لا تنقض
اليقين بالشك ، أم كان عدم نقض المتيقّن الذي هو متعلّق اليقين ، أم كان عدم نقض
آثار المتيقن.
فالقضية تكون هكذا
: لا تنقض آثار المتيقّن بالشك ، فهي تكون من باب المجاز في الحذف باضمار المضاف
وحذفه ، أي أن يكون اليقين بمعنى المتيقن مجازا ، تكون من باب المجاز في الكلمة ،
وعلى التقدير الثاني تكون من الثاني كما انّها على التقدير الاول تكون من الأوّل.
وعلى التقديرين
يكون نقض الحقيقي محالا ، إذ بمجرّد عروض الشك يرتفع
اليقين ، أو
المتيقّن ، أو آثار المتيقّن قهرا ، فيكون المراد عدم النقض بحسب البناء والعمل لا
عدم نقض الحقيقي ، فإذن لا يتفاوت الحال بين كون متعلّق اليقين مقتضيا للدوام
والاستمرار وبين عدم كونه مقتضيا لهما ، وكان الشك في المقتضى للبقاء والاستمرار.
وفي ضوء هذا فلا
وجه للالتزام بكون متعلّق اليقين مقتضيا للدوام والاستمرار ، وكذا ولا وجه لانصراف
الرواية عن ظاهرها في نفس نقض اليقين بالشك إلى نقض المتيقن بالشك من باب المجاز
في الكلمة وهو عبارة عن استعمال اليقين بمعنى المتيقّن ، أو إلى نقض آثار المتيقن
من باب المجاز في الحذف والمجاز في الاعراب ، وهو عبارة عن حذف المضاف وإقامة
المضاف إليه مقام المضاف وأخذه اعراب المضاف نحو : جاء ربّك ، أي أمر ربّك ، أو
حكم ربّك ، ونحو : واسأل القرية ، أي اسأل أهل القرية لاستحالة مجيء الربّ ، ولأنّ
السؤال عن القرية ليس عقلائيا وان قدر الله (عزوجل) على انطاقها. وفي المقام هكذا
: لا تنقض آثار المتيقن بالشك أبدا ، أو آثار اليقين بالشك أبدا كي يكون نقض
اليقين أمرا اختياريا قابلا لتعلّق النهي به ، فلا وجه لهذا التصرّف على خلاف
الظاهر ولا ملزم له كما لا وجه لتوهّم ان اليقين إذا كان بمعنى المتيقّن ، أو
بمعنى آثار اليقين يكون النقض حينئذ حقيقيا ويكون تعلّق النهي بأمر اختياري ، إذ قد
علم ممّا سبق ان نقض اليقين بالشك ليس بحقيقي في الحالتين ، فيكون المراد عدم نقض
التعبّدي وترتيب آثار اليقين في حال الشك.
وعلى طبيعة الحال
فالرواية باقية على ظاهرها ، وهو عبارة عن نقض نفس اليقين بالشك.
فالنتيجة انّه لا مجوّز لذلك التصرّف المذكور في الرواية الشريفة.
فضلا عن الملزم لذاك التصرّف على أحد النحوين ، كما توهّم شيخنا الأنصاري قدسسره هذا التصرّف.
المراد من نقض اليقين
توضيح : وهو ان الاحتمالات المتصوّرة في هيئة الحديث الشريف
أربعة :
الأوّل : ان يراد من نقض اليقين نقض نفس اليقين.
الثاني
: أن يراد منه نقض
أحكامه.
الثالث : أن يراد منه نقض متعلّق اليقين.
الرابع
: أن يراد منه نقض
أحكام المتيقّن ولكن الجميع ممتنع لو اريد النقض الحقيقي.
أمّا في الثاني
والرابع فواضح ، إذ الأحكام ليست من فعل المكلّف ليمكنه نقضها ، هذا مضافا إلى
أنّه لا معنى لنقضها بالشك أصلا كما لا يخفى.
وأمّا في الثالث
فلأنّه ليس من أفعاله الاختيارية لا حدوثا ولا بقاء.
وامّا الأوّل ؛
فلأنّه إن اريد من حرمة نقض اليقين بالشك وجوب البقاء على اليقين حقيقة فممتنع ،
إذ قد لا يكون حصول اليقين اختياريا كي يصح النهي عن انتقاضه.
ولا ريب في أن هذا
التفصيل توضيح لما سبق من الاحتمالين في الحديث المبارك على مذهب الشيخ الأنصاري قدسسره.
قوله : لا يقال لا
محيص عنه فانّ النهي عن النقض بحسب العمل ...
ولا بدّ من حمل
الحديث الشريف على إرادة نقض المتيقّن لأنّ الحمل على إرادة نقض اليقين عملا ينافي
مورد الرواية ، إذ الحكم المترتّب في الرواية الشريفة على حرمة النقض صحّة الصلاة
والطواف والمس لخطوط القرآن الكريم وأسماء الله تعالى ، وذلك من أحكام الطهارة
المشكوكة لا اليقين بها.
وعليه فلا محيص عن
التجوّز في الكلمة ، أو إضمار المضاف في نظم الحديث الشريف.
فصار تقدير الحديث
الشريف هكذا : لا تنقض المتيقّن كالطهارة بالشك ، أو لا تنقض آثار المتيقن. وتلك
كجواز الدخول في الصلاة والطواف ونحوهما به.
وبتقرير آخر : وهو
أن مورد الرواية المباركة اليقين والشك اللذان قد تعلّقا بالوضوء والأثر ، وهو
جواز الدخول في الصلاة ونحوها ، مترتّب على صرف وجود الوضوء لا على اليقين به ،
فلا يكون لوصف اليقين أثر شرعي في مورد الرواية ، فإذن لا يصح اسناد النقض ولو
بحسب العمل إلى نفس اليقين.
نعم إذا كان لوصف
اليقين أثر شرعي كما إذا نذر الناذر أن يتصدّق كل يوم بدرهم ما دام كونه متيقّنا
بحياة زيد بن خالد فيصحّ حينئذ النهي عن نقض اليقين بسبب الشك عملا بمعنى النهي عن
عدم ترتيب أثره عليه بالشك.
جواب المصنّف عنه
أجاب المصنّف قدسسره عنه : بأنّ تصوّر اليقين على نحوين :
الأوّل
: أن يتصوّر على نحو الموضوعية والنفسية.
الثاني
: أن يتصوّر على نحو الآلية والطريقية.
وعليه يصح قول
القائل بالتجوّز ، أو الاضمار في الحديث الشريف ، إذا لوحظ اليقين نفسيا ومستقلا
وبنفسه وبالنظر الاستقلالي.
وامّا إذا لوحظ
على نحو الآلية والطريقية وبنحو المرآتية وبالنظر الآلي كما هو الظاهر في مثل قضية
: لا تنقض اليقين بالشك عرفا وبمقتضى الفهم العرفي فلا يصح فصار اليقين كالقطع ،
إذ كما هو موضوعي وطريقي ، فكذا اليقين حرفا بحرف.
وحرمة نقض اليقين
بالشك ملزوم ولازمه هو البناء والعمل بالتزام حكم مماثل للمتيقّن تعبّدا ، إذا كان
حكما ، أو بالتزام المماثل مع حكم المتيقن إذا كان المتيقّن موضوعا ذا حكم على نحو
الكناية التي هي عبارة عن ذكر الملزوم وإرادة اللّازم مع جواز إرادة الملزوم أيضا
على مبنى المشهور خلافا لصاحب المفتاح السكاكي لأنّه ذهب إلى ان الكناية عبارة عن
ذكر اللازم وإرادة الملزوم مع جواز إرادة اللازم أيضا.
وتظهر الثمرة بين
المذهبين فيما إذا كان اللازم أعم من الملزوم فعلى المشهور يجوز إرادة اللازم
الأعم في صورة ذكر الملزوم ، ولكن لا يجوز من ذكر اللازم الأعم إرادة الملزوم
الأخص على مذهب صاحب المفتاح والمثال واضح ، إذ لا ينتقل الذهن من الأعم إلى الأخص
، ولكن ينتقل من الأخص إلى الأعم. وفي الكناية لا بد من الانتقال.
وفي ضوء هذا إذا
حصل اليقين بشيء لوحظ بعنوان المرآتية للشيء المتيقن لا تنقضه بالشك ، ولهذا إذا
كان متعلّق اليقين نفس الحكم وفي ظرف الشك لا بد أن نلتزم بحكم مماثله تعبّدا ،
وإذا كان المتيقّن موضوعا ذا حكم وفي ظرف الشك يصير معنى قضية لا تنقض لا بد أن
نلتزم بحكم المماثل مع حكم المتيقن ، وليس معنى قضية لا تنقض لزوم العمل بآثار نفس
اليقين بما هو يقين بمعنى الالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعا.
قوله
: وذلك لسراية الآلية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلّي ...
ولا ريب في ان
اليقين الخارجي القائم بالنفس الذي هو مصداق من مصاديق اليقين كما أنّه آلة ومرآة
للمتيقن (بالفتح) ، إذ لا يرى المتيقن (بالكسر) سوى الأمر المتيقن (بالفتح) فكذلك
مفهومه الكلّي قد يكون آلة ومرآة للمتيقن (بالفتح) فيؤخذ مفهوم اليقين في لسان
الدليل ، ويكون المقصود منه هو المتيقن (بالفتح) من دون أن
يكون لنفس اليقين
دخل في الحكم أصلا كما إذا قال المولى : إذا أيقنت بالخمر فلا تشربه ، فإنّ اليقين
هاهنا ممّا لا دخل له في حرمة الشرب أصلا لأنّه ليس تمام الموضوع ولا جزئه ، إذ
الحكم الواقعي ـ وهو الحرمة ـ مترتّب على نفس الخمر من حيث هو خمر إلّا أن اليقين
به طريق إليه يتنجّز حكمه على المكلّف بسببه.
نعم ، قد يؤخذ
مفهوم اليقين في لسان الدليل ويكون هو دخيلا في الحكم شرعا ، امّا بنحو تمام
الموضوع وامّا بنحو جزء الموضوع كما إذا قال المولى : إن تيقّنت بنجاسة ثوبك فلا
تصلّ فيه ، فإنّ عدم جواز الصلاة فيه مترتّب على اليقين بالنجاسة بنفسه وبوصفه لا
على نفس النجاسة الواقعية بما هي هي.
ومن هنا إذا صلّى
المكلّف في ثوب متنجّس واقعا ، والحال انّه لم يعلم بالنجاسة ثم انكشف ان الثوب
كان نجسا واقعا صحّت صلاته ولا تعاد في الوقت ولا في خارجه.
فاليقين يؤخذ في
موضوع الحكم تارة طريقا محضا بلا دخل له في موضوع ذلك الحكم ، بل تمام الموضوع هو
ذات المتيقّن.
واخرى : يؤخذ في
موضوعه موضوعا تمامه ، أو جزئه ، فضمير حكمه وفيه راجع إلى الموضوع ، وضمير دخله
راجع إلى اليقين. وكلمة (ما) في فيما عبارة عن الموضوع ، أي ربّما يؤخذ اليقين في
موضوع يكون لليقين دخل في الموضوع ، أو يكون اليقين جزء الموضوع ، أو يكون اليقين
تمام الموضوع ، أو يؤخذ اليقين في الموضوع حال كونه تمام الدخل فيه بأن يكون
اليقين الاستقلالي تمام الموضوع.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى
ظهور كون لفظ اليقين في الاستقلالي لقرينة الترادف ، أي لأجل جعله عدلا ورقيبا
بالشك في الرواية الشريفة فجعل اليقين مرآة للمتيقن خلاف الظاهر لأنّ الشك الرقيب
يلحظ في الاستصحاب استقلاليا فكذا اليقين ، أو
إشارة إلى أن
الاستصحاب على نحوين :
الأوّل : هو
استصحاب الحكمي ، وذلك كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر غيبة ولي الله المنصور (روحي
له الفداء وجسمي له الوقاء).
الثاني : كاستصحاب
حياة زيد بن أرقم بعد غيبته في المدّة الطويلة هو استصحاب الموضوعي.
دفع توهم اختصاص
الاستصحاب بالموضوعات
قوله : ثمّ انّه
حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك ...
قال المحقّق
الخراساني قدسسره : قد علم ممّا ذكرنا جريان حرمة نقض اليقين بالشك بحسب
البناء والعمل في الأحكام الشرعية ، وذلك كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة
، وفي الموضوعات الخارجية نحو استصحاب حياة زيد مثلا.
غاية الأمر يكون
معنى عدم النقض ومعنى ترتيب آثار اليقين على المشكوك في ظرف الشك ، أي جعل المشكوك
في ظرف الشك متيقّنا في الأحكام الشرعية هو الالتزام بمثله ، أي بمثل الحكم السابق
في ظرف اليقين ، وفي الموضوعات الخارجية ، وهو الالتزام بمماثلة السابق حال اليقين
فيترتّب حكمه السابق حال اليقين عليه وحال الشك لأنّ الموضوع المشكوك قد جعل
متيقّنا فذكر اليقين في لسان الرواية الشريفة ولكن اريد منه المتيقن مجازا في
الشبهات الموضوعية والحكمية ويكون المراد عدم نقض آثار المتيقّن وحرمته حال الشك
وهذا الاستعمال شائع في العرف ، أي استعمال العلم في آثار المعلوم واستعمال القطع
في آثار المقطوع به فاستعمال اليقين في آثار المتيقّن شائع ذائع.
وعليه فعلم عدم
اختصاص الرواية بالموضوعات الخارجية وبالشبهات
الموضوعية التي
يكون منشأ الشبهة والجهل فيها اشتباه أمور خارجية ، وذلك كاشتباه الخمر والخل في
الخارج وكاشتباه الاناء النجس بالطاهر و ...
وان اختص مورد
الرواية الشريفة بالشبهة الموضوعية لأنّ المكلّف يعلم الحكم بحيث إذا نام فوضوؤه
باطل قطعا ، وهذا معلوم له ، ولكنّه لا يعلم ان النوم هل يصدق على الخفقة
والخفقتين ، أم لا.
وعليه فإذا كانت
الامارة على نومه بالخفقة ، أو الخفقتين كما إذا حرّك إنسان أو حيوان في جنبه وهو
لا يعلم فقد علم أنّه نام ويدل على التعميم المذكور أمران :
الأوّل : اطلاق
لفظ اليقين في الرواية الشريفة وهو يشمل مطلق الشبهات سواء كانت حكمية ، أم كانت
موضوعية فاطلاقه يدل على حجّية الاستصحاب في الاحكام والموضوعات معا.
الثاني : ان في
الرواية الشريفة يعلّل عدم نقض الوضوء بأمر ارتكازي عقلائي وبتطبيق الصغرى والكبرى
على المورد ، فيكون لازم هذا النحو من الكبرى الوجداني الارتكازي ومقتضاه عموم
بحيث كلّما تحقّق اليقين السابق والشك اللاحق فيحرم نقض اليقين بالشك.
هذا مضافا إلى أن
المورد ليس بمخصص غالبا ، ولأجل هذا التعميم قد استدل بهذا الحديث الشريف في غير
هذا المورد على حكم المورد.
قوله : فتأمّل ...
وهو إشارة إلى أن
المورد في الجميع مختص بالموضوع فقط وبالشبهات الموضوعية كما لا يخفى على أحد.
الاستدلال برواية
اخرى لزرارة قدسسره
ومن الروايات التي
قد استدل بها على حجّية الاستصحاب صحيحة اخرى لزرارة بن أعين رضى الله عنه قال :
قلت له أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من المني فعلّمت أثره إلى أن اصيب له
الماء ، أي إلى أن أغسل ثوبي واطهّره فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصلّيت ثم
انّي ذكرت بعد ذلك ، أي بعد فعل الصلاة ، قال عليهالسلام : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت
أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلما صلّيت وجدته؟ قال عليهالسلام : تغسله وتعيد. قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن
ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصلّيت فرأيت فيه؟ قال عليهالسلام : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟ قال عليهالسلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس ينبغي لك أن
تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت : فانّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟
قال عليهالسلام : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون
على يقين من طهارتك. قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟ قال عليهالسلام : لا ، ولكنّك انّما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.
قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال عليهالسلام : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وإن لم
تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء
أوقع عليك فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك .
هذه الصحيحة
المضمرة ثابتة لزرارة بن أعين قدسسرهما قد رواها المحقّق الكاشاني قدسسره في الوافي في أبواب الطهارة من الخبث في باب التطهير من
المني ، ورواها الحرّ العاملي قدسسره في الوسائل مقطعة في أبواب متفرّقة من أحكام
وعلي أيّ حال
فالعمدة بيان فقراتها وهي تشتمل على ستّ فقرات ، بحيث
__________________
يكون كل فقرة منها
مسألة مستقلّة برأسها :
الف) قال : قلت
أصاب ثوبي دم رعاف ، أو غيره ، أو شيء من المني فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء
وحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصلّيت ثم انّي ذكرت بعد ذلك قال عليهالسلام : تعيد الصلاة وتغسله.
ب) قلت : فإن لم
أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال عليهالسلام : تغسله وتعيد.
ج) قلت : فإن
ظننته أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صلّيت فيه فرأيت فيه؟
قال عليهالسلام : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك قال عليهالسلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن
تنقض اليقين بالشك أبدا.
د) قلت : فانّي قد
علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال عليهالسلام : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّها قد أصابها حتّى
تكون على يقين من طهارتك أو من طهارته.
ه) قلت : فهل عليّ
إن شككت في أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟ قال عليهالسلام : لا ، ولكنّك انّما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك.
ي) قلت : إنّي
رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال عليهالسلام : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وإن لم
تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنّك لا تدري لعلّه شيء
أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك.
قوله
: وقد ظهر ممّا ذكرنا في الصحيحة الاولى تقريب الاستدلال ...
ولا يخفى ان ما
ذكرنا فيها عبارة عن الفقرة الثالثة والسادسة ، إذ قد علّل الإمام عليهالسلام عدم وجوب إعادة الصلاة في الفقرة الثالثة والسادسة باندراج
اليقين والشك في المورد تحت القضية الكلّية المرتكزة في أذهان العقلاء وهذا يكشف
عن
إمضاء الشارع
المقدّس ، ورضائه بها كما أنّه قد علّل عليهالسلام في الصحيحة الاولى عدم وجوب الوضوء باندراج اليقين والشك
في المورد تحت القضية الكلّية المرتكزة في الأذهان وهي غير مختصة بباب دون باب
وهذا يكشف عن رضا الشارع المقدّس بها وامضائه إيّاها.
فإن قيل : إنّ
اللام الداخلة على اليقين للعهد الذكري وهي إشارة إلى اليقين بالطهارة لا للجنس كي
يثبت بهذه الفقرة حجّية الاستصحاب في جميع الموارد والأبواب من غير اختصاص بباب
دون باب.
قلنا : ان العهد
الذكري ينافي التعليل بالقضية الكلّية المرتكزة في الاذهان وهي غير مختصة بباب دون
باب ، هذا أوّلا.
وثانيا : أنّه لو
كان اللام للعهد الذكري لكان التعليل بأمر تعبّدي وهو ركيك والركيك سخيف.
هذا مضافا إلى عدم
سبق اليقين بالطهارة في الفقرة السادسة كي يدعى العهد الذكري فيها كما سبق في
الفقرة الثالثة ، فدعوى العهد الذكري في الفقرتين الثالثة والسادسة معا ممّا لا
وجه له قطعا ، كما لا يخفى. بل التقريب هنا أظهر من التقريب السابق ، لان ظهور
الرواية في التعليل ممّا لا ينكر كيف وهو مدلول اللام في لأنّك كنت على يقين من
طهارتك.
قوله
: نعم دلالته في المورد الأوّل على الاستصحاب مبنى ...
ولا يخفى عليك ان
في لفظ اليقين في قول الإمام عليهالسلام في المورد الأوّل لانّك كنت على يقين من طهارتك فشككت احتمالين
:
أحدهما : أن يكون
المراد منه هو اليقين بطهارة الثوب من قبل ظن الاصابة أو لأنك كنت على يقين من
طهارة ثوبك قبل أن تظن الاصابة ثم شككت وظننت أنّه
قد أصابه شيء فليس
ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.
وعلى هذا الاحتمال
يكون المورد من الاستصحاب ، وهذا هو الظاهر من الحديث الشريف.
ثانيهما : أن يكون
المراد منه هو اليقين بالطهارة الحاصلة بالنظر في الثوب والفحص بعد الظن الزائل
بالرؤية بعد الصلاة ، أي برؤية النجاسة بعد الصلاة حيث يحتمل أن تكون هي النجاسة
التي قد خفيت عليه حين نظر ولم ير شيئا ، ويحتمل أن تكون هي حادثة بعد الصلاة بحيث
وقعت الصلاة في الثوب الطاهر. وعلى هذا الاحتمال يكون المورد من قاعدة اليقين لأن
الشك قد تعلّق بأصل ما تعلق به اليقين لا ببقائه ، ولكن هذا خلاف ظاهر قوله : ثمّ
صلّيت فيه فرأيت فيه ، فانّ ظاهره أنّه رأيت النجاسة التي قد خفيت عليّ حين نظرت
فلم أر شيئا بحيث علم وقوع الصلاة في الثوب المتنجّس بلا إشكال. ولهذا أمر الإمام عليهالسلام بتغسيل الثوب.
وبتقرير آخر ؛ وهو
أنّ قوله عليهالسلام : فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك مذكور في موردين من
الصحيحة الثانية :
الأوّل : بعد الجواب عن السؤال الثالث.
والثاني : بعد الجواب عن السؤال الأخير ، إذ تشتمل هذه الصحيحة على
سؤالات وهي ستّة ، كما لا يخفى.
وأمّا المورد
الثاني فلا إشكال في دلالته على حجّية الاستصحاب.
وأمّا المورد
الأوّل فقد استشكل في دلالته على حجّية الاستصحاب بأن الإمام عليهالسلام علّل عدم وجوب إعادة الصلاة بعدم نقض اليقين بالشك مع أن
الإعادة لو كانت واجبة لما كانت نقضا لليقين بالشك ، بل نقضا لليقين باليقين ،
لأجل العلم بوقوع الصلاة في الثوب المتنجّس.
وعليه فانقدح ان
هذا التعليل لا ينطبق على المورد ، إذ هو نقض اليقين بالشك
لا نقض اليقين باليقين.
ولا يخفى أن هذا
الكلام بمكان من العجب من قائله لأنّ قاعدة اليقين قوامها انّما يكون بأمرين :
الأوّل : اليقين السابق.
والثاني : الشك الساري ، بمعنى سريان الشك إلى ظرف المتيقّن كما
علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد بن أرقم مثلا يوم الخميس ، ثم شككنا في عدالته يوم
الخميس لاحتمال كون علمنا السابق جهلا مركّبا ، وكلا الأمرين مفقود في المقام.
امّا الشك ففقدانه
واضح لأنّ المفروض هو العلم بوقوع الصلاة مع النجاسة فليس هناك شك.
وامّا اليقين فإن
كان المراد اليقين بطهارة الثوب قبل عروض الظن بالنجاسة فهو باق على حاله ولم يتبدّل
بالشك فإنّ المكلف في فرض السؤال يعلم بطهارة ثوبه قبل عروض هذا الظن.
وإن كان المراد هو
اليقين بعد الظن المذكور بأن كان قد ظن بالنجاسة فقد نظر وفحص ولم يجدها فقد تيقّن
بالطهارة. ولا ريب في أن هذا اليقين غير مذكور في الحديث الشريف ، ومجرّد النظر
وعدم الوجدان لا يدلّان على أنّه تيقن بالطهارة.
وفي ضوء هذا فهذه
الصحيحة أجنبية عن قاعدة اليقين وظاهرة في الاستصحاب كما لا يخفى ، ويمكن أن يقال
في وجه التطبيق ان شرط الصلاة احراز الطهارة لا الطهارة الواقعية. ومقتضى احراز
الطهارة بالاستصحاب عدم وجوب الإعادة ولو انكشف بعد الصلاة وقوعها مع النجاسة.
ولكن لا يخفى أن عدم فهم التطبيق على المورد غير قادح في الاستدلال بها.
قوله
: ثم أنّه أشكل على الرواية بأن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة ...
ولا يخفى أن ظاهر
قول الراوي : ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه أنّه قد رأى النجاسة
التي قد خفيت عليه
حين نظر فلم ير شيئا بحيث علم وقوع الصلاة في الثوب المتنجّس.
وعليه فإعادة
الصلاة حينئذ بعد انكشاف وقوعها في النجاسة ليس نقضا لليقين بالطهارة بالشك بل
باليقين بالنجاسة فتعليله عليهالسلام عدم إعادة الصلاة باستصحاب الطهارة حين الصلاة حيث قال عليهالسلام : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال عليهالسلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن
تنقض اليقين بالشك أبدا ممّا لا يكاد يصح ، أي عدم إعادة الصلاة بعد انكشاف وقوعها
في النجاسة بالاستصحاب وبعدم نقض اليقين بالشك غير صحيح. نعم انّما يصحّ هذا
التعليل لجواز الدخول في الصلاة.
فإذا سئل أنّه كيف
جاز له الدخول في الصلاة والحال أنّه ظان بالنجاسة بنجاسة ثوبه فيعلّل الجواز
بأنّه كان له استصحاب الطهارة فقد جاز له الدخول فيها حينئذ لتمامية أركان
الاستصحاب وهي عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق ، هذا أوّلا.
وثانيا : لأنّ عدم
جواز الدخول نقض لليقين بالشك فحرمة النقض تقتضي جواز الدخول في الصلاة.
قوله : ولا يكاد
يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال ان الشرط ...
قال المصنّف قدسسره : انّه لا يمكن التفصّي عن الإشكال الوارد على الاستدلال بهذه
الصحيحة إلّا بأن يقال : ان شرط الصلاة فعلا ، أي شرط الفعلي حين التفات المكلّف
بالطهارة بحيث لا يكون غافلا عن الطهارة هو احراز الطهارة سواء كان احرازها بالأصل
، أي بالاستصحاب ، أو بقاعدة الطهارة لا الطهارة الواقعية.
وعليه إذا شك
المكلّف في بقاء الطهارة المتيقّنة في ابتداء الصلاة ولا ريب في أن مقتضى استصحاب
بقائها حين الشك في بقائها احرازها ، ولهذا دخل في الصلاة
ولا يلزم عليه
إعادة الطهارة وان كشف له وقوع الصلاة بتمامها في الثوب المتنجس فمقتضى احراز
الطهارة بالاستصحاب من قبل الصلاة وحصول الشرط للصلاة هو عدم إعادتها بعدا ولو
انكشف وقوعها في الثوب المتنجّس بتمامها فيطابق التعليل حينئذ مع السؤال.
ثم انّ الظاهر من
قول المصنّف قدسسره حين الالتفات أن المكلف لو صلّى في الثوب المتنجّس غافلا
لصحّت صلاته ، ولو كان الشرط احراز الطهارة مطلقا لكان اللازم هو البطلان لانّه لا
احراز للطهارة حال الغفلة.
وعلى طبيعة الحال
إذا كان الشرط لصحّة الصلاة احراز الطهارة كان عدم وجوب إعادة الصلاة في مورد
السؤال في الرواية من آثار ثبوت الاستصحاب وحرمة نقض اليقين بالشك لأنّ المكلّف
بالاستصحاب يحرز الطهارة ، أي طهارة الثوب فيتحقّق الشرط حينئذ وتصح الصلاة
المشروطة بها ، فيصح تعليل صحّة الصلاة وعدم وجوب الإعادة بعدم جواز نقض اليقين
بالشك.
كما ان إعادتها
بعد الكشف تكشف عن جواز نقض اليقين بالشك وعن عدم حجّية الاستصحاب حال الصلاة فيصح
حينئذ للإمام عليهالسلام أن يجعل علّة عدم الإعادة للصلاة نقض اليقين بالشك وهو لا
يجوز.
فإن قيل : هل
الثمرة موجودة بين كون الشرط طهارة واقعية وبين كون الشرط احراز الطهارة
بالاستصحاب ، أو باصالة الطهارة؟
قلنا : ان الثمرة
بينهما تظهر في وجوب الإعادة وعدم وجوبها بعد كشف وقوع الصلاة في الثوب المتنجّس
فعلى الأوّل تجب الإعادة وعلى الثاني لا تجب ، أي الشرط الذي هو عبارة عن احراز
الطهارة حاصل قبل الشروع في الصلاة وفي أثنائها بوسيلة الاستصحاب.
فإن قيل : إذا كان
احراز الطهارة بوسيلة الاستصحاب ، أو القاعدة ، أو اخبار ذي
اليد ، أو البيّنة
كافيا في صحّة الصلاة فلم يتوقف عدم وجوب الاعادة على حرمة نقض اليقين بالشك ، بل
يكفي فيه قاعدة الطهارة.
قلنا : ان قاعدة
الطهارة لا تجري في مورد يجري فيه الاستصحاب كما سيأتي هذا المطلب إن شاء الله
تعالى.
وعليه فمهما كان
الاستصحاب جاريا لكان هو المستند في صحّة الصلاة لا غيره من قاعدة الطهارة كما لا
يخفى.
قوله : فتأمّل
جيّدا ...
وهو تدقيقي بقرينة
تقييده بكلمة الجيّد ، كما مرّ هذا مرارا.
قوله : لا يقال لا
مجال حينئذ لاستصحاب الطهارة ...
إذا كان شرط صحّة
الصلاة والطواف احراز الطهارة لا نفس الطهارة الواقعية فقد امتنع جريان الاستصحاب
لإثبات الطهارة ، إذ لا بدّ أن يكون المستصحب (بالفتح) حكما شرعيا ، وذلك كالوجوب
والحرمة ، أو موضوعا لحكم شرعي كالعدالة والاجتهاد مثلا ، إذ يترتّب على الأوّل
جواز الاقتداء مثلا ، وعلى الثاني جواز التقليد. والطهارة ليست بواحدة منهما ،
امّا الأوّل فواضح لأنّ الفرض كون الشرط احراز الطهارة لا نفس الطهارة واحرازها
ليس بحكم تكليفي ولا وضعي.
وامّا الثاني
فلأنّه المفروض ، إذ لا يترتّب عليها وجوب الإعادة. وإذا امتنع جريان الاستصحاب
لاثباتها لم يتحقق احراز الطهارة الذي هو الشرط على الفرض فاللازم بطلان الصلاة
ولزوم الاعادة.
وفي ضوء هذا فيشكل
تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب في الرواية الشريفة. ولا يخفى أن هذا الاشكال يتوقّف
على عدم أثر شرعي للطهارة غير شرطيتها للصلاة والطواف ، وإلّا كفى ثبوتها في جريان
الاستصحاب ، ويتم تعليل عدم وجوب الإعادة بعد كشف وقوع الصلاة في الثوب المتنجّس
بحرمة نقض اليقين بالشك.
قلنا : أنّه ليس
المقصود من قولنا شرط صحّة الصلاة احراز الطهارة ولو بالأصل لانفسها أن الأمر كذلك
مطلقا ، بل المقصود ان الشرط الواقعي الأولي هو نفس الطهارة الواقعية.
غاية الأمر أنّه
لو أخطأ الاستصحاب ولم يصادف ثبوتها واقعا لكان الشرط الفعلي حينئذ هو احرازها
لانفسها ، وإذا كانت الطهارة الواقعية شرطا جاز جريان الاستصحاب لاثباتها. والداعي
إلى الالتزام بذلك انّه وجه الجمع بين ما دل بظاهره على اعتبار الطهارة نفسها نحو
قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) ، أي عن النجاسات على تفسير نقله الطبرسي قدسسره ونحو : لا صلاة إلّا بطهور ، وبين ما دل على صحّة الصلاة
بفقدها إذا كانت الطهارة مجرى الاستصحاب كهذه الصحيحة. فصارت نفس الطهارة شرطا
اقتضائيا ممّا يكفي في جواز استصحابها ، أي استصحاب بقائها شرعا ، هذا أوّلا.
وثانيا : أن
الطهارة وإن لم تكن شرطا للصلاة بل كان الشرط هو احرازها ولو حين الالتفات إليها ،
ولكن مجرّد كونها قيدا للشرط ممّا يكفي في جواز استصحابها والتعبّد ببقائها ويخرجه
عن اللغوية والعبثية بلا كلام.
وعلى أيّ حال يجوز
شرعا استصحاب الطهارة ونحرز به الطهارة بلحاظ ان الاحراز قيد الطهارة والطهارة شرط
وعنوان المحرزية وصفها ، أي الطهارة المحرزة شرط والموصوف والوصف متّحدان مصداقا
وإن كانا متغايرين مفهوما.
ومن الواضح ان
الطهارة حكم وضعي فيصح استصحابها بلحاظ الاحراز حيث كان احرازها بخصوصها لا غير
شرط. وعليه فينطبق التعليل به؟؟؟ لأنّك كنت على يقين من طهارتك على المورد.
فالنتيجة : ان المصنّف قدسسره صحّح بهذين الجوابين جريان الاستصحاب في
__________________
نفس الطهارة لأجل
احرازها.
قوله : لا يقال
سلّمنا ذلك لكن قضيته أن تكن علّة عدم الإعادة ...
فاستشكل المستشكل
ثانيا بأنّا لو سلمنا كون شرط الصلاة للملتفت هو احراز الطهارة لا نفس الطهارة ،
لكان اللازم أن يعلّل عدم وجوب الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة في الثوب المتنجس
باحراز الطهارة بالاستصحاب ، أو باصالة الطهارة بأن يقول الإمام عليهالسلام لا تجب الإعادة لأنّك أحرزت الطهارة حال الصلاة ولا يقول عليهالسلام : لا تجب الإعادة لأنّك كنت على يقين من طهارتك.
وهذا الكلام ظاهر
في ان الشرط هو الطهارة الواقعية التي أحرزها زرارة بن أعين قدسسرهما تعبّدا بالاستصحاب ، أي يكون الشرط هو الطهارة الواقعية
المحرزة بالاستصحاب لا احرازها.
وبتقرير آخر ؛ وهو
ان الامام عليهالسلام علّل عدم الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة في الثوب
المتنجّس بالصغرى وهي قوله : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، وبالكبرى وهي قوله عليهالسلام : فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك وهما ينتجان كون
الشرط نفس الطهارة لا احرازها لأنّ اليقين السابق في الاستصحاب طريق محض إلى
الواقع فالمدار على الواقع الذي تعلّق به اليقين. والحال ان المفروض انكشاف خلافه
فلا يبقى حينئذ مجال لاحراز الطهارة بالاستصحاب ، أو بالأصل.
فالمتحصّل ممّا
ذكر ان التعليل بثبوت نفس الطهارة يكشف عن عدم صحّة جعل الشرط احراز الطهارة ، فلا
جرم من ان يكون الشرط هو الطهارة الواقعية ، إذ نتيجة قول الإمام عليهالسلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ان المكلف الشاك كان
متطهّرا واقعا وليس بظاهر في انّه مستصحب الطهارة كما لا يخفى على العاقل فضلا عن
الفاضل.
الجواب عن الإشكال
قوله
: فانّه يقال نعم ولكن التعليل انّما هو بلحاظ حال قبل انكشاف ...
أجاب المصنّف قدسسره عن هذا الإشكال بجوابين :
الأوّل : انّا سلّمنا كون الطهارة الواقعية شرطا لصحّة الصلاة
بلحاظ مرحلة الاقتضاء ومرتبة الانشاء ، إذ في الطهارة الواقعية يكون اقتضاء
الشرطية موجودا وكذا يصح انشاء الشرطية لها ولكن ليست بشرط فعلا ، إذ هي لا تكون
موضوعة للشرط الفعلي ، فلا يقال : الطهارة الواقعية شرط للصلاة فعلا ولكن في مقام
الجمع بين الأدلّة يقال : ان الطهارة الواقعية تكون شرطا واقعا ، ولكن الشرط
الفعلي هو احراز الطهارة بالاستصحاب.
فالنتيجة : فلا يصح أن يقال : ان الطهارة الواقعية خارجة عن الشرطية
وهي حكم وضعي يترتّب بتحققها تمام العبادة وصحّة الصلاة وبفقدها فساد العبادة
المشروطة بها ، أي بالطهارة.
الثاني
: سلمنا كون
المستصحب لا بدّ امّا يكون حكما شرعيا ، وامّا يكون موضوعا ذا حكم شرعي ولكن لا بد
من التحقيق والتوضيح في كون المستصحب موضوعا لحكم الشرعي ، وهو هل يشترط في كون
المستصحب تمام الموضوع أم يكفي دخالته في موضوع الحكم وتأثيره فيه ، بل كفاية دخله
فيه كاف في جريان الاستصحاب ، فيقال حينئذ إذا كان الموضوع مركّبا ونحرز جزئه
بالوجدان وجزئه الآخر بالاستصحاب.
وعليه فلا يلزم أن
يكون المستصحب تمام الموضوع للحكم الشرعي ، بل تكفي دخالته فيه بحيث يكون شرط
الصلاة احراز الطهارة لا احراز شيء آخر ، وهذا المقدار يكفي في جريان الاستصحاب ،
فالمستشكل يقول : انّا سلمنا منكم كون احراز الطهارة شرطا للصلاة لا نفس الطهارة.
امّا قولكم فلا
يناسب ظاهر الرواية الشريفة بل ينافيه لأنّ زرارة بن أعين قدسسرهما سئل الإمام عليهالسلام في الفقرة الثالثة من الرواية الشريفة عن علّة عدم لزوم
إعادة الصلاة بقوله : لم ذلك؟ والإمام عليهالسلام أجابه بقوله : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت فليس
ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ، وهذا ظاهر في كون المكلف طاهر اللباس واقعا
وليس بظاهر في كونه محرزا لطهارته بالاستصحاب.
أجاب المصنّف صاحب
الكفاية قدسسره : نعم يكون ظاهر الرواية الشريفة بيان شرطية الطهارة
الواقعية للصلاة لا احراز الطهارة ، لكن بشرط أن يكون تعليل الإمام عليهالسلام بلحاظ حال الفراغ من الصلاة وإن كان السؤال عن علّة عدم
لزوم الإعادة بعد الصلاة.
ولا يخفى عليك ان
تعليل الإمام عليهالسلام انّما يكون بلحاظ حالة زرارة قدسسره قبل الشروع في الصلاة وقبل كشف الخلاف تنبيها له على حجّية
الاستصحاب وبين الإمام عليهالسلام ضمنا نتيجة الاستصحاب وهي عبارة عن عدم الإعادة بعد كشف
الخلاف ، إذ الاستصحاب حال الصلاة علّة عدم لزوم الإعادة بعدها.
هذا مضافا إلى
تعليل عدم الإعادة بعد كشف الخلاف بالطهارة المستصحبة ممّا يستلزم كون السبب واقعا
لعدم الإعادة بعد انكشاف الخلاف ، هو الاستصحاب الذي كان جاريا حال الصلاة لاحراز
الطهارة لا نفس الطهارة ، وإلّا لكانت الإعادة بعد انكشاف الخلاف ثابتا من نقض
اليقين باليقين ، وليس نقض اليقين بالشك.
وفي ضوء هذا فلا
يتم التعليل حينئذ وهو كما ترى كما عرفت هذا المطلب في طي الإشكال.
فإن
قيل : كيف يكون
استصحاب الطهارة للباس حال الصلاة علّة عدم لزوم الإعادة بعدها وبعد انكشاف
الخلاف.
قلنا : ان الطهارة الواقعية ليست بشرط ، بل انّما يكون احرازها
بالاستصحاب
لهذا الفرد من
المكلف ولكن لما كان استصحاب الطهارة حال الصلاة موجودا له فلا يلزم عليه الإعادة
بعد كشف الخلاف لوجود الشرط حالها بالاستصحاب. والحال ان سائر الأجزاء والشرائط
موجودة على الفرض.
قوله
: ثم انّه لا يكاد يصح التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري ...
فاستشكل المستشكل
ثانيا : بأنّ التعليل المذكور في الرواية الشريفة ناقص ، امّا بيان ذلك فيقال : ان
الأمر يكون على ثلاثة أنواع باعتبارات :
الأوّل : أمر واقعي أولي ، وذلك كالأمر بالصلاة مع الوضوء مثلا.
الثاني
: أمر واقعي ثانوي
، وذلك كالأمر بالصلاة مع التيمّم عند فقدان الماء عند عدم الوصلة إليه ، أو عند
الضرر من استعماله.
الثالث : أمر ظاهري يكون مفاد الامارات المعتبرة ، أو الاصول
العملية والاستصحاب ، مثلا كان المكلف متوضئا يقينا قبل ساعتين وبعد انقضائهما شك
في بقاء كونه متوضئا ، وهو يتمكّن من جريان الاستصحاب شرعا ومن الدخول في الصلاة.
والمصنّف قدسسره قد بحث في المجلّد الأوّل من الكفاية أن الأمر الاضطراري
والظاهري هل يكفيان عن الأمر الواقعي الأوّلي ، أم لا ، وان الإتيان بالمأمور به
بالأمر الظاهري وبالأمر الاضطراري هل يجزيان عن المأمور به بالأمر الواقعي الأولي
، أم لا؟
مثلا إذا صلّى
المكلّف مع التيمّم ثم زال اضطراره قبل انقضاء الوقت وهي هل تجزي عن الصلاة مع
الوضوء والطهارة المائية ، أم لا؟
وكذا من صلّى مع
استصحاب الطهارة ثم انكشف الخلاف حرفا بحرف. قال بعض الأصوليين (رض) بالاجزاء وقال
أكثرهم بعدمه.
وفي ضوء هذا
فالإمام عليهالسلام في مقام التعليل لعدم الإعادة بعد انكشاف
الخلاف رتّب الأمر
الظاهري وهو عبارة عن جواز الدخول في الصلاة بسبب استصحاب الطهارة بالإضافة إلى
اللباس.
وحينئذ فلو قلنا
بعدم لزوم الإعادة بعدها فلا بدّ من ضميمة المطلب الآخر به وهو عبارة عن اقتضاء
الأمر الظاهري للاجزاء ، وإلّا فلا أثر لوجود الأمر الظاهري وهو استصحاب الطهارة
في عدم لزوم الإعادة.
فالنتيجة ان عدم
وجوب الإعادة للصلاة التي وقعت بالاستصحاب باستصحاب الطهارة يحتاج إلى مقدّمتين :
الاولى : حجّية
استصحاب الطهارة حال الصلاة.
الثانية : ان
الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي
الأوّلي.
وعليه فالتعليل في
الرواية الشريفة ناقص جدّا ، إذ تكون العلّة في عدم وجوب الإعادة اقتضاء الأمر
الظاهري للاجزاء وظاهر الرواية أن العلّة هو حرمة نقض اليقين بالشك أبدا لأنّ
الإعادة نقض له به.
وفي ضوء هذا فلا
بد أن تكون علّة عدم الإعادة كلا الأمرين معا ، كما لا يخفى.
قول
المستشكل : اللهمّ إلّا أن يقال ان التعليل ...
أي العدول عن
التعليل بقاعدة اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي إلى عدم جواز نقض اليقين
بالشك للتنبيه على ما يكون علّة للأمر الظاهري ، وهذا الشيء الذي يكون علّة لتولّد
أمر ظاهري استصحابا. ولمّا كان الاستصحاب علّة لانشاء الأمر الظاهري فقد صحّ
التعليل بمنشإ الأمر الظاهري أعني منه الاستصحاب ، وإلّا فالعلّة لعدم وجوب
الإعادة هي قاعدة الاجزاء في الأوامر الظاهرية ، فهناك قياس اقتراني حملي بحيث
تكون كبراه هذه القاعدة وهيئته على هذا النهج وهو الاستصحاب أمر ظاهري وكل أمر
ظاهري يقتضي الاجزاء
فالاستصحاب يقتضي
الاجزاء.
وفي ضوء هذا ،
فالتعليل لعدم لزوم الإعادة بعد انكشاف الخلاف بالاستصحاب يكون بما هو سبب العلّة
كما لا يخفى.
فالإعادة ان كانت
واجبة فقد لزم عدم اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء. والحال انّه اقتضاه شرعا كما إذا
اشتمل المأتي به بالأمر الظاهري على مقدار من المصلحة التي تكون في الموضوعات مع
كون ما بقي منها ممكن التدارك فالاجزاء حينئذ يكون بحكم الشرع ، أو عقلا ، كما إذا
اشتمل المأتي به على تمام المصلحة أو اشتمل بمقدار منها بحيث لا يمكن استيفاء ما
بقي منها. ولا ريب في أن الاجزاء انّما يكون بحكم العقل والشرع قد أمضى حكم العقل.
قوله
: فتأمّل ...
وهو إشارة إلى ان
الإعادة انّما تكون بأحد الوجهين : امّا عدم اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
، وامّا جواز نقض اليقين بالشك شرعا حتّى تجب الإعادة ، ولكن لما فرضنا اجزاء الأمر
الظاهري مفروغا عنه في الشرع فالتعليل بعدم جواز نقض اليقين بالشك في الرواية
الشريفة انّما يكون بلحاظ الاجزاء المذكور.
وبملاحظة وضوحه ،
أي وضوح اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ولكن ليس وضوحه بحدّ ومرتبة بحيث
يحسن التعليل من الإعادة بلزوم النقض المذكور كما لا يخفى ، أو إشارة إلى ورود
الاستصحاب على قاعدة الطهارة ، إذ في مورد الاستصحاب لا محل لجريان القاعدة وإن
كانت موافقة له.
قوله
: ولعل ذلك مراد من قال بدلالة الرواية على اجزاء الأمر الظاهري ...
والضميمة لاقتضاء
الأمر الظاهري للاجزاء إلى استصحاب الطهارة مراد القائل بدلالة الرواية الشريفة
على اجزاء الأمر الظاهري.
قال
المصنّف قدسسره :
هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل ...
وكل ما ذكر في
توجيه الرواية الشريفة يكون غاية توجيهها للتعليل المذكور فيها. ولا يخفى أنّه إذا
عجزنا عن جواب الاشكال الذي يرد على الاستدلال بالرواية فلا يوجب هذا العجز رفع
اليد عن دلالتها على الاستصحاب فان الاشكال لازم عليها سواء كان مدلول الصحيحة
قاعدة اليقين بناء على احتمال إرادة اليقين الحاصل بالنظر والفحص بناء على احتمال
إرادة اليقين بالطهارة قبل الدخول في الصلاة ، أم كان قاعدة الاستصحاب.
والسرّ في ذلك ،
أي في لزوم الإشكال عليها على كل تقدير أن الإعادة بعد انكشاف الخلاف وبعد حصول
العلم بوقوع الصلاة في الثوب المتنجس تكون من نقض اليقين باليقين لا بالشك مع
بداهة عدم خروج مفاد التعليل عن الاستصحاب أو قاعدة اليقين لأنّ نقض اليقين بالشك
لا يتصوّر إلّا في قاعدة اليقين وفي قاعدة الاستصحاب ، إذ اليقين السابق امّا
مرتفع بالشك اللاحق رأسا وامّا غير مرتفع به لأنّ الشك اللاحق يكون متعلّقا
بالبقاء ، أي بقاء المتيقّن ولا يسري إلى الحدوث والأوّل قاعدة اليقين ، والثاني
هو الاستصحاب ولا يمكن الشقّ الثالث في المقام كي يحمل التعليل عليه ليسلم من
الاشكال والاشكال الوارد في هذا المقام عبارة عن عدم لزوم الإعادة بعد انكشاف وقوع
الصلاة في الثوب المتنجّس.
قوله
: فتأمّل جيّدا ...
وهو تدقيقي بقرينة
تقييدها بكلمة الجيّد إشارة إلى دقّة المطلب الطويل العريض.
قوله
: ومنها صحيحة ثالثة لزرارة وإذا لم يدر في ثلاث هو ...
هذه الصحيحة رواها
الكليني قدسسره عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه وعن محمّد بن إسماعيل عن الفضل
بن شاذان جميعا عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أحدهما امّا الباقر وامّا
الصادق عليهماالسلام في حديث قال : إذا لم يدر في ثلاث هو ، أو في
أربع وقد أحرز
الثلاث قام فأضاف إليها اخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في
اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ولكنّه ينقض الشك باليقين ويتمّ على اليقين فيبنى
عليه ولا يعتدّ بالشك في حال من الحالات .
ولا يخفى أن صدر
الحديث عن أحدهما عليهماالسلام قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو ، أو في ثنتين وقد
أحرز الثنتين قال عليهالسلام : يركع ركعتين وتربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد
ولا شيء عليه وإذا لم يدر .. الحديث ...
وامّا سند الحديث
فحال الطريق الأوّل واضح. وامّا الطريق الثاني فمحمّد بن إسماعيل المذكور فيه ،
فيه كلام مشهور من حيث اشتراكه بين الثلاث وانّه هل هو ابن بزيع ، أو البرمكي ، أو
النيسابوري ، ولكن المحقّق في محلّه انّه النيسابوري تلميذ الفضل بن شاذان رضى
الله عنه.
وعليه فقد عدّ
العلّامة ومن تأخّر عنه خبره صحيحا ، وامّا الفضل بن شاذان رضى الله عنه فحاله في
الجلالة أظهر من أن يذكر وأشهر من أن يسطر.
وامّا دلالته على
حجّية الاستصحاب فمبتن على إرادة اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة سابقا والشك
في إتيانها.
وامّا التفصيل
فيقال : إنّ الإمام عليهالسلام قال : إذا لم يعلم المصلّي أنّه في الركعة الثالثة ، أو في
الركعة الرابعة حال كونه محرزا لركعة الثالثة فلا بدّ له من أن يقوم وأضاف إليها
ركعة ولا شيء عليه من صلاة احتياط قائما ، أو جالسا ، ولا يجوز له أن ينقض اليقين
بالشك ولا ينبغي له أن يدخل الشك في اليقين وأن يخلط أحدهما بالآخر ، بل يعمل
باليقين بالإضافة إلى الثالثة وبالشك في الركعة الرابعة ، ولكن ينبغي له أن ينقض
الشك باليقين ويتمّ العمل على حال اليقين لا على حال الشك ويبنى على يقينه ولا
يجوز للمصلّي الاعتماد بالشك في حال من الحالات ، أي لا يتمّ
__________________
العمل على الشك بل
له أن يتم العمل على اليقين ، أي أضاف إلى الثالثة الرابعة.
قال المصنّف قدسسره : ان الاستدلال بهذا الحديث على حجّية الاستصحاب مبتن على
ان مقصود الإمام عليهالسلام من اليقين السابق هو اليقين بعدم إتيان الركعة الرابعة ،
ومن الشك هو الشك في إتيانها.
وعلى هذا يكون
المعنى بهذا النحو ان قاطعا لثلاث ركعات وشاكّا في كون صلاته ثلاث ركعات ، أو أربع
ركعات وهو قد أحرز الثلاث ، ولكن هو كان متيقّنا في عدم إتيان الركعة الرابعة قبل
الدخول في الصلاة وبعد الدخول فيها شك في إتيانها فيجري الاستصحاب لتمامية أركانه
وهي اليقين السابق والشك اللاحق لأنّه لا يجوز له نقض اليقين بالشك بل يلزم عليه
البناء على يقينه ويحكم بأن صلاته ثلاث ركعات ويضاف إليها الرابعة.
ولا يخفى ان صدر
الحديث الشريف يدل على حكم الشك بين الاثنتين والأربعة بعد إكمال السجدتين وحكمه
هو البناء على الأربع والاحتياط بركعتين قائما ووسطه إلى ذيله يدلّان على بيان
الشك بين الثلاث والأربع وحكمه هو الاربع والاحتياط بركعة قائما ، أو بركعتين
جالسا والتفصيل في الفقه الشريف.
قوله
: وقد أشكل بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصّة ...
خلاصة الإشكال
أنّه إن كان المراد من قوله عليهالسلام : قام فأضاف اليها اخرى هي الركعة المنفصلة كما عليه مذهب
الإمامية (رض) فليس المراد من اليقين هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة ، بل
المراد منه اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر ثم الإتيان بركعة اخرى منفصلة
فانّه حينئذ يتيقّن ببراءة ذمّته ، إذ على تقدير الإتيان بالثلاث تكون هذه الركعة
متمّمة لها ولا تقدح زيادة التكبير والتشهد والتسليم ، وعلى تقدير الإتيان بالأربع
تكون هذه الركعة نافلة ، بخلاف ما إذا بنى على الأقل وأضاف ركعة متّصلة فانّه
يحتمل حينئذ الإتيان بخمس ركعات ، أو بنى على الأكثر
ولم يأت بركعة
منفصلة لاحتمال النقصان فلا يقين له بالبراءة.
وفي ضوء هذا فقد
علّمه الإمام عليهالسلام طريق الاحتياط وطريق تحصيل اليقين بالبراءة كما صرّح
الإمام عليهالسلام بهذا المطلب في رواية اخرى بقوله : ألا أعلمك شيئا إذا
صنعته ثم ذكرت انّك نقصت ، أو أتممت لم يكن عليك شيء ، وقد أطلق اليقين على
الاحتياط واليقين بالبراءة في روايات أخر كما في قوله عليهالسلام : وإذا شككت فابن على اليقين.
فالنتيجة
ان الصحيحة هذه
تدل على وجوب الاحتياط وأجنبية عن الاستصحاب.
هذا كلّه : على
تقدير أن يكون المراد من قوله عليهالسلام : فأضاف إليها اخرى الركعة المنفصلة ، وامّا إذا كان
المراد هو الركعة المتصلة فلا بد حينئذ من حمل الجملة على التقية لكون مفادها
مخالفا للمذهب وموافقا للعامة.
وعليه ؛ فالمراد
باليقين وإن كان هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة إلّا أنّه لا يمكن
الاستدلال بها على حجّية الاستصحاب لورودها مورد التقية.
هذا خلاصة الإشكال
على الاستدلال بالصحيحة الثالثة.
الجواب عنه
وأجاب عنه المصنّف
قدسسره : بأن الصحيحة ساكتة عن كون الركعة الاخرى متصلة ، أو
منفصلة ، بل تدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك وتدل على البناء على الأقل
والإتيان بركعة اخرى بلا قيد الاتصال ، أو الانفصال وأخذنا قيد الانفصال من روايات
أخر دالة على وجوب البناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك فيها منفصلة فمقتضى الجمع
بين الصحيحة هذه وبين هذه الروايات التي تدل على الانفصال هو تقييد الصحيحة بها
والحكم بوجوب الإتيان بركعة اخرى منفصلة.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى ان
الاستصحاب في الشك في عدد الركعات غير جار في نفسه مع قطع النظر عن الأخبار
الخاصّة الدالّة على وجوب الاحتياط. وذلك لوجوب التشهّد والتسليم في الركعة
الرابعة وفي الشك بين الثلاث والأربع ، غاية ما يثبت بالاستصحاب عدم الإتيان
بالركعة الرابعة ، وبعد الإتيان بركعة اخرى لا يمكن إثبات كونها هي الركعة الرابعة
ليقع التشهّد والتسليم فيها إلّا على القول بالأصل المثبت ولا نقول به ولعلّ هذا
هو السرّ في الغاء الفقهاء (رض) الاستصحاب في الشكوك الواقعة في عدد الركعات على
ما هو المعروف بينهم.
الإشكال الثاني
قوله
: ربّما أشكل أيضا بأنّه لو سلم دلالتها على الاستصحاب كانت من الاخبار ...
ولا ريب في ان هذه
الصحيحة مختصة بالشك في عدد الركعات ، بل بخصوص الشك بين الثلاث والأربع لأنّ
الضمائر الغائبة في قول الإمام عليهالسلام قام فأضاف ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين
وغيرها ممّا هو مذكور إلى انتهاء الصحيحة راجعة إلى المصلّي الشاك الذي لا يدري في
ثلاث هو ، أو أربع.
وعليه فلا وجه للتعدّي
عن المورد إلى غيره ، إذ ليس فيها إطلاق ، أو عموم نتمسّك بأحدهما كعموم التعليل
في الصحيحتين السابقتين هذا مضافا إلى ضرورة ظهور الفقرات المذكورة فيها في الشك
في عدد الركعات لكونها مبنية للفاعل بقرينة العطف على قام. والحال ان الضمائر التي
تكون مستترة فيها راجعة إلى المصلّي الشاك ـ كما قد سبق هذا آنفا ـ بل ضمائر صدر
الحديث الشريف عبارة عن قول الإمام عليهالسلام : من لم يدر في أربع هو ، أو في ثنتين وقد أحرز الثنتين
يركع بركعتين وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، راجعة إلى المصلّي
الذي لا يدري
انّه في الثلاث ،
أو في الأربع.
هذا فإذا كان
الفاعل لهذه الأفعال هو المصلّي الشاك كان المراد من اليقين فيها خصوص يقينه بعدم
الإتيان بالرابعة ليستفاد من هذه الصحيحة حجّية الاستصحاب في عموم الأبواب لا جنس
اليقين.
فإن
قيل : انّا نلغي
خصوصية المورد فنتمسّك بهذا الحديث الشريف في موارد أخر.
قلنا : ان الغاء خصوصية المورد ليس بواضح بحيث يجوز الاعتماد
عليه ، وإن كان له مؤيّد في الحديث الشريف وهو عبارة عن تطبيق قضية لا تنقض اليقين
بالشك ، وقضية لا يدخل الشك في اليقين ، وقضية لا يختلط أحدهما بالآخر في غير هذا
المورد كما في الصحيحتين المتقدّمتين ، وهذا يكون مؤيّدا لالغاء خصوصية المورد في
الصحيحة الثالثة ، هذا أوّلا.
وثانيا : أن
الظاهر من نفس قضية لا تنقض ان ملاك حرمة النقض إنّما هو ما في نفس اليقين والشك
لا لما في المورد من الخصوصية حتى يختص الحكم الذي هو عبارة عن حرمة نقض اليقين
بالشك بمورد الخاص دون غيره كي تثبت حجّية الاستصحاب بمورد خاص.
قال المصنّف قدسسره : هذه الدعوى غير بعيدة عن الانصاف والحق وانّما جعلها
مؤيّدا على المدعى لا دليلا عليها لأجل احتمال أن يكون المراد هو يقينه ، أي يقين
المصلي الشاك ويحتمل أيضا أن يكون المراد منه جنس اليقين.
الاستدلال برواية
محمّد بن مسلم رضى الله عنه
قوله
: ومنها قوله من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه ...
وفي الخصال
باسناده عن مولانا أمير المؤمنين علي عليهالسلام في حديث
الاربعمائة قال :
من كان على يقين ثم شك فليمض على يقينه فإنّ الشك لا ينقض اليقين ، أو بأن اليقين
لا يدفع بالشك.
الوضوء بعد الطهور
عشر حسنات فتطهّروا وإيّاكم والكسل فان من كسل لم يؤدّ حقّ الله (عزوجل) الحديث .
ومن الروايات التي
قد استدل بها على حجّية الاستصحاب هذه الرواية ، إذ هي تدل صراحة على من تيقن بشيء
سواء كان وضوء ، أم كان غيره فشك فيه فليعمل على يقينه لأنّ الشك لا يكون ناقضا
لليقين ولكن استشكل في دلالتها على حجّية الاستصحاب بأن صريحها سبق زمان اليقين
على زمان الشك بقرينة الفاء الدالّة على الترتيب باتصال ، فهي دليل على قاعدة
اليقين لاعتبار تقدّم اليقين على الشك فيها ، امّا بخلاف الاستصحاب ، فان المعتبر
فيه كون المتيقّن سابقا على المشكوك فيه ، امّا اليقين والشك فيه فقد يكونان
متقارنين في الحدوث ، بل قد يكون الشك فيه سابقا على اليقين فهي ظاهرة في قاعدة
اليقين من حيث دلالتها على اختلاف زمان اليقين والشك ، إذ يعتبر في قاعدة اليقين
اختلاف زمانهما بأن نتيقّن أوّلا بعدالة زيد مثلا في يوم الجمعة ثم نشك بعدا في
نفس عدالته في يوم الجمعة.
ولكن لا يعتبر ذلك
في الاستصحاب قطعا ، إذ من الجائز أن نتيقّن ونشك في زمان واحد كما إذا تيقّنا في
الحال أن زيدا كان عادلا في يوم الجمعة ، وفي عين الحال شككنا أيضا في عدالته في
هذا الحال. والسرّ فيه أن الشك في الاستصحاب متعلّق ببقاء ما تيقن به.
وعليه فيتعدّد
متعلّق اليقين والشك دقّة فلا بأس باجتماع الوصفين في زمان واحد ، بخلاف قاعدة
اليقين فانّ الشك فيها يتعلّق بأصل ما تيقّن به لا في بقائه ، فيتّحد متعلّق
اليقين والشك فلا يجتمع الوصفان فيها في زمان واحد. هذا خلاصة
__________________
الفرق بين
الاستصحاب وقاعدة اليقين.
فالنتيجة ان الشك يسري في القاعدة بأصل المتيقّن لا ببقائه وان الشك
يسري في الاستصحاب إلى بقاء المتيقّن في الآن اللاحق لا بأصله.
وأجاب عنه المصنّف
قدسسره : بأن اليقين طريق إلى المتيقن والمتداول في التعبير عن
سبق المتيقن على المشكوك فيه هو التعبير بسبق اليقين على الشك لما بين اليقين
والمتيقّن من نحو من الاتحاد.
فالتعبير بمن كان
على يقين فأصابه شك انّما يكون بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين الذين هما عبارتان
عن المتيقن والمشكوك لأنّ زمان المتيقّن سابق وزمان المشكوك مسبوق في الاستصحاب.
ومن أجل هذا عبّر
في الرواية الشريفة باختلاف زمان الوصفين الذين هما عبارتان عن اليقين والشك ،
وهذا التعبير يكون بملاحظة الاتحاد الذي استقرّ في ما بين اليقين والمتيقن والشك
والمشكوك.
وعليه فاختلاف
زمان اليقين والشك في الرواية لا يوجب تعيّن حملها على قاعدة اليقين.
هذا مضافا إلى ان
ظهور الراية في الاستصحاب انّما يكون لأجل قوله عليهالسلام :
فانّ الشك لا ينقض
اليقين ، أو : فانّ اليقين لا يدفع بالشك ، لأنّه إشارة إلى القضية المرتكزة في
أذهان العقلاء الواردة في أدلّة حجّية الاستصحاب أعني منها الصحاح الثلاثة
المتقدّمة.
توضيح : في طي
الاتحاد بين اليقين والمتيقن والشك والمشكوك
وهو عبارة عن كون
اليقين كاشفا عن المتيقّن والشك كاشفا عن المشكوك. وعليه فالمراد من الاتحاد هو
علاقة الكاشفية والمكشوفية بينهما ، أي بين اليقين
والمتيقن فاسناد
اختلاف الزماني إلى اليقين والشك انّما يكون بلحاظ المتيقن والمشكوك كاسناد الوصف
إلى الموصوف بلحاظ متعلّقه ، نحو : جاءني زيد العالم أبوه فاسناد العالم إلى زيد
مجازي وإلى الأب حقيقي. هكذا اسناد الاختلاف إلى اليقين والشك مجازي وإلى المتيقّن
والمشكوك حقيقي فخصوصيات المتيقّن والمشكوك تسري إلى اليقين والشك ، ومن جملتها
اختلاف الزماني كما لا يخفى.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى ان
الزمان قيد في قاعدة اليقين ، وظرف في الاستصحاب وحيث ان الأصل في الزمان هو
الظرفية فكونه قيدا يحتاج إلى الاثبات والدليل ولم يدل دليل على كون الزمان قيدا
في المقام ، فالمتعيّن كونه ظرفا.
وفي ضوء هذا تكون
الرواية المذكورة دالّة على حجّية الاستصحاب دون قاعدة اليقين ، فلا بد من اتحاد
زمان اليقين والشك واختلاف زمان متعلّقهما في الاستصحاب كما تيقّن عمرو يوم الجمعة
بوجود زيد بن خالد مثلا يوم الخميس وشك يوم الجمعة بوجوده يوم الجمعة ، وقاعدة
اليقين بالعكس ، كأن تيقّن يوم الجمعة بوجود زيد يوم الخميس ويشك في يوم السبت
بوجوده يوم الخميس فيختلف زمان اليقين والشك ويتّحد زمان متعلّقهما في قاعدة
اليقين ، بعكس الاستصحاب. ولكن يسهل الأمر علينا ضعف سند هذه الرواية لكون قاسم
بين يحيى في سندها وعدم توثيق أهل الرجال إيّاه ، بل ضعّفه العلّامة رضى الله عنه.
قوله
: ومنها خبر الصفار عن علي بن محمّد القاساني قال كتبت إليه ...
روى الكليني قدسسره عن محمد بن الحسن الصفار عن علي بن محمد القاساني قال :
كتبت إليه وانا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟
فكتب عليهالسلام : اليقين لا يدخل فيه الشك صمّ للرؤية وافطر للرؤية .
__________________
وتقريب الاستدلال
بها ان الامام عليهالسلام قد حكم بأن اليقين بشيء لا ينقض بالشك ولا يزاحم به ، أي
لا تصم يوم الشك بعنوان انّه من رمضان المبارك لأنّ الصوم فريضة لا بدّ فيها من
اليقين ولا يدخلها الشك.
فالنتيجة
إذا كان شعبان
متيقّنا ورمضان (المبارك) مشكوكا فيه فلا يدخل في المتيقّن المشكوك ، فيترتّب حكم
الشعبان على يوم الشك ، ولا يترتّب عليه حكم رمضان (المبارك) حتى يحصل اليقين
بدخول رمضان (المبارك) بسبب الرؤية رؤية هلاله.
ثم فرّع على هذه
الكبرى الارتكازية قوله عليهالسلام : صمّ للرؤية وأفطر للرؤية. وعليه تدل على اعتبار
الاستصحاب ، إذ عدم جواز صوم يوم الشك بعنوان رمضان (المبارك) انّما يكون بسبب
استصحاب بقاء شعبان (المعظّم) كما لا يخفى. ولكن المصنّف قدسسره قال : ان صاحب الوسائل قدسسره انعقد بابا مستقلّا لليقين بدخول شهر رمضان (المبارك)
وبخروجه.
وفي ضوء هذا
فالمراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان (المبارك) لا اليقين ببقاء الشعبان فلا
دخل لهذا الخبر بالاستصحاب أصلا ، ومن أراد الاطّلاع على هذا المطلب فليراجع
الوسائل . فالصحيح ان المراد من قوله عليهالسلام : اليقين لا يدخله الشك ، أن اليقين لا ينقض بالشك فلا يجب
الصوم في يوم الشك في آخر شعبان (المعظّم) ويجب الصوم في يوم الشك في آخر شهر
رمضان (المبارك) ، لأنّ الإمام عليهالسلام قال : صمّ للرؤية وافطر للرؤية ، ولليقين بعدم وجوب الصوم
في الأوّل ، ولليقين بوجوبه في الثاني.
والحال ان اليقين
لا ينقض بالشك ، وهذا تفريع بالنسبة إلى قوله عليهالسلام : صم للرؤية ، وبالنسبة إلى قوله عليهالسلام : وافطر للرؤية. فاليقين بعنوان الموضوع دخيل في
__________________
الحكم بوجوب الصوم
وبوجوب الافطار في أوّل رمضان المبارك وفي أوّل شوال (المكرّم) فهذا الخبر من حيث
السند تام مقبول ولكن من حيث الدلالة قاصر على المدعى.
قوله
: ومنها قوله عليهالسلام كل
شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر ، وقوله : الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس ،
وقوله : كلّ شيء حلال حتّى تعرف انّه حرام ...
ومن جملة ما استدل
به على حجّية الاستصحاب روايات تدل على طهارة كل شيء ما لم تعلم النجاسة كقوله عليهالسلام : كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر وعلى طهارة خصوص الماء ما لم تعلم النجاسة كقوله عليهالسلام : الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه نجس وعلى حلية كلّ شيء ما لم تعلم الحرمة كقوله عليهالسلام : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام .
والاحتمالات
المتصوّرة في مثل هذه الروايات سبعة :
الأوّل : أن يكون
المراد منها الحكم بالطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية ، بأن يكون العلم
المأخوذ غاية فيها طريقيا محضا ، والغاية في الحقيقة هو عروض النجاسة فيكون المراد
أن كل شيء بعنوانه الأولي طاهر حتّى تعرضه النجاسة وأخذ العلم غاية لكونه طريقا
إلى الواقع ليس بعزيز كما في قوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ).
فإنّ المراد منه
بيان الحكم الواقعي وجواز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر ، وذكر التبين انّما يكون
لمجرّد الطريقية بناء على كونه بمعنى الانكشاف كما هو
__________________
الأشهر عند
المفسّرين (رض) وان أمكن حمل التبيّن على معنى آخر مذكور في محلّه.
الثاني : أن يكون
المراد منها هو الحكم بالطهارة الظاهرية للشيء المشكوك كما عليه المشهور بأن يكون
العلم قيدا للموضوع دون المحمول فيكون المعنى : أنّ كلّ شيء لم تعلم نجاسته طاهر
وإنّ كل ماء لم تعلم نجاسته طاهر وإنّ كلّ شيء لم تعلم حرمته حلال.
الثالث : أن يكون
المراد بها قاعدة الاستصحاب ، بأن يكون المعنى أن كلّ شيء طهارته مستمرّة إلى زمان
العلم بالنجاسة ، أي كل شيء ثبتت طهارته الواقعية أو الظاهرية فطهارته مستمرّة إلى
زمان العلم بالنجاسة.
الرابع : أن يكون
المراد بها الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، بأن يكون المعنى ان كل شيء
معلوم العنوان ، أو مشكوكه طاهر بالطهارة الواقعية في الأوّل وبالطهارة الظاهرية
في الثاني إلى زمان العلم بالنجاسة.
الخامس : أن يكون
المراد منها الطهارة الظاهرية والاستصحاب كما عليه صاحب الفصول رضى الله عنه بأن
يكون المعنى أن كلّ شيء مشكوك العنوان طاهر ظاهرا وطهارته مستمرّة إلى زمان العلم
بالنجاسة فيكون المعنى في قوله عليهالسلام : طاهر ، إشارة إلى الطهارة الظاهرية. والغاية إشارة إلى
استصحاب تلك الطهارة إلى زمان العلم بالنجاسة.
السادس : أن يكون
المراد بها الطهارة الواقعية والاستصحاب «وهذا مختار صاحب الكفاية قدسسره» بأن يكون المعنى إشارة إلى الطهارة الواقعية وأن كل شيء
بعنوانه الأولي طاهر. وقوله عليهالسلام : حتى تعلم ، إشارة إلى استمرار الحكم إلى زمان العلم
بالنجاسة.
السابع : أن يكون
المراد منها الطهارة الواقعية والظاهرية والاستصحاب وهذا
مختار المصنّف قدسسره في هامش الرسائل ، ويجري جميع ما ذكر من الصور والاحتمالات
في قوله عليهالسلام : كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه ، فكلمة كل
شيء شاملة لما هو معلوم العنوان كالماء والخبز مثلا ، ولما هو مشكوك العنوان
كالمائع المردّد بين الماء والبول مثلا. فحكم الإمام عليهالسلام بالطهارة في الجميع فلا محالة تكون الطهارة بالنسبة إلى
الأوّل واقعية وبالإضافة إلى الثاني ظاهرية ، ويكون قوله عليهالسلام : حتّى تعلم ، إشارة إلى استمرار الطهارة والحلّية إلى
زمان العلم بالنجاسة والحرمة. هذا توجيه الوجه السابع.
وفيه : ان الحكم
الواقعي والظاهري لا يمكن اجتماعهما في جعل واحد ، لأنّ الحكم الظاهري متأخّر عن
الحكم الواقعي بمرتبتين ، لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ،
والشك في الحكم الواقعي متأخّر عن الحكم الواقعي ، كما ان موضوع الحكم الظاهري
متأخّر عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين ، فانّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في
الحكم الواقعي والشك في الحكم الواقعي متأخّر عن الحكم الواقعي من باب تأخّر الشك
عن المشكوك فيه ، والحكم الواقعي متأخّر عن موضوعه الواقعي من باب تأخّر الحكم عن
موضوعه ، وبعد كون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي لا يمكن تحقّقهما بجعل واحد
وانشاء فارد ، وإلّا يلزم كون المتأخّر عن الشيء بمرتبتين معه في رتبة واحدة وفي
رتبته ، وهذا خلف ظاهر كما لا يخفى.
وهذا الإشكال متين
جدّا ولا دافع له إذا قلنا : بأن الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ كما هو
المشهور ، فانّه لا يمكن إيجاد شيئين يكون أحدهما في طول الآخر بجعل واحد وانشاء
فارد ، وهذا المبنى مختار المصنّف والمحقّق النائيني قدسسرهما.
قال المصنّف قدسسره : وتقريب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب ان الغاية
فيها تكون لبيان استمرار الحكم للموضوع واقعا من الطهارة والحلية إلى زمان العلم
بعروض ضدّه ، أو
نقيضه ، فهذا الحكم محكوم بالاستمرار والبقاء ظاهرا.
فثبوت الطهارة
والحلية للأشياء متيقّن وقطعي ، وفي صورة الشك فيهما لأجل احتمال عروض الضد
كالنجاسة ، أو النقيض كالحرمة فالموضوع محكوم بالطهارة والحلية الظاهرتين إلى أن
يحصل العلم بالضد ، أو النقيض.
وعلى هذا فدلالة
هذه الأخبار على حجّية الاستصحاب ظاهرة. وليست الغاية فيها لتحديد الموضوع ، إذ لا
معنى لطهارة كل ماء مشكوك الطهارة والنجاسة ولحلية كل شيء مشكوك الحلية والحرمة
ولطهارة كلّ شيء مشكوك الطهارة والقذارة حتى تستفاد من هذه الروايات قاعدة الطهارة
وقاعدة الحلية.
والدليل على ذلك ،
أي على كون الغاية فيها لتحديد الحكم ان المعنى فيها يكون في بيان حكم الأشياء
بعناوينها الأولية ، ولا يكون في بيان حكمها بعنوان كونها مشكوكة الطهارة والقذارة
والحلية والحرمة كي تستفاد منها قاعدة الطهارة والحليّة. ولأجل هذا المطلب ذكرت
كلمة شيء فيها بلا قيد المشكوك كما هو ظاهر.
وخلاصة تقريب
دلالة هذه الأخبار على حجّية الاستصحاب أنّه يلزم أن يكون الشيء متيقّنا سابقا
ومشكوكا لاحقا ، ولأجل هذا فقد تعرّضت أدلّة الاستصحاب حكم المتيقّن وحكم زمان
الشك.
وعليه إذا دلّ
الدليل على هذا المعنى فهو يدل على اعتبار الاستصحاب كالروايات الثلاث المذكورة ،
إذ هي واجدة لهذه الدلالة ، إذ هي مشتملة على المعنى والغاية الأوّل يتعرّض حكم
المتيقّن ، الثاني يدل على استمرار حكم المذكور بحسب الظاهر في ظرف الشك ، وهذا
واضح لا غبار عليه.
قوله
: فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيل القاعدة ولا الاستصحاب ...
قال المصنّف قدسسره : ان المعنى لو خلى وطبعه لا يدل على قاعدة الطهارة
والحلية ولا على الاستصحاب ، ولكن بملاحظة الغاية التي ذكرت فيها يدل على
اعتبار الاستصحاب
من أجل أن الغاية ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي بحسب الظاهر ما لم يعلم
بعروض ضدّه ، أو نقيضه وجه ظهورها في استمرار الحكم هو كونها قيدا للمحمول ، أي
طهارة شيء وماء مستمرّة إلى زمان العلم بالنجاسة.
والفرق بين الضدّ والنقيض
أن الأوّل لوحظ في بين أمرين وجوديين والثاني لوحظ في بين أمر وجودي وأمر عدمي ،
فالطهارة والنجاسة امّا أمران وجوديان مجعولان شرعا ، وامّا الطهارة أمر عدمي ، أي
الطهارة عبارة عن عدم النجاسة ، والنجاسة أمر وجودي ، فعلى الأوّل يتحقّق الضدّ
بينهما ، وعلى الثاني يتحقّق التناقض بينهما ، كما أنّه على الأوّل يكون التقابل
بينهما بالتضادّ وعلى الثاني يتحقّق التقابل بالملكة والعدم كالعمى والبصر. وكذا
الكلام في الحلية والحرمة.
وفي ضوء هذا
البيان قد دلّت الغاية على استمرار الحكم كما ان الحكم الواقعي لو صار مغيا بغاية
مثل الملاقاة بالنجاسة كما إذا قيل : الماء القليل طاهر بنفسه مطهّر لغيره إلى أن
يلاقي النجس ، أو قيل : ان العصير العنبي حلال إلى أن يغلى بالنار فيحرم لدلّت هذه
الغاية على استمرار الحكم الواقعي واقعا ، ولا دلالة لشيء من المغيّى والغاية على
حجّية الاستصحاب حينئذ ، أي حين كون الغاية مثل الملاقاة بالنجس ، أو مثل الغليان
كما في المثال المذكور. فالغاية مثل العلم إذا كانت لتحديد المحمول تدل على
استمرار حكم الواقعي إلى زمان العلم بالنجاسة والقذارة ، وامّا إذا كانت الغاية
مثل الملاقاة بالنجس ، أو مثل الغليان لدلّت على استمرار حكم الواقعي واقعا.
قوله
: ولا يخفى أنّه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا ...
واعترض المصنّف
على الشيخ الأنصاري قدسسرهما ، إذ قال الشيخ الأنصاري قدسسره :
إذا دلّت الروايات
الثلاث على قاعدة الطهارة والحلية وعلى حجّية الاستصحاب ، فهذا يوجب استعمال اللفظ
الواحد في معنيين مختلفين في اطلاق واحد ، وهذا
لا يجوز ، فلا
تستفاد منها قاعدة الطهارة والحلية والاستصحاب معا.
وهذا تعريض بصاحب
الفصول قدسسره من قبل الشيخ الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره حيث قال الشيخ الأنصاري قدسسره : نعم إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في
معنيين ، إذ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب
خصوص ابقائها في معلوم الطهارة السابقة والجامع بينهما غير موجود فيلزم ما ذكرناه.
ولا يخفى أن مراده
من المعنيين مفاد القاعدة ، أي قاعدة الطهارة والحلية ومفاد الاستصحاب.
جواب المصنّف قدسسره
قوله
: ولا يخفى أنّه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا ...
قال المصنّف قدسسره : إنّ إرادة القاعدة والاستصحاب معا من هذه الروايات
الثلاث لا توجب استعمال اللفظ في معنيين ، بل يلزم هذا الاستعمال إذا كانت الغاية
فيها مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار الحكم فيدل المغيّى على
القاعدة وتدل الغاية على الاستصحاب من غير تعرّض لحكم الواقعي الأشياء.
والحال أنّه من
الواضح أن عبارة كل شيء حلال وعبارة كل شيء طاهر تدلّان على حكم الواقعي للأشياء
بعناوينها الأوّلية ، وكذا حديث : الماء كلّه طاهر حرفا بحرف. هذا مضافا إلى ان
الغاية فيها تكون غاية للحكم لا الموضوع.
فإن
قيل : ان الروايات
الثلاث تدل على حجّية الاستصحاب في خصوص باب الطهارة والحلية والمدعى كونه حجّة في
جميع الأبواب. وعليه يكون الدليل أخصّ من المدعى والدليل الأخص لا يثبت المدعى
الأعم بتمامه.
قلنا
: انّا أثبتنا
حجّيته على نحو العموم بضميمة عدم القول بالفصل وحينئذ
نقول بحجّيته في
تمام الأبواب.
والتوضيح : ان كل
من قال بحجّيته في باب الطهارة والحلّية قال بحجيته في جميع أبواب الفقه الشريف ،
وكل من لم يقل بحجّيته فيهما لم يقل بحجّيته في غيرهما. فالقول بحجيته فيهما وبعدم
حجّيته في غيرهما قول بالفصل وخرق للاجماع المركّب ، وهو لا يجوز.
فتلخّص ممّا ذكر
ان في الروايات احتمالات وهي ثلاثة :
الاحتمال
الأوّل : أن تكون الغاية
قيدا للموضوع ، فالمراد من الطهارة هو الطهارة الظاهرية فالروايات مبيّنة لقاعدة
الطهارة والحليّة ، ولا تدل على الاستصحاب ، ولا على الحكم الواقعي.
وهذا الاحتمال
مردود من وجهين :
ألف) لأنّ ظاهر
الروايات بيان الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية. وعلى هذا يكون المراد
من الطهارة والحلية الطهارة الواقعية والحلية الواقعية ، ولا يكون المراد منهما
الطهارة الظاهرية والحلية الظاهرية.
ب) لأنّ ظاهر
الروايات ان الغاية ـ وهي كلمة تعلم ـ قيد للحكم لا الموضوع.
الاحتمال
الثاني : ان الروايات
الثلاث تدل بحسب الصدر على قاعدة الطهارة والحلية وبحسب الذيل على الاستصحاب
فصدرها يدل على اثبات الطهارة الظاهرية وذيلها يدل على استمرارها إلى زمان العلم
بالنجاسة والحرمة ، إذ الغاية قيد للموضوع والحكم معا.
وهذا الاحتمال
فاسد أيضا لاستلزامه استعمال اللفظ الواحد في معنيين وهو محال عند المصنّف قدسسره كما سبق تحقيق هذا في الجزء الأوّل.
الاحتمال
الثالث : وهو مختار
المصنّف قدسسره وهو ان الغاية قيد للحكم فقط. وعلى طبيعة الحال تدل على
الاستصحاب ، أي الطهارة الواقعية مستمرّة إلى زمان
العلم بالنجاسة ،
وهذا منطبق على الاستصحاب.
فالنتيجة أن مغيّا هذه الروايات الثلاث يبيّن الحكم الواقعي وغايتها
تبيّن الحكم الظاهري. وعلى هذا الاحتمال لا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين
ولا يلزم ارتكاب خلاف الظاهر أصلا.
قوله : فتأمّل
جيّدا ...
وهو تدقيقي بقرينة
كلمة الجيد ، كما مرّ هذا مرارا.
قوله
: ولا يذهب عليك أنّه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلية ...
وهذا إشارة إلى
دفع أخصّية الدليل عن المدعى ، أي أنّه على تقدير تمامية دلالة الروايات الثلاث
على اعتبار الاستصحاب في باب الطهارة والحلية يمكن بضميمة عدم القول بالفصل
استفادة القاعدة الكلية فتعم الروايات جميع الموارد والأبواب ، إذ لم يقل أحد بالفصل
بين استصحاب الطهارة والحل وبين استصحاب غيرهما والتوضيح قد سبق آنفا فلا حاجة إلى
الإعادة.
قوله
: ثم لا يخفى أن ذيل موثقة عمّار فإذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك ...
قال المصنّف قدسسره : إنّ ذيل الموثقة يؤيّد ما استظهرناه من الروايات من
كونها دليلا اجتهاديا واستصحابا ، وتوضيح هذا التأييد يحتاج إلى تمهيد مقدّمة
وجيزة وهي : ان المغيّى على مختار المصنّف قدسسره دليل اجتهادي فقول الإمام عليهالسلام : كل شيء طاهر يثبت الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها
الأولية ، وتلك كالماء والتراب والحجر والمدر مثلا ، وليس هو مربوطا بالغاية أصلا
، وليست هي مغياة بالعلم بالنجاسة والقذارة كي تكون الطهارة ظاهرية ويكون المغيى
قاعدة الطهارة والحلية ، واما الغاية فهي لبيان استمرار تلك الطهارة الواقعية
الثابتة للأشياء بعناوينها الاولية إلى زمان العلم بالقذارة فينتهي الاستمرار ثم
ينقطع ، فإذا علمت هذه المقدّمة فيقال : انّ
حاصل قول المصنّف قدسسره يؤيّد ما اخترناه من كون المغيى دليلا اجتهاديا غير مربوط
بالغاية أصلا ظهور ذيل الموثقة في كونه متفرعا على الغاية وحدها ، إذ قوله عليهالسلام : فإذا علمت فقد قذر متفرّع على منطوق الغاية ، وقوله عليهالسلام : وما لم تعلم فليس بمتفرّع على مفهوم الغاية.
وفي ضوء هذا فلو
كان المغيى مرتبطا بالغاية وكان مجموعهما قاعدة الطهارة لكان الذيل متفرّعا على
المجموع لا على الغاية وحدها كما لا يخفى على المتأمّل الصادق ، هذا إشارة إلى
دقّة المطلب وإلى تحقيق منطوق الغاية ومفهومها ، فالأوّل عبارة عن حكم منفي ، أي
عدم ثبوت القذارة للأشياء ، والثاني عبارة عن حكم مثبت أي ثبوت القذارة والنجاسة
لها.
استدلال النافين لحجّية الاستصحاب
واحتج المنكرون
لحجّية الاستصحاب بوجهين :
الأوّل : ان الاستصحاب مفيد للظن لا القطع والمتابعة عن الظن حرام
محرم لقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، و (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
الثاني
: أن الأخبار التي
نقلت في حجّية الاستصحاب غير مقرونة بقرينة الصدق وهي لا تثبت المراد.
قوله
: ثمّ انّك إذا حقّقت ما تلونا عليك من الأخبار فلا حاجة إلى ...
قال المصنّف قدسسره : حيث تمّ الدليل المعتبر سندا ودلالة على حجية الاستصحاب
كصحاح زرارة بن أعين قدسسرهما وخبر الخصال ورواية الحل والطهارة فلا حاجة حينئذ إلى
التعرّض للقول بعدم الحجّية مطلقا وإلى التعرّض للتفاصيل
وإلى النقض
والاشكال والابرام والجواب ، ومن أراد الاطّلاع عليها فليراجع إلى فرائد الاصول
لأنّ كتابي هذا بني على الايجاز والاختصار فلا ينبغي فيه نقل الأقوال وذكر
التفاصيل في مسألة الاستصحاب وبيان الاستدلالات لأنّ ذكر هذه الامور يوجب إطالة
الكلام والبحث ، ولكن لا بأس بصرف الكلام والبحث إلى تحقيق حال الوضع من جهة دفع
تفصيل الفاضل التوني رحمهالله في المقام حيث قال الفاضل بحجّية الاستصحاب في الأحكام
الوضعية دون التكليفية ولأجل هذا تعرّض المصنّف قدسسره هذا التحقيق في هذا المقام.
امّا تحقيق حال
الوضع من حيث كونه حكما مستقلا بالجعل كالتكليف أو منتزعا عنه وتابعا له في الجعل
، أو فيه تفصيل وملخّصه : أنّه على أقسام : فمنها : ما لا يتطرّق إليه الجعل لا
استقلالا ولا تبعا أصلا.
ومنها : ما يكون
مجعولا تبعا.
ومنها : ما يكون
مجعولا مستقلا ـ كما سيأتي تفصيل هذا قريبا إن شاء الله تعالى ـ أي لا بأس بصرف
الكلام إلى تحقيق حال الوضع حتّى يظهر حال ما ذكر هنا ، أي حال التفصيل الذي نسب
إلى الفاضل التوني رضى الله عنه بين التكليف والوضع من التفصيل.
فنقول وبالله
تعالى الاستعانة لأنه خير معين : لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع
مفهوما كما انّه لا إشكال في اختلافهما مصداقا حتّى على القول بكون الاحكام
الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفيّة.
فقد ذكر المصنّف قدسسره قبل تحقيق حال الوضع أمورا ثلاثة :
الأول : اختلافهما
مفهوما ومصداقا وموردا في بعض الموارد لبداهة ما بين مفهوم السببية ، أو الشرطية
ومفهوم الايجاب ، أو الاستحباب من المخالفة والمباينة ويدل على ذلك عدم صحّة حمل
أحدهما على الآخر ، فلا يقال : ان الايجاب سبب أو
شرط ، أو ان السبب
ايجاب ، أو استحباب مثلا ، وكذا سائر الموارد.
وفي ضوء هذا
البيان تكون النسبة بين التكليف والوضع من النسب الأربع تباينا كليّا كالإنسان
والحجر مثلا.
اختلاف التكليف
والوضع
قوله
: واختلافهما في الجملة موردا ...
فقد يكون الوضع
ولا تكليف كما في المحجور عليه لسفه ، أو فلس فالأموال هي ملكه ولا يجوز له
التصرّف فيها لتعلّق حق الغرماء فيها إذا كان الحجر لفلس أو من جهة السفه.
وقد يكون التكليف
ولا وضع كما إذا أجازنا المالك في التصرّف في ماله ، ولكن ليس لنا الملك كالطعام
الذي يحضر المضيف للضيف ، وقد يجتمعان معا ، كي يقال : الافطار في رمضان المبارك
بلا عذر حرام وسبب لوجوب الكفارة ، فالافطار العمدي حرام وسبب كفارة معا ففيه
تتحقّق الحرمة والسببية معا.
قوله
: كما لا ينبغي النزاع في صحّة تقسيم الحكم الشرعي ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن الأمر الأوّل شرع في الأمر الثاني وقال : ولا نزاع بين
الأعلام في صحّة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي والوضعي ضرورة أنّ الحكم الشرعي
إذا كان بمعنى خطاب الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين ، من حيث الاقتضاء
والتخيير فلا يشمل الوضع بل يختص بالتكليف ، وأمّا إذا كان بمعنى المحمولات
الشرعية المأخوذة من الشارع المقدّس بما هو شارع فيشمله فيصح تقسيمه إليهما بهذا
المعنى ، كما لا يخفى.
ويشهد بصحّة
التقسيم إطلاق الحكم عليه كثيرا في كلمات الأصحاب (رض) ومحاوراتهم ومخاطباتهم حيث
يقولون ان الأحكام الشرعية امّا تكليفية وامّا
وضعية فيقولون
أحكاما وضعية.
فإن قيل : يحتمل
أن يكون اطلاقها عليه مجازيا كاطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع.
قلنا : ان اطلاق
المجازي يحتاج إلى قرينة صارفة وإلى علاقة مصحّحة للتجوّز وليست القرينة المذكورة
بموجودة في إحدى الاستعمالات والاطلاقات فضلا عن جميعها.
وفي ضوء هذا
فاحتمال المجاز بعيد انصافا ، هذا مضافا إلى ان العلاقة التجوّز ليست بموجودة بين
التكليف والوضع. فالالتزام بالتجوّز مردود.
قوله
: وكذا لا وقع للنزاع في أنّه محصور في أمور مخصوصة ...
شرع المصنّف قدسسره في الأمر الثالث وقال :
قال العلّامة قدسسره : ان الاحكام الوضعية منحصرة في الشرطية والسببية
والمانعية وزاد بعض الآخر العلّية والعلامية ، وأضاف عليها بعض المحقّقين (رض)
الصحّة والبطلان والعزيمة والرخصة ، وذهب بعض الآخر إلى ان الجزئية والكلية من
الأحكام الوضعية.
ولكن الأظهر ان
غير الأحكام التكليفية أحكام وضعية سواء كانت دخيلة في التكليف ، أم كانت دخيلة في
متعلّقه ، أم كانت دخيلة في موضوعه ، أم كانت غير دخيلة في أحدها ، ولكن اطلق
الحكم الوضعي على الامور المذكورة في كلمات الأصحاب (رض).
وعلى طبيعة الحال
فلا ينبغي أن يكون النزاع بينهم في عددها.
ولا بأس بذكر
المثال في هذا المقام ؛ اما مثال الدخيل في التكليف فكالنصاب الدخيل في وجوب
الزكاة وكالاستطاعة الدخيلة في وجوب الحج وكالزوال الدخيل في وجوب الصلاة و ...
وامّا مثال الدخيل
في متعلّق التكليف فكالجزئية والشرطية للمكلف به مثل جزئية القراءة وشرطية
الاستقبال للصلاة ، وامّا مثال المانعية له فكاللبس ما لا يؤكل لحمه في حال
الصلاة.
وامّا مثال الدخيل
في موضوع التكليف كالزوجية والمالكية مثلا اللّتين يترتّب عليها آثار شرعية من
جواز الاستمتاع ووجوب النفقة وجواز التصرّف وغيرها من جواز الهبة واشتراء المملوك
للعتق الواجب وغيرهما من الآثار المترتّبة على الملكية.
وامّا مثال غير
الدخيل في التكليف ولا في متعلّقه ولا في موضوعه فكالولاية لاجراء عقد النكاح مثلا
، إذ لا يترتّب على هذه الوكالة حكم تكليفي.
فإن
قيل : يترتّب عليها
جواز إجراء الصيغة ، أي صيغة النكاح مثلا.
قلنا : ان جواز اجراء الصيغة كان متحقّقا قبل الوكالة فضولا
أيضا والعقد الفضولي نافذ مع الإجازة من الزوج والزوجة ، أو وليهما بالاجماع.
ضرورة أنّه لا وجه
لتخصيص أحكام الوضعية بالمذكورات بعد كثرة إطلاق الحكم ، في كلمات الأصحاب (رض)
على غير المذكورات مثل الحديث والرقيب مثلا مع أنّه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة علمية
، أو عملية للنزاع في ذلك ، أي في حصر أحكام الوضعية بالمذكورات وعدم حصرها بها ،
إذ لنا علم بأنّها غير التكليفية بلغت ما بلغت ، وكذا لا ربط للحصر وعدمه في مقام
العمل بحيث إذا كانت محصورة في عدد معيّن كالثلاثة ، أو الخمسة ، أو التسعة نعمل
بها وإلّا فلا ، وليس الأمر كذلك إذ نعمل على طبق الأحكام الوضعية في مواردها سواء
كانت محصورة ، أم كانت غير محصورة.
قوله
: وانّما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان الامور الثلاثة المتقدّمة شرع في تحقيق الحكم
الوضعي وقال : ان
النزاع ثابت بين الأصوليين قدسسرهم في أن الأحكام الوضعية مجعولة بالجعل التشريعي كالأحكام
التكليفية ، إذ لا إشكال ولا نزاع في كون الأحكام التكليفية مجعولة استقلالا
تشريعا بحيث يصحّ اعتبارها من مجرّد جعلها بقوله هذا واجب ، أو حرام ، أو مستحب ،
أو مكروه ، أو مباح فيكون واجبا ، أو حراما ، أو مستحبّا أو مكروها ، أو مباحا
بمجرّد الجعل ، فهل الأحكام الوضعية كذلك فيصح انتزاع السببية واعتبارها من قول
الجاعل دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة اليومية وعقد النكاح سبب لحليّة الوطي و ....
أو هي منتزعة من
التكليف ومجعولة بتبعه ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل تفصيل فيها.
قال المصنّف قدسسره : والتحقيق ان الأحكام الوضعية بأسرها على انحاء ثلاثة :
الأوّل
: ان منها ما لا
يتطرّق إليه الجعل تشريعا أصلا ولا يقبله لا استقلالا ولا تبعا وان كان مجعولا
تكوينا عرضا. وثانيا بتبع جعل موضوعه تكوينا ، كجعل دهنية الدهن وكجعل رطوبة الماء
وكجعل حرارة النار و ....
الثاني : لا يقبل الجعل التشريعي استقلالا وأصالة ولكن يقبله تبعا
وعرضا كالجزئية والشرطية والمانعية ، إذ ايجاب مركب خاص يوجب قهرا اتصاف كل واحد
من أجزائه بالجزئية لهذا المركّب الخاص ، واتصاف الخصوصية الوجودية كالستر
والاستقبال بالشرطية للمركّب ، واتصاف الخصوصية العدمية مثل لبس ما لا يؤكل لحمه
والحرير للرجال بالمانعية.
الثالث : أن منها ما يمكن فيه الجعل استقلالا واصالة بانشائه بأن
ينشأ الحكم الوضعي مستقلا كالحكم التكليفي ويمكن فيه الجعل تبعا للتكليف كأن يكون
التكليف منشأ لانتزاع الوضع ، وان كان الصحيح في القسم الثالث انتزاع الوضع من
انشائه استقلالا واصالة وكون التكليف من آثاره وأحكامه ، أي من آثار الوضع وأحكامه
كما تأتي الإشارة إلى هذا القسم عن قريب إن شاء الله تعالى. وذلك
كالزوجية التي يصح
جعلها ابتداء بأن يقول الشارع المقدّس : هند زوجة زيد كما يمكن للشارع المقدّس
جعلها تبعا ، كأن يقول : يبيح نظر زيد إلى هند ويبيح وطئه لها ، وتجب نفقتها عليه
وترثه ويرثها فينتزع من هذه الامور عنوان الزوجية.
ولكن المختار عند
المصنّف قدسسره في القسم الثالث انتزاع الوضع من انشائه استقلالا وأصالة
مثلا يصح أن ينشئ الشارع المقدّس عنوان الزوجية استقلالا وأصالة واباحة النظر
والاستمتاع ووجوب النفقة والكسوة والمسكن والتوارث من آثارها وأحكامها وكذا الكلام
في مثل القضاوة والولاية والحرية والرقية والملكية ونحوها.
قوله
: وامّا النحو الأوّل فهو كالسببية والشرطية والمانعية ...
وليعلم ان سبب
التكليف عبارة عمّا فيه اقتضاء التكليف كدلوك الشمس في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ
مَشْهُوداً).
وشرط التكليف
عبارة عمّا له دخل في تأثير السبب في التكليف كالبلوغ والعقل والحياة والقدرة.
وامّا المانع فهو
كالحيض قبل الوقت لأنّه مانع عن توجه التكليف إلى الحائض ، وامّا الرافع فهو
كالحيض بعد الوقت ، إذ هو رافع للتكليف عنه من حين حدوثه. فالقسم الأوّل من قيود
التكليف فانّ المولى يجعل التكليف تارة بلا قيد فيكون مطلقا ، واخرى يجعله مقيّدا
بوجود شيء في الموضوع فيكون شرطا ، وثالثة بعدمه فيكون مانعا.
وأمّا الفرق بين
السبب والشرط فهو مجرّد اصطلاح فانّهم يعبّرون عمّا اعتبر وجوده في الحكم التكليفي
بالشرط ويقولون : ان البلوغ شرط لوجوب الصلاة مثلا ،
__________________
والاستطاعة شرط
لوجوب الحج والنصاب شرط لوجوب الزكاة.
ويعبّرون عمّا
اعتبر وجوده في الحكم الوضعي بالسبب ويقولون : ان الملاقاة سبب للنجاسة والحيازة
سبب للملكية ، فكلّما اعتبر وجوده في الحكم فهو شرط في باب التكليف وسبب في باب
الوضع سواء عبّر عن اعتباره بالقضية الشرطية أو الحملية فانّه لا فرق بين قول
المولى : من كان مستطيعا وجب عليه الحجّ ومن كان بالغا عاقلا وجبت عليه الصلاة ،
وبين قوله : المستطيع يجب عليه الحجّ والبالغ العاقل تجب عليه الصلاة لرجوع
الشرطية إلى الحملية. كما ان القضية الحملية ترجع إلى الشرطية التي كان مقدّمها
تحقّق الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.
وبالجملة كلّما
اعتبر وجوده في الموضوع فهو شرط للتكليف كالاستطاعة لوجوب الحج ، وكلّما اعتبر
عدمه في الموضوع فهو مانع عن التكليف ، كالحيض مثلا.
قال المصنّف قدسسره : حيث انّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين للسببية
والشرطية والمانعية والرافعية من التكليف المتأخّر عنها ذاتا حدوثا ، أو ارتفاعا ،
فالأوّل كما في السبب والشرط والمانع ، والثاني كما في الرافع.
وعلى هذا البيان
فالسببية والشرطية والمانعية والرافعية منتزعة عن الخصوصية التكوينية القائمة بما
هو سبب ، أو شرط ، أو مانع ، أو رافع فليست مجعولة بالاستقلال ولا منتزعة عن
التكليف خلافا للمشهور حيث ذهب إلى أنّها مجعولة بالاستقلال وخلافا لبعض حيث ذهب
إلى أنّها منتزعة عن التكليف المترتّب على موضوعاتها كانتزاع السببية عن وجوب
الصلاة المترتّب على الدلوك نحو قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ). وعلى ضوء هذا فصار الأقوال في النحو الأوّل ثلاثة. ولكن
اختار المصنّف قدسسره القول الثالث وأبطل الأوّل والثاني.
امّا بيان بطلان
القول الثاني فلأنّ لازمه تأثير المتقدّم في المتأخّر حيث إن
اجزاء العلّة
متقدّمة على المعلول ، فإذا فرض توقّف بعض أجزائها على وجود المعلول للزم تأثير
المتأخر.
وتطبيقه على
المقام : أن الأمر الانتزاعي متأخّر عن منشأ الانتزاع ، إذ لو لا وجود المنشأ لا
معنى لانتزاع شيء منه. وهذا معيار الفرق بين الأمر الانتزاعي والأمر الاعتباري ،
إذ لا يعتبر في الثاني تحقّق محل الاعتبار خارجا هذا مع أن مقتضى سببية شيء ، وذلك
كالدلوك ، للتكليف الذي هو عبارة عن وجوب الصلاة هو تقدّمه عليه لكون السبب في
مرتبة العلّة والتكليف في مرتبة المعلول.
وفي ضوء هذا
فالالتزام بانتزاع السببية عن التكليف يستلزم كون المتأخّر عن التكليف متقدّما
عليه ، والمتقدّم عليه متأخّرا عنه ، وهذا معنى اجتماع المتقابلين ، وهذا مستحيل
جدّا ، مثلا إذا انتزعنا سببية الدلوك عن وجوب الصلاة ونقول : ان الدلوك سبب لوجوب
الصلاة ، فهذا الانتزاع يستلزم كون المتأخّر عن التكليف متقدّما على التكليف لأنّ
في مرحلة الاولى جعل الوجوب للصلاة. وفي مرحلة الثانية جعل الدلوك سببا لوجوبها
لأنّه متى لم يجعل الوجوب للصلاة لم يجعل الدلوك سببا لوجوبها. ويستلزم كون
المتقدّم على التكليف متأخّرا عنه ، لأنّ السبب في مرتبة العلّة هذا وجه كون السبب
متقدّما على التكليف.
هذا وجه كون السبب
متأخّرا عن منشأ الانتزاع وعن التكليف ، هذا في السببية ، وكذا الأمر في الشرطية
والمانعية ، فانّ شرط التكليف ومانع التكليف متقدّمان على المشروط والممنوع طبعا.
وعليه فالالتزام
بانتزاعيتهما يستلزم تأخّرهما عنهما لأنّ الأمر المنتزع بالفتح متأخّر عن منشأ
الانتزاع.
فالنتيجة ان الالتزام بانتزاع الشرطية والمانعية عن التكليف
المترتّب على موضوعاتهما كانتزاع الشرطية عن وجوب الصلاة المترتّب على الستر
والاستقبال
في مثل الستر شرط
لصحّة الصلاة ، وفي مثل لبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه حال الصلاة مانع عن صحّتها
يستلزم كون المتأخّر عن التكليف متقدّما عليه لأنّه متى لم يجعل الوجوب للصلاة فلم
يجعل الاستقبال والستر شرطين لصحّتها ، والمتقدّم عليه متأخّرا عنه لأنّ الأمر
المنتزع متأخّر عن منشأ الانتزاع ، كما لا يخفى.
وأمّا بطلان القول
المشهور ، وهو عدّ القول الأوّل ، فلأنّ هذه الأشياء لو كانت مجعولة بالاستقلال
للزم الخلف ، إذ لو كانت دائرة مدار الجعل المستقل كما قال به المشهور فيلزم حينئذ
امتناع انتزاعها عن غيرها وللزم اجتماع المتقابلين والحال انّه لصح انتزاعها عن
غيرها وان لم تنشأ السببية للدلوك والشرطية للاستقبال والستر والمانعية للبس أجزاء
ما لا يؤكل ، بل انشئ الوجوب للصلاة عند الدلوك بأن قال المولى : إذا زالت الشمس
فصل الظهر وإذا صلّيت فاستقبل القبلة وإذا صلّيت فلا تلبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه.
ولا ريب في أن
المنشأ هو الوجوب للصلاة عند الدلوك ويصح انتزاع السببية للدلوك من نفس هذا
الانشاء وانتزاع الشرطية للاستقبال والستر من نفس هذا الانشاء وكذا الكلام في
المانعية حرفا بحرف ، ولكن يلزم عدم صحّة انتزاع السببية للدلوك ان لم يترتّب وجوب
الصلاة عليه ، أي على الدلوك ، وإن انشئت السببية له ، ويقال ان الدلوك سبب لوجوب
الصلاة فالسببية فرع الوجوب.
وبعد وضوح بطلان
هذين القولين يتعيّن المصير إلى القول الثالث وهو عبارة عن كون منشأ انتزاع
السببية والشرطية والمانعية والرافعية هي الخصوصية الذاتية القائمة بذات السبب
والشرط وعدم المانع وعدم الرافع وكل واحد منها من أجزاء العلّة ، إذ لو لم تكن تلك
الخصوصية الموجبة للربط الخاص بين السبب والمسبّب الذي هو يقتضي لتأثير السبب في
المسبب لأثر كل شيء في كل شيء ، وذلك كتأثير الماء في الاحراق والنار في التبريد.
ومن المعلوم فساد
تأثير كل شيء في كل شيء للزوم السنخية بين العلّة والمعلول ووجود الربط الخاص
التكويني بين أجزاء العلّة وهي عبارة عن وجود المقتضى وتحقّق الشرط وعدم المانع
وبسبب هذا الربط الخاص تؤثر هذه الاجزاء في المعلول ولو لا هذا الربط الخاص
والعلقة اللزومية فقد لزم اختصاص بعض الاسباب ببعض المسبّبات بلا مخصص وهذا يئول
إلى الترجيح بلا مرجح.
فالنتيجة ان أجزاء
العلّة تؤثر في معلولها لا في غيره كالنار الذي يقتضي الاحراق مع تحقّق الشرط وهو
عبارة عن لصوق الجسم به ومع تحقّق عدم المانع الذي هو عبارة عن رطوبة الجسم تؤثر
في الاحراق لا في التبريد ، وكذا لا يؤثر الماء في الاحراق ولا النار في التبريد ،
وحيث ان المناط في السببية تلك الخصوصية الذاتية المقتضية للتأثير فلا يعقل
تحقّقها بالإنشاء والجعل ، إذ انشاؤها لا يؤثر في تحقّق تلك الخصوصية التكوينية.
فقوله ، أي قول
المولى الدلوك سبب لوجوب الصلاة انشاء لا اخبارا لا يقتضي حدوث السببية للدلوك
تعبّدا وتشريعا إذ سببية الدلوك لا ترتبط بعالم التشريع والتقنين لأنّها أمر
تكويني مثل سببية النار للحرارة فالنار يكون موضوعا للحرارة تكوينا وسببيته
للحرارة تكون أمرا تكوينيا كما أن مسببه أمر تكويني ، ولكن فيما نحن السبب
والسببية أمران تكوينيان والمسبب الذي هو عبارة عن وجوب الصلاة يكون أمرا تشريعيا.
وعليه فاذا قال
الشارع المقدّس دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة فهو اطلعنا بالتكليف الوجوبي ولم يجعل
السببية للدلوك ، إذ لا يتغيّر حال الدلوك عمّا هو عليه قبل انشاء السببية له من
كونه واجدا لخصوصية تكوينا مقتضية لوجوبها ، أي لوجوب الصلاة ومن كونه فاقد
الخصوصية.
وعلى هذا فلو كان
الدلوك واجدا لتلك الخصوصية لم يؤثر الانشاء في جعل
السببية للدلوك ،
أمّا لو كان فاقدا لها فكذلك ، أي لم يؤثر الإنشاء في جعل السببية له إذ الانشاء
لا يعطي الدلوك خصوصية تقتضي سببيته لوجوب الصلاة ، فقول دلوك الشمس سبب لوجوب
الصلاة لا يقتضي جعل السببية له لوجهين :
الأوّل
: ان الدلوك باق
على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له.
الثاني
: ان الصلاة لا
تكون واجبة عند الدلوك ما دام لم تكن تلك الخصوصية التي هي قائمة بالدلوك ومع تلك
الخصوصية تكون واجبة لا محالة وان لم ينشأ الشارع المقدّس السببية للدلوك أصلا
فخصوصية الدلوك دخيلة في وجوب الصلاة لا سببيته له ، وكذا الكلام في الشرطية
والمانعية والرافعية حرفا بحرف.
ولكن الانصاف ان
الشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعان من جعل المولى التكليف مقيّدا
بوجود شيء في الموضوع ، أو عدمه فتكون الشرطية والسببية والمانعية مجعولة بتبع
التكليف.
فقول المصنّف قدسسره في هذا المقام خلط بين الجعل والمجعول فانّ ما ذكره صحيح
بالنسبة إلى أسباب الجعل وشروطها من المصالح والمفاسد والإرادة والكراهة والميل
والشوق فانّها أمور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف وليست بقابلة للجعل التشريعي
، لكونها من الامور الخارجية التي لا يعقل تعلّق الجعل التشريعي بها ، بل ربّما
تكون غير اختيارية كي يتعلّق بها الجعل وذلك كالميل والشوق والمصلحة والمفسدة مثلا
، وهي خارجة عن محل الكلام فانّ الكلام في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة إلى
المجعول وهو التكليف وقد ذكرنا انّها مجعولة بتبع التكليف ، فكلّما اعتبر وجوده في
الموضوع ، فتنتزع منه السببية والشرطية وكلّما اعتبر عدمه فيه فتنتزع منه
المانعية.
فالنتيجة
أن هذه الامور لا
يتعلّق بها الجعل التشريعي الاستقلالي والوجه كما تقدّم ولكن بالنسبة إلى المجعول
قابلة لجعل التبعي وانّما قال المصنّف قدسسره انشاء لا
اخبارا لأنّ
مقصوده قدسسره ان امتناع ايجاد السببية للدلوك بقول المولى الدلوك سبب
لوجوب الصلاة انّما هو إذا كان الكلام انشاء ، أي قصد به تحقّق السببية بمجرّد هذا
الجعل ممّن بيده أمر التشريع.
وامّا إذا قصد
بهذا الكلام الاخبار عن ثبوت الخصوصية الذاتية للدلوك والاستقبال ونحوهما فعدم
تحقّق السببية للدلوك بهذا الكلام واضح لعدم اقتضاء الأخبار والحكاية تحقّق هذا
العنوان أصلا ، إذ لو كان هذا العنوان موجودا في الواقع لكان الاخبار صدقا وإلّا
فهو كذب ، والحال أنّه ليس شأن الخبر إيجاد ما ليس بموجود في الخارج بل انّما هو
شأن الانشاء.
قوله
: ومنه انقدح أيضا عدم صحّة انتزاع السببية له ...
هذا إشارة إلى
فساد القول بكون السببية والشرطية والمانعية والرافعية مجعولات بتبع التكليف ، وقد
سبق توضيحه في المتن وأعاد المصنّف قدسسره هذا القول لأجل توضيح أمر آخر وهو عبارة عن إطلاق عنوان
السبب على الدلوك في بعض الأخبار ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ووجه فساد انتزاع
السببية للدلوك عن وجوب الصلاة لأنّ إيجاب الصلاة عند الدلوك لا يوجب تغييره عمّا
هو عليه في الواقع وايجاد الخصوصية التي تلزم في كل سبب وعلّة.
نعم إذا كان
الدلوك ذا خصوصية في الواقع فهو سبب واقعا وان لم ينشأ الشارع المقدّس السببية له
، ولكن لما كان الدلوك مقارنا مع إيجاب الصلاة بل هو ملازم له بحيث لا ينفك عنه
فلا بأس في اطلاق السبب عليه مجازا وعناية لأنّه ملازم له ومعرف لوجوبها كما ان
انشاء الوجوب لشيء سبب لتحقّق المصالح الواقعية في موضوعات الوجوب ، أو في
متعلّقاته وانشاء الحرمة سبب لتحقّق المفاسد الواقعية في المتعلّقات والموضوعات
وهما ، أي المصالح والمفاسد سببان
لإرادة الايجاب
والتحريم.
فعلم من جميع ما
ذكر أن أجزاء العلّة من المقتضى والسبب والشرط والمانع والرافع دائرة مدار
الخصوصية الواقعية التي تحقّقت بينها ومعلولها واقعا. وامّا لو لم تكن الخصوصية
فيها فعنوان السببية والشرطية والمانعية والرافعية لا يعلق على السبب والشرط والمانع
والرافع إلّا مجازا وعناية ، والعلاقة المصحّحة للتجوّز هي العلاقة الملازمة ، إذ
ليس هذا القسم من الأحكام الوضعية بقابل للجعل التشريعي أصلا لا استقلالا وأصالة
ولا تبعا على مبنى المصنّف قدسسره.
فقال المصنّف قدسسره : كما لا بأس بأن يعبّر عن انشاء وجوب الصلاة عند الدلوك
بأن الدلوك سبب لوجوب الصلاة وهذا التعبير يكون كنائيا لأنّه عبّر عن الملزوم الذي
هو عبارة عن سببية الدلوك للوجوب واريد منه اللازم الذي هو عبارة عن وجوب الصلاة
عند الدلوك.
وفي ضوء المطلب
المذكور فقد ظهر لك انّه لا منشأ لانتزاع السببية ولسائر أجزاء العلّة كالشرط وعدم
المانع إلّا الخصوصية الذاتية التي وجدت فيها واقعا وهي موجبة لدخل كل واحد من
أجزاء العلّة بحيث تكون دخالة السبب في التكليف غير دخالة الشرط فيه وتكون دخالة
الشرط فيه غير دخالة المانع فيه وتكون دخالة المانع فيه غير دخالة الرافع فيه ، إذ
دخالة السبب فيه بعنوان السببية ودخالة الشرط فيه بعنوان الشرطية بحيث يلزم من
وجود السبب وجود التكليف ومن عدمه عدمه ويلزم من عدم الشرط عدم التكليف ولا يلزم
من وجوده وجوده ويلزم من وجود المانع عدم التكليف ولا يلزم من عدمه وجوده وكذا
الكلام في الرافع حرفا بحرف أي بحرف المانع.
وأمّا الفرق بين
المانع وبين الرافع فقد سبق فلا حاجة إلى الإعادة ، وانّما قال المصنّف قدسسره أيضا : لأنّه كما انقدح ممّا ذكر ان هذه الامور غير قابلة
للجعل استقلالا
كذا انقدح ممّا
ذكر انّها غير قابلة للجعل تبعا.
قوله
: فتدبّر جيدا ...
وهو تدقيقي بقرينة
كلمة الجيّد أوّلا وثانيا لظهور كلمة التدبّر في التدقيق والدقّة إشارة إلى دقّة
المطلب السابق كما هو أحق بالتدقيق والدقّة كما لا يخفى.
التحقيق في الأحكام الوضعية
قوله
: وامّا النحو الثاني فهو كالجزئية والشرطية والمانعية ...
وامّا القسم الثاني
من الأحكام الوضعية التي تقبل الجعل تبعا للتكليف ولكن لا تقبله اصالة واستقلالا
فهو كالجزئية للمأمور به كالفاتحة مثلا ، والشرطية له كالطهور مثلا ، والمانعية له
كلبس أجزاء غير المأكول ، والقاطعية له كالحدث في اثنائها والاستدبار والقهقهة
والتكلّم عمدا ونحوها.
والفرق بين المانع
وبين القاطع ان الأوّل عدمه شرط للمأمور به من دون أن تنقطع به الهيئة الاتصالية
للاجزاء السابقة مع الاجزاء اللاحقة.
والثاني عدمه شرط
للمأمور به من جهة انقطاع الهيئة الاتصالية به بحيث إذا طرأ في الأثناء سقطت
الاجزاء السابقة عن قابلية الانضمام مع اللاحقة ، ولا يخفى ان اتصاف شيء بعنوان
الجزئية للمكلف به ، أو بعنوان الشرطية له لا يتحقق إلّا بواسطة الأمر بمجموع
الأمور يقيد تارة بأمر وجودي واخرى بأمر عدمي.
وحاصل الكلام ان
الجزئية لجزء المكلف به كجزئية الركوع للصلاة والشرطية للصلاة كشرط المكلف به
كشرطية الطهار وان المانعية لمانع المكلف به ككون المكان غصبا لأنّه مانع عن صحّة
الصلاة وان القاطعية لقاطع المكلف به كقاطعية الفعل الكثير بالإضافة إلى الهيئة
الاتصالية لأجزاء الصلاة فليس كل واحد
منها بقابل للجعل
اصالة وللإنشاء مستقلّا بل تجعل هذه الامور بتبع انشاء التكليف وجعله.
وامّا بيان عدم
جعلها مستقلا فلأنّه لمّا لم يكن المأمور به موجودا فلا يكون الجزء له قطعا وإذا
لم يكن الجزء له بموجود فليس عنوان الجزئية بموجود التي تكون للجزء.
وعلى هذا فتكون
هذه الامور بعد الأمر وبعد انشاء التكليف بحيث لا يكون لها ، أي للجزء والشرط
والمانع والقاطع رسم ولا أثر قبل جعل التكليف وإنشائه وان انشأ الشارع المقدّس لكل
واحد الامور المذكورة الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية بقوله : انّي جعلت
الجزئية للجزء والشرطية للشرط والمانعية للمانع والقاطعية للقاطع ، إذ انشاء هذه الامور
انّما يكون في موطنه وزمان تحقّقها لا قبل الموطن والموطن انّما يكون بعد جعل
التكليف وانشائه.
قوله
: وجعل الماهية واجزائها ليس إلّا ...
ولا ريب في أن
الماهية المخترعة كالصلاة والصوم والحج وأمثالها مجعولة الشارع المقدّس لأنّ
الشارع اخترع ألفاظ العبادات وابتكر الماهيات المباركات في الشريعة المقدّسة ويكفي
نفس الجعل والاختراع في لحاظ الجزئية للجزء والشرطية للشرط والمانعية للمانع
والقاطعية للقاطع وان لم يتعلّق بالماهيات المخترعة أمر المولوي من قبل الشارع
المقدّس ، إذ ليس اعتبار عنوان الجزئية للأجزاء بتابع للأمر بل هو تابع للاختراع.
وكذا الكلام في اعتبار الشرطية والمانعية والقاطعية.
فالنتيجة ان هذه الامور ليست بتابعة للتكليف في الجعل لأنّ الشارع
المقدّس إذا اخترع أمرا مركبا من عدّة أمور مقيّدة بأمور خاصّة فبمجرّد ابتكاره
لها واختراعه إيّاها ينتزع لكل جزء من أجزائها عنوان الجزئية ولكل قيد من قيودها
عنوان الشرطية
ولكل مانع من موانعها عنوان المانعية ولكل قاطع من قواطعها عنوان القاطعية فهي
مجعولات بتبع التكليف.
قلنا : ان جعل
الماهية واختراعها ليسا إلّا تصوّرها باجزائها وقيودها وشرائطها وإلّا تصوّرها
بأنّها ممّا فيه مصلحة ملزمة مقتضية للأمر بها ولايجابها على آحاد المكلف.
ومن الواضح انّ
مجرّد تصوّرها كذلك لا يوجب اتصاف شيء من أجزائها ولا شيء من قيودها وشرائطها
بالجزئية للمأمور به ، أو الشرطية ، أو المانعية له القاطعية له ما لم يؤمر بتلك
الماهية ولم يتعلّق بها التكليف والأمر.
وخلاصة الكلام أنّ
ما لم يتعلّق الأمر المولوي بالماهية المركبة المخترعة لم يتصف شيء من أجزائها ولا
شرائطها ولا موانعها ولا قواطعها بكونه جزءا ، أو شرطا أو مانعا ، أو قاطعا
للماهية المتصوّرة ذهنا ، أو للماهية المشتملة على المصلحة الملزمة ، كما لا يخفى.
وليعلم أن ذكر
الماهية المشتملة على المصلحة الملزمة فهو من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشدّة
الاهتمام به لأنّ الماهية المتصوّرة تشمل جميع الماهيات المخترعة ولكن الماهية
التي تشتمل على المصلحة الملزمة فعلا تشتمل الواجبات فقط ، أو تركا تشتمل
المحرّمات فقط.
ولا يشتبه الأمر
في هذا المقام ويقال : انّ المصنّف قدسسره حيث عدّ المانع من القسم الأوّل والثاني معا ، لأنّ المانع
عن التكليف كعروض الحيض ، أو النفاس قبل الوقت فهو مانع عن التكليف وبعد الوقت فهو
رافع له يكون من القسم الأوّل ومانع المكلف به كلبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه مثلا
يكون من القسم الثاني ، فكم فرق بينهما ، فلا شائبة التكرار ، أو التناقض في
العبارة ، أي عبارة كفاية الاصول.
قوله
: وامّا النحو الثالث فهو كالحجّية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية
والرقية
والزوجية والملكية ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن تحقيق القسمين الأوّلين ، شرع في تحقيق القسم الثالث من
الأحكام الوضعية ، وهذا قابل للجعل استقلالا وتبعا للتكليف كالحجّية والقضاوة
والولاية وغيرها من الامور المذكورة في كلامه لأنّه يمكن للمولى أن ينشئ الحجّية
أولا لشيء كالبيّنة والظن بأن يقول : انّي جعلت البيّنة حجّة والظن حجّة وتترتّب
عليهما آثار الحجّية عقلا وشرعا من وجوب المتابعة وحرمة المخالفة والمثوبة عند
الموافقة والعقوبة عند المخالفة وغيرها من الآثار ، وكذا في سائر الامور المذكورة
حرفا بحرف.
وكذا يمكن انتزع؟؟؟
عن التكاليف التي جعلها الشارع المقدّس في موارد البيّنة والظن الحاصل يمكن كلا
النحوين في جميع المذكورات مثلا كما إذا حكم الشارع المقدّس بملكية شيء لشخص بأن
يقول : ان هذا الدار ملك زيد ، أو يقول : ان مريم زوجة محمّد مثلا ، أو يقول : ان
بكرا قاض ، فقد جعل الشارع المقدّس للمالك جواز التصرّف كيف يشاء من نفوذ البيع
والتمليك والوديعة والعارية والصلح مع العوض وللزوج جواز الوطي وجواز سائر
التمتّعات والاستمتاعات ، فالشارع المقدّس ـ وهو الله تعالى ـ جعلها على نحو
الاستقلال في مواردها ، أو جعلها على نحو الاستقلال والاصالة في مواردها من بيده
الأمر والحكم والجعل من قبل الله تعالى يتحقّق من جعل هذه الامور بانشاء نفس هذه
الأشياء وكذا يمكن انتزاعها من جعل التكاليف والأحكام في موارد هذه الأشياء بأن
يقول الشارع المقدّس ، أو يقول من بيده الأمر من قبل الله تعالى ، وذلك كالنبي
والولي عليهما الصلاة والسلام تجوز تصرّفات هذا الشخص في الدار واستمتاعات هذا
الرجل من هذه المرأة ويصح انتزاع الملكية والزوجية من التكليف والحكم.
قوله
: إلّا أنّه لا يكاد يشك في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالى ، أو من بيده
الأمر
من قبله جل وعلى لها بانشائها ...
فقد شرع المصنّف قدسسره في الاستدلال على قابلية القسم الثالث من الأحكام الوضعية
للجعل الاستقلالي فقط دون التبعي وقد استدل لهذا الدعوى بأمرين :
أحدهما : يرتبط
بقابلية هذا القسم للجعل الاستقلالي.
وثانيهما : لعدم
قابليته للجعل التبعي ، امّا الاحتجاج على الأوّل فانّه لا شك في صحّة انتزاع هذه
الامور المذكورة من مجرّد جعل الله تعالى لها ، أو من مجرّد جعل من بيده الأمر من
قبله لها كما في الحجّية والقضاوة والولاية ، أو من مجرّد العقد ، أو الايقاع ممّن
بيده الاختيار كما في النيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية والطلاق والعتاق
ونحوها ، كل ذلك بلا ملاحظة التكليف والآثار التي في موردها من جواز النظر والمس
والدخول والاضطجاع ونحو ذلك في الزوجية ، ومن جواز أنحاء التصرّفات في الملكية ومن
حفظ العدّة واختيار التبعل في الطلاق ومن نفاذ التصرّفات والتملّك في الحرية ومن
جواز التصرّفات فيما ينوب به في النيابة وهكذا فلو كانت هذه الامور منتزعة من
التكاليف التي هي في موردها بدعوى ان المجعول أولا بوسيلة العقد ، أو الايقاع
التكاليف التي قد ذكرت آنفا ، ثم تنتزع هذه الامور من تلك التكاليف المجعولة
بالعقد ، أو الايقاع للزم أمران :
أحدهما : أن لا
يصح انتزاع هذه الامور المذكورة بمجرّد جعلها بلا ملاحظة تلك التكاليف مع انّها
تنتزع بلا ملاحظتها قطعا.
ثانيها : أن لا
يقع ما قصد من العقد ، أو الايقاع من هذه الامور الوضعية وأن يقع ما لم يقصد منهما
من تلك التكاليف المجعولة بوسيلة العقد ، أو الايقاع مثلا لو قلنا بمجعولية
الملكية بتبع التكليف للزم أن يكون المقصود غير واقع والواقع غير مقصود ، إذ
المقصود من قول البائع للمشتري بعتك داري بمائة دينار هو جعل الملكية للمشتري
وانشاء مفهوم البيع أعني منه التمليك وليس المقصود منه انشاء
جواز التصرّفات له
لأن المفروض ان التمليك لا يتحقّق بمجرّد الإنشاء الذي يتحقّق بقول بعت ، بل
يتحقّق بتبع الأحكام ، فاللّازم حينئذ أن يكون الواقع بقوله بعت هو التكليف وجواز
انحاء التصرفات.
والحال أن المفروض
عدم قصده ، إذ المقصود هو إيجاد الملكية والمفروض عدم وقوعها لكونها تابعة للتكليف
على الفرض.
والحال ان العقود
تابعة للقصود. وفي ضوء هذا لا محيص عن القول بكون الملكية ونحوها من الامور
المذكورة في قوله من الامور المجعولة اصالة واستقلالا لا تبعا للتكاليف ولا منتزعا
عنها ، فلا تنتزع الحجّية من وجوب العمل على طبق قول الثقة ، أو العادل ، أو
المفتي ، وكذا لا تنتزع البينونة في الطلاق من وجوب حفظ العدة ومن وجوب الاعتداد
ولا ينتزع الضمان من وجوب الدفع بالمثل ، أو القيمة بالاتلاف ، والوجه في ذلك كلّه
هو انفكاك الوضع عن التكليف وعدم استلزام التكليف له دائما.
فانقدح لك ان مثل
هذه الاعتبارات التي قد ذكرت آنفا انّما تكون مجعولة بنفسها بحيث يصحّ انتزاعها
بمجرّد انشائها كالتكليف ، أي كما ان التكاليف مجعولة بالاستقلال كذا هذه الامور
مجعولة مستقلا وليست بمجعولة بتبع التكليف ولا منتزعة عنه.
قوله
: وهم ودفع (اما الوهم) فهو ان الملكية كيف ...
امّا الوهم
فخلاصته : ان الملكية كيف تكون من الأحكام الوضعية والاعتبارات الحاصلة بالجعل
والانشاء والاعتبارات المذكورة تكون هي من خارج المحمول ليس بحذائها شيء في الخارج
سوى منشأ انتزاعها كما في الفوقية والتحتية والابوة والبنوة والعمومة والخؤولة
ونحوها من الإضافات والاعتبارات التي تكون خارج المحمول وهو المسمّى في اصطلاح
أرباب المنطق بالمحمول
بالضميمة مع ان
الملك هو إحدى المقولات التسعة التي تكون من المحمولات بالضميمة التي يكون ما
بازائها شيء في الخارج ، كالكم ، والكيف ، والفعل ، والانفعال ، والاضافة ، والمتى
، والأين ، والوضع ، وكل واحد منها يكون من الاعراض المتأصلة التي لها حظّ من
الوجود في الخارج وليست هي من الاعتبارات المحضة الحاصلة بالجعل والانشاء.
وكذا مقولة الملك
حرفا بحرف فانّ الملك هو عبارة عن إحاطة شيء بشيء بحيث ينتقل المحيط بانتقال
المحاط كالتعمّم والتقمّص مثلا ، فالحالة الحاصلة من التعمّم والتقمّص والتنعّل
للإنسان المتعمّم والمتقمّص والمتنعّل بالكسر هو الملك وأين هذه من الاعتبار
الحاصل بمجرّد انشائه وإيجاده.
قوله
: وامّا الدفع فحاصله ان لفظ الملك مشترك لفظي ...
قد يطلق على
المقولة التي يعبّر عنها بالجدة تارة وبله اخرى وقد يطلق على الإضافة التي قد تحصل
بالعقد من العقود سواء كان عقد البيع ، أم كان عقد الاجارة وعقد الهبة وعقد
التمليك ونحوها وقد تحصل بغير العقد من نحو ارث ونحوه من مثل حيازة المباحات
واحياء الموات ، فالذي هو من الأحكام الوضعية والاعتبارات الحاصلة بالجعل والانشاء
ويكون من خارج المحمول هو الملك بالمعنى الثاني والذي هو من الاعراض المتأصلة
ويكون من المحمولات بالضميمة ، أي التي لا تحصل بالجعل والانشاء هو الملك بالمعنى
الأوّل ومنشأ الوهم اشتراكه اللفظي واطلاقه على هذا مرّة وعلى ذاك اخرى.
ومن هنا يعلم أن
أسباب الملك على نحوين :
أحدهما : اختياري ،
كالعقد من العقود.
ثانيهما : غير
اختياري ، كالارث والارتداد الفطري المورث بالإضافة إلى الوارث غير اختياري.
فالتوهّم المذكور
انّما نشأ من اطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا ، كما يطلق على الاختصاص الذي يكون
من مقولة الاضافة ومن الغفلة عن كونه مشتركا بين الجدة ، وبين الاختصاص الخاص
والاضافة الخاصة الاشراقية إذا كان المضاف إليه هو الله تعالى فقط كملكه تعالى
للعالم جميعا ، أو الإضافة المقولية إذا كان المضاف إليه هو غير الله تعالى كملك
غيره تعالى بسبب من الأسباب سواء كان اختياريا أو كان غير اختياري وتفصيل كل واحد
منهما قد سبق آنفا فلا حاجة إلى الإعادة فيكون شيء ملكا لأحد من الأشخاص بمعنى
وملكا لشخص آخر بالمعنى الآخر ، مثلا الله تعالى مالك فلان كتاب بمعنى الاضافة
الإشراقية والإفاضة الوجودية ، ولكن في عين الحال كان زيد مالكا لفلان كتاب بمعنى
الاضافة المقولية فقد جمع الملكان لحظة في شيء واحد ، امّا بالمعنيين ، أو إذا لبس
عمرو عمامة زيد وعمّم بها فيتحقّق لعمرو الملك بمعنى الجدة ولزيد بمعنى الإضافة
المقولية والأمر الاعتباري كما لا يخفى.
قوله
: فتدبّر ...
وهو إشارة إلى ان
اختصاص شيء بشيء خاص يحصل بثلاثة طرق :
الأوّل : أن يحصل
الاختصاص من ناحية اسناد وجود شيء إلى وجود شيء خاص نحو : العالم ملك الباري تعالى
، إذ اختصاص العالم بالله تعالى يحصل من ناحية الاضافة الاشراقية.
الثاني : أن يحصل
من ناحية التصرّف والاستعمال كما يقال : الفرس لزيد اختصاص الفرس بزيد بن أرقم حصل
من ناحية الركوب وسائر تصرّفاته فيه كالبيع والهبة ونحوهما.
الثالث : أن يحصل
الاختصاص بواسطة السبب الاختياري كالعقد ، أو بالسبب غير الاختياري كالارث مثلا ،
كحصول ملكية الأراضي والعقار للمشتري
بالعقد أو الارث.
فانقدح لك عمّا
ذكر ان الملك بمعنى الجدة غير قابل للانشاء لأنّه من الامور الواقعية ، وبمعنى
الاختصاص قابل للانشاء. وهذا واضح لا غبار عليه. وقد تمّ الكلام إلى هنا في تحقيق
الوضع.
قوله
: إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل فقد عرفت ...
أي قد عرفت أنّه
لا مجال للاستصحاب في القسم الأوّل من الأحكام الوضعية ، إذ لا يتطرّق إليه الجعل
التشريعي لا استقلالا ولا تبعا أصلا ، وعليه فلا يستصحب دخل ما له الدخل في
التكليف امّا بنحو السببية ، أو الشرطية ، أو المانعية ، أو الرافعية. وذلك لما
يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكما شرعيا ، أو موضوعا ذا حكم شرعي كما
سيأتي هذا المطلب في التنبيه العاشر إن شاء الله تعالى.
فالنحو الأوّل من
الوضع من السببية والشرطية والمانعية والرافعية ليس هو أمرا مجعولا شرعا لا
استقلالا ولا تبعا كي يكون حكما شرعيا ولا هو ذو أثر مجعول شرعا ، بل هو من
الامورات التكوينية.
وامّا النحو
الثاني من الوضع الذي قد ادّعى تطرّق الجعل التبعي إليه فقط دون الاستقلالي
كالجزئية لما هو جزء المكلف به والشرطية لما هو شرط المكلف به والمانعية لما هو
مانع المكلف به والرافعية لما هو رافع المكلف به فلا مانع عن استصحابه نظرا إلى
كفاية الجعل التبعي في صحّة استصحاب المجعول بالتبع ، إذ أمر وضعه ورفعه انّما
يكون بيد الشارع المقدّس ، أو بيد من يكون اختيار الجعل والوضع والرفع من قبل
الشارع المقدّس بيده.
نعم لا مجال
لاستصحابه من ناحية اخرى وهي عبارة عن كون الأصل الجاري فيه مسببيا ومع جريان
الأصل السببي لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي
فانّ الشك في بقاء
جزئية الجزء ناش عن الشك في بقاء الأمر بالكل الذي قد انتزع منه جزئية الجزء فيجري
الأصل في السبب دون المسبّب وإن كانا متوافقين وليسا بمتخالفين وسيأتي تحقيق
السببي والمسببي مفصّلا في أواخر بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
وامّا النحو
الثالث من الوضع الذي ادّعى المصنّف قدسسره تطرّق الجعل الاستقلالي إليه فقط دون التبعي وان صرّح
المصنّف قدسسره في بدو الأمر بقابليته للجعل الاستقلالي والتبعي معا
كالحجّية والقضاوة والولاية ونحوها فلا مانع عن استصحابه فانّه كالتكليف بعينه
فكما يصحّ استصحاب بقاء التكليف إذا شك في بقائه وزواله فكذا يصحّ استصحاب القسم
الثالث من الوضع ولكن الانصاف ان الشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعة من
جعل المولى التكليف مقيّدا بوجود شيء في الموضوع ، أو عدمه ، فتكون الشرطية
والسببية والمانعية مجعولة بتبع التكليف فهذا القسم قابل للجعل التشريعي تبعا.
وعلى طبيعة الحال
فلا مانع عن استصحابه ، أي القسم الأول ، كما في النحو الثاني والثالث حرفا بحرف
وقد سبق هذا الأمر فلا حاجة إلى التكرار.
قوله
: والتكليف وإن كان مترتّبا عليه إلّا انّه ليس ...
قال المصنّف قدسسره : إذا علم ممّا سبق اختلاف الوضع في عالم الجعل من حيث
الأحكام فليعلم انّه لا مجال لاستصحاب دخل ما له الدخل في التكليف من السببية
والشرطية في القسم الأوّل من الوضع ، إذ التكليف وإن كان مترتّبا على نفس السبب
كترتّب وجوب الصلاة على الدلوك وعلى نفس الشرط كترتّب وجوب العبادات على البلوغ والحياة
والعقل والقدرة وعلى نفس المانع والرافع كترتّب عدم وجوب الصلاة والصوم على الحيض
والنفاس ، وكترتّب رفع التكليف على الحيض الذي يعرض على المرأة في أثناء الوقت.
قال المصنّف قدسسره : ان ترتّبه على كل واحد من الامور المذكورة ليس بترتّب
شرعي من قبيل ترتّب الحرمة على شرب الخمر ، بل يكون ترتّبه عليها ترتّبا عقليّا
كترتّب المعلول على علّته ، ولهذا لا مجال للاستصحاب في القسم الأوّل من الوضع إذا
شك في بقائها.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
ترتّب الوجوب على الدلوك الذي هو سبب التكليف وعلى العقل الذي هو شرط التكليف
انّما يكون هذا الترتّب ترتّبا شرعيا من جهة ان وضع الوجوب انّما يكون بيد الشارع
المقدّس ولذا يستصحب نفس السبب والشرط والمانع والرافع بلا إشكال.
وكذا ترتّب منع
التكليف على الحيض الذي هو مانع عن التكليف ، أو ترتّب رفع التكليف على الحيض
الطارئ في أثناء الوقت والحيض الكذائي يكون رافعا للتكليف.
ومن هنا ظهر الفرق
بين المانع وبين الرافع ، إذ عنوان الأول يكون قبل الوقت والثاني في أثناء الوقت.
قال المصنّف قدسسره : انّه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقلّ
بالجعل والانشاء حيث انّه كالتكليف في استقلال الجعل فكما يجري الاستصحاب في
الأحكام التكليفية وكذا يجري في القسم الثالث من الأحكام الوضعية من الحجّية
والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية ونحوها.
قال المصنّف قدسسره : كذا يجري الاستصحاب في القسم الثاني من الوضع الذي كان
مجعولا بالتبع من انتزاع عنوان الجزئية لما هو جزء المأمور به كالفاتحة مثلا
وعنوان الشرطية لما هو شرط المأمور به كالطهارة مثلا ، وعنوان المانعية لما هو
مانع المكلف به ، وعنوان القاطعية لما هو قاطع المكلف به من حيث الاتصال وعلّله
بقوله : فانّ أمر
وضعه ورفعه بيد الشارع المقدّس ولو بتبع منشأ انتزاعه.
فإن
قيل : انّه لا تطلق
الأحكام الشرعية على مثل الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، وهذا يكفي في عدم
جريان الاستصحاب في هذا القسم الثاني.
قلنا : انّا لا نسلم عدم اطلاق الأحكام الشرعية على هذه الامور
المذكورة ، لأنّ الأحكام الشرعية على نحوين :
الأوّل
: تكليفية.
والثاني
: وضعية.
وهذه الامور وإن
لم تكن أحكاما تكليفية ولكنّها أحكام وضعية ، هذا أولا. وثانيا : لو سلّمنا عدم
إطلاق الأحكام الشرعية عليها لما يضر هذا في جريان الاستصحاب ، إذ مناط جريانه في
الأمر الذي يكون تصرّف الشارع المقدّس فيه بحيث إذا شاء أن يضعه وإذا شاء أن يرفعه
كعنوان الجزئية مثلا ، إذ للشارع المقدّس أن يجعل عنوانها لجزء المكلّف به وان
يرفعه له ، مثلا يمكن للشارع المقدّس أن يجعل أمره متعلّقا بالصلاة التي تكون لها
عشرة أجزاء ومن جملتها تكون سورة بعد الحمد ووضع عنوان الجزئية لها.
وان يجعل أمره
متعلّقا بالصلاة التي تكون لها تسعة أجزاء فلا تكون السورة من جملتها ورفع حينئذ
عنوان الجزئية عن السورة بعد الفاتحة. وكذا في عنوان الشرطية والمانعية والقاطعية
حرفا بحرف.
وفي ضوء هذا
فالاستصحاب يجري في القسم الثاني من الوضع بلا إشكال.
قوله
: نعم لا مجال لاستصحابه لاستصحاب ...
فالنتيجة أنّه لا
مانع من جريان الاستصحاب في المجعول التبعي من الوضع ، ولكن لا تصل النوبة به في
هذا القسم لوجود الأصل الحاكم هنا ، وهو عبارة عن استصحاب الحكم التكليفي الذي
تنتزع عنه الجزئية ، والشرطية ، والمانعية ،
والقاطعية.
خلاصة الكلام :
انّ شكّنا في الأحكام الوضعية التبعية سببي ومسببي والاستصحاب انّما يجري في السبب
دون المسبّب فلا يصحّ استصحاب المسبب لأنّ الاستصحاب الجاري في سببه وهو نفس الحكم
حاكم عليه كما سيأتي هذا في الأصل السببي والمسببي إن شاء الله تعالى ، مثلا : إذا
شككنا في جزئية السورة بعد الفاتحة للصلاة المأمور بها فهذا الشك مسبّب عن الشك في
تعلّق الأمر بالصلاة مع السورة ، أو بدونها وفي وجوبها معها ، أو بدونها فإذا
أجرينا الاستصحاب ، أي استصحاب عدم وجوب السورة ، إذ قبل وجوب الصلاة لم تكن
السورة واجبة قطعا وبعد وجوبها نشك في وجوبها ، أي وجوب السورة فنجري استصحاب عدم
وجوبها ، وكذا استصحاب عدم جزئيتها حرفا بحرف ، فهذا الاستصحاب الجاري في السبب
يرفع الشك الذي كان في تعلّق الأمر بها وفي وجوبها. ومن الواضح أنّه مع جريان
الأصل الحاكم لا يجري الأصل المحكوم.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى
أنّه يمكن أن يستشكل في جريان الاستصحاب في الامور الاعتبارية المحضة مثل القسم
الثاني من الوضع لأنّها لما كانت اعتبارية محضة امتنع أن تكون ذوات الآثار ،
فالآثار في الحقيقة ثابتة لمنشا الانتزاع لأنّه أمر حقيقي واقعي موضوع للمصلحة
والمفسدة وغيرهما من علل الأحكام. فمنشأ الآثار من المثوبة والعقوبة والقرب بساحة
المولى والبعد عن محضره هو السورة بعنوان أنّها جزء للمأمور به لا جزئيتها من حيث
هي هي وكذا أخواتها من الشرطية والمانعية والقاطعية حرفا بحرف.
تنبيهات الاستصحاب
قوله
: ثمّ ان هاهنا تنبيهات : الأوّل أنّه يعتبر في الاستصحاب ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره من الاستدلال بالأخبار على حجّية الاستصحاب مطلقا شرع في
تنبيهات الاستصحاب وشروطه فقال يعتبر في جريان الاستصحاب كون اليقين والشك فعليين
ولا يكفي الوجود التقديري لهما.
وتوضيح التنبيه الأوّل
: انّ المكلّف إذا تيقّن الحدث في زمان معيّن ثم غفل وصلّى ، فهنا صورتان :
الاولى : أن يعلم المكلف بعدم حصول الطهارة له ولا إشكال في
بطلانها بطلان الصلاة حينئذ.
الثانية
: أن يحتمل حصول
الطهارة له ، وهذه الصورة على نحوين :
الأوّل : أن لا
يحدث له الشك في الطهارة إلّا بعد الفراغ من الصلاة بأن تستمر غفلته عن الطهارة
إلى أن يفرغ من الصلاة ثم يشك بعدها أنّه تطهر قبل الصلاة ، أم لا ، والحكم فيه
الصحّة لأنّ الشك التقديري لما لم يكن موضوعا للاستصحاب لم يكن المصلّى محكوما
بالحدث الاستصحابي إلى ما بعد الفراغ فتصحّ صلاته ، امّا بعد الفراغ فلا مجال
لاستصحاب الحدث حال الصلاة وإن حصل له الشك الفعلي لحكومة قاعدة الفراغ على
الاستصحاب.
الثاني : أن يحدث
له الشك في الطهارة قبل الصلاة ، ثم يغفل فيصلّي فيتجدّد له الشك بعد الفراغ ،
وهذا أيضا على نحوين :
الأوّل : أن يحتمل
أن يكون قد تطهّر بعد الشك والحكم فيه الصحة أيضا ، ليس الشك بأصعب حكما من اليقين
وقد عرفت في النحو الأوّل أن حكمه هو الصحّة.
الثاني : أن لا
يحتمل الطهارة بعد الشك ، بل يحتمل الطهارة قبل الشك الأوّل
فيكون شكّه
المتجدّد بعد الفراغ وهو الشك الأوّل بعينه ؛ والحكم فيه هو البطلان لأنّ الشك لما
حدث قبل الصلاة كان محكوما في زمان حدوثه بأنّه محدث فتكون صلاته بالحدث
الاستصحابي فتبطل كما لو كان المكلّف حال الصلاة بالحدث الواقعي ولا مجال لقاعدة
الشك بعد الفراغ لأنّ موردها حدوث الشك بعد الفراغ فلا تشمل صورة حدوثه قبل الفراغ
ومثله لو شك قبل الصلاة وبقي شاكّا إلى ما بعد الفراغ.
وفي ضوء هذا لا
فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المتيقّن سابقا والمشكوك فيه فعليا كما إذا
علمنا بعدالة زيد سابقا ولكن شككنا في بقائها فعلا. أو يكون المتيقّن فعليا
والمشكوك فيه استقباليا كما إذا علمنا بعدالة زيد الآن وشككنا في بقائها إلى اليوم
الآتي مثلا ويسمّى بالاستصحاب الاستقبالي ومورد بعض أدلّة الاستصحاب وإن كان هو
القسم الأوّل بالخصوص كما في قوله عليهالسلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، إلّا أن عموم التعليل في
بعضها يقتضي عدم الفرق بين القسمين ، إذ قوله عليهالسلام : ان اليقين لا ينقض بالشك ، يدل على ان ملاك الاستصحاب هو
عدم جواز نقض اليقين بالشك ، بلا فرق بين كون المتيقّن فعليا والمشكوك فيه
استقباليا.
نعم ، لا بدّ في
جريان الاستصحاب الاستقبالي من الثمرة الفعلية ، ففي مثال العلم بعدالة زيد بن أرقم
الآن مع الشك في بقائها إلى اليوم الآتي لا مجال لجريان الاستصحاب لعدم ترتّب ثمرة
فعلية على عدالته في اليوم الآتي مع عدالته الآن يقينا ، فجريان الاستصحاب
الاستقبالي مختص بموارد الثمرة الفعلية.
فالنتيجة أنّه
يشترط في الاستصحاب أن يكون اليقين والشك فعليين.
وعلى هذا إذا غفل
المكلّف عن يقينه السابق ، والحال انّه ليس بشاك فعلا فلا يجري في حقّه الاستصحاب
لعدم تمامية أركانه ، إذ لا يتحقق الشك الفعلي حال الغفلة.
ولكن لو فرض أنّه
يشك في الطهارة إذا التفت إلى حالته السابقة لأنّ الاستصحاب وظيفة الشاك فعلا لا
الغافل ، ولا ريب في أنّه مع الغفلة لا يتحقّق الشك أصلا والشك التقديري الذي هو
منوط بالالتفات ليس بمصحّح للاستصحاب في الغافل لأنّ الإنسان الغافل ليس له شك
بالفعل ولا يقين سابقا كي يتم اركان الاستصحاب ثم يجري في حقّه ، فللإنسان الغافل
ليس اليقين ولا الظن ولا الشك بشيء بموجود أصلا.
والتفصيل فلو أحدث
المكلّف ثم غفل عنه ودخل في الصلاة وفعلها وشك في الطهارة بعد الفراغ فيحكم بصحّة
صلاته لقاعدة الفراغ ولأنّه لم يكن بشاك في تحصيل الطهارة قبل الدخول في الصلاة.
والحال انّه غافل
في أثناء الصلاة فلا محل للاستصحاب الحدثي والحال قد حصل له الشك بعد فعل الصلاة
فتجري قاعدة الفراغ ، وهي تقتضي صحّة صلاته بخلاف ما إذا كان ملتفتا بكونه محدثا
قبل الصلاة وشك في الطهارة ثم غفل عدّ حدثه وصلّى فيحكم بفساد صلاته ، إذ استصحاب
بقاء الحدث بعد الشك في تحصيل الطهارة يكلف المكلف بتحصيل الطهارة فلا جرم يكون
هذا الاستصحاب المذكور مقتضيا لفسادها وإن لم يحصل له اليقين بعدم تحصيل الطهارة
فليس في هذا الفرض مجرى لقاعدة الفراغ.
ولا يخفى أنّ
الحكم ببطلان الصلاة في الفرض الثاني مشروط بحصول اليقين بعدم الطهارة بعد الشك
الذي يعرض المكلف بعد الصلاة لكونه محدثا قبل الصلاة بحكم الاستصحاب ، هذا مع
القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.
فإن
قيل : أيّ فرق بين
الفرض الأوّل ، وبين الفرض الثاني كي يحكم بصحّة الصلاة في الأوّل وبفسادها في
الثاني. والحال انّ المكلّف محدث في الصورتين.
غاية الأمر انّه
غافل قبل الصلاة وفي أثنائها عن حدثه في الأوّل وهو ملتفت
قبلها بحدثه وشك
في الطهارة والوضوء ثم غفل عن كونه محدثا بحكم الاستصحاب وصلّى.
قلنا : ان الفرق
بينهما ظاهر لأنّ المكلّف قبل الصلاة صار بحكم الاستصحاب مع هذا الشك الفعلي محدثا
فقد فعل الصلاة حال كونه محدثا بحكم الاستصحاب ومع جريان الاستصحاب تبطل صلاته
لعدم جريان قاعدة الفراغ هنا وبدون الشك الفعلي قبل فعل الصلاة تصحّ الصلاة لجريان
قاعدة الفراغ في هذا المقام بلا إشكال. لأنّ المانع عنه هو الاستصحاب قبل الصلاة.
ومن الواضح عدم
جريانه في صورة عدم تحقق الشك الفعلي ، هذا معيار الفرق بين الصورتين.
ولا يخفى عليك ان
قاعدة الفراغ تتقدّم على الاستصحاب من باب تقدّم الدليل الحاكم على الدليل
المحكوم.
فالنتيجة أنّه في
كل مورد يجري الاستصحاب لا تجري فيه قاعدة الفراغ وفي كل مورد تجري فيه القاعدة
المذكورة لا يجري فيه الاستصحاب فالأوّل في الثاني والثاني في الأوّل على طريق
اللفّ والنشر المشوش.
قوله
: لا يقال نعم ولكن استصحاب الحدث في حال الصلاة ...
فاستشكل المستشكل
على صحّة الصلاة في الفرض الأوّل بأن استصحاب الحدث قبل الصلاة وإن لم يكن جاريا
لأجل عدم تحقّق الشك الفعلي ولكن هو يجري بعدها لتحقّق الشك الفعلي بعدها فيتم
أركان الاستصحاب وهي اليقين السابق والشك الفعلي اللاحق وهو يقتضي بطلانها ، إذ
مقتضاه كونه محدثا قبل الصلاة وفي أثنائها.
وعليه فلا فرق بين
الصورتين من هذه الناحية أصلا ، أي في بطلان الصلاة
وفي عدم جريان
قاعدة الفراغ فلا يصح التفكيك بينهما.
قلنا : ان المانع
عن بطلانها في صورة تحقّق الالتفات قبل الصلاة هو جريان قاعدة الفراغ وهي مقتضية
لصحّة الصلاة وهي مقدّمة على اصالة فسادها وهي مقتضى استصحاب الحدث وتقدّمها عليه
من باب حكومتها عليه ، كما سيأتي هذا المطلب إن شاء الله تعالى.
والمقصود من أصالة
الفساد استصحاب الفساد كما ان المنظور من الفساد سبب الفساد وهو عبارة عن عدم
التطهير.
قوله
: الثاني أنّه هل يكفي في صحّة الاستصحاب الشك في بقاء شيء على تقدير ثبوته ...
اعلم انّه إذا
قامت الامارة ، كخبر العدل على ثبوت حكم من الأحكام في زمان فلا إشكال في أنّ
مقتضى دليل الحجّية وجوب العمل على طبق ذلك الحكم في ذلك الزمان ولو شك في الحكم
فيما بعده من الأزمنة فان كان مفاد الامارة ثبوت الحكم في الزمان الأخير أيضا كانت
هي المرجع ، وإن لم تكن دالّة على الثبوت المذكور بأن لا تكون متعرّضة إلّا لمجرّد
الثبوت فلم تكن هي المرجع ضرورة ، وفي جواز الرجوع حينئذ إلى الاستصحاب ليثبت به
بقاء الحكم إشكال لعدم اقتضاء الامارة اليقين بثبوت مؤداها حتى يكون الشك في بقائه
، بل انّما تقتضي احتمال ثبوت مؤداها فلا يقين بالثبوت ولا شك في البقاء فلا مجال
للاستصحاب لاختلال ركنيه معا فلا ينبغي الإشكال في أن مقتضى أدلّة الاستصحاب هو
اعتبار اليقين والشك الفعلي.
وعليه فهل يكفي في
صحّة الاستصحاب ثبوت التقديري بحيث لو ثبت شيء في الماضي لشككنا في بقائه في الحال
وان لم يحرز ثبوته لنا بالفعل ، وجهان ؛ فلو كفى هذا الثبوت لجرى الاستصحاب
وتترتّب على المستصحب الآثار الشرعية
والآثار العقلية ،
أم لا يكفي هذا المقدار من الثبوت لأنّ الثبوت إذا لم يكن محرزا لنا فلا يقين لنا
سابقا بوجود الشيء وثبوته ، والحال انّه أحد أركان الاستصحاب فيكون تحقّقه أمرا
ضروريا ، بل يمكن أن يقال : ان الشك لا يكون بموجود ، إذ تحقّقه متفرّع على الثبوت
والثبوت في الماضي منتف فيكون الشك منتفيا أيضا قهرا ، إذ تحقق الشك متفرّع على
عدم الثبوت واقعا وثبوته واقعا.
فالنتيجة انّه لا
محل للاستصحاب إذا فقد اليقين والشك معا ، كما انّه لا صلاة إذا فقد الركوع ، أو
السجدتان معا للاختلال بالركن فلا يكفي الاستصحاب التقديري هذا وجه الأوّل.
الاحتمال الثاني :
ان اشتراط اليقين السابق في الاستصحاب انّما يكون لإمكان التنزيل الشرعي ، أي
لتنزيل المشكوك منزلة المتيقن وهذا مبتن على تحقّق المتيقّن وتحقّقه متفرّع على
تحقّق اليقين من دون النظر إلى الحدوث فالتنزيل انّما يكون في البقاء لا في الحدوث
فالتعبّد انّما يكون في مرحلة البقاء فقط دون الثبوت لأنّ أدلّة الاستصحاب تجعل
الملازمة بين ثبوت شيء وبين بقائه وإن لم يحرز الثبوت وجدانا ولا تعبّدا ، إذ صدق
القضايا الشرطية لا يتوقّف على صدق الطرفين أي المقدّم والتالي نحو : لو كان لله تعالى
ولد فأنا أوّل العابدين ، ولو قلنا لله تعالى ولد أنا أوّل العابدين فلا ريب في
كذب الطرفين.
وعليه إذا ثبت
الملازمة بينهما ، والحال أنّه أحرز بقاء الشيء بالاستصحاب ، والامارة قائمة على
ثبوته فيكون نفس الامارة حجّة على الثبوت فهي حجّة على البقاء لأنّ الدليل إذا قام
على ثبوت أحد المتلازمين فهذا دليل على المتلازم الآخر كما إذا قامت الامارة على
نجاسة شيء كالعصير العنبي مثلا ، فهي تدل على نجاسة ملاقيه قطعا ، إذ نجاسة شيء
ونجاسة ملاقيه متلازمان.
غاية الأمر انّ
الملازمة فيما نحن فيه تعبّدية ، والملازمة بين طلوع الشمس
ووجود النهار
وجدانية عقلية إذا قام الدليل الشرعي على الطلوع.
قوله
: فيما رتّب عليه أثر شرعا ، أو عقلا ...
الأوّل : في
استصحاب الموضوع كاستصحاب عدالة زيد مثلا ، والثاني : في استصحاب الحكم لأنّه
يترتّب في استصحاب الموضوع حكم شرعي كترتّب جواز الائتمام ونفاذ قضائه وقبول
شهادته على عدالة زيد مثلا كما يترتّب على استصحاب الحكم حكم عقلي ، مثلا : إذا
استصحبنا وجوب شيء فيحكم العقل بوجوب مقدّمته نحو استصحاب وجوب الحج على زيد
المستطيع. إذا زالت استطاعته فيجب قطع المسافة عقلا.
وفرّع الشيخ
الأنصاري قدسسره على اعتبار اليقين والشك الفعلي في جريان الاستصحاب فرعين
وتبعه صاحب الكفاية رحمهالله :
الفرع
الأوّل : انّه إذا كان شخص
محدثا وغفل وصلّى ثم شك في أنّه تطهّر قبل الصلاة ، أم لا ، فيجري استصحاب الحدث
بالنسبة إلى الأعمال الآتية ، وامّا بالنسبة إلى الصلاة التي فعل بها فلا يجري
استصحاب الحدث في حقّه لأنّه كان غافلا قبل الصلاة ولم يكن له الشك الفعلي حتّى
تكون صلاته واقعة مع الحدث الاستصحابي وبعد الصلاة وإن كان الشك موجودا إلّا أن
قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب أو مخصّصة له على ما يأتي بحثه في آخر بحث
التنبيهات إن شاء الله تعالى.
فالنتيجة يحكم بعدم وجوب الإعادة على
هذا الشخص المذكور.
الفرع
الثاني : أنّه إذا التفت
قبل الصلاة ثم غفل وصلّى فتكون صلاته باطلة لتحقّق الشك الفعلي قبل الصلاة فقد
وقعت مع الحدث الاستصحابي ، والتكرار انّما يكون لزيادة التوضيح من باب كلّما كرّر
قرّر. فإذا لم يؤخذ اليقين في أدلّة الاستصحاب موضوعا بل انّما أخذ طريقا إلى
الثبوت حتّى يترتّب عليه الشك في البقاء الذي هو مورد التعبّد الشرعي.
وفي ضوء هذا فدليل
الاستصحاب يدل على جعل الملازمة بين الثبوت الواقعي والبقاء ، ولكن قد عبّر عن
الثبوت باليقين مع عدم دخله في الحكم بالبقاء من أجل كونه أكمل الطرق المحرزة
للثبوت.
وعليه فلا مانع من
جريان الاستصحاب في البقاء على تقدير الثبوت ، وبسببه ـ أي بسبب هذا الوجه الثاني ـ
يمكن أن يدفع ما في استصحاب الأحكام الشرعية التي قامت الامارة المعتبرة على مجرّد
ثبوتها ، وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها من الاشكال.
امّا تقرير
الإشكال فيقال : ان الامارات المعتبرة إذا قامت على ثبوت الأحكام الشرعية من غير
تعرّض لاستمرارها وبقائها.
وعليه إذا شككنا
في بقائها فلا يجري الاستصحاب في هذه الموارد ، إذ ليس اليقين بحكم الواقعي.
والحال انّه ليس في مورد الامارة حكم فعلي آخر بحيث يحصل القطع واليقين بعد قيام
الامارة عليه بناء على ما هو التحقيق عند المصنّف قدسسره من أن اقتضاء الحجّية ، أي حجّية الامارة ليس إلّا تنجّز
التكليف فعلا ، أو تركا مع الاصابة ، والعذر مع الخطأ ، كما أنّ كل واحد من التنجّز
والعذر يكون مقتضى حجّة معتبرة عقلا كالقطع والظن في حال الانسداد بناء على
الحكومة لا الكشف وليس مقتضاها بانشاء أحكام شرعية ظاهرية على طبقها.
وعلى هذا فقيام
الامارات المعتبرة على تنجّس الثوب أوّل الصبح مثلا ، ولكن شككنا أوّل الظهر مثلا
في بقاء نجاسته فهل يجري الاستصحاب في هذا المورد لا؟ ويقال : انّه لا يجري قطعا
لأنّ قيام الامارات لا يوجب اليقين بمؤداها فلا جرم يختل أحد ركني الاستصحاب وهو
اليقين السابق بل يختل ركن آخر وهو الشك اللاحق الذي يكون متعلّقه بقاء واستمرار
الحالة السابقة ، إذ ليس رسم ولا عين بموجود للحالة السابقة المتيقّنة حين قيام
الامارات المعتبرة على ثبوت الاحكام.
وقد دفع المصنّف قدسسره بأن بعد قيام الامارة على ثبوت حكم من الأحكام نحن نحكم
بكون مدلولها حكما واقعيا ، إذ نحتمل مصادفة الامارة بالواقع فيكون مفادها حكما
واقعيا وصار حكما فعليا ، فنحكم بحكم الاستصحاب ببقائه على تقدير ثبوته فالامارة
إذا قامت على ثبوته فهو واجب العمل بحكم الامارة سابقا فهو يكون واجب العمل لاحقا
بحكم الاستصحاب ، وفي ظرف الشك فهو محكوم بالبقاء بسبب الاستصحاب. فتكون الحجّة
على ثبوت الحكم حجّة على بقائه تعبّدا لأجل الملازمة بين بقاء الحكم وبين ثبوته
واقعا.
وانّما قال
المصنّف قدسسره : والظن في حال الانسداد على الحكومة لأنّ الظن في حال
انفتاح باب العلم ليس بحجة ، وامّا الظن في حال الانسداد بناء على الكشف فهو حجّة
حال كونه كاشفا عن جعل الشارع المقدّس إيّاه دليلا على الحكم الواقعي فليست حجّيته
على مبنى الكشف بمحض المنجزية والمعذرية مع قطع النظر عن الحكم الواقعي ، وهذا
ظاهر.
وبالجملة ؛ وجود
الحكم الواقعي المحتمل مثل الحكم الواقعي المتيقّن في صحّة جريان الاستصحاب.
قوله
: إن قلت كيف وقد أخذ اليقين بالشيء ...
كيف يمكن أن نحكم
بالاستصحاب ببقاء حكم الواقعي المحتمل الذي هو مفاد الامارة والحال أنّه قد أخذ في
اخبار الاستصحاب اليقين بالموضوع ، أو الحكم فلا يشمل الحكم بالبقاء هذا المورد
لعدم اليقين.
قوله
: قلت نعم ولكن الظاهر أنّه أخذ كشفا عنه ...
سلّمنا أخذ اليقين
في اخبار الاستصحاب ولكن الظاهر أن اليقين في أخبار الاستصحاب لم يؤخذ موضوعا ، بل
أخذ كشفا عن متعلّقه ومرآتا لثبوته ليمكن
التعبّد في بقائه.
ومن الواضح ان
التعبّد بشيء مع ثبوته بحجّة سواء كانت يقينية ، أم غير يقينية انّما يكون في
مرحلة البقاء دون الثبوت.
وبعبارة اخرى وهي
أن أخذ اليقين في اخبار الاستصحاب انّما يؤخذ بعنوان كاشفيته عن ثبوت المتيقّن
حتّى يمكن التعبّد في البقاء فالتعبّد مع فرض الثبوت انّما يكون في البقاء فقط ،
وهذا معنى الاستصحاب.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أنّ
المصنّف قدسسره قد أنكر في بحث القطع قيام الطرق والامارات مقام القطع
المأخوذ موضوعا بما هو كاشف كما انّها لا تقوم مقام القطع المأخوذ موضوعا بما هو
صفة.
وعليه فكيف يلتزم
المصنّف قدسسره هاهنا بقيامها مقام القطع المأخوذ موضوعا بما هو كاشف وكيف
يتخلّص بذلك عن الإشكال الوارد عليه؟
امّا بيان الإشكال
الوارد على المصنّف قدسسره فهو أنّ اعتبار اليقين بالثبوت في الاستصحاب من البدهي لا
يقبل الانكار. وامّا إذا قامت الامارة المعتبرة على ثبوت شيء أوّل النهار ثم شككنا
أوّل الظهر ببقائه ، والمصنّف قدسسره ذهب إلى جريان الاستصحاب في هذا المورد والحال أنّه ليس
اليقين السابق بالثبوت عند قيام الامارة بموجود والمصنّف قدسسره قال بقيام الحجّة المعتبرة مقام اليقين ، فكما إذا أحرز
الشيء باليقين الوجداني وإذا شك في بقائه يبنى على بقائه ، فكذلك إذا أحرز بالحجّة
المعتبرة إذا شك في بقائه يبنى على بقائه. وبهذا المقال دفع الإشكال الوارد على نفسه
، والحال انّه ملتفت إلى عدم دفعه بهذا الكلام والمقال ولهذا أمر بالفهم بقوله :
فافهم.
ولكن الانصاف ان
اليقين المعتبر في الاستصحاب أعم من اليقين الوجداني
واليقين التنزيلي
، فدليل الاستصحاب ناطق بأعلى صوته باعتبار اليقين في الاستصحاب ، ودليل اعتبار
الامارة ينزل الامارة منزلة اليقين.
وعلى هذا فيكون
دليل اعتبار الامارة حاكما على دليل الاستصحاب وموسعا لدائرته فكما يستصحب الأمر
المحرز لنا باليقين الوجداني فكذا يستصحب الأمر المكشوف باليقين التنزيلي هذا واضح
لا يحتاج إلى مزيد النقض والابرام.
أقسام الاستصحاب
الكلّي
قوله
: الثالث أنّه لا فرق في المتيقّن السابق ...
والمقصود من عقد
هذا التنبيه بيان أقسام الاستصحاب الكلّي ، أي لا فرق في المتيقن السابق بين أن
يكون هو خصوص الوجوب ، أو الحرمة ، أو الاستحباب ، أو الكراهة ، أو الاباحة ، أو
الصحّة ، أو البطلان و ... أو الرجحان المشترك بين الوجوب والاستحباب ، أو الجواز
المشترك بين الوجوب والاستحباب والاباحة والكراهة ، فالجواز يكون أمرا عامّا كليّا
يشمل أربعة من الأحكام التكليفية.
القسم الأوّل من
استصحاب الكلّي
قوله
: فإن كان الشك في بقاء ذاك العام من جهة ...
القسم الأوّل ما إذا
علمنا بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن ثم شككنا في بقاء هذا الفرد وارتفاعه فلا
محالة نشك في بقاء الكلّي وارتفاعه أيضا ، فإذا كان الأثر للكلّي فيجري الاستصحاب
فيه مثاله المعروف ؛ ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار فنعلم بوجود الانسان فيها ثم
شككنا في خروج زيد عنها فنشك في بقاء الإنسان
فيها فلا إشكال في
جريان الاستصحاب في بقائه إذا كان له أثر شرعي.
التوضيح للعبارة :
وهو انّ الشك في بقاء العام إذا كان من جهة الشك في بقاء الخاص وارتفاعه ، ولا ريب
في أن العام يتحقّق في ضمن الخاص كتحقّق الحيوان في ضمن الإنسان مثلا وكتحقّق
الإنسان في ضمن زيد مثلا فاستصحاب هذا العام المشكوك البقاء والارتفاع يكون مثل
استصحاب الخاص في عدم الاشكال لتمامية أركان الاستصحاب فيهما ، أي في الخاص والعام
، وامّا إذا كان الشك في بقاء العام وارتفاعه من جهة تردّد الخاص بين الخاص الذي
يكون باقيا وبين الخاص الذي يكون مرتفعا قطعا فلا إشكال حينئذ أيضا في استصحاب
الكلّي ويترتّب عليه جميع الاحكام واللوازم الفعلية والشرعية ؛ وليعلم ان المراد
من اللازم العقلي هو ما يترتّب على المستصحب عقلا وذلك كوجوب الإطاعة المترتّب على
وجوب صلاة الجمعة أو الظهر بعد استصحاب الوجوب الكلّي.
كما ان المراد من
اللازم الشرعي هو ما يترتّب على المستصحب شرعا ، وذلك كوجوب المقدّمة بناء على
القول بوجوبها شرعا أيضا كما انّها واجبة عقلا. وكذا حرمة الضد الخاص على القول
باقتضاء الأمر بالشيء على نحو الايجاب حرمته ، وكذا حرمة المسّ المترتّب على
استصحاب الحدث ، وهذه الامور من اللوازم الشرعية.
القسم الثاني من
استصحاب الكلّي
قوله
: وتردّد الخاص الذي يكون الكلّي موجودا في ضمنه ...
ويكون وجود الكلّي
بعين وجود الخاص لأنّ وجود الكلّي الطبيعي في الخارج بعين وجود أشخاصه ولكن تردد
الخاص بين متيقّن الارتفاع وبين مشكوك
الحدوث غير ضائر
باستصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن الخاص.
هذا مضافا إلى أن
تردّد الخاص غير مخل باليقين السابق والشك اللاحق بل هما يكونان مصونين من الخلل ،
مثاله ؛ ما إذا علمنا بوجود الكلّي في ضمن فرد مردّد بين متيقّن البقاء وبين
متيقّن الارتفاع ، كما إذا علمنا بوجود إنسان في الدار مع الشك في كونه زيدا ، أو
عمروا مع العلم بأنّه لو كان زيدا لخرج عنها يقينا ولو كان عمروا لبقي يقينا فيجري
الاستصحاب في هذا الفرض بل يجري فيما إذا كان الفرد مردّدا بين متيقّن الارتفاع
ومحتمل البقاء هذا قسم الثاني.
ومثال القسم
الثاني في الحكم الشرعي ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البول والمني فتوضأنا فنعلم
انّه لو كان الحدث الموجود هو الاصغر فقد ارتفع بسبب الوضوء ، ولو كان هو الأكبر
فقد بقى ، وكذا لو اغتسلنا في المثال فنعلم أنّه لو كان هو الاكبر فقد ارتفع
بالغسل ، وان كان هو الاصغر لبقى لعدم ارتفاعه بالغسل فنجري الاستصحاب في الحدث
الجامع بين الأكبر والأصغر ، أي نستصحب بقاء الحدث المطلق من غير تقييده بالأكبر ،
أو الأصغر ونحكم بعد جريان الاستصحاب بترتّب أثر الحدث الكلّي كحرمة مسّ كتابة
القرآن الكريم وعدم جواز الدخول في الصلاة ، وهذا هو القسم الثاني من استصحاب
الكلّي.
قوله
: وتردّد ذاك الخاص الذي يكون الكلّي موجودا في ضمنه ...
فإن
قيل : كيف يستصحب
الحيوان في مثال البق والفيل مع تردّد الفرد الذي كان الحيوان متحقّقا في ضمن ذاك
الفرد بين ما هو متيقّن الارتفاع ـ وهو البق ـ وما هو مشكوك الحدوث من الأوّل وهو
الفيل ، فإن كان الفرد بقّا فلا شك في عدم بقائه وإن كان فيلا فلا يقين بحدوثه من
الأوّل والأصل يقتضي عدمه.
قلنا : انّ هذا
الإشكال انّما يرد باستصحاب نفس البق ، أو الفيل لعدم اليقين السابق في شيء منهما
بالخصوص ، بل ولا الشك اللاحق أيضا في شيء
منهما المفروض أن
الحيوان إن كان بقا فهو مقطوع الارتفاع ، وإن كان فيلا فهو مقطوع البقاء. وعليه
فأين الشك اللاحق؟
وأمّا استصحاب
القدر المشترك بينهما فلا يكون المانع عن استصحابه ، وذلك لتحقّق أركان الاستصحاب
من اليقين السابق والشك اللاحق وبقاء الموضوع واتحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة
موضوعا ومحمولا ونحو ذلك من الامور المتقدّمة في صدر بحث الاستصحاب.
قوله
: وانّما كان التردّد بين الفردين ضائرا ...
نعم انّما يكون
التردّد بين الفردين ضائرا باستصحاب أحد الخاصين الذي كان أمره مردّدا بين مشكوك
الحدوث ومتيقّن الارتفاع لاخلال هذا التردّد باليقين السابق الذي هو أحد ركني
الاستصحاب كما لا يخفى.
وأمّا القسم
الثالث فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى قريبا.
قوله
: نعم يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا ...
قال المصنّف قدسسره : ان آثار كل واحد من الفردين لا تترتّب على كل واحد منهما
في القسم الثاني من استصحاب الكلّي ولكن مع ذلك نلتزم بترتّب التكاليف التي قد
علمت إجمالا على الفردين في المورد الذي يكون فيه التكليف في البين ، كما في مورد
خروج بلل مشتبه بين البول والمني ، إذ خروجه حينئذ امّا يكون سببا لوجوب الوضوء ، وامّا
يكون سببا لوجوب الغسل وخروجه موجب لحرمة المس وعدم جواز الدخول في الصلاة
والطواف.
قوله
: وتوهّم كون الشك في بقاء الكلّي الذي في ضمن ذاك المردّد ...
وتوهّم المتوهّم
بأن الشك في بقاء الكلّي الذي هو ثابت في ضمن الفرد المردّد بين مشكوك الحدوث وبين
متيقّن الارتفاع مسبّب عن الشك في حدوث الفرد الذي يكون مشكوك الحدوث.
ومن الواضح أن
حدوث هذا الفرد بتوسط اصالة عدم الحدوث محكوم بعدم الحدوث فلا يبقى حينئذ مجال
للشك في بقاء الكلّي وعدم بقائه ، إذ مع جريان الأصل في ناحية السبب فلا تصل
النوبة بالشك في جانب المسبّب لأنّه لا يبقى فيه أصلا ، وهذا ظاهر.
مثاله : خروج
البلل المشتبه بين البول والمني والمراد من الفرد المشكوك الحدوث هو المني كما انّ
المراد من الفرد المتيقّن الارتفاع هو البول ، إذ الفرض تحقّق الوضوء من المكلف
بعد خروج البلل المذكور ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال المصنّف قدسسره : انّ هذا التوهّم فاسد قطعا من وجوه :
الأوّل : أن بقاء الحدث وارتفاعه لا يكونان من لوازم حدوث المني
وعدم حدوثه كي يقتضي الأصل عدم حدوث المني وحتى يثبت ارتفاع الحدث بسبب التوضؤ بل
هما يكونان من لوازم كون الحادث المعلوم بالاجمال هو ذاك المني المتيقّن بقائه قبل
الاغتسال ، أو البول المتيقّن ارتفاعه بسبب الوضوء.
والحال أنّه ليس
الأصل الذي يعيّن لنا حال الحادث المعلوم إجمالا انّه كان منيا ، أو بولا فيبقى
الشك في بقاء الحدث وارتفاعه بعد التوضؤ بحاله فيجري الاستصحاب في بقاء الحدث
ويحكم بكون هذا المكلف محدثا ويترتّب جميع الآثار الشرعية على المستصحب من حرمة
المس واللبث في المساجد وعدم جواز الدخول في الصلاة والطواف ونحوها.
الثاني : ان بقاء القدر المشترك الكلّي انّما هو بعين بقاء الخاص
الذي في ضمنه وليس بقاء القدر المشترك ـ وهو الحدث الكلّي ـ من لوازم الفرد الخاص
كي يقال : ان الشك في بقاء الحدث الكلّي مسبّب عن الشك في حدوث الفرد الذي يكون
محكوما بأصالة عدم الحدوث بعد الحدوث فليس الشك حينئذ في بقاء الحدث الكلي كما لا
يخفى.
الثالث : لو سلّمنا ان بقاء الحدث الكلّي يكون من اللوازم
العقلية. والحال أنّه لا يترتّب بأصالة عدم الحدوث للفرد إلّا ما هو من لوازم
المستصحب وأحكامه شرعا ، مثلا إذا استصحبنا حياة زيد الذي كان غائبا مدّة ثمانية
سنوات مثلا ، ولم يعلم حياته ولا مماته فنجري الاستصحاب ونحكم ببقاء حياته ،
فيترتّب على المستصحب الذي هو عبارة عن الحياة أحكامه الشرعية ، كعدم جواز تبعل
زوجته ان كانت موجودة ووجوب الانفاق من ماله على عيالاته ان كانوا معسرين وعدم
جواز قسمة الوراث أمواله بينهم ولا يترتّب عليه آثاره العقلية وتلك كيقظته ونومه
وأكله وشربه وتحيّره في الامور ، ولا العادية كالانبات للحيته وسبيله مثلا.
القسم الثالث من
استصحاب الكلّي
قوله
: وامّا إذا كان الشك في بقائه من جهة الشك ...
لمّا فرغ المصنّف قدسسره عن بيان القسمين الأوّل والثاني من استصحاب الكلّي شرع في
بيان القسم الثالث من استصحاب الكلّي وقال : انّه يكون الشك في بقاء الكلّي من جهة
الشك في وجود فرد آخر بعد القطع واليقين بارتفاع الفرد الأوّل الذي كان الكلّي
متحقّقا في ضمنه.
وهذا يتصوّر على
نحوين :
الأوّل : أن يقع
الشك في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد الأوّل.
الثاني : أن يقع
الشك في وجود فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد الأوّل. مثاله كما إذا علم بوجود الحيوان
في الدار في ضمن زيد ثم حصل القطع بخروج زيد عنها ولكن شك في وجود عمرو فيها
مقارنا لوجود زيد في الدار ، أو مقارنا لخروجه عنها.
ثم انّ في جريان
الاستصحاب في كلا القسمين ، أو عدم جريانه في شيء
منهما ، أو
التفصيل فيجري في الأوّل دون الثاني وجوه ؛ فاختار الشيخ الأنصاري قدسسره التفصيل ؛ واختار المصنّف قدسسره عدم جريان الاستصحاب في شيء منهما.
واستدلّ المصنّف
على مدعاه بأنّ المقصود من الكلّي في المقام هي الحصّة من الكلّي المتحقّقة في ضمن
الفرد. وهذه الحصّة عبارة عن الحصّة التي إذا انضمت إليها الخصوصيات الفردية لكانت
فردا خارجيا.
ومن المعلوم ان
الحصّة المتحقّقة في ضمن هذا الفرد هي غير الحصّة المتحقّقة في ضمن ذاك الفرد.
وعلى طبيعة الحال
فما تيقنّا به من الحصّة في ضمن كلا القسمين من القسم الثالث ممّا لم يبق فعلا ،
لأنّ المفروض ارتفاع الفرد الذي كان الكلّي متحقّقا في ضمنه ، وما نحتمله فعلا من
الحصّة المتحقّقة في ضمن الفرد المقارن لوجود الفرد الأوّل ، أو المقارن لارتفاعه
لم نتيقّن به في السابق فيخل هذا الاحتمال بأحد ركني الاستصحاب وهو اليقين السابق.
ومن هنا فقد انقدح
ان وجود الكلّي الطبيعي متعدّد حسب تعدّد أفراده ، وجود الكلّي الطبيعي في ضمن فرد
هو غير وجوده في ضمن فرد آخر فهو متعدّد حسب تعدّد أفراده كما لا يخفى.
قوله
: بنفسه ، أو بملاكه كما إذا شك في الاستحباب بعد القطع ...
والمصنّف قدسسره قد أضاف إلى قسمي القسم الثالث من استصحاب الكلّي قسمين
آخرين فصار هذا القسم أربعة أقسام :
الأوّل
: أن يكون الشك في
بقاء الكلّي من جهة الشك في وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد الأوّل الذي كان
الكلّي متحقّقا في ضمنه.
الثاني
: أن يكون الشك في
وجود الكلّي من جهة الشك في وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد الأوّل الذي كان
الكلّي متحقّقا في ضمنه وفي كل من هذين
القسمين امّا يكون
وجود الفرد الآخر بنفسه ، وامّا يكون بملاكه لا بنفسه فهذه أربعة أقسام ، امّا
مثال القسم الثالث والرابع فكما إذا شك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الايجاب ،
أو في الكراهة بعد القطع بارتفاع الحرمة امّا بملاك مقارن للايجاب مندك في ملاكه ،
أو بملاك مقارن لارتفاعه.
وقد أشار المصنّف قدسسره إلى عدم جريان الاستصحاب في جميع الأقسام بقوله ففي
استصحابه اشكال الأظهر عدم جريانه. قوله بملاك مقارن ، أو حادث.
فالأول كما إذا شك
في الاستحباب بملاك مقارن لوجود الوجوب. والثاني كما إذا شك في الاستحباب بملاك
حادث مع حدوث الفرد بحيث يكون كل من الاستحباب وملاكه حادث بعد ارتفاع الوجوب رأسا
، والوجه قد سبق آنفا فلا حاجة إلى الإعادة.
قوله
: لا يقال الأمر وإن كان كما ذكر إلّا أنّه حيث كان التفاوت ...
قال المستشكل : ان
عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث يكون ثابتا للوجه الذي ذكرته ايّها المصنّف (قدّس
سرّك).
ولكن انّما يصحّ
قولكم في غير الايجاب والاستحباب ، أو الحرمة والكراهة فان التفاوت بينهما ليس
إلّا بشدّة الطلب وضعفه كالسواد الشديد والضعيف عينا لأنّ الوجوب عبارة عن طلب
الشديد فعلا ؛ والاستحباب عبارة عن طلب الضعيف فعلا. ولأن الحرمة عبارة عن طلب
الشديد تركا والكراهة عبارة عن طلب الضعيف تركا ، إذ الشارع المقدّس لا يرضى بترك
الواجب وفعل الحرام. وامّا بترك المستحب وفعل المكروه فقد أجازهما.
وعليه إذا تبدّل
الوجوب بالاستحباب مع عدم تخلّل العدم بينهما فهذا التبدّل يكون مساويا مع اتصال
وجود الكلّي الطبيعي في ضمن فردين.
وبعبارة اخرى وهي
ان الكلّي الواحد قد تحقّق في ضمن فردين يكون
التفاوت بينهما
بالشدّة والضعف فإذا تحقّق الطلب في ضمن الفرد الشديد كما تحقّق في ضمن الفرد
الضعيف فهو واحد وإذا ارتفع الطلب الشديد وبقي الطلب الضعيف فلا ينقطع وجود الكلّي
، وهو الطلب بالكلية بل يكون موجودا بالدقّة العقلية.
غاية الأمر زالت
شدّته فقط بعد ارتفاع الوجوب.
وعلى ضوء هذا فيصح
استصحاب مطلق الطلب الذي هو قدر مشترك بين الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة ،
إذ لا يقين لنا بارتفاع الكلّي بعد ارتفاع الوجوب ، أو الحرمة.
والحال انّه لا
فصل بموجود بالعدم بين وجود الكلّي المتحقّق في ضمن الفردين.
وعلى طبيعة الحال
لا إشكال في جريان الاستصحاب في بقاء الكلّي لليقين السابق بتحقّقه في ضمن الوجوب
، أو الحرمة والشك اللاحق في زواله فأركانه تامّة فلا مانع من جريان الاستصحاب في
القسم الثالث من استصحاب الكلّي إذا ارتفع فرد من الطلب وتحقّق الفرد الآخر مقارنا
لارتفاع الفرد الأوّل لأنّ الشك في تبدّل فرد بفرد آخر موجب للشك في بقاء الطلب
وارتفاعه ولا يوجب هذا التبدّل الشك في حدوث وجود آخر بحيث يكون متفاوتا مع وجود
الكلّي الذي قد تحقّق في ضمن الفرد قبلا كي يستلزم هذا التفاوت عدم جريان
الاستصحاب في القسم الثالث من استصحاب الكلّي.
فالنتيجة
أن الشك في تبدّل
المرتبة إلى مرتبة اخرى شك في الحقيقة وفي بقاء ما يتيقّن به لا في حدوث فرد آخر
مقارن لارتفاع الفرد الأوّل.
قوله
: فانّه يقال الأمر وإن كان كذلك إلّا ان العرف ...
نعم كان الأمر
والمطلب في الحقيقة كذلك ، ولكن العرف يرى الايجاب والاستحباب فردين متباينين لا
فردا واحدا مستمرّا قد تبدّلت شدّته إلى الضعف ، كما
في السواد الشديد
والضعيف.
ومن المعلوم أن
العبرة في وجود القضيتين المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا هو نظر العرف لا
الدقّة العقلية كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
وعليه فلا مجال
للاستصحاب في مثل الايجاب والاستحباب ، أو الحرمة والكراهة أصلا وإن صح في مثل
السواد الشديد والضعيف لكونهما أمرا واحدا حقيقة وعرفا ، وكذا الحرمة والكراهة
حرفا بحرف فلا يستصحب الاستحباب ولا الكراهة بعد القطع بارتفاع الوجوب ، أو الحرمة
لأجل عدم بقاء الموضوع.
بيان علّة عدم
الجريان
قوله : وذلك لما
مرت الإشارة إليه ويأتي ...
أي لمّا مرّت
الإشارة إليه في صدر مبحث الاستصحاب وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في بحث تتمّة
الاستصحاب من اعتبار وحدة القضيتين المتيقّنة والمشكوكة في جريان الاستصحاب موضوعا
ومحمولا على نحو كان الشك في الآن اللاحق صادقا في البقاء لا في الحدوث.
والحال أنّه كان
رفع اليد عن اليقين في محل الشك نقضا لليقين بالشك وهدما له بسبب الشك ؛ وإنّ
مقتضى أخبار الباب هو كون العبرة في وحدتهما موضوعا ومحمولا هو نظر العرف ، وأن
يكون النقض صادقا في نظر أهل العرف وإن لم يكن نقض موجودا دقّة وواقعا لأجل تبدّل
الموضوع ، أو المحمول حقيقة ، كما في استصحاب الامور التدريجية كاستصحاب وجود
الليل ، أو النهار ، أو سيلان الدم ونبع الماء ونحو ذلك ، بل وكاستصحاب الامور
القارة. كاستصحاب سواد الجسم ، أو بياضه مثلا بناء على القول بتجدّد الأمثال فانّ
المستصحب (بالفتح) في الآن السابق على هذا المبنى والاساس غير المستصحب في الآن
اللاحق بل هو مثله يتجدّد
الامثال شيئا
فشيئا.
ففي جميع ما ذكر
يجري الاستصحاب لوحدة القضيتين بنظر أهل العرف ولأجل صدق نقض اليقين بالشك في
نظرهم ، وان لم يكن نقض دقّة وواقعا لتبدّل الموضوع في أمثلة الامور التدريجية
لمغايرة الآن اللاحق والآن السابق ولتبدّل المحمول في الامور القارة.
وإذا انعكس الأمر
، أي لم تكن القضيتان متّحدتين بنظر العرف ولم يصدق النقض بنظرهم فلم يجر
الاستصحاب أبدا ؛ وإن كان هناك نقض دقّة وواقعا لوحدة الموضوع أو المحمول حقيقة
وواقعا كما في الايجاب والاستحباب والحرمة والكراهة فانّها وإن كانت متّحدات حقيقة
بحيث لا تفاوت بينها إلّا بشدّة الطلب وضعفه ، كما تقدّم مفصّلا. ولكن العرف حيث
يراها امور متباينة فلا يستصحب الاستحباب ولا الكراهة بعد القطع بارتفاع الوجوب ،
أو الحرمة. وهذا واضح لا غبار عليه.
قوله
: وممّا ذكرنا في المقام يظهر أيضا حال الاستصحاب ...
المقصود من
استصحاب متعلّقات في الشبهات الحكمية هو ما إذا شك في بقاء موضوع الحكم بنحو
الشبهة الموضوعية كما إذا شك في بقاء السفر شرعا عند مشاهدة الجدران بحيث لم يعلم
أن السفر هل هو ينتهي بمشاهدة الجدران ، أم يبقى إلى سماع الاذان ، هذا مثال
الشبهة الحكمية.
وأمّا مثال الشبهة
الموضوعية هو ما إذا شك في بقاء السفر شرعا بنحو الشبهة الموضوعية ، كما إذا علم
أن السفر قد انتهى شرعا بمشاهدة الجدران لا محالة ، ولكن لم يعلم أن هذه هي جدران
البلد قد انتهى السفر شرعا بمشاهدتها ، أم لا؟
ولا يخفى عليك ان
المثال للشبهة الحكمية لا ينحصر فيما ذكر ، بل لها أمثلة ؛ ومنها ما إذا شك في ان
الواجب في الكفارة مد ، أو مدّان فباعطاء المد للفقير يشك
في وجوب المدّ
الآخر أيضا ، ولكن لا يجوز استصحابه لأنّه من هذا القسم الثالث من استصحاب الكلّي
والمختار عند المصنّف قدسسره عدم جريانه فيه كما سبق وجه هذا وغيره من الأمثلة.
وكذا للشبهة
الموضوعية أمثلة ، ومنها ما إذا شك في فوات فريضة الصبح مرّة أو مرّتين فبقضاء
الصبح مرّة يشك في وجوبها مرّة ثانية قضاء عليه. ولا يخفى عليك أن المراد من
متعلّقات هو موضوعات الاحكام.
وعليه فاستصحاب
الكلّي لا يختص بالأحكام بل يجري في موضوعاتها أيضا ، لانّ الموضوع الكلّي امّا
يتحقّق في ضمن فرد معيّن ، ثم شككنا في بقاء هذا الفرد وارتفاعه وإمّا يتحقّق في
ضمن حكم معيّن ثم شككنا في بقائه وارتفاعه. وتفصيل القسمين الثاني والثالث فقد مضى
مع مثالهما ، فلا حاجة إلى الإعادة.
وأمّا الفرق بين
الشبهة الحكمية والموضوعية فقد مضى في الجزء الأوّل فراجع هناك.
قوله
: فلا تغفل ...
وهو إشارة إلى أن
جريان استصحاب الكلّي في متعلّقات الأحكام ليس كجريانه في نفس الأحكام في الوضوح
ضرورة أن جريان الاستصحاب في بعض المتعلّقات مستلزم لبقاء التكليف مع انّه مورد
جريان الأصل النافي للتكليف قطعا ، كما في نحو فريضة فائتة فالاستصحاب يقتضي
وجوبها مرّة ثانية بعد قضائها مرّة في صورة الدوران بين فوات فريضة الصبح مرّة ،
أو مرّتين من يوم واحد ، أو يومين ، ولكن الأصل الأوّلي يقتضي عدم وجوبها مرّة
ثانية ، وحينئذ لا بد من التفصيل بين الشبهات الحكمية بجريانه في بعضها دون بعض لا
الحكم بجريانه في جميع الموارد.
ولا بأس بذكر
الشبهة العبائية في هذا المقام وهي منسوبة إلى سيّدنا الصدر قدسسره ، ومبنى هذه الشبهة هو القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف
الشبهة المحصورة وملخّص هذا الإشكال : أنّه إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد طرفي
العباء ثم غسلنا أحد الطرفين ، فلا إشكال في أنّه لا يحكم بنجاسة الملاقى لهذا
الطرف المغسول للعلم بطهارته بعد الغسل اما بالطهارة السابقة ، وامّا بالطهارة
الحاصلة بالغسل ، وكذا لا يحكم بنجاسة الملاقى لأحد أطراف الشبهة المحصورة ثم إذا
لاقى شيء مع الطرفين من العباء فلا بدّ من الحكم بعدم نجاسته أيضا لانّه لاقى
طاهرا يقينا وأحد طرفي الشبهة. والمفروض أن ملاقاة شيء منهما لا توجب النجاسة ، مع
أن مقتضى استصحاب الكلّي هو الحكم بنجاسة الملاقي للطرفين.
وعليه فلا بد من
رفع اليد عن جريان الاستصحاب في الكلّي ، أو القول بنجاسة الملاقى لأحد أطراف
الشبهة المحصورة لعدم إمكان الجمع بينهما في المقام.
الجواب عنها موكول
في الدرس الخارج لأنّ ذكره في هذا المقام يوجب التطويل.
استصحاب الامور التدريجية
قوله
: الرابع أنّه لا فرق في المتيقّن بين أن ...
قال المصنّف قدسسره : لا فرق في المتيقّن السابق بين أن يكون من الامور القارة
الثابتة كالطهارة والقيام والعلم ونحوها وأن يكون من الامور غير القارة التي
تتحقّق في الخارج حال كونها تدريجية الحصول كالتكلّم والقراءة والزمان وأمثالها
بحيث
يتحقّق جزء منها
في زمان بعد انعدام الجزء السابق وانصرامه ويكون الموجود الثاني غير الموجود
الأوّل.
لكن قد تحقّق
سابقا أن المعيار في باب الاستصحاب صدق نقض اليقين بالشك وصدق البقاء عرفا ، إذ
يستفاد من الأخبار وغيرها عدم جواز نقض اليقين السابق بالشك اللاحق عرفا.
وعليه ففي هذه
الأشياء المذكورة وإن كان متعلّق اليقين غير متعلّق الشك بحسب الدقّة العقلية ، إذ
المتيقّن يكون جزءا من التكلّم والقراءة والزمان والمشكوك جزءا آخر من كل واحد
منها بحيث يكون الموجود اللاحق جزءا على حدة ، ولكن لما لم يفصل العدم بين وجودات
الامور المذكورة على الفرض ولو فصل بينها فلم يكن مضرّا بالاتصال عرفا فيعدّ أهل
العرف تكلّم شخص واحد موجودا متّصلا واحدا ، وكذا القراءة والليل والنهار والآنات
حرفا بحرف.
وعلى ضوء هذا إذا
رفعنا اليد عن آثار هذه الامور المترتّبة عليها شرعا بواسطة الشك في بقائها فيعدّ
أهل العرف هذا الرفع نقضا لليقين السابق بالشك اللاحق ، فلهذا تشمل أخبار
الاستصحاب هذه الامور ويجري الاستصحاب فيها.
هذا مع أن كون هذه
الامور تدريجية الحصول إنّما يكون بملاحظة الحركة القطعية الثابتة لها وهي عبارة
عن كون الشيء في كل آن في حدّ خاص ومكان خاص لا بملاحظة الحركة التوسطية وهي عبارة
عن كون الشيء بين المبدأ والمنتهى ، إذ الامور التدريجيات تكون بملاحظة الحركة
التوسطية ثابتة مستقرّة مجتمعة الأجزاء.
وبعبارة اخرى وهي
ان مثل التكلّم والقراءة والزمان والليل والنهار والحركة ونحوها يكون لها
الملاحظتان تارة يلحظ مجموع أجزائها بملاحظة مبدئها ومنتهاها مثلا حركة الشمس
والقمر إذا لوحظت بحسب أجزائها فلا بد أن تكون الحركة في
آن غير الحركة في
آن سابق عليه ؛ وان تكون في مكان غيرها في مكان آخر ، وامّا إذا لوحظت بلحاظ
المبدأ الذي هو عبارة عن جانب المشرق والمنتهى الذي هو عبارة عن جانب المغرب فيكون
مجموع الحركة حينئذ حركة واحدة بين الحدّين. وكذلك التكلّم والقراءة بحيث يكون
التكلّم من أوّل ساعة العاشر إلى ساعة الحادي عشر مثلا شيئا واحدا وتكلّما فاردا ،
وكذا القراءة من أوّل سورة الأنعام مثلا إلى آخرها قراءة واحدة وشيء واحد وفعل
واحد مستمر.
وبالجملة إذا لم
تكن أفعال التدريجية شيئا واحدا عقلا فهي تكون شيئا واحدا عرفا وبالمسامحة
العرفية.
وعليه فيجوز
استصحاب بقاء الليل إذا شك في بقائه ويترتّب عليه أثره الشرعي من جواز الأكل في
شهر الصيام واستصحاب بقاء النهار إذا شك في بقائه ويترتّب عليه ، أي على بقاء
النهار ، حرمة الافطار ووجوب الامساك ، وكذا استصحاب بقاء التكلّم والقراءة إذا شك
في بقائهما.
ففي كل هذه الامور
يجري الاستصحاب مثلا من قرء صيغة الصلح ، أو النكاح مثلا إذا شك في بقاء قراءتهما
فيجري الاستصحاب ويحكم ببقاء القراءة ويترتّب على المستصحب أثره الشرعي وهو عدم
التصرّف في مال المتصالح عليه وحرمة الاستمتاع من المعقودة عليها.
فالمصنّف قدسسره ذهب إلى جريان الاستصحاب في الزمان كالليل والنهار ، وفي
الزماني الذي لا استقرار له ، أي لوجوده بل يتجدّد شيئا فشيئا كالتكلّم ونبع الماء
وسيلان الدم والمشي والكتابة ونحوها.
وتوضيح المقام
يحتاج إلى تمهيد مقدّمتين :
الاولى
: ان الحركة
تتوقّف على أمور ستّة :
الأوّل
: ما منه الحركة.
الثاني
: ما إليه الحركة.
الثالث : ما به الحركة.
الرابع : ما له الحركة.
الخامس
: ما فيه الحركة.
السادس
: الزمان الذي يقع
فيه الحركة ثم ان الحركة على أربعة أقسام :
الأوّل
: حركة الكمية
كحركة الأجسام النامية.
الثاني : حركة الكيفية كحركة الماء من البرودة إلى الحرارة ، أو
كحركة التفاح الأخضر إلى الاحمرار.
الثالث : حركة الأينية هي عبارة عن انتقال الجسم من مكان إلى مكان
آخر.
الرابع : حركة الوضعية وهي عبارة عن انتقال الجسم من حال القيام
إلى حال الجلوس ومن حال الجلوس إلى حال النوم ، ولكن الحركة الوضعية تستلزم الحركة
في الاين كما قال به العلّامة الحلّي قدسسره.
الثانية
: ان الحركة
الاينية على قسمين :
الاولى : قطعية.
الثانية : توسطية ، مثلا إذا سافر زيد من البصرة إلى الكوفة فكونه
في كل آن في مكان حركته القطعية وكونه بين البصرة والكوفة حركته التوسطية.
فإذا عرفت هاتين
المقدّمتين فيقال : ان الانصرام والتدرج في الوجود شيئا فشيئا المانع عن جريان
الاستصحاب انّما هو في الحركة القطعية وهي كون الشيء في كل آن في حدّ كما في
الحركة الوضعية والكمية والكيفية ، أو مكان كما في الحركة الاينية لا التوسطية وهي
كونه بين المبدأ والمنتهى فانّها بهذا المعنى أمر مستمرّ قارّ بالذات كما لا يخفى.
وعليه فلا مجال
للإشكال في استصحاب الليل ، أو النهار فانّ الليل عبارة عن
كون الشمس تحت
الأرض بين المغرب والمشرق ؛ والنهار عبارة عن كونها على وجه الأرض بين المشرق
والمغرب ، فإذا شك في بقاء الليل ، أو النهار فمرجعه إلى الشك في وصول الشمس إلى
المنتهى ، أو انّه يكون في البين فيستصحب عدم وصولها إلى المنتهى ففي نحو خروج زيد
ماشيا من البصرة إلى الكوفة إذا شك في بقاء مشيه من جهة الشك في انتهاء حركته
التوسطية ووصوله إلى الكوفة فيستصحب عدم وصوله إليها وأنّه بعد في البين.
نعم إذا شك في
بقاء مشيه للشك في استعداد زيد للمشي إلى هذا الحد ، أو للشك في طرو مانع قد منعه
عن المشي إلى هذا الحد والمكان فهذا شك في حركته القطعية وحينئذ فيجري الإشكال
المتقدّم في استصحابه ولكنّك قد عرفت ان مجموع الحركات من البدو إلى الختم في نظر
العرف أمر واحد مستمر فلا مانع عن استصحابه أصلا ، وهذا ظاهر.
قوله
: وأمّا إذا كان الشك في كمّيته ومقداره ...
قال المصنّف قدسسره : قد يكون الشك في بقاء الأمر التدريجي الزماني من جهة
الشك في الرافع مثلا إذا تيقّنا بجريان الماء من عين من العيون وعلمنا استعداده من
حيث البقاء ولكن حصل لنا الشك في بقاء جريانه إلى الآن من جهة احتمال تحقق المانع
عن الجريان فيجري استصحاب بقاء الجريان بلا إشكال لتمامية اركان الاستصحاب على نحو
الكامل وهي عبارة عن اليقين السابق والشك اللاحق.
وقد يكون الشك في
بقاء الأمر التدريجي الزماني من جهة الشك في كمّيته ومقداره ، أي يكون الشك في
المقتضى مثلا انّا نعلم جريان الماء من عين وسيلان الدم من رحم ولكن حصل لنا الشك
في جريان الماء وسيلان الدم من جهة الشك في مقدار الماء والدم في المنبع والرحم
بحيث يكونان جاريين إلى الآن ، أم لا يكونان كذلك ، أي احتملنا تمامية الماء والدم
عن النبع والرحم فليسا بموجودين
إلى الآن فهل يجري
الاستصحاب في هذا المثال ، أم لا؟
ذهب بعض الأعلام قدسسرهم إلى عدم جريان الاستصحاب إذا كان الشك في بقاء الجريان
والسيلان من جهة الشك في المقتضى لأنّ الشك ليس في الجريان والسيلان ، أي ليس الشك
في الوصف بل الشك في حدوث الموصوف ووجوده وهو الماء والدم فلا تتمّ أركان
الاستصحاب لأنّ الجريان والسيلان اللّذان يكونان متيقنين سابقا ليسا بمشكوكين ، بل
يكون الشك في الآن اللاحق في وجود الماء في المنبع والدم في الرحم وأمّا إذا كانا
موجودين في المنبع والرحم فالجريان والسيلان مسلّمان.
وفي ضوء هذا فليس
متعلّق اليقين ومتعلّق الشك بمتّحدين ، إذ المتيقّن هو الجريان والسيلان والمشكوك
هو وجود الماء في المنبع والدم في الرحم فلا يجري الاستصحاب في صورة كون الشك في
المقتضى بالكسر لأن الماء الحادث والدم الحادث في التدريجيات والزمانيات يكونان
غير الماء السابق والدم السابق فيكون المشكوك غير المتيقّن والجزء اللاحق غير
الجزء السابق كما هو واضح.
أمّا توضيح كلام
المصنّف قدسسره ولكنّه يتخيّل بأنّه لا يختل به ما هو الملاك في
الاستصحاب.
ولكن اختلاف
الأجزاء في التدريجيات والزمانيات بدقة العقلية ولا يقدح في صدق النقض والبقاء في
نظر العرف ولا يضرّ بما هو ملاك الاستصحاب بحسب تعريفه من اتحاد القضيتين
المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ، إذ تعدّد الماء والدم بالدقة العقلية لا
يوجب تعدّد الجريان والسيلان بنظر العرف ، إذ اتصال الجريان والسيلان بسبب عدم فصل
بين الاجزاء ، أو بسبب قلّة الفصل بحيث لا يضر بالاتصال عرفا موجب لوحدة الاجزاء
بنظر أهل العرف والوحدة العرفية كافية في البقاء وصدق نقض اليقين بالشك كما عرفته
سابقا.
قوله
: ثم انّه لا يخفى ان استصحاب بقاء الأمر التدريجي ...
استظهر الشيخ
الأنصاري قدسسره كون استصحاب الأمر التدريجي كالتكلّم والكتابة والحركة
والمشي ونبع الماء وسيلان الدم من الرحم من قبيل القسم الاول من استصحاب الكلي.
ولكن يقول المحقّق
الخراساني قدسسره : أنّه يمكن عقلا تصوير استصحاب الأمر التدريجي بتمام
أنواع الاستصحاب من استصحاب الشخصي والكلّي بأقسامه الثلاثة المتقدّمة.
والتفصيل ؛ انّه
إذا شك في أن السورة المعيّنة التي قد شرع زيد فيها كسورة الانفال مثلا ، هل هي قد
تمّت ووصلت إلى الانتهاء ، أم هي بعد باقية فيستصحب بقاء شخص تلك السورة المعيّنة.
ويكون من استصحاب الشخص ويستصحب أيضا الطبيعي الذي كان متحقّقا في ضمن السورة
المعيّنة ، مثلا ؛ إذا علمنا بقراءة السورة المعيّنة ثم نعلم بوجود القراءة ثم
شككنا بانقضاء قراءة السورة المعيّنة فنشك في بقاء القراءة الكلّية فلا إشكال في
جريان الاستصحاب في بقائها إذا كان لها أثر شرعي ويكون من القسم الأوّل من استصحاب
الكلّي.
وإذا شك في بقاء
قراءة السورة بعد الشروع فيها من جهة تردّدها بين القصيرة وبين الطويلة كالتوحيد
والبقرة فتستصحب قراءة السورة الكلّية التي تكون قدر المشترك بين القصيرة والطويلة
ويكون هذا الاستصحاب من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلّي ؛ وإذا شك في بقاء
قراءة السورة إلى الآن من جهة الشك في شروع المكلف في سورة اخرى بعد القطع بانقضاء
قراءة السورة الاولى فنستصحب بقاء قراءة كلي السورة حينئذ لو قلنا به. ويكون هذا
الاستصحاب من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي كما لا يخفى. فتمام ما ذكر من
المباحث الماضية يكون في أطراف الزمان وسائر الامور التدريجيات.
استصحاب المقيّد بالزمان
قوله
: وامّا الفعل المقيّد بالزمان فتارة يكون الشك ...
وأمّا حكم الفعل
المقيّد بالزمان كصوم رمضان المبارك وافطار يوم العيد ، إذ الأوّل مقيّد بيوم شهر
رمضان المبارك والثاني مقيّد بيوم العيد ، فلا يخلو من حالين في الخارج :
الأوّل : ان يكون
الشك في ثبوت حكم المقيّد بالزمان لأجل الشك في بقاء نفس الزمان سواء كانت الشبهة
موضوعيّة كما لو شك في هلال شوّال المكرّم ، أم حكمية كما لو شك بانتهاء النهار
بغياب القرص.
الثاني : أن يكون
في ثبوته لأجل الشك في ثبوت نفس الحكم مع القطع بانتفاء قيده وهو الزمان الذي أخذ
قيدا لموضوعه ، كما إذا وجب الجلوس في المسجد مثلا في النهار فقد انقضى النهار فشك
في بقاء وجوب الجلوس في الليل ، لاحتمال كون زمان الليل موجبا لمصلحة ملزمة فيه ،
أو لاحتمال كون الجلوس مطلوبا في النهار بنحو تعدّد المطلوب بأن يكون في ذات
الجلوس مصلحة ملزمة ، وبخصوصية كونه في النهار مصلحة اخرى غير المصلحة القائمة
بالجلوس بذاته.
فإن كان الشك على
النحو الأوّل جاز الرجوع إلى استصحاب نفس الزمان المأخوذ قيدا للحكم فيثبت به
المقيّد ويترتّب عليه حكمه الشرعي من وجوب الامساك ؛ كما جاز استصحاب نفس المقيّد
فيقال : كان الإمساك في النهار فهو على ما كان فيجب. هذا.
أو يقال : ان
الامساك من تناول الطعام وغيره من المفطرات كان واجبا قبل هذه اللحظة قطعا ، والآن
كان واجبا للاستصحاب ، أي لاستصحاب بقاء وجوبه في
الآن الحاضر.
وليعلم حاصل كلام
المصنّف قدسسره هنا وهو أن الفعل المقيّد بالزمان ؛ تارة يقع الشك في حكمه
من جهة الشك في بقاء الزمان. واخرى يقع الشك في حكمه مع القطع بارتفاع الزمان.
والثاني على قسمين
: فتارة يكون الزمان مأخوذا في الدليل ظرفا للحكم. واخرى يكون الزمان مأخوذا قيدا
لموضوع الحكم. والثاني أيضا على قسمين : فتارة يعلم ان الزمان قيد للفعل بنحو وحدة
المطلوب بمعنى كون القيد قيدا لأصل المطلوب ، واخرى يحتمل كون الزمان قيدا للفعل
بنحو تعدّد المطلوب بمعنى كون القيد قيدا لتمام المطلوب لا لأصله فهذه أقسام
أربعة.
أمّا القسم الأوّل
فهو ما إذا شك في حكم الفعل المقيّد بالزمان من جهة الشك في بقاء الزمان ، فقد حكم
فيه باستصحاب الزمان وترتيب أثره عليه ، فإذا شك في وجوب صوم يوم الخميس لأجل الشك
في بقاء نهار يوم الخميس فيستصحب بقاء نهاره لتمامية أركان الاستصحاب لأنّ بقاء
نهاره قبل هذه اللحظة والساعة كان متيقّنا والآن كان باقيا لأجل استصحاب بقاء
نهاره ، ويترتّب عليه حكمه من وجوب الصوم ولزوم الإمساك وحرمة استعمال المفطرات ما
لم يعلم بدخول الليل.
وقد أشار المصنّف قدسسره إلى هذا القسم الأوّل بقوله : فتارة يكون الشك في حكمه من
جهة الشك في بقاء قيده. بل ويجوز استصحاب كون الامساك قبل هذا الآن في النهار كان
واجبا بنحو مفاد كان الناقصة فالآن كما كان.
وأمّا القسم الثاني
فهو ما إذا شك في حكم الفعل المقيّد بالزمان مع القطع بارتفاع الزمان ، ولكن
الزمان ظرف للحكم لا قيدا له ، كما إذا قال المولى : ان الجلوس في يوم الجمعة يجب
عليك فقد شك في وجوب الجلوس في يوم السبت ، فقد حكم فيه باستصحاب الحكم. والسرّ
فيه هو عدم تعدّد الموضوع عرفا فانّ
الجلوس كان واجبا
في يوم الجمعة قطعا فالآن يكون كذلك بالاستصحاب.
وقد أشار المصنّف قدسسره إلى هذا القسم الثاني بقوله : وان كان من الجهة الاخرى فلا
مجال إلّا لاستصحاب الحكم ، أي وان كان الشك في حكم الفعل المقيّد بالزمان من حيث
تحقّق المصلحة المقتضية لبقاء الحكم بالاستصحاب حتّى مع العلم بانقضاء الزمان
وانصرامه.
ولكن لا يخفى عليك
أن هذا القسم خارج لدى الحقيقة موضوعا من مقسم المصنّف فانّ المقسم في كلامه
الشريف هو الفعل المقيّد بالزمان. وامّا الزمان الذي أخذ ظرفا للحكم لا يكون الفعل
مقيّدا بالزمان بحيث ينتفي الحكم بانتفاء الزمان ويتحقّق بتحقّقه.
فالفرق بين أخذ
الزمان قيدا للحكم وبين أخذه ظرفا للحكم ان الحكم يتحقّق بتحقّق الزمان وينتفي
بانتفائه في الأوّل ، وفي الثاني يتحقّق الحكم بتحقّق الزمان ولا ينتفي بانتفائه.
وامّا القسم
الثالث فهو ما إذا شك في الحكم مع القطع بارتفاع الزمان والزمان قيد لمتعلّق الحكم
، كما إذا قال المولى : يجب عليك جلوس يوم الجمعة ، فلو شك في وجوب جلوس يوم السبت
فقد حكم باستصحاب العدم دون الوجود نظرا إلى تعدّد الموضوع حينئذ ، فانّ المتيقّن
هو وجوب جلوس يوم الجمعة ، والمشكوك هو وجوب جلوس يوم السبت فلا يكون الشك في بقاء
ما كان سابقا ، بل في ثبوت أمر حادث.
وقد أشار إلى هذا
القسم الثالث بقوله : لا قيدا مقوّما لموضوعه وإلّا فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه
فيما بعد ذاك الزمان. هذا فيما إذا علم وحدة المطلوب.
قوله
: في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفا لثبوت الحكم ...
أي ينظر بنظرة
العميق لا بنظرة السطحي إلى دليل الحكم فان كان الزمان قيدا
للموضوع نحو :
أكرم العلماء الجائين يوم الجمعة امتنع جريان الاستصحاب والحكم ببقاء الحكم في غير
ذاك الزمان لأنّ ذات الموضوع مع عدم القيد والزمان مباينة للموضوع مع القيد.
وعليه فإثبات
الحكم حينئذ لا يكون ابقاء لثبوته للموضوع المقيّد بالزمان ، بل يكون إحداثا للحكم
في موضوع آخر ، ولازم ذلك امتناع جريان الاستصحاب أيضا إذا أخذ الزمان قيدا
للمحمول لعين الوجه المتقدّم نحو العلماء العدول يجب عليك إكرامهم يوم الجمعة.
نعم إذا أخذ
الزمان في لسان الدليل قيدا للنسبة لجاز الاستصحاب مع انتفاء الزمان وانصرامه
لاتحاد الموضوع والمحمول في القضيتين المتيقّنة والمشكوكة ، وهذا الاتحاد موجب
لكون الشك في البقاء الذي هو تمام موضوع الاستصحاب.
وامّا القسم
الرابع فهو ما إذا شك في الحكم مع القطع بارتفاع الزمان وانصرامه ، والزمان قيد
لمتعلّق الحكم ، أي لموضوعه ، ولكن مع احتماله بنحو تعدّد الموضوع ، فقد حكم
باستصحاب الحكم كما في القسم الثاني حرفا بحرف بدعوى عدم تعدّد الموضوع في القضية
المتيقّنة والمشكوكة.
وحكم المصنّف قدسسره أيضا بكون هذا القسم من قبيل ما إذا شك في بقاء المرتبة
الضعيفة بعد القطع بارتفاع المرتبة الشديدة فيما إذا رأى العرف الحادث المشكوك على
فرض حدوثه مع المتيقّن السابق أمرا واحدا مستمرّا كما في السواد الضعيف والشديد لا
مبائنا معه كما في الاستحباب والوجوب على ما تقدّم تفصيله في التنبيه السابق.
وعليه ففي المقام
نشك في بقاء المرتبة الضعيفة من الطلب الوجوبي بعد القطع بارتفاع المرتبة الشديدة
منه قطعا بسبب ارتفاع الزمان المأخوذ قيدا للفعل فيستصحب الطلب الوجوبي ويحكم
ببقائه.
وقد أشار إلى هذا
القسم الرابع بقوله : نعم لا يبعد أن يكون بحسبه أيضا متّحدا وسيأتي تفصيله إن شاء
الله تعالى.
قوله
: لا يقال ان الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع ...
فاستشكل المستشكل
بأن الزمان وإن أخذ ظرفا لثبوت الحكم تحسب الظاهر ولكن هو يكون واقعا وحقيقة من
قيود الموضوع ، إذ من البديهي ان الزمان من ملاك الحكم ومناطه.
وعليه فيجري بعد
ارتفاع الزمان وانصرامه استصحاب عدم الحكم ولا يجري استصحاب ثبوته بعد انقطاعه ،
أي ثبوت الحكم بعد انقطاع الزمان وإن أحرزنا من الخارج كون الزمان المأخوذ في
الموضوع ظرفا للحكم ، إذ ليس الزمان حينئذ غير دخيل في الحكم. وعليه فلا يثبت
الحكم في غير ذاك الزمان.
وعلى طبيعة الحال
فلا يجري الاستصحاب في الفعل المقيّد بالزمان سواء كان الزمان قيدا للحكم ، أم كان
ظرفا له ، أم كان غير معلوم الهوية بل يجري استصحاب عدم الحكم في غير ذاك الزمان.
قوله
: بأنّه يقال نعم لو كانت العبرة في تعيين الموضوع ...
نعم لا يكون مورد
الاستصحاب في الفعل المقيّد بالزمان إذا كان الملاك في تعيين الموضوع وفي اتحاد
المتيقّن والمشكوك هو النظر الدقي العقلي ؛ وامّا إذا كان المعيار فيهما فهو النظر
المسامحي العرفي في باب الاستصحاب.
وعليه فالزمان إذا
كان ظرفا للحكم فهو يكون ملغى بنظر أهل العرف ، واكرم العلماء في يوم الجمعة وفي
يوم السبت شيئا واحدا بنظر العرف فيجري الاستصحاب في بقاء وجوبه في يوم السبت ، إذ
يكون وجوب الاكرام في يوم الجمعة متيقّنا وفي يوم السبت مشكوكا وأركان الاستصحاب
تامّة وشرائطه موجودة فلا مانع عن جريانه ، إذ يصدق نقض اليقين بالشك حينئذ ، هذا
مضافا إلى أن الزمان
لو كان دخيلا في
الحكم وجودا وعدما لما جرى الاستصحاب في جميع الموارد أصلا كما لا يخفى.
الإشكال الثاني
قوله
: لا يقال فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم ...
فاستشكل المستشكل
، وهو الفاضل النراقي قدسسره في المناهج بأنّه إذا كان البناء على اتباع نظر العرف في
بقاء الموضوع فيجري الاستصحابان معا فيتعارضان ثم يتساقطان. والمراد من
الاستصحابين في هذا المقام استصحاب ثبوت الحكم بعد ارتفاع الزمان واستصحاب عدم
الحكم بعده ، امّا الثبوت فلوحدة الموضوع في نظر العرف ، وامّا العدم فلتعدّد
الموضوع في نظر العقل.
قوله
: فانّه يقال انّما يكون ذلك لو كان في الدليل ما ...
أجاب المصنّف قدسسره عنه بأنّه ليس في دليل الاستصحاب ما بمفهومه المطابقي أو
التضمّني ، أو الالتزامي يشمل كلا النظرين نظر العرف ونظر العقل معا كي يجري
الاستصحابان ويتعارضان ، بل لا بد أن يكون دليل الاستصحاب امّا مسوقا بنظر العرف
وامّا بنظر العقل ، ولكن المستفاد من أخبار الباب هو اتباع نظر العرف فقط ، وحيث
ان الموضوع في نظر العرف في هذا المقام واحد فيجري استصحاب ثبوت الحكم قهرا
لتمامية أركانه ولصدق بقاء الموضوع فيصدق النقض فيشمله أخبار الباب ولا يجري
استصحاب العدم أصلا وهذا واضح.
علّة عدم جريان
الاستصحابين
قوله
: لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما ...
لأنّ في الجمع بين
النظرين تناقضا في المدلول حيث انّه بملاحظة أحدهما
يكون رفع اليد
عملا عن حكم المقيّد نقضا لليقين بالشك ؛ وبملاحظة الآخر لا يكون نقضا.
والأوّل يستتبع
الحرمة ، والثاني يستتبع عدمها ، أي بملاحظة نظر العرفي يكون رفع اليد عن وجوب
إكرام العلماء في يوم السبت عملا نقضا محرما وبملاحظة نظر العقلي لا يكون رفع اليد
عملا نقضا محرما ، والمحرم وعدم المحرم نقيضان ولا يعقل حكاية الدليل عنهما معا ،
أي عن المحرم وعدم المحرم لامتناع اجتماعهما.
فالنتيجة إذا أخذ
الزمان ـ وهو يوم الجمعة ـ ظرفا للحكم بحيث يتحقّق الحكم بتحقّقه ولا ينتفي
بانقطاعه وانصرامه فيجري استصحاب الثبوت ، وإذا أخذ في لسان الدليل قيدا له بحيث
يتحقّق الحكم وهو وجوب الإكرام بتحقّقه وينتفي بارتفاع الزمان ، فيجري حينئذ
استصحاب العدم ، أي عدم وجوب الاكرام.
والوجه ان الفعل
وهو الإكرام في يوم السبت متّحد مع الفعل قبل يوم السبت بنظر العرف وهو متعدّد
بالنظر العقلي ضرورة ان الفعل المقيّد بزمان خاصّ يكون غير الفعل في زمان آخر ولو
بالنظر المسامحي العرفي فضلا عن الدق العقلي والدقة العقلية.
وقوله : ولو
بالنظر المسامحي إشارة إلى تعميم التعدّد بمعنى ان الفعلين الصادرين في زمانين
متعدّدان عرفا كما هما متعدّدان عقلا ، ولكن العرف يتسامحون ويرونهما فعلا واحدا.
قوله
: نعم لا يبعد أن يكون بحسبه أيضا متّحدا ...
يعني إذا احتمل أن
يكون ثبوت الحكم للفعل المقيّد بالزمان الخاص بنحو تعدّد المطلوب بحيث تكون في
الفعل مصلحتان ؛ احداهما قائمة بذات المقيّد. والاخرى قائمة بنفس التقييد بالزمان.
وعليه فيكون ثبوت
الحكم في الزمان الثاني كوجوب الإكرام يوم السبت ناشئا عن مصلحة قائمة بذات
المقيّد مطلقا سواء كان مع وجود القيد ، أم مع عدم القيد فيكون الحكم مع عدم القيد
من مراتب الحكم الأوّل ، أي يكون وجوب الاكرام في يوم السبت من مراتب وجوبه في يوم
الجمعة بنحو التعدّد المطلوبي بحيث يكون للمولى طلبان يكونان في مرتبتين مثلا يكون
المطلوب الأوّل في المرتبة الاولى كالصلاة في الوقت الخاص ، واحتملنا أن يكون
المطلوب الثاني في المرتبة الثانية كالصلاة في خارج الوقت المعيّن بعد مضي الوقت
الأوّل. غاية الأمر ان الطلب الأوّل يكون شديدا تاما ، والطلب الثاني يكون ضعيفا
ناقصا.
وعلى هذا إذا
انقضى الطلب الشديد بانقضاء وقته واحتملنا بقاء الطلب الضعيف للصلاة ولا يحتمل أن
يكون هذا الطلب الضعيف أمرا حادثا ، إذ الملاك هو نظر العرف وهو يحكم ببقاء الطلب
بعد زوال قيد الحكم وزمانه فيجري الاستصحاب في بقاء المرتبة الضعيفة للمستصحب لصدق
البقاء عرفا ولتحقّق النقض فيستصحب وجوب الصلاة خارج الوقت.
قوله
: فتأمّل جيّدا ...
وهو تدقيقي بقرينة
كلمة الجيد إشارة إلى دقّة المطالب المذكورة.
قوله
: ازاحة وهم لا يخفى ان الطهارة الحدثية والخبثية ...
يقع الكلام في دفع
التوهّم الذي أورده في المقام الفاضل النراقي قدسسره وخلاصته : ان محصل الطهارة الحدثية الوضوء والغسل مطلقا ،
أي سواء كان واجبا كغسل الجنابة مثلا ، أو مندوبا كغسل الجمعة على مبنى سيّدنا
الخوئي قدسسره ، والمراد من الحدث هو مطلق الحدث سواء كان أكبر كالجنابة
مثلا ، أو أصغر كخروج البول مثلا ، ومحصل الطهارة الخبثية الغسل بالماء المطلق
الطاهر ، أو مطهر آخر غيره من الشمس والأرض وأمثالهما من المطهّرات التي قد بيّنت
في الفقه الشريف ، وكذا
يحصل الحدث الأصغر
للمكلف من اسبابه من خروج الغائط والبول والريح ومن النوم الغالب على السمع والبصر
بحيث لا يسمع ولا يبصر والجنون والسكر ويحصل الخبث له بواسطة سببه وهو ملاقاة
النجس لبدن المكلف ، أو لثوبه ، أو ملاقاتهما للنجس بشرط الرطوبة في الملاقي
بالكسر أو في الملاقى بالفتح فالحدث والخبث يكونان مقابلين للطهارة الحدثية
والخبثية.
ولا يخفى ان هذه
الامور من الطهارة والحدث والخبث إذا حصلت وتحقّقت لا يكون الشك في بقائها إلّا من
جهة الرافع لها ، إذ هي لا ترفع بعد الثبوت إلّا برافع وليس الشك في بقائها من جهة
تأثير أسبابها من حيث الزمان قصرا ، أو طولا ، أو ليس الشك في بقائها من حيث الشك
في المقتضى.
وعلى طبيعة الحال
إذا علم وجودها فيستصحب بقائها حتى يعلم بوجود الرافع لها سواء كانت هذه الامور من
الامور الواقعية ، أم من الامور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية ، أم من
الامور الانتزاعية ، أم قلنا بالتفصيل بين هذه الامور بحيث يكون بعضها من
الواقعيات وبعضها من الاعتباريات وبعضها الآخر من الانتزاعيات على ، أي حال وتقدير
بعد حصولها يكون الشك في بقائها شكّا في الرافع فيستصحب بقائها حتى يعلم الرافع
منها.
وعلى ضوء هذا فليس
المدرك الكامل والأصل التام بموجودين لاصالة عدم جعل الوضوء سببا للطهارة الحدثية
بعد خروج المذي ، أو لاصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة للمتنجس
، وإن قال بها الفاضل النراقي قدسسره في المناهج إذ بعد حصول الطهارة عن الحدث بسبب التوضؤ
يستصحب بقائها بعد خروج المذي لعدم التيقّن برافعية المذي للطهارة وللعلم بسببية
الوضوء للطهارة والشيء إذا ثبت فلا يرتفع إلّا برافع وكذا الكلام في ثبوت النجاسة
في اللباس حرفا بحرف ، إذ نحتمل أن لا يكون الغسل مرّة رافعا للنجاسة في اللباس بل
يلزم تعدّد الغسل.
وعلى طبيعة الحال
لا يكون في هذا المقام أصل بموجود إلّا اصالة الطهارة في الوضوء واصالة النجاسة في
الملاقاة ، أي نستصحب بقاء الطهارة بعد خروج المذي وبقاء النجاسة في الثوب بعد
الغسل مرّة.
امّا الفرق بين
الامور الاعتبارية وبين الامور الانتزاعية فان في الأوّل لا يعتبر منشأ الاعتبار ،
وفي الثاني يعتبر منشأ الانتزاع.
الاستصحاب التعليقي
قوله
: الخامس أنّه كما لا إشكال فيما إذا كان المتيقّن ...
هذا شروع في بيان
جواز استصحاب الاحكام المشروطة سواء كانت تكليفية كما إذا قيل العنب يحرم إذا غلى
، فيشك في حرمة الزبيب إذا غلى ، أم وضعية كما إذا قيل : ينجس العنب إذا غلى فيشك
في نجاسة الزبيب إذا غلى.
واحتج على جواز
استصحاب بقاء الأحكام المشروطة المعلّقة كالأحكام المطلقة الفعلية انّها مجعولات
شرعية يشملها دليل الاستصحاب عند الشك في بقائها وحيث أنّه لا مخصص له فيجب الأخذ
به ، أي بدليل الاستصحاب فيتم ركني الاستصحاب وهما عبارة عن اليقين السابق بوجود
حكم والشك اللاحق ببقائه في الأحكام المطلقة والمشروطة فتكونان متساويتين من هذه
الناحية. فلو شك في مورد لأجل طروء بعض الحالات مثل صيرورة العنب زبيبا في المثال
المتقدّم في بقاء أحكامه ، أي أحكام العنب في الزبيب لجرى الاستصحاب وثبت حكم
المشروط للمشكوك ، إذ لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما مطلقا فعليا ، وبين أن
يكون حكما مشروطا لتمامية أركان الاستصحاب من اليقين السابق ثبوتا والشك اللاحق
بقاء.
قوله
: وتوهّم أنّه لا وجود للمعلّق قبل وجود ما علّق عليه ...
فزعم صاحب المناهل
قدسسره انّه لا فعلية لحكم المشروط قبل حصول شرطه ، إذ لم يتحقّق
بعد شرط وجوده فليس اليقين بحكم المشروط بموجود امّا بخلاف المطلق فلوجود اليقين
بحكم سابقا فيختل في الاستصحاب التعليقي أحد ركني الاستصحاب وهو يقين بحكم فعلي
سابقا فلا يجري الاستصحاب في الأحكام المشروطة.
الجواب عنه
قال المصنّف قدسسره : ان هذا التوهم فاسد جدّا لأنّ كل موجود بنحو وجوده قابل
للاستصحاب سواء كان وجود المستصحب فعليا ، أم انشائيا ولا يعتبر في كل استصحاب
خصوص الوجود الفعلي.
وعليه إذا كان
المستصحب موجودا إنشائيا وكانت فعليته منوطة بشرط غير حاصل بعد وشك في بقائه بسبب
طروء حالة على الموضوع وذلك كصيرورة العنب زبيبا جاز استصحابه لكون الوجود
الانشائي من الموجودات الاعتبارية التي يصح استصحابها إذا شك في بقائها بعد اليقين
بثبوتها سابقا فالحكم المعلق قد انشئ ولكن لم يصل إلى مرتبة الفعلية قبل وجود ما
علق هذا الحكم عليه كتعليق حرمة العصير الزبيبي على الغليان. ويشهد بكون الحكم
المعلّق موجودا جواز نسخه وجواز ابقائه في لسان الدليل.
غاية الأمر ان
الحكم يكون مطلقا تارة ، واخرى يكون مشروطا والخطاب الشرعي يتوجّه إليهما ولا يضرّ
اختلاف كيفية وجودهما في جريان الاستصحاب وفي صحّته.
فإذا دل الدليل
على ثبوت الحكم لموضوع سواء كان مطلقا ، أم مشروطا فهو
باق بمقتضى
الاستصحاب في الموارد التي يكون الدليل بالنسبة إليها مهملا ، أو مجملا مثلا نحكم
في حال صيرورة العنب زبيبا بجميع أحكام ثابتة للعنب سواء كانت مطلقة كملكية الزبيب
لزيد مثلا ، أم مشروطة كنجاسته إذا غلى كما يكون حكمه المطلق مستصحبا يكون حكمه
المشروط مستصحبا بلا تفاوت أصلا.
وعلى طبيعة الحال
إذا غلى ماء الزبيب صار نجسا كماء العنب إذا غلى في وصف النجاسة ، فذكر الاجمال
بعد الاهمال من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشدّة الاهتمام بالخاص وهو متعارف في
الكلام وعند الفصحاء والبلغاء.
قوله
: وبالجملة يكون الاستصحاب متمّما لدلالة الدليل على الحكم ...
ولا ريب في أن
استصحاب بقاء الاحكام المشروطة المعلّقة عند الشك في بقائها متمّم ومكمّل لدلالة
الدليل على حكم المجمل ، أو على حكم المهمل سواء كان الحكم مطلقا فعليا ، أم
معلّقا مشروطا فببركة الاستصحاب يعمّم الحكم بحيث يشمل المطلق والمعلّق. وللحالة
العارضة اللاحقة كالحالة السابقة ، وذلك كتعميم الحرمة بحيث تشمل العصير العنبي
والعصير الزبيبي.
ولهذا قال المصنّف
قدسسره يقال : بأن العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقا في
حال عنبيته من أحكامه المطلقة ومن جملتها ملكية العصير العنبي لمالكه وأحكامه
المعلّقة كحرمة العصير العنبي إذا غلى وهذه الأحكام ثابتة للعصير في حال زبيبيته
على تقدير غليانه.
وامّا الفرق بين
الاهمال والاجمال فيقال ان الاهمال عبارة عن مجرّد ترك البيان ، والاجمال عبارة عن
ترك البيان لمصلحة مقتضية لذلك وقد سبق هذا الفرق بينهما في الجزء الأوّل.
قوله
: إن قلت نعم ولكنّه لا مجال لاستصحاب المعلّق ...
نعم يكون الأمر
كذلك ، أي استصحاب الأحكام المعلّقة يجري ولكن هذا
الاستصحاب يبتلى
دائما بالمعارض الذي يكون ضدّه ، إذ استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان للعصير
الزبيبي يعارض باستصحاب حليّته المطلقة لأنّ العصير الزبيبي حلال فعلا ، وبعد
الغليان شك في حرمته وفي ارتفاع حليته بالغليان فنستصحب بقاء حرمته في صورة الشك
فيها لأنّه حال عنبيته إذا غلى حرام قطعا وهو حرام حال زبيبيته في صورة الغليان
أيضا ، ولكن هذا معارض باستصحاب حلّيته الفعلية المطلقة قبل الغليان.
مثلا نقول في
المثال المتقدّم : إذا جف ماء العنب وصار زبيبا وأجرينا استصحاب حرمة العصير في
صورة الغليان ونقول : ان العصير الزبيبي إذا غلى حرام أيضا كما أنّه حرام حال
عنبيته إذا غلى ويكون في عرض هذا الاستصحاب استصحاب حلية العصير حال عنبيته وهذا
الاستصحاب غير معلّق بشيء وهو يعارض مع الاستصحاب التعليقي ونفس هذا التعارض مانع
عن اجراء استصحاب حكم التعليقي.
الجواب عنه
قوله
: قلت لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض ...
أجاب المصنّف قدسسره بأن استصحاب حكم الفعلي لا يضرّ باستصحاب حكم التعليقي
بحيث لا يصلح هذا الاستصحاب للمانعية لاجراء استصحاب حكم التعليقي.
توضيح المراد
ان العنب قبل أن
يصير زبيبا كان له حرمة معلّقة على الغليان ويلازم ثبوت هذه الحرمة المعلّقة ثبوت
حلية مغياة بالغليان ، أي ماء العنب حلال إذا لم يغل ،
والوجه هو تضاد
الحكمين وهما الحرمة والحلية وهذا التضاد موجب لتلازم إناطة أحدهما بشيء وإناطة
الآخر بنقيضه.
وعلى هذا فإذا كان
للعنب حرمة منوطة بالغليان كانت له حلية منوطة بعدم الغليان فإذا صار العنب زبيبا
وشك في بقاء الحرمة المنوطة بالغليان شك أيضا في بقاء الحلية المنوطة بعدم الغليان
أعني منها الحلية المغياة بالغليان.
وعلى طبيعة الحال
كما يصح استصحاب الحرمة المذكورة يصح استصحاب الحلية المذكورة ولا تعارض بين
الاستصحابين لعدم العلم بمخالفة أحدهما ، بل يجوز مطابقتهما معا للواقع. وكيف يكون
بينهما تعارض مع تلازم مؤداهما.
وبتقرير آخر وهو
أنّه لا يضرّ استصحاب الحلية المطلقة على نحو كانت ثابتة في حال العنبية فانّها
وإن كانت مطلقة غير معلّقة بالغليان في تلك الحالة ، ولكنّها كانت مغيّاة بعدم
الغليان ، إذ قال المولى : العصير العنبي حلال ما دام لم يغل ؛ ومن الواضح ان
الحلية المغياة بعدم الغليان لا تنافي الحرمة المعلّقة على الغليان وإن كانت
الحلية الكذائية ثابتة في حال الزبيبية بالقطع واليقين فضلا عمّا إذا كان ثبوتها
فيه بالاستصحاب.
فالنتيجة ان
الحلية المطلقة والحرمة المعلّقة بالغليان ثابتتان في حال العنبية بالقطع ، فكذلك
تكونان ثابتتين في حال الزبيبية بالاستصحاب من دون تضاد بينهما أصلا وبلا تناف
أبدا ، إذ مقتضى عدم التنافي بينهما انتفاء حكم المطلق بمجرّد تحقّق الغليان
فتكونان في حالتين ، أي الحلية تكون في حال عدم الغليان والحرمة تكون في حال
الغليان ، فالغليان كما كان شرطا للحرمة كان غاية للحلية في نحو العصير العنبي
حلال إذا لم يغل امّا إذا غلى فهو حرام.
قوله
: فيكون الشك في حليته ، أو حرمته فعلا بعد عروضها ...
أي يكون الشك في
حلية العصير ، أو حرمته فعلا بعد عروض الحالة الزبيبية
متّحدا خارجا مع
الشك في بقاء العصير على ما كان عليه من الحلية والحرمة في حال العنبية وهما عبارة
عن الحلّية المغيّاة بالغليان والحرمة المعلّقة به ، أي حلية العصير العنبي قبل
الغليان متّحد خارجا مع حلّية العصر الزبيبي قبله وحرمة العصير العنبي بعد الغليان
متّحد خارجا مع حرمة العصير الزبيبي بعده ، إذ الاتحاد المذكور يكون مقتضى نحو
ثبوت الحلية والحرمة ، أي الحلية الفعلية المطلقة المغياة والحرمة المعلقة سواء
كان ثبوتهما بدليلهما كما في حال العنبية ، أم كان بدليل الاستصحاب كما في حال
الزبيبية ، إذ حلية عصير الزبيبي ثبتت بالاستصحاب كما ان حرمته ثبتت بالاستصحاب
ايضا ، إذ عصير العنبي حلال يقينا لوجود الدليل المعتبر على حليته وإذا جف العنب
وصار زبيبا فقد نشك في حرمة عصيره إذا غلى فنستصحب حرمته واستمرها لأن العصير في
حال العنبية إذا غلى حرام قطعا لوجود الدليل المعتبر على حرمته بل على نجاسته وإذا
نشك في بقاء الحرمة وزوالها إذا غلى عصير الزبيبي فالاستصحاب حاكم على بقاء
الحرمة.
والحال ان العنب
والزبيب يعدّان شيئا واحدا بنظر أهل العرف وهو ملاك في جريان الاستصحاب كما تقدّم
هذا في ضمن التنبيه الثالث ، لا الدقة العقلية.
وعلى طبيعة الحال
فانقدح لك ممّا تقدّم ثبوت التلازم بين استصحاب حرمته أي حرمة العصير الزبيبي ،
واستصحاب حليّته المغياة بالغليان كما لا يخفى هذا بأدنى التفات على ذوي الألباب ،
أي لا يخفى هذا التلازم على العقلاء بما هو عقلاء.
قوله
: فالتفت ولا تغفل ...
وهو إشارة إلى ان
اتحاد الشك في الحرمة والحلية الفعليتين مع الشك في بقاء الحرمة المعلّقة والحلية
المغياة بالغليان يكون أولى من دعوى اتحاد حكم العصير في حال العنبية وفي حال
الزبيبية بعد تبدّل العنبية إلى الزبيبية ، إذ الشك في حرمة عصير الزبيبي بعد
الغليان مسبّب عن الشك في بقاء الحرمة المعلّقة بالغليان ، أي
الحرمة التعليقية
كما تكون في ماء العنب فلو كانت في ماء الزبيب فلا محالة ترتفع الحلّية بسبب
الغليان.
وعلى هذا يكون
الشك في الحرمة المعلّقة سببا للشك في ارتفاع الحلية بواسطة الغليان في ماء
الزبيب. فالأصل السببي مقدّم على الأصل المسببي فاستصحاب الحرمة التعليقية مقدّم
على استصحاب الاباحة والحلية ، مثلا إذا غلى ماء الزبيب فقد حصل لنا الشك في حرمته
وحليته لفقد النص الدال على احداهما. فنستصحب حرمته ونقول : ان ماء العنب إذا غلى
فهو حرام قطعا وكذا ماء الزبيب إذا غلى فهو حرام أيضا للاستصحاب ولا يجري استصحاب
حليته ونقول : ان ماء العنب قبل الغليان حلال قطعا وكذا ماء الزبيب حرفا بحرف
والوجه ما تقدّم آنفا.
استصحاب الحكم من الشرائع الماضية
قوله
: السادس لا فرق أيضا بين أن يكون المتيقّن ...
قال المصنّف قدسسره : لا فرق في حجّية الاستصحاب بين أن يكون المتيقّن من
أحكام الشريعة الإسلامية ؛ ومن أحكام الشريعة الماضية ، مثلا : إذا شككنا في بقاء
الحكم الذي ثبت في الشريعة السابقة وارتفاعه لأجل نسخه في الشريعة الغرّاء
الإسلامية فيجري استصحاب بقائه ، إذ عموم أدلّة الاستصحاب يقتضي ذلك الاستصحاب ؛
ولفساد توهّم اختلال أركان الاستصحاب فيما كان المتيقّن من أحكام الشريعة السابقة.
وامّا بيان توهّم
اختلال أركان الاستصحاب فلا بدّ من أن يكون أحد الأمرين :
الأوّل : انّه لا
يكون لنا يقين بثبوت أحكام الشرائع السابقة في حقّنا وإن كان ثبوتها في حق أفراد
الامم الماضية معلوما.
فالنتيجة إذا لم يكن اليقين بالثبوت فلم يكن الشك في البقاء أصلا بل
هو منتف قهرا ، بل يكون الشك في ثبوت مثل تلك الأحكام في حقّنا لا في بقائها في
حقّنا ، إذ لازم عدم اليقين بثبوتها في حقّنا هو عدم كون الشك في بقائها في حق
المكلّفين بالأحكام الاسلامية ، كما لا يخفى على الناقد البصير.
الثاني : لليقين
بارتفاع أحكام الشرائع الماضية بسبب نسخها بالشريعة الأحمدية. وعلى طبيعة الحال
فلا شك لنا في بقائها حين ارتفاعها بالنسخ.
وفي ضوء هذا فلا
شك في بقائها وإن سلمنا ثبوتها في حقّنا على نحو اليقين ، ولكن وجه فساد أوّل
الاختلال وهو عدم اليقين بثبوت احكام الشرائع السابقة في حقّنا.
ان الحكم الثابت
في الشرائع السابقة لم يكن ثابتا لخصوص الأفراد الموجودين في الخارج بنحو القضية
الخارجية نحو البصريون قد جاءوا إلى كربلاء المعلى ، والكوفيون قد ذهبوا من النجف
الأشرف إلى قم المقدّسة مثلا ونحوهما من القضايا الخارجية كي يقال : ان الحكم الثابت
في حق جماعة من الامم الماضية لا يمكن اثباته في حق آخرين وتلك كأفراد الامّة
الإسلامية لأجل تغاير الموضوع ، بل الحكم كان ثابتا لعامّة الأفراد إلى يوم
القيامة كانوا موجودين في زمان جعل الحكم والقانون ، أم كانوا مفروضين من حيث
الوجود بنحو القضية الحقيقية مثل قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) ونحوهما ممّا كان الحكم فيه شاملا لجميع الأفراد إلى لقاء
الباري (عزّ اسمه).
وعليه فإن كان
الأفراد موجودين حين صدور الحكم وجعل القانون الإلهي كان الحكم الثابت لهم فعليا ،
وان كانوا مقدرين مفروضين من حيث الوجود كان الحكم الثابت لهم تقديريا ، أي كما لو
وجد الشيء في الخارج وكان إنسانا فهو على تقدير وجوده في الخارج لفي خسر وطغيان.
امّا بخلاف الحكم في القضية
الخارجية فانّه
مختص بالأفراد الخارجية المحقّقة في الخارج دون غيرها كاختصاص المجيء والذهاب في
المثال المتقدّم بالأفراد المحقّقة في الخارج.
وعليه إذا شك في
بقاء الحكم بالإضافة إلى أفراد الامّة الإسلامية لأجل احتمال نسخه بسبب الشريعة
الغراء الإسلامية فيستصحب لتمامية أركانه ، إذ قبل الشريعة الإسلامية أحكام
الشرائع السابقة ثابتة في حقّنا قطعا وبعدها نشك في بقائها وارتفاعها لأجل احتمال
نسخها بسبب الشريعة الأحمدية فيتمّ اليقين السابق والشك اللاحق.
وإلى هذا أشار
المصنّف قدسسره بقوله : وذلك لأنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة.
ثمّ أيّد المصنّف قدسسره دعواه هذا بقوله : وإلّا لما صح الاستصحاب في الأحكام
الثابتة في هذه الشريعة الإسلامية المقدّسة ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في
زمان ثبوتها.
أي لو كان الحكم
في القضايا الشرعية لخصوص الأفراد الموجودين في الخارج بنحو القضية الخارجية لم
يصح استصحاب الحكم أصلا في شرع الإسلام نظرا إلى تغاير الموضوع ، مثلا : إذا قال
الشارع المقدّس تجب صلاة الجمعة على المكلّفين فلو وجبت على الافراد الموجودين حين
صدور الحكم فلم تكن واجبة على الأفراد المقدرين وجودا.
وحينئذ لا يصح
استصحاب بقاء وجوبها في حق المعدومين حين الجعل في صورة الشك في البقاء لعدم
اليقين بالثبوت في حقّهم لتغاير الموضوع. بل ولا يصح النسخ ، أي نسخ الحكم ،
بالنسبة إلى غير الموجودين في زمان صدور الحكم وجعل القانون الأساسي لأجل تغاير
الموضوع جدّا ، فإنّ المكلف الفعلي لم يكلّف بذلك الحكم حتّى يصح نسخه في حقّه ،
وهذا واضح لا غبار عليه.
فالنتيجة كان الحكم
في الشريعة السابقة ثابتا لعامة أفراد المكلف ممّن وجد في زمان الصدور والجعل ، أو
يوجد إلى قيام يوم الدين والجزاء فكان الشك في بقائه كالشك في بقاء الحكم الثابت
في هذه الشريعة المقدّسة في صحّة جريان الاستصحاب لغير من وجد في زمان ثبوت الحكم
وصدوره كما لا يخفى.
وجه فساد اختلال
الثاني
قوله
: والشريعة السابقة وإن كانت منسوخة ...
أي نمنع كون
الشريعة السابقة منسوخة بتمامها بهذه الشريعة اللاحقة الإسلامية كي لا يمكن لنا
استصحاب حكم من أحكام تلك الشريعة الماضية. ضرورة أن مقتضى نسخ الشريعة السابقة
باللاحقة ليس ارتفاعها بأسرها وتمامها ، بل يكون مقتضاه عدم بقائها بتمامها.
فإن
قيل : العلم الاجمالي
بارتفاع بعض أحكام الشريعة الماضية انّما يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه منها ،
أي يمنع العلم الاجمالي المذكور عن استصحاب الحكم الذي شك في بقائه من أحكام
الشريعة السابقة لاحتمال نسخه بها. وعلى طبيعة الحال فلا يجري الاستصحاب في بقاء
أحكامها.
قلنا
: العلم الاجمالي
المذكور يمنع عنه إذا كان المشكوك من أطراف العلم الاجمالي المذكور آنفا ولا يمنع
عنه فيما إذا لم يكن من أطرافه أصلا ، كما إذا نعلم تفصيلا بمقدار ما علم نسخه
إجمالا نحو عشر أحكام مثلا ، أو نعلم كون العلم الاجمالي بالنسخ في موارد خاصة ليس
المشكوك بقاء منها.
وفي ضوء هذا ليس
المانع بموجود عن جريان الاستصحاب بالإضافة إلى أحكام الشريعة السابقة.
قوله
: وقد علم بارتفاع ما في موارد الاحكام الثابتة ...
والعلم الاجمالي
بارتفاع بعض الأحكام الثابتة في الشريعة السابقة انّما يمنع عن استصحاب ما شك في
بقائه منها إذا كان مشكوك البقاء من أطراف العلم الاجمالي ، واما إذا لم يكن من
أطرافه كما إذا علم تفصيلا بمقدار ما علم إجمالا ارتفاعه وانحل العلم الاجمالي من
أصله إلى العلم التفصيلي بمقدار المعلوم بالاجمال والشك البدوي في غيره ، أو كان
العلم الاجمالي بالارتفاع في موارد خاصة لم يكن ما شك في بقائه منها فلا يكاد يمنع
عن استصحاب المشكوك بقاء.
والمقام من قبيل
الثاني ، فانّ العلم الاجمالي بالارتفاع انّما هو في موارد الاحكام الثابتة في هذه
الشريعة الاسلامية بالأدلّة الاجتهادية من الآيات القرآنية والأخبار المروية عن
النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام.
ففيها نعلم إجمالا
بارتفاع بعض أحكام الشريعة الماضية لا في غيرها ففي موارد العلم الاجمالي
بالارتفاع والنسخ لا حاجة لنا إلى استصحاب الحكم من الشريعة السابقة ، إذ المفروض
ثبوت الحكم فيه في شرعنا بالدليل الاجتهادي وفيما نحتاج إلى استصحاب الحكم من
الشريعة السابقة لا علم إجمالي لنا بالارتفاع كي يمنع هذا العلم عن استصحاب الحكم
وبقائه.
استصحاب الشرائع السابقة
فالنتيجة أنّه قد
علم تفصيلا بارتفاع الحكم الذي يكون في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.
وعليه فلا يحصل
العلم الاجمالي بالنسخ والارتفاع للمنع عن جريان
الاستصحاب في
المشكوك بقاء كما لا يخفى.
قوله
: ثم لا يخفى أنّه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلّامة ...
قال المصنّف قدسسره : يمكن ارجاع ما أفاده شيخنا العلّامة (أعلى الله تعالى في
الجنان مقامه) في الجواب عن الإشكال الأوّل الذي هو عبارة عن نفي اليقين السابق
بثبوت احكام الشرائع السابقة في حقّنا من جهة تغاير الموضوع من الوجه الثاني لأنّ
الشيخ الأنصاري قدسسره أجاب في فوائده عن إشكال نفي اليقين بجوابين :
الأوّل : انّا
نفرض كون الشخص مدركا للشريعتين ، وذلك كسلمان الفارسي رضى الله عنه فلا مانع
حينئذ من أجراء الاستصحاب في حقّه ، إذ لهذا الشخص يقين سابق بثبوت حكم الشريعة
السابقة في حقّه والشك اللاحق ببقائه لاحتمال نسخه بسبب الشريعة اللاحقة.
ويمكن أن يبقى بعض
أهل الشريعة السابقة حين طلوع الشريعة اللاحقة ولا ينعدم بالمرّة. وأمّا الأفراد
الذين لم يدركوا الشريعة السابقة فيثبت أحكام الشريعة الماضية في حقّهم بأدلّة
الاشتراك ، أي اشتراك كل الأفراد في التكليف إلى يوم القيامة ، ولا تثبت في حقّهم
بالاستصحاب كي يرد إشكال اختلال ركن الاستصحاب كما سبق بيان الاختلال.
ولكن المصنّف قدسسره قد اعترض بهذا الجواب وقال : ان هذا الجواب تام مقبول في
حق المدرك للشريعتين معا ، ولكن هو ليس بتام في حق الأفراد الذين لم يدركوهما معا
بل أدركوا صورة اتحاد الاشخاص في الأوصاف والعناوين والشرائط.
وامّا إذا كانوا
مختلفين فيهما ولم يتّحدوا فلا تجري أدلّة الاشتراك في حقّهم كالبالغ العاقل
والبالغ المجنون فلا تجري أدلّة الاشتراك في حق البالغ المجنون لعدم اتحاده مع
العاقل في الأوصاف والشرائط وكذا ما نحن فيه لوجود اليقين السابق
والشك اللاحق للمدرك
ولعدم تحقّقهما لغير المدرك ، إذ ليسوا من أهل الشريعة السابقة ، وسيأتي توضيح
ذلك.
وامّا بيان الجواب
الثاني عن الإشكال المذكور فانّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه
لا مدخل لأشخاصهم فيه كما ان الملكية ثابتة للكلّي في باب الزكاة والوقف العام
فوزان جعل الأحكام والقوانين للمكلّفين وزان جعل الزكاة للفقراء والمساكين مثلا
وجعل الوقف للعناوين الكلية والجهة العامة كالعلماء والزوّار مثلا ، فإنّ الملحوظ
فيها هو الكلّي دون الأشخاص والأفراد.
فالنتيجة يكون
ثبوت المحمولات لموضوعاتها في الشريعة الإلهية من قبيل القضايا الحقيقية لا على
نحو ما يوهمه ظاهر كلام الشيخ الأنصاري من كون الأحكام الشرعية ، أي ثبوت
المحمولات لموضوعاتها من قبيل القضايا الطبيعية التي تكون موضوعاتها نفس الطبائع
بما هي هي ، ومحمولاتها المعقولات الثانوية ، وتلك كالجنسية والنوعية والكلّية نحو
الإنسان نوع والحيوان جنس والفرس كلّي ففيها الحكم ثابت لنفس الطبيعة بما هي هي
ولا يسري إلى الأفراد والأشخاص أصلا ، إذ أفراد الإنسان كزيد وعمر وبكر ونحوها
ليست بنوع حقيقي ولا بنوع إضافي ، وافراد الحيوان كالإنسان والفرس ونحوهما لا تكون
بجنس أصلا ، بل هي أنواع مختلفة بالحقيقة وافراد الفرس كفرس زيد وفرس بكر مثلا لا
تكون كليّة بل هي جزئيات متباينات.
توضيح في طي الوقف
وهو ان الوقف على
نوعين العام والخاص ، والأوّل قد مضى ، والثاني كالوقف للأولاد كما إذا وقف زيد
داره لأولاده فقد حصل الملك لأشخاص الأولاد وليست الملكية للكلّي مع قطع النظر عن
خصوص الأفراد والأشخاص ولا يكون غرض
الشيخ الأنصاري قدسسره ما يوهمه ظاهر كلامه من كون القضايا الشرعية من قبيل
القضايا الطبيعية ضرورة ان التكليف والبعث في الأوامر والزجر في النواهي لا يكاد
يتعلّق بالكلّي على نحو القضايا الطبيعية بحيث لا يكون للأشخاص دخل في التكليف
والبعث والزجر ، بل لا بدّ من تعلّقه بالأشخاص والأفراد ، وكذا الثواب والعقاب
المترتّبان على الطاعة والمعصية مربوطان بالأشخاص والأفراد. ولهذا يقال : زيد
المطيع مستحق للثواب ، ويزيد العاصي مستحق للعقاب. وامّا إذا قيل : إنسان مطيع
يستحق الجنان وعاص النيران فالمراد منه الافراد والأشخاص لا الطبائع لأنّها غير
موجودة في عالم الخارج. والحال ان ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له في الخارج.
وعلى ضوء هذا
الأساس فلا بد من أن يكون غرض الشيخ الأنصاري قدسسره من عدم دخل الأشخاص في الأحكام الإلهية عدم دخل خصوص
الأشخاص الموجودين في زمان جعل أحكام الشرائع الماضية ، إذ برّ الوالدين ولزوم ردّ
الأمانة ومراعاة الوفاء بالعهود والايمان والاخلاص والخلوص بالعبادة و ... ثابتة
لعامّة المكلّفين في كل زمان وعصر إلى قيام الساعة.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى ان
لحاظ الكلّي بما هو كلّي في باب الزكاة والوقف العام لا يخلو عن مناقشة ، إذ لوحظ
الكلّي في هذه الموارد باعتبار وجوده في ضمن الأشخاص والأفراد لا بما هو هو ، إذ
الكلي بما هو هو غير قابل للمالكية. وهذا الأمر واضح لمن له أدنى تحقيق وتدقيق.
قوله
: وامّا ما أفاده من الوجه الأوّل فهو وإن كان ...
فهو وإن كان وجيها
بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في خصوص المدرك للشريعتين ، إلّا أن ما أفاده غير مجد
في حق غير المدرك للشريعتين من المعدومين
حين جعل الشريعة
السابقة ، ولا يكاد شمول أحكام الشريعة السابقة للمعدومين بسبب ضرورة اشتراك الكل
في التكليف واشتراك أهل الشريعة الواحدة في الأحكام الواقعية والظاهرية جميعا ،
لأنّ الاشتراك انّما يكون مع اتحاد الموضوع. وعلى هذا فكما ان استصحاب من أدرك
الشريعتين يتوقّف على كونه متيقّنا بثبوت الحكم له سابقا شاكّا في بقائه لا حقا ؛
فكذا استصحاب من لم يدرك الشريعتين حرفا بحرف ، فقضيّة اشتراك أهل الزمان الواحد
في الشريعة الواحدة ليست إلّا ان الاستصحاب يكون حكم كل الأشخاص الذين كانوا على
يقين بثبوت الحكم سابقا فشكّوا في بقائه لا حقا وليس مقتضى الاشتراك في التكليف
بأن الاستصحاب يكون حكم الكل ولو من لم يكن على يقين بثبوت الحكم سابقا وعلى شك في
بقائه لاحقا كالمعدومين غير المدركين للشريعتين معا للاختلال بيقين السابق كما سبق
تحقيق هذا والتكرار انّما يكون لزيادة الايضاح ، إذ كلّما كرّر قرّر في عالم
الذهن.
الأصول المثبتة
قوله
: السابع لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء ...
البحث في تحقيق
حال الاصول المثبتة ، قال المصنّف قدسسره : انّ مقتضى نهي الشارع المقدّس عن نقض اليقين بالشك وعن
تعبّد الشرعي ببقاء المستصحب في مثل استصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة هو
انشاء وجوب للصلاة المذكورة في ظرف الشك حال كونه مماثلا لوجوبها في السابق. وفي
مثل استصحاب خمرية المائع الخارجي هو إنشاء حرمة للمائع في ظرف الشك حال كونها
مماثلة لحرمته في السابق غير ان وجوب الصلاة ، أو حرمة المائع في السابق كان كل
واحد منهما حكما واقعيا ، وهذا الحكم المنشأ بالاستصحاب حكم ظاهري.
قوله
: كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب ...
إذا فرضنا أن
لوجوب صلاة الجمعة ، أو لحرمة المائع أثر شرعي كوجوب التصدّق بدرهم مثلا مترتّب
على وجوبها بنذر ، أو عهد ، أو يمين بأن قال المكلف : لو كانت صلاة الجمعة واجبة
في عصر الغيبة لنذرت لله تعالى أن أتصدّق بدرهم مثلا ، وكذا الكلام في شبهه ، أو
قال : لو كان هذا المائع الخارجي خمرا لعاهدت بالله تعالى أن أتصدّق بدرهمين مثلا.
فيجب ترتيب هذا الأثر على المستصحب عند استصحاب وجوب صلاة الجمعة ، أو عند استصحاب
خمرية المائع الخارجي.
وكذا يترتّب على
الحكم المنشأ بالاستصحاب من وجوب ، أو حرمة أثره العقلي من وجوب موافقته وحرمة
مخالفته واستحقاق العقوبة على عصيانه فانّهما وإن كانت لوازم عقلية للمستصحب
ولكنّها لوازم مطلق المستصحب وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى في طي التنبيه
السابع.
وعليه فترتّب على
المستصحب الآثار الشرعية والآثار العقلية كما رأيت هذا آنفا.
قوله
: وانّما الإشكال في ترتيب الآثار الشرعية ...
فقد شرع المصنّف قدسسره في تحقيق حال الاصول المثبتة ، وتوضيح المقام : انّ
الإشكال في أن الاستصحاب كما يثبت به نفس المستصحب ، وذلك كوجوب الصلاة وحرمة
المائع الخارجي ، فترتّب عليه آثاره الشرعية فهل يثبت به لوازم المستصحب سواء كان
عقلية ، أم عادية.
وعلى هذا فإذا
شككنا في حياة زيد مثلا واستصحبنا بقاء حياته فكما يثبت بالاستصحاب حياته وترتّب
عليها آثارها الشرعية من حرمة التصرّف في أمواله بالقسمة وغيرها ؛ وحرمة العقد على
زوجاته ووجوب الانفاق من ماله على عياله بشرط اعسارهم ويساره. وهذا لا إشكال فيه.
فهل يترتّب على
حياته إنبات لحيته وأكله وشربه ونومه مثلا ، وإذا استصحبنا بقاء حياة زيد فهل
يترتّب عليها كونه متحيّزا متحرّكا ، أو ساكنا ، وإذا استصحبنا بقاء النهار فهل
يترتّب عليه ملزومه كطلوع الشمس ، أو ملازمه كضياء العالم ويترتّب على الملزوم
أثره الشرعي كوجوب الإمساك وإتيان الظهرين أداء ، وعلى الملازم أثره الشرعي لو كان
له على الفرض ، أم لا.
وقال بعض بالترتيب
لهذه الآثار على المستصحب بالفتح وذهب الأكثر إلى عدم جواز ترتيبها عليه. وهذا
النزاع معروف بالأصل المثبت ، ومن أراد الاطّلاع على موارد الأصل المثبت فليراجع
الرسائل للشيخ الأنصاري قدسسره.
قوله
: ومنشؤه أن مفاد الأخبار هل هو تنزيل ...
وتوضيح المراد :
أن دليل الاستصحاب يحتمل بدوا معاني يختلف مقتضى هذه المعاني من حيث حجّية الأصل
المثبت وعدم حجيته.
الأوّل
: التعبّد
بالمستصحب بلحاظ أثره بلا واسطة لا غيره مثل التعبّد بالطهارة الحدثية المشكوكة
بلحاظ جواز مس كتابة القرآن الكريم مثلا.
الثاني : التعبّد به بلحاظ أثره ولو بواسطة مثل التعبّد بوجود
النار بلحاظ أثر احراق حطب الغير ليترتّب عليه ضمانه بمقتضى القاعدة المشهورة وهي
: من أتلف مال الغير فهو له ضامن.
الثالث : التعبّد بالمستصحب من حيث البقاء وبأثره غير الشرعي
ليترتّب الأثر الشرعي لأثره ؛ فيكون معنى : لا تنقض اليقين بوجود النار ، هو
التعبّد ببقاء النار والاحتراق معا ، فيترتّب الأثر الشرعي للاحتراق كما يترتّب
الأثر الشرعي للنار لأنّ ضمان حطب الغير ، أو خشبه أثر الاحتراق ، والاحتراق أثر
النار فالضمان أثر النار لأنّ أثر الأثر أثر وإذا استصحبنا بقاء النار فيترتّب على
المستصحب الذي هو بقاء النهار أثره وهو الاحتراق ويترتّب عليه الضمان فيترتّب
الضمان على بقاء النار لأنّ
أثر الأثر أثر
والضمان يكون أثرا شرعيا والاحتراق أثرا عقليا.
وإذا كان مفاد
اخبار الباب تنزيل نفس المستصحب فقط والتعبّد به وحده بلحاظ آثاره الشرعية
المترتّبة عليه بلا واسطة فيقتصر حينئذ على ترتّب آثار نفس المستصحب وحده بلا واسطة
؛ وامّا إذا كان مفادها تنزيل المستصحب منزلة الواقع مع أطرافه من اللازم العادي
واللازم العقلي والملازم ، أي كان مفادها تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق ما له من
الأثر الشرعي ولو بواسطة اللازم العادي والعقلي ، أو الملزوم والملازم ، فتترتّب
آثار الأطراف جميعا أيضا ، فالاحتمالات ثلاثة كما قد سبقت آنفا.
قوله
: كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والامارات ...
سيأتي تفصيل الحال
في تنزيل مؤدّيات الطرق والامارات لدى قول المصنّف قدسسره ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول
التعبّدية ، وبين الطرق والامارات إن شاء الله تعالى.
فالنتيجة إذا كان مفاد أخبار الباب تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه
فلم يترتّب عليه ما كان مترتّبا على لوازمه العادية والعقلية لعدم احرازها بالعلم
ولا بالأخبار.
وهذا بخلاف ما إذا
كان تنزيل الشيء المستصحب بلوازمه ، أو بلحاظ ما يعمّ آثار لوازمه فانّه حينئذ
يترتّب باستصحابه ما كان بواسطة لوازمه أشار المصنّف قدسسره إلى الاحتمال الأوّل بقوله : لو كان تنزيل الشيء وحده.
وإلى الاحتمال
الثاني بقوله : بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه.
وإلى الاحتمال
الثالث بقوله : أو بلحاظ ما يعمّم آثار الواسطة.
ولا يخفى عليك
الفرق بين الاحتمال الثاني والاحتمال الثالث. وأمّا توضيح الفرق بينهما فيقال :
انّه على الاحتمال الثاني يترتّب على المستصحب آثاره
الشرعية والعقلية
والعادية ولا تترتّب آثار آثار المستصحب ، وهذا بخلاف الاحتمال الثالث فانّه
تترتّب آثار آثاره ، مثلا إذا استصحبنا بقاء النهار فيترتّب عليه أثره الشرعي وهو
وجوب الامساك مثلا ، وأثره العقلي وهو طلوع الشمس ، وأثره العادي وهو ضياء العالم
، ولكن لا يترتّب على الطلوع أثره وهو نمو النباتات ولا على الضياء أثره وهو
الاستغناء عن المصباح مثلا هذا على الاحتمال الثاني. وامّا على الاحتمال الثالث
فترتّب هذه الآثار على لوازم العقلي والعادي
قوله
: والتحقيق ان الأخبار انّما تدل على التعبّد بما كان ...
وقد شرع المصنّف قدسسره في تعيين الاحتمال الأوّل وتوضيح ذلك أنّه لا مجال للمصير
إلى الاحتمال الثاني لأنّ اليقين في قول المعصوم عليهالسلام : لا تنقض اليقين بالشك لما كان ملحوظا عبرة إلى نفس
المتيقّن لم ينقض إلّا التعبّد به ظاهرا عند الشك في بقائه ، واما الواسطة العقلية
والعادية وكذا ملازمات المستصحب وملزومه فهي أجنبية عن هذا التعبّد فكيف يصح
استفادة التعبّد بها من الدليل وأخبار الباب.
فإن
قيل : لا فرق بين
الواسطة غير الشرعية والواسطة الشرعية ، فكما ان مقتضى التعبّد بشيء التعبّد بأثره
الشرعي فليكن مقتضى التعبّد به التعبّد بأثره غير الشرعي من الأثر العقلي والعادي.
قلنا : الفرق هو ان دليل الاستصحاب كسائر أدلّة الأحكام
الظاهرية والواقعية لما كان واردا في مقام احداث الداعي إلى العمل ، والحال ان
العمل لا يترتّب على نفس الموضوع بل انّما يترتّب على الحكم ، وذلك كترتّب إقامة
الصلاة على وجوبها لا على نفس الصلاة بما هي صلاة ، وكذا الامساك يترتّب على وجوب
الصوم لا على نفس الصوم بما هو صوم.
وعليه كان التعبّد
بالموضوع بقرينة هذا المطلب ظاهرا في التعبّد بحكمه ، مثلا : إذا تعبّدنا الشارع
المقدّس ببقاء كرية الماء الفلاني باستصحاب كريته فقد
تعبدنا بحكم الكر
وهو كونه طاهرا بنفسه ومطهّرا لغيره. اما اللازم العقلي والعادي فلمّا لم يكونا
دخيلين في العمل فلم يكن التعبّد بموضوعهما ظاهرا في التعبّد بهما فليسا موضوعين
للتعبّد أصلا ، هذا ، أي خذ ذا.
ولا مجال أيضا
للمصير إلى الاحتمال الثالث فانّ أثر الواسطة ليس أثرا لنفس المستصحب ، مثلا :
ضمان حطب الغير أثر الاحتراق وليس أثرا للنار وإلّا يلزم أن يكون الضمان محقّقا
إذا تحقّق النار في الخارج وليس الأمر كذلك.
وعلى هذا الأساس
فليس أثر الأثر أثرا إلّا على التجوّز والعناية ، فالتعبّد بوجود النار انّما
يقتضي التعبّد بأثره الشرعي ، ولا يقتضي التعبّد بآثار الاحراق لأنّ المقتضى لذلك
هو التعبّد بالاحراق وهو يتوقّف على جريان الاستصحاب فيه نفسه ، هذا كلّه بناء على
مذاق المصنّف قدسسره من كون مفاد دليل الاستصحاب التعبّد بنفس المتيقّن وهو
يقتضي نفي الأصل المثبت كما لا يخفى.
فلا دلالة للأخبار
، لا صراحة ومطابقة ولا تضمّنا ولا التزاما ولا ظهورا اطلاقيا على تنزيل المتيقّن
سابقا مع لوازمه التي لا تكون متيقنة سابقا ولم يكن المكلّف على يقين منها منزلة
المتيقن لا حقا كما تكون هذه اللوازم التي ليس المكلف على يقين منها محل ثمرة
الخلاف بين الأعلام (رض) في الأصل المثبت ، وكذا لا دلالة للأخبار لا صراحة ولا
ظهورا على تنزيل المستصحب المتيقّن سابقا المشكوك لا حقا بلحاظ الآثار التي تكون
ثابتة له سواء كان ثبوتها بلا واسطة كآثاره الشرعية ، أم بلا واسطة كآثاره العقلية
والعادية.
وهذا الكلام إشارة
إلى منع الاحتمال الثاني. وعلّله المصنّف قدسسره بقوله : فانّ المتيقّن سابقا ، أي منع هذا الاحتمال انّما
هو من حيث التنزيل بلحاظ آثار نفسه لا بلحاظ آثاره العقلية والعادية.
وأمّا آثار لوازمه
العقلية والعادية فلا دلالة هناك على لحاظ تلك الآثار أصلا
لا صراحة ولا
ظهورا بالإطلاق.
فإن
قيل : يثبت الاطلاق
للاخبار بمقدّمات الحكمة ، وهي عبارة عن كون المولى في مقام البيان ، ولم يكن
القدر المتيقّن في مقام التخاطب. ولم تكن القرينة على التعيين ، وكانت المصلحة في
البيان. فبوسيلة هذه المقدّمات المسمّيات بمقدّمات الحكمة تدل الأخبار على تنزيل
المستصحب المشكوك مع جميع آثاره ولوازمه منزلة المتيقّن سابقا.
قلنا : لا ينعقد الاطلاق للاخبار من حيث الدلالة لوجود القدر
المتيقّن في مقام التخاطب وهو تنزيل المستصحب مع آثاره الشرعية منزلة المتيقّن
كتنزيل الحياة المشكوكة مع آثاره الشرعية منزلة الحياة المتيقّنة في حرمة التصرّف
في المال وحرمة ازدواج عياله ووجوب الانفاق على عياله وأولاده بشرط اعسارهم و ...
وما لم يثبت لحاظها ، أي لحاظ آثار المستصحب ولوازمه العقلية والعادية بوجه أيضا
لما كان وجه لترتيبها على المستصحب بسبب استصحابه كما لا يخفى.
وانّما قال
المصنّف قدسسره في هذا المقام أيضا : لأنّه أشار بها إلى انّه كما لا
تترتّب آثار نفس المستصحب إلّا بلحاظ نفس المستصحب والتعبّد به كذا لا تترتّب آثار
لوازم المستصحب (بالفتح) إلّا بلحاظ تلك الآثار والتعبّد بها من قبل المقنن
المعظم.
قوله
: نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوسا ، أو محسوبا بنظر العرف ...
نعم إذا كانت
الواسطة خفية وكان الأثر مترتّبا عليها بنحو يكون خفاؤها موجبا لأن يكون الأثر في
نظر العرف أثرا للمستصحب فلا يبعد دلالة دليل الاستصحاب على وجوب ترتّب الأثر
المذكور على المستصحب حينئذ ؛ كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألقته الريح الصرصر مثلا
على أرض متنجّسة جافة
فهذا الثوب يصير
متنجّسا بسبب استصحاب بقاء الرطوبة حين الملاقاة مع الأرض المتنجّسة حال كونها
جافّة. وأمّا إذا كانت رطبة فلا محل لاستصحاب بقاء الرطوبة حين الملاقاة معها ، إذ
هو متنجّس حينئذ سواء كان الثوب جافّا ، أم رطبا.
ولكن نجاسته ليست
أثرا بلا واسطة لرطوبته بل هي أثر واقعا لسراية النجاسة من الأرض المتنجّسة إلى
ملاقيها بواسطة الرطوبة التي كانت في الثوب الملاقى والسراية واسطة عقلية بين
المستصحب الذي هو يكون رطوبة وبين النجاسة التي هي أثر السراية.
لكن يترتّب مع ذلك
المطلب نجاسة الثوب عليه باستصحاب بقاء رطوبته حين الملاقاة للأرض المتنجّسة حال كونها
جافّة بدعوى خفاء الواسطة التي هي عبارة عن السراية بنظر العرف بحيث يرى نجاسة
الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض المذكورة ولا يراها من آثار السراية.
وعلى طبيعة الحال
إذا كانت النجاسة من آثار نفس المستصحب الذي هو عبارة عن الرطوبة عرفا فيشمله دليل
الاستصحاب لأجل اتباع نظر العرف من الخطابات الشرعية.
فالنتيجة ان مفاد
أخبار الباب شمول آثار نفس المستصحب حقيقة كذا يكون مفادها شمول آثار الواسطة
الخفية بنظر العرف حقيقة.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى أن
مفاد دليل الاستصحاب ليس إلّا تنزيل المشكوك لا حقا منزلة المتيقّن سابقا.
ومن الواضح ان
المصحّح للتنزيل المذكور هو جعل أحكام المتيقّن للمشكوك بلا واسطة.
وعلى هذا فلا
يترتّب أثر الواسطة الخفية على المستصحب فيكون الثوب
المذكور طاهرا
لاصالة عدم السراية أولا ولاستصحاب الطهارة ثانيا.
قوله
: كما لا يبعد ترتيب ما كان بواسطة ما لا يمكن ...
كما لا يبعد ترتيب
أثر الواسطة التي لا يمكن التفكيك عقلا ، أو عرفا بينها وبين المستصحب في التنزيل.
ولا يخفى ان مورد
البحث في الأصل المثبت ما إذا كانت الملازمة بين المستصحب وبين لوازمه في البقاء
فقط ، لأنّه لو كانت الملازمة بينهما حدوثا وبقاء لكان اللازم بنفسه متعلّق اليقين
والشك فيجري الاستصحاب في نفس اللازم بلا احتياج إلى الالتزام بالأصل المثبت.
وامّا إذا كانت
الملازمة بينهما في البقاء فقط فاللازم بنفسه لا يكون مجرى للاستصحاب لعدم كونه
متيقّنا سابقا. فهذا هو محل الكلام في اعتبار الأصل المثبت وعدمه وذلك كما إذا
شككنا في وجود الحاجب وعدمه عند الغسل ، فبناء على الأصل المثبت يجري استصحاب عدم
وجود الحاجب ، ويترتّب عليه وصول الماء إلى البشرة فيحكم بصحّة الغسل مع ان وصول
الماء إلى البشرة لم يكن متيقّنا سابقا. وبناء على عدم القول به لا بد من اثبات
وصول الماء إلى البشرة من طريق آخر غير الاستصحاب وإلّا لم يحكم بصحّة الغسل.
وتوضيح النزاع
أنّه هل تترتّب بالاستصحاب الآثار الشرعية المترتّبة على اللوازم العقلية ، أو
العادية ، أم لا ، مثلا إذا استصحبنا بقاء حياة زيد وللحياة آثار شرعية ولوازم
عقلية وعادية ، فالنزاع بين الأعلام (رض) ان حرمة التصرّف في ماله ووجوب الانفاق
منه على عياله هل تترتّب على حياته ، أو تترتّب على انبات لحيته وكونه ملتحيا
وأكلا مثلا وكونه متخيّرا أيضا ، فإذا نزل المستصحب المشكوك منزلة المتيقّن فقد
نزّلت الواسطة منزلته تبعا فيجب ترتيب أثرها على المستصحب قهرا ، ولكن لا بد أن
يكون بين المستصحب وبين الواسطة اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ
وهو عبارة عن
اللازم الذي لا ينفك تصوّره عن تصوّر الملزوم مثل العمى والبصر وحاتم والجود فعدم
التفكيك كما يكون بينهما عرفا كذلك يكون بينهما عقلا وواقعا فصار المستصحب واللازم
كالابوة والبنوة التعبديان بأبوة زيد لعمرو وملازم عرفا للتعبّد ببنوّة عمرو لزيد.
وامّا مثال الشرعي
فنحو عدم التذكية والميتة ، إذ الميتة ملازمة مع عدم التذكية وإذا أجرينا استصحاب
عدم التذكية بالإضافة إلى حيوان فترتّب آثار الميتة عليه ، أي على عدم التذكية
بالنسبة إليه ، وكذا كل الملازم الذي يكون ملازمته واضحا بحيث يكون تنزيل أحدهما
تنزيل الآخر.
وبالجملة في كل
موضع يكون رفع اليد عن آثار الملزوم المستصحب ، أو عن آثار لوازمه نقض اليقين
بالشك عرفا فتترتّب آثار لازم المستصحب على المستصحب.
قوله
: أو بواسطة ما لأجل وضوح لزومه له ...
أي تكون الواسطة
لوضوح لزومها ، أو ملازمتها للمستصحب تعد آثارها عرفا آثارا للمستصحب فتترتّب عليه
بالاستصحاب.
ولكن لا يخفى أن
المصنّف قدسسره قد استثنى من عدم حجّية الأصل المثبت موردين :
أحدهما
: أن تكون الواسطة
خفية بحيث يرى العرف أثرها أثرا للمستصحب وقد سبق مثاله آنفا.
ثانيهما
: أن تكون الواسطة
جلية بحيث يكون الاتصال وجودا وعدما بين الواسطة وبين ذي الواسطة موجودا ولا يمكن
التفكيك بينهما وقد مرّ مثاله أيضا.
ومثّل المصنّف قدسسره في هامش الرسائل بالعلّة والمعلول تارة وبالمتضائفين اخرى
بدعوى ان التفكيك بين العلة والمعلول في التعبّد ممّا لا يمكن عرفا وكذا
التفكيك بين
المتضائفين فإذا دل دليل على التعبّد بأبوّة زيد لعمرو مثلا فيدل على التعبّد
ببنوّة عمرو لزيد فكما يترتّب أثر أبوّة زيد لعمرو كوجوب الانفاق لعمرو مثلا ، كذا
يترتّب أثر بنوّة عمرو لزيد كوجوب إطاعة زيد مثلا لأنّه كما يجب على الأب الانفاق
للابن كذلك يجب على الابن إطاعة الأب والأوّل أثر للأبوّة والثاني أثر للبنوّة
مثلا ، أو تقول ان أثر البنوّة أثر للأبوّة لوضوح الملازمة بينهما فكما يصح انتساب
وجوب الاطاعة إلى البنوّة كذا يصح استنابه إلى الابوة أيضا وكذا الكلام في
الاخوّة.
وعلى ضوء هذا فحق
العبارة يكون هكذا كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه
وبين المستصحب تنزيلا كما لا تفكيك بينهما واقعا لأجل وضوح لزومه له ، أو ملازمته
بحيث عدّ أثر اللازم أثرا له وللمستصحب أيضا فيترتّب الأثر عليه فإنّ عدم ترتيب
مثل هذا الأثر على اللازم يكون نقضا للمتيقّن بالمشكوك وليقينه بالشك أيضا بحسب ما
يفهم من النهي عن نقض اليقين عرفا.
وقوله أيضا إشارة
إلى ان عدم ترتيب أثر نفس المستصحب عليه نقض ليقينه بشكّه كذلك يكون عدم ترتيب أثر
الواسطة الجلية على المستصحب نقض لليقين بالشك ، كما سيصرّح المصنّف قدسسره في سطر آخر التنبيه باستثناء الموردين فالعبارة المذكورة
في الكتاب من طغيان القلم كما لا يخفى.
قوله
: فافهم ...
وهو إشارة إلى ان
لزوم ترتيب آثار الواسطة غير الشرعية يتم إذا كان الدليل دالا على التعبّد به
بالخصوص كما لو قال المولى : زيد أب لعمرو. وامّا لو كان التنزيل بلسان العموم كما
في المقام فلا دلالة له على لزوم ترتيب آثار الواسطة غير الشرعية من العقلية
والعادية.
قوله
؛ ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاصول ...
وحيث ان المشهور
بين الأعلام (رض) حجّية مثبتات الامارات دون مثبتات الاصول والحال ان كليهما
دليلان تعبّديان فلا بد من بيان الفرق بين الأصل والامارة ثم يبان وجه حجية مثبتات
الامارة دون الأصل فيقال : المشهور بينهم ان الفرق بين الاصول والامارات ان الجهل
بالواقع مأخوذ في موضوع الاصول والشك فيه ملحوظ في موضوع الاستصحاب دون الامارات ،
بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلّة حجّية الامارات هو نفس الذات بلا تقييد بالجهل
والشك كما في قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فانّ الموضوع للحجّية بمفاد المفهوم هو إتيان غير الفاسق
بالنبإ من دون اعتبار الجهل فيه. وكذا قوله عليهالسلام : لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا فان موضوع
الحجّية فيه هو رواية الثقة بلا تقييد بأمر آخر هذا هو المشهور بينهم. هذا أوّلا
وثانيا : الفرق
بينهما ان كل واحد من الطريق والامارة كما يحكى عن المؤدى ويشير إليه فلا جرم من
أن يكشف عن ملزوماته ولوازمه وملازماته وان يشير إليها ، وإذا كان الأمر كذلك كان
مقتضى اطلاق دليل اعتبار الطرق والامارات لزوم تصديقها في حكايتها عن المؤدى
والملزومات واللوازم والملازمات ومقتضى لزوم التصديق حجّية المثبت منها ، أي
تترتّب آثار المؤدى عليه وتترتّب آثار الواسطة عليه كما لا يخفى بخلاف دليل
الاستصحاب فانّه لا بد من الاقتصار بما ثابت في الدليل من الدلالة على التعبّد
بثبوت المستصحب فقط ، ولا دلالة للاستصحاب لا صراحة ولا ظهورا إلّا على التعبّد
بثبوت المشكوك واقعا تعبّدا من جهة تنزيله منزلة المتيقّن وهذا التنزيل انّما يكون
بلحاظ ترتّب أثر المشكوك لاحقا عليه كما عرفته سابقا فلا دلالة للاستصحاب على
اعتبار المثبت منه كسائر الاصول التعبّدية كأصالة الطهارة واصالة البراءة ونحوهما
، إلّا فيما عدّ أثر الواسطة أثرا لذي الواسطة امّا لأجل خفاء الواسطة بنظر العرف
، وامّا لأجل جلاء الواسطة حسبما حقّقناه
سابقا.
وهذا الكلام منه
إشارة إلى حجّية الأصل المثبت في موردين قد مرّ تحقيقهما فلا حاجة إلى الإعادة.
وامّا الفرق بين
الطرق والامارات ان الطرق مثبتة للاحكام الشرعية كالأخبار الآحاد والامارات مثبتة
للموضوعات كالبيّنة الدالّة على عدالة زيد بن أرقم وقد سبق هذا الفرق في الجزء
الأوّل من هذا الكتاب.
تمّ الجزء الرابع
بعون الله تبارك وتعالى في بلدة قم المشرّفة حرم الأئمة الأطهار عليهمالسلام في شهر محرّم الحرام ليلة الخميس سنة ١٤٢٠ الهجري القمري
على مهاجرها أفضل الصلاة وأتمّ السلام ، والحمد لله تعالى كما هو أهله وصلّى الله
تعالى على النبي المصطفى وآله الأطهار المعصومين. آمين. ثمّ على جميع الأنبياء
والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين والعلماء الربّانيين. اللهم اغفر للمؤمنين
والمؤمنات ولي ولوالديّ يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم أجعل عواقب
أمورنا خيرا.
فهرس المحتويات
اصالة الاشتغال.................................................................. ٥
عدم التفاوت بين المحصور وغير المحصور............................................ ١٣
الشبهة غير المحصورة............................................................. ١٤
بطلان التفصيل بين المخالفة والموافقة القطعيتين..................................... ١٥
هل يجب الاحتياط في الأطراف التدريجية.......................................... ١٦
الاضطرار إلى بعض الأطراف معيّنا ، أو مردّدا...................................... ١٩
الاضطرار إلى واحد معيّن........................................................ ٢٠
الاضطرار إلى بعض الأطراف..................................................... ٢٢
الشبهة غير المحصورة............................................................. ٢٧
الملاقي لأحد أطراف العلم الاجمالي............................................... ٣١
الأقل والأكثر الارتباطيين........................................................ ٣٦
شبهة الغرض................................................................... ٤٠
توضيح في طي الوجوب الغيري والوجوب الضمني................................... ٤٦
البراءة الشرعية................................................................. ٥١
التمسك بالاستصحاب......................................................... ٥٤
الشك في القيد للمأمور به....................................................... ٥٥
حكم الشك في الشرطية والخصوصية.............................................. ٥٦
في نقيصة الجزء سهوا............................................................ ٥٩
حكم ناسي الجزئية.............................................................. ٦١
حكم الزيادة................................................................... ٦٤
في زيادة الجزء عمدا ، أو سهوا.................................................... ٦٥
استصحاب الصحّة............................................................. ٧١
الشك في اطلاق الجزء ، أو الشرط لحال العجز..................................... ٧٣
الشك في اطلاق الجزئية والشرطية................................................. ٧٤
استصحاب الوجود............................................................. ٧٧
قاعدة الميسور.................................................................. ٨٠
بيان التوسعة وتضييق الروايات.................................................... ٨٧
دوران الأمر بين الجزئية أو الشرطية والمانعية أو القاطعية.............................. ٩٥
شرائط الاصول العملية وبيان شرط الاحتياط....................................... ٩٧
اشتراط البراءة العقلية بالفحص................................................. ١٠٠
اشتراط البراءة النقلية بالفحص.................................................. ١٠٠
وجوب التعلّم................................................................. ١٠٣
اشتراط التخيير العقلي بالفحص................................................ ١٠٧
بيان العمل بالبراءة قبل الفحص من الاحكام..................................... ١٠٨
إشكال وجوب التعلّم في المشروط والموقت........................................ ١١٠
حكم العمل قبل الفحص...................................................... ١١٢
صحّة العمل قبل الفحص في القصر والتمام والجهر والاخفات....................... ١١٦
شروط البراءة................................................................. ١٢٢
قاعدة نفي الضرر............................................................. ١٢٨
بيان مفاد القاعدة............................................................. ١٣١
بيان نسبة القاعدة مع أدلّة الأحكام الأولية ، أو الثانوية........................... ١٣٩
تعارض الضررين.............................................................. ١٤٤
الاستصحاب وتعريفه.......................................................... ١٤٩
كون المسألة أصولية........................................................... ١٥٥
الامور المعتبرة في الاستصحاب.................................................. ١٥٦
تفصيل الاخباريين بين الحكم الشرعي وغيره...................................... ١٥٨
استصحاب حكم الشرع المستند إلى حكم العقل.................................. ١٦٠
تفصيل الشيخ الأنصارى بين ما كان مدركه العقل ، أو النقل....................... ١٦٣
الاستدلال على حجّية الاستصحاب بالأخبار.................................... ١٧٦
تقريب الاستدلال بالاخبار..................................................... ١٧٨
تفصيل الشيخ بين الشك في المقتضى والشك في الرافع............................. ١٨٧
بيان الهيئة.................................................................... ١٩٥
المراد من نقض اليقين.......................................................... ١٩٨
دفع توهم اختصاص الاستصحاب بالموضوعات................................... ٢٠٢
الاستدلال برواية زرارة......................................................... ٢٠٤
الاستدلال برواية محمّد بن مسلم................................................ ٢٢٤
توضيح : في طي الاتحاد بين اليقين والمتيقن والشك والمشكوك....................... ٢٢٦
استدلال النافين لحجّية الاستصحاب............................................ ٢٣٧
اختلاف التكليف والوضع..................................................... ٢٣٩
التحقيق في الأحكام الوضعية................................................... ٢٥١
تنبيهات الاستصحاب......................................................... ٢٦٤
أقسام الاستصحاب الكلّي..................................................... ٢٧٤
القسم الأوّل : من استصحاب الكلّي........................................... ٢٧٤
القسم الثالث : من استصحاب الكلّي.......................................... ٢٧٩
بيان علّة عدم الجريان.......................................................... ٢٨٣
استصحاب الامور التدريجية.................................................... ٢٨٦
استصحاب المقيّد بالزمان...................................................... ٢٩٣
علّة عدم جريان الاستصحابين.................................................. ٢٩٨
الاستصحاب التعليقي......................................................... ٣٠٢
استصحاب الحكم من الشرائع الماضية........................................... ٣٠٨
استصحاب الشرائع السابقة.................................................... ٣١٢
توضيح في طي الوقف......................................................... ٣١٤
الأصول المثبتة................................................................ ٣١٦
جدول الخطاء والصواب للجزء الأوّل............................................. ٣٢٩
جدول الخطاء والصواب للجزء الثاني............................................. ٣٣٥
فهرس المحتويات............................................................... ٣٤٠
|