

بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا
ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله
على اعدائهم اجمعين من الآن الى يوم الدين
اما
بعد ...
فلا يخفى على اهل
الفن والفقهاء الكرام والاصوليين العظام أن مفتاح العلم لاستنباط الاحكام الشرعية
هو العلم باصول الفقه ، وفي هذا الفن الشريف صنفت كتب قيّمة ولكن عميقها كتاب
كفاية الاصول وهو الاثر الدائم للمرحوم الآخوند الخراساني وهو بحر عميق يستخرج
الغواصون منه اللؤلؤ والمرجان وهو محور دروس الخارج في الحوزات العلمية وفي طول
التاريخ صنفت عليه الشروح المتعددة وكل واحد منها حاو لابحاث منها ريح التحقيق
تفوح ولكن من جملتها الشرح الذي ألّفه الشيخ علي العارفي المسمى ب (البداية في
توضيح الكفاية) وقد أمعنت النظر فيه ووجدته حاويا لنكات وامثلة متنوعة بل وجدته
قليل النظير وهو مفيد للطلاب والمحصلين زادهم الله توفيقا وأرجو من الله تعالى أن
يزيد في توفيق المؤلف لما تجشمه من صعاب في تنظيم هذا الشرح الدقيق والتوضيح
الشافي وأدعو الله ان يزيد من امثاله انه سميع مجيب ...
|
قم المقدسة
علي محمدي خراساني
|
شكر وتقدير
|
لما كان
الاعتراف بالجميل من اقدس
الواجبات وأوجب
الفرائض ، فاني ارفع
آيات الشكر
والثناء والتقدير الى الاستاذ
العلّامة سيد
اسماعيل الگوهري وحاج
اسماعيل
الزّارعي ايدهما الله تعالى
لقيامهما بطبع
هذا الكتاب. وهذه الكلمة
وان لم آت فيها
بما يستحقهما من تكريم ،
إلّا انها رمز
لاعترافي بحسن صنيعهما.
المؤلف
|
|
موضوع علم الاصول
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين وعلى آله المعصومين واللعنة
الدائمة على اعدائهم من الآن الى يوم الدين.
اما بعد فقد رتبت
هذا الجزء المسمى بالبداية في توضيح كفاية الاصول على مقدمة وفصول ، اما المقدمة
ففي بيان اجزاء علم الاصول وهي ثلاثة : الاول موضوعه والثاني مبادئه ، والثالث
مسائله. أما موضوعه فذهب المشهور الى انه الأدلة الاربعة بوصف انها أدلة ، وذهب
صاحب الفصول قدسسره تبعا للمحقق القمي صاحب القوانين قدسسره الى انه الأدلة الاربعة بما هي هي ، اي ذوات الأدلة الاربعة
مع قطع النظر عن وصف دليليتها. وقال المصنف قدسسره : ان موضوعه كلي متحد مع موضوعات مسائل علم الاصول على نحو
اتحاد الكلي مع افراده في الخارج وان كان الكلي يغايرها بحسب المفهوم نحو الانسان
الذي يتحد مع مصاديقه خارجا يغايرها مفهوما ، فالموضوع كلي وان كان لا يتعين رسمه
ولا يعرف اسمه اذ موضوعية الموضوع قائمة بذاته لا باسمه ولا برسمه كما ان دهنية
الدهن قائمة بذاته لا باسمه.
المقدمة :
قوله : اما
المقدمة ففي بيان امور :
الامر
الاول : ان موضوع كل علم
هو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية. ولا بد قبل الشروع في المقصد من معرفة موضوع
كل علم على نحو الكبرى الكلية حتى يعلم موضوع علم الاصول بالبرهان اولا ولئلا يلزم
البحث عن الامر المجهول ثانيا. ومن بيان تعريف علم الاصول كي لا يلزم طلب الاعمى
الشيء المحسوس
بالبصر كالمخيط.
تحقيق المصنف في
موضوع علم الاصول :
ومن بيان غرض العلم
كي لا يلزم طلب الشيء العبث وبلا فائدة ، ولهذا فقد تعرض المصنف قبل الشروع في
المقصد لهذه الأمور ، ولكن يرد على المذهب المشهور اشكال ، لانه يلزم ان يكون
البحث عن حجية ظاهر الكتاب الكريم ، وعن حجية الخبر الواحد ، وعن حجية احد
المتعارضين تعيينا او تخييرا ، وعن حجية الاجماع المنقول ، وعن حجية العقل في
مدركه من الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة والمنفعة والمضرة ، وعن حجية الاصول
العملية من الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير ، لا يكون عن عوارض الأدلة
الاربعة على تقدير ان يكون موضوع علم الاصول الأدلة الاربعة بوصف انها ادلّة ، لان
البحث عن عوارض الموضوع يكون بعنوان مفاد كان الناقصة لا بعنوان كان التامة ،
وعليه يكون البحث عن وجود الأدلة الاربعة التي تكون مفروضة الحجيّة على الحكم
الشرعي التكليفي والوضعي.
فالبحث على هذا
الطريق لا يكون عن العوارض الذاتية للموضوع اذ هو بحث عن وجود الأدلة على الاحكام
الشرعية.
والبحث عن وجودها
عليها يكون بعنوان مفاد كان التامة ، والحال ان البحث عن العوارض الذاتية للموضوع
يكون بعنوان مفاد كان الناقصة ، لان البحث عن عوارض الموضوع واوصافه يكون متأخرا
بمرتبة عن وجود الموضوع. وفي ضوء هذا يخرج بحث الأمور السابقة عن مسائل علم الاصول
بناء على اتحاد موضوع علم الاصول مع موضوعات المسائل على نحو اتحاد الكلي الطبيعي
مع افراده ومصاديقه في الخارج ، ويدخل بحث الأمور المذكورة في المبادئ التصديقية
مع ان البحث عن الأمور المذكورة من مهمات مسائل علم الاصول.
فالبحث على القول
المشهور يكون عن الأدلة التي تكون موجبة لثبوت
المحمول الاوّلي
الذي يكون وجودا للموضوع الذي هو الأدلة الاربعة التي تكون مفروضة الحجيّة ، وكذا
البحث عن الاستلزام العقلي مثل البحث عن ان الامر بشيء أيستلزم الامر بمقدمته أم
لا؟ وان الامر بشيء أيستلزم النهي عن ضده أم لا يكون عن عوارض الأدلة الاربعة؟
وكذا تخرج مباحث
الاصول اللفظية ، كمباحث الاوامر والنواهي ، والحقائق والمجازات ، والكنايات
والاستعارات ، والترادف ، والاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي ، والتماثل والتقابل
، والعام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، عن المسائل ، اي عن
مسائل علم الاصول لانّ البحث عن هذه الأمور لا يكون عن خصوص الالفاظ المذكورة في
الكتاب الكريم والسنة الشريفة بل يعمّ غيرهما من الالفاظ التي هي في كلام متكلّم
غير الله تعالى.
فلذا عدل صاحب
الفصول قدسسره عن هذا المسلك وقال تبعا للمحقّق القمّي انّ موضوع علم
الاصول هو الادلّة الاربعة بما هي هي ، اي ذوات الأدلة مع قطع النظر عن دليليتها ،
حتّى يكون البحث عن حجيّتها عن عوارضها بعنوان مفاد كان الناقصة وهل المركّبة. اذ
البحث يكون حينئذ عن حجيّتها بعد الفراغ عن وجودها ، فيقال ظاهر الكتاب الكريم
موجود على ثبوت الاحكام الشرعية واجب الاتباع من غير حاجة الى الفحص عن القرينة
الدالّة على خلاف الظاهر أم لا؟ والخبر الواحد موجود على ثبوتها أظاهره حجّة من
غير البحث والفحص عن القرينة على خلاف ظاهره أم لا؟ والاجماع الموجود عليه حجّة أم
لا؟ وكذا دليل العقل الموجود عليه واجب الاتباع أم لا؟ فعلى هذا المسلك لا تخرج
الأمور المذكورة المهمّة عن مسائله ولا تدخل في المبادئ التصديقية.
وكذا لا يخرج بحث
الالفاظ عنها ، اذ المقصود الاصلي في هذا الفن هو معرفة عوارض الالفاظ التي وقعت
في الكتاب العزيز والسنّة الشريفة ، والبحث عن غيرها مقدمي وطفيلي.
والقولان مردودان
عند المحقّق صاحب (الكفاية) قدسسره ، وقال انّ موضوعه هو
كلي متحد مع
موضوعات مسائل الفن على نوع اتحاد كلي الطبيعي مع افراده في الخارج ، وان كان
يغايرها مفهوما مثل الانسان الذي يتحد مع مصاديقه فالموضوع كلّي وان كان لم يعيّن
رسمه ولم يعرف اسمه ، لان موضوعية الموضوع قائمة بذاته لا باسمه ورسمه ، كما انّ
دهنية الدهن قائمة بذاته لا باسمه.
وقد استدل على
ردّهما بانّ البحث في المسائل المهمّة لا يكون عن عوارض السنة ان كان المراد منها
قول المعصوم عليهالسلام أو فعله أو تقريره كما هو المصطلح فيها ، لانّ البحث عن
حجيّة خبر الواحد والتعادل والتراجيح او ترجيح احد المتعارضين من حيث السند او
الدلالة لا يكون عن عوارض السنة ولا الكتاب العزيز ولا الاجماع ولا العقل ، لانّ
الخبر سواء كان متواترا او واحدا ليس نفس قول المعصوم عليهالسلام أو فعله أو تقريره ، بل هو حاك عنها ، والحاكي يكون غير
المحكي عنه كما انّ الراوي غير المروي عنه. نعم بعض مبحث التعادل والتراجيح يكون
عن عوارضها وعن عوارض الكتاب الكريم مثل تعارض الخبرين. (مثلا) ورد في الخبر ثمن
العذرة سحت وفي الاخرى لا بأس بثمن العذرة ، أو تعارض القراءتين مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) أو يطهرن بالتشديد أو بالتخفيف ، وكذا تخرج مباحث الالفاظ
ومباحث الاستلزامات العقلية ، مثل اجتماع الامر والنهي في شيء واحد يجوز عقلا أم
لا؟ واشباهه ، لانّ البحث عن هذه الأمور لا يكون عن عوارض الادلّة الاربعة لا بما
هي هي ولا بوصف دليليتها فتخرج عن مسائل فن الاصول.
اذا عرفت ما ذكرنا
فينبغي ان يكون موضوع علم الاصول كليا متحدا مع موضوعات مسائله المختلفة موضوعا
ومحمولا وان كان مقصود الاعلى في هذا الفن معرفة عوارض الادلّة الاربعة. فالبحث لا
يدور مدارها وجودا وعدما كمدار الرحى على القطب.
ثم ذكر مؤيدا على
مسلكه ، وهو تعريف العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الاحكام الشرعية ، ويدلّ عليه
ظهور القواعد في العموم لو لا العهد الذكري
والحضوري والذهني
والخارجي ، فظهر انّ المراد منها كل قاعدة سواء اخذ موضوعها من الادلّة الاربعة أو
من غيرها.
فان قيل : ما
الفرق بين الدليل والتأييد؟ قلنا : في التأييد يكون احتمال الخلاف موجودا دائما اذ
يحتمل ان يكون اللام فيها للعهد الخارجي ، فيكون المقصود منها القواعد التي يؤخذ
موضوعها من الادلّة الاربعة فقط لانّ موضوعات الاحكام ومحمولاتها انّما تؤخذ منها
، أو لاحتمال كون التعريف بالاعم مثل السعدانة نبت وهو لا يبيّن لحقيقة المعرّف ،
سيّما على مبنى صاحب (الكفاية) قدسسره لانّه يقول كلّ التعاريف لفظية ، لانّ الاطلاع على حقيقة
الأشياء مختص بعلّام الغيوب .
ثم قال انّ الصواب
في تعريفه ان يقال انّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط
الاحكام ، او التي ينتهي الفقيه اليها في مقام العمل وتدلّ عليه ثلاثة امور :
الاول
: لعدم اشتمال هذا
على كلمة الممهّدة اذ مناط مسائل الفن وقوعها في طريق الاستنباط ، سواء كانت
وقوعيتها بالفعل أم لا ، اذ القواعد الاصولية التي تقع كبرى القياس لا يترتب عليها
الاستنباط بالفعل الّا اذا انضمت اليها صغرى المأخوذة من الادلّة الاربعة ، فاذا
لم تنضم اليها صغرى كان وقوعها بالقوة ، فلفظ الممهّدة مشتق وهو حقيقة فيمن تلبّس
بالمبدإ في حال النسبة كما سيأتي. فبالنتيجة يستفاد من تعريف المشهور في طريق
الاستنباط بالفعل فقط. امّا على تعريف المصنف فشامل لكلتا الصورتين.
والثاني
: لعدم اشتماله على
كلمة صناعة ، وهي اكمل من لفظ العلم ، لانّ صناعة الشيء تستلزم العلم به ، بخلاف
العلم به اذ هو لا يستلزم صناعته.
والثالث
: يكون تعريف
المشهور غير شامل لمهمّات مسائل الفن ، مثل مباحث الاصول العملية التي هي وظائف
شاك في مقام العمل ، لانّها لا تقع في
__________________
طريق الاستنباط ،
بل هي بانفسها احكام بناء على الجعل للحكم الظاهري في مؤداها ، فلا تقع حينئذ في
طريق الاستنباط. هذا مضافا الى انه يرد عليه اشكال وهو انه لا يشمل حجيّة الظن على
الحكومة والاصول العملية الجارية فى الشبهة الحكمية ، لانّهما لا تقعان في طريق
الاستنباط ، بل بانفسهما حكمان ظاهريان بناء على الجعل للحكم الظاهري في موردهما ،
والحال انّهما من مهمات هذا الفن فلذا زاد فيه قوله : او التي ينتهي اليها كي
يشملهما ، ويخرجان عن الالتزام بالاستطراد.
وقد تم بحث
الامرين (موضوعه وتعريفه) وبقى الثالث وهو (غايته) وهي تعيين الوظيفة في مقام العمل
الذي هو موجب للأمن من العقاب. وحيث انّ الملتفت الى الاحكام والتكاليف يحتمل
العقاب وجدانا فيلزمه العقل بتحصيل مؤمّن منه ، وطريقه منحصر بالبحث عن مسائل الفن
، فيجب الاهتمام بها ، ولكن البحث عنها منحصر بالمجتهد فيجب عليه تنقيحها وتعيين
الوظيفة في مقام العمل لنفسه ولمقلديه للأمن منه. والتحقيق في فساد القولين هو
خروج مبحث الامارات بناء على مذهب المشهور واضح ، لانّ البحث فيها يكون عن
الدليلية ، وهو بحث عن ثبوت الموضوع بعنوان مفاد كان التامة وهل البسيطة ، لا عن
عوارض الموضوع فتدخل في المبادئ التصديقية التي هي واسطة لثبوت المحمول للموضوع.
وخروج بحث التعادل والتراجيح على ما هو المصطلح عندهم من انّ البحث فيهما عن حجيّة
احد الخبرين المتعارضين تعيينا أو تخييرا.
والحال انّ الخبر
لا يكون احد الادلّة اذ هو حاك عن السنة ، وخروج بحث الاستلزامات العقلية كمسألة
اجتماع الامر والنهي مثلا ، اذ البحث فيها عن استحالته عقلا أو امكانه عقلا ولا
يكونان من عوارض الادلّة ، وخروج مسألة حجيّة الخبر الواحد اذ البحث فيها عن عوارض
الخبر الواحد لا السنة ، وخروج مسألة الاصول العملية العقلية والشرعية ، وخروج
مباحث الالفاظ لانّ البحث فيها لا يكون من عوارض الادلّة الاربعة فكلّها تدخل في
المبادئ وتخرج عن المسائل وهو كما ترى فلا يكون الفرق بين مسلك المشهور وقول صاحب
الفصول قدسسره الّا في مسألتين
احداهما حجيّة
ظاهر الكتاب العزيز ، وثانيهما حجيّة العقل ، فانّهما لا يكونان من مسائل الفن على
قول المشهور ، اذ دليليتهما اول الكلام ، ويكونان منها على قول (الفصول) لانهما من
الادلّة الاربعة.
ومن هنا التجأ
الشيخ الانصاري قدسسره ـ مؤيد القول المشهور ـ الى ارجاع البحث عن حجيّة خبر
الواحد الى البحث عن عوارض السنة بهذا القسم وهو أتثبت السنة به أم لا؟ والثبوت
وعدمه من عوارضها وبهذا تدخل في المسائل.
قال صاحب (الكفاية)
قدسسره : هذا غير مفيد ، لانه ان كان المراد من الثبوت هو الواقعي
منه فهو لا يكون من العوارض اذ هو عبارة عن وجود الشيء وهو مفاد كان التامة لا
الناقصة ، وان كان المقصود الثبوت التعبدي الذي هو عبارة عن اعطاء الشارع عنوان
الطريقية والكاشفية للخبر وجعله علما بعد ما لم يكن كذلك فهو ، وان كان مفاد كان
الناقصة ، الّا انه من عوارض الخبر الواحد لا من عوارض السنة ، سواء كانت حجيّة
الخبر الواحد عبارة عن انشاء الحكم الظاهري على طبق الخبر أم كانت عبارة عن المنجّزية
والمعذّرية فقط.
البحث عن العوارض
:
قوله
: عن عوارضه وهي
جمع العارضة أو العارض لان الفواعل جمع الفاعلة أو الفاعل التي هي كل الخارج عن
حقيقة الشيء المحمول عليه ، فيشمل العرضي الذي ينقسم الى الخاص والعام ، الفرق
بينه والعرض انّه يحمل على الشيء والعرض لا يحمل عليه ، فذاك مثل الابيض وهذا مثل
البياض كما قال الحكيم السبزواري :
وعرضي الشيء غير
العرض
|
|
ذا كالبياض ذاك
مثل الابيض
|
وهو قسمان ذاتي
وغريب :
الذاتي على ثلاثة
انواع :
الاول : ما يعرض
لمعروض عليه اولا وبلا واسطة شيء كالتعجب للانسان من حيث هو انسان ، فان قيل انه
يعرضه بواسطة ادراك الأمر الغريب قلنا ان للتعجب
معنيين احدهما هو
ادراك الشيء الغريب. وثانيهما : قبول نفس وانفعاله لهذه الكيفية ، والمقصود هو
الاول ، وهو يعرض له بلا واسطة شيء.
الثاني
: ما يعرض الشيء
بواسطة المساوي الداخلي كالتكلم للانسان بواسطة النطق.
الثالث
: ما يعرضه بواسطة
المساوي الخارجي كالضحك للانسان بواسطة التعجب ، فالناطق يكون مساويا مع الانسان
في المصداق ، وهو داخل في حقيقة الانسان ، والمتعجب يكون مساويا مع الانسان في
المصداق أيضا ، ولكن هو خارج عن حقيقته وماهيته ، فهذه ذاتية بالاتفاق.
واما الغريب فهو
ثلاثة ايضا :
الاول
: ما يعرضه لامر
خارج اعم كالتحيّز للابيض بواسطة الجسم ، وهو الاعم المطلق من الابيض.
الثاني
: ما يعرضه لامر
خارج اخص كالضحك للحيوان بواسطة الانسان ، وهو الاخص المطلق من الحيوان.
الثالث
: ما يعرضه لامر
خارج مباين كالحرارة للماء للنار ، وهو مباين مع الماء. فهذه غريبة بالاتفاق ايضا
، وواحد مختلف فيه وهو ما يعرضه بواسطة الجزء الاعم كالحركة للانسان بواسطة
الحيوان. قال المتقدمون انّه من الغريب وقال المتأخرون انّه من الذاتي.
ولا يخفى ان جزء
الشيء إما أن يكون اعم منه كالحيوان بالاضافة الى الانسان ، واما أن يكون مساويا
معه كالناطق بالاضافة اليه ولا يكون جزء الشيء اخص منه.
اقسام الواسطة :
قوله
: اي بلا واسطة في
العروض اعلم انّ الواسطة تكون ثلاثة انواع :
الاول
: الواسطة في
الثبوت التي ينسب فيها العرض بذي الواسطة حقيقة
وبالواسطة مجازا
كصيرورة وجه الانسان اسود بواسطة الشمس ، فاسناد الاسود الى الشمس يكون مجازا والى
ذي الواسطة وهو وجه الانسان حقيقة.
والثاني
: الواسطة في
الاثبات يحصل من العلم به العلم بشيء آخر كما يحصل من العلم بحرارة جسم زيد العلم
بتعفّن اخلاطه.
والثالث
: الواسطة في العروض
التي ينسب فيها العرض الى الواسطة حقيقة كالسفينة ، والى ذي الواسطة مجازا كالجالس
فيها ، فحمل الحركة عليها على ما هو له وحمل الحركة عليه ـ أي على الجالس ـ على
غير من هو له ، والمقصود هو الثالث في هذا المقام.
اذا عرفت ما ذكرنا
فاعلم انّه لو جعلنا مناط العرض الذاتي امرا مساويا سواء كان داخليا أو خارجيا
بناء على اتحاد موضوع العلم مع موضوعات مسائله عينا ، يلزم خروج جميع المسائل عن
كونها مسائل العلم لانّ الاحكام في علم الفقه تعرض على موضوعاتها بواسطة الأمر
الاعم الخارجي ، وهو المصالح الواقعية والمفاسد الواقعية اللتان توجبان للتشريع ،
وكذا الامر في مسألة حجيّة الخبر الواحد (في مسألة الخبر الواحد) التي تعرض الخبر
بواسطة الأمر المباين وهو جعل الشارع اياه طريقا الى الواقع ، وكذا يخرج نحو
الفاعل مرفوع والمفعول منصوب عن مسائل علم النحو لانّ الرفع والنصب يعرضان عليهما بواسطة
الأمر الخارج الاخص من موضوعه وهو الكلمة ، اذ عنوان الفاعلية والمفعولية اخص منها
وخارج عن حقيقتها ، فلذا جعل مناط العرض الذاتي عدم الواسطة في العروض حتى لا تخرج
الامور المذكورة عنها ، لان الاحكام في علم الفقه تعرض على موضوعاتها بلا واسطة في
العروض ، وكذا سائر العلوم ، اي عن مسائل العلم.
الامر
الثاني : في المسائل ، وهي
القضايا التي يختلف موضوعها ومحمولها والأدلة التي تدل على ثبوته له فهي مبادئ
تصديقية ، ولذا تكون الاحكام احدى مداليل الأدلة ، وتصور الموضوع واجزائه وجزئياته
يسمى بالمبادئ التصورية.
فاجزاء العلوم
ثلاثة : الموضوع والمسائل والمبادئ. مثلا : موضوع علم الفقه
هو افعال المكلف
من حيث الصحة والاقتضاء والتخيير ، ومسائله هي القضايا الكثيرة. والمبادئ
التصديقية منه هي ادلته التي تستنبط منها الاحكام ، والمبادئ التصورية هي تصور
الموضوع ، نحو تصور الصلاة لانها احدى صغريات موضوع علم الفقه الذي هو افعال
المكلفين ، وتصور اجزائه كتصور الركوع والسجود ، وتصور جزئياته كتصور اليومية
والآيات.
بما ذا يتمايز
العلم؟
الامر
الثالث : في تمايز العلوم
، قال الجمهور : إن تمايز العلوم هو بتمايز الموضوع. وقال بعض : هو بتمايز المحمول
وقال المصنف هو بتمايز الغرض وهو الصواب. والاوّلان فاسدان ، اذ بناء على اتحاد
موضوع العلم مع موضوعات مسائله يلزم ان يكون كل باب ، بل كل مسألة ، علما مستقلا
لاختلاف الموضوع والمحمول وهو كما ترى. فالحق هو تمايز العلوم بالاغراض كما انّ
الحق هو اتحاد موضوع العلم مع موضوعات مسائله عينا وان كان يغايرها مفهوما. خلافا
للمنطق حيث يقول انّ موضوع المسألة اما عين موضوع العلم نحو كل جسم فله شكل طبيعي
والجسم هو موضوع علم الحكمة ، أو كان نوعا منه نحو الاسم اما معرب أو مبني والاسم
نوع من الكلمة ، والكلمة هي موضوع علم النحو. أو كان عرضا ذاتيا له نحو كل متحرك
فله ميل ، والحركة عرض ذاتي للجسم الذي هو موضوع الحكمة ، وهذا فاسد منشؤه تحديد
الموضوع وتعيينه. واما ان قلنا بانّه كلي متحد مع موضوعات المسائل فهذه الأمور
تكون من افراده. فتمايز العلوم بتمايز الغرض الذي هو موجب للتدوين. والقدر المشترك
بين المسائل اشتراكها في الغرض.
واستدلّ المصنّف
على مذهبه بوجهين :
الاول
: تحسين العقلاء
تدوين العلوم لاغراض ، وان كانت مسائلها متحدة من حيث الموضوع ، كمسائل الصرف
والنحو ، كما يقال : الكلمة اما ثلاثي أو رباعي ، واما معرب أو مبني ، فهذه مسألة
، وهي باعتبار الاول من الصرف ، وبلحاظ الثاني من
النحو ، ولكن تعدد
الغرض يوجب تعددهما ، اذ الغرض من تدوين التصريف هو حفظ اللسان عن الخطإ في ذات
الكلمة ، والغرض من النحو هو حفظ اللسان عن الخطإ في اوصاف الكلمة من حيث الاعراب
والبناء.
فمثلا : الغرض من علم
التصريف معرفة ذات اللفظ العربي من حيث كونه مفتوح العين أو مضمومها او مكسورها ،
ومن حيث كونه ثلاثيا أو رباعيا ، مبنيا للمعلوم ، او مبنيا للمجهول ، ماضيا أو
مضارعا. فهذه اوصاف ذات الكلمة تعرض عليها قبل تمامها.
والغرض من علم
النحو معرفة اوصاف الكلمة بعد تمامها من حيث كونها معربة أو مبنية ، مرفوعة أو
منصوبة او مجرورة. فهذه الاوصاف تعرض عليها بعد تمامها.
الثاني
: تقبيح العقلاء
تدوين علمين مع وحدة الغرض وان كان موضوع المسائل ومحمولها متعددين كعلم الاصول
مثلا ، اذ الغرض فيه واحد مع اختلاف موضوع مسائله وكذا محمولها ، فاذا قلنا : انّ
تمايز العلوم بتمايز الغرض ، يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل الذي كان له دخل في
الغرضين ، فيصير من مسائل العلمين ، وذلك نحو الامر حقيقة في الوجوب وهو مسألة
لغوية اذ وظيفة اهل اللغة تعيين معاني الكلمات والالفاظ. وهو مسألة اصولية لانّه
يقع في طريق الاستنباط فتداخلا فيها. وتداخل علمين في جميع المسائل ، فيما كان
الغرضان متلازمين هو صرف الفرض. وعلى تحقق هذا الامر لا يحسن تدوين علمين وتسميتها
باسمين بل تدوين علم واحد وتسميته باسم واحد. اما بخلاف التداخل في بعض المسائل
فانّ حسن تدوين علمين مشتركين في مسألة أو ازيد لاجل الغرضين لا يكاد يخفى ، كعلم
الكلام ، وعلم الفقه الذين هما شريكان في مسألة التجري ، ولكن الغرض من الاول
معرفة المبدإ والمعاد ، ومن الثاني معرفة الاحكام فلذا دون العلمان.
الوضع
الامر
الرابع : في الوضع : الذي
هو ارتباط خاص بين اللفظ والمعنى وهو ناشئ من تخصيص اللفظ بالمعنى تارة كما في
الوضع التعييني ، ومن كثرة استعماله فيه اخرى كما في الوضع التعيّني. فاصبح الوضع
قسمين تعيينيا وتعيّنيا.
ولما كان الوضع من
الانشائي الذي يتقوم باللحاظ فلا بد من ان يلاحظ اللفظ والمعنى. والمعنى اما كلي واما
جزئي.
وعلى الاول ، اما
ان يوضع اللفظ للكلي ، واما لمصاديقه ، ويسمى الاول (وهو وضع اللفظ للمعنى الكلي)
بالوضع العام والموضوع له العام كأسماء الاجناس. والثاني (وهو وضع اللفظ لمصاديق
الكلي) بالوضع العام والموضوع له الخاص.
وعلى الثاني اما
ان يوضع للجزئي واما الكلي الذي هو قدر جامع بين الجزئيات. ويسمى الاول بالوضع
الخاص والموضوع له الخاص كالاعلام ، والثاني بالوضع الخاص والموضوع له العام.
فصارت اقسام الوضع اربعة عقلا.
ولكن الرابع (اي
الوضع الخاص والموضوع له العام) غير ممكن لانّ الخاص لا يكون مرآة للعام ولا وجها
له. ولا بد من تصور المعنى اما تفصيلا واما اجمالا ، فالخاص بما هو هو لا يكون
وجها للعام وآلة للحاظه ، اذ الخاص ماهية بشرط شيء والعام ماهية لا بشرط القسمي ،
وبينهما بون بعيد (مانع من اتحادهما). وعن كونه وجها له لا سيّما اذا كان حقيقيا
لانّه يلحظ مع تشخّصه والعام مع كليته وهما متباينان والمباين لا يكون وجها
للمباين الآخر.
فلذا لا يمكن
احتمال الرابع. نعم اذا تصورنا جزئيا بحقيقته فهو يستلزم تصور العام اجمالا ، مثلا
: اذا تصورنا زيدا بانه انسان فقد تصورنا الحيوان في ضمن
الانسان اجمالا ،
وهو كاف في مقام الوضع. ولكن تصوره كذلك غير لازم بل تصوره ـ اي تصور المعنى) بوجه
ما يكفينا في الوضع ، ففي الرابع لا يتصور المعنى لا بنفسه ولا بوجهه. فالفرق واضح
بين تصور الشيء بنفسه وبين تصور الشيء بوجهه ، اذ الاول تفصيلي ، والثاني اجمالي ،
في صورة كون العام وجها للخاص وليس الخاص وجها للعام ، لانّ العام ينطبق على ما
يباينه من افراده ، فالممكن يكون ثلاثة والممتنع واحدا.
اذا عرفت هذا فلا
اشكال لنقل الاقوال في وضع الحروف ، قال الاسترابادي قدسسره : انّه لا معنى له اصلا بل هي علامة على خصوصية المعنى في
مدخوله ، وكون معناه من نقطة او على نقطة او في نقطة ك (من) و (على) و (في) فهي
كالاعراب من الرفع والنصب والجر ، كما انّ الرفع علامة كون المرفوع فاعلا أو مبتدأ
، والنصب علامة كون المنصوب مفعولا أو حالا ، وكذا ال (من) و (الى) علامتان لكون
مدخولهما مبتدأ منه ومنتهى اليه ، وال (في) علامة كون مدخوله ظرفا لما قبله.
وفيه انّه خلاف
اتفاق النحاة على انّ الكلمة امّا اسم وامّا فعل وامّا حرف ، فلو لم يكن للحرف
معنى يلزم ان تكون قسمين لانها لفظ موضوع لمعنى وهو كما ترى هذا اوّلا.
وثانيا : يلزم
التجوز في موارد استعمال الحرف ، لانّ مفهوم لفظ (الدار) في مثل (زيد في الدار) هو
البناء الجوهري المتعارف لا الظرفية.
تحقيق الوضع في
المعنى الحرفي :
وكذا (السطح) في
قولنا (زيد على السطح) لفوق السقف لا الاستعلاء. هذا مضافا الى انّ علائم الاعراب
موضوعة للمعنى ، اذ الرفع دال على فاعلية (زيد) في (قام زيد) أو على مبتدئيته في (زيد
قام). والنصب يدل على مفعوليته في نحو (ضربت زيدا) ، فكذا الحرف وضع لمعنى. واما
اذا قلنا انّ النسبة الكلامية تدل على فاعلية زيد على نحو الصدور في نحو (قام زيد)
، أو على نحو الحلول في نحو (مات
زيد) ، أو على
مفعوليته على نحو الوقوع في نحو (ضربت زيدا) ، أو على نحو الملابسة في المضاف اليه
نحو (غلام زيد) فكان تشبيه الحرف بالاعراب في محله اذ لا معنى حينئذ للاعراب.
وقال شريف السادات
وجماعة انّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص كما انّ المستعمل فيه خاص ايضا. وقال
التفتازاني انّ الوضع والموضوع له فيها عامان والمستعمل فيه خاص. وقال المصنّف انّ
الوضع والموضوع له عامان كما انّ المستعمل فيه عام ولا يكون خاصا لانّ الخصوصية ان
كانت موجبة لكون المعنى الحرفي جزئيا ، فكثيرا ما لا يكون جزئيا بل كليا كوقوعه
عقيب أمر أو نهي نحو (سر من النجف الى قم) لانّ العبد اذا ابتدأ السير من اية نقطة
من نقاط النجف ، وختمه باية نقطة من نقاط قم فقد امتثل الامر واستحق المدح. وكذا
في النهي نحو (لا تسر من قزوين الى طهران).
فلذا قال صاحب
الحاشية ، وهو الشيخ محمد تقي رحمهالله ، على (المعالم) انّ الموضوع له خاص وجعل المستعمل فيه
جزئيا اضافيا ، لانّ السير والمرور لا يتحققان الّا من نقطة معيّنة أو على نقطة
خاصة ، فالنقطة الخاصة جزئي بالاضافة الى النقطة الكلية. وفيه انّ مناط الكلي الذي
هو صدق على الكثير موجود فيه ، اذ الجزئي الاضافي قد يكون كليا ، لانّه يقال على
اخص من شيء كالانسان بالنسبة الى الحيوان ، فلذا كانت النسبة بينه وبين الحقيقي
عموما مطلقا ، وان كانت في الموضوع له أو في المستعمل فيه على الرأيين موجبة ،
لكون المعنى جزئيا ذهنيا اذا لوحظ آليا ، اذ المعنى الحرفي يحتاج ، من حيث التصور
الذهني ، الى المدخول ، كما يحتاج اليه في مقام الاستعمال خارجا ولذا قيل في تعريف
الحرف بانّه ما دلّ على معنى في غيره ، اي بواسطة غيره.
فالحرف مثل العرض
، لكن المعنى الحرفي يفتقر الى الغير ذهنا وخارجا ، والعرض يفتقر الى الموضوع
خارجا لا ذهنا. ولذا قيل في تعريف العرض (ما اذا وجد في الخارج وجد في الموضوع).
فالمعنى الحرفي
صار جزئيا ذهنيا بهذا اللحاظ ، بحيث يباين نفسه اذا لوحظ ثانيا ولو كان اللاحظ
واحدا ، لكون الملحوظات الذهنية متباينات كالجزئيات الخارجية. ولكن ينبغي ان يعلم
انّ اعتبار اللحاظ الذهني جزء للمعنى الحرفي يستلزم ثلاثة اشكالات :
الاول
: انّه مستلزم
للتسلسل. اذ حين استعمال لفظ في معناه لا بد من تصور المعنى فيلزم تعدد اللحاظ حسب
تعدد الاستعمال الى ان ينتهي الى ما لا نهاية له. مضافا الى انّ تعدد اللحاظ يكون
على خلاف الذوق السليم.
الثاني
: انّه يلزم عدم
صدق المعنى الحرفي على الامر الخارجي لامتناع صدق الكلّي العقلي عليه ، حيث أنه لا
موطن له الّا ذهنا ، اي في الذهن.
الثالث
: انّه كما لا يكون
اللحاظ الاستقلالي قيدا لمعنى الاسم ، فكذا اللحاظ الآلي لا يكون جزء للمعنى
الحرفي حتى يصير معنى الاسم والحرف جزئيا ذهنيا. فالتفكيك بينهما تحكّم وهو غير
مسموع. فان قيل انّه لم يبق فرق بين الاسم والحرف ، فيلزم ترادفهما ، ولازمه
استعمال كل منهما في محل الآخر ، فيجوز استعمال لفظ (على) موضع الاستعلاء ، ولفظ (من)
محل الابتداء ، لكنه لا يصح اي باطل ، اذ لا يصح سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة
موضع (من) و (الى). قلنا انه لا فرق بينهما في ذات المعنى وانّما الفرق في كيفية
الوضع ، لانّ الاسم وضع ليراد منه معناه مستقلا ، والحرف وضع ليراد منه آليّا.
فالاختلاف في
كيفية الوضع موجب لعدم جواز استعمال كل منهما موضع الآخر ، فالاستقلالية والآلية
لا تكونان من قيود المعنى ومن مقوماته وهو واضح.
الخبر والانشاء :
قوله
: ثم لا يبعد ان
يكون الاختلاف بين الخبر والانشاء في كيفية الوضع ايضا مع اتحادهما في ذات المعنى.
ولتوضيح هذا نحتاج الى تمهيد مقدمة : وهي انّه تكون للاشياء اربعة وجودات ، الاول
وجود عيني ، والثاني وجود ذهني ، والثالث وجود لفظي ،
والرابع وجود
كتبي. فلا يكون للانشاء الوجود الخارجي العيني اذ هو يكون ايجاد المعنى مقارنا
للفظ ، ولذا لا يحتمل فيه الصدق والكذب ، اذ مناطهما مطابقة النسبة الكلامية
للنسبة الخارجية ، وعدم المطابقة ، اي عدم مطابقتها لها ، فالأول صادق ، والثاني
كاذب.
اذا تمهّد هذا
فنقول : انّ الخبر وضع للاخبار عن ثبوت نسبة في الخارج أو عن نفيها فيه ، والانشاء
وضع لايجاد نسبة أو نفيها فيه. فالفرق في كيفية الوضع. فالملاك فيهما هو القصد ،
اي قصد اللافظ ، فلا فرق بينهما في اصل المعنى ، اذ قصد الحكاية في الخبري وقصد
الايجاد في الانشائي يكونان من خصوصيات الاستعمال ومن اطواره فلا دخل لهما في ذات
المعنى.
المبهمات
قوله : ثم انه قد
انقدح من التحقيق الذي سبق ان يكون الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عامات في
المبهمات ، نحو الضمير واسم الإشارة والموصول ، وتشخّص المعنى نشأ من قبل
الاستعمال. بيان ذلك هو : حيث ان اسماء الإشارة وضعت ليشار بها الى المشار اليه ،
وكذا ضمير الغائب وضمير المخاطب وضعا ليخاطب بهما وليشار بهما ، والإشارة والتخاطب
يقتضيان تشخص المشار اليه والمخاطب.
غاية الامر ان اسم
الإشارة يحتاج الى التشخص الخارجي ، واسم الجنس والمشتق والحروف تحتاج الى التشخص
الذهني. فلا دخل له في المعنى وهو لا يسري الى المعنى فيها ، فلذا لا يكون في كلام
القدماء اثر من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا ، وانما ذهب اليه بعض
المتأخرين ، ولعل منشأه انّ قصد الاستقلالية والآلية من قيود الموضوع له أو من
قيود المستعمل فيه ، والحال انّ قصد المعنى ، سواء كان استقلاليا أم كان آليا ،
وسواء كان اخباريا أم كان انشائيا ، لا يكون من شئون المعنى ومن قيوده ، بل من
شئون الاستعمال واطواره ، فتلخص مما ذكرنا
انّ الوضع
والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف والمبهمات واسم الجنس والمشتقات تكون عامات ،
والتشخّص يكون ناشئا من الاستعمال ، ويستحيل تشخّص المعنى بالتشخّص الناشئ من
الاستعمال ، لاستلزامه الدور بهذا البيان ، وهو انّ تشخّص المعنى موقوف على تشخّص
الاستعمال.
فلو توقّف تشخّص
الاستعمال على تشخّص المعنى لزم الدور وهو محال عقلا كما قرّر في محله ، قوله :
فتأمل في المقام فانّه دقيق وقد زلّ فيه اقدام غير واحد من اهل الذوق والتحقيق.
كيفية استعمال
المجازي :
الامر
الخامس : في كيفية استعمال
المجازي أهو بالوضع أم بالطبع؟ فيه قولان : الاظهر أنه بالطبع ، فاذا وجدت مناسبة
بحكم الطبع بين المعنى الحقيقي والمجازي فهو حسن وان منع الواضع عنه ، واذا لم
توجد لم يحسن وان اجاز الواضع. فحسنه مع منع الواضع على فرض وجود المناسبة
والعلاقة ، وقبحه مع اجازة الواضع. على تقدير عدم المناسبة ، يدلان على عدم توقف
الاستعمال على الوضع. وقال قوم : انّه بالوضع.
وتظهر ثمرة
القولين في الاحتياج الى العلاقة وعدمه اليها ، فان كان بالطبع فلا يحتاج اليها ،
وان كان بالوضع فهو يحتاج اليها. وبيان العلائق موكول الى علم البيان. وكذا
استعمال لفظ في نوعه ومثله يكون بالطبع ويدلّ عليه ايضا حسن استعمال لفظ (رقبة) في
العبد مجازا بعلاقة الجزء والكل ، وقبح استعمال لفظ (قلب) فيه مع وجود العلاقة
المذكورة مع تحقّق الشرطين الآتيين (في القلب ايضا) :
الاول
: ان يكون بين الكل
والجزء تركبا حقيقيا.
الثاني
: ان يكون الجزء من
الرئيسة بحيث اذا انتفى الجزء انتفى الكل. فالشرطان موجودان في (رقبة) و (قلب)
فتكشّف من حسن استعمال الاول وقبح استعمال الثاني انّه يكون بالطبع لا بالوضع.
استعمال اللفظ في
نوعه وصنفه وشخصه :
الامر
السادس : في استعمال لفظ
في نوعه وصنفه ومثله وشخصه انما يكون بالطبع ، وهو الذي يسمى باستعمال لفظ في لفظ.
فاستعمال لفظ قد يكون في معناه وهو امّا حقيقي وامّا مجازي وقد يكون في لفظ آخر
وهو على اربعة انواع :
الاول
: استعمال لفظ في
نوعه نحو (زيد اسم) ولفظ (زيد) استعمل في نوعه الذي يشمل كل (زيد) وامّا تمثيل
المصنّف بضرب مسامحة اذ هو منسلخ عن الفعل لوقوعه مبتدأ فلا يشمل نوعه.
الثاني
: استعماله في صنفه
نحو (زيد) في (ضرب زيد) فاعل ، اذا لم يقصد به شخصه والّا يكون من القسم الرابع ،
فزيد اذا كان فاعلا فهو صنف زيد ، كالرمي مثلا.
الثالث
: استعماله في مثله
نحو استعمال (ضرب) في (ضرب) لان استعمال لفظ في نوعه أو مثله منوط بقصد. اي قصد
المستعمل.
الرابع
: استعماله في شخصه
نحو (زيد لفظ) واريد شخص لفظه ، ويدل عليه انّه لو كان بالوضع لكان المهمل موضوعا
لجواز استعماله في نوعه ومثله وصنفه ، فالتالي باطل فالمقدّم مثله. بيان الملازمة
واضح. (مثال المهمل نحو «ديز» مقلوب زيد).
قال المصنف انّ في
جواز استعمال لفظ في شخصه ، نظرا لاستلزامه احد المحذورين ، اما اتحاد الدال
والمدلول وامّا تركّب القضية من الجزءين كما في الفصول.
بيان
ذلك : انّه ان اعتبرنا
دلالة لفظ زيد على نفسه لزم اتحاد الدال والمدلول وهو باطل ، والّا يلزم تركبها من
الجزءين وهو باطل ايضا. اما بطلان الاتحاد اي اتحاد الدال والمدلول فلاستلزامه
اجتماع الضدين في شيء واحد ، وهما الدال والمدلول ، واما بطلان تركّبه منهما
فلانّه في الملفوظة منها لا بد من تحقق النسبة
الكلامية ، وفي
المعقولة منها لا بد من النسبة الذهنية ، والنسبة لا تتحقّق بدون تحقّق المنتسب
اليه وهو موضوعها ، وبدون المنتسب وهو محمولها.
قلت
: انه نختار ، اولا
، دلالة لفظ (زيد) على شخصه ونلتزم بالتعدد الاعتباري. فمن حيث انّه صادر عن لافظ
فهو دالّ ، ومن حيث انّ شخص لفظ (زيد) مراد اللافظ فهو مدلول ، وهو كاف في المقام.
ونختار عدم دلالته عليه ثانيا فلا يلزم حينئذ تركبها منهما ، اذ الموضوع يكون شخص
لفظ زيد ويكون المحمول منتسبا الى شخصه ونفسه ، غاية الامر كون اللفظ نفسه موضوعا
وعدم كونه حاكيا عن المعنى لعدم قصد معناه كي يكون حاكيا عنه.
قوله
: فافهم وهو
تدقيقي.
فتلخص ممّا ذكرنا
ان الاستعمال المذكور كلا لا يكون من قبيل استعمال لفظ في معناه لتوقفه على لفظ
ومعنى ، ولكن المفروض ارادة شخص لفظ من لفظ ، بل يكون من طريق ايجاد الموضوع
باللفظ ، بل لا يكون منه اذا اريد به نوعه وصنفه ، لان اللفظ فرد للنوع والصنف ولا
يكون معنييهما ، فالموضوع يكون نفس اللفظ الذي يلقى الى السامع قد احضره في ذهنه بلا
حاك عن المعنى.
قوله
: لا لفظه اي فلا
يكون الموضوع لفظا الذي هو حاك عنه اذ لم يستعمل في المعنى حتى يكون حاكيا عنه بل
الموضوع يكون فردا للنوع والصنف ولا يكون معنييهما. فظهر انّ هذا لا يكون استعمالا
متعارفا وهو استعمال لفظ في معناه حقيقيا كان أو مجازيا.
قوله
: اللهمّ الّا ان
يقال انّ لفظ (ضرب) وان كان فردا للنوع اي لنوعه أو لصنفه ولا يكون معناه حتى يكون
من نوع استعمال المتعارف. الّا انّه اذا قصد بلفظ (ضرب) مثلا ، حكاية نوعه أو صنفه
، واذا جعل هذا اللفظ عنوانا لهما يكون لفظ (ضرب) حاكيا منهما ، ويكون لفظ (ضرب) مستعملا
في نوع أو صنف ، فيكون من الاستعمال المتعارف ، وهو استعمال لفظ في معناه لاجل
انطباق الحاكي والمحكي هنا ، كما انهما ينطبقان في استعمال اللفظ في معناه ـ
والحاكي هو اللفظ والمحكي
هو المعنى ـ لا من
باب استعمال لفظ في لفظ كما هو المتعارف عند الاصولي.
وبالجملة فان
جعلنا فردا مرآة للكلي وهو فان فيه كفناء لفظ في معناه لا مصداقا له تكن جميع
الاقسام الاربعة من الاستعمال المتعارف.
أإنّ الدلالة تتبع
الارادة أم لا؟
قوله : الامر
السادس في الدلالة هل تتبع الارادة أم لا؟ اعلم انه لا ريب في كون الفاظ العرب
موضوعة لمعانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظ ، ولا تكون الارادة جزء
المعنى والّا لزم اشكالان :
الاول
: يلزم ان يكون من
قيود الموضوع له لا من قيود الاستعمال ، فلو كان كذلك لزم تعدد اللحاظ والتالي
فاسد فالمقدم مثله ، اذ نقصد المعنى من اللفظ قصدا واحدا ، بل يلزم الدور على هذا
الفرض. بيانه انّ قصد المعنى يتوقف على استعمال لفظ في معناه ، فلو توقّف استعماله
فيه على قصده منه يلزم الدور ، فالتالي محال فالمقدم مثله محال أيضا ، وأما بيان
الملازمة فواضح.
الثاني
: انه يلزم على هذا
ان لا يصح حمل المسند على المسند اليه الّا بالتجريد ، اي تجريد اللفظ عن الارادة
، وهو غير لازم ، بل هو خلاف الوجدان ضرورة. انّ المسند في (نصر زيد عمرا) نفس (نصر)
بلا تجريده عنها ، مضافا الى انه يستلزم انكار عموم الموضوع له ضرورة اخذ مصداق
الارادة قيدا لمعنى وهو جزئي دائما ، لا مفهوم الارادة اخذ قيدا فيه ، اذ هو من
حيث هو لا يكون الّا هو ، لا يكون له عين ولا اثر في الخارج كي يؤخذ قيدا له ، مع
كون عموم الوضع وعموم الموضوع له من المسلّمات.
قوله
: وامّا ما حكي عن
العلمين الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسي رحمهالله من ذهابهما الى انّ الدلالة تتبع الارادة فتوضيحه يفتقر
الى بيان مقدّمة وهي ان الدلالة على قسمين :
الاول
: الدلالة التصورية
التي هي خطور معنى اللفظ والكلام في ذهن
المخاطب ولو كان
صادرا عن حيوان أو عن جماد كالحجر مثلا ، وهذا لا يتوقف على شيء الّا علم السامع
بالوضع.
الثاني
: التصديقية وهي
قسمان : الاول : تصديق السامع على انّ معنى اللفظ مقصود للمتكلم وهو يتوقف على
ارادته لانّه ما دام لم تكن ارادته موجودة لم يمكن تصديق السامع ، ولذا اشترط في
الكلام ان يكون مقصودا حتى يخرج كلام النائم والمجنون والمغمى عليه لعدم قصد ، اي
قصد المعنى من هؤلاء الأشخاص. والثاني : تصديق السامع على انّ النسبة الكلامية
مطابقة للنسبة الواقعية أو غير مطابقة لها. اذا عرفتها فاعلم انّ كلامهما ناظر الى
كون تصديق السامع على انّ معنى الكلام يكون مقصودا للمتكلم متفرعا على ارادة
اللافظ كتفرع مقام الاثبات لمقام الثبوت. مثلا : اذا ثبت القيام لزيد في الواقع
فتقول انّه قائم فظهر ان مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت ، ولا يكون مرادهما انّ
الارادة اخذت قيدا للمعنى ، بل ذات المعنى يكون موضوعا له مجردا عنها.
اذا عرفت هذه
فاعلم انّ الدلالة التصورية لا تتوقف على ازيد من علم السامع بالوضع الذي يوجب
خطور المعنى في ذهنه ولو كان صدور الصوت من الجدار أو من حيوان معلّم أو من وسائل
الصوت التي تعورفت في هذا الزمان.
فتحصّل مما ذكرنا
انّ كلامهما لا يكون ناظرا الى انّ الالفاظ موضوعة لمعانيها بما هي مرادة كما زعم (الفصول)
بل ناظر الى انّ دلالتها عليها ، على انّ معانيها مقصودة للمتكلم تتبع ارادته لها
فالدلالة تابعة والارادة متبوعة.
فان قلت انّه يلزم
عدمها اي عدم الدلالة في الصورتين ، في الاولى : انّه ان اخطأ السامع ، نحو (جاءني
اسد) والمتكلم قصد رجلا شجاعا والسامع قطع حيوانا مفترسا ، فاعتقاده مباين لارادته
، فلم توجد دلالة لفظ الاسد على الحيوان المفترس ، إذ المتكلم لم يرده بل اراد
رجلا شجاعا منه. الثانية : انّه ان اشتبه السامع واعتقد خلاف مقصود المتكلم فلم
توجد الدلالة ايضا. قلنا انّه جهالة ولا يكون دلالة حينئذ اصلا. إذ الملاك ارادة
المتكلم المعنى الذي أراده ، لا إرادة السامع من حيث الخطأ
والاشتباه ، ومن
حيث الارادة ، اي خطأ السامع واشتباهه وارادته فليست الدلالة حينئذ اصلا ، بل
يحسبها الجاهل دلالة ، وأما الفرق بين الخطأ والاشتباه فهو في الاول يكون قاطعا ،
وفي الثاني يكون ظانا على الوجه القوي ، ولا يكون قاطعا.
قوله
: ولعمري ما افاده
العلمان واضح لا غبار عليه ، ولا ينقضي تعجبي كيف رضي صاحب (الفصول) ان يجعل
كلامهما ناظرا الى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل ، بان يقول انّ الارادة تكون قيدا
للموضوع له نقلا عن مثل صاحب (الفصول) الذي هو علم في التحقيق والتدقيق.
وضع المركبات :
قوله : السادس ...
الخ فاعلم انّه لا مجال لتوهم الوضع للمركبات غير وضع مفرداتها مادة وهيئة ، ويكون
الغرض من عقد هذا دفع توهم وضع ثالث لها ، وقبل الشروع في اصل المقصد لا بد من
تمهيد مقدمة وهي انّ محل البحث في وضع المركب ثابت بجميع اجزائه. مثلا : (زيد قائم)
هو مركّب كلامي ، قد وضع لفظ (زيد) لمعناه وهو الذات المعيّن المشخص ، ولفظ (قائم)
وضع لمن صدر عنه القيام ، ولا اشكال فيه ، وانما الكلام في وضع مجموع المركب على
حدة ، اذا تمهد هذا فنقول : انّ كل جملة لها اوضاع باعتبار كل جزء جزء فيكون اقلها
ثلاثة. مثلا : تكون ل (زيد انسان) ثلاثة اوضاع : الاول وضع لفظ (زيد) لمعناه ،
والثاني وضع لفظ انسان لمعناه ، والثالث وضع الهيئة القائمة بهما لمعناها وهو كون
زيد انسانا ، وهكذا الى ان يبلغ الى عشرة اوضاع على اختلاف الدواعي التي توجب
لاختلاف عدد المركب.
فتحصّل مما ذكرنا
انّه لا حاجة الى وضع ثالث له بعد وضع مادته وهيئته لانّه وافٍ بالغرض. فالوضع
الثالث يكون عبثا وقد استدلّ عليه بان وضع الثالث ، اما أن يكون لفائدة اولا ،
والثاني باطل ، فالاول ان كان لفائدة تترتب على مفرداته فهذا تحصيل الحاصل ، وان
كان لفائدة لا تترتب عليها فهذه مفقودة وجدانا ، مضافا الى انه يستلزم دلالة
الكلام على المقصود مرتين وهو خلاف الوجدان ، فانّ السامع لا
يفهم معناه
مرّتين.
قوله
: ولعل المراد من
العبارات ... الخ لعل النزاع يكون لفظيا لان القائل بوضع مجموع المادة والهيئة
بقول بوضع الهيئة على حدة ، فيكون مراده بيان وضع الثاني وضع المادة هو وضع الاول
، والمنكر انكر الوضع الثالث للمركب ، فيكون لفظيا صوريا لا حقيقيا ، لانّ المثبت
اثبت الوضع الثاني ، والمنكر انكر الوضع الثالث للمركب ، فيقبلان الثاني وينكران
الثالث.
علامات الحقيقة
والمجاز :
قوله
: السابع لا يخفى
انّ تبادر المعنى ... الخ الامر السابع في علائم الحقيقة والمجاز وهي اربعة :
الاول
: هو التنصيص وعدمه
يكونان علامة الحقيقة والمجاز على نحو اللفظ والنشر المرتب. فيقال انّه : هل
المراد منه تنصيص واضع اللغة؟ أو تنصيص اهل اللغة؟ فان كان المراد هو الاول فلا
طريق اليه في اللغات القديمة ، وان كان الثاني فلا نسلّم انه يكون من علامات
الحقيقة ، لانّه لا يكون من اهل الخبرة بالوضع ، وانما هو اهلها بالاستعمال ، ولعل
هذا يوجب عدم ذكره هنا.
الثاني
: تبادر المعنى من
اللفظ علامة كونه حقيقة فيه ، كما انّ عدم التبادر علامة المجاز. فان قيل انّه
يلزم الدور اذا كان علامة لها لانه يتوقف على العلم بالوضع ، كما ترى انّه لا
يتبادر المعنى عند الفارسي من اللغة التي لا يعلمها ، فلو توقف العلم بالوضع عليه
يلزم دور لكونه جعل علامة الحقيقة.
قلنا انّه لا يلزم
لانّ العلم التفصيلي بالوضع يتوقف عليه ولكن هو يتوقف على العلم الاجمالي
الارتكازي ، فتغاير العلمين بالاجمال والتفصيل يكفي في رفع غائلة الدور ، وهذا
الجواب يكون متينا اذا كان المقصود به عند المستعلم الذي يريد تمييز الحقيقة عن
المجاز ويجهل بالوضع. واما اذا كان المراد به عند اهل المحاورة الذي يعلم به فيكون
تغاير العلمين امتن لكون علمه تفصيلا.
قوله
: فانّه يقال
الموقوف عليه غير الموقوف عليه ... الخ هذا جواب عن محذورية الدور ، وهو انّ
الموقوف على التبادر هو العلم التفصيلي بالموضوع له ، والتبادر موقوف على العلم
الاجمالي الارتكازي بالموضوع له. بمعنى ان لهذا اللفظ معنى يتبادر منه وان لم
نعلمه تفصيلا.
فالموقوف علم
تفصيلي بالمعنى الموضوع له والموقوف عليه علم اجمالي ارتكازي فلا دور. وهذا متين
اذا كان المقصود به التبادر عند المستعلم ، واما اذا كان المراد به التبادر عند
اهل المحاورة العالم بالوضع فالتغاير اوضح وامتن ، لانّ الموقوف على التبادر هو
علم المستعلم ، والتبادر موقوف على علم اهل المحاورة. فالموقوف هو علم المستعلم ،
والموقوف عليه هو علم اهل المحاورة فلا دور اصلا.
قوله
: ثم ان هذا فيما
لو علم استناد الانسباق الى نفس اللفظ واما فيما احتمل استناده الى قرينة ... الخ
اعلم انه اذا علم ان تبادر المعنى مستند الى حاق اللفظ أو الى القرينة فلا كلام ،
اذ الاول علامة الحقيقة ، والثاني علامة المجاز. واما اذا شك ان تبادر المعنى هل
هو مستند الى حاق اللفظ أو الى القرينة ، فلا ينفع حينئذ اصالة عدم القرينة في
إحراز كون الاستناد الى حاق اللفظ لا الى القرينة. نعم اذا عرف المعنى الحقيقي
واستعمل اللفظ وشك في ارادته منه لاحتمال وجود القرينة الصارفة عنه فحينئذ تجري
اصالة عدم القرينة ويحرز بها ارادة المعنى الحقيقي ، وهذا مقصود المصنف من قوله :
لعدم الدليل عليها الّا في إحراز المراد لا الاستناد.
وبالجملة فالتمسك
باصالة عدم القرينة ينفع فيما اذا علم المعنى الحقيقي وكان الشك في المراد أهو
يكون المعنى الحقيقي أم كان المعنى المجازي؟ ولا ينفع فيما اذا لم يعلم المعنيان
الحقيقي والمجازي وكان الشك في استعمال اللفظ في ايهما. لانّ الاستعمال اعم من
الحقيقة والمجاز عند المشهور الّا عند السيد المرتضى قدسسره لانه يقول : انّ الاستعمال يكون من علامة الحقيقة كالتبادر
واشباهه ، ويشترط في التبادر ان يكون مستند الى حاق اللفظ الذي هو يكشف كشفا إنيّا
عن الوضع لانه معلول الوضع.
فتحصّل مما ذكرنا
انّ التبادر عند العالم بالوضع علامة للحقيقة للجاهل به. فالمستعلم يرجع الى
العالم بالوضع كما هو معلوم عند اهل المحاورة في استعلام اللغات وتعاليمها
وتعلّمها. وبهذا يندفع اشكال الدور ، اذ علم المستعلم بالوضع يتوقف على التبادر ،
ولكن هو يتوقف على علم اهل المحاورة الذي يكون عالما بالوضع. ولكن قد ينجرّ الكلام
الى كلام آخر للمناسبة ، وهو اشكال ابي سعيد علي ابن سينا بانّ بديهي الانتاج من
الإشكال الاربعة هو الشكل الاول ولكن الاستدلال به يستلزم الدور ، لان العلم
بالنتيجة يتوقف على العلم بكبرى القياس ، والعلم بالكبرى يتوقف على العلم بالنتيجة
اي على العلم بثبوت الاكبر للاصغر.
مثلا : اذا قلنا
العالم متغير ، وكل متغير حادث ، فالعالم حادث ، فالعلم بحدوث العالم يتوقف على
العلم بحدوث كل متغير ، والعلم بحدوث كل متغير يتوقف على العلم بحدوث العالم ، لان
العالم يكون من مصداق المتغير ، فاجاب ابن سينا عنه :
بالاجمال والتفصيل
بان العلم التفصيلي بالنتيجة يتوقف على العلم بالكبرى ، والعلم بالكبرى يتوقف على
العلم الاجمالي ، بالنتيجة فيكون الموقوف شيئا والموقوف عليه شيئا آخر ، اذ الاول
علم تفصيلي ، والثاني علم اجمالي. فهذا الجواب يناسب جواب ما نحن فيه وهو الجواب
عن غائلة الدور.
عدم صحة السلب :
قوله
: ثم ان عدم صحة
سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا ... الخ علامة كون اللفظ حقيقة
في المعنى الذي استعمل فيه كاستعمال لفظ الحمار في الناهق ، فلا يصح ان تقول ان
الناهق ليس حمارا ، كما يصح ان تقول الناهق حمار ، فعلم من عدم صحة السلب ومن صحة
الحمل انّ استعمال لفظ الحمار في الحيوان الناهق يكون على نحو الحقيقة ، وقد
يستعمل في الرجل البليد فيصح ان تقول ان رجلا بليدا ليس حمارا فنعلم من صحة السلب
ومن عدم صحة الحمل ان استعمال لفظ الحمار في الرجل البليد يكون على نحو المجاز.
اعلم ان الحمل هو
اتحاد الشيئين في الخارج المتغايرين في الذهن وهو يكون على قسمين :
الاول
: هو الاوّلي
الذاتي الذي يكون ملاكه اتحاد الموضوع والمحمول مفهوما ومصداقا ووجودا وتغايرهما
اعتبارا نحو (الانسان حيوان ناطق) ، اذ مفهوم الانسان والحيوان الناطق يكون متحدا
وكذا مصداقهما ، وتغايرهما يكون بالاجمال والتفصيل ، لان الانسان يكون معرفا
بالفتح ، وشانه ان يكون مجملا ، والحيوان الناطق انما يكون معرفا بالكسر ، وشانه
ان يكون مفصلا ، واجلى واعرف. ويسمى بالأولي لكونه اول مراتب الحمل ، وبالذاتي
لكونه في الذاتيات التي تكون جنسا وفصلا.
الثاني
: الصناعي الشائع
الذي يكون ملاكه تغاير الموضوع والمحمول مفهوما واتحادهما مصداقا نحو (زيد انسان)
فان الكلي يكون متحدا في الخارج مع افراده ومتغايرا معها مفهوما اذ مفهوم الكلي
يكون غير مفهوم الفرد.
قوله
: وافراده الحقيقية
يعني حيث يكون الحمل بين الفرد والكلي. اما لو كان بين الكليين فيدل الحمل على
اتحادهما خارجا وان اختلفا مفهوما وكان بينهما عموم من وجه ، فعلى هذا تكون
الاقسام ثلاثة : احدها حمل احد المترادفين على الآخر ، وثانيها حمل الكلي على
الفرد ، وثالثها حمل احد الكليين على الآخر. والاول يدل على كون الموضوع هو نفس
معنى المحمول نحو (الانسان بشر). والثاني يدل على ان الموضوع من افراد المحمول نحو
(زيد انسان). والثالث انما يدل على الاتحاد في الخارج نحو (الانسان حيوان) ، سواء
كانا متساويين كالنوع والفصل نحو انسان وناطق ، أم كان بينهما عموم مطلق كالنوع
والجنس نحو انسان وحيوان ، أو عموم من وجه كالحيوان وأبيض ، وسواء كان المحمول من
ذاتي الموضوع كان جنسا له أو فصلا له ، أم كان من عرضي الموضوع كان عرضا خاصا له ،
أو عرضا عاما له ، وسواء كان الموضوع نوعا من المحمول نحو (الانسان حيوان) ، أم
كان صنفا له نحو (الرومي انسان) ، أم كان فردا له نحو (زيد انسان) ،
وسواء كان المحمول
ثابتا لنفس الموضوع من حيث هو هو من دون سرايته الى افراد الموضوع نحو (الانسان
نوع) و (الحيوان جنس) فيكون الحمل شائعا صناعيا في جميع هذه الموارد. ويسمى شائعا
لشيوعه في العلوم والصناعات. ويسمى عرضيا لكون ملاك هذا اتحاد الوجود الذي يعرض
الماهية تصورا.
اذا عرفت هذا
فاعلم ان ملاك صحة الحمل الذي هو علامة الحقيقة هو الحمل الاولي الذاتي الذي يعتبر
فيه اتحاد الموضوع والمحمول مفهوما ووجودا ومصداقا. فالمحمول يكون فيه نفس الموضوع
نحو (الانسان انسان). واما الحمل الشائع الصناعي فلا يكون علامة للحقيقة ، كما انه
لا يكون علامة للمجاز بل يكون حاله كحال الاستعمال على قول الجمهور ، سواء كان
المحمول فيه كليا طبيعيا ويكون الموضوع من افراده نحو (زيد انسان) ، أم كانا كليين
متساويين نحو (الانسان ناطق) ، أم كانا اعم مطلقا نحو (الانسان حيوان) ، أم كانا
اعم من وجه مثل (الانسان ابيض). غاية الامر ان صحة الحمل في هذه الموارد بكون
علامة اتحاد الموضوع والمحمول مصداقا. والحمل الشائع يكون على قسمين : الاول حمل
مواطاة وحمل هو هو نحو (زيد عالم) ، والثاني حمل اشتقاق وحمل ذو هو نحو (زيد عدل)
اي ذو عدل.
اعلم ان المجاز
يكون على ثلاثة اقسام :
الاول
: مجاز في الكلمة
نحو استعمال لفظ (اسد) في الرجل الشجاع.
والثاني
: مجاز في الاعراب
وهو الذي حذف المضاف واقيم المضاف اليه مقامه واعرب المضاف اليه باعراب المضاف نحو
(جاء ربّك) لانه في الاصل كان (جاء امر ربّك) لاستحالة مجيء الرب.
والثالث
: مجاز في الاسناد
وفيه يكون اسناد الشيء الى غير من هو له نحو (زيد عدل) ويسمى مبالغة في الاسناد
ايضا.
فهذا الحمل لا
يكون علامة للحقيقة والوضع. واما صحة السلب كصحة سلب الاسد عن الرجل الشجاع فهو
علامة عدم كون المسلوب عنه من مصاديق المسلوب ومن افراده الحقيقية ، غاية الأمر
انه ان قلنا بمقالة السكاكي في
الاستعارات
فاستعمال المسلوب في المسلوب عنه ، فلفظ (الاسد) يكون مسلوبا و (الرجل الشجاع)
مسلوبا عنه يكون من باب الحقيقة الادعائية ، والّا فهو من باب المجاز في الكلمة
فظاهر كلام السكاكي في نحو (رأيت اسدا يرمي) أو (في الحمام) مع كون الرامي رجلا
شجاعا لا حيوانا مفترسا ، ان لفظ الاسد فيه لم يستعمل في الرجل الشجاع ، لتنزيل
الرجل الشجاع منزلة الاسد ، بدعوى ان للاسد فردين احدهما واقعي والآخر ادعائي
تنزيلي ، ثم استعمل اللفظ فيه ، فيكون ذلك تصرفا في امر عقلي فيكون هذا استعمال
اللفظ في المعنى الحقيقي الادعائي ، لا في المعنى المجازي كما هو المشهور ،
فالسكاكي انكر مجازا في الكلمة.
فغرض صاحب (الكفاية)
قدسسره من هذا الكلام بيان عدم الفرق بين قول المشهور وبين مذهب
صاحب المفتاح ابي يعقوب السكاكي ، لان صحة السلب تكون علامة كون معنى المسلوب
مجازيا للفظ المسلوب عنه ، سواء قلنا بمقالة السكاكي أم قلنا بمقالة المشهور ، فان
قيل انه يلزم الدور على فرض ان يكون عدم صحة السلب علامة للحقيقة ، فبيانه :
لان العلم بالوضع
يتوقف على عدم صحة السلب لانه جعل علامة للوضع وللحقيقة ، وعدم صحة السلب يتوقف
على العلم بالوضع ، لانا اذا لم نعلم بالوضع لم نحكم بعدم صحة السلب ، ولكن يجاب
عنه بان عدم صحة السلب يتوقف على العلم الاجمالي الارتكازي بالوضع ، فيكون الموقوف
علما تفصيليا والموقوف عليه علما اجماليا ارتكازيا ، فهذا التغاير ، اي تغاير
العلم ، كاف في رفع غائلة الدور. هذا اذا كان المقصود به عدم صحة السلب علامة
للحقيقة عند المستعلم الجاهل بالوضع.
واما اذا كان
المراد به عدم صحة السلب عند اهل المحاورة فلا يلزم الدور أصلا ، لان علم المستعلم
بالوضع يتوقف على عدم صحة السلب ، ولكن عدم صحة السلب يتوقف على علم أهل المحاورة
، فيكون العلم متعددا وهو يستلزم تعدد الموقوف والموقوف عليه فلا دور في البين.
وكذا يرد اشكال
الدور في طرف صحة السلب ، بان يقال ان العلم بكون معنى
المستعمل فيه معنى
مجازيا للفظ يتوقف على صحة السلب ، وصحة السلب يتوقف على العلم بكون معنى المستعمل
فيه معنى مجازيا للفظ فهذا دور. واما الدفع بان يقال ان العلم التفصيلي بكون
المستعمل فيه معنى مجازيا للفظ يتوقف على صحة السلب ، ولكن صحة السلب تتوقف على
العلم الاجمالي الارتكازي بكونه معنى مجازيا فالموقوف هو العلم التفصيلي والموقوف
عليه هو العلم الاجمالي. أو يقال ان علم المستعلم بكونه معنى مجازيا للفظ يتوقف
على صحة السلب ، ولكن صحة السلب تتوقف على علم اهل المحاورة بان المعنى المستعمل
فيه يكون معنى مجازيا للفظ ، فلا دور في البين كما هو واضح.
قوله
: فتأمل جيدا وهو تدقيقي لا غير. قوله : بنحو من انحاء
الاتحاد ... الخ كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور أو الايجاد كما سيأتي
تفصيله في بحث المشتق. ففي مثل العالم يكون الاتحاد بين الذات والمبدأ حلوليا وفي
مثل الحادث والسابق واللاحق يكون انتزاعيا بمعنى كون المبدأ منتزعا عن الذات
ومتحدا معها ، وفي مثل الضارب والقاتل ونحوهما يكون صدوريا ، وفي مثل المتكلم يكون
ايجاديا.
الاطّراد
قوله
: ثم انه قد ذكر
الاطّراد وعدم الاطراد علامة للحقيقة والمجاز. اعلم ان المراد بالاطّراد الذي هو
علامة الحقيقة هو شيوع استعمال اللفظ في المعنى من دون اختصاصه بمقام دون مقام ،
نحو لفظ الانسان الذي يستعمل في الطويل والقصير والغني والفقير و ... بخلاف
استعمال لفظ الرقبة مجازا في العبد بعلاقة الجزء والكل فهو يصح في نحو (اعتق رقبة)
ولا يصح في نحو (قالت رقبة) كما يصح (قال انسان).
قوله
: قد ذكر الاطراد
... الخ الاطراد : عبارة عن كون اللفظ الذي يستعمل في مورد بلحاظ ذلك المعنى بحيث
يصح استعماله في ذلك المورد وفي غيره من الموارد بلحاظ ذلك المعنى كما في لفظ
الانسان الذي يطلق على (زيد) بلحاظ كونه (حيوانا ناطقا) فانه يصح اطلاقه على جميع
افراد الحيوان الناطق بلحاظه ، ويقابله
عدم الاطراد ويكون
هذا التقرير الثاني للاطراد ، فلا يتوهّم تكرار بلا فائدة والغرض منه زيادة
التوضيح.
رفع الإشكال :
قوله
: لعله بملاحظة نوع العلائق ... الخ دفع المصنف بهذا اشكالا واردا على العلامة هذه. بيانه : ان
الاطراد بالمعنى المتقدم يكون في المجاز ايضا ، لان لفظا اذا استعمل في غير معناه
الحقيقي مجازا لعلاقة من العلائق المعدودة يكون هذا الاستعمال مطردا أيضا ، فمثلا
: لفظ (اسد) اذا استعمل في الرجل الشجاع لعلاقة المشابهة فهو يجوز في كل رجل شجاع
سواء كان طويلا أم قصيرا ، عربيا كان أم عجميا ، ولاجل ذلك يقال ان المجازات
موضوعة بالوضع النوعي.
واما
الدفع فيقال ان استعمال
لفظ الاسد في الحيوان المفترس مطرد واما في نوع المشابه له فغير مطرد ، بمعنى انه
قد يستعمل كما في الرجل الشجاع ، وقد لا يستعمل كما في الرجل الابخر ، مع كون كل
منهما مشابها للحيوان المفترس. وهكذا اسناد السؤال الى ذوي العقول مطرد ، والى نوع
المحل والمقر لهم غير مطرد ، فقد يسند اليه كما في نحو (واسأل القرية) وقد لا يسند
اليه كما في نحو (واسأل البساط) أو (الدار) مع كون كل منهما محلا ومقرا لذوي
العقول. فعدم الاطراد يكون بلحاظ نوع العلاقة لا بلحاظ الصنف الخاص منها الذي صح
معه الاستعمال كالشجاعة من بين اصناف الشباهة ، اذ كما ان استعمال لفظ الاسد في
الحيوان المفترس مطرد كذا الامر في اسناد السؤال ، اذ كما ان اسناده الى ذوي
العقول مطرد فكذلك اسناده الى القرية لعلاقة الحال والمحل مطرد. فيكون المراد نوع
العلائق لا الصنف الخاص منها ، لانه بلحاظه يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي
مطردا كما ذكر في ضمن الإشكال.
قوله
: من غير تأويل أو
على وجه الحقيقة ... الخ تكون هذه الزيادة من صاحب الفصول قدسسره ، يعني الاطراد الذي يكون من علائم الحقيقة من غير ملاحظة
العلاقة ،
ومن غير ملاحظة
القرينة الصارفة. هذا هو المراد من قوله : من غير تأويل وهو اشارة الى مذهب
السكاكي. أو الاطراد يكون من علائم الحقيقة اذا كان على نحو الحقيقة في الكلمة ،
وهذا ناظر الى مذهب المشهور. اما بخلاف الاطراد في المجاز فانه لا يكون من غير
تأويل ولا على نحو الحقيقة.
قوله
: الّا ان الاطراد
حينئذ لا يكون علامة لها إلّا انه يكون على وجه دائر ... الخ يعني يكون جواب صاحب (الفصول)
عن الإشكال المذكور فرارا من ورطة اخرى وهي لزوم الدور. بيانه : ان الاطراد من غير
تأويل أو على وجه الحقيقة يتوقف على العلم بالمعنى الحقيقي فلو توقف العلم بالمعنى
الحقيقي على الاطراد للزم الدور ، ولا يمكن التقصي عن الدور في المقام بما تقدم من
التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالاجمال والتفصيل ، اذ من الواضح ان الاطراد
من غير تأويل ، أو على وجه الحقيقة ، يتوقف على العلم التفصيلي بان المستعمل فيه
معنى حقيقي للفظ ، ويكون الاستعمال فيه بلا تأويل وعلى وجه الحقيقة ، لا على العلم
الاجمالي الارتكازي ، فلا يمكن ان يقال في دفع الدور في هذا المقام ان العلم
التفصيلي بان المعنى المستعمل فيه يكون معنى حقيقيا للفظ يتوقف على الاطراد ،
والاطراد يتوقف على العلم الاجمالي الارتكازي ، على ان لهذا اللفظ يكون معنى حقيقي
يتبادر منه ، بل الاطراد على وجه الحقيقة ، أو من غير تأويل يتوقف على العلم
التفصيلي بان المعنى المستعمل فيه معنى حقيقي له.
فاذن لا يمكن
التخلّص عن الدور اذا عرفت ما ذكرنا ، فقد ظهر لك فساد قول صاحب الفصول قدسسره وهو زيادة قوله : من غير تأويل أو على وجه الحقيقة في
الاطراد.
تعارض احوال اللفظ
:
قوله : الثامن انه
للفظ احوالا خمسة : وهي التجوز والاشتراك والتخصيص والنقل والاضمار ... الخ هنا
مقامات ثلاثة من الكلام ينبغي الإشارة اليها فنقول وعلى الله التكلان :
المقام
الاول : اذا استعمل اللفظ
في معنى ولم يعلم وضعه له فهل يحكم بمجرد استعماله كونه حقيقة فيه كما نسب ذلك الى
السيد المرتضى علم الهدى قدسسره نظرا الى ظهور الاستعمال فيه؟ أو يحكم بكونه مجازا فيه كما
نسب ذلك الى بعض المتأخرين نظرا الى ان اغلب لغة العرب مجازات والظن يلحق الشيء
بالاعم الاغلب؟ أو يفصّل بين ما اذا كان المعنى المستعمل فيه واحدا فيحكم بكونه
حقيقة فيه نظرا الى ان المجاز مستلزم للحقيقي لانه يشترط في المجاز ان يكون مناسبا
للحقيقة ، فمتى لم يتحقق الحقيقي لم يتحقق المجازي ، فلا يمكن القول بمجازيته ،
وبين ما اذا كان متعددا فيحكم بكونه حقيقة في احد المعاني ومجازا في الباقي ، نظرا
الى كون المجاز خيرا من الاشتراك ، فيكون التميز بين المعنى الحقيقي والمجازي
بامارات الحقيقة والمجاز ، أو يتوقف نظرا الى كون الاستعمال اعم من الحقيقة
والمجاز ، وجوه اشهرها الاخير.
المقام
الثاني : اذا علم المعنى
الحقيقي والمعنى المجازي على التفصيل واستعمل اللفظ ، ودار الامر بين ارادة المعنى
الحقيقي وبين ارادة المعنى المجازي فلا يصار الى المعنى المجازي الّا بدليل خاص ،
اي بقرينة صارفة عن المعنى الحقيقي ، وذلك لاصالة الحقيقة المعمول بها عند الشك
والترديد بين ارادة المعنى الحقيقي والمجازي.
وهكذا اذا دار
الامر بين المعنى الحقيقي وبين التخصيص أو التقييد ، فيؤخذ بالمعنى الحقيقي ولا
يلتفت الى احتمال التخصيص أو التقييد مجازا لاصالة عدم التخصيص ، ولاصالة عدم التقييد
، كما سيأتي في محله. وهكذا اذا دار الامر بين المعنى الحقيقي وبين النقل ، بان
احتمل نقل اللفظ عن المعنى الحقيقي الذي نعلمه بالتفصيل الى معنى آخر لا نعلمه
وانه قد اريد منه هنا ، فلا يعتنى باحتمال النقل ويؤخذ بالمعنى الحقيقي المعلوم
بالتفصيل وذلك لاصالة عدم النقل. وهكذا اذا دار الامر بين المعنى الحقيقي وبين
الإضمار والتقدير ، وان يكون المراد من (طاب زيد) طابت اخلاق زيد بإضمار كلمة
اخلاق ، فيؤخذ بالمعنى الحقيقي وبالظاهر دون
الاضمار لأصالة
عدم الاضمار.
ثم اعلم ان مرجع
تمام هذه الاصول اللفظية ، من اصالة الحقيقة واصالة عدم الاشتراك واصالة العموم أو
الاطلاق واصالة عدم النقل واصالة عدم الاضمار واصالة عدم التخصيص واصالة عدم
التقييد ، الى اصل واحد وهو اصالة الظهور ، فيكون هو الاصل الاصيل المعتبر عند
العرف والعقلاء ، فيعتمدون عليه من باب العمل بظاهر الكلام الذي ستأتي حجيته في
الظنون الخاصة ان شاء الله تعالى ، وامثلة الكل واضحة لا حاجة الى ذكرها.
المقام
الثالث : اذا دار الامر
بين احد الاحوال الخمسة المذكورة للفظ المخالفة للاصل كما ذكر وبين بعضها الآخر ،
كما اذا دار الامر بين المجاز والاشتراك أو بين الاشتراك والنقل أو بين التخصيص
والاضمار ، فالاصوليون قد ذكروا لترجيح بعض الاحوال على بعض امورا ومرجحات ، مثل :
كون المجاز خيرا من الاشتراك ، اولا : لكثرته ، اي لكثرة المجاز ، وأوسعيته في
لغات العرب العزّة للتكاثر. وثانيا : لكونه افيد منه لانه لا توقف فيه ابدا ، لان
القرينة الصارفة اذا لم تكن في الكلام موجودة فيحمل اللفظ على المعنى الحقيقي
لاصالة الحقيقة ، بخلاف المشترك لانه اذا لم تكن القرينة المعيّنة موجودة في
الكلام فلا يحمل لفظ المشترك على شيء من معانيه فيكون مجملا ، أو كون الاشتراك
خيرا من المجاز حيث انه ابعد عن الخطإ ، اذ مع عدم القرينة المعينة يتوقف ، بخلاف
المجاز إذ على الحقيقة مع عدم القرينة الصارفة ولعلها تكون غير مرادة في نفس الامر
والواقع.
ومثل كون الاشتراك
خيرا من النقل ، لان النقل يقتضي الوضع في المعنيين مع نسخ الوضع الاول ، بخلاف
الاشتراك لعدم اقتضائه النسخ ، والحال ان الاصل عدم النسخ. أو كون النقل خيرا من
الاشتراك لان مفاسد النقل اقل من مفاسد الاشتراك لان اللفظ المنقول محمول على
المعنى الثاني اذا كان مجرّدا عن القرينة بخلاف المشترك فانه اذا تجرد عنها يكون
مجملا ، فتكون فائدة النقل اكثر. ومثل كون التخصيص خيرا من الاضمار لكونه اغلب حتى
قيل ما من عام إلّا وقد خصّ فيقدم
على الاضمار. الى
غير ذلك من الوجوه المذكورة في المطولات.
قال المصنف إلّا
انها امور استحسانية ذوقية لا اعتبار بها إلّا اذا كانت موجبة لظهور اللفظ في
المعنى لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك كما لا يخفى.
يعني أن هذه
الأمور والمرجّحات بعضها على بعض استحسانية فلا تكون حجّة ومعتبرة ، فلا يجوز
الاعتماد عليها في تشخيص المراد من اللفظ اللهم ، إلّا اذا كانت موجبة لظهور اللفظ
في احد طرفي الاحتمال ، فعند ذلك يؤخذ بالطرف الراجح لاجل ظهور اللفظ فيه وهو حجة
عند العرف والعقلاء ، والحال ان الشارع قد امضاه كما سيأتي في بحث الظنون الخاصة
ان شاء الله.
الحقيقة الشرعية :
قوله
: التاسع انّه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على اقوال يعني قال جماعة بثبوتها في العبادات وفي المعاملات. وقال
قوم بعدمه فيهما. وقال المحقّقون منهم صاحب المعالم قدسسره بالتفصيل بينهما ، فقالوا بثبوتها في العبادات وبعدمه في
المعاملات. لا بأس قبل الخوض في نقل الاقوال وفي الاستدلال من تمهيد مقدمة وهي ان
الوضع التعييني والتخصيصي ، كما يتحقق بانشاء الوضع بان يقول الواضع إني وضعت هذا
اللفظ لذاك المعنى ، يتحقق باستعمال اللفظ في غير الموضوع له بلا قرينة صارفة ،
فيكون الاول وضعا قوليا ، والثاني وضعا فعليا ، فيكونان شريكين في الاستعمال بلا
قرينة.
وفي حكاية اللفظ
عن المعنى وفي افناء اللفظ في المعنى ، وان كان لا بد حين الوضع الاستعمالي من نصب
قرينة للدلالة على قصد الوضع بهذا الاستعمال ، فهذه القرينة تدل على الاستعمال في
ما وضع له لا على ارادة المعنى المجازي كما في المجاز ، فعمدة الفرق بين القرينتين
ان احداهما دالة على الوضع الاستعمالي وثانيتهما دالة على المعنى المجازي ، وايضا
تكون احداهما مفهمة كما في الوضع الاستعمالي والاخرى صارفة كما في الاستعمال
المجازي كما لا يخفى.
اذا عرفت هذه
فيكون الوضع ثلاثة انواع الاول هي الوضع التعيّني على وزن (تفعّل) ، والثاني هو
الوضع التعييني ، والثالث هو الوضع الاستعمالي.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى
امتناع الوضع التعييني بنفس الاستعمال بل يكون الوضع التعييني بانشاء الوضع ، ولا
يكون بالاستعمال لاستلزامه اجتماع الضدين ، لان الوضع يقتضي تصور اللفظ استقلالا
كما انه يقتضي تصور المعنى كذلك.
والاستعمال الذي
يكون عبارة عن افناء اللفظ في المعنى يقتضي تصور اللفظ آليا ، فهذا يستلزم الجمع
بين اللحاظ الاستقلالي وبين اللّحاظ الآلي في اللفظ ، وهو محال فانشاء الوضع
الفعلي محال.
فان
قيل : ان هذا الاستعمال
، اي وضع الاستعمالي الفعلي ، لا يكون حقيقة لعدم سبقه بالوضع والحال ان استعمال
الحقيقي انما يكون مسبوقا بالوضع ولا يكون مجازا لعدم لحاظ العلاقة بين الحقيقي
وبين المجازي وما هذا إلّا ارتفاع النقيضين وهو محال فالمقدم مثله. واما بيان
الملازمة فهو واضح لا يحتاج الى بيان.
قلنا
: ان هذا غير ضائر
بعد قبول الطبع المستقيم اياه مع ان له نظير وذلك كاستعمال اللفظ في نوعه أو صنفه
أو مثله كما مرّ ، لانه لا يكون من قبيل الاستعمال المتعارف الذي يكون استعمال
اللفظ في المعنى حتى يكون على وجه الحقيقة أو على وجه المجاز ، بل يكون من قبيل
استعمال لفظ في لفظ آخر.
اذا عرفت هذا
فيكون دعوى الوضع التعييني الاستعمالي في الفاظ العبادات المتداولة في لسان الشارع
قريبة الى الصواب ، فالمتصور عند المصنف هو انشاء الوضع بنفس الاستعمال ، ويكون
مدّعي القطع بهذا غير مجازف ، ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية في محاوراته صلىاللهعليهوآلهوسلم في عصره كما هو معلوم من الاذان وغيره من الفاظ العبادات.
ويرد على هذا
التبادر اشكال وهو انه لم يعلم كون التبادر في زمان الشارع المقدس كان مستندا الى
اللفظ أو الى القرينة ، فان قلت : انا نتمسك باصالة عدم القرينة ونثبت بها
الاستناد الى اللفظ لا الى القرينة. قلنا : ان التمسك بها غير مجد في
هذا المقام لان
موردها في الموضع الذي يعلم فيه المعنى الحقيقي والمعنى المجازي وكان الشك في
المراد ، بخلاف ما ذا لم يعلما وكانا مجهولين كما في المقام فلا يجوز التمسك بها
كما تقدم.
تأييد الوضع
الاستعمالي :
قوله
: ويؤيد ذلك انه
ربما لا تكون علاقة معتبرة ... الخ ويؤيد الوضع التعييني الاستعمالي فقدان العلاقة
المعتبرة بين المعاني اللغوية وبين المعاني الشرعية ، فظهر ان الاستعمال كان على
وجه الحقيقة مع تسليم الاستعمال في عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم كما هو مجمع عليه.
فان قيل ان علاقة
الجزء والكلّ موجودة في هذا المقام لان لفظ الصلاة وضع للدعاء فاستعمل في الاركان
المخصوصة بما فيها من الهيئات والاقوال فيكون الدعاء جزءها فلفظ الصلاة الذي وضع
للجزء استعمل في الكل بعلاقة الجزء والكل قلنا : ان هذا مشروط بشرطين :
الاول
: ان يكون التركيب
بين الجزء والكل واقعيا لا اعتباريا.
الثاني
: ان يكون الجزء
مما اذا انتفى انتفى الكل. وذلك نحو (للانسان رأس) ، وكلا الشرطين مفقودان في
المقام كما هو ظاهر ، ويحتمل في هذا المقام احتمالا آخر وهو وجود علاقة المشابهة
بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي لان الاركان التي هي المعنى الشرعي للصلاة
شابهت الدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها في غاية الخشوع والخضوع ، نحو استعمال لفظ
الاسد في الرجل الشجاع بعلاقة المشابهة ، فكذا لفظ الصلاة وضع للدعاء فاستعمل في
الاركان مجازا بعلاقة المشابهة ايضا. فلاجل هذا الاحتمال جعل المصنف هذا تأييدا
للمطلب لا دليلا عليه كما هو ظاهر.
قوله
: هذا كله بناء على
كون معانيها مستحدثة في شرعنا.
ثم ان هذا النزاع
في الفاظ العبادات متفرّع على كون معانيها مستحدثة في
الشريعة الاسلامية
، واما بناء على كون معانيها المعلومة ثابتة في الشرائع الماضية كما هو مستفاد من
الآيات نحو قوله تعالى في كتابه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ونحو قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِ) ونحو قوله تعالى : (وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ) وغيرها من الآيات الأخر فتكون الفاظ العبادات حقائق لغوية
في هذه المعاني فلا يكون مجال للنزاع.
فان قيل ان اختلاف
الشرائع في العبادات من حيث الأجزاء والشرائط موجب لعدم وحدة معانيها ، بل هي
متعددة مختلفة ، فلا تكون حقائق لغوية ، بل تكون حقائق شرعية في هذه المعاني
المعهودة الشرعية لاختراع الشارع المقدس اياها. فلا يمكن دعوى وحدة معانيها حتى
تكون حقائق لغوية فيها.
قلنا : ان اختلاف
الشرائع في العبادات من حيث الأجزاء والشرائط لا يدل على اختلاف في الماهية ولا
على تعدد الماهوي ، لانه يمكن ان يكون هذا الاختلاف في المصداق وفي التطبيق. مثلا
: ان الصلاة قربان كل تقي واختلاف مصاديقه في الشرائع لا يوجب اختلافا في هذا
المعنى العالي الذي يكون واحدا في الشرائع ، ولا يضر الاختلاف بوحدته كما ان
الاختلاف فيها ، بحسب حالات المكلف من التمام والقصر ، ومن القيام والجلوس ، لا
يقدح في وحدة ماهية الصلاة وفي آثارها ، فكذا الاختلاف في الشرائع فلا يكون مجال
للنزاع مع وحدة الماهية للصلاة في جميع الشرائع ، فتكون الصلاة نظير الانسان الذي
يختلف مصداقه وتتحد ماهيته وحقيقته كما لا يخفى.
__________________
تحقيق مذهب
الباقلاني :
اعلم ان القاضي
أبا بكر الباقلاني انكر المعاني الشرعية لالفاظ العبادات ، وقال : ان الشارع
استعملها في معانيها اللغوية ، ولكن قد اضاف عدة اجزاء وشرائط الى المعاني
اللغوية. فان لاحظنا قول الباقلاني في الفاظ العبادات فلا يكون لنا اطمئنان بكونها
حقائق شرعية في المعاني الشرعية ، فلا تدل الأدلة التي قد استدل بها على ثبوت
الحقيقة الشرعية في عصر الشارع المقدس عليه ، ولا يذهب عليك ، اي لا يخفى عليك ،
انه مع ملاحظة مذهبه لا يكون مجال لدعوى الوضع التعيني الذي يتحقق من كثرة
الاستعمال في لسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولسان التابعين ، اذ من المحتمل ان يستعملوها في المعاني
اللغوية. ولكن الانصاف منع تحقق الوضع التعيني بعد تسليم استعمال الشارع والتابعين
لالفاظ العبادات في المعاني الشرعية في مدّة عشرين سنة بعيد جدا. نعم حصول الوضع
التعيّني في خصوص لسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم يكون ممنوعا.
الثمرة
قوله
: فتأمل هو اشارة
الى ان منع الوضع التعيني في خصوص لسان الشارع ، مع طول مدة الاستعمال ، يكون في
غاية البعد. هذا مضافا الى منافاة المنع لما سبق من قرب الوضع التعيني في عصر
الشارع المقدس.
قوله
: واما الثمرة بين
القولين الكلام في بيان الثمرة بين القول بثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه : اعلم ان
الحقيقة الشرعية في لسان اهل الشرع تكون من القطعيات التي تطابقت عليها آراء الكل
في الفاظ العبادات. وبعد تسالمها فما الثمرة الفقهية لهذا النزاع؟ فنقول : ان
الثمرة تظهر اذا وقعت هذه الالفاظ في كلام الشارع مجرّدة عن القرائن فتحمل على
المعاني اللغوية ان قلنا بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية في
عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم. وتحمل على المعاني الشرعية ان قلنا بثبوتها فيه لاصالة
الحقيقة مع معلومية تأخر الاستعمال عن النقل والوضع. واما اذا جهل تأريخ الاستعمال
، وانه أكان قبل النقل ـ اي نقلها من اللغوي الى الشرعي ـ أم كان بعد النقل؟ ففيه
إشكال ، لان الوضع والاستعمال شيئان مسبوقان بالعدم ، فنشك الآن في تقدم احدهما
على الآخر.
فان كان الاصل
تأخر الوضع عن الاستعمال حملت على المعاني اللغوية فيكون الاصلان متعارضين
فيتساقطان بعد التعارض. هذا مضافا الى انه مع قطع النظر عن المعارضة لا يكون دليل
على حجية اصالة تأخر امر الحادث الا على القول بحجية اصل المثبت وهي في محل المنع
كما قرر في محله.
توضيح
لا يخلو من فائدة : إن قلنا بحجية تأخر الاستعمال عن الوضع من باب التعيّن ـ اي تعيّن تأخر
الاستعمال ـ بان كانت اصالة تاخر الاستعمال عبارة عن استصحاب عدم الاستعمال في
المعنى الشرعي الى ما بعد الوضع ، فهذا الاستصحاب لا يثبت تأخر الاستعمال عن الوضع
الا على القول بالاصل المثبت ، اذ لا تكون للتأخر حالة سابقة ، بل كانت لعدم حدوث
الاستعمال حالة سابقة. فاستصحاب عدم حدوث الاستعمال الى ما بعد الوضع يلزمه عقلا
تأخر الاستعمال عن الوضع ، وهو لازم عقلي للمستصحب لا يترتب عليه ، لان المترتب
عليه اثر شرعي لا اثر عقلي ولا اثر عادي ، لانه اصل مثبت ، ولا نقول به.
فبالنتيجة ان
تمسكنا باصالة تأخر الاستعمال عن الوضع يرد اشكالان :
الاول
: انه يكون معارضا
باصالة تأخر الوضع عن الاستعمال.
الثاني
: انه لو قلنا بها
للزم القول بحجيّة الاصل المثبت ، مضافا الى ان التأخر ليس حكما شرعيا ولا موضوعا
لحكم شرعي ، فجريان الاصل فيه موقوف على القول بالاصل المثبت ولا نقول به.
توضيح
: وهو ان المستصحب
لا بد ان يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي ، وعدم الاستعمال في المعنى الشرعي
الى ما بعد الوضع لا يكون حكما شرعيا كما هو ظاهر ، ولا موضوعا لحكم شرعي فيكون
هذا الاستصحاب
فاسدا رأسا ، اي
استصحاب عدم الاستعمال سواء قلنا بان اصل المثبت حجّة أم لا. فان قيل : ان اصالة
تأخر الاستعمال عن الوضع تكون اصلا عقلائيا مستقلا لا يرتبط بالاستصحاب حتى يبنى
على القول بالاصل المثبت. قلنا : انه لم يثبت بناء العقلاء على تأخر الاستعمال عن
الوضع عند الشك في تقدم احدهما على الآخر ، لان الوضع حادث ايضا كالاستعمال ، فعلى
هذا لا يجوز حمل الفاظ العبادات على معانيها الشرعية اذا وقعت في كلام الشارع مع
الشك في تقدم الوضع على الاستعمال ، أو تقدم الاستعمال على الوضع.
فان قيل : انا
نتمسك في هذا المقام باصالة عدم النقل عند الشك في النقل وعدم النقل ، فتحمل حينئذ
على معانيها اللغوية. قلنا : انّا نسلم ان اصالة عدم النقل تكون اصلا عقلائيا
ولكنها انما تجري عند الشك في النقل وعدم النقل لا في صورة العلم باصل النقل انشاء
أو استعمالا وكان الشك في تقدم النقل على الاستعمال أو تأخره عنه كما فيما نحن
فيه.
قوله
: فتأمل وهو اشارة
الى انه لا فرق في اعتبار اصالة عدم النقل بين الجهل باصل النقل وبين الجهل بتأريخ
النقل مع العلم باصل النقل كما هنا فتكون حجّة في ما نحن فيه ، فيكون الترجيح
لمذهب النافين لاصالة عدم النقل.
الصحيحي والأعمّي
:
قوله
: العاشر انه وقع الخلاف ... الخ اعلم انه وقع الخلاف بين الاصوليين في ان الفاظ العبادات
هل هي أسماء للصحيح او للاعم منه ومن الفاسد ، وقبل الخوض في ادلّة الطرفين لا بد
من بيان امور :
الاول
: انه لا اشكال في
تحقّق الاختلاف اذا قلنا بالحقيقة الشرعية في الفاظ العبادات بمعنى ان الشارع هل
وضعها للصحيح اي تام الأجزاء والشرائط او للاعم؟ قال قوم بالاول ، وقال قوم آخر
بالثاني. واما اذا قلنا بعدم الحقيقة الشرعية فيها ففي هذا الاختلاف اشكال ، لان
الأعمّي يقول بجواز الاستعمال مجازا في الصحيح ايضا ،
والصحيحي يقول
بجواز الاستعمال مجازا في الفاسد ايضا ، فلا يكون النزاع في البين.
تصوير النزاع على
قول الشيخ :
قوله
: وغاية ما يمكن ان يقال في تصويره ...
قال الشيخ
الانصاري قدسسره انه يمكن تصوير النزاع على فرض عدم ثبوت الحقيقة الشرعية
بهذا البيان ، وهو ان العلاقة الصارفة هل لوحظت ابتداء بين المعنى اللغوي وبين
المعنى الشرعي الصحيح ثم استعملت الفاظ العبادات في الفاسدة بالتبع والمناسبة
فيكون من نحو سبك مجاز عن مجاز مثلا ، لاحظ الشارع علاقة الاطلاق والتقييد بين
المعنى اللغوي الذي يكون للصلاة وهو الدعاء وبين المعنى الشرعي الصحيح وهو الاركان
الكاملة لان الدعاء مطلق غير مقيد بالاجزاء والشرائط ، والاركان مقيدة بهما ،
ولاحظ ايضا علاقة المشابهة بين الصحيح والفاسد ثم استعمل لفظ الصلاة في الفاسد؟ أم
لوحظت ابتداء بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي الكلي سواء كان صحيحا أم كان
فاسدا؟ فنتيجة هذا انه نحمل مع وجود القرينة الصارفة ومع عدم وجود قرينة لاحد
المعنيين الصحيح والفاسد على الصحيح على احتمال الاول لانه اوّل المجازين.
وتحمل مع وجود
القرينة الصارفة ومع عدم وجود القرينة لاحدهما على التعيين على الاعم لا خصوص
الصحيح سواء كان الاعم صحيحا أم كان فاسدا على احتمال الثاني.
فالصحيحي يقول
بالاحتمال الاول والأعمّي بالثاني.
اذا عرفت هذا
فاعلم ان النزاع جار على كلا القولين ، وانت خبير بان تصوير النزاع على الطريق
المذكور ممكن ثبوتا ولا يمكن اثباتا لانه (اثباتا) يتفرّع على شيئين :
احدهما
: ان الشارع قد
لاحظ العلاقة المصحّحة للتجوز ابتداء بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي الصحيح
، دون الفاسد.
ثانيهما
: ان عادة الشارع ،
عند وجود القرينة الصارفة ، وعند عدم قرينة معيّنة لاحد الأمرين الفاسد والصحيح هو
قصد خصوص الصحيح دون الفاسد ودون الاعم اثباتهما دون خرط القتاد. اعلم ان القرينة
الصارفة انما تلزم على القول بعدم الحقيقة الشرعية في الفاظ العبادات في عصر
الشارع صلىاللهعليهوآلهوسلم للمعنى المجازي ، والقرينة المعينة تلزم التعدد للمعنى
المجازي.
تصوير النزاع على
مذهب الباقلاني :
قوله
: وقد انقدح بما
ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب الى القاضي الباقلاني الكلام في تصوير النزاع على
هذا القول. بيانه : ان الشارع هل نصب القرينة العامة على ارادة المعنى الصحيح
وتحتاج ارادة الاعم من الفاظ العبادات الى قرينة خاصة ، او ان الشارع نصب القرينة
العامة على ارادة الاعم وتحتاج ارادة الصحيح منها الى قرينة خاصة.
فالصحيحي يقول
بالاول والأعمّي بالثاني. اعلم : ان المراد من القرينة العامة ما يدل على الأجزاء
والشرائط في الجملة ، والمراد من القرينة الخاصة ما يدل على جميع الأجزاء والشرائط
جميعها ، او تدل عليهما في الجملة. فبالنتيجة هل يكون مقتضى القرينة المضبوطة
الواقعة في كلام الشارع المقدس هو تمام الأجزاء والشرائط أو في الجملة ، اي سواء
كان مقتضاها تمام الأجزاء والشرائط أم كان معظم الأجزاء والشرائط.
فتحصّل مما ذكرنا
انه يمكن تصوير النزاع فيهما ـ اي في الصحيح والاعم ـ على مذهب المثبتين وعلى مذهب
النافين ، وعلى مذهب القاضي الباقلاني ، اما على الاول : فيقال ان الشارع اما
وضعها تعيينا قولا أو استعمالا للصحيح أو للأعم. واما على الثاني : فيقال ان
الشارع لاحظ العلاقة بين المعنى اللغوي الحقيقي وبين الصحيح ، أو لاحظ بين اللغوي
وبين الاعم ، وأما على الثالث : فيقال ان مقتضى القرينة التي تخصّص المعنى اللغوي
أو تقيّده هو تمام الأجزاء والشرائط أو يكون
مقتضاها الأجزاء
والشرائط في الجملة ، أي سواء كان مقتضاها جميع الأجزاء والشرائط ، أم كان بعض
الأجزاء والشرائط. قال الصحيحي بالاول في المذاهب الثلاثة والأعمّي بالثاني فيها
فلا تغفل.
قوله
: ومنها ان الظاهر
ان الصحة عند الكل ... الخ
تفسير الصحة :
اعلم ان الصحة
تكون بمعنى تمامية الأجزاء والشرائط عند الفقهاء والمتكلّمين ، فالاختلاف في
تفسيرها لا يكون لاجل الاختلاف في مفهومها بل يكون لاجل الاختلاف في الاثر المقصود
منها. اذ عند الفقهاء يكون الاثر المقصود منها سقوط القضاء ، فلذا فسروها باسقاط
القضاء ، وعند المتكلمين يكون موافقة الشريعة ، ففسّروها بموافقة الشريعة ، فيكون
مقتضى الظاهر هو الاختلاف في مفهومها إلّا ان التأمل يقتضي قصد الاثر الذي يناسب
لوظيفة الفقيه والمتكلّم ، لان وظيفة الفقيه في علم الفقه بيان عوارض افعال
المكلّف من حيث الصحة والفساد ومن حيث الوجوب والحرمة و ... فيكون الغرض المهم من
الصحة عند الفقيه سقوط القضاء ولذا فسروها به ، ولانّ وظيفة المتكلم في علم الكلام
بيان احوال المبدإ وبيان احوال المعاد ، وبيان الثواب والعقاب ، فيكون الغرض المهم
من الصحة عند المتكلم موافقة الشريعة الذي يترتب عليه الثواب والقرب ، ولذا فسروها
بموافقة الشريعة. فيكون اختلاف التعبير من اجل الاختلاف في الاثر المهم من الصحة ،
وإلّا يكون مفهومها واحدا عند الكل وهو التمامية اي تمامية الأجزاء والشرائط لا
تمامية الأجزاء فقط.
كما هذا يكون قول
الوحيد قدسسره فيكون لازم مفهوم الصحة متعددا ، وتعدد اللازم لا يوجب
تعدد الملزوم ، كما في الشمس اذ له لوازم عديدة نحو وجود النهار وضياء العالم ونمو
النباتات ، والحال ان الشمس تكون واحدا في عالم الممكن. كما أن اختلاف الصلاة من
حيث زيادة الركعة ونقيصتها لا يوجب تعدد مفهومها فيكون
الصحيح في كل
الموارد بمعنى واحد هو التمامية ، لكن هي مختلفة مصداقا لا مفهوما على اختلاف
حالات المكلف من السفر والحضر والاختيار والاضطرار ، كما لا يخفى على العاقل فضلا
عن الفاضل.
قوله
: ومنه ينقدح ان
الصحة والفساد امران اضافيان ... الخ قد ظهر من اختلاف الصحة والفساد بحسب اختلاف
حالات المكلف انهما امران اضافيان. مثلا : صلاة الركعتين صحيحة للمسافر وفاسدة
للحاضر ، وصلاة اربع ركعات بالعكس ، فالاختلاف يكون مصداقي لا مفهومي.
قوله
: فتدبر جيّدا وهو
تدقيقي اعلم ان النسبة بين تفسير الفقيه وبين تفسير المتكلم تكون عموما من وجه ،
فيجتمعان في مادة ويفترقان في مادتين لاجتماعهما في نحو صلاة المختار ، لانها تكون
موافقة للشريعة ومسقطة للقضاء ، ولافتراق الاولي في نحو صلاة الصبح اذا فعلت
اخفاتا جهلا اذ هي مسقطة للقضاء ، ولكنها موافقة للشريعة ، لان الجاهل بالجهر
والاخفات معذور كما في النصوص ، ولافتراق الثاني في الصلاة التي فعلت بالطهارة المستصحبة
مع كشف الخلاف لانها تكون موافقة للشريعة نظرا الى جعل الامر الظاهري اي الحكم
الظاهري في موارد الاستصحاب والامارات والاصول ، ولا تكون مسقطة للقضاء لاجل كشف
الخلاف.
ثم اعلم ايضا : ان
الفساد في العبادة تكون غير الفساد في الاعيان كالتّفاح الفاسد ، لان الفساد في
العبادات عبارة عن عدم وجود العبادة في الخارج (أي بطلانها) الذي يكشف عن عدم
فردية الفاسد للمأمور به ، بخلاف الفاسد من العين لان عنوان التفاح يصدق على
الفاسد ايضا ، وهو ظاهر لا غبار عليه.
القدر الجامع :
قوله
: ومنها انه لا بدّ
، على كلا القولين ، من قدر جامع في البين ... الخ وجه اللابدية من قدر جامع هو
تسالم جميع الاصوليين على عدم الاشتراك اللفظي الذي يستلزم تعدد الوضع والموضوع له
، بل المسلّم عندهم ان الفاظ العبادات تكون مشتركا
معنويا يستلزم
وحدة الوضع ووحدة الموضوع له ، فتكون كليا طبيعيا لها مصاديق على حسب تعدد المصلي
كالانسان ، فلو لم يكن القدر الجامع في البين ، الذي يكون الموضوع له لالفاظ
العبادات حتى يتصور جميع الافراد ، أعمّ من الصحيح والفاسد للزم وضع كثير غير
متناه والحال انه لا يلتزم به احد ، هذا أولا ، وثانيا : انه لا بد من القدر
الجامع ، فاذا انطبق على المأتي به فهو صحيح ، واذا لم ينطبق عليه فهو فاسد ، ففي
امتياز الصحيح عن الفاسد لا بد من القدر الجامع في البين ، وإلّا فالنزاع بلا
ثمرة.
ولكن يمكن تصوير
الجامع على الصحيحي بهذا النحو وهو : انا لاحظنا الاثر الذي يشترك فيه جميع افراد
الصحيحة ومصاديقها التي تختلف من حيث الكمية والكيفية ، ويشار به ذلك كالنهي عن
الفحشاء والمنكر ، لان طبيعة الصلاة الصحيحة اذا صدرت من اي مكلف وفي اي مكان وفي
اي زمان موسّع تحققت يكون لها هذا الاثر المذكور وغيره ، من العمودية في الدين ،
والمعراجية لكل مؤمن ، والمقربيّة لكل تقي ، فهذه العناوين تشير الى معنون واحد
يكون القدر الجامع بين الافراد وان لم نعرفه بعينه ، لان معرفته بعينه لا تكون
دخيلة في مؤثريته في هذه الآثار ، والاشتراك فيها كاشف وجدانا عن اشتراكها في جامع
واحد يؤثر في الاثر الواحد ، اذ الاثر الذي يترتب على الصلاة ، بما لها من الافراد
التي تختلف بحسب اختلاف حالات المكلف ، واحد كالنهي عن الفحشاء والمنكر ، فلا بد
ان يكون المؤثر ايضا واحدا ، وهو الجامع الذي ينطبق على جميع الافراد الصحيحة.
وهو يتفرع على
القاعدة العقلية لامتناع صدور معلول واحد من «علل متعددة» أو فقل «ان الواحد لا
يصدر إلّا من الواحد» لانه لو صدر عنها لزم المحال فالتالي باطل فالمقدم مثله.
اما بيان الملازمة
فهو انه من الواضح ان كل معلول يفتقر الى العلة افتقارا شديدا ، فلو كانت متعددة
تامة للزم من كمال احتياجه اليها عدم احتياجه اليها وهو محال فلا يمكن تعددها مع
كونه واحدا. فان قيل ان هذه القاعدة انما تكون مقبولة اذا قلنا بان العبادات
الشرعية تكون علة تامة لهذا الاثر ، واما اذا قلنا بانها معدّات
وعلامات للاثر فلا
يلزم محذور اصلا ، لانه يجوز ان يكون للشيء الواحد علامات كما لا يخفى.
فتحصّل ممّا ذكرنا
تصوير المسمى للفظ الصلاة وغيره من الفاظ العبادات فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة
ب (الناهية عن الفحشاء والمنكر) وب (معراج المؤمن) ونحوهما من (العمودية) و (المقربيّة).
اشكال الجامع :
قوله
: والجامع لا يكون امرا مركبا ... الخ ويستشكل في الجامع بانه اما مركب وامّا بسيط ، فان كان
مركبا فلا ينطبق على جميع الافراد التي تختلف على حسب اختلاف حالات المكلف مثلا ،
اذا فرض الجامع اربع ركعات فهي صحيحة للمكلف الحاضر وفاسدة للمسافر ، واذا فرض
الجامع اثنين فيكونان بالعكس ، فايّ مركب يكون جامعا في تمام حالات المكلف بحيث
ينطبق على نهج واحد على جميع الافراد ، هذا مضافا الى ان الصحة والفساد امران
اضافيان كما مرّ.
وان كان بسيطا فلا
يخلو اما ان يكون عنوان المطلوب ، واما ان يكون ملزوما مساويا له كعنوان المحبوب
او كعنوان ذي مصلحة عالية ، وكل واحد منهما لا يمكن ان يكون جامعا ، اما عنوان المطلوب
: فلانه مستلزم للدور. بيانه : ان تحقق عنوان المطلوب يتوقف على الطلب ، لانه ما
دام لم يتحقّق الطلب لم يتحقق عنوان المطلوب ، فيكون المطلوب موقوفا والطلب موقوفا
عليه. وان المطلوب أخذ موضوعا للطلب على الفرض ، فيتوقف الطلب على المطلوب من جهة
توقف الحكم على موضوعه ، فيكون المطلوب موقوفا عليه ، والشيء اذا كان موقوفا فهو
يتأخر ، واذا كان موقوفا عليه فهو يتقدم ، فيلزم تقدم الشيء على نفسه ، ويلزم
تأخره عن نفسه ، وهو محال ، فيكون الدور محالا لانه مستلزم المحال ، ومستلزم
المحال محال ، فلا يمكن ان يكون قدر الجامع بين الافراد المختلفة عنوان المطلوب ،
هذا اولا.
وثانيا : يلزم على
هذا المبنى ان يكون لفظ الصلاة ولفظ المطلوب مترادفين
كالانسان والبشر ،
ويكون لازم الترادف جواز استعمال كل واحد منهما موضع الآخر فيصح ان نقول اقيموا
المطلوب كما يصحّ ان نقول اقيموا الصلاة. والاول غير صحيح ، والثاني صحيح وهو يكشف
عن عدم الترادف.
وثالثا : انه يلزم
حينئذ عدم جواز اجراء البراءة فيما اذا شك في جزئية شيء للمأمور به كالسورة مثلا ،
أو شك في شرطية شيء له كفعل الصلاة في اول وقتها كما قال به المفيد قدسسره من اصحابنا قدسسرهم ، لعدم الاجمال في المأمور به الذي هو عنوان المطلوب ،
وانما يكون الاجمال في مصداقه وفي محصّله ، لان المأمور به شيء بسيط وهو عنوان
المطلوب فتكون الأجزاء محصّلة للمأمور به كالطهارة التي تكون امرا بسيطا ويكون
محصلها غسلات ومسحات ، فكذا عنوان المطلوب الذي يكون بسيطا لا اجمال فيه لبساطته
ويكون محصّله هو التكبير والقراءة والركوع وغيرها من محصّله.
وحينئذ يكون الشك
في امتثال امر المولى ، ولا يكون الشك في نفس المأمور به ، والعقل حاكم بالاحتياط
من اجل حكم العقل بوجوب دفع الضرر ، وهو لا يدفع إلّا بالاحتياط الذي لا يرضى به
الصحيحي ، وهكذا ترد الإشكالات هذه على تقدير ان يكون الجامع ملزوما للمطلوب وهو
عنوان المحبوب او عنوان ذي المصلحة ، طابق النعل بالنعل ، فلا حاجة الى التوضيح.
الجواب عن الإشكال
:
قوله
: مدفوع بان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات ... الخ فاجاب المصنف عن هذا الإشكال بان الجامع امر بسيط ملزوم
للمطلوب ، وهو عنوان المحبوب ، ولا يلزم عدم اجراء اصالة البراءة في صورة الشك في
اجزاء المأمور به وفي شرائطه.
توضيحه
: ان المأمور به قد
يكون ممتازا عن محصله ، بحيث لا يكون متحدا معه وجودا ، بل يكون مباينا له كمباينة
المسبّب لسببه ، وذلك كالطهارة اذا قلنا بانها
حالة نفسانية
تباين مع اسبابها من الغسل والوضوء والتيمم.
وعلى هذا المبنى ،
فان شك في جزئية شيء لاسبابها ، أو في شرطية شيء لها ، ففي هذه الصورة تجري اصالة
الاشتغال واصالة الاحتياط ، دون البراءة. وقد يكون المأمور به متحدا مع محصّله
كاتحاد الكلي مع افراده ، وذلك كالصلاة التي تكون متحدة مع التكبير والركوع وما
شاكلهما.
فاذا شك في دخل
شيء للمأمور به ، من حيث الجزء ، أو من حيث الشرط ، تجري اصالة البراءة ، لان
الاصل عدم دخل الشيء المشكوك في المأمور به جزءا أو شرطا ، فيكون الجامع بينهما
مفهوما واحدا منتزعا عن هذه المركبات المختلفة كيفية وكمية بحسب حالات المكلف ،
وهو عنوان المحبوب ، ولا تجري اصالة البراءة فيما اذا كان المأمور به امرا بسيطا
خارجيا مسببا عن مركّب مردّد بين الاقل والاكثر ، وذلك كالطهارة التي تكون مسبّبا
عن اسبابها ، فاذا شككنا في اجزائها أو في شرائطها تجري اصالة الاشتغال واصالة
الاحتياط ، ولا تجري اصالة البراءة ، لان الشك لا يكون في نفس المأمور به ، بل في
إتيانه وفي امتثال امر المولى ، والعقل يحكم بالاحتياط قطعا لان الاشتغال اليقيني
يقتضي الفراغ اليقيني ، وهو لا يحصل إلّا بالاتيان بالمشكوك جزء أو شرطا.
اذا عرفت ما ذكرنا
فيكون ما نحن فيه من القسم الثاني ، هذا تمام الكلام على الصحيحي.
اشكال المصنف على
الجامع الأعمّي :
قوله
: واما على الاعم
فتصوير الجامع في غاية الإشكال ... الخ ، ويشكل تصوير الجامع بين الافراد التي تختلف
من حيث الكيفية ومن حيث الكمية ، وذلك لانه لا يتعقّل دخل الزيادة ودخل النقيصة في
الجامع وكل واحد منهما يكون محالا.
بيانه : وهو انه
ان كان الزائد دخيلا في الجامع امتنع ان يكون الناقص فردا للزائد ، اذ هو يباينه.
والحال ان المباينة تكون من الطرفين ، وحينئذ فالجامع لا
ينطبق على الناقص.
وان كان الناقص دخيلا في الجامع امتنع ان يكون الزائد فردا للناقص لانه يباينه
ايضا ، وحينئذ لا ينطبق على الزائد ، فلو انطبق عليهما لزم اجتماع النقيضين من دخل
الزائد في الجامع ومن عدم دخله فيه ، فيلزم التشكيك في ماهية الشيء ، ويلزم ان
يتردد جنس شيء بين الشيئين ، فاللازم باطل بل يكون محالا فالمقدّم مثله فيبقى
الاسم بلا مسمى على قول الأعمّي.
تصوير الجامع على
قول الأعمّي :
قوله
: وما قيل في
تصويره أو يقال وجوه قال الأعمّي انه يمكن ان يتصور الجامع بين الافراد المتباينة
مسمى للفظ الصلاة على احد وجوه خمسة.
احدها : ان يكون
جامع الأجزاء التي تكون في الصحيح والفاسد ، وتلك مثل الاركان ، وكان الزائد عليها
معتبرا في المأمور به لا في مسمى الصلاة من حيث هي هي. وفيه ان هذا الجامع لا يطرد
ولا ينعكس ، اي لا يكون مانعا للاغيار ، ولا يكون جامعا للافراد.
اما الاول : فلانه
تصدق الصلاة عند الأعمّي على فاقدة بعض الاركان وهي ، اي الفاقدة تكون غير واجدة
لجميع الاركان ، فلو كانت التسمية تدور مدار الاركان كلها فالفاقدة لبعضها لا بدّ
ان لا تسمى بالصلاة ، وهي ـ اي ـ التسمية ـ ضرورية عند الأعمّي على الفرض.
واما الثاني :
فلانه لا تصدق الصلاة على واجدة الاركان كلها والفاقدة لجميع ما عداها من الواجبات
غير الاركان عند الأعمّي.
فلو كان المسمى
خصوص الاركان لوجب صدق الصلاة على الواجدة لجميع الاركان والفاقدة لما عداها ،
لوجب عدم صدقها على الفاقدة لبعضها والواجدة لجميع ما عداها ، والامر يكون بالعكس
كما عرفت. فتخلّف المسمى عن الاركان يكشف عن عدم كون المسمى خصوص الاركان فهي لا
تكون القدر الجامع بين الافراد كما لا يخفى.
هذا مع انه يلزم
ان يكون استعمال لفظ الصلاة مجازا في المأمور به مع جميع اجزائه وشرائطه عند
الأعمّي بعلاقة الجزء والكل ، وهي مشروطة بشرطين ، وكلاهما مفقودان ، وكان من باب
استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل لا من باب اطلاق الكلي على الفرد والجزئي ،
نحو اطلاق الانسان على زيد مثلا ، لان مجموع الأجزاء لا يكون فردا للاركان وتكون
هي كليا.
ويدل عليه عدم صحة
حملها عليها ، فلا يصح ان يقال ان الأجزاء اركان كما يصح ان يقال زيد انسان ، ولا
يقول الأعمّي بهذا المجاز ولا يرضى به.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى ان هذه المجازية انما تلزم اذا كان مسمى الصلاة خصوص الاركان ان كانت مشروطة
بعدم انضمام سائر الأجزاء اليها على نحو الماهية بشرط لا والماهية المجردة.
واما اذا كانت
مسمى للصلاة على نحو الماهية لا بشرط ، والماهية المطلقة ، فلا تلزم المجازية اذا
استعملت في جميع الأجزاء ، لانها تجتمع مع ألف ماهية بشرط شيء والماهية المخلوطة ،
كما هو ظاهر.
في القدر الجامع
ثانيا :
قوله
: ثانيها ان تكون موضوعة لمعظم الأجزاء ... الخ قال بعض ان القدر الجامع بين الافراد التي تختلف باختلاف
حالات المكلف هو معظم الأجزاء الذي تدور التسمية مداره وجودا وعدما ، سواء كان
أركانا أم غيرها ، أم كان مركبا منهما. فليس المراد مطلق المعظم ، بل الذي تدور
التسمية مداره وجودا وعدما.
قوله
: وفيه مضافا الى ما أورد على الاول اخيرا ... الخ قال المصنف ترد عليه اشكالات :
اوّلها
: انه يلزم ان يكون
استعمال لفظ الصلاة في المأمور به مجازا من باب اطلاق اللفظ الموضوع للجزء في الكل
بعلاقة الجزء والكل لصحة السلب.
لانه يصح ان تقول
ان المأمور به ليس بمعظم الأجزاء وهي علامة المجاز.
هذا مضافا الى
انها مشروطة بشرطين وكلاهما مفقودان ، لانه يكون تركب اعتباري بين اجزاء المأمور
به ، ولا يكون جميعها من الرئيسة ، وليس من باب اطلاق الكلي على الفرد مع قطع
النظر عن خصوصية الفرد للمباينة بين معظم الأجزاء واكثرها وجميعها وهو واضح ، هذا
هو الإشكال الاخير في الوجه السابق.
وثانيها
: انه يلزم عدم
تعيّن الجامع وتردده بين أمور ، لان المعظم قد يكون ستة وهو النية والتكبيرة
والركوع والسجود والتشهد والتسليم كما في صلاة العاجز عن القيام ، وقد يكون سبعة
اذا فعلت مع القيام ، وقد يكون كثيرا كما في صلاة الحاضر ، وقد يكون قليلا كما في
صلاة المسافر. فبالنتيجة يلزم مجهولية المعظم لاختلاف المعظم على حسب اختلاف حالات
المكلف.
وثالثها
: انه يلزم دخل شيء
في المعظم كالقيام ، وعدم دخله فيه كما في صلاة العاجز عنه ، فيلزم حينئذ اجتماع
النقيضين وهو محال ، لا سيما اذا لوحظ اختلاف العبادة من حيث الكيفية ومن حيث
الكمية على اختلاف حالات المكلف ، والتردّد في المسمى يكون على خلاف حكمة الوضع ،
لان حكمته افهام الاغراض والمقاصد ، ويكون لازم ذلك تعيّن المسمى وتشخص الموضوع له
، فالثاني مردود ايضا كالاول.
هذا مضافا الى انه
يلزم التغير والتردّد في ذاتي الشيء وهو الجامع المتصور.
الدليل الثالث :
قوله
: ثالثها ان يكون وضعها كوضع الاعلام الشخصية كزيد ... الخ والمسمى فيها ، اي في الاعلام ، محفوظ وان تغيرت أوصافه من
الصغر والكبر والشيبوبة والكهولة ، وان تبدلّت حالاته من المرض والصحة ونقص بعض
اعضائه وزيادته ، لانها وضعت للذات المعيّنة التي تتشخص بوجود الخاص ، فما دام كان
هذا الوجود الخاص باقيا ، فيصدق على المسمى اسمه نحو (علي) و (احمد) مثلا ، وان
تغيرت حالاته من حيث الكمّ نحو (الصغر) و (الكبر) ، أو من حيث الكيف نحو كونه (ابيض)
أو (اسود) ، أو من
حيث الأين مثل
كونه (في المسجد) أو (الحرم) ، أو من حيث ال (متى) نحو كونه (في العام الماضي) أو (العام
الحاضر) ، أو من حيث الوضع مثل كونه (ذاهبا) أو (جالسا) ، أو من حيث الفعل نحو
كونه (مصلّيا) أو (مطالعا درسا) ، أو من حيث الانفعال نحو كونه (متأثرا) أو (متألما)
، أو من حيث الملك مثل كونه (مالكا للدار) أو (مالكا لمنفعتها) كالمستاجر لها من
مالكها.
فكذا الفاظ
العبادات وضعت لمسمّياتها وهي محفوظة باختلاف اوصافها من القيام في حالتها ، اي
حالة الصلاة ، ومن الجلوس فيها ، وباختلاف عدد ركعاتها من التمام والقصر ،
وباختلاف كيفيتها من الجهر والاخفات ، فمسمى الصلاة باق وان اختلفت اوصافها على
حسب اختلاف حالات المكلف ، وهو الجامع بين الصحيحة والفاسدة منها.
الجواب عنه :
قوله
: وفيه ان الاعلام انما تكون موضوعة للأشخاص ، والتشخّص انما يكون بالوجود الخاص
... الخ. ويرد عليه ان
الفاظ العبادات وضعت للمركبات التي تختلف باختلاف الحالات ، لا الأشخاص ، فلا يوجد
قدر جامع ينطبق على تمام افرادها ومصاديقها ، لان كل واحد منها يكون مباينا للفرد
الآخر. ويدل على هذا عدم صحة حمل بعضها على الآخر ، فلا يصح ان يقال الصلاة
الرباعية الصلاة الثلاثية وبالعكس. اما بخلاف الاعلام فانه يوجد القدر الجامع ،
وهو المسمى وان تغيّرت اوصافه وتبدلت حالاته.
قوله
: للمركّبات
والمقيّدات فكان قياسها عليها مع الفارق وهو باطل. فان قيل انه هل الفرق بينهما
موجود أم لا؟ بل يكون الثاني عطفا تفسيريا للاول. قلنا : ان الفرق موجود وهو ان
الاول بالاضافة الى اجزاء المأمور به ، والثاني بالنسبة الى شرائطه. فالصلاة ماهية
مركبة بلحاظ اجزائها وماهية مقيدة بلحاظ شرائطها.
فان قيل : انه هل
الفرق بين الحالات والكيفيات موجود أم لا؟ قلنا ان الفرق
بينهما موجود ،
وهو ان الحالات عبارة عن الاوصاف. مثل : علم زيد وجهله و ... والكيفيات عبارة عن
لونه مثل سواديته وبياضيته و ...
الدليل الرابع :
قوله
: رابعها ان ما
وضعت له الالفاظ ابتداء هو الصحيح التام ... الخ قال الأعمّي ان المسمى للفظ
الصلاة ابتداء وقبل الاستعمال هو الصحيح التام الواجد لتمام الأجزاء الحاوي لجميع
الشرائط ، إلّا انّ اهل العرف اطلقوها على الناقص مسامحة كما هو عادتهم وديدنهم
بعلاقة المشابهة ، لان الناقص شبيه للتام في معظم الأجزاء ، كما ان الرجل الشجاع
مشابه للاسد في الشجاعة والجرأة ، ويطلقونها عليه على نحو الحقيقة الادعائية ،
السكاكي. والمجاز يكون في الاسناد ، بمعنى ان للصلاة فردين ، احدهما فرد حقيقي ،
وهو تام كامل. والآخر فرد ادعائي ، وهو الناقص ، تنزيلا للناقص منزلة التام بلحاظ
العلاقة من العلائق.
فقولنا : الناقصة
صلاة حقيقة ادعائية ، والمجاز يكون في الاسناد نحو (انبت الربيع البقل) وهذا
المجاز يسمى بالمجاز العقلي ، فالسكاكي انكر المجاز في الكلمة وقال بالحقيقة
الادعائية في الاستعارة.
واعلم انه اذا
كانت علاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي وبين المعنى المجازي يسمى بالاستعارة ،
وإلّا فبالمجاز المرسل ، فاستعمال الصلاة في الناقص يكون من قبيل الاستعارة على
المشهور لمشابهته للتام في اكثر الأجزاء والشرائط ومعظمهما.
قوله
: بل يمكن دعوى
صيرورته حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه ... الخ بل يمكن ان يكون استعمال لفظ الصلاة
في الناقص حقيقة اصطلاحية على نحو الوضع التعيني الذي يكون منشؤه وسببه كثرة
الاستعمال لأمرين : الاول : لمشابهة الناقص للتام في الصورة. والثاني : لمشاركته
له في الاثر المطلوب. اذ كلتاهما صلاة ومعراج للمؤمن و ... كما سبق في بحث الحقيقة
الشرعية ، فراجع هنا ، وذلك نحو اسماء المعاجين التي وضعت ابتداء للتام ثم أطلقت
على الناقص منها ، لوجهين : الاول : لمشابهة
الناقص للتام في
الصورة اذ كلاهما معجون. الثاني : لمشاركته له في الاثر المهم. فهذا الاطلاق اما
أن يكون مجازا بعلاقة المشابهة ، وهو قول الصحيحي. واما أن يكون حقيقة ادعائية
السكاكي ، واما أن يكون حقيقة اصطلاحية بادعاء ان المسمى يكون القدر الجامع الكلي
ينطبق على الفرد التام وعلى الفرد الناقص ، كما ان الحقيقة الادعائية تكون من باب
تنزيل الناقص منزلة التام وهو قول الأعمّي.
ولا يخفى عليك ان
النسبة بين الناقص والفاسد عموم مطلق. بيانه : ان كل فاسد في العبادات ناقص اما من
حيث الجزء ، واما من حيث الشرط ، ولا يكون كل ناقص فاسد كما في صلاة المسافر
والغريق.
ومن هنا يعلم خلط
الأعمّي لان مدّعاه انما يكون وضع الالفاظ للاعم من الصحيح والفاسد ، ودليله يرشد
الى وضعها للتام والناقص وهو كما ترى.
فساد الوجه الرابع
:
قوله
: وفيه انه انما يتم في مثل اسامي المعاجين وسائر المركبات الخارجية ... الخ والوجه الرابع يكون ايضا قياسا مع الفارق كالثالث ، لان
المعاجين تكون مركبات خارجية ، والعبادات مركبات اعتبارية ، فالاولى وضعت ابتداء
للتام ثم اطلقت على الناقص للمشابهة في الصورة وللمشاركة في الاثر المهم ، فالتام
محفوظ مضبوط فيها مطلقا وهو الموضوع له لها. بخلاف العبادات لان التام فيها غير
محفوظ مضبوط فيها لانه يختلف باختلاف حالات المكلف ، فالصلاة الثنائية تامة كاملة
للمسافر وهي ناقصة للحاضر ، فلا يكون فيها تام في جميع الحالات حتى يكون الموضوع
له ابتداء هذا التام ، ثم تستعمل في الناقص على نحو الحقيقة الادعائية تنزيلا
للناقص منزلة التام ، أو على نحو الحقيقة الاصطلاحية ، فالفرق واضح بينهما ، فيكون
الرابع كالثالث في كونهما قياسين مع الفارق وهو باطل.
قوله
: فتأمل جيّدا اشارة الى انه اذا جاز استعمال الفاظ العبادات في الناقص فيلزم الاشتراك فيها
، لانه لا يترك استعمالها في التام ، ويلزم من الاشتراك الاجمال
مع عدم القرينة
المعينة. والاجمال ينافي التمسّك باطلاق الخطاب في صورة الشك في جزئية شيء للمأمور
به أو شرطيته له. كما سيأتي في بيان ثمرة النزاع فيلزم خلاف مقصود الأعمّي لانهم
يتمسكون به عند الشك المذكور كما لا يخفى.
الدليل الخامس :
قوله
: خامسها ان يكون حالها حال اسامي المقادير والاوزان مثل المثقال ... الخ اعلم ان الموضوع له فيها يكون مثل الموضوع له في اسامي
المقادير والاوزان مثل المثقال والحقّة والوزنة وما شاكلها مثلا ، لاحظ الواضع حين
وضع المقادير مقدارا معينا كالف ومائتي رطل عراقي أو مدني لتحديد الكرّ ، ولكن لم
يضع لفظ الكر لهذا المقدار الخاص ، بل وضعه للجامع الكلي الذي ينطبق على التام
والناقص في الجملة فلذا يطلقها اهل العرف على الناقص في الجملة ، فكذا لاحظ الشارع
المقدس ابتداء صحيح التام ، ولكن لم يضعها لخصوص التام بل للجامع الكلي الذي ينطبق
على التام والناقص فلا يكون استعمالها فيهما مجازا اصلا.
وفي ضوء هذا
التفصيل ظهر الفرق بين الوجود الخمسة ، لانه في الاول يكون مسمى الصلاة معينا ،
وهي اركان فعليه تدور التسمية مدارها وجودا وعدما من دون مدخلية المعظم فيها. وفي
الثاني : يكون معظم الأجزاء ، فاذا وجد المعظم صدق المسمى عرفا ، فالتسمية تدور
مدار المعظم. وفي الثالث : يكون المسمى صرف وجود الصلاة ولو في ضمن غير المعظم ،
نحو صلاة الغريق التي تشتمل على التكبيرة والقراءة فقط. وفي الرابع : يكون المسمى
منوطا بالتسمية العرفية ، واهل العرف يتسامحون ويطلقونها على الناقص تنزيلا للناقص
منزلة التام. وفي الخامس :
يكون المسمى
الجامع الكلي الذي ينطبق على التام وعلى الناقص.
الجواب عنه :
قوله
: وفيه ان الصحيح
كما عرفت في الوجه السابق ... الخ والصحيح التام في العبادات لا يكون محفوظا
مضبوطا في جميع الحالات بل يختلف باختلافها حتى لاحظه الواضع كما عرفت في الوجه
الاول.
تتمة : فلا صحيح
مضبوط هناك كي يلحظ التام والناقص بالنسبة اليه حتى يوضع لفظ الصلاة للاعم منهما.
قوله
: فتدبر جيدا
تدقيقي اشارة الى دقة ما سبق.
فتحصّل
مما ذكرنا : انه يمكن أن يقال
إن الفاظ المقادير وأسامي الاوزان ، وان وضعت ابتداء للتام الكامل لا بازاء الجامع
، ثم استعملت في التام والناقص معا لمشابهة الناقص للتام في الصورة ولمشاركته اياه
في الاثر المهم فصارت الفاظها حقيقة في الاعم على نحو الوضع التعيني الاستعمالي ،
لا على الطريق الانشائي كما سبق من المصنف في بحث الحقيقة الشرعية في الفاظ
العبادات فراجع.
ولا يمكن ان يقال
هذا الكلام في الفاظ العبادات لان التام الصحيح فيها مختلف على حسب اختلاف حالات
المكلف ، فلا يكون فيها التام الصحيح مضبوطا محفوظا حتى توضع للاعم على نحو الوضع
التعييني الاستعمالي لا على نحو الوضع التعييني الانشائي ، وهو واضح.
قوله
: ومنها ان الظاهر
ان يكون الوضع والموضوع له في الفاظ العبادات عامين ... الخ وقبل ذكر أدلة الطرفين
لا بد من ذكر أمور :
منها : ان يكون
الوضع والموضوع له فيها عامين كاسماء الاجناس والمشتقات ، واحتمال كون الموضوع له
خاصا بعيد جدا لانه حينئذ يلزم الإشكالان على سبيل منع الخلو :
الاول
: انه تلزم مجازية
استعمالها في الجامع في مثل (الصلاة تنهى عن الفحشاء) و (الصلاة معراج المؤمن) و (عمود
الدين) و (الصوم جنّة من النار) ، لكونه من باب استعمال اللفظ في غير ما وضع له ،
لانه اما أن يكون خصوص التام واما أن
يكون خصوص الناقص
، على تقدير كون الموضوع له خاصا فيها ، فلا يقال ان الناقص لا يكون معراجا للمؤمن
ولا عمودا للدين حتى يصح استعمال لفظ الصلاة فيه كي تلزم المجازية ، لانه يقال ان
الناقص معراج وعمود كالتام ، لان المقصود منه هو الناقص الاضافي كصلاة المسافر
بالاضافة الى صلاة الحاضر ، فلفظ الصلاة استعمل في الجامع والقدر المشترك بينهما
وهو مسمى الصلاة سواء كان تاما أم كان ناقصا. وكذا لفظ الصوم استعمل في الجامع والقدر
المشترك بين التام ، وهو من الفجر الى الغروب وبين الناقص وهو صوم الحائض اذا طهرت
قبل الزوال.
والثاني
: انه اما أن يلزم
منع استعمال الفاظ العبادات في الجامع لوجهين :
الوجه الاول : ان
المجاز يحتاج الى القرينة الصارفة وهي غير موجودة في الامثلة المتقدمة. ومن
انتفائها نستكشف عدمه.
الوجه الثاني :
لان الآثار تكون مترتبة على طبيعة الصلاة من دون ملاحظة الافراد ، وعلى الجامع من
دون لحاظ الخصوصية من الاختيار والاضطرار و ... فاستعملت في الجامع والقدر المشترك
، وهذا يكشف عن الجواز ، اي جواز استعمالها فيه ، كما لا يخفى بعد المجازية ومنع
الاستعمال في الجامع على اولى النّهى.
حاصل
الكلام : ان كان استعمالها
في الجامع مجازا فلا بد من القرينة الصارفة ، اذ هي لازمة مساوية للمجاز ، وفي
صورة استعمالها في الجامع غير موجودة ، وحينئذ نعلم من انتفاء اللازم المساوي
انتفاء الملزوم ، ولا يكون استعمالها فيه ممنوعا لان القضايا الصادرة من الشارع
تكون طبيعية تترتب الاحكام عليها لا على الافراد فتكون الصلاة واجبة ، مثل الانسان
نوع والحيوان جنس. لان النوعية مترتبة على طبيعة الانسان لا على افراده ، وكذا
الحال في الجنسية.
بيان ثمرة النزاع
:
قوله
: ومنها ان ثمرة
النزاع اجمال الخطاب على قول الصحيحي ... الخ ومن الأمور ان ثمرة النزاع هي اجمال
الخطاب على قول الصحيحي. فاذا شك في جزئية شيء
للمأمور به
كالسورة ، أو في شرطيته له ، كالجهر والاخفات ، فلا يجوز التمسك باطلاق الخطاب
لعدم اعتبارهما فيه ، لاحتمال دخل المشكوك بعنوان الشرطية ، وبعنوان الشرطية في
المأمور به. ومع هذا لا يحرز المسمى ولا تحصل البراءة اليقينية بعد الاشتغال
اليقيني. فلا بد من التمسك بالاشتغال والاحتياط ولا بد من اتيان المشكوك هذا على
مذهب الصحيحي ، ووجه ذلك ما تقدم.
واما على مذهب
الأعمّي فيرجع من اختلاف التام الصحيح باختلاف حالات المكلف الى اطلاق الخطاب الذي
يكون موضوعه العبادة ك (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) في دفع المشكوك ، اي في دفع مشكوك الجزئية ، أو مشكوك
الشرطية المأمور به بعد إحراز شرائط جواز التمسك بالاطلاق ، وهي اربعة :
الاول
: أن يكون المولى
في مقام بيان تمام اغراضه.
والثاني
: أن لا يكون القدر
المتيقن في مقام التخاطب.
والثالث
: أن لا تكون
القرينة على ارادة القدر المتيقن.
والرابع
: أن تكون المصلحة
في البيان لا في الاجمال والاهمال. فهذه الأمور تسمى بمقدمات الحكمة.
كما ان اصالة
الاطلاق هي المرجع في سائر الاطلاقات. فبالنتيجة فاقد مشكوك الجزئية وفاقد مشكوك
الشرطية يكون صلاة قطعا على الأعمّي. وحينئذ فاطلاق قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) يقتضي كون الموضوع نفس الصلاة مطلقا لا مقيدا بمشكوك
الجزئية فيلغى به احتمال الجزئية.
اما مع اجمال
الموضوع فيسقط اطلاق الخطاب عن الحجيّة ، لان التمسك به يكون فرع العلم بانطباق
موضوعه ، وهو غير حاصل مع اجماله ، ويترتب على ذلك انه لو شك في جزئية شيء أو
شرطيته للصلاة الواجبة فيتعذر الرجوع الى اطلاق قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) لنفي الشك المذكور على القول بالصحيح (هذا).
ومع عدم تمامية
مقدمات الحكمة ، فالمرجع اما اصالة البراءة ، أو اصالة الاشتغال ، على خلاف في
دوران الامر بين الاقل والاكثر الارتباطيين لا الاستقلاليين.
والفرق بين
الارتباطي والاستقلالي هو انه لا يمكن التفكيك بين اجزائه في الامتثال في
الارتباطي كالصلاة الواجبة أو المندوبة ، إذ لا يمكن الانفكاك بين اجزاء الصلاة في
مقام امتثال امر المولى ، بل لا بد من الإتيان بجميعها كي يمتثل الامر ، والمركب
الاستقلالي ما يمكن التفكيك بين اجزائه في الامتثال كالدّين المردد بين الاقل
والاكثر. فالاول : يكون اختلافيا ذهب بعض الى البراءة بالاضافة الى المشكوك ، وذهب
بعض الى الاشتغال.
والثاني : يكون
وفاقيا وقال كل بالبراءة بالنسبة الى المشكوك ، فالمسمى يكون محرزا ومعينا عند
الأعمّي عند اطلاق الخطاب الذي يكون موضوعه العبادة ولا يكون محرزا عند الصحيحي في
صورة اطلاقه ، كما ان ظهور الاطلاقي منعقد عند الأعمّي ولذا يتمسك به عند الشك في
الجزئية أو في الشرطية ولا ينعقد عند الصحيحي ولذا لا يتمسك به عند الشك المذكور
لان المشكوك يحتمل ان يكون دخيلا في المسمى كما ان الأعمّي يقول انه دخيل في
المأمور به لا في المسمى.
فالاعمّي يقول ان
المأمور به في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وفي امثاله هو التام الصحيح والمسمى يكون اعم منه ومن
الناقص ، والصحيحي يقول ان المسمى كالمأمور به يكون تاما صحيحا كاملا لا غيره.
ابطال الثمرة
الثانية :
قوله
: وقد انقدح بذلك
ان الرجوع الى البراءة والاشتغال في موارد الاجمال ، غرض المصنف من هذا الكلام
ابطال الثمرة الثانية ، وهي انه يرجع الى البراءة على الاعم ويرجع الى الاشتغال
على الصحيح عند الشك في الجزئية أو في الشرطية ، وهذه مردودة فلا وجه لها لان مورد
الاصل هو عدم الاطلاق من دون تفاوت على القولين.
ففي صورة الشك في
جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له مع عدم اطلاق الدليل يرجع الى الاصل العملي لكونه
من صغريات الاقل والاكثر الارتباطيين
والمرجع فيه اما
البراءة واما الاشتغال على الخلاف الثابت بينهم.
وبتقرير آخر وهو
ان هذه الثمرة معقولة اذا كان المأمور به معلوما والشك انما يكون في محصله ، وهذا
فاسد ، لانه لا يكون مفهوم الصحيح مأمورا به بل مصداقه مأمور به ونفس المصداق مردد
بين الاقل والاكثر لا محصّله.
فعلى هذا يرجع
الصحيحي الى البراءة لعموم حديث الرفع ونحوه. نعم اذا كان المأمور به معلوما وكان
الشك في محصّله فالمرجع هو الاشتغال بناء على الصحيحي والبراءة على الأعمّي وليس
الامر كذلك فلا ملازمة بين الصحيحي والاشتغال.
ولذا ذهب المشهور
الى البراءة مع ذهابهم الى الصحيح لان مناط جواز التمسك باطلاق الخطاب كون المتكلم
في مقام البيان وانه لم ينصب قرينة على التقييد ، وعليه فكما ان الأعمّي يتمسك
بالاطلاق فيما اذا احتمل دخل شيء في المأمور به زائدا على القدر المتيقن ، فكذا
الصحيحي يتمسك به اذا شك في اعتبار امر زائد على المقدار المعلوم ، ومن اجل هذا
يتمسك الفقهاء قدسسرهم باطلاق صحيحة حماد رضى عنه الله التي وردت في مقام الأجزاء
والشرائط وبيّن الامام عليهالسلام فيها تمام اجزاء الصلاة ، من التكبيرة والقراءة والركوع
والسجود ونحوها ، وحيث لم يبيّن عليهالسلام فيها الاستعاذة قبل البسملة في الركعة الاولى فيتمسك
باطلاقها على عدم وجوبها ، فلا فرق في ذلك بين الصحيحي والأعمّي اصلا. فتلخص ان
المناط كون المتكلم في مقام البيان لا الاجمال ولا الاهمال ، لا بكون الوضع للاعم
أو الصحيح كما لا يخفى ، فالثمرة الثانية باطلة جدا كما لا يخفى.
وينبغي بيان الفرق
بين الاجمال والاهمال هو ، ان الاول يكون لمصلحة ، والثاني قد يكون لاجلها وقد لا
يكون كذلك بل لغرض آخر ، وقيل بوجه آخر لا طائل فيه.
توضيح
لا يخلو من فائدة : وهو انه اذا اخترنا في المقام قول الصحيحي فيكون الموضوع له خاصا ، وهو
خصوص الصحيح ، فلا ينعقد الاطلاق اللفظي
للخطاب على هذا
القول. واما اذا قلنا بمقالة الأعمّي ، فيكون الموضوع له عاما وهو مسمى الصلاة
عرفا ، وينعقد الاطلاق اللفظي للخطاب على قوله.
بيان الثمرة
وفسادها :
قوله : وربما قيل بظهور الثمرة في النذر ايضا ... الخ اذا نذر
شخص اعطاء درهم للمصلي فعلى قول الأعمّي تبرأ ذمته سواء كانت صلاته تامة أم كانت
ناقصة ، وعلى الصحيحي تبرأ اذا احرز ان صلاته كانت تامة ، فهذه مردودة لانها ليست
من مسائل الاصول لانها تقع كبرى القياس مع انضمام صغرى معلومة عقلا أو شرعا اليها
، فينتج حكم شرعي كلي.
فهذه الثمرة تكون
نفسها حكما فرعيا فقهيا وهو براءة الذمة من وجوب الوفاء بالنذر على الأعمّي ، ومن
عدم براءة ذمة الناذر من وجوب الوفاء بالنذر على الصحيحي. هذا مضافا الى ان وجوب
الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر في الكيفيّة والكميّة ، واجنبي عن الوضع للصحيح أو
الاعم ، فلو قصد الناذر من كلمة المصلّي من فعل التامة من الصلاة لم تبرأ ذمته
بالاعطاء لمن فعلها فاسدة ، ولو قلنا بوضع الالفاظ للاعم. ولو قصد منها الآتي
بالصلاة ولو كانت فاسدة برأت ذمته بذلك ، وان قلنا بوضع الالفاظ للصحيح التام
الكامل.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى ان الصحة المتنازع دخلها في المسمى تكون غير الصحة المعتبرة في مرحلة الامتثال
فيمكن ان يكون المأتي به صحيحا من جهة وجدانه تمام الأجزاء والشرائط وفاسدة من
الجهات الأخر وتلك كالرياء والسمعة ، وعليه تحصل براءة الذمة بالاعطاء لمن يصلي
فاسدة ايضا.
ادلّة الصحيحي :
قوله : وكيف كان فقد استدل للصحيح بوجوه احدها التبادر ... الخ
فقد استدل الصحيحي على مدّعاه بوجوه اربعة :
احدها
: تبادر الصحيح من
الالفاظ عند اطلاقها الى أذهان السامعين ، فاذا قيل زيد صلّى اي فعلها صحيحة. وهو
يصلّي اي يفعلها تامة صحيحة ، وهو يكشف إنيا عن الوضع. لانه معلول الوضع ، ولا
منافاة بين دعوى تبادر الصحيح منها وبين اجمال الخطاب بها على هذا القول ، لانه
انما تكون فيما اذا لم تكن معاني الفاظ العبادات مبيّنة بوجه من الوجوه ، وقد عرفت
كون معانيها ومصاديقها مبيّنة معلومة بوجوه عديدة. مثل كونها معراجا للمؤمن وعمود
الدين ومثل كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر وقربانا لكلّ تقي.
فالتبادر مربوط
بالمعنى ، والاجمال منوط بمصداق الصحيح ، فلا منافاة بين التبادر المفهومي
والاجمال المصداقي. والمراد من الوجوه الآثار المتقدم ذكرها المشار بها الى الصحيح
الكامل من العمودية والمعراجية والقربانية والناهية.
الدليل الثاني :
قوله
: ثانيها صحة السلب
عن الفاسد بسبب الاخلال ببعض اجزائه أو شرائطه ... الخ.
ثانيها
: صحة سلب لفظ
الصلاة عن الفاسد بمعناه المعلوم والمحصّل في الذهن بالوجوه والآثار ، لانه يصح ان
يقال ان صلاة الحائض ليست بصلاة ، فلو كان موضوعا للاعم فلا يصح السلب ، لان
الفاسدة تكون مصداقا له ، وفسادها يكون بسبب الاخلال ببعض اجزاء المأمور به ، أو
ببعض شرائطه. فالفاسدة لا تكون صلاة بالدقة العقلية ، وان صح اطلاق لفظ الصلاة
عليها بالعناية ومجازا بعلاقة المشابهة ، لان الفاسدة شبيهة بالصحيحة في الصورة ،
وهي اي صحة السلب علامة المجاز كما سبق.
الدليل الثالث :
قوله
: ثالثها الاخبار
الظاهرة في اثبات بعض الخواص والآثار ... الخ.
ثالثها
: الاخبار التي
تبيّن الآثار والخواص لمسميات الفاظ العبادات ، مثل
الصلاة معراج
المؤمن ، ومثل الصلاة عمود الدين ، ومثل الصلاة قربان كلّ تقيّ ، فلو كان لفظ
الصلاة موضوعا للاعم لترتبت على الفاسدة هذه الآثار ، وهو خلاف الضرورة ، لان الفاسد
يكون بمنزلة المعدوم ، وهو لا يكون منشئا للآثار والخواص كما لا يخفى.
الاستدلال
بالاخبار على المدّعى :
قوله
: والاخبار النافية
لماهيتها وطبائعها مثل لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة إلّا بطهور ونحوهما
، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة بمجرد فقد ما يعتبر في صحة الصلاة شطرا أو شرطا.
تكون الاخبار النافية لماهية الصلاة اذا فقدت فيها فاتحة الكتاب أو فقد فيها طهور
، فلو كانت موضوعة للأعم لما صح نفي ماهيتها بمجرد فقدان غير الاركان وغير معظم
الأجزاء كالفاتحة أو السجود أو التشهد ، فعلم انها وضعت للصحيح كي يصح نفي ماهيتها
بفقد الفاتحة أو الطهور ، فان قيل ان مثل هذه التراكيب تكون ظاهرة في نفي الصحة أو
نفي الكمال ، فلا يتم الاستدلال بالطائفة الثانية من الاخبار على وضعها للصحيح.
قلنا
: ان هذا يكون خلاف
الظاهر لان لا ظاهرة وحقيقة في نفي الجنس وفي نفي الطبيعة ، لا نفي الوصف من الصحة
أو الكمال فلا يصار اليه بدون القرينة كما ان ارادة خصوص الصحيح من الطائفة الاولى
خلاف الظاهر لان ظاهرها ثبوت الآثار لماهية الصلاة بما هي صلاة فمعنى الاخبار يكون
هكذا ، الصلاة بما هي صلاة معراج المؤمن ، ونعلم من الخارج ان هذه الآثار مترتبة
على الصحيح دون الفاسد ، فتنضم هذه المقدمة الى ظواهر الاخبار فيكون المراد هو
الصحيح ، لا ان يراد هو منها ، هذا مضافا الى انه لو كانت الالفاظ موضوعة للأعم لم
يصح نفي الماهية عن فاقد الجزء ، أو الشرط ، اذ هو اخبار عن الامر المعلوم وهو
يكون عبثا اذا لم يكن المقصود افادة لازم الحكم ، والّا فلا.
قوله
: واستعمال هذا
التركيب في نفي الصفة ، ممكن المنع ... الخ فان قيل ان (لا)
التي وضعت لنفي
الجنس مستعملة في نفي الوصف من الكمال في مثل (لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد)
، ومثل (لا صلاة إلّا باذان واقامة) ونحوهما ، فكذا في مثل (لا صلاة إلّا بفاتحة
الكتاب) ونحو (لا صلاة إلّا بطهور) استعملت في نفي الوصف من الكمال لا في نفي
الماهية ، فلا يتم الاستدلال بهذا التركيب وامثاله.
وفي ضوء هذا ،
يتلخص مما ذكرنا ان الصلاة ، مع فقد الجزء أو الشرط ، صلاة ولكن ليست كاملة.
قلنا
: ان نفي الماهية
يكون تارة على وجه الحقيقة نحو (لا رجل في الدار) ، واخرى على وجه المبالغة
والادعاء نحو (لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد) واشباهه ، لان صلاة الجار في
غير المسجد تكون صحيحة ولكن من حيث نقصانها ثوابا ليست بصلاة ادّعاء ومبالغة ، نحو
قولنا : (زيد ليس بانسان) مع كونه انسانا بسبب نقصه من الجهل ، فزيد الجاهل ليس
بانسان ادّعاء ومبالغة ، فكذا صلاة جار المسجد ، فعلم ان (لا) استعملت في كل موضع
في نفي الماهية ، لكن استعملت في بعض الموارد على نحو الحقيقة ، وفي بعضها على نحو
الادّعاء ، وإلّا فلا تدل على المبالغة ، اذ هو نفي الماهية مع وجودها لا في نفي
الوصف من الصحة والكمال ، لانه اذا انتفى تنتفي الماهية بلا ادّعاء ومبالغة على
قول الصحيحي.
قوله
: فافهم اشارة الى
بطلان الاستدلال بالاخبار المثبتة من جهة ان اصالة الحقيقة انما تكون حجّة في
اثبات المراد لا في اثبات كون الاستعمال فيه حقيقة أو مجازا بعد العلم بالمراد ،
فتمسّكت فيها بنفي الماهية وقلت ان استعمال (لا) حقيقة فيه من جهة اصالة الحقيقة.
فهذا الاستدلال فاسد كما لا يخفى.
الدليل الرابع :
قوله
: رابعها دعوى
القطع بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الالفاظ ... الخ.
الرابع
: اعتباري ، وهو :
ان ديدن الواضعين يكون وضع الالفاظ للمركبات التامة ، لان حكمة الوضع تقتضي ذلك ،
اذ حكمته إفهام الاغراض وهو مرتّب على
المعاني التامة
لانها تكون منشئة للآثار الكاملة ، والظاهر ان الشارع لم يعدل عن هذا وسلكه اياه
غير متخطّ عنها ، ولكن الحكمة قد تكون داعية الى استعمال الالفاظ في الناقص بعد
وضعها للصحيح التام لا على نحو الحقيقة بل مجازا ومسامحة بعلاقة المشابهة في
الصورة وبتنزيل الفاقد منزلة الواجد في الاثر ، ولا يخفى ان هذه الدعوى غير بعيدة
، الّا انها قابلة للمنع لان الفاظ العبادات لا تكون مثل المركّبات الخارجية ، اذ
التام فيها محفوظ مضبوط ، اما التام الصحيح فيها فمختلف باختلاف حالات المكلف ،
كما مرّ في تصوير الجامع ، فقياسها على الفاظ المركبات الخارجية من قبيل المعاجين
ونحوها قياس مع الفارق وهو باطل. هذا اولا.
وثانيا : لو حصل
القطع بديدن الواضعين لشخص ، فهذا القطع يكون حجة له ، دون غيره.
وثالثا : ان الغرض
من حكمة الوضع هو التفهيم وهو لا ينحصر بالوضع للصحيح.
قوله
: فتامل وهو اشارة
الى ان عدم تخطي الشارع المقدس لطريقة الواضعين يحتاج الى العلم واليقين ، وهو لا
يكون في البين ، فهذا غير تام.
ادلّة الأعمّي :
قوله
: وقد استدل
للأعمّي بوجوه ايضا منها التبادر اي تبادر الاعم وقد استدل الأعمّي على مدّعاه
بوجوه خمسة ايضا :
منها
: تبادر الاعم منها
عند اطلاقها ، لانه اذا قيل (زيد صلى) أو (هو يصلي) يتبادر الاعم من الصحيح
والفاسد ، وينسبق الجامع بين الصحيح والفاسد الى الاذهان وهو علامة الوضع
والحقيقة. فان قيل ان تبادر الجامع يكون متفرّعا على دخل المفقود جزء أو شرطا في
المسمى نظرا الى صحته وتمامه ، وعدم دخله فيه نظرا الى نقصانه ، وهما متنافيان ،
هذا مضافا الى ان تبادر الجامع يكون فرع تحققه ، وقد عرفت الإشكال فيه على الأعمّي
كما سبق مفصلا.
قوله
: ومنها عدم صحة
السلب عن الفاسد منها : عدم صحة سلب لفظ الصلاة بمعناها المعلوم المرتكز في الذهن
عن الفاسدة فلا يصح ان يقال ان الفاسدة لا تكون صلاة.
قوله
: وفيه لما عرفت
وقد عرفت في ثاني الصحيحي صحة السلب عن الفاسدة بالمداقة العقلية وان صح اطلاقه
عليها بالمسامحة العرفية تنزيلا للفاسدة منزلة الصحيحة لمشابهتها لها في الصورة
والاثر.
قوله
: ومنها : صحة
التقسيم الى الصحيح والسقيم ... الخ والدليل الثالث لهم تقسيم الصلاة اليهما ، وهو
يدل على وضع الالفاظ للاعم ، وإلّا يلزم تقسيم الشيء الى نفسه والى غيره ، وهو
باطل فالملزوم وهو عدم الوضع للجامع مثله. بيان الملازمة وهو انه يعتبر ان يكون
مفهوم المقسم ساريا في مفهوم الاقسام فبناء على هذا يكونان صلاة.
جواب المصنف عن
الدليل الثالث للأعمي :
قوله
: وفيه انه يشهد
على انها للاعم ... الخ وفيه ان هذا يدل على وضع الالفاظ للاعم ، اذا لم تكن
الأدلة على وضعها للصحيح ، وقد عرفت الأدلة الاربعة عليه ، وحينئذ يكون التقسيم
بلحاظ الاستعمال في الصحيح على وجه الحقيقة ، وفي الفاسد على نحو المجاز بعلاقة
المشابهة ، كما مرّ مرارا ، لان الاستعمال اعم منهما.
قوله
: ومنها : استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الاخبار في
الفاسدة استدل الأعمّي بالدليل الرابع وهو عدة من روايات اهل البيت عليهالسلام ومنها قول الامام الباقر عليهالسلام : «بني
الاسلام على خمس ، الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد احد بشيء كما
نودي بالولاية فاخذ الناس بالاربع وتركوا هذه» اي الولاية ، «فلو ان احدا صام نهاره وقام ليله ومات
بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة».
تقريب
: الاستدلال ان
الاخذ بالاربع مع اعتبار الولاية في صحة العبادات ، ومع بطلان عبادات تاركي
الولاية موجب لاستعمال الالفاظ في الفاسدة بلا قرينة ،
فهذا يدل على
الوضع للاعم.
قوله عليهالسلام خطابا للحائض : «دعي الصلاة ايام اقرائك». وقد استدل
بالخامس وهو قول المعصوم عليهالسلام للحائض (دعي الصلاة ايام أقرائك). تقريب الاستدلال بهذا ،
ان القدرة معتبرة عقلا في متعلّق التكليف ، والحائض اذا كانت حائضا لا تقدر على
الصحيحة وحينئذ استعملت في الفاسدة لانها مقدورة لها.
قوله
: وفيه ... الخ وقد
اجيب عنه بوجهين :
احدهما
: مشترك بين الاولى
والثانية وهو ان الأعمّي اعتمد على استعمال الالفاظ في الفاسد لا على وضعها له
والاستعمال اعم فلا يكون دليلا على الوضع والحقيقة ، كما انه لا يكون علامة
للمجاز.
وثانيهما
: مخصوص بالاولى
وهو ان المراد من الالفاظ هو الصحيح بقرينة بناء الاسلام عليها لانه لا يبنى على
الفاسد منها. فان قيل : ان هذا ينافي بطلان عبادات تاركي الولاية فلا يمكن ارادة
الصحيح منها.
قلنا : ان الاخذ
على نوعين :
احدهما
: الاخذ الواقعي
كاخذ العالم المركب شيئا.
وثانيهما
: الاخذ الاعتقادي
لا الواقعي ، كما في اخذ الجاهل المركب شيئا.
واخذ العامة
بالاربع يكون صحيحا بحسب اعتقادهم فتكون مستعملة في الصحيح الاعتقادي. وهذا لا
يختص بالاربع بل يعم غيرها من قوله عليهالسلام : «فلو
ان احدا صام نهاره ... الخ». وعلى اي حال فلا تدل على الوضع للاعم.
واعلم ان النهي
كالامر على قسمين :
احدهما
: مولوي نحو لا
تشرب الخمر وامثاله.
وثانيهما
: ارشادي كنهي
الطبيب للمريض بقوله لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن ، فان قيل : انه ما الفرق
بينهما؟ أيكون موجودا أم لا؟
قلنا
: ان الفرق موجود
وهو ان متعلق الاول يكون ذا مفسدة توجب المبغوضية عند المولى. وان متعلق الثاني لا
يكون بذي مفسدة ، إذ أكل السمك وشرب اللبن لا
تكون المفسدة
موجودة توجبها عنده ، بل يكون المانع موجودا عن ارتكابه ، وذلك كالمرض.
اذا عرفت هذا ،
فالنهي في الخبر الثاني يكون ارشادا الى مانعية الحيض وهي تلحظ في الصحيح من
العبادات ، وحينئذ استعمل لفظ الصلاة في الصحيح دون الفاسد ، ولا يكون النهي
مولويا حتى يقال ان الصحيح غير ممكن للحائض ، فلا بد حينئذ من ارادة الفاسد منها ،
كي لا يلزم النهي لغوا.
قوله
: وإلّا كان
الإتيان بالاركان وسائر ما يعتبر في الصلاة ... الخ وان لم يكن النهي ارشاديا تلزم
حرمة الصلاة ذاتا على الحائض ، سواء قصدت القربة أم لا ، فاذا فعلت بالاركان وسائر
ما يعتبر من الأجزاء والشرائط بلا قصد القربة كان حراما ، فلو كان المراد من النهي
مولويا اذا فعلت مطلق ما سمي عند العرف بالصلاة ولو كانت فاسدة شرعا ، كانت الصلاة
حراما على الحائض ولا يلتزم به المستدل الأعمّي بالرواية.
فالمحرّم على
الحائض هي الصلاة التي لو لم يكن الحيض في اثنائها لكانت صحيحة تامة ، لا مطلق ما
سمي عند العرف بالصلاة ، ولو كانت فاسدة مع قطع النظر عن الحيض. وفي ضوء هذا ظهر
لك الفرق بين الحرمة الذاتية وبين الحرمة التشريعية ، لانه على الاول يكون فعلها
مطلقا حراما ، وعلى الثاني مع قصد القربة فلا تكون صورة الصلاة بلا قصد القربة
حراما على الحائض ، ولذا يستحب لها الجلوس في المصلّى بقدرها.
قوله
: فتامل جيدا وهو
اشارة الى ان مفاد هذا الخبر ان العبادات الصحيحة ان لم تكن الولاية معها فهي
باطلة ، ولا يكون مفاده ان العبادة الباطلة اذا لم تكن مقرونة بالولاية فهي باطلة.
وعلى اي حال لم يستعمل لفظ الصلاة في الاعم بل يستعمل في الصحيح الاعتقادي كما في
الاول ، وفي الصحيح الواقعي ، كما في الثاني ، لكون النهي ارشاديا في الثاني.
قوله
: ومنها انه لا
شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان ... الخ وقد استدل الأعمّي بانه
لا شبهة في انعقاد النذر وشبهه من العهد واليمين بترك الصلاة في
المكان المكروه ،
فاذا فعلها فيه حصل الحنث مع كونها فاسدة بعد تعلق النذر بها ، فالنتيجة بعد
الفراغ عن أمرين : احدهما : صحة تعلق النذر وشبهه بتركها فيه. ثانيهما : حصول
الحنث بفعلها فيه. نستكشف من هذا كون لفظ الصلاة موضوعا للاعم ، لانه لو كان
موضوعا للصحيح للزم اشكالان :
الاول
: انه يلزم عدم
حصول الحنث بفعلها فيه لعدم قدرة الناذر على فعل الصحيح ، لانها بعد تعلق النذر
صارت منهيا عنها ، والنهي في العبادات يقتضي فساد المنهي عنه.
الثاني
: انه يلزم المحال
، لان متعلق النذر يكون صحيحا وبعد النذر صار فاسدا لانه منهي عنه ، فيلزم حينئذ
من وجود الصحيح عدمه ، وهو محال لاستلزامه اجتماع الوجود ـ اي وجود الصحيح ـ
والعدم ـ اي عدم الصحيح ـ في شيء واحد فلا بد ان يكون موضوعا للأعم منهما.
جواب المصنف عن
الإشكال :
قوله
: قلت لا يخفى انه
لو صح ذلك لا يقتضي ... الخ يعني : اذا تعلق النذر بالصحيح فهو يستلزم الإشكالين
المذكورين ، لكن لا يكون مستلزما لوضع الالفاظ للأعم ، لان عدم صحة تعلق النذر
بالصحيح يكون اعم من وضع اللفظ للصحيح ومن عدم وضعه له ، فيكون هذا اعم من المدعى.
هذا مع ان الفساد من قبل النذر لا يمكن دخله في موضوع النذر لامتناع اخذ ما يأتي
من قبل الحكم في موضوعه فليس موضوع النذر الا الصلاة الصحيحة في نفسها.
وبالجملة
: ذات الصلاة في
رتبة سابقة على النذر مصداق للصلاة الصحيحة لا غير ، كما انها في الرتبة اللاحقة
للنذر مصداق للصلاة الفاسدة لا غير ، فليس المنذور تركها صحيحة قبل النذر وبعد
النذر حتى يلزم المحال الذي ذكر في طي الإشكال الثاني.
فالمراد هو صحتها
قبل تعلق النذر. والفساد الناشئ من قبل النذر لا يؤثر
الفساد في متعلق
الامر حتى يوجب انقلاب موضوع الامر من الصحة الى الفساد ، لانه لا يعقل ان يكون
اثر الشيء رافعا له اذ هو معلول وهو لا يكون رافعا لعلته فكانت الصحة محفوظة ،
والفساد انما كان من قبل النذر. فالمراد هنا هو الصحيح الذي كان سابقا على النذر.
وفي ضوء هذا لا يلزم المحال وهو عدم الصحيح من وجوده.
فتلخص مما ذكرنا
ان النذر قد تعلق بالصحيح لو لا النذر ، ومن المعلوم ان الفساد الناشئ من قبل
النذر لا ينافي الصحيح لو لا النذر ، بل يجتمعان في شيء واحد وفي حال واحد.
فالصلاة في الحمام فاسدة لتعلق النذر بها وصحيحة لو لا النذر ، ولذا لو أتى بها
قبل النذر كانت صحيحة.
قوله
: ومن هنا انقدح ان
حصول الحنث انما يكون لاجل الصحة ... الخ فان النذر قد تعلق بالصحيح ، لو لا النذر
بتركها في المكان المكروه ، لكانت صحيحة. والصحيح اللولائي امر ميسور حتى بعد
النذر فيحصل الحنث به اي بالصحيح اللولائي.
قوله
: نعم لو فرض
تعلّقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل لكان منع ... الخ فلو تعلق النذر بترك الصلاة
المطلوبة بعد النذر حين الإتيان بها لم يكن الحنث حينئذ ، اذ كلما أتى به بعد
النذر فهو فاسد من جهة انعقاد النذر ، وفي صحته تأمل.
اسامي المعاملات :
قوله
: بقى امور الاول
ان اسامي المعاملات ان كانت موضوعة للمسببات الاول : اي اولها ان الفاظ المعاملات
ان وضعت للمسببات ، نحو لفظ (البيع) موضوع للملكية ، ولفظ (النكاح) وضع للزوجية ،
ولفظ (العتق) للحرية فلا مجال لنزاع الصحيحي والأعمّي هنا ، لانها لا تتصف بالصحة
تارة ، وبالفساد اخرى ، بل بالوجود تارة وبالعدم اخرى.
فان قلنا انها
وضعت للاسباب نحو لفظ (البيع) و (النكاح) مثلا وضعا للعقد
الخاص ، فللنزاع
المذكور مجال واسع. فقال بعض بوضعها للاسباب المؤثرة لاثر كذا المستجمعة للاجزاء
والشرائط. وقال بعض بوضعها للاعم. فالاسباب تتصف بالصحة تارة ، واخرى بالفساد.
الفاظ المعاملات :
قوله
: لكنه لا يبعد
دعوى كونها موضوعة للصحيحة ايضا اختار المصنف في الفاظ العبادات كونها موضوعة
للصحيح ، كذا اختار في الفاظ المعاملات كونها موضوعة للصحيح ايضا ، وكان الموضوع
له هو العقد المؤثر لاثر كذا شرعا وعرفا.
فالفاظ المعاملات
وضعت للمؤثر واقعا في الآثار المطلوبة من دون تفاوت عند الشرع والعرف ، فان قيل
انه كيف تكون معاني الفاظ المعاملات الصحيحة عند الشرع والعرف مع ان الشارع خالفه
في بيع الصبي المميز فهو صحيح عند العرف ، وفاسد عند الشارع ، لانه يشترط بلوغ
المتعاقدين ، وهذا الاختلاف يدل على ان الفاظ المعاملات تكون أسامي للصحيح عند
الشارع ، وللاعم عند العرف.
قلت
: ان هذا الاختلاف
لا يكون اختلافا في معانيها وتكون مضبوطة عندهما ، بل يكون في مصداق الصحيح
فالشارع يخطّئ العرف فيما يراه مصداقا للبيع الصحيح ، مثل بيع الصبي المميز
لاشتراط الشارع البلوغ في المتعاقدين ، كما مرّ سابقا.
فلو كان العرف
ملتفتا الى اشتراط البلوغ لما خالف الشارع ، فالعرف قد يشتبه في تطبيق الصحيح
الواقعي الذي يكون موضوعا له لالفاظ المعاملات ، فظهر ان كل صحيح عند الشارع هو
صحيح عند اهل العرف ، وكل صحيح واقعي عند العرف هو صحيح عند الشارع المقدس ، فلا
يكون الصحيح عند الشارع اخص من الصحيح عند العرف ، بل هما متساويان كما لا يخفى.
توضيح
لا يخلو من فائدة : وهو انه اذا قلنا بان الفاظ المعاملات وضعت للمسببات ، والمسبب امر بسيط لا
يتصف بالصحة والفساد ، لانهما انما يكونان في
الشيء المركب الذي
له اجزاء وشرائط لا في البسيط.
واذا قلنا : انها
وضعت للاسباب والسبب يكون امرا مركبا من اجزاء وله شرائط فهو يتصف بالصحة تارة
باعتبار وجود اجزائه وشرائطه ، وبالفساد اخرى بلحاظ فقدان بعضهما ، ولذا قيل فيما
سبق ان نزاع الصحيحي والأعمّي لا يجري على الاول ويجري على الثاني.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى انه يحتمل ان يكون اختلاف الشرع والعرف في المصداق لاختلافهما في المفهوم.
فمفهوم الفاظ المعاملات هو الصحيح عند الشارع المقدس ، والاعم عند اهل العرف. فكل
صحيح عند الشارع صحيح عند العرف ، وليس العكس ، اي ليس كلّ صحيح عند العرف صحيحا
عند الشارع المقدس كما في بيع الصبي.
قوله
: الثاني ان كون
الفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب اجمالها ... الخ فان قلنا ان الفاظ
المعاملات وضعت للصحيح من الاسباب كألفاظ العبادات فلا يصح التمسّك باطلاق احلّ
الله البيع بعدم اشتراط البلوغ في المتعاقدين ، وبعدم اشتراط القبض في المجلس في
بيع الصرف ، فاذا شككنا في اعتبار شيء في تأثيرها شرعا ، كالبلوغ والقبض في المجلس
، لم يصح التمسك باطلاق ادلّتها. لان الشك حينئذ يكون في المحصّل فتجري اصالة عدم
تحققه بدون البلوغ والقبض في المجلس.
وهذا الكلام مردود
جدا لان الفاظ المعاملات لا تكون مثل الفاظ العبادات. فاذا وضعت للصحيح جاز التمسك
بالاطلاق عند الشك في الشرائط والأجزاء ، والسر في ذلك ، ان الموضوع له عند العرف
والشرع واحد ، فاذا كان مطلق في كلام الشارع وكان في مقام البيان ، نحو قوله تعالى
: (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) فاذا شككنا في اشتراط القبض في صحة البيع ولاحظنا ان البيع
يطلق حقيقة على المعاملة عند العرف بلا قبض واقباض ، تمسّكنا باطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) على
__________________
صحة المعاملة بلا
قبض. لان البيع في كلام الشارع محمول على المعنى في نظر العرف ، لانه في محاوراته
يراعي طريقة العرف ، فالمعنى العرفي معلوم ، والعرف يمكن ان يعيّن معنى الفاظ
المعاملات ، بخلاف العبادات ، لانه لا يمكن للعرف ان يعيّن موضوعا له الفاظ
العبادات ويشخّصه لانها مخترعات الشارع.
كما ان المعاملات
ماهيات امضائية ، فيكون معنى العبادة مجملا فلذا حين نشك في جزئية شيء للمأمور به
مثل السورة أو شرطية شيء للمأمور به مثل جلسة الاستراحة بعد السجدة الثانية في
الركعة الاولى ، فالشك يكون في صدق الصلاة على فاقد المشكوك شطرا أو شرطا.
نعم ان كان الشك
في جزئية شيء أو شرطيته للمعاملة موجبا للشك في صدق المعنى العرفي على الفاقد ،
مثل اعتبار المالية في المبيع وعدمه فلا يجوز التمسك باطلاق البيع ، بل لا بد من
الرجوع الى الاصل في المسبب الذي هو عبارة عن اصالة عدم حصول الملكية ويبنى على
الفساد ، كما ان اصالة الفساد معروفة في المعاملات. قوله : فتأمل جيدا تدقيقي لا
غير.
قوله
: الثالث ان دخل
شيء وجودي أو عدمي في المأمور به تارة بان يكون الغرض من تمهيد هذا بيان الفرق بين
اجزاء المأمور به وشرائطه.
فنقول ان للمأمور
به اجزاء عديدة ، فمنها : ما يكون دخيلا في المسمى بحيث ينتفي المسمى بانتفائها
بالاركان والشرائط. ومنها : ما يكون دخيلا في المسمى كذلك كالطهارة والاستقبال.
ومن الأجزاء ما لا يكون دخيلا في مسمى الصلاة كالتثليث في الذكر.
ومن الشرائط ما لا
يكون دخيلا في المسمى أيضا كفعل الصلاة جماعة فبالنتيجة تكون الاقسام اربعة :
الاول
: جزء طبيعة
المأمور به مثل اجزاء الواجبة للصلاة من التكبيرة والركوع والسجود وما شابهها.
فاذا لم تكن هذه الأمور موجودة فطبيعة الصلاة تكون معدومة ، اشار المصنف الى هذا
القسم بقوله تارة بان يكون داخلا فيما يأتلف منه
ومن غيره.
الثاني
: شرط طبيعة
المأمور به لا يكون داخلا في طبيعة المأمور به بل يكون خارجا عنها ، ولكن الخصوصية
التي اخذت في المأمور به والكيفية التي لوحظت فيه لا تحصلان إلّا بذلك الشرط ، مثل
: الوضوء بالاضافة الى الصلاة وهو خارج عن الصلاة ، ولكن الخصوصية التي لاحظها
الشارع في الصلاة لا تحصل إلّا بالوضوء السابق. وقد يكون الشرط مقارنا للصلاة. مثل
ستر العورة فنفس فعل الستر خارج عن الصلاة. وقد يكون الشرط لا حقا مثل عدم العجب
بعد الصلاة وهو خارج عن الصلاة.
فهذه الشرائط ،
سواء كانت متقدمة أم كانت مقارنة أم كانت متأخرة ، تكون من مقدمات المأمور به لا
من مقوّماته ، ولكن الوصفية التي تحققت بواسطتها كانت من مقومات طبيعة المأمور به.
واشار المصنف الى هذا القسم بقوله : واخرى بان يكون خارجا عنه لكنه كان مما لا
تحصل الخصوصية ... الخ.
قوله
: وثالثة بان يكون
مما يتشخص به المأمور به بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه والثالث والرابع : هما
اللذان يكونان غير مأخوذين في طبيعة المأمور به ولكن يكونان من مقوّمات الفرد الذي
يكون متحدا مع الطبيعة في الخارج وخصوصياته ، مثل كثرة الذكر في الركوع والسجود.
وقلته فيهما : في الأجزاء ولكن بواسطتها ـ وجودا ـ تحصل الفضيلة للفرد. كما انه
بواسطة عدمها تحصل المنقصة في الفرد ، مثل فعل الصلاة جماعة أو مع الاذان والإقامة
في الشرائط ، ولا يخفى التفاوت بين الاولين والثالثين.
وهو ان الاخلال
بجزء الطبيعة أو الاخلال بشرطها يوجب بطلان المأمور به ، واما الاخلال بجزء الفرد
أو الاخلال بشرطه لا يوجب فساده وبطلانه ، بل يوجب منقصة الفرد من حيث الثواب
والفضيلة.
والفرق بين الجزء
والشرط ظاهر ، وهو ان الاول داخل من حيث التقيد والقيد معا في المأمور به والثاني
خارج عن المأمور به من حيث القيد ، واما من حيث التقيّد
فداخل فيه ، واشار
المصنف الى هذين مع ثمرتهما بقوله : وثالثة بان يكون مما يتشخص به ... الخ.
بيان الواجب في
واجب أو المستحب فيه :
قوله
: ثم انه ربما يكون
الشيء مما يندب اليه فيه بلا دخل له اصلا ... الخ هذا في بيان الواجب في واجب أو
المستحب في واجب. وقد يكون الشيء واجبا في واجب أو مستحبا فيه ، ولا يكون جزءا
للواجب المركب ولا شرطا له ، بل يكون الواجب ظرفا لهذا الشيء ، فهو مطلوب الشارع
اذا وقع في اثناء الواجب ، من دون ان يكون داخلا في حقيقة الواجب ، ولا في امتيازه
، بل الواجب يكون دخيلا في مطلوبية ذاك الشيء مثل القنوت في الصلاة والمضمضة
والاستنشاق في الوضوء ومثل متابعة الامام في الجماعة بناء على وجوبه وعلى كون
وجوبه نفسيا لا شرطيا فبترك المتابعة لا تبطل صلاة الجماعة . فتكون الاقسام خمسة :
الاول
: الأجزاء التي
تكون دخيلة في المسمى مثل اجزاء الركنية.
الثاني
: الأجزاء التي لا
تكون دخيلة في المسمى مثل السورة والتثليث في الذكر.
الثالث
: الشرائط التي
تكون دخيلة في المسمى مثل الطهارة والاستقبال وغيرهما.
الرابع
: الشرائط التي لا
تكون دخيلة في المسمى بحيث تدور التسمية مدارها وجودا وعدما ، مثل فعل الصلاة
جماعة ، وفي المسجد اذ هو شرط كما لها لا من شروط صحتها.
الخامس
: ما يكون مطلوبا
للشارع المقدس في اثناء المأمور به من دون ان
__________________
يكون دخيلا في
ماهية الواجب لا بنحو الشطرية ولا بنحو الشرطية ، بل يكون الواجب ظرفا له ، ولا
يكون دخيلا في امتيازه وتشخصه ، والمأمور به دخيل في مطلوبيته بحيث لا يكون مطلوبا
الا فيه كالقنوت.
اعلم ان الفرق
بينه وبين المستحبات في الصلاة ان هذا يكون مستحبا نفسيا في حد ذاته ولكن جعله
الشارع مأمورا به ظرفا له ، وتلك مطلوبات غيرية لاجل الواجب وهو الصلاة.
احكام العبادات
الخمسة :
اعلم ان تسمية
العبادات باساميها لا تدور مدار الخامس لا وجودا ولا عدما كالقنوت ، والتثليث في
الذكر ، وكذا لا تدور مدار ما له الدخل في تشخّص المأمور به باحد النحوين ، اي
بنحو الشرطية أو بنحو الشرطية.
واما ما له دخل
شطرا في اصل ماهية العبادة فهو دخيل في التسمية ، واما ما له دخل شرطا في اصل
ماهيتها فيمكن الذهاب الى انه ليس دخيلا في تسمية العبادات بأساميها. لكن عرفت في
طي ادلّة الصحيحي ان قول الصحيح هو اعتبار الجزء والشرط معا في التسمية فيكونان
داخلين في موضوع له الفاظ العبادات.
وقد استدل على هذا
بصحة سلب لفظ الصلاة بمعناها المعلوم المرتكز في الاذهان عن الفاقدة لشرط كما مرّ
، بل يمكن ان نقول في الفاظ المعاملات انها امضيت من قبل الشارع للصحيح منها لاجل
استصحاب عدم ترتّب اثرها اذا كانت فاقدة لشرط من الشروط المعتبرة ، عند الشرع
والعرف.
وقوع الاشتراك :
قوله
: الحادي عشر الحق
وقوع الاشتراك للنقل والتبادر وعدم صحة ... الخ ذهب قوم الى امكان الاشتراك عقلا
ووقوعه لغة وشرعا في القرآن الكريم وفي الاحاديث وعرفا ، وذهب قوم الى عدم امكانه
عقلا ، وذهب ثالث الى التفصيل فقال بعدم
امكانه عقلا في
القرآن الكريم ، وبامكانه عقلا في غيره ، بل الى وقوعه فيه. فقال المصنف قدسسره الحق وقوع الاشتراك في غير القرآن لوجوه :
الاول
: نقل اهل اللغة
اياه في عدة من الالفاظ كلفظ القرء الذي يكون للطهر والحيض ، وكلفظ الجون وضع
الابيض والاسود ، وكلفظ العين للذهب والفضة و ... ويكون نقلهم متبعا فيه كما يكون
متبعا في غيره.
والثاني
: تبادر المعنيين
أو المعاني من هذه الالفاظ على نحو الترديد ، وعلى نحو لا بعينه ، اذا لم تكن
القرينة موجودة ، وان كانت موجودة فيتبادر منه المعين من معناه ، على طبق القرينة
المعيّنة.
والثالث
: عدم صحة سلب هذه
الالفاظ عن معانيها ، فلا يصح ان يقال الطهر والحيض ليسا بقرء وكذا الباقي ،
واستدل المفصّل بوجهين على سبيل منع الخلوّ الاول : انه يلزم التطويل اذا كان الاتكال
على القرينة لانه يمكن اظهار المعنى المقصود بغير المشترك. والثاني : انه يلزم
الاجمال في المقال الذي يضر بالتفهيم اذا لم يكن الاعتماد على القرينة ، وكلاهما
لا يليق بكلام الخالق لانهما قبيحان ، والقبيح لا يصدر من الحكيم بل هو محال في
حقه تعالى كما لا يخفى ، فاجاب المصنف بقوله : وذلك لعدم لزوم التطويل ... الخ
يعني لا يلزم هذا في صورة نصب قرينة معنية مقالية لاحتمال ان يكون نصبها لغرض آخر
غير تعيين المراد من المشترك ، ولكن تدل بالالتزام على المراد.
فلا يلزم حينئذ
تطويل لانه يلزم على فرض دلالتها عليه بالمطابقة لا بالالتزام ، هذا اولا. ونمنع
كون الاجمال غير لائق بكلامه ثانيا مع كون الاجمال مما قد يتعلّق به غرض ، وإلّا
لما وقع في كلامه ، لكن قد وقع المتشابه في القرآن الكريم واخبر بوقوعه. قال الله
تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ...) الخ والشاهد كلمة (متشابهات) جمع مؤنث
__________________
سالم (متشابهة)
وهي بمعنى المجمل ، وقد استدل القائل باستحالته.
ان المشترك في
الاستعمال وفي مقام التفهيم يحتاج الى القرينة ، وربما تكون غير جلية فلا يحصل
التفهيم ، وهو نقض للغرض وهذا محال عن العاقل فضلا عن المولى. ويدفع هذا :
اولا
: انّا نمنع خفاء
القرينة لانه يمكن ان يعتمد المتكلم على القرينة الجلية ولا يلزم حينئذ نقض الغرض.
وثانيا
: انه يمكن ان لا
يكون الغرض من استعماله التفهم والتفهيم بل يكون المتكلم في مقام الاجمال والاهمال
لمصلحة مهمة فلو كانت القرينة خفية فلا يلزم نقض الغرض بل يلزم عين الغرض كما لا
يخفى على أولي الالباب.
وجوب الاشتراك :
قوله
: وربما توهم وجوب
وقوع الاشتراك في اللغات ... الخ والاستدلال عليه متفرّع على مقدمتين :
احداهما
: ان كلام العرب
وكلماتهم متناهية لتركبها من الحروف الهجائية المتناهية ، اذ هي ثمانية وعشرون
حرفا ، يعني أننا اذا عددنا الالف حرفا فهي تسعة وعشرون وإلّا فهي ثمانية وعشرون ،
والمركب من المتناهي يكون متناهيا.
ثانيتهما
: ان المعاني تكون
غير متناهية ، ومن الواضح عدم وفاء المتناهي لغير المتناهي ، وحينئذ وجب الاشتراك
حتى تكون الالفاظ وافية بالمعاني التي تكون غير متناهية جدّا.
جواب المصنف عن
وجوب الاشتراك :
اجاب المصنف قدسسره عنه بقوله : وهو فاسد بوضوح امتناع الاشتراك في المعاني
غير المتناهية لاستلزامه اوضاع الغير المتناهية وهو محال ، هذا اولا.
وثانيا : لو سلمنا
امكان الاشتراك فيها على ان يكون الواضع هو الله تعالى ،
ولكن تلزم لغوية
الوضع في الزائد من قدر الاحتياج ، لان الاستعمال يكون بمقدار الحاجة وفي القدر
المتناهي لصدوره عن البشر العاجز عن استعمال غير المتناهي ، فيكون الوضع في الزائد
على المتناهي بلا فائدة ولغوا وهو قبيح لا يصدر من الحكيم.
وان كان الواضع هو
البشر عدّت الاوضاع غير المتناهية خارجة عن القانون العقلائي لانه لا يترتب على
وضع الزائد عن قدر الاحتياج التفهم والتفهيم اللذان يكونان حكمة الوضع ، فالوجهان
يكونان مردودين لوجهين :
الاول
: إن المعاني كلية
، يعني وضعت الالفاظ للمعاني الكلية لا لمصاديقها كي تقع في مقابل لفظ واحد
المعاني الكثيرة ، فوضع الالفاظ بازاء كليات المعاني يغني عن وضعها بازاء مصاديقها
، فصارت الالفاظ والمعاني متناهيتين فوضعت المتناهية للمتناهية (هذا) اي (خذ ذا).
الثاني
: انه لا يكون
التفهّم والتفهيم منحصرين بالاستعمال الحقيقي ، بل يمكن التفهّم والتفهيم
بالاستعمال المجازي ، لكون باب المجاز واسعا بل هو موجب لارتقاء الكلام كالكنايات
والاستعارات.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
مواد الالفاظ تكون متناهية ، ولكن هيئتها غير متناهية لتركّبها هيئات متفرقة فيكون
كلاهما غير متناه فلا وجه لوجوب الاشتراك.
ويمكن ان يكون
اشارة الى ان المجاز وان كان بابا واسعا فيوضع اللفظ بازاء جملة من المعاني
ويستعمل اللفظ في الباقي مجازا ، ولكن يحتاج الى الوضع وان كان نوعيا لا شخصيا ،
فالدليل الاخير مردود.
استعمال المشترك :
قوله
: الثاني عشر : انه
قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في اكثر من معنى ... الخ اختلف بعد امكان
الاشتراك عقلا في جواز استعماله في اطلاق واحد في اكثر من معنى واحد على سبيل
الاستقلال والانفراد بحيث يكون كل واحد منهما موضوعا
للحكم ومتعلقا
للاثبات والنفي على اقوال.
قال قوم : بالجواز
مطلقا. وقال قوم بالمنع مطلقا. وذهب ثالث الى التفصيل فمنعه في المفرد وجوّزه في
التثنية والجمع. وذهب رابع الى تفصيل آخر فجوّزه في النفي ونفاه في الاثبات ، ولا
بد هنا من بيان امرين :
الاول
: ان المراد من
الانفراد والاستقلال ان لا يستعمل في القدر المشترك بين المعنيين وهو المسمى بعموم
المجاز فانه لا خلاف فيه ، مثل استعمال الامر في مطلق رجحان الفعل ، وكذا لا خلاف
في استعماله
في مجموع المعنيين
منضمّا بحيث يكون كل واحد منهما جزء المعنى وهو المسمى بعموم الاشتراك ، فمحلّ
الخلاف ان يستعمل لفظ واحد في اطلاق واحد في معنيين مستقلا ، بحيث يكون كل واحد
منهما مرادا ومتعلقا للاثبات والنفي كما يستعمل في المعنى الواحد.
والثاني
: انه يمكن الجمع
بينهما مثل الذهب والفضة للعين ، بخلاف الطهر والحيض من لفظ القرء لانهما ضدان ،
وكلّ ضدّين لا يجتمعان في موضع واحد ، فهما لا يجتمعان.
عدم جواز
الاستعمال في الاكثر :
قوله
: اظهرها عدم جواز
الاستعمال في الاكثر عقلا وبيانه ... الخ اختار المصنف عدم الجواز في الاكثر عقلا.
بيانه ان حقيقة
الاستعمال ليست مجرد جعل اللفظ علامة للمعنى حتى يكون اللفظ الواحد علامة لمعنيين
من باب وحدة العلامة وتعدد ذي العلامة حتى يكون الاستعمال على هذا الطريق جائزا ،
بل حقيقته جعل اللفظ طريقا الى المعنى وجعله عنوانا له ، ولذا لا يفهم المخاطب الا
معنى اللفظ ، واللفظ يكون ملغى في نظره ، ومن اجل هذا يسري حسن المعنى الى اللفظ ،
وقبحه اليه. فلا بد حينئذ من تصور المعنى ومن لحاظه ، ولا يمكن جعل هذا اللفظ
طريقا لمعنى آخر ، اذ لا يصدر اللحاظان عن لاحظ واحد في آن واحد وفي استعمال فارد
، لان لحاظ اللفظ وجها للمعنى
وفانيا فيه فناء
الوجه في ذي الوجه ، وفناء العنوان في المعنون ينافي لحاظه وجها وعنوانا لمعنى
آخر.
فحال لفظ الواحد
حال قلنسوة واحدة ، لانه لا يمكن جعلها في آن واحد على رأسين بحيث تكون محيطة
بتمامهما ، فكذا اللفظ الواحد لا يمكن جعله فانيا في الاثنين إلّا ان يكون اللاحظ
أحول العينين وهو الذي يرى الواحد اثنين.
وبالجملة
: يستحيل فناء
اللفظ الواحد في كل واحد منهما في آن واحد على فرض كون اللاحظ واحدا في استعمال
فارد لانه يستلزم الفناء وعدم الفناء ، اذ يلزم من فناء اللفظ في المعنى عدم فنائه
في المعنى الآخر ، وهو محال ، اذ هو جمع بين المتنافيين ، بلا فرق بين المفرد
والمثنى والجمع ، والمثبت والمنفي ، والحقيقة والمجاز.
عدم اعتبار قيد
الوحدة :
قوله
: فانقدح بذلك
امتناع استعمال اللفظ مطلقا مفردا كان أو غيره في اكثر ... الخ ردّ المصنف بهذا
قول صاحب المعالم قدسسره وقول سلطان العلماء قدسسره ، انه لو لا امتناعه عقلا لم يكن وجه الامتناع أخذ قيد
الوحدة جزء للموضوع له كما قال به صاحب المعالم ، أو اخذه ظرفا للموضوع له كما قال
به سلطان العلماء ، لان اللفظ وضع للمعنى مجردا عن الوحدة وعدمها ، فاعتبار قيد
الوحدة في الموضوع له واضح المنع فتوقيفية وضع اللغات لا تقتضي منع الاستعمال في
الاكثر إلّا اذا كانت الوحدة قيدا للوضع أو قيدا للموضوع له ، كما لا يخفى.
وكلاهما باطل.
اعلم ان الوحدة
تكون تارة قيدا للموضوع له ، واخرى قيد الاستعمال. بأن شرط واضع اللغات على
المستعمل ان لا يستعمل اللفظ في المعنى الا في حال وحدته ، وثالثة قيدا للوضع بان
تكون وحدة المعنى شرطا لتحقق الوضع.
وتفصيل
هذه : ان كانت قيدا
للموضوع له فلا بد ، حينئذ ، من اتباع الواضع فيه ، ولكن لم يثبت هذا قطعا اثباتا
لا عقلا ولا نقلا.
وان كانت قيدا
للاستعمال فلا يكون الدليل على وجوب اتباع الواضع فيه بعد
كون الموضوع له
نفس المعنى وطبيعته عاريا عن قيد الوحدة وعدمها.
وان كانت قيدا
للوضع ، بحيث يتوقف الوضع على الاستعمال الحقيقي مقيدا بالوحدة ، فهو يستلزم
الدور.
بيانه
: ان استعمال
الحقيقي يتوقف على الوضع فلو توقف الوضع عليه لدار ، فهذا باطل بل محال كما ان الاولين
فاسدان قطعا ، لعدم الدليل لا عقلا ولا نقلا على فرض كون الوحدة قيدا للاستعمال
على متابعة الوضع فيه ، وكذا ليس الدليل موجودا على اعتبار قيد الوحدة جزء للموضوع
له.
قوله
: ثم انه لو تنزلنا
عن ذلك فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع ، وعلى نحو
المجاز في المفرد ردّ المصنف تفصيل صاحب المعالم قدسسره ، وهو جواز الاستعمال في الاكثر على نحو الحقيقة في
التثنية والجمع ، مستدلا بانهما في قوة تكرار المفرد بالعطف ، لانه (جاءني زيدان)
بمنزلة (جاءني زيد وزيد) و (جاءني زيدون) بمنزلة (جاءني زيد وزيد وزيد) فيجوز ان
يستعمل زيد الاول في معنى وزيد الثاني في معنى آخر وزيد الثالث في معنى ثالث ،
فكذا ما هو في قوته. ومستندا في المفرد مجازا الى ان استعماله في الاكثر يستلزم
الغاء قيد الوحدة وصيرورة المستعمل فيه جزء الموضوع له ، فيكون مجازا بعلاقة الكل
والجزء من قبيل لفظ الموضوع للكل واستعمل في الجزء ، وهو غير مشترط بشيء مما اشترط
في عكسه ، وهو اللفظ الذي وضع للجزء واستعمل في الكل مجازا بعلاقة الجزء والكل ،
كاستعمال الرقبة في الانسان.
وهذا التفصيل فاسد
جدا. اما في المفرد فلوجهين :
الاول
: ان الموضوع له
فيه يكون نفس المعنى من دون تقيده بقيد الوحدة ، فاستعماله ، لو كان جائزا على
الفرض ، لكان على نحو الحقيقة لا المجاز لكونه استعمالا في الموضوع له.
والثاني
: انه ، بعد تسليم
اعتبار قيد الوحدة جزء الموضوع له ، لا يجوز استعمال المفرد في الاكثر ولو مجازا ،
لان الاكثر ليس جزء الموضوع له ، لانه مباين
له على نحو مباينة
الماهية بشرط شيء ، والماهية بشرط لا ـ كما لا يخفى ـ. فالنسبة بين الماهية بشرط
شيء والماهية بشرط لا تباين كلي ، لا الكل والجزء. فلو سلّمنا ان قيد الوحدة مأخوذ
في الموضوع له فلا يجوز الاستعمال في الاكثر مجازا لعدم العلاقة المصحّحة للتجوز ،
هذا في المفرد.
توضيح
: وهو ان الاكثر
يكون بشرط شيء ، والمقيّد بالوحدة بشرط لا. ومن الواضح منافاتهما ، لان الاكثر
يكون مشروطا بوجود معنى آخر ، والمعنى الذي يقيّد بقيد الوحدة يكون مشروطا بعدم
معنى آخر. فاين الكل والجزء حتى يجوز الاستعمال في الاكثر مجازا بلحاظ علاقة الكل
والجزء؟ فدعوى جواز استعمال المفرد في الاكثر مجازا غير مسموعة.
واما
في التثنية والجمع : فهما وان كانا بمنزلة تكرير المفرد بالعطف ، لكن مفرد نفسهما لا مطلقا.
مثلا : اذا قلنا (عينين) أو (عيونا) دلّ على الجاريتين وعلى الجاريات التي تراد من
مفردهما. ولا يدل على الجارية والباكية أو الجارية والباكية والمضيئة. فالاول في
التثنية ، والثاني في الجمع. لانه من الواضح ان المراد من المفرد معنى واحد.
فالتعدد الذي ينشأ من التثنية والجمع يكون في المعنى الذي اريد من مفردهما فقط.
فاذا اريد من لفظ
العين الذهب فيراد من تثنية العين فردان منه لا فرد منه وفرد من الفضة ، ويراد من
جمعه ثلاثة افراد من الذهب لا فرد منه ، وفرد من الفضة وفرد من الجارية. وعليه :
فيراد من نحو (جئني بعينين) أو (بعيون) فردان من الجارية أو افراد ثلاثة من
الجارية لا فرد منها. وفرد من الباصرة ، هذا في التثنية. وفرد من الشمس المضيئة ،
هذا في الجمع. فيكون استعمال التثنية والجمع وارادة المتعدد من معاني المفرد
استعمالا لهما في معنى واحد لا في الاكثر ، وهو مثل استعمالهما في المصاديق معنى
واحد من معاني مفردهما. فهذا الاستعمال لا يكون استعمالا في الاكثر ، وكذا اذا
اريد منهما فردان من افراد معاني المفرد لكن لا على التعيين ، أو افراد معانيه
كذلك ، اي لا على التعيين ، فيكون كلاهما من واد واحد.
قوله
: نعم لو اريد مثلا
من لفظ (عينين) فردان من الجارية وفردان من الباكية ... الخ نعم اذا استعمل
العينان في اطلاق واحد في الفردين من الجارية ، وفي الفردين من الباكية فهذا
الاستعمال يكون في الاكثر وفي المعنيين ، إلّا ان ما استدلّ به صاحب المعالم من
حيث تكرار التثنية والجمع على كونهما حقيقة اذا استعملا في الاكثر وفي الفردين من
المعنيين لا ينفعه.
فان التكرار مجوّز
لارادة معنيين مختلفين في قبال ارادة فردين من معنى واحد ، لا ارادة اثنين اثنين
فان فيها الغاء للوحدة ، لان التثنية عند صاحب المعالم قدسسره موضوعة للاثنين بقيد الوحدة كالمفرد بعينه ، اي لفردين من
معنى واحد.
غاية
الامر : ان المفرد وضع
عنده للطبيعة ، اي للذهب وحده ، اي للذهب الكلي بقيد الوحدة مثلا.
والتثنية وضعت
للاثنين من الطبيعة بقيد الوحدة فاذا ألغي قيد الوحدة واستعملت التثنية في اثنين
اثنين يكون ذلك مجازا قهرا. (وبالجملة) ان ما ادّعاه صاحب المعالم قدسسره من جواز استعمال التثنية في فرد من الذهب ، وفي فرد من
الفضة بنحو الحقيقة لا يكون هو من باب استعمال اللفظ المشترك في اكثر من معنى واحد
، وما هو من باب استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد وذلك كاستعمال التثنية في
اثنين اثنين. والحال انه لا يكون دليل المعالم من حديث التكرار نافعا ومجديا لصيرورة
استعمالها في الفردين من الذهب. وفي الفردين من الفضة حقيقة ، بل هو مقتض
لاستعمالها في الفردين من الماهيتين كاستعمالها في فرد من الذهب وفرد من الفضة ،
كما هو اوضح من ان يخفى. وكذا الكلام في ناحية الجمع بعينه ، طابق النعل بالنعل.
توضيح
لا يخلو من فائدة : ان قلنا في
التثنية والجمع باتفاق اللفظ والمعنى ، كان المقصود من العينين فردين من معنى واحد
، كفردين من الذهب مثلا. وان قلنا فيهما باتفاق اللفظ دون المعنى كان المراد من
العينين فردا من الذهب وفردا من الفضة ، ويحتمل ان يكون المراد منها فردين من معنى
واحد كفردين من
الذهب ، لان اتفاق
المعنى يكون لا بشرط دون شرط لا. اذا عرفت هذا فالامر في تثنية الاعلام وجمعها سهل
تقريبا ، لكفاية اتفاق اللفظ في تثنية الاعلام.
فان
قيل : انه اذا كان
مدلول التثنية فردين من معنى المفرد فلا تجوز تثنية الاعلام ولا جمعها لان مدلول
العلم لا يكون إلّا فردا واحدا لا فردين ، ولذا تفيد كلمة الاخلاص التوحيد عند
القائلين بعلمية لفظ الله لذات الواجب الوجود دون القائلين بكونه اسما جنسا.
قلنا
: ان تثنيتها
باعتبار تأويل المفرد بالمسمى الكلي اوّلا ثم تثنى ، ومن الواضح ان المسمى يكون ذا
افراد كثيرة فتكون الاعلام كلفظ العين في كونه ذا افراد ، هذا اولا.
وثانيا
: انا نختار كفاية
اتفاق اللفظ دون المعنى فيها في لحوق علامة التثنية فلا حاجة حينئذ الى التأويل
بالمسمى ، فيجوز ارادة عين جارية وعين باكية منها حقيقة ، كما تجوز ارادة (زيد بن
ارقم) و (زيد بن خالد) من زيدين مثلا ، ولكن لا يكون هذا من باب استعمال اللفظ في
الاكثر على هذا المبني ، لان هيئة التثنية تدل على ارادة المتعدد من معنى مفردها
فلا يكون هذا ايضا من باب استعمال اللفظ في الاكثر.
بطون القرآن
الكريم :
قوله
: وهم ودفع لعلك
تتوهم ان الاخبار الدالة على ان للقرآن بطونا ... الخ فهذه الروايات تنافي امتناعا
عقليا هو استعمال اللفظ في الاكثر ، لان ظاهرها تدل على استعمال الفاظ القرآن
الكريم في البطون السبعة أو السبعين ، بل يدل على وقوع الاستعمال في الاكثر فضلا
عن امكانه. ويدفع هذا التوهم بوجهين :
الاول
: انه يحتمل ان
تكون البطون مقصودة للمتكلم حين الاستعمال من غير ان تدل الفاظ القرآن عليها ،
لكنها تكون مقارنة للاستعمال ، نظير قولك (زيد قائم) وتقصد من هذا الكلام كونك
نفسك عالما بثبوت القيام لزيد من غير ان يكون كلامك
هذا دالا على ذلك
، لانه يدل مطابقة على ثبوت القيام لزيد ولا يدل على غير ذلك ، ومن غير ان يكون
مستعملا في هذا المقصود ، فكذا الفاظ القرآن الكريم.
والثاني
: انه يمكن ان تكون
البطون من لوازم المعنى الحقيقي أو من لوازم المعنى المجازي لالفاظ القرآن من غير
ان تستعمل فيها. مثل قولك : (جاء الضيف) وهو ملازم لنزول البركة ودفع البلية ، من
غير ان يستعمل هذا الكلام في هذا المطلب ، فكذا بطون القرآن الكريم. والدلالة
الالتزامية اجنبية عن الاستعمال ، وان كانت افهامنا الناقصة قاصرة جدا عن ادراكها
وفهمها.
حقيقة المشتق
ومجازه :
قوله
: الثالث عشر انه
اختلفوا في ان المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ ... الخ اعلم ان المشتق يكون
حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في حال النسبة والحمل اتفاقا كما انه يكون مجازا
بالاتفاق فيمن لم يتلبس بالمبدإ بعد ، بل يتلبس به في الاستقبال. وانما الخلاف
فيمن تلبس به وانقضى عنه المبدأ في حال النسبة والحمل. وقبل الخوض في المسألة
وتفصيل الاقوال فيها وبيان الاستدلال على الاقوال ينبغي تقديم امور :
مقدمة
: ان اللفظ الذي
وضع لمعنى يكون على نوعين :
الاول : هو ما
وضعت مادته لمعنى ، وهيئته لمعنى ، وهو المشتق نحو ضارب ، لان مادته وضعت للحدث
وهيئته لذات صدر عنه الحدث.
والثاني : هو ما
وضع مجموع مادته وهيئته لمعنى وهو الجامد ، نحو (زيد ورجل) لان الاول وضع بوضع
واحد للذات المعينة والثاني لذات ثبتت له الذكورية.
المشتق
واما المشتق فهو
على قسمين :
الاول
: هو الذي يحمل على
الذات ويصدق عليها خارجا نحو اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة مثلا.
والثاني
: هو ما وضع لمعنى
ولا يجري على الذوات ولا يصدق عليها خارجا ، نحو الافعال والمصادر المزيدة ، بل
المصادر المجردة بناء على القول الصحيح من اشتقاقها ايضا.
كما قال به
الكوفيون من النحاة مستدلين بان إعلال المصدر يدور مدار إعلال الفعل وجودا وعدما ،
اما وجودا ففي (يعد عدة). واما عدما ففي (يوجل وجلا).
واما الجامد فهو
ايضا على قسمين :
احدهما
: ما يكون موضوعا
لمعنى منتزع عن مقام الذات كالانسان والحيوان والشجر والتراب وما شابهها. لان
الاول وضع للحيوان الناطق ، والثاني للجسم النامي الحسّاس قابل للابعاد الثلاثة ،
والثالث للجسم النامي غير الحساس ، والرابع للجسم المطلق ، فكلها منتزعة عن مقام
ذاتها كما لا يخفى.
وثانيهما
: ما يكون موضوعا
لمعنى منتزع عن امر خارج عن مقام الذات ، كعنوان الزوج والرق والحرّ وما شاكلها ،
لان عنوان الزوجية والرقية والحرية والملكية خارج عن مقام ذات الزوج وذات الرق
وذات الحرّ وذات المملوك ، فهذه أربعة أقسام.
ويكون محل النزاع
في القسم الاول من المشتق ولا ينحصر فيه ، بل يجري
في القسم الثاني
من الجامد ايضا ، فلا ينحصر النزاع في المشتق. واما القسم الثاني من المشتق والقسم
الاول من الجامد فخارجان عن مورد الخلاف والنزاع.
قوله
: احدها ان المراد
بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات بل خصوص ما يجري ... الخ اعلم ان محل البحث ما
يجري على الذات سواء كان مشتقا كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة بل وصيغ
المبالغة من اسم الفاعل ك (الأكّال) و (العلّام). واسم الزمان والمكان والآلة بل
وافعل التفضيل وافعل الوصفي كما هو ظاهر العنوان ، وصريح بعض المحققين.
فلا وجه لتوهم بعض
الأجلّة من اختصاص الخلاف باسم الفاعل والصفة المشبهة واسم المفعول ، وخروج سائر
الصفات عن حريم النزاع. لان ذكر بعض المشتق في عنوان المبحث من باب المثال ، لا من
باب حصر النزاع فيه ، كما زعمه صاحب الفصول قدسسره.
قوله
: وما يلحق بها اي ما يلحق باسم الفاعل ، وذلك نحو المصدر الذي يكون مبنيا للفاعل نحو (زيد
عدل) أي عادل ، وما يلحق بالصفات المشبهة ، كالمنسوبات نحو (زيد بغدادي) و (عمر
وكوفى). و (بكر نجفي). اي تكون عناوين البغدادية والكوفية والنجفية ثابتة
لموصوفاتها كالصفات المشبهة لموصوفاتها.
ردّ قول صاحب (الفصول):
قوله
: ولعل منشأ التوهم
كون ... الخ فيقول المصنف قدسسره : ولعل منشأ توهم (الفصول) اختصاص النزاع باسم الفاعل وما
بمعناه من المصادر التي تكون بمعناه. ان ما ذكره (الفصول) من معنى لسائر المشتق
مثل كون اسم المفعول حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال ، ومثل كون
اسم الزمان حقيقة في الزمان الذي وجد فيه المبدأ في الحال أو الماضي ، ومثل كون
اسم المكان حقيقة في المكان الذي وجد فيه المبدأ في الحال أو الماضي ، ومثل كون
اسم الآلة التي وجد بها المبدأ في الحال أو الماضي حقيقة بالاتفاق.
فينحصر النزاع
قهرا باسم الفاعل وما بمعناه ، ولم يتفطن ان ما ذكر من المعاني لسائر المشتقات ـ
غير اسم الفاعل وما بمعناه ـ ليس مما اتفق عليه الكل ، بل هو ايضا محل خلاف كاسم
الفاعل وما بمعناه ، وعليه فلا يختصّ النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذات دون
بعض. فتفطّن.
قوله
: واختلاف انحاء
التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات ... الخ اعلم ان المشتق قد يطلق ويراد به
المتّصف بشأنية المبدإ. كما يقال (هذه شجرة مثمرة) ، وقد يطلق ويراد به المتخذ
للمبدإ حرفة وصنعة كما يقال (زيد خيّاط) و (هو كاتب) ، و (عمرو تاجر). فتوهّم
اختصاص النزاع ببعض المشتقات كما عن صاحب الفصول ، وهو اسم الفاعل وما بمعناه من
المصادر التي تكون بمعنى اسم الفاعل.
والصفة المشبهة
وما يلحق بها من المنسوبات كالكربلائي والنجفي والبغدادي و ... تكون لامرين :
احدهما
: تمثيل الاصوليين
ببعض المشتقات ، كاسم الفاعل وما بمعناه ، والصفة المشبهة وما يلحق بها من المنسوب
كالمدني. وغفل من انه يكون من باب المثال ، لا من باب انحصار النزاع فيه.
وثانيهما
: اختلاف انحاء التلبّسات
حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة. ولكن ردّه
المصنف بأنه لا يوجب تفاوتا في المهم الذي محل الخلاف ، مثال الاول نحو : (زيد
قائم) و (عمر وضارب بكرا). فالقائم والضارب منتزعان عن الذات بملاحظة اتصافها
بالقيام والضرب ، وهما فعلان صادران عن ذات من الذوات. ومثال الثانية نحو : (هذه
الشجرة مثمرة) اي من شأنها ان تكون مثمرة وان كانت بالفعل غير مثمرة. ومثال الملكة
نحو : (زيد مجتهد) و (عمر وعادل) اي لهما ملكة الاجتهاد وملكة العدالة. ومثال
الصنعة نحو : (احمد تاجر) اي صنعته التجارة. ومثال الحرفة نحو : (زيد نجّار) اي
حرفته النجارة. فزعم (الفصول) ان النزاع ينحصر في النوع الاول فقط لصدق المشتق في
البواقي بدون التلبس بالمبدإ في حال النسبة ، لان المجتهد مجتهد وان كان نائما أو
مسافرا وكذا
الباقي.
فهذا غفلة من (الفصول)
لان التلبس معتبر بشأنية المبدإ أو بصناعته أو بملكته لا بنفس المبدإ بذاته مثلا :
اذا زالت ملكة الاجتهاد عن زيد بعد ان تلبس بها ، فاذا قيل حينئذ (زيد مجتهد) أفهذا
الاطلاق حقيقة أم مجاز؟ وهذا يبتني على وضع المشتق ، فاذا قلنا بوضعه للاعم فهو
حقيقة ، وان قلنا بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ في حال النسبة فهو مجاز ، وكذلك
الباقي كما لا يخفى.
عنوان المشتق وأنه
أعم من المشتق الصرفي :
قوله
: ثم انه لا يبعد
ان يراد بالمشتق في محل النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه ... الخ وحاصله ان
المراد من المشتق في محل الخلاف ما يجري على الذات ويحمل عليها وينتزع عن الذات
بملاحظة اتصاف الذات بعرض أو عرضي.
وبملاحظة اتحاد
الذات مع المبدإ على نحو من انحاء الاتحاد ، اي سواء كان بنحو الحلول نحو (زيد
مريض) أو بنحو الانتزاع نحو (السقف فوق) أو بنحو الاعتبار نحو (زيد زوج) أو بنحو
الصدور والايجاد نحو (زيد ضارب عمرا الآن أو غدا) و (عمر ومضروب) و (بكر حسن الوجه)
، ولو كان جامدا كما رأيت في المثال. ولا بد هنا من بيان امور :
الاول
: الفرق بين العرض
والعرضي ، هو ان العرض متأصل ، له نصيب من الوجود ولو في ضمن المعروض عليه ، وذلك
نحو (السواد) و (البياض) ونحوهما من الاعراض المتأصلة التي تقابل الجوهر ، سواء
كانت قسمية ك (الكم) لانه ينقسم الى متّصل ومنفصل ، أم كانت لا قسمية بالذات ، ولا
نسبية بنفسها. وذلك نحو ال (كيف) ، أو نسبية فقط ك (الفعل والانفعال والاضافة
والملك والاين والمتى والوضع). أو العرضي ك (الفوقية والتحتية والزوجية والرقيّة)
ونحوها من الأمور الانتزاعية الخالصة التي لا حظّ لها من الوجود الا لمنشإ
انتزاعها ، من غير فرق في هذه الأمور كلها لانها تجري على الذوات التي تتصف بها.
فتلخص مما ذكرنا :
ان المراد بالعرض هو انه أمر متأصل ، له ما بازاء في الخارج مثل (السواد والبياض
والقيام والانكسار) ، وان المراد بالعرضي هو الامر الانتزاعي الذي له منشأ
الانتزاع وليس له ما بازاء في عالم الخارج ، نحو (الزوجية والرقية) ونحوهما ، وإن
أبيت ، اي وان منعت الا عن ارادة المشتق (المصطلح الصرفي) كما هو قضية الجمود وقصر
الفكر عن ظاهر لفظ المشتق المذكور في عنوان الاصوليين قدسسرهم فهذا القسم من الجوامد داخل في مورد النزاع ايضا بلا شبهة.
والثاني
: الفرق بين الصدور
والايجاد المذكورين سابقا هو انه باعتبار صدور الفعل عن الفاعل يسمى صدوريا ،
وباعتبار وقوعه على المفعول يقال له ايجاد ، فالفرق بينهما اعتباري.
والثالث
: النسبة بين
المشتق في عنوان البحث والمشتق (المصطلح الصرفي) هي عموم من وجه لاجتماعهما في اسم
الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وافعل التفضيل ونحوها من اسم الزمان والمكان
والآلة بل وصيغ المبالغة. وافتراق المشتق (المصطلح) في الافعال والمصادر المزيدة. وافتراق
المشتق الذي هو محل البحث في القسم الثاني من الجامد كالزوجية والملكية ونحوهما من
الانتزاعيات. فهذا القسم من الجوامد داخل في محل النزاع ، كما يشهد به ما عن
الايضاح لفخر المحققين قدسسره في باب الرضاع منه في مسألة : (من كانت له زوجتان كبيرتان
ارضعتا زوجته الصغيرة. ما هذا لفظه : تحرم المرضعة الاولى والصغيرة مع الدخول
بالكبيرتين. واما المرضعة الاخرى ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف رحمهالله وابن ادريس قدسسره تحريمها لان هذه يصدق عليها أمّ زوجته) لانه لا يشترط في
المشتق بقاء المشتق منه. هكذا هنا.
توضيح
المسألة : إذا ارضعت إحدى
الكبيرتين الصغيرة مع فرض دخوله بها حرمتا عليه مؤبدا بلا خلاف. اما الكبيرة فلأجل
انها صارت بارضاعها الصغيرة ام زوجة له وهي محرمة في الكتاب العزيز والسنة
الشريفة. واما الصغيرة فلأجل انها صارت بارتضاعها من الكبيرة بنتا له ان كان اللبن
له ، وربيبته ان كان اللبن من
فحل آخر. وكلا
العنوانين قد ثبتت حرمتهما في الكتاب المجيد والسنة. وهي : (يحرم من الرضاع ما
يحرم من النسب). واما تحريم المرضعة الكبيرة الثانية عليه ففيه خلاف ، واختار
جماعة منهم العلامة قدسسره تحريمها عليه لصدق عنوان أمّ الزوجة عليها ، وهي محرمة في
الشريعة المقدسة بالكتاب الكريم والسنة الشريفة.
وهذا متفرع على
كون المشتق المبحوث عنه للاعم من المتلبس بالمبدإ في حال النسبة ، وممن انقضى عنه
المبدأ. ولذا قال الشهيد الثاني رحمهالله في المسالك بابتناء الحكم في المرضعة الثانية في مسألة
المشتق. فان قلنا بوضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ في حال النسبة والحمل فلا تحرم عليه
، اذ عنوان زوجية الصغيرة قد زال بارتضاعها من الأولى لانها قد صارت بنته الرضاعية
ان كان اللبن لبنا له ، أو ربيبته ان كان اللبن من فحل آخر ، وهما محرّمان ابدا مع
فرض الدخول بالأم.
وان قلنا بوضعه
للاعم فتحرم عليه لصدق عنوان أمومة الزوجة عليها حينئذ ، مع كون الزوجة من الجامد
الصريح فلا يختص الخلاف بالمشتق المتعارف الصرفي كما توهمه الفصول رحمهالله ، بل كان النزاع في كل ما كان مفهومه منتزعا عن الذات
بملاحظة اتصاف الذات بالصفات الخارجة عن الذاتيات كانت الصفات عرضا كالسواد
والبياض ونحوهما ، أو عرضيا ك (الزوجية والرقية والحرّية) أو غيرها من الاعتبارات
والاضافات ، كان داخلا في النزاع وان كان جامدا.
قوله
: وهذا بخلاف ما
كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات والذاتيات اعلم انه قد تحصّل مما ذكرنا ان دخول
شيء في محل النزاع هنا يبتني على ركنين :
الركن
الاول : ان يكون الشيء
جاريا على الذات المتلبّسة بالمبدإ ومتحدا معها خارجا بنحو من الاتحاد ، وبذلك
الركن خرجت المصادر المزيدة لانها لا تجري على الذات المتصفة بها فانها مغايرة
معها خارجا وعينا ، فلا يقال زيد اكرام اذا كان زيد متصفا بهذا المبدإ بل يقال : (زيد
مكرم) ، وكذا المصادر المجردة لا يشملها النزاع لعدم صحة جريها وحملها على الذات
فلا يقال (زيد عدل) الا من باب المبالغة في الاسناد ، وان قلنا بانها من المشتقات.
وهكذا الافعال
جميعا لا يجري فيها هذا النزاع ، لعدم جريها على الذوات وان كانت من المشتقات.
فخرج جميع المذكورات عن مورد النزاع لكونه فاقدا لهذا الركن. فلا يقال في (زيد قام)
و (عمر ويقوم) حمل الفعل على زيد من باب حمل الخبر وجريه على المبتدإ فكيف قلتم
انه لا يحمل ولا يجري على الذات ، والمبتدأ اسم ذات في المثال؟ لانا نقول ان الفعل
اسند الى الضمير المستتر وهو حمل على الذات ويتحد معها خارجا وعينا لا الفعل من
اجل الكون الراجع عين المرجع ، ف (زيد قام) في قوة (زيد هو) ، وكذا الباقي. هذا
مضافا الى انه يعتبر في الحمل الاتحاد مصداقا وخارجا والفعل لا يتّحد مع الذات
مصداقا كما هو واضح.
الركن
الثاني : ان تكون الذات
باقية بعد انقضاء المبدإ ، بان تكون لها حالتان حالة تلبسها بالمبدإ وحالة انقضاء
المبدإ عنها ، وبذلك الركن خرج القسم الاول من الجوامد كالانسان والحيوان والشجر
ونحوها من العناوين الذاتية ، والوجه فيه ان المبادئ في امثال ذلك مقوّمة لنفس
الحقيقة والذات وبانتفائها تنتفي الذات فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدإ اي
مبدأ الاشتقاق. فينبغي التنبيه على أمرين :
الاول
: ان الذاتي على
قسمين :
الاول : ذاتي (باب
الإيساغوجي) ، وهو الجنس والفصل والنوع.
والثاني : ذاتي (باب
البرهان) ، وهو المحمول الذي ينتزع عن نفس ذات الشيء بدون ضم ضميمة مثل زوجية
الاربعة ، فكلاهما خارجان عن هذا البحث لانتفاء الموضوع بانتفاء ذاتي باب
الإيساغوجي.
مثلا : في قولنا (زيد
انسان) اذا انتفى الانسان انتفى زيد ، هذا مثال النوع. وكذا في (الانسان حيوان
ناطق) اذا انعدم الحيوان والناطق انعدم الانسان. فليس هنا حالتان حال التلبس وحال
الانقضاء مع بقاء الذات ، فاذا فرضنا تبدل الانسان بالتراب أو الكلب بالملح فملاك
الانسانية أو الكلبية ، وهو الصورة النوعية ، قد انعدمت وزالت ووجدت صورة نوعية
ثانية وهي : صورة النوعية الترابية أو الملحية.
ومن الواضح ان
الانسان لا يصدق على التراب ، ولا الكلب على الملح بوجه
من الوجوه ومع عدم
بقاء الذات لا تشمل ذاتيات باب الاساغوجي ولا معنى لان يقال ان الاطلاق عليها
حقيقة أو مجاز.
فخرجت الذاتيات في
باب الايساغوجي عن مورد النزاع لكونها فاقدة الركن الثاني ، ولا يمكن انقضاء ذاتي
باب البرهان مثل زوجية الاربعة ، لانها لازم نفس ماهية الاربعة ، ولا يمكن
انفكاكها عنها ، فليست لذاتي باب البرهان حالة الانقضاء. فخرج هذا ايضا عن محل
النزاع لكونه فاقدا الركن الثاني ايضا.
الثاني
: الفرق بين
الاعتبارات والاضافات اللتين ذكرتا سابقا ، هو أن احتياج الاعتبار الى المعتبر ،
فمن هذه الجهة تسمّى الأشياء اعتبارات ، ولانتسابها الى ذات من الذوات تسمى
اضافات. فالفرق بينهما اعتباري لا حقيقي.
ومن جميع ما
ذكرناه يظهر ان الخارج عن البحث أمران :
احدهما
: العناوين الذاتية
لان ذاتي البرهان ليس له حالة الانقضاء مع بقاء الموضوع وهو الاربعة مثلا ،
وللذاتيات باب الايساغوجي وان كانت لها حالة الانقضاء. ولكن لا يبقى الموضوع مع
انقضائها ، بل تكون حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، وفي ما اذا كانت الذات باقية
بسبب ذاتياتها كالانسان الذي يبقى مع بقاء الحيوان الناطق وينعدم بانعدامه ، وكذا
زيد يبقى مع بقاء الانسان الذي حمل عليه وينعدم بانعدامه ويفنى بفنائه.
ثانيهما
: الافعال والمصادر
لعدم جريها وحملها على الذوات ، لانه يشترط في الحمل اتحاد المحمول والمحمول عليه
مصداقا وعينا ، وهما ليستا متحدتين مع الذوات بحسب المصداق في الخارج ، كما لا
يخفى على احد ، فهذه فاقدة الركن الاول.
عدم اختصاص النزاع
ببعض المشتق :
قوله
: ثانيها قد عرفت
انه لا وجه لاختصاص النزاع ببعض المشتقات ... الخ لوجود الركنين في جميع العناوين
الجارية على الذوات التي تبقى بانقضاء العناوين سواء كانت اسم الفاعل واسم المفعول
والصفة المشبهة بل صيغ المبالغة واسم التفضيل
وافعل الوصفي
كالاحمر والاسود ونحوهما ، سواء كان فعيلا بمعنى الفاعل نحو العليم بمعنى العالم ،
او بمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول ، أو فعولا بمعنى الفاعل كالمنوع بمعنى
المانع ، أو بمعنى المفعول كضروب بمعنى المضروب ، وسواء كان اسم مكان كالمقتل
بمعنى مكان القتل ، أو اسم زمان كالمضرب بمعنى وقت الضرب ، أو اسم آلة كالمفتاح
بمعنى آلة الفتح ، وسواء كان (فعلة) التي تجيء بمعنى المرة ك (ضربة) يعني ضربة
واحدة ، أو (فعلة) التي تكون بمعنى النوع مثل (جلسة) بمعنى نوع الجلوس ، فكلها
داخل في محل النزاع ، كما ذكر وجهه في اوّل البحث. كما قيل المفعل للموضع ،
والمفعل للآلة ، الفعلة للمرّة والفعلة للحالة.
الإشكال الوارد
على اسم الزمان :
قوله
: الا ربما استشكل
بعدم جريانه في اسم الزمان لان الذات فيه وهي الزمان بنفسه ثم انه قد يستشكل في
دخول هيئة اسم الزمان في محل النزاع باعتبار انها فاقدة الركن الثاني وهو بقاء
الذات مع انقضاء المبدإ عنها ، لان الذات في اسم الزمان نفس الزمان وهو من الأمور
المتصرمة في الوجود آناً فآنا ، فلا يعقل بقاؤها فيه مع زوال المبدإ عنها ، فليس
له حالتان ، حالة الانقضاء مع بقاء الذات ، وحالة تلبس الذات بالمبدإ ، بل يكون
فيه حالة التلبس.
واما إطلاق اسم
الزمان في بعض الموارد كاطلاق مقتل الحسين عليهالسلام على يوم العاشر من المحرم في كل عام فهو من باب التجوز
والعناية بلا اشكال ، اذا علم ذلك فكيف يمكن ان يقع النزاع في ان الوصف الجاري على
الزمان حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في حال النسبة أو فيما يعمّ المتلبّس
بالمبدإ في المضي بل هو مجاز بالاتفاق فيما انقضى عنه المبدأ كما عرفت.
حلّ الإشكال :
قوله
: ويمكن حلّ الإشكال
بان انحصار مفهوم عامّ بفرد كما في المقام ... الخ فاجاب المصنف عن هذا الإشكال
بان انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد واحد وهو الزمان المتلبس بالمبدإ بالفعل ،
وامتناع تحقق فرده الآخر وهو الزمان المنقضي عنه المبدأ لا يوجب ان يكون وضع اللفظ
بازاء الفرد دون العام. ومن اجل هذا وقع النزاع فيما وضع له لفظ الله ، أهو ذات
الله تعالى المستجمع لصفات الكمال؟ أم معبودا بالحق ، وهو عام كلي ينحصر في الخارج
بفرد واحد وهو خالق العالم؟
فكما في لفظ الله
يمكن دعوى الوضع لمعنى عام كلي مع حصره في الخارج بفرد واحد ، فكذا في المقام يمكن
دعوى وضع اسم الزمان لمعنى كلي وهو الزمان الذي وقع فيه المبدأ مع حصره في الخارج
بفرد واحد وهو حال التلبّس.
توضيح
لا يخلو من فائدة : وهو ان انحصار مفهوم كليّ في فردين ، احدهما ممكن والآخر ممتنع ، لا يوجب عدم
امكان وضع اللفظ للجامع بين الفرد الممكن والمستحيل اصلا ، وكم له من نظير ، فمنه
لفظ الجلالة إذ وضع لمعبود بالحق وله فردان : احدهما : ممكن وهو الخالق للعالم.
والآخر : ممتنع وهو الفرد الذي يكون غير خالق العالم.
وكذا يقال في اسم
الزمان أنه وضع للزمان الذي تحقق فيه المبدأ وكان له فردان : احدهما : ممكن وهو حال
التلبس مع بقاء الزمان. والآخر : ممتنع وهو حال انقضاء الزمان ، مع بقاء الزمان ،
وهو ممتنع بل محال عقلا. ولا بأس بالتعرض للقولين في لفظ الله فهو لا يخلو من
فائدة.
قال جماعة بعلميته
للذات الواجب الوجود ، واستدلوا بوجهين :
احدهما : انه لو
لم يكن علما لما افادت كملة الاخلاص التوحيد وهي تفيده باجماع المسلمين.
وثانيهما : انه لو
لم يكن علما للزم استثناء الشيء من نفسه اذا كان المراد من (إله) في (لا إله)
معبودا بالحق أو الكذب ، إن كان المراد منه مطلق المعبود سواء كان
بالحق أم ان
بالباطل ، لكثرة المعبود بالباطل ، لا سيما غرب الهند. بخلاف ما اذا كان علما وكان
المراد من (إله) معبودا بالحق. فالاستثناء الجزئي من الكلي نظير (جاءني القوم الا
زيدا) وهو جائز بلا اشكال.
وقال بعض : بان
لفظ (الله) اسم جنس بمعنى المعبود بالحق ، وهو كلي منحصر في الخارج بفرد واحد ،
واستدل ايضا بوجهين :
الاول : ان وضع
العلم فرع تصور المسمى بكنهه والعقل قاصر عن تصور حقيقة الباري.
والثاني : انه
تلزم لغوية حمل (احد) على لفظ (الله) في سورة التوحيد ، لان مفهوم العلم لا يكون
إلّا واحد ، فلا يصح (الله احد) كما لا يصح قولك (زيد احد) ، والتفصيل موكول الى محله.
خروج الافعال
والمصادر عن محل النزاع :
قوله
: ثالثها انه من
الواضح خروج الافعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع ... الخ لان المشتق الذي
يبحث عنه هنا هو المفهوم الذي ينتزع عن الذات بملاحظة اتصافها بالمبدإ بحيث يصح
حمله عليها. فالافعال والمصادر خارجتان عن محل الخلاف ، لان الذات خارجة عن
مفاهيمهما كي تنتزع منهما وتحمل عليهما.
واما المصادر
فلانها تدل على الاحداث بلا دلالة على الذات نحو : (ضرب وقعود وإكرام).
واما الافعال
فلانها تدل على الحدث والزمان وهي لا تتحد مع الذوات باعتبار المفهوم الحدثي ، ولا
باعتبار المفهوم الزماني فلا يقال (زيد يوم الجمعة).
وفي الجملة :
المصادر المزيد فيها ، كالمصادر المجردة ، وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير
الذوات خارجا فلا تقبل الحمل عليها اصلا كما هو ظاهر.
واما الافعال
فوضعت للدلالة على نسبة المادة الى الذات على انحائها المختلفة باختلاف الافعال.
فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدإ الى الذات ،
والفعل المضارع
يدل على ترقّب وقوع تلك النسبة. وفعل الامر يدل على طلب تلك النسبة ، وفعل النهي
يدل على طلب ترك النسبة ، وكلاهما من الذات. ومن المعلوم ان معانيها هذه تأبى عن
الحمل على الذوات.
حاصل الكلام : ان
للافعال مادة وهيئة ، اما من حيث المادة فتدل على طبيعة التي تجردت عن كل خصوصية
خارجة عنها ، وهي التي يعبر عنها بمبدإ الاشتقاق ، وقد سبق عدم جري المبدإ وحمله
على الذات ، ف (ضرب) تدل على الضرب من غير تقييده بالشدة والضعف والقلة والكثرة.
واما من حيث
الهيئة فتدل على كيفية قيام المبدإ بالذات سواء كان صدوريا ك (ضرب) ، أم كان
حلوليا نحو (حسن زيد) و (مرض عمرو). وعلى طلب فعل المبدإ وايجاده كفعل الامر ، أو
على طلب ترك الفعل وعلى طلب ترك المبدإ كفعل النهي نحو (لا تغتب مؤمنا) و (لا تظلم
مسلما) ، فيكون هذا تفصيلا لما سبق في ضمن قول المصنف (احدها) سابقا فلا تغفل.
عدم دلالة الفعل
على الزمان :
قوله
: ازاحة شبهة قد
اشتهر في السنة النحاة دلالة الفعل على الزمان حتى اخذوا الاقتران به في تعريفه
وهو اشتباه ... الخ قد اشتهر عند النحاة دلالة فعل الماضي على الحدث المحقق وعلى
الزمان الماضي ، ودلالة فعل المضارع على الحدث المترقب وعلى زمان الحال أو زمان
الاستقبال ، ودلالة فعل الامر على الحدث الحاضر وعلى زمان الحال ، ولكن الصحيح عدم
دلالته على الزمان لانها لا تدل عليه لا مادة ولا هيئة.
اما
الاولى : فظاهرة لانها تدل
من حيث المادة على الحدث الكلي المجرّد عن جميع الخصوصيات ، حتى الزمان لم يلحظ
فهذا ظاهر.
واما
الثانية : فلان مفادها بحسب
الهيئة هو نسبة المادة الى الذات على نحو من انحاء النسبة سواء كانت صدوريا ، أم
كانت حلوليا ، وسواء كانت شأنيا أم كانت
فعليا أم غيرهما.
فالزمان اجنبي عن
مفاد الفعل مادة وهيئة ، فدلالة الفعل على الزمان اشتباه ظاهر ، ومما يدلّنا على
هذا صحة اسناد الافعال الى الزمان والى ما فوق الزمان من المجردات الخالية عن
الزمان ، والخارجة عن دائرته من دون لحاظ عناية في البين فلا فرق بين قولنا (علم
الله) و (علم زيد).
مع كون علم الباري
عزّ اسمه غير محدود بحد وغير مقيد بزمان دون زمان ومع كون علم زيد بخلافه ، ولا
بين قولنا (مضى الزمان) و (مضى الامر الفلاني).
فالفعل في جميع
هذه الامثلة استعمل في معنى واحد وعلى نسق فارد ، فلو كان الزمان مأخوذا لدار أو
تسلسل.
بيان الدور :
ان الزمان الذي هو
جزء مدلول الفعل مظروف وكل مظروف يتوقف على الظرف والظرف فاعل للزمان المظروف
والفاعل ـ من حيث كونه فاعلا ـ يتوقف على الفعل أو شبه الفعل فيلزم توقف الزمان
الظرفي على الزمان المظروفي ، فبالنتيجة يلزم توقف الزمان على الزمان وهكذا يدور
دورا.
بيان التسلسل :
لأن الزمان
المظروفي يتوقف على الزمان الظرفي وهو (أي الزمان الظرفي) يتوقف على الزمان
المظروفي الآخر الى ما لا نهاية له ، وكذا لا يصح اسناد الفعل الى ما فوق الزمان
من المجردات اذ افعالها لا تقع في الزمان لانها غير محدودة بحد ، وما كان في
الزمان محدود بحد لا محالة. والحال انه يصح اسناده الى ما فوق الزمان نحو (علم
الله تعالى) مثلا.
وبهذا البيان
يستكشف كشفا قطعيا ان الزمان غير مأخوذ في الفعل لا جزء ولا قيدا ، نعم الفعل
المسند الى الزماني ، وان كان يدل على وقوع الحدث في احد
الازمنة الثلاثة ،
إلّا انه ليس من جهة الوضع ، بل من جهة ان الامر الزماني لا بد أن يقع في احد
الازمنة.
فتلخص مما ذكرنا
ان الافعال لا تدل على الزمان ، وان استعمالها في جميع الموارد على نحو الحقيقة ،
ولا فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه ، واستعمالها في الزماني. فالاسناد في
الجميع اسناد حقيقي.
امتياز الماضي من
غيره :
قوله
: نعم لا يبعد ان
يكون لكل من ... الخ ولكن مع هذا كله يمتاز الفعل الماضي عن المضارع بخصوصية ثابتة
في كل واحد منهما ، ولأجل تلك الخصوصية لا يصح استعمال احدهما في موضع الآخر ويكون
الاستعمال غلطا واضحا.
وتفصيل
ذلك : ان الخصوصية في
الفعل الماضي هي انه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المبدإ مقيّدا
بكونه قبل زمان التكلم. وهذه الدلالة موجودة في جميع موارد استعماله سواء كان
الاسناد الى نفس الزمان وما فوق الزمان من المجردات كالباري عزّ اسمه ، أم كان الى
الزماني فقولنا : مضى الزمان يدل على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق الزمن قبل زمن
التكلم بهذا وكذا قولنا علم الله واراد الله ، يدل على ان المتكلم قاصد للاخبار عن
تحقق المبدإ وتلبّس الذات به قبل زمن التكلم وان كان صدور الفعل مما هو فوق الزمان
لا يقع في زمان.
وكذلك اذا اسند
الفعل الى الزماني نحو (قام زيد) و (ضرب عمرو بكرا) ، فانه يدل على قصد المتكلم
الاخبار عن تحقق المبدإ وتلبس الذات به قبل زمان التكلم بهذا الكلام. فهذه
الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته من دون دلالة على وقوع
المبدإ في الزمان الماضي.
نعم بين الاسناد
الى الزماني والاسناد الى غيره فرق من ناحية اخرى وهي ان الاسناد الى الزماني نحو (ضرب
زيد عمروا) يدل بالالتزام على وقوع الحدث في الزمان الماضي فهذه الدلالة وان كانت
موجودة إلّا انها غير مستندة الى اخذ الزمان
في الموضوع له ،
بل من جهة ان صدور الفعل من الزماني قبل حال التكلم يستلزم وقوعه في الزمان الماضي
لا محالة.
واما الخصوصية في
الفعل المضارع فهي انه وضع للدلالة على قصد المتكلم الحكاية عن تحقق المبدإ في زمن
التكلم أو ما بعده ولا يدل على وقوعه في الحال أو الاستقبال ، كيف؟ فان دلالته على
ذلك في جميع موارد اسناده على حد سواء. فلا فرق بين اسناده الى الزمان والى ما
فوقه كقولنا (يمضي الزمان) و (يعلم الله) و (يريد الله) ، وبين اسناده الى الزماني
نحو (يضرب زيد عمروا) غاية الامر اذا اسند الى الزماني يدل على وقوع المبدإ في
الزمان الحال أو الاستقبال بالالتزام من جهة ان فاعل الزماني يوقع فعلا في الزمن
لا محالة.
وإلّا فالمضارع
بوضعه لا يدل إلّا على تحقق المبدإ حال التكلم أو ما بعده من دون ان يدل على وقوعه
في الزمان ، وعليه فدعوى دلالة الفعل الماضي أو المضارع بنفسيهما على الزمان
الماضي أو على الحال أو الاستقبال بالتضمن ، كما يستفاد ذلك من قول النحاة على نحو
كان الزمان جزءا للموضوع له ، مما لا وجه له وان كانا يدلان على الزمان الماضي أو
الحال أو الاستقبال بالالتزام من حيث ان لمعناهما خصوصية تنطبق في احدهما على
الزمان الماضي ، وفي الآخر على الزمان الحال أو الاستقبال فيما اذا اسند الى
الزمانيات.
قوله
: ويؤيده ان
المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال ... الخ ذكر المصنف مؤيدا لعدم
دلالة الفعل على الزمان تضمنا ، ويدل عليه التزاما اذا اسند الى الزماني ، وهو
اشتراك الفعل المضارع بين الحال والاستقبال ، ولا معنى للاشتراك المعنوي فيه إلّا
ان يكون للمضارع معنى قد صح انطباقه على كل منهما ، لا انه موضوع لزمان جامع
بينهما ، اذ لا زمان يجمع بينهما.
توضيح
: وهو ان المراد من
الزمان الذي يدل عليه الفعل التزاما اذ اسند الى الزماني ، لخصوصية ، وهي التحقق
في الفعل الماضي ، والترقب في الفعل المضارع ، هو مصداق الزمان ، لان وقوع الحدث
المحقق ، أو وقوع الحدث المترقب ، أو وقوع
الحدث الحاضر ،
كان في مصداق الزمان من الازمنة ، لا في مفهوم الزمان. ولا يكون الجامع والقدر
المشترك بين الحال والاستقبال الا مفهوم الزمان.
ولكن المفروض عدم
اخذ مفهوم الزمان في مدلول الفعل ، فما اخذ في مدلول الفعل لا يكون جامعا بين
الحال والاستقبال ، لان المأخوذ في مدلوله هو مصداق الزمان ، وهو لا ينطبق على
الحال والاستقبال كما ان (زيدا) يكون غير منطبق على (عمرو) و (بكر) فكيف يجمع بين
قول النحاة بالاشتراك المعنوي في الفعل المضارع وبين كون زمان في معنى الفعل عندهم
مصداق الزمان؟
فان قلنا بالوضع
لمصداق زمان الحال ولمصداق زمان الاستقبال في المضارع يلزم الاشتراك اللفظي وهو
خلاف الفرض لان الفرض ، هو الاشتراك المعنوي. وان قلنا بوضع المضارع لاحدهما دون
الآخر يلزم التجوز فيه وهو ينافي تصريحهم بالاشتراك المعنوي فيه ، فلا يمكن الجمع
بينهما. إلّا بان يكون مرادهم من اقتران مدلول الفعل بزمان اقتران مدلوله
بالخصوصية التي تستلزم الزمان ، لا بالوضع ، وهي التحقق في الماضي ، والترقب في
المضارع ، والتلبس الفعلي بالمبدإ في زمان الحال في فعل الامر.
ويكون استلزام هذه
للزمان القدر المشترك بين زمان الحال وزمان الاستقبال ، وجعله مؤيدا لا دليلا. لان
الاشتراك المعنوي فيه غير متفق عليه ، لقول بعض منهم بالاشتراك اللفظي فيه. وعلى
هذا يدل المضارع على زمان الحال وزمان الاستقبال التزاما لا تضمنا كما هو المدعى.
ولكن كون القول بالاشتراك المعنوي مشهورا عندهم يصلح للتأييد ، ولذا جعله مؤيّدا
لمدعاه ، كما لا يخفى ، لا دليلا عليه.
الجملة الاسمية :
قوله
: كما ان الجملة
الاسمية ك (زيد ضارب) يكون لها معنى صحّ انطباقه ... الخ لان اسم الفاعل يكون لفظا
واحدا ، ويستعمل في ثلاثة معان نحو (زيد ضارب عمروا امس) و (زيد ضارب الآن) و (هو
ضارب غدا) فكلها صحيح ، ولم يصح (ضرب زيد
عمروا غدا) أو (يضرب
زيد عمروا امس). وليس ذلك الّا لأجل ان الجملة الاسمية لها معنى قد صح انطباقه على
كلّ من الماضي والحال والاستقبال ، وهو تلبس الذات بالمبدإ مطلقا. بخلاف الفعل
الماضي والمضارع وفعل الامر ، لان الماضي لا ينطبق إلّا على الزمان الماضي ،
والمضارع لا ينطبق إلّا على زمان الحال ، أو زمان الاستقبال ، وفعل الامر لا ينطبق
إلّا على زمان الحال. فلذا لا يصح (ضرب زيد غدا) و (هو يضرب امس) و (اضرب غدا).
فالجملة الاسمية تدل على ثبوت المبدإ لذات على نحو الدوام والاستمرار ، ويكون
الثبوت الكذائي مستلزما للزمان ، فهي تدل عليه نحو الالتزام لا على نحو التضمن ،
فكذا الجملة الفعلية نحو (قام زيد) و (يقوم عمرو) و (قم يا زيد) لا تدل على الزمان
وضعا ، بل تدل عليه بالخصوصية التي كانت في معناها وهي تجدد المبدإ لذات من الذوات
، ويكون تجدد المبدإ مستلزما لزمان من الازمنة ، فتكون الافعال كالجملتين الاسمية
والفعلية في عدم دلالتها على الزمان وضعا على نحو التضمن ، بل تدل عليه التزاما
اذا اسندت الى الزماني لخصوصية فيها ، فكذا الجملتان تدلان عليه التزاما لخصوصية
في معنييهما.
تأييد عدم دلالة
الفعل على الزمان :
قوله
: وربما يؤيد ذلك
ان الزمان الماضي في فعله ... الخ اي ربّما يؤيد عدم دلالة الفعل الماضي على
الزمان الماضي ، ولا المضارع على الزمان الحال أو الاستقبال بالتضمن ، ما يتفق في
الاستعمالات من عدم كون الزمان في الفعل الماضي ماضيا حقيقة ولا في فعل المضارع
حالا أو مستقبلا حقيقيّين.
بل يكون بالعكس
كما في قولك (يجيئني زيد بعد عام وقد ضرب قبله بايام) وهذه الجملة المقرونة بالواو
الحالية تكون حالا عن فاعل (يجيئني) وهو (زيد) ، والحال يكون قيد العامل ذي الحال
، وهو حال مقارن يشترط فيه مقارنة في الزمان ، فمجيئه في الاستقبال فضربه ايضا فيه
قبله بايام.
فالفعل الماضي
يستعمل في المستقبل حقيقة ، وكما في قولك (جاء زيد وهو
يضرب) في ذلك
الوقت أو فيما بعده مما مضى من الاوقات. وجملة (هو يضرب) قرنت بالواو الحالية ،
تكون حالا عن فاعل (جاء) وهو (زيد) وهذا يكون حال المقارنة وقيدا للعامل. فالفعل
المضارع استعمل في زمان الماضي حقيقة.
قوله
: فتأمل جيدا وهو
اشارة الى ان مراد النحاة بالزمان الماضي اعم من الماضي الحقيقي والاضافي ، أو فهو
اشارة الى ضعف التأييد لإمكان دعوى كون المراد من الزمان الماضي في الفعل الماضي
ما كان ماضيا بالاضافة الى زمان النطق أو بالاضافة الى غيره.
فـ (ضرب زيد) يكون
ماضيا بالاضافة الى مجيئه بقرينة لفظ قبله في المثال الاول ، وكذا الكلام في
المضارع ، لان المراد من الزمان المستقبل في المضارع ما كان مستقبلا بالاضافة الى
غيره ف (ضرب) زيد يكون مستقبلا بالاضافة الى مجيئه بقرينة لفظ (فيما بعده) في
المثال الثاني.
فتلخص مما ذكرنا :
ان كلّا من الفعل الماضي والمضارع دالّ بمادته على المبدإ وبهيئته على نسبة خاصة
قائمة بمبدإ خارج من العدم الى الوجود في الفعل الماضي ، أو يستخرج منه اليه في
الفعل المضارع ، وان تلك الخصوصية هي منشأ فهم الزمان من الفعل ، فلاجل هذا
الاحتمال الذي ذكر في ضمن وجه التأمل جعل المصنف هذا تأييدا لا دليلا عليه.
امتياز الحروف عما
عداها :
قوله
: ثم لا بأس بصرف
عنان الكلام الى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه ... الخ فذكر الافعال وبيان عدم
دلالتها على الزمان كان على نحو الاستطراد ، وذكر الحرف بعد الافعال يكون على نحو
الاطراد في الاستطراد. يعني أن المقصود الاصلي هنا بيان وجه خروج الافعال عن حريم
النزاع ، وبيان الفرق بين الاسم والفعل كان لاجل الاستطراد.
فينبغي اطراد هذا
الاستطراد ببيان الفرق بين جميع اقسام الكلمة ، وهي الاسم
والفعل والحرف ،
حتى يتضح الفرق بين كل واحد منها. فان قيل : لم كرّر المصنف بحث الحرف مع انه مرّ
في بحث الوضع؟ وما هذا إلّا تضييع العمر واتلاف الوقت. قلنا ان الفائدة التي تترتب
على التكرار امران :
الاول
: بيان عدم
المنافاة بين كون المعنى في الحرف كليا طبيعيا ، وبين كون المعنى جزئيا ذهنيا.
والثاني
: بيان عدم
المنافاة بين كون المعنى فيه كليا عقليا ، وبين كون المعنى جزئيا ذهنيا ، فلذا
كرّر بحث الحرف وقال فاعلم انه وان اشتهر بين الاعلام ان الحرف ما دل على المعنى
بواسطة الغير نحو (من) و (الى) فانهما يدلان على ابتداء الغاية وعلى انتهاء الغاية
بواسطة (البصرة) و (الكوفة) في (نحو سرت من البصرة الى الكوفة).
لكن عرفت سابقا
عدم الفرق بين معناها ومعنى الاسم ، وانه لم يلحظ الاستقلال بالمفهومية في الاسم
كما انه لم يلحظ عدم الاستقلال بالمفهومية في الحرف ، فالفرق بين معنى الاسم ومعنى
الحرف في كيفية الاستعمال لا في ذات الموضوع له ولا في نفس المستعمل فيه ، لانه
اذا أريد المعنى حالة لغيره يكون معنى الحرف ، واذا اريد المعنى بما هو هو يكون
معنى الاسم.
فبناء على هذا ،
فان استعمل لفظ الابتداء في الابتداء الآلي ، ولفظ من استعمل في الابتداء
الاستقلالي ، فلا يكون مجازا. وان كان هذا الاستعمال على خلاف الطريق الذي لاحظه
الواضع في مقام الاستعمال ، فالمعنى سواء كان في الاسم أم كان في الحرف ، يكون
كليا ، لانه قابل للانطباق على كثيرين. اذا علم هذا فاعلم انه يحتاج توضيح المطلب
الى بيان امرين :
الاول
: ان الشيء ما دام
لم يتشخص لم يوجد ، سواء كان وجوده ذهنيا أم كان خارجيا.
والثاني
: الوجود الذهني هو
نفس تصور الذهن شيئا ، فلا بد ان يكون هذا الشيء جزئيا في الذهن حتى يوجد فيه ،
لان الشيء ما دام لم يتشخص لم يوجد في
الذهن ولا في
الخارج ، فهذا المتصور الذي يكون بقيد التصور جزئيا ذهنيا ، اي بقيد تصور الآلية ،
وهو الذي يكون كليا عقليا في حال كونه مقيّدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي ، أو
فقل ان هذا المتصور كلي عقلي باعتبار كونه مقيّدا بامر ذهني وهو لحاظ الاستقلالية
والآلية ، وجزئي ذهني باعتبار كونه موجودا في الذهن. فلا منافاة بينهما لتعدد
الاعتبار فلا موطن لهما الا الذهن ولا يكونان موجودين في الخارج ، والموجود فيه هو
افراد كلي الطبيعي. ولا منافاة بين كون الشيء جزئيا ذهنيا وبين كون الشيء كليا
طبيعيا ، وذلك كمعنى الحرف ، وهو جزئي ذهني باعتبار كونه ملحوظا في النفس وقائما
بها وموجودا عندها ، وكليته تكون باعتبار حكايته عن الكثير في الخارج فلا منافاة
بينهما لتعدد الاعتبار والاضافة.
فتحصّل ان لحاظ
الآلي لا يكون دخيلا في نفس المعنى ، لا شطرا ولا شرطا ، بل هو ناشئ من ناحية
الاستعمال ، فتأمل في الخلط الذي هو عبارة عن كون لحاظ الآلي شطرا للموضوع له ، أو
قيدا للمستعمل فيه ، أو قيدا للاستعمال ، والحق هو الاخير. وفي الاشتباه الذي هو
عبارة عن توهم كون الموضوع له خاصا ، وكون المستعمل فيه خاصا ، مع كون الموضوع له
عاما في الحروف.
فالاقوال هنا
ثلاثة : ذهب قوم الى كون الوضع والموضوع له عامين والمستعمل فيه خاصا ، وذهب قوم
الى كون الوضع عاما والموضوع له خاصا كما ان المستعمل فيه خاص. وقال المصنف : ان
الوضع والموضوع له والمستعمل فيه كلها عام ، والخصوصية ناشئة من قبل الاستعمال ،
فهي من اطواره وشئونه لا من اطوار الموضوع له ولا المستعمل فيه.
قوله
: وليت شعري اي ليت
علمي حاصل ، ان كان قصد الآلية موجبا لجزئية المعنى في الحروف فلم لا يكون قصد
الاستقلالية في الاسماء موجبا لكون المعنى جزئيا فيها حتى ينتفى العام رأسا ، فلا
يعتبر فيها لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه قطعا ، فكذا في الحروف مضافا الى
ان اللحاظ الآلي ، ان كان قيدا لمعنى الحرف ، ومعنى الحرف يكون قيدا لمعنى الاسم ،
فاللحاظ الآلي يكون قيدا
لمعنى الاسم ، لان
قيد القيد قيد (مثلا) ، والابتداء من البصرة الذي هو معنى لفظ (من) في قولك (سرت
من البصرة الى الكوفة) قيدا للسير الذي هو معنى الاسم.
فاللحاظ الآلي قيد
للسير ، لان قيد القيد قيد. وعلى هذا امتنع انطباقه على ما في الخارج ضرورة ، انه
بناء على هذا الدخل الذي هو قيد عقلي لا موطن له إلّا العقل ، والمقيد بقيد عقلي
يكون عقليا ، والعقلي لا ينطبق على ما في الخارج فيمتنع امتثال (سر من البصرة الى
الكوفة) ، والحال انه يصدق ما في الخارج. وليس هذا إلّا لعدم اعتبار قصد
الاستقلالية والآلية في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، بل في الاستعمال في
الاسماء والحروف.
وان كان معتبرا في
الموضوع له لزم ان تكون معاني متعلقات الحروف مثل السير والبصرة والكوفة في قولك (سرت
من البصرة الى الكوفة) كليات عقلية لما عرفت من كون قيد القيد قيدا فيستحيل
انطباقها على الأمور الخارجية.
فتلخص
مما ذكرنا : انه ان كان قصد الآلية
في معنى الحرف ملحوظا بعنوان الشطر أو بعنوان الشرط لزم امران.
الاول
: عدم صدق متعلقات
معاني الحروف على الخارجيات ، اذ انها على حسب الفرض مقيدة بقيد عقلي ، وهو لحاظ
الآلية والمقيد بقيد عقلي عقلي ، والعقلي لا موطن له إلّا العقل.
الثاني
: يلزم امتناع امتثال
الامر في قولك (كن على السطح) و (سر من البصرة الى الكوفة).
فخلاصة
الكلام : ان المعنى في كل
واحد من الاسم والحرف كلي طبيعي باعتبار حكايته عن الكثير في الخارج. وبلحاظ تقيد
المعنى باللحاظ الآلي أو الاستقلالي في مقام الاستعمال جزئي عقلي ، لان الشيء ما
دام لم يتشخص لم يوجد لا في الذهن ولا في الخارج. فجزئية المعنى باللحاظ
الاستقلالي أو الآلي في موارد الاستعمال. وكليته باعتبار نفسه وجرمه. وبهذا يندفع
الإشكال في غير الحروف ايضا ، فلا يتوهم اجتماع النقيضين في الاسماء والحروف ،
اعني كلية
المعنى ، وجزئية
المعنى لانا نقول ان جزئيته بالاضافة الى اللحاظ الاستقلالي والآلي ، وكليته
بالاضافة الى نفسه وجرمه. وحينئذ فلا تناقض ، لانه يشترط في التناقض الوحدات
الثماني وحدة الموضوع ، وحدة المحمول ، وحدة المكان ، وحدة الزمان ، وحدة الشرط ،
وحدة الاضافة ، وحدة الجزء والكل ، وحدة القوة والفعل. كما في المنطق. فالاشكال في
غير الحروف لاجل عدم لحاظ الاستقلالية في معناه وارد ، فكذا في الحروف لاجل عدم
لحاظ الآلية في معناها. وأما إذا لوحظت الاستقلالية والآلية في مدلول الحروف فلا
اشكال حينئذ.
قوله
: فتأمل في المقام ... الخ وتزل اقدام الاعلام بل زلّت اقدامهم هنا حيث جعلوا لحاظ الآلي من قيود
الموضوع له ، وغفلوا عن كون هذا اللحاظ من اطوار الاستعمال لا من قيود الموضوع له
فضلا عن جزئه.
قوله
: فافهم وهو تدقيقي اشارة
الى دقة المطلب.
ردّ تفصيل فاضل
التوني قدسسره :
قوله
: رابعها ان اختلاف المشتقات في المبادئ ... الخ غرض المصنف من هذا ردّ تفصيل فاضل التوني قدسسره حيث قال الفاضل : «انه اذا كان المبدأ ملكة وصناعة وحرفة
فاطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ يكون حقيقة فاذا قيل : (زيد مجتهد عادل) في
حال نومه ، فهذا الاطلاق حقيقة. وان كان المبدأ فعلا مثل الاكل والشرب فيكون
اطلاقه على من انقضى عنه المبدأ مجازا. فاذا قيل (زيد آكل شارب) في حال نومه بعد
الاكل والشرب فهذا مجاز» ، فيقول المصنف رادّا لهذا التفصيل ان اختلاف المشتقات في
المبادئ والمصادر لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة اصلا ، ولا تفاوتا في الجهة
المبحوث عنها كما لا يخفى.
ولا بد من توضيح
لفظ الهيئة ومن لفظ الجهة المبحوث عنها. اما الاول (لفظ الهيئة) : فالمراد منه
هيئة المشتق كهيئة (فاعل) و (مفعول) و (فعل) ونحوها ، والمراد من الثاني (لفظ
الجهة) : هو كون المشتق موضوعا للمتلبّس بالمبدإ في الحال ، أو
للأعم منه ، ومن
انقضى عنه المبدأ.
غاية الامر انه
يختلف التلبس بالمبدإ في الماضي أو الحال بسبب اختلاف أوضاع المبادئ ، فيكون
التلبس بالمبدإ فعلا لا قوة لو أخذ المبدأ حرفة أو ملكة ، ولو لم يتلبس بالمبدإ
الى حال النسبة والاسناد أو انقضى عنه المبدأ. ويكون التلبس بالمبدإ في ما مضى أو
في ما يأتي لو اخذ المبدأ فعليا فلا تفاوت في المشتقات انحاء التلبسات وانواع
التعلّقات كما سبق في الامر الاول.
مثلا : (شاعر) و (كاتب)
و (صائغ) و (تاجر) ان اريد منها الملكة ـ اي ملكة الشعر والكتابة والصياغة
والتجارة ـ فالذات متلبسة بها ولو في حال النوم ، وان اريد منها فعليتها فالذات
غير متلبسة بها في حال النوم ، وان كانت متلبّسة بها في الماضي ، أو سوف تتلبّس
بها في المستقبل. فكل مشتق له حال الانقضاء وحال التلبس في الحال وحال سيتلبس في
الاستقبال ، فهو داخل في النزاع.
الفرق بين التلبّسات
والتعلقات :
قوله
: فلا يتفاوت فيها انحاء التلبسات وانواع التعلقات المراد من الاول : اختلاف تلبسات المشتقات بالمبادئ ، ففي
بعضها يكون التلبس فعليا اذا كان المبدأ من الافعال كالضرب والنوم ، وفي بعضها
شأنيا اذا كان المبدأ ملكة وحرفة وصنعة مثل الاجتهاد والكتابة والخياطة. وفي بعضها
حاليا ، وفي بعضها استقباليا ، وفي بعض ماضيا.
والمراد من الثاني
: انواع متعلقات المشتقات ، مثل فاعلها ومفعولها وزمانها ومكانها وعددها وعلتها
وسببها وكيفياتها. فاختلاف التلبسات والتعلقات ليس بمضر في المهم المبحوث عنه ،
وهو كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس في الحال أو حقيقة في الاعم منه وممن انقضى
عنه المبدأ.
تحقق الحال في
المسألة :
قوله
: خامسها ان المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس لا حال النطق ... الخ اذا قيل (زيد عالم) ، فهنا تكون احوال ثلاثة : حال النطق ،
وحال التلبس ـ اعني تلبس زيد بوصف العلم ـ وحال النسبة الايقاعية. ولا اشكال في
كون المشتق حقيقة مع اتفاق هذه الاحوال. كما اذا قلت (زيد عالم الآن) وكان زيد
عالما في حال النطق ، اما لو اختلفت هذه الاحوال فقد يكون حقيقة بالاتفاق ، وقد
يكون مجازا بالاتفاق ، وقد يكون محل الخلاف.
فالتحقيق ان
المعيار هو اختلاف زمان الجري مع زمان التلبس واتفاقهما. فان اتفقا كان حقيقة
بالاتفاق ، وان تقدم زمان الجري على زمان التلبس فهو مجاز بالاتفاق ايضا ، كما اذا
قلت (زيد قائم امس) اذا لم يكن بقائم امس وانما كان قائما حال النطق.
وان تأخر زمان
الجري عن زمان التلبس فهو محل الخلاف في هذا المبحث ، ولا عبرة بزمان النطق اصلا.
والمحكي عن صريح بعض ان العبرة بزمان النطق ، فان اتفق مع زمان التلبس كان حقيقة
بالاتفاق ، وان تقدم زمان النطق على زمان التلبس كان مجازا بالاتفاق ، وان تأخر
عنه كان محل الخلاف في المقام.
توضيح
اصل المطلب : وهو انه اذا
اتفقا ـ اي اتفق زمان الجري وزمان التلبس ـ سواء كان زمانهما ماضيا مثل (زيد كان
ضاربا امس) اذا جعل الامس قيدا لكل من التلبس والجري ، أم كان مستقبلا نحو (زيد
يكون ضاربا غدا) اذا جعل الغد قيدا لكل من التلبس والجري ، فيكون المشتق حقيقة.
لان المفروض هو كون الجري بلحاظ حال التلبس ، لا بلحاظ حال النطق. فاختلاف حال
النطق مع حال الجري والتلبس لا يقدح في كون المشتق حقيقة في هذه الموارد.
فتلخص مما ذكرنا
ان المعيار في كون المشتق حقيقة أو مجازا هو حال التلبس. فاذا كان الجري على الذات
بلحاظ حال التلبس ، بان اتفق زمان الجري وزمان التلبس ، كان حقيقة سواء كان
زمانهما ماضيا أم كان مستقبلا ام كان حالا ،
بان كان زمانهما
متحدا مع زمان النطق.
وان لم يتفق زمان
الجري وزمان التلبس ففيه تفصيل ، وهو فاذا كان الجري حالا والتلبس استقبالا كان
مجازا ، نحو (زيد ضارب غدا) اذا جعل الغد قيدا للتلبس دون الجري ، واذا كان الجري
حالا والتلبس ماضيا نحو (زيد ضارب امس) اذا جعل الامس قيدا للتلبس دون الجري كان
اختلافيا.
فالمراد في عنوان
المسألة هو حال التلبس لا حال النطق ولا حال الجري ضرورة ان مثل (كان زيد ضاربا
امس) أو (سيكون غدا ضاربا) حقيقة اذا كان متلبسا بالضرب في الامس في المثال الاول
، ومتلبسا بالضرب في الغد في المثال الثاني.
اما اذا جعل الامس
قيدا للتلبس دون جعله قيدا للجري ، ففيه خلاف كما مرّ ، فجري المشتق حيث كان بلحاظ
حال التلبس وان مضى زمان التلبس في حال النطق ولم يأت بعد ، اي لا يكون زمان
التلبس في زمان النطق ، ففي الثاني حقيقة بلا خلاف مشهور في البين.
قوله
: ولا ينافيه الاتفاق على ان مثل (زيد ضارب غدا) مجاز ... الخ ولا ينافي كون المشتق حقيقة ، نحو (كان زيد ضاربا امس)
ونحو (سيكون غدا ضاربا) بلحاظ حال التلبس كون المشتق مجازا بالاتفاق نحو (زيد ضارب
غدا).
ووجه عدم التنافي
ان مورد الاتفاق على مجازية المشتق هو ما اذا كان الجري بلحاظ حال النطق لا بلحاظ
حال التلبس ، وان مورد الاتفاق على حقيقة المشتق هو ما اذا كان زمان التلبس والجري
متّحدا ، فمورد المجازية هو تقدم زمان الجري على زمان التلبس ، كما اذا جعل في مثل
(زيد ضارب غدا) الغد قيدا لزمان التلبس ، فيكون الجري فعليا والتلبس استقباليا
فيكون مجازا اتفاقا.
فظهر مما ذكرنا
انه اذا اتفق زمان الجري وزمان التلبس سواء كانا ماضيين أم انا حالين وام كانا
استقباليين كان المشتق حقيقة. واذا تقدم زمان الجري على زمان التلبس كان مجازا.
واما اذا تقدم زمان التلبس على زمان الجري والحمل كان
مختلفا فيه. وكل
من يقول بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال يقول بالمجازية ، ومن يقول
بوضعه للاعم منه وممن انقضى عنه المبدأ يقول بالحقيقة.
قوله
: كما هو قضية الاطلاق ... الخ فمقتضى اطلاق المشتق على الذات يكون حمله عليها في الحال
اي حال النطق والاطلاق بمعنى الحمل. واما الغد في نحو (زيد ضارب غدا) فجيء به
لبيان زمان التلبس ، فيكون الجري والاتصاف في الحال والتلبس في الاستقبال.
قوله
: ومن هنا ظهر الحال في مثل (زيد ضارب امس) وانه داخل في محل الخلاف ... الخ اي ومما ذكرنا في مثل (زيد ضارب غدا) من ان الجري فيه يكون
في الحال ، وكلمة الغد في هذا المثال لبيان زمان التلبس ، ظهر الحال والمطلب في
مثل (زيد ضارب امس) لان الجري فيه في الحال ، والتلبس في الماضي ، فيدخل في محل
الخلاف من كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس في الحال أو في الاعم منه ، وممن
انقضى عنه المبدأ. فعلى الاول مجاز وعلى الثاني حقيقة. ولو كانت لفظة (امس) أو (غد)
في المثالين قرينة على تعيين زمان النسبة والجري ايضا كما انهما قرينتان على زمان
التلبس كان المثالان حقيقة.
وبالجملة
: لا ينبغي الإشكال
في كون المشتق حقيقة في كلام اذا جرى على الذات بلحاظ حال التلبس ولو كان حال
التلبس في الماضي أو الاستقبال. وانما الخلاف في كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس
بالمبدإ ، أو فيما يعم التلبس والمنقضى عنه المبدأ فيما اذا جرى المشتق على الذات
في حال النطق بعد ما انقضى عنه التلبّس بالمبدإ ، بعد الفراغ عن كون المشتق مجازا
فيما اذا جرى المشتق على الذات فعلا بلحاظ التلبس في الاستقبال ، وامثلة الكل
واضحة.
قوله
: ويؤيد ذلك اتفاق
اهل العربية على عدم دلالة اعلم ان اهل العربية قد اتفقوا على ان الاسم لا يدل على
الزمان سواء كان جامدا ، أم كان مشتقا جاريا على الذات مثل اسم الفاعل واسم
المفعول وما شاكلهما. فبناء على هذا ، لو كان المراد من الحال في عنوان المسألة هو
حال النطق كان النزاع ـ لا محالة ـ في دلالة المشتق على
زمان النطق وعدمه.
فمن قال بوضع
المشتق للمتلبس بالمبدإ في الحال قال بدلالته على زمان الحال. ومن قال بوضعه للاعم
منه وممن انقضى عنه المبدأ قال بعدم دلالته على الزمان لا الحال ولا غيره.
وهذا النزاع ينافي
اتفاقهم ، وهو يؤيد ـ اي اتفاقهم ـ ان المراد من الحال في عنوان المسألة حال
التلبس لا حال النطق. وجعل المصنف هذا مؤيدا لا دليلا لعدم حجية اتفاق النحاة
واجماع اهل العربية على فرض ثبوته ، لعدم كشف هذا الاجماع عن رضا المعصوم عليهالسلام ، لانه لا يكون على حكم شرعي بل على موضوع خارجي ، ولكن مع
كونه كذلك لا يقصر عن كونه مؤيدا لهذا المطلب.
قوله
: ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال ... الخ اي : لا ينافي اتفاقهم على عدم دلالة الاسم مطلقا على
الزمان اشتراط العمل في مثل اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال لا بمعنى
الماضي. هذا اولا. وثانيا : اعتماده على احد اشياء ستة وهي : المبتدأ ، والموصول ،
والموصوف ، وذو الحال ، وحرف النفي ، وحرف الاستفهام. لان مرادهم من ذلك دلالته
على زمان الحال أو زمان الاستقبال مجازا بمعونة القرينة وهي كلمة (الآن) أو كلمة (غدا)
لا بنفسه وضعا. كيف وقد اتفق الاصوليون على كون المشتق مجازا في الاستقبال ، فلو
كان مرادهم من كونه بمعنى الحال أو الاستقبال دلالة اسم الفاعل على احدهما بنفسه
وضعا لما اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال.
الإشكال الوارد في
المسألة :
قوله
: لا يقال يمكن ان
يكون المراد بالحال في العنوان زمانه ... الخ ويقول المستشكل انه يمكن ان يكون
المراد من الحال في عنوان المسألة هو حال النطق لا حال التلبس وذلك لامرين :
احدهما
: ان الظاهر من لفظ
الحال في المسألة هو حال النطق لا حال التلبس.
وثانيهما
: انه ادّعي ان
الظاهر من المشتقات هو زمان الحال ، اما لدعوى الانسباق من الاطلاق ، اي للتبادر (الاطلاقي)
المستند الى كثرة الاستعمال في قبال التبادر (الحاقي) المستند الى الوضع ، واما
بمعونة قرينة الحكمة. فان اللافظ لو اراد من المشتق غير زمان الحال لكان عليه
البيان ، وحيث لم يبيّن فهو المراد.
لانا
نقول : ان تبادر زمان
الحال من المشتق لا يكون علامة للحقيقة ، وعلى وضع المشتق لزمان الحال. لان
التبادر الحاقي كاشف عن الوضع كشفا آنيا دون التبادر الاطلاقي المستند الى كثرة
الاستعمال ، لانه يعين المراد من اللفظ سواء كان معنى حقيقا أم كان معنى مجازيا
دون الموضوع له.
اعلم ان المصنف لم
يجب عن الامر الاول وكانه غفل عنه في مقام الجواب ووجّه كلامه الى الجواب عن الامر
الثاني فقط ، فقال : انا لا ننكر هذا الانسباق ، اي انسباق زمان الحال من المشتقات
اما للاطلاق أو بمعونة القرينة ولكن نزاع الاصوليين في المسألة قد وقع في هذا
العنوان ، في تعيين ما وضع المشتق له لا تعيين ما يراد بالقرينة من المشتق ، اي
بقرينة انصراف اطلاق لفظ الحال الى حال النطق ، والى زمان الحال المتوسط بين زمان
الماضي وبين زمان الاستقبال ، أو بقرينة الحكمة بعد تمامية مقدمات الحكمة هذه التي
تعيّن من المشتق زمان الحال ، فهذا التبادر الاطلاقي يعيّن المراد من المشتق ولا
يعيّن ما وضع له المشتق.
واما
الجواب عن الامر الاول : هو ان يقال ان الظاهر من لفظ الحال في العنوان ـ وان كان هو زمان الحال ـ
إلّا ان هذا الظهور لا يقاوم مع الدليل القطعي الذي اقمناه على كون المراد في
العنوان هو حال التلبس لا حال النطق ، لضرورة ان مثل (كان زيد ضاربا امس) أو (سيكون
ضاربا غدا) حقيقة بلا خلاف ، فلو كان المراد حال النطق لكان المثال الاول من محل
الاختلاف ، ويكون المثال الثاني مجازا قطعا.
الأصل اللفظي :
قوله
: سادسها انه لا اصل في نفس هذه المسألة يعول عليه ... الخ أيمكن تعيين ما
وضع له لفظ المشتق بالاصل اللفظي أم لا؟ عند الشك وعدم قيام الدليل على احد طرفي
المسألة؟
قلنا
: انه لا يكون
الأصل اللفظي في هذا المقام سوى اصالة عدم ملاحظة الخصوصية في مقام الوضع ، بمعنى
ان الواضع لم يلحظ خصوص المتلبس في الحال ، بل لاحظ الاعم منه ومن انقضى عنه
المبدأ ، وهي مع معارضتها باصالة عدم ملاحظة العموم لانهما ـ اي ملاحظة الخصوص
وملاحظة العموم ـ امران حادثان. فاذا شككنا في وجودهما اجرينا اصالة العدم فيهما ،
لا دليل على اعتبارهما في تعيين الموضوع له للمشتق ، لان اعتبارهما ان كان من
ناحية الشرع من باب الاستصحاب فهو غير مسموع ، لانه يشترط فيه ان يكون المستصحب
حكما شرعيا أو يكون موضوعا لحكم شرعي ، وكون الموضوع له خاصا أو عاما لا يكون اثرا
شرعيا ، ولا موضوعا لحكم شرعي.
وان كان من ناحية
سيرة العقلاء على عدم ملاحظة الخصوصية عند الشك في ملاحظتها ، أو ملاحظة العموم
فنقول ان سيرتهم في باب الالفاظ على حجية الاصل العدمي ثابت اذا كان الشك في
المراد. وبهذا الاصل يعين مراد المتكلم ، اما بعد تعيين المراد فلا دليل على
اعتبار هذا الاصل في تعيين الموضوع له.
ترجيح الاشتراك
المعنوي :
قوله
: واما ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز اذا دار الامر ... الخ ولو ادعى تقديم القول بوضع المشتق للاعم المساوق لاشتراك
المشتق معنويا بين المتلبس في الحال وما انقضى عنه المبدأ ، على القول بوضع المشتق
للمتلبس في الحال المساوق لكونه مجازا فيمن انقضى عنه المبدأ ، اعتمادا على ترجيح
الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز لاجل غلبته عليهما والظن يلحق الشيء بالاعم
الاغلب ،
فالاشتراك المعنوي اغلب منهما ، وكل اغلب ارجح من الاقل ، فالاشتراك المعنوي ارجح.
ففيه اولا : ان الغلبة ممنوعة. وثانيا : ان ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة
والمجاز لاجل الغلبة بعد تسليمها مما لا حجّة عليه ، فهذا ممنوع صغرى وكبرى.
الاصل العملي في
المقام :
قوله
: واما الاصل العملي
فيختلف في الموارد ، فاصالة البراءة في مثل (اكرم كلّ عالم) ... الخ يعني : اذا انقضى التلبس بالمبدإ ـ اعني العلم من شخص ـ ثم
ورد من المولى (اكرم كل عالم) فحينئذ يشك في وجوب إكرام من انقضى عنه العلم ، للشك
في كونه عالما ، فيرجع الى اصالة البراءة عن وجوب اكرامه ، ولو ورد حال التلبس (اكرم
كل عالم) فوجب إكرام المتلبس ثم انقضى عنه العلم ، فالمرجع هو استصحاب وجوب اكرامه
للعلم بوجوب اكرامه سابقا والشك فيه لا حقا ، فتتم اركان الاستصحاب.
حدوث الاقوال في
المسألة :
قوله
: فاذا عرفت ما تلونا عليك فاعلم ... الخ فاعلم ان الاقوال في مسألة المشتق كثيرة حدثت بين
المتأخرين بعد ما كانت المسألة ذات قولين مشهورين عند القدماء ، وهما : القول بوضع
المشتق لخصوص المتلبس في الحال ، والقول : بوضعه للاعم من المتلبس في الحال ، وما
انقضى عنه المبدأ. وهناك تفاصيل أخر :
منها
: التفصيل بين ما
اذا كان اتصاف الذات بالمبدإ اكثريا ك (النائم والآكل) فلا يعتبر بقاء المبدإ في
صدق المشتق حقيقة ، وبين ما لم يكن كذلك نحو (القاتل والضارب) فيشترط بقاؤه في
صدقه حقيقة.
ومنها
: التفصيل بين كون
المشتق مأخوذا من المبادئ اللازمة نحو (الذاهب) المأخوذ من (الذهاب) ونحو (القائم)
المأخوذ من (القيام) ونحوهما ، فيشترط بقاء
المبدإ في صدق
المشتق حقيقة ، وبين كون المشتق مأخوذا من المبادئ المتعدية نحو (الضارب والعالم)
المأخوذين من (الضرب والعلم) فلا يشترط بقاء المبدإ في صدق المشتق حقيقة.
ومنها
: التفصيل بين ما
تلبّس الذات بضد المبدإ فلا يصدق عليه المشتق بعد انقضاء المبدإ عنها كما في
القائم اذا قعد أو القاعد اذا قام ، وبين من لم يتلبس بضد المبدإ فيصدق عليه
المشتق بعد انقضاء المبدأ عنه كما في (الضارب) و (القاتل).
ومنها
: التفصيل بين ما
اذا كان المشتق محكوما عليه ، كما في قوله تعالى. (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، فيكون حقيقة في الاعم من المتلبس بالمبدإ في الحال وممن
انقضى عنه المبدأ ، وبين ما اذا كان محكوما به نحو (زيد ضارب عمرا الآن أو غدا)
ونحوه فيكون حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال.
وقد اشار المصنف
بقوله : «أو بتفاوت ما يعتريه من الاحوال» اي ما يعرض المشتق من الاحوال والاوصاف
من كونه محكوما عليه مبتدأ وخبرا وصفة وحالا كما اشار الى التفصيلين المذكورين
سابقا بقوله : لاجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى.
وقد مرّت الإشارة
في الامر الرابع إلى ان اختلاف المبادئ فعلا وحرفة وصنعة وملكة لا يوجب التفاوت في
وضع المشتق. وسيأتي مزيد بيان وتوضيح لهذا المطلب في اثناء الاستدلال على ما هو
المختار في هذا المقام ، وهو اعتبار التلبس في الحال وفاقا لمتأخري الاصحاب قدسسرهم والأشاعرة ، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة قال المصنف قدسسره : لنا وجوه :
الاول : هو تبادر
خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال اي حال الجري.
والثاني : صحة سلب
المشتق بمعناه المرتكز في الذهن عمن انقضى عنه
__________________
المبدأ كصحة سلبه
عن المتلبس في الاستقبال ، لوضوح ان مثل (القائم) و (الضارب) لا يصدق حقيقة على من
لم يكن متلبسا بالقيام والضرب في حال الجري وان كان متلبسا بالمبادئ قبل الجري ،
كيف لا يصح السلب مع صدق اضداد المشتق على الذات اعني صدق (القاعد) على الذات التي
كانت (قائما) فيما مضى فصدق القائم والقاعد على الذات الواحدة في آن واحد مستلزم
لاجتماع الضدين ، لان القائم والقاعد متضادان بحسب ما ارتكز لهما من المعنى كما لا
يخفى ، اي من المعنى اللغوي لهما.
توضيح
لا يخلو من فائدة : وهو ان عمدة الاقوال في مسألة المشتق ثلاثة :
الاول
: كونه موضوعا
للقدر المشترك بين المتلبس بالمبدإ في الحال وبين ما انقضى عنه المبدأ ، والقدر
المشترك هو خروج المبدأ من العدم الى الوجود. فان المبدأ كما خرج من العدم الى
الوجود في موارد التلبس ، كذلك خرج من العدم الى الوجود في موارد الانقضاء.
فبناء على هذا
يكون المشتق مشتركا معنويا ، لان الموضوع له الكلي وهو خروج المبدإ من العدم الى
الوجود له فردان (المتلبس) و (المنقضي) وهو يصدق عليهما بنحو صدق الطبيعي على
افراده ، فالمشتق وضع لذات تلبس بالمبدإ في الجملة اي سواء كان تلبسه باقيا الى
حين الجري أم كان منقضيا في حين الجري.
الثاني
: كونه مشتركا
لفظيا بين المتلبس والمنقضى. فبناء على هذا الاساس يكون الوضع متعددا كما أنّ
الموضوع له متعددا.
الثالث
: كونه حقيقة في
احدهما ومجازا في الآخر يعني حقيقة في المتلبس في الحال ومجازا في المنقضى عنه
المبدأ ، فهذا الثالث مختار المصنف قدسسره.
وقد استدل عليه
بوجوه :
الاول
: تبادر خصوص
المتلبس في الحال ، مثلا اذا قال المولى لعبده : (اذهب الى السوق واضرب كل قائم
فيه واعط القاعد درهما) فانه يتبادر خصوص القائم فعلا وخصوص القاعد فعلا حين عبوره
في السوق. كما ان الجمل الاسمية كذلك ،
مثلا : اذا قلنا (زيد
عادل) فانه يتبادر منه انه عادل حال النطق وحال الجري. كذا قولنا (هذا زوج) و (هذه
زوجة) و (هذا حلو) و (هذا تمر).
والثاني : صحة
السلب عمن انقضى عنه المبدأ كما مر تقريره فلا نعيده.
والثالث : ان
مفهوم المشتق بسيط ، فهو عين المبدإ باختلاف يسير كما سيأتي.
وحيث انقضى المبدأ
فلا مشتق حينئذ حتى يحمل على الذات.
برهان التضاد على
نحو آخر :
قوله
: وقد يقرر هذا وجها على حدة ويقال لا ريب في مضادة الصفات ... الخ وقد يقرّر لزوم اجتماع الضدين وجها مستقلا المسمى ببرهان
التضاد من دون ان يكون مكمّلا لصحة السلب.
ملخصه : انه لا
ريب في مضادة الصفات التي تؤخذ من المبادئ التي يكون بين معانيها تضاد ارتكازي ،
وهذا واضح ، فان قلنا بوضع المشتق للأعم فيلزم صدق الصفة التي انقضت عن الذات حين
اتصاف الذات بضد تلك الصفة نحو صدق (القائم) على من انقضى عنه القيام حين اتصاف
هذا الشخص بوصف القعود. ومن الواضح ان صدق وصف القيام ووصف القعود على الذات
الواحدة دليل على انهما متخالفان ، نحو (السواد) و (الحلاوة) ، اذ جواز اجتماعهما
من شان المتخالفين لا من شان الضدين ، وهو خلاف الفرض ، بل خلاف الواقع ، لان
القيام والقعود ضدان لا متخالفان ، فالقائم والقاعد ضدان ايضا ، لان المشتق تابع
للمبدإ في التضاد والتخالف ، فاذا صدق القاعد لم يصدق القائم لاجل التضاد بينهما ،
والمتضادان لا يجتمعان في موضع واحد ، فيصح سلب القائم عن القاعد ، وصحة السلب من
علامات المجاز. فاطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ مجاز ، كما انه مجاز على من
سوف يتلبس بالمبدإ في الاستقبال وهو حقيقة على من تلبس بالمبدإ في الحال.
قوله
: ولا يرد على هذا
التقرير ما اورده بعض الاجلة ... الخ واعترض صاحب البدائع قدسسره على برهان التضاد الذي يمكن أن يكون دليلا رابعا في قبال
صحة
السلب على المدعى
، لان صحة السلب مبني على التضاد اللغوي المفهومي ، وبرهان التضاد ناظر الى التضاد
الارتكازي العقلي ، بانه مستلزم للدور ، لان التضاد مبني على القول باشتراط بقاء
المبدإ في صدق المشتق على الذات حقيقة.
فلو كان القول
بالاشتراط مبنيا على التضاد بمقتضى الاستدلال بالتضاد للزم الدور ، فلا بد ان يقال
بعدم اشتراط بقاء المبدإ في صدق المشتق على الذات حقيقة حتى لا يلزم الدور ، لانه
حينئذ يرتفع التضاد ويستقر التخالف بين المشتقات. فاذا ارتفع التضاد ارتفع الدور.
اذ التضاد لا يتوقف على الاشتراط وان كان الاشتراط يتوقف على التضاد ، لان المراد
من الاشتراط هو وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال فان قلنا بوضعه للمتلبس
تحقق التضاد بين المشتقات. وان قلنا بوضعه للاعم منه وممن انقضى عنه المبدأ فقد
ثبت التخالف بينها اي بين المشتقات. كالحلاوة والسكر مثلا.
جواب المصنف عن
اشكال صاحب البدائع :
قوله
: لما عرفت من
ارتكازه بينها كما في مبادئها أجاب المصنف عنه بانه لا يمكن التخالف لا بين
المبادئ ولا بين المشتقات ، لان التضاد بينها ارتكازي عقلي كما عرفت في دليل صحة
سلب المشتق عمن انقضى عنه المبدأ. فحينئذ نقول في دفع غائلة الدور ، ان ارتكاز
التضاد مستند الى اشتراط بقاء المبدإ في صدق المشتق ثبوتا ، واشتراط بقاء المبدإ في
صدق المشتق على الذات مستند الى ارتكاز التضاد اثباتا.
فارتكاز التضاد
بين المبادئ والمشتقات يتوقف على اشتراط بقاء المبدإ في صدق المشتق على الذات
ثبوتا ، واشتراط بقاء المبدإ في صدق المشتق على الذات يتوقف على التضاد اثباتا ،
فيختلف الموقوف عليه التضاد وهو الاشتراط ثبوتا مع الموقوف على التضاد وهو
الاشتراط اثباتا فلا دور حينئذ.
فبالنتيجة يتوقف
وضع المشتق للمتلبّس بالمبدإ في حال الجري على التضاد
واما التضاد فلا
يتوقف على وضع المشتق لخصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال ، لان التضاد بين الصفات
المتقابلة لا يكون مبنيا على قول دون قول وعلى مذهب دون مذهب «بل هو امر مركوز في
الاذهان محرز بالوجدان متسالم عليه عند الجميع.
فالتضاد باق دائما
، وليس من التخالف بين المبادئ والمشتقات رسم ولا اثر ، فقول الرشتي مردود لا
يلتفت اليه. وان شئت فقل ان تضاد القيام والقعود والعلم والجهل والحركة والسكون
والسواد والبياض والحسن والقبح والغنى والفقر و ... ارتكازي عقلي وجداني وكذا
الامر في المشتقات من هذه المبادئ ، فلا يرد اشكال بطلان الدور على برهان التضاد
اصلا.
الإشكال الوارد
على مختار المصنف :
قوله
: ان قلت ان لعلّ ارتكازها لاجل الانسباق من الاطلاق لا الاشتراط انا لا ننكر ارتكاز المضادة بين الصفات المتقابلة اصلا
ولكن لعل ارتكازها لاجل انسباق حال التلبس من الاطلاق لا من الحاق ، وبتقرير اوضح
ان ارتكاز المضادة بين المشتقات يكون لاجل الانسباق الاطلاقي المستند الى كثرة
الاستعمال لا الانسباق الحاقي المستند الى الوضع. وقدّم فيما سبق في بحث التبادر
ان الانسباق الكاشف عن الوضع كشفا انيا انما هو الانسباق الحاقي لا الاطلاقي
المستند الى كثرة الاستعمال أو الى غلبة الوجود.
فاجاب المصنف :
انه ليس ارتكاز المضادة بين الصفات المتقابلة لاجل الانسباق من الاطلاق اي من
اطلاق لفظ المشتق ، وذلك لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء ايضا لو لم يكن
باكثر ، نعم ان لم يكن الاستعمال في موارد الانقضاء كثيرا لكان احتمال الانسباق
الذي يسند الى الاطلاق وجيها وصوابا. لكن مع كثرة الاستعمال فيها هو مما لا وجه
وجيها له. وعليه إن ارتكاز المضادة بين الصفات المتقابلة انما يكون لاجل الانسباق
من حاق لفظ المشتق لا من الاطلاق ، فيكون علامة الحقيقة.
قوله
: ان قلت على هذا
يلزم ان يكون في الغالب او الاغلب مجازا ... الخ اذا كان استعمال المشتق في موارد
الانقضاء كثيرا يلزم ان يكون استعمال المشتق في الغالب مجازا. ومن المعلوم ان
المجاز حلاف الاصل بل ربما لا تلائمه حكمة الوضع ، فان اللفظ انما وضع ليستعمل
فيما وضع له فاذا وضع للنادر وهو وضعه للمتلبس بالمبدإ في الحال ، ولم يوضع للكثير
وهو وضعه لمن انقضى عنه المبدأ ، فهذا الوضع لا يناسب حكمة الوضع ، اذ حكمة الوضع
هي ابراز المعاني المحتاج اليها في المحاورات والمخاطبات بالالفاظ الموضوعة لهذه
المعاني.
والحال ان الفرض
عدم وضع المشتق للكثير ، وهو من انقضى عنه المبدأ ، بل وضع للقليل ، وهو وضعه
للمتلبّس بالمبدإ في الحال. لا يقال : انه كيف يكون استعمال المجازي اذا كان كثيرا
غير مناسب لحكمة الوضع ، والحال ان اكثر المحاورات مجازات ، بل هي موجبة لحسن
الكلام ولكمال بلاغته. ولذا قيل أن باب المجاز واسع. لانا نقول ان اكثر المحاورات
مجازات ، فهذا القول صحيح متّفق عليه ، ولكن المراد من هذه الكثرة هو تعدد المعاني
المجازية بالاضافة الى المعنى الحقيقي الواحد. وذلك نحو لفظ (الاسد) الذي وضع
للحيوان المفترس ، واستعمل مجازا في كل رجل شجاع.
ومن الواضح ان هذه
الكثرة لا تقدح بالوضع لمعنى واحد ، بل المراد بالكثرة القادحة في حكمة الوضع كون
استعمال كل لفظ في المعنى المجازي الواحد اكثر من استعمال هذا اللفظ في المعنى
الحقيقي.
وهذه الكثرة لا
تلائم حكمة الوضع التي هي وضع اللفظ للمعنى الذي تكثر الحاجة اليه ، والمفروض كون
الحاجة الى المعنى الانقضائي في المشتق اكثر من المعنى التلبّسي.
اذا عرفت ما ذكرنا
، فاعلم ان حكمة الوضع تقتضي وضع المشتق للاعم من المتلبس بالمبدإ في الحال وممن
انقضى عنه المبدأ. نعم ربما يتّفق أن يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي اكثر
من استعماله في المعنى الحقيقي لكثرة الحاجة الى
التعبير عن المعنى
المجازي ، ولا ينافي هذا حكمة الوضع ، لان هذا ليس دائميا بل احيانا في المجاز
الخاص.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى
انه اذا فرض عدم جواز مخالفة حكمة الوضع في الاستعمال المجازي ، فلا فرق بين
المجازي الواحد وبين المجازي الكثير.
قوله
: قلت مضافا ... الخ واجاب المصنّف عن هذا الإشكال بوجهين :
احدهما
: ان استبعاد كون
استعمال المشتق مجازا في موارد الانقضاء لا يضر بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ
في الحال بعد الادلّة التي أقيمت على المدعى. يعني : ان المجاز خلاف الاصل ،
وتقليله ، بل عدم المجاز أمر مستحسن اذا لم يكن هناك دليل عليه ، واما اذا كان
هناك دليل عليه ، فلا بد من الذهاب اليه. كما اذا قيل (رأيت اسدا في الحمام)
فالقرينة تدل على المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع ، فلا بد حينئذ من الذهاب اليه
، ولا تجري في المقام اصالة الحقيقة اصلا.
وثانيهما
: ان كثرة المجاز
ممنوعة على فرض استعماله في موارد الانقضاء كثيرا. لان اطلاق المشتق على من انقضى
عنه المبدأ يكون بلحاظ حال التلبس ، وهو بمكان من الامكان ، وهو على وجه الحقيقة
اتفاقا. فاذا قيل (جاءني الضارب) أو الشارب امس ، بعد انقضاء الضرب والشرب عنه ،
اي عن المتلبس بالمبدإ وأريد حال التلبس في حال الجري يعني (جاءني من كان ضاربا
قبل مجيئه) أي (جاءني ضارب الامس) لا الضارب حين المجيء ، بحيث يكون زمان المجيء
ظرفا للجري ، لانه لو كان كذلك لكان مجازا لاختلاف زمان الجري وزمان التلبس فلا
يصح جعل (زيد) معنونا في حال الانقضاء بعنوان ضاربيته فعلا بمجرد تلبس (زيد)
بالمبدإ قبل مجيئه ، ضرورة انه لو كان المشتق موضوعا للاعم من المتلبس بالمبدإ في
الحال وممن انقضى عنه المبدأ لصحّ استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس وبلحاظ حال
الانقضاء. والحال انه لا يصح بلحاظ حال الانقضاء ، فحينئذ نكشف وضع المشتق لخصوص
المتلبس بالمبدإ في الحال.
قوله
: وبالجملة كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق ... الخ
حيث اعترض على
التبادر باحتمال كونه ناشئا من الاطلاق ومقدمات الحكمة ، فلا يصلح هذا التبادر ان
يكون علامة للحقيقة ، لان التبادر الذي يكون علامة لها هو التبادر الحاقي ، لا
التبادر الاطلاقي.
خلاصة
الجواب : هو انّ هذا
التبادر مستند الى الوضع قطعا ، نظرا الى كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء.
ومع هذا يتبادر من المشتق عند خلوه عن القرينة المقالية والحالية خصوص المتلبس
بالمبدإ في حال الجري نحو (زيد مدرس) و (عمرو مجتهد) المنسبق منهما ان زيدا مدرس
في الحال وان عمروا مجتهد فعلا حال الجري.
فظهر ان هذا
التبادر حاقي ، اذ مع عموم المعنى للمتلبّس ولمن انقضى عنه المبدأ لا وجه لملاحظة
حال التلبس عند استعمال المشتق في الذات ، لان المشتق اذا وضع للاعم من المتلبس
ومن انقضى عنه المبدأ فالموضوع له المشتق كلّي طبيعي يصدق على المتلبّس وعلى
المنقضي من باب صدق الكلي الطبيعي على افراده ، فلا معنى لملاحظة حال التلبس في
استعمال المشتق في موارد الانقضاء ، والحال انه لا بد من ملاحظة حال التلبس في
استعمال المشتق حقيقة في موارد الانقضاء. فهذا يدل على وضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ
في الحال فقط.
اما بخلاف ما اذا
لم يكن معنى المشتق عاما فان استعمال المشتق حينئذ بلحاظ حال الانقضاء يكون مجازا
ممكنا ، إلّا انّ استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس حقيقة فيها ، أي في موارد
الانقضاء ، وهذا الاستعمال ممكن لا اشكال فيه.
خلاصة
الكلام هاهنا : انه اذا لم يوضع المشتق للاعم من المتلبس بالمبدإ في الحال وممن انقضى عنه
المبدأ ، فاذا استعملنا المشتق في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبس يكون هذا
الاستعمال على نحو الحقيقة.
واما اذا
استعملناه فيها بلحاظ حال الانقضاء فذاك الاستعمال مجازا ، فهذا الامر يدل على
وضعه لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال فلا وجه لاستعمال المشتق في الذات التي انقضى
عنها المبدأ مجازا ولا وجه لملاحظة العلاقة
المصحّحة للتجوز
بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، لان المعنى المجازي منتف اذا كان استعمال
المشتق في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبس ممكنا كما رأيت في مثل (جاءني الضارب امس)
اذا كان لفظ الأمس قيدا لحال التلبس ، فلا يرد اعتراض المعترض بلزوم كثرة المجاز
المخالف للاصل على الحقيقة الموافقة له ، بناء على وضع المشتق لخصوص المتلبس
بالمبدإ في الحال ، كما اختاره المصنف صاحب (الكفاية) قدسسره ، وقال : بامكان استعمال المشتق في موارد انقضاء المبدإ
على نحو الحقيقة لاجل ملاحظة حال التلبس.
قوله
: وهذا غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله ... الخ واستعمال المشتق في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبس غير
استعمال اللفظ في المعنى الذي لا يصح استعمال هذا اللفظ في ذاك المعنى على وجه
الحقيقة ، وذلك مثل استعمال لفظ الاسد في الرجل الشجاع ، فان لفظ الاسد اذا استعمل
فيه فسيكون لا محالة مجازا على مذهب غير السكاكي صاحب (مفتاح العلوم) ، لانه يقول
بالحقيقة الادّعائية فيه ، وهذا بخلاف استعمال المشتق في موارد الانقضاء ، فانه
اذا لوحظ فيها حال التلبس فلا يكون مجازا بل حقيقة كما لا يخفى.
قوله
: فافهم هو اشارة الى ضعف
قوله : فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية ، فان امر الاستعمال
وكيفيته يكون بيد المستعمل ، فان شاء لاحظ حال التلبس في موارد انقضاء المبدإ حال
الجري ، فيكون استعمال المشتق حقيقيا ، وان شاء لاحظ حال الانقضاء فيكون مجازيا ،
ولا يكون استعمال المجازي مع التمكن من الحقيقي أمرا ممنوعا عنه. ولذا قيل ان اكثر
المحاورات مجازات ، ولذا قيل ايضا ان باب المجاز واسع كما في (المعالم).
قوله
: ثم انه ربما اورد على الاستدلال بصحة السلب بما حاصله ... الخ اعترض صاحب (البدائع) قدسسره على صحة السلب بانه ان اريد بصحة سلب الضارب ، مثلا عمن
انقضى عنه المبدأ ، سلبه عنه مطلقا ، اي فعلا وسابقا ، فهذا غير سديد ، لكونه كذبا
محضا بعد فرض كون من انقضى عنه المبدأ ضاربا سابقا ، وان اريد سلبه عنه
مقيدا ، اي انه
ليس بضارب الآن ، فهذا غير مفيد بحال المصنف ، لان علامة المجاز صحة سلب المطلق
مثل صحة سلب الاسد بمعناه المرتكز في الذهن عن الرجل الشجاع ، لا سلب المقيد نحو
سلب الانسان الابيض عن الزنجي ، فانه لا يكون علامة لكون الانسان مجازا في الزنجي
، فان سلب المقيد اعم من سلب المطلق ، فقد يصح معه سلب المطلق كما في (الفرس) فيصح
سلب الانسان المطلق عنه ، كما يصح سلب الانسان المقيد كسلب الانسان الابيض عنه
ايضا ، وقد لا يصح معه سلب المطلق كما في الزنجي مثلا ، فانه يصح سلب الانسان
الابيض عنه ولا يصح سلب الانسان المطلق عنه كما هو ظاهر ، وحينئذ يسقط الاستدلال
بها على كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ ومجازا فيمن انقضى عنه المبدأ.
قوله
: وفيه انه ان اريد
بالتقييد تقييد المسلوب ... الخ توضيح الجواب عن هذا الإشكال : ان القيد تارة يكون
قيدا للمسلوب اعني منه المشتق ، نحو (زيد ليس بضارب) في حال انقضاء المبدأ عن (زيد)
، فحال الانقضاء قيد للضارب المسلوب عن (زيد). واخرى يكون قيدا للمسلوب عنه ، اعني
منه الموضوع ، وهو (زيد) في هذا المثال نحو (زيد) المنقضي عنه الضرب (ليس بضارب).
وثالثة يكون قيدا للسلب نحو (زيد ليس) في حال الانقضاء (بضارب).
يعني : ان عدم
الضاربية لزيد متحقّق في حال الانقضاء ، وفي ضوء هذا البيان نقول : انه إن كان
قيدا للمشتق فلا يكون صحة السلب حينئذ علامة للمجاز لانه يعتبر في علاميتها صحة
سلب اللفظ بماله من المعنى المرتكز في الذهن. والحال ان المفروض تقييد المشتق بحال
الانقضاء. وسلب المقيد لا يستلزم سلب المطلق ، لانه يصدق (زيد ليس بضارب الآن) اذا
انقضى عنه الضرب ، ولا يصدق (زيد ليس بضارب) لكونه ضاربا في الامس.
فصحة السلب ، التي
يكون المسلوب فيها مقيدا بحال الانقضاء كما في المثال المذكور ، علامة لعدم الوضع
لخصوص المنقضي عنه المبدأ ، ولا يكون هذا السلب علامة لعدم وضع المشتق للقدر
الجامع بين المتلبّس بالمبدإ في الحال وبين
المنقضي عنه
المبدأ. كما يصحّ سلب الانسان عن (زيد) اذا صار ترابا بعد الموت ، فيقال (زيد ليس
بانسان) في حال الترابية ، وهو لا يدل على كون استعمال لفظ الانسان في (زيد) مجازا
لان لفظ الانسان وضع للقدر الجامع بين (زيد) وغيره من افراد الانسان وهو الحيوان
الناطق.
فكذا هنا يعني وان
صحّ سلب (الضارب) عن (زيد اذا انقضى عنه الضرب) ، فهو لا يدل على كون استعمال لفظ (الضارب)
في (زيد) مجازا ، لان الضارب وضع للقدر المشترك بين المتلبس وبين المنقضى عنه
المبدأ ، وهو عبارة عن خروج المبدإ من العدم الى الوجود ، فكما خرج المبدأ من
العدم الى الوجود في المتلبس ، فكذلك خرج منه اليه فيمن انقضى عنه المبدأ. فلا
يكون هذا السلب دليلا على وضعه للمتلبس كما هو المدعى.
وان كان قيدا
للموضوع ، فصحة سلب المشتق تكون علامة المجاز. لان المفروض كون المسلوب مطلقا
بلحاظ حال الانقضاء ، فيصح ان يقال (زيد المنقضي عنه الضرب ليس بضارب) فتقييد
الموضوع لا يضر بكون صحة السلب علامة المجاز ، اذ لو كان (زيد المنقضى عنه الضرب)
من مصاديق (ضارب المطلق) لم يصح سلب (الضارب) بنحو الاطلاق عن (زيد). والحال ان
هذا السلب يجوز ، فلا يكون (زيد ضارب المطلق).
وان كان قيدا
للسلب فصحة السلب حينئذ تكون علامة للمجاز ايضا ، لان المفروض انه يصح سلب (الضارب)
على نحو الاطلاق عن (زيد) بلحاظ حال الانقضاء ، كما انه لا يصح سلب المشتق عن
الذات بلحاظ حال التلبس.
فسلب المحمول
مقيّدا بحال الانقضاء اعم من سلب المطلق ، نحو (زيد ليس بضارب) من دون تقييد
المحمول بكلمة (الآن أو غدا أو امس) ، اي من دون تقييده بزمان. وجه الاعمية ما
قرّر في المنطق من كون نقيض الأخص اعم من نقيض الأعم كاللاإنسان الذي هو نقيض
الأخص وهو الإنسان أعم من اللاحيوان وهو نقيض الاعم وهو الحيوان. فكل لا حيوان لا
انسان وبعض اللاإنسان لا حيوان
كالقرطاس مثلا ،
وبعض اللاإنسان حيوان كالفرس مثلا.
فكذا فيما نحن فيه
، فكل لا ضارب مطلقا لا ضارب الآن ، وبعض لا ضارب الآن لا ضارب في الامس ، وبعض لا
ضارب الآن ضارب في الامس. فصحة سلب المسلوب المقيد بحال الانقضاء لا تكون علامة
للمجاز. أي لا تكون علامة على كون المسلوب المطلق مجازا في المسلوب المقيد بحال
الانقضاء. لان الملاك في صحة السلب علامة للمجاز انما هو بسلب اللفظ بمعناه
المرتكز في الذهن عن المعنى المستعمل فيه مع قطع النظر عن الضمائم الخارجة عن حيّز
معناه كالتقييد بحال الانقضاء في المقام.
توضيح
جواب المصنف عن الإشكال : وهو انه إن اريد بالتقييد تقييد المسلوب اعني منه الضارب. فسلبه ، وان لم يكن
علامة لكون المطلق ـ اي مطلق الضارب ـ مجازا في المسلوب عنه ، اعني منه (زيدا) ،
لان سلب المسلوب المقيد بحال الانقضاء اعم من سلب المسلوب المطلق. والعام لا يدل
على الخاص ، ولكن تقييده ممنوع لعدم الدليل على رجوع القيد الى المشتق.
وان اريد به تقييد
السلب اي (زيد ليس الآن بضارب) فهو غير ضائر بصحة السلب علامة للمجاز ، فان الضارب
من غير تقييده بشيء ، فنقول (زيد ليس بضارب) اذا صح سلب (الضارب) عن (زيد) في
الحال الحاضر ، كان هذا السلب لا محالة علامة لكون الضارب مجازا في (زيد في الحال
الحاضر) اذ لو كان حقيقة فيه في جميع الازمنة لصدق على (زيد) مطلقا وفي كل حال
وزمان. ضرورة صدق المطلق على افراده في جميع الازمان ، كصدق الرقبة على جميع
افرادها في كل حال.
هذا مع امكان
تقييد السلب ايضا ، للدليل الذي ذكر آنفا ، فظهر ان القيد راجع الى الذات المسلوب
عنه الجاري عليها المشتق اي (زيد الآن ليس بضارب) فيكون صحة سلب الضارب عن (زيد)
الآن علامة لكون الضارب مجازا في (زيد) الآن. فعلم من هذا البيان ان المشتق لم
يوضع للقدر المشترك بين المتلبّس بالمبدإ في
الحال وبين من
انقضى عنه المبدأ. وعلم ايضا ان القيد راجع الى الذات المسلوب عنه ، لا الى
المسلوب ، ولا الى السلب ، بل وضع لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال. ولذا لا يصح
سلبه عنه بوجه من الوجوه.
قوله
: فتدبر جيدا وهو اشارة الى
دقة المطلب المذكور.
استدلال صاحب (الفصول)
على مدّعاه :
قوله
: ثم لا يخفى انه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ ... الخ هذا اشارة الى تفصيل صاحب (الفصول) قدسسره ، وحاصله ان المبدأ اذا كان متعديا ك (الضرب والقتل)
فالمشتق حقيقة في الاعم ، وان كان المبدأ لازما ك (الحسن والقبح) فالمشتق حقيقة في
خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، ومجاز فيمن انقضى عنه المبدأ ، فردّ المصنف قدسسره هذا التفصيل وقال انه لا فرق في مجازية المشتق ، فيمن
انقضى عنه المبدأ ، بين كون المبدإ متعديا ولازما. وانما الفرق بينهما من جهة اخرى
، وهي ان قيام مبدإ المتعدي بالذات يكون على نحو الصدور والايجاد ، وقيام مبدأ
اللازمي بها على نحو الحلول كما يظهر من نحو (ضارب) و (حسن) ، لان الاول وضع لذات
صدر عنه الضرب ، والثاني لذات حلّ فيه الحسن. وهذا الاختلاف لا يوجب تفاوتا في وضع
هيئة المشتق للمتلبس بالمبدإ في الحال. ويدل عليه دليلان :
احدهما
: تبادر المتلبس في
الحال.
وثانيهما
: صحة سلب المشتق
عمن زال عنه المبدأ.
نعم اذا كان اطلاق
المشتق على الذات الذي كان متلبسا بالمبدإ فيما مضى في حال النطق فهو ، وان كان
جائزا ، إلّا ان هذا الاطلاق لا يكون على نحو الحقيقة ، لكون الاستعمال اعم منها
كما لا يخفى ، كما لا يتفاوت في صحة سلب المشتق عمن زال عنه المبدأ بين تلبسه بضد
المبدإ وعدم تلبسه بضده. مثال الاول : نحو (كان زيد مستيقظا) بعد كونه نائما.
ومثال الثاني : نحو (زيد عادلا). ولكن زال عنه ملكة العدالة ولم يفعل فسقا بعد ،
اما لعدم التمكن منه ، واما لمانع منه ، واما حياء ، فيصح
سلب العدالة عن (زيد)
فيقال انه (ليس بعادل) لزوال ملكة العدالة عنه ، وان كانت صحة السلب اوضح مع تلبس
الذات بضد المبدإ.
ومما ذكرنا من صحة
السلب عمن زال عنه المبدأ ظهر حال تفصيل آخر في المقام ، وهو تفصيل بين كون المشتق
محكوما عليه كما في آية السرقة ونحوها فهو حقيقة في الاعم ، وبين كونه محكوما به
نحو (زيد ضارب عمروا) ، فهو حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، كما ظهر حال
سائر التفاصيل المذكورة في المطولات فلا نطيل الكلام بذكرها ونقضها ، الجواب هو
الجواب.
استدلال القائل
بالاعم :
قوله
: حجة القول بعدم الاشتراط وجوه ... الخ استدلّ القائل بعدم اشتراط حال التلبس في حمل المشتق على
الذات وكون معنى المشتق عاما للمتلبس وللمنقضى بوجوه ثلاثة :
الاول
: انه يتبادر منه
عند تجرده عن القرينة ، معنى العام الذي يشمل للمتلبس وللمنقضي ، نحو (أكل وقاتل)
، سواء كان متلبسا بالأكل فعلا أم انقضى عنه الاكل ساعة قبل مثلا ، وسواء كان
متلبسا بالقتل أم انقضى عنه القتل قبل شهر.
قال المصنف : «وقد
عرفت في دليلنا ان المتبادر خصوص المتلبس بالمبدإ دون الاعم ويجاب بوجه آخر وهو
صحة السلب عمن زال عنه المبدأ فيصح ان يقال (زيد ليس اكلا ولا قاتلا الآن) فلو وضع
للاعم لما صح السلب مطلقا».
الثاني
: عدم صحة سلب
المقتول والمضروب عمن زال عنه القتل والضرب بلا رعاية علاقة المجاز ، فلو لم يكن
موضوعا للاعم فهما مجاز فيه لا محالة ، والمجاز يحتاج الى العلاقة التي تصحّح
التجوز والحال ان استعمالهما فيه لا يحتاج اليها. وفيه انه ان اريد من القتل
والضرب غير المعنى الحقيقي الحدثي الذي يعبر عنه في العرف الفارسي : ب (كشته شده
وزده شده) فلا يكون حقيقة بل مجازا لانقضاء المبدأ عن الذات حين الجري ، بل يراد
من القتل زهوق الروح الذي يبقى دائما ،
ويراد من الضرب
تألم الجسم. فارادة هذا المعنى من المبدإ ، وان كان مجازيا لعلاقة السببية
والمسببية لان القتل سبب لزهوق الروح والضرب سبب لتألم الجسم ، لكنهما لا يوجبان
المجاز في هيئة المشتق ، بل المجاز في المادة فقط. ومن الواضح ان المبدأ باق في
حال التلبس وفي حال الانقضاء. فعدم صحة سلبهما انما يكون لاجل بقاء تلبس الذات
بالمبدإ بسبب هذا المعنى المجازي.
قوله
: وقد انقدح من بعض المقدمات انه ... الخ اي قد ظهر من المقدّمة الرابعة ان اختلاف المبادئ ، من حيث
الفعلية كالضرب ومن حيث الملكة كالعدالة ومن حيث الحرفة كالخياطة ومن حيث الصنعة
كالزراعة ، لا يوجب تفاوتا في وضع المشتق للمتلبس في الحال أو للأعم منه وممن
انقضى عنه المبدأ ، كما لا يوجب اختلاف المبادئ من حيث الحقيقة والمجاز تفاوتا في
وضع المشتق للخصوص أو للعموم ، لعدم الملازمة بين التصرف في المادة وبين التصرف في
هيئة المشتق ، وهو ظاهر. نعم لو اريد من المبدإ نفس القتل والضرب ، فعدم صحة سلب
المشتق يكون ممنوعا ، بل يصح السلب في مورد الانقضاء فيقال (زيد ليس بمقتول الآن) و
(عمرو ليس بمضروب الآن) كما انه لا يصح السلب اذا كان جري المشتق على الذات بلحاظ
حال التلبس والوقوع كما مرّ سابقا.
الوجه الثالث :
قوله
: الثالث استدلال الامام عليهالسلام تأسيا
بالنبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ... الخ والثالث استدلال الامام عليهالسلام تأسّيا بالرسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الامامة للناس
والخلافة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تعريضا بمن تصدى لمنصب الامامة ممن عبد
__________________
صنما أو وثنا مدّة
مديدة ، كالاول والثاني والثالث. ومن الواضح ان استدلال الامام عليهالسلام مما لا يتم إلّا على القول بكون الظالم للاعم وحقيقة في
الاعم ، وإلّا لم يصح التعريض لهم لزوال تلبسهم بالظلم حين التصدي ولو بحسب الظاهر
لانهم آمنوا بالله الواحد وبرسوله واليوم الآخر ظاهرا وصورة لا واقعا وحقيقة كما
يستفاد من الاخبار.
قال المصنف : انا
نمنع اولا : ابتناء استدلال الامام عليهالسلام على ظهور وضع المشتق للاعم ، بل يمكن ان يكون ابتناؤه على
الظهور العرفي الذي يعتني به جميع العقلاء ، وان كان بمعونة القرينة العقلية التي
هي بيان جلالة منصب الامامة ، لان الآية الشريفة مسوقة لبيان علو منصب الامامة
ظاهرة في عليّة الظلم لعدم نيل من تلبّس بالظلم للامامة.
وثانيا
: انا لو سلمنا
ابتناء الاستدلال على الظهور الوضعي لأمكن ان يكون جري الظالم على الذات بلحاظ حال
التلبس بالمبدإ وهو على نحو الحقيقة كما مرّ مرارا.
وتوضيح
ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة وهي : ان الوصف العنواني الذي يؤخذ موضوعا للحكم الشرعي في لسان
الدليل على اقسام ثلاثة :
احدها
: ان يكون لمحض
الإشارة الى المعنون من دون دخل العنوان في الحكم اصلا ، نحو (أكرم هذا الجالس)
حال كونك مشيرا الى الشخص الخاص الذي يستحق الاكرام لوجود مناط الاكرام فيه ، ولا
يستحق لاجل كونه جالسا ومعنونا بعنوان الجلوس.
وثانيها
: ان يكون العنوان
لاجل الإشارة الى علّية العنوان للحكم حدوثا لا بقاء ، بحيث لو صدق العنوان ولو
آنا لما ثبت الحكم ولو بعد زوال العنوان ، كما في آيتي السرقة والزنا ، حيث يكفي
فيهما صدق العنوان لثبوت القطع والجلد ولو بعد زوال العنوان.
وثالثها
: ان يكون اخذ
العنوان موضوعا للحكم لاجل الإشارة الى علّية
العنوان للحكم
حدوثا وبقاء ، بحيث يدور الحكم مدار صدق العنوان. فمتى صدق العنوان كان الحكم
ثابتا ، ومتى لم يصدق العنوان لم يصدق الحكم ، نحو (قلّد المجتهد) يدور وجوب
التقليد مدار الاجتهاد حدوثا وبقاء كما هو ظاهر.
اذا عرفت هذه
المقدمة فاعلم ان المشتق في الآية الشريفة لو كان من القسم الثالث ، بحيث يكون
الحكم فيها يدور مدار صدق العنوان حدوثا وبقاء ، فاستدلاله عليهالسلام بالآية الكريمة يبتني على كون الظالم فيها حقيقة في الاعم
، لانه لو لم يكن حقيقة في الاعم لم يكن هذا العنوان باقيا للثلاثة المعهودة حين
تصديهم للمنصب الجليل وهو الامامة.
واما اذا كان
العنوان من قبيل القسم الثاني ، بحيث كان يكفي في عدم اللياقة صدق العنوان حدوثا
فقط ولو آناً ما ، لثبوت عدم نيل العهد الى آخر بقاء المتلبس بالظلم الآني.
فاستدلال الامام بالآية الكريمة لا يبتني على كون الظالم حقيقة في الاعم ، بل
الاستدلال انما يكون لاجل كفاية صدق عنوان الظالم ولو آناً ما في عدم نيل العهد
والامامة ولو بعد انقضاء الظلم وزوال العنوان ، كما في الزاني والزانية ، والسارق
والسارقة ، حيث يكفي فيهم صدق العنوان بلحظة لثبوت القطع والجلد ولو بعد زوال
عنوان الزاني والسارق ، ولا دليل عقلا ولا نقلا على كون الآية المباركة من قبيل
القسم الثالث ، بل جلالة منصب الامامة يكون قرينة مقامية ، بل قرينة عقلية على
كونها من قبيل القسم الثاني ، بمعنى أن صدق عنوان الظالم ولو في مدة قليلة يكفي
لعدم نيل منصب الامامة لا سيما الأشخاص المعهودين الى آخر عمرهم ، ولا يخفى ان
المناسب لذلك ان لا يكون المتقمّص بالامامة متلبّسا بالظلم اصلا ولو كان آناً ما.
قوله
: ولا قرينة على
النحو الاول لو لم نقل بنهوضها على النحو الثاني ... الخ المراد من النحو الاول هو
النحو الثالث وانما عبر المصنف عن الثالث بالاول لانه لما قدم النحو الثالث على
النحو الثاني في قوله : واما اذا كان على النحو الثاني فلذا قال هو الاول وهو اول
اضافي بالنسبة الى الثاني وثالث حقيقي من حيث انه ذكر ثالثا
ضمن المقدمة.
والوجه عند المصنف ولعلّ وجهه سرعة المصنف بالجواب عن الوجه الثالث للخصم كما لا
يخفى.
قوله
: ان قلت نعم ولكن
الظاهر ان الامام عليهالسلام انما استدل ... الخ استشكل على جواب المصنف بانه سلّمنا ان
الآية الشريفة في مقام جلالة قدر الامامة والخلافة وان المناسب لها ان يكون المشتق
فيها من القسم الثاني فيكفي صدق عنوان الظالم ولو فيما مضى في عدم نيل العهد
والامامة ولكن لمّا كان المشتق من قبيل القسم الثاني حينئذ فلا محالة من كونه
مستعملا فيمن انقضى عنه المبدأ ، اذ الاستعمال في المتلبّس بالمبدإ في الحال لا
يجتمع مع بقاء الحكم بعد زوال العنوان عن المعنون وعن المتقمّص بالامامة لزوال
الحكم بعد زوال الموضوع.
فاذا كان مستعملا
فيمن انقضى عنه المبدأ كان مجازا قهرا على رأي المصنف ، فيكون استدلال الامام عليهالسلام مبنيا على الاستعمال المجازي ، والمجاز خلاف الاصل ، بخلاف
ما اذا قلنا ان المشتق حقيقة في الاعم فيكون الاستدلال مبنيا على الاستعمال
الحقيقي ، وهو اولى وارجح عند التعارض من المجاز كما سبق في تعارض الاحوال.
قوله
: قلت انه لا
يستلزم استعمال المشتق فيمن انقضى عنه المبدأ ان يكون مجازيا ، لان الجري في الآية
الشريفة انما يكون بلحاظ حال التلبس ويكون المعنى هكذا (من كان ظالما ومشركا في
الزمان السابق قبل طلوع الاسلام لن ينال عهدي ابدا) فلا تجوّز حينئذ حتى يكون
الاستدلال مبنيا عليه ، أي على المجاز.
قوله
: ومن الواضح ان ارادة هذا المعنى لا يستلزم الاستعمال لا بلحاظ حال التلبس ... ولا يخفى ان كون الظلم كافيا حدوثا لا بقاء في عدم نيل
الامامة لا يستلزم الاستعمال للمشتق بلحاظ حال الانقضاء لا بلحاظ حال التلبس ،
فبالنتيجة ظهر بطلان القول بكون المشتق موضوعا للاعم ، كما ظهر ان استعمال المشتق
بلحاظ حال التلبس يكون على نحو الحقيقة دائما كما في الآية الشريفة ، وكل موضع اذا
اخذ الوصف العنواني موضوعا للحكم يكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس ، كآية
السرقة والزنا ،
وهو ظاهر لا غبار عليه.
قوله
: ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به ...
الخ وذهب قوم الى
التفصيل بين كون المشتق حقيقة في الاعم اذا وقع محكوما عليه ، نحو : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ونحو : (السَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لان من وجوب الجلد والقطع ، ولو بعد انقضاء المبدإ وزوال
التلبّس ، يعلم ان كلا منهم ـ اي الزاني والزانية والسارق والسارقة ـ في الآيتين
الشريفتين حقيقة في الاعم ، اذ لو كانت حقيقة في المتلبس بالمبدإ في الحال لم يجز
الجلد ولا القطع بعد انقضاء المبدأ ، وبين كونه محكوما به نحو (زيد مجتهد) فهو
حقيقة في المتلبس.
فاجاب المصنف :
بان المشتق في الآيتين الكريمتين مستعمل فيمن انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس
نظير الآية الشريفة (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) اي من كان زانيا أو سارقا يجب جلده وقطع يده ، فلا ينافي
ارادة حال التلبس مع ثبوت الجلد والقطع بعد انقضاء المبدإ.
هذا مضافا الى ان
الالتزام بتعدد الوضع للمشتق على حسب وقوعه محكوما عليه ومبتدأ أو محكوما به وخبرا
خلاف الوجدان ، فالقول الصحيح ان المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدإ في الحال لصحة
السلب عمن انقضى عنه المبدأ في حال الجري لا سيما بضميمة كلمة (الآن) اليه فيقال (زيد
ليس بزان الآن) بل (كان زانيا فيما مضى) وكذا السارق.
بقية الاقوال في
المشتق :
قوله : من مطاوى هاهنا وفي
المقدمات ظهر حال سائر الاقوال وما ذكر لها من الاستدلال ولا يسع المجال ... الخ وقال بعض بتفصيل آخر وهو ان المبدأ اذا كان من
__________________
قبيل الافعال
كالقيام والقعود ونحوهما ويكون الانقضاء فيها برفع اليد عن تلك الافعال ولو آناً
ما كان المشتق حينئذ حقيقة في المتلبس في الحال ومجازا فيمن انقضى عنه المبدأ.
واما اذا كان من
قبيل الملكة والقوة والاستعداد كما في المجتهد والمهندس والمفتاح والمكنسة وما
شاكل ذلك فالانقضاء فيها لا يكون إلّا بزوال القوة والملكة والاستعداد فما دامت
قوة الاستنباط موجودة في المجتهد أو استعداد الفتح موجود في المفتاح فالتلبس فعلي
وغير زائل ، فيكون المشتق حقيقة ايضا في المتلبّس في الحال ومجازا فيمن انقضى عنه
المبدأ ، وان كان المبدأ من قبيل الحرفة والصنعة فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها
فالتلبّس فعلي وان لم يشتغل البناء والمعمار في البناء والعمارة ، وكذا المجتهد
فما دام لم تزل ملكة القدسية الاجتهاد فتلبسه باق سواء اشتغل بالاستنباط فعلا أم
لم يشتغل فيكون المشتق حينئذ حقيقة في الاعم.
فيقول المصنف : ان
المشتق في كل موضع يستعمل بلحاظ حال التلبس سواء بقى التلبس الى جري المشتق على
الذات نحو (زيد مجتهد) أم لم يبق اليه نحو : (هو زان) أو (هو سارق).
ولا يتفاوت اختلاف
المبادئ فعلا وملكة واستعدادا وحرفة وصنعة وهو لا يوجب الاختلاف في وضع المشتق
للمتلبّس بالمبدإ في الحال ، وفي ضوء هذا ظهر الحال في اسم الآلة واسم المفعول ،
بتقريب ان هيئة اسم الآلة قد وضعت للدلالة على الاستعداد والقابلية ويكون هذا
الصدق حقيقيا وان لم يتلبس الذات بالمبدإ فعلا كالمفتاح. واما اسم المفعول فلان
الهيئة فيه قد وضعت لان تدل على وقوع المبدأ على الذات وهذا المعنى مما لا يعقل
فيه الانقضاء لان ما وقع على الذات باق فكيف يعقل انقضاؤه عنها ضرورة ان الشيء لا
ينقلب عما وقع عليه والمفروض ان الضرب مثلا وقع على الذات فدائما يصدق انه ممن وقع
عليه الضرب ، فخروجهما عن محل الكلام والخلاف باطل اذ لكل مشتق يكون حال التلبس
فيجري على الذات بلحاظ حال التلبس دائما. غاية الامر تلبس الذات على حسب الشيء
وعلى
قدر المبدإ ولا
جدوى للتعرض لتفصيلات أخر من اراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات لا سيما القوانين
والفصول.
هل المشتق بسيط أو
مركب؟
قوله
: بقي امور ان مفهوم المشتق على ما حققه المحقق الشريف في بعض حواشيه ... الخ
الامر الاول : في بساطة مفهوم المشتق وتركّبه : فيه خلاف بين الاعلام. ذهب المحقق الشريف في
حاشيته على شرح (المطالع) الى ان مفهوم المشتق بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبس
الذات بالمبدإ واتصافها به واستدل عليه بعد ان عرف الماتن النظر بانه «ترتيب امور
معلومة لتحصيل الامر المجهول» فذكر الشارح قدسسره انما قال الماتن (امور) لان الترتيب لا يتصور في الامر
الواحد ، الى ان قال وهذا لا يشمل التعريف بالفصل وحده كتعريف الانسان بالناطق
وحده أو بالخاصة وحدها كتعريفه بالضاحك ، فأجيب عن هذا الإشكال بان المشتق ، وان
كان في اللفظ مفردا ، إلّا أن معناه شيء ثبت له الحدث فيكون من حيث المعنى مركّبا
، فاورد الشريف في حاشيته عليه بان مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم المشتق اصلا.
توضيح
اشكال الشريف : ان الشيء الذي ينحلّ اليه مفهوم المشتق اما ان يراد به مفهومه أو مصداقه ،
فان كان الاول لزم دخول العرض العام في الفصل لان مفهوم الشيء عرض عام بشهادة صدقه
على المتباينات من جميع الجهات. فاذا كان معنى الناطق الذي هو فصل الانسان شيئا له
النطق لزم ما ذكر ودخول العرض العام في مفهوم الفصل محال اذ الفصل ذاتي ، وكل ذاتي
داخل في حقيقة الشيء ، وكل عرض عام خارج عن حقيقة الشيء ، فيستحيل ان يدخل أحدهما
في مفهوم الآخر ، كما يستحيل دخول النار في مفهوم الماء. وان كان الثاني لزم
انقلاب القضية الممكنة الى الضرورية ، فان قولنا الانسان ضاحك قضية ممكنة خاصة أو
عامة ، فلو كان معنى الضاحك مصداق الشيء ، الشيء الذي له الضحك كان ذلك المصداق
عين الانسان ، فتصير القضية المذكورة في قوة قولنا (الانسان انسان) ولا يخفى ان
حمل
الشيء على نفسه
ضرورى ، فكلاهما باطل بل محال.
اما استحالة دخول
العرض العام في مفهوم الفصل فلان الفصل جزء النوع ومقوّم له ، والعرض العام خارج
عن النوع غير مقوّم له فلو دخل العرض العام في مفهوم الفصل لزم اجتماع النقيضين ،
واما استحالة انقلاب الممكنة الخاصة الى الضرورية فلان الممكنة الخاصة تكون لسلب
الضرورة من الجانبين اي الجانب الموافق والجانب المخالف.
فاذا قلنا (كل
انسان كاتب بالامكان الخاص) فمفاده ان ثبوت الكتابة ليس ضروريا لافراد الانسان ،
وإلّا لكان جميع افراد الانسان كاتبا ، ويكون مفاده ان سلب الكتابة ليس ضروريا عن
افراد الانسان ، وإلّا لا يكون فرد من افراد الانسان كاتبا ، لان مفاد الضرورية
المطلقة ضرورية ثبوت المحمول للموضوع ان كانت موجبة ، أو ضرورية سلبه عنه ان كانت
سالبة ، نحو (كل انسان حيوان بالضرورة) و (لا شيء من الانسان بفرس بالضرورة).
وفي ضوء هذا
البيان ظهر بطلان الانقلاب ، فلذا ذهب الشريف الى بساطة مفهوم المشتق ، هذه خلاصة
ما افاده المحقق الشريف على ما لخّصه بعض الاعاظم وهو صاحب الفصول قدسسره.
اعتراض صاحب (الفصول)
على الشريف :
قوله
: وقد اورد عليه في (الفصول) بانه يمكن ان يختار الشق الاول ... الخ قال صاحب (الفصول) قدسسره في ردّ قول الشريف بانه يمكن ان يختار اخذ مفهوم الشيء في
مفهوم المشتق ، ويدفع اشكال الشريف وهو «دخول العرض العام في الفصل الذاتي» بان
كون الناطق فصلا للانسان مبني على عرف اهل المنطق حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم
الذات وخاليا عن مفهوم الشيء ، وهذا لا يوجب وضع الناطق لغة للمعنى الذي اعتبروه
فيه ، بل من المحتمل ان يكون وضع لفظ الناطق ونحوه من المشتقات الأخر لذات ثبت له
النطق ولشيء صدر عنه ، ولا للنطق الخالي عن
الذات وعن الشيء ،
كما يقوله المحقق الشريف قدسسره. فيكون النزاع في المعنى اللغوي المشتق أهو بسيط أم مركب؟
ذهب الى كلّ فريق ، فاذا لم يمكن اخذ الشيء في مفهوم الناطق لاجل كونه فصلا وكليا
ذاتيا عند اهل المنطق فهذا لا يدل على كون مفهومه كذلك لغة ، ولعل اهل المنطق ،
بعد تجريده عن الشيء ، جعلوه فصلا للانسان.
قوله
: وفيه انه من
المقطوع ... الخ اعترض المصنف على (الفصول) بانه من المقطوع واليقين ان (الناطق)
قد اعتبره المناطقة فصلا قريبا للانسان بلا تصرف في معناه اصلا حتى يكون معناه عند
المنطقي مغايرا لمعناه عند اللغوي ، اما على نحو الاشتراك واما على نحو المجاز
فليس الامر كذلك بل بماله من المعنى اللغوي جعلوه فصلا للانسان ، كما لا يخفى.
قوله
: والتحقيق ان يقال
... الخ فأجاب المصنف جوابا تحقيقيا عن قول الشريف بان (الناطق) ليس بفصل حقيقي ،
بل لازم ما هو الفصل ، واظهر خواص الفصل وانما يكون فصلا مشهوريا عند اهل المنطق ،
يوضع عندهم مكان فصل حقيقي في تعريف ماهية الانسان بانه حيوان ناطق.
واشكال الشريف
مبني على كون (الناطق) فصلا حقيقيا ، وليس الامر كذلك ، ضرورة أنّ النطق ، سواء
كان بمعنى الادراك أم كان بمعنى التكلم ، لا يكون من الذاتيات ، لان الاول من
الكيف النفساني ، والثاني من الكيف السمعي.
فبناء على هذا
يكون عرضيا لان كل واحد من الكيف من الاعراض ولكن الناطق يكون اظهر خواص الفصل
واقرب آثاره ولذا يضع اهل المنطق (الناطق) مكان الفصل. واما الفصل الحقيقي للاشياء
فلا يعلمه الا علّام الغيوب او من أطلعه العالم المطلق على غيبه ومخزونه وهو غيرنا
، كما ستأتي الإشارة اليه في مفهوم (الناطق) بعد ما لم يكن (الناطق) فصلا حقيقيا
لانه لا يلزم حينئذ دخول العرض العام في الفصل الذاتي بل في العرض الخاص الذي لا
يكون من الذاتي ، ولا محذور في دخول العرض العام في العرض الخاص ، وهو (الناطق) ،
لانه على كونه من قبيل اظهر خواص الفصل يكون عرضا خاصا للانسان ك (الضاحك) له وكل
عرض
خاص هو من العرضي
، ولا يلزم دخوله في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي كالجنس والنوع.
قوله
: ولذا ربما يجعل
لازمان مكانه اذا كانا متساويي النسبة اليه ويشهد على كون (الناطق) فصلا مشهوريا
منطقيا لا حقيقيا ذاتيا ، انه يجعل لازمان مساويان للفصل الواقعي مكان الفصل
الحقيقي في تعريف الحيوان وهما (الحساس والمتحرك بالارادة).
تقريب الشهادة الى
الاذهان ، ان بناء المحققين على امتناع فصلين ذاتيين لنوع واحد في عرض واحد فظهر
انهما ، اي الحساس والمتحرك بالارادة ، من لوازم الفصل الواقعي ومن اظهر خواصه ومن
اقرب آثاره كالناطق.
قوله
: فتدبر جيدا وهو
اشارة الى دقة المطلب المذكور.
فان قيل : ان
الشيء اذا اخذ في مفهوم الناطق والشيء عرض عام فكيف يكون الناطق عرضا خاصا
للانسان.
قلنا : نعم ، إلّا
انه بعد تقييد الشيء بالنطق ، اي شيء له النطق ، يكون من اظهر خواص الانسان وعرضا
خاصا له كما هو ظاهر لا غبار عليه.
ولا يخفى ان
المقصود بالعرضي هنا مقابل الذاتي باب الايساغوجى وهو جنس ونوع وفصل ، والعرضي عرض
خاص كالضاحك للانسان وعرض عام كالماشي له.
جواب (الفصول)
ثانيا :
قوله
: ثم قال انه يمكن
ان يختار الوجه الثاني ايضا ... الخ فاذا فرغ صاحب (الفصول) من الشق الاوّل
للاشكال شرع في جواب الشق الثاني عنه ، وقال : انه يمكن ان يؤخذ مصداق الشيء في
مفهوم المشتق ايضا كما يصح اخذ مفهومه في مفهومه. وأجاب عن اشكال انقلاب الامكان
الى الضرورة بما حاصله ان المحمول في مثل (الانسان كاتب بالامكان) لا يكون المصداق
الخارجي للكاتب الذي هو
الانسان الخارجي
لاتحاد مصداقهما في الخارج ، لذا يصح حمله عليه فيقال الانسان كالانسان بالضرورة
كي يلزم الانقلاب ، اذ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، لان قضية (الانسان كاتب) تصير على
تقدير أن يكون المراد من الكاتب فيها المصداق الخارجي للكاتب ، ولا ريب ان المصداق
الخارجي للكاتب ينطبق على الانسان ، ولكن المراد يكون الانسان المقيّد بالكاتب في
قوة (الانسان هو الانسان الكاتب) ، فالمحمول هو الانسان المقيد بوصف عنواني وهو
الكاتب. ومن الواضح ، مع امكان القيد ، لا يصير المقيد ضروري الثبوت للموضوع ، فلا
انقلاب في البين ولا اشكال ، انتهى كلامه رفع مقامه.
قوله
: ويمكن ان يقال ان
عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب ... الخ شرع المصنف قدسسره في رد كلام صاحب (الفصول) قدسسره فقال : «ان تقيّد المحمول بقيد الامكان لا يقدح في دعوى
الانقلاب» ، بيان ذلك : ان المحمول اما أن يكون ذات المقيد والقيد خارجا والتقيد
داخلا ، واما أن يكون مجموع المقيد والقيد معا.
فعلى
الاول : يلزم الانقلاب
قطعا ، لان المفروض ان المحمول هو ذات المقيد من حيث هي هي ، مثل الانسان الذي هو
جزء معنى الكاتب المشتق على الفرض ، فصارت قضية (الانسان كاتب بالامكان) في قوة
قولنا (الانسان انسان له الكتابة) ومن الواضح ان ثبوت الانسان للانسان ضروري لانه
من قبيل ثبوت الشيء لنفسه وهو ضروري.
وعلى
الثاني : يلزم الانقلاب
ايضا ، غاية الامر ان المنقلب الى الضرورية حينئذ جزء القضية وهو المقيد الذي هو
جزء المحمول والجزء الآخر المحمول.
توضيح
: وهو ان المحمول
المركب من اجزاء يحمل كل جزء منه على الموضوع ولاجل هذا تنحل قضية واحدة صورة الى
قضايا متعددة ، نحو (هذا المائع سكنجبين) اي (هذا خلّ) و (هذا سكّر) فمثل (الانسان
كاتب بالامكان) ينحل الى (الانسان انسان) والى (الانسان له الكتابة) اي (هو كاتب).
ومن المعلوم ان
القضية الاولى ضرورية ، وهي (الانسان انسان) والثانية هي
(الانسان كاتب) ،
فالكاتب اذا كان وصفا للانسان فهذه ناقصة تقييدية من باب تقييد الموصوف بالصفة ،
واذا كان خبرا له فهذه تامة خبرية ، كما ان الثانية ممكنة عامة المقيد بجانب
الوجود ، والثانية إما قضية تامة خبرية واما ناقصة تقييدية ، وذلك لعدم الفرق بين
الاوصاف والاخبار إلّا بما قبل علم المخاطب وبعد علمه ، فالقول الذي يحكي عن
النسبة قبل علم المخاطب بها يكون خبرا ، والقول الحاكي للنسبة بعد علم المخاطب بها
وصف ، مثلا : اذا قلنا (جاءني زيد العالم) فالسامع اذا علم بكون زيد عالما قبل
اخبار المتكلم عن مجيء زيد فالعالم يكون وصفا لزيد ، واما اذا لم يعلم بكونه عالما
قبل اخباره عن مجيئه فالعالم خبرا له. ولذا اشتهر عند النحاة ان الاوصاف قبل العلم
بها اخبار والاخبار بعد العلم بها اوصاف ، فاذا قلنا (زيد كاتب) فان علم المخاطب
بوصف كتابة زيد قبل اخبار المتكلم فالكاتب يكون وصفا لزيد ، فتكون القضية حينئذ
ناقصة تقييدية من قبيل تقييد الموصوف بوصف. وان لم يعلم بهذا الوصف قبل الاخبار
فهو خبر له ، فتكون تامة خبرية. وعلى كلا التقديرين تكون الاولى ضرورية مطلقة
والثانية ممكنة عامة او خاصة.
اعلم ان الامكان
على قسمين عام وخاص. الاول يسلب الضرورة دائما عن الجانب المخالف للقضية ، واما
بالاضافة الى الجانب الموافق فهو ساكت عنه. والمراد من الجانب الموافق النسبة التي
ذكرت في متن القضية ، فان كانت ايجابية فجانب خلافها هو سلب النسبة اي نسبة سلبية
، وان كانت سلبية فمخالفها هو ايجاب النسبة اي نسبة ايجابية. مثلا : اذا قلنا (الانسان
كاتب بالامكان العام) اي سلب الكتابة ليس بضروري سواء كان ثبوته له ضروريا أم لا ،
واما اذا قلنا (الانسان ليس بكاتب بالامكان العام) اي ثبوت الكتابة للانسان ليس
بضروري سواء كان سلبه عنه ضروريا أم لا ، ولذا سمّي بالعام لانه يشمل الواجب
الوجود ، والممكن الخاص اذا قيّد بالايجاب كما في المثال الاول ، ولانه يشمل
الممتنع الوجود كشريك الباري ، والممكن الخاص اذا قيّد بالسلب والعدم كما في
المثال الثاني.
والثاني : يسلب
الضرورة عن الطرفين دائما. مثلا : اذا قلنا (الانسان كاتب بالامكان الخاص) اي ثبوت
الكتابة ليس ضروريا ، وإلّا لكان جميع افراد الانسان كاتبا ، أي سلب الكتابة ليس
بضروري وإلّا لم يكن فرد من افراد الانسان كاتبا ، ولاجل هذا كانت من القضايا المركبة
المعتبرة لانها في قوة الممكنتين العامتين الموجبة والسالبة. واما الممكنة العامة
فهي من البسائط لاشتمالها على حكم واحد إما الايجاب وإما السلب.
عقد الحمل وعقد
الوضع في القضايا :
قوله
: فعقد الحمل ينحل الى القضية كما ان عقد الوضع ينحل الى قضية مطلقة عامة عند
الشيخ ابن سينا ، وقضية ممكنة عامة عند الفارابي اعلم ان كل قضية تشتمل على عقد الوضع وعلى عقد الحمل.
والمراد من الاول ـ أي عقد الوضع ـ هو اتصاف ذات الموضوع بوصفه العنواني ، نحو
انسانية الانسان في قولنا (الانسان ناطق) ، والمراد من الثاني ـ أي عقد الحمل ـ هو
اتصاف ذات الموضوع بوصف المحمول ، وهو يختلف لانه قد يكون بالضرورة اذا كان ثبوت
وصف المحمول لذات الموضوع أو سلبه عنه ضروريا كما في الضرورية المطلقة نحو (كل
انسان حيوان بالضرورة) ، ونحو (لا شيء من الانسان بشجر بالضرورة) ، وقد يكون
بالدوام اذا كان ثبوت وصف المحمول لذات الموضوع أو سلبه عنه دائميا ، نحو : (كل
فلك متحرك دائما) و (لا شيء من الفلك بساكن دائما).
والفرق بين الدوام
والضرورة ، ان في الاول ـ أي الدوام ـ لا يستحيل الانفكاك وان لم ينفكّ وصف
المحمول عن ذات الموضوع ، وفي الثاني ـ أي الضرورة ـ يستحيل الانفكاك ، تسمى هذه
القضية دائمة مطلقة ، وقد يكون بالفعل كما في المطلقة العامة ، نحو : (كل انسان
ضاحك بالفعل) اي في احد الازمنة ، ونحو (لا شيء من الانسان بضاحك بالفعل) ، وقد
يكون بالامكان العام نحو (كل انسان كاتب بالامكان العام) ، ونحو (لا شيء من
الانسان بكاتب بالامكان العام) ، وقد يكون
بالامكان الخاص
مثاله هو مثال الامكان العام مع تبديل لفظ (العام) بلفظ (الخاص) اذا علم ما ذكر ،
واختلف في عقد الوضع قال الشيخ أبو علي بن سينا قدسسره : هو بالفعل فهو ينحل الى المطلقة العامة عنده ، وقال
المعلم الثاني ابو نصر الفارابي : هو بالامكان العام فهو ينحل الى الممكنة العامة.
ونتيجة هذا الاختلاف تظهر في العكس المستوي للممكنتين وعدم انعكاسه ، مثلا : اذا
انحصر مركوب زيد بالفعل بالفرس ، صدق كل حمار بالامكان مركوب زيد بالامكان ، العام
أو الخاص. ويصدق عكسه وهو بعض مركوب زيد بالامكان حمار بالامكان. هذا على رأي
الفارابي ومن تبعه.
واما اذا قلنا كل
حمار بالفعل مركوب زيد بالامكان ، فهذا صادق بناء على انحصار مركوب زيد بالفرس ،
ولا يصدق عكسه وهو قولنا بعض مركوب زيد بالفعل حمار بالامكان ، لان مركوب زيد
بالفعل هو الفرس فقط ، ولا يكون مركوبه بالفعل حمارا بالفعل ولا حمارا بالامكان ،
وهذا بناء على مختار الشيخ ومن تبعه وهو الاظهر عند المحققين ، وفي ضوء هذا ، فان
اخترنا قول الشيخ فلا عكس للممكنتين ، وان ذهبنا الى رأي الفارابي فيكون العكس
لهما ، كما علم من المثال السابق.
اذا علم ما ذكرنا
فاعلم : ان وجه انحلال القضية الواحدة الى قضيتين بلحاظ عقد الحمل هو كون القيد ،
كذات المقيد ، محمولا على الموضوع ، والسرّ فيه انه لا فرق في الواقع بين الوصف
والخبر ، لان الخبر في الحقيقة وصف ايضا ، كما ان الحال في الحقيقة وصف ايضا ،
والفرق بين الوصف والخبر والحال اعتباري لانه ان قارن عامل الموصوف في الزمان
يعبّر في الاصطلاح عن الموصوف بذي الحال وعن الوصف بالحال. مثل : (جاءني زيد راكبا)
لمقارنة زمان ركوبه لزمان مجيئة ، وإلّا فان علم المخاطب بالوصف قبل اخبار المخبر
بهذا الوصف يعبّر عنه باسم أصله وهو الوصف كما يعبّر عن الموصوف باسم أصله وهو
الموصوف ، نحو : (جاءني زيد العالم) اذا علم المخاطب بكونه عالما قبل الاخبار في
الماضي عن مجيئه ، وان لم يعلم به قبله فيعبّر عن الوصف بالخبر وعن الموصوف
بالمبتدإ وان لم يكن الكلام
بعنوان خبري
كالمثال السابق ، غاية الامر بفرق قليل وهو اضافة ضمير الفصل بينهما اذا كانا
معرفتين لدفع الالتباس اي التباس المبتدإ بالموصوف ، والخبر بالصفة ، فيقال (جاءني
زيد هو العالم) لان الفاصلة بالاجنبي جائزة بين المبتدإ والخبر ، ولكن لا تجوز بين
الموصوف والوصف ، فاذا قلنا : (كل انسان كاتب) فالكاتب ينحل الى انسان له الكتابة
فصارت قضية (كل انسان كاتب بالامكان الخاص) في قوة (كل انسان انسان) و (كل انسان
له الكتابة).
ولا شك ان الاولى
ضرورية ، لانه اذا اخذ مصداق الشيء في مفهوم الكاتب ومصداقه في مفهومه لا يكون
إلّا انسانا ، كما ان عقد الوضع ينحل الى قضية مطلقة عامة يحكم فيها بفعلية النسبة
أو بسلبها عند الشيخ ، والى ممكنة عامة يحكم فيها بسلب الضرورة عن الطرف المخالف
للقضية دائما ، فانقلاب الممكنة العامة الى الضرورية المطلقة قطعي ، سواء كان
القيد داخلا في المحمول كما في الفرض الثاني ، أم خارجا عنه كما في الفرض الأول.
قوله
: فتأمّل وهو اشارة
الى ان دعوى انحلال الممكنة العامة الى الضرورية المطلقة على الشق الثاني مدفوعة
ضرورة ان المحمول هاهنا هو الانسان المقيد بوصف الكتابة في القضية الاولى ، لان
الكاتب وضع للانسان الذي ثبتت له الكتابة لا للانسان المطلق وطبيعته بما هي هي ،
ومن المعلوم ان قيد الكتابة ليس بضروري ، فالمصنف قدسسره ايّد قول (الفصول) بقوله فتأمل كما لا يخفى.
قوله
: لكنه قدسسره تنظّر فيما افاده بقوله (وفيه نظر) ... الخ لكن صاحب (الفصول)
اظهر النظر في جوابه عن الانقلاب الذي يقوله الشريف على تقدير اخذ مصداق الشيء في
مفهوم المشتق.
توضيح
نظره : فيما افاده من
عدم الانقلاب ، هو ان الذات المأخوذة في مفهوم المشتق مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ،
مثل الانسان الذي له الكتابة الذي اخذ في مفهوم الكاتب ان كان واجدا لوصف الكتابة
في الواقع فيصدق الايجاب حينئذ بالضرورة ، لان قولنا زيد كاتب بالامكان ، يرجع الى
قولنا (زيد الكاتب بالقوة أو
بالفعل) كاتب
بالقوة بالضرورة أو كاتب بالفعل بالضرورة ، وان كان فاقدا له في الواقع ، فيصدق
السلب بالضرورة ، مثلا : اذا لاحظنا الانسان الكاتب في مفهوم الكاتب فهذا الانسان
كاتب بالضرورة ، واذا لاحظنا الانسان غير الكاتب مثل كونه أميا فيه فيصدق السلب
حينئذ بالضرورة. انتهى كلامه.
قوله
: ولا يذهب عليك صدق الايجاب بالضرورة ... الخ اذا لم يقدح عدم ضرورية القيد وهو وصف الكتابة بانقلاب
الممكنة الى الضرورية على قول (الفصول) ، فاعترض المصنف عليه وقال : ان لحاظ تقيد ذات
الموضوع بوصف المحمول لا ينفع في دعوى الانقلاب ، وإلّا يلزم انتفاء الممكنة
العامة والخاصة ، وانحصار القضايا بالضرورية المطلقة ، ضرورة ضرورية ثبوت المحمول
الذي قيّد به الموضوع نحو (الانسان الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالقوة أو كاتب
بالفعل بالضرورة) ، و (الانسان الضاحك ضاحك بالضرورة) ، وكذا في طرف السلب نحو : (الانسان
غير الكاتب ليس بكاتب بالضرورة) ، وتسمى هذه القضية ضرورية بشرط المحمول. وعلى هذا
لا تبقى الممكنة العامة ولا الخاصة ولا المطلقة العامة ولا العرفية العامة ولا
الدائمة المطلقة.
ولكن هذا واضح الفساد
، لكون المناط في موارد القضايا وجهاتها هو لحاظ نفس المحمول مع قطع النظر عن
قيوده للموضوع ومع قطع النظر عن ثبوته له أو نفيه عنه ثبوتا ، ومع قطع النظر عن
كيفية ثبوته له هل هي بالضرورة أو بالدوام أو بالامكان أو بالفعل في القضايا
الموجّهة. أو نفيه عنه كما في السالبة ، مع قطع النظر عن لحاظ امر الخارجي مع
المحمول.
والحال ان مدّعى
صاحب (الفصول) هو انقلاب الممكنة الى الضرورية بمجرد اخذ الذات ومصداق الشيء في
مفهوم المشتق من دون لحاظ تقيّد ذات الموضوع بوصف المحمول. وهذا ليس صحيحا ، لان
الشيء المقيد بوصف الامكاني وهو وصف الكتابة امكاني الثبوت لا يكون ضروري الثبوت.
نعم اذا لاحظنا
تقيّد ذات الموضوع بوصف المحمول تصير جميع القضايا
سواء كانت ممكنة
أم كانت غيرها ، ضرورية مطلقة بشرط المحمول.
فبالنتيجة ان
اشكال صاحب (الفصول) في الانقلاب الى الضرورية على فرض اخذ الذات في مفهوم المشتق
بلحاظ قيد المحمول وهو وصف الكتابة اذ المحمول المقيد بقيد الامكاني امكاني وليس
بضروري ، ولكن غفل عن نفس المحمول للموضوع اي عن نفس وصف المحمول لذات الموضوع ،
وبعبارة اخرى اذا اخذ الذات في مفهوم المشتق فان لاحظنا الذات مقيدا بالمحمول في
الواقع وصارت القضية حينئذ ضرورية وهذه الصيرورة لا تنفع في المدعى ، لان المدعى
هو انه ان اخذ الذات في مفهوم المشتق يلزم انقلاب الممكنة الى ضرورية ، فان لاحظنا
التقييد في القضايا الموجّهة فصار كل القضايا ضروريا بشرط المحمول ، فلا تبقى
الممكنة العامة ولا الممكنة الخاصة ولا المطلقة العامة ولا الدائمة المطلقة بل
كلها ضروري بشرط ثبوت وصف المحمول لذات الموضوع أو بشرط سلبه عنه.
مثلا : اذا قلنا (زيد
كاتب بالامكان) فهو قضية ممكنة ، إما العامة وإما الخاصة في نفسها. وان لاحظنا
زيدا بشرط كتابته في الواقع ونقول (زيد الكاتب كاتب) فهذه لا محالة تكون ضرورية.
واذا لاحظنا زيدا بشرط عدم كتابته ونقول (زيد غير الكاتب ليس بكاتب) فهذه ايضا
ضرورية. غاية الامر تكون ضرورية السلب ، كما ان الاولى ضرورية الايجاب فيكون مدعى
صاحب (الفصول) انقلاب الممكنة الى ضرورية بمجرد اخذ الذات في مفهوم المشتق لا بشرط
المحمول. وبعبارة اخرى ان القضايا في حد نفسها موجّهة بجهة إما الضرورة وإما
الدوام وإما الامكان وإما بالفعلية ، فكلها بشرط تقييد الموضوع بوجود المحمول او
عدمه يصير ضروريا ، ولكن ليس الكلام في ضرورية القضايا بشرط المحمول ، بل انما
الكلام في انقلابها في حد نفسها من الامكان الى الضرورة على فرض الشق الثاني.
فالضرورة في
الإشكال تكون ضرورة بشرط المحمول وهي خارج عن محل النزاع ، فالذي ادعاه صاحب (الفصول)
قدسسره هو انقلاب القضية الممكنة الى الضرورية المطلقة من حيث هي
هي ، لا بلحاظ اشتراطها بوجود المحمول للموضوع أو بشرط
عدم المحمول
للموضوع ، والحال ان انقلاب الممكنة الى الضرورية مشروط بشرط ملاحظة وصف المحمول
للموضوع كما ادّعاه المصنف قدسسره واما صاحب (الفصول) ، فادعى الانقلاب بمجرد ثبوت النسبة في
الموجبة أو بمحض سلب النسبة في السالبة.
فالمصنف ادعى
الانقلاب بشرط المحمول ايجابا أو سلبا ، وصاحب (الفصول) ادعى الانقلاب بلا شرط
تقيد الموضوع بوصف عنوان المحمول ، وبين الادعاءين بون بعيد كما لا يخفى.
اعلم ان المراد من
مادة القضية هو كيفية النسبة الواقعية ، اذ نسبة المحمول الى الموضوع في الواقع
مكيّفة بكيفية مثل الضرورة والدوام والامكان والفعل ، ومن جهة اللفظ الدال عليها
كلفظ الضرورة والامكان وغيرهما ، ولذا يقال فان طابقت الجهة المادة فالقضية صادقة
نحو (كل انسان حيوان بالضرورة) ، وان خالفتها فهي كاذبة نحو (كل انسان حجر
بالضرورة).
ثم قال صاحب
الفصول : انه يمكن ان يستدلّ بهذا الوجه على بطلان الوجه الاول لانه على فرض اخذ
مفهوم الشيء في مفهوم المشتق يلزم انقلاب الممكنة الى الضرورية ايضا ، لان صدق
الشيء على مصاديقه ضروري ولا بالامكان ، فالانقلاب متحقق على احتمال الاول ايضا
ولا وجه لتخصيص الانقلاب بالوجه الثاني. انتهى كلامه.
قوله
: فان لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقها ... الخ واجاب المصنف عن كلام (الفصول) بان صدق الشيء على مصاديقه
ضروري اذا كان مطلقا غير مقيد بوصف الكتابة ونحوها ، واما اذا كان الشيء مقيدا
بوصف الكتابة فيقال (الانسان شيء له الكتابة) فليس صدقه عليه بضروري ، لان المقصود
من الانسان فرد منه نحو (زيد) مثلا ، فيحتمل ان يكون (زيد) الانسان شيئا غير
الكاتب ، فدعوى صاحب (الفصول) الانقلاب في الصورة الاولى غير مسموعة.
قوله
: وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما افاد بابطال الوجه الاول كما زعمه ... الخ لان
صدق الشيء على
افراده ومصاديقه ضروري اذا كان مطلقا ، واما اذا كان مقيدا بقيد الخاص فليس ثبوته
ضروريا لافراده ، اذ من المحتمل ان يكون الانسان شيئا غير الكاتب ، ففي الوجه
الاول لا يلزم انقلاب الممكنة الى الضرورية.
نعم ان لوحظ موضوع
القضية الضرورية بشرط المحمول لزم الانقلاب حينئذ ، وقد سبق أن مدعى صاحب (الفصول)
انقلاب الممكنة بالضرورية بلا شرط لا بلحاظ شرط المحمول ، وقد عرفت حال الشرط انه
لا يصحّح الانقلاب الذي هو مقصود (الفصول) قدسسره.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى الفرق بين قولنا (الانسان انسان له الكتابة) على فرض اخذ مصداق الشيء في مفهوم
المشتق ، وبين قولنا (الانسان شيء له الكتابة) على اعتبار مفهوم الشيء فيه.
وفي الثاني لا
يكون الانقلاب موجودا لانه يمكن ان يكون الانسان شيئا غير كاتب ، مضافا الى انه في
الاول ، لما اخذ الموضوع في المحمول فصارت ضرورية ، لاستحالة سلب الشيء عن نفسه.
فثبوت الشيء لنفسه ضروري بخلاف الثاني ، كما عرفت آنفا.
اصلاح برهان شريف
السادات :
قوله
: ثم انه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزم اخذ النوع في الفصل ضرورة ان مصداق
الشيء الذي له النطق هو الانسان كان أليق بالشرطية ... الخ فالتفت المصنف قدسسره الى اصلاح برهان الشريف ، وخلاصته : ان الاولى جعل التالي
في الشرطية الثانية دخول النوع في الفصل لا انقلاب الامكان الى الضرورية لانه كان
مناسبا للشرطية الاولى ، بل كان الاولى لفساده مطلقا.
ومن الواضح ان في
كلام الشريف قضيتين شرطيتين :
الاولى : هي انه
لو اخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتق للزم دخول العرض العام في الفصل.
والثانية : انه لو
اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق للزم انقلاب الممكنة الى الضرورية ، فظهر ان
المراد من التالي في الثانية الجملة الاخيرة.
وقال المصنف قدسسره الاولى تبديل انقلاب الممكنة الى الضرورية بدخول النوع في
الفصل ، والمراد من النوع هو (الانسان) ، والمراد من الفصل هو (الناطق) ، وصدق
التاليين على الناطق واضح الفساد ، لانه على فرض اخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتق
يلزم دخول العرض العام في الفصل وهو فاسد كما مرّ وجهه ، ولانه على تقدير اخذ
مصداق الشيء في مفهوم المشتق يلزم دخول النوع في الفصل وهذا ايضا فاسد مطلقا ، أي
سواء كان الناطق فصلا واقعيا للانسان أم كان فصلا مشهوريا لازما مساويا للفصل
الواقعي يوضع مكانه في الحدود والتعاريف ، وذلك لاستحالة دخول كلي الذاتي في الكلي
الذاتي ، بناء على كون (الناطق) فصلا واقعيا للانسان كما عليه المناطقة ،
ولاستحالة دخول الذاتي في العرضي الخاص وهو (الناطق) بناء على كونه لازما مساويا
للفصل الحقيقي. فالناطق على مبنى المصنف عرضي خاص للانسان ك (الضاحك) له ، بخلاف
اخذ العرض العام الذي هو مفهوم الشيء في الفصل وهو (الناطق) لان فساد هذا يكون
متفرّعا على كون الناطق فصلا واقعيا للانسان واما بناء على كونه لازما مساويا له
وعرضيا خاصا فلا مانع من دخول العرض العام في العرض الخاص ، لانه يتحقق العام في
ضمن الخاص ويندرج فيه كاندراج الحيوان في ضمن الانسان ، وكاندراج الجسم النامي في
ضمن الحيوان ، وكاندراج الجوهر في ضمن الجسم.
بقى هنا بيان هو
دخول بعض الكليات في بعضها الآخر ، كدخول العام في الخاص كما أن فساد هذا الدخول
ثابت مطلقا اي سواء كان الناطق فصلا واقعيا أم كان لازما مساويا للفصل.
اما دخول العرض
العام ، وهو مفهوم الشيء في الفصل ، اي فساد هذا الدخول فمبتن على كون الفصل ، وهو
الناطق ، فصلا واقعيا كما عرفت.
الاستدلال على
بساطة مفهوم المشتق :
قوله
: فتأمل جيدا اشارة
الى دقة المطلب المذكور ، قوله
: ثم انه يمكن ان
يستدل على البساطة بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل (زيد كاتب) ... الخ وقد استدلّ
على بساطة مفهوم المشتق بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل (زيد الكاتب جاءني) ،
ويتبادر من المشتق الى الاذهان أمر بسيط وحداني لا مركب من الامرين ، ولو كانت
كلمة الشيء مفهوما أو مصداقا مأخوذة في المشتق لكان الموصوف في مثل قولك (زيد
الكاتب) مكررا قهرا ، وكان مفهوم المثال (زيد شيء له الكتابة) على اعتبار اخذ
مفهوم الشيء في مفهوم المشتق ، أو زيد زيد له الكتابة على اعتبار مصداق الشيء في
مفهومه ، وليس ذلك إلّا لاجل بساطة مفهوم المشتق وعدم تركّبه من الامرين.
فان قيل : ان في
المثال الاول لم يكرّر (زيد) الموصوف بل ذكر فيه (زيد وشيء) ، قلنا : ان الشيء كلي
لا وجود له الا في ضمن مصاديقه ، فالمراد منه هو (زيد) فصار في قوة (زيد زيد له
الكتابة).
قوله
: ارشاد : لا يخفى ان معنى البساطة بحسب المفهوم وحدته ادراكا وتصورا ... الخ وهو لا يخلو عن فائدة وهي ان المراد من بساطة مفهوم المشتق
أن يكون بحسب التصور والادراك واحدا ، بان يكون المشتق حاكيا عن معنى واحد بحيث لا
يتصور عند تصوره ، اي عند تصور معنى المشتق ، الا شيء واحد لا شيئان ، الشجر
والحجر والمدر فانها حاكية عن معنى واحد ، فمفهومها واحد تصورا وادراكا وحكاية
مفهوم المشتق نحو (ضارب) ، ونحو (عالم) ، وان انحلّ بتعمل العقل الى شيئين كانحلال
مفهوم الشجر بتعمّل من العقل الى شيء له الشجرية ، وانحلال مفهوم الحجر الى شيء له
الحجرية ، مع وضوح بساطة مفهومهما تصورا وادراكا. فكذا مفهوم المشتق انحلّ بتعمل
من العقل الى شيئين نحو مفهوم (الضارب) ينحل الى ذات صدر عنه الضرب ، وكمفهوم (الابيض)
الى شيء ثبت له البياض ، وهكذا سائر المشتقات.
وبالجملة لا تنثلم
ولا تهدم بالانحلال الى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة معنى
المشتق تصورا ،
وبساطة مفهومه ادراكا ، كما لا يخفى ، والى بساطة التصوري والادراكي ، وتركب مفهوم
المشتق بالتعمل من العقل يرجع الاجمال والتفصيل الفارقين بين المحدود والحد مع ما
هما عليه من الاتحاد ذاتا ، اي مع اتحاد المعرف ، والمحدود للمعرف والحد ذاتا
ومصداقا ، ولكن المحدود واحد تصورا وادراكا ، وبعد تعمل من العقل يصير اثنين وهما
جنسه وهو حيوان وفصله وهو ناطق.
مثلا
: اذا تصوّرنا
الانسان انه بشر كان شيئا واحدا تصورا وادراكا ، لكن بتعمّل من العقل الذي يدرك
ماهية الأشياء يكون حيوانا ناطقا وهما شيئان ، فالتحليل العقلي وتعمّله في المشتق
يوجب هدم الوحدة تصورا ويحلّه الى اثنين ، اي الى ذات صدر عنه المبدأ مثلا ، كما
ان التحليل العقلي في المحدود والمعرف يوجب فتق الجمع والرتق ، والمراد من الجمع
هو بساطة مفهوم المحدود كالانسان مثلا ، وبتعمل من العقل ، الى الجنس والفصل فترتق
البساطة وتفتق ثم تصير اثنين.
الفرق بين المبدإ
والمشتق :
قوله
: الثاني : الفرق بين المشتق ومبدئه انه مفهومه ... الخ اعلم ان هنا اشكالا وهو ان المشتق اذا كان موضوعا بمادته
للمبدإ وبهيئته للنسبة فكيف يصح حمله على الذات مع انه لا يصح حمل المبدإ عليها
فلا يقال (زيد عدل) و (عمرو ضرب) ، ينبغي ان لا يصح حمل المبدإ المنتسب الى الذات
عليها كالمشتق ، فدفع المصنف هذا الإشكال بقوله : فالفرق بين الضارب والضرب مفهوما
وهكذا بين كل مشتق ومبدئه ان الضارب بمفهومه لا يأبى عن الحمل على الذات ، فتقول (زيد
ضارب عمروا) ، والضرب بمفهومه آب عن الحمل على الذات ، فلا يصح ان تقول (زيد ضرب)
الا من باب المبالغة في الاسناد ومن طريق المجاز في الاسناد كما في (زيد عدل) ،
والسر في ذلك ان المشتق ، وان كان بسيطا مفهوما ، مركب من الذات والحدث ، فمفهوم
الضارب حقيقة هو ذات ثبت له المبدأ ، أو ذات صدر عنه الضرب ، فليس معناه بسيطا
تصورا وماهية بل بسيط من حيث التصور فقط ، بخلاف المصدر ، فان معناه
بسيط من حيث
التصور والادراك ومن حيث الماهية والحقيقة وهو الحدث فقط. فلذا لا يتحد مع الذات
ولا يحمل عليها بخلاف المشتق ، فانه متحد مع الذات ، فهو بمعناه المرتكز في الذهن
يحمل على ذات من الذوات ، لوجود ملاك الحمل هاهنا وهو اتحاد المصداقي وتغاير
المفهومي ، ولذا قيل ان الحمل هو اتحاد الشيئين في الخارج ـ اي مصداقا ـ وتغايرهما
في الذهن ـ اي مفهوما ـ بخلاف المبدإ ، لانه اذا قيس الى من تلبس بالمبدإ يكون
غيره لا عينه. وملاك الحمل هو نحو الهوية والاتحاد ، وهو غير موجود في المبدإ ،
كما انه موجود في المشتق نحو اسم الفاعل واسم المفعول وافعل التفضيل والصفة
المشبهة بل صيغ المبالغة كعلّام وفهّام مثلا.
قوله
: والى هذا يرجع ما ذكره اهل المعقول في الفرق بينهما ... الخ والى وجود ملاك الحمل في المشتق ، وعدم وجوده في المبدإ.
يرجع كلام اهل المعقول في بيان الفرق بين المشتق والمبدإ من ان مفهوم المشتق يكون
لا بشرط ، والمبدأ يكون بشرط لا ، اي لا يكون قابلا للحمل على الذات والمشتق
بمفهومه يجتمع مع الذات ، ومن الممكن ان لا يجتمع معها فهو غير آب عنه.
فمفهوم المشتق
يكون لا بشرط ، اي يجتمع المشتق بمفهومه المرتكز في الذهن مع الذات ويحمل عليها ،
وقد لا يجتمع معه ولا يحمل بمفهومه المرتكز عليها. هذا معنى كون مفهومه لا بشرط.
اما مفهوم المصدر يكون بشرط لا ، اي بشرط ان لا يحمل على الذات ، وبشرط ان لا
يجتمع مع الذات. هذا هو المراد من كون مفهوم المبدإ بشرط لا. وفي ضوء هذا فمفهوم
المشتق غير آب عن الحمل على الذات ، ومفهوم المبدإ يكون آبيا عنه عليه ، اي على
الذات.
فساد توهم صاحب (الفصول):
قوله
: وصاحب (الفصول) قدسسره حيث توهم ان مرادهم انما هو ... الخ وتوهّم صاحب (الفصول) ان مراد اهل المعقول والفلاسفة من
اعتبار بشرط لا ولا بشرط بلحاظ الطواري والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد في
المبدإ والمشتق.
اعلم ان اعتبار
ماهية بشرط شيء وماهية لا بشرط وماهية بشرط لا على نوعين :
الاول
: اعتبارها بلحاظ
الأمر الخارج عن حقيقة الشيء ، نحو (الماء بشرط برده رافع للعطش) أو نحو (الماء
بشرط عدم حرّه رافع للعطش) ، فيلحظ الماء بشرط برده أو بشرط عدم حرّه فهو رافع
للعطش ، وهذه ماهية بشرط ، واخرى يلحظ لا بشرط البرد ولا بشرط عدم البرد ولا بشرط
عدم الحرّ ، وهذه ماهية لا بشرط ، وثالثة يلحظ بشرط ان لا يكون حارا ، وهذه ماهية
بشرط لا ، ولكن البرد وعدم الحر من اوصاف الماء خارجان عن حقيقة الماء ، وهي انه
جسم سيال رطب. ولكن بالطبع. بتعمّل من العقل ينحلّ الى شيئين ، وهما جنسه وهو (جسم)
وفصله وهو السيال الرطب بالطبع ، وهكذا مثل (الرقبة) بالاضافة الى الايمان والكفر
، تارة تلحظ بشرط الايمان ، واخرى تلحظ لا بشرط الايمان ، ولا بشرط عدم الايمان
وهو الكفر ، وثالثة تلحظ بشرط لا اي بشرط ان لا تكون كافرا. فبهذا اللحاظ يكون
القدر الجامع في البين بين الماهيات الثلاث ، وهو لفظ الماء ولفظ الرقبة. فالايمان
والكفر وعدم الكفر خارجات عن حقيقة الرقبة.
والثاني
: ان تلحظ العناوين
منتزعات عن حد ذات الشيء وحقيقته ، اي الماهية بشرط شيء والماهية لا بشرط والماهية
بشرط لا ، نحو (الانسان ناطق بشرط كونه حيوانا) ، و (الانسان نوع لا بشرط كونه
حيوانا) ، و (لا بشرط عدم كونه حيوانا) ، بل نوعيته قائمة بلحاظ حمله على الافراد
المتفقة الحقيقة ، والانسان مركب من مادة وصورة بشرط ان لا يكون من المجردات.
فالاول : ماهية
بشرط شيء والماهية المخلوطة ، والثاني : ماهية لا بشرط ، والماهية المطلقة ،
والثالث : ماهية بشرط لا والماهية المجردة ، فالنطقة والنوعية والتركب منتزعات عن
حقيقة الانسان ، فكذا المبدأ لانه بحقيقة مفهومه بشرط لا يعني بشرط عدم الصدق على
ذات من الذوات ، فمعنى المصدر يكون على نحو لا يصدق على الذات ولا يجتمع مع ذات من
الذوات.
فالمشتق مفهومه لا
بشرط والمصدر مفهومه بشرط لا ، لكن عنوان لا بشرط
منتزع عن حقيقة
المشتق مع قطع النظر عن عوارضه اللاحقة به ، كما ان عنوان بشرط لا منتزع ايضا عن
حقيقة المصدر والمبدإ مع صرف النظر عن اوصافه وعناوينه ، ففي النوع الثاني : لا
يكون القدر المشترك المحفوظ في البين بين العنوانين عنوان لا بشرط وعنوان بشرط لا.
فالمصدر والمشتق
متباينان مفهوما كما انهما متخالفان مصداقا نحو الضرب والضارب مثلا ، بخلاف النوع
الاول ، لانه القدر الجامع في البين ، لان المشتق مطلق ، والمبدأ مقيد ، والجامع
بينهما محقق قطعا ، والفرق اعتباري.
فاشكال صاحب (الفصول)
قدسسره على الفرق بين المشتق والمبدإ في غير محله ، اما تقرير
اشكاله فهو الفرق بين المبدإ والمشتق غير صحيح ، لانا اذا تصورنا المصدر لا بشرط
كالمشتق فهو آب عن الحمل على الذات ، نحو العلم والحركة مثلا ، فان ـ أي المصدر ـ
وان لوحظ لا بشرط كالمشتق فلا يحمل على الذات ، فلا يقال (زيد علم أو حركة).
فالمصدر سواء لوحظ بعنوان بشرط لا ، أم لوحظ بعنوان لا بشرط ، فهو آب عن الحمل على
الذات. فالفرق المذكور غير صحيح ، كما لا يخفى.
قوله
: وغفل عن ان ...
الخ اجاب المصنف قدسسره عنه بان مرادهم من اللابشرط ومن بشرط لا ، ليس بملاحظة
الطوارئ والعوارض الخارجية حتى يرد اشكال صاحب (الفصول) قدسسره كما ذكر ، بل المراد منهما بحسب الحقيقة والمفهوم مع قطع
النظر عن الطوارئ والعوارض ، يعني ماهية مفهوم المصدر تكون على النحو الذي يأبى عن
الحمل على الذات وعن الاتحاد معها في الخارج.
اما ماهية مفهوم
المشتق فعلى النحو الذي لا يأبى عن الحمل على ذات من الذوات وعن الاتحاد معها
خارجا. فاذا لاحظنا المصدر ، باي عنوان سواء كان بعنوان لا بشرط أم بغيره ،
فمفهومه آب عن الحمل والاتحاد مع ذات من الذوات ، كما يظهر من الفلاسفة ، هذا
المعنى من اللابشرط ومن بشرط لا في بيان الفرق بين الجنس والفصل وبين المادة
والصورة ، اذ مفهوم الاوّلين لا بشرط ولاجل هذا فهو غير آب عن الحمل على الذات وعن
الاتحاد معها مصداقا في الخارج ، فيصح ان
تقول (الانسان
حيوان) كما يصح قولك (الانسان ناطق). ومفهوم الثانيين ، بشرط لا ، فلذا هو آب عن
الحمل على الذات والاتحاد معها خارجا ، فلا يجوز ان يقال (الانسان بدن أو نفس)
فهذا معنى لا بشرط في الاولين منتزع عن حقيقتهما ، وماهية مفهومهما ، يعني مفهوم
الجنس والفصل على النحو الذي لا يأبى عن الحمل وعن الاتحاد مع الذات مصداقا كما
علم من المثال.
واما معنى بشرط لا
في الثانيين فمنتزع ايضا عن ماهية مفهومهما مع قطع النظر عن طوارئه وعوارضه ،
فالمراد منهما ما هو المنتزع عن حقيقة المعنى وجرمه فصار المشتق مثل الجنس والفصل
، في كونه غير آب عن الحمل على الذات وعن الاتحاد معها في الخارج كما قال الحكيم
السبزواري قدسسره في منظومته في شرح مفاهيم هذه الأشياء :
جنس وفصل لا
بشرط حملا
|
|
فمدة وصورة بشرط
لا
|
فراجع كتب الحكمة
لا سيما المنظومة للسبزواري.
ملاك الحمل :
قوله
: الثالث : ملاك الحمل كما اشرنا اليه هو الهوهوية ... الخ يعتبر في الحمل الاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر. لانه
مع الاتحاد من جميع الجهات لا تبقى اثنينية حتى يتحقق عقد الوضع وعقد الحمل
للموضوع في القضية. كما انه مع التغاير من جميع الوجوه لا يصح الحمل لكون الموضوع
والمحمول متباينين حينئذ والحال انه لا يصح حمل احد المتباينين على المباين الآخر
فلا بد في الحمل ـ سواء كان أوليا ذاتيا ، أو شائعا صناعيا اشتقاقيا ، أو صناعيا
مواطاتيا ـ من الاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر كما هو الامر في المشتقات مع
الذوات ، لمغايرتهما مفهوما ، واتحادهما مصداقا. والحال ان الحمل اتحاد الشيئين في
الخارج ـ أي مصداقا ـ متغايران في الذهن ـ أي مفهوما ـ ولا يعتبر ، مع الاتحاد
المصداقي والمغايرة المفهومية ملاحظة التركيب ، اي ملاحظة المتغايرين شيئا واحدا ،
كما
زعمه (الفصول).
قال في (الفصول)
ان للحمل ثلاثة شرائط :
الاول
: ملاحظة
المتغايرين الذين يكونان ـ نفسا وبدنا ـ شيئا واحدا.
الثاني
: ملاحظة الأجزاء
بعنوان لا بشرط حتى يصح حملها على المركب.
الثالث
: اعتبار الحمل
بالاضافة الى مجموع الأجزاء.
قوله
: ولا يعتبر معه
ملاحظة التركيب ... الخ اجاب المصنف عن قول صاحب (الفصول) قدسسره بقوله ان مجرد الاتحاد بين الموضوع والمحمول من جهة
المصداق يكفي في صحة الحمل ، ولا حاجة الى لحاظ الوحدة بين الشيئين المتغايرين ،
بل لحاظ الوحدة بينهما يكون مخلا بالحمل لان ملاحظة الوحدة والتركيب توجب كون
احدهما جزءا والآخر كلا.
والحال انه لا يصح
حمل الكل على الجزء ولا حمل الجزء على الكل ، فلا يقال ر (أس الانسان انسان) ولا
يقال (الانسان رأس أو قلب) بخلاف الكلي لانه يحمل على جزئياته نحو (زيد انسان) و (عمرو
انسان) وكذا جزئياته تحمل عليه نحو (الانسان زيد ، وعمرو ، وبكر) مثلا ، اذا
لاحظنا الوحدة والتركيب في حمل الانسان على الجسم والناطق ، فلحاظ الوحدة والتركيب
بينهما مضر بالحمل ، لان كل واحد من الجسم والناطق جزء للانسان) وحمل الجزء على
الكل لا يصح وكذا العكس ، فاذا لم يلاحظ التركيب بينهما ـ اي بين الانسان والجسم
أو بين الانسان والناطق ـ فكل واحد منهما كلي ـ اي كل من الانسان والجسم كلي ـ
وحمل احد الكليين على الكلي الآخر جائز قطعا.
هذا ، مضافا الى
صحة الحمل في القضايا الحملية مع عدم ملاحظة المجموع فيها امرا واحدا ، فان
الموضوع في قولنا (زيد قائم) نفس (زيد) بدون ملاحظة المجموع منه ومن القيام فاذا
قلنا (زيد عالم) أو (متحرك) لم نرد بزيد المركب من الذات وصفة العلم أو الحركة ،
وانما نريد به الذات وحدها ، فيمتنع حمل العلم والحركة عليه وان اعتبر لا بشرط ،
لان المصدر صرف الوصف وحمله على الذات
لا يجوز لعدم
الاتحاد.
مع وضوح عدم لحاظ
التركيب بين المتغايرين في مقام التعاريف والتحديدات وسائر القضايا الحملية ، لا
في طرف الموضوعات ، ولا في جانب المحمولات ، الا صرف معاني الموضوعات ومفاهيم
المحمولات لان الاتحاد بين المتغايرين مفهوما محقق في المصداق وهذا كاف للحمل ،
نحو : (الانسان حيوان ناطق) في مقام تعريف الانسان ، فهذه ثلاث كلمات وهي (الانسان)
و (الحيوان) و (الناطق) متغايرات مفهوما ومتحدات مصداقا ، فلذا يحمل الثانيان على
الاول بلا لحاظ التركيب والوحدة بينها ، وهكذا سائر التعاريف والقضايا الحملية
المتعارفة عند القوم.
فان قيل ان
الانسان كلّ مركب من الحيوان والناطق بتعمّل من العقل فيلزم حمل الجزء على الكل ،
فلا بد حينئذ من لحاظ التركيب بهذا المعنى وهو انا اردنا من الانسان ذاته وكونه
حيوانا ناطقا حتى يصح الحمل.
قلنا
: ان المراد في هذا
المقام ان حمل الجزء الخارجي لا يصح على الكل لعدم اتحادهما مصداقا ، كما في الخل
والسكنجبين ، واما الحيوان والناطق فجزء ان عقليان للانسان بتعمّل من العقل ، وحمل
الجزء العقلي على الكل العقلي جائز قطعا. فانقدح ان ملاك الحمل هو الاتحاد من وجه
والمغايرة من وجه آخر ، ولو بنوع من الاعتبار ، فتوهم صاحب (الفصول) في غير محله.
فظهر فساد لحاظ التركيب بين المتغايرين مفهوما في مقام الحد والرسم والحمل كما
توهمه الفصول قدسسره.
موارد النظر في
قول صاحب (الفصول):
قوله
: وفي كلامه موارد
للنظر تظهر بالتأمل وامعان النظر.
احدها
: جعل (الناطق) و (الحساس)
من قبيل المتغايرين اعتبارا ، المتحدين حقيقة ، مع ان التغاير بينهما بحسب
المفهوم.
وثانيها
: جواز حمل احد
المتغايرين على الآخر بمجرد لحاظ التركيب
والوحدة
الاعتبارية ، مع انه في الحمل مطلقا لا بد ان يكون هناك نحو من الاتحاد والهوهوية
الحقيقية ، اما مفهوما ومصداقا ك (الانسان حيوان ناطق) أو مصداقا فقط ـ أي حملها
على الانسان ـ ك (ضاحك) أو (كاتب). غاية الامر ، انه اذا كان الموضوع والمحمول
متحدين مفهوما وماهية وخارجا كما في قولك (الانسان انسان) أو (بشر) فلا بد حينئذ
من فرض المغايرة بينهما بالاجمال والتفصيل بان يكون الاول الذي هو موضوع القضية ،
اشارة الى مجرد الذات ، والثاني اشارة الى الذات مع ذاتياتها التي تمتاز الذات
بسببها عما عداها وتلك ك (الحيوان) و (الناطق) في تعريف الانسان ، وإلّا لم يصح
الحمل ، اي حمل احدهما على الآخر لكونه لغوا.
وثالثها
: ان الحمل يقتضي
تغايرا حقيقيا مع انه مانع عن الحمل ما دام لم يكن الاتحاد الخارجي موجودا بين
المحمول عليه وبين المحمول كما هو ظاهر.
قوله
: الرابع لا ريب في كفاية مغايرة المبدإ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما وان اتحدا عينا وخارجا ، فصدق الصفات مثل (العالم) و
(القادر) و (الرحيم) و (الكريم) الى غير ذلك من صفات الكمال والجلال تصدق عليه
تعالى ... الخ».
الغرض المهم من
الامر الرابع بيان كيفية حمل صفات الباري جلّ وعلا مثل : العلم والقدرة والحياة
والارادة والادراك وغير ذلك من صفات الجلال والكمال على ذات الباري عزّ اسمه ،
وجلّ جلاله ، وعمّ نواله ، لا إله الا هو وحده لا شريك له ، فان صفات الباري عزّ
اسمه تكون عين ذاته ولا تكون حالّة في محل ولا عارضة في معروض كما ثبت هذا
بالبرهان العقلي في محله ، فاذا كان الامر كذلك فكيف يصح ان يقال (الله عالم وقادر
وحيّ) و ... لان مفهوم لفظ الجلالة ومفهوم لفظ العالم والقادر مثلا ، هو واجب
الوجود كما ان مصداقهما هو واجب الوجود فيتحد الموضوع والمحمول في مثل قولك (الله
عالم) مفهوما ومصداقا.
والحال انه لا بد
في الحمل من التغاير المفهومي ومن الاتحاد المصداقي حتى يصح الحمل ، ولو كان
التغاير اعتباريا. وهذا غير ممكن هنا لمقام عينية الصفات والذات المقدس الباري عزّ
اسمه.
قلنا
: ان هذه الاوصاف
مغايرة لذات واجب الوجود مفهوما ، لان مفهوم العلم غير مفهوم واجب الوجود. اذ
مفهوم العلم انكشاف الواقع ، ومفهوم واجب الوجود هو ما يكون وجوده ضروريا ويستحيل
عليه العدم. وهكذا سائر صفات الباري تحمل على الباري جلّ جلاله.
فمبدأ الاوصاف ،
مثل العلم والقدرة وامثالهما ، مغاير لذات واجب الوجود مفهوما ، وهذه المغايرة
كافية في الحمل. فلاجل هذه المغايرة المفهومية تحمل على الباري ، لان المشتق تابع
للمبدإ في التغاير والتوافق ، فاذا كان مفهوم العلم غير مفهوم واجب الوجود ، فكذا
مفهوم العالم يكون غير مفهوم واجب الوجود وان كانا متحدين مصداقا وخارجا.
فساد قول صاحب (الفصول):
قوله
: ومنه قد انقدح ما
في (الفصول) من الالتزام بالنقل ... الخ قد ظهر من اجل كفاية مغايرة المفهومية في
صحة الحمل ، فساد ما في (الفصول). من الالتزام بالتجوز ، بان يراد بالعالم غير
معناه اللغوي ، أو الالتزام بالنقل بان يكون جرى العالم على واجب الوجود بمعنى
حقيقي آخر يناسب معناه اللغوي الاولي.
وفي ضوء هذا :
فالعالم الذي يحمل على واجب الوجود يكون بحسب المفهوم غير العالم الذي يحمل على
غير واجب الوجود ، وكذا سائر صفات الباري عزّ اسمه ، وذلك الالتزام بالتجوز أو
النقل لعدم المغايرة بين مبادئ صفات الباري وذات الباري. لان ذات الباري عين العلم
وعين القدرة ، والعلم عين ذاته المقدسة وكذا القدرة والحياة والارادة والادراك
والقدم والتكلم والصدق.
فالمشتقات من هذه
المبادئ تكون ايضا عين ذاته المقدسة ، نحو : العالم والقادر والحي والمريد والمدرك
والقديم والمتكلم والصادق ، لان المشتقات تابعة للمبادئ في العينية والغيرية مع
الذات فالاول كصفات الباري ، والثاني كصفات وعناوين غير الباري عزّ اسمه وجلّ
جلاله.
وجه فساد قول (الفصول)
بالتجوّز أو النقل في صفات الباري ما عرفت في اول التنبيه من كفاية المغايرة
المفهومية في صحة الحمل ، لان مفهوم العلم والقدرة غير مفهوم واجب الوجود ، فكذا
مفهوم العالم والقادر وسائر صفات الكمال غير مفهوم واجب الوجود ، لان المشتق تابع
لمبدئه في جرم المفهوم واصل المعنى ، كما لا يخفى على الناقد البصير. ولا اتفاق
على اعتبار غير المغايرة المفهومية في صحة الحمل ولو بالاعتبار. فلا يشترط في صحة
الحمل المغايرة الحقيقية بل تكفي المغايرة الاعتبارية ، ان لم نقل بحصول الاتفاق
على عدم اعتبار غير المغايرة المفهومية كما لا يخفى على من راجع كلام القوم.
وقد عرفت في اوّل
التنبيه ثبوت المغايرة المفهومية بين ذات الباري عزّ اسمه وبين مبادئ صفات الباري
وهو واضح.
مغايرة الذات
والمبدإ :
قوله
: الخامس انه وقع
الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة ذهب جماعة الى اعتبار قيام المبدإ بالذات
في صحة حمل المشتق على الذات حقيقة بعد اعتبار المغايرة بين الذات والمبدإ بحسب
المفهوم. وذهب قوم الى انه لا يعتبر قيام المبدإ بالذات في جري المشتق على الذات
حقيقة ، وقد استدلّ من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم ، مع قيام الضرب
والألم ، بالمضروب والمؤلم.
صفات الباري تعالى
:
قال
المصنف : والتحقيق عندي
انه لا ينبغي ان يرتاب من كان من اولي الالباب في انه يعتبر في صدق المشتق على
الذات وجريه عليها من التلبس بالمبدإ وقيام المبدإ بها ، غاية الامر ان التلبس
يختلف ، فقد يكون بنحو الصدور كما في الضارب ، وقد يكون بنحو الحلول كما في العالم
والمريض ، وقد يكون بنحو الوقوع عليه كما في المقتول ، وقد يكون بنحو الوقوع فيه
كما في المقتل. وقد يكون بنحو
انتزاع المبدإ عن
الذات الموصوف مفهوما اي انتزاعا مفهوميا مع اتحاد المبدإ مع ذات الموصوف خارجا
كما في صفات الباري عزّ اسمه ، كما اشار المصنف اليه في اول التنبيه الرابع ، وقد
يكون بنحو انتزاع المبدإ عن الذات الموصوف مع عدم تحقق للمبدإ الا لمنشإ الانتزاع
، كما في الزوج والزوجة والحرّ والرقّ والملك والسابق والمقارن واللاحق ونحوها من
العناوين التي تكون مبادئها من الاضافات والاعتبارات التي لا تحقّق لها في الخارج
الا لمنشإ انتزاعها ولا يكون بحذائها في الخارج شيء ، وتكون هذه العناوين من
الخارج المحمول الذي يسمى عند الفلاسفة بالمحمول بالصميمة ، لا المحمول بالضميمة
الذي يكون من المبادئ المتأصلة التي لها وجود في الخارج حقيقة ولو في ضمن المعروض
كالسواد والبياض ونحوهما.
اعلم : ان الامر
المنتزع يكون على نحوين :
احدهما
: ان يكون الامر
المنتزع عين ذات الباري جلّ وعلا وموجودا بوجود الباري كصفاته الكمالية.
وثانيهما
: ان لا يكون الامر
المنتزع موجودا في الخارج ، بل الموجود فيه انما يكون منشأ للانتزاع مثل الاضافات
والاعتبارات ، نحو : الأبوة والبنوة اللتين لا تكونان موجودتين في الخارج وانما
يكون الموجود فيه الشخص الذي خلق من مائه وهو ولده ، وقد خلق من ماء ابيه ، وكذا
الاعتبارات التي لا يحاذيها شيء في الخارج نحو الزوجية والرقية والملكية ونحوها.
لان الموجود في
الخارج هو شخص الزوج والزوجة ، وشخص المالك وعين المملوك ، وفي ضوء هذا ظهر ان
واجدية الذات للمبدإ تتصور على وجوه اربعة :
الاول : ان تكون
بنحو الصدور ، نحو : الضارب.
والثاني : ان تكون
بنحو الحلول ، نحو : زيد مريض.
والثالث : ان تكون
بنحو الانتزاع والاضافة والاعتبار ، نحو : الزوجية والابوة والفوقية.
والرابع : ان تكون
بنحو العينية نحو علم الباري وسائر صفاته الكمالية
الجمالية أو
الجلالية.
اختلاف تلبس الذات
:
قوله
: على اختلاف انحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة واختلاف الهيئات اخرى بيّن المصنف قدسسره بهذا الكلام
اختلاف تلبس الذات بالمبدإ لاجل اختلاف المواد من حيث فعلية المبدإ ، ومن حيث كون
المبدإ ملكة وحرفة وصنعة ، ومن حيث كونه ثبوتا نحو حسن وكرامة ، وحدوثا نحو ضرب
وإكرام ، ولاجل اختلاف الهيئات مثل كون المشتق اسم فاعل واسم مفعول ، واسم مكان
واسم زمان واسم آلة وصيغ مبالغة واسم تفضيل.
قوله
: ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ ... الخ فالعلم والقدرة اللذان يكونان مبدءين ل (عالم) و (قادر)
يكونان مغايرين مفهوما لذات الواجب الوجود فمفهوم العلم غير مفهوم ذات واجب الوجود
، لكن العلم قائم بذات الواجب تعالى عينا وخارجا لكون ذات الواجب متلبسا بالعلم
لكن على نحو قيام الاعتباري العيني ، لا على نحو قيام الحقيقي الذي يقتضي اثنينية
والمغايرة كقيام الضرب بالضارب مثلا ، فيكون صدق العلم عليه تعالى بنحو الحقيقة
وان لم يطّلع على صدقه عليه تعالى اهل العرف لا بأن تكون هناك اثنينية اي كان
العلم شيئا والذات الواجب تعالى شيئا آخر بل بنحو الاتحاد والعينية وكان ما بحذاء
العلم عين ذات الواجب تعالى شانه.
قوله
: وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى
على نحو الحقيقة اذا كان لها مفهوم صادق عليه ... الخ وعدم اطلاع اهل العرف على هذه الأمور والدقائق الخفية من
كون الباري متلبسا بالعلم والقدرة على نحو العينية وعلى الوجه الاكمل ، لا على نحو
الاثنينية والحالية والمحلية ، لا يضرّ بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة اذا كان
للصفات مفهوم صادق عليه حقيقة بتعمّل من العقل السليم ، لان اهل العرف انما يكونون
مرجعا في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها
على صغرياتها
ومصاديقها. فاذا رجعنا اليهم واخذناها منهم فتطبيقها على صغرياتها مفوض الى
العلماء لا اليهم ، والحال ان الباري عزوجل من اكمل المصاديق ، وهو الذات المتلبّس بالمبدإ في الحال.
فاذا علمنا علما
قطعيا ان العالم بماله من المعنى المرتكز في الذهن يصدق عليه تعالى لكون ذات
الباري متلبسا بالعلم على النحو الاكمل ، صدق عليه تعالى على نحو الحقيقة لا على
نحو التجوّز ، فالمرجع هو العقل وتأمل العقل وتعلّمه الدقيق لا العرف.
فتطبيق المفاهيم
على مصاديقها يكون بايدي العلماء قدسسرهم ، وبالجملة يكون مثل العالم والعادل وغيرهما من الصفات
الجارية عليه تعالى من الصفات الثبوتية التي تسمى بالصفات الجمالية والجارية على
غير الباري بمفهوم واحد ومعنى فارد من غير تفاوت في البين ، وان اختلف الباري
وغيره في جري المشتق من اجل الاتحاد فيه تعالى ، ومن التعدد والاثنينية في غيره ،
وفي كيفية التلبس حيث انه بنحو العينية فيه تعالى وبنحو الاكمل فيه جلّ وعلا ،
وبنحو الحلول أو الصدور في غيره ، وبنحو الاضعف في غيره ، فلا حاجة الى تجوّز أو
نقل اذا جرى العالم عليه تعالى ، مثال الحلول : (زيد عالم). مثال الصدور : (زيد
متكلم).
قوله
: فلا وجه لما التزم به في (الفصول) من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي
عليها من المعنى كما لا يخفى ... الخ غرض صاحب (الفصول) قدسسره من النقل هو النقل في هيئات الصفات فهيئة العالم في غيره
تعالى حقيقة في الذات المغايرة مع المبدإ ، وفيه جلّ وعلا قد نقلت الى الذات
المتحدة مع المبدإ.
قال صاحب (الفصول)
قدسسره انا نلتزم بالنقل مع ان الاصل عدم النقل لوجهين :
الاول
: عدم قيام المبدإ
بالذات لان المبدأ عين الذات المقدسة وذات الباري عين المبدإ فلا يعقل القيام ، مع
ان قيام المحمول بالموضوع معتبر في الحمل.
والثاني
: لعدم المغايرة
بين المبدإ والذات المقدسة ، مع ان الحمل اتحاد الشيئين في الخارج مع تغايرهما في
الذهن.
اما الجواب عن
الاول فنقول : يشترط في الحمل القيام سواء كان عينيا أم كان صدوريا أم كان حلوليا
، ففيه تعالى يكفينا القيام العيني. واما عن الثاني : فلوجود المغايرة بين الذات
المقدسة والمبدإ من حيث المفهوم ، وهذا المقدار من المغايرة كاف في صحة حمل المشتق
عليه تعالى وفي كونه حقيقة فيه.
فاعترض المصنف قدسسره على (الفصول) بقوله اما ان نريد من لفظ العالم في قولنا (الله
عالم) الذات التي ينكشف لديها الواقع فذاك هو المعنى العام للفظ العالم الذي يشمل
علم الباري وعلم غيره. غاية الامر علم الباري جلّ وعلا يكون على النحو الاكمل وعلم
غيره على النحو الاضعف ، واما ان نريد من لفظ العالم في المثال المذكور ان الله
تعالى مصداق لوصف يقابل ذاك المعنى المذكور وهو انكشاف الواقع والمعنى الذي يقابله
عدم انكشاف الواقع ، وهو عبارة اخرى عن الجهل بالواقع فتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
واما ان لا نريد
من لفظ العالم شيئا معلوما لنا وهو انكشاف الواقع فيكون هذا الاخير صرف لقلقة اللسان
وكون صفات الباري بلا معنى وهو لا ينفع للقائل. فالاخيران باطلان. فالمتعين هو
الاول.
في اشكال قول صاحب
(الفصول):
قوله
: والعجب انه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره ... الخ جعل صاحب (الفصول) قدسسره نقل صفات الباري عن معناها اللغوي الى المعنى الثاني بالاضافة
اليه سبحانه وتعالى علة ، لعدم صدقها بما لها من المعنى في حق غيره تعالى ، بالنحو
الذي تصدق به في حقه سبحانه ، اي صدق الصفات على الباري عزّ اسمه يكون بعد النقل
على نحو العينية ، وصدقها على غيره قبل النقل على نحو المغايرة والاثنينية وعلى
نحو الحالية والمحلية ، وجه عجب المصنف منه ما تقدم من صدق العالم على الباري جلّت
عظمته وعلى غيره يكون بمعنى واحد ، وهو انكشاف الواقع ، غاية الامر في الباري على
نحو العينية ، وفي غيره على نحو الحلول او الصدور ، فانكار
صاحب (الفصول) صدق
الصفات على غير الباري جلّ جلاله بالمعنى الذي نطلق عليه تعالى في غير محلّه كما
عرفت سابقا.
الخلل في استدلال
الجانبين :
قوله
: وبالتأمل فيما ذكرنا ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين ... الخ وظهر من التحقيق الذي مضى فساد دليل النافي لاعتبار قيام
المبدإ بالذات في صدق المشتق على الذات حقيقة وقد استدلّ بصدق الضارب والمؤلم مع
قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم. وجه الفساد عدم الفرق ، اي عدم فرق النافي
بين المصدر مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول فان الضرب والايلام بمعنى التأثير اذا
كانا بمعنى الفاعل والتأثير قائم بالضارب والمؤلم ، كما انهما بمعنى الأثر اذا
كانا بمعنى المفعول. وهو قائم بالمفعول.
فالقيام اي قيام
المبدإ موجود في صدق المشتق على الذات حقيقة وهو شرط لا غبار عليه ، غاية الامر ان
قيام المبدإ مختلف كما سبق فلفظ (الجانبين) في كلام المصنف يكون بلفظ الجمع ، اذ
ليس في المسألة الا الاستدلال من جانب المخالفين ، ولكن قال المصنف : هذا اللفظ
على هيئة الجمع السالم باعتبار افراد المخالف ، لا بلفظ التثنية كما توهم في هذا
المقام.
كما انه ظهر من
التحقيق السابق المحاكمة بين المثبت والنافي لان الحاكم يحكم بالصلح ، لان منظور
المثبت هو اعتبار قيام المبدإ بالذات في صدق المشتق حقيقة هو تلبس الذات بالمبدإ
سواء كان صدوريا أم كان حلوليا.
ولان مراد النافين
عدم اعتبار تلبس الذات بالمبدإ على نحو الحلول فقط في صدق المشتق حقيقة على الذات
فيصح ان تقول (زيد مريض) اذا انقضى عنه المرض ، اما اذا كان التلبس على نحو الصدور
أو على نحو الانتزاع والاعتبار والاضافة فالنافي يشترط قيام المبدإ بالذات في صدق
المشتق حقيقة فيوافق قوله : لمذهب المثبت فلا نزاع في البين حينئذ وهو ظاهر.
قوله
: فتأمل وهو اشارة
الى ان غرض (الفصول) من نقل صفات الباري عزّ اسمه هو النقل في هيئات الصفات
والمشتقات لا النقل في موادها فلا يرد عليه ما اورده المصنف من اللقلقة في اللسان
كما مرّ.
والغرض من نقل
الهيئة هو ان اطلاق العالم والقادر لا يجوز على غيره تعالى اما اطلاق المبادئ
كالعلم والقدرة ونحوهما جائز على غيره بمفهوم واحد.
غاية الامر على
الباري على نحو العينية والاكملية وعلى غيره على نحو الحالية والمحلية والاضعفية.
قوله
: السادس الظاهر انه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبس بالمبدإ
حقيقة وبلا واسطة في العروض ... الخ اعلم ان صدق المشتق على الذات حقيقة لا يتوقف على كون
اسناد المشتق حقيقيا والى من هو له كما في (الماء جار) حيث ان اسناد الجريان الى
الماء يكون بلا واسطة في العروض ، وحقيقيا ، بل اذا كان اسناده الى الذات مجازيا
والى غير من هو له نحو (النهر جار) و (جالس السفينة متحرك) لم يكن مضرّا بصدق
المشتق على الذات على نحو الحقيقة.
والمضرّ فيه هو
المجاز في الكلمة لا المجاز في الاسناد كما في (الميزاب جار) فاسناد الجريان الى
الميزاب ، وان كان اسنادا الى غير ما هو له وبالمجاز ، إلّا انه في الاسناد لا في
الكلمة. فالمشتق الذي هو (جار) في المثال قد استعمل في معناه الحقيقي وان كان
المبدأ ، وهو الجريان ، مسندا الى الميزاب بالاسناد المجازي ، اذ الجريان ليس
قائما بالميزاب بل بالماء لكنّ في كون الماء من الواسطة في العروض تأملا لان
الميزاب لا يجري ولو بتبع جريان الماء فيه كحركة (جالس السفينة) بتبع حركة السفينة
فليس المجاز لا في مادة الجريان في المثال لانها قد استعملت في معناها الحقيقي وهو
السيلان والجريان ولم يرد منها معنى آخر. غاية الامر ان اسنادها الى الميزاب مجازي
لعدم قابليته للسيلان ، ولا في هيئته لان الهيئة قد استعملت في معناها الحقيقي وهو
الذات المتلبسة بالمبدإ في الحال. غاية الامر ان حمل المشتق على الميزاب مجازي بالعلاقة
الحالية والمحلية يعني انه ذكر
المحل وهو الميزاب
واريد الحال وهو الماء الجاري فيه.
ولكن ظاهر (الفصول)
بل صريحه اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق على الذات حقيقة ، وكأنّ (الفصول)
خلط بين المجاز في الاسناد المسمى بالمجاز العقلي وبين المجاز في الكلمة المسمى
بالمجاز اللغوي.
فاذا كان المجاز
في الاسناد فيصدق (جار) على الميزاب ولو عناية ومجازا وعرفت ان المجاز في الاسناد
لا يستلزم المجاز في الكلمة. بقي هنا ثلاثة مطالب :
الاول
: ان المجاز على
ثلاثة اقسام :
القسم
الاول : المجاز في الكلمة
، وهو استعمال الكلمة في غير معناها الاصلي لمناسبة بين المعنى الحقيقي وبين
المعنى المجازي.
القسم
الثاني : المجاز في الحذف
، وهو ما اذا حذف المضاف واقيم المضاف اليه مقامه واعرب المضاف اليه باعراب المضاف
نحو (جاء ربك) اي امر ربك أو حكم ربك لاستحالة مجيء الرب جلّ وعلا ، وهو المسمى
بالمجاز في الاعراب ايضا.
القسم
الثالث : المجاز في
الاسناد ، نحو (زيد عدل) فالموضوع والمحمول في هذا المثال قد استعملا في معنييهما
الحقيقيين ، ولكن يحكم العقل بان اسناد العدل الى (زيد) مجاز وهو المسمى بالمجاز
العقلي ايضا.
الثاني
: الثمرة في بساطة
مفهوم المشتق أو تركبه هي انه اذا قلنا ببساطته فتعريف الانسان بالناطق وحده أو
الضاحك وحده لا يصح لعدم الترتيب في الشيء الواحد ، والحال ان النظر عبارة عن
ترتيب امور معلومة لتحصيل امر مجهول ، واذا قلنا بتركبه فتعريف الانسان بهما صحيح
، كما ان الاول يسمى حدا ناقصا ، والثاني رسما ناقصا عند اهل المنطق.
الثالث
: بيان الثمرة
الفقهية على بحث المشتق ، وهي انه تترتب امور عليه : احدها : كراهة البول تحت
الشجرة التي لا ثمرة لها فعلا مع كونها ذات ثمرة قبلا ، فان قلنا بوضع المشتق
للاعم فهو مكروه ، وان قلنا بوضعه لخصوص المتلبّس بالمبدإ في
الحال فهو غير
مكروه.
وثانيها
: كراهة الوضوء
والغسل بالماء الحار بحرارة الشمس بعد صيرورته باردا ، فان قلنا بوضعه للاعم فهما
مكروهان ، وان قلنا بوضعه للمتلبس فلا يكونان مكروهين به.
ثالثها
: اذا عرض الجلل
على مأكول اللحم وزال عنه الجلل بواسطة الاستبراء ، فان قلنا بوضعه للاعم حرم اكل
لحمه ، وان قلنا بوضعه للمتلبس لم يحرم اكله.
رابعها
: في تحريم الزوجة
الكبيرة التي ارضعت زوجة صغيرة كما مر مفصلا فلا نعيده. كما ان بيان الاستبراء
كمّا وكيفا موكول الى علم الفقه.
الاوامر
قوله
: المقصد الاول في الاوامر ، وفيه فصول ، الاول : فيما يتعلق بمادة الامر من
الجهات وهي عديدة. الاولى : انه قد ذكر للفظ الامر معاني عديدة :
منها
: الطلب ، كما يقال
(أمره بكذا) ، اي طلب منه كذا.
ومنها
: الشأن ، كما يقال
(شغله أمر كذا) ، اي شان كذا.
ومنها
: الفعل ، كما في
قوله تعالى : (وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) اي فعله.
ومنها
: الفعل العجيب ،
كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا) أي فعلنا العجيب.
ومنها
: الشيء ، كما تقول
(رأيت اليوم امرا عجيبا) ، اي شيئا عجيبا غريبا.
ومنها
: الحادثة ، كما
تقول (وقع امر كذا) ، اي حادثة كذا.
ومنها
: الغرض ، نحو (جاءك
زيد لامر كذا) ، اي لغرض كذا ، وقد ذكر معاني أخر لها.
ومنها
: الحال ، نحو (زيد
امره مستقيم) ، اي حاله.
ومنها
: القدرة ، نحو
قوله تعالى : (مُسَخَّراتٍ
بِأَمْرِهِ) اي بقدرته.
ومنها
: الصنع ، نحو قوله
تعالى : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ
أَمْرِ اللهِ) اي من صنع الله تعالى. وغيرها.
__________________
قوله
: ولا يخفى ان عدّ بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ... الخ ولا يخفى ان عدّ اكثرها ، ما عدا الطلب والشيء والفعل ، من
باب اشتباه المصداق بالمفهوم ، فان لفظ الامر في قولك (جاء زيد لامر كذا) لم
يستعمل في مفهوم الغرض بل استعمل فيما هو مصداق الغرض واللام لامر قد دلت على
الغرض نحو : ضربت زيدا للتأديب ، وفي قولك : (وقع امر كذا) لم يستعمل في مفهوم
الحادثة بل استعمل فيما هو مصداق الحادثة.
وهكذا الحال في
قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا) اذ لم يستعمل لفظ الامر في مفهوم الفعل العجيب ، بل فيما
هو مصداق الفعل العجيب ، وهو هلاك قوم لوط ، لان المراد منها هو الحادثة الخاصة ،
والغرض الخاص ، والفعل العجيب الخاص ، والشأن الخاص الجزئي ، وهي من مصاديق
المفاهيم الكلية. ولا تكون هذه الأمور من مفهوم لفظ الامر لان مفهوم لفظ الامر هو
الطلب الذي هو عبارة عن السعي نحو الشيء نحو طلب الماء وطلب الغريم والضالة والشأن
والفعل.
غاية
المطلب : انه تكون لكل
واحد منها مصاديق وجزئيات عديدة ، نظير لفظ (الرجل) إذ مفهومه اللغوي هو كل مفرد
مذكر من الناس اي كل ذات ثبت له الرجولية ، ولهذا المعنى الكلي مصاديق عديدة في
عالم الخارج فاذا استعمل لفظ (رجل) في (زيد وعمرو وبكر) مثلا ، يكون مستعملا في
المصداق لا في المفهوم فكذا ما نحن فيه ، طابق النعل بالنعل.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى ان كون اللام لغرض في لامر كذا فاسدا لان معنى المثال يكون على هذا النحو (جاء
زيد لغرض لغرض كذا) على نحو التكرار وهو بعيد في القرآن الكريم لانه لا يليق
بالفصاحة والبلاغة ، بل تكون للتعليل والغرض مستفاد من لفظ الامر اي مصداق الغرض.
تحقيق قول صاحب (الفصول)
وفساده :
قوله
: وبذلك ظهر ما في دعوى (الفصول) من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الاوّلين ...
الخ ولاجل الفرق بين
المفهوم والمصداق ظهر فساد دعوى صاحب (الفصول) من كون لفظ الامر حقيقة في الطلب
والشأن ، فاعترض عليه المصنف بان لفظ الامر لم يستعمل في مفهوم الطلب وفي مفهوم
الشأن حتى عدّا من معنى لفظه بل استعمل في مصداقهما دائما. فاشتبه صاحب (الفصول)
المصداق بالمفهوم فلذا ادعى هذه الدعوى ، وهي غير مسموعة.
قوله
: ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ، هذا بحسب العرف واللغة ...
الخ فاختار المصنف قدسسره كون لفظ الامر حقيقة عرفا ولغة في الطلب الوجوبي الصادر من
العالي فقط لا في مطلق الطلب ، وفي الشيء وهو يشمل الاعيان كالماء والحنطة وغيرهما
، والصفات سواء كانت ممدوحة نحو العدل والسخاء ونحوهما ، أم كانت مذمومة كالحسد
والحقد والبخل ونحوها ، والافعال سواء كانت حسنة كالاعطاء والاكرام ، أم كانت
قبيحة نحو التوهين للمؤمن وسبه بغير حق وما شابههما.
فالشأن والغرض
والحادثة والفعل العجيب والفعل والحال والقدرة والصنع كلها من مصاديق الشيء
وجزئياته ، هذا بحسب العرف واللغة ، واما بحسب الاصطلاح ، اي اصطلاح الاصوليين ،
فقد نقل اتفاقهم على ان لفظ الامر حقيقة ثانوية في القول المخصوص وهو صيغة (افعل)
ومجاز في غيره من الأمور المذكورة سابقا.
قوله
: ولا يخفى انه عليه لا يمكن منه الاشتقاق فان معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا ...
الخ فاتفق على ان لفظ
الامر حقيقة في القول المخصوص وهو (افعل) وما في معناه من الامر ، بلام الطلب ،
مثل (لتفعل) ، ومثل اسماء الافعال التي بمعنى الامر الحاضر ك (نزال) بمعنى (انزل) و
(تراك) بمعنى اترك ، ولكن هذا المعنى ينافي سائر المشتقات التي اشتقت من لفظ الامر
وهي ألفاظ (آمر ومأمور وأمرت ويأمر) وغير
ذلك ، لان لفظ
الامر اذا كان اسما ل (أفعل) وكان (افعل) معنى لفظ الامر فلا يكون معناه حينئذ
معنى مصدريا حدثيا حتى يصح الاشتقاق منه نظير لفظ الامر اذا كان بمعنى الشيء وهو
غير قابل للاشتقاق ، فكذا ما نحن فيه. والحال ان الظاهر ان المشتقات المذكورة
بالمعنى الاصطلاحي تشتق منه ، ولا يكون اشتقاقها من لفظ الامر بمعنى آخر ظاهرا.
فهذا الاتفاق ينافي هذه المشتقات قطعا ، فلا بد من ان نلتزم باحد امرين : اما ان
يكون الاشتقاق من لفظ الامر بغير معناه الاصطلاحي المتفق عليه ، واما ان نمنع الاتفاق.
قوله
: فتدبر وهو اشارة
الى انه يمكن تصحيح دعوى الاتفاق المذكور والالتزام بكون مبدإ اشتقاق المشتقات هو
لفظ الامر بمعنى آخر غير القول المخصوص.
قوله
: ويمكن ان يكون
مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه ... الخ ويمكن ان يجمع بين الاتفاق المذكور
وبين كون لفظ الامر بمعناه الاصطلاحي المتفق عليه مبدأ للاشتقاق بهذا النحو وهو ان
مراد العلماء كون لفظ الامر حقيقة في الطلب بالقول لا في نفس القول المخصوص حتى لا
يكون قابلا للاشتقاق ، لان القول المخصوص جامد لا يصلح للاشتقاق فاذا كان لفظ
الامر حقيقة في الطلب بالقول المخصوص فيكون الطلب معنى حدثيا مصدريا قابلا
للاشتقاق.
فلذا اشتق منه (أمر
يأمر آمر مأمور أمرت و ...) فان قيل : ان وجه تعبير العلماء من الطلب بالقول الذي
هو معنى حقيقي للفظ الامر بنفس القول وقالوا ان الامر حقيقة في القول المخصوص ،
فيستفاد منه ان مدلول الامر هو القول المخصوص لا الطلب المصدري ، قلنا أنه بلحاظ
دلالة صيغة الامر على الطلب يعني اطلقوا اسم المدلول وهو الطلب مسامحة على الدالّ
، وهو القول المخصوص ، لمناسبة بين الدال والمدلول ، وهي عبارة عن اندكاك المدلول
في الدالّ ، لان الطلب بالقول الذي هو مدلول لفظ الامر يندك في القول المخصوص.
اذا علم ما ذكرنا
فنقول ان المراد من المعنى الآخر الذي ذكر سابقا في وجه
التدبر هو الطلب
بالقول المخصوص.
قوله
: نعم القول المخصوص اي صيغة الامر اذا اراد العالي بها الطلب ... الخ اذا اراد العالي بصيغة الامر طلب المبدإ من السافل فيكون هذا
من مصاديق الامر بما هو طلب لا بما هو قول مخصوص ، وستعرف عن قريب اعتبار العلوّ
في معنى الامر ، لكنه من مصاديق الامر بما هو طلب المطلق أو طلب مقيّد بالوجوب على
الخلاف الذي سيأتيك من كون صيغة الامر لمطلق الطلب ، سواء كان وجوبيا أم كان ندبيا
او للطلب الوجوبي فقط لا من مصاديق الامر بما هو شأن او حادثة او غير ذلك مما قيل
في معنى لفظ الامر ومادته.
فالقول المخصوص
وهو صيغة (افعل) مصداق للامر بما هو طلب لا بما هو قول مخصوص ، وكيف كان فالامر
سهل لو ثبت نقل لفظ الامر عن معناه اللغوي والعرفي الى القول المخصوص ، والحال انه
لا مشاحّة في الاصطلاح لانه يحتمل ان يكون معنى لفظ الامر في الاصطلاح قولا مخصوصا
نحو (صلّ وصوموا) وان يكون الاشتقاق من مادة الامر بمعنى آخر فهذا الامر ليس بمهم
لنا اذ الاشتقاق منه مسلّم لا غبار عليه ، واما المهم لنا بيان معناه اللغوي
والعرفي ليحمل لفظ الامر على هذا المعنى اذا ورد في الكلام مجردا عن القرينة ،
نظير الفاظ العبادات. على ان استعمال لفظ الامر في المعاني العديدة نحو الطلب
والفعل والشأن وغيرها في القرآن الكريم والسنة الشريفة يكون على نحو الاشتراك
اللفظي أو المعنوي او على نحو الحقيقة والمجاز.
توضيح
لا يخلو من فائدة : وهو بيان الفرق بين الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي ، والحقيقة والمجاز ،
فنقول انه في الاول يشترط تعدد الوضع وتعدد الموضوع له ، فاستعمال لفظ الامر على
هذا المبنى في كل واحد من المعاني يكون على نحو الحقيقة ، غاية الامر يحتاج هذا الاستعمال
الى قرينة معيّنة. وفي الثاني يشترط وحدة الوضع ووحدة الموضوع له الذي يكون كليا
له مصاديق عديدة. فالاستعمال في كل واحد من مصاديق معناه الكلي يحتمل ان يكون على
نحو الحقيقة اذا
لم نلاحظ في مقام استعمال المشخصات الفردية ، ويحتمل ان يكون مجازا اذا لاحظناها
فيه.
نهاية المطلب
يحتاج الاستعمال على هذا القول في كل واحد من المصاديق الى قرينة مفهمة.
وفي الثالث يشترط
ان يكون الوضع لواحد من المعاني ، واستعمل لفظ الامر في غيره مجازا لمناسبة موجودة
بين المعنى الحقيقي والمجازي.
منتهى الامر :
يحتاج استعمال لفظ الامر في المعنى المجازي الى قرينة صارفة وما ذكر في ترجيح
بعضها على بعض عند تعارض هذه الاحوال لو سلّمناها ولم يعارض المرجّح بمثله فلا
دليل على الترجيح به.
والتفصيل
: انه اذا دار
الامر بين الاشتراك والمجاز قال بعض بترجيح الاشتراك عليه لغلبة الاشتراك ، وقال
بعضهم الآخر بترجيح المجاز لغلبة المجاز ، وعلى هذا قياس سائر المرجحات التي قد
ذكروها في تعارض الاحوال ، ففيه :
اولا : عدم تسليم
هذه المرجحات.
وثانيا : انه بعد
تسليم تلك المرجحات فهي معارضة بمثلها ، مثل غلبة الاشتراك التي تعارض بغلبة
المجاز مثلا.
وثالثا : انه بعد
تسليمها وبعد الغض عن معارضتها بمثلها لا دليل على اعتبارها لانها وجوه استحسانية
تفيد الظن ، والاصل حرمة العمل به الا ما خرج بالدليل.
نعم اذا انعقد
الظهور للفظ الامر في احد الأمور فيحمل عليه وان لم يكن هذا الظهور مستندا الى حاق
اللفظ بل الى الانصراف الناشئ من كثرة الاستعمال أو من غلبة الوجود ، فاذا لم
ينعقد الظهور لاجل تعارض الوجوه والمرجحات بمثلها فلا بد حينئذ من الرجوع الى
الاصل في مقام العمل. والمراد من الاصل هو الاصل العملي من الاستصحاب والبراءة
والاشتغال على حسب اختلاف الموارد.
وتفصيل
هذا : انه اذا كانت للمورد
حالة سابقة فيجري الاستصحاب ، وان لم
تكن للمورد حالة
سابقة ، فان كان الشك في التكليف فتجري البراءة ، وان كان الشك في المكلّف به مع
العلم بالتكليف فيجري الاشتغال.
مثال
الاستصحاب : ما اذا امر
المولى في الامس أمرا وجوبيا عبده وفي اليوم الحاضر شككنا في بقاء الوجوب وزواله
فنستصحب بقاءه ، لتمامية اركان الاستصحاب ، وهي اليقين السابق والشك اللاحق.
مثال
اصالة البراءة : فاذا شككنا في امر المولى بعمل أأمر به أم لا؟ أجرينا البراءة.
ومثال
اصالة الاشتغال والاحتياط : هو ما اذا علمنا أمر المولى عبده بعمل ، ولكن لا نعلم انه
فعل صلاة الجمعة أو فعل صلاة الظهر ، فنجري اصالة الاشتغال ونفعلهما كليهما
احتياطا ، فاذا انعقد ظهور للفظ الامر في احد المعاني حمل عليه عملا باصالة الظهور
التي استقرّ عليها بناء العقلاء. وان لم يعلم ان لفظ الامر حقيقة في هذا المعنى
الظاهر بالخصوص أو حقيقة فيما يعمه ، اي في المعنى العام الذي يشمل المعنى الظاهر
وغيره للوجه الذي ذكر سابقا وهو حجيّة اصالة الظهور ببناء العقلاء ، كما لا يبعد
ان يكون لفظ الامر ظاهرا في المعنى الاول وهو الطلب الحتمي.
اعتبار العلو في
معنى لفظ الامر :
قوله
: الجهة الثانية الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر ... الخ اعلم ان في معنى كلمة الامر خمسة اقوال :
الاول
: اعتبار العلو
فليس طلب السافل أو المساوي امرا.
الثاني
: اعتبار الاستعلاء
فليس طلب الخافض جناحيه أمرا ، وان كان من العالي.
الثالث
: اعتبار أحدهما
اما العلو واما الاستعلاء على سبيل منع الخلوّ.
الرابع
: اعتبار العلو
والاستعلاء جميعا.
الخامس
: عدم اعتبار شيء
منهما ، بل الطلب أمر سواء صدر من العالي أم
صدر من المستعلي
أم صدر من المساوي أم صدر من السافل.
اختار المصنف
القول الاول ، ولذا قال كما ان الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء في مفهوم الامر ،
فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان خافضا لجناحيه.
وردّ المصنف القول
الثالث بقوله واما احتمال اعتبار العلو أو الاستعلاء فضعيف لما سيأتي.
قوله
: وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ... الخ هذا اشارة الى ردّ استدلال القائل باعتبار الاستعلاء في
مفهوم الامر ، واحتجّ هذا القائل بانا نقطع بان العبد اذا قال لسيّده على وجه
الاستعلاء (انت مأمور بكذا) أو (أمرتك بكذا) ذمّه العقلاء واستقبحوه ، ولو لا صدق
الامر على ما صدر منه لما توجّه عليه الذم واللوم والتوبيخ. فاجاب عنه المصنف ان
الذم واللوم انما يكونان على استعلائه لا على أمره حقيقة ، والحال انه في صحة سلب
الامر عن طلب السافل ولو كان مستعليا كفاية في رد هذا القول.
فلو أطلق الامر
على طلب السافل أو على طلب المساوي كان بنحو من العناية والمجاز ، فالقول الثاني
وهو اعتبار الاستعلاء في مفهوم لفظ الامر ، والقول الثالث وهو اعتبار احدهما في
مفهومه ضعيفان بل فاسدان لوجهين :
الاول : لعدم
التبادر من اطلاق لفظ الامر طلب السافل أو المساوي ولو كانا مستعليين.
والثاني : لصحة
سلب لفظ الامر بمعناه المرتكز في الذهن عن الطلبين المذكورين ، والحال انهما من
علامات المجاز كما سبق في علامات الحقيقة والمجاز ، فعلم ان اطلاقه عليهما على نحو
المجاز.
فان
قلت : انه لا بد من
العلاقة التي تصحّح التجوز فاي الامر علاقة هنا؟
قلنا
: ان العلاقة هي
علاقة المشابهة ، لان كل واحد من طلب العالي الواقعي وطلب السافل الواقعي وطلب
المساوي الواقعي طلب ، اي طلب الفعل عن المخاطب. ولم يتعرض للقول الرابع والخامس
اصلا لان حال الرابع يعلم من حال
الثاني والثالث
ويعلم حال الخامس من اختيار القول الاول في معنى لفظ الامر وهو طلب العالي واقعا.
دليل المصنّف على
مدّعاه :
قوله
: الجهة الثالثة لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب ... الخ واستدلّ المصنف على كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب فقط ،
لا في القدر المشترك بينه وبين الندب بتبادر الوجوب منه عند اطلاقه وذلك آية
الحقيقة ، ثم ذكر على هذا المطلب مؤيدات ثلاثة :
الاول
: قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ،) بتقريب ان الله تعالى حذّر وخوّف مخالف الامر ، والتحذير
دليل الوجوب ، اذ لا معنى لندب الحذر أو اباحة الحذر لانه ان كان المقتضي للحذر
موجودا فهو واجب ، وان لم يكن المقتضي له موجودا فلا معنى له. ومع التنزل فلا بد
ان يكون الحذر حسنا. ومن المعلوم ان حسنه يتوقف على وجود المقتضي له ، والحال ان
المقتضي له مخالفة الواجب لا مخالفة المندوب ، فضلا عن مخالفة الاباحة. واذا ثبت
المقتضي للحذر ثبت وجوب الحذر عقلا وشرعا لعدم وجود القول بالفصل ، فالآية الشريفة
تدل على كون الامر دالا على الوجوب وحقيقة فيه. وفيه ان الآية الشريفة تدل على
استعمال لفظ الامر في الوجوب وهو اعم من الحقيقة والمجاز ولذا جعلها المصنف مؤيدا
لا دليلا.
والثاني
: قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لو
لا ان اشقّ على امتي لأمرتهم بالسواك» بتقريب ان الرسول الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر مرارا بالسواك على الاستحباب ، فلا بد من كون الامر
للوجوب بعد صدور الامر بالسواك منه مرات على نحو الاستحباب ، وهذا قرينة على كون
الامر في (لامرتهم) للوجوب لا سيما مع لفظ (ان اشقّ) لان الشاق يكون في الوجوب وفي
الحرمة ، فلذا جعل هذا مؤيدا ايضا اذ يحتمل ان تكون دلالة لفظ الامر على الوجوب
للقرينة وهي كلمة ان أشقّ في الحديث الشريف والمدعى دلالة
لفظ الامر على
الوجوب بلا قرينة.
والثالث
: قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لبريرة بعد قولها أتأمرني يا رسول الله : «لا بل انما شافع»
خلاصة الكلام في قصة بريرة ، هي ان بريرة كانت أمة لعائشة بنت أبي بكر وزوجها كان
عبدا ثم اعتقتها عائشة فمتى علمت بريرة بخيارها في نكاحها بعد العتق ارادت مفارقة
زوجها ، فاشتكى الزوج الى النبي الاكرم ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم لبريرة (ارجعي الى زوجك فانه ابو ولدك وله عليك منة) فقالت
: يا رسول الله أتأمرني بذلك؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا بل انما انا شافع» بتقريب ان نفيه صلىاللهعليهوآلهوسلم للامر دليل على كونه للوجوب ، ولذا قالت بريرة له : أتأمرني
يا رسول الله بذلك ، اذ لو لم تكن دلالة الامر على الوجوب مركوزة في الاذهان لم
يكن وجه وسبب لسؤالها منه. هذا لكن فيه ان الاستعمال اعم من الحقيقة والمجاز هذا
اولا.
وثانيا : ان
الوجوب انما يستفاد من لفظ الامر هنا بسبب القرينة ، ولاجل هذا جعله مؤيدا لا
دليلا ، فان قلت : اي قرينة تدل على الوجوب وعلى استعمال لفظ (تأمرني) في الوجوب؟
قلنا : ان القرينة هي مقابلة الامر بالشفاعة ، لانها تستعمل في صورة رجحان الأمر
والفعل والترك.
قوله
: الى غير ذلك اي
الى غير ذلك من موارد استعمال مادة الامر في الكتاب والسنة التي يتبادر منها
الوجوب نحو قوله تعالى : (أُمِرْتُ أَنْ
أَعْبُدَ اللهَ) اي وجبت عليّ طاعة الله وعبادته ، ونحو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «انا مأمور بالتبليغ» اي وجب عليّ البلاغ وغيرهما.
الدليل الثاني
للمصنّف قدسسره :
قوله
: وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة امره ... الخ ثم ذكر المصنف قدسسره الدليل الثاني بعد التبادر وتقريبه صحة الاحتجاج على العبد
وصحة توبيخه على مجرد مخالفة الامر وهو قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) فلو لم يكن الأمر للوجوب لما توجه الذم على إبليس بمجرد
مخالفة
الامر ، ولصح منه
الاحتجاج مع الباري جلّ وعلا ، ولا بد من بيان امرين :
الاول
: ان (لا) فيها
زائدة لا معنى لها لان توبيخ ابليس كان على ترك السجود لآدم عليهالسلام لا على فعل السجود.
والثاني
: انها اجنبية عن
ما نحن فيه ، لان مورد النزاع هو مادة الامر لا صيغة الامر والحال ان المراد من (امرتك)
(اسجدوا لآدم عليهالسلام) لا مادة (امرتك) فلا يكون هذا دليلا على المدعى ، بل
دليلا على كون صيغة الامر للوجوب وهو مطلب آخر.
هذا مضافا الى ان
المراد لو كان المواد اي مادة امرتك لدل على استعمالها في الوجوب وهو لا يدل على
وضعه للوجوب لانه اعم من الوضع ومن الحقيقة.
قوله
: وتقسيمه الى الايجاب والاستحباب ... الخ احتج القائل باشتراك مادة الامر بين الايجاب والاستحباب
بالتقسيم لانه يقال ان الامر اما ايجابي واما استحبابي.
تقريب
الاستدلال : ان مفهوم المقسم
سار في جميع مفهومات الاقسام فيلزم صحة حمل لفظ الامر عليها ، فيقال ان الايجاب
امر وان الاستحباب امر.
فاجاب المصنف قدسسره عن هذا الاستدلال بان هذا التقسيم يدل على ارادة المعنى
الاعم من لفظ الامر بحيث ينطبق عليهما وهو الطلب. واما كون هذه الارادة لا تكون
قرينة دالة على وضعه للاعم وعلى كونه حقيقة في القدر الجامع بينهما ، كما هو
المدعى في مقام التقسيم كما لا يخفى ، اذ ارادة الاعم اعم من الوضع له.
والثاني : انه لا
ريب في جواز استعماله في كل من الوجوب والاستحباب ، فان كان موضوعا للقدر الجامع
فقد ثبت المطلوب وان كان موضوعا لاحدهما فيلزم المجاز في الآخر ، وان كان حقيقة في
كل واحد منهما بوضع على حدة فيلزم الاشتراك والمجاز والاشتراك ، مخالفان للاصل لان
الاصل الحقيقة والاصل عدم الاشتراك.
فنحن نقول
بالاشتراك المعنوي دفعا للمجاز والاشتراك ، فاذا دار الامر بين الاشتراك المعنوي
والاشتراك اللفظي وبين المجاز فالاول خير من الثانيين كما سبق
في بحث تعارض
الاحوال.
فاجاب المصنف قدسسره عنه بتبادر الوجوب من لفظ الامر عند تجرده عن القرينة وهو
آية الحقيقة هذا اولا.
وثانيا : لا دليل
عقليا ولا نقلى يا على اعتبار ترجيح بعض احوال اللفظ على الآخر لانه استحسان ذوقي
لا يفيد القطع.
هذا مضافا الى انه
يلزم على هذا المبنى مجازان اذا استعمل لفظ الامر في خصوص الوجوب وفي خصوص الندب
لانهما غير القدر الجامع بينهما فتفر من المجاز الواحد ولكن تقع في مجازين.
الدليل الثالث :
ان فعل المندوب
طاعة ، وكل طاعة فعل المأمور به. وهذا الدليل مؤلف من صغرى وكبرى على هيئة الشكل
الاول ، ففعل المندوب فعل المأمور به من حيث كونه محمولا على المندوب في النتيجة ،
فلا محالة من ان يكون النادب آمرا والندب امرا لاتحاد المشتق منه والمشتق في مفهوم
الحدث.
جواب المصنّف عن
الادلّة :
فاجاب المصنف قدسسره عنه بانا نمنع الكلية الكبرى لو اريد من المأمور به معناه
الحقيقي وهو المأمور به الوجوبي ، لان الطاعة قد تكون في الواجبات وقد تكون في
المندوبات ، واما لو اريد منه مطلق المأمور به سواء كان واجبا أم كان مستحبا فهذا
لا يفيد المدعى ، لان صدق المأمور به بالمعنى الاعم على فعل المندوب لا يستلزم صدق
المأمور به الحقيقي ، اذ صدق العام لا يستلزم صدق الخاص كما هو مدعى هذا القائل.
والحال ان لازم
الاشتراك المعنوي صدق القدر المشترك بين الفردين عليهما على وجه الحقيقة كصدق (الانسان)
الذي هو القدر المشترك بين (زيد وعمرو)
عليهما على نحو
الحقيقة ، فهذا الدليل مصادرة ولا يصغى اليه.
توضيح
لا يخلو من فائدة : وهو بيان الفرق بين المصادرة والمكابرة ، ان الاول جعل عين المدعى دليلا
لاثباته كما في المقام ، لان القائل بالاشتراك المعنوي يدعي ان المندوب مأمور به
حقيقي كالواجب ونحن نقول في قباله انه مأمور به مجازي فعين المدعى قد جعل دليلا.
وان الثاني عبارة
عن الدعوى بلا دليل ، فالادلة الثلاثة مردودة عند المصنف قدسسره كما لا يخفى على أولي النهى.
قوله
: الجهة الرابعة الظاهر ان الطلب الذي يكون هو معنى الامر ليس هو ... الخ
اتحاد الطلب
والارادة وتغايرهما :
اعلم ان لفظ الطلب
محمول بالاشتراك على الطلب الحقيقي الذي يكون صفة قائمة بنفس الطالب ، وهو الشوق
المؤكد الذي يحصل في نفس الطالب عقيب الداعي الى المطلوب ، فهو من الكيف النفساني
، وعلى الطلب الانشائي الذي ينتزع عن مقام ابراز الارادة وعن مقام اظهار القصد الى
المقصود بقول نحو (أعط زيدا درهما) أو اشارة الى المخاطب بان يفعل كذا. فللطلب
الحقيقي وجود عيني في نفس الطالب ، واما الطلب الانشائي فليس له وجود عيني في
النفس ، نحو الاوامر الامتحانية. فاذا قلنا ان لفظ الامر معناه الطلب أريد منه
الطلب الانشائي الذي لا يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل طلبا مقيدا
بالانشائي بان يقال هذا الطلب طلب انشائي ، ولا يقال ان هذا الطلب الانشائي طلب ،
بخلاف الطلب الحقيقي فانه يقال هذا الطلب طلب نظير الماء المطلق والماء المضاف ،
فانه يقال ان الماء المطلق ماء ، والماء المضاف ماء مضاف ، فصار الاول نظير الماء
المطلق. والثاني نظير الماء المضاف. فثبت التفكيك بين الطلبين الحقيقي والانشائي
الانتزاعي كما في الاوامر الامتحانية فصارت النسبة بينهما عموما من وجه مادة
الاجتماع اذا كانا معا.
ومادة الافتراق من
جانب الحقيقي ما اذا كان موجودا في النفس ولكن لم
يظهره بالقول ولا
بالاشارة لفقد المقتضى .. أو لوجود المانع. ومادة الافتراق من جانب الانشائي في
الاوامر الامتحانية ، لانه يصدق فيها كون المولى آمرا ولا يتوقف صدق ذلك على كون
المولى طالبا في نفسه فعل المأمور به.
والطلب الانشائي
لا يكون بالحمل الشائع طلبا مطلقا بل طلبا انشائيا كما علم سابقا لانه نظير الماء
المضاف سواء انشئ هذا الطلب بوسيلة صيغة (افعل) أم انشئ بمادة الطلب نحو (اطلب منك
كذا) أم كان بمادة الامر مثل (آمرك بكذا) أم كان بالجملة الخبرية نحو (يغتسل
ويتوضأ).
اقسام الطلب :
قوله
: ولو أبيت الا عن كونه موضوعا للطلب فلا اقل من كونه منصرفا ... الخ اعلم ان الطلب يكون على انواع ثلاثة :
الاول
: أن يلحظ الطلب
بحسب المفهوم.
والثاني
: أن يلحظ بحسب
المصداق.
والثالث
: أن يلحظ بحسب
الانشاء بقول أو اشارة بالعين الباكية أو كتابة ، فالاقسام غير متلازمة بل يمكن
التفكيك بينها ، لانه قد يتصور الطالب الطلب في النفس مع صرف النظر عن انشائه
خارجا لفقد المقتضي له ، أو لوجود المانع عنه.
وقد ينشأ الطلب في
الخارج ، والحال انه لا يكون للطالب ميل قلبي الى تحقق المطلوب في الخارج كما في
الاوامر الامتحانية.
نعم قد يجمع الطلب
الانشائي مع الطلب المصداقي اذا كان المطلوب الخارجي مرغوبا ومحبوبا عنده ، فالطلب
المفهومي الذهني هو القدر الجامع بين الطلبين الخارجي والانشائي كما ان الانسان
المفهومي الذهني يكون القدر المشترك بين مصاديقه.
ولا يخفى عليك ان
الميل القلبي يحمل حملا شايعا صناعيا مواطاتيا على الطلب على نحو الاطلاق ، فيقال
ان الطلب هو الميل القلبي بخلاف الطلب الانشائي
فانه يحمل عليه
مقيدا بالإنشائي فيقال ان الطلب الانشائي هو الميل القلبي.
واعلم ايضا ان
الارادة على ثلاثة اقسام كالطلب :
الاول
: ارادة المفهومي
الذهني.
والثاني
: ارادة الحقيقي
الخارجي.
والثالث
: ارادة الانشائي.
وكذا يحمل حملا
شايعا صناعيا على الارادة الحقيقية على نحو الاطلاق بلا قيد ، فيقال ان الارادة
ميل قلبي ، بخلاف اخويها فانه يحمل عليهما مع القيد والتقييد ، فيقال ان ارادة
المفهومي الذهني ميل قلبي ، وان ارادة الانشائي ميل قلبي ، فصار الاول كالماء
المطلق ، والثانيان كالماء المضاف.
اذا علم هذا فلو
منعت قولنا وقلت ان لفظ الامر موضوع للطلب الكلي فلا أقلّ من كون لفظه عند الاطلاق
ينصرف الى الطلب الانشائي من الطلب ، كما ان لفظ الطلب عند الاطلاق منصرف الى
الانشائي من الطلب ، وعلة الانصراف هي كثرة استعماله في الطلب الانشائي عند اهل
العرف ، كما ان الامر والمطلب في لفظ الارادة على عكس لفظ الامر ولفظ الطلب ، فان
المنصرف عنها عند اطلاقها هو الارادة الحقيقية ، وعلة الانصراف تبادرها منها عند
اطلاقها.
ومن اجل الانصراف
ظهر الاتحاد بين الطلب والارادة فلو كانا متغايرين مفهوما لكان المناسب بيانه لا
الانصراف ، غاية الامر أنهما يختلفان في الانصراف كما عرفت آنفا.
هذا مضافا الى حكم
الوجدان باتحادهما مفهوما ، وهو انه بعد العزم والميل الى المراد توجد صفة في
النفس تسمى بالارادة. والتصور والعزم والشوق المؤكد من مقدمات الارادة وليس وراءها
في النفس شيء آخر وضع لفظ الطلب له ، لكن قد يعبّر عن هذه الصفة النفسانية بالطلب
تارة واخرى بالارادة ، كما يعبّر عن تحريك العضلات في الخارج بالارادة الخارجية
المصداقية.
التحقيق في كلام
صاحب الحاشية :
قوله
: واختلافهما في
ذلك إلجاء بعض الاصحاب قدسسرهم الى الميل الى ما
ذهب اليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والارادة خلافا لقاطبة اهل الحق ... الخ
الاختلاف لفظ الطلب ولفظ الارادة في الانصراف ذهب بعض اصحابنا الى المغايرة بين
الطلب والارادة مفهوما ، وهو المحقق صاحب (هداية المسترشدين) قدسسره ، خلافا لاهل الحق قاطبة والمعتزلة ووفاقا للاشاعرة ،
واحتجت الأشاعرة على المغايرة بوجوه ولكن العمدة منها وجهان :
الاول
: انه توجد الارادة
دون الطلب في الاوامر الامتحانية ، لان المولى اراد اختبار عبده أهو مطيع أم عاص؟
او اراد اعتياده امتثال امره فأمره من دون تحقق المطلوب في الخارج.
والثاني
: انهم اثبتوا
الكلام النفسي ، وتوضيحه : ان في الكلام الخبري صفة قائمة في النفس وراء العلم
بالنسبة هي الكلام النفسي الذي يكشف عنه الكلام اللفظي ، وفي الكلام الانشائي صفة
قائمة في النفس غير الارادة هي الكلام النفسي فلو تحقق الكلام النفسي الذي هو
مدلول الكلام اللفظي فقد تحقق الطلب الذهني المفهومي دون الارادة المصداقية
الخارجية عكس الاوامر الامتحانية ، لان الارادة الخارجية اما أن تكون بالكلام
اللفظي واما بالاشارة لا بالكلام النفسي ، كما هو واضح.
الطلب والارادة :
قوله
: فلا بأس بصرف عنان الكلام الى بيان ما هو الحق في المقام ... الخ شرع المصنف قدسسره في بيان الحق في هذا المقام وفي ابطال قول الأشاعرة. قال
انه وان حققناه في حاشيتنا على الفرائد إلّا ان حوالة الرجال الى الكتاب والحاشية
لا تكون خالية عن المحذور ، اما لعدم وجودها عندهم واما لمشقة الرجوع اليها ،
والاعادة لا تكون بلا فائدة ، وافادة المعلم للمتعلم ، فلذا كان المناسب هو تعرض
الحق في كفاية الاصول ايضا.
فاعلم ان الحق كما
عليه اهل الحق ، وفاقا للمعتزلة من العامة وخلافا للاشاعرة ، هو اتحاد الطلب
والارادة بمعنى ان لفظ الطلب ولفظ الارادة موضوعان بازاء مفهوم واحد وما بازاء
احدهما في الخارج يكون ما بازاء الآخر فيتحدان مفهوما ومصداقا كلفظ (الانسان) ولفظ
(البشر) ، كما ان الطلب الذي ينشئ بلفظ الطلب أو بغيره مثل (صلّ) يكون عين الارادة
الانشائية من حيث المفهوم والمصداق.
قوله
: وبالجملة هما متحدان مفهوما وانشاء وخارجا ... الخ قال المصنف ان الطلب والارادة متحدان من حيث المفهوم ومن
حيث الانشاء ومن حيث المصداق. فالطلب المفهومي متحد مع الارادة المفهومية ، والطلب
الحقيقي الخارجي متحد مع الارادة الحقيقية ، والطلب الانشائي متحد مع الارادة
الانشائية ، ولا يكون الطلب الانشائي قائما بالقول متحدا مع الارادة الحقيقية
المفهومية ، فالمغايرة بينهما اظهر من الشمس وابين من الامس.
قوله
: فاذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ... الخ استدل المصنف قدسسره على اثبات اتحادهما بالبرهان الوجداني ، وهو انه اذا رجعنا
الى الوجدان عند طلب شيء ، والامر بذاك الشيء ، لا نجد غير الارادة القائمة بالنفس
صفة اخرى قائمة بالنفس هي الطلب غير الارادة. نعم نجد في وجداننا مقدمات الارادة
عند خطور الشيء بالبال وعند الميل اليه ، وهي تصور الشيء والعلم به والرغبة فيه
والميل اليه وهيجان الرغبة اليه والتصديق العلمي او الظني بفائدته. والجامع بين
هذه الأمور عبارة عن جزم المريد بدفع ما يوجب توقف المريد عن طلب الشيء المراد
لاجل الارادة أو الفائدة.
قوله
: وبالجملة ... الخ لا يكون شيء موجودا في النفس غير الصفات النفسانية التي هي عبارة عن مقدمات
الارادة التي ذكرت آنفا ونفس الارادة ، ولا تكون هناك صفة اخرى قائمة بالنفس تكون
هي الطلب.
وفي ضوء هذا لا
محيص عن القول باتحادهما ، ولا محيص عن ان يكون ذاك الشوق المؤكد الذي يحصل في نفس
المريد ، ويوجب لتحريك عضلات المريد نحو
المراد في ارادة
فعل المراد بالمباشرة ، اذا اراد ان يفعل المراد المطلوب بنفسه ، او الشوق المؤكد
الذي يوجب لامر عبيده بفعل المراد اذا لم يرد المريد فعل المطلوب بنفسه وشخصه ،
وهذا الشوق المؤكد يسمى بالطلب والارادة ، كما يعبر عنه في الاصطلاح تارة بالطلب ،
واخرى بالارادة ، فالطلب والارادة هما الشوق المؤكد وهو امر وحداني كما لا يخفى.
سائر الصيغ
الانشائية :
قوله
: وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية والجمل الخبرية فانه لا يكون غير الصفات
المعروفة القائمة بالنفس من الترجى والتمنى والعلم ... الخ لانا اذا رجعنا الى وجداننا لا نجد ـ عند تمني الشيء ، أو
عند ترجي الشيء ، أو عند الاستفهام عن الشيء ، أو عند النداء ، أو عند القسم ، وفي
صورة التعجب ، وعند العلم ـ غير ارادة المتمني والمترجي وغير ارادة المستفهم به
وغير ارادة المنادي وغير ارادة المقسم لاجله وغير ارادة المتعجّب منه وغير ارادة
المعلوم ، صفة اخرى قائمة بالنفس تسمى بالطلب غير الارادة ، والحال انه قد دل
الكلام اللفظي عليها اي على الصفة الاخرى كما قيل.
ان الكلام لفي
الفؤاد وانما
|
|
جعل اللسان على
الفؤاد دليلا
|
وهذا الشعر منسوب
الى الشاعر الاخطل.
قوله
: وقد انقدح مما حققناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم
الارادة كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل ... الخ اعلم ان الانشاء على قسمين :
الاول
: طلبي كالأمر
والنهي والدعاء والنداء والاستفهام والجملة الخبرية ان استعملت في مقام الانشاء لا
الاخبار. فاذا رجعنا الى وجداننا لا نجد الطلبين في مادة الامر وصيغة الامر غير
ارادة المأمور به بحيث يسمى احدهما طلبا والآخر ارادة ، ولا نجد الطلبين في مادة
النهي وصيغة النهي غير كراهة المنهي عنه بحيث يكون احدهما طلبا والآخر كراهة
المنهي عنه ، ولا نجد الطلبين في مادة الدعاء
وصيغة الدعاء غير
ارادة المدعو به للمدعو له من حيث الوجود نحو (اغفر لي ولوالدي) او من حيث العدم
نحو (لا تكلني الى نفسي طرفة عين) بحيث يسمى احدهما طلبا والآخر ارادة ، ولا نجد
في النداء لا في مادة النداء ولا في صيغة النداء نحو (أنادي ننادي) مثلا ، ولا في
حرف النداء طلبين غير ارادة المنادي ، ولا نجد في الاستفهام الحقيقي غير ارادة طلب
الفهم وغير ازالة الجهل ، واما في غيره فلا نجد غير ارادة التقرير اذا كان تقريريا
وغير ارادة التوبيخ في التوبيخي وغير ارادة الانكار في الاستفهام الانكاري ، ولا
نجد في الجملة الخبرية اذا استعملت في مقام الانشاء نحو (فيتوضأ ويغتسل) غير ارادة
المعنى الحدثي في الاستقبال. فبالنتيجة : فلا عين ولا اثر من الكلام النفسي في هذه
الأمور كما رأيت.
والثاني
: غير الطلبي
كالتمني والترجي والقسم والتعجب. اما اذا رجعنا الى الوجدان فلا نجد غير معاني هذه
الالفاظ وغير ارادة المتمني والمترجي والمقسم له والمتعجب منه صفة اخرى قائمة في
النفس تسمى بالطلب ، فاذا لم يوجد الطلب لم يوجد الكلام النفسي في الذهن لانه
متفرّع عليه. وهذا جواب عن الدليل الثاني للاشاعرة.
واما الجواب عن
الدليل الاول للاشاعرة ، وهو الاوامر الامتحانية والاوامر الاعتذارية ، وهو فاسد
لانه يخلو عن مدعى الأشاعرة لان مدّعاهم هو المغايرة بين الارادة الحقيقية والطلب
الحقيقي ، ففي هذه الاوامر لا تكون الارادة الحقيقية موجودة ولا الطلب الحقيقي
موجودا. نعم يكون الطلب الانشائي موجودا والارادة الانشائية موجودة. ولا يخفى عليك
ان الطلب الانشائي غير الارادة الحقيقية ، كما ان الطلب الانشائي غير الطلب
الحقيقي ، لان الاولين قائمان بالقول أو الإشارة أو الكتابة ، والثانيين قائمان
بنفس المريد الطالب ، فالاستدلال بها خال عن المدعى ، لانه يدل على المغايرة بين
الطلب الانشائي والارادة الحقيقية ، وهو غير قابل للانكار ، فالتمسك بهذا خال عن
الفائدة كما لا يخفى. واحتجّت الأشاعرة ايضا بقول الاخطل الشاعر :
ان الكلام لفي
الفؤاد وانما
|
|
جعل اللسان على
الفؤاد دليلا
|
لانه يستفاد منه
ان محل الكلام هو القلب يعني الكلام النفسي فيجاب عنه :
اولا : بانه ليس
بحجّة لانه لم ينقل عن المعصوم عليهالسلام ، والحال انه ليس آية قرآنية.
وثانيا : انه يحمل
على اعتقاد الشاعر بثبوت الكلام النفسي اجتهادا أو تقليدا.
وبالجملة : لم يكن
استدلال الأشاعرة بالاوامر المذكورة بيّنا ولا مبينا مغايرة الطلب الانشائي مع
الارادة الانشائية ، لا باللزوم البيّن بالمعنى الأخص الذي يلزم من نفس تصور
الملزوم تصور اللازم ، كما يلزم من تصور العمى تصور البصر ، لان العمى هو عدم
البصر لا عدم المطلق. ولذا كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. ولا باللزوم
البيّن بالمعنى الأعم الذي يلزم من تصور الملزوم ومن تصور اللازم الجزم باللزوم ،
كما يلزم من تصور الأربعة ومن تصور الزوج الجزم بلزوم الزوجية للاربعة اي لماهية
الاربعة.
فأدلة الأشاعرة
لاثبات الكلام النفسي ثلاثة : الأول : هو الأوامر الامتحانية ، والثاني : اثبات
الكلام النفسي في الكلام الخبري والانشائي ، والثالث : هو شعر الاخطل ، وكلها
فاسدة.
كون النزاع لفظيا
لا معنويا :
قوله
: ثم انه يمكن مما حقّقناه ان يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين بان
يكون المراد بحديث الاتحاد والعينية ... الخ فاذا اتحد الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية مفهوما ووجودا
، والطلب الانشائي والارادة الانشائية مفهوما ووجودا أيضا ، واذا ثبتت المغايرة
بين الطلب الحقيقي والطلب الانشائي ، وبين الارادة الحقيقية والارادة الانشائية ،
فيمكن ان يقع الصلح بين اهل الحق والمعتزلة وبين الأشاعرة ، بان يقال ان المراد
بالاتحاد هو اتحاد الطلب والارادة الحقيقيين أو الانشائيين ، وان المراد بالمغايرة
والاثنينية الانشائي من الطلب الذي ينصرف اليه الطلب عند اطلاقه ،
والحقيقي من
الارادة كما هو المراد غالبا من لفظ الارادة حين اطلاقها اي اطلاق الارادة ، فيرجع
النزاع لفظيا ، فكلهم قائلون بالاتحاد بين الحقيقيين وبالمغايرة بين الطلب
الانشائي وبين الارادة الحقيقية ، وهكذا بينه وبين الحقيقي من الطلب كما لا يخفى.
فاذن يقع الصلح في البين ويرتفع النزاع من البين ، وهو خير منه ، اي الصلح خير من
الخلاف.
اعلم : ان النزاع
على قسمين :
الاول
: معنوي وهو ما
يكون فيه مورد الاثبات ومورد النفي متحدا.
الثاني
: لفظي وهو ما يكون
فيه مورد الاثبات ومورد النفي متعددا.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى امتناع كون النزاع لفظيا. وتوضيحه : انه لا خلاف في انه سبحانه وتعالى متكلم
لان الأشاعرة قائلون بالكلام النفسي مع كونه غير العلم والارادة والكراهة ، ومع
كونه مدلولا للكلام اللفظي ، وهو معنى قائم بذاته تعالى وهو قديم. وحيث تعذر عليهم
تفسيره بالعلم والارادة والكراهة ضرورة انها ليست كلاما اضطروا الى تفسيره في
الكلام الخبري بالنسبة الايجابية أو السلبية ، وفي الكلام الانشائي بالطلب في
الامر والمنع في النهي.
فالطلب عندهم صفة
قائمة بذاته سبحانه وتعالى قديم ، فلا مجال لان يريدوا به الطلب الانشائي لانه ليس
من صفات النفس ولا هو قديم فظهرت المغايرة بين الطلب والارادة في الكلام النفسي ،
اذ الطلب الحقيقي محقق فيه دون الارادة الحقيقية فالنزاع معنوي في البين ، وردّ
قول الأشاعرة يعلم مما سبق فلا نعيده.
قوله
: دفع وهم لا يخفى انه ليس غرض الاصحاب والمعتزلة من نفي ... الخ فزعم بعض وتوهم ان جواب الاصحاب قدسسرهم من مذهب الأشاعرة هو أن الكلام اما خبري واما انشائي ، ولا
تكون في الانشائيات علاوة على الصفات النفسانية من الارادة في الامر ، والكراهة في
النهي ، والتمني في (ليت) والترجي في (لعل) والنداء في أداة النداء ، والاستفهام
في أدواته ، وغيرها صفة قائمة بالنفس تسمى بالكلام النفسي ، ولا يكون في الاخبار
بعد ادراك الموضوع والمحمول ، والعلم بالنسبة صفة اخرى قائمة
بالنفس تسمى
بالكلام النفسي ، فتوهم المتوهم من هذا الجواب ان الجمل الانشائية اذا دلّت على
هذه الصفات ، والجمل الخبرية اذا دلّت على العلم بثبوت النسبة أو على العلم بلا
ثبوتها ، فيثبت حينئذ الكلام النفسي. ولكن هو خلاف التحقيق ، لان الطلب الذي هو
مفاد هيئة (افعل) طلب انشائي ولا يكون هذا الطلب صفة نفسانية.
وكذا (ليت ولعل)
وأدوات الاستفهام وغيرها موضوعة لانشاء هذه المفاهيم لا لنفس التمني والترجي
والاستفهام و ... وكذا الجملة الخبرية وضعت لنفس الثبوت أو لنفس اللاثبوت ، لا
للعلم بالثبوت أو باللاثبوت ، فهذه الصفات في الانشائيات خارجة عن مدلولاتها ،
وكذا العلم في الاخباريات خارجة عن مدلولاتها.
فيجاب عن هذا
التوهم : بان هذه الصفات والعلم خارجة عن مدلولات الكلام الخبري والانشائي ، وليس
غرض العلماء انها داخلة في مدلول الكلام مطابقة بل غرضهم انه ليست في الذهن في
الجمل غير هذه الصفات المشهورة ، سواء كانت خبرية أم كانت انشائية صفة اخرى قائمة
بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي كما يقول به الأشاعرة.
فان قيل ان الجمل
تدل على اي معنى من المعاني. قلنا : ان الجملة الخبرية تدل على ثبوت النسبة اذا
كانت موجبة ، وعلى لا ثبوت النسبة اذا كانت سالبة في نفس الامر ، سواء كان في عالم
الذهن فقط أم كان في عالم الخارج ، نحو (الانسان كاتب) اي (الانسان) الذي كان
موجودا في الخارج (كاتب) كما انه ضاحك وكذا السالبة نحو : (لا شيء من الانسان بحجر)
مثلا.
واما الجمل
الانشائية مثل الأمر والنهي والاستفهام ونحوها وضعت لقصد ايجاد معاني هذه الالفاظ
بوسيلتها. يعني ان المتكلم في مقام الكلام قد يكون قاصدا الإخبار عن المعاني
بالألفاظ ، وقد يكون قاصدا إيجاد المعاني والمفاهيم بالالفاظ ، اي بالالفاظ التي
قصد بها الاخبار عن مفاهيمها في الخارج. مثلا يقول : (بعت واشتريت) قد يقصد به الإخبار
، وقد يقصد به الإنشاء. كما ان الإخبار يكون نحوا من الوجود ذا اثر ، وكذا الانشاء
نحوا من الوجود الذي يكون منشأ للآثار عند
العقل والشرع.
مثلا : متى لم تنشأ علقة الزوجية لا تترتب آثار الزوجية عند الشرع والعرف ، وكذلك (ليت
ولعل) والنداء والاستفهام لانه توجد مفاهيمها بهذه الالفاظ.
نعم يكون الداعي
غالبا على انشاء الطلب فعلا او تركا وعلى انشاء التمني والترجي والاستفهام والنداء
والقسم والتعجب نفس هذه الصفات المشهورة ، يعني اذا وجدت الارادة في الذهن والقلب
فانشاء الطلب ، واذا وجد الرجاء الحقيقي يتكلّم بلفظ (لعلّ) نحو (لعلّ السلطان
يكرمني) ونحوه واذا جهل بالموضوع أو بالمحمول أو بالنسبة بينهما فقد انشأ
الاستفهام.
ولاجل هذا لا يبعد
ان يدعى ان هذه الالفاظ تدل بالدلالة الالتزامية على وجود هذه الصفات في الذهن
حقيقة ، اما لاجل وضعها لاجل ايقاع هذه الصفات في المورد الذي يكون الداعي فيه
ثبوتها أو انصراف اطلاقها عند عدم القرينة على ان الداعي الى الانشاء نفس هذه
الصفات لا دواع أخر.
وفي ضوء هذا فقد
ظهر ان الجملة الخبرية تدل على ثبوت النسبة ولا ثبوتها في الذهن أو في الخارج ،
واما العلم بثبوت او العلم بلا ثبوت فهو من لوازم الاخبار غالبا ، لان المخبر لا
يخبر غالبا الا عن علم ولا يكون كل شيء المدلول المطابقي للكلام الخبري ، فان
الكلام النفسي في ضمن الكلام الخبري بعنوان كونه مدلولا له.
واما الجملة
الانشائية سواء كانت طلبية أم كانت غير طلبية فتدل على انشاء الطلب ، اي انشاء
وايجاد مفاهيمها بتلك الالفاظ في الطلبية وعلى انشاء مفاهيم الالفاظ بوسيلتها في
غير الطلبى منها. فإن الكلام النفسي حال كونه مدلولا للكلام اللفظي مع كونه غير
العلم والارادة والكراهة فهو غير معقول اصلا لان العلم بنسبة المدلول الالتزامي
للكلام الخبري ونفس الثبوت لا تكون كلاما لا لفظيا ولا معنويا وليس غيرهما شيئا
آخر يلحظ فيه غير الموضوع والمحمول.
واما المدلول
المطابقي للانشاء فهو ايجاد المفاهيم بالالفاظ المعينة وقصد ثبوت معانيها في
الخارج. واما المدلول الالتزامي للصيغ الانشائية التي تدل على الصفات المذكورة اما
باللزوم العقلي نظير دلالة لفظ العمى على البصر بان كانت
الصفة المذكورة في
الانشاء مأخوذة قيدا في الموضوع له وهو خارج عنه بان تكون كلمة (لعل) مثلا ،
موضوعة لانشاء الترجي المقيد بكونه عن ترجّ نفساني ، وكذا ليت موضوعة لانشاء
التمني المقيد بكونه عن تمنّ نفساني ، وكذا حرف النداء وضع لانشاء النداء المقيد
بكونه عن نداء نفساني وهكذا الحال في الباقيات.
واما باللزوم
العرفي الناشئ من كثرة الاستعمال المؤدية الى انصراف الذهن الى صورة وجود الصفة
المذكورة ، فتكون الصفات الحقيقية المذكورة مدلولا عليها بالصيغ المستعملة في
انشائها وايقاعها دلالة التزامية عقلية ، اذا لوحظ القيد في الموضوع له ، أو عرفية
اطلاقية اذا لم يلحظ فيه ، اي ينصرف ذهن اهل العرف الى الصفات المشهورة المذكورة
من اطلاق الصيغ الانشائية وذلك لكثرة الاستعمال عندهم.
قوله
: اشكال ودفع ، اما الإشكال فهو انه يلزم بناء على اتحاد الطلب والارادة في ...
الخ اما بيان الإشكال
الناشى من اتحاد الطلب والارادة مفهوما ومصداقا ، فهو انه يلزم احد الامرين على
سبيل منع الخلو في تكاليف الكفار بل مطلق اهل العصيان وان كان مسلما.
فخلوها عن الارادة
الجدية حيث إن لم تكن هناك ارادة فلا يكون حينئذ طلب حقيقي ، والحال ان اعتبار
الطلب الحقيقي في الطلب الجدي والارادة الجدية من البديهيات لا ينكره احد ، وان
كانت هناك ارادة جدية فيلزم تخلف الارادة عن المراد وكلاهما باطل ، بل ممنوع.
اما الاول : فلان
الكفار مكلّفون بالاصول والفروع ، والحال ان التكليف ليس بلا ارادة جدية ، ومن
الواضحات عقلا ونقلا انه اذا اراد الله شيئا ان يقول له كن فيكون. واما الثاني :
فلانه يلزم تخلف المعلول عن العلة التامة ، بخلاف ما اذا قلنا بانهما متغايران فلا
يلزم الإشكال حينئذ ، لانا نلتزم بان تكليف الكفار والعصاة يكون مع الطلب فقط ،
فلا يكون التكليف بلا طلب ولا تخلف الارادة عن المراد.
واما بناء على
الاتحاد فان كانت الارادة في تكليفهم لزم التخلف ، وان لم
تكن الارادة في
التكليف لزم خلو التكليف عن الارادة ، وكلاهما فاسد.
واما الدفع فهو ان
الارادة على قسمين : الاول : تكويني. والثاني : تشريعي فالتكويني هو العلم بالنظام
على النحو الاكمل ، والتشريعي هو العلم بالمصلحة في فعل المكلف فلا يجوز خلوّ
التكليف عن التشريعي الذي ليس علة للاشياء ، ويجوز فيه تخلف المراد عن الارادة ،
ولا يلزم في التكليف التكويني الذي هو علة للاشياء ، ولا يجوز فيه تخلف المراد عن
الارادة فيلزم في التكليف الارادة في التشريعي دون التكويني.
فاذا توافقت
الارادتان التكوينية والتشريعية فلا بد من الطاعة والايمان اذ الارادة التكوينية
لا تختلف عن المراد ، واذا تخالفتا ، اي اذا تعلقت الارادة التكوينية بالعصيان
والطغيان ، وتعلقت الارادة التشريعية بالطاعة والايمان ، فلا محيص عن ان يختار
الكفر والعصيان شبهة جبر ، في هذا المقام.
قوله
: ان قلت اذا كان الكفر والعصيان والطاعة والايمان بارادته تعالى لا تكاد تختلف عن
المراد فلا يصح ان يتعلق بها التكليف ... الخ ويتوهم الإشكال من كلام سابق وهو ان الطاعة والعصيان
والايمان والكفر اذا تعلقت بها الارادة التكوينية فالتكليف بالاطاعة والايمان غير
ممكن ، كما ان النهي عن الكفر والعصيان لا يمكن ايضا لانها حينئذ خارجة عن
الاختيار المعتبر في التكليف عقلا ، اذ بلحاظ تلك الارادة بها واجبة وجودا أو عدما
فلا يصح التكليف بها عقلا.
فاللازم باطل
فالملزوم مثله. اما بيان الملازمة فواضح لاستحالة تخلف المراد عن الارادة
التكوينية ، فبالنتيجة لا يصح تعلق الارادة التشريعية بها لخروجها عن الاختيار.
قلنا
: انما تتعلق
الارادة التكوينية بوجودها الاختياري لا بوجودها مطلقا ، فتعلق الارادة التكوينية
بوجودها الاختياري لا يضر باختياريتها ، لان الفعل الاختياري ما كان مسبوقا بارادة
شخص ، وهذه الافعال مسبوقة بالارادة وان لم تكن هذه الافعال اختيارية. والحال ان
ارادة الله تعالى قد تعلقت بالفعل الاختياري
للعبد ، فلزم تخلف
ارادته عن مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وتخلّف العلة عن معلولها.
قوله
: ان قلت ان الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بارادتهما ... الخ فاذا كان الكفر والعصيان مسبوقين بالارادة ولا يكونان كيد
المرتعش التي لا تكون بالاختيار اصلا ، فارادة العبد لهما وان كانت هي المؤثرة
فيهما ، إلّا انهما ترجعان بالنهاية الى الشيء الذي هو خارج عن الاختيار لانهما
ممكنتان وكل ممكن لا بد ان ينتهي الى واجب الوجود بالذات ، وإلّا يلزم الدور أو
التسلسل. فارادة المؤمن الطاعة والايمان ، واردة الكافر الكفر والعصيان لا بد من
ان تكون لعلة توجب التفاوت في ارادة المؤمن والكافر ، وإلّا فان كانا في جميع
الذاتيات والعوارض وما له دخل في هذه الافعال مثلين فيستحيل ان يختار احدهما
الطاعة والايمان والآخر الكفر والعصيان والعلة التي توجب تفاوت ارادة المؤمن
والكافر هي الارادة التكوينية لا غير.
غاية الامر :
فانتهت هذه الافعال الى الواجب لان ارادته التكوينية عين ذاته المقدسة ومع تعلق
ارادة الباري بها لا تصح المؤاخذة على ما لا يكون بالاختيار بل يكون بالنهاية بلا
اختيار.
قوله
: قلت ان العقاب انما يستتبعه الكفر والعصيان التابعان للاختيار الناشئ عن مقدماته
الناشئة عن شقاوتهما الذاتية ... الخ العقاب انما يكون على الكفر والعصيان الناشئين عن ارادة
شخص الكافر والعاصي ولكن سبب هذه الارادة وعلتها هو شقاوة ذاتي شخص الكافر والعاصي
وخبث سريرتها ، فاذا انتهى سبب الفعل الى الذاتي وهو لا يعلل فلا يكون موقع ل (لم
وبم) وانقطع السؤال رأسا بانه لم جعل السعيد سعيدا في بطن أمه؟ فان السعيد سعيد
بنفسه والشقي شقي بنفسه وفي بطن أمه كما في الخبر النبوي : (الناس معادن كمعادن
الذهب والفضة السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه) وانما اوجدهما ، نعم
يبقى سؤال آخر وهو انه لم يكون ذات الكافر والعاصي بهذا النحو الذي يكون مقتضيا
للكفر والعصيان وذات
المؤمن والمطيع
مقتضيا للايمان والاطاعة.
وجواب
هذا السؤال : ان مراتب الوجود
في الحيوان والانسان ، بل في النباتات والجمادات مختلفة ، وكل موجود محدود بحدود
خاصة وهو في حده وجوده افضل من عدمه ، ولو كان بالاضافة الى سائر الوجودات ناقصا
وقبيحا ، مثلا : وجود ترابي مع وجود بعض المعدنيات مثل الذهب والفضة يكون متفاوتا
تفاوتا فاحشا ، لانه لا تترتب آثار المعدنيات على التراب ، وهذا لا يوجب كونه غير
موجود ، ومخلوق وكذا العقرب وسائر الحيوانات وكل واحد منها في حدوده ومراتبه حاو
نحوا من الوجود.
وبملاحظة حدود
وجودها ، تختلف في الآثار والخواص ووجود كلها خير من عدمها. وكذا بنو آدم يختلفون
بحسب الطبائع والملكات النفسانية وبحسب الذاتيات وحدود الوجود اختلافا فاحشا ،
فلذا يكون بعضهم سيد المرسلين والآخر اشقى الاوّلين والآخرين كما اشير اليه في
الحديث النبوي : «السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه» ولذا قيل ان
الانسان جنس لانه يشتمل على انواع مختلفة بحسب السليقة والطبائع والبواطن
والسرائر.
ولا يخفى ان هذا
المطلب لا يقدح بالتكاليف ولا بصحتها لانا اذا رجعنا الى وجداننا وجدنا انفسنا في
الافعال وارادتها قادرين على الفعل والترك ، وكل عاص حين العصيان بالوجدان يرى
نفسه قادرا على فعل المعصية وعلى تركها ، وهذا بالاضافة الى الفعل ، بديهي.
واما بالنسبة الى
الارادة ففيه مجال للكلام بين الاعلام ، ومن شاء الاختبار ، اي من اراد اختبار هذا
المطلب ، فليرجع الى وجدانه في الافعال وفي ارادتها ، فسيرى نفسه فيها مختارا ، اي
قادرا على فعلها وتركها مع ما هو عليه من صفاته النفسانية وملكاته النفسانية
الفاضلة أو الخبيثة ، وقد طال فيه الكلام بين الاعلام ، وهذا المقدار عندي.
قوله
: قلم اينجا رسيد وسر بشكست ... الخ لان وظيفة القلم تحرير مسائل
الاصول وقواعدها
لا تحرير مسائل الكلام والاعتقاد لا سيما القضاء والقدر الذي لا تدركه العقول ولا
تسعه الافهام. وكل شيء اذا انحرف عن مسيره يقع في ورطة وفي معرض الحوادث ، ولذا
قال المصنف قدسسره هنا هذا الكلام المذكور على ما قيل.
قوله
: وهم ودفع لعلك تقول اذا كانت الارادة التشريعية منه ... الخ اعترض هنا ثالثا بانه اذا كانت الارادة والطلب متحدين
فالارادة التشريعية للباري جلّ وعلا تكون بمعنى العلم بالصلاح في فعل المكلف كما
مرّ فيلزم في الخطابات الشرعية التي ينشأ فيها الطلب والارادة ايضا أن ينشأ العلم
بالمصلحة ، لان ارادة الباري عزّ اسمه تكون علما بالصلاح في فعل المكلف.
والحال انه من
الواضح ان العلم غير قابل للانشاء ، لانه من الصفات الواقعية والانشاء يتعلق
بالامور الاعتبارية لا بالامور الواقعية ، لا سيما في علم الباري ، لان علمه عين
ذاته ، اذ هو صفة ذاتية لواجب الوجود ، فلا بد ان نقول بمغايرتهما ، فالمنشأ حينئذ
هو مفهوم الطلب لا الارادة حتى لا يلزم انشاء العلم بالصلاح.
والمراد من الأمور
الاعتبارية نحو الملكية والزوجية والحرية ونحوها التي لا يوجد في الخارج الا منشأ
اعتبارها. ان الفرق بين الأمور الاعتبارية وبين الأمور الانتزاعية قد سبق في مبحث
المشتق.
قوله
: لكنك غفلت عن اتحاد الارادة مع العلم بالصلاح خارجا لا مفهوما ... الخ فاجيب عن هذا الإشكال بان المنشأ في الخطابات الشرعية هو
مفهوم الطلب ، لا الطلب الخارجي ، والمتحد مع الارادة التشريعية التي هي العلم
بالصلاح هو الطلب بحسب الخارج ، لا بحسب المفهوم.
وكذا الارادة ،
كما ان صفات الباري عزّ اسمه متحدة مع ذات الباري في الخارج ، واما بحسب المفاهيم
فهي متغايرة مع مفهوم واجب الوجود لذاته. كما ان مفهوم بعضها مغاير لمفهوم بعضها
الآخر.
فبالنتيجة ، فان
استدلّ المستشكل بهذا القياس ، وهو المنشأ بالصيغة ، اي الامر أو النهي هو الطلب.
والطلب هو الارادة بناء على اتحادهما مفهوما ومصداقا وانشاء ،
فالمنشأ بالصيغة
هو الارادة ، ثم نجعل هذه النتيجة صغرى ، ونقول ان المنشأ بالصيغة هو الارادة ،
وكل ارادة تشريعية هي العلم بالصلاح في فعل المكلف.
فالمنشأ بالصيغة
هو العلم بالصلاح. فهذه النتيجة فاسدة قطعا ، اذ العلم غير قابل للانشاء ، لانه من
الأمور الواقعية ، ومن الصفات الحقيقية ، لا من الأمور الاعتبارية ، وذلك لان من
شرائط انتاج الشكل الاول بحسب الكيف ايجاب الصغرى ، وبحسب الكم كلية الكبرى وتكرّر
الحد الوسط ، وهنا لم يتكرر الحد الوسط في القياس الاول ولا في القياس الثاني ،
لان الطلب المحمول في صغرى قياس الاول هو مفهوم الطلب لا مصداقه ، اذ المنشأ بلفظ (بعت
هذا الفرس بالف درهم) مثلا ، هو مفهوم لفظ البيع وهو مبادلة الفرس بالف درهم ، لا
مصداق المبادلة ، لانه من الأمور الواقعية غير قابل للانشاء.
والطلب (الموضوع)
في كبرى قياس الاول هو مصداق الطلب ، لا مفهومه ، لانه يكون متحدا مع الارادة
التشريعية ، وبحسب المفهوم هما متغايران ، والارادة (المحمول) في صغرى قياس الثاني
، هو مفهوم الارادة لانه قابل للانشاء ، لا مصداقها.
والارادة (الموضوع)
في كبرى قياس الثاني هي مصداقها ، لا مفهومها ، اذ هو متحد مع العلم بالصلاح في
فعل المكلف ، فلاجل هذا تكون نتيجة القياس فاسدة.
فاذا كان المنشأ
هو مفهوم الطلب في الانشاءات الشرعية لا الطلب الخارجي فلا غرو ولا حرص اصلا في
اتحاد الارادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه ، اي عن الاتحاد ، عينا وخارجا
في جميع صفات الباري جلّ وعلا ، لرجوع صفات الباري الى ذاته المقدسة ، اي لاتحاد
صفات الباري مع ذات الباري عينا وخارجا ، وان كانت الصفات تغاير ذات الباري
مفهوما.
ويدل على هذا
الاتحاد قول سيّد الموحدين امير المؤمنين عليهالسلام : «وكمال
توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه» اي نفي الصفات الزائدة عن ذاته المقدسة ، «لشهادة كل صفة انها
غير الموصوف وشهادة كل موصوف انه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه وتعالى فقد قرنه
ومن قرنه
فقد
ثنّاه» ، فكمال توحيده
والاخلاص له هو ارجاع صفاته الكمالية الى ذات الباري ، والقول بالعينية في الخارج
وإلّا فيلزم الاثنينية.
قوله
: الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث الاول : ... الخ وقد ذكر لها معاني عديدة قد استعملت فيها ، وقد عدّ منها :
الترجي والتمني :
نحو (ألا ايها الليل الطويل ألا انجل بصبح) والشاهد في (انجل) حيث استعملت في تمني
انجلاء الليل الطويل ، ولم نجد مثالا للترجي ويمكن ان يكون هذا الشعر مثالا للترجي
ايضا لان الشاعر ان فرض استحالة الانجلاء فهو للتمنى ، وان فرض امكانه فللترجي ،
لان التمنى يستعمل في الممتنع والترجي في الممكن والممتنع.
والتهديد : نحو
قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ).
والانذار : نحو
قوله تعالى : (تَمَتَّعُوا فِي
دارِكُمْ).
والاهانة : نحو
قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ).
والاحتقار : نحو
قوله تعالى : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ
مُلْقُونَ).
والتعجيز : نحو
قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ).
والسخرية : نحو
قوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ).
قوله : الى غير
ذلك نحو الارشاد والتكوين والامتنان والتسوية والاباحة.
الارشاد : قوله
تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).
التكوين : قوله
تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
الامتنان : قوله
تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي).
التسوية : قوله تعالى
: (فَاصْبِرُوا أَوْ لا
تَصْبِرُوا). اذ لا يختلف حالهم بالنسبة الى الصبر وعدمه.
الاباحة : قوله
تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلا تُسْرِفُوا)
الدعاء : قوله
تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ).
قوله
: وهذا كما ترى
ضرورة ان الصيغة ما استعملت في واحد منها بل لم ... الخ ولا يخفى ان هذه الأمور
ليست معاني صيغة الامر لانها وضعت لانشاء الطلب ، ولكن قد يكون الداعي عليه البعث
نحو المطلوب الواقعي ، وهو الغالب. وقد يكون الداعي عليه هو الترجي أو التمني أو
التهديد أو التعجيز أو السخرية أو الانذار أو الاحتقار أو الامتنان أو الدعاء ،
فصيغة الامر وضعت للطلب الانشائي وتستعمل فيه دائما بدواع مختلفة متعددة. ومن
الواضح ان اختلاف الدواعي لا يوجب تعددا في مدلول صيغة الامر ، ولا مجازا فيها.
نعم غاية ما يمكن
ان يقال في هذا المقام هو ان الصيغة موضوعة لانشاء الطلب ، لكن لا مطلقا حتى تكون
جميع المعاني المذكورة حقيقة ، بل فيما اذا كان استعمالها بداعي البعث والتحريك
نحو المطلوب ، لا اذا استعملت بداع آخر من الدواعي المذكورة ، فيكون انشاء الطلب
بالصيغة لاجل البعث والتحريك للمكلف نحو المطلوب حقيقة ، وانشاؤه بها لاجل التهديد
والتعجيز وغيرهما يكون مجازا ، وهذا غير استعمالها في التهديد والتكوين والدعاء
وغيرها مستقيما ، بل استعملت في انشاء الطلب بداعي التهديد والدعاء وغيرهما مع
الغاء قيد البعث والتحريك.
وعلى طبيعة الحال
فان قلنا بوضعها لانشاء الطلب بداعي البعث والتحريك على نحو يكون الداعي المذكور
قيدا في الموضوع له ، فاذا استعملت في انشاء الطلب بداعي التهديد والتحقير وبداعي
التعجيز والارشاد وغيرها يكون مجازا لانها استعملت حينئذ في غير الموضوع له من باب
الوضع للمقيد الخاص والاستعمال في غيره ، والعلاقة هنا هي علاقة المشابهة لان كلها
انشاء الطلب ولكن الدواعي مختلفة متعددة كما لا يخفى.
سائر الصيغ
الانشائية :
قوله
: ايقاظ لا يخفى ان
ما ذكرناه في صيغة الامر جار في سائر الصيغ الانشائية ... الخ هذا تمام الكلام في
صيغة الامر واما حال سائر الصيغ الانشائية سواء كانت طلبية أم
كانت غيرها كحالها
، لان معانيها الحقيقية واحدة ولكن الدواعي متعددة ، لانها تستعمل في انشاء
مفاهيمها ومداليلها ، مثلا : لفظ (ليت) و (لعل). و (الهمزة) و (هل) استعملت في
انشاء التمني ، وفي انشاء الترجي ، وفي انشاء الاستفهام ، ولكن بدواع متعددة ،
مثلا : قد يكون الداعي على انشائها نفس مفاهيمها ، كأن يكون المنشئ في الواقع
متمنيا ومترجيا ومستفهما ، فلاجل التمني والترجي والجهل في النفس ينشئ المنشئ بها
مفاهيمها.
وقد يكون الداعي
شيئا آخر مثل التوبيخ للمخاطب نحو قوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ
هذا بِآلِهَتِنا).
ومثل التعجب نحو :
(أأنت اخي). وقد يكون النداء بلحاظ الاستغاثة تقول : (يا لزيد المظلوم). وقد يكون
بداعي الندبة تقول : (وا علياه ، وا حسيناه) ففي كل هذه الموارد تستعمل الفاظ
الانشاءات في معانيها الحقيقية ولكن بدواع مختلفة.
فظهر من هنا ان
استعمال ادوات الاستفهام والتمني والترجي وغيرها لا يكون مجازا لانها استعملت في
كلام الباري عزّ اسمه في انشاء مفاهيمها في القرآن الكريم بدواع متعددة ، وانما
المحال في حق الباري جلّ وعلا نفس التمني والترجي والاستفهام التي تكون موجبة
للعجز أو الجهل. الاول (اي العجز) : في التمني والترجي. والثاني (اي الجهل) : في
الاستفهام.
فانشاء هذه
المفاهيم اذا كان بدواع أخر غير التمني والترجي الواقعي لا يضرّ ولا يقدح في حقّ
الباري عزّ اسمه ، فالمحال في حقّه تعالى هو التمني الواقعي والترجي الواقعي
الموجبان لعجز المتمنّي والمترجّى عن الايصال بالمترجّى والمتمنّى ، والاستفهام
الحقيقي المستلزم للجهل ، لا التمني الانشائي الايقاعي ، والترجي الانشائي
الايقاعي والاستفهام الانشائي الايقاعي ، ولكن بدواع أخر.
فالتمني ينشأ بلفظ
(ليت) بداعي اظهار المحبوبية في المتمنّى نحو (ألا ليت الشباب يعود) ، والترجي
بابراز محبوبية المترجي نحو (لعل السلطان يكرمني) ، ومطلوبية الحذر مثل قوله تعالى
: (لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ). لا من حيث التمني الواقعي
والترجي الواقعي.
والاستفهام ينشأ بادوات الاستفهام بداعي التوبيخ أو الانكار أو التقرير. فتحصّل
مما ذكرنا ان ذكر المعانى الكثيرة لادوات الاستفهام ليس بصواب ، كما ذكر في المغني
ان لهمزة الاستفهام ثمانية معان ، بل لها معنى واحد ، وهو إنشاء الاستفهام فقط
ولكن الدواعي عليه متعددة كما لا يخفى.
تحقيق مدلول
الصيغة :
قوله : المبحث
الثاني في ان الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما ... الخ اختلف في ان
صيغة امر التي هي هيئة (افعل) حقيقة في الوجوب فقط ، أو الندب فقط ، أو فيهما على
نحو الاشتراك اللفظي ، أو في القدر المشترك بينهما على نحو الاشتراك المعنوي ، بان
يكون موضوعا لرجحان الفعل على الترك مطلقا اي سواء كان مع المنع من الترك أم لا؟
وجوه ، بل اقوال اربعة :
فالاظهر عند
المصنف قدسسره هو الاول ـ أي حقيقة الوجوب فقط ـ واستدلّ عليه بوجهين :
الاول : انه يتبادر منها الوجوب عند استعمالها بلا قرينة حالية أو مقالية والتبادر
علامة الحقيقة.
والثاني : بصحة
احتجاج المولى بذم عبده في صورة المخالفة ، والذم دليل الوجوب ، فاذا اعتذر العبد
عن المخالفة باحتمال ارادة الندب ، مع اعترافه بعدم الدلالة وقرينة الحالية أو
المقالية على الندب فلا يسمع منه ، فهذا دليل على ان مطلق صيغة افعل حجّة على
الوجوب ، وكونها حجّة عليه لا يكون إلّا على فرض كونها حقيقة في الوجوب بلحاظ عدم
القرينة.
ولكن ذكر المصنف قدسسره هذا بلفظ ويؤيده ، لان عدم صحة الاعتذار عن المخالفة كما
يناسب وضع الصيغة للوجوب ، فكذا يلائم ظهورها فيه وان لم تكن موضوعة للوجوب لغة ،
فكان المدعى اخص والدليل هذا اعم والعام لا يدل على خصوص الخاص فلذا جعله مؤيدا لا
دليلا على المدعى.
قوله
: وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله اليه ... الخ
كثرة استعمال صيغة
الامر في الندب في الكتاب العزيز والسنة الشريفة واستعمال اهل العرف توجب نقلها
الى الندب ، أو حملها عليه عند تجردها عن القرينة. فبالنتيجة هي إما منقولة اليه ،
واما مجاز مشهور فيه ، فان كانت على نحو الاول اذا وردت في الكلام بلا قرينة فتحمل
عليه.
وان كانت على
النحو الثاني ، فاذا وردت بلا قرينة فيرجّح الندب على الوجوب ، او يتوقف فلا تحمل
على شيء لا على الوجوب ولا على الندب ، على الخلاف في المجاز المشهور.
قلنا
: ان كثرة
استعمالها في الندب لا توجب نقلها اليه لوجهين : الاول : ان استعمالها في الكتاب
والسنة في الوجوب كثير ايضا. والثاني : ان استعمالها في الندب يكون مع القرينة وهو
لا يوجب كونها مجازا مشهورا فيه حتى يوجب اجمالها ، او رجحان الندب على الوجوب كما
قال به صاحب (المعالم) قدسسره. بل المجاز المشهور انما يتحقق اذا كان الاستعمال بلا
قرينة حالية أو مقالية أو لفظية.
وهذا نظير الفاظ
العموم في الخصوص ، لانها تستعمل كثيرا في الخاص حتى اشتهر وصار مثلا انه ما من
عام إلّا وقد خصّ. ومع ذلك فهي لا توجب نقلها اليه ولا ينثلم بها ظهورها فيه ،
فلذا تحمل عليه مع فقد المخصّص المتصل والمنفصل. فاذا قال المولى لعبده (اكرم
العلماء) ولم يكن المخصص في البين حمل على العموم ووجب إكرام جميع العلماء سواء
كانوا عدولا أم كانوا فساقا.
تحقيق الجملة
الخبرية :
قوله
: المبحث الثالث هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث ... الخ الجملة الخبرية اذا استعملت في مقام الطلب والبعث نحو (يغتسل)
و (يتوضأ) و (يعيد) هل هي ظاهرة في الوجوب ، او لا ، لتعدد المجازات فيها وليس
الوجوب باقواها بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار بثبوت النسبة والحكاية عن
وقوعها؟ الظاهر هو الاول. بل تكون اظهر من الصيغة ، اي من صيغة الامر في الوجوب.
اختلاف الاصوليين
في الجملة الخبرية :
اختلف العلماء في
ان الجملة الخبرية الفعلية المضارعية اذا استعملت في مقام الطلب والانشاء ، لا في
مقام الاخبار عن الواقع والحكاية عنه ، ظاهرة في الوجوب ، أو تعيين الوجوب مثل
الاستحباب يحتاج الى القرينة.
فالظاهر انه اذا
قامت قرينة حالية او مقالية على ان المتكلم ليس في مقام الاخبار عن الواقع فهي
ظاهرة في الوجوب ولو كانت المعانى المجازية كثيرة ، ويدل عليه تبادر الوجوب منها
الى الذهن ، هذا مضافا الى ان الطلب الاكيد الذي هو عبارة اخرى عن الوجوب قريب الى
المعنى الحقيقي الذي هو اخبار عن وجود الشيء في الخارج ، ويشهد بذلك الوجدان
السليم.
فالوجوب قريب الى
المعنى الحقيقي من سائر المعاني المجازية من الندب والتهديد والارشاد ونحوها ،
فيكون المورد من صغريات الكبرى ، وهي انه اذا تعذرت الحقيقة وتعددت المجازات
فاقربها اولى بالارادة. فصونا لكلام المعصوم عليهالسلام عن الكذب تحمل هذه الجمل على الانشاء لا على الاخبار عن
الواقع ولا يخفى ان استعمالها فيه لا يكون في غير الموضوع له ، بل في نفس الموضوع
له لكن الدواعي متعددة ، لان الداعي في (يعيد) و (يتوضأ) قد يكون اخبارا عن ثبوت
الفعل للفاعل في الخارج في الحال أو الاستقبال ، وقد يكون بعثا وتحريكا ف (يعيد)
استعمل في معناه بقصد البعث والتحريك الى الفعل بحيث يعبر المتكلم عن مطلوبه بصورة
الواقع ولا يرضى بتركه.
فالداعي يختلف
لانه قد يكون اخبارا عن الواقع ، وقد يكون بعثا وتحريكا للمكلف الى الفعل الذي هو
مطلوب المتكلم ، فالوجوب الذي يستفاد منه يكون آكد وأقوى من الوجوب الذي يستفاد من
صيغة الامر بلحاظ خصوصية التعبير بصورة الواقع.
فتوهم المتوهم
هاهنا وهو انه اذا استعملت الجملة الخبرية في معناها بداعي البعث بنحو آكد ، لا
بداعي الاعلام والاخبار ، كما هو الحال والمطلب في سائر
الصيغ الانشائية
حيث انها تستعمل في معانيها الايقاعية أبدا لكن بدواع مختلفة ، يلزم الكذب في بعض
الموارد اذا لم يقع المكلف به في الخارج عصيانا.
نعم اذا استعملت
في الانشاء فلا يلزم الكذب ، لانه لا يحتمل الصدق والكذب في الانشاءات. والحال انه
لا يمكن الكذب في كلام الله تعالى ، وفي كلام اوليائه اصلا ، لان الله جلّ وعلا
واولياءه المعصومين عليهمالسلام تعالوا عن ذلك علوا كبيرا.
قلنا في جواب
التوهم : وهو ان الجملة الخبرية يحتمل فيها الصدق والكذب اذا كان الداعي عليها هو
الاخبار بثبوت النسبة او لا ثبوتها ، فالاول في الموجبة والثاني في السالبة ، لا
مطلقا ، يعني اذا استعملت في معناها بداعي البعث والتحريك مثل الافعال المذكورة
نحو (يعيد) و (يغتسل) و (يتوضأ) لا تحتمل الصدق والكذب اصلا ، مثل الكنايات نحو (زيد
كثير الرماد) و (هو جبان الكلب) و (زيد مهزول الفصيل) ونحوها مثل (زيد طويل النجاة)
فكلها تستعمل في معانيها لكن على نحو الكناية عن جوده وشجاعته.
فالداعي عليها هو
اثبات جود زيد وليس الداعي هو اخبار عن كثرة رماد زيد حتى يلزم الكذب اذا لم يكن
رماد وفصيل موجودين ، بل الداعي عليها هو الاخبار عن جوده لكن كنّي عنه وهي ذكر
الملزوم وارادة اللازم ، ففي هذه الجمل ذكر الملزوم وهو كثرة الرماد واريد لازمها
وهو جوده ، نعم يلزم الكذب اذا لم يكن بجواد اصلا.
فبالنتيجة
: اذا كان المقصود
من الجملة الخبرية وقوع المحمول في الخارج اولا وقوعه فيه فيحتمل فيها الصدق
والكذب ، واذا كان المقصود منها طلب المحمول بوسيلة انشاء الطلب الذي يكشف عن
الارادة في قلب المولى فلا تحتملهما ، والمقام هو الثاني لا الاول.
قوله
: فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد ابلغ واحسن فانه مقال بمقتضى الحال والطلب ، اي طلب الشيء ، بالجملة الخبرية في التأكيد ابلغ واحسن
من طلبه في مقام التأكيد بالصيغة ، اي صيغة الامر وما في معناها لان دلالتها على
الطلب تكون
من باب الكناية
التي هي استعمال اللفظ في معناه الحقيقي بداعي الانتقال الى لازم معناه حيث ان
اخبار المخبر بوقوع مطلوبه في الخارج يكون من لازم البعث والارادة الجدّية نحو
المطلوب فتكون آكد من الصيغة وما في معناها كاسماء الافعال والامر باللام نحو
ليضرب لان الاخبار بوقوعه على نحو الكناية يكون كدعوى الشيء ببينة وبرهان.
بيانه
: ان المطلوب قد
يقع لانه متعلق الارادة الجدّية ، وكل متعلق الارادة الجدية لا بد ان يقع في
الخارج ، فهذا لا بد ان يقع فيه ، وهذه الكناية مراد المصنف قدسسره من قوله : فانه مقال بمقتضى الحال وهي ابلغ واحسن من
التصريح ، اما وجه الابلغية فلانها كدعوى الشيء ببينة وبرهان كما ذكر ، بخلاف
التصريح.
واما وجه الاحسنية
فلانها تنتج لمقبولية مقدماتها ، مثلا : اذا قلنا (ان زيدا كثير الرماد) لانه جواد
وكل جواد كثير الرماد فزيد كثير الرماد فنسلّم الصغرى والكبرى.
بخلاف التصريح
فانه اذا قلنا (ان زيدا جواد) لانه كثير الرماد وكل كثير الرماد جواد فزيد جواد ،
فهنا لا نسلّم الكبرى.
وفي ضوء هذا فاذا
عصى المكلف فلا يلزم الكذب لان المطلوب فيها طلب المحمول لا وقوعه في الخارج.
الدليل الثاني :
قوله
: مع انه اذا أتى بها في مقام البيان فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها ... الخ وتدل على حمل الجملة الخبرية على الوجوب مقدمات الحكمة ،
يعني الدليل الثاني عليه هو مقدمات الحكمة. بيانها : ان المتكلم اذا كان في مقام
البيان ، لا في مقام الاجمال والاهمال ، ولم يكن القدر المتيقن في مقام التخاطب.
ولم ينصب قرينة على الندب. فتحمل على الوجوب لشدة الاخبار بوقوع المطلوب في الخارج
، مع الوجوب في الوقوع في الخارج فالاخبار بوقوع المطلوب في الخارج يلائم
استعمالها في الوجوب. وهذه الشدة توجب لظهورها فيه أو لتيقن الوجوب من هذه
الجملة.
فلو لم تكن هذه
الشدة موجبة لظهورها في الوجوب فعلى الاقل هي موجبة لتعيّن الوجوب من بين محتملات
ما هو بصدده ، اي من بين الاحكام التي يكون المتكلم بصدد بيانها ، فان شدة مناسبة
الاخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعيّن ارادة الوجوب منها ، اذا كان المتكلم بصدد
بيان مقصوده مع عدم نصب قرينة من قبل المولى على ارادة غير الوجوب من الندب أو
الاباحة منها.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
الندب ، وان كان طلبا يحتاج الى مئونة التقييد بعدم المنع من الترك ، كما ان
الوجوب طلب ايضا يحتاج الى مئونة التقييد بالمنع من الترك. فالوجوب والندب من هذه
الحيثية سيان متساويان.
فمن استدل على
حملها على الوجوب بان الندب يحتاج الى مئونة والقيد وهو غير موجود فيها. والحال ان
المتكلم في مقام البيان فهذا يدل على ان المراد منها هو الوجوب لا الندب ، فهذا
الاستدلال مخدوش لوجه الذي ذكر ضمنا فافهم آنفا فلا تغفل.
هل الصيغة ظاهرة
في الوجوب أم لا؟
قوله
: المبحث الرابع انه اذا سلم ان الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ... الخ انه اذا سلمنا عدم كون صيغة الامر حقيقة في الوجوب وضعا من
اجل استضعاف ادلّة الوجوب فهل هي ظاهرة فيه ايضا او لا تكون ظاهرة فيه ظهورا
انصرافيا؟ قيل : بظهورها فيه لوجوه :
الاول
: لغلبة استعمال
الصيغة في الوجوب.
الثاني
: لغلبة وجود
الواجب.
الثالث
: لاكملية الواجب.
والكل كما ترى ،
اما الاول والثاني فلعدم الصغرى فيهما ، لان صورة القياس على الوجه الاول تكون على
هذا النحو وهو : صيغة الامر كثير الاستعمال في
الوجوب ، وكل كثير
الاستعمال في الوجوب موجب لظهورها في الوجوب ، فانا نمنع الصغرى ، لان استعمال
صيغة الامر في الندب لو لم يكن كثيرا فليس باقلّ حتما.
وصورة القياس على
النحو الثاني على هذا الشكل ، وهو الواجب كثير الوجود ، وكل كثير الوجود موجب
لظهورها فيه لانا نمنع الصغرى ايضا لان وجود الندب في الشريعة المقدسة لو لم يكن
كثيرا فليس باقلّ قطعا.
واما الثالث فلعدم
الكبرى فيه لان شكل القياس على هذا الوجه يكون على هذا النوع ، وهو الواجب اكمل
طلبا من الندب ، اذ هو طلب شديد ، والندب طلب ضعيف. وكل اكمل طلبا موجب لظهورها في
الواجب ، فالواجب موجب لظهورها فيه.
فانا نمنع الكبرى
لان الظهور ناشئ عن شدة انس اللفظ بالمعنى ، بحيث يصير اللفظ وجها للمعنى ، حتى
ترى صورة المعنى من اللفظ ، والاكملية لا توجب ذلك لان اكملية الاكمل ثبوتية
واقعية ، وظهور اللفظ في المعنى اثباتية لانه تابع للدليل ، وهو اما الوضع ، واما
غلبة الاستعمال ، وكثرة استعمال اللفظ في المعنى ولو على النحو المجازي ، ولا
تلازم بين الأمر الثبوتي وبين الامر الاثباتي ، فلا تلازم بين اكملية الوجوب
واظهرية الصيغة في الوجوب ، وهذا ظاهر.
قوله
: نعم فيما كان الأمر بصدد البيان فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل ... الخ ثم ان المصنف قدسسره اختار ظهور الصيغة في الوجوب انصرافا لوجه آخر غير الوجوه
المتقدمة ، وهو ان مقدمات الحكمة ، كما ستأتي في بحث المطلق والمقيد ، مما تقتضي
المنع من الترك ، بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه ، اذ هو الطلب الاكيد فهو بسيط
عند المصنّف ولا تقييد مع كون المطلق في مقام بيان غرضه ، فحيث لم يقيدها بعدم
المنع من الترك فانكشف ان مراده منها هو الوجوب.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
هذا المدعى ليس اولى من العكس ، فيقال ان مقدمات الحكمة تقتضي الحمل على الندب لا
على الوجوب ، نظرا الى ان الوجوب يحتاج الى مئونة التحديد والتقييد بالمنع من
الترك مع كون المولى المطلق في مقام البيان ، فيبنى على عدم كون الطلب للوجوب بل
للندب.
تحقيق اطلاق
الصيغة :
قوله
: المبحث الخامس ان اطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي اتيانه مطلقا
ولو بدون قصد القربة ... الخ هل اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي اتيان
الواجب سواء كان مع القربة أم كان بدونها ، أم لا يقتضي توصليته كما لا يقتضي
تعبديته ، بل لا بد من الرجوع الى الاصول العملية من البراءة أو الاشتغال حسب ما
يقتضيه المقام.
وتحقيق المقام
يتوقف على بيان امور وتمهيد مقدمات :
احداها
: بيان معنى التعبدي ، وبيان معنى التوصلي
فالاول
: هو الواجب الذي
يكون الغرض من تشريعه ان يتقرب به العبد الى المولى كالواجبات العبادية.
والثاني
: هو الواجب الذي
أمر به لمجرد مصالح فيه ولم يكن اصل تشريعه لاجل ان يتقرب به العبد الى المولى ،
كدفن الميت وتكفينه ، والانفاق على الزوجة ، وصلة الرحم. فالواجب التوصلي ما لا
يتوقف حصول الغرض منه وسقوط أمره على الإتيان به على وجه التقرب به الى المولى ،
وان توقف الثواب والأجر على الإتيان به كذلك ، بخلاف الواجب التعبدي ، لانه يتوقف
حصول الغرض منه وامتثال أمره على الإتيان به على وجه التقرب به الى المولى ،
كالصلاة والصيام والزكاة وما شاكلها ، فالغرض من الواجب التوصلي هو حصوله في
الخارج باي وجه كان سواء كان مع القربة أم كان بلا قصد القربة.
اعتبار قصد القربة
عقلا :
قوله
: ثانيتها ان
التقرب المعتبر في التعبدي ان كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره
كان مما يعتبر في الطاعة عقلا لا مما اخذ في نفس العبادة شرعا ... الخ والمقصود
منه اعتبار قصد القربة في الواجبات العبادية عقلا لا شرعا. وبيانه : ان قصد القربة
ان كان بمعنى قصد الامتثال. والإتيان بالواجب بداعي أمره فلا يمكن
اخذه في متعلق
الامر لا شرطا ولا شطرا.
بيانه : ان قصد
امتثال الامر يتوقف على الامر ، وهو يكون بعد الامر ، والامر يكون بعد الصلاة ،
فلا يمكن ان يكون قصد امتثال الامر في مرتبة الصلاة بحيث يتعلق أمر المولى
بمجموعهما ، فلا يعقل اخذ قصد امتثال الامر في متعلق الامر ، لاستلزامه تقدم الشيء
على نفسه ، ولان اخذه في متعلقه مع فرض كونه ناشئا عن حكمه وامره معناه تقدمه على
نفسه وتأخره عن نفسه وهو مستحيل.
فاذن لا يمكن اخذه
فيه شرعا بل لا بد ان يكون اعتباره في العبادات عقلا اي بحكم العقل. وبعبارة اخرى
: فلا يمكن اخذ قصد امتثال الامر في متعلق الامر لا على نحو الشرطية ولا على نحو
الشرطية ، بان يقول المولى لعبده (اقم الصلاة بشرط قصد امتثال امرها) او يقول (اقم
الصلاة مع قصد امتثال امرها) ، لان ذلك دور. فان قصد امتثال الامر يتوقف على الامر
، والامر يتوقف على قصد امتثال الامر لكونه في موضوع الامر شرطا أو شطرا.
فالامر يتوقف على
موضوعه وعلى جميع قيوده ، وهو من قيوده ، فلا يمكن اخذه في متعلق الامر شرعا ، بل
يكون بحكم العقل ، والشارع المقدس اكتفى بذلك. فمتى لم تكن نفس الصلاة مع قصد
امتثال الامر متعلقة للامر لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال امرها شرعا كما علم آنفا.
علاج اخذ قصد
القربة في متعلق الأمر :
قوله
: وتوهم امكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر وامكان الإتيان ... الخ فيجاب عن اشكال الدور على فرض قصد القربة بمعنى قصد امتثال
الامر والإتيان بالواجب بداعي أمره ، بانه يتوقف الامر والحكم على موضوعه الذي
يكون شرطه قصد القربة بالمعنى المذكور في مقام تصور الموضوع في الذهن ، ولا يتوقف
على وجوده في الخارج. فحينئذ لا يلزم الدور على تقدير اخذه فيه ، والحال ان
المعتبر من القدرة عقلا في صحة أمر المولى انما هو في حال الامتثال ، لا حال أمر
المولى ،
فانه يصح عقلا ان
يأمر المولى فاقد الماء قبل الزوال بالتوضؤ بعد الزوال اذا كان واجدا للماء ، ومع
انه لا يقدر عليه وقت الامر.
فالحكم موقوف على
تصور موضوعه ، لا على وجوده الخارجي ، وتصور الصلاة بداعي الامر لا يتوقف على
الامر الخارجي. نعم ان كان الحكم موقوفا على الوجود الخارجي للصلاة بداعي أمرها
فيلزم الدور ، اذ الوجود الخارجي للصلاة بداعي امرها يتوقف على الامر ، فلو توقف
الامر عليه للزم الدور ، كما ان الامر لو توقف على الوجود الخارجي للصلاة للزم طلب
الامر الحاصل.
فبالنتيجة
: ان قصد القربة
بالمعنى المذكور يتوقف على أمر المولى ، والامر لا يتوقف على قصد القربة. لتوقف
الامر والحكم على موضوعه وعلى جميع اجزائه وقيوده ، بل يتوقف الامر على تصور
الصلاة مع قصد القربة.
والحال ان تصور
الصلاة مع قصد القربة لا يتوقف على الامر لانه خفيف المئونة فلا دور ، فالآمر في
مقام الامر يتصور الصلاة مع قصد القربة فأمر بها ، والمكلف قادر على اتيانها بداعي
امرها فاندفعت غائلة الدور. والحال ان المعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة
الامر هي القدرة حين الامتثال لا حين الامر. فالصلاة بداعي الامر ، وان كانت قبل
الامر بها غير مقدورة للمكلف ، ولكن مقدورة له بعد تعلق الامر بها.
قوله
: واضح الفساد ضرورة انه وان كان تصورها كذلك بمكان من الامكان ... الخ فاجاب المصنف عن هذا التوهم بانا سلّمنا ان الامر موقوف
على تصور الموضوع لا على وجوده في الخارج ، ولكن الإتيان بالصلاة بداعي امرها غير
مقدور للمكلف حتى بعد تعلق الامر بها ، لانه لا امر للصلاة وحدها حتى يؤتى بها
بداعي امرها ، اذ المفروض تعلق الامر بالصلاة المقيدة بداعى الامر لا بنفس الصلاة
وحدها ، لعدم الامر بها ، حتى يمكن الإتيان بها بداعي أمرها.
والحال ان الامر
لا يدعو إلّا الى ما تعلق به لا الى غيره والامر تعلق بشيئين : احدهما : الصلاة
المقيدة بداعي الامر. وثانيهما : قيد الصلاة وهو داعي أمرها. لا
يتعلق الامر
بالصلاة مجردة عن داعي الامر ولا بداعي الامر مجردا عن الصلاة ، فظهر عدم قدرة
المكلف على اتيان الصلاة المقيدة بداعي امرها بقصد داعي امرها لان هذا المأمور به
الذي هو الصلاة لا يكون لها أمرا على حدة لنفسها اذ المفروض انه لا يكون الامر
المتعدد في المقام الا امرا واحدا الذي تعلق بالصلاة وقصد القربة فالاتيان
بالمأمور به في الخارج بداعي امره غير ممكن اذ ليس لنفسه امر ، فاخذ قصد القربة في
المأمور به ـ شرطا ولا شطرا ـ لا يمكن اصلا كما لا يخفى.
قوله
: ان قلت نعم ولكن نفس الصلاة ايضا صارت مأمورا بها بالامر بها ... الخ فما المانع من ان تكون نفس الصلاة ايضا مأمورا بها ، كما
انها مأمور بها مقيدة بقصد القربة. فالامر تعلق صراحة بالصلاة المقيدة بقصد القربة
، وتعلق ضمنا بنفس الصلاة من حيث هي هي لانحلال الامر بالمقيد الى امرين :
احدهما : تعلق
بالذات ، التي كانت معروضة للتقييد.
وثانيهما : بالقيد
، وهو داعي الامر. فيمكن للمكلف اتيان الصلاة بداعي امرها الضمني ، فارتفع تعذر
اتيان الصلاة بداعي امرها الى الأبد لان الصلاة تكون مأمور بها بالامر بها مقيدة
بقصد القربة صراحة ، وهي من حيث هي هي مأمور بها ضمنا.
قوله
: قلت كلّا لان ذات المقيد لا تكون مأمورا بها فان الجزء التحليلي ... الخ فاجاب المصنف قدسسره عن الإشكال المذكور ان المقيد والقيد في الخارج موجودان
بوجود واحد هو الصلاة الخاصة ، فالصلاة التي هي ذات المقيد لا مأمور بها حتى يمكن
اتيانها بداعي امرها.
والحال ان الامر
لا يدعو المكلف الا الى المأمور به نفسه ، فاذا لم تكن الصلاة بنفسها مأمورا بها
فلا يمكن ان يؤتى بها بداعي امر المتعلق بها وبغيرها بعنوان داعي امرها ، اي امر
نفسها.
فالصلاة بما هي
صلاة ليست بمأمور بها ، فلا يمكن اتيانها بداعي امرها وقصد القربة. ويجاب عنه
بتقرير. آخر ، وهو ان الأجزاء تكون على نحوين :
الاول : خارجية.
والثاني : عقلية.
اما الاولى فهي
تتصف بالوجوب الذي تعلق بالكل لان الكل هو نفس الأجزاء. فالامر الذي تعلق بالكل
ينحل على حسب الأجزاء الى أوامر متعددة ضمنية.
غاية الامر ان
الامر الذي تعلق بالكل استقلالى ، والاوامر التي تعلقت بالاجزاء ضمنية ، ولا فرق
بينهما في افادة وجوب متعلقهما.
واما الثانية :
فلا تتصف بالوجوب اصلا لعدم وجودها في الخارج فانه ليس في الخارج شيء الا وجود
واحد واجب بالوجوب النفسي ، فلا ريب حينئذ في خروج القيد عن تحت الامر لعدم وجود
القيد العقلي الذي هو قصد القربة في الخارج كي يتصف بالوجوب ضمنا ، كما هو شان
الأجزاء الخارجية الاعتبارية مثل تكبيرة الإحرام والقراءة والركوع والسجود والتشهد
والتسليم فانها تتصف بالوجوب الضمني الاصلي ، كما يأتي هذا المطلب في باب المقدمة
ان شاء الله تعالى.
قوله
: ان قلت نعم لكنه اذا اخذ قصد الامتثال شرطا ، واما اذا اخذ شطرا ... الخ نعم ان عدم الانحلال الى امرين : احدهما : الامر الذي تعلق
بالذات المقيد وثانيهما : هو الامر الذي تعلق بالقيد ، هو فيما اذا اخذ في متعلق
الامر قصد القربة شرطا للمأمور به ، لان الشرط خارج عن حقيقة المشروط كي ينحلّ
الأمر المشروط الى امرين ، احدهما : هو الامر بالمشروط. وثانيهما : هو الامر
بالشرط.
واما اذا اخذ قصد
الامتثال جزءا للمأمور به فينحل حينئذ الامر الذي تعلق بالكل وهو الصلاة المركبة
بحسب الاعتبار من عدة اجزاء ومن جملتها قصد القربة وقصد امتثال أمر المولى الى
أوامر عديدة بقدر الأجزاء لانه لا يكون المركب شيئا الا نفس اجزائه في الخارج.
فالامر بالكل يكون
امرا باجزائه ، فالذات المقيدة تكون جزءا للمأمور به ، فتكون متعلقا للامر الضمني
، فيتمكن المكلف من الإتيان بها بداعي هذا الامر الضمني نظير سائر الأجزاء ،
كالتكبيرة والركوع ونحوهما ، ضرورة صحة الإتيان باجزاء الواجب بداعي وجوبها
الضمني.
قوله
: قلت مع امتناع اعتباره كذلك فانه يوجب تعلق الوجوب بامر ... الخ اجاب
المصنف قدسسره عن هذا الاعتراض.
اولا
: بانه يمتنع
اعتبار قصد القربة وقصد الامتثال جزءا للمأمور به فانه يوجب تعلق الوجوب بامر غير
اختياري والتكليف بغير المقدور.
بيانه
: ان قصد امتثال
امر المولى ليس شيئا إلّا ارادة الفعل عن اجل أمره بحيث يكون الداعي الى ارادة ذلك
الامر ، والارادة لا تكون اختيارية حتى يصح وقوعها في حيز الامر وتعلق الامر بها ،
لانه لو كانت اختيارية لتوقفت على الارادة الاخرى ، اذ كل امر اختياري مسبوق
بالارادة ليكون اختياريا ، فحينئذ يلزم تسلسل الارادات ، فلا بد من جعل الارادة
غير اختيارية ليدفع هذا المحذور.
فاذا جعلت غير
اختيارية امتنع التكليف بها عقلا اذ هي غير مقدورة حينئذ فقد ظهر مما ذكرنا انه لا
يمكن ان يكون قصد القربة بمعنى قصد امتثال الامر جزءا للمأمور به ، وان يكون دخيلا
بعنوان الجزء في متعلق الامر.
وثانيا
: انه فرق واضح بين
قصد القربة وبين سائر اجزاء المأمور به مثل التكبيرة والركوع والسجود ونحوها.
بيان
الفرق : انه يمكن للمكلف
اتيان الأجزاء بداعي الامر المركب لان المركب هو نفس الأجزاء والأجزاء هي نفس
المركب فلا اثنينية بينهما ، واما قصد القربة بداعي أمر المركب على فرض اخذ قصد
القربة في المأمور به مثل ان يقول المولى (اقم الصلاة) مع قصد القربة فهو يستلزم
اتيان الشيء بداعي نفسه ، ولازمه يكون توقف الشيء على نفسه ، وهو محال لاستلزامه
تقدم الشيء على نفسه وتأخره عن نفسه وهذا محال قطعا ، ومستلزم المحال محال ايضا ،
فلا يمكن ان يكون قصد القربة جزءا للمأمور به نظير سائر اجزائه كما لا يخفى.
توضيحه
: ان الامر يتوقف
على المأمور به وعلى جميع اجزائه ، وقصد القربة من جملتها على الفرض ، فيصير الامر
موقوفا وقصد القربة بمعنى داعي الامر يصير موقوفا عليه ، اما قصد القربة بهذا
المعنى فيتوقف على الامر ، إذ هو ناشئ من قبل الامر فيصير قصد القربة موقوفا
والامر موقوفا عليه ، والحال ان الشيء من
حيث كونه موقوفا
عليه مقدم ، ومن حيث كونه موقوفا مؤخر ، وهذا معنى تقدم الشيء على نفسه ، فلا يمكن
أخذ قصد القربة في المأمور به لا شطرا ولا شرطا كما لا يخفى.
قوله
: ان قلت نعم لكن هذا كله اذا كان اعتباره في المأمور به بامر واحد ... الخ قال المصنف قدسسره انه يمكن ان يدفع اشكال عدم القدرة على اتيان المأمور به
بقصد امتثال امره بوجه آخر وهو انا نقول بتعدد الامر حيث إنه مع تعدده لا يلزم
الدور الذي سبق ذكره على تقدير اخذ قصد القربة في متعلق الامر ، ولا عدم القدرة
على اتيان المأمور به بداعي امره ، مثلا : يقول المولى (اقيموا الصلاة) ثم يقول (اقيموا
الصلاة المأمور بها بداعي امرها الاول) فالمولى يتمسك بتعدد الامر لاجل استيفاء
تمام مطلوبه به ، وهو اتيان المأمور به بقصد القربة ، وبقصد امتثال أمره. اما بيان
عدم لزوم الدور في صورة تعدد الامر فلاجل تعدد الموقوف والموقوف عليه ، لان الأمر
الاوّل يتوقف على تصور ذات الصلاة ، فيكون هذا الأمر موقوفا وذات الصلاة موقوفا
عليه من باب توقف الامر والحكم على موضوعه ولكن الصلاة بداعي أمرها التي اخذت
موضوعا للأمر الثاني يتوقف على الأمر الثاني من حيث عنوان كونها موضوعا.
واما بيان قدرة
المكلف على اتيان الصلاة بداعي امرها فهو واضح بهذا البيان ، وهو اتيان الصلاة
المأمور بها بداعي امرها الاول ، لان الآمر يتوسل بتعدد أمره في الوصلة الى تمام
غرضه الذي هو اتيان الصلاة بداعي امرها وبقصد القربة بلا منعة واشكال في البين.
قوله
: قلت مضافا الى القطع بانه ليس في العبادات الا امر واحد كغيرها من الواجبات
والمستحبات ... الخ فاجاب المصنف قدسسره عنه :
اولا
: بانّا نقطع ان
حال العبادات كحال التوصليات في كونها ذات امر واحد لا أمرين بلا فرق بين الواجبات
والمستحبات والتوصليات والحال انه ليست طريقة الشارع المقدس صدور امرين في
العبادات والتعبديات ، وصدور أمر واحد في التوصليات. غاية الامر ان أمر التعبديات
لا يسقط عن ذمة المكلف بدون قصد
القربة ، بخلاف
التوصليات اذ أمرها يسقط بدونه ، ولكن الثواب فيها يدور مدار القربة وجودا وعدما ،
كما ان العقاب في التعبديات يدور مدار عدم قصد القربة بفعلها او يدور مدار تركها
رأسا ، فتعدد الامر يكون خلاف الواقع.
وثانيا
: ان الأمر الاول
لا يخلو من احد امرين : احدهما : انه يحصل غرض المولى باتيانه اي باتيان المأمور
به بلا قصد القربة. وثانيهما : انه لا يحصل غرض المولى باتيانه مجردا عن قصد
القربة.
فعلى الاول : يسقط
الامر الاول الذي تعلق بذات الصلاة. فلو أتيت بلا قصد القربة على الفرض فلا مجال
حينئذ للامر الثاني ، لعدم غرض موجب له ، فيكون الثاني لغوا بلا فائدة وهو لا يصدر
من الحكيم تعالى.
وعلى الثاني :
يستقلّ العقل باتيان المأمور به على وجه يوجب القطع بحصول غرض المولى ، ومع هذا
الاستقلال لا حاجة الى الامر الثاني الشرعي المولوي ، لان العقل يحكم باتيان
المأمور به على وجه القربة وعلى قصد امتثال أمره حتى يحصل القطع بحصول غرض المولى.
فالمتحصل مما
ذكرنا انه لا حاجة الى الامر الثاني على كلا الامرين ، اما للغوية الثاني على
الاحتمال الاول ، واما لاستغناء حكم العقل عن الامر الثاني ، فلا يتوسل الآمر الى
غرضه بهذه الحيلة والوسيلة التي هي عبارة عن تعدد الامر لاستقلال العقل مع عدم
حصول الغرض بوجوب الموافقة وهو لا يحصل إلّا بقصد القربة.
في سقوط غرض
المولى :
قوله
: لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله وإلّا لما كان موجبا لحدوثه ... الخ اعلم ان سقوط امر المولى يتوقف على حصول غرضه من أمره ،
كما ان عدم سقوط الامر يدل على عدم حصول غرض المولى.
فبالنتيجة سقوط
الامر بدون حصول الغرض محال ، لانه لو لم يكن محالا لما كان الغرض موجبا لصدور
الامر من المولى ، لانه علّية الغرض لحدوث الامر
تقتضي عليّة الغرض
لبقاء الامر ايضا كما لا يخفى.
قصد القربة :
قوله
: هذا كله اذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال ... الخ ويمكن ان يكون قصد القربة عبارة عن اتيان المأمور به بداعي
حسنه ، أو بداعي مصلحته ، أو بداعي محبوبيته لله تعالى ، أو خوفا من النار ، أو
طمعا في الجنة ، أو بداعي وجه الله تعالى ورضاه.
وقصد القربة بهذه
المعاني يمكن ان يكون مأخوذا في المأمور به شرطا أو شطرا ، وهو بهذه المعاني لا
يتوقف على أمر المولى ، وان كان الامر يتوقف عليه من باب توقف الامر والحكم على
موضوعه وعلى جميع قيوده ، فلا يلزم الدور حينئذ. ولكن من المعلوم ان قصد القربة لو
كان مأخوذا في المأمور به باحد هذه المعاني لما حصل امتثال الامر اذا أتى المأمور
به بداعي امره لا بداعي حسنه أو بداعي كونه ذا مصلحة أو له تعالى.
والحال انه يحصل
الامتثال ، بل يحصل الغرض ، بحكم العقل ، اذا فعل المكلف المأمور به بقصد القربة ،
وبداعي أمره. فقصد القربة بالمعنى الاول ـ اي بداعي الامر ـ في العبادات لا يمكن
ان يؤخذ في متعلق الامر ، بل هو بالمعنى الاول مأخوذ فيه بحكم العقل في تحصيل غرض
المولى ، وقصد القربة بالمعاني الأخر يمكن اخذه في المأمور به ، ولكن لم يؤخذ فيه
قطعا لما ذكرنا من الوجه المذكور آنفا.
فلو اخذ بهذه
المعاني فيه لم يسقط الامر بدونها مثل سائر الأجزاء والشرائط التي لا يحصل الغرض
بدونها ، فاذا لم يحصل الغرض كان الامر باقيا ، فقصد القربة بمعنى اتيان الفعل
بداعي الامر معتبر قطعا ، لكن لا في المأمور به ، بل هو معتبر في تحصيل الغرض بحكم
العقل.
تأمل في المقام
وفيما ذكرنا تعرف حقيقة الحال كيلا تقع في ما وقع فيه بعض الاعلام من الاشتباه ،
وهو الشيخ الانصاري قدسسره حيث ذهب الى امكان اخذ قصد
امتثال الامر في
متعلق الامر مع تعدد الامر كما سبق ، وسبق جواب المصنف قدسسره عنه فلا نعيده.
كما ذهب بعض الى
ان قصد القربة عبارة عن حسن الفعل ، أو عن كونه ذا مصلحة ، فهذا المذهب مردود ايضا
كما علم سابقا.
اعلم انّ الفرق
بين متعلق الاحكام وبين موضوع الاحكام هو : ان الافعال متعلقات الاحكام ، والاعيان
موضوعات الاحكام. فالمتعلق مقدور للمكلف ، والموضوع غير مقدور له ، ففي (اقيموا
الصلاة) وجوب الصلاة حكم ، والاقامة متعلق الوجوب لانه فعل المكلف ، والصلاة موضوع
الوجوب كما هو ظاهر.
اقسام التقابل :
قوله
: ثالثها انه اذا عرفت مما لا مزيد عليه من عدم امكان ... الخ اعلم ان للتقابل اربعة اقسام لانه اما ان يلحظ بين
الوجوديين او بين الوجودي والعدمي ، ولا بين العدميين اذ لا ميز في الاعدام.
وعلى الاول : اما
ان يمتنع اجتماعهما في محل واحد فهما ضدان كالسواد والبياض ، واما ان لا يمتنع
اجتماعهما فيه فهما متضايفان كالابوة والبنوة.
وعلى الثاني : اما
ان يجوز اتصاف العدمي بالوجود واما ان لا يجوز به.
فالاول : هو العدم
والملكة كالعمى والبصر.
والثاني : هو
الايجاب والسلب نحو وجود الباري وعدم شريكه فصار التقابل اربعة : الاول : هو
التقابل بالتضاد.
والثاني : هو
التقابل بالتضايف.
والثالث : هو
التقابل بالعدم والملكة.
والرابع : هو
التقابل بالايجاب والسلب.
اذا علم هذا يظهر
امتناع التمسك باطلاق الصيغة لاثبات توصلية الواجب. وتقريبه ان التقابل بين
الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فيعتبر في التمسك
باطلاق الصيغة
صالحية تقييدها بقصد القربة ، فاذا امتنع التقييد ، اي تقييد متعلق الامر بقصد
الامر وقصد القربة لمحذور الدور ، امتنع الاطلاق ، وان كان مسوقا في مقام البيان
فلا يصح التمسك باطلاق الصيغة الا في القيود التي يمكن عقلا اعتبارها في المأمور
به بشرط كون الاطلاق مسوقا في مقام البيان. فانقدح بذلك انه لا وجه لاستظهار
التوصلية من اطلاق صيغة الامر بمادتها. ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه الغائي
أو التوصيفي مما هو ناشئ من قبل امر المولى من اطلاق مادة الامر في العبادة لو شك
في اعتباره فيها ، اذ الاطلاق يجري في مورد صالحية التقييد ، فقصد الوجه مثل قصد
الامر في امتناع اخذ كل واحد منهما في المأمور به ، للزوم الدور في كليهما وفي
الثاني ، فقد مضى بيانه.
واما بيان لزوم
الدور على الاول فلان الامر يتوقف على موضوعه ، وعلى جميع قيوده ومن جملتها قصد
الوجه ، وقصد الوجه في فعل المأمور به يتوقف على صدور امر ايجابي أو ندبي من قبل
المولى ، فلا تثبت التوصلية لاطلاق مادة الامر ولا لتمامية مقدمات الحكمة في
المقام ، بالاضافة الى الأمور الناشئة من قبل امر المولى ، اي لا تثبت توصلية
الواجب للاطلاق اللفظي.
قوله
: نعم اذا كان الامر في المقام بصدد بيان تمام ما له دخل ... الخ هذا اشارة الى الاطلاق المقامى ، بيانه : وهو انه اذا كان
الآمر بصدد بيان الأشياء الدخيلة في حصول غرضه ، وان لم تكن دخيلة في متعلق أمره.
وبيّن أشياء وسكت عن اشياء ، فالسكوت قرينة على عدم دخل ما يحتمل دخله في الغرض ،
سواء أمكن اخذه في متعلق الامر أم لم يمكن فيه ، لانه لو لم يكن كذلك للزم نقض
الغرض وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم تعالى.
فالاطلاق المقامي
الذي يعبّر عنه بالاطلاقي الحالي يتركب من مقدمتين :
الاولى
: كون المتكلم في
مقام بيان كل ما له دخل في غرضه وان لم يكن دخيلا في متعلق الامر. أما الاطلاق
اللفظي فيشترط كون المتكلم في صدد بيان تمام ما له دخل ـ شطرا أو شرطا ـ في
المأمور به وفي متعلق أمره ، وبهذا يمتاز هذا
الاطلاق عن
الاطلاق المقامي الحالي.
والثانية
: عدم البيان.
اذا علم هذا فان
كان الاطلاق المقامي موجودا في البين صحّ التمسك باصالة الاطلاق حتى تندفع بها
جزئية المشكوك للمأمور به أو شرطيته له ، فاذا لم ينصب المتكلم قرينة على دخل قصد
امتثال الامر في حصول غرضه كان عدم النصب قرينة على عدم دخله في غرضه ، وإلّا لكان
سكوته نقضا لغرضه وخلاف الحكمة. فلا بد حينئذ ، عند الشك وعند عدم إحراز هذا
المقام ، الرجوع الى ما يقتضيه العقل ويستقل به. اذ المفروض فقدان الدليل
الاجتهادي من الاطلاق اللفظي ومن الاطلاق المقامي. ولكن الاصل الذي يرجع اليه عند
الشك في تعبدية الواجب وتوصليته هو الاشتغال العقلي لان الشك فيهما يرجع الى الشك
في سقوط أمر المولى والى الشك في امتثال أمره ، لا الى الشك في ثبوت أمر المولى
وعدم ثبوته ، كي يرجع الى اصالة البراءة. وليس الشك فيهما شكا في جزء المأمور به
أو شرطه ، حتى تندرج مسألة التعبدية والتوصلية في الأقل والأكثر الارتباطيين لما
تقدم من عدم امكان قصد القربة لا شطرا ولا شرطا في المأمور به كي يرجع فيه الى
الاشتغال ، أو البراءة على اختلاف الرأيين ، بل قصد القربة من كيفيات الاطاعة
والعبادة للمولى ، ولا تناله يد الجعل ابدا حتى يكون الشك مجرى لاصالة البراءة.
فلا بد حينئذ من
الالتزام بجريان قاعدة الاشتغال العقلي هنا ، وان قلنا بجريان البراءة في الاقل
والاكثر الارتباطيين لوجود شرط البراءة فيهما وهو الشك في التكليف وفقدانه هنا كما
لا يخفى.
الرجوع الى اصالة
الاشتغال :
قوله
: فاعلم انه لا مجال هاهنا الا لاصالة الاشتغال ولو قيل باصالة البراءة ... الخ لان الشك يكون في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم لو فعل
المكلف الواجب بلا قصد القربة ، مع استقلال العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكليف
المعلوم ، مضافا
الى ان الاشتغال
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، فلا يكون العقاب مع الشك في الخروج ، ومع عدم
إحراز الخروج عن عهدة التكليف الثابت بلا بيان ، ومؤاخذة المولى لعبده بلا برهان ،
ضرورة انه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة وعلى عدم العلم بالخروج عن
العهدة ، ولو كان عدم الخروج عن العهدة لاجل الاخلال بقصد القربة مع الموافقة ،
ومع الإتيان بذات متعلق الامر ، ولا يختص الرجوع الى اصالة الاشتغال بقصد القربة
فقط.
بل يرجع اليها في
كل ما شك في دخله في الطاعة وفي دخله في الخروج به عن عهدة التكليف مما لا يمكن
اعتباره في المأمور به للزوم الدور كما في قصد القربة وذلك كقصد الوجه غائيا او
توصيفيا ، وكقصد تميز اجزاء الواجبة والمندوبة ، فلا يمكن اعتبارهما في المأمور به
لا شطرا ولا شرطا وذلك للزوم الدور هنا.
اما
بيانه : فلان الامر يتوقف
على موضوعه وعلى جميع اجزائه وقيوده ومن جملتها قصدهما ، والحال انهما يتوقفان على
الامر ، لانه ما دام الامر غير موجود ، لم يكن قصدهما محقّقا وموجودا ، لانه يترشح
منه ، اي من الامر ، بل هو علة لهما وهما معلولان له. (ومن الواضح استحالة تحقق
المعلول بدون تحقّق علته).
قوله
: نعم يمكن ان يقال ان كل ما يحتمل ، بدوا ، دخله في الامتثال ... الخ هذا استدراك عما سبق من كون الاصل في جميع قيود المأمور به
الناشئة من اجل أمر المولى هو الاشتغال والقيود التي تنشأ من قبله ، كقصد القربة
وقصد الوجه وقصد التميز ، اي القيود التي تتوقف على الامر ، كالقيود والأمور
المذكورة ، ولكن لا يكون الاشتغال في كل قيوده ، بل الحق في المقام هو التفصيل بين
ما يحتمل دخله في كيفية الاطاعة ان كان مما يغفل عنه عامة الناس غالبا ، نحو قصد
الوجه وقصد التميز كان على الآمر بيانه في مقام التشريع وفي مقام الاثبات ، ولو لم
يبينه ولم ينصب قرينة على دخله في غرضه ، واقعا ، لأخلّ بما هو همه وغرضه وهو قبيح
لا يصدر من المولى الحكيم لانه لا يكون هنا ارتكاز ذهنى يعتمد عليه في مقام
البيان. واما اذا لم ينصب قرينة على دخله في الغرض كشف عدم نصبها كشفا إنّيّا عن
عدم دخله في الغرض
، وعن عدم كونه محصلا للغرض فلا يكون حينئذ الشك في المحصّل ، كما لا يخفى.
عدم دخل قصد
القربة والتميز :
قوله
: وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتميز ... الخ اي الكشف عدم نصب قرينة على دخل المشكوك المغفول عنه عن
عدم دخله في حصول الغرض وعن عدم كونه محصّلا له يمكن القطع بعدم دخل قصد الوجه
وقصد التميز في الطاعة بالعبادة ، حيث ليس منهما عين في الاخبار التي في بيان
الاحكام كما وكيفا ، ولا اثر منهما فيها وفي الآثار المروية عن الصادقين عليهماالسلام.
والحال انهما مما
يغفل عنهما عامة الناس غالبا ، لا سيما الثاني منهما ، وان احتمل اعتبار كل واحد
منهما بعض الخاصة مثل علم الهدى قدسسره.
قوله
: فتدبّر جيدا وهو
تدقيقي لوجهين :
الاول
: ان لفظ فتدبر
ظاهر في التدقيق لا في التمريض.
الثاني
: لظهور قيده وهو
لفظ جيد فيه ، اي في التدقيق ، وان كان ما يحتمل دخله في الغرض وما يحتمل كونه
محصّلا له مما يلتفت اليه عامة المكلفين. اي اكثرهم ، لكونه مركوزا في اذهانهم نحو
قصد القربة في الاطاعة بالعبادة بحيث يصح اعتماد المتكلم في مقام بيان غرضه عليه ،
اي على ارتكازيته في الذهن ، فلا حاجة الى البيان.
فبالنتيجة
: فيكون محتمل
الدخل في الغرض قسمين :
اما
القسم الاول : فيرجع الى اصالة البراءة لتمامية مقدّمات الاطلاق المقامي هاهنا ، فلذا يرجع
اليها فلو فعل المكلف الصلاة بلا قصد الوجه وبلا قصد التميز تبرأ ذمته قطعا بلا
اشكال.
واما
القسم الثاني : فيرجع الى اصالة الاشتغال لان عدم نصب القرينة على دخل المحتمل في الغرض لاجل
جواز اعتماد المتكلم على التفاتهم لا لاجل عدم
دخله فيه.
الشك في تعبدية الواجب
وتوصليته :
قوله
: ثم انه لا اظنك
ان تتوهم وتقول ان أدلة البراءة الشرعية ... الخ فتوهم المتوهم في هذا المقام
تتميما للمرام وهو ان مقتضى حكم العقل في صورة الشك في تعبدية الواجب وفي توصليته
الرجوع الى قاعدة الاشتغال إلّا ان أدلة البراءة الشرعية حاكمة على الاشتغال
العقلي ، لان مثل (رفع ما لا يعلمون) والناس في سعة ما لا يعلمون يرفع احتمال
العقاب الذي ينشأ من حكم العقل ، إن فعل المكلف المأمور به بلا قصد القربة فلا
يكون حينئذ محل لحكم العقل بالاشغال.
فبالنتيجة
: وان كان مقتضى
حكم العقل جريان الاشتغال في قصد القربة إلّا انه لا مانع من جريان البراءة
الشرعية في المقام ، نظير الشك في جزئية شيء أو في شرطيته للمأمور به لانه تجري
البراءة فيهما.
فكذا في المقام اي
قصد القربة. قلنا : انه فرق كثير بين الأجزاء والشرائط وبين قصد القربة ، وهو
انهما قابلان للوضع في متعلق الامر ، كما انهما قابلان للرفع عنه ، بخلاف قصد
القربة بمعنى الداعي الى الامر اذ هو ليس بقابل للوضع فيه حتى يمكن رفعه عنه شرعا
، وفي مقام التشريع ، بل دخله في الغرض وكونه محصّلا له واقعي عقلي.
والحال ان أدلة
البراءة تجري في الأشياء القابلة للوضع في متعلق الامر حتى يمكن رفعها بأدلة
البراءة بعد تمامية مقدمات الاطلاق المقامي.
وفي ضوء هذا
فمقدمات الاطلاق المقامي تامة في الجزء المشكوك وفي الشرط المشكوك ، ولا تتم في
قصد القربة بالمعنى المذكور اذ لا تناله يد الجعل في مقام التشريع.
فاشترط جريان
البراءة في المشكوك الذي يكون وضعه ورفعه بيد الشارع المقدس نحو اجزاء المأمور به
وشرائطه ، لا فيما لا يكون وضعه ورفعه بيد الشارع ،
وذلك كقصد القربة.
الجزء والشرط
قابلان للوضع والرفع :
قوله
: ودخل الجزء والشرط فيه ، وان كانا كذلك ، إلّا انهما قابلان للوضع والرفع شرعا
... الخ فان قيل : انه لو
كان الدخل الواقعي في الغرض مانعا عن جريان البراءة نحو قصد القربة لكان مانعا عن
جريانها في الجزء مشكوك الدخل في الغرض أو في الشرط الذي يحتمل دخله في غرض المولى
، فلأي دليل ومستند تجري فيهما مع كونهما دخيلين في الغرض تكوينا وواقعا على فرض
اعتبارهما فيه؟
قلنا
: ان الفرق واضح
بين الجزء المشكوك الدخل في الغرض ، وبين الشرط الذي نشك في دخله فيه ، وبين قصد
القربة بالمعنى المعهود ، وهو انهما ، وان كانا دخيلين فيه على تقدير اعتبارهما
ثبوتا ، إلّا انهما قابلان للوضع والرفع ، لانهما مما تناله يد الجعل في مقام
التشريع في متعلق الامر. بخلاف قصد القربة ، فانه غير قابل للوضع في متعلق الامر
لمحذور الدور حتى يمكن رفعه عنه.
وبالجملة
: ففعلية الامر
الذي يتعلق بالمركب الفاقد للمشكوك جزءا أو شرطا منتفية بدليل اجتهادي أو بدليل
فقاهة ، كي يجب الخروج عن عهدته ، اي عن عهدة المركب الكذائي ، عقلا لان التكليف
بهذا المركب المذكور لا يكون فعليا منجّزا ولكن فعلية الامر بالمركب الذي يشتمل
على قصد القربة ثابتة بحكم العقل ، كما عرفته في بيان تأسيس الاصل فيما نحن فيه
فلا نعيده.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
في مقام البحث وان كان امرا فعليا ولكن لم يعلم تعلقه بالمركب الذي يعتبر فيه
المشكوك وهو قصد الامتثال ، بل يحتمل تعلقه بالمركب الذي لا يعتبر فيه المشكوك.
وفي ضوء هذا فلا
يبقى فرق بين قصد القربة وبين سائر الأجزاء والشرائط المشكوكة ، فتجري البراءة
الشرعية عن قصد القربة كما تجري عن الأجزاء والشرائط المشكوكة ، وفيه ما فيه كما
لا يخفى.
هل الصيغة ظاهرة
في الوجوب أم لا؟
قوله
: المبحث السادس قضية اطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا ... الخ اعلم ان مقتضى اطلاق صيغة الامر في مقام البيان كون الوجوب
نفسيا لا غيريا ، تعيينيا لا تخييريا ، عينيا لا كفائيا ، لان كل واحد منها يحتاج
الى مئونة زائدة. مثلا الوجوب الغيري مقيد بوجوب ذي المقدمة ، كوجوب الوضوء الذي
يقيد بوجوب الصلاة ، كما ان ندبه مقيد بندبها ، والوجوب التخييري مقيد بما اذا لم
يفعل بالعدل نحو خصال الكفارة ، والوجوب الكفائي مقيد بعدم اتيان المكلف الآخر
الواجب كدفن الميت المسلم ، فان تمت مقدمات الحكمة فالاطلاق ، اي اطلاق هيئة صيغة
الامر ، يقتضي كون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا فقط وهذا واضح لا غبار عليه.
قوله
: المبحث السابع
انه اختلف القائلون ... الخ لا يخفى انه بعد تسليم ظهور صيغة الامر في الوجوب إما
وضعا وإما اطلاقا وانصرافا من باب اكملية الوجوب في الطلب لانه طلب شديد. والحال
ان الشيء اذا ذكر مطلقا ينصرف الى الفرد الاكمل ، كلفظ النبي اذا ذكر مطلقا ينصرف
الى النبي الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فاذا وقعت عقيب الحظر المتحقق او المتوهم أفتكون ظاهرة في
الوجوب أم لا؟
اختلف القائلون
بظهورها فيه على اقوال :
قال المشهور :
بظهورها حينئذ في الاباحة بالمعنى الاخص.
وقال بعض العامة :
بظهورها في الوجوب ايضا.
وقال بعضهم الآخر
بتبعيتها لما قبل الحظر ، فان كان الشيء مستحبا فمستحب ، وان كان واجبا فواجب ،
وان كان مباحا فمباح. فالملاك يكون بما قبل الحظر بشرط ان يعلق الامر بزوال علة
النهي السابق نحو نهي الله تعالى عن قتل المشركين في الأشهر الحرم : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ) وقوله تعالى :
__________________
(لا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) لان امر (فاقتلوا) في الاولى معلق على الانسلاخ من باب تعليق
الجزاء على الشرط. والحال ان انسلاخ الأشهر علة لزوال النهي عن قتلهم.
ولان أمر (فأتوا)
في الثانية معلّق على التطهر وهو علة زوال النهي عن قربهن في المحيض.
ولان امر (فاصطادوا)
في الثالثة معلق على الإحلال من الإحرام وهو علة زوال النهي عن الاصطياد.
ففي الاولى صيغة
الامر ظاهرة في الوجوب اذ قتلهم كان واجبا قبل النهي.
وفي الثانية صيغة
الامر ظاهرة في الاستحباب ، لان قربهن كان مستحبا قبل النهي.
وفي الثالثة هي
ظاهرة في الاباحة اذ الاصطياد كان مباحا قبل النهي. فالاقوال التي ذكرت هنا ثلاثة.
كما ذكرت آنفا.
قوله
: الى غير ذلك من
الاقوال المتعددة في المقام فلا طائل في تفصيلها.
قوله
: والتحقيق انه لا
مجال للتثبت بموارد الاستعمال فانه قل ... الخ والخلاف في هذا المقام فيما تخلو
الصيغة عن القرينة على الوجوب أو الندب أو الاباحة أو التبعية لما قبل النهي ، لا
فيما اقترنت بها. فالاستدلال بموارد استعمالها ووقوعها عقيب الحظر المتحقق او
المتوهم على الوجوب ، اي على كونها ظاهرة فيه كما استدل بالآية الشريفة : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) القائل بكونها ظاهرة فيها في الوجوب ، اذ قتلهم واجب بعد
انسلاخ الأشهر الحرم لانها مقرونة بالقرينة اللفظية وهي آيات أخر تدل على وجوب
قتلهم ، اجنبي عن المدعى ، فهو خبر للاستدلال السابق وكما استدلّ القائل بالاباحة
بالمعنى الاخص الذي يقابل الوجوب والحرمة والاستحباب
__________________
والكراهة بالآية
الشريفة : (فَاصْطادُوا) فهو ، اي فالاستدلال ، اجنبي عن المدعى ايضا لان الصيغة
مقرونة ايضا بالقرينة اللفظية ، وهي الأدلة التي تدل على اباحة الصيد والاصطياد في
الازمان.
وكما احتجّ القائل
بكونها ظاهرة في الاستحباب بالآية المباركة : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وهي ايضا قرينة اي مقرونة بالقرينة اللفظية وهي الروايات
التي تدل على الاستحباب المؤكد في التقارب مع النساء. وكما استدل القائل بالتبعية
لما قبل النهي بموارد استعمالها ، فلو خلا المورد عن القرينة لصار مجملا لا يحمل على
شيء إلّا بناء على كون حجية اصالة عدم القرينة في صور الشك في وجودها من باب
التعبد لا من باب حجية الظهور.
فاذن تحمل على
الوجوب على القول بوضعها له ، أو على الاستحباب على القول بوضعها له ، أو على
الاباحة على مذهب من قال بكونها موضوعة لها ، كما قال به بعض الاصوليين قدسسرهم. فتحتاج في هذا المورد الى قرينة معيّنة ، نظير لفظ
المشترك. كما ان وقوعها عقيب الحظر يوجب صيرورتها مجملة اذا لم تكن هناك قرينة ،
فلا مجال للتثبت بموارد الاستعمال ، فهذا اشارة الى ابطال الاستدلال على المدعى
بموارد الاستعمال كالآيات المتقدمة.
خلاصة
الكلام : ان الكلام في
المقام في ان وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول
عن مقتضاها إلّا بالدليل الموجب لظهورها في الاباحة أو الوجوب أو الرجوع الى حكم
سابق هو النهي بأي نحو كان ، والاستعمال والوقوع لا يدلان على شيء من ذلك لامكان
استناد الظهور فيه الى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر ، فلا يصح الاستناد اليه
في اثبات الدعوى.
غاية
الامر : ان صيغة الامر ،
بملاحظة وقوعها عقيب الحظر سواء كان متحققا ام كان متوهما ، لا يبقى ظهور لها في
الوجوب ، وتصير مجملا ، فلا يتعين احد
__________________
المعاني من الوجوب
والاستحباب والاباحة إلّا بالقرينة الاخرى غير وقوعها عقيب الحظر كما اشرنا اليه
سابقا في طي قوله : فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو غيره ...
الخ.
المرة والتكرار :
قوله
: المبحث الثامن الحق ان صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار ...
الخ اختلف الاصوليون
في ان صيغة الامر ، اذا لم تقيد بمرة أو تكرار هل تدل على المرة ، أو على تكرار
المأمور به ، او لا تدل لا على المرة ولا على التكرار؟
قال بعض بالمرة ،
وقال آخر بالتكرار ، وقال المصنف قدسسره ان الحق انه لا دلالة لها لا بمادتها ولا بهيئتها عليهما ،
وكلما ثبت تكرار المأمور به كالصلاة والصوم مثلا ، فهو انما يكون بالدليل الخارجي
، اذ الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة ، والمادة موضوعة لصرف الماهية لا
بشرط وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما ، بل تدل على طلب ايجاد الطبيعة من
حيث هي هي.
فان قيل : انها
اذا لم تدل على المرة فلم اكتفى بالمرة في مقام الامتثال؟ مثلا : اذا قال المولى
لعبده (اضرب زيدا) فضربه مرة عد ممتثلا ، فثبت انها تدل عليها إما وضعا وإما
اطلاقا بمقدمات الحكمة.
قلنا : ان
الاكتفاء بالمرة في تحقق الامتثال لا يكون لاجل وضع الصيغة لها ، بل لاجل وجود
الطبيعي المأمور به في ضمن الفرد قهرا ، فالعقل يحكم بالاكتفاء حينئذ ، وإلّا فلا
يتحقق الامتثال بسائر الافراد ايضا ، اي افراد طبيعي المأمور به ، لاتحاد حكم
الامتثال فيما يجوز وفيما لا يجوز.
تحقيق مادة الصيغة
:
قوله
: ثم لا يذهب عليك
ان الاتفاق على ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل إلّا على الماهية على
ما حكاه السكاكي ... الخ قال في (الفصول) ان محل الخلاف في
هذا المقام في
هيئة الصيغة ، أهي تدل على المرة أم على التكرار أم على طلب ايجاد الطبيعة؟ ذهب
الى كلّ فريق دون مادتها ، لان مادتها هي المصدر المجرد عن اللام الجنسي أو
الاستغراقي أو العهدي ، وعن تنوين التمكن ، لا تدل الا على الماهية ، اي ماهية
مدلوله ، وهو الحدث المطلق ، من دون المرة ومن دون التكرار باتفاق النحاة على ما
حكاه السكاكي صاحب مفتاح العلوم.
فردّ المصنف قدسسره قول صاحب الفصول قدسسره بان الاتفاق في المصدر المذكور لا يلازم الاتفاق في مادة (افعل)
لان المصدر بماله من المعنى لا يكون مادة (لافعل) كي يوجب اتفاقهم على عدم دلالته
الا على الماهية اتفاقهم على عدم دلالة مادة صيغة الامر ايضا الا على الماهية ،
لانه مباين مع الافعال بحسب المعنى ، اذ هو يدل على الحدث فقط ، والافعال تدل على
كيفية قيام الفعل بالفاعل من حيث الصدور أو الحلول أو الحدوث أو الثبوت ، في
الماضي أو الحال أو الاستقبال ، نحو (ضرب زيد) و (مات عمرو) و (نام بكر) و (حسن
خالد) هذه أمثلة الماضي. وامثلة المضارع نحو (يضرب زيد) و (ينام بكر) و (يحسن خالد).
وأمثلة الحاضر (اضرب زيدا) و (مت يا عمرو) و (نم يا بكر) و (احسن يا خالد).
فالافعال سواء
كانت ماضية أو مضارعة أم كانت أمرا تدلّ على الحدث وعلى كيفية قيام الفعل بالفاعل.
واما المصادر فتدل على الحدث فقط ، فلا تكون المصادر مادة لفعل من الأفعال.
فبالنتيجة
: لا يكون المصدر
مادة للمشتق الذي منه صيغة (افعل) بل هو احد المشتقات ، فعلى هذا يمكن ان يكون
النزاع في مادة (افعل) كما انه في هيئته ، فلا معنى لقول (الفصول) باختصاص النزاع
في هيئة (افعل) كما لا يخفى لان المصدر المجرد عنهما صيغة مستقلة ، ولا مادة سوى
مادة (افعل) فلا ترتبط بها ـ اي بالمصادر الكذائية ـ بناء على كون المصدر صيغة
مستقلة كما اختاره اصلا.
قوله
: ان قلت فما معنى ما اشتهر من كون المصدر اصلا في الكلام قلت ... الخ قال المصنف قدسسره انه مع كون المصدر اصل الكلام فهو محل الخلاف بين الصرفيين
لان
الكوفيين يقولون
بان الفعل اصل الكلام لوجهين :
الاول
: ان الفعل يقع
مؤكّدا والمصدر مؤكّدا نحو (ضربت ضربا) لانه بمنزلة (ضربت ضربت) وهو اصل بالنسبة
اليه اذ هو عامل وهو معمول. مضافا الى كونه متبوعا والمصدر تابع. والعامل أصل ،
والمعمول فرع ، كما ان المتبوع اصل والتابع فرع.
الثاني
: ان اعلال المصدر
يدور مدار اعلال الفعل وجودا وعدما. فالاول كما في (يعد عدة) ، والثاني كما في (يوجل
وجلا) والمدار عليه اصل والمدار فرع.
واما البصريون
فيقولون : بان المصدر اصل الكلام. واستدلوا بوجهين ايضا :
الاول
: ان مفهوم المصدر
واحد وهو الحدث ومفهوم الفعل متعدد وهو الحدث والزمان ، والواحد قبل المتعدد.
الثاني
: ان المصدر بمعنى
محل الصدور لانه اسم مكان صيغة. هذا اولا ، وثانيا : ان كون المصدر اصلا في الكلام
ليس معناه انه مشتق منه ومادة للمشتقات ، بل معنى كونه أصل الكلام أنّ الذي وضعه
الواضع أولا هو المصدر ، ثم بملاحظته وضع غيره من الهيئات التي تناسب المصدر من
حيث الحروف والترتيب. مثلا : وضع الواضع اولا كلمة (ضرب) لحدث منسوب الى فاعل ما ،
ثم وضع بملاحظته هيئة (ضرب) لحدث منسوب الى فاعل ما في الزمان الماضي ، ووضع هيئة (يضرب)
لحدث ينسب الى فاعل ما في زمن الاستقبال ، ووضع هيئة (اضرب) لحدث ينسب الى فاعل ما
في زمن الحال.
غاية الامر ان وضع
المصدر شخصي ووضع المشتقات شخصي باعتبار مادتها ، ونوعي بلحاظ هيئتها. مثلا : وضع
الواضع مادة (ضارب) للحدث الخاص ، وهيئته للذات الصادر عنها المبدأ ، اي هيئة (فاعل)
كما انه وضع هيئة (مفعول) للذات الواقع عليها المبدأ. فوضعها باعتبار المواد شخصي
، وبلحاظ الهيئات نوعي ، اما في المصادر فالوضع بلحاظ موادها شخصي دائما دون
هيئتها ، لانطباق هيئتها على الاسم ك (فعل) و (فعل) المنطبقين على (عمرو وبشر) كما
لا يخفى.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى انه فان اعترفنا ان المصدر يكون اصل الكلام ومادة لسائر المشتقات ، بحيث اذا
وضعت المصادر من حيث المواد للاحداث ، فقد وضعت مواد المشتقات جميعا ، فلا نحتاج
حينئذ الى وضع مواد سائر المشتقات بوضع على حدة ، الا الى وضع خصوص هيئاتها نوعيا
، بمعنى ان هيئة (فاعل) موضوعة للذات القائم بها المبدأ ، وهيئة مفعول للذات
الواقع عليها المبدأ ، في ضمن أيّة مادة كانت. وان انكرنا كون المصدر مادة
للمشتقات وقلنا ان المصدر صيغة في قبال سائر الصيغ والمشتقات كما قال بهذا المصنف قدسسره احتجنا حينئذ الى وضع موادها شخصيا ، والى وضع هيئاتها
نوعيا ، كما ان قوله : أو المصدر أو الفعل قبل قوله اشارة الى هذا : فافهم اشارة
الى خلاف البصري والكوفي كما سبق هذا فلا نعيده خوفا من التكرار.
تحقيق معنى المرة
والتكرار :
قوله
: ثم المراد بالمرة
والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ... الخ أتكون لهذا النزاع ثمرة
فقهية أم لا؟ والحال انه لا بد للنزاع الاصولي من ثمرة فقهية؟
الجواب
: نعم تظهر الثمرة
بين الدفعات والافراد فيما اذا قال المولى لعبده (أعتق رقبة) وهو (أعتق رقابا
متعددة) دفعة. فعلى الدفعات لا يجزى وعلى الافراد يجزى ، لان عتق رقبة واحدة يتحقق
في ضمن عتق الرقاب ولا تتحقق الدفعات في ضمن دفعة ، بل تظهر الثمرة بين الدفعة
والفرد في القول المذكور ايضا. لانه على الدفعة يقع عتق جميع العبيد على عنوان
المطلوبية للمولى ، لان عتق فرد يكون على نحو اللابشرط وهي تجتمع مع الف بشرط شيء.
واما على الفرد فلا يقع الجميع على صفة المطلوبية للمولى الا واحدا منها والباقي
زائد.
اعلم ان النسبة
بين الدفعة والفرد عموم من وجه ، مادة الاجتماع اذا أنشئ عتق عبد واحد ، ومادة
الافتراق عن جانب الدفعة في عتق عبيد بانشاء واحد ، ولا يصدق الفرد هنا لكون
المعتق ذا افراد. ومادة الافتراق عن جانب الفرد مثل الكلام
الممتد المتصل فرد
واحد وليس دفعة. كما ان بين الدفعات والافراد ايضا عموم من وجه ، مادة الاجتماع في
انشاء عتق ثلاثة عبيد مثلا ، بانشاء المتعدد على حسب الافراد. ومادة الافتراق عن
جانب الافراد في انشاء عتق ثلاثة عبيد بانشاء واحد. ومادة الافتراق عن جانب
الدفعات في الكلمات المترادفة نحو اسد وغضنفر وحارث ودلهاث ، فانه تصدق عليها
الدفعات حسب التكرر فقط ، ولا تصدق عليها الافراد ، لعدم تعدد معانيها كي تكون
الفاظها ذات مصاديق كثيرة.
قوله
: والتحقيق ان يقعا بكلا المعنيين محل النزاع ... الخ الذي استظهره في (الفصول) ان النزاع فيهما بالمعنى الاول ،
ونسب الى القوانين ، كونه فيهما بالمعنى الثاني.
قال المصنف قدسسره ، رادا للفاضلين قدسسرهما صاحب (الفصول) وصاحب القوانين :
والتحقيق ان يقعا
بكلا المعنيين موردا للنزاع ، وان كان لفظ المرة ظاهرا في الدفعة ولفظ التكرار في
الدفعات ، ومنشأ هذا الظهور هو التبادر الحاقي الكاشف إنّيا عن الوضع.
توهم صاحب (الفصول)
في المقام :
قوله
: وتوهم انه لو اريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم ... الخ وتوهم صاحب الفصول قدسسره انه بناء على ارادة الفرد من المرّة يلزم جعل بحث هذه
المسألة من تتمة بحث المسألة الآتية وهي ان الاوامر أتتعلق بالافراد أم تتعلق
بالطبائع؟ بان يقال انه على القول بتعلقها بالافراد فصيغة الامر تدل على كون مطلوب
المولى فردا أم افرادا أو لا تدل على شيء منهما ، وحينئذ لا حاجة الى انفراد كل
واحد من مسألة المرة والتكرار ، ومسألة تعلق الاوامر بالطبائع ، او الافراد بل
ينبغي جعلهما مسألة واحدة كما فعل الاصوليون تعددهما.
واما لو اريد بهما
الدفعة والدفعات فلا علقة ، حينئذ ، بين المسألتين لانه يجري بحث الدفعة على القول
بتعلق الاوامر بالطبائع ، بان يقال انه أتقتضي الصيغة
مطلوبية الطبيعة
دفعة أم دفعات أم لا تقتضي شيئا منهما؟ واما على القول بتعلقها بالافراد بان يقال
انه أتقتضي الصيغة كون الفرد مطلوبا دفعة أو دفعات أم لا تقتضي شيئا منهما؟ كما لا
يخفى.
عدم العلقة بين
المسألتين :
قوله
: فاسد لعدم العلقة بينهما لو اريد بها الفرد ايضا فان الطلب على القول ... الخ فاذا اريد بالمرة الفرد وبالتكرار الافراد فلا تكون العلقة
بين مسألة المرة والتكرار ومسألة الطبائع والافراد ايضا ، كما انه لا تكون العلقة
بينهما اذا اريد بها الدفعة وبه الدفعات. فان طلب المولى على القول بتعلق الاوامر
بالطبائع انما يتعلق بالطبيعة باعتبار وجودها في الخارج في ضمن الافراد ، ضرورة ان
الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا مطلوبة للمولى ولا غير مطلوبة ، اذ هي مجردة
عن جميع الخصوصيات ، ويدل على تجردها عنها تقسيمها الى الموجودة والى المعدومة. فيقال
انها اما موجودة واما معدومة.
فلو كانت موجودة
مستقلة للزم تقسيمها الى نفسها والى غيرها ، وهذا فاسد جدا ، يعني فالتالي باطل
فالمقدم مثله ، فباعتبار الوجود تكون مرددة بكلا المعنيين لانه لا معنى لتردد ذات
الماهية بلا لحاظ وجودها في ضمن الافراد بين الدفعة أو الدفعات أو الفرد أو
الافراد ، اذ هي من حيث هي ليست إلّا هي كما هو المشهور بين الفلاسفة.
اما بيان ترديد
الطبيعة باعتبار وجودها في ضمن الافراد بكلا المعنيين الذين يكونان للفظ المرة
والتكرار ، اما بالمعنى الاول ، اي الدفعة والدفعات ، فواضح لانه يقال على القول
بتعلق الاوامر بالطبائع هل يجب الإتيان بالطبيعة في ضمن الفرد دفعة أو دفعات؟
واما بيان ترديد
الطبيعة بالمعنى الثاني ، اي الفرد والافراد ، فهو ان المراد بالفرد في مسألة
الطبيعة والفرد يكون غير المراد من الفرد في مسألة المرة والتكرار.
بيان
ذلك : ان المراد
بالافراد التي تقابل الطبائع ان خصوصيات الفردية ومشخصات الجزئية داخلة في المطلوب
أو لا تدخل فيه فان قلنا بتعلق الاوامر بالطبائع فالخصوصيات الفردية غير داخلة في
المطلوب وفي متعلق الامر لان المطلوب ايجاد الطبيعة في ضمن فرد من افرادها.
واما ان قلنا :
بتعلق الاوامر بالافراد فالخصوصيات للافراد ملحوظة في المطلوب وداخلة في متعلق
الامر ، وان المراد بالفرد والافراد في مسألة المرة والتكرار اذا اريد من المرة
الفرد ومن التكرار الافراد كما عن صاحب (القوانين) هو وجود واحد او وجودات.
ومن الواضح انه
على القول بتعلق الاوامر بالطبائع يمكن ان يقال انه هل يكفى الإتيان بالطبيعة
المأمور بها في ضمن وجود واحد اي في ضمن وجود فرد من افراد الطبيعة؟ أو يلزم
اتيانها في ضمن وجودات متعددة اي في ضمن وجودات افراد من الطبيعة لانه لكل فرد
وجود مستقل لا يرتبط بوجود الفرد الآخر؟
فاذا كان المراد
من الفرد هو الوجود فلم عبّر عن الوجود بالفرد كما عبّر عن الوجودات بالافراد.
قلنا : انه عبر عنه به لان وجود كلي الطبيعي في الخارج هو وجود فرده فيه بعينه فقط
، لانه لم تكن نسبة الطبيعي الى افراده كنسبة الآباء المتعددة الى الابناء الكثيرة
، ولا كنسبة الأب الواحد اليها.
فالموجود في
الخارج هو افراد الطبيعي ، غاية الأمر أنّ الطبيعي يتحقق في الخارج بتبع افراده
وفي ضمن وجود مصاديقه فلا يكون الفرد في المسألتين بمعنى واحد ، لانه في مسألة
المرة والتكرار ، اذا اريد من المرة الفرد كان بمعنى وجود واحد ، كما ان التكرار
يكون بمعنى وجودات. وفي مسألة الطبائع والافراد لا يكون الفرد بمعنى وجود واحد ،
بل بمعنى مصداق واحد ، مع ملاحظة خصوصياته الفردية.
نعم اذا اريد من
لفظ المرة ، في مسألة المرة والتكرار الفرد الخارجي من الطبيعة ومن التكرار ،
الافراد والخارجية منها فقط ، كانت هذه المسألة من تتمة مسألة الطبائع والافراد
لان الطبيعة تتحقق بتحقق الفرد الواحد. واما اذا اريد من
المرة الفرد بمعنى
الوجود ، ومن التكرار بمعنى الوجودات ، فهذه اجنبية عن المسألة الآتية ، كما ان
الدفعة والدفعات غير مرتبطين بالافراد ، اذ كلاهما ينطبق على ترديد الطبائع لا
الافراد في مقابل الطبائع.
الفرق بين مسألة
الطبائع والافراد :
قوله
: غاية الامر خصوصيته وتشخّصه على القول بتعلق الامر بالطبائع ... الخ هذا في بيان توضيح الفرق بين الفرد في مسألة الطبائع وفي
مسألة الافراد.
ان المشخّصات
الفردية خارجة عن المطلوب ، وتلازمه لان المطلوب هو مجرّد وجود الطبيعة وايجادها
في ضمن اي فرد من افرادها ، بحيث لو امكن التفكيك بينهما في مقام الامتثال لأجزأ
وجود الطبيعة في الخارج باي نحو كان وفي ضمن اي فرد تحقق.
واما على القول
بتعلق الامر بالافراد فتكون المشخّصات والخصوصيات داخلة في المطلوب ومحصّلة له ،
بحيث لو امكن الانفكاك بين الفرد وخصوصياته على الفرض لما أجزأ وجود الفرد في
الخارج بلا انضمام الخصوصيات معه ، اي مع الفرد فيه.
عدم الإشكال على
المرّة في مقام الامتثال :
قوله
: تنبيه لا اشكال ، بناء على القول بالمرة ، في الامتثال وانه لا مجال ... الخ أتكون ثمرة لهذا النزاع أم لا؟ والحال انه لا بد من نزاع
الاصولي من الثمرة الفقهية؟
الجواب
: ان الثمرة انه
يحصل الامتثال باتيان المأمور به مرة ، على القول بالمرة سواء كانت بمعنى الفرد أم
كانت بمعنى الدفعة ، فلا وجه للاتيان ثانيا ، لانه يحصل الغرض والمأمور به بالفرد
الاول ويسقط الامر ، فلا معنى للامتثال عقيب الامتثال ، بل يكون هذا تشريعا محرما
كتابا وسنة واجماعا وعقلا.
واما على القول
بالتكرار ، فواضح انه يلزم التكرار على حسب ما يستفاد من
الامر لبقاء الامر
، فتحصل الامتثالات على حسب ايجاد المأمور به ، كما انه تحصل العصيانات على تقدير
عدم ايجاد المأمور به ولو مرة.
واما بناء على
مختار المصنف قدسسره فلا يخلو الحال من وجهين لان اطلاق صيغة الامر من غير
تقييدها بالمرة أو التكرار إما أن يكون في مقام البيان لا في مقام الاجمال
والاهمال ، فلا شك انه يكتفي بالمرة وهي مجزية قطعا ، لانا نتمسك لدفع الوجود
الزائد على المرة باطلاق الصيغة مع كونه في مقام البيان.
فلو كان الزائد
على المرة مطلوبا لوجب بيانه وإلّا لاخلّ بالغرض ، فنتمسك حينئذ ـ لدفع احتمال
الزائد على المرة ـ باصالة البراءة عن وجوب الزائد لوجود شرطها في هذا المقام وهو
الشك في تكليف الزائد وهي اصل عملي للشاك المتحيّر.
الإشكال الوارد
على المرّة :
قوله
: وانما الإشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاقها ، اي اطلاق الطبيعة
المأمور بها هو الإتيان بها مرة او مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة ... الخ قال المصنف قدسسره ان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها من غير تقييدها بالمرة
أو التكرار نحو (اضرب زيدا) عدم الاقتصار على اتيانها مرة. فان لازم اطلاق الطبيعة
المأمور بها هو الإتيان بها مرة أو مرات ، فاذا أتي بها مرة ثانية ومرة ثالثة يكون
بهما الامتثال ايضا كما يكون بالمرة الاولى نظرا الى اطلاقها ، كما لا يخفى.
فاجاب المصنف قدسسره عنه بقوله : والتحقيق ان قضية الاطلاق ومقتضاها انما هو
جواز الإتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد عرضية فاذا قال المولى لعبده (اعتق رقبة)
من غير تقييده بالمرة أو التكرار فله ان يعتق رقبة سواء كانت مؤمنة أم كانت كافرة
وله ان يعتق رقبات بانشاء واحد.
فبإيجاد الطبيعة
في ضمن فرد منها أو في ضمن الافراد العرضية منها تتحقق الطبيعة ، ويحصل الغرض.
فاذا حصل سقط الامر فلا مجال للاتيان بها في ضمن افراد الطولية منها بقصد الامتثال
والاطاعة ، لان الوجود الاول ، اذا كان علّة تامة
لسقوط الغرض ، كان
علة تامة لسقوط الامر ايضا.
فالوجود الاول
علّة لحصول الغرض ولسقوط الامر. وحصول الغرض معلول للامتثال. فاذا حصل الامتثال
امتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الإتيان به بقصد امتثال الامر ،
واذا امتنع كون الإتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا
للمرة وللمرات.
هذا فيما اذا كان
امتثال الامر علّة تامة لحصول الغرض الاقصى ، بحيث يحصل الغرض بمجرد الامتثال ،
فلا يبقى مجال ـ مع حصول الغرض ـ لامتثال الامر ولإتيان المأمور به ثانيا بداعي
امتثال آخر بأن تكون الطبيعة مأمورا بها بالامر الثاني ، أو بداعي أن يكون
الإتيانان ـ اي الإتيان بالطبيعة المأمور بها في ضمن الفرد الاول ، وجودا وفي ضمن
الفرد الثاني من حيث الوجود ـ امتثالا واحدا ، بان تكون الطبيعة مأمورا بها بالامر
الواحد لما عرفت من حصول الموافقة لامر المولى باتيان الطبيعة المأمور بها في ضمن
الفرد الاول وجودا ، ومن سقوط الغرض وحصوله مع الموافقة ، ومن سقوط الامر بسقوط
الغرض. لان الامتثال يصدق بالوجود الاول والفرد الاول ، فلا مجال للامتثال ثانيا
اذ لا معنى للامتثال عقيب الامتثال.
قوله
: واما اذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض ... الخ كما اذا أمر المولى عبده بالماء ليشرب او ليتوضأ ولم يشرب
أو لم يتوضأ فعلا ، فلا يحصل الغرض الاقصى للمولى بمحض احضار الماء وان امتثل أمره
، لان الغرض الاقصى هو الشرب أو التوضؤ ، فلا يكون امتثال الامر في هذا المورد
علّة لحصول الغرض ، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر من الطبيعة
المأمور بها أحسن من الفرد الاول ، ككونه الأبرد للشرب أو الأحرّ للتوضؤ ، بل
مطلقا ، وان لم يكن الثاني احسن من الاول.
فبالنتيجة
: اذا كان امتثال
الامر علّة لحصول الغرض فلا معنى لاتيان المأمور به ثانيا بقصد الامتثال ، لعدم
بقاء الامر بعد حصول الغرض ، واذا لم يكن علّة له ، كما في هذا المثال ، فلا يبعد
جواز الإتيان بالمأمور به ثانيا بقصد الامتثال ، لان
بقاء الغرض يكشف
عن بقاء الامر ، كما ورد في الرواية اعادة الصلاة جماعة بعد فعلها منفردا ، فعلم
انه لا يسقط الامر بمجرد اتيان الصلاة منفردا ، فاذا لم يسقط بقي الغرض ، فلا بدّ
من الامتثال ثانيا.
قوله
: كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الإجزاء ، يجوز للعبد اتيان المأمور به بايّ فرد يشاء قبل الإتيان
بالفرد الاول ، على ما سيأتي بيان هذا المطلب في الإجزاء ان شاء الله تعالى ، (وهو
معين).
هذا فيما اذا كان
الامر مطلقا لفظا ، واما اذا كان مهملا فلا بدّ ـ حينئذ ـ من الاكتفاء بالمرة ،
ورجعنا في الزائد عليها الى الاصول العملية من البراءة أو الاستصحاب على حسب
المقام.
دلالة الامر على
الفور أو التراخي :
قوله
: المبحث التاسع الحق انه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخي ... الخ واختلف الاصوليون في هذا المقام. فقال الشيخ الطوسي قدسسره ومن تبعه بدلالتها على الفور. وقال علم الهدى قدسسره بالاشتراك بين الفور وبين التراخي. ولم نعرف القائل
بالتراخي فقط.
وقال المصنف قدسسره : ان الحق انه لا دلالة لصيغة الامر لا على الفور ولا على
التراخي بل تدل على طلب الطبيعة المطلقة من غير فور ، نعم يكون مقتضى الاطلاق جواز
التراخي ، مثلا : يكون المطلوب في صلّ اتيان الصلاة ولو متراخيا. ففي اثبات الفور
والتراخي نحتاج الى الدليل الخارجي.
وقال قوم انه لا
علم لنا انها تدل على الطلب المطلق أم على الطلب المقيّد بالفور ، ولا يخفى ان
المراد من الاطلاق الذي يكون مقتضاه جواز التراخي هو اطلاق المادة بالاضافة الى
الزمان ، واستدلّ المصنف قدسسره على مختاره بتبادر طلب ايجاد الطبيعة من اطلاق الصيغة من
دون تقيّدها بالفور أو التراخي في مقام بيان تمام الغرض. فتقييدها باحدهما يتوقف
على دليل خارجي غير دلالة الصيغة.
هذا اذا أحرز ان
المتكلم في مقام البيان. فعلى هذا ، لو كان مراده احدهما لوجب عليه البيان
والتقييد باحدهما. وإلّا يلزم نقض الغرض ، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم جلّ ذكره.
وان لم يحرز هذا
شككنا ـ حينئذ ـ في وجوب الفور أو التراخي ، فيكون الشك في التكليف وهو مجرى اصالة
البراءة لانا نعلم بوجوب ايجاد الطبيعة المأمور بها في ضمن فرد ، ولكن نشك في وجوب
الفور وعدم وجوبه وفي وجوب التراخي وعدم وجوبه فنجري البراءة ونقول ان الاصل عدم
وجوب احدهما والاصل براءة الذمة عنه.
استدلال الشيخ
الطوسي :
واحتجّ الشيخ قدسسره على مذهبه بآية المسارعة وآية الاستباق وهما قوله : تعالى
:
(وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ). وطريق استدلال الشيخ قدسسره بالآيتين الشريفتين ان في الاولى وجوب المسارعة الى سبب
المغفرة لان نفس المغفرة فعل الله تعالى ، ويستحيل مسارعة العباد اليها ، والحال
انه يشترط ان يكون متعلق التكليف مقدورا للمكلف ، فلا بد ان يكون المراد وجوب
المسارعة اليه ، أي الى سبب المغفرة ، والحال ان الفعل الواجب من اسبابها. وان في
الثانية وجوب المسابقة الى الخيرات ، ولا اشكال في ان فعل الواجب من الخيرات فتجب
المسابقة اليه والمسارعة والاستباق انما يتحققان بالفور فقط. فاجاب المصنف عنه :
اولا
: ان سياق الآيتين
الشريفتين هو البعث والتحريك الى المسارعة والاستباق بنحو الاستحباب من دون ان
يستتبع تركهما الغضب والشر ، وإلّا لكان البعث والتحريك بالتحذير عن تركهما انسب ،
لان التحذير يكون اشدّ تأثيرا في
__________________
تحرّك المكلف الى
المسارعة والى الاستباق لا البعث والتحريك الى فعل المسارعة والاستياق كما هو سياق
الآيتين المباركتين كما لا يخفى.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
البعث والتحريك الى فعل الواجب بسبب ذكر الثواب كثير ، والحال ان ترك الواجب
يستلزم الغضب والعقاب من دون التحريك على الغضب والعقاب على ترك الواجب ، فكذا ما
نحن فيه ، هذا مضافا الى ان العباد من حيث الطبائع مختلفون جدا. فبالاضافة الى
بعضها يناسب التحذير بذكر العقاب وفي الآخر ينبغي الرجاء بذكر الثواب. فوجه فافهم
يردّ جواب الاول كما لا يخفى.
وثانيا
: ان الامر
بالمسارعة والاستباق ، ان كان للوجوب ـ كما هو مدعى الشيخ قدسسره ـ لزم كثرة
التخصيص ، وهو مستهجن لخروج جميع المستحبات وكثير من الواجبات عن الآيتين ، لاجل
عدم وجوب المسارعة فيها بالاجماع ، فيبقى الواجب الفوري تحتهم. أفلا بد من حمل
الامر فيهما على مطلق الرجحان الذي يشمل الوجوب والاستحباب فالمسارعة واجب في
الواجب الفوري ومندوب في المندوبات كلا. ومستحب وراجح في الواجب غير الفوري ، وهذا
مما لا كلام فيه.
وثالثا
: انه لا يبعد دعوى
استقلال العقل بحسن المسارعة الى امتثال أمر المولى وبحسن الاستباق الى الخيرات.
فآية المسارعة وآية الاستباق ارشاديتان نظير الاوامر الباعثة على اصل الاطاعة نحو (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فلا يلزم حينئذ تخصيص الاكثر لان الآيات تدل على رجحان
المسارعة والاستباق ، ولكن لا في نفسهما بل في الاوامر الواقعية.
اما نفس المسارعة
والاستباق فراجحان عقلا نظير الطاعة والانقياد فلا يترتب العصيان على تركهما كما
لا يترتب الثواب على فعلهما غير مصلحة نفسهما. مثلا : اذا سارع المكلف باتيان
الصلاة في اول وقتها فلا يستحق ثوابين ، احدهما على نفس الصلاة والآخر على نفس
المسارعة والاستباق ، بل يستحق ثوابا واحدا ، اي ثواب الصلاة اول وقتها.
نعم تكون المسارعة
والاستباق حسنين عقلا وذوي مصلحة كالاطاعة
والاحتياط. فبناء
على كون الامر للارشاد لا يلزم التخصيص أصلا ، فضلا عن كثرته. لان المسارعة الى
فعل الواجبات والى فعل المندوبات حسن عقلا ، وكذا الاستباق ممدوح. فيكون الامر في
الآيات على البعث نحو المسارعة والاستباق للاثر المترتب على نفس المادة.
يعني ان الامر ،
حينئذ ، يكون ارشادا الى المصلحة التي تكون في المادة ، كامر الطبيب المريض الى
مصلحة موجودة في الدواء أو الغذاء. فالمصلحة مترتبة على الدواء والغذاء وان لم
يأمر الطبيب بها ، لان المصلحة مترتبة على وجود المادة لا على عنوان كونها مأمورا
بها. مثلا : اذا كان قرص كذا أو شربة كذا نافعين للمريض فأكلهما فأعطيا اثرهما
سواء أمر الطبيب أم لا. فهذا شان الاوامر الارشادية.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى ضعف ضابط كون الاوامر ارشادية ان تكون المصلحة في نفس المادة ، لان كون الامر
مطلقا ، اي سواء كان ارشاديا أم كان مولويا ، لما يترتب على المادة من الخواص
والآثار هو مما يشترك فيه تمام الاوامر سواء كانت مولوية أم كانت ارشادية من غير
اختصاص بالارشادية فقط ، مثلا : اذا قال المولى (صلّ) فالمصلحة تكون في نفس الصلاة
وهي مادة لامر (صلّ) كما اذا قال الطبيب للمريض (اشرب هذه الشربة) فالمصلحة تكون
لشربها ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، فيحتمل ان يكون الامر في الآيتين
الشريفتين مولويا ، فهذا الضابط لا يكون تماما.
توضيح
في بيان الضابط في ارشادية الاوامر والنواهي : ان الضابط في كون الاوامر والنواهي ارشادية ان يكون الامر
والنهي لصرف الايقاظ على ما في الفعل من الخواص والمنافع والمضرات من دون أن يترتب
على موافقته قرب ولا ثواب ، ولا على مخالفته بعد ولا عقاب.
وقد صرح بذلك
الشيخ الانصاري قدسسره وقال غيره ان الفرق بين الامر المولوي والنهي المولوي ،
وبين الامر الارشادي والنهي الارشادي هو ان في الاوامر والنواهي المولوية يريد
الآمر ويكره الناهي ويحب الفعل المأمور به ويبغض الفعل
المنهي عنه
ويتبعهما القرب والبعد والثواب والعقاب.
اما في الاوامر
والنواهي الارشادية فلا تكون في نفس الآمر والناهي ارادة ولا كراهة ولا حبّ ولا
بغض حتى يتبعهما القرب والبعد والثواب والعقاب ، بل يأمر الطبيب المريض وينهاه
بداعي الارشاد الى ما في الفعل من المنافع والى ما في الترك من المضار ، فان شاء
المريض وافقه واطاعه وان شاء خالفه وعصاه فلا موافقة المريض تقرّبه الى الطبيب ولا
مخالفته وعصيانه يبعدانه عنه.
فهذا الفرق متين
جدا. فيكون الامر في الآيات والروايات لما يترتب على المادة من الخواص والآثار مع
قطع النظر عن تعلق الامر بالمادة بتوسط الهيئة كما هو شان الاوامر الارشادية ، فهي
تابعة للمادة ، فان كانت واجبة فهي للوجوب مثل اطاعة المولى ، ولذا حمل الامر في (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) على الوجوب.
وحمل الامر في
آيتي المسارعة والاستباق على الاستحباب أو على مطلق الرجحان الشامل للوجوب والندب
بلا دخل الهيئة فيها ، اي في الاوامر الارشادية.
قوله
: تتمة بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الإتيان فورا ففورا ... الخ قال : لو قلنا بالفور أفتقضي الصيغة وجوب الإتيان في اول
اوقات الامكان ، بحيث لو عصى المكلف لوجب عليه الإتيان بالمأمور به فورا ايضا في
الزمان الثاني من اوقات الامكان ، أم لا؟
فهنا وجهان
متفرعان على ان مفاد الصيغة على هذا القول بالفور أهو وحدة المطلوب للمولى بمعنى
كون الفورية مقومة لتمام المصلحة بحيث تفوت بفوات الفورية ، فحينئذ ، لا تكون في
الإتيان الثاني ولو فورا ، أم تعدد المطلوب ، بمعنى ان تكون هنا مصلحة قائمة بنفس
الفعل المأمور به من دون تقيده بالفور ، وتكون هاهنا مصلحة اخرى قائمة بالفورية
فاذا فات الاول بقي الثاني ، فوجب عليه الإتيان في الثاني من اوقات الامكان ، ففي
الثالث ، وهكذا فورا ففورا بحيث يكون الاخلال بالفورية منقّصا لمرتبة من المصلحة
مع بقاء اصل المصلحة ولو في الجملة؟
وحدة المطلوب
وتعدّده :
قوله
: ولا يخفى انه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من
وحدة المطلوب أو تعدده فتدبّر جيدا وهو اشارة الى دقة المطلب.
ولا يخفى انه بعد
تسليم دلالة الصيغة على الفور قاصرة عن الدلالة على كيفية مطلوب الطبيعة المأمور
بها ، وانها هل تكون على نحو وحدة المطلوب أو على نوع تعدده؟ فلا بد ، حينئذ ، من
الرجوع الى الاصل العملى بشرط عدم افادة مقدمات الحكمة شيئا من الامر الذي يترتب
عليها ، وإلّا فلا يجب الإتيان في الزمن الثاني من اوقات الامكان عملا لمقتضاها ،
وان لم تجر مقدّمات الحكمة فستصل النوبة الى أصل البراءة ، وهو يقتضي عدم الوجوب ،
بالاضافة الى ما زاد على الدفعة. لان ما زاد يحتاج ، في مقام الاثبات ، الى مئونة
سواء قلنا بان الفور من قيود متعلق الامر ، أم كان واجبا مستقلا بدليل آخر غير
الصيغة لجريان اصالة البراءة على التقديرين ، لوجود شرطها وهو الشك ، في التكليف
الوجوبي.
ولكن قال بعض انه
ينبغي ان يجعل الاحتمال في هذا المقام ثلاثي الاطراف الاول : انه يقال على هذا
المبنى فلو ترك المكلف الإتيان فورا عصى يستحق اللوم في الدنيا والعقاب في الآخرة
ولكن سقط الامر وهذا متفرع على وحدة المطلوب.
والثاني
: فلو ترك الإتيان
فورا عصى في ترك الفور ، ولكن بقي الامر بالطبيعة ، وهذا مبنيّ على تعدد المطلوب.
والثالث
: فلو تركه في اول
اوقات الامكان عصى ، ولكن بقي الامر. غاية الامر أنه يجب عليه الإتيان فورا ففورا.
فالفرق بين الثاني والثالث ، ان في الثاني لا يجب الفور في الثاني من اوقات
الامكان ، وفي الثالث يجب الفور في كل اوقات الامكان الثاني والثالث والرابع فهذا
متوقف على تعدد المطلوب كالثاني.
فالفور في اول
اوقات الامكان مقوّم لاصل المصلحة ، فتفوت بفوات الفور. ولذا سقط الامر هذا على
الاحتمال الاول ، والفور بناء على الاحتمال الثاني لا يكون مقوّما لتمام المصلحة ،
بل هنا مصلحتان : احداهما : قائمة بنفس الفعل المأمور
به في كل أوقات
الامكان. وثانيتهما : بالفور فقط ، فلو فاتت مصلحة الفور فقد بقيت مصلحة الفعل
بحالها ولذا لم يسقط الامر ، ووجب الإتيان ، لكن لا على نحو الفور والفورية.
واما الفور بناء
على الثالث كالثاني ، الّا ان مصلحة الفور تكون ذات مراتب ، بحيث يكون الاخلال
بالفور منقّصا لمقدار من مصلحته ، ولا يكون الإخلال بالفور في اول اوقات الامكان
مفوّتا لاصل المصلحة ، اي مصلحة الفور والفورية.
فقوله : وحدة
المطلوب اشارة الى الاحتمال الاول كما ان قوله : أو تعدّده اشارة الى الاحتمالين
الثاني والثالث.
قوله
: فتدبر جيدا وهو
تدقيقي لوجهين : الاول : لانه أمر بالتدبر لا بالتأمل ولا بالتفهم ، وهو ظاهر في
التدقيق لا في التمريض. والثاني : لانه مقيّد وهو ظاهر في التدقيق والدقة بالمطالب
المذكورة سابقا وهي تنبغي بالدقة كما لا يخفى.
الكلام في الإجزاء
:
قوله
: الفصل الثالث الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الإجزاء ... الخ لا ريب في ان الإتيان بالمأمور به مع جميع الأجزاء
والشرائط يوجب الإجزاء ولا تجب الاعادة ثانيا لوضوح انطباق المأمور به على المأتي
به الذي يوجب سقوط الامر لانه لو لم ينطبق عليه لما انطبق على سائر وجودات المأمور
به ايضا لاتحاد حكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز. فاذا سقط الامر فلا معنى
لطلبه ثانيا لتحصيل الحاصل.
قوله
: في الجملة وهو اشارة الى
سقوط الامر الثاني. مثلا : اذا تيمم فاقد الماء وصلّى مع جميع الأجزاء والشرائط
وهذا مسقط لأمر التيمم وان لم يكن مسقطا لامر الوضوء الذي هو أمر واقعي أولي ،
وسيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.
وقبل الخوض في
تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم امور :
احدها
: الظاهر ان المراد
من (وجهه) هو الإتيان بالمأمور به على النهج الذي
ينبغي ان يؤتى به
بقصد التقرب في العبادة بحيث لا يسقط الامر بدون قصد القربة ، لا خصوص الكيفية
المعتبرة في المأمور به شرعا فقط من الأجزاء والشرائط بلا قصد القربة ، فانه عليه
يكون (على وجهه) قيدا توضيحيا ، لان النهج على قسمين :
الاول : ان يأتي
المكلف المأمور به على الكيفية المعتبرة شرعا ، وهذا نهج شرعي.
الثاني : ان يأتيه
على الكيفية المعتبرة عقلا ، اي مع قصد التقرب والقربة ، وهذا نهج عقلي.
فيكون المراد من
النهج الذي يراد من لفظ (على وجهه) في عنوان البحث ، هو النهجين العقلي والشرعي ،
لا النهج الشرعي فقط ، وإلّا يلزم إشكالان. الاول :
يلزم ان يكون
القيد توضيحيا. لان عنوان المأمور به يدل على الكيفية المعتبرة شرعا في المأمور به
، وفي متعلق الامر. والتوضيح في القيد خلاف الاصل ، اذ الاصل فيه ان يكون
احترازيا.
والثاني : انه
يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع ، لان قصد القربة من كيفيات الاطاعة والعبادة
عقلا ، لا من قيود المأمور به شرعا ، كما تقدم في التعبدي والتوصلي ، وهذا معنى
خروج العبادات عن حريم النزاع.
عدم اعتبار قصد
الوجه :
قوله
: ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه مع عدم اعتباره ... الخ والوجه قد يطلق على الوجوب والاستحباب ويستعمل فيهما. فقصد
الوجه حينئذ هو قصدهما وصفا أو غاية. لكنه بهذا المعنى غير مراد هنا قطعا لوجهين :
احدهما
: ان قصد الوجه غير
معتبر عند معظم الأصحاب قدسسرهم ، ثم على فرض اعتباره فانه يختص بالعبادات دون التوصليات ،
مع وضوح اعمّية البحث للعبادات والتوصليات.
وثانيهما
: انه لا وجه
لاختصاصه بالذكر ، لانه من قيود الامتثال ان اعتبر
عقلا كقصد القربة
، أو لانه من قيود المأمور به كسائر الأجزاء والشرائط ان اعتبر شرعا.
فبالنتيجة يكون
الاحتمال في لفظ الوجه ثلاثة :
الاول : ان يكون
المراد منه هو النهج العقلي والشرعي.
والثاني : ان يكون
المراد منه هو النهج والشرعي فقط.
والثالث : ان يكون
المراد منه قصد الوجوب.
اما الاحتمال
الثاني ففي غير محلّه لاستلزامه القيد توضيحيا كما سبق ، واما الاحتمال الثالث ،
فهو غير معتبر عند معظم الاصحاب قدسسرهم ، اذ ليس له رسم ولا اثر في الروايات ، والحال انه لا يحكم
العقل باعتباره. فتعين الاول من لفظ (على وجهه) فهو إذن على النهج العقلي وعلى
النهج الشرعي ، ولكن المناسب دخول اللام عليه فيقال (لوجهه) لا (على وجهه).
معنى الاقتضاء :
قوله
: ثانيها الظاهر ان المراد من الاقتضاء هاهنا ... الخ الظاهر من الاقتضاء في عنوان البحث هو الاقتضاء بنحو
العلّية والتأثير ، لا بنحو الكشف والدلالة ، ولذا نسب الى الإتيان لا الى الصيغة.
فالاقتضاء هنا
مغاير لاقتضاء الامر الفوري والمرة ، وكون الواجب نفسيا عينيا تعيينيا ، لانه في
هذه الموارد يكون بمعنى الكشف والدلالة ، ولاجل هذا نسب الى الصيغة فيقال إن
الصيغة تقتضي المرة أو الفور أم لا؟ ومن هنا اتّضح ان مسألة الإجزاء عقلية كي لا
يبحث عن مدلول الصيغة هو الإجزاء وضعا أو انصرافا ، فتشمل طلب الفعل عن المكلف
بالدليل اللبي كالاجماع فالحاكم هنا هو العقل لانه اذا أتي المأمور به على النهج
العقلي والشرعي فالعقل يحكم بالإجزاء قطعا.
قوله
: ان قلت ان هذا
انما يكون كذلك بالنسبة الى أمره واما ... الخ وحمل الاقتضاء في عنوان البحث على
العلّية والتأثير انما يصحّ بالنسبة الى أمره ، يعني ان
الإتيان بالمأمور
به مطلقا ـ سواء كان واقعيا أم كان اضطراريا أم كان ظاهريا ـ أيجزي عن امر نفسه أم
لا؟ وهذا النزاع كبروي ، بمعنى ان كل الإتيان بالمأمور به الواقعي أيجزى أم لا؟
بالاجماع هو مجز. وبمعنى ان كل الإتيان بالمأمور به الاضطراري أيجزي أم لا؟ هو مجز
بالاتفاق. وبمعنى ان كل الإتيان بالمأمور به الظاهري أيجزي عن أمر نفسه أم لا؟ هو
يجزي قطعا ، لان الإتيان علّة لسقوط الامر ، فاذا سقط الامر فقد حصل الغرض ، وحصول
الغرض يكشف عن الإجزاء وهذا لا كلام فيه.
واما الإتيان
بالمأمور به الاضطراري او الظاهري أفيجزي عن المأمور به الواقعي أم لا؟ وهذا
النزاع صغروي لان الكلام ـ في الحقيقة ـ في دلالة دليلهما على نحو يفيد الإجزاء أم
لا؟ بمعنى انهما أيدلّان على اشتمالهما على تمام مصلحة الواقع حتى يجزيان عن
الواقع عقلا أم لا يدلان على اشتمالهما على مصلحته كي لا يجزيا عنه عقلا.
فيرجع الإشكال الى
ان الاقتضاء ـ بمعنى العلّية والتأثير ـ يكون في الموضع الاول بمعنى العليّة ،
ولكن في الموضع الثاني يكون الاقتضاء بمعنى الكشف والدلالة ، اذ النزاع فيه يكون
في دلالة الامر الاضطراري أو الظاهري على نحو يفيد الإجزاء أم لا. فالنزاع يكون في
موضعين :
الاول
: إن الإتيان
بالمأمور به الواقعي يجزي عن أمر نفسه ، والإتيان بالمأمور به الاضطراري أو
الظاهري يجزي عن أمر نفسهما أم لا؟
والثاني
: إن الإتيان
بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يجزي عن المأمور به الواقعي أم لا؟ فيه خلاف بين
الاعلام ، فقال بعض بالاجزاء ، وقال بعض بعدم الإجزاء. وتظهر الثمرة الفقهية في
الاعادة والقضاء. فتحصل مما ذكرنا : ان الاقتضاء في عنوان البحث ، يكون اعم من
العلّية والكشف.
قوله
: قلت نعم لكنه لا ينافي كون النزاع فيها كان ... الخ فاجاب المصنف قدسسره عن هذا الإشكال بقوله نعم لا ينافي كون الاقتضاء في الامر
الاضطراري والظاهري
بمعنى العلّية
والتأثير مع الدليل الذي يتكفل كيفية تشريع المأمور به الاضطراري والظاهري ، أنزّله
الشارع منزلة المأمور به الواقعي الاوّلي أم لا؟ فان دلّ هذا الدليل على التنزيل
كان الإتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري علّة لسقوط الامر الواقعي
الاولي ، فكمن استصحب الطهارة وصلّى ، فهذه الصلاة مجزية عن الصلاة مع الطهارة
المائية ، وكمن تيمّم وصلّى ، فهذه مجزية على القول بالاجزاء وان وجد الماء وبقي
الوقت.
وان لم ينزّله
منزلته فلا يجزيان عنه ، بل هما مجزيان عنه ما دام العذر والجهل باقيين ، فاذا
زالا فلا يبقى التكليف بهما ، بل المتعين هو التكليف بالواقع. فبناء على التنزيل
يكون الاقتضاء بمعنى العلّية والتأثير.
غاية الامر ان
البحث في الامر الواقعي الاولي كبروي لكون البحث في الإجزاء فقط. واما البحث في
الامر الاضطراري والظاهري فيكون البحث فيهما تارة صغرويا ، بمعنى كون المأمور به
بالامر الاضطراري والظاهري مأمورا به مطلقا ولو بعد رفع الاضطرار وبعد رفع الجهل.
واخرى يكون كبرويا بمعنى أنهما يجزيان عنه عقلا أم لا؟
فتحصّل مما ذكرنا
ان النزاع في المأمور به الاضطراري والظاهري صغروي وكبروي ، فيقال في الاول انه هل
يكون المأمور به الاضطراري والظاهري مأمورا به مطلقا؟ اي سواء كان حين الاضطرار
والجهل أم كان بعد رفع الاضطرار وبعد رفع الجهل؟ فهذا المطلب تابع لدليل تشريعهما
فليلحظ.
وفي الثاني يقال أيجزيان
عن الامر الواقعي الاوّلي بعد دلالة دليلهما على كونه مأمورا به مطلقا كي لا يجب
الإتيان ثانيا لا إعادة ولا قضاء؟ أم لا؟
وبالجملة ،
فالنزاع ، بالاضافة الى الامر الواقعي الاولي ، كبروي فقط ، بمعنى ان الإتيان
بالمأمور به الواقعي أيجزى عن أمر نفسه أم لا؟ فهو يجزي بالاجماع ، إلا عن ابي
هاشم الجبائي وعبد الجبار من العامة القائلين بعدم الإجزاء.
والنزاع فيهما ـ
اي في الامر الاضطراري والظاهري ـ كبروي. بالاضافة الى
الإجزاء عن الامر
الواقعي فانه تابع لدلالة دليلهما ، وصغروي بالنسبة الى أمر نفسه كما لا يخفى على
العاقل فضلا عن الفاضل.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
النزاع الصغروي الذي يتفرع عليه وجوب الاعادة والقضاء وعدم وجوبهما لا يليق بالبحث
في علم الاصول ، بل يليق بالبحث في علم الفقه ، لان اللائق في علم الاصول هو البحث
الكبروي.
والفرق بين مسألة
علم الاصول وبين مسألة علم الفقه هو ان في مسألة علم الاصول يعتبر امران :
الاول : ان يكون
وقوعها في طريق الحكم الشرعي من باب الاستنباط لا من باب الانطباق وبهذا يمتاز عن
المسائل الفقهية. ففي المسائل الفقهية يبحث من جهة انطباق الكبرى على الصغرى ،
كانطباق المأمور به بالامر الايجابي على الصلاة والصوم ونحوهما ، فحينئذ نقول ان
الصلاة واجبة والصوم واجب ، وهكذا.
والثاني : ان يكون
وقوعها فيه بنفسها ومستقلا من دون ضم مسألة اخرى وبهذا تفترق عن مسائل سائر العلوم
والفنون. لان مسائلهما تقع في طريق الاستنباط بضميمة مسائل علم الاصول وقواعدها
اليها. مثلا : اذا اخذنا معنى الصعيد من اهل اللغة ، وهو التراب الخالص او مطلق
وجه الارض ، فنضمّ اليه قولنا هو مأمور به بالامر الايجابي فنستنبط وجوب التيمم
به.
التوهم في الإجزاء
:
قوله
: ثالثها الظاهر ان الإجزاء هاهنا بمعناه لغة وهو الكفاية ... الخ فتوهم المتوهم ان الإجزاء يكون بمعنى مختلف لانه في
المأمور به الواقعي بمعنى سقوط التعبد ثانيا ، يعني أن لا يأمر المولى ثانيا ولا
يتعبد المكلف ، وفي الامر الاضطراري والظاهري يكون الإجزاء بمعنى سقوط القضاء.
فاجاب المصنف قدسسره ودفع هذا التوهم بقوله : ان الإجزاء يكون في كل موضع
بمعناه اللغوي ، وهو الكفاية. وأثر الكفاية ـ أي كافيا عنه ـ يكون بحسب الموارد
مختلفا. مثلا : في
الامر الواقعي الاوّلي يكون المأتي به مجزيا عن الامر الواقعي ، وأثره هو سقوط
التعبد ثانيا.
وفي الامر
الاضطراري والظاهري يكون اثر الإجزاء عن الامر الواقعي سقوط القضاء ، فالإجزاء
يكون بمعنى واحد وهو الكفاية ، هذا مضافا الى اصالة عدم النقل. ثم ان اجزاء
المأمور به الواقعي ، لما كان بلحاظ الامر به ، ناسب التعبير باسقاط التعبد ثانيا.
واجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لمّا كان بلحاظ الامر به ناسب
التعبير باسقاط القضاء مع ان المعنى الاصطلاحي لو ثبت لكان من لازم المعنى اللغوي
فلا موجب لارادته هنا وهو ظاهر.
الفرق بين مسألة
الإجزاء والمرّة والتكرار :
قوله
: رابعها : الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار ... الخ الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرة من وجهين :
احدهما : ان مسألة
المرة لفظية ومسألة الإجزاء عقلية.
وثانيهما : ان
البحث في مسألة المرة يكون في تعيين المأمور به أهو واحد أم متعدد ، والبحث في
الإجزاء يكون بعد تعيين المأمور به ، وهو المأمور به الاضطراري والظاهري أهو مجز
عن الامر الواقعي أم لا؟ وكذا الفرق بين مسألة التكرار وبين مسألة عدم الإجزاء.
نعم كان التكرار
عملا موافقا لعدم الإجزاء ، لكنه لا بملاكه ، فان ملاك التكرار هو كون كل واحد من
وجودات الطبيعة في ضمن الافراد مأمورا به ويكرّر العمل لاجل ان يؤتى بالمأمور به.
وملاك عدم الإجزاء
عدم سقوط الغرض وتكرار العمل لأجل ان يؤتى بالمأمور به ، ولم يجز. وفي ضوء هذا لا
وجه لتوهم ان القول بالمرّة مساوق للإجزاء ، وان القول بالتكرار مساوق لعدم الإجزاء.
وكذا الفرق بين
مسألة الإجزاء وبين مسألة تبعية القضاء للأداء واضح ، لان
الكلام في التبعية
يكون في دلالة الصيغة على التبعية وعدم دلالتها عليها.
والكلام في مسألة
الإجزاء في ان الإتيان بالمأمور به أيجزى عقلا أم لا يجزى فمسألة التبعية لفظية
ومسألة الإجزاء عقلية.
والفرق الآخر
بينهما أنّ المكلف قد أتى بالمأمور به في مسألة الإجزاء ، انما الكلام في إجزائه
عن الواقع وعدم إجزائه عنه.
وفي مسألة التبعية
لم يأت المكلف بالمأمور به في الوقت ، وانما البحث حينئذ في دلالة الصيغة على
الإتيان به في خارج الوقت أم لا. فكل من قال بتبعية القضاء للأداء قال بالدلالة ،
وكل من لم يقل بها قال بانه بفرض جديد نحو (اقض ما فات كما فات). وفي ضوء هذا فلا
علقة بين مسألة الإجزاء وبين مسألة المرّة والتكرار ومسألة تبعية القضاء أصلا ،
فلا تلازم بين المسائل الثلاث.
قوله
: بنفسها او بدلالة اخرى الكلام في بحث المرة ، والتكرار ليس إلّا في نفس دلالة الصيغة على احدهما ،
اما بهيئتها أو بمجموع مادتها وهيئتها على الخلاف بين المصنف و (الفصول) قدسسره ، لا في دلالتها بمعونة دليل آخر. نعم في الفور والتراخي
كانت الدلالة بمعونة دليل آخر كآية المسارعة وآية الاستباق كما استدل الشيخ قدسسره الذي يقول به بهما كما سبق فهذه أي كلمة (بدلالة اخرى) في
هذا المقام زائدة أو من طغيان قلم الناسخ. والعلم عند الله. فقد ظهر لك معاني
الكلمات الثلاث في عنوان البحث وهي كلمة (وجهه) وكلمة (الاقتضاء) وكلمة (الإجزاء)
وظهر ايضا الفرق بين المسائل الثلاث المذكورة كما لا يخفى.
إجزاء الأمر
الاضطراري والظاهري عن امر نفسهما :
قوله
: اذا عرفت هذه الأمور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين ... الخ ان الإتيان بالمأمور به على وجهه ، سواء كان واقعيا أم كان
اضطراريا أم كان ظاهريا ، ايضا يجزي عن التعبدية ثانيا ، لا عن أمر آخر بل عن أمر
نفس كل واحد منها ، لاستقلال العقل بالإجزاء ضرورة أنّ المأتي به اذا كان واجدا
لما يعتبر في
المأمور به شطرا
وشرطا ، فلا محالة ، سقط به غرض المولى الداعي الى الامر ، واذا حصل الغرض سقط
الامر ، وبعد سقوطه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضاء
الامر التعبد بالمأمور به ثانيا.
قوله
: نعم لا يبعد ان يقال بانه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ... الخ هذا استدراك من عدم المجال للتعبد به ثانيا. ومحصّله ان
الإتيان بالمأمور به على وجهه يعني أن يؤتى به بجميع ما يعتبر فيه جزءا وشرطا ،
عقلا وشرعا ، والحال انه لا ريب ان الإتيان بهذا النحو علّة تامة لحصول الغرض ،
وهو مسقط للامر ، لان الغرض علة للامر ، فاذا حصلت العلّة حصل المعلول. واذا لم
يكن الإتيان به علّة تامة لحصول الغرض فلا مانع حينئذ من التعبد بالمأمور به ثانيا
من باب تبديل الامتثال.
ولا مانع من ايجاد
فرد آخر من الطبيعة المأمور بها بدلا عن الفرد الاول الذي يكون وافيا بالغرض
الاقصى على تقدير الاكتفاء به ، مثل ما اذا أمر المولى العبد باحضار الماء لرفع
العطش ، فانه يجوز للعبد ، ما دام لم يحصل الشرب ، تبديل الامتثال والإتيان بفرد
آخر من الماء بدلا عن الفرد الاول ، لا منضما الى الفرد الاول ، كي يلزم تعدد
التعبد وتعدد المطلوب ، اذ المفروض عدم تعلق الامر بفردين من الطبيعة ، بل تعلق
الأمر بوجود الطبيعة في ضمن فرد منها وهو المطلوب. فصار الإتيان على نوعين :
الاول
: ان لا يكون
الإتيان بالمأمور به علّة تامة لحصول الغرض الاقصى كما في المثال المذكور.
والثاني
: ان يكون الإتيان
به علّة تامة لحصوله ، نحو اذا أمر المولى عبده بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه ،
فأهرقه فيه فرفع عطشه ، فلا مجال حينئذ للاتيان بفرد آخر ، ولا معنى لتبديل
الامتثال والاهراق ثانيا ، وقد اشير الى جواز تبديل الامتثال في مسألة المرة
والتكرار ، بل يجوز تبديل الامتثال في صورة الشك في كون الإتيان علّة لحصول الغرض.
غاية الامر ، ان
جواز تبديل الامتثال في صورة العلم ، بعدم كون الإتيان علة
تامة لحصول الغرض يكون
متيقنا وقطعيا. ومع الشك يكون التبديل رجائيا. ويؤيد جواز تبديل امتثال الامر بل
يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله يختار
احبهما اليه.
فمنها : رواية ابي
بصير قدسسره قال : قلت لابي عبد الله عليهالسلام : أصلّي ثم ادخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال الامام
عليهالسلام : صلّ معهم يختار الله تعالى احبهما اليه . وفي مرسلة الصدوق قدسسره يحسب له افضلهما واتمهما.
ثم ان روايات
الباب ان كانت صريحة في جواز تبديل الامتثال فهي أدلة علّيّة ، وان كانت ظاهرة فيه
فهي مؤيدات له. ولاجل هذا قال المصنف قدسسره : بل يدل عليه ، لانها صريحة فيه كما يستفاد من كلمات
الروايات لا سيما رواية هشام عنه عليهالسلام في الرجل يصلّي الصلاة وحده ثم يجد جماعة ، قال عليهالسلام : يصلّي معهم ويجعلها الفريضة ان شاء الله ونحوها رواية حفص عنه عليهالسلام .
__________________
الاجزاء
قوله
: الموضع الثاني : وفيه مقامان : المقام الاول : في ان الإتيان بالمأمور به ...
الخ اذا علم الإجزاء
في إتيان المأمور به الواقعي والاضطراري والظاهري ، عن امر نفس كل واحد منها انجرّ
البحث هنا في مقامين :
المقام
الاول : في ان الإتيان
بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالامر الواقعي
ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفي خارجه قضاء ، او لا يجزي عنه. مثلا :
من صلّى متيمّما في سعة الوقت ، وقبل انقضاء الوقت وجد الماء ، فاذا قلنا بالإجزاء
فلا تعاد مع الوضوء في الوقت ولا تقضى في خارج الوقت. واذا قلنا بعدمه فتعاد وتقضى
في خارجه.
قال المصنف قدسسره : تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم والبحث فيه تارة في بيان
انحاء الاضطراري ثبوتا ، وبيان مقتضى كل واحد من الانحاء من الإجزاء ، ومن جواز
البدار قبل ضيق الوقت. واخرى في بيان كيفية الامر الاضطراري إثباتا أفتكون من قبيل
المقتضي للاجزاء أم لا؟
اما الامر الاول
فيقول المصنف قدسسره ان الامر الاضطراري إما أن يكون ـ في حال الاضطرار مثل
الامر الاختياري في حال الاختيار ـ مشتملا على تمام مصلحة الامر الاختياري. أي
يكون وافيا بتمام غرض المولى في حق المضطر.
فالمختار والمضطر
يكونان موضوعين ، ولكل واحد منهما تكليف على حدة. مثلا : الصلاة جالسا للمضطر تكون
مثل الصلاة قائما للقادر المختار. ومن المعلوم ان الإجزاء حاصل في هذا القسم من
جهة وفائها بتمام الغرض ، واذا كانت كذلك فقد سقط الامر ، فلا تجب الاعادة ، ولا
القضاء ، ولا تستحبان ، لعدم المقتضي هنا
لكل واحد منهما.
واما ان لا تكون
مشتملة على تمام مصلحة صلاة المختار بل يبقى منها شيء. وعلى هذا اما يمكن تدارك
الباقي من المصلحة واما لا يمكن تداركه ، وعلى الاول اما يكون الباقي من المصلحة
بمقدار يجب تداركه او يكون بمقدار يستحب تداركه فصارت الصور في مقام الثبوت اربعة
:
الاولى
: اشتمال الامر
الاضطراري على تمام مصلحة الامر الواقعي ، واما جواز البدار في سعة الوقت وعدم
جوازه فيدور مدار كون الامر الاضطراري بمحض الاضطرار مشتملا على تمام مصلحة الامر
الواقعي ، فيجوز حينئذ البدار. او مشتملا على مصلحته بشرط الانتظار الى آخر الوقت
او بشرط اليأس الى آخره من الامر الاختياري فلا يجوز البدار حينئذ.
والثانية
: وهي ان لا يكون
الامر الاضطراري مشتملا على تمام مصلحة الامر الاختياري بل يبقى منها شيء ومقدار ،
والحال ان الباقي مما يمكن تداركه ويجب تداركه ، فلا يجزي عنه في هذه الصورة ،
واما البدار فيجوز في هذه الصورة.
غاية الامر : أن
المكلف يتخير بين البدار والإتيان بعملين : الاضطراري في اول الوقت وبين الانتظار
والاقتصار بالاختياري في آخر الوقت.
والثالثة
: وهي ان لا يكون
الاضطراري مشتملا على تمام مصلحة الاختياري الواقعي ، والحال ان الباقي من المصلحة
مما يمكن تداركه ، ولكن يستحب التدارك فيجزي عنه أيضا ويجوز البدار إلّا انه تستحب
الاعادة في الوقت ويستحب القضاء في خارجه لدرك الباقي من المصلحة ، واما البدار
فمستحب لدرك فضيلة اول الوقت ثم الاعادة او القضاء بعد رفع الاضطرار.
والرابعة
: وهي ان لا يكون
الامر الاضطراري مشتملا على تمام مصلحة الاختياري الواقعي والحال انه لا يمكن
تدارك الباقي فيجزي عنه أيضا بعد فرض عدم امكان تدارك الباقي ، واما البدار فلا
يجوز فيها لعدم اشتمال الامر الاضطراري على تمام مصلحته الا لمصلحة تكون في البدار
كدرك مصلحة اول الوقت.
فمصلحة اول الوقت
تكون اهم من مصلحة الامر الاختياري الواقعي ، وإلّا فلا يكاد يسوغ له البدار في هذه
الصورة (الرابعة) لما فيه من نقض الغرض ، ولما فيه من تفويت مقدار من المصلحة لو
لا مراعاة ما هو في البدار من الأهم الذي هو مصلحة اول الوقت وهي اهم من مصلحة
الامر الواقعي الاختياري.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
المحرّم هو تفويت هذا المقدار من مصلحة الامر الواقعي. والبدار ليس تفويتا له ولا
مقدّمة له وانما هو ملازم له فلا ينسب اليه التحريم إلّا بالعرض والمجاز لعدم لزوم
اتّفاق المتلازمين في الحكم كما في النظر الى الاجنبية ومعاشرتها ، فالاول حرام
والثاني مباح ، فكذا هنا التفويت حرام والبدار مباح وجائز في الصورة الرابعة ولذا
لم تفسد العبادة.
الإشكال على الأمر
الاضطراري :
قوله
: لا يقال عليه فلا مجال لتشريعه ولو ... الخ فان قيل : انه اذا كان الامر الاضطراري لا يشتمل على تمام مصلحة
الامر الواقعي ، والحال ان الباقي من مصلحته لا يمكن تداركه ، فلا مجال ـ حينئذ ـ
لتشريع الامر الاضطراري ولو بشرط الانتظار لإمكان استيفاء الغرض والمصلحة بالقضاء.
قلنا
: ان كلامك تام اذا
كانت مصلحة الواقعي مما يمكن استيفاؤها بتمامها مع مصلحة الوقت بالقضاء ، والحال
ان ما يستوفي من الامر الاضطراري من مصلحة الوقت اكمل واتم من استيفاء المصلحة بالقضاء.
وبعبارة اخرى ، ان
المكلف يدرك بالامر الاضطراري مصلحتين :
إحداهما : مقدار
من مصلحة الامر الواقعي الاختياري وهي مصلحة.
وثانيتهما : مصلحة
الوقت ، وهو بالقضاء يدرك مصلحة الامر الواقعي فقط ، لا مصلحة الوقت. ولا ريب ان
الأوّلي اكمل من الثاني ، فهذا علّة لتشريع الامر الاضطراري ، هذا تمام الكلام في
مقام الثبوت.
شرع المصنف قدسسره في بيان احكام الصور الاربع وان بينا آنفا احكامها وتبعا
للمصنف قدسسره فنقول ان تجويز البدار او ايجاب الانتظار في الصورة الاولى
من الصور ، وهي وفاء المأمور به الاضطراري بمصلحة المأمور به الواقعي الاوّلي
فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا ، اي سواء يئس عن حدوث الاختيار أم لا
، لمصلحة ووافيا بالغرض ، وحينئذ تجوز المبادرة الى العمل مطلقا ، او كون العمل
الاضطراري ذا مصلحة ووافيا بالغرض بشرط الانتظار او مع اليأس عن طور الاختيار.
وان لم يكن الامر
الاضطراري وافيا بالغرض ، والحال انه قد امكن تدارك الباقي في الوقت فقط او امكن
تدارك الباقي مطلقا ، اي سواء كان في الوقت او بالقضاء خارج الوقت فله صورتان :
الاولى
: أن يكون الباقي
بحيث يجب تداركه فلا يجزي ، فلا بد من ايجاب الاعادة او القضاء.
الثانية
: أن لا يكن الباقي
واجب التدارك بل مستحب التدارك فيجزي.
ولا مانع عن
البدار في الصورتين الثانية والثالثة.
فبيّن المصنف هنا
حكم الصورة الثالثة أيضا. نعم تستحب الاعادة لدرك الباقي المفروض كونه حد الالزام
والوجوب ، غاية الامر أنه يتخير في الصورة الاولى ، يعني فيما اذا كان الباقي مما
يجب تداركه وهي الصورة الثانية من الصور الاربع بين البدار والإتيان بعملين ،
العمل الاضطراري في حال الاضطرار والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار ، او الانتظار
والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار.
وفي الصورة
الثانية (وهي الصورة الثالثة من الصور الاربع فلا تغفل) يتعيّن عليه البدار ،
ويستحب اعادته بعد طروء الاختيار ولا يكون البدار حكم الصورة الرابعة (وهي ان لا
يكون الامر الاضطراري مشتملا على مصلحة الواقعي الاوّلي) والحال انه لا يمكن تدارك
الباقي فلذا لم يتعرّض المصنف قدسسره إليها. هذا كله فيما يمكن ان يقع عليه الاضطراري من
الانحاء ، يعني في مقام الثبوت والواقع. فالصور المحتملة عقلا اربعة.
واما بيان حال
الامر الاضطراري اثباتا وانه من اي نحو هو؟ أهو من النحو
المقتضي للإجزاء
أم لا؟ فظاهر اطلاق دليله في سورة النساء : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) وفي سورة المائدة : (فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً) اي فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيّبا. ومثل قول المعصوم ،
أي ابي عبد الله عليهالسلام : «التيمم
احد الطهورين» و «يكفيك الصعيد عشر
سنين» وغيره من روايات الباب ، هو الإجزاء وعدم وجوب الاعادة او
القضاء فلا بد من اجل وجوبهما من دليل آخر بالخصوص.
وبالجملة
: فالمتّبع هو
اطلاق الدليل لو كان الاطلاق موجودا. والمراد من الاطلاق هنا هو الاطلاق المقامي
لا اللفظي ، بمعنى ان المولى اذا كان في مقام بيان وظيفة المضطر (أعني فاقد الماء)
وحكم بالتيمم بدل الوضوء ولم يحكم بالاعادة او القضاء بعد رفع الاضطرار في الوقت ،
او في خارج الوقت ، علم من ذلك جدا إجزاء الاضطراري عن الواقعي ، وكفايته عنه ،
وعدم وجوب الاعادة او القضاء بعد رفع الاضطرار ، ولو كان واجبا على المكلف احدهما
لبيّن المولى وحكم به قطعا بعد فرض كونه في مقام البيان لتمام ما له دخل في حصول
الغرض الذي يترتب على العمل الاختياري.
هذا اذا كان هناك
اطلاق مقامي للدليل الاضطراري ، واما اذا كان المولى في مقام الاجمال والإهمال ،
اي في مقام تشريع اصل الاضطراري في الجملة ، ولم يكن في مقام بيان تمام وظيفة
المضطر ، فالمرجع حينئذ هو الاصل العملي وهو اصالة البراءة.
فاذا ارتفع
الاضطرار في الوقت ، او في خارج الوقت ، والحال انا نشك بعد رفعه في وجوب الاعادة
او القضاء ، فلا يكون في المقام دليل اجتهادي ، فتصل النوبة إلى الأصل العملي وهو
يقتضي براءة ذمة المكلف عن وجوبهما لكونه شكا في اصل
__________________
التكليف لان
التكليف الاختياري سقط بالاضطرار وبعدم الامكان والتكليف الاضطراري بالاتيان.
فالشك يكون في اصل
التكليف ، وهو مجرى البراءة. فظهر قيام البدل وهو (التيمم) مقام المبدل منه وهو (الوضوء)
بلحاظ جميع الآثار والخواص ، فلا بد من ان يفي البدل بما يفي به المبدل منه من
المصلحة.
فان قيل : انه لا
حاجة الى وجوب الإتيان بالمأمور به ثانيا اعادة وقضاء بعد رفع الاضطرار من الدليل
بالخصوص ، بل يكفي اطلاق دليل المبدل منه وهو قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهو غير مقيّد بعدم الاضطرار.
قلنا
: ان هذا الاطلاق
ساقط لحكومة دليل البدل على دليل المبدل منه ، والدليل الحاكم مقدم على الدليل
المحكوم ، لانه ناظر اليه ، موسع لموضوعه ، نحو الصلاة التي هى موضوع الوجوب
ويوسعها (الطواف بالبيت صلاة) ، هكذا في مقام الغسل الذي هو موضوع الوجوب ، ويوسعه
دليل البدل الاضطراري ، وهو وجوب التيمم ، فصار الغسل والتيمم كلاهما موضوعين
للوجوب في وقت إقامة الصلاة ، كما ان الصلاة والطواف موضوعان لوجوب الطهارة.
قوله
: وكذا عن ايجاب
القضاء بطريق اولى ، وجه الاولوية ان القضاء تابع للاداء ولا عكس فاذا لم تجب
الاعادة في الوقت لم يجب القضاء في خارج الوقت بطريق اولى لان الصلاة في الوقت ذات
مصلحتين مصلحة الصلاة ومصلحة الوقت ، والصلاة خارج الوقت ذات مصلحة واحدة وهي
مصلحة الصلاة فقط فاذا جاز الاول جاز الثاني بطريق اولى.
__________________
كيفية دليل القضاء
:
قوله
: نعم دلّ دليله على ان سببه فوت الواقع ولم يكن هو فريضة ... الخ نعم لو دلّ دليل القضاء على ان سبب القضاء فوت الواقع
الاختياري وعدم الإتيان ، بحيث كلما فات الواقع وجب القضاء وان لم يكن الواقع
الفائت فريضة حين الاضطرار على المكلف.
فهذا اشارة الى ان
اصل البراءة يقتضي عدم وجوب الاعادة في الوقت اذا ارتفع الاضطرار فيه ، واما
القضاء فلا بد منه لوجود علّته وهي فوت الواقع والحال انه قد فات.
قلنا
: ان سببه ليس فوت
الواقع بما هو هو ، بل فوت الفريضة على المكلف ، والحال ان فريضته العمل الاضطراري
، لا الواقع الاختياري. هذا ، مضافا الى عدم وفاء ادلّة القضاء بهذا الغرض ، اي
فوت الواقع ، سواء كان فريضة على المكلف أم لا ، لان ادلّته ظاهرة في فوت الفريضة
الفعلية ، لا فوت الواقع بما هو هو ، وهي قول المعصوم عليهالسلام : «من
فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» وفي رواية اخرى : «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك» ، وغيرها من الروايات التي بهذا الطريق. فهذا مجرد فرض
ليس له رسم ولا أثر في اخبار الباب.
قوله
: وان اتى بالغرض
والمراد منه الغرض الباعث للامر الاختياري الحاصل بالمأمور به الاضطراري يعني أن
هذا الكلام مبالغة في وجوب القضاء ، وقد عرفت ضعف وجوب القضاء آنفا. هذا تمام
الكلام في المقام الاول وهو الامر الاضطراري.
إجزاء الامر
الظاهري عن الواقع :
قوله
: المقام الثاني في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالامر الظاهري وعدمه لما علم الكلام في اجزاء المأمور به بالامر الاضطراري في
المقام الاول ، فيكون المقام الثاني في اجزاء المأمور به بالامر الظاهري عن
المأمور به الواقعي الاوّلي.
فالتحقيق في هذا
المقام ان الاوامر الظاهرية إما أن تتعلق بالاجزاء والشرائط
وموضوعات الاحكام
، وإما أن تتعلق بالاحكام الكلية او الاحكام الجزئية ، مثل استصحاب وجوب صلاة
الجمعة في عصر الغيبة مثلا. والاول يكون على قسمين ، لان الحكم الظاهري والإجزاء
والشرائط والموضوعات إما أن تكون بلسان الاصل وإما بلسان الامارة ، مثل البينة
التي تقام على طهارة ماء الوضوء او على متطهرية شخص مثلا. أما اذا كان الحكم الظاهري
بلسان الاصل مثل قاعدة الطهارة في ماء الوضوء او استصحاب طهارته ثم انكشف الخلاف.
فخلاصة
الكلام : في هذا القسم من
الاوامر الظاهرية والاحكام الظاهرية ان مقتضى اطلاق ادلّة الاصول هو الإجزاء
وكفاية الطهارة المستصحبة عن الطهارة الواقعية ، لانها غير مقيّدة بعدم كشف الخلاف
إلّا اذا قام دليل خاص على عدم الإجزاء ، وعلى وجوب الاعادة او القضاء ، لان أدلة
الأصول والاستصحاب توسع دائرة الشرط ، اي شرط الطهارة سواء كانت واقعية أم ظاهرية.
ومقتضى هذه التوسعة والحكومة هو الإجزاء الى زمان كشف الخلاف.
فتترتب على
الطهارة الظاهرية آثار الطهارة الواقعية ومن جملتها الإجزاء ، فاذا كان الجهل
بالواقع باقيا فقد كان مثل الواقع في الآثار والخواص. وبعبارة اوضح : هي ان ادلّة
الاصول مثل كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، وهو دليل اصالة الطهارة ودليل
الاستصحاب مثل (لا تنقض اليقين بالشك) حاكمة على أدلة الطهارة الواقعية مثل (لا
صلاة إلّا بطهور) والدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم. نعم اذا ارتفع الجهل
فقد ارتفع الإجزاء من حين ارتفاع الجهل لا من اوّل الامر.
واما في القسم
الثاني من الحكم الظاهري الذي يجري في الإجزاء والشرائط وموضوعات الأحكام بلسان
الامارات ، مثل اذا قامت البينة على طهارة الماء او على متطهرية انسان او على
ملكية شيء لشخص ، او مثل اليد التي هي امارة على الملكية ونحوها من موارد
الامارات.
فالحق هو عدم
الإجزاء اذا انكشف الخلاف ، بل يكون العمل فاقدا للشرط بعد كشف الخلاف من الاوّل ،
لا من حين كشف الخلاف. فالامارة تكون كالعدم
فلا بد من اعادة
العبادة ومن بطلان المعاملة. نعم لا يعاقب المكلف لكونه معذورا بواسطة الامارة فلا
تترتب آثار الوضعية على هذا العمل.
بخلاف الاصول
العملية في الموضوعات نحو (كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه) فهو
يثبت أصالة الحل (أعم من الواقعي والظاهري) ، وموسع لدائرة الحل (أعم من الواقعي
والظاهري). وأما في الشرط مثل (كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر) الذي يدل على
الطهارة للشيء المشكوك الطهارة والقذارة ، فيدل على الاعم من الواقعية والظاهرية.
واما في الجزء ، كما اذا شككنا في جزئية السورة للصلاة وعدم جزئيتها ، فتجري أصالة
عدم الجزئية ، فاذا انكشف الخلاف ثبت كونها جزءا لها.
ان لسان الاصول
يتفاوت مع لسان الامارات ، وهذا التفاوت يوجب التفاوت في الإجزاء وعدمه ، وهو ان
الشارع المقدس حكم في مجاري الاصول تعبّدا ببقاء الطهارة او الحلية في قاعدة
الطهارة وفي قاعدة الحلّية. واما الامارات فهي كاشفة تعبّدا عن الطهارة الواقعية
والحلّية الواقعية اذا قامت عليهما. والشارع يعتبر هذا الكشف ما دام لم يعلم
خلافه. فاذا انكشف الخلاف ، علم أن الطهارة والحلّية في الواقع لم تكونا موجودتين
، فهي غير معتبرة.
واما حكم الشارع
ببقاء الطهارة في صورة الاستصحاب في الموضوع الخاص بعد تحقق شرائط الاستصحاب ،
وبعد تحقق اركانه ، فلا يكون فيه كشف الخلاف. نعم يكون مقيّدا بعدم العلم بالخلاف.
فاذا حصل العلم
بالخلاف ، اي خلاف الاستصحاب ، فيرتفع الاستصحاب من زمان العلم بالخلاف ، واما في
الامارات فليس للشارع حكم بثبوت شيء. نعم جعل الشارع الامارات حجّة ، وهي مثل
العلم في ترتيب آثار الواقع. ومن المعلوم ان العلم ليس مغيّرا الواقع فكذا
الامارات لا تغير الواقع ، بخلاف الاصول ، لان الشارع المقدّس حكم بطهارة شيء
للشاك او بحلّيته له ما دام شاكا ، فهو مثل الحكم الواقعي في الآثار الى زمان كشف
الخلاف. فاذا انكشف الخلاف صار الشاك عالما فيرتفع
الشك.
فبالنتيجة يرتفع
الحكم ، لان هذا الحكم للشاك الجاهل بالواقع. فمحصّل الكلام ان الاحكام الظاهرية
جارية في الموضوعات وشرائط العبادات ، فمقتضى القاعدة هو الإجزاء ، لان الاصول
العملية اما موسّعة لدائرة الموضوع والشرط كأصالة الطهارة واصالة الحلّ ، وكذا
استصحابهما ، وإما مضيّقة لدائرة الجزء كأصالة عدم الجزئية في ظرف الشك في جزئية
شيء للعبادة وعدمها كالسورة مثلا. وفي ضوء هذا ، فهي حاكمة على الأدلة الواقعية في
مجاريها حكم ظاهري وتعبّد شرعي.
فبالنتيجة
: ليس مؤدّى
الامارة حكما ظاهريا على الطريقية ، ولكن في مؤدّى الأصول حكم ظاهري ، وهذا يوجب
الإجزاء في الاصول بعد كشف الخلاف ، ولا يوجب الإجزاء في الامارات بعد كشفه.
بخلاف الطرق
والامارات فانها في مواردها اخبار عن الواقع ، والشارع مخبر عن الواقع بقوله ،
وتفصيله ان الطرق والامارات إما حجّة من باب الطريقية ، وإما من باب الموضوعية
والسببية.
اختار المصنف قدسسره الاول. فبناء على هذا فلا تجزي في صورة كشف الخلاف لان
الامارة ، كخبر العادل ، اذا قامت على طهارة شيء او على حلّيته ، وكان مقتضى دليل
اعتبارها وحجّيتها تصديقها ، ومعنى تصديقها هو البناء على وجود شرط واقعا كان
المناسب لهذا البناء انشاء حكم الشرط الموجود واقعا ، وذلك مثل جواز الدخول في
العمل الذي تكون الطهارة شرطا فيه كالصلاة والطواف لا إنشاء نفس الشرطية فقط.
فاذا كان مفاد
دليل الامارة هو البناء على وجود الشرط واقعا ، انكشف الخلاف وخطأ الامارة فقد كشف
عن وقوع العمل بلا شرط وهو فاقد له ، فلا مجال حينئذ للإجزاء لانه (اذا فات الشرط
فات المشروط).
هذا بناء على
حجيتها من باب الطريقية الى الواقع ، كما هو مختار المصنف قدسسره واما اذا كانت حجيتها من باب الموضوعية والسببية فتجزي ان
كانت مصلحة
الامارة ، اي
مصلحة العمل الذي يؤتى به على طبق الامارة ، وافية بتمام مصلحة الواقع او وافية
بمعظمها مع عدم امكان تدارك الباقي ، او مع عدم وجوب تدارك الباقي ، وإلّا فلا
تجزي عن الواقع ، اذ مجرد تنزيل فاقد المصلحة منزلة الواقع والواجد لها فهو غير
كاف في الإجزاء ما دام لم يكن الفاقد مثل الواجد في الوفاء بغرض المولى ، وإلّا
يلزم تفويت المصلحة الملزمة بلا عوض وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم.
وبالجملة فالوجوه
الاربعة في الامر الاضطراري جارية في الامر الظاهري الثابت بالامارات والطرق بناء
على القول بالموضوعية والسببية طابق النعل بالنعل فلا حاجة الى الاعادة. لكن
المصنف قدسسره ، لمّا اختار ـ تبعا للمشهور ـ القول بالطريقية في حجيّة
الامارات والطرق ، بنى على عدم الإجزاء في صورة كشف الخلاف ، فلا بد هنا من بيان
امرين :
الاول
: الفرق بين الطرق
والامارات هو ان الطرق في بيان الاحكام الشرعية كخبر العدل اذا دلّ على وجوب صلاة
الجمعة في عصر الغيبة ، والامارات في الموضوعات الخارجية كما اذا قامت البيّنة على
خمرية المائع المعين مثلا.
والثاني
: الفرق بين
الطريقية وبين السببية هو ان الطريقية لم يلحظ فيها سوى الكشف عن الواقع ، فان
اصابتا الواقع فقد احرزتا مصلحة الواقع ، واذا لم تصيبا الواقع لم يكن لهما شيء من
المصلحة ولاجل هذا قال المصنف قدسسره بعدم الإجزاء في صورة كشف الخلاف. وان السببية تحدث فيها
مصلحة مساوية او مصلحة راجحة مع مصلحة الواقع او على مصلحته.
مثلا : اذا أوجب
المولى على العبد إطاعة زيد بن ارقم ، ثم ارشده زيد بارادة المولى منه اشتراء لحم
الغنم ، فبناء على الطريقية ، ان أخطأ زيد في هذا الارشاد واشترى العبد اللحم لم
يكن للعبد اجر الامتثال أصلا ، نعم لا يستحق العبد العقوبة لكونه معذورا. وأما
بناء على الثاني ، ففي هذا الفرض ، يكون الاجر المساوي او الاجر الاكثر للعبد ان
كان الارشاد مطابقا للواقع.
اذا عرفت هذا
فاعلم ان الإجزاء وعدمه متفرّعان على قولين فمن يقل بان حجيّة الامارات والطرق من
باب الطريقية ، ير عدم الإجزاء في صورة كشف الخلاف ، اذ مصلحة الواقع غير محرزة
حين الخطإ. والحال ان الواقع ثابت على حاله. ومن يقل بان حجيّتها من باب السببية
يرى الإجزاء في ما اذا انكشف الخلاف ، وذلك لان العمل بمدلول الامارة وادائها الى
وجدان الشرط او الشطر يصير صحيحا حقيقة لاحداثها مصلحة في مؤداها ، ويكون العمل
واجدا للشرط او للشطر مع كونه فاقدا إيّاه في الواقع ، فيجزي لو كان الفاقد للشرط
او للشطر في حال قيام الامارة مثل الواجد له في كون الفاقد وافيا بتمام الغرض ،
ولا يجزي لو لم يكن الفاقد لكل واحد منهما وافيا بتمام الغرض ، ويجب الإتيان
بالواجد لكل واحد منهما حينئذ لاستيفاء الباقي ، ان وجب الاستيفاء ، وان لم يجب
الاستيفاء استحب الإتيان ثانيا.
فبيّن المصنف قدسسره ثلاث صور هي الاولى والثالثة والرابعة وبقيت الثانية
فبيّنها بقوله وإلّا فلا مجال لاتيانه ، يعني الصور الثلاث المذكورة تكون في صورة
إمكان الاستيفاء ، وان لم يمكن الاستيفاء فلا مجال لاتيانه ثانيا وهذا هو الرابع ،
كما عرفت الصور الاربع واحكامها في الامر الاضطراري ، فراجع هذا كله في مقام
الثبوت.
الاحتمالات الاربع
ثبوتا في الامر الظاهري :
قوله
: ولا يخفى ان قضية اطلاق دليل الحجّية على هذا ... الخ فالمحتملات هنا اربعة ايضا لان المأتى به اما أن يكون
وافيا بتمام الغرض او لا ، وعلى الثاني فالباقي من الغرض اما أن يمكن استيفائه او
لا ، والممكن اما واجب الاستيفاء او مستحب هذا ثبوتا.
واما في مقام
الاثبات ، فمقتضى اطلاق أدلة حجية الامارة على السببية هو الإجزاء لان الشارع
المقدس حكم بترتيب آثار الواقع مطلقا ، اي سواء كان وافيا بتمام الغرض أم لا عليها
، ولازم الحكم هو اجزاء هذا المأمور به عن المأمور به الواقعي في جميع الحالات ،
ولو كنا نشكّ انه هل تكون مصلحته بمقدار المصلحة
الواقع أم لا ،
ولا يخفى ان اعتبار الامارة ان اختصّ بصورة الوفاء بتمام الغرض ، او اختصّ بصورة
لا يمكن استيفاء الباقي ، او اختصّ بصورة لا يجب استيفاء الباقي ، بل يستحب لاحتاج
ذلك الى البيان حيث يكون المولى في مقام البيان.
فعدم بيان ذلك
يدلّ على عدم تقيّد اعتبارها بشيء من القيود والوجوه نظير اطلاق دليل البدلية في
الامر الاضطراري ، ولا يخفى أيضا ان الإجزاء بناء على السببية وان عدم الإجزاء
بناء على الطريقية ، اذا احرزت كيفية اعتباره الامارة وحجيّتها على انها على نحو
الطريقية ، او على نحو الموضوعية فهذا يكون مثل المثل المشهور القائل : (ثبّت
العرش ثم انقش). فبالنتيجة يكون الإجزاء وعدمه فرع ثبوت الموضوعية والطريقية كفرع
النقش بالنسبة الى ثبوت العرش.
واما اذا شكّ في
كيفية حجيّتها أهي على نحو الطريقية او على نحو الموضوعية والسببية فيقع الكلام في
مقامين : الاول : في الاعادة. والثاني في القضاء.
اما
المقام الاول : فهو ان المرجع فيه هو الاشتغال ، لكون الشك في الفراغ بعد العلم يشغل الذمة ،
ولعدم إحراز مسقطية المأتي به لما اشتغلت به الذمة من التكليف الفعلي. فبالنتيجة
اصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، اي بالفعل المسقط للامر ، مقتضية
للاعادة في الوقت في صورة كشف الخلاف بعد إتيان العمل موافقا للامر الظاهري ، لان
الواقع لا يسقط عن الفعلية بقيام الامارة على خلافها.
فاذا انكشف ان
المأتي به ليس المأمور به الواقعي فالتكليف الفعلي باق. ولذا نقول بعدم الإجزاء
ووجوب الاعادة في الوقت.
فان قيل : انه اذا
انكشف الخلاف في الوقت رجع الى استصحاب عدم فعلية الواقع قبل الكشف للخلاف في حال
الجهل ، فالاصل بقاء الواقع على عدم الفعلية بعد الكشف للخلاف ، كما انه اذا كانت
حجية الامارات على نحو الطريقية فبعد كشف الخلاف ، يكون العمل الموافق للامر الظاهري
كالعدم من الاول ، والتكليف بالواقع يكون باقيا.
واما اذا كانت على
نحو السببية والموضوعية فهذا العمل ذو مصلحة ومكلف
به فعليا. فاذا لم
تعلم موضوعية الامارات فليس كون هذا العمل مكلفا به فعليا بمعلوم لنا ، فتصل
النوبة بالأصل العملي وهو يقتضي عدم الإتيان بالتكليف الفعلي مع العلم بثبوت
التكليف سابقا.
قلنا
: ان هذا الاستصحاب
لا ينفع في هذا المورد ، لان المستصحب لا بد ان يكون حكما شرعيا كوجوب صلاة الجمعة
في عصر الغيبة ، او موضوعا لحكم شرعي كحياة زيد الذي هو موضوع لوجوب الانفاق على
زوجته واولاده مع فقرهم من ماله ، والمستصحب هنا عدم فعليته ، ومن لازمه العقلي
سقوط الواقع.
والحال انه يترتب
على المستصحب الآثار الشرعية لا الآثار العقلية ولا الآثار العادية الا على القول
بالاصل المثبت ، ونحن لا نقول به. والحال ان المكلف قد علم اشتغال ذمته بالتكليف
وشكّ في فراغ الذمة عنه بذاك المأتي به.
فالمرجع هنا الى
قاعدة الاشتغال ، والى اصالة الاحتياط ، لكون الشك في فراغ الذمة بعد اليقين
باشتغالها به. مثلا : اذا قامت البينة على طهارة الماء فتوضأ منه زيد بن أرقم ثم
انكشف انه متنجس ، وتبيّن خطأ البيّنة فيقال ان التكليف بالتوضّؤ بالماء الطاهر
الذي هو حكم واقعي قد اشتغلت به الذمة قطعا ، فقاعدة الاشتغال تقتضي وجوب الاعادة
لكون الشك حينئذ في سقوط التكليف لا في أصله.
بيان الشك في
الإجزاء وعدمه :
قوله
: وهذا بخلاف ما اذا علم ... الخ اعلم ان الشك في الإجزاء وعدمه ليس مثل الشك في وفاء
المأمور به بالامر الاضطراري او الظاهري بناء على القول بالسببية والموضوعية عن
الامر الواقعي الاوّلي ، فان المرجع فيه هو البراءة بعد رفع الاضطرار او بعد كشف
الخلاف في الامر الظاهري.
وخلاصة
الفرق : بين المقامين هي
ان العلم بكون المأمور به الاضطراري او الظاهري بناء على القول بالسببية مأمورا به
واقعا ثانويا ، والشك انما هو في وجوب الإتيان بالمأمور به الواقعي الاوّلي بعد
رفع الاضطرار وبعد رفع الجهل ، والاصل
عدمه ، لكون الشك
في التكليف ، وهو مجرى البراءة.
بخلاف المقام لعدم
العلم بكون المأتى به مأمورا به واقعا من حيث إنه كذلك منوط بكون حجّية الامارات
والطرق على الموضوعية والسببية المشكوكة في المقام ، فيكون الشك حينئذ في المسقط ،
وقاعدة (الاشتغال اليقيني) تقتضي الاعادة في الوقت.
واما القضاء فلا
يجب ، اذا انكشف الخلاف بعد الوقت ، او ارتفع الجهل بعده ، فاذا لم تحرز حجّية
الامارات والطرق على نحو الموضوعية والسببية ، او على نحو الطريقية ، ففي وجوب
القضاء تفصيل ، وهو انه بناء على كونه بفرض جديد وبناء على عدم إمكان اثبات الفوت
الذي هو موضوع وجوب القضاء بأصالة عدم الإتيان بالفريضة إلا على القول بالأصل
المثبت ، حيث إن الفوت امر وجودي ، وترتبه على عدم الإتيان بالفريضة في الوقت امر
عقلي ، فهذا أصل مثبت ، وليس بحجّة إلّا ان يقال ان الفوت عبارة عن نفس عدم
الإتيان بالمأمور به فيجب القضاء حينئذ.
ولا يخفى ان هذا
الإحراز ـ اي إحراز موضوع وجوب القضاء ـ ثابت بواسطة عدم الإتيان بالفريضة ، وان
الحكم بوجوب القضاء على الطريقية اذ بناء على الموضوعية فقد فعل المكلف التكليف
الفعلي ، واصالة عدم الإتيان لا اثر له ، بل الاصل فعلية الواقع في حال الجهل ،
فاذا لم يكن الاصل المثبت حجّة فلا يجب القضاء للشك في وجوبه المنفي. باصالة
البراءة ، واما اذا كان تابعا للاداء بناء على تعدد المطلوب فيجب القضاء ، اذ هو
حينئذ بحكم الاعادة في الوقت كما لا يخفى على المتأمل الدقيق.
قوله
: فتأمل جيّدا وهو إشارة الى ان موضوع القضاء لا ينحصر ولا يختص بالفوت ، بل هو اعم منه ومن
نسيان الفريضة ومن النوم عليها ، فالموضوع للقضاء تركها في تمام الوقت فأصالة عدم
الإتيان ، لو جرت هنا ، لكفت في وجوب القضاء بعد انكشاف الخلاف خارج الوقت.
هذا كله في
الامارات والطرق والاصول العملية التي تتعلق بالموضوعات بعد
الفراغ عن ثبوت
اصل التكليف. وبعبارة اخرى : ان ما ذكرنا راجع ومربوط بالاوامر الظاهرية المتعلقة
بالموضوعات بعد الفراغ عن ثبوت اصل التكاليف.
واما ما يجري من
الامارات والاصول العملية في نفس الاحكام الشرعية ، وفي اصل التكليف كما اذا قام
الطريق او الاصل وكما اذا قامت الامارات الشرعية على الحكم الشرعي ، ولو كانت
حجّيتها على نحو السببية والموضوعية مثل خبر العدل او خبر الثقة ، ونحو استصحاب
صلاة الجمعة لانها كانت واجبة في عصر الائمة عليهمالسلام.
فاذا شككنا في عصر
الغيبة في وجوبها استصحبنا وجوبها ، فلذا فعلناها لاجل خبر العدل او الثقة على
وجوبها ، او لاجل استصحابها. وبعد الإتيان بها انكشف لنا وجوب الظهر يوم الجمعة
فلا وجه للإجزاء مطلقا ، اي سواء كانت حجية الامارات من باب الطريقية او من باب
الموضوعية والسببية ، سواء كان الاستصحاب من الامارات أم كان من الاصول.
اما على الطريقية
فعدم الإجزاء واضح اذ تبيّن خطأ الطريق فلم يدرك المكلف حينئذ مصلحة الواقع أصلا.
واما على الثاني : فلان غاية ما تقتضيه الموضوعية والسببية اشتمال صلاة الجمعة على
المصلحة التي تساوي مصلحة الظهر او تكون ناقصة بقليل من مصلحة الظهر.
والواضح عدم
المنافاة بين وجوب صلاة الجمعة بعنوان كونها ذات المصلحة المذكورة ، وبين وجوب
صلاة الظهر لتعدد متعلق الوجوبين. وكذا لا منافاة بين المصلحتين لتعدد محلهما. فلا
بدّ من فعل الظهر أداء وقضاء إلا اذا قام الاجماع او قامت الضرورة على عدم وجوب
الصلاتين الجمعة والظهر يوم الجمعة ، والواجب فيه صلاة واحدة ، كما ان الامر كذلك.
فلا بد حينئذ من الإتيان بصلاة الظهر لعدم وجوب غيرها والاكتفاء بالجمعة. فالاول ـ
اي الإتيان بصلاة الظهر ـ على الطريقية ، والثاني ـ أي الاكتفاء بالجمعة ـ على
الموضوعية.
الإجزاء في القطع
بالامر خطأ :
قوله
: تذنيبان الاول لا ينبغي توهم الإجزاء في القطع ... الخ الغرض من عقد هذا التذنيب دفع توهم التلازم في الإجزاء بين
الاوامر الظاهرية الثابتة بالامارات والاصول وبين الامر الظاهري العقلي الثابت
بالعلم واليقين اذا كشف الخلاف ، مثلا : اذا تيقّن المكلف ان الصلاة في السفر
الشرعي اربع ركعات مثل الحضر ، او تيقّن ان في موضع الاخفات وجوب الجهر ، او تيقّن
ان في موضع الجهر وجوب الاخفات ، وعمل على طبق يقينه ، وبعد العلم كشف الخلاف ، اي
خلاف اليقين.
حاصل الكلام ان
الإجزاء في الاوامر الظاهرية على القول به لا يستلزم الإجزاء في الامر الظاهري
العقلي مع انكشاف الخلاف ضرورة ان منشأ توهم الإجزاء هو وجود الامر الشرعي بالمأتى
به وهو مفقود في موارد القطع ، اذ ليس فيها إلّا العذر العقلي في ترك الواقع ما
دام قاطعا ، لان وجوب متابعة القطع عقلي ، وبعد ارتفاع القطع يرتفع العذر.
فاذا ارتفع
فالواقع يكون منجّزا عليه ، فتجب الاعادة حينئذ ، ويجب القضاء لعدم الإتيان بنفس
المأمور به الواقعي الأوّلي ، ولا بما جعله الشارع المقدس منزلته ، فلا وجه
للإجزاء ، لان الواقع محفوظ ، وهو لا يتغيّر اصلا كما لا يخفى ، بل هو أوضح من أن
يخفى.
نعم قد يكون ما
قطع بكونه مأمورا به مجزيا عن المأمور به الواقعي الاوّلي ، فيما اذا كان مشتملا
على تمام مصلحة الامر الواقعي ، او على معظمها مع عدم امكان استيفاء الباقي في
الصورة الثانية ، فحينئذ لا يبقى مجال للاعادة في الوقت ولا القضاء في خارج الوقت
، لسقوط الامر الواقعي لاجل حصول غرضه ومصلحته كلّا في الصورة الاولى أو جلّا في
الصورة الثانية.
وبعبارة اخرى : هي
انه اذا كان المأمور به الذي قطع المكلف بكونه مأمورا به اى المأمور به المقطوعي
لا الواقعي مشتملا على تمام مصلحة الواقعي في حال القطع فقط لا مطلقا ، وإلا لكان
واجبا واقعا في عرض الواجب الواقعي لان الغرض
من تشريع الاحكام
الشرعية هو درك المصلحة ، فيكون الإجزاء فيه واضحا حينئذ ، او كان المأمور به
المقطوع به مشتملا على معظم مصلحة الامر الواقعي في حال القطع وفي حال عدم القطع ،
فيكون مجزيا عن الواقع بشرط ان يكون الباقي من المصلحة غير ممكن الاستيفاء.
فالمكلف مخيّر بين
المقطوعي والواقعي اذا كان وافيا بتمام مصلحة الواقعي لما ذكر ، واما اذا كان
وافيا بمعظم مصلحة الواقعي مع عدم إمكان استيفاء الباقي منها فالاجزاء فيه لاجل ان
الجاهل بالحكم الواقعي الذي قطع بالخلاف في هذه المواضع كما في الاتمام مكان القصر
، او الجهر مكان الاخفات ، او الاخفات مكان الجهر ، معذور يجزي عمله عن الواقع بلا
اشكال ، للنصوص الواردة في هذا الباب ، فمنها رواية زرارة بن أعين قدسسره قال : قلت لابي عبد الله الصادق عليهالسلام : فمن صلى في السفر اربعا أيعيد أم لا؟ قال عليهالسلام : ان كان قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى اربعا
أعادها وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه
ومنها
: خبر زرارة عن ابى
جعفر عليهالسلام قال : قلت له : رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي الجهر فيه
، او اخفى فيما لا ينبغي الاخفات فيه ، وترك القراءة فيما تنبغي القراءة فيه ، او
قرء فيما لا تنبغي القراءة فيه ، فقال عليهالسلام : اي ذلك فعل ناسيا او ساهيا فلا شيء عليه هذا مضافا الى اجماع الاصحاب قدسسرهم وغيرهما من الروايات.
فالاول يدل صراحة
بمعذورية الجاهل بالقصر والتمام ، والثاني على معذورية الجاهل بالجهر والاخفات ،
اذا لم يكن عن تقصير وإلّا فلا. فنصوص الباب كاشفة عن وفاء المأتي به تماما موضع
القصر وجهرا موضع الإخفات ، او إخفاتا موضع الجهر بالمصلحة المأمور به الواقعي.
__________________
الإجزاء لا يوجب
التصويب :
فالإجزاء يكون في
ثلاث صور كما ذكرت. واما الصورة الرابعة :
وهي القصر موضع
التمام فلا يجزي القصر بالاجماع مضافا الى النصوص هذا تمام الكلام في التذنيب
الأول ، وأما الثاني فلا يذهب عليك ، اي : لا يخفى عليك ان الإجزاء في بعض موارد
الاصول والطرق والامارات هو عبارة عن اعتبارها وحجيّتها على نحو الموضوعية
والسببية مع وفاء المأتى به على طبق الامارة ، او على طبق الاصل ، بمصلحة المأمور
به الواقعي ، او بمعظمها ، مع امتناع تدارك الباقي منها.
كما ان الإجزاء في
التذنيب الاول ليس لاجل اقتضاء الامر القطعى العقلي ، او لاجل اقتضاء الامر
الطريقي فالاجزاء الاول كما اذا قطع بكون المأتي به مأمورا به وبعد الإتيان انكشف
الخلاف.
والثاني : اذا قطع
بطريقية شيء سواء كان امارة أم كان أصلا فعمل على طبقه فانكشف الخلاف. بل لخصوصية
اتفاقية وهي الوفاء ، اي وفاء المأتي به بالمصلحة كما سبق بيانه لا يكون مستلزما
للتصويب الذي أجمع الأصحاب قدسسرهم على بطلانه.
بيان الاستلزام
على القول به هو ان الإجزاء في بعض موارد الطرق والامارات والاصول كاشف عن التصويب
وعن خلو الواقع عن الحكم ، وإلّا لما أجزأ عنه في صورة كشف الخلاف اذا كان الحكم
الواقعي موجودا ولم يدركه المكلف.
الجواب عن الإشكال
:
في دفع هذا
الإشكال يقال انا نمنع من استلزام الإجزاء التصويب لأجنبية كل من الإجزاء والتصويب
عن الآخر ، وذلك لان الإجزاء هو سقوط الحكم الواقعي بعد كونه موجودا في الواقع وفي
اللوح المحفوظ ، اما لحصول غرضه الداعي الى تشريعه ، مثل بعض صور الاوامر
الاضطرارية والظاهرية بناء على وفاء المأتي به
بتمام مصلحة
المأمور به الواقعي الاوّلي ، وبناء على حجيّة الامارات والطرق والاصول على
الموضوعية والسببية ، لانه على هذا جعل حكم المماثل في مؤداها.
وإما لعدم امكان
تحصيل غرض الواقع ومصلحة المأمور به الواقعي الاوّلي كما في بعض صورهما الأخر ،
وهو الوفاء ، اي وفاء المأتي به على طبقها بمعظم المصلحة مع عدم امكان تدارك
الباقي منها. واما التصويب الباطل فهو خلو الواقع عن الحكم ، وعن انحصار الحكم
الواقعي في مؤدى الامارة والطرق والاصول.
ومن الواضح
البديهي الذي لا يقبل الانكار من احد تضاد التصويب للإجزاء بهذا المعنى الذي هو
فرع ثبوت الحكم الواقعي اذ لا معنى لسقوط الحكم الواقعي بلا ثبوته في الواقع.
فبالنتيجة الإجزاء
يقتضي ثبوت الحكم الواقعي ، والتصويب الباطل عدم الحكم الواقعي. فعلى هذا ليس
الإجزاء لازما مساويا للتصويب كما قال به المستشكل بل هما متباينان.
غاية الامر ان
الحكم الواقعي ، الذي يشترك فيه العالم به والجاهل ، يصير فعليا مع اصابته الواقع
ويبقى على مرتبة الانشاء مع خطئها إياه الى آن انكشاف الخلاف ، وحينئذ ، اذا كان
المأتي به على طبق الامارة والطرق والاصل وافيا بتمام مصلحة المأمور به الواقعي
الاوّلي ، او وافيا بمعظمها مع عدم امكان تدارك الباقي منها يسقط الحكم الواقعي
ويكتفى به ، ولا مجال للاعادة ولا القضاء.
وان لم يكن وافيا
كذلك لم يسقط ويبقى على فعليته ، ولذا تجب الاعادة ويجب القضاء. هذا مضافا الى انه
كيف يكون الإجزاء في بعض موارد الامارات والطرق والاصول تصويبا ، مع ان دليل
اعتبار الامارة والاصل يدل على تحقق الحكم الواقعي الذي يشترك فيه العالم والجاهل
والملتفت والغافل المحفوظ في مرتبته.
فالإجزاء لا يكون
دخيلا بالتصويب الباطل لانه ليس إلّا مؤدّى الامارة وإلّا الاحكام الظاهرية التي
تدل عليها الامارة والاصول حكما واقعيا ، فالاحكام دائرة
مدار الامارات
والطرق والاصول وجودا وعدما ، فالواقع خال عن الحكم الانشائي.
وإما الإجزاء فهو
سقوط الحكم الواقعي بملاحظة غرضه ومصلحته ، او بلحاظ عدم تمكن المكلف بعد الإتيان
بمأمور به ظاهري على طبق الامارة او الاصل من اتيان غرض الحكم الواقعي الاوّلي في
موارد الامارات والطرق والاصول. ولكن الاحكام الواقعية متحققة موجودة في الواقع
وفي اللوح المحفوظ ويكون العالم والجاهل شريكين فيه ، وهي محفوظة غير مرتبطة
بالعلم ، اي بعلم المكلف.
غاية الامر على
القول بالإجزاء ، اي اجزاء الحكم الظاهري عنه ، فهو ساقط عن ذمة المكلف ويبقى في
مرتبة الانشاء ولم تصل الى مرتبة الفعلية ، كما انه في موارد عدم الإجزاء باقية
على حالها ، فلذا تجب الاعادة في الوقت ويجب القضاء في خارج الوقت.
فبالنتيجة : إن
الاجزاء غير ملازم للتصويب الباطل ، فالاحكام الواقعية تبقى على حالها. غاية الامر
: ان كانت الامارة مصيبة بها صارت فعلية في حق المكلف ، وان كانت مخطئة للواقع فهي
انشائية وشأنية ، سواء قلنا بالإجزاء أم قلنا بعدمه. فظهر ان الحكم الواقعي الشأني
الانشائي موجود في الواقع وفي اللوح المحفوظ.
قد تحصّل مما ذكر
ان الحكم الواقعي ، بناء على الإجزاء بحصول غرضه او بعدم تمكن العبد عن تحصيل غرضه
كما في موارد الجهر والاخفات والقصر والتمام ، ساقط عن ذمة المكلف ـ والحال ان
سقوطه على هذا التقدير فرع ثبوته في الواقع ـ فكيف يكون الإجزاء تصويبا مع انه اخذ
في الحكم الظاهري الجهل بالحكم الواقعي؟ فلا بد حينئذ ان يكون الحكم الواقعي
موجودا حتى نقول بالاجزاء وبعدم الإجزاء. فالحكم الواقعي محفوظ في موارد الحكم
الظاهري في مرتبته وهو واضح كما لا يخفى على احد.
فقول المصنف قدسسره (وكان الجهل
بخصوصيتها) اشارة الى الشبهة الموضوعية كالمائع المردد بين الخلّ والخمر مع العلم
بحكمهما. كما ان قوله : او بحكمها اشارة الى الشبهة الحكمية مثل الجهل بحرمة شرب
التبغ اما لفقد النص واما لاجمال النص
واما لتعارض
النصين.
غاية المطلب ان
الجهل بالحكم الواقعي موضوع للاصول العملية ، وهو ظرف للامارات والطرق المعتبرتين
فلا ينحصر الحكم الشرعي في مؤدى الامارات والطرق والاصول العملية على القول الاظهر
وهو القول بعدم التصويب كما ينحصر في مؤداها على التصويب الباطل باجماع الاصحاب قدسسرهم ، وان قال به بعض العامة.
مقدمة الواجب :
قوله
: فصل في مقدمة الواجب ... الخ وقبل الخوض في
المقصد لا بد من تقديم امور :
الاول
: ان مسألة المقدمة
من مسائل علم اصول الفقه وليس من مسائل علم الفقه ، ولا من مسائل علم الكلام ، ولا
من مبادئ الاحكام ، ولا من المبادئ التصديقية ، وقد ذهب الى كلّ فريق. ولكن المصنف
قدسسره قال انها من مسائل علم الاصول ، واستدلّ عليه بان البحث
فيها يكون من الملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدماته عقلا ، يعني إن العقل
يحكم بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ام لا؟ ومن الواضح ان البحث من حكم
العقل بالملازمة ليس من المسائل الفرعية الفقهية. والحال انه لا بد من ان يكون
موضوع المسألة الفقهية فعلا من افعال المكلف ، ومحمولها من الاحكام الشرعية مثل (الصلاة
واجبة) و (الصوم واجب) وغيرهما.
وفي هذا المقام ،
وان كان محمولها وجوبا ، ولكنه وجوب عقلي لا شرعي ، وموضوعها ليس فعل المكلف ، اذ
هو الملازمة ، وهي ليست من فعله.
فبالنتيجة
: لا يكون موضوعها
فعل المكلف ، ولا محمولها حكما شرعيا ، اذ في المرحلة الاولى يكون البحث عن ثبوتها
وعدم ثبوتها عقلا ، وفي المرحلة الثانية يبحث عن وجوب المقدمة وعدم وجوبها عقلا لا
شرعا على رأي المصنف قدسسره ، فلا تنطبق القاعدة الفقهية على المسألة المقدمة بل تنطبق
القاعدة الاصولية عليها ، اذ لا
نعني بها الا ما
يصح ان يقع كبرى لقياس ينتج حكما كليا شرعيا فقهيا.
بيان
القياس : انا نقول مثلا :
ان الوضوء مقدمة الصلاة وكل مقدمة الصلاة واجب ، فالوضوء واجب. فاذا انضمت هذه
الكبرى الكلية الى الصغرى الوجدانية أنتجت حكما فرعيا شرعيا وهو وجوب الوضوء
للملازمة عقلا بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة.
ولا يخفى ان مع
هذا الانطباق لا وجه للالتزام بالاستطراد في هذه المسألة المعنونة في علم الاصول ،
ولا معنى لجعلها مسألة فقهية أو مسألة كلامية أو من مبادئ الاحكام أو من المبادئ
التصديقية. كما جعلها صاحب (القوانين) وصاحب (الفصول) قدسسره من المسائل الفرعية الفقهية ، بتقريب أن مقدمة الواجب من
افعال المكلف كالتوضؤ والغسل فيبحث في وجوبها وعدمه فهي بهذا النحو فقهية.
قال المصنف قدسسره في رده ان البحث هنا لا يكون عن نفس وجوب المقدمة وعدمه كى
تكون هذه المسألة فرعية لوجهين :
الاول
: ان البحث الفقهي
الصغروي لا يناسب الأصوليّ لانه ينبغي ان يكون باحثا عن الكبريات.
والثاني
: انه لا وجه
للاستطراد والتبعية في مثل هذه المسألة المهمة التي تترتب عليها آثار في الفقه ،
بل هي من المهمات في هذا الفن ، بل يكون البحث فيها من الملازمة العقلية بين
وجوبها التي هي من عوارض طلب المولى لذي المقدمة ، وبين وجوب ذيها ، لا من عوارض
فعل المكلف ، كما هو شان الفقيه في علم الفقه.
فاذا علمنا من
طريق البرهان العقلي بالملازمة فهو يستلزم العلم بحكم فعل المكلف ، وهو وجوب
الإتيان بمقدمة الواجب كما انه لا وجه لكونها كلامية بتقريب انه تحسن المثوبة على
فعلها عقلا والعقوبة على تركها عقلا ، فهي كلامية لانه يبحث في علم الكلام عن
الثواب والعقاب على تقدير وجوبها.
وردّ هذا يعلم مما
سبق فلا نعيده ، ومع تطبيق قاعدة الاصولى عليها لا تكون من مبادئ الاحكام ولا من
المبادئ التصديقية ، بمعنى ان الحكم بوجوب المقدمة
يتوقف على
الملازمة ، أو ان التصديق والاذعان بوجوبها موقوفان على ثبوت الملازمة بين وجوب
الشيء ووجوب مقدمته ، ومع إمكان كونها من المسائل الاصولية لا حاجة الى ارتكاب هذه
الركيكات. كما سيأتي تفصيل هذا في بحث اجتماع الامر والنّهي ان شاء الله تعالى.
كون مسألة المقدمة
عقلية :
قوله
: ثم الظاهر أيضا ان المسألة عقلية والكلام في استقلال العقل ... الخ قال المصنف قدسسره ان في هذا المقام دعويين :
الاولى
: كونها من المسائل
الاصولية وقد سبق.
والثانية
: كونها من المسائل
العقلية لا من المسائل اللفظية ، فان البحث فيها يكون في استقلال العقل في الحكم
بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، بحيث اذا وجب الشيء شرعا استقلّ العقل
بوجوب مقدمته شرعا أيضا أو لا يرى العقل الملازمة بين وجوبيهما ، وليس الكلام في
دلالة الامر بالشيء على وجوب مقدمته كما يظهر من صاحب (المعالم) قدسسره حتى تكون المسألة لفظية ، فانه قد استدل على نفي وجوبها
بانتفاء الدلالات الثلاث المطابقية والتضمنية والالتزامية.
أما عدم المطابقة
والتضمن فواضح ، وأما عدم الالتزام فلانه يشترط في الدلالة على خارج الموضوع له
لزوم البين بالمعنى الأخص بحيث يستحيل تصور الملزوم بدون تصور اللازم عقلا ، كما
في العمى والبصر ، أو عرفا كما في الجود وحاتم الطائي.
ومن الواضح :
انتفاء اللزوم كذلك في هذا المقام ، مضافا الى انه ذكرها فى مباحث الالفاظ.
فالوجهان يدلان على ان مسألة المقدمة عنده من المسائل اللفظية :
الاول
: ان انتفاء
الدلالات الثلاث يقتضي عدم الدلالة اللفظية.
الثاني
: انه ذكرها في
مباحث الالفاظ وهو يدل على كونها منها.
قال المصنف قدسسره ولا ربط لها بعالم اللفظ ، بل هي ترتبط بالعقل ولذا كانت
عقلية. فان قيل :
انكم ذكرتموها في مباحث الالفاظ فاذن لا فرق بين قولكم وقول صاحب (المعالم) قدسسره قلنا ان الفرق موجود وهو انه ذكرها فيها لكونها من المسائل
اللفظية ، واما نحن فنذكرها تبعا للسلف ، لا لأجل كونها من الالفاظ ، اي من
مسائلها.
المقدمة الداخلية
والخارجية :
قوله
: الامر الثاني انه ربما تقسم المقدمة الى تقسيمات ... الخ وتقسم المقدمة الى اقسام عديدة سنذكرها ان شاء الله تعالى.
ومنها تقسيمها الى
داخلية وخارجية.
فالمقدمة الداخلية
، بالمعنى الأخصّ ، أجزاء المأمور به ، فهي داخلة في المركب المطلوب ويقيّد بها
ويعبّر عنها ب (الأجزاء) مثل تكبيرة الإحرام والركوع والسجود والذكر والتشهد
والتسليم ونحوها بالاضافة الى الصلاة المأمور بها.
ويقابلها المقدمة
الخارجية بالمعنى الأعمّ وهي التي لا تكون داخلة في ماهية المأمور به ، سواء كان
التقيّد بها داخلا في الواجب كشرائطه الشرعية نحو الوضوء والاستقبال والستر ونحوها
، أم لا كالكون في مكان مباح حالة الصلاة مثلا الذي يتوقف عليه وجود الواجب شرعا
من دون دخله فيه تقيّدا كما لا يخفى.
فاعلم ان المقدمة
بهذا التقسيم ثلاثة :
الاولى
: المقدمة الداخلية
بالمعنى الأخصّ وهي أجزاء المأمور به الداخلة في حقيقته تقيّدا وقيدا مثل القراءة
كما هي بنفسها دخيلة فيه ومقوّمة إيّاه ، وكذا تقيّدها ، بكونها مسبوقة بتكبيرة
الإحرام وملحوقة بالركوع ، دخيل في حقيقته.
الثانية
: المقدمة الخارجية
بالمعنى الأعمّ ويقال لها (المقدمة الداخلية بالمعنى الاعم) أيضا ، وهي الخارجة عن
المأمور به قيدا والداخلة فيه تقيّدا ، مثل طهارة البدن واللباس عن الخبث
والاستقبال والطهارة من الحدث وما شاكلها ، لانها خارجة عن حقيقة الصلاة المأمور
بها قيدا ، ولكنها داخلة فيها تقيّدا. يعني ان المأمور به حصة من الصلاة ، وهي
الصلاة المقيدة بها لا مطلقا ، وهو واضح لا غبار
عليه.
الثالثة
: المقدمة الخارجية
بالمعنى الأخصّ ، وهي غير الدخيلة فيه قيدا ولا تقيدا ، بل إنما يتوقف وجود الواجب
في الخارج عليها ، مثل الكون في مكان من الامكنة حالتها ، مثل توقف الكون في النجف
الأشرف للبعيد عنه على قطع المسافة.
فان قيل : كيف
تكون الإجزاء مقدمة داخلية للمأمور به ، والحال ان الإجزاء تكون عين المأمور به
وهو عينها فلا مغايرة بينهما ولا اثنينية موجودة فيهما ، فيلزم ان يكون ذو المقدمة
والمقدمة شيئا واحدا.
والحال انه لتوقف
ذي المقدمة على المقدمة ، لا بد من مغايرتهما واثنينيتهما كى يكون ذو المقدمة
موقوفا ، وكى تكون المقدمة موقوفا عليه فلا يكون للأجزاء وجود غير وجود المأمور به
حتى تجب وجوبا غيريا وهو واجب نفسي ، فاذن تنحصر المقدمة بالخارجية ولا تتصور
الداخلية اصلا كما لا يخفى.
قلنا : في حلّه إن
الإجزاء تلحظ على نحوين :
الاول
: ان تلحظ بلا شرط
الانضمام والاجتماع ، وبلا شرط الانفراد. اي بلا شرط انضمام بعضها الى بعض ، لانها
اذا لوحظت بشرط انفراد كل واحد منها عن الآخر فهي ليست مقدمة ، اذ جميعها مع
الانضمام مقدمة. ولانها اذا لوحظت بشرط الانضمام والاجتماع صارت عين المأمور به
الذي هو كلّ ومركب فلا مغايرة بينهما.
الثاني
: ان تلحظ بشرط
الانضمام والاجتماع. فهي على الاول مقدمة. كما انها على الثاني ذو المقدمة.
فالاجزاء باعتبار الاول مقدّمة على المأمور به الذي هو ذو المقدمة لان ذوات
الإجزاء معروضة للاجتماع.
ومن الواضح تقدم
المعروض على العارض ، فهي مقدّمة على ذيها رتبة ، كتقدم الواحد على الاثنين ،
وكتقدم الشرط على المشروط ، ومغايرة له ولو اعتبارا ولحاظا. وهي كافية في كونها
متصفة بالمقدمية وبالوجوب الغيري.
فالمقدمة الداخلية
بأسرها بما هي هي ، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الانضمام والاجتماع. فالمغايرة
الاعتبارية واضحة بين الماهية لا بشرط والماهية
بشرط. بقي هنا
امران :
الاول
: الفرق بين
الاجزاء والشرائط هو ان في الاولى يدخل القيد والتقيد معا في المأمور به ، وفي
الثاني يدخل التقيد فيه دون القيد.
الثاني
: ان المقدمة
منقولة من مقدّمة الجيش. وجه المناسبة ان مقدّمة الجيش تقال للجماعة المتقدّمة
ومقدّمة العلم تقال لطائفة من الكلام قدّمت على المقصود ، اذ الاجزاء مقدّمة على
المأمور به رتبة ووجودا ، فلفظ المقدّمة يحتمل ان يكون مكسور الدال فتكون حينئذ
بمعنى المتقدّمة ، وان يكون مفتوح الدال فهو بمعنى اسم المفعول من باب التفعيل ،
والوجه واضح لكنه لا محل له لانه أدبي لا اصولي.
دفع الإشكال :
قوله
: وكون الإجزاء الخارجية كالهيولى والصورة هي الماهية المأخوذة ... الخ هذا اشارة الى اشكال ودفع.
اما الاول : فهو
ان المذكور في فن المعقول والفلسفة ان الأجزاء الخارجية مأخوذة (بشرط لا) وهو
ينافي ما ذكرت من ان الجزء مأخوذ وملحوظ (لا بشرط) وبما هي هي. والحال ان التنافي
واضح بين الماهية (بشرط لا) وبين الماهية (لا بشرط).
واما الثاني :
فلان التنافي بينهما انما يكون بالاضافة الى شيء واحد مع كونهما جاريين على اصطلاح
واحد ، وليس الامر كذلك في هذا المقام ، فان المقصود من (بشرط لا) فيما ذكر اهل
المعقول (بشرط لا) الاعتباري ، في مقابل الجزء التحليلي العقلي المأخوذ (لا بشرط)
الاعتباري ، بشهادة ذكر ذلك في مقام الفرق بين الجزء التحليلي العقلي الذي هو
عبارة عن الجنس والفصل كالحيوان والناطق بالاضافة الى الانسان ، وبين الجزء
الخارجي كالهيولى والصورة في الحمل في الاول ، لانه يصح ان تقول ان (الانسان حيوان
او ناطق) وعدم صحة الحمل في الثاني ، فانه لا يصح ان تقول ان (الانسان بدن او نفس
او هيولى او صورة) كما يصح
قولك ان (زيدا
حيوان او ناطق) ولا يصح (هو بدن او نفس او هيولى ومادة او نفس او عقل) ، كما تقدم
في مبحث المشتق.
والمراد مما ذكرنا
هنا من (لا بشرط) هو اللابشرط الخارجي ، في مقابل بشرط الاجتماع الخارجي. فاحد
الاعتبارين على اصطلاح ، وثانيهما جار على اصطلاح آخر. فبالنتيجة ان اخذ الاجزاء (بشرط
لا) في الفلسفة بمعنى كون الهيولى آبيا عن الحمل على الصورة ، فلا يقال (ان الصورة
هيولى) وعلى الكل ولا يقال (ان الانسان هيولى) ، وفي المقام معنى اللابشرطية اخذ
الاجزاء مع قطع النظر عن الاجتماع وعدمه ، فالاضافة مختلفة إذ (بشرط لا) الفلسفي
بالاضافة الى الجزء الآخر والى الكل. ومعنى (لا بشرط) الاصولي بالنسبة الى الكل
فقط ، فلا تنافي بينهما ، اذ يشترط في التناقض وحدة الاضافة كما في علم المنطق.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
كلام اهل المعقول ان كان اشارة الى ان المقصود من (بشرط لا) بالاضافة الى المركب ،
ومقصود الاصولى من (لا بشرط) يكون بالاضافة الى المركب أيضا ، فلا منافاة بين
القولين ، اذ مقصودنا منه (لا بشرط) عن الاجتماع والانضمام ، ومقصود اهل المعقول
من (بشرط لا) يكون بشرط عدم الحمل على المركب في قبال الجزء التحليلي بشرط صحة
الحمل عليه اي صحة حمل الجزء التحليلي العقلي على المركب العقلي ، كما يقال ان
الانسان حيوان ناطق.
خروج الاجزاء عن
محل الخلاف :
قوله
: ثم لا يخفى انه يبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع كما صرّح به بعض ... الخ قال سلطان العلماء قدسسره انه «ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع التى تسمى بالمقدمة
الداخلية» ووجه خروجه عنه كما افاده قدسسره عدم كفاية المغايرة الاعتبارية بين الأجزاء والكل ، فان
الأجزاء هي عين الكل ذاتا وان تغايرا اعتبارا ولحاظا لكون الاجزاء (لا بشرط) ولكون
الكل بشرط الاجتماع ، فاذا اتحدا ذاتا ومصداقا
وجبت الأجزاء بعين
وجوب الكل.
غاية
الامر : انه يجب الكل
بوجوب نفسي استقلالي. ولكن يجب كل واحد من الاجزاء بوجوب نفسي ضمني ، اي في ضمن
وجوب الكل من باب انحلال امر المركب الى الاوامر المتعدّدة على حسب اجزائه ،
فالامر بالمركب امر باجزائه ، ومع اتصاف كل واحد منها بالوجوب النفسي الضمني لا
يمكن اتصافه بالوجوب الغيري المقدمي الترشحي ، لامتناع اجتماع المثلين عقلا في محل
واحد وموضوع فارد ، وان قلنا بجواز اجتماع الامر والنّهي في مسألة الاجتماع ، اذ
الجهتان في مسألة الاجتماع متعددتان احداهما تحت الامر والاخرى تحت النّهي ،
كعنواني الصلاة والغصب حيث تنطبقان في المكان المغصوب.
وهذا بخلاف ما نحن
فيه فان الوجوب النفسي ، وان تعلق بعنوان الصلاة نحو قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، ولكن الوجوب الغيري المقدمي لم يتعلق بعنوان المقدمة
والمقدمية حتى تتعدد الجهتان وتنطبقا على الاجزاء ، كى يقال ان الاجزاء بعنوان
أنها صلاة تجب نفسيا ، وبعنوان أنها مقدمة تجب غيريا ترشحيا ، بل يتعلق الوجوب
الغيري المقدمي الترشحي على القول به بنفس الاجزاء وذاتها ، لانها المقدمة بالحمل
الشائع الصناعى لا بعنوان المقدمة.
وان كان عنوان
المقدمة علّة لتعلق الوجوب الغيري بالأجزاء فليس في هذا المقام شيء الا عنوان واحد
ومعنون فارد ، بحيث يكون أحدهما متعلقا للوجوب النفسي والآخر متعلقا للوجوب
الغيري. فاذا كان العنوان واحدا وهو وجوب النفسي الضمني ، والمعنون فاردا وهو نفس
الاجزاء وذاتها ، وفي مثله لا يجوز الاجتماع اصلا ، كما لا يجوز اجتماع الوجوب
والحرمة في شيء واحد كذلك لا يجوز اجتماع الوجوب النفسي ولو ضمنيا والوجوب الغيري
في محلّ واحد. فالاجزاء لا بد ان تكون واجبة نفسية ضمنية لا غير فلا محل للنزاع
فيها.
قوله
: فانقدح بذلك فساد توهم اتصاف كل جزء من اجزاء الواجب ... الخ اي ظهر لعدم تعدد الجهة والعنوان في هذا المقام ، فساد
توهم اتصاف كل واحد من اجزاء
المأمور به
بالوجوب النفسي وبالوجوب الغيري باعتبارين. فباعتبار كل واحد منها في ضمن الكل
واجب نفسي ضمني وباعتبار كون كل واحد منها مما يتوصل به الى الكل واجب غيري ترشحي.
قلنا
: في دفعه ان الجهة
على نحوين : احدهما : تقييدية ، وثانيهما : تعليلية.
فالاولى
: هي ما كانت
موضوعا للحكم وللخطاب ، سواء كان موضوعا خارجيا واقعيا نحو (اعط الفقير درهما)
فالفقير الخارجي موضوع في هذا المثال لوجوب الاعطاء الذي هو حكم شرعي ، وفقره جهة
وعلّة للحكم والفقر داخل في الموضوع من باب دخول مفهوم (المشتق منه) في مفهوم (المشتق)
، أم كان موضوعا فعليا نحو (اقيموا الصلاة) ونحو (لا تغصب). فالصلاة والغصب
موضوعان للوجوب في الاول ، وللحرمة في الثاني ، والصلاتية والغصبية جهتان لحكم
الوجوب ، اي وجوب الاقامة ، وحرمة الغصب. فهما داخلتان في الموضوع من باب دخول
العنوان في المعنون.
والثانية
: هي علّة للحكم لا
موضوعا له ، فلا يتعلق الحكم بها. مثل مقدمية المقدمة ، فهي جهة تعليلية لا
تقييدية. فان كانت تقييدية تعدّد الموضوع مثل (الصلاة واجبة) و (الغصب حرام محرّم)
فالصلاة موضوع الوجوب ، والغصب موضوع الحرام ، والحرمة والصلاتية والغصبية جهتان
تقييديتان. وان كانت تعليلية فتعددها لا يجدى في دفع اشكال اجتماع المثلين ، اذ
المفروض عدم تعلق الحكم بها كى يكون تعددها موجبا لتعدد الموضوع ، فلا يقال ان
الاجزاء واجب نفسي ضمني من جهة كونها عين الكل ذاتا ، وهي واجب غيري ترشحي من جهة
كونها مقدمة للكل ، لان الواجب عارض على ذات الاجزاء لا على مقدّميتها ، اذ هي جهة
تعليلية اجنبية عن موضوع الحكم كما لا يخفى.
فبالنتيجة ذوات
الاجزاء ليست واجبا نفسيا ضمنيا وواجبا غيريا لانه من اجتماع المثلين في محلّ واحد
، بل هي واجبة نفسية ضمنية فقط.
قوله
: اللهم إلّا ان
يريد ان فيه ملاك الوجوبين ... الخ فلو اراد المتوهم ان ملاك
الوجوبين ،
والمقتضي لهما موجود في الاجزاء التى تسمى بالمقدمة الداخلية بالمعنى الأخصّ ،
لانها باعتبار عينية للكل ذاتا فهو مقتض لوجوبها النفسي الضمني ، وباعتبار انها
مما يتوقف عليها وجود الكل الذي أمر به فهو مقتض لوجوبها الغيري ، لا الوجوب
الغيري الفعلي ، لوجود المانع عنه وهو اجتماع المثلين ، بل الوجوب الغيري الشأني.
امّا قول المصنف قدسسره وان كان كل واحد من الاجزاء واجبا بوجوب واحد نفسي ضمني
فعلا لسبقه ، لان امر المولى يتعلق أوّلا بذي المقدمة الذي هو عين الاجزاء وواجب
نفسي. والحال ان الشيء لا يكون علّة لمضادّه الذي هو واجب غيري وليس له علة اخرى ،
فيمتنع ويثبت الوجوب النفسي لها لوجود علّته التي هي أمر المولى وبعثه وتحريكه ،
ولا يثبت الوجوب الغيري الفعلي لها لفقد علّته.
تعريف المقدمة
الخارجية واقسامها :
قوله
: واما المقدمة
الخارجية فهي ما كان خارجا عن المأمور به ... الخ والمراد من خروجها انها خارجة عن
حقيقة المأمور به في قبال المقدمة الداخلية الداخلة في ماهية المأمور به ، فالاولى
كشرائطه ، والثانية كأجزائه ، أعم من الاركان وغير الاركان ، وكان لها دخل في تحقق
المأمور به ، لا يكاد يتحقق بدونها. وقد ذكر لها اقسام وأطيل الكلام في تحديدها
وتعريفها بالنقض والإبرام ، إلّا انه غير مهم هنا فلا بد من بيان أمرين :
الاول
: بيان تعريفها على
نحو الايجاز لمزيد الفائدة وتعريفها فقد سبق آنفا فلا نعيده حذرا من التكرار ،
وعلى اي حال انها على اقسام :
ا ـ المقتضي ،
ويقال له السبب ايضا ، وهو المؤثر في المقتضى كالنار في إحراق الجسم.
ب ـ وهو الدخيل في
تأثير المقتضي في المقتضى كالمحاذاة للإحراق ، فان النار ما لم تكن محاذية لشيء لم
تحرقه.
ج ـ عدم المانع ،
اي عدم ما يمنع عن تأثير المقتضي في المقتضى كعدم الرطوبة للإحراق ، فان الرطوبة
مانعة عن تأثير النار فيه ، فعدمها يكون من مقدمات وجود الإحراق.
د ـ المعدّ ، وهو
الذي يوجب التهيؤ للمقتضي من دون ان يكون له تأثير في المقتضى ولا في تأثير
المقتضي في المقتضى كإحضار الحطب أو الخشب وحفر الحفيرة للإحراق ، او كالزاد
والراحلة وتحصيل الرفقة والسير معهم في الطريق للحج.
وبالجملة كل شيء
توقف عليه وجود الشيء الآخر في الخارج ، من دون ان يكون له تأثير فيه ولا في تأثير
المقتضي فيه ، فهو المعد.
ه ـ العلّة التامة
، وهي مجموع المقتضي والشرط وعدم المانع والمعد ، فاذا تحقق الجميع فقد تحقق
المقتضى قهرا بلا فصل زماني ، وان كان يتأخر المعلول عن علّته رتبة. هذا ما يتعلق
بالمقدمة الخارجية.
والثاني
: وجه عدم تعرّض
المصنف قدسسره لتعريفها وللنقض والابرام ، وهو ان غرضه هنا ردّ قول (المفصّل)
بين المقتضي والسبب ، وبين الشرط وعدم المانع والمعدّ ، فقال بالوجوب في الاول دون
الباقي ، فقال المصنف قدسسره ان جميع الاقسام محل خلاف من دون اختصاصه بالسبب فقط.
المقدمة العقلية
والشرعية والعادية :
قوله
: ومنها تقسيمها الى العقلية والشرعية والعادية قسّم الاصوليون المقدمة الى المقدمة العقلية ، والى
المقدمة الشرعية ، والى المقدمة العادية ثانيا.
فالاولى
: ما يتوقف عليه
وجود ذي المقدمة عقلا. وبعبارة اخرى هي ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونها ،
كطلوع الشمس الذي يتوقف عليه وجود النهار تكوينا وعقلا ، فهو مقدمة عقلية لوجود
النهار.
والثانية
: ما استحيل وجود
ذي المقدمة شرعا بدونه على ما قيل ، وذلك كالطهارة التي يتوقف عليها وجود الصلاة
شرعا.
والثالثة
: ما يتوقف عليها
وجود ذي المقدمة عادة ، وتلك كنصب السلم للكون على السطح ، اذ هو ممكن عقلا بدون
نصب السلم لإمكانه بواسطة الطيران في الهواء حتى يستقر في السطح ولكن الطيران يكون
محالا عادة.
قوله
: ولكنه لا يخفى
رجوع الشرعية الى العقلية ضرورة ... الخ اذ لا يخلو الامر من احد احتمالين ومن احد
وجهين :
الاول
: ان تكون المقدمة
الشرعية شرطا في المأمور به كقول المولى (صلّ عن طهارة) يستفاد منه شرطية الطهارة
للصلاة.
والثاني
: عدم كون الطهارة
شرطا للمأمور به بلسان الدليل ، ولكن المولى عالم بالواقع ، وهو يعلم توقف الصلاة
من حيث الوجود الخارجيّ عليها. وعلى كلا الوجهين ترجع المقدمة الشرعية الى المقدمة
العقلية.
اما على الاول
فلامتناع وجود المشروط بدون وجود شرطه عقلا ، فيتوقف المشروط على شرطه من باب حكم
العقل فترجع الى العقلية.
واما على الثاني
فلان الصلاة الصادرة من المكلف لا تكون وافية بالمصلحة بلا طهارة فتتوقف الصلاة
على الطهارة عقلا ومن باب حكم العقل.
واما الفرق بين
الوجهين المذكورين ، ان المولى واسطة اثباتية للتوقف في الاول ، وهو واسطة ثبوتية
له في الثاني.
واما العادية ،
فان كانت بمعنى ان يكون التوقف عليها بحسب العادة البشرية ، بحيث يمكن تحقق ذي
المقدمة بدون المقدمة العادية ، لانه يمكن الصعود على السطح بالطيران او بالحبل
مثلا. إلّا ان العادة جرت على نصب السلم او الدرجة للصعود ، كما يمكن الوعظ
والتدريس بدون نصب المنبر والكرسي إلّا ان العادة جرت على نصبهما ، فهي وان كانت
غير راجعة الى المقدمة العقلية لعدم توقف ذيها عليها عقلا كما علم من المثال
المذكور ، وان كانت بمعنى ان توقف ذيها عليها واقع لعدم قدرة المكلف على الطيران
الذي يمكن عقلا له ، فهي راجعة الى المقدمة العقلية ضرورة استحالة الصعود على
السطح بدون نصب السلم ونحوه عقلا لغير الطائر
(فعلا) وان كان
طيرانه ممكنا (عقلا).
فبالنتيجة لا تبقى
المقدمة الا قسما واحدا لرجوع الشرعية الى العقلية والعادية بالمعنى الثاني اليها
، او قسمتي العقلية والعادية ، ان كانت بالمعنى الاول فلا رسم ولا اثر للشرعية
منها.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى
منع رجوع المقدمة العادية بالمعنى الثاني الى المقدمة العقلية ، لان الملاك في
المقدمة العقلية هو توقف ذي المقدمة على المقدمة عقلا. ومع امكان الطيران (عقلا)
لا يكون توقف الصعود على نصب السلم واقعا عقليا بل يكون عاديا.
مقدمة الوجود
والصحة والوجوب والعلم :
قوله
: ومنها تقسيمها الى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة ... الخ فالمقدمة ، تارة تكون مما يتوقف عليه وجود الواجب في
الخارج مثل قطع المسافة بالاضافة الى الحج. واخرى تكون مما تتوقف عليه صحة ذي
المقدمة كالطهارة بالاضافة الى الصلاة. وثالثة تكون مما يتوقف عليها وجوب ذي
المقدمة مثل الاستطاعة بالاضافة الى الحج والنصاب بالنسبة الى الزكاة ، وكذا شرائط
التكليف من البلوغ والعقل وغيرهما. ورابعة تكون مما يتوقف عليه العلم بوجود ذيها
مثل الإتيان بصلاتين في الثوبين المشتبهين ، وكالاتيان بها الى الجهات الاربع في
صورة اشتباه القبلة مع سعة الوقت.
قوله
: ولا يخفى رجوع مقدمة الصحة الى مقدمة الوجود ... الخ اي لا يخفى عليك ان مقدمة الصحة ترجع الى مقدمة الوجود ،
سواء قلنا بوضع الفاظ العبادات للصحيح منها ، أم قلنا بوضعها للاعم منه ومن
الفاسد.
اما رجوع مقدمة
الصحة الى مقدمة الوجود على القول الصحيحي فواضح لانه بانتفاء مقدمة الصحة على هذا
القول ينتفى الوجود من أصله ، واما رجوعها اليها على القول الأعمّي فلان مقدمة
الصحة على هذا القول ، وان لم تكن مقدمة لوجود
الشيء لان المسمى
يتحقق بدونها ، ولكن الكلام في هذا المبحث انما هو في بيان مقدمة الواجب والواجب
هو الصحيح فقط.
ومن الواضح توقف
وجود الصحيح على مقدمة الصحة وان لم يتوقف وجود مسمى الصلاة عليها ، فكان مرجع
مقدمة الصحة الى مقدمة الوجود كما لا يخفى.
وكذا لا اشكال في
خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع ، كالاستطاعة التي يتوقف عليها وجوب الحج ، فقبل
حصولها لا وجوب للحج حتى نقول بالملازمة العقلية بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ،
ونقول بترشح الوجوب من الواجب اليها ، واما بعد تحققها فلا معنى لترشح الوجوب من
الواجب اليها.
ومن المعلوم انه
بعد وجود الاستطاعة يكون النزاع في وجوبها من باب مقدمة الواجب ، وعدم وجوبها ،
تحصيلا للحاصل وطلبا للأمر الحاصل الموجود ، فاذا حصلت الاستطاعة فالوجوب ثابت
للحج.
وكذا لا اشكال في
خروج المقدمة العلمية عن حريم النزاع لانها على قسمين :
فتارة تكون خارجة
عن حقيقة الواجب اجنبية عنه رأسا وذلك كغسل شيء يسير مما فوق المرفق ليحصل اليقين
بتحقق الغسل بالمقدار الواجب في الوضوء.
واخرى : تكون من
احدى محتملات الواجب المعلوم ، كالاتيان بطرفي العلم الاجمالي ، او باطرافه ،
مقدمة لحصول العلم بتحقق الواجب المعلوم بالإجمال ، سواء كان ذلك في الشبهة
الحكمية ، كما اذا علم اجمالا بوجوب صلاة عليه إما الظهر وإما الجمعة. أم كان في
الشبهة الموضوعية كما اذا علم اجمالا بوجوب الصلاة الى احدى الجهات الاربع عند
اشتباه القبلة ، وفي كلا القسمين يستقل العقل بوجوب المقدمة العلمية نظرا الى ان
الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، وهي لا تحصل الا بوسيلتها ، سواء كانت
العلمية من قبيل غسل شيء يسير مما فوق المرفق ، او من قبيل الإتيان بالاطراف في
مورد العلم الاجمالي.
فالمقدمة العلمية
لا تكون مقدمة للواجب الشرعي بل مقدمة للواجب العقلي الذي هو عبارة عن العلم بتحقق
الاطاعة الذي استقل العقل بوجوبه للأمن من خطر
العقاب على مخالفة
الواجب المنجّز فتجب وجوبا عقليا ارشاديا ، ولا تجب مولويا من باب الملازمة بين
وجوب ذي المقدمة وبين وجوب المقدمة لترشح الوجوب على المقدمة من قبل ذي المقدمة ،
فان كان وجوبها مولويا دخلت في محل النزاع ، واذا كان ارشاديا عقليا فهو مسلّم ،
اذ لا تخصيص في حكم العقل.
الكلام في بيان
الثمرة الفقهية لهذا المورد. وهي اذا علمنا ببطلان احدى الصلاتين في الثوبين
المشتبهين ، فلو قلنا بوجوب المقدمة العلمية وجوبا مولويا جرت قاعدة الفراغ ، ولا
يلزم الإتيان بالصلاة الاخرى مرة ثالثة في أحد الثوبين. اما اذا قلنا بكونها واجبة
بوجوب ارشادي عقلي فلا تجري قاعدة الفراغ ، بل تجري قاعدة الاشتغال التي يحكم بها
العقل فانحصر النزاع في مقدمة الوجود فقط.
المقدمة المتقدمة
والمقارنة والمتأخرة :
قوله
: ومنها تقسيمها الى المتقدم والمقارن والمتأخر بحسب الوجود بالاضافة الى ذي
المقدمة ... الخ هذا تقسيم رابع للمقدمة الى المقدمة المتقدمة والى المقدمة المقارنة والى
المتأخرة حيث إنّ وجود المقدمة الخارجية بالاضافة الى وجود ذيها لا يخلو عقلا من
احد وجوه ثلاثة :
الاول
: ان تكون متقدّمة
على وجود ذي المقدمة كالطهارة للصلاة بناء على ان المراد من الوضوء هو الغسلات
الثلاث والمسحات الثلاث ، لا الطهارة المسببة عن الوضوء ، وإلّا فهي من المقدمة
المقارنة.
والثاني
: ان تكون مقارنة
لوجود ذي المقدمة كالستر والاستقبال بالاضافة الى الصلاة.
والثالث
: ان تكون متأخرة
عن وجود ذي المقدمة كالاغسال الليلية التي تعتبر في صحة الصوم الماضي للمستحاضة
عند بعض الفقهاء قدسسرهم ، كما انها تعتبر في صحة الصوم الآتى لها عند بعضهم الآخر
، هذا في شرط المكلف به.
واما شرط التكليف
فهو أيضا على اقسام فهو قد يكون مقارنا له كالبلوغ
والعقل ونحوهما ،
وقد يكون سابقا عليه كما لو قال المولى (ان جاءك زيد يوم الخميس ففي يوم الجمعة
يجب عليك اطعامه) فالشرط حاصل يوم الخميس ، وهو مجيء زيد ، والمشروط ، وهو وجوب
الاطعام ، يحصل في يوم الجمعة.
وقد يكون متأخرا
عنه كما لو قال (ان سافرت يوم الاثنين فتصدق قبله بيوم) مثلا. فالشرط ، وهو السفر
لا حق. والمشروط ، وهو وجوب التصدق سابق. هذا في شرط التكليف.
واما الوضع فهو
ايضا على اقسام :
فقد يكون مقارنا
له كما في الماضوية والعربية والتنجيز في العقود والايقاعات بنحو الشرطية والقيدية
، فانها مقارنة مع الاثر الحاصل منها زمانا كالملكية ونحوها ، وان كان تقدمها على
الاثر الحاصل رتبة من باب تقدم الشرط على المشروط.
وقد يكون سابقا
عليه كما في شروط الوصية التمليكية فالشرط سابق مثل كون الموصي عاقلا مختارا
والملكية التي هي مشروطة حاصلة عند موت الموصي او عند القبض.
وقد يكون لا حقا
به كالاجازة في العقد الفضولي بناء على الكشف. فالملكية للمشتري حاصلة حين العقد ،
والاجازة متأخرة عنها زمانا ، هذا كله في الشرط المقارن والمتقدم والمتأخر لكل من
التكليف والمكلف به والوضع. واما المقتضي فالظاهر ان له قسمين لا اكثر : الاول :
مقارن. والثاني : متقدم.
فالمقارن كالعقد
في اغلب المعاملات المقارن لحصول الأثر من النقل والانتقال زمانا.
والمتقدم كالعقد
في الوصية وفي الصرف والسلم لانه سابق على حصول الاثر رتبة.
واما الإشكال
المعروف في الشرط المتأخر وهو ان العلّة التامة يجب عقلا ان تكون مقارنة زمانا مع
المعلول ، وان كانت مقدمة عليه رتبة اذ لا يعقل التفكيك
والانفكاك بينهما
في الزمان ، بان كانت العلة التامة في زمان ولم يكن المعلول في هذا الزمان.
فبناء على هذا
فالشرط حيث إنه من أحد أجزاء العلة التامة لانها عبارة عن وجود الشرط وعن وجود
المقتضي وعن فقد المانع ، يجب ان يكون حاصلا عند المشروط مقارنا له زمانا وان كان
سابقا عليه رتبة من باب تقدم الشرط على المشروط طبعا فكيف يجوز تأخره عنه في
الزمان كما في بعض الامثلة المتقدمة ، بل وكيف يعقل تقدمه على المشروط في الزمان
كما في بعضها الآخر.
ومن هنا يظهر ان
الإشكال لا ينحصر بالشرط المتقدم ، بل حتى في المقتضي المتقدم كما لا يخفى ، لان
الإشكال فيهما يكون مثل الإشكال في الشرط المتأخر. الكلام هو الكلام لانهما يكونان
متصرّمين حين الاثر كما ان الشرط المتأخر يكون معدوما حين الاثر والمعلول.
دفع الإشكال
الوارد على الشرط المتأخر :
قوله
: والتحقيق في رفع هذا الإشكال ان يقال ان الموارد التي يتوهم انخرام ... الخ قال المصنف قدسسره ان الموارد التي توهم انخرام القاعدة العقلية فيها لا تخلو
اما ان يكون المتقدم والمتأخر شرطا ، للتكليف ، او الوضع ، او المأمور به.
والتحقيق في الاولين ان الايجاب ، اي ايجاب الاطعام والتصدق ، فعل من الافعال
الاختيارية للمولى ، ولكن الشرط ليس له نفس المجيء السابق ، او نفس السفر اللاحق ،
في المثالين المتقدمين ، كى يلزم تقدم الشرط على المشروط زمانا او تأخره عنه من
حيث الزمان ، بل الشرط هو نفس لحاظه وتصوره. وتصوره دائما مقارن للمشروط والمعلول
ولحاظه مقارن مع الايجاب المذكور دائما.
وهكذا الامر في
الوضع. فحكم المولى بالملكية فعل من افعال الحاكم وليس الشرط له نفس الاجازة
المتأخرة ، او نفس الأمور السابقة المعتبرة ، في الوصية والصرف والسلم ، في
الامثلة المتقدمة ، حتى يلزم تأخر الشرط عن المشروط ، او
تقدم المشروط على
الشرط ، بل الشرط هو نفس لحاظ تلك الأمور وتصورها ، وهو مقارن دائما مع الحكم
بالوضع والملكية ، فلا يوجد شرط متقدّم ومتأخّر في الاحكام التكليفية ، ولا في
الاحكام الوضعية ، بل كل شرط مقارن للمشروط زمانا ، فلا انخرام للقاعدة العقلية ،
لا في الشرط المتقدم ، ولا في الشرط المتأخر. نعم ان كان الشرط الوجود الخارجي
لهذه الأشياء المتقدمة والمتأخرة في الخارج يلزم انفكاك المعلول عن علّته التامة
في الشرط المتقدم ، او يلزم وجود المعلول قبل وجود علّته التامة في الشرط المتأخر
، وهما محالان.
واما اذا علم ان
الشرط تصوّر وجودها ، وهو لا يتوقف على وجود هذه الأشياء ، بل يمكن تصور وجود
المقدم أو المؤخر حين الأمر كما يمكن تصور وجود المقارن حينه.
فاذن لا يلزم وجود
المعلول قبل وجود علّته ، ولا يلزم وجود المعلول حين فقدان علّته ، فصار المتقدّم
والمتأخّر كالمقارن في كون لحاظ كلّ واحد منها شرطا ، لا وجودها الخارجي ، فلا
اشكال في البين أصلا.
شرائط الوضع :
قوله
: وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ، لان الوضع كالملكية ونحوها ، فهو كالايجاب في التكليف ،
في كون كل واحد منهما فعلا اختياريا ينشأ من الارادة التي لا تتعلق بوجود شيء ،
الا للمصلحة التي توجب ترجّح الوجود على العدم. فتلك المصلحة قد تقوّم بنفس الشيء
كالعبادات مثل الصلاة والصوم والحج ونحوها. وقد تقوّم به مع انضمام غيره إليه الذي
يقارنه او يتقدم عليه او يتأخر عنه ، وهذا الغير موجب لترجّح الوجود على العدم ،
يلاحظه المولى حين الحكم ، وتلك كالمعاملات ، فيكون دخل كلّ من المقارن والمتقدّم
والمتأخّر بتصوّره ولحاظه ، وهو مقارن مع المشروط ، واين انخرام القاعدة العقلية
في غير المقارن من الشرط المتقدم والمتأخر؟ فتأمل تعرف الحال والمطلب ان شاء الله
تعالى وهو تدقيقي.
الشرط المأمور به
:
قوله
: واما الثاني فكون شيء شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصّل لذات المأمور به ... الخ
فتوضيح المطلب
منوط بتقديم مقدّمة وهي ان اتصاف الأشياء بالحسن والقبح لا يخلو من احد وجوه ثلاثة
:
الاول
: ان يكون نفس
الشيء علّة تامة للحسن والقبح كالعدل والظلم فان عنوان العدل حسن عقلا ، وعنوان
الظلم قبيح عقلا ، لا غير.
والثاني
: ان يكون نفس
الشيء مقتضيا للحسن وللقبح لو لا المانع ، مثل الصدق والكذب ، فان الصدق حسن عقلا
إن لم يترتب عليه قتل المؤمن ، وإلّا فهو قبيح لوجود المانع عنه. والكذب قبيح لو
لا المانع عنه وإلا فهو حسن كإصلاح ذات البين أو نجاة المؤمن عن القتل.
والثالث
: ان لا يكون نفس
الشيء علّة وسببا للحسن والقبح ، لانه بذاته مباح ، كالمشي على وجه الارض. فاذا
كان بقصد زيارة المؤمن او بقصد زيارة المعصوم عليهالسلام فهو حسن وراجح ، وان كان بقصد السرقة او بقصد المعصية
الاخرى فهو قبيح ومرجوح.
اذا عرفت هذا
فاعلم ان الشرط تارة يكون دخيلا في وجود المأمور به بحيث لو لا الشرط لما وجد
المأمور به في الخارج في نظر الشارع المقدس ، كالطهارة بالاضافة الى الصلاة ،
وكالمحاذاة للنار بالنسبة الى الإحراق ، في امر المولى العرفي.
واخرى يكون الشرط
دخيلا في حصول اضافة تحصّل عنوانا للمأمور به يكون لاجل ذاك العنوان حسنا ومتعلقا
للأمر وذلك كالستر والطهارة والاستقبال بالاضافة الى الصلاة فمعنى هذه الشروط
المقارنة ان الصلاة تكون ذات مصلحة وواجبة اذا اقترنت بها ، فلا تكون ذات مصلحة
بدونها. فالصلاة التي تضاف وتنسب اليها مقارنة لها تكون موافقة لغرض المولى
ومأمورا بها ، وبلا اضافتها اليها لا تكون ذات وجه وعنوان ولا موافقة للغرض.
ومن المعلوم ان
اختلاف الحسن والقبح في الأشياء يكون بالوجوه والاعتبارات والاضافات ، مثلا : (ضرب
زيد) بما هو ظلم قبيح ، فاذا اقترن بعنوان التأديب صار حسنا. وأكل الطعام بما هو
مباح وبملاحظة حفظ النفس واجب ، وان كان شرها حتى يصل حدّ التخمة فهو قبيح.
وبالجملة اختلافات
الافعال بواسطة الاضافات واقترانها ببعض ما يناسبها مما لا يخفى على احد ، فاذا
ظهر لك ان مدخلية شرط المقارن تكون لاجل الاضافة ولاجل الخصوصية التي يوجد لاجلها
عنوان في الفعل ، ويكون ذا مصلحة وموافقا للغرض فنقول انه لا تفاوت في حصول
الاضافة والعنوان بين المقارن والمتقدّم والمتأخّر لان الشيء اذا لوحظ مع الشيء
المقارن كالصلاة اذا لاحظناها مع الاستقبال والستر مثلا. حصل لها عنوان (المعراجية)
وعنوان (العمودية) وعنوان (القربانية) وحصلت لها الاضافة التي توجب عنوانا لها.
وكذا اضافتها
وربطها باللاحق والسابق توجبان عنوانا لها فالصلاة المضافة بالطهارة السابقة والمقارنة
وبعدم العجب المتأخّر ، كل واحد منها مثل الآخر في ان عنوانها غير عنوانها اذا
لوحظت بدونها. فالصلاة المضافة ذات مصلحة وذات عنوان ، فكذا الصلاة المسبوقة
بالطهارة ، وكذا الصلاة الملحوقة بعدم العجب ذات مصلحة.
ففي الحقيقة يكون
الشرط نفس الاضافة المقارنة مع المأمور به ، لا الشيء الذي يتأخر وجوده عن المشروط
وعن المأمور به ، فانه يكون طرف الاضافة لاحتياج الاضافة الى طرفين وهما المضاف
والمضاف اليه ، مثل احتياج النسبة الى طرفين هما المنتسب اليه والمنتسب.
فاطلاق الشرط على
المتأخر انما لكونه طرفا للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون المشروط بسببه مرغوبا
ومطلوبا عند المولى. كما ان الشرط في الحكم التكليفي وفي الحكم الوضعي هو لحاظه
وتصوره ووجوده العلمي ، لا وجوده الخارجي ، مثل دخل سائر اطراف الشيء الثلاثة
المقدّم عليه والمقارن معه والمتأخّر عنه ، كما أنّ دخل حدود الاطراف فى حصول
الرغبة فيه وارادته يسمى شرطا لهذا
الشيء ، ويكون
مقارنا له. فلو لم نلاحظها لما حصل للمولى الرغبة في التكليف. ولما صحّ عنده
الوضع. فاذا كانت الاضافة شرطا وسببا للوجه والعنوان فلا فرق في نظر العقل بين ان
تكون الاضافة بين الشيئين المقارنين في الوجود ، وبين شيء وبين شيء متقدّم ، وبين
شيء وبين شيء متأخّر.
مثلا : الخروج من
البلد الى فرسخين ، فاذا لاحظه العقل بلا اضافة الى شيء كان مباحا لا راجحا ولا
مرجوحا ، واذا لاحظه بالاضافة الى شيء سابق مثل دعوة المؤمن واجابته الى الطعام ،
او الى شيء مقارن مثل تشييع جنازة او الى شيء لا حق مثل مجيء زيد من السفر ،
فالخروج معنون بعنوان الاستقبال ، فيكون ذا اضافة خاصة وحسنا راجحا ، بل ربما يكون
واجبا اذا نذر تشييع جنازة المؤمن الخاص مثلا. فالشيء المعنون بعناوين مختلفة
يختلف حسنه وقبحه وصلاحه وفساده.
فالمتحصل مما
ذكرنا ان الشرط في التكليف هو الصورة الذهنية والوجود العلمي المتقدّم والمتأخّر
بل المقارن ، وهي مقارنة مع المشروط زمانا. فالصلاة التي تلحظ بالاضافة الى البلوغ
والعقل والقدرة والحياة تكون مأمورا بها وواجبة ، فلحاظها مقارن مع المعلول الذي
هو الوجوب.
وكذا في الوضع ، لان
عقد الفضولي الملحوظ معه اجازة المالك يؤثر في الملكية ، فلحاظ الاجازة مقارن مع
العقد المذكور دائما ، وفي المأمور به هو الوجه والعنوان وهما مقارنان مع ذي الوجه
والمعنون ، فالصلاة التي تلحظ مع الوضوء والاستقبال والستر تكون ذات وجه ، فلحاظها
مقارن مع المشروط الذي هو عبارة عن الصلاة المأمور بها ، وان كان منشأهما مقدّما
في المتأخّر ومؤخرا في المتقدّم فكل الشرائط تكون مقارنة مع المشروط زمانا وان
كانت متقدّمة عليه رتبة.
هذه خلاصة ما
بسطناه من المقال والكلام في دفع الإشكال المشهور في الشرط المتأخّر في بعض
فوائدنا وهو التعليقة على (فرائد الاصول) ولم يسبقني احد من الاصوليين فيما اعلم
فافهم وهو تدقيقي لكونه مسبوقا باغتنم واغتنم هذا الجواب وكأنه افتخار منه قدسسره.
قوله
: ولا يخفى انها بجميع اقسامها داخلة في محل ... الخ فالمقدمة بجميع اقسامها من المتقدم والمقارن والمتأخر
داخلة في محلّ النزاع. فمن قال بوجوب المقدمة قال به هنا ، ومن قال بعدم الوجوب
قال به هنا أيضا. وبناء على الملازمة العقلية بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته يتصف
الشرط اللاحق بالوجوب كالسابق والمقارن ، لانه لا يكاد تحصل الموافقة لامر المولى
إلّا باتيان الشرط ، سواء كان سابقا ومتقدّما أم كان مقارنا ومؤخّرا. فلو لا
اغتسال المستحاضة في الليل ، على القول باشتراط صوم اليوم بغسل الليل ، لما صح صوم
اليوم. لانه اذا فات الشرط فات المشروط. فاذا قلنا : ان غسل الليل يكون لصوم اليوم
الآتي فهو من الشرط المتقدم كما سبق هذا.
الواجب المطلق
والمشروط :
قوله
: الامر الثالث في تقسيمات الواجب ... الخ من جملة تقسيمات الواجب ، تقسيمه الى الواجب المطلق ، والى
الواجب المشروط. وقد ذكر لكلّ منهما تعاريف وحدود تختلف بحسب ما اخذ فيها من
القيود. مثل ما عن (عميد الدين) من ان الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على امر
زائد على الأمور المعتبرة في التكليف من البلوغ والعقل والحياة والقدرة ، كالصلاة
التي لا يتوقف وجوبها على شيء آخر غير شرائط التكليف كما ذكرت.
ومن ان الواجب
المشروط ما يتوقف وجوبه على امر زائد على الأمور المعتبرة في التكليف كالحج مثلا ،
الذي يتوقف وجوبه على الاستطاعة وهي غير شرائط التكليف.
ومثل ما عن
التفتازاني والمحقق الشريف والمحقق القمى قدسسرهم من ان الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه
وجوده ، كالصلاة التى يتوقف وجودها صحيحة تامة على الوضوء.
والحال انه لا
يتوقف وجوبها عليه ، اذ هي واجبة سواء توضأ أم لم يتوضأ.
والواجب المشروط
ما يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده ، كالحج اذ وجوبه يتوقف على الاستطاعة ،
كما ان وجوده في الخارج يتوقف عليها.
ومثل ما عن بعضهم
من ان الواجب المطلق ما لا يتوقف تعلقه بالمكلف على امر غير حاصل.
ومن ان الواجب
المشروط ما يتوقف تعلقه بالمكلف على امر غير حاصل ، فيقال (اذا استطعت يجب عليك
الحج) ولا يقال (اذا توضأت تجب عليك الصلاة) فهذه التعريفات ليست مطردة ولا منعكسة
اي ليست مانعة الأغيار ولا جامعة الافراد ، لانه ينتقض تعريف كل واحد منهما
بالآخر. اذ وجوب الصلاة يتوقف على ما يتوقف عليه وجودها ، وعلى امر زائد على
الشرائط العامة ، مثل الوقت لانه ما لم يتحقق الوقت لم يتحقق وجوبها ولا وجودها
صحيحا.
والحال ان الصلاة
لا تخرج عن كونها واجبا مطلقا سواء تحقق الوقت أم لم يتحقق ، فينطبق تعريف الواجب
المشروط بالاضافة الى الوقت على الصلاة ، كما انه ينطبق تعريف الواجب المطلق على
الحج بالنسبة الى قطع الطريق.
فالاولى ان يقال ،
في هذا المقام ، ان كل مقدمة لا يتوقف عليها وجوب ذيها فالواجب يكون واجبا مطلقا
بالاضافة اليها ، كالصلاة بالاضافة الى الوضوء ، وكالحج الى قطع المسافة.
وكل مقدمة يتوقف
عليها وجوب ذيها فالواجب مشروط بالنسبة اليها ، وذلك كالصلاة بالاضافة الى الوقت ،
وكالحج الى الاستطاعة ، وكالزكاة الى النصاب فالصلاة اليومية واجب مشروط بالاضافة
الى الوقت ، ومطلق بالنسبة الى الطهارة. كما ان الحج واجب مشروط بالنسبة الى
الاستطاعة ، ومطلق بالاضافة الى قطع الطريق.
اذا علم هذا فقد
ظهر ان الاطلاق والاشتراط وصفان اضافيان ، لا وصفان حقيقيان. هذا مضافا الى ان هذه
التعريفات لفظية لشرح الاسم ، وليست بالحد التام ولا بالحد الناقص ، ولا بالرسم
التام ولا بالرسم الناقص ، حتى يعتبر العكس والطرد فيها. اعلم ان التعريف على
قسمين :
اولهما
: لفظي واسمى ـ وهو
عبارة عن تبديل لفظ بلفظ اوضح من اللفظ الاول كقولك (ما السعدانة) اذا سألت بما
الشارحة فتقول في الجواب (نبت) وكقولك (ما الرّمد؟) (داء). او (ما السناء؟) (دواء).
فلا يعتبر فيه العكس ولا الطرد كما لا يعتبر فيه الاطلاع على حقيقة المعرّف ولا
امتيازه عما عداه كما رأيت في المثال.
وثانيهما
: تعريف حقيقي
يعتبر فيه العكس وجامعية الافراد والطرد ومانعية الاغيار والاطلاع على كنه المعرّف
اذا كان حدا تاما ، او امتيازه عما عداه اذا كان غيره من الحد الناقص والرسم التام
والرسم الناقص ، والتفصيل موكول في علم المنطق والميزان.
قوله
: والظاهر انه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط ... الخ اي يطلق كل واحد من لفظي المطلق والمشروط على معنييهما
العرفي وليس للاصوليين اصطلاح جديد فيهما.
والمعنى العرفي
للفظ المطلق هنا ان الوجوب غير منوط بشيء ، والمعنى العرفي للفظ المشروط ان الوجوب
منوط بشيء. كما ان الظاهر ان وصفي الاطلاق والاشتراط وصفان اضافيان لا حقيقيان ،
لان الصلاة واجب مطلق بالاضافة الى بعض المقدمات ، ومشروط بالاضافة الى الاخرى ،
وكذا الحج. ولو كانا وصفين حقيقيين لم يكد يوجد واجب مطلق في الشريعة المقدسة ،
ضرورة اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة على الاقل يشترط وجوب كل الواجبات بالشرائط
العامة من البلوغ والعقل والقدرة والحياة.
فالحري ان يقال ان
الواجب مع كل شيء يلاحظ معه ان كان وجوبه غير مشروط به ، فهو مطلق بالاضافة اليه كالصلاة
بالاضافة الى الطهارة ، وكالحج الى قطع الطريق. وإلّا فمشروط ، كالصلاة بالنسبة
الى الوقت ، وكالحج بالاضافة الى الاستطاعة. وان كان المطلق والمشروط بالقياس الى
شيء آخر كانا بالعكس ، يعني أن المطلق مشروط والمشروط مطلق كما علم من المثال
المذكور.
تقييد الهيئة أو
المادة :
قوله
: ثم الظاهر ان الواجب المشروط كما ... الخ فاعلم ان الوجوب على قسمين :
الاول
: ان يكون مطلقا
ثابتا في كل حال وفي كل تقدير ، مثل (اكرم زيدا) لان وجوب الاكرام ثابت مطلقا.
والثاني
: ان يكون مشروطا
ثابتا في حال دون حال وفي تقدير دون تقدير مثل قولك (ان جاءك زيد فاكرمه).
فالانشاء ، وإن لم
يعقل فيه التقدير والتعليق ، يختلف مع المنشإ ، لانه اما أن يكون موجودا ، واما أن
لا يكون موجودا ، ولكن المنشأ يكون مما يعقل فيه التقدير ، وهو وجوب الاكرام الذي
يعلق على المجيء ويشترط به ، فاذا ظهر ان الوجوب يكون مشروطا ، فالواجب مطلق ،
فاختلف أن الوجوب الذي هو مفاد الهيئة يكون مشروطا بشرط ، او مادة الامر مشروطة
بشرط ، ويكون الوجوب مطلقا ، فاذا قيل (ان جاءك زيد يوم الجمعة فاكرمه) فالوجوب
مشروط.
قال المصنف قدسسره ان وجوب الاكرام الذي هو مدلول الهيئة مشروط بالمجيء في
يوم الجمعة ، فاذا جاء فيه يجب اكرامه ، وان لم يجيء فيه فلا يجب اكرامه ، فالوجوب
مشروط بشرط ، وقبل حصول الشرط لا يكون الوجوب فعليا اصلا.
وقال العلامة
الانصاري قدسسره ان الشرط يرجع الى الواجب ، فان قلنا ان القيد والشرط
منوطان بالوجوب الذي هو مدلول الهيئة فلا وجوب حقيقة ولا طلب واقعا قبل حصول الشرط
كما هو ظاهر الخطاب التعليقي ، ضرورة ان خطاب (ان جاءك زيد فاكرمه) كون الشرط من
قيود الهيئة ، وان طلب الإكرام وايجاب الإكرام معلقان على المجيء بحيث يتحقق ايجاب
الإكرام ولا يكون وجوبه موجودا قبل المجيء.
وان
قلنا : ان القيد والشرط
راجعان الى الواجب الذي هو (الاكرام) في المثال ومادة الامر فالوجوب مطلق فعلي ،
والواجب هو (الاكرام) مشروط بالمجيء (فان يجئك فاكرامه حاصل) و (ان لم يجئك فلا
يكون اكرامه حاصلا).
فوجوب الاكرام
مطلق فعلي والواجب شيء خاص هو (اكرام زيد الجائي في يوم الجمعة) مثل قولنا (يجب
اكرام زيد العالم) فالوجوب مطلق والواجب مقيّد وهو (اكرام زيد العالم) لا مطلق
الشخص الذي يسمى بزيد سواء كان عالما أم كان جاهلا.
فبالنتيجة : اختار
المصنف قدسسره رجوع القيد والشرط في الخطاب التعليقي مثل (ان جاءك زيد
يوم الجمعة فأكرمه) الى مفاد الهيئة الذي هو الوجوب ، فقبل حصول الشرط وقبل مجيئه
لا وجوب اصلا لا منجزا ولا تعليقا.
واختار الشيخ
الانصاري قدسسره رجوع القيد والشرط الى المادة التي هي متعلق الوجوب ،
فالوجوب مطلق فعلي والواجب الذي هو (إكرام) معلق على المجيء ومشروط به.
واستدل الشيخ قدسسره على مدّعاه ، وهو رجوع القيد والشرط الى المادة لا الى
الهيئة بان مدلول الهيئة الذي هو وجوب معنى حرفيّ اذ كل معنى يحتاج الى الغير ،
فهو معنى حرفيّ ، كالوجوب الذي يحتاج الى المتعلق وسيأتى تفصيله. فكانت للشيخ
الانصاري قدسسره في هذا المقام نقطتان من الدعوى :
الاولى
: ان رجوع القيود
المأخوذة في لسان الأدلّة الى مفاد الهيئة محال.
والثانية
: ان رجوع القيود
والشروط يكون الى المادة التي تكون متعلقة للوجوب لبّا وعقلا ، وان كان مقتضى
القواعد العربية ، بحسب المتفاهم العرفي وبحسب ظهور الجملة الشرطية عند اهل اللسان
وعند اهل العرف ، رجوعها الى الهيئة دون المادة. واستدلّ على مدعاه بوجهين :
الاول
: ان مدلول الهيئة
ومفادها معنى حرفيّ وكل معنى حرفيّ جزئي حقيقي ، والجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد
، لان الشيء الذي يقبل التقييد هو كلّي يصدق على حصص متعددة ، وذلك كالرقبة حيث
إنها تصدق على المؤمنة والكافرة ، وعلى الزنجية والرومية ، فيصح تقييدها بالمؤمنة
كما يصح تقييدها بالكافرة فليس في الجزئي الحقيقي اطلاق كي يصح تقييده. فمفاد
الهيئة هو معنى خاص جزئي
غير قابل للتقييد.
وقال الشيخ قدسسره ان قيد الواجب المشروط على نحوين :
احدهما : ان يكون
واجب التحصيل كما اذا قال المولى لعبده (صلّ متطهرا) فالطهارة ، التي تكون قيدا
للواجب الذي هو الصلاة ، واجبة التحصيل. فهذا الواجب يسمّى بالواجب المطلق
بالاضافة الى القيد الذي هو واجب التحصيل على العبد.
وثانيهما : ان لا
يكون واجب التحصيل لعدم قدرة المكلف على تحصيله. والحال ان التكليف فرع القدرة كما
في القسم الواجب التحصيل مثل (صلّ بالغا عاقلا) فالواجب يسمّى بالواجب المشروط
بالنسبة الى القيد غير واجب التحصيل ، فالطلب فيهما مطلق والمطلوب مقيد. اي الصلاة
مع الطهارة مطلوب ، والحج مع الاستطاعة واجب. فمقدمات الواجب المطلق واجبة التحصيل
، ومقدمات الواجب المشروط غير واجبة التحصيل ، كما رأيت في المثالين المتقدمين.
والثاني
: انه ليس في
الواقع موضع تكون الارادة فيه مشروطة بشيء ، لان شخص العاقل اذا تصور شيئا فلا
يخلو : إما ان يكون هذا الشيء المتصور متعلقا لارادته أم لا.
ونحن لا كلام لنا
في الثاني (أي عدم تعلق الشيء المتصور لارادته) لانه خارج عن محلّه. واما القسم
الاول لا يخلو من وجهين :
احدهما : ان يكون
متعلقا لارادته مطلقا وفي جميع الاحوال والحالات.
وثانيهما ان يكون
متعلقا لارادته في بعض الحالات ، ويكون المطلوب حينئذ خاصا ومقيدا كما انه في
الوجه الاول مطلقا.
فالخصوصية التي
تكون في المطلوب اما أن تكون اختيارية كالطهارة في الصلاة ، واما أن تكون غير
اختيارية كالبلوغ والعقل والحياة ونحوها وكالاستطاعة للحج وكالنصاب للزكاة ، واما
في الاختياري فاما أن يكون القيد والشرط واجب التحصيل ، وأما أن يكون غير واجب
التحصيل ، بل يكون وجوده الاتفاقي دخيلا في الحكم وذلك كالنصاب والاستطاعة.
فاقسام المطلوب لا
تخلو عقلا من هذه الوجوه ، وفي كل واحد منها تكون الارادة (محققا) وتكون (مطلقا)
بلا قيد وشرط ولكن المراد مطلق تارة ومقيد اخرى باختلاف القيود ، اذ بعضها واجب
التحصيل ، وبعضها الآخر غير واجب التحصيل.
فالاول : مثل
الطهارة. والثاني : مثل الاستطاعة والنصاب والبلوغ والقدرة ونحوهما. فاذا كان
للمولى طلب فالوجوب مطلق والواجب هو المشروط.
فبالنتيجة
: تصوير الواجب
المشروط ان الوجوب فيه مطلق ، والواجب المقيد بقيد غير واجب التحصيل كما علمت آنفا
فلا نعيده.
مذهب الامامية :
قوله
: من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ... الخ قالت الامامية والعدلية : ان الاحكام الشرعية تابعة
للمصالح والمفاسد فان الله تعالى لا يأمر ولا ينهى ولا يفعل فعلا الا لغرض وفائدة
، نظرا الى ان الفعل بلا غرض وبلا فائدة عبث ، والعبث قبيح ، والقبيح يستحيل عليه
تعالى ولا يصدر منه جلّ ذكره.
وقالت الأشاعرة :
ان الاحكام الشرعية ليست تابعة للمصالح والمفاسد ، وجوزوا على الله تعالى ان يفعل
فعلا او يأمر بشيء او ينهى عن شيء بغير غرض وفائدة ، فان الفعل لغرض وفائدة من شأن
الناقص المستكمل بذلك الغرض والفائدة ، وهو تبارك وتعالى كامل كمالا تاما لا نقص
فيه جلّ وعلا اصلا وابدا. فالقيود التي تكون في لسان الأدلة راجعة الى المادة عقلا
ولبا ومربوطا بها لا الى الهيئة لما ذكر من الوجهين المذكورين ، فلا فرق في ذلك
المطلب ان تكون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد كما هو الاظهر ، أم لم تكن تابعة
لهما. وهو ظاهر لا غبار عليه.
فالتقدير لا محالة
راجع الى الفعل الذي هو مادة (اكرم) وهو (اكرام) دون الطلب الذي هو وجوب الاكرام
على تقدير المجيء في المثال المذكور آنفا ، ففيه احتمالات ثلاثة.
فبالنتيجة :
الاحكام اذا كانت تابعة للمصالح والمفاسد تجري الاقسام هنا ،
لان الشيء المطلوب
اما أن يكون ذا مصلحة في جميع الحالات ، كالعدل والاحسان ، واما أن يكون ذا مصلحة
في بعض الحالات ، كالصدق والكذب ، لان الاول مطلوب وحسن اذا لم تترتب عليه مضرّة
ومفسدة كهلاك المؤمن.
ولان الثاني قبيح
اذا لم يترتب عليه اصلاح في البين ، وإلّا فهو حسن ، كما ان الصدق قبيح اذا ترتبت
عليه مفسدة. واما اذا لم تكن تابعة للمصالح والمفاسد فلا محالة انها تابعة لغرض
الآمر والطالب ، وغرض الآمر يختلف ، لان الشيء قد يكون مقصودا للآمر في جميع
الحالات ، وقد يكون مقصودا له في بعض الحالات ، كما لا يخفى. هذا موافق لما افاده
بعض الافاضل المقرر لبحثه لكن بادنى تفاوت من اجل تقديم بعض الكلمات وتأخيره
واسقاطه.
جواب المصنف أولا
:
قوله
: ولا يخفى ما فيه ، اما حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة ... الخ اجاب المصنف قدسسره عن الوجه الاول بان حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة قد
سبق تحقيقه في بيان معنى الحرف ، وقلنا ان الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عامّ
في الحروف ، والخصوصية ناشئة من قبل الاستعمال ، فهي من شئونه واطواره ، مثل
الخصوصية في الاسماء والافعال. كما ان الاستقلال في الاسماء وعدم الاستقلال في
الحروف من شئون الاستعمال واطواره ولوازمه ، وإلّا نفس المعنى وجرم الموضوع له كلي
فيهما.
فمعنى الحرف قد
يكون كليا اذا وقعت عقيب الامر نحو (سر من كربلاء الى النجف) او عقيب النّهي نحو (لا
تسر من طهران الى قزوين) ، لانه في الاول : يمتثل أمر المولى اذا ابتدأ السير من
اي نقطة من نقاط كربلاء وينتهي الى نقطة من نقاط النجف الأشرف.
وفي الثاني :
يمتثل نهي المولى اذا ترك السير من اي نقطة من نقاط طهران ، يعني يترك رأسا من
جميع نقاطه. وقد يكون جزئيا في مقام الاستعمال اذا وقعت
عقيب الكلام
الخبري نحو (سرت من البصرة الى الكوفة) لان هذا يصدق اذا ابتدأ السير من نقطة
معينة منها وينتهي الى نقطة معينة من الكوفة.
فالخصوصية من قبل
الاستعمال كالاسماء ، اذ الخصوصية فيها تكون أيضا من اطوار الاستعمال ، كلفظ
الابتداء المصدري الذي وضع للابتداء العام الكلي ، ولكن استعمل في الخاص المعين
الجزئي في مقام الاستعمال كابتداء الصلاة والتدريس.
فمعنى الاسم كمعنى
الحرف ، قد يكون كليا اذا ذكر بلا متعلق وخصوصية ، وقد يكون جزئيا حقيقيا اذا ذكر
مع المتعلق والخصوصية فكما تكون في مقام الاستعمال كذلك دائما ، وانما الفرق
بينهما ان الاسماء وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو هو مستقلا والحروف وضعت
لتستعمل وقصد بها المعنى بما هو آلة وحالة لمعاني متعلقاتها فلحاظ الآلية في
الحروف كلحاظ الاستقلالية في الاسماء في كون كل واحد منهما من مشخصات الاستعمال لا
من خصوصيات المعنى ومن طوارئه ولوازمه كما لا يخفى على اولي الدراية والنّهي. ولكن
الطلب المستفاد من الهيئة المستعملة فيه نحو (اضرب زيدا) الذي يستعمل في طلب الضرب
عن المخاطب كلّي قابل للتقييد بضرب شديد او خفيف او كثير او قليل كما لا يخفى.
جواب المصنف ثانيا
:
قوله
: مع انه لو سلّم انه فرد ، فانما يمنع عن التقييد لو انشئ أولا غير مقيّد ... الخ اجاب المصنف قدسسره عن الوجه الاول ثانيا بانا لو سلمنا ان الهيئة مستعملة في
الفرد من الطلب ، فالفرد انما لا يقبل التقييد اذا أنشئ اولا مطلقا ثم اريد تقييده
، فهذا الفرد لا يمكن تقييده عقلا ، لان الفرد لا يكون مطلقا كي يصح تقييده ، واما
اذا أنشئ الفرد اولا مقيدا بقيد ، اي على تقدير ك (المجيء) دون تقدير آخر مثل (اذا
جاءك زيد يوم الجمعة فاكرمه) فهذا مما لا إشكال في تقييده كما علم من المثال.
قوله
: غاية الامر قد دلّ عليه بدالّتين وهو غير انشائه اولا ... الخ غاية الامر انه اذا قيد الفرد من الاول بقيد. فالدال الاول
: يدل على الطلب ، اي صيغة الامر تدل على
طلب المبدإ عن
الفاعل المخاطب.
والدال الثاني ،
وهو القيد ، يدل على التقييد ، نحو (ان جاءك زيد يوم الجمعة فأكرمه) فالصيغة تدل
على طلب الاكرام والشرط يدل على وجوب الاكرام بشرط المجيء. ولكن التقييد أولا غير
انشاء الفرد اولا ثم تقييده ثانيا. فانه لا يجوز. ولكن تقييده أوّلا جائز.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى
انه لو سلّم ان طلب الفرد اذا انشأ أولا مطلق فلا يقبل التقييد بعدا. فما الحيلة
في مثل قولك (اكرم زيدا ان جاءك يوم الجمعة) بحيث أخّر الشرط عن الطلب بالصيغة؟
فان الطلب قد انشئ اولا مطلقا فكيف يعقل تقييده بالشرط بعد هذا؟
قوله
: فان قلت على ذلك يلزم تفكيك الانشاء عن المنشأ حيث لا طلب ... الخ
الاعتراض على المصنّف
:
اعترض المعترض على
المصنّف بانه لو رجع القيد الى الهيئة دون المادة ليلزم انفكاك العلّة عن المعلول
والانشاء عن المنشأ ، لانه قبل حصول الشرط وقبل تحقق القيد لا وجوب اصلا على هذا
المبنى. فاذا أنشأ المولى وجوب المشروط قبل حصول الشرط في الخارج انفك الانشاء عن
المنشإ وانفكت العلّة عن المعلول وهو باطل.
بخلاف ما اذا كان
الشرط راجعا الى المادة لانه يتحقق الوجوب بمجرد الانشاء فيحصل المنشأ الذي هو
الوجوب بمحض الإنشاء ، فلا تفكيك بينهما.
غاية الامر أن
الواجب شيء خاص ومقيد ، فاجاب المصنف عن هذا الإشكال بان علّة كل شيء تلحظ
بالاضافة الى معلول نفس العلّة ، مثل السم المهلك للنفس في ساعة والسم الآخر الذي
يهلك النفس بعد سنة ، فهما علّة للاهلاك ، ولكن احدهما بعد ساعة من أكله ، والآخر
بعد سنة.
والحال انه لا
تفكيك بين العلة وبين المعلول ، لانه في الاول يكون علّة الهلاك
من حين الهلاك لا
من حين الأكل ، وفي الثاني مثل الاول ايضا. نعم انه يكون التفكيك بينهما اذا هلكت
النفس بعد ساعتين في الاول. وبعد سنتين في الثاني. فكذا الانشاء علّة للمنشإ بعد
حصول الشرط والقيد ، وليس علّة له قبل حصول الشرط ، فلا يلزم التفكيك بين الانشاء
وبين المنشإ وبين العلة والمعلول. نعم يلزم التفكيك لو لم يحصل الوجوب بعد حصول
الشرط ، وبعد تحقق القيد في الخارج اذ الانشاء يكون علّة للمنشإ حين حصول الشرط.
فالانشاء لأمر على
تقدير ، كالاخبار به على تقدير ، بمكان عال من الإمكان. فالاول نحو (ان جاءك زيد
فاطعمه) والثاني نحو (ان قدم السلطان في هذا المكان فزيد قائم لتعظيمه) كما يشهد
بهذا المطلب الوجدان السليم.
قوله
: فتأمل جيدا وهو
اشارة الى دقة المطلب المذكور آنفا.
قوله
: واما حديث لزوم
رجوع الشرط الى المادة لبّا ففيه ... الخ واجاب المصنف قدسسره عن الوجه الثاني للشيخ الانصاري قدسسره بان الطلب النفساني الذي ينقدح ويظهر في نفس الطالب مطلق
دائما ، لا اشتراط فيه ولا قيد له. وان القيد راجع الى الفعل والمادة لبّا. سلّمنا
كل ذلك. غير ان الانسان قد يتوجّه الى شيء فيتعلّق به طلبه النفساني لاجل ما فيه
من المصلحة ، ولكن ربما يمنعه المانع عن انشاء المطلق الحالي ولو بنحو الواجب
المعلق الاستقبالي فيضطر الانسان الى إنشاء طلب مشروط بشرط مترقب الحصول المقارن
لزوال المانع ثبوتا.
وهذا ظاهر بناء
على تبعية الاحكام للمصالح في نفس الاحكام. لانه ، كما تكون المصلحة في الحكم
المطلق بلا قيد ، فكذا تكون في الحكم المشروط.
فالاول : كوجوب
الصلاة. لانه مطلق بالاضافة الى الطهارة.
والثاني : كوجوب
الزكاة ، لانه مقيد بالنصاب ، وكذا وجوب الحج اذ هو مقيد بالاستطاعة.
واما بناء على
تبعية الاحكام للمصالح في المتعلقات التي هي عبارة عن افعال المكلفين ، كالصلاة
والصوم والحج والجهاد والامر بالمعروف والنّهي عن
المنكر ، فكذلك
ظاهر فان التبعية انما تكون في الاحكام الواقعية ، فان الشيء بعد ما كانت فيه
مصلحة تامة ، فلا محالة ، يتبعها الحكم الواقعي.
ولكن الحكم الفعلي
قد يتخلف عن المصلحة التامة الكاملة كما في موارد قيام الامارات او الاصول العملية
على خلاف الاحكام الواقعية الموجب لسقوطها عن الفعلية ، والحال ان مصالح متعلقاتها
محفوظة ، او في بعض الاحكام في اول البعثة. فكم من واجب كانت فيه مصلحة تامة ، وكم
من حرام فيه مفسدة تامة. والحال ان الحكم كان مجعولا في الواقع على طبق المصلحة
وعلى طبق المفسدة ومع ذلك كان للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مانع عن انفاذه واظهاره.
ومقام البحث من
هذا القبيل. فقد يكون الشيء فيه صلاح كامل ويتبعه الحكم الواقعي ، ولكن يمنع وجود
المانع الآمر عن انشاء الطلب المطلق الفعلي ، فحينئذ ينشئ الطلب المشروط الثابت
على تقدير شرط متوقع الحصول المقارن لزوال المانع ، خوفا من ان لا يتمكن من الجعل
والايجاب المطلق عند زوال المانع فينشئ الطلب من الآن مشروطا بشرط ومقيدا بقيد حتى
يصير الحكم فعليا عند حصول الشرط بنفسه بلا حاجة الى خطاب جديد آخر.
بل بعضها الآخر
الى يوم قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف ، تتوقف فعليته على حضور شمس
الهداية ونور الانوار ، فلا ملازمة بين إنشاء الاحكام وبين فعليتها ، بحيث اذا
أنشئت صارت فعلية ، كما يظهر هذا المطلب من الاخبار المروية عن الائمة عليهمالسلام.
قوله
: فان قلت فما فائدة الانشاء اذ لم يكن المنشأ به ... الخ فاعترض على المصنف القائل برجوع القيد الى الهيئة في
الخطاب التعليقي بانا لو سلّمنا هذا المبنى والطلب التقديري للزم تفكيك الانشاء عن
المنشإ ، فالانشاء فعليّ والمنشأ ، وهو وجوب الاكرام استقباليّ حاصل بعد المجيء ،
وهذا غير معقول كما مرّ.
فاجاب المصنف عنه
بقوله : ان الانشاء حيث تعلق بالطلب التقديري وهو طلب إكرام زيد على نحو الوجوب
على تقدير مجيئه. فلا محالة انه لا يحصل
الطلب فعلا قبل
حصول الشرط ، وقبل تحقق القيد. بل يكون الانشاء معلقا على حصول الشرط ، وهو مجيئه
يوم الجمعة ، فاذا حصل الشرط وتحقق القيد كان الانشاء محقّقا ، وإلّا لزم تخلف
الانشاء عن المنشإ وهو باطل بل محال عقلا.
ففائدة الانشاء
انه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط بلا حاجة الى خطاب آخر بعد حصوله ، بحيث لولاه
لما كان المولى متمكنا من الخطاب فعلا بعد حصول الشرط ، بان كان محذور ثابتا في
تأخير الخطاب عمّا قبل حصول الشرط الى ما بعد حصوله. او كان الإشكال في التأخير
مطلقا ، وهو عدم المصلحة فيه.
فلو لم يتمكن
المولى عن الانشاء في زمان حصول الشرط ، او يكون له مانع عن الانشاء في حين حصوله
اكتفى بهذا الوجوب المشروط. مضافا الى فائدة اخرى لهذا الانشاء وهي ان الخطاب
المشروط بالاضافة الى الأشخاص الواجدين للشرط فعليّ وواجب فعليّ فخطاب (حجّوا ان
استطعتم) خطاب ووجوب فعلي بالاضافة الى المستطيعين ، وهو واجب انشائي شأني بالنسبة
الى غير المستطيعين.
فللخطاب المشروط
قبل حصول شرطه فائدتان كما ذكر آنفا.
فان قيل انه يلزم
استعمال اللفظ في المعنيين في اطلاق واحد ، وهما الوجوب الشأني بالنسبة الى غير
الواجد للشرط ، والوجوب الفعلي بالاضافة الى الواجد للشرط كما قلت هذا في صيغة
الامر وهي (حجوا) في المثال.
قلنا ان خطاب (حجوا)
يدل على انشاء الوجوب ، وعلى الوجوب الانشائي فقط ، ولكن العقل والنقل من الخارج
يدلان على فعلية الوجوب بالنسبة الى موضوع الوجوب والواجب وهو شخص المستطيع ، كما
ان الخطابات الشرعية ، بالاضافة الى العالمين بها فعلية ، وبالنسبة الى الجاهلين
بها شأنية انشائية ، فليس في المقام استعمال اللفظ في معنيين مختلفين كما توهم.
قوله
: فافهم وتأمل جيدا وهو تدقيقي لا غير.
دخول مقدمات
الواجب المطلق في حريم النزاع :
قوله
: ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع ... الخ ولا ريب في ان مقدمات الواجب المطلق داخلة في محل النزاع
بمعنى أنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدماته شرعا أم لا يحكم
بها؟ فيه خلاف بين الاعلام ، ذهب جمع منهم الى ان المولى اذا أوجب الشيء فالعقل
يحكم بانه اوجب مقدمته. وذهب الآخر الى عدم الوجوب ، بمعنى ان العقل لا يحكم بان
المولى اذا اوجب الشيء قد اوجب مقدمته ، بل الوجوب العقلي يكفي ولا ضرورة الى وجوب
شرعي لها.
اما مقدمات الواجب
المشروط فهي على قسمين : الاولى : مقدمة وجودية. والثاني مقدمة وجوبية. فالاولى :
كقطع المسافة الذي هو مقدمة وجودية للحج. والثانية : كالاستطاعة للحج. فالمشهور
قال بان مقدمات الواجب المشروط ، سواء كانت وجودية أم كانت وجوبية ، خارجة عن محل
الكلام.
فلذا خصّص بعض
العلماء النزاع بمقدمات الواجب المطلق ، فالاظهر ان المقدمات الوجودية للواجب
المشروط داخلة في محل الخلاف كمقدمات الواجب المطلق. فاذا قلنا بوجوبها فهي تابعة
لوجوب ذي المقدمة. فان كان وجوبه مشروطا فوجوبها مشروط ايضا. وبمجرد كون وجوب ذي
المقدمة فعليا ، يصير وجوبها فعليا. فهذه المقدمات على القول بوجوبها واجبة لكن
بوجوب مشروط.
واما المقدمات
الوجوبية التي يتعلق بها اصل وجوب ذي المقدمة ، مثل الاستطاعة للحج ، والنصاب
للزكاة ، والوقت للصلاة ، فعلى مذاق المشهور الذي هو عبارة عن تعلق الشرط بالهيئة
وعن تعلق القيد بالوجوب ، فهي خارجة عن محل الكلام. اذ قبل حصولها وتحققها لا يكون
الوجوب ثابتا لذي المقدمة حتى يترشح الوجوب منه اليها. اما بعد حصولها وتحققها فلا
معنى حينئذ للحكم بوجوب تحصيلها ، اذ وجوب تحصيل الشيء بعد حصوله طلب للحاصل ، وهو
قبيح لا يصدر من المولى الحكيم. مضافا الى كونها غير مقدورة للمكلف ، كدخول الوقت
والاستطاعة
والنصاب. فالمصنّف
قال ، تبعا للمشهور ، لا وجوب اصلا قبل حصول الشرط ، فعلى هذا المبنى ، فهذا النحو
من المقدمات ، خارج عن محل الكلام كما ذكر وجهه.
واما بناء على
مذهب الشيخ قدسسره ، وهو ان الوجوب فعليّ حاليّ والواجب استقباليّ في الواجب
المشروط وفي الخطاب التعليقي. نحو : (ان جاءك زيد يوم الجمعة فاكرمه) ، و (ان
استطعتم فحجّوا) فمقدمات وجودية للإكرام وللحج واجبة غير أن الاستطاعة داخلة في محل
الكلام وواجبة بوجوب مطلق ، ان حصلت الاستطاعة في محلها. وان لم تحصل في ظرفها فهو
يكشف عن عدم وجوبها أوّلا فسائر المقدمات محكوم بالوجوب ظاهرا حتى يعلم حال
الاستطاعة أهي حاصلة الى الانتهاء أم لا؟ فيكون الواجب المشروط الشيخي كالواجب
المعلق الفصولي في دخول مقدمتهما في محل الكلام ، كمقدمات الواجب المطلق ، والوجوب
في الواجب المشروط وفي الواجب المعلق فعلي حالي ، والواجب فيهما خاص استقبالي.
فاذا كان الوجوب فعليا فلا محالة تكون المقدمات المقدورة ، غير الاستطاعة ، واجبة
ظاهرا على مذهب الشيخ ومن تبعه على تقدير حصول الاستطاعة في محلها.
فالمقدمات
الوجوبية خارجة عن محل النزاع على القولين ، لانه قد سبق ان المقدمات على نوعين :
الاول
: ان تكون واجبة
التحصيل كالطهارة.
والثاني
: ان تكون غير
واجبة التحصيل مثل الاستطاعة فلو حصلت الاستطاعة اتفاقا من حيث التجارة او من حيث
الارث مثلا ، فالحج واجب. فهذا النوع من المقدمة خارج عن محل الكلام في مقدمة
الواجب بناء على مذهب الشيخ قدسسره.
فتحصل مما ذكرنا
ان كل واجب ، بالاضافة الى المقدمة المقدورة للمكلف ، واجب مطلق ، كالصلاة
بالاضافة الى الطهارة ، وكالحج بالنسبة الى قطع المسافة. وبالاضافة الى المقدمة
غير المقدورة واجب مشروط كالصلاة بالاضافة الى الوقت وكالحج بالنسبة الى
الاستطاعة. وان النسبة بين المقدمة الوجودية وبين المقدمة الوجوبية من النسب
الاربع هي عموم وخصوص مطلق. اذ كل مقدمة وجوبية
مقدمة وجودية ،
كالاستطاعة ، اذ كما يتوقف وجوب الحج عليها فكذا يتوقف وجوده في الخارج عليها وليس
العكس. لان قطع المسافة مقدمة وجودية للحج ، وليس مقدمة وجوبية له ، لانه واجب على
المستطيع سواء قطع المسافة أم لا. وان المقدمات الوجوبية للواجب المشروط خارجة عن
محل الكلام عند المصنف قدسسره وداخلة فيه عند الشيخ الانصاري قدسسره.
وان في الواجب
المشروط يكون الوجوب فعليا والواجب استقباليا عند الشيخ قدسسره. واما عند المصنف فهما بالعكس ، يعني أن الوجوب استقبال ،
اذ لا وجوب قبل حصول الشرط والواجب فعلي لانه قد أنشئ معلقا على الشرط. وان الوجوب
الغيري للمقدمة تابع لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط. فاذا كان وجوب ذي المقدمة
مطلقا كان وجوبها مطلقا ، كالصلاة والطهارة ، واذا كان ذوها مشروطا كان وجوبها
مشروطا ، كالحج والاستطاعة ، لان وجوبها ترشحي وهو لا يزيد عن وجوب ذيها ولا
يخالفه فيهما. هذا ثابت في غير المعرفة والتعلّم من المقدمات اي مقدمات اصول
الدين.
وجوب المعرفة
والتعلّم :
قوله
: واما المعرفة فلا يبعد القول بوجوبها حتى في الواجب المشروط ... الخ فالمعرفة والتعلّم ليستا تابعين لذي المقدمة في الاطلاق
والاشتراط ، فلا يبعد القول بوجوبهما حتى في الواجب المشروط قبل حصول شرطه وقيده ،
لكن لا من باب الملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدمته التي هي مناط الحكم عقلا
بوجوب المقدمة ، بل لحكم العقل بوجوب الفحص عن الأحكام الواقعية بعد احتمال
التكليف ، لان احتماله ، لو لم يكن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، منجّز
للتكاليف الواقعية.
والحال ان اجراء
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يتوقف على الفحص وعلى طلب العلم بالواقع. فالعقل
يحكم حينئذ بوجوب الفحص عن الواقع وبوجوب
تحصيل العلم
بالواقعيات ، أعم من الواجبات المطلقة ومن الواجبات المشروطة.
فاذا حصل العلم
بالوجوب او عدم الوجوب او بالحرمة او بعدمها بعد الفحص عن الاحكام الواقعية او
عثرت على الأدلة التي تدل على الاحكام الواقعية ، فهو مطلوب ، وإلّا يحكم العقل
بالبراءة العقلية من باب قبح العقاب بلا بيان وقبح المؤاخذة بلا برهان ، فوجوب
تحصيل العلم والمعرفة على المجتهد انما هو من باب وجوب الفحص بحكم العقل ، ووجوب
التعلم على المقلّد يكون عقلا وشرعا. اما عقلا ، فلاحتمال الضرر على ترك التعلم ،
ودفع الضرر ، ولو محتملا ، واجب عقلا. واما شرعا فللروايات عن طريق اهل البيت عليهمالسلام. منها الخبر النبوي المشهور وهو : «طلب العلم فريضة على
كل مسلم ومسلمة» فلذا احتمل بعض الوجوب النفسي لتحصيل العلم والمعرفة والتعلّم لا من باب
الوجوب المقدّمي الترشحي.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى ان التعلّم يكون واجبا مطلقا فيما لم يعلم المكلف طريق الاحتياط. واما في
الموارد التي علم المكلف طريق الاحتياط فيها لم يجب التعلم ويكون المكلف قد ادّى
وظيفته من طريق الاحتياط وهو حسن عقلا. وسبيل النجاة وهو واضح.
اطلاق الواجب على
الواجب المشروط :
قوله
: تذنيب لا يخفى ان اطلاق الواجب على الواجب المشروط ... الخ الكلام في تحقيق حال اطلاق الواجب على الواجب المشروط الذي
لا يجب إلّا بعد حصول الشرط من حيث الحقيقة والمجاز.
فالحق في المقام
ان اطلاق الواجب على الواجب المشروط نوعان كما ان في جميع المشتقات يكون اطلاقها
على ذات النوعين :
الاول
: ان يكون الاطلاق
بملاحظة حال حصول الشرط. ولا ريب ان هذا الاطلاق يكون على نحو الحقيقة مثل ان يقال
(ان الحج واجب بعد حصول الاستطاعة) وبملاحظة حال حصولها.
والثاني
: ان لا يكون
الاطلاق بملاحظة حال حصول الشرط بل يكون حال النطق مجازا. غاية الامر ان لحاظ حال
حصول الشرط يكون مصحّحا لهذا الاطلاق ، وتكون علاقة المجاز وهي علاقة الاول
والمشارفة لان الحج يصير واجبا بعد حصول الاستطاعة.
فلا بد ان يكون
اطلاق الواجب المشتق على الواجب المشروط قبل حصول شرطه مجازا بعلاقة الأول
والمشارفة نحو (من قتل قتيلا فله سلبه) لان القتيل يكون فعيل بمعنى مفعول اي (من
قتل مقتولا) والحال انه لا معنى لقتل مقتول ثانيا لكن يطلق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على الكافر الحيّ (مقتولا) بعلاقة الاول ، لانه علم انه
مقتول بعد ساعة او ساعتين او ساعات. فكذا في المقام ، لانه ـ وان لم يكن الوجوب
قبل حصول الشرط ـ ولكن يطلق الواجب عليه مجازا بعلاقة الاول والمشارفة.
واما بناء على
مذهب الشيخ في الواجب المشروط القائل بكون الوجوب فعليا حاليا والواجب خاصا
استقباليا فلا بدّ من ان يكون اطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط حقيقة ، اذ يكون
المعنى الحقيقي موجودا على مبنى الشيخ ومن تبعه.
وحكي القول
بالمجاز عن الشيخ البهائي قدسسره لتصريحه بان اطلاق الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الاول او
المشارفة.
فبالنتيجة
: اذا اطلق لفظ
الواجب المشتق على الواجب المشروط بملاحظة حال حصول الشرط يكون حقيقة عند الكل.
وانما الخلاف بين المصنف والشيخ قدسسره في اطلاقه عليه قبل حصول الشرط. فالمصنّف يقول بالمجاز اذ
لا وجوب قبل الحصول ـ أي حصول الشرط ـ عنده. والشيخ بالحقيقة وهو واضح لا غبار
عليه.
فان قيل : اي فرق
بين الاول والمشارفة؟ يعني هل الفرق موجود بينهما؟ قلنا : نعم ان الفرق موجود
بينهما ، وهو ان علاقة المشارفة تكون بلحاظ المناسبة والمشابهة بين الحالين
العارضين على شيء في زمانين نحو اطلاق القتيل على المصلوب للمناسبة بين المصلوب
وبين القتيل اللذان يعرضان على شخص ، لكن عنوان المصلوب في الزمن المتقدم ، وعنوان
القتيل في الزمن المتأخر فيطلق القتيل على
المصلوب مجازا
بعلاقة المشارفة ، لان المصلوب مشرف على القتل وزهوق الروح.
وان علاقة الاول
تكون بلحاظ المناسبة بين المسميين نشأ تعددهما واختلافهما من طروء عارض مع قطع
النظر عن مناسبة زماني المسميين ، اي مع قطع النظر عن قرب الزمانيين ، بخلاف
المشارفة فانه يلحظ فيها قرب زماني المسميين نحو اطلاق الدقيق على الحنطة التي لم
تطحن بعد او مثل اطلاق الخمر على العنب في سورة يوسف الصديق عليهالسلام في قوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي
أَعْصِرُ خَمْراً) اي عنبا يصير خمرا.
استعمال صيغة
الامر حقيقة في الواجب المشروط :
قوله
: واما الصيغة مع الشرط فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها ... الخ ولا يخفى أن صيغة الامر وضعت للوجوب. فاذا استعملت في
الواجب المشروط فهو حقيقة على كلا القولين ايضا. اما على القول المشهور وعلى مختار
المصنف قدسسره فلان الصيغة قد استعملت في انشاء الوجوب المشروط ، لكن
تستفاد مشروطية الوجوب من الدليل الخارج على طريقة الدالّين والمدلولين مثل (ان
ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) لان مجموع جملة الجزاء في هذا المثال وهي جملة (فاعتق
رقبة مؤمنة) يدل على المطلوب الخاص ، والحال ان جميع الفاظها قد استعمل في معانيها
التي وضعت الالفاظ لها. وكذا الفاظ جملة الشرط وهي جملة (إن ظاهرت) ففي هذا المورد
قد استعملت الصيغة في انشاء الطلب والوجوب وكون الوجوب مشروطا يستفاد من الجملة
الشرطية.
غاية الامر : ان
الدالّين موجودان. احدهما الجملة الاولى ، والآخر الجملة الثانية ، والمدلولان
موجودان ، وهما مدلول الاولى ومدلول الثانية ، إذ الاولى تدل على القيد والشرط ،
والثانية على الطلب الوجوبي المطلق على مذهب الشيخ قدسسره ،
__________________
وعلى الطلب
الوجوبي المقيد على مختار المصنف صاحب (الكفاية) قدسسره.
قوله
: كما هو الحال فيما اذا اريد منها المطلق ... الخ اي كما أن تعدد الدالّ وتعدد المدلول موجودان فيما اذا
اريد من الصيغة طلب المطلق الذي يقابل المقيد وينعقد الاطلاق لتمامية مقدمات
الحكمة. فان استعمالها في هذا المورد يكون على نحو تعدد الدالّ والمدلول ، فان
الصيغة تدل على الطلب ، ومقدمات الحكمة على الاطلاق.
فبالنتيجة : يكون
استعمالها في الطلب المطلق مثل استعمالها في الطلب المقيد في هذا المورد وهو تعدد
الدال وتعدد المدلول ، ولا يكون استعمالها على نحو تعدد الدال وتعدد المدلول اذا
اريد منها الطلب المبهم الذي يكون مقسما للمطلق والمقيد والذي يكون بعنوان
اللابشرط المقسمي المعروض للاطلاق والتقييد.
فبالنتيجة : اذ
أحرز ان المولى في زمن خطابه يكون في مقام البيان وفي صدد بيان تمام غرضه علم
حينئذ ان المراد من الصيغة هو الطلب المطلق الذي يشمل ما قبل حصول الشرط وما بعده.
واذا لم يحرز ان المولى في مقام البيان أو لا انكشف حينئذ ان المراد من الصيغة هو
الطلب المبهم الذي يكون مقسما لهما ، اي للاطلاق والتقييد ، وهو اللابشرط المقسمي
وهو الذي لا يكون استعمال الصيغة على نحو تعدد الدال والمدلول فيه.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
كل واحد من الاطلاق والتقييد ـ وان كان بدال آخر غير الصيغة ، اذ مقدمات الحكمة
على فرض تماميتها تدل على اطلاق الطلب من الصيغة والشرط يدل على تقييد الطلب منها
به ـ ولكن الفرق موجود بين الاطلاق والتقييد. فالأول يحرز بمقدمات الحكمة وهي
قرينة معنوية بل قرينة عقلية. والثاني يحرز بالقرينة اللفظية من الشرط والحال
ونحوهما. مثال الشرط نحو : (ان جاءك زيد يوم الجمعة فاكرمه). ومثال الحال نحو : (اطعم
زيدا فقيرا او جائعا). ومثال المصدر نحو : (اضربه ضربا شديدا او ضربا كثيرا).
ومثال المفعول له نحو : (اضربه تأديبا له). ففي الامثلة يكون المراد طلب المقيد لا
الطلب المطلق. إذ المقصود في الأول إكرام زيد بشرط مجيئه يوم الجمعة ، وفي الثاني
إطعامه في حال
كونه فقيرا ، وفي
الثالث الضرب الشديد ، وفي الرابع الضرب التأديبي.
المعلّق والمنجّز
:
قوله
: ومنها تقسيمه الى المعلّق والمنجّز قال في (الفصول) انه ينقسم ... الخ ومن تقسيمات الواجب ، تقسيمه الى الواجب المعلّق ، والى
الواجب المنجّز. قال في (الفصول) ان الواجب ينقسم باعتبار آخر ، غير الاعتبار الذي
ينقسم الواجب لاجل هذا الاعتبار الى الواجب المطلق والى الواجب المشروط ، الى ما
يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصول ذاك الوجوب على امر غير مقدور للمكلف مثل وجوب
المعرفة باصول الدين ويسمّى هذا الواجب بالواجب المنجز. والى ما يتعلق وجوبه
بالمكلف ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له ويسمّى هذا واجبا معلقا.
فان
قيل : انه لم سمّي
الاول واجبا منجزا والثاني واجبا معلقا؟
قلنا
: لأن التسمية
لتنجّز التكليف والوجوب وثبوته من غير توقف على امر آخر ولتعليق الوجوب والتكليف
على امر آخر غير مقدور له كالحج ، فان وجوبه يتعلق بالمكلف من اول زمن الاستطاعة ،
او من اول زمان خروج الرفقة ، ولكن يتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له.
والفرق بين الواجب
المعلق (الفصولي) والواجب المشروط المشهوري ، هو ان التوقف في الثاني (المشهوري)
على امر غير مقدور للمكلف إذ وجوب الاكرام متوقف على المجيء (أي مجيء زيد) وقبله
لا وجوب اصلا ، وفي الاول (الفصولي) يكون التوقف على امر مقدور للمكلف هو عبارة عن
الاكرام. انتهى كلامه رفع مقامه.
انكار الشيخ
الواجب المعلّق :
قوله
: لا يخفى ان شيخنا العلامة اعلى الله تعالى مقامه ... الخ والشيخ الانصاري قدسسره حيث ارجع جميع القيود في الخطاب التعليقي الى المادة وقال
انه يستحيل ان يكون
معنى الهيئة
مشروطا بشرط ومقيدا بقيد نظرا الى ان مفاد الهيئة فرد من الطلب وهو مما لا يقبل
التقييد ، والوجوب فعلي حالي عند الشيخ في كل الواجبات المشروطة.
لهذا انكر الواجب
المعلق على صاحب (الفصول) قدسسره حيث قال ان للواجب قسمين : المطلق والمشروط الذي يكون
القيد فيه راجعا الى المادة ، والوجوب فعليا مطلقا والواجب خاصا استقباليا ، فذاك
الواجب يكون مشروطا.
فبالنتيجة : ان
الواجب المعلق الفصولي هو عين الواجب المشروط الشيخي لذهاب كل واحد منهما فيهما
الى رجوع القيد الى الواجب والى كون الوجوب فعليا مطلقا ، كما ان الواجب المطلق
عين المنجز ، فلا جدوى ولا ثمرة في هذا التقسيم بل يكفي تقسيم الواجب الى المطلق
والمشروط.
فبالنتيجة
: الشيخ الانصاري قدسسره حيث اختار في الواجب المشروط تقييد المادة وتقييد الواجب
بالشرط ، واطلاق الهيئة والوجوب ، وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا اي لبا ،
واثباتا اي دليلا ، وادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك اي ثبوتا واثباتا اي
لبا وعقلا ودليلا وبرهانا ، لان مقتضى دليله الاول كما سبق ، هو امتناع كون الشرط
من قيود الهيئة لبا وواقعا ولفظا ودليلا ، مع اعتراف الشيخ بان رجوع القيد والشرط
الى المادة على خلاف القواعد العربية المقتضية لرجوع القيد الى الهيئة ، والمراد
منها ظهور الجملة الشرطية بحسب متفاهم العرف واهل اللسان ، كما ان مقتضى دليله
الثاني : لزوم رجوع القيد الى المادة لبا ودليلا.
اذا علم هذا فقد
يصير الواجب المعلق عين الواجب المشروط لانه في كليهما وجوب فعلي وواجب استقبالي
فليس معنى الآخر للمعلق المقابل للمشروط معقولا.
قوله
: كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي ... الخ ويشهد ، بدعوى الشيخ ان رجوع القيد الى المادة لبا وعقلا
يكون على خلاف القواعد العربية ، تصريح الشيخ البهائي قدسسره بان لفظ الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الاول او بعلاقة
المشارفة فلو كان الشرط راجعا الى المادة عند المشهور وعند شيخنا البهائي قدسسره فلا محالة يكون الطلب مطلقا والوجوب فعليا حاليا فلا دليل
لكون اطلاق لفظ الواجب
المشتق مجازا في
المشروط لتلبس المأمور به بالمبدإ في حال النسبة كما لا يخفى.
قوله
: ومن هنا انقدح انه في الحقيقة انما انكر الواجب المشروط بالمعنى الذي يكون ...
الخ فالشيخ يقول ان
للواجب قسمين فقط هما : المطلق والمشروط وانكر الواجب المعلّق ، فعلم مما تقدّم ان
هذا الانكار على خلاف التحقيق.
وعلم أيضا مما
تقدم انه انكر الواجب المشروط المشهوري ولم ينكر الواجب المعلق الفصولي ، اذ هو
قائل برجوع القيد والشرط الى المادة ، فينفي الواجب المشروط المشهوري ولا ينفي
الواجب المعلق الفصولي ، لان الشيخ تصور الواجب المشروط على طبق الواجب المعلق
الذي يلتزم به صاحب (الفصول). غاية الامر ان الشيخ يسمّي هذا الواجب بالواجب
المشروط ، وان صاحب (الفصول) يسمّي هذا الواجب الواجب المعلق ، فالاختلاف بين (الفصول)
والشيخ في الاسم لا في المسمى.
نعم يمكن ان يرد
الإشكال على صاحب (الفصول) قدسسره وهو انه لا فائدة ولا ثمرة لهذا التقسيم ، اي تقسيم الواجب
الى المنجز والى المعلق في باب المقدمة ، اذ هما من الواجب المطلق لانه ينقسم الى
قسمين : احدهما منجز ، وثانيهما معلق ، ومقدمتهما واجبة ، لان الوجوب فعلي فيهما ،
وان كان الواجب فعليا ايضا في الاول واستقباليا في الثاني.
والحال ان وجوب
المقدمة فعلا من اثر اطلاق الوجوب وحاليته الذي يشترك فيه المطلق والمعلق وليس
وجوب المقدمة فعلا من اثر حالية الواجب وعدم وجوبها فعلا من اثر استقبالية الواجب
، حتى يترتب على هذا التقسيم ثمر في باب المقدمة.
فهذا التقسيم ليس
مثمرا فيما نحن فيه ، وهو وجوب المقدمة وعدم وجوبها ، فالاول في الواجب المطلق ،
والثاني في الواجب المشروط. والحال ان تقسيم الواجب غير المثمر في هذا الباب كثير
، لان الواجب ينقسم الى التعبدي والتوصلي ، والعيني والكفائي ، وغيرها ، ولكن ليس
مثمرا هنا ، فذكر هذا التقسيم دون غيره ترجيح بلا مرجح.
نعم تقسيم الواجب
الى المطلق والمشروط بالمعنى الذي ذكر ، وهو ان اصل الوجوب المشروط يكون مثمرا
فيما نحن فيه ، اذ ليست مقدمات الواجب المشروط مثل مقدمات الواجب المطلق كما سبق
تفصيلها فراجع.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
التقسيم كان لدفع الخلط وعدم التمييز بين المشروط وبين المعلق المؤدي الى الإشكال
في وجوب بعض المقدمات قبل الوقت كما سيأتي.
فمقصود صاحب (الفصول)
قدسسره من هذا التقسيم لا يكون بيان الثمرة بين المعلّق والمنجّز
حتى يشكل عليه انه لا ثمرة بينهما ، نظرا الى ان الاثر مترتب على حالية الوجوب
وفعليته وهي مشتركة بينهما ، بل مقصوده من هذا التقسيم بيان الثمرة بين المعلق
والمشروط ، فعلى المشروط لا يكون الوجوب حاليا عند المشهور وعند المصنف صاحب (الكفاية)
قدسسره.
فبالنتيجة : لا
يمكن القول بوجوب الغسل غيريا قبل مجيء الغد ، وعلى المعلق يكون وجوبه حاليا ،
فيمكن القول حينئذ بوجوب الغسل قبل مجيء الغد ، وهذا لا اشكال فيه كما هو ظاهر.
الفرق بين المشروط
والمعلّق :
قوله
: ثم انه ربما حكي عن بعض اهل النظر من اهل العصر اشكال في الواجب ... الخ فاستشكل المحقّق السيد محمد الاصفهاني قدسسره على الواجب المعلّق بان الطلب الانشائي في التشريعيات يكون
في قبال الارادة المحركة للعضلات نحو المراد في التكوينيات ، فكما ان الارادة فيها
لا تنفك عن المراد وان كان المراد متأخرا رتبة ، فليكن الطلب الانشائي في
التشريعيات ايضا غير منفك عن المطلوب وان كان المطلوب متأخرا رتبة.
وعلى هذا فلا يعقل
ان يكون الطلب في الواجب المعلق حاليا والوجوب فعليا ، والمطلوب متأخرا عن الطلب
زمانا والواجب استقباليا ، هذا حاصل الإشكال.
فاجاب المصنف قدسسره عنه بنحوين :
احدهما : المناقشة
في المقيس عليه. وثانيهما : المناقشة في المقيس.
اما المناقشة في
المقيس عليه فهي ان الارادة في التكوينيات ، كما تتعلق بامر حالي فلا تنفك حينئذ
عن المراد زمانا ، فكذا قد تتعلق بامر متأخر استقبالي فتنفك حينئذ عنه زمانا ، كما
اذا تعلقت ارادته بالمسافرة في الصيف الى بلاد الشام او الى بلاد الهند مثلا ،
فيكون فعلا بصدد مقدمات المسافرة من الزاد والراحلة والرفقة وجواز السفر وتحصيل
معداتها في الحال الحاضر ، فلو لم تتعلق الارادة من الآن بالمسافرة بعدا لما
المريد فعلا بصدد تكميل المقدمات وتحصيل معداتها.
فبالنتيجة
: الارادة كما
تتعلق بامر مقارن كذلك تتعلق بامر متأخر ، بل يكون جميع الغايات والاغراض متأخرا
عن الارادة بزمان قليل كما اذا قلت مقدمات المراد ، أو بزمان كثير كما اذا كثرت
مقدماته.
واما المناقشة :
في المقيس فان الطلب الانشائي لا يكاد يتعلق إلّا بامر متأخر زمانا ، فان الطلب من
الغير ليس إلّا لان يتصور الغير ويتصور متعلقه وما يترتب على امتثاله من المثوبة
وعلى عصيانه من العقوبة ، فيصير هذا التصور داعيا لحركته نحو المطلوب فيأتى به في
الخارج ، وهذا مما يحتاج الى فصل زماني بين الانشاء وبين تحقق المنشإ في الخارج
سواء كان قصيرا أم كان طويلا.
وعليه فلا يمكن
وقوع المطلوب خارجا الا بعد زمان الطلب ، فكيف يدعى وقوع المطلوب في زمان الطلب.
ولعل الذي اوقع المستشكل في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكّد
المحرّك للعضلات نحو المراد فتوهم ان تحريكها نحو المراد لغو وعبث بل غير معقول.
والحال انه غفل عن
ان كون الشوق المؤكد محركا للعضلات نحو المراد لا يلزم منه التحريك نحو المراد
الاصلي الذي هو عبارة عن ذي المقدمة ، بل قد يكون التحريك بعد الشوق المؤكد الشديد
الذي يكون بعد ارادة الشيء وقصده جانب المراد الاصلي اذا لم تكن المقدمات له.
وقد يكون نحو
مقدمات المراد الاصلي اي المراد التبعي الغيري اذا كانت المقدمات للمراد الاصلي
سواء كانت قليلة أم كانت كثيرة. فحركة العضلات أعم من ان تكون نحو المراد بنفسه ،
كما اذا كان المراد مما لا مئونة له ، مثل ما اذا عطش المولى فاحتاج الى الماء وقد
اراد شربه ، والماء موجود عنده فحينئذ يمدّ اليد اليه ويشرب منه.
أو تكون نحو
مقدمات المراد ، كما اذا كان المراد مما له مقدمات ومئونة مثل الارادة للسفر الى
بلدة من بلاد الهند مثلا ، والجامع بين الحركة نحو المراد بنفسه وبين الحركة نحو
مقدمات المراد هو التحريك ، والمقصود ان كلا منهما يكون جانب المراد فقياس الاولى
بالثانية جائز لوجود الجامع بينهما.
غاية الامر ان
الاولى نحوه بلا واسطة. والثانية نحوه مع الواسطة ، اي مع واسطة المقدمات. فكون
الارادة هو الشوق المؤكد الذي لا يتعلق بامر متأخر زمانا باطل بلا وجه ، كما يقوله
المحقق السيد الاصفهاني قدسسره ، بل جميع اوامر المولى بعبيده انما يكون لاجل ايجاد
الداعي في أذهانهم ، بالاضافة الى ايجاد مراد المولى في الخارج وهو متأخر رتبة
وزمانا ، فلا يتفاوت عند العقل الحاكم في هذا المقام قلة الزمان وكثرته ، وقصره
وطوله.
فالارادة تتعلق
بامر متأخر زمانا ، ويكون تحريك العضلات نحو المتأخر ، كما انها تكون كذلك فكذا
الايجاب والطلب يكون لأمر متأخر وهو ممكن عقلا لا محذور فيه. هذا مضافا الى انه
يمكن منع عدم الانفكاك بين الارادة التشريعية والمراد ، وان كان الانفكاك بين
الارادة التكوينية والمراد محالا وهذا هو الفرق بينهما كما سبق.
قال المصنف قدسسره : ولعمري ، ان ما ذكرنا واضح لا غبار عليه ، ولكن اطناب
الكلام في هذا المورد انما هو لرفع المغالطة والاشتباه الذين وقعا في اذهان بعض
الطالبين للعلم ، كما وقع في ذهن المعترض المذكور.
فان
قيل : ما الفرق بين
الاطناب والتطويل؟
قلنا
: ان اللفظ والمعنى
اما أن يكونا متساويين او لا. فالاول يسمى المساواة. والثاني اما أن يكون اللفظ
قليلا والمعنى كثيرا فهو الموجز ، واما يكون اللفظ كثيرا والمعنى قليلا فهو لا
يخلو من وجهين :
احدهما : ان تكون
زيادة اللفظ لفائدة كحبّ المتكلم زيادة الكلام مع المخاطب فهو يسمى بالاطناب كما
وقع لموسى عليهالسلام مع الباري جلّ جلاله.
وثانيهما : ان
تكون لغير فائدة فهذا تطويل بلا طائل. وهذا اعتذار من المصنف.
وجوب المقدمات قبل
الوقت :
قوله
: وربما اشكل على المعلق أيضا بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث ... الخ واعترض على صاحب (الفصول) قدسسره القائل بالواجب المعلق ، ان من شرائط التكليف قدرة المكلف
على اتيان المكلف به. والحال انه من حين البعث والتكليف ليس قادرا على ايجاده
واتيانه ، اذ وقته لم يتحقق بعد ، والحال ان حصول الوقت غير مقدور له ، فالبعث
اليه باطل ، لانه اذا فات الشرط فات المشروط.
وفيه ان الشرط
انما هو القدرة على فعل الواجب في زمان فعله ، لا القدرة حال الامر ، ولا القدرة
حاله وحال فعل الواجب معا. بل لم يشترط احد القدرة حال الأمر اصلا ، فحسن التكليف
في الحال الحاضر مشروط بلحاظ القدرة الاستقبالية.
غاية الامر أن هذه
القدرة من باب الشرط المتأخر. وقد عرفت سابقا ان الشرط المتأخر كالشرط المقارن من
غير انخرام للقاعدة العقلية ، وهي تقارن العلّة مع معلولها زمانا وتقدّمها عليه
رتبة وذاتا اصلا. فراجع هناك مثاله نحو : (إن استطعت فحجّ في الموسم) والمكلف قادر
على اتيان الواجب اذا جاء الموسم ، ففيه يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا نظير
الواجب المشروط عند الشيخ الانصاري قدسسره.
اعتراض المصنف على
الواجب المعلّق :
قوله
: ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على امر غير ... الخ اعترض على الواجب المعلق الفصولي بانه لا وجه لاختصاص
الواجب المعلّق. بما يتوقف حصوله على امر غير مقدور للمكلف كما هو ظاهر (الفصول)
لان الواجب المعلق يكون الوجوب فيه فعليا والواجب استقباليا ، وهو يتوقف على امر
سواء كان غير اختياري للمكلف كيوم العرفة في الحج ، أم كان اختياريا متأخرا كما
اذا قيل (يجب عليك الآن ان تكرم زيدا بعد زيارتك له غدا) فان الزيارة المعلق عليها
الفعل والاكرام امر مقدور للمكلف مع انها متأخرة عن زمان الوجوب فهذا واجب المعلق
الفصولي ، فاخذ أمر المقدور على نحو يكون الامر المتأخر المقدور موردا للتكليف
ويترشح عليه الوجوب من الواجب بان كان وجود الزيارة مطلقا اي سواء كان في الغد أم
كان من باب الاتفاق ، قيدا للواجب الذي هو الاكرام نظير الطهارة للصلاة ، او لا
يكون كذلك بان كان وجود الزيارة في المثال المتقدم مقيدا بالاتفاق قيدا للواجب.
فبالنتيجة
: لا فرق في الواجب
المعلّق بين ان يكون الامر المتأخّر المقدور موردا للتكليف ويترشح عليه الوجوب من
الواجب او لا يكون موردا للتكليف.
وبعبارة اخرى وهي
انه لا فرق في الواجب المعلق بين ان يكون الامر المتأخر واجب التحصيل مقدمة للواجب
نظير الطهارة للصلاة ، وبين ان لا يكون واجب التحصيل ، اذ وجوده الاتفاقي لا وجوده
الشرطي ملحوظ للواجب لعدم التفاوت فيما هو مقصود صاحب (الفصول) في الواجب المعلق
من وجوب تحصيل المقدمات مقدورا للمكلف مثل تحصيل مقدمات الزيارة ، وبين كونه غير
مقدور له كالموسم للحج فكما يكون نحو (ان استطعت فحج في الموسم ويوم عرفة) واجبا
معلقا ، فكذلك مثل (يجب عليك الآن ان تكرم زيدا بعد زيارتك له غدا) لثبوت الوجوب
الحالي على فرض مقدورية الامر المتأخر ، وعلى فرض عدم مقدوريته للمكلف ، فيترشح
حينئذ من ذي المقدمة على المقدمة على القول بالملازمة العقلية بين وجوبهما ولا
يترشح الوجوب من ذي المقدمة في الواجب المشروط الى
المقدمة لعدم ثبوت
الوجوب الحالي فيه الا بعد حصول شرطه وهو واضح.
بيان الشرط
المتأخر :
قوله
: نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر وفرض وجوده ... الخ هذا استدراك عن قوله : دونه اي لا يكون الوجوب حاليا في
الواجب المشروط الا بعد حصول الشرط ، إلّا ان الوجوب فيه حالي اذا فرض الشرط مفروض
الحصول في موطنه مع كون الواجب متأخرا أيضا كالشرط ، نحو (ان جاءك زيد في يوم
الجمعة فمن الآن اوجب عليك اطعامه في ذلك اليوم) ، فاذا فرض تحقق الشرط في موطنه
فمن الآن يجب علينا اطعام زيد في يوم الجمعة ، فاذا كانت للاطعام مقدمات وجودية
فمن الآن وفي وقت الخطاب تتصف بالوجوب قبل مجيء يوم الجمعة ، فيكون الوجوب المشروط
بالشرط المتأخر حاليا ايضا ، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية للواجب ايضا حاليا
كما كان اصل الوجوب حاليا ، فحينئذ يلزم وجوب المقدمات قبل زمان الواجب في الواجب
المعلق وفي الواجب المشروط على نحو الشرط المتأخر ، ولا فرق بين هذا القسم من
الواجب المشروط وبين الواجب المعلق ، الا كون الوجوب في الواجب المشروط مرتبطا
بالشرط ، اذ لا وجوب فيه ، إلّا ان يفرض وجود الشرط المتأخر في موطنه ، فالوجوب
مرتبط بفرض وجود الشرط في موطنه.
بخلاف المعلق ،
فانه لا يرتبط وجوبه بالشرط وان ارتبط به الواجب بحيث يكون ظرف الواجب بعد حصول
الشرط.
فقد ذكر بعض خلاصة
الكلام في هذا المقام وهو لا يخلو من فائدة فلذا يذكر ، فيقال ان السيد الاصفهاني قدسسره انكر الواجب المعلق مستدلا بان في الواجب المعلق الفصولي
تفكيك الارادة عن المراد ، كما لا يمكن التفكيك في الارادة التكوينية فكذا لا يمكن
في الارادة التشريعية ، واشكل على السيد الاصفهاني قدسسره المصنف قدسسره بثلاث اشكالات :
الاول
: عدم لزوم التحريك
الفعلي نحو المراد في الارادة التكوينية ، فيمكن التفكيك بين الارادة التكوينية
وبين المراد فكذا التشريعية ، وقد اشار المصنف الى هذا الإشكال بقوله : «بل مرادهم
من هذا الوصف في تعريف الارادة اي مرادهم من حركة العضلات في تعريف الارادة بانها
الشوق المؤكد المحرك للعضلات ، ليس المراد الحركة الفعلية لامكان تعلق الارادة
بامر متأخر ، إذ ليس لهذا الامر المتأخر وجود اصلا ، فلا حركة في البين فعلا لا
نحو الفعل لتأخره ولا نحو المقدمات لفقدها بل الارادة تكون الحركة الشانية ، اي ان
الارادة هي الشوق الاكيد البالغ بحد لو تعلق الشوق بامر حالي او بامر متأخر
استقبالي تكون له مقدمات لأوجب ذلك حركة العضلات اما نحو المراد بنفسه كما في
الامر الحالي ، واما نحو المقدمات كما في الامر الاستقبالي».
الثاني
: على فرض تسليم
كون التحريك فعليا لا شانيا لا نسلم لزوم كون التحريك نحو المراد الاصلي ، بل قد
يكون نحو المراد الاصلي اذا لم تكن له مقدمات ، كحركة نفس العضلات ، وقد يكون نحو
المراد التبعي اذا كانت للمراد الاصلي مقدمات فيمكن التفكيك حينئذ ، اي اذا كان
التحريك نحو المراد التبعي بين الارادة وبين المراد أيضا فكذلك التشريعية ، واشار
المصنف قدسسره الى الإشكال الثاني بقوله : وقد غفل المحقق الاصفهاني قدسسره عن ان كون ... الخ.
الثالث
: اذا فرض تسليم
المقيس عليه وقلنا بلزوم اتصال الارادة التكوينية بالمراد الاصلي لكن لا نسلم هذا
الاتصال في الارادة التشريعية ، بل هي لا تتصل بالمراد دائما ، واشار المصنف قدسسره الى الإشكال الثالث بقوله : «هذا مع انه لا يكاد يتعلق البعث
في الانشائيات إلّا بامر متأخر ...».
موارد وجوب
المقدمة قبل وجوب ذي المقدمة :
قوله
: تنبيه قد انقدح من مطاوى ما ذكرناه ان المناط في فعلية وجوب المقدمة ... الخ وللتنبيه معنيان : احدهما : لغوى بمعنى الايقاظ. وثانيهما
: اصطلاحي بمعنى
استحضار ما سبق من
المطالب الماضية ، وانتظار ما سيأتي. والغرض من ذكر هذا التنبيه في هذا المقام رفع
الإشكال والعويصة ، وخلاصتها انه لا اشكال في ان الاصوليين قد صرحوا بتبعية
المقدمة لذي المقدمة في الاطلاق والاشتراط ، بل لا يمكن عقلا اتصاف المقدمة
بالوجوب الغيري من قبل اتصاف ذي المقدمة بالوجوب النفسي ، ومع ذلك قد حكموا في
الموارد الكثيرة بوجوب المقدمة قبل وجوب ذي المقدمة.
منها
: حكمهم بوجوب
الغسل على المحدث بالاكبر مثل الجنابة والحيض والنفاس والاستحاضة الكثيرة او
المتوسطة في الليل من قبل ان يطلع الفجر الصادق مقدمة للصوم المتعين في الغد.
ومنها
: حكمهم بوجوب
السعي الى الحج على المستطيع النائي قبل يوم عرفة مقدمة للحج.
ومنها
: حكمهم بوجوب حفظ
الماء للوضوء من قبل دخول وقت الصلاة اذا علم المكلف بعدم التمكن من الماء للوضوء
بعد دخول الوقت.
ومنها
: حكمهم بوجوب
معرفة القبلة لمن اراد السفر الى البلدان النائية وغيره. ولاجل هذا الإشكال قد
التزم المحقق صاحب (الحاشية) قدسسره في هذه الموارد بالوجوب النفسي لا المقدمي الغيري ، وقد
التزم صاحب الفصول قدسسره بالواجب المعلق في هذه المقامات لا الواجب المشروط ، ودفع
الإشكال بهذا الطريق بان في الواجب المعلق يكون الوجوب حاليا قبل مجيء وقت الواجب
وقبل اتيان الواجب ولهذا تجب مقدماته فعلا. فالوجوب فعلي قبل حصول الشرط الذي يكون
شرط الواجب لا الوجوب اذ هو مطلق. والشيخ الانصاري قدسسره قد دفع الإشكال بان الشرط مرتبط بالمادة لا بالهيئة
فالوجوب حينئذ مطلق فعلي ، والواجب يكون مقيد بالشرط الاستقبالي.
والمصنف قدسسره لمّا التزم بالواجب المشروط بشرط متأخر مفروض الوجود في
موطنه ، كما سيأتي عن قريب ، كان الوجوب حينئذ فعليا قبل حصول الشرط اي
أن وجوب ذي
المقدمة يكون فعليا حاليا.
ففي هذه الموارد
تكون المقدمات الوجودية للواجب ، لا المقدمات الوجوبية للواجب اذ هي غير مقدورة
للمكلف ، واجبة قبل مجيء وقت الواجب كالغد للصوم والظهر للصلاة. لان المعيار في
وجوبها فعلية وجوب ذي المقدمة وهي متحققة ، لان الشرط يحصل في وقته وفي موطنه ،
ولهذا من الآن لا بدّ من اتيان المقدمات التي تفوت بعد حصول الشرط. فدفع الإشكال
لا ينحصر بالالتزام بالواجب المعلق او بالالتزام برجوع القيد الى المادة لبا ، بل
يمكن دفع الإشكال بناء على الالتزام بالواجب المشروط على نحو الشرط المتأخر.
فاذا علم ان
المعيار في وجوب المقدمة فعلية وجوب ذي المقدمة ، ففي كل مورد وجوبه فعلي يكون
وجوبها فعليا ايضا ، وفي كل موضع ليس وجوبه فعليا لا يكون وجوبها فعليا ايضا.
فلا بد حينئذ من
تشخيص الموارد حتى يعلم الحال ، فيقال ان في الواجب المشروط بشرط سابق كالصلاة
بالاضافة الى دخول الوقت وبالاضافة الى البلوغ والعقل ونحوهما ، او بشرط مقارن
كالصلاة بالاضافة الى وجوب ستر العورة مثلا ، لا يكون وجوب ذي المقدمة فعليا قبل
حصول الشرط ، ولهذا لم يجب تحصيل مقدمات هذا الواجب قبل حصول شرطه.
نعم يكون وجوب
الواجب مطلقا اذا حصل الشرط ، واما الواجب المشروط بشرط متأخر فلا بد من ايجاد
مقدماته من قبل حصول الشرط المتأخر ، مثل ايجاد مقدمات الحج قبل يوم عرفة ، اذ يوم
عرفة شرط لوجوب الحج ووقت لوجوبه ، لكن الشرط متأخر فقبل مجيء يوم عرفة لا بد من
اتيان سائر مقدمات الحج من قطع الطريق وغيره ، فيكون واجب التحصيل ، لان الواجب
المشروط بشرط متأخر يكون الوجوب فيه فعليا.
وان كان الواجب
استقباليا فمناط وجوب المقدمات قبل حصول الشرط موجود فيه ، فهي واجبة قبل مجيء وقت
الواجب.
واما الواجب
المطلق المنجّز فعلم حكمه ، لان الوجوب فيه فعلي غير معلّق على شرط ولا مقيّد
بقيد.
واما الواجب
المعلّق الفصولي ، الذي يكون الوجوب فيه فعليا والواجب مقيّدا بقيد لم يحصل بعد
ومقيدا بوقت لم يتحقق ، فحكمه يعلم بالاضافة الى غير المعلق عليه من المقدمات ، اذ
هي واجبة التحصيل لفعلية الوجوب ، اي وجوب ذي المقدمة.
واما بالاضافة الى
نفس المعلق عليه ، مثل ان يعلق وجوب الحج بالاستطاعة التي تكون شرطا للواجب
وللمادة لا للوجوب والهيئة ، فيمكن ان تكون واجبة التحصيل ، لكن يتوقف وجوبها على
ان تكون شرطا للواجب لا شرطا للوجوب ، فحينئذ يكون الوجوب مطلقا والواجب مقيّدا ،
ولا تكون قيدا للموضوع ، ولا تؤخذ في الواجب على نحو لا يمكن طلبها.
فاذا لم يكن على
هذه الانحاء الثلاثة المذكورة ، يعني أن المعلق عليه لا يكون على احد الانحاء
الثلاثة ، فيكون وجوب المعلق عليه فعليا ويلزم تحصيله.
واما اذا كان على
احدها فلا يجب تحصيله.
اما
في الاول : فلانه اذا كان
شرط الوجوب كما انه شرط الواجب على الفرض ، فمن الواضح ان وجوب الحج مشروط
بالاستطاعة كما هي كذلك ، فاذا كان كذلك فلا وجوب قبل الاستطاعة لانتفاء شرط
الوجوب ، وبعد الاستطاعة ، اي بعد حصولها يكون وجوب تحصيل الاستطاعة تحصيلا للحاصل
وهو قبيح لا يصدر من المولى الحكيم.
واما
في الثاني : فلانه اذا كانت
الاستطاعة قيدا للموضوع ، مثل ان يقال (ايها المستطيع حجّ) فعلم ان تحصيل
الاستطاعة لا يكون واجبا ، اذ قبل حصولها لا يكون الموضوع محققا حتى يتوجه الخطاب
الى المكلف وبعد حصولها وبعد تحقق الموضوع يكون طلب الاستطاعة طلبا لامر حاصل وهو
محال على المولى لانه قبيح وكل قبيح محال على المولى جلّ جلاله فهذا محال.
واما
في الثالث : فلانه اذا أخذت
في الواجب على نحو لا يمكن طلبها فلا
يجب تحصيلها
لوجهين : (اولهما) : كونه غير مطلوب. و (ثانيهما) : كونه غير مقدور بل ملاك الطلب
والوجوب وجودها الاتفاقي. نعم اذا حصلت الاستطاعة لاجل امر اختياري كالتجارة
والتكسب ، او لأمر غير اختياري كالارث والتمليك والهبة ، فتحدث ارادة وجوب الحج في
قلب المولى.
فظهر مما ذكر ان
تحصيل الاستطاعة قبل الموسم مقدمة وجودية للحج في هذه الفروض الثلاثة ليس واجبا ،
فالمعلق عليه في الواجب المعلق الفصولي في الصور الثلاث ليس واجبا ، واما في غيرها
فواجب التحصيل.
فالمتحصل من جميع
ما ذكرنا ، انه ظهرت موارد الوجوب الفعلي لذي المقدمة حتى تكون مقدماته واجبة فعلا
، وموارد عدم وجوب ذي المقدمة فعلا كي لا تكون مقدماته واجبة فعلا ، فاندفع اشكال
المقدمات الوجودية للواجب التي تكون واجبة قبل وجوب ذي المقدمة ، فوجوب المقدمة معلول
، ووجوب ذي المقدمة علّة لوجوب المقدمة.
والحال ان وجود
المعلول يدل على وجود علّته السابق عليه رتبة وذاتا وإن تقارنا زمانا. وإن علم في
هذه المقدمات أنّ المقدمات ليست واجبة من قبل وقت ذي المقدمة تكشّف انه لا وجه
لوجوبها الغيري. والحال أن من المحال العقلي الوجوب الغيري من قبل وجوب ذي المقدمة
، لان وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها ، والحال ان تحقق التابع فرع تحقق المتبوع.
فإن علم ان
المقدمات واجبة ، وثبت وجوبها بالدليل او بالاجماع مع انه قد علم عدم وجوب ذي
المقدمة فعلا ، فلا بد من ان يحمل وجوبها على وجوب نفسي تهيّئي وفائدته التمكن من
فعل الواجب وتهيّؤ المكلف لفعل الواجب في وقته كالصلاة والصوم والحج والجهاد
والامر بالمعروف والنّهي عن المنكر فلا محذور فيه ايضا.
قوله
: ان قلت لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق ... الخ فاذا كان وجوب احدى المقدمات كاشفا عن أنّ وجوب ذي المقدمة
سابق ، اي قبل مجيء وقته فعليا ، فلا بد ان يكون جميع مقدماته الوجودية واجبا من
قبل مجيء وقت
الواجب ، فيكون
حينئذ جميع مقدمات الصلاة من الستر للعورة والاستقبال للقبلة والطهارة عن الخبث
والمكان قبل وقت الواجب.
والحال انه لم
يثبت وجوبها قبل وجوب ذيها الا في الموارد المخصوصة ، فوجوب حفظ الماء من قبل دخول
وقت الصلاة يدل على وجوب جميع مقدمات الصلاة من قبل دخول وقتها لاتحاد حكم الامثال
فيما يجوز وفيما لا يجوز.
وثانيا : لان وجوب
احدى المقدمات من قبل وقت ذي المقدمة كاشف آنيا عن وجوب ذي المقدمة الذي هو عبارة
عن وجود المعلول نصل منه الى وجود العلّة ودال على الوجوب الفعلي لذي المقدمة.
فاذا كان وجوبه
فعليا سابقا فيكون جميع مقدماته واجبا قهريا ، ولو كان واجبا موسعا بحيث يجوز
للمكلف الإتيان بالمقدمات في زمان الواجب كالوضوء للصلاة والحال انه لا يجب تحصيل
المقدمات من قبل مجيء وقت الواجب الموسع ، ولا تجب المبادرة الى ما لم يقم دليل
بالخصوص على وجوب الإتيان به من قبل ذيها ولو فرض عدم تمكنه منها في وقت الواجب لو
لم يبادر اليها.
فاجاب المصنف قدسسره عن هذا الإشكال بقوله نعم يلزم على تقدير وجوب احدى
المقدمات من قبل مجيء وقت الواجب كحفظ الماء للوضوء من قبل دخول وقت الصلاة وجوب
سائر المقدمات ، لان الوجوب الغيري الترشحي معلول للوجوب النفسي فاذا ثبت النفسي
قبل الوقت ثبت الغيري كذلك ولا تختلف المقدمات في الوجوب الغيري إلّا اذا أخذت في
الواجب من قبل سائر المقدمات قدرة خاصة هي القدرة على سائر المقدمات قبل مجيء زمان
الواجب ، لان كل واجب ـ سواء كان نفسيا أم كان غيريا ـ مشروط بالقدرة اي كانت هذه
القدرة الخاصة المذكورة شرطا للتكليف.
فاذا انتفت هذه
القدرة بعد مجيء وقت الواجب فالمكلف لا يخلو من حالين إما يسقط عنه التكليف ، او
يلغي الشرط عن الشرطية ، فيصلّي حينئذ في الثوب المتنجس ، فلا يلزم حينئذ من وجوب
إحدى المقدمات وجوب سائر المقدمات من
قبل زمان الواجب ،
فلا يجب اتيانه من قبل زمان الواجب.
واما اذا أخذت من
ناحية سائر المقدمات غير وجوب حفظ الماء من قبل دخول وقت الواجب ، القدرة في الجملة
ـ اي سواء كانت القدرة عليه قبل زمان الواجب أم كانت بعد زمان الواجب ـ ففيه
تفصيل.
فاذا علم المكلف
انه لا يتمكن من سائر المقدمات في وقت الواجب تعيّن الإتيان به من قبل مجيء وقت
الواجب لوجود الشرط وهو القدرة على اتيان سائر المقدمات.
واذا علم انه قادر
على اتيانه من بعد مجيء زمان الواجب ، كما انه قادر على الإتيان من قبل زمان
الواجب ، فاذن يتخيّر في الإتيان قبله او بعده.
فبالنتيجة : لو
قام دليل على شرطية القدرة على الواجب التي هي مرتبطة بالقدرة على مقدماته في خصوص
زمان الواجب فلا تجب المقدمات قبل وقت الواجب في هذا الفرض ، وان علم بعدم التمكن
من المقدمات بعد خروج وقت الواجب ، لان العلم المذكور في هذا المورد يوجب العلم
بانتفاء التكليف لانتفاء شرطه وهو القدرة عليه في زمانه ووقته.
فاذا انتفى
التكليف بالنفسي فقد انتفى التكليف بالغيري ، لانه تابع له ، فاذا انتفى المتبوع
فقد انتفى التابع. وعلى هذا لا نلتزم بوجوب سائر المقدمات من قبل وقت الواجب.
اما اذا قام
الدليل على شرطية القدرة على الواجب من زمان الوجوب الى زمان الواجب ، فنلتزم
بوجوبها عليه بسبب بعض مقدماته الذي هو واجب من قبل دخول وقت الواجب ، كوجوب السعي
للحج قبل الموسم ، وهو لا يمنع عن ثبوت الوجوب الغيري للمقدمات الأخر قبل الوقت ،
اذا علم بعدم القدرة عليها بعد مجيء وقت الواجب ، فنلتزم بوجوب المقدمات قبل وقت
الواجب ، اذ القدرة على المقدمات قبل الوقت توجب القدرة على الواجب في وقته ، لان
المقدور بالواسطة مقدور ، فيحصل الشرط ، فاذا حصل الشرط ، وهو وجوب المقدمات الذي
يوجب
القدرة على الواجب
في وقته ، فيثبت الوجوب النفسي ويتبعه الوجوب الغيري للمقدمة من قبل وقت الواجب ،
اذا علم ما ذكرنا فقد نلتزم بوجوب جميع المقدمات ولا اشكال ولا محذور فيه اصلا.
قوله
: فتدبّر جيدا فتدبر التفكيك بين الوجوب النفسي وبين الوجوب الغيري ، كما في الصورة الاولى.
ترجيح اطلاق
الهيئة على اطلاق المادة :
قوله
: تتمة قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل وكونه موردا للتكليف وعدمه فان علم
حال القيد ... الخ الكلام في دوران امر القيد بين الرجوع الى الهيئة او المادة ، الغرض من عقد
هذه التتمة هو بيان مقتضى القاعدة في دوران امر القيد بين الرجوع الى الهيئة وبين
رجوعه الى المادة.
قال المصنف قدسسره : انك
قد عرفت سابقا اختلاف القيود في وجوب التحصيل وعدم وجوبه. وتفصيل ذلك : ان القيد ان كان راجعا الى الهيئة المسمى بالمقدمة
الوجوبية ، او كان مأخوذا عنوانا للمكلف نحو (المستطيع يحج) و (المسافر يقصّر) او
كان راجعا الى المادة وكان غير اختياري كالوقت والاستطاعة ، او كان اختياريا قد
اخذ على نحو لا يترشح اليه الوجوب نحو (صلّ عند ما تطهرت) و (حجّ عند الاستطاعة)
لم يجب تحصيل القيد.
اما
في الاول : فلانه لا وجوب
قبل وجود القيد والشرط حتى يجب تحصيل القيد مقدمة للواجب.
واما
في الثاني : فلان الحكم يتوقف
على العنوان للموضوع ، وتحصيل العنوان الذي هو قيد الحكم والوجوب ليس واجبا.
واما
في الثالث : فلكون القيد غير
مقدور للمكلف ، والحال ان التكليف فرع القدرة.
واما
في الرابع : فلعدم ترشح
الوجوب من الواجب الى القيد الذي هو
المقدمة الوجودية
للواجب كالطهارة للصلاة.
وان كان راجعا الى
المادة وكان اختياريا قد اخذ على نحو يترشح اليه الوجوب مثل (صلّ عن طهارة) و (حجّ
عن استطاعة) فيجب تحصيل القيد لكون الوجوب حاليا فيجب تحصيل القيد مقدمة.
فان علم حال القيد
وانه راجع الى الهيئة او الى المادة فان كان في مقام الاثبات ما يعيّن به حال
القيد بحيث يكون الكلام عند اهل اللسان ظاهرا في الرجوع الى الهيئة او الى المادة
فحسن.
وان جهل حاله فلم
يعلم انه راجع الى الهيئة والوجوب او انه راجع الى المادة والواجب فالمرجع حينئذ
هو اصالة البراءة عن وجوب تحصيل القيد.
فبالنتيجة
: اذا فقد الدليل
الاجتهادي وصلت النوبة بالدليل الفقاهتي ، وهو اصل البراءة في هذا المقام لفقد
النص والحال ان الشك في التكليف لا في المكلف به وهو مجرى البراءة كما قرّر في
محلّه وهو ظاهر.
قوله
: وربما قيل في الدوران بين الرجوع الى الهيئة او المادة بترجيح الاطلاق ... الخ قال الشيخ قدسسره اذا دار امر القيد بأنه هل هو راجع الى الهيئة او المادة
فيكون اطلاق الهيئة والوجوب وتقييد المادة والواجب اولى محتجا بوجهين :
دليل الشيخ على
مدعاه :
الاول
: ان اطلاق الهيئة
شمولى كالعام بالنسبة الى افراده نحو اكرم العلماء ، فان الطلب ثابت على كل حال
وفي كل تقدير لا في حال دون حال ولا في تقدير دون تقدير ، لانه اذا كانت الهيئة
مطلقة كان الوجوب مطلقا حاليا ويكون الواجب مقيدا بقيد ، فوجوب اكرام زيد ثابت
سواء جاء أم لم يجئ.
بخلاف ما اذا كانت
المادة مطلقة ، لان اكرام زيد ثابت اذا كان جائيا فقط فاطلاق الهيئة والوجوب شمولى
واستغراقي كاللفظ العام الاستغراقي واطلاق المادة بدلى كاللفظ المطلق بالنسبة الى
افراده اذ المطلوب منها فرد واحد من الاكرام من
نحو (ان جاءك زيد
يوم الجمعة فاكرمه) وهو إكرامه بشرط المجيء لا جميع افراده ومصاديقه.
ومن الواضح ان
الاطلاق الشمولى سواء كان افراديا كما في العام الاستغراقي ام كان احواليا كما
فيما نحن فيه يقدم على الاطلاق البدلى كما سيأتى في مبحث العام والخاص ان شاء الله
تعالى.
الثاني
: ان تقييد الهيئة
يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة بخلاف العكس. مثلا : اذا قيد وجوب اكرام زيد
بمجيئه في الخطاب التعليقي فلا يبقى حينئذ محل لاطلاق الاكرام بالاضافة الى المجيء
، اذ الاكرام لا ينفك عن المجيء نظرا الى مقتضى القيد ، بخلاف ما اذا قيد الاكرام
بالمجيء ، اي بمجيء زيد ، فنحكم بوجوب الاكرام قبله ، أي قبل مجيئه ، كما نحكم
بوجوبه بعد مجيئه ، نظرا الى مقتضى إطلاق الوجوب.
ومن الواضح انه
كلما دار الامر بين تقييدين وأبطل احدهما محلّ الاطلاق في الآخر دون العكس ، كان
العكس اولى. كما سيأتى في مبحث المطلق والمقيّد ان شاء الله تعالى.
فبالنتيجة : يكون
تقييد إطلاق الهيئة تقييد إطلاق المادة ، لأن المادة بلا وجوب لا تنفع نفعا معتدا
به ولا تثمر ثمرة.
واما تقييد إطلاق
المادة فلا يضرّ باطلاق الهيئة ، اذ الوجوب مطلق حين تقييد المادة. ففي كل موضع
يتردد الأمر بين التصرف في إطلاق المادة وبين التصرف في إطلاق الهيئة يكون في
احدهما خلاف واحد للظاهر ، وفي الآخر خلافان للظاهر والاصل ، فلا محالة يكون
الترجيح مع التقييد المستلزم لخلاف الظاهر الواحد وهو تقييد المادة.
بطلان ترجيح اطلاق
الهيئة على اطلاق المادة :
فالتقييد ، وان لم
يكن مجازا كما سيأتى في المطلق والمقيد ، بل يكون التقييد بدالّين ومدلولين ، لان
لفظ المطلق يدل على الاطلاق ـ ولفظ القيد يدل على القيد مع ان كليهما مستعملان في
معناهما الحقيقي ـ لكنهما خلاف الاصل ، فقلة خلاف الاصل واصالة الاطلاق واصالة عدم
التقييد اولى من كثرة خلاف الاصل. فبهذين الدليلين يقدم تقييد المادة على تقييد
الهيئة ويرجح اطلاق الهيئة على اطلاق المادة ، فيعلم حال صغرى الدليل وحال كبرى
الدليل ، لان دليله الثاني يتألف من الصغرى ، وهي ان تقييد الهيئة مبطل إطلاق
المادة ورافع إيّاه دون العكس اي تقييد المادة لا يضرّ باطلاق الهيئة فحال هذه
الصغرى قد ظهر مما سبق ، ومن الكبرى ، وهي استلزام احد التقييدين لتقييد الآخر.
فصورة القياس وهي
ان تقييد الهيئة مستلزم لتقييد المادة ، وكل مستلزم لتقييد نفسه ولغيره فهو ضعيف
لان التقييد خلاف الاصل ، فتقييد الهيئة ضعيف ، والحال انه لا فرق في الواقع بين
ان يقيد اطلاق المطلق بمقيد خاص لفظي كما اذا أرجعنا القيد الى الهيئة ، وبين ان
يعمل المقيد الخاص عملا يشترك مع التقييد الخاص في الاثر والنتيجة وبطلان الاطلاق
اذ كل منهما على خلاف اصالة الاطلاق ، فلا يقال انه فرق في الاثر بين تقييد المطلق
بمقيد خاص كتقييد الهيئة ، وبين عدم تقييده بمقيد خاص مثل استلزام تقييد الهيئة
لتقييد المادة لاشتراكهما في رفع محل بيان الاطلاق وفي بطلان محل الحاجة من
الاطلاق كما مرّ.
قال وما ذكرنا من
الوجهين موافق لما افاده بعض مقرري بحثه الشريف وبناء على تماميتهما لا تصل النوبة
الى الأصول العملية ، كما لا يخفى على اولي النهى.
جواب المصنف على
دليل الشيخ أولا :
قوله
: وانت خبير بما فيهما أما في الاول فلان مفاد اطلاق الهيئة وان كان ... الخ نعم سلّمنا ان اطلاق الهيئة شمولي وان اطلاق المادة بدلي ،
ولكن ليس المناط في
ترجيح احد
الاطلاقين على الاطلاق الآخر كون احدهما شموليا والآخر بدليا ، بل المناط في تقديم
الاستناد الى الوضع وعدم الوضع.
فاذا كان الاطلاق
الشمولي مستندا الى الوضع ، كما في الصيغ التي وضعت للعموم والشمول مثل الجمع
المخلّى باللام ، والجمع المضاف الى المعرّف باللام ، والمفرد المعرف باللام على
قول بعض ، وكالالفاظ التي وضعت للعموم كلفظ الكل والأجمع وأخوات الأجمع مثل (اكتع
وابتع وابصع).
والاطلاق البدلي
مستند الى مقدمات الحكمة كالاطلاقات المنعقدة لأسماء الاجناس مثل لفظ (بيع) و (الربا)
في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) قدّم الاطلاق الشمولي الوضعي على الاطلاق البدلي الحكمي ،
لكن لا بملاك كونه شموليا بل بملاك كونه وضعيا.
واذا انعكس الامر
بان كان الاطلاق الشمولي مستندا الى مقدمات الحكمة كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبا) والاطلاق البدلي مستندا الى الوضع كما في لفظ (من)
الموصولة و (ما) الموصولة ، قدّم حينئذ الإطلاق البدلي الوضعي على الإطلاق الشمولي
الحكمي.
وعلى هذا ففي
المقام ، حيث ان كلا من اطلاق الهيئة واطلاق المادة مستند الى مقدمات الحكمة لا
ترجيح لاحدهما على الآخر. وان كان إطلاق الهيئة شموليا وإطلاق المادة بدليا ،
فالوضع يكون سببا اقوى في الظهور من مقدمات الحكمة ، اذ هي من اثر عدم البيان ،
والحال ان الوضع بيان.
فالاطلاق الشمولي
، بملاحظة كونه مسببا عن الوضع ، مقدم على الإطلاق البدلي الذي هو مسبب عن مقدمات
الحكمة ، ولكن مقتضى مقدمات الحكمة مختلف ، اذ قد يكون العموم الشمولي كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبا) الوارد في مقام الامتنان على العباد ، وقد يكون العموم
البدلى كما اذا قال المولى لعبده (ان ظاهرت فاعتق رقبة) الدال على وجوب عتق رقبة
من الرقاب سواء كانت مؤمنة أم كانت كافرة اذا كان المولى في مقام بيان تمام غرضه ،
وقد يكون التعيين كما في
صيغة الامر
الواردة في مقام البيان ، والدالة بوسيلة مقدمات الحكمة على تعيين الوجوب النفسي
العيني التعييني لا الوجوب الغيري الكفائي التخييري ، فلا بقال انه اذا كان اطلاق
كل من الهيئة والمادة ناشئا عن مقدمات الحكمة بناء على قول الشيخ الانصاري قدسسره لزم ان تكون نتيجة المقدمات على طبق واحد بان يكون
الاطلاقان شموليين او بدليين ، لا ان يكون في احدهما شموليا في الآخر بدليا.
فانه يقال : بانه
لا منافاة بين كون ثمرة مقدمات الحكمة مختلفة في الموارد على حسب اقتضائها من قبيل
الامتنان كما في (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) او من تعلق الطلب بصرف الطبيعة ، اي بصرف ايجاد الطبيعة في
ضمن فرد من افرادها ، كما ان المستفاد من (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) تحليل جميع افراد البيع ، الا ما خرج بالدليل كالبيع
الربوى والبيع الغرري وتحريم جميع مصاديق الربا الا ما خرج بالنص مثل الربا بين
الوالد وولده مثلا ، ففي المقام تكون ثمرتها مختلفة ، اذ نتيجتها تكون في اطلاق
الهيئة شموليا ، وفي اطلاق المادة بدليا ولا محذور في هذا الاختلاف.
جواب المصنف عن
دليل الشيخ ثانيا :
قوله
: واما في الثاني فلان التقييد ... الخ لما فرغ المصنف قدسسره عن جواب الوجه الاول ، شرع في الجواب عن الوجه الثاني ،
وهو عدم استلزام تقييد الهيئة لارتكاب خلاف الاصلين ، بل اللازم ارتكاب خلاف اصل
واحد من دون لزوم ارتكاب خلاف الاصل في ناحية المادة ، لان تقييد الاطلاق خلاف
اصالة الاطلاق اذ لا يلزم من تقييد الهيئة بقيد الا وجود المانع عن جريان مقدمات
الحكمة في ناحية اطلاق المادة.
فمعنى كون التقييد
خلاف الاصل انه خلاف الظهور المنعقد للمطلق بوسيلة مقدمات الحكمة ، وفي المقام مع
تقييد الهيئة يعني بانتفاء بعض مقدمات الحكمة في المادة كانتفاء ما يوجب التعيين ،
لا ينعقد اطلاق المادة بوسيلة وبركة مقدمات الحكمة حتى يكون العمل المشارك مع
التقييد في الاثر مثل التقييد في كون كل
واحد منهما خلاف
الاصل.
فبالنتيجة : العمل
بتقييد الهيئة الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وانتفاء بعض مقدماتها في المادة
لا يكون على خلاف الاصل ، اذ مع تقييد الهيئة لا يكون هناك اطلاق كى يكون بطلان
العمل بالاطلاق في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل.
والحال انه لا
معنى لكون التقييد خلاف الاصل الا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات
الحكمة ، ومع انتفاء بعض مقدمات الحكمة لا يكاد ينعقد للمادة ظهورها ، كان ذاك
العمل المشارك مع التقييد في الاثر وبطلان العمل باطلاق المطلق في المادة مشاركا
مع ذاك العمل في خلاف الاصل.
ولا بد هنا من
بيان مقدمات الحكمة وهي ثلاثة :
الاولى
: ان يكون المتكلم
في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال.
الثانية
: ان لا يكون القدر
المتيقن في البين.
الثالثة
: ان لا تكون
القرينة في مقام التخاطب.
فاذا أرجعنا القيد
الى الهيئة في نحو (حجّوا ان استطعتم) وهو يصلح للقرينة لعدم انعقاد ظهور المادة
في الاطلاق ، فرفع اليد عن اطلاق المادة يكون لوجود مانع عن ظهور المادة في
الاطلاق. والحال انه قد قرّر في محلّه انه لا تجري مع وجود ما يصلح للقرينية على
التقييد.
وعليه فلا اطلاق
للمادة حينئذ كى يكون تقييد الهيئة مبطلا لاطلاق المادة.
فبالنتيجة
: لا يدور الامر
بين خلافين للاصل اذا قيدنا الهيئة ، وبين خلاف اصل واحد في صورة تقييد المادة كما
قال به الشيخ الانصاري قدسسره ، لان القيد مانع عن انعقاد الظهور في الهيئة وفي المادة
مثل (حجّوا ان استطعتم) هذا اذا كان القيد متصلا.
نعم اذا كان القيد
منفصلا. فينعقد الاطلاق في الهيئة وللمادة حينئذ ، ويدور الامر بين خلافين للاصل
ان قيدنا الهيئة ، وبين خلاف واحد للاصل المذكور فيكون
لتوهّم الشيخ قدسسره مجال ، فلا بد ان يقال حينئذ ان تقييد الهيئة مرجوح
لاستلزامه خلافين للاصل ، وتقييد المادة راجح ، اذ فيه خلاف واحد له. فاذا كان
القيد والشرط منفصلين انعقد الاطلاق للمطلق ولو ببركة مقدمات الحكمة اذا تمت
مقدماتها.
قوله
: فتأمل وهو اشارة
الى انه لا فرق بين القيد المتصل وبين القيد المنفصل لانه اذا كان القيد منفصلا
فانعقاد الظهور في كلّ من الهيئة والمادة ، وان كان مقبولا ، لكن هذا الظهور ليس
بحجّة للعلم الاجمالي بتقييد احد الاطلاقين إما تقييد الهيئة وإما تقييد المادة
صونا لكلام مولى الحكيم عن الهذرية واللغوية.
ومع هذا العلم
الاجمالي لا تجري اصالة الاطلاق ، لا في طرف الهيئة ولا في طرف المادة لاجل
التعارض ، فلا بد حينئذ من تقييد احدهما. فلا يصح هذا التوجيه الذي ذكر آنفا ،
فللعلم الاجمالي بتقييد احدهما يسقط الاطلاقان ، اذ منشأهما مقدمات الحكمة ، فلا
ترجيح لاحدهما على الآخر.
وفي ضوء هذا يظهر
ان النسبة بين تقييد الهيئة وبين تقييد المادة عموم من وجه ، اذ من الممكن ان يكون
الشرط قيدا للهيئة دون المادة ، كما إذا فرضنا القيام قيدا لوجوب الصلاة لا لنفسها
، فحينئذ جاز اتيان الصلاة جالسا بعد تحقق القيام حال تكبيرة الإحرام ، بل لا مانع
عقلا من تصريح المولى بذلك بقوله (اذا قمت حال تكبيرة الإحرام فصلّ جالسا) ، وقد
يكون قيدا للمادة دون الهيئة مثل استقبال القبلة والطهارة والستر فانها قيد لنفس
الصلاة دون وجوبها.
وقد يكون قيدا
لهما معا كالوقت ، فان الوقت ـ مثل زوال الشمس وغروبها للعشاءين وطلوع الفجر للصبح
ـ من جهة كونه شرطا لصحة الصلاة فهو قيد لنفسها. ومن ناحية ان هذه الاوقات الشرعية
ما لم تتحقق لا يكون وجوب الصلاة فعليا منجزا ، فالوقت قيد لوجوبها وهذا واضح لا
غبار عليه.
النفسي والغيري :
قوله
: ومنها تقسيمه الى النفسي والغيري وحيث كان طلب شيء وايجابه ... الخ
وينقسم الواجب
ايضا الى واجب نفسي والى واجب غيري ، وقد فسر الواجب النفسي في كلام غير واحد من
الاصوليين بما امر لنفسه ، والواجب الغيري بما امر به لاجل غيره.
وعليه يلزم ان
يكون جميع الواجبات الشرعية الا المعرفة ـ اي وجوب المعرفة بالله تعالى ـ من
الواجبات الغيرية ، اذ المطلوب النفسي لا يوجد في الاوامر ـ اي في موضوعاتها ـ
فانها مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها. مثلا : الصلاة مطلوبة
بالطلب الشديد اذا كانت واجبة او بالطلب الخفيف اذا كانت مندوبة لكونها ناهية عن
الفحشاء والمنكر ولكونها قربانا ومعراجا وعمودا. والصوم مطلوب لكونه جنّة من
النار. والزكاة مطلوبة لكونها سببا لتطهير المال ونموّه لا سيما على مذهب العدلية
والمعتزلة القائلين بان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية والمفاسد النفس
الامرية.
فبالنتيجة تكون
موضوعات الاحكام ذات مصالح ومنافع ، فلذا تكون مطلوبة ، فيكون تعريف الواجب النفسي
غير منعكس ، اي جامع الافراد ، اذ الواجبات النفسية مما وجبت لما فيها من الخواص
والفوائد والآثار.
ولازم هذا ان يكون
تعريف الواجب الغيري غير مطرد ، اي غير مانع الاغيار ، لدخول الواجبات النفسية في
تعريفه ، ولذا ينبغي في تحديد الواجب النفسي ان يقال انه وجب وأمر به لا لاجل
التوصل الى واجب آخر.
وان الواجب الغيري
ما أمر به لاجل التوصل به الى واجب آخر ، فيتم العكس والطرد في تعريف كل واحد
منهما فلا يختل تعريف الغيري طردا ولا تعريف النفسي عكسا. وفي ضوء هذا ظهر ان
الواجب النفسي على نحوين :
الاول
: ان يكون مطلوبا
بنفسه ، كوجوب المعرفة ، اذ لا تترتب عليه فائدة وغاية ، بل تكون بنفسها غاية
ومطلوبة. فالمعرفة ما أمر بها لا لاجل الفائدة التى تترتب عليها.
والثاني
: ان يكون مطلوبا
لاجل الخواص التي تترتب عليه ، كاكثر العبادات
والتوصليات ، وقيد
الاكثر هنا لاخراج المعرفة بالله الواحد الاحد جلّ جلاله.
وقد ظهر ان الواجب
الغيري قسم واحد ولكن الفرق بين الواجب الغيري والقسم الاول من الواجب النفسي واضح
لا يحتاج الى البيان لانه عيان. واما الفرق بين الواجب الغيري والقسم الثاني من
الواجب النفسي ففي غاية الخفاء ، ولذا عدل عن تعريف المشهور واختار التعريف
الثاني.
قوله
: فان قلت نعم وان كان وجودها محبوبا لزوما إلّا انه حيث كانت من ... الخ ومن المعلوم ان المصنف اجاب عن اشكال وارد في تعريف الواجب
النفسي ، عدا المعرفة ، بجوابين :
الاول
: ان الغايات
المترتبة على الواجبات النفسية ، اي اكثرها ، تكون واجبة عقلا ثبوتا لا شرعا
واثباتا ، ولذا قيل ان الواجبات السمعية ألطاف في الواجبات العقلية ، واما الغايات
المترتبة على الواجبات الغيرية فهي واجبة شرعا واثباتا ، كما انها واجبة عقلا
وثبوتا ، اذ هي اطاعة للمولى وشكر له.
فاعترض المعترض
على هذا الجواب بان الغايات المترتبة على اكثر الواجبات خارجة عن اختيار المكلف
فلا تتعلق القدرة بها ، وعليه فلا يعقل وجوبها عقلا وثبوتا.
واجاب المصنف قدسسره بانها ـ وان كانت ، في حد انفسها وبلا واسطة ، خارجة عن
تحت القدرة ـ إلّا ان الغايات مع واسطة اسبابها مقدورة لدخول اسبابها تحت القدرة.
ومن الطبيعي ، ان القدرة على السبب قدرة على المسبب. وان لم يكن المقدور مع
الواسطة مقدورا لم يصح وقوع مثل التطهير الذي هو مسبب عن الوضوء ، والتزويج
والطلاق المسبّبين عن العقد وغيرها مورد الحكم من الاحكام التكليفية الشرعية. وعلى
هذا يتمّ الجواب الاول وظهر الفرق بين القسم الثاني من الواجب النفسي وبين الواجب
الغيري ، لانه لو لم تكن غايات الواجب النفسي واجبة عقلا لما دعا المولى شيء آخر
الى ايجاب الواجبات النفسية.
والثاني
: ان الاثر المترتب
على الواجب النفسي ، وان كان لازما عقلا كغايات
الواجب الغيري ،
إلّا ان ذا الاثر كالصلاة والصوم ونحوهما ، لمّا كان معنونا بعنوان حسن كامل
العيار بحيث يستقل العقل بمدح فاعله وبذم تاركه ، صار متعلقا للايجاب والتكليف بما
هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لاستيفاء امر مطلوب واقعا عقلا.
اما بخلاف الواجب
الغيري لتمحّض وجوبه في أنّ وجوبه لاجل الواجب النفسي ، فظهر الفرق بينهما من حيث
الملاك ، اذ ملاك الواجب النفسي ما كان وجوبه لاجل حسنه في حد ذاته سواء كان مع
ذلك مقدمة لواجب آخر كجلّ العباديات والتوصليات من الواجبات الشرعية أم لم يكن
مقدمة لواجب آخر كالمعرفة ، اي وجوبها. وملاك الواجب الغيري ما كان وجوبه لاجل حسن
غيره سواء كان في نفسه وذاته ايضا حسنا كالوضوء والغسل والتيمم أم لم يكن كذلك
كقطع الطريق مقدمة للحج.
فبالنتيجة إن
الحسن الذاتي للواجب النفسي دخيل في وجوبه ، والحسن الذاتي لبعض الواجب الغيري ليس
دخيلا في وجوبه الغيري. ولعل هذا مراد من فسرهما بما امر به لنفسه ، وما امر به
لاجل غيره.
فالمتحصل مما
ذكرنا انه لا يتوجه الاعتراض والإشكال بان جلّ الواجبات النفسية ، لو لا الكل ،
يلزم ان يكون من الواجبات الغيرية ، فان جلّها مطلوبات الشارع المقدس لاجل الغايات
الخارجة عن حقيقة الواجبات.
قوله
: فتأمل وهو اشارة
الى انه لا حسن ذاتي في بعض الواجبات النفسية ، كدفن المسلم ، فان وجوبه ليس لحسنه
في نفسه مع قطع النظر عن المصالح المترتبة عليه مثل احترامه وحفظه عن اكل السباع
وحفظ رائحته عن الانتشار.
وبالجملة فتفسير
الواجب النفسي بما امر به لاجل حسنه الذاتي غير وجيه كما لا يخفى على أولي النّهى.
قوله : ثم انه لا
اشكال فيما اذا علم احد القسمين واما اذا شك في واجب انه ... الخ فاذا علم من الدليل سواء كان الدليل نفس دليل الامر أم كان
خارجيا ـ في مقام الاثبات ـ أن الواجب نفسي كالصلاة اليومية ، او ان هذا الواجب
غيري كالطهارات
الثلاث ، فهو حسن
، لانه علم من نحو أقيموا الصلاة ان الصلاة واجب نفسي وكذا علم من نحو قوله تعالى
: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ان الوضوء واجب غيري لمكان تقييد وجوبه بالقيام الى
الصلاة. هذا مضافا الى الاجماع ، بل الضرورة على كون وجوبه غيريا. كما ان المستفاد
من نحو أقيموا الصلاة كون وجوب الصلاة نفسيا لمكان الاطلاق.
واما اذا لم يعلم
ان الواجب نفسي أم غيري ، فالتحقيق ان الهيئة التي يتبادر منها الطلب الحتمي ،
والحال انه مشترك بين ما كان لنفسه او لغيره موضوعة لمعنى يشمل الواجب النفسي
والواجب الغيري وهو البعث والتحريك نحو الفعل. الا إن اطلاقها يقتضي كونه نفسيا لا
غيريا ، كما تقدم الكلام في ذلك في المبحث السادس من بحوث صيغة الامر بعد بحث
الواجب التعبدي والواجب التوصلي ، فراجع هناك حتى ينكشف الحال.
ولكن الشيخ
الانصاري قدسسره ، حيث تكلّم في المقام من ناحية الشك في كون الواجب نفسيا
او غيريا مبسوطا ومشروحا ، فلذا اعاد المصنف قدسسره البحث فيه ثانيا ، وإلّا فقد مضى وقال انّ الواجب لو كان
شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم عزّ اسمه اذا كان في مقام البيان
، اذ الواجب الغيري كثير المئونة ، والواجب النفسي خفيف المئونة ، اذ هو يحتاج الى
تقييد الوجوب بوجوب غيره ، مثل اذا وجبت الصلاة فتوضأ ، بخلاف الواجب النفسي ،
وهذا واضح.
قوله
: واما ما قيل من
انه لا وجه للاستناد ... الخ فاستشكل المستشكل انه لا يمكن التمسك باطلاق الهيئة
اذ يكون وضعها كوضع الحروف ، فالموضوع له فيها جزئي ، فكذا يكون الموضوع له هيئة
الامر جزئيا ، والجزئي لا يكون مطلقا حتى يقيد ، بقيد فيكون الاطلاق منتفيا في
الهيئة ، فلا محل له ، اي للتمسك باطلاق الهيئة.
__________________
نعم ان كان
الموضوع له الهيئة مفهوم الطلب لا مصداق الطلب ولا فرد الطلب ، ففي هذا الفرض يمكن
تقييد الهيئة وتضييق دائرته ، لان مفهوم الطلب كلّي وكل كلّيّ قابل للتقييد ، فهذا
قابل للتقييد فلا بد ان لا يكون الموضوع له الهيئة مفهوم الطلب لوجهين :
الاول
: ان معنى الهيئة
يكون معنى حرفيا ، والمعنى الحرفي جزئي ، والجزئي غير قابل للتقييد ، فلا بد ان
يكون الموضوع له مصداق الطلب لا مفهوم الطلب ، اذ هو كلي.
والثاني
: انه لو كان معنى
الهيئة مفهوم الطلب للزم ان يكون المأمور به بواسطة انشاء مفهومه ، مطلوبا واقعيا.
والحال ان كونه
مطلوبا واقعيا يدور مدار ارادة المولى في الواقع. فان اراده كان مطلوبا وان المولى
لم ينشئ مفهوم المأمور به. وان لم يرده المولى فلا يكون المأمور به حينئذ مطلوبا
واقعيا ، وان انشاء مفهومه كما في الاوامر الامتحانية.
فالمطلوبية تدور
مدار الارادة ، اي ارادة فرد من مفهوم الطلب ، ولا تدور مدار انشاء مفهوم الطلب.
وعليه فاذا وضعت الهيئة لفرد الطلب ولمصداقه صحّ ان يقال ان الهيئة اذا تعلقت بشيء
كان هذا الشيء مطلوبا واقعيا.
هذا صحيح. واما
اذا وضعت الهيئة لمفهوم الطلب والارادة فلا بد ان يكون مفهوم الارادة الذي كان
متعلق الهيئة بمجرد انشاء مفهوم الارادة مطلوبا واقعيا.
والحال ان الشيء
لا يكون مرادا ومحبوبا بمحض انشاء مفهوم الطلب والارادة. وبعبارة اخرى : فلو وضعت
الهيئة لمفهوم الارادة فلا بد ان يكون الشيء مطلوبا ومحبوبا بمجرد تعلّق افعل ـ اي
صيغة الأمر ـ بهذا الشيء ، واللازم منتف فالملزوم مثله.
والحال انه لا
يكون الشيء مطلوبا ومحبوبا إلّا اذا تعلقت الارادة التي تكون في قلب المولى ،
وإلّا فلا يوجد الطلب الذي يكون فردا من افراد مفهوم الطلب والارادة ، فلازم
المقدّمتين المذكورتين الواضحتين ان هيئة (افعل) انما وضعت
لمصداق الارادة
ولفرد من الطلب لا لمفهوم الارادة والطلب. و (الفرد) جزئي خارجي وهو غير قابل
للتقييد ، اذ ليس له توسعة كي يتضيق بواسطة التقييد فلا يكون للهيئة اطلاق حتى
يتمسّك به عند الشك في نفسية الواجب وفي غيريته لرفع الشك.
فالمتحصّل ممّا
ذكرنا انه يتوقف كون الشيء مطلوبا على ارادته التي تكون في قلب المولى ، والارادة
تتعلق بالمصداق وبالفرد من الطلب لا بمفهوم الطلب والارادة ، وانه لا يعقل اتصاف
المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب ، فان الفعل والشيء يصيران مرادين بواسطة
تعلق واقع الارادة وحقيقة الطلب والارادة لا بواسطة مفهومها ، وإلّا لكان كل شيء
مرادا ومطلوبا يشهد الوجدان السليم بذلك فيتّصف الفعل بالمطلوبية بواسطة تعلق
الطلب الخارجي به.
جواب المصنف :
قوله
: ففيه ان مفاد الهيئة كما مرت الإشارة اليه ليس الافراد ... الخ.
اما
الوجه الاول : وهو ان معنى الهيئة من المعاني الحرفية النسبية والمعنى الحرفي جزئي غير قابل
للتقييد اذ ليس بمطلق ، والحال ان التقييد فرع الاطلاق والمطلق ، فقد مرّ سابقا
مرّتين ان الموضوع له حروف مثل الموضوع له اسماء الاجناس كلفظ (رجل وانسان).
وكالمشتقات ك (ضارب ومضروب وشريف) مثلا ، كلي بلا تفاوت بينهما من هذه الناحية ،
وانما التفاوت بينهما في كيفية الاستعمال ، حيث ان الاسماء تستعمل استقلاليا
والحروف تستعمل آليا ، ولملاحظة حال الغير وإلّا فلا تفاوت بينهما في الموضوع له ،
والمستعمل فيه لانهما كلّيان في الاسماء والحروف ، وهذا المطلب مثبت قبلا
بالبراهين والشواهد فالوجه الاول هذا لا يدل على ان مدلول الهيئة ليس بقابل
للتقييد كما لا يخفى.
توضيح
لا يخلو من فائدة : وهو انه كيف يكون معنى الهيئة من معاني الحروف النسبية لانه عبارة عن طلب
المبدإ ، وايجاده عن الفاعل المخاطب ، وهو يحتاج الى الهيئة الخاصة واللفظ الخاص ،
مثلا : طلب الضرب الذي هو مدلول الهيئة
يحتاج الى صيغة (اضرب)
، وطلب الاكرام عن الفاعل المخاطب يفتقر الى هيئة (اكرم) ، وهكذا نحوهما كالاشارة
والتكلم والخطاب والغيبة. فان الاول (الاشارة) : يحتاج الى لفظ هذا وهذه ونحوهما
من الفاظ الإشارة. والثاني (التكلم) : يفتقر الى لفظ (انا) و (نحن). والثالث (الخطاب)
: الى لفظ (انت) و (انت) ونحوهما والرابع (الغيبة) : مفتقر الى لفظ (هو) و (هي)
وامثالهما.
كما ان لفظ (من) و
(الى) و (في) و (على) و ... تحتاج الى ضم كلمة اخرى اليها كلفظ (البصرة) و (الكوفة)
و (الدار) و (السطح) وغيرها. فكل المعاني النسبية معاني الحروف في الاحتياج الى
لفظ آخر وكلمة اخرى ، فلذا تكون الهيئة ومعناها من المعاني الحرفية النسبية.
واما
الوجه الثاني : وهو ان متعلق صيغة الامر مطلوب المولى ، والمطلوبية تتوقف على الارادة
الواقعية وهي تتعلق بالفرد من الطلب وبمصداقه ، ولا تتوقف المطلوبية على انشاء
مفهوم الارادة ، فلا محالة ان تكون الهيئة موضوعة للإرادة الواقعية والطلب الواقعي
للمبدإ ، فحينئذ يكون معنى الهيئة جزئيا وهو لا يتوسع حتى تتضيق دائرته بالتقييد ،
والحال ان التقييد فرع الاطلاق ، فاذا كان التقييد ممكنا فهو لمكان الاطلاق ، اذ
التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل الملكة والعدم ، اي عدم الملكة ، وهذا خلاصة
الوجه الثاني.
واما
رده : اي الجواب عنه ،
فهو ان الطلب والارادة على قسمين :
الاول : حقيقي.
والثاني : انشائي. والنسبة بينهما عموم من وجه. اذ قد يكون الطلب الحقيقي في قلب
المولى ولكن لم ينشأ ، إما لفقد المقتضي له ، وإما لوجود المانع عنه ، وقد يكون
الطلب الانشائي موجودا ولكن ليس للمولى الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية في قلبه
وذهنه ، بل ربما يكون متعلق الامر مبغوضا عنده ، لكن أمره امتحانا ، كالامر بذبح
اسماعيل النبي عليهالسلام. وقد يكون كلاهما موجودين ، كالاوامر الجدّية.
وقد ذكر سابقا ان
الهيئة قد وضعت للطلب الانشائي لا للطلب الحقيقي الذي
هو طلب بالحمل
الشائع الصناعي ، الذي ملاكه الاتحاد مصداقا والتغاير مفهوما ، وهو صفة من الصفات
النفسانية وسببه أمور واقعية مثل تصوّرها وتصوّر فوائدها ، والتصديق بمنافعها.
ومن الواضح ان
الأمور الواقعية ليست قابلة للانشاء والايجاد ، لان الموجود بالانشاء أمور
اعتبارية وأمور انتزاعية ، مثل الزوجية والملكية والعتق وما شاكلها.
نعم قد تكون
الارادة الحقيقة للمولى باعثة الى انشاء ارادة الشيء المراد وانشاء طلبه. فالطلب
الانشائي الذي يكون موضوع له للهيئة غير الطلب الحقيقي الذي هو قائم بنفس المولى.
نعم يكون الشيء
الواحد متعلقا للارادة الحقيقة لكونه محبوبا عند المولى مثل (صلاة) و (صيام)
ونحوهما ، ومتعلقا للطلب الانشائي والارادة الانشائية بقوله (صلّ) و (صم) ، فما
ذكر في طيّ الإشكال ان متعلق الصيغة يكون مطلوبا مسلّم ، لكنه مطلوب بطلب إنشائي ،
وكونه مطلوبا بالطلب الحقيقي لا دخل له بمفاد الصيغة بل هو دائر مدار الواقع.
فاذا كان في قلب
المولى ارادته كالصلاة ونحوها كان مرادا ومطلوبا ، واذا لم تكن له ارادته بل كان
الانشاء لدواع أخر مثل التهديد والامتحان ، فلا يكون متعلق الصيغة مطلوبا واقعيا.
وبالجملة : فمعنى
الهيئة مفهوم الطلب الذي هو قابل للانشاء وقابل للتقييد والارادة الحقيقة التي لا
تقبل التقييد ليست معنى هيئة (افعل).
فتلخّص مما ذكرنا
ان مدلول الهيئة الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي الذي في قلب المولى ، والطلب
الانشائي كلّي ، وكلّ كلّي قابل للتقييد ، فهذا قابل للتقييد ، فيصح التمسك
باطلاقها اذا لم تقيد بقيد.
ولعل المستشكل
توهّم ان الهيئة وضعت للطلب الحقيقي الذي هو فرد وجزئي باعتبار وجوده في قلب
المولى فلا بد ان يقول بعدم امكان التمسك باطلاقها ، وهو فاسد لانك خبير ان هيئة
صيغة افعل قد وضعت لانشاء مفهوم الطلب
الذي لا دخل له
بالطلب الواقعي الحقيقي.
نعم يكون الطلب
الحقيقي الواقعي غالبا باعثا وداعيا الى انشاء مفهوم الطلب الانشائي ولاجل هذا
فاذا أنشأ المولى طلب الفعل ولم تكن قرينة على الامتحان والاختبار والتهديد
والتعجيز ونحوها ، فإن الطلب الانشائي يكشف عن الطلب الواقعي الحقيقي بالنسبة الى
متعلق الصيغة للغلبة وعدم ذكر القرينة في الكلام.
ولا يخفى ان حمل
الطلب على الطلب الحقيقي بالحمل الشائع الصناعي يكون من باب حمل الكلي على افراده
ومصاديقه مثل (زيد انسان).
قوله
: ولعمري هذا واضح انه
من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق قال المصنف قدسسره اني اقسم بروحى ان هذا القول يكون من باب اشتباه المفهوم
بالمصداق ، فان الطلب الحقيقي مصداق لمفهوم الطلب نحو زيد الذي يكون مصداق
الانسان.
كما وقع هذا
الاشتباه لكثير من الاصوليين في المواضع العديدة ، فعدم قابلية الطلب الحقيقي
للتقييد لا يوجب عدم قابلية مفهوم الطلب له الذي هو مفاد الهيئة وان سمّي في
الاصطلاح مفاد الهيئة بالطلب ، وذلك لكمال المباينة بين الطلبين ، اذ الاول مصداق
خارجي ووصف نفساني. والثاني مفهوم كلي قابل للتقييد. فلا يكون استلزام بينهما لا
ثبوتا ولا نفيا ، اذ قابلية مفهوم الطلب للتقييد لا تستلزم قابلية مصداق الطلب له
، اي للتقييد.
قوله
: كما مر هاهنا بعض الكلام وقد مرّ عند الردّ على دعوى الشيخ الانصاري قدسسره من امتناع رجوع القيد الى الهيئة بدعوى كون مفادها فردا من
الطلب الحقيقي ، والفرد مما لا يقبل التقييد ، فراجع هناك.
قوله
: وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والارادة ... الخ قد تقدم هناك ان الطلب والارادة موضوعان لمعنى واحد ، غير
ان جرم المعنى على صنفين : احدهما : حقيقي ثابت في النفس ، والآخر انشائي يحصل
بالصيغة. لكن لفظ الطلب اظهر في الثاني ، ولفظ الارادة اظهر في الاول ، مع كون كل
من لفظي الطلب والارادة حقيقة في كلا الصنفين.
لمّا فرغ المصنف قدسسره عن التمسك بالاصل اللفظي وهو اصالة الاطلاق ، شرع في مورد
التمسك بالاصل العملي فقال : ان هذا التمسك باصالة الاطلاق فيما اذا كان هناك
اطلاق بان تمّت مقدمات الحكمة ، واما فيما اذا لم يكن هناك اطلاق بان اختلّت احدى
مقدمات الحكمة ، كما اذا لم يكن المولى في مقام البيان ، او كان القدر المتيقن
موجودا في مقام التخاطب ، او كانت القرينة على التعيين موجودة ، فلا بد من الرجوع
الى الاصل العملي عند الشك في كون الواجب نفسيا او غيريا.
توضيح
: وهو انه اذا علم
المكلف بوجوب نصب السلّم ولكن شك في كونه واجبا لاجل الصعود على السطح او كونه
واجبا لنفسه ، وتارة : يعلم بعدم وجوب الصعود ، واخرى يعلم بوجوبه ، وثالثة يشك في
وجوبه اي وجوب الصعود على السطح.
ففي الاولى ، وهي
ان يعلم بعدم وجوب الصعود ، يرجع الى اصالة البراءة عن وجوب نصب السلم للعلم بعدم
وجوبه على فرض كون وجوبه غيريا ، اذ يعلم عدم وجوب ذي المقدمة الذي هو وجوب الصعود
على السطح فعلا ، او جاء الامر بالوضوء من جانب المولى ، ولكن لا نعلم ان الوضوء
واجب نفسي او واجب غيري يتوقف وجوبه على وجوب الصلاة ، ولكن لم يدخل وقت الصلاة
بعد ، او اصل الصلاة ليس واجبا لى المكلف بسبب الحيض او النفاس ، فلا محالة يحصل
الشك في وجوب الوضوء ، أهو نفسي أم غيري ، شكا بدويا. فمقتضى حكم العقل براءة من
وجوبه ، مضافا الى اصالة عدم وجوب نفسيته ، فمع احتمال المذكور يكون التكليف
بالوضوء مشكوكا.
وفي الثانية ، انه
يعلم بوجوب الصعود فعلا ، يجب على المكلف نصب السلم بلا شبهة. مثلا : اذا ثبت وجوب
الغير ـ اي ذي المقدمة اذ هو غير المقدمة ـ الذي يكون المشكوك من مقدماته بالضرورة
او بالاجماع او بالدليل الاجتهادي كالآية القرآنية او كالرواية ، فلا شك ان هذا
المشكوك واجب فعلا ، لانه ان كان وجوبه غيريا فيجب الإتيان به ، اذ وجوب الغير وذي
المقدمة فعلي ، فلا محالة يكون
الوضوء واجبا فعلا
إما نفسيا وإما غيريا وان كنا لا نعلم مفصلا ، لانه بعد العلم بوجوب الوضوء إما
نفسيا وإما غيريا فالعقل يحرك المكلف على فعله.
وفي الثالثة ، وهي
ان يشك في وجوب الصعود ، تجري البراءة عن وجوب نصب السلم كالصورة الاولى ، اذ الشك
في وجوب ذي المقدمة يوجب الشك في وجوب المقدمة ، والحال اننا احتملنا أن وجوب نصب
السلم يكون غيري ، هذا مضافا الى اصالة عدم وجوب نفسيته كما لا يخفى.
استحقاق الثواب
على بعض المقدمات :
قوله
: تذنيبان : الاول : لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي وموافقته
... الخ وفي التذنيب
الاول مسألتان :
الاولى
: انه لا ريب في
استحقاق الثواب على فعل الواجب النفسي وفي استحقاق العقاب على تركه وعصيانه. اذ في
فعله يحصل القرب من المولى ، وفي تركه يحصل البعد عن المولى. والحال ان الملاك في
الثواب والعقاب بحكم العقل يكون في القرب والبعد.
والثانية
: انه لا اشكال في
عدم استحقاق الثواب على فعل الواجب الغيري بما هو غيري لا بما هو شروع في امتثال
الواجب النفسي ، كما انه لا اشكال في عدم استحقاق العقاب على تركه بما هو واجب
غيري لا بما هو علّة لترك الواجب النفسي اذ ملاك الثواب والعقاب يكون في القرب والبعد
ويكونان من لوازمهما وآثارهما.
فالواجب النفسي
يكون سببا للقرب ، اي فعل الواجب النفسي كفعل الصلاة مثلا ، يكون سببا للقرب من
المولى ، اذ هو محصّل لغرضه ومطلوبه وتركه علّة للبعد عنه اذ هو مفوّت لغرضه. واما
فعل الواجب الغيري فليس سببا للقرب به ، اذ هو ليس بمحصّل لغرضه ومطلوبه اذ مطلوبه
من تشريعه فعل ذي المقدمة لا فعل المقدمة بما هي ، كما ان تركه لا يكون علّة للبعد
عنه اذ هو مقصود تبعي طفيلى لا المقصود الاصلي ، فليس تركه بما هو غيري مفوّتا
لغرض المولى كي يكون تركه
سببا للبعد عنه
وهو ظاهر كما لا يخفى.
لكن استدل المصنف قدسسره على هذا المطلب بعد ما استشكل فيه بضرورة العقل ، اي
بضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق الا لعقاب واحد او لثواب واحد فيما لو خالف
المكلف الواجب ، وترك كل مقدماته ولم يأت بواحدة منها على كثرتها مثل ترك الصلاة
وترك جميع مقدماتها من الطهارة والستر والاستقبال و ... فهو يستحق عقابا واحدا.
او فيما وافقه
وأتى بالواجب مع جميع مقدماته الكثيرة نحو فعل الصلاة مع فعل تمام مقدماتها فهو
يستحق ثوابا واحدا.
نعم لا بأس
باستحقاق العقوبة على المخالفة للواجب عند ترك المقدمة لأن ترك المقدمة يؤدي الى
بطلان الواجب ، فكأنه قد ترك الواجب ، فالعقاب على تركه عند تركها ولا يكون العقاب
على ترك الواجب الغيري.
لمّا نفى المصنف قدسسره فيما سبق استحقاق العقاب على مخالفة الواجب الغيري بحيث
يكون العقاب لاجل مخالفته لا لمخالفة الواجب النفسي استدرك ودفع التوهم الناشى من
السابق بقوله : «نعم لا بأس بان مخالفة الواجب الغيري وان لم تكن علة لاستحقاق
العقوبة لكن استحقاقها على مخالفة الواجب النفسي فاستحقاق العقوبة على الواجب
النفسي يكون من زمان مخالفة الامر الغيري». مثلا : اذا دخل وقت الصلاة وترك المكلف
الوضوء بقصد ترك الصلاة فهو يستحق العقاب من حين ترك الوضوء اذ يكون بقصد ترك
الواجب النفسي وهو الصلاة ، فالعقوبة على عصيان الامر النفسي لا على عصيان الامر
الغيري ، غاية الامر من حين عصيان الواجب الغيري.
كما انه لا اشكال
بزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى المكلف بالمقدمات بما هي مقدمات للواجب ،
اي أتى بها بقصد التوصل الى الواجب وبقصد القربة الى المولى وتكون زيادة الثواب
لأن الواجب يصير حينئذ من افضل الاعمال ، والافضل يليق بزيادة الثواب لانه يصير
أشقّ الاعمال ، وكل أشقّ الاعمال افضلها ، فهذا
افضلها ، وكل افضل
الاعمال ذو ثواب عظيم ، فهذا ذو ثواب عظيم فالثواب يكون على موافقة الامر النفسي
الذي هو أشقّ وافضل لا على اطاعة الامر الغيري بما هو غيري مقدمي.
فتلخّص مما ذكرنا
انه لا ثواب على اطاعة الامر الغيري بما هو غيري ، كما انه لا عقاب على عصيانه بما
هو غيري. نعم تكون اطاعته بقصد التوصل الى ذي المقدمة وبقصد مقدميته للواجب النفسي
موجبا لزيادة الثواب في الواجب النفسي من حيث كونه أحمز واشقّ كما ورد في الخبر (افضل
الاعمال احمزها) لبداهة ان موافقة الامر الغيري بما هو غيري لا بما هو شروع بواسطة
الفعل الغيري في امتثال الامر النفسي لا يوجب قربا بالمولى لعدم استيفائه بغرض
المولى ، ولا يوجب عصيانه بما هو غيري لا بما هو سبب لترك الواجب بعدا عن المولى ،
والحال ان المثوبة والعقوبة انما تكونان من توابع القرب والبعد بالمولى وعن
المولى.
فان قيل : انه اذا
لم يكن الثواب على موافقة الامر الغيري ولا عقاب على عصيانه فكيف ورد في لسان
الاخبار ثواب عظيم على فعل بعض المقدمات وعلى اتيان الواجب الغيري كما ورد في
الاخبار ان في زيارة مولانا الحسين عليهالسلام من انه لكل قدم ثواب عتق من اولاد اسماعيل النبي عليهالسلام كما في رواية ابى سعيد القاضي وكما ورد في الاخبار في زيارة امير المؤمنين علي عليهالسلام : «من زار امير المؤمنين عليهالسلام ماشيا كتب الله له بكل خطوة ثواب حجة وعمرة فاذا رجع ماشيا
كتب الله له بكل خطوة ثواب عمرتين وحجتين» كما في رواية الحسن بن اسماعيل الصيمري
عن ابي عبد الله الصادق عليهالسلام وغيرهما من الروايات.
قلنا
: ان الروايات
الظاهرة في ترتب الثواب على المقدمة اما محمولة على التفضل لا على الاستحقاق ، او
على توزيع ثواب ذي المقدمة على المقدمة ، لان المقدمات مهما كثرت ازداد ثواب ذي
المقدمة لصيرورته حينئذ من افضل الاعمال
__________________
حيث صار اشقها
واحمزها و (افضل الاعمال احمزها) كما في الخبر.
اشكال الأمر
الغيري ودفعه :
قوله
: اشكال ودفع اما الاول فهو انه اذا كان الامر الغيري بما هو لا اطاعة له ... الخ وفي هذا المقام اشكالان :
الاول
: ان الواجب الغيري
، على ما تقدم آنفا ، مما لا يترتب على موافقته ثواب ولا على عصيانه عقاب ، بخلاف
الواجب النفسي اذ ليس في امتثاله ، بما هو غيري لا بما هو شروع في امتثال الامر
النفسي اي بقصد التوصل بامتثاله الى امتثاله ، قرب. وليس في عصيانه ، بما هو غيري
لا بقصد ترك امتثال الغيري قصد ترك امتثال النفسي ، بعد عن المولى.
وعلى هذا يشكل
الامر في الطهارات الثلاث لانها عبادات اجماعا ، والعبادات مما يترتب عليها الثواب
، فان الاخبار في ترتب الثواب عليها قريبة بالتواتر ، والحال ان اوامرها غيرية.
ومنها : خبر احمد بن اسحاق عن ابي عبد الله الصادق عليهالسلام قال : «الطهر على الطهر عشر حسنات». ومنها : خبر سماعة بن
مهران عن ابي الحسن موسى عليهالسلام قال : «من توضأ للمغرب كان وضوؤه كفارة لما مضى من ذنوبه
في ليلته ما خلا الكبائر» وهكذا في الغسل والتيمم.
ففي اتيان الوضوء
قرب بالمولى ، والحال انه لا سبيل الى دفع الإشكال بما مرّ سابقا من احتمال التفضل
او من احتمال التوزيع ، اذ لسان اخبار الباب يأبى عن ذلك لانها صريحة على ترتب
الثواب على فعل الوضوء وكذا على فعل الغسل والتيمم.
والثاني
: ان امر الواجب
الغيري امر توصلي وليس الغرض منه الا التوصل بامتثاله الى امتثال الامر النفسي
كسائر الواجبات التوصلية. والحال انه يحصل غرض المولى منها بمجرد الإتيان بالواجب
التوصلي سواء أتي بقصد القربة او بلا
__________________
قصد القربة ، وان
كان قصد القربة شرط الثواب ، وشرط الكمال فيه لا شرط الصحة كما لو ركب المستطيع
الدابة المغصوبة وسار الى مكة المكرمة وأدّى الحج فقد أجزأ وكفى ، وان عصى في
الغصب ، فكذا فيها. والحال انه لا يكتفى بها ان أتيت بلا قصد القربة.
وعليه فكيف يعتبر
في الطهارات الثلاث قصد القربة اجماعا مع انها واجبات غيرية ، وكل الواجبات
الغيرية واجبات توصلية ، وهذه واجبات توصلية وكل الواجبات التوصلية لا يشترط فيها
قصد القربة. فالطهارات الثلاث لا يشترط فيها قصد القربة. هذا خلاصة الإشكالين
الواردين في هذا المقام.
فاجاب المصنف قدسسره عن الإشكالين بان كون الشيء عبادة على نحوين : تارة تكون
عبادية الشيء بملاحظة تعلق الامر النفسي التعبدي به مثل الواجبات العبادية كالصلاة
والصوم والجهاد ونحوها.
واخرى : تكون
بملاحظة مصلحة ذاتيّة ورجحان ذاتيّ ، وذلك كالطهارات الثلاث. فالشيء يكون عبادة
بلحاظ الرجحان الذاتي الثابت في هذا الشيء وان لم يكن له أمر فعلا ، مثل الصلاة في
الدار المغصوبة جهلا او نسيانا ، فهي عبادة لرجحانها ، وان لم يكن لها امر فعلي في
هذا الحال. او مثل الصلاة في حالة التزاحم مع الواجب الاهم كالازالة ، فاذا فعلها
المكلف في هذه الحالة فهي عبادة موجبة للقرب للرجحان الذاتي الثابت فيها ، وان لم
يكن لها أمر بالفعل لاجل المزاحمة مع الواجب الاهم. بل الواجبات الشرعية باسرها
تكون عبادات لاجل مصلحتها الذاتية ورجحانها الذاتي.
اذا علم هذا فإنّ
الطهارات الثلاث ، من الوضوء والغسل والتيمم ، عبادة لا بملاحظة الامر الغيري بل
بلحاظ رجحان ذاتيها ومصلحتها الذاتية ، ويكون اشتراط قصد القربة فيها لاجل مصلحتها
ورجحانها ، كما ان حصول الثواب والقرب بها لاجل الرجحان النفسي الثابت فيها.
فهذه الافعال والطهارات
الثلاث ، مع هذا الوصف العالي ، تكون مقدمة لعبادة
اخرى. فلو كانت
عباديتها وقصد القربة وحصول الثواب والقرب بلحاظ امرها الغيري بما هو غيري
فللاشكال المذكور مجال واسع. واما اذا كانت الأمور المذكورة لاجل رجحانها النفسي
ومصلحتها الذاتية كسائر العبادات فلا يبقى مجال للاشكال المذكور لانه لا فرق حينئذ
بينها وبين سائر العبادات كما لا يخفى.
المقدمة العبادية
:
قوله
: والاكتفاء بقصد امرها الغيري فانما هو لاجل انه يدعو الى ما هو كذلك ... الخ فاعترض في هذا المقام ان الموجب لعبادية هذه المقدمات لو
كان رجحانها الذاتي لا الامر الغيري بما هو غيري كما ذكر سابقا فلا وجه للاكتفاء
بها بقصد الامر الغيري. والحال انه يكتفى به اجماعا. مثلا : اذا أتي المكلف
بالوضوء بقصد امتثال امره الغيري فيكتفى به وتترتب عليه فوائده من الثواب والقرب
والنور ، اذ الوضوء نور كما ، ان الوضوء على الوضوء نور على نور ، كما في الرواية.
توضيح
: دفع المصنف قدسسره ان قصد الامر الغيري لا يكون محرّكا على ذات العمل الذي هو
الوضوء ، وليس قصد الامر الغيري موجبا لعبادية العمل ، بل الباعث الى العمل هو
اطاعة الامر النفسي الاستحبابي ، ولذا تجوز الصلاة بالوضوء الذي أتى به المكلف قبل
دخول وقت الصلاة ، لان الامر الغيري يتعلق بما هو مقدمة ، والمقدمة من هذه الافعال
ما كان في نفسه عبادة.
فالعبادية في
الطهارات الثلاث مفروضة في رتبة سابقة على الامر الغيري وليست العبادية فيها حاصلة
من قبل الامر الغيري حتى يكون هو المقصود لذات العمل ولفعل الوضوء والغسل والتيمم
، بل المقصود من الاتيان بالعمل على النحو العبادي هو اطاعة امره النفسي
الاستحبابي.
ولذا يستحب الكون
على الطهارة دائما ، ولذا ورد في الشريعة المقدّسة استحباب الوضوء قبل النوم ، وما
هذا إلّا لاستحبابه نفسيا.
وان أشكل على المصنف
قدسسره بان هذا الدفع لا يتمّ في التيمم لعدم استحبابه
النفسي لفقد
الدليل عليه.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى
دعوى ان التيمم مما لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيا مما لا وجه لها. اذ لو لم
يكن دليل عليه سوى قوله عليهالسلام : «التراب احد الطهورين» و (يكفيك عشر سنين) لكفى ذلك من
حيث الدليلية.
او اشارة الى ان
قول المصنف قدسسره يقتضي نية الندب وقصد الاستحباب النفسي بعد دخول الوقت كما
قبله ، مع ان المعروف بين الاعلام نية الوجوب بعد دخول الوقت. ولذا قال العلامة قدسسره في جملة من كتبه بلزوم الاستئناف لو دخل الوقت في الاثناء.
يعني اذا اتى المكلف بالوضوء بنية الندب والاستحباب النفسي قبل دخول الوقت ، وفي
الاثناء قبل الفراغ دخل الوقت لزم الاستئناف اي استئناف الوضوء بنية الوجوب.
دفع الإشكال في
المقدمات العبادية :
قوله
: وقد تقصّي عن الإشكال بوجهين ... الخ قال المصنف قدسسره وقد اجيب عن الإشكال المذكور بجوابين آخرين :
احدهما
: ان هذه الافعال
والمقدمات العبادية ليست بذواتها مقدمة للواجب ، بل تكون مقدمة بملاحظة عنوانها
الواقعي الذي فيها في الواقع ، فالوضوء بما هو وضوء ليس مقدمة للصلاة ، وكذا الغسل
والتيمم بما هما غسل وتيمم ليسا مقدمة ، بل بما لها من العنوان الخاص مقدمة. وحيث
ان المكلف لا يعلم بحصول ذاك العنوان بمجرد فعل المقدمات فلا بد من قصد المكلف
العنوان الواقعي في حين فعل المقدمات من الوضوء والغسل والتيمم. والحال انه لا
طريق للمكلف الى قصد العنوان إلا بقصد الأمر الغيري ، ليكون قصده قصدا للعنوان
المأمور به بالامر الغيري ، وهو المقدمات الثلاث.
فبالنتيجة : انّ
قصد الامر الغيري في حين فعلها لاجل تحصيل عنوانها الواقعي الذي جعلت الطهارات
الثلاث مقدمة لاجله ، لا يكون قصد الامر الغيري
لاجل عباديتها كي
يرد الإشكال المذكور.
المقدمات العبادية
:
قوله
: وفيه مضافا الى ان ذلك لا يقتضي الإتيان ... الخ يعني ان قصد العنوان الخاص الثابت في الطهارات الثلاث في
الواقع لا يتوقف على قصد امرها الغيري بنحو يوجب عبادية الفعل والعمل ، بل يمكن
قصد العنوان بطريق آخر مثل ان يكون قصد العنوان بواسطة قصد الامر الغيري وصفا ،
بان يقصد المكلف فعل عنوان الواجب بالوجوب الغيري.
وبعبارة اخرى :
وهي ان قصد العنوان الخاص الملحوظ في الطهارات الثلاث ، وقد جعلت مقدمة لاجل هذا
العنوان ، كما يمكن بقصد امرها الغيري وبهذا القصد يشير المكلف الى العنوان الخاص
الواقعي ، كذلك يمكن ان يشير المكلف اليه ، اي الى العنوان الخاص المأخوذ فيها
بقصد الامر وصفا بان كان الاصل الداعي لاتيان الوضوء شيئا آخر غير قربي ، فيقول
المكلف اني افعل الوضوء الواجب بسبب العنوان الخاص أو لاجل التبريد أو التنظيف
ونحوهما من الدواعى النفسانية ، فيكون قصد الوجوب حينئذ بنحو التوصيف مشيرا الى
العنوان الخاص المأخوذ في الطهارات الثلاث بمثل قصد الوجوب غاية ، كما اذا قال
المكلف اني افعل الوضوء لوجوبه شرعا.
فظهر مما مرّ آنفا
انه يمكن قصد العنوان الواقعي الذي لوحظ في المقدمات بسبب قصد وجوبها توصيفا وبقصد
وجوبها غاية ، وان كان قصد الوجوب على نحو التوصيف اظهر واقوى في الإشارة الى
العنوان الخاص الواقعي الملحوظ فيها من قصد الوجوب غاية.
والحال ان الوضوء
، ما دام لم يفعل بداعي امر نفسه ، باطل اجماعا.
فبالنتيجة : فقد
علم أن قصد إتيان المقدمات بداعي امرها الغيري يكون لاجل تعيين العنوان الخاص
المأخوذ فيها ، ينحصر طريق تعينه بقصد الامر الغيري ، بل
يكون الوجوب
التوصيفى والوجوب الغائي عنوانين مشيرين الى ذاك العنوان الخاص.
هذا ، مع ان هذا
الوجه مصحّح لقصد القربة لقصد الامر الغيري ، فهذا الإشكال مندفع. اما اشكال حصول
الثواب على إطاعة الامر الغيري فهو باق على حاله.
والحال ان حصول
الثواب في امتثال اوامرها واطاعتها يكون من المسلّمات عند الجميع. بل يبقى الإشكال
الاول ايضا على حاله وهو تصحيح قصد القربة في اتيانها مع ان اوامرها غيرية ، اللهم
إلّا ان يقال من جانب المجيب ان قصد الامر الغيري بما هو مشير الى العنوان الخاص
موجب للقرب لا بما هو امر غيري.
الجواب الثاني عن
الإشكال :
قوله
: ثانيهما : ما محصله ان لزوم ... الخ فاجيب عن الإشكال ثانيا بانه ليست عبادية هذه الافعال
بملاحظة اوامرها الغيرية بل بلحاظ الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة كالامر الذي
يتعلق بالصلاة والطواف ، لان الامر النفسي يكون على نحو وعلى طريق لا يحصل الغرض
منه إلّا اذا فعلت مقدماته على وجه القربى وعلى قصد القربة.
مثلا : لا يحصل
غرض المولى من فعل الصلاة والطواف إلّا اذا فعل المكلف الوضوء بقصد القربة وعلى
وجه القربى. فبملاحظة الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة لزم اتيان المقدمات من مثل
الوضوء والغسل والتيمم على وجه القربى لا بلحاظ اوامرها الغيرية.
فالغرض من الغايات
كالصلاة ونحوها لا يحصل إلّا باتيان المقدمات بقصد القربة فالعمدة هي الغايات ولذا
قيل : (خذوا الغايات واتركوا المبادئ).
قوله
: وفيه انه غير واف بدفع الإشكال ... الخ لان هذا الجواب الثاني مثل الجواب الاول من حيث ان هذا لا
بدفع اشكال حصول الثواب في اطاعة اوامرها الغيرية ، والحال انه لا يترتب الثواب
على امتثال الامر الغيري لعدم وفائه بغرض
المولى كالوضوء
بلا صلاة وبلا طواف.
اللهم إلّا ان
يقال ان الامر النفسي متعلق بذي المقدمة ، وان الغرض الخاص الثابت في ذي المقدمة
يوجب كون المقدمة عبادة ويصيّرها عبادية.
فاذا صح قصد
القربة في فعلها وان لم يكن لها الامر النفسي التعبدي ، ففيه ما فيه من الإشكال ،
اذ الشيء ما دام لم يكن له امر نفسي تعبّدي فليس فيه قصد القربة ولا يصح حصول
الثواب بفعله.
نعم بملاحظة
الشروع في امتثال الامر النفسي من حين الشروع في امتثال الامر الغيري ، يعني كأنّ
المكلف من حين الوضوء شرع في امتثال الامر الصلاتي ، فلا يبعد حينئذ القول بحصول
الثواب على فعل الوضوء. ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام. فالجوابان مردودان غير
وافيين بدفع الإشكال.
الجواب الثالث عن
الإشكال :
قوله
: واما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد القربة والاطاعة في العبادات ... الخ واجيب ثالثا عن الإشكال الوارد في اشتراط قصد القربة في
الوضوء وامثاله وفي حصول الثواب على فعله ، بانه قد يكون الشيء بنفسه مقدمة للغير
مثل قطع الطريق مقدمة للحج ونصب السلم مقدمة للصعود على السطح ، وقد يكون الشيء
المأتي به بداعى وجوبه الغيري مقدمة لواجب آخر لا ذات الشيء بما هو وبذاته وذلك
كالطهارات الثلاث ، ففي مثل هذه الصورة الثانية لا بد للمولى من ان يأمر اولا بذات
الشيء أمرا من سنخ الامر الغيري ومن سنخ الطلب الغيري ، ثم يأمر بذي المقدمة
فيترشح منه الوجوب الغيري الى ما هو المقدمة التي هي الإتيان بها بداعي وجوبها
الغيري.
وعليه فاعتبار قصد
القربة في الطهارات الثلاث يكون من هذه الجهة ، اي من جهة انها جعلت مقدمة من حيث
انها فعلت بداعي وجوبها الغيري لا من حيث فواتها بما هى جعلت مقدمة ، فاعتبار قصد
القربة لا يكون من جهة اقتضاء الامر
الغيري بما هو
غيري.
اعتراض المصنف على
الجواب :
فاجاب المصنف قدسسره ان ذات الشيء اذا لم تكن مقدمة ، يعني ، ان ذوات الطهارات
الثلاث ، بلا اعتبار قصد القربة ، اذا لم تكن مقدمة للصلاة والطواف ، بل كانت
مقدمة بشرط اتيانها بداعي وجوبها الغيري ومع قصد القربة ، فلا يكاد يترشح الى
الطهارات الأمر الغيري من ذي المقدمة ، فمن اين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري
يتعلق بذاته ليتمكن المكلف بوسيلة هذا الامر الغيري من الإتيان بما هو مقدمة؟ اي
من الإتيان بالشيء بداعي وجوبه الغيري. اذ الغرض من الطهارات بالعنوان الخاص ، ومع
الإتيان بقصد القربة جعلت مقدمة لذيها لا ذواتها من حيث هي هي على الفرض.
هذا ، مع ان في
الالتزام بتعدد الامر في الطهارات ما اوردناه سابقا على الالتزام بتعدد الامر في
العبادات في بحث (التعبدي والتوصلي) من ان الامر الاول المتعلق بذات العمل ان كان
توصليا يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه ، سواء كان مع قصد القربة أم كان بلا قصد
القربة ، فلا يبقى مجال لموافقة الامر الثاني وذلك لسقوط الاول الذي هو موضوع
الامر الثاني. وان كان تعبديا لا يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه بلا قصد الامر وبلا
قصد القربة. فلا وجه لعدم سقوطه الا عدم حصول غرض المولى منه. ومع عدم حصوله يستقل
العقل باتيانه على نحو يحصل غرض المولى من الامر الاول من باب ان الاشتغال اليقيني
يقتضي الفراغ اليقيني ، فلا حاجة حينئذ الى الامر الثاني ، بل يكون لغوا كما لا
يخفى فتذكّر.
لا يعتبر قصد
التوصل في الطهارات الثلاث :
قوله
: الثاني انه قد انقدح مما هو التحقيق ... الخ لمّا فرغ المصنف قدسسره عن التذنيب الاول شرع في التذييل الثاني وقال : ان عبادية
الطهارات انما تكون بملاحظة
رجحانها الذاتي
واستحبابها النفسي لا بملاحظة امرها الغيري وان مقدميتها لاجل كونها عبادة ولا
تكون مقدميتها لذواتها بما هي.
اذا علم هذا
المطلب فلا يشترط في صحتها في مقام الامتثال ، وفي عباديتها قصد التوصل بذي المقدمة.
مثلا : لا يلزم في مقام الإتيان بالوضوء ان يقصد المكلف الوضوء الذي يكون مقدمة
للصلاة او القراءة او الزيارة ، بل يصح فعل الوضوء متقربا الى الله تعالى وان كان
المكلف غافلا في حين اتيان الوضوء عن ذي المقدمة ، اذ هو راجح في نفسه وعبادة في
ذاته ، فلا يحتاج الى قصد التوصل الى غيره وهو ذو المقدمة مثل نفس الصلاة التي
تكون عبادة نفسية لا تحتاج الى قصد التوصل الى غيرها.
فحال الوضوء على
هذا المبنى كحال الصلاة وسائر الواجبات العبادية ، وكذلك الغسل والتيمم. نعم لو
قلنا بان عبادية الطهارات تكون لاجل امرها الغيري لا لكونها ذات مصلحة ذاتية فلا
بد حينئذ من قصد التوصل الى ذي المقدمة ، اذ معنى امتثال الامر الغيري يكون بمعنى
قصد التوصل الى الواجب النفسي ، مثلا : يقصد المكلف اني افعل الوضوء الذي هو مقدمة
للصلاة للتوصل اليها.
وبالجملة
: اذا قلنا بان
الطهارات الثلاث عبادة بنفسها فلا يحتاج في مقام الامتثال لا الى التوصل بذي
المقدمة ، ولا الى قصد امرها الغيري. وان قلنا ان عباديتها تكون بملاحظة امرها
الغيري ، وليست بنفسها عبادة وذات مصلحة ، فلا بد ، بناء على هذا المبنى ، ان يقصد
التوصل الى الغير كي تتحقق عباديتها. فظهر ان قول المشهور اشتراط قصد الغاية ،
وانه يشترط قصد الغاية في امتثال امر الوضوء والغسل والتيمم يكون بهذا اللحاظ ـ اي
بلحاظ امرها الغيري ـ ولا يكون اشتراط قصد الغاية من اجل أن المقدمة بعنوان
المقدمة مأمور بها لا بعنوان ذواتها تكون مقدمة وموقوفا عليها.
مثلا : الوضوء بما
هو مقدمة مأمور به بالامر الغيري لا بما هو وضوء ، فاذا كان الوضوء مأمورا به
بالامر الغيري بعنوان المقدمية فلا بد في مقام الامتثال من
قصد عنوان
المقدمية حتى يمتثل المأمور به وحتى يتحقق.
والحال ان قصد
عنوان المقدمية يتوقف على قصد غايتها ، وهي الصلاة ، ويتوقف على قصد التوصل الى
الغير. فقصد التوصل الى الغاية يكون لاجل تحصيل عنوان المأمور به الذي هو عنوان
المقدمية. ولكن هذا التوجيه لعبادية الطهارات غير متين ، لان سبب قصد التوصل لو
كان شرطا في مقام الامتثال لكان لاجل الامر الغيري وليس لاجل عنوان مقدميتها ، اذ
المأمور به بالامر الغيري هو نفس الوضوء بما هو هو ، لان الصلاة تتوقف على نفس
الوضوء لا على الوضوء بما هو مقدمة وبوصف المقدمية.
فوصف المقدمية لا
مدخل له في الموقوف عليه ، بل المقدمة تكون الوضوء الذي هو مقدمة بالحمل الشائع
الصناعي المواطئي ، فيقال ان الوضوء مقدمة وان كان عنوان المقدمية يحمل على الوضوء
بالحمل الشائع الصناعي ولكن ليس عنوان المقدمية موقوفا عليه ، بل انما كانت
المقدمة نفس المعنونات بعناوينها الاوّلية.
يعني نفس الوضوء
ونفس الغسل ونفس التيمم بما هو وضوء وغسل وتيمم مقدمة وموقوف عليه لا بعناوين
المقدمة التي هي عناوين ثانوية ، لها فنفس عنوان المقدمية خارج عن المأمور به ،
فقصده ليس بلازم في مقام الامتثال حتى يقال ان قصد عنوان المقدمية لا يتمّ إلّا
بقصد غاياتها وبقصد التوصل اليها.
نعم عنوان
المقدمية يكون جهة تعليلية وهي خارجة عن المأمور به ، اذ هي سبب وجوبها. والحال ان
السبب خارج عن حقيقة المسبب ، فاعتبار قصد الغايات واعتبار قصد الامر الغيري انما
يكونان لاجل عباديتها في حد ذاتها بالامر الغيري لا من جهة عنوان مقدميتها ، وبناء
على مصلحتها الذاتية ورجحانها الذاتي ليس بلازم ، فلو قصد الغاية والتوصل بناء على
كون الوضوء عبادة بنفسه لكان هذا القصد مرآة وطريقا الى المصلحة الذاتية التي تكون
للمقدمة فالوضوء والغسل صحيحان.
توضيحان
: الاول : ان الفرق بين
الوجه الذي قال به المصنف اعلى الله تعالى مقامه وبين الوجهين الذين قال بهما
الشيخ الانصاري قدسسره ظاهر. لان الوجه الاول
ناظر الى منشإ
العبادية في الطهارات الثلاث وهو الامر النفسي الندبي الاستحبابي ، مع قطع النظر
عن امرها الغيري ، اذ الوضوء مستحب نفسي وواجب غيري وكذا الغسل والتيمم.
ولان الوجه الثاني
، ناظر الى ان منبع العبادية فيها رجحان ذاتيها ، ولكن قصد الامر الغيري في مقام
الامتثال يكون عنوانا مشيرا الى ذاك الرجحان الذاتي ، حيث لا طريق لتعيينه للمكلف
إلّا بسبب قصد الامر الغيري العبادي المتعلق بها.
ولان الثالث ناظر
الى كون الغرض المترتب على ذي المقدمة لا يحصل إلّا باتيان مقدماته على وجه القربى
، ولكنّ هذين الأخيرين مردودان عند المصنف قدسسره كما علم آنفا.
والثاني
: ان للوضوء عناوين
ثلاثة :
الاول : عنوانه
الاوّلي هو غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين.
الثاني : عنوانه
الثانوي وهو الوضوء.
الثالث : عنوانه
الثالثي وهو المقدمية للعبادات التي تشترط فيها الطهارة كالصلاة والطواف.
فالعنوان الاوّلي
متعلق للامر الغيري في الآية الشريفة وهي قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فلا يكون متعلق الامر الغيري عنوان المقدمية بل متعلقه
يكون نفس الغسل الذي هو مقدمة بالحمل الشائع الصناعى المواطئي فعلم من هذا ان
عنوان المقدمية لا يكون مأمورا به نعم يكون جهة تعليلية لوجوب الغسل.
تبعية المقدمة
لذيها في الاطلاق والاشتراط :
قوله
: الامر الرابع لا شبهة في ان وجوب المقدمة بناء على الملازمة ... الخ والغرض من عقد الامر الرابع من الأمور التي ينبغي رسمها
قبل المقصود هو التنبيه على مذهب صاحب (المعالم) وعلى مذهب الشيخ الانصاري وعلى
قول صاحب
(الفصول) قدسسره.
اما
مختار الاول : (صاحب المعالم)
فهو القول بوجوب المقدمة في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، فوجوب
المقدمة عند صاحب (المعالم) قدسسره منوط بارادة المكلف فعل ذي المقدمة ، وان كان وجوب ذي
المقدمة مطلقا.
واما
مختار الثاني : (الشيخ الانصاري)
فان الواجب هو المقدمة المقصود بها التوصل الى ذيها فاذا أتى المكلف بها ولم يقصد
بها التوصل فلا تقع على صفة الوجوب أصلا. والفرق بين مختار الاول وبين مختار
الثاني ان قصد التوصل الى الواجب على الاول شرط لوجوب المقدمة ، وان قصد التوصل
على الثاني شرط للواجب الغيري المقدمي.
واما
مختار الثالث : (صاحب الفصول) فهو
القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة اي ان الواجب خصوص المقدمة التي يترتب عليها
وجود ذي المقدمة ويتوصل بوسيلتها الى ذي المقدمة ، واما اذا لم يترتب عليها ذو
المقدمة فلا تقع على صفة الوجوب أبدا.
واما الفرق بين
مختار الثالث ، وبين مختار الثاني ان النسبة بينهما عموم من وجه ، فقد تكون
المقدمة مما قصد به التوصل الى ذي المقدمة في مقام الامتثال ، ولكن لا تكون موصلة
اليه ، لفقد المقتضي ، او لوجود المانع عن وجود ذي المقدمة في الخارج ، او لعزم
المكلف بعد فعل المقدمة على عصيان امتثال امر ذي المقدمة بعد ان كان عازما على
الامتثال والإتيان.
وقد تكون موصلة ،
والحال انه لا يكون المقصود بها التوصل ، كما اذا أتى المكلف بالمقدمة لا بقصد
التوصل بها الى ذيها ثم بدا له الامتثال وفعل الواجب فيترتب ـ كما في مثل الحج ـ
إذا سافر الى مكة للسياحة فاتفق الموسم ، ثم بدا له إتيان الحج فحجّ فهو مجز
بالاجماع. وقد تكون موصلة بالفعل الى ذي المقدمة كما في اغلب المقدمات ، فعندهم لا
تكون المقدمة تابعة لذي المقدمة في الاطلاق والاشتراط كما لا يخفى على من اعطاها
دقة النظر ، إذ وجوب المقدمة مشروط
بالارادة أو
بالقصد أو بالايصال.
تبعية وجوب
المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط :
قوله
: وانت خبير بان نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى ... الخ فاجاب المصنف قدسسره بان السبب في ترشح الوجوب من ذي المقدمة الى المقدمة توقّف
وجود ذيها في الخارج عليها ، كتوقف وجود الحج على قطع المسافة ، وكتوقف وجود
الصلاة الصحيحة على الوضوء ، بحيث يمتنع وجوده في الخارج بدونها ، فلا بد حينئذ من
وحدة وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة سنخا من حيث الاطلاق والاشتراط.
فاذا كان وجوب ذي
المقدمة مطلقا كان وجوب المقدمة مطلقا ، كوجوب الوضوء المطلق ، لان وجوبه غير
مقيّد بفعل الصلاة ، لان وجوب الصلاة بالاضافة اليه مطلق. واما اذا كان وجوب ذي
المقدمة مشروطا كان وجوب المقدمة مشروطا كوجوب قطع الطريق مشروط بوجوب الحج ، لان
وجوب الحج مشروط بالاستطاعة فلا بد من وحدة الوجوب سنخا لانها تكون مقتضى الترشح
ومقتضى المعلولية ، اذ وجوب ذي المقدمة علة لوجوب المقدمة وهو معلوله ، بل يكون
الدليل في الاطلاق والاشتراط أوضح بالاضافة الى تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها من
اصل وجوبها فلا يناط وجوب المقدمة بارادة ذي المقدمة اي بارادة فعله بل مقتضى
الترشح والمعلولية هو التبعية في الاطلاق والاشتراط وبتقرير أوضح : ان الحاكم في
باب المقدمة هو العقل ، اذ هو يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدمته.
ولا يخفى ان ملاك
حكم العقل صرف مقدمية كانت في ذات المقدمة ، وفي نفسها ، وقصد التوصل بها الى ذيها
، وكذا ارادة فعل ذي المقدمة حين امتثال الامر الغيري ، وكذا ترتب ذي المقدمة على
فعل المقدمة غير دخيلة في ملاك حكم العقل.
والحال ان الشيء
الذي لا يكون دخيلا في ملاك حكم العقل ، فاعتباره في الحكم بلا وجه. ولذا اعترف
الشيخ الانصاري قدسسره بان قصد التوصل لا دخل له في
مقدمية المقدمة بل
هي قائمة بذات المقدمة.
فملاك حكم العقل
بوجوب المقدمة هو كون الشيء مقدمة ، ولا تكون ارادة ذي المقدمة سببا لحكم العقل
بوجوب المقدمة ولا قصد التوصل علّة لوجوبها عند العقل ولا ترتب ذي المقدمة عليها
سببا لحكم العقل بوجوبها.
فحكم العقل بوجوب
المقدمة انما يكون لاجل عنوان المقدمية ولاجل التوقف ، والحال ان عدم دخل قصد
التوصل في وجوب المقدمة واضح لوجهين :
الاول
: ان دخله فيه خلاف
الوجدان ، فان ذا المقدمة يتوقف واقعا على مقدمته سواء قصد التوصل أم لم يقصد ،
فالتوقف محفوظ على حاله ، كتوقف الصعود على نصب السلم ، وكتوقف الصلاة على
الطهارة.
والثاني
: ان قصد التوصل ،
لو كان دخيلا في الحكم للزم الدور ، لان قصد التوصل موقوف على عنوان المقدمية اذ
لا يكون التوصل بما ليس بمقدمة ، فلو توقف عنوان المقدمية على قصد التوصل كان
دورا.
ولذا اعترف الشيخ
صاحب الفرائد قدسسره في غير العبادة بالاكتفاء اذا فعل المكلف المقدمة بلا قصد
التوصل في غير المقدمات العبادية ، كمن قطع الطريق الى مكّة المكرّمة للسياحة او
للتجارة فاتفق موسم الحج فحجّ ، فيكتفى به لحصول ذات الواجب فيكون تخصيص صفة
الوجوب بالمقدمة التي قصد بها التوصل بلا مخصّص.
خلاصة مطلب الشيخ
ان الدخول في الدار المغصوبة اذا كان بقصد اطفاء الحريق او بقصد انقاذ الغريق فهو
واجب ويقع على صفة الوجوب ، واما اذا دخلها بقصد الآخر او كان غافلا عن الانقاذ
فهو غير واجب بل يبقى على حكمه السابق وهو الحرمة ، ولو أنقذ الغريق او أطفئ
الحريق ففي وقوع المقدمة على صفة الوجوب يشترط قصد التوصل الى ذي المقدمة وبقصد
ايجاده.
اما الجواب عن
مبنى الشيخ قدسسره فقد سبق في طيّ قول المصنف قدسسره : اما عدم اعتبار قصد التوصل ... الخ.
واما حاصل مذهب
صاحب (المعالم) قدسسره فانه في المقدمة ، اي في وقوعها
على صفة الوجوب ،
يشترط ارادة المكلف لفعل ذي المقدمة في مقام امتثال الامر الغيري وأما في حين فعل
المقدمة فينوط الوجوب عنده بارادة ذي المقدمة.
فيرد عليه :
اولا : انه خلاف
الوجدان ، اذ ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة عنوان المقدمية ، اي كون الشيء مقدمة
سواء أراد المكلف بفعلها فعل ذيها أم لم يرده.
وثانيا : ان شأن
التكليف ان يكون داعيا للارادة الى فعل المكلف به ، فلا يكون التكليف منوطا بها.
واما محصول قول صاحب الفصول قدسسره فسيأتي مع جوابه في محلّه ان شاء الله.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
الارادة التكوينية الغيرية انما تتعلق بذات المقدمة لا خصوص المقصود بها التوصل
فكذا الارادة التشريعية انما تتعلق بذات المقدمة اذ لا فرق بينهما من هذه الناحية.
نعم اعتبر قصد
التوصل في مقام الامتثال ويشترط قصد التوصل في اطاعة الامر الغيري لما عرفت في
التذنيب الثاني من انه لا يكاد يكون الآتي بالمقدمة بدون قصد التوصل ممتثلا لامرها
الغيري المقدّمي.
وكذلك لا يكون
الآتي بدون قصد التوصل شارعا في امتثال الامر بذي المقدمة حتى يثاب المكلف بثواب
أشقّ الاعمال من إتيانه مقدمة الواجب ونفس الواجب.
فاذا لم يعتبر قصد
التوصل في وجوب المقدمة صحّ اتصاف الفعل المقدمي على صفة الوجوب ولو لم يقصد
المكلف بفعل المقدمة التوصل الى ذي المقدمة. فقصد التوصل ليس قيدا في الواجب ،
وانما هو شرط في اطاعة الامر الغيري كسائر الواجبات التوصلية التي لا يتوقف وجوبها
على قصد امتثال أوامرها ، بل هي واجبة ولو مع عدم القصد الى الإتيان بالواجبات
التوصلية بداعى أوامرها ، وانما يكون القصد المذكور دخيلا في ترتب الثواب عليها ،
فكذا حال المقدمة لانها واجبة ولو مع عدم قصد التوصل. اذ مناط الوجوب هو عنوان
المقدمية فلا دخل لقصد التوصل في عروض صفة الوجوب على المقدمة ، بل له دخل في ترتب
الثواب عليها.
ويقع الفعل
المقدمي المجرد من قصد التوصل على صفة الوجوب لوجود ملاك الوجوب فيها وهو عنوان
المقدمية ، لا على حكمه السابق من الحرمة الثابت له قبل عروض عنوان المقدمية له ،
اي للدخول.
فالدخول في الارض
المغصوبة مثلا ، بعد ان يصير مقدمة لواجب فعلي منجّز مثل انقاذ الغريق أو اطفاء
الحريق ، لا يبقى على حرمته السابقة ، بل يتصف حينئذ بالوجوب لكونه مقدمة للواجب
الفعلي المنجز كما ذكر آنفا ، وان لم يلتفت المكلف الى التوقف والى المقدمية اي
توقف الانقاذ على الدخول المذكور لعدم دخل الالتفات في مقدمية المقدمة ، اذ ملاك
وجوب المقدمة هو التوقف التكويني لا التوقف العلمي.
توضيح
: اذا توقف انقاذ
الغريق او اطفاء الحريق على الدخول في ملك الغير بغير اذنه فالدخول المذكور :
تارة : يكون مع
عدم التفات المكلف الى ان الدخول مما يتوقف عليه الواجب.
واخرى : يكون مع
التفاته الى التوقف ولكن دخل مع عدم قصد التوصل بالدخول الى الانقاذ الواجب.
وثالثة : يكون مع
التفاته لذلك وقصده التوصل به اليه ولكنه لم يكن الدخول ناشئا عن محض قصد التوصل ،
بل عنه وعن داع آخر كالسرقة مثلا.
ففي الصورة الاولى
: يكون الدخول واجبا بلا معصية فيه ، ويكون المكلف متجرئا فيه ، اذ هو اقدام على
ما يعتقد كونه حراما وان لم يكن الدخول محرما واقعا لكونه مقدمة الواجب الفعلي. اذ
لا دخل للالتفات في مقدميّة المقدمة. والحال انه أتى الواجب لان مقدميّة المقدمة
واقعية لا علمية.
وفي الثانية :
يكون الدخول واجبا بلا معصية فيه ولا تحريم. نعم يكون متجرئا في عدم قصد التوصل
بالدخول الى الواجب.
واما على رأى
الشيخ الانصاري قدسسره فالدخول يقع حراما ويكون المكلف
عاصيا في الصورتين
الاولى والثانية معا.
وفي الثالثة : يقع
الدخول واجبا بلا معصية فيه والحال انه لا تجرّؤ فيه.
واما على مذهب
الشيخ قدسسره :
فان اعتبر استقلال
قصد التوصل في صدور المقدمة كان الدخول حراما ومعصية. لكون المفروض صدور الدخول عن
داع آخر غير قصد التوصل ، بل منضم الى قصد التوصل.
وان لم يعتبر
استقلال قصد التوصل في صدور المقدمة كان الدخول واجبا لا غير كما لا يخفى.
وبالجملة
: يكون التوصل بسبب
المقدمة الى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ، اذ فعل الصلاة
من فوائد الوضوء ، لا ان يكون قصد التوصل معتبرا قيدا أو شرطا لوقوع المقدمة على
صفة الوجوب بحيث لا تكون واجبة لو لم يقصد التوصل لثبوت ملاك الوجوب في نفس
المقدمة بلا دخل للقصد في الملاك أصلا ، وإلّا ـ أي فلو كان لقصد التوصل مدخل في
وجوب المقدمة ـ لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب لاجل الفعل المقدمي الذي لم
يقصد به التوصل الى ذيها ، والحال انه يحصل الواجب وذو المقدمة بفعل المقدمة ،
ويسقط وجوب الغيري بالفعل المقدمي كما لا يخفى.
قصد التوصل :
قوله
: ولا يقاس على ما اذا أتى بالفرد المحرم منها حيث يسقط به الوجوب ... الخ فضعّف المصنف قدسسره مذهب الشيخ بهذا الوجه أيضا وهو ما اذا لم يقصد المكلف
التوصل فلا بد من الاعادة بناء على مذهبه مع انه قائل بعدم الاعادة في هذا الفرض
كما لا يخفى.
استدلال الشيخ قدسسره :
واستدل الشيخ
الانصاري قدسسره على مبناه ايضا بانا لو سلمنا سقوط الامر الغيري وحصول
الغرض باتيان المقدمة بلا قصد التوصل الى ذيها فهذا السقوط مثل سقوط الامر الغيري
بفرد الحرام من المقدمة ، في الموضع الذي يكون فيه فردان من المقدمة المباحة
والمحرّمة ، ولكن المكلف أتى بفرد الحرام منها ، كركوب الدابة المغصوبة. وفي هذا
الفرض ـ وان سقط الامر الغيري ، وان حصل الغرض الذي هو الوصول الى ذي المقدمة ـ
ولكن لا يتصف هذا الفرد بوصف الوجوب ، ولا يقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب أصلا
للزوم اجتماع الامر الغيري والنّهي النفسي في شيء واحد ذي عنوان واحد وهو عنوان
المقدمية.
والحال انه لا فرق
في الامتناع بين كون الامر والنّهي نفسيين او غيريين او مختلفين ، ففي جميع الصور
الأربع يكون اثنان منها متوافقين ، واثنان منها متخالفين يمتنع اجتماعهما ، كما
سيأتي في بحث اجتماع الامر والنّهي ان شاء الله تعالى.
وكذا المقدمة
المباحة لو أتيت بلا قصد التوصل لما اتصفت بالوجوب وان سقط الامر الغيري الذي
يتعلق بها. اذ وجوبها ترشحي من ذي المقدمة ، ولكن لا يترشح الوجوب من ذيها اليها
حين عدم قصد التوصل وفي زمان عدم قصد اتيانه بامتثال امرها الغيري ، بل يكون هذا
الامتثال من قبيل وجود المعلول بلا وجود علّته وهو محال عقلا.
واجاب المصنف قدسسره عنه بان الفرق موجود بين المقدمة المحرمة وبين المقدمة
المباحة التي لم تفعل بقصد التوصل.
توضيح الفرق
بينهما : ان ملاك التحريم في الفرد المحرم من المقدمة لمّا لم يصلح ملاك الوجوب
الغيري المقدمي لمزاحمة ملاك التحريم مع ملاك الوجوب الغيري ، ولكن يمكن تحصيل
الوجوب الغيري بالفرد المباح من المقدمة ، مثل ركوب الدابة المملوكة او المستأجرة
فبقي اثره وهو التحريم بحاله ، فيكون الفرد المحرم باقيا على تحريمه من دون ان
يعرض عليه الوجوب الغيري ، وان كان الوجوب
الغيري يسقط
بالفرد المحرم لوجود ملاك السقوط وهو الوصول الى ذي المقدمة.
واما المقدمة
المباحة التي لم يقصد بها التوصل فملاك الوجوب فيها بلا مزاحم ، فلا بد ان تكون
واجبة بالوجوب الغيري. والحال ان قصد التوصل مما لا دخل له في حصول الملاك وإلا ـ
اي فلو كان لقصد التوصل دخل في الملاك وفي وجوب المقدمة ـ لما حصل ذات الواجب ،
ولما سقط الوجوب الغيري بفعل المقدمة الذي لم يقصد به التوصل الى ذي المقدمة.
والحال ان حصول
الواجب وسقوط الامر الغيري قطعا مثل السير الى مكة المكرمة زاد الله تعالى شرفها ،
لقصد التجارة ، او صلة الرحم او غيرهما ، لا لقصد الحج فاتفق الموسم فبدا له ان
يحج ، فالحج حاصل وصحيح وسقط وجوب غيريّ هو قطع المسافة كما لا يخفى.
فبالنتيجة انّ
قياس الفرد المباح ، من المقدمة الذي لم يقصد به التوصل ، بالفرد الحرام منها ، مع
الفارق ، اذ في الفرد الحرام يكون المقتضي لاتصافه بالوجوب موجودا وهو عنوان
مقدميته ، والوصول به الى ذي المقدمة ، ولكن المانع عن الاتصاف المذكور أيضا موجود
وهو حرمته.
فالمانع يمنع عن
تأثير المقتضي في المقتضى. واما في الفرد المباح من المقدمة فالمقتضي عن اتصافه
بالوجوب موجود ، والمانع عنه مفقود ، فيتصف بالوجوب ولا اشكال فيه.
فرتّب المصنف قدسسره قياسا استثنائيا لبطلان قول الشيخ قدسسره وصورته أنه لو كان لقصد التوصل دخل في وجوب المقدمة لما
سقط بفعل المقدمة الذي لم يقصد به التوصل الى ذيها الوجوب الغيري المقدّمي ، ولما
حصل ذات الواجب. لكن التالي باطل بكلا شقيه فالمقدم مثله.
اما بيان الملازمة
فلأن قصد التوصل على مبنى الشيخ قدسسره شرط وجوب المقدمة. ومن الواضح انه اذا فات الشرط فات
المشروط والحال انه يبقى الوجوب الغيري للمقدمة اذا فعلت بلا قصد التوصل. إذ رفع
التالي في هذا القياس ينتج رفع
المقدم ، فيكشف
هذا عن عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب وانتظر لذلك زيادة
توضيح في المبحث الآتي ان شاء الله تعالى. فتحصّل مما ذكر ان المصنف قدسسره اشكل على مذهب العلامة الانصاري قدسسره بوجوه.
الاول
: ان اعتبار قصد
التوصل في وجوب المقدمة خلاف الوجدان. اذ ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة هو عنوان
مقدمية المقدمة ، وعنوان توقف وجود ذي المقدمة في الخارج على وجود المقدمة ، سواء
قصد بفعلها التوصل أم لم يقصد.
الثاني
: انه مستلزم للدور
، اذ قصد التوصل موقوف على المقدمية. اذ لا معنى للتوصل بما ليس بمقدمة ، فلو
توقفت المقدمية على قصد التوصل لكان دورا مصرحا. فالتالي باطل بل محال عقلا
فالمقدم مثله. واما بيان الملازمة فواضح لا يحتاج الى تفصيل.
الثالث
: انه لو اعتبر في
مقام الامتثال وفي وجوب المقدمة لما حصل ذات الواجب ، ولما سقط الوجوب الغيري بدون
قصد التوصل ، والتالي باطل فالمقدم مثله.
اما بيان الملازمة
فلان قصد التوصل على هذا المبنى اما أن يكون شطر المأمور به بالامر الغيري مفقودا
واما أن يكون شرطه مفقودا ، ففي مورد اذا لم يقصد به التوصل ، فاما الشطر مفقود
والحال ان المركب ينتفى بانتفاء جزئه اذ المأمور به مركب من الوجوب الغيري ومن
عنوان قصد التوصل ، واما الشرط مفقود ان كان المأمور به بالامر الغيري مشروطا بقصد
التوصل.
المقدمة الموصلة
وفساد وجوبها وقول المعالم :
ان المشروط ينعدم
بانعدام شرطه. فلا بد حينئذ من الاعادة في حين أن الشيخ الانصاري قدسسره لا يقول بها في هذا المورد. كما اشكل المصنف على قول صاحب (المعالم)
قدسسره بوجهين :
الاول
: انه خلاف
الوجدان. اذ ملاك حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء
وبين وجوب مقدماته
هو عنوان المقدمية والتوقف ، سواء اراد المكلف فعل ذي المقدمة في حين امتثال الامر
الغيري المقدّمي أم لم يرده في حينه.
الثاني
: ان شأن التكليف
ان يكون داعيا للمكلف الى ايجاد ارادة نفسانية بالاضافة الى فعل المكلف به ، وليس
منوطا بالارادة كما لا يخفى ، اذ لو كان منوطا بها للزم الدور لأن التكليف يتوقف
عليها على الفرض ، والارادة تتوقف على التكليف لانه مراد على الفرض.
ثم العجب كل العجب
من العلّامة الانصاري قدسسره حيث انكر انكارا شديدا القول بوجوب المقدمة الموصلة ،
وانكر اعتبار ترتب ذي المقدمة على فعل المقدمة في وقوع المقدمة على صفة الوجوب على
ما حرّره في تقريراته بعض مقرري درسه وبحثه حيث قال في التقريرات : «انا لا نرى
لحكم العقل بوجوب المقدمة عند وجوب ذي المقدمة وجها ودليلا الا من حيث ان عدم
المقدمة يوجب عدم المطلوب وعدم ذي المقدمة وهذا العنوان يشترك فيه جميع المقدمات
سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة».
لكن اعترض المصنف قدسسره على الشيخ الاعظم قدسسره في الإشكال الذي اورده على صاحب (الفصول) قدسسره حيث ان المناط المذكور في اشكاله على صاحب (الفصول) قدسسره موجود في كل من المقدمة المقصود بها التوصل الى ذي المقدمة
وغير المقصود بها التوصل. فما وجه تخصيص الوجوب بالمقدمة المقصود بها التوصل دون
غيرها؟ فللعجب منه مورد ، فراجع تمام كلامه في تقريرات درسه زيد في علو مقامه ،
وتأمل في نقضه واشكاله وابرامه وجوابه كل ذلك قد مرّ.
قوله
: واما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب فلانه لا يكاد
يعتبر في الواجب الا ما له دخل في غرضه ... الخ فاشكل المصنف قدسسره على قول صاحب (الفصول) قدسسره وهو انه لا يعتبر فى الواجب. شيء الا ما له دخل في غرض
الواجب. ولا يلحظ فيه شيء الا ما له دخل في مناط وجوب الواجب. وإلّا فلا بد ان
يكون كل شيء ـ سواء كان دخيلا في غرضه أم لم يكن دخيلا فيه ـ شرطا للواجب
ومناطا في وجوبه.
ومن الواضح ان كون
الشيء شرطا للواجب انما يكون بلحاظ مدخلية الشرط في الغرض من المشروط كاشتراط
الوضوء للصلاة ، اذ هو دخيل في غرض الصلاة الذي هو كونها (معراجا للمؤمن) وغيره من
الاغراض.
والغرض من وجوب
المقدمة عقلا هو تمكن المكلف من فعل ذي المقدمة ، لانه متمكن بعد ايجاد المقدمة من
الإتيان بذى المقدمة.
فاذا رجعنا الى
وجداننا وجدنا ان هذا الغرض باعث على ايجاب المقدمة. ولا فرق في هذا الغرض بين ان
تكون موصلة أم غير موصلة ، اذ هما سببان لتمكن العبد من ايجاد ذي المقدمة في
الخارج.
والحال ان الغرض
المذكور محقق في جميع المقدمات سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة ، فلا فرق
بينهما من هذه الناحية ومن هذه الجهة.
مضافا الى انه لا
إشكال في سقوط الامر الغيري المتعلق بالمقدمة بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون
انتظار ترتب ذي المقدمة عليها في الخارج ، فاذا أمر المولى عبده او ابنه بشراء
اللحم فقد أوجب عليه دخول السوق غيريا ، فبمجرد أن دخل السوق سقط الامر الغيري اذ لا
يعقل بقاء الامر الغيري بعد دخول السوق لاستحالة طلب الحاصل فلو كان ترتب ذي
المقدمة على المقدمة معتبرا في وقوعها على صفة الوجوب لما سقط وجوبها قبل ترتب
ذيها عليها كما لا يخفى.
قوله
: واما ترتب الواجب فلا يعقل ان يكون ... الخ اشارة الى دفع التوهم الذي أورد من جانب صاحب (الفصول) قدسسره في هذا المقام وهو : فاي مانع من ان يكون الغرض من الامر
بالمقدمة ترتب ذي المقدمة عليها» ، وهو الباعث على ان المولى أمر بها ، او لحكم
العقل بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدمته؟
ومن الواضح ان هذا
الغرض يترتب على المقدمة الموصلة فقط ، ولا يترتب على غير الموصلة منها. فاذا كان
الغرض من الامر بالمقدمة ترتب ذي المقدمة والوصول اليه فلا بد ان يكون الايصال
شرطا في وجوبها.
فاجاب المصنف قدسسره عن هذا التوهم بان ترتب ذي المقدمة عليها ليس شرطا في
وجوبها. اذ وجود المقدمات ليس بعلّة تامة غالبا لوجود ذي المقدمة ، بل يكون مقتضيا
لوجود ذيها في اغلب الواجبات ، مثلا : الانسان يحصّل الزاد والراحلة ، ويبذل جهده
للوصول الى مكة المكرمة ، فاذا وصلها فهو مختار في اعمال الحج ، فان شاء فعلها ،
وان شاء تركها ، فلا معنى لترتب ذي المقدمة على وجوبها.
نعم قول صاحب (الفصول)
قدسسره تامّ في المقدمات التي تكون علّة تامة لوجود ذي المقدمة ،
ففي هذا المورد يصح ان يكون الغرض من وجوب المقدمة ترتب ذيها عليها.
في حين انه ، على
القول بوجوب المقدمة حتى عند صاحب (الفصول) قدسسره ، لا فرق بين ان تكون المقدمة علة تامة كما في مقدمات
الافعال التوليدية والتسبيبية ـ اي مقدورة للمكلف مع الواسطة ـ ولكن هو مقدور له
بواسطة الالقاء ـ اي القاء الجسم في النار ـ ولا يتم في الافعال المباشرية كالصلاة
والحج والسفر والنزهة مثلا ـ اي مقدورة للمكلف بلا واسطة ـ والغرض الذي لا يترتب
على المقدمات لا يعقل ان يجعله المولى الحكيم غرضا لوجوب المقدمة للزوم اللغو ،
وهو لا يصدر منه لانه قبيح. بخلاف تمكن المكلف من اتيان ذي المقدمة اذ هو ثابت في
جميع المقدمات ، سواء كانت علة تامة لوجود ذي المقدمة كما في مقدمات الافعال
التوليدية مثل جمع الحطب وتهيئة الخشب والقائهما في النار مقدمة للاحراق ، ام كانت
شرطا ومقتضيا لوجود ذي المقدمة مثل تحصيل الزاد والراحلة وقطع المسافة مقدمة للحج.
فالغرض من وجوب
المقدمة عقلا هو تمكن المكلف من اتيان ذي المقدمة بواسطة المقدمة ولا يكون الغرض
من وجوبها ترتب ذيها عليها.
فالقول بوجوب
المقدمة الموصلة إذا كانت علّة تامة لوجود ذي المقدمة على خلاف صاحب (الفصول) ،
لانه لا يرى فرقا ـ في باب المقدمة ـ بين كونها علّة تامة وبين كونها شرطا
ومقتضيا. واما في الواجب الذي يكون من الافعال التوليدية فيترتب ذو المقدمة على
المقدمة لانها علة تامة لذي المقدمة فيها وهو معلولها ، في
حين ان تخلف
المعلول عن علته محال.
قوله
: ومن هنا قد انقدح
ان القول بوجوب المقدمة الموصلة يستلزم انكار ... الخ وهذا القول يستلزم وجوب
المقدمة في المورد النادر وانكار وجوبها في اغلب الموارد كما في الواجبات الشرعية
والواجبات العرفية. فالاول : كالأمر بالعبادات. والثاني : كأمر المولى العرفي. لان
هذا القائل يرى ان الغرض الداعي لايجاب المقدمة هو ترتب ذي المقدمة عليها.
ومن المعلوم ان
ترتب ذي المقدمة مما لا يصح ان يكون هو الغرض الداعى لايجاب المقدمة الا في مجموع
المقدمات التوليدية والتسبيبية دون مجموع المقدمات المباشرية وذلك لما عرفت آنفا
من ان ترتب ذي المقدمة ليس باثر تمام المقدمات في المباشريات فكيف يكون اثر إحداها
كما لا يخفى وهو كما ترى.
قوله
: فان قلت ما من واجب الا وله ... الخ استشكل من جانب صاحب (الفصول) قدسسره بان كل ممكن يحتاج الى العلة. فاذا لم تكن العلة موجودة لم
يوجد الممكن في الخارج. ولذا قيل ان الشيء ما لم يجب لم يوجد. فكل ممكن لا بد ان
تكون له علة الوجود.
والحال ان العلة
التامة هي المقتضي والشرط وفقد المانع ، وكلها واجب عند صاحب (الفصول) قدسسره لان جميعها موصل الى ذي المقدمة. مثلا كل مقدمات الحج ، من
قطع الطريق وتحصيل الزاد والراحلة وارادة مناسك الحج موصلة اليه لوجود المقتضي وهو
قطع الطريق ، ولوجود الشرط وهو تهيئة الزاد والراحلة ، ولفقد المانع وهو عدم ارادة
مناسك الحج ، فيصير حينئذ علة تامة للحج وموصلا اليه.
بخلاف ما إذا لم
يرد المكلف اتيان الحج اذ الطريق الذي هو مقتضي للحج ، وتهيئة الزاد الذي هو شرط
لوجوده خارجا ، لا يؤثران في المقتضي وفي المشروط لوجود المانع عن تأثيرهما وهو
عدم ارادة افعال الحج.
فالمقتضي والشرط
مع وجود المانع ليسا واجبين بالوجوب الغيري عند صاحب (الفصول) قدسسره اذ هما غير موصلين حينئذ الى ذي المقدمة. فكل ممكن اذا
وجد في الخارج ،
سواء كان من قبيل الافعال التوليدية كالاحراق والعتاق ونحوهما ، أم كان من قبيل
الافعال الاختيارية المباشرية كالصلاة والحج والجهاد ونحوها ، لا بد له من علة
الوجود. والحال ان العلة موصلة الى المعلول والسبب موصل الى المسبب. فاختصاص
الوجوب بمقدمات الافعال التوليدية بلا مخصص وبلا وجه. وهذا الاعتراض وارد على
المصنف قدسسره من قبل صاحب (الفصول).
فاجاب المصنف عنه
بقوله : قلت نعم. وهو انا سلّمنا باستحالة وجود الممكن في الخارج بدون علة ، ولكن
من جملة مقدمات الفعل الاختياري ارادته وخطوره في القلب. والارادة لا تصلح ان تكون
متعلقة للتكليف وللأمر ، لان كل فعل اختياري مسبوق بالارادة. وأما الارادة لو كانت
مسبوقة بارادة اخرى للزم التسلسل ، فلا بد ان تكون الارادة امرا غير اختياري لا
يتعلق بها الأمر ، فلانه اذا تعلق بها فهي اختيارية وكل اختياري مسبوق بالارادة ،
فننقل الكلام بالارادة السابقة التي هي مقدمة للمسبوقة فلا بد ان تكون واجبة غيرية
متعلقة لأمر غيري فتحتاج الى الثالثة وهي الى الرابعة وهكذا حتى تنتهي الى ما لا
نهاية له.
فاذن لا بد ان
تكون الارادة امرا غير اختياري ، وكل امر غير اختياري لا يكون قابلا لأن يكون
متعلقا للأمر النفسي ، ولا الامر الغيري ، اذ الامر ـ سواء كان نفسيا أم كان غيريا
ـ لا يتعلق إلّا بالأمر الاختياري المقدور.
وعليه فالعلة التي
تتركب من الارادة والمقتضي والشرط ليست واجبة فينحصر الوجوب بالمقدمة التي تكون
علّة تامة لوجود ذي المقدمة بلا دخالة الارادة ، كمقدمات الافعال التوليدية.
واما العلّة التي
تتركب من الارادة وغير الارادة من المقتضي والشرط ، كمقدمات الافعال المباشرية
المقدورة الاختيارية فليست قابلة لان يتعلق بها الامر الغيري وليست واجبة ، اذ
جميع اجزاء العلة ليست امرا اختياريا ، اذ الارادة تكون جزءها ، والحال انها امر
غير اختياري كما ذكر.
ولا يخفى ان الحق
كون الارادة امرا اختياريا مثل الافعال المباشرية وليس
مثل يد المرتعش.
كما ان الحق ان الارادة في اختياريتها لا تحتاج الى ارادة اخرى كي يلزم التسلسل
لان الأشياء والافعال توجد في الخارج بسبب الارادة وترتسم صور الأشياء في الاذهان
بالارادة والميل القلبى اليها.
واما الارادة
فتوجد بنفسها وبذاتها لا بارادة اخرى ، نظير دهنية كل شيء بالدهن اما دهنية الدهن
فتكون بذاته لا بالدهن الآخر ، ونظير رطوبة كل شيء بالماء اما رطوبة الماء فتكون
بذات الماء.
الوجه الآخر لفساد
قول (الفصول):
قوله
: ولانه لو كان معتبرا فيه ... الخ هذا وجه آخر لرد قول صاحب (الفصول) وخلاصته ان ترتب ذي
المقدمة لو كان داعيا للأمر المقدّمي الغيري لما سقط الامر الغيري المقدمي بمجرد الإتيان
بالمقدمة في الخارج من دون ترتب ذي المقدمة على فعلها ، بل لا بد في سقوطه من
انتظار ترتب ذيها عليها.
والحال ان الامر
الغيري يسقط بمجرد إتيانها على نحو لا يبقى إلّا أمر ذي المقدمة النفسي مثل ما اذا
لم تكن هذه المقدمة التي أتي بها مقدمة لواجب او مثل ما إذا كانت المقدمة حاصلة من
الاول قبل ايجاب المولى ذا المقدمة والواجب النفسي وعلى كلا التقديرين لا يبقى في
البين إلّا الامر النفسي الذي يتعلق بذي المقدمة وبالواجب النفسي ويسقط الامر
الغيري. ولم تكن هذه المقدمة مقدمة لواجب نفسي.
والحال انه من
الواضح ان الامر بالشيء لا يسقط إلّا باحد امور ثلاثة بحكم العقل :
الاول : إتيان
المأمور به.
والثاني :
المخالفة والعصيان ، اي عصيان امر المولى.
والثالث : انعدام
موضوع التكليف ومثال الثالث ما اذا أمر المولى عبده بدفن الميت المسلم ، وكان هذا
الميت قد غرق او احترق ، فيسقط حينئذ امر المولى بقوله (غسّل الميت وكفّنه ثم
ادفنه).
والمقام من قبيل
القسم الاول ، وهو الإتيان بالمأمور به بالامر الغيري. فلا يشترط في وجوب المقدمة
ترتب ذيها عليها ، بل تجب لأجل عنوان التمكن من فعل ذي المقدمة بسبب فعلها ولسدّ
باب عدم ذيها من ناحية المقدمة ، وهذه الجهة موجودة في جميع المقدمات سواء كانت
موصلة أم كانت غير موصلة.
قوله
: ان قلت كما يسقط الامر في تلك الأمور كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به ... الخ فأشكل من جانب صاحب (الفصول) تأييدا لمرامه على المصنف بان
مجرد سقوط الامر لا يدل على وجوب الفعل ، لان الامر كما يسقط بالاطاعة او بالعصيان
او بارتفاع موضوع التكليف كما ذكر في نحو (غرق الميت) كذلك يمكن سقوط الامر في
التوصليات بفعل الغير ـ أي غير المكلف ـ المأمور به مما يحصل به الغرض ، كفعل
الغير او فعل المحرم ، كما اذا غسل الغير ثوب المكلف للصلاة او ركب الدابة المغصوبة
وسار معها الى الحج.
وعليه ، فسقوط
الامر الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار لترتب ذي المقدمة مما يكشف عن
كون المقدمة متعلقة للوجوب الغيري ، في حين ان الامر الغيري قد يسقط قبل الترتب
حتى يردّ المصنف على صاحب (الفصول) انه لو كان الترتب معتبرا في وقوعها على صفة
الوجوب لم يسقط وجوبها المتعلق بها من قبل ترتب ذيها ، فالترتيب ليس شرطا في
وجوبها.
فبالنتيجة الفعل
الحرام ، كركوب الدابة المغصوبة او غسل اللباس المتنجس بالماء المغصوب ، وفعل غير
المكلف كغسل زيد ثوب بكر مثلا ، لا يكون مأمورا بهما بالامر الغيري المقدمي ، لان
الاول غير مقدور للمكلف شرعا. والثاني غير مقدور له عقلا.
والحال ان الامر
لا يتعلق إلّا بالمقدور فكذا فيما نحن فيه الذي أدّعي فيه سقوط الامر الغيري ، اذ
من المحتمل ان يكون سقوطه لحصول الغرض من الامر الغيري ، ولا لاجل الإتيان
بالمأمور به. فمجرد السقوط لا يدل على وجوب الفعل والعمل ، بل الوجوب الغيري يتعلق
بالمقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة في
الخارج.
فاجاب المصنف عن
هذا الإشكال بانه يمكن ان يسقط الامر الغيري بسبب فعل غير المكلف ، وبالمحرّم.
ولكن الفعل المسقط للأمر الغيري ومحصّل للغرض هو فعل الغير وفعل المحرم كما ذكر
آنفا.
ولكن هذا الفعل
المسقط يتفاوت مع سائر افراد الطبيعة المأمور بها ، اذ المانع موجود عن اتصافه
بالوجوب ، لان الفرد المحرم لا يتصف بالوجوب لان حرمته مانعة عن اتصافه بالوجوب ،
ولان فعل الغير لا يتصف بالوجوب لكونه غير اختياري للمكلف ، اذ فعل زيد أمر غير
اختياري لعمرو مثلا ، وكونه غير اختياري وغير مقدور بالاضافة الى المكلف مانع عن
اتصافه بالوجوب.
واما الفرد من
الطبيعة المأمور بها الذي لا يتفاوت مع سائر افرادها فليس له مانع عن اتصافه
بالوجوب كما لو فعل المكلف المقدمة المباحة التي هي للواجب ، وان لم يترتب عليها
ذو المقدمة لانه ليس بحرام ولا فعل الغير بل يكون فعل نفس المكلف.
فالكلام في الفعل
الاختياري الصادر من المكلف بنفسه ، ففي مثله اذا سقط الامر الغيري بمجرد الإتيان
بالفرد من المقدمة ، فالسقوط لا محالة يكشف عن اتصافه بالوجوب من غير تفاوت فيه
بين ما يترتب عليه الواجب وبين ما لا يترتب عليه أصلا.
فظهر مما ذكرنا ان
الغرض من وجوب المقدمة عقلا ليس ترتب ذيها عليها ، بل هو التمكن من ذي المقدمة
وسدّ باب عدمه من ناحية المقدمة. وبالجملة فقول صاحب (الفصول) مردود من وجوه ثلاثة
:
الاول
: ان الدليل العقلي
بوجوب المقدمة ليس إلّا ان عدم المقدمة في الخارج يوجب عدم ذي المقدمة فيه ، وهذا
لا اختصاص له بالموصلة منها كما لا يخفى.
والثاني
: ان قول (الفصول)
يوجب القول بوجوب مطلق المقدمة ، سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة ، لان الامر
بالمقيد بالقيد الخارجي يستتبع الأمر بذات
المقيد من باب
تعدد المطلوب :
الاول : المقيد
والقيد معا.
الثاني : المقيد
وحده مثل (جئني بالماء البارد) الاول مجيء الماء البارد ، والثاني مجيء الماء بلا
قيد (البارد) ففي المقام يستتبع الأمر بالمقدمة الموصلة الامر بمطلق المقدمة الاعم
من الموصلة وغير الموصلة من اجل تعدد المطلوب.
والثالث : ان
الوجدان يحكم بسقوط الامر الغيري بعد ايجاد المقدمة في الخارج من غير انتظار ترتب
ذيها عليها كما مرّ. فهذا القول أيضا مخدوش. كما ان قول صاحب (المعالم) وقول صاحب (الفرائد)
مخدوشان ولذا قال المشهور بوجوب المقدمة عقلا مطلقا ، اي سواء اراد المكلف اتيان
ذي المقدمة حين الإتيان بالمقدمة ام لا ، وسواء قصد التوصل بفعلها الى ذيها أم لم
يقصد التوصل.
أدلّة صاحب (الفصول):
قوله
: وقد استدل صاحب (الفصول) على ما ذهب اليه ... الخ وقد بيّن صاحب (الفصول) قدسسره ان الشرط تارة يكون شرط الواجب مثل الايمان في الرقبة في
قول المولى (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) واخرى يكون شرط الوجوب مثل الاستطاعة
بالاضافة الى الحج ، ومثل النصاب بالنسبة الى الزكاة ، وكدخول الوقت للصلاة. وبعد
بيان كيفية الشرط استدل على مختاره بوجوه ثلاثة :
الاول
: ان وجوب المقدمة
يكون بحكم العقل مستقلا بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب لازمه ومقدمته ،
والحال ان العقل حاكم مستقلا بالملازمة بين وجوب الشيء وذي المقدمة ، وبين مقدمته
الموصلة اليه ، فلا يكون الدليل على وجوب غير الموصلة من المقدمة موجودا ، اذ
الحاكم منحصر في العقل ، وهو لا يحكم بوجوب غير الموصلة.
والثاني
: انه بيّن في وجه
وجوب المقدمة انه اذا سئل عن المولى الذي يأمر بالصعود على السطح هل يكون نصب
السلم الذي يتوصل به الى الصعود مرادا ولا
يكون نصب السلم
الذي لا يتوصل به الى الصعود مرادا ، فان اجاب جوابا اثباتيا فهو حسن منه. وصحة
هذا دليل على ان الوجوب منحصر بالمقدمة الموصلة ، لان نهي المولى عن نصب السلم
الذي يكون موصلا الى الصعود قبيح بعد امره به. ولكن لا يقبح على المولى النّهي عن
نصب السلم غير الموصل اليه ، اي الى الصعود ، بل الضرورة العقلية حاكمة بقبح
النّهي عن الموصل وبصحة النّهي عن غير الموصل. فهذا علامة ثبوت الملازمة في الاول
وعدم ثبوتها في الثاني.
والثالث
: ان الغرض من وجوب
المقدمة هو التوصل لاجلها الى ذيها فكل مقدمة واجدة لهذا الغرض واجبة. كما ان كل
مقدمة فاقدة لهذا الغرض غير واجبة ، فهذه جملة من استدلاله على مبناه.
قوله
: وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان العقل الحاكم ... الخ قد شرع المصنف قدسسره في الجواب عن دليله الاول وقال ان العقل حاكم بوجوب مطلق
المقدمة ـ سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة ـ لوجود ملاك الوجوب الغيري في مطلق
المقدمة وهو تمكن المكلف من الإتيان بذى المقدمة لاجل المقدمة ، ولذا حكم العقل
بالوجوب في كلها وفي كل موضع.
فاختصاص الوجوب
بالموصلة بلا وجه وبلا مخصص. نعم ان كان مناط الوجوب هو ترتب ذيها عليها فلا محالة
حينئذ من اختصاص الوجوب بالموصلة ، ولكن ليس هذا بمناط الوجوب الغيري المقدمي ، اذ
لا يترتب ذو المقدمة على المقدمة الا في الموضع الذي تكون المقدمة فيه علة لوجود
ذيها ، مثل مقدمات الافعال التوليدية لا مقدمات الافعال المباشرية الاختيارية
المقدورة.
بخلاف ما اذا كان
الغرض من وجوب المقدمة هو التمكن ، اذ هو موجود في كلها فيتصف الجميع بالوجوب ،
إلّا ان يمنع مانع عن اتصافها بالوجوب ، مثل ان يكون الفرد من المقدمة حراما شرعا
كركوب الدابة المغصوبة للحج ، ومثل فعل غير المكلف ، كما مر سابقا.
نعم اذا فعل
المكلف الفرد الحرام من المقدمة فالغرض من الامر الغيري
ساقط ولا يحتاج
الى الإتيان بفرد آخر ، إلّا ان تكون المقدمة من التعبديات كالوضوء والغسل والتيمم
، فتحتاج الصلاة الى الإعادة ثانيا.
جواب المصنف عن
استدلال (الفصول):
قوله
: وقد انقدح منه انه ليس للآمر الحكيم غير المجازف بالقول ... الخ شرع المصنف في الجواب عن دليله الثاني ، وقال : انه قد ظهر
مما سبق ان مناط الوجوب الغيري الذي هو يمكن المكلف من الإتيان بذى المقدمة عقلا
بسبب الإتيان بالمقدمة موجود في جميعها ، فيقبح على المولى ان يختص امره ببعض
المقدمات كالموصلة منها ، وكذا يقبح ان ينهى عن غير الموصلة من المقدمة ، او ان
يصرّح بعدم ارادة غيرها ، اذ حال غير الموصلة مع الموصلة متساويان في الغرض ولا
يتفاوت فيهما.
فان كان النّهي عن
الموصلة قبيحا كان قبيحا عن غير الموصلة ايضا بلا فرق بينهما من هذه الناحية.
فدعوى الضرورة على صحة النّهي عن غير الموصلة مجازفة ومكابرة.
نعم يكون التفاوت
بين الموصلة وبين غير الموصلة من هذا الوجه فقط ، وهو ان مطلوب المولى النفسي حاصل
في الموصلة دون غير الموصلة ، ولكن قيد الايصال ووجود ذي المقدمة وعدمه خارجة عن
مناط وجوب المقدمة ، وعن غرض وجوبها اذ الغرض من وجوبها عقلا هو التمكن الموجود في
كل المقدمات ، واما عدم الإتيان بذى المقدمة فبسوء اختيار المكلف ، كما ان الإتيان
به يكون بحسن اختياره.
ومن الواضح ان حسن
الاختيار وسوء الاختيار بايجاد ذي المقدمة وبترك ذيها لا يرتبطان بوجوب المقدمة
وبالغرض من وجوبها.
نعم يجوز للمولى
ان يصرح بعدم حصول غرضه وبعدم حصول المطلوب النفسي في غير الموصلة ، كما يجوز له
ان يصرح بعدم حصول غرضه أصلا بناء على ان الغرض من ايجاد المقدمة هو تمكن المكلف
عن ايجاد ذي المقدمة ، فاذا لم
يوجده كانّه لم
يحصل غرض المولى أصلا وفات بالمرة ، اذ الامر الغيري المقدمي يكون بتبع المطلوب
النفسي. والحال ان المولى ملتفت الى ان المكلف أتى المطلوب الغيري ، ولكن لم يفعل
المطلوب النفسي فكأنه لم يفعل شيئا.
وبالجملة فالعقل
حاكم بوجوب مطلق المقدمة وبقبح تصريح المولى بعدم ارادته لغير الموصلة من المقدمة
، إذ مناط الوجوب موجود في الموصلة وغير الموصلة وهو التمكن من اتيان ذي المقدمة
لاجل الإتيان بالمقدمة كما لا يخفى.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
تصريح المولى بعدم حصول غرضه أصلا في صورة عدم ايجاد ذي المقدمة بعد الإتيان
بالمقدمة ليس صحيحا ، وإلّا كان الحق حينئذ مع صاحب (الفصول) القائل بوجوب الموصلة
فقط ، لان للمولى غرضين :
احدهما : الغرض
الادنى ، وهو حصول القدرة بوسيلة الإتيان بالمقدمة على اتيان ذي المقدمة ، ولاجل
هذه القدرة قد اتصفت المقدمة بالوجوب الغيري المقدمي.
وثانيهما : الغرض
الاقصى ، وهو ترتب الواجب النفسي وذي المقدمة على الإتيان بفرد من المقدمة خارجا.
الإشكال على
المصنف :
قوله
: ان قلت لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف احداهما ... الخ قد اعترض على المصنف من جانب صاحب (الفصول) بانه لعلّ
اتصاف الموصلة بوصف الموصلية موجب لاختصاص حكم العقل بوجوبها دون غير الموصلة ، اذ
ليس له هذا العنوان وان كان شريكا مع الموصلة في الاثر وهو حصول التمكن للمكلف على
فعل الواجب النفسي.
وبعبارة اخرى
مساواة المقدمة الموصلة المقدمة غير الموصلة في نظر العقل ليست بمعلومة ، والحال
انه لا بأس ولا ضرر من ان الموصلة بملاحظة عنوان الموصلية صارت واجبة ، وان
المقدمة غير الموصلة بملاحظة فقدان وصف الموصلية
لم تصبح واجبة
وهذا الوصف والعنوان موجبان للتفاوت بين الموصلة وبين غير الموصلة في نظر العقل.
فاجاب المصنف عن
هذا الاعتراض والإشكال بان وصف الموصلية ووصف غير الموصلية يوجبان للتفاوت بينهما
اذا كانا موجبين للتفاوت في ناحية المقدمة ، بمعنى ان تكون الموصلة مقدمة وجودية
للواجب النفسي ، وان لا تكون المقدمة غير الموصلة مقدمة له.
والحال انهما لا
توجبان التفاوت في حديث المقدمة ، اذ كلتاهما مقدمة للواجب النفسي ، ولان وصف
الموصلية منتزع عن ترتب الواجب لحسن الاختيار على المقدمة.
ومن المعلوم ان
ايجاد الواجب النفسي بعد وجود المقدمة وعدم ايجاده بعد وجودها لا يرتبطان بعالم
المقدمة ، والمقدمة في كلتا الصورتين تتم في مقدميتها ، فلا بد ان يشمل حكم العقل
وجوب مطلق المقدمة سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة ، هذا كما لا يخفى.
قوله
: واما ما افاده قدسسره من
ان مطلوبية المقدمة حيث كانت ... الخ وقد شرع المصنف قدسسره في الجواب عن الدليل الثالث لصاحب (الفصول) قدسسره وقال ان الغرض من وجوب المقدمة عقلا هو حصول التمكن من
الواجب النفسي لا التوصل بها الى ذيها حتى يكون التوصل دخيلا في مطلوبيتها بحيث
اذا انفكت المقدمة عن التوصل لم تكن مطلوبة للمولى أصلا اذ التوصل لا يترتب على
الامر المقدمي في كل موضع ، وذلك لما عرفت في طي الدليل الثاني من دليلي المصنف
على وجوب مطلق المقدمة عقلا سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة ما ينفع في المقام.
وبعبارة اخرى سواء
ترتب على فعل المقدمة فعل ذي المقدمة أم لم يترتب عليه فعله فلا فرق بين الترتب
والتوصل أو بين عدمهما في وجوب المقدمة عقلا أصلا ، بل التوصل مترتب على حسن
اختيار المكلف فعل ذيها ، وعدم التوصل مترتب على سوء اختياره عدم فعل ذيها. فلا بد
ان يكون الغرض من وجوب
المقدمة ومن الامر
بها الشيء الذي لا يختلف عن الامر غالبا ، وهو تمكن المكلف من ايجاد ذي المقدمة في
الخارج وهذا التمكن موجود في جميع اوامر المقدمي بلا تخلف ، بل لا يعقل ان يكون
الغرض هو التوصل بملاحظة التخلف كثيرا.
قوله
: وصريح الوجدان انما يقضي بان ما أريد لاجل غاية وتجرد عن الغاية ... الخ فدعوى المصنف في قبال دعوى صاحب (الفصول) في ذيل دليله
الثالث صريح الوجدان من قوله : وصريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا لمجرد حصول شيء
آخر لا يريده اذا وقع هذا الشيء في الخارج مجردا عن شيء آخر ، مثل ما اذا اراد
المولى نصب السلم لمحض حصول الصعود على السطح في الخارج ، ومن المعلوم انه لا
يريده اذا وقع في الخارج بلا تحقق الصعود في الخارج فنصب السلم اذا لم يكن موصلا
الى الصعود فهو ليس بمطلوب أصلا.
قال المصنف قدسسره صريح الوجدان حاكم بانه من يريد شيئا لاجل حصول غرضه
ومقصوده ، فاذا وقع هذا الشيء مجردا عن غرض المولى فلا يكون مطلوبا له اذا كان فيه
قصور عن حصول الغرض ، كما لو اراد المولى نصب السلم لاجل الصعود على السطح ، فاذا
وقع في الخارج بدون الصعود فليس هذا بمطلوب ، فالقصور يكون في نصب السلم لان
المكلف اراد الصعود ، واما اذا لم يرده فلا قصور حينئذ فيه.
غاية الامر ان
فقدان ذي المقدمة انما يكون لاجل فقدان المقدمة الاخرى وهي ارادة المكلف لفعل ذي
المقدمة ولايجاد الواجب النفسي والحال ان وجود المقدمة الاخرى لا يرتبط بوجوب
المقدمة المأتي بها.
فالوجدان حاكم
بوجوب هذه المقدمة وباتصافها بالوجوب كما تكون موصلة بلا تفاوت اصلا وهو ظاهر.
مثلا : اذا أمر المولى عبده بالصعود وقد نصب السلم ولكن لا يريد الصعود فليس
القصور في نصب السلم ، بل وقع على صفة الوجوب الغيري المقدمي وهو تام في المقدمية.
غاية الامر ان
فقدان الصعود في الخارج انما يكون لفقدان ارادته لا لقصور
في نصب السلم ،
وكذا الحال في قطع الطريق مقدمة للحج اذا لم يكن المكلف مريدا للحج.
البرهان :
قوله
: وكيف وإلّا يلزم ان يكون ... الخ وهذا اشارة الى البرهان وهو انه لاي جهة لا يكون التوصل
غاية وشرطا لوجوب المقدمة عقلا.
وبيانه : ان كان
التوصل وترتب ذي المقدمة شرطا لوجوب المقدمة فلا بد حينئذ ان يكون وجود ذي المقدمة
من مقدمات المقدمة بحيث يلزم من وجوب المقدمة الموصلة وجوب ذي المقدمة.
وبتقرير آخر هو
انه يلزم ان يكون وجود الغاية ، التي هي عبارة عن ذي المقدمة ، من قيود ذي الغاية
، الذي هو عبارة عن المقدمة. وان يكون ذو المقدمة مقدمة لوجود المقدمة على نحو
تكون الملازمة بين وجوب المقدمة غيريا ، وبين وجوب ذي المقدمة نفسيا لان ذا
المقدمة من المقدمات الوجودية لمقدمة.
والحال ان المقدمة
واجبة فتجب مقدمتها بالوجوب الغيري المقدمي. فاذن يجتمع في ذي المقدمة وجوبان نفسي
وغيري يترشح من وجوب المقدمة فيلزم من الوجوب النفسي الحج ، مثلا : ان يكون نفسي
الحج واجبا غيريا مقدميا ، يعني انه يستلزم وجوب نفسي الشيء وجوب غيري نفسه ، وهو
كما ترى ، اذ هما ـ اي اجتماع الوجوب النفسي والوجوب الغيري في شيء واحد ،
واستلزام وجوب نفسي الشيء وجوب غيري نفسه ـ باطلان بالبداهة. فعلم ان التوصل ليس
بشرط في اتصاف المقدمة بوصف الوجوب وإلّا لزم ان يكون ذو المقدمة مقدمة وجودية
لمقدمته.
وهذا يستلزم
اجتماع الوجوبين النفسي والغيري في ذي المقدمة ، وهذا يقتضي ان يكون وجوب نفسي
الشيء مستلزما لوجوب غيري نفسه ، فالتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله ، او يقال ان
اللازم فاسد فالملزوم مثله.
اما بيان الملازمة
انه ان كان التوصل عنوانا تقييديا لوجوب المقدمة ، يعني
المقدمة تكون بقيد
الايصال واجبة كان وقوع المقدمة على صفة الوجوب الغيري منوطا بوجود ذي المقدمة في
الخارج ، وكان تخلف عنوان الموصلية عن المقدمة موجبا لعدم وقوعها على صفة
المطلوبية والمحبوبية ، مثل سائر العناوين التقييدية كالستر والاستقبال والطهارة
ونحوها من القيود المأخوذة في الدليل قيودا للصلاة ، فاذا تخلفت القيود لم تقع
الصلاة على عنوان المطلوبية والمحبوبية.
هذا اذا كان قيد
الايصال جهة تقييدية. نعم اذا كان قيد الايصال جهة تعليلية ، بان كان الايصال علة
لوجوب الغيري المقدمي من دون ان يكون مأخوذا في لسان الدليل فتخلّفه ـ اي تخلف
عنوان الايصال ـ لا يوجب عدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية ، وعدم وقوعها على
وصف الوجوب الغيري.
والحال ان قيد
الايصال جهة تعليلية لا جهة تقييدية. فكأنّ صاحب (الفصول) قد خلط بين الجهة
التقييدية وبين الجهة التعليلية. والمراد في هذا المقام هو الثاني ، يعني ان كان
عنوان الايصال قيدا لوجوب المقدمة ، فهو يستلزم المحذورين المذكورين سابقا وإلّا
فلا.
قوله
: وهو كما ترى
اشارة الى الإشكالين.
قوله
: ضرورة ان الغاية
لا تكاد تكون قيدا لذى الغاية بحيث كان تخلفها موجبا ... الخ فرجع المصنف قدسسره الى البرهان المذكور آنفا وهو ان الغاية التي هي عبارة عن
ذي المقدمة لا تكون من قيود وجودية ذي الغاية التي هي المقدمة ، لان وجود الغاية
متأخر عن وجود ذي الغاية.
والحال ان الشرط
والمقدمة لا بد ان يكونا متقدمين على المشروط وعلى ذي المقدمة ، او مقارنين لهما.
فلا يصح ان يجعل وجود الغاية المتأخر شرطا لوجوب ذي الغاية ، اذ ليس وجود الغاية
في رتبة وجود ذي الغاية وإلّا لزم ان يكون الشيء المتأخر شرطا لاتصاف الشيء
المتقدم بعنوان الوجوب. ويلزم أيضا ان يكون ذو المقدمة مطلوبا بسبب طلب المقدمة.
ويلزم أيضا ان يترشح الوجوب الغيري من المقدمة الى ذي المقدمة.
خلاصة
الكلام : ان كان قيد
الايصال شرطا لوجوب المقدمة لزم أولا : ان يكون وجود ذي المقدمة مقدّما على وجود
المقدمة ، اذ جعل شرطا على الفرض لوجوب المقدمة ولوجودها. والشرط لا بد ان يكون
مقدّما من حيث الوجود على المشروط ، اذ تقدمه عليه طبعي ، كتقدم الجزء على الكل ،
نحو تقدم الواحد على الاثنين. والحال ان وجود ذي المقدمة ليس في عرض وجود المقدمة
فضلا عن التقدم وجودا بل متأخر ، والشيء المتأخر وجودا ليس شرطا للشيء المتقدم
وجودا وتحققا.
وثانيا : من وجوب
نفسي للصلاة ان يتولّد الامر بالوضوء لانه مقدمة الصلاة التي تجب نفسيا ، وان
يتولّد من الامر بالوضوء الامر الغيري بالصلاة. فالامر النفسي بالصلاة مستلزم
الأمر الغيري بالصلاة بواسطة الوضوء ، ولوجوبه ، اذ الصلاة تكون من المقدمات
الوجودية للوضوء ، اي على فرض وجوب المقدمة الموصلة فقط.
وثالثا : اجتماع
الوجوبين النفسي والغيري في الصلاة ، فالتالي باطل فالمقدم مثله. فالتوصل ليس
بغاية وغرض لوجوب المقدمة فلو كان غاية لما كان قيد ذي الغاية.
وكأنّ صاحب (الفصول)
قدسسره قد خلط بين الجهة التقييدية وبين الجهة التعليلية ، وقال
ان التوصل غاية وجوب المقدمة ، فان لم تحصل هذه الغاية فلا تكون واجبة ، وزعم ان
الغاية قيد وجوب المقدمة.
وقد عرفت ان
الغاية هي التمكن لا التوصل. والتمكن لا يتخلف في جميع المقدمات. وهو مترتب على
المقدمات. بخلاف التوصل اذ هو يتخلف في اكثر المقدمات ولا يترتب على الامر المقدمي
كما علم سابقا.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى
دقة المطلب المذكور. واما قوله : واغتنم اشارة الى انه لم يسبقني في التحقيق
المذكور احد من الاصوليين والعلم عند العالم.
استدلال صاحب (العروة):
قوله
: ثم انه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى عن مقدماته بانحائها ... الخ وهذا اشارة الى استدلال السيد صاحب (العروة) على اختصاص
الوجوب الغيري بالموصلة على الطريق الآخر ، وهو ان المولى اذا أمر عبده باتيان
الحج مثلا ، ويقول إني أريد الحج ولا اريد من مقدماته الا ما رتب عليه الحج فقد
انحصر الوجوب التبعي بالمقدمة الموصلة.
فبالوجدان يكون
هذا النوع من الامر صحيح عن المولى فهذا يكشف عن ان وجوب المقدمة مشروط بالتوصل
وغير الموصلة غير واجب.
جواب المصنف :
قوله
: ضرورة انه ، وان لم يكن الواجب منها حينئذ غير الموصلة ... الخ فاجاب المصنف قدسسره عنه بوجهين :
الاول
: ان النّهي عن
جميع المقدمات الا من الموصلة منها محل نظر اذ هو مستلزم لامر محال وهو تحصيل
الحاصل ، وسيأتي عن قريب ان شاء الله تعالى.
وعلى فرض تسليم
النّهي نقول ان الفرق موجود بين هذا وبين ما نحن فيه ، اذ ـ في هذا المقام ـ
انحصار الوجوب بالمقدمة الموصلة يكون بملاحظة النّهي من جانب المولى عن المقدمات
الأخر ، والنّهي مانع عن تعلق الوجوب الغيري بها.
اما فيما نحن فيه
فالمقدمات ، سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة ، مباحة.
اذ لا يتعلق بها
النّهي عن بعض فلو انحصر الوجوب التبعي الغيري في هذا المثال الذي ذكره المستدل
بالموصلة فلا يكشف هذا عن انحصار الوجوب بالموصلة في كل الموضع ، سواء وجد النّهي
عن غير الموصلة أم لم يوجد عنه. اذ في هذا المثال يكون المانع موجودا وهو نهي
المولى عن اتصاف غير الموصلة منها بالوجوب الغيري ، والحال ان محل الكلام في
الموضع الذي ليس المانع فيه موجودا.
فبالنتيجة
: في المثال
المذكور تكون الموصلة وغير الموصلة متساويتين من
حيث عنوان
المقدّمية والتمكن ، لكن النّهي عن سائر المقدمات انحصر وجوب الغيري بالموصلة ، لا
ان اصل الوجوب بذاته مع قطع النظر عن نهي المولى منحصر بالموصلة دون غيرها من غير
الموصلة.
قوله
: مع ان صحة المنع عنه كذلك نظرا وجهه انه يلزم ان لا يكون ... الخ فاجاب المصنف عن استدلال صاحب (العروة) بوجه ثان وهو صحة
النّهي عن المقدمات ـ الا الموصلة منها ففيها نظر ـ لانه يلزم حينئذ ان لا يكون في
ترك الواجب عصيان ببيان ان كل واجب مشروط بالقدرة على مقدماته عقلا وشرعا ، فاذا
عجز المكلف من المقدمات عقلا او شرعا للنّهي عن المقدمات ولعدم كونها مباحة فليس
في ترك هذا الواجب عصيان لعدم القدرة على ايجاده في الخارج شرعا بدونها ، اي بدون
المقدمات.
والحال ان الممتنع
شرعا كالممتنع عقلا ، فيسقط الوجوب النفسي ، فلا يكون ترك ذي المقدمة عصيانا ،
فاذا نهي عن المقدمات فهي غير مباحة ، الا عن الموصلة منها وهي مباحة ، واباحتها
لا تتحقق الا بعد كونها موصلة ، وموصليتها لا تتحقق الا بعد فعل المقدمة ، وبعد
فعل ذي المقدمة ، فلا اباحة لها قبل فعل المقدمة ، وقبل فعل ذي المقدمة. اذ عنوان
الموصلية شرط في اباحة الموصلة. فاذا لم تكن موصلة فلا محالة تكون المقدمة منهيا
عنها ، وكل منهيّ عنه بالنهي التحريمي محرم ، فلا تكون للواجب مقدمة مباحة. فترك
الواجب الذي ليست له مقدمة مباحة ليس عصيانا. ولو أمر المولى بعد فعل المقدمة ،
وبعد فعل ذي المقدمة لكان امره طلبا للأمر الحاصل ، والطلب الحاصل لغوا ، ولا يصدر
من المولى الحكيم.
فظهر ان الامر
بالحج والنّهي عن جميع مقدماته ـ الا عن مقدمته الموصلة اليه ـ يوجب لاحد امرين :
اما جواز ترك
الواجب بلا عصيان وبلا مخالفة للمولى ، اذا لم يأت المكلف بعد الإتيان بالمقدمة ذا
المقدمة والواجب النفسي.
واما جواز طلب
الامر الحاصل اذا اتى بذي المقدمة.
وكلاهما باطل ، اذ
الاول خلاف الفرض ، والثاني محال للغويته.
فتلّخص مما ذكر أن
القول بوجوب المقدمة الموصلة يوجب لمحذورين احدهما الدور ، وثانيهما اجتماع الوجوب
النفسي والوجوب الغيري في موضوع واحد.
اما
بيان الاول (الدور) : فلان
قيد الايصال ، ان كان من قيد وجوب المقدمة فمقتضاه توقف وجود المقدمة الموصلة من
حيث الموصلية على وجود ذي المقدمة.
ومن الواضح ان
وجود ذي المقدمة في الخارج يتوقف على وجود المقدمة فيه فهذا دور وهو باطل بل محال
كما قرّر في محلّه.
واما
بيان الثاني (اجتماع الوجوب
النفسي والوجوب الغيري) : فلان ذا المقدمة يصير من المقدمات الوجودية للمقدمة
الموصلة فيجتمع حينئذ الوجوب النفسي والوجوب الغيري في ذي المقدمة وهو موضوع واحد
ولا يمكن ان يؤكد احدهما الآخر ، لان احدهما علة ، اي وجوب المقدمة بالوجوب الغيري
علّة لوجوب غيري ذي المقدمة ، اي وجوب المقدمة الموصلة علة لوجوب غيري ذي المقدمة
، والآخر معلول ، اي وجوب غيري ذي المقدمة معلول وجوب غيري المقدمة الموصلة على
الفرض. والعلية والمعلولية تقتضي تعدد الوجود والموضوع فلا يدفع المحذور الثاني
كالمحذور الاول.
وتلخص أيضا مما
ذكر ان الغاية والغرض من وجوب المقدمة عقلا او شرعا بالامر المولوي الضمني على
اختلاف الرأيين هو التمكن وامكان التوصل ، لا التوصل الفعلي كما قال به صاحب (الفصول).
وان التوصل لو سلّمناه يكون على نحو التعليل لا التقييد ، وان قال بالتقييد صاحب (الفصول)
قدسسره. والفرق بين الجهة التعليلية وبين الجهة التقييدية قد مرّ
سابقا فلا حاجة الى الاعادة فتدبر جيدا.
ثمرة القول
بالمقدمة الموصلة :
قوله
: بقي شيء وهو ان ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ... الخ.
أولا : قبل الشروع
في بيان الثمرة لا بد من بيان وجه التدبر الذي مرّ سابقا
وهو انه تدقيقي
لوجهين :
أ ـ ظهور لفظ
التدبر في التدقيقي.
ب ـ لتقييده بلفظ
الجيد.
وثانيا : نشرع في
بيان ثمرة القول بالمقدمة الموصلة فيقال ان التوضيح اي توضيح الثمرة الفقهية يحتاج
الى بيان امور :
احدها
: كون ترك احد
الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر ، كترك الصلاة مقدمة لفعل الازالة ، اي مثل ان ترك
الصلاة التي هي ضد للازالة يكون مقدمة وجودية لفعل الازالة.
ثانيها : ان تكون مقدمة الواجب المطلق واجبة مطلقا ، اي سواء كانت
موصلة ام كانت غير موصلة ، حتى يجب ترك الصلاة مقدمة لفعل الازالة.
ثالثها : ان يكون الامر بالشيء على نحو الايجاب مقتضيا للنهي عن
الضد.
رابعها : ان يقتضي النّهي عن العبادة فساد المنهي عنه.
اذا علمت هذه
الأمور فيعلم ان ثمرة القول بوجوب المقدمة الموصلة هي صحة الصلاة التي يتوقف على
تركها فعل الازالة التي هي واجب فوري ، بناء على ان ترك الضد الذي هو الصلاة مما
يتوقف على فعل ضده ، الذي هو ازالة النجاسة عن المسجد. فان ترك الصلاة على القول
بوجوب المقدمة الموصلة ليس مطلقا واجبا ، بل يكون تركها واجبا اذا كان موصلا الى
فعل ضد الواجب الفوري ليكون فعل الصلاة محرّما ومنهيا عنه ، فتكون فاسدة في الصورة
التي يترتب عليها فعل الضد الواجب الفوري الذي هو الازالة.
ومن المعلوم انه
مع الإتيان بالصلاة ليس هناك ترتب فعل ضد الواجب الفوري ، فلا يكون ترك الصلاة مع
عدم الايصال ومع عدم الترتب واجبا فليس فعل الصلاة منهيا عنه ، فلا تكون فاسدة.
هذا على قول صاحب (الفصول)
قدسسره واما على القول بوجوب مطلق المقدمة ، سواء كانت موصلة أم
كانت غير موصلة ، فيكون فعل الصلاة منهيا عنه ، اذ تركها
مطلقا مقدمة
الازالة الواجبة ، وفعل الصلاة الذي هو ضد تركها وضد فعل الازالة يكون منهيا عنه
وحراما ، والحال ان النّهي في العبادات يقتضي فساد المنهي عنه فتكون باطلة.
فقد تلخّص مما ذكر
ان ترك العبادة والصلاة واجب ، وفعلها حرام ، اذا كان الترك موصلا الى فعل الازالة
لتحقق عنوان الموصلية. فاذا تحقق هذا العنوان فالترك واجب لكونه موصلا الى فعل ضد
الواجب ، فضد الترك وهو فعل الضد ، اي فعل الصلاة ، حرام ومنهيّ عنه على قول (الفصول).
واما على القول
المشهور فإن ترك الصلاة مطلقا سواء كان ترك الصلاة بقصد الايصال الى الازالة أم
كان لا بقصد فعل الازالة بل لقصد أمر آخر كالنوم مثلا ، واجب ، فضد الترك وهو فعل
ضد الازالة حرام منهي عنه ، فتكون باطلة لتحقق عنوان المقدمية في مطلق ترك الصلاة.
تتمة
: قول صاحب (الفصول)
وهي أنه اذا لم يكن ترك العبادة بقصد الايصال الى فعل ضد الواجب ، بل يكون لقصد
آخر فهو ليس بواجب. وحينئذ يجوز ضده وهو فعل الصلاة فتكون صحيحة. فالصلاة صحيحة
عند المزاحمة مع الازالة ، ان كان تركها لا بقصد التوصل الى فعل الضد لعدم تحقق
عنوان الموصلية كي يجب تركها ويحرم فعلها ، بناء على قول (الفصول) قدسسره. وهي باطلة عند القائل بوجوب مطلق المقدمة لتحقق عنوان
المقدمية في ترك الصلاة ، فيجب تركها مقدمة للواجب الفوري ، وهو ازالة النجاسة.
ويحرم ضد الترك ، وهو فعلها.
قوله
: وربما أورد على
تفريع هذه الثمرة بما حاصله ان فعل الضد ... الخ المورد هو الشيخ الانصاري قدسسره ، وخلاصة ايراده على الثمرة المذكورة : ان فعل الصلاة عند
المزاحمة مع الازالة بناء على وجوب المقدمة الموصلة ، منهيّ عنه وباطل. اذ بناء
على وجوب المقدمة الموصلة ، وان لم يكن فعل الصلاة ضد ترك الواجب ، لأن هذا الترك
ليس بموصل الى الازالة في حال فعل الصلاة كى يجب ، ولكن يكون فعل الصلاة ملازما
لترك الواجب لانّ ترك الخاص الموصل مقدمة وواجب على قول
(الفصول) ، ورفع
هذا الترك الموصل يكون بنحوين :
الاول
: ان يكون رفعه
بفعل الصلاة.
والثاني
: ان يكون رفعه ،
اي رفع ترك الموصل ، بترك غير الموصل الى الازالة كترك الصلاة بدون الإتيان
بالازالة.
اما بيان وجه عدم
كون فعل الضد نقيضا لترك الواجب الموصل فهو امكان ارتفاعهما. مثل ما اذا ترك الصلاة
والازالة معا ولو كانا نقيضين لم يجز ارتفاعهما لان النقيضين لا يرتفعان كما انهما
لا يجتمعان كالحركة والسكون والعلم والجهل.
بخلاف الضدين ،
فانهما لا يجتمعان ولكنهما يرتفعان كالسواد والبياض مثلا ، فاذا أتى المكلف
بالصلاة عند المزاحمة مع الازالة فقد ارتفع الترك الموصل الذي يجب مقدمة للازالة
الواجبة ، وكذا اذا لم يأت المكلف بالصلاة والازالة بان تركهما معا فقد ارتفع
الترك الموصل أيضا وكلاهما ضدان لترك الموصل. فالصلاة ملازمة مع ضدين : احدهما ترك
الموصل ، والآخر ترك غير الموصل.
فبناء على القولين
تكون الصلاة منهيا عنها لان الامر بالازالة يقتضي النّهي عن ضدها. والحال ان
النّهي في العبادات يقتضي فساد المنهي عنه فترك غير الموصل وفعل الصلاة وهما ضدان
، مع الازالة يكونان منهيا عنهما ومحرمين ، بناء على اقتضاء الامر بالشيء النّهي
عن ضده. فالصلاة الملازمة لضد المحرم محرّمة ، فهي فاسدة على القول بوجوب المقدمة
الموصلة. فهذه الثمرة ليست تامة. اذ الملازم المحرم محرم. فترك الصلاة مقدمة
وجودية للازالة على كل قول ، كما ان فعل الصلاة مع رفع الترك المطلق ملازمان مع
الترك الموصل.
غاية الامر ان كون
ترك الخاص الموصل واجبا لكونه مقدمة الازالة يتحقق رفعه بامرين : الاول : بترك
المطلق. والثاني : بفعل الصلاة.
اما اذا كان الترك
المطلق واجبا انحصر رفعه بفعل الصلاة. وكون الملازم منحصرا او متعددا لا يضر في
محل البحث. فالصلاة بناء على القول بوجوب المقدمة الموصلة ، منهي عنها وباطلة عند
المزاحمة مع الازالة. او هي ليست بمنهي
عنها. فلا انفكاك
بين القولين بالاضافة اليها. بل هي فاسدة على كلا القولين ، او هي صحيحة على كلا
القولين.
ويمكن ان يقرر
ايراد الشيخ الانصاري على ثمرة صاحب (الفصول) رحمهماالله بتقرير آخر وهو انه ثبت في علم المنطق كون نقيض الاخص أعم
، وكون نقيض الاعم أخصّ ، مثل الانسان والحيوان فنقيضهما وهو اللاانسان واللاحيوان
، يكون بعكس العينين ، فكل لا حيوان لا انسان ، وليس كل لا انسان لا حيوان ، بل
بعضه حيوان كالفرس مثلا ، فكذا فيما نحن فيه فيكون نقيض الاخص ، الذي هو ترك
الموصل الذي هو مقدمة واجبة لفعل الازالة على قول (الفصول) أعم من نقيض الاعم ،
وهو الترك المطلق. فنقيض الترك الموصل أعم من الفعل ـ اي فعل الصلاة ـ ومن الترك
المجرد عن خصوصية الايصال. لان نقيض الاخص المطلق يكون الاعم المطلق ، فيكون فعل
الصلاة لازما لفرد النقيض ان كان عموم نقيض الاخص عموما مورديا (فئويا) تحققيا لا
مصداقيا ، وإلّا كان فعل الصلاة من افراد النقيض لا ملازم لفرد النقيض. يعني اذا
تحقق نقيض الاخص ، الذي هو ترك الموصل الواجب مقدمة لفعل الازالة ، تحقق فعل
الصلاة او الترك المجرد عن عنوان الايصال اذ نقيض كل شيء رفعه. فنقيض ترك الموصل
الواجب هو رفعه باحد الامرين : اما بفعل الصلاة التي هي ضد الازالة ، واما بترك
المجرّد عن الايصال. فنقيض الترك المطلق أخصّ اذ رفعه يتحقق بفعل الصلاة فقط.
فظهر ، مما ذكر من
عمومية نقيض الاخص وخصوصية نقيض الاعم ، ان النسبة بينهما عموم من وجه. مورد الاجتماع
هو ما اذا فعل المكلف الصلاة فيتحقق حينئذ رفع ترك الموصل ورفع ترك المطلق. ومورد
الافتراق عن نقيض الأخص ما اذا ترك المكلف الصلاة والازالة معا ، فيتحقق حينئذ
نقيض الاخص ـ يعني رفع ترك الموصل الواجب ـ ولا يتحقق رفع ترك المطلق. ومورد
الافتراق عن جانب نقيض الأعم ما اذا ترك الصلاة وحدها بقصد ازالة النجاسة بعد ترك
الصلاة ، فيتحقق رفع الترك المطلق حينئذ ، لانه رفع الترك المجدد عن الايصال.
قال الشيخ قدسسره وهذا اللزوم يكفي في اثبات الحرمة لفعل الصلاة. فهي منهي
عنها ، فتبطل. اذ النّهي عن الشيء نهي عن لازمه. فالنهي عن نقيض الازالة نهي عن
لازم النقيض. فاذا نهى المولى عن ترك ترك الموصل فقد نهى عن لازم ترك ترك الموصل ،
وهو فعل الصلاة. وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرّما ، سواء كان فعل الصلاة أم كان
فعلا آخر من الافعال بعد الأمر بالازالة فيما اذا كان ترك مطلق الفعل واجبا بناء
على القول المشهور ، وهو المتصوّر ، لان الفعل من الافعال ليس نقيضا للترك ، اذ
الفعل أمر وجودي ، والحال ان نقيض الترك انما يكون رفع الترك لان نقيض كل شيء
رفعه. ورفع الترك ـ اي ترك ترك الفعل ـ يلازم الفعل من الافعال ، وليس رفع الترك
عين الفعل ، بل هو لازمه ـ وهذا يظهر عند التأمل ـ وهذه الملازمة تكفي في اثبات
الحرمة لمطلق الفعل بعد الامر بالازالة ، فكذا تكفي في المقام. فيصير فعل الصلاة
محرما بعد الامر بالازالة ، وهي فاسدة ، فلا تتم ثمرة (الفصول).
غاية الامر : ان
ما هو النقيض في الترك المطلق ينحصر مصداقه في فعل من الافعال ، واما النقيض للترك
الخاص الموصل فله فردان : احدهما : فعل الصلاة مثلا. وثانيهما : الترك المجرد عن
خصوصية الايصال. وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده كما لا يخفى ، وهو حرمة ملازم
النقيض. فاللازم حينئذ إما القول بكون الصلاة منهيا عنها ومحرمة وباطلة حتى على
القول بوجوب المقدمة الموصلة إذ تكفي الملازمة في الحرمة. واما القول بوجوب مطلق
المقدمة ، سواء كانت موصلة أم كانت غير موصلة. فلا تفكيك بين القولين بالاضافة الى
الصلاة من حيث الصحة والبطلان. انتهى كلام الشيخ الانصاري قدسسره.
جواب المصنف عن اعتراض
الشيخ الانصاري :
قوله
: وانت خبير بما بينهما من الفرق فان الفعل في الاول لا يكون ... الخ فاجاب المصنف عن اعتراض الشيخ على صاحب (الفصول) بان الفرق
بين الموردين ، وبين القول بوجوب المقدمة الموصلة ، وبين القول بوجوب مطلق المقدمة
، واضح. فاذا
قلنا بوجوب مطلق
المقدمة فالترك الخاص الموصل يكون واجبا. اذ هو مقدمة وجودية لفعل الازالة ونقيضه
الصريح رفعه. اذ نقيض كل شيء رفعه.
فبناء على هذا فعل
الصلاة ليس بملازم لرفع ترك الخاص الموصل لواجب عند (الفصول) ، بل مقارنه. اذ رفع
ترك الخاص قد يتحقق في ضمن فعل الصلاة وقد يتحقق في ضمن الترك المجرد عن عنوان
الايصال ، نظير النظر الى المرأة الاجنبية ، لانه قد يتحقق في ضمن المعاشرة معها
وقد يتحقق بدون المعاشرة. ولكن الشيء المقارن للحرام ليس بحرام ، مثل المعاشرة مع
الاجنبية التي تقارن مع النظر الحرام ، فهي مباحة والنظر حرام. فكذا في المقام ،
فنقيض الترك الخاص الموصل ـ اي ترك ترك الموصل ـ حرام ومنهي عنه.
واما مقارنه ، وهو
فعل الصلاة مباح. نعم لو كان فعل الصلاة لازما لرفع ترك الخاص الموصل الواجب ،
بحيث لا ينفك عنه ، كوجود النهار الذي لا ينفك عن طلوع الشمس اذ هو لازمه المساوي.
فلا يكون لفعل الصلاة حكم آخر غير الحرمة.
واما على المشهور
فترك الصلاة واجب في صورة المزاحمة مع الازالة من جهة كونه مقدمة لفعل الازالة.
ففعل الصلاة يكون النقيض الصريح للترك من حيث المصداق ، وان لم يكن نقيضه الصريح
من حيث المفهوم. اذ نقيض الترك رفع الترك. لكن فعل الصلاة يكون متحدا مع نقيض
الترك مصداقا وخارجا ، بحيث اذا وجب ترك الشيء حرم فعله. فترك الخاص يرتفع بأمرين
: فعل الصلاة والترك المجرد. ففعلها لا يكون لازم رفع ترك الخاص بل يكون مقارنه.
ولا يكون عينه في الخارج. ففعل الصلاة يباح بالمعنى الأعم الشامل للواجب ، واما
الترك المطلق فلا يرفع إلّا بسبب الفعل ، اي فعل الصلاة. ففعلها لازم النقيض ، اي
نقيض ترك المطلق ، ولا ينفك عنه ، ومتحد معه مصداقا. فعلى القول بوجوب المقدمة
الموصلة للصلاة لا تكون منهيا عنها. فهي صحيحة. فثمرة (الفصول) تامة.
قوله
: فتدبّر جيدا
تدقيقي لوجهين :
الاول : لتقييده
بلفظ الجيد.
والثاني : لظهور
لفظ التدبر في التدقيق ، فهو اشارة الى دقة المطلب المذكور سابقا. واما توضيح قول
المصنف : «ولا يكاد تسري حرمة الشيء الى ما يلازمه فضلا عما يقارنه احيانا» الى
قوله : «إلّا ان يكون محكوما بحكمه» فسيأتي ان شاء الله تعالى في مسألة الضد.
الواجب الاصلي
والتبعي :
قوله
: ومنها تقسيمه الى الاصلي والتبعي والظاهر ان يكون هذا التقسيم بلحاظ ... الخ قال المصنف قدسسره ان من الأمور التي ينبغي تقديمها على المقصد تقسيم الواجب
الى واجب اصلي والى واجب تبعي فقال ان الاصالة والتبعية تلحظان تارة بلحاظ الواقع
ومقام الثبوت ، واخرى بلحاظ كيفية الدليل ومقام الاثبات.
اما على الاول :
فان الواجب تارة يكون ملتفتا اليه ومطلوبا للمولى ومتعلقا لارادته بما هو عليه في
الواقع من الملاكات الموجودة في نفس الواجب.
واخرى لا يكون
الواجب ملتفتا اليه وملحوظا بما هو عليه من الملاكات فيه ، بل يكون لازم مطلوب
المولى ، بحيث لو التفت اليه طلب طلبا أكيدا.
والاصالة والتبعية
بلحاظ مقام الثبوت مع قطع النظر عن مقام الاثبات والدلالة ينقسم الواجب الغيري فقط
الى الاصلي والتبعي.
فالاصلي منه هو ما
كان ملتفتا اليه ، والمولى يلتفت بمقدميته ، ولاجل مقدميته يكون مطلوبا كما في مثل
الوضوء في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
والتبعي منه ما
كان غير ملتفت اليه وان كان مقدمة لواجب نفسي في الواقع ، ولكن المولى لم يلتفت
الى مقدّميته بحيث اذا التفت اليه بما هو عليه من الملاكات فيه لطلبه وأمر به وذلك
مثل السّعي للحج.
__________________
واما الواجب
النفسي فهو اصلي فقط ، ولا يكون تبعيا. فالاصلي منه مثل الصلاة ، اذ المولى يلتفت
او التفت اليها والى ملاكاتها الكائنة فيها ولذا طلبها وأمر بها في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بالاصالة.
واما انه ليس
تبعيا ، لان المولى اذا لم يلتفت اليه لم يكن وجوب في الواقع لا أصليا ولا تبعيا ،
واذا التفت اليه كان الطلب أصليا لا تبعيا ، فظهر ان الواجب النفسي بلحاظ الاصالة
، والتبعية بلحاظ مقام الثبوت. والواقع لا ينقسم الى الاصلي والى التبعي. اي أن
الواجب نفسي فقط. وان الواجب الغيري بلحاظ مقام الثبوت ينقسم اليهما هذا في مقام
الثبوت. واما في مقام الاثبات والدلالة ، اي دلالة الدليل في مقام الافادة ، وفي
مقام دلالة الدليل ، فينقسم الواجب النفسي والواجب الغيري الى الاصلي والتبعي.
بيان ذلك ان
الواجب النفسي يمكن ان يستفاد من الخطاب مستقلا ، مثل الواجبات النفسية الاصلية
كالصلاة والمعرفة باصول الدين والزكاة والصوم ونحوها ويمكن ان يستفاد بتبع شيء آخر
، مثلا اذا قال المولى : (اذا فسق العالم فلا يجب اكرامه). ويستفاد منه صريحا
بمنطوقه عدم وجوب اكرام العالم الفاسق. ولكن مفهومه (اذا عدل العالم فيجب اكرامه)
فوجوب اكرام العالم العادل واجب نفسي يستفاد من مفهوم الكلام الذي هو تابع لمنطوق
الكلام في التفهيم والتفهم.
وفي هذا المقام لا
منافاة بين الدلالة التبعية وبين وجوب نفس الشيء ـ اي بين استفادة وجوب نفسي الشيء
بتبع شيء آخر ـ وبين كون الشيء واجبا نفسيا اذ لا يشترط استفادته من الخطاب الذي
قصد به الافهام مطابقة وصراحة ، بل يجوز ان يستفاد من الخطاب ومن الدليل سواء دل
عليه الخطاب مطابقة أم دل عليه التزاما.
وان الواجب الغيري
يجوز ان يستفاد من الخطاب مستقلا ، ويدل عليه مطابقة مثل الوضوء ، لانه يدل على
وجوبه الغيري قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) يمكن ان يستفاد الواجب الغيري من الخطاب بالالتزام ، ويدل
عليه بدلالة الإشارة وهي ان لا تكون الدلالة مقصودة
بالقصد الاستعمالي
عرفا ، ولكن يكون مدلول الدلالة لازما لمدلول الكلام لزوما بينا بالمعنى الأعم ،
مثل الامر بالشيء على نحو الايجاب ، فوجوب هذا الشيء يدل على وجوب مقدمته ، اذ هو
لازم لوجوب ذي المقدمة باللزوم البيّن بالمعنى الأعم.
ولذا جعل
الاصوليون وجوب المقدمة وجوبا تبعيا لا أصليا لانه ليس بمدلول للكلام بالقصد
الاستعمالي بحسب العرف ، بل يفهم وجوبها بالتبع اي بدلالة الإشارة فصارت الاقسام
اربعة :
الاول
: واجب نفسي اصلي
كالواجبات النفسية الاصلية. كالمعرفة بأصول الدين ، مثلا.
والثاني
: واجب نفسي تبعي
كالواجبات التي تستفاد من مفاهيم الخطاب والكلام ، كمفهوم الشرط والوصف ، مثلا ،
اذا قال المولى (لا تكرم العلماء ان كانوا فساقا) فيستفاد منه وجوب اكرامهم اذا
كانوا عدولا.
والثالث
: واجب غيري أصلي
كالوضوء.
والرابع
: واجب غيري تبعي
كمقدمات الواجب على القول به ، اي بالوجوب.
فعلم ان الواجب
بكلا قسميه أصلي وتبعي بلحاظ مقام الاثبات. وأما في مقام الثبوت فالتقسيم منحصر
بالواجب الغيري ولا يجري في الواجب النفسي كما سبق.
قال المصنف قدسسره الظاهر أن هذا التقسيم بلحاظ حال مقام الثبوت لا بلحاظ
مقام الاثبات وحال الدليل والخطاب يدل عليه ، انه لو كان التقسيم بملاحظة مقام
الاثبات ، فلا بد ان يقسم الواجب الى الأصلي والتبعي بلحاظه ، والحال ان تقسيم الواجب
اليهما لا يتوقف على ملاحظة الدليل وعلى كيفية دلالته ، فعلم ان هذا التقسيم بلحاظ
مقام الثبوت مع قطع النظر عن مقام الاثبات والدلالة اي دلالة الدليل على الواجب.
قوله
: ثم انه اذا كان
الواجب التبعي ما لم يتعلق ... الخ فان كان الواجب التبعي عبارة عن الواجب الذي لا
تتعلق به الارادة المستقلة من المولى ، فاذا شككنا في واجب أهو واجب أصلي أم واجب
تبعي؟ فمقتضى الاصل كونه واجبا تبعيا لان
الاصل عدم تعلق
الارادة المستقلة به ، اذ الواجب التبعي أمر عدمي موافق لاصالة العدم ويثبت به
ويترتب عليه آثاره الشرعية اذ وجوبه أحرز بالوجدان وتبعيته ثبتت بالأصل كما هو
الشأن في كل موضوع مركب من أمر وجودي ومن أمر عدمي.
فاذا كان الوجودي
محرزا بالوجدان ، والعدمي بالاصل ، رتب على العدمي اثره. كما اذا شكّ في كون اللحم
المطروح في الارض المشتركة بين المسلمين والكفار ميتة أو مذكى ، فالاصل فيه عدم
التذكية. اي يستصحب فيه عدم التذكية. ويحرز بالاصل انه ميتة. بناء على كون الميتة
مما لم يذكّ. ويترتب عليه حينئذ آثارها. فاللحم ـ موضوع الحلية او الحرمة ـ يقال
انه حلال او حرام. مركب من الامر الوجودي ، وهو كونه لحما ، ومن الامر العدمي وهو
عدم تذكيته بالأصل. اي باستصحاب عدم التذكية. فوجود اللحم محرز بالوجدان ، وعدم
تذكيته محرز بالاستصحاب.
واما ان كان
الوجوب التبعي أمرا وجوديا بمعنى انه مما تعلقت به ارادة اجمالية تبعا لارادة غيره
، بحيث يكون الواجب التبعي نوعا من مراد المولى ، والواجب الاصلي نوعا آخر من
المراد ، وبحيث يكون ثبوت كل واحد منهما يستلزم نفي الآخر.
ومن المعلوم ان
كليهما يخالف استصحاب العدم ، فلا يثبت تعلق الارادة الاجمالية تبعا لارادة غيره
به ، اي فلا يثبت بالاصل كون الواجب تبعيا ، اي لا يثبت باستصحاب عدم تعلق الارادة
المستقلة بالواجب تعلّق الارادة الاجمالية تبعا لارادة غيره الا على القول بالاصل
المثبت ، اذ ليس تعلق الارادة الاجمالية تبعا لارادة الواجب بالواجب من الآثار
الشرعية للمستصحب الذي هو استصحاب عدم تعلق الارادة المستقلة بالواجب ، بل يكون من
آثاره العقلية ، اذ الوجوب محرز بالوجدان ، وهو واضح لا غبار عليه.
قوله
: فافهم وهو اشارة
الى ان استصحاب عدم تعلق الارادة المستقلة بالواجب بعد العلم الاجمالي بتعلق
الارادة بالواجب ليس صحيحا. اذ الوجوب
محرز بالوجدان.
ولكن يكون الشك في اصالة الواجب وتبعيته ، بل مشكل جدا ، سواء كان الواجب التبعي
مما لم تتعلق به ارادة مستقلة ، أم كان مما تعلقت به ارادة اجمالية ارتكازية تبعا
لارادة غيره ، لان الاصل معارض بمثله ، يعني اذا كان الاصل عدم تعلق الارادة
المستقلة بالواجب كان الاصل عدم تعلق ارادة اجمالية ارتكازية بالواجب ، مضافا الى
كون الاصل مثبتا ونحن لا نقول به.
ثمرة المسألة :
قوله : تذنيب في
بيان الثمرة وهي في المسألة السابقة الأصولية ليست إلّا ... الخ فالمسألة الاصولية
كما علمت سابقا المسألة التي تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي.
فالملازمة في مقام
البحث عقلا بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدماته مسألة اصولية عقلية ، اذ نتيجتها وهي
ثبوت الملازمة او لا ثبوتها ، على القول بعدم الوجوب ـ اي وجوب المقدمة فرضا
بضميمة المقدمة الوجدانية ـ تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، مثلا :
يقال ان الوضوء مقدمة للواجب ، وكل مقدمة للواجب واجبة لثبوت الملازمة عقلا بين
وجوب الشيء ووجوب مقدماته وملازماته. فالوضوء واجب. فمسألة مقدمة الواجب مسألة
اصولية ، لكن عقلية لا لفظية ، لحكم العقل بالملازمة كما سبق.
فالبحث عن مقدمة
الواجب أهي واجبة شرعا أم لا؟ فمورد النزاع الوجوب الشرعي للمقدمة وعدم الوجوب
الشرعي. وإلّا فالوجوب العقلي متفق عليه عند الجميع متفرع على أن وجوب الشيء يلازم
شرعا وجوب مقدماته أم لا؟ ونتيجة هذه المسألة تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي
الفرعي ، وهو وجوب الوضوء او عدم وجوبه. وكلاهما حكم شرعي فرعي.
ولكن ، لا بد أن
تكون للنزاع الأصولي ثمرة او ثمرات في الفقه الشريف ، ولذا قد ذكروا لبحث مقدمة
الواجب ثمرات عديدة :
منها
: انه على القول
بوجوب مقدمة الواجب المطلق ، اذا نذر شخص الإتيان بواجب شرعي له مقدمات وافرة
كالصلاة إذ لها مقدمات كثيرة مثل الوضوء وطهارة البدن واللباس عن الخبث ونحوهما من
المقدمات ، يتحقق البرء من النذر باتيانه بمقدمة واحدة من المقدمات ، اذا قلنا
بوجوب المقدمة. كما اذا فعل الناذر الوضوء مثلا ، ولا يحصل البرء من النذر بفعل
الوضوء اذا قلنا بعدم وجوب المقدمة شرعا.
ومنها
: انه يحصل الفسق
لشخص بترك واجب مع جميع مقدماته اذا كانت له مقدمات كثيرة ، كترك الصلاة مع ترك
جميع مقدماتها وذلك لصدق الاصرار على فعل الحرام الذي هو ترك الواجب حينئذ. فان
المكلف قد ترك واجبات عديدة اذا قلنا بوجوب المقدمة شرعا ، بخلاف ما اذا لم نقل
بوجوبها إذ لا يحصل الفسق بترك الواجب الشرعي مع مقدماته وهو ، ترك نفس ذي المقدمة
، وذلك لعدم صدق الاصرار على الحرام الذي هو درك الواجب حينئذ ، اذ لم يترك واجبات
عديدة بل ترك الواجب الواحد.
ومنها
: انه على القول
بوجوب المقدمة شرعا لا يجوز اخذ الاجرة على فعل المقدمة لحرمة أخذ الاجرة على
الفعل الواجب لمنافاته قصد القربة. بخلاف ما اذا لم نقل بوجوبها فانه يجوز حينئذ
اخذها عليه وهو واضح. فاعترض المصنف قدسسره على الثمرات المذكورة باعتراضين :
الاول
: اعتراض عام مربوط
بجميع الثمرات وهو ان ثمرة المسألة الاصولية ان تكون نتيجتها واقعة في طريق
استنباط الحكم الشرعي الكلي ، مثلا : اذا بحثنا في علم الاصول عن حجّية خبر الواحد
وعن حجّية الاستصحاب وعن حجّية اصل البراءة وجدنا نتيجتها ـ اي نتيجة حجيتها ـ
استنباط حكم شرعي كلي ، نحو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، او وجوب الاقامة اذا
قال بوجوبها خبر الثقة ، او نحو وجوب صلاة الجمعة في حال الغيبة لاستصحابه من زمن
الحضور ، اذ إنها في زمن الحضور واجبة يقينا وفي زمن الغيبة نشكّ في وجوبها ،
فستصحب وجوبها فيه لتمامية اركان الاستصحاب ، او نحو عدم وجوب الدعاء عند الرؤية
للبراءة عنه ، نقلا
وعقلا ان لم يكن
دليل معتبر على وجوبه عندها.
وهكذا ان مثل
البرء وعدم البرء ، ومثل حصول الفسق بترك الواجب الشرعي الذي له مقدمات وعدم حصوله
به ، ومثل جواز اخذ الاجرة على الواجب وعدم جواز اخذها ، ليست من ثمرات مسألة
المقدمة ، ووجه عدم كونها من ثمراتها أن وجوب المقدمة في الثمرات المذكورة مما لا
يستنبط به حكم شرعي كلي ، لان البرء وعدم البرء في النذر موضوع جزئي لا حكم شرعي
كلي ينطبق على موضوعه ، كالوجوب والحرمة ، إذ هما ينطبقان على موضوعاته كالصلاة
والصوم والجهاد ونحوها وكالقتل والسرقة والرشوة وغيرها. وكذا الفسق وعدمه موضوع
جزئي يثبت لشخص دون شخص. اما جواز اخذ الاجرة على الواجب وعدم جوازه فهما حكمان
شرعيان فرعيان وليسا من قبيل ما يقع في طريق استنباط حكم شرعي كلي ، فليس من ثمرة
المسألة. وهذا اشكال عام.
الإشكال الوارد
على الثمرات المذكورة :
قوله
: مع ان البرء
وعدمه انما يتبعان قصد الناذر فلا برء ... الخ فبيّن المصنف الاعتراض الخاص الوارد
على كل واحدة من الثمرات ، وقال ان البرء وعدمه تابعان لقصد الناذر حين النذر
إتيان الواجب النفسي فلا برء للنذر باتيان المقدمة. وان قلنا بوجوب المقدمة وجوبا
غيريا ترشحيا.
واذا قصد اتيان
الواجب بلا قيد النفسي وبلا قيد الغيري وبلا قيد الشرعي يحصل برء النذر باتيان
المقدمة ، ولو قلنا بعدم وجوب المقدمة شرعا ، لان وجوب عقلي المقدمة مسلّم ليس
قابلا للانكار.
واما اذا نذر
اتيان مطلق الواجب ، والمطلق منصرف الى الواجب النفسي لم يحصل برء النذر باتيان
المقدمة.
ولو قلنا بالوجوب
الشرعي للمقدمة فعلم ان برء النذر وعدمه تابعان لقصد الناذر ، فلا دخل لوجوب
المقدمة ولعدم وجوبها فيهما ، فلانه لو كان البرء من ثمرة
وجوب المقدمة لما
انفكت عنه. والحال ان البرء ينفك عن وجوب المقدمة في صورة قصد الناذر إتيان الواجب
المطلق ، فبإتيان المقدمة لا يحصل البرء ، وان قلنا بوجوب المقدمة شرعا لانصراف
الواجب المطلق الى الواجب النفسي ووجوب المقدمة تبعي ، كما ان عدم البرء ينفك عن
عدم وجوب المقدمة شرعا. يعني انه اذا قلنا بعدم وجوب المقدمة شرعا يحصل البرء
باتيان المقدمة ، اذ وجوبها بحكم العقل مسلّم عند الكل في صورة قصد الناذر حين
النذر إتيان مطلق الواجب.
فتلخّص مما ذكرنا
: ان قصد الناذر على انحاء :
الاول : قصد اتيان
الواجب النفسي.
الثاني : قصد
اتيان الواجب المطلق.
الثالث : قصد
اتيان مطلق الواجب.
ففي الصورتين
الاولى والثالثة : لا يحصل برء النذر باتيان المقدمة ، وان قلنا بوجوبها شرعا.
واما في الصورة
الاولى : فظاهر ، لانه يتعلق بالواجب النفسي والمقدمة على القول بوجوبها ، واجبة
غيرية.
واما الصورة
الثانية فلانصراف اطلاق الواجب الى الواجب النفسي.
واما في الصورة
الثالثة : فيتحقق برء النذر باتيان المقدمة وان قلنا بعدم وجوبها شرعا ، اذ وجوب
المقدمة العقلي متّفق عليه ولا ينكر.
توضيح
: بيان الفرق بين
الواجب المطلق وبين مطلق الواجب ، ان الاول يقال في مقابل المشروط ، فيشمل الواجب
النفسي المطلق والواجب الأصلي المطلق كالصلاة والصوم ونحوهما من الواجبات المطلقة
، والواجب الغيري المطلق والواجب التبعي المطلق ، مثل الوضوء والاستقبال ونحوهما
من الواجبات الغيرية التبعية.
وان الثاني يشمل
جميع الواجبات سواء كان واجبا مطلقا أم كان واجبا مشروطا ، وسواء كان واجبا اصليا
أم كان واجبا تبعيا ، وسواء كان واجبا نفسيا أم كان واجبا غيريا ، وسواء كان واجبا
شرعيا ـ اي حكم الشارع المقدس بوجوبه ـ أم
كان واجبا عقليا ـ
اي حكم العقل بالوجوب مع قطع النظر عن حكم الشارع المقدس بوجوبه ـ.
فيكون الثاني اوسع
دائرة من الاول. فالثاني نظير الماهية لا بشرط والاول نظير الماهية بشرط شيء.
فالواجب المطلق هو
الواجب الذي حكم الشارع المقدس بوجوبه. فحكم الشارع المقدس شرط فيه ، بخلاف مطلق
الواجب. إذ المناط فيه وجود الحاكم بالوجوب سواء كان عقلا أم كان شرعا.
وان كان الواجب
المطلق ينصرف الى الواجب النفسي في مقام الاستعمال ، من باب ان الشيء اذا ذكر
مطلقا ينصرف الى الفرد الاكمل ، ولذا لم يحصل برء النذر اذا نذر الناذر إتيان
الواجب المطلق بإتيان المقدمة وان قلنا بوجوبها ، اذ وجوبها غيري ويحصل البرء اذا
قصد الناذر اتيان مطلق الواجب باتيان المقدمة وان قلنا بعدم وجوبها شرعا ، اذ
الوجوب العقلي المقدمة مسلّم. وانما النزاع في وجوبها الشرعي.
الإشكال على
الثمرة :
قوله
: ولا يكاد يحصل
الاصرار على الحرام بترك واجب ولو كانت له مقدمات ... الخ شرع المصنف في الإشكال
الوارد على الثمرة الثانية.
بيانه : انه لا
يتحقق الاصرار على المعصية بترك واجب اذا كانت له مقدمات عديدة. اذ بمجرد ترك
المقدمة الواحدة من المقدمات يترك ذو المقدمة ، وعصى امره فليس في البين امر كى
يكون في ترك سائر المقدمات عصيان حتى يتحقق الاصرار على الحرام ويلزم الفسق.
وبعبارة اخرى وهي
انه حصل العصيان بترك اوّل مقدمة بحيث لا يتمكن المكلف مع ترك اوّل مقدمة من
المقدمات من الإتيان بذى المقدمة ، فيسقط لاجل عدم التمكن وجوب الواجب ، لان
التكليف فرع القدرة ، وبتبعه يسقط وجوب سائر
المقدمات ايضا فلا
يكون تركها حينئذ حراما وعصيانا حتى يحصل الاصرار على الحرام بترك المقدمات ، مثلا
: اذا ترك الوضوء فقد حصل العصيان بتركه ، فالمكلف لا يقدر ـ مع ترك الوضوء ـ من
الإتيان بالصلاة الصحيحة ، فيسقط لاجل تركه وجوب الصلاة عقلا من أصله ، وبتبعه
يسقط وجوب بقية المقدمات من الستر والاستقبال ونحوهما من طهارة البدن واللباس عن
الخبث ، وتحصيل المكان المباح ايضا ، فلا يكون تركها حراما حتى يحصل الاصرار على
الحرام لاجل تركها.
الإشكال على
الثمرة الثالثة :
قوله
: واخذ الاجرة على الواجب لا بأس ... الخ اشار المصنف قدسسره الى الإشكال الوارد على الثمرة الثالثة بهذا البيان وهو ان
اصل الوجوب لا ينافي أخذ الاجرة ، حتى يستلزم القول بوجوب المقدمة عدم جواز اخذها
، ويستلزم القول بعدم وجوبها جواز اخذها على فعل المقدمة. بل عدم جواز اخذها مبتن
على المطلب الآخر وهو انه يستفاد من دليل الوجوب ان الشارع المقدس يطلب الواجب من
المكلف بلا عوض ، وأوجبه عليه مجانا ، فاذن لا يجوز اخذ الاجرة.
واما صرف الوجوب
فلا يلازم المجانية ، بل يمكن ان يكون العمل واجبا على العباد مع العوض كبيع
الطعام ـ اي كوجوب بيعه ـ في المخمصة لحفظ النفوس المحترمة من الهلاك مع العوض ومع
وجوب اعطاء العوض على المشتري.
فظهر ان صرف
الوجوب لا يلازم المجانية ، بل في الواجبات الكفائية التي يختل بتركها نظام معاش
بني آدم ، بل نظام معاش الحيوانات ، مثل الزراعة والخبازة والخياطة وامثالها لا بد
ان يكون في قبالها عوض واجرة ، وإلّا لا يبعد ان لا يقدم احد من الناس عليها فيختل
حينئذ نظام المعاش فلا بد من الاجرة والعوض.
وبالجملة : نفس
الوجوب من حيث هو هو لا ينافي الاجرة ، اي جواز اخذها ، كما زعمه بعض من المجتهدين
قدسسرهم. هذا في الواجبات التوصلية.
واما الواجبات التعبدية
فيمكن ان يقال ان اخذ الاجرة لا ينافي تعبديتها ،
ويجوز اخذ الاجرة
على اتيانها بداعي امتثالها لا على نفس الإتيان كى ينافي اخذ الاجرة عباديّتها
فيكون من قبيل الداعي الى الداعي. اما بيان الداعي الى الداعي فمثل اخذ الاجرة على
فعل العبادات الاستيجارية ، لان الاجرة تكون داعيا للأجير على اتيان العمل متقربا
به الى الله تعالى ، فهذا تصوير الداعي الى الداعي.
وبعبارة اخرى :
وهي انه يشترط في العبادات كون العمل لله تعالى ، واما العمل باي داع كان ، فليس
له هذا التقييد ، فيجوز للمكلف اتيان العمل لله للوصول الى الجنة او للفرار من
النار او لوسعة الرزق او لشفاء المريض ، وكذا يجوز له اتيان العمل لله تعالى لاجل
اخذ الاجرة.
ولا تقدح هذه
الأمور في عباديتها ، وفي اشتراط قصد القربة فيها ، لان هذا الإتيان من قبيل
الداعي الى الداعي ، فالداعي الاول هو جلب رضا الله تعالى بإتيان العمل لله. ولكن
الداعي لرضا الله تعالى هو اخذ الاجرة او الامور المذكورة.
نعم يشترط في
العبادات الاستيجارية ان يعود النفع الى المؤجّر ، وهو براءة ذمة ابيه عن الصلوات
الفائتة ، كما يشترط في مطلق الاجارة ان يصل النفع الى المؤجر ، بل الى الاجير
والمستأجر ، فلو لم يصل النفع اليهما لكانت المعاملة باطلة قطعا ، اذ هي سفهية
وضررية ، وهي فاسدة ، واكل الاجرة في قبالها أكل بالباطل. فلو آجر زيد بكرا على ان
يأتي بكر صلاة ظهره مثلا ، فلا يبعد ان يكون هذا الاستئجار باطلا لعدم وصول النفع
والمنفعة ـ لا دنيويا ولا اخرويا ـ الى المؤجر ، بل يرد عليه الضرر المالي ، وهو
بذل الاجرة للاجير. لا يبطل هذا الاستيجار من اجل كون صلاة الظهر واجبا تعبديا ،
وهذا ظاهر.
فقد تلخّص مما
ذكرنا انه اذا كان نفس العمل وحده واجبا حرم اخذ الاجرة عليه واذا كان نفس العمل
مع الاجرة واجبا جاز اخذ الاجرة عليه. فالاول مثل الواجبات العينية النفسية ،
والثاني مثل الواجبات الكفائية التي يختلّ بتركها نظام المعاش ، بخلاف دفن الميت
المسلم ـ فانه وان كان واجبا كفائيا توصليا ـ لا يجوز اخذ الاجرة عليه ، لان الله
تعالى اوجبه على المكلفين بلا عوض ، فالواجب هو
نفس الدفن وحده.
ثمرة وجوب المقدمة
:
قوله : وربما يجعل
من الثمرة اجتماع الوجوب والحرمة اذا قيل بالملازمة ... الخ فالواجب مثل الحج مثلا
، له مقدمة مثل ركوب الدابة المغصوبة فعلى القول بوجوب المقدمة يجتمع فيها الوجوب
والحرمة ، والامر والنّهي ، اي الامر المقدمي الغيري والنّهي النفسي.
واما على القول
بعدم وجوب المقدمة شرعا فيكون الركوب المذكور حراما صرفا ، فلا دخل له بمسألة
اجتماع الامر والنّهي في شيء واحد ، كما ان الركوب الذي يجتمع فيه الامر والنّهي
على القول بوجوب المقدمة شرعا يرتبط بجواز اجتماع الامر والنّهي في شيء واحد وعدم
جواز اجتماعهما فيه.
ففي المقدمة
المحرّمة يجتمع الامر والنّهي على القول بوجوب المقدمة شرعا وعلى القول بجواز
اجتماعهما فيه ، واما على القول بامتناعهما فيه فالركوب المذكور اما واجب ترجيحا
لمصلحة الوجوب على مفسدة الحرمة واما حرام ترجيحا لمفسدة الحرمة على مصلحة الوجوب
على اختلاف بين الاعلام ، واما على القول بعدم وجوب المقدمة شرعا فهو حرام فقط ولا
دخل له بمسألة الاجتماع المذكور.
اشكال المصنف على
الثمرة :
قوله
: وفيه اولا انه لا يكون من باب الاجتماع كي تكون مبتنية عليه لما اشرنا ... الخ فاورد المصنف إشكالا على الثمرة الرابعة التي تنسب الى
الوحيد البهبهاني قدسسره على ما قيل. وبيان ذلك : ان ركوب الدابة المغصوبة على
القول بوجوب المقدمة شرعا يكون داخلا في النّهي في العبادات ، ولا يدخل في مسألة
اجتماع الامر والنّهي. اذ باب اجتماع الامر والنّهي الذي يكون محل خلاف بين
الاعلام هو ان يتعلق الامر بطبيعة وعنوان ، والنّهي بعنوان آخر وبطبيعة اخرى ، مثل
الصلاة والغصب ، ولكن كلا
العنوانين
يتصادقان في موضوع واحد كالصلاة في المكان الغصبي ، اما ما نحن فيه فليس كذلك ،
لان النّهي يتعلق بعنوان الركوب بما هو ركوب ، والامر يتعلق ايضا بعنوان الركوب
بما هو ركوب الذي يكون مصداق المقدمة ، نحو (صلّ) ، و (لا تصلّ في المكان الغصبي)
، من قبيل (اركب الدابة) ، و (لا تركب الدابة المغصوبة).
وعلى كلا القولين
فالركوب حرام منهي عنه قطعا ، فليس للركوب عنوانان يتعلق الامر المقدمي بعنوان
ويتعلق النّهي النفسي بعنوان آخر كي يكون من قبيل اجتماع الامر والنّهي في شيء
واحد على القول بوجوب المقدمة ، بل يكون داخلا في مسألة النّهي في العبادات.
والحال ان تعلق
النّهي فيها بما تعلق به الامر مسلّم لا يقبل الانكار فلا يتوهم في المقام ان
للركوب عنوانين لانه يكون غصبا ومقدمة للواجب ، فلاجل عنوان المقدمية يكون واجبا
ومأمورا به ، ولاجل عنوان الغصبية يكون منهيا عنه وحراما ، لانا قلنا في السابق ان
عنوان المقدمة لا يكون قيد موضوع الحكم ، بل يكون جهة حدوث الحكم بالوجوب للمقدمة
، والمقدمية المقدمة جهة تعليلية لا جهة تقييدية. فنفس الركوب بما هو ركوب مأمور
به لاجل مقدميته للواجب ، على القول بوجوب المقدمة لا الركوب بما هو مقدمة يكون
مأمورا به. والفرق بين مسألة اجتماع الامر والنّهي وبين مسألة النّهي عن العبادات
سيأتي عن قريب ان شاء الله تعالى عزّ اسمه.
فلا تكون مسألة
المقدمة ـ على القول بوجوب المقدمة شرعا في المقدمة المحرمة كركوب الدابة المغصوبة
للوصول الى الحج ـ من صغريات مسألة اجتماع الامر والنّهي ، بل تكون من صغريات
مسألة النّهي عن العبادة والمعاملة بناء على الملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب
مقدمته وملازمه.
قوله
: في العبادة او المعاملة اشارة الى ان المقدمة على قسمين :
الاول : تعبدي
يشترط فيها قصد القربة كالطهارات الثلاث.
الثاني : توصلي لا
يشترط فيها قصد القربة كركوب الحيوان مقدمة موصلة الى الحج ، او يكون من باب
المثال ، يعني كلمة المعاملة من باب المثال ، والحال انه
ليس من الآداب
المناقشة في المثال.
فبالنتيجة : ظهر
فساد هذه الثمرة الرابعة. هذا اولا.
ويمكن ان يبيّن
هذا الإشكال بوجه آخر ، وهو ان الواجب ـ على القول به ـ ما هو بالحمل الشائع مقدمة
، لا بعنوان المقدمة. يعني المقدمة واجبة ومأمور بها لاجل مقدميتها ، وليس الواجب
المقدمة بما هي مقدمة واجبة ومأمورا بها. وهذه عبارة اخرى لبيان الجهة التعليلية
والجهة التقييدية.
قوله
: وثانيا : لا يلزم
اجتماع الوجوب والحرمة ... الخ لاختصاص وجوب المقدمة في غير صورة الانحصار
بالمحرّمة ، اي بالمقدمة المباحة ، وأما في صورة انحصار المقدمة بالمحرم ففيها لا
وجوب للمقدمة اصلا ، لعدم وجوب ذيها ، لاجل مزاحمة وجوبه مع المقدمة المحرمة.
قوله
: وثالثا : ان
الاجتماع وعدمه لا دخل له في ... الخ فاشكل المصنف على هذه الثمرة ثانيا ، اما
بيانه : فانه لا يجتمع الامر والنّهي في المقدمة المحرّمة على القول بوجوبها اذ ركوب
الدابة المغصوبة الذي مثّل به لا يخلو من وجهين :
الاول
: ان تكون المقدمة
منحصرة في المقدمة المحرمة كان لم يملك المكلف دابة غير هذه المغصوبة.
والثاني
: ان لا تنحصر فيها
، يعني يمكن ركوب الدابة المباحة. ففي صورة عدم الانحصار فالركوب ـ يعني ركوب
الدابة المغصوبة ـ حرام محض ، اذ وجوب المقدمة مخصوص بركوب الدابة المباحة ، لان
الحرمة مانعة عن تعلق الوجوب الغيري بهذا الفرد من المقدمة.
والحال ان المانع
الشرعي كالمانع العقلي فليس اجتماع الامر والنّهي أصلا في هذه الصورة ، واما في
صورة الانحصار فلا يجتمع في الركوب المذكور الوجوب والحرمة ، اذ في هذه الصورة يقع
التزاحم بين وجوب الحجّ وبين حرمة الغصب.
فاذا كان الحج
أهمّ من حرمة الغصب ، اي يكون ملاكه اقوى من ملاكه ، فلا بد ان يكون التصرف في مال
الغير واجبا لاجل مقدميته للواجب الأهم ، ولا يكون
حراما أصلا. واذا
كان التصرف في مال الغير بغير اذنه أهمّ ، فلا يكون الحج حينئذ واجبا فعليا
للتزاحم حتى تجب مقدمته. فالتصرف والركوب حرامان فقط. فلا يجتمع الوجوب والحرمة في
هذا الركوب ، وان قلنا بوجوب المقدمة.
فاعترض المصنف
عليها ثالثا بان اجتماع الوجوب والحرمة في المقدمة وعدم اجتماعهما فيها لا دخل
لهما في التوصل بواسطة المقدمة الى ذي المقدمة ، اذ فائدة كلّ مقدمة هي التوصل بها
الى ذيها ، ان كانت المقدمة توصلية لا يعتبر فيها قصد القربة ، كركوب الدابة
المغصوبة ، سواء قلنا بجواز اجتماع الوجوب والحرمة والامر والنّهي في شيء واحد أم
قلنا بامتناعهما فيه.
فيمكن ان يتوصل
المكلف بواسطة ركوب الدابة المغصوبة الى الحج. فثمرة المقدمة مترتبة عليها على اي
حال في هذا النوع من المقدمة التوصلية ، ولا يتفاوت جواز الاجتماع وعدمه فيها ـ اي
في الثمرة ـ كما لا يتفاوت الحال في الثمرة بين القول بوجوب المقدمة شرعا ، وبين
القول بعدم وجوبها. هذا في المقدمة التوصلية فظهر فساد ثمرة الرابعة ايضا.
واما اذا كانت
المقدمة تعبّدية يشترط فيها قصد القربة كالطهارات الثلاث من الوضوء والغسل والتيمم
، فاذا قلنا بامتناع اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فلا يمكن التوصل
بالمقدمة المحرمة الى ذي المقدمة كالوضوء بالماء المغصوب أو المتنجس ، اذ الحرمة
مانعة عن قصد التقرب الى المولى الحكيم.
واما بناء على
القول بجواز اجتماعهما فيه فيمكن التوصل الى ذي المقدمة بواسطتها سواء قلنا بوجوب
المقدمة شرعا أم لم نقل.
لكن امكان التوصل
بناء على القول بجواز الاجتماع ، وامتناع التوصل بناء على القول بامتناع الاجتماع
المذكور ، يكونان ثمرة القول بجواز الاجتماع ، اي اجتماع الوجوب والحرمة والامر
والنّهي في شيء واحد.
وثمرة القول
بامتناع الاجتماع. وليس امكان التوصل ثمرة القول بوجوب المقدمة شرعا. وليس امتناع
التوصل ثمرة القول بعدم وجوبها ، اذا علم انه بناء على
القول بامتناع
الاجتماع لا يمكن التوصل سواء قلنا بوجوب المقدمة أم قلنا بعدم وجوبها. وانه بناء
على القول بامكان الاجتماع فالتوصل ممكن سواء قلنا بوجوب المقدمة شرعا أم قلنا
بعدم وجوبها.
وبالجملة : لا
يتفاوت الحال في جواز التوصل الى ذي المقدمة بواسطة المقدمة وفي عدم جواز التوصل
أصلا بين ان يقال بوجوب المقدمة او يقال بعدم وجوبها شرعا كما لا يخفى.
والحال ان القائل
بالثمرة الرابعة يقول ان اجتماع الوجوب والحرمة والامر والنّهي في ركوب الدابة
المغصوبة متفرّع على وجوب المقدمة شرعا ، وعدم اجتماعهما فيه مبتن على عدم وجوب
المقدمة ، فليس الامر كذلك اذ امكان التوصل متفرع على القول بجواز الاجتماع وان
قلنا بوجوب المقدمة.
واما السيد الوحيد
البهبهاني قدسسره فقال ان امكان التوصل الى الواجب بواسطة المقدمة المحرمة
كالوضوء بالماء المغصوب متفرع على القول بوجوب المقدمة ، وان امتناع التوصل لاجلها
الى الواجب متفرع على القول بعدم وجوبها شرعا. هذا في المقدمة التعبدية كالطهارات
الثلاث.
فتلخّص مما ذكر :
ان جواز الاجتماع وامتناع الاجتماع لا دخل لهما في الغرض المهم الذي هو عبارة عن
التوصل في المقدمة التوصلية كالركوب المذكور ، كما لا دخل فيه للقول بوجوب المقدمة
والقول بعدم وجوبها. وعلى كل حال وتقدير يترتب عليها ثمرتها وهي التوصل الى ذيها.
واما في المقدمة
التعبدية فلا دخل فيها للقول بوجوبها والقول بعدم وجوبها ، بل القول بجواز اجتماع
الوجوب والحرمة والامر والنّهي دخيل في الغرض المهم من وجوب المقدمة ، وهو التمكن
والتوصل بواسطتها الى ذيها والى الواجب.
والقول بامتناع
الاجتماع له مدخل في عدم امكان التوصل وان قلنا بوجوبها كما لا يخفى على اولي
النّهى.
توضيح
: وهو انه اذا قلنا
بجواز الاجتماع ـ اي اجتماع الوجوب والحرمة
في شيء واحد ـ كما
سيأتي بحثه في مبحث النواهي ان شاء الله تعالى ، فيمكن التوصل الى الواجب بالمقدمة
المحرمة فيجوز اتيان الصلاة بالوضوء المحرم للتزاحم بين وجوب الوضوء وبين حرمة
التصرف في مال الغير بدون اذنه ، فيرجع حينئذ الى اقوى الملاكين كما هو القاعدة في
بابه.
ولا ريب ان ملاك
الوضوء اقوى من ملاك حرمة الغصب ، لانه برفع اليد عن وجوب الوضوء يترك الواجب
الاهم وهو الصلاة مع الطهارة المائية ، ولا يرفع اليد عن وجوبه. وبرفع اليد عن
حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه وهو التصرف في مقدار مائه تسقط حرمة الغصب
ويبقى الوضوء على وجوبه ، ولذا يمكن التوضؤ به الى فعل الصلاة.
فبالنتيجة
: ليس هذا الوضوء
حراما وباطلا ، فهو كالوضوء بالماء المباح بلا فرق بينهما.
واما على القول
بامتناع الاجتماع ـ اي اجتماع الوجوب والحرمة في الشيء الواحد ذي الجهة الواحدة ـ
فهو حرام محض وان قلنا بوجوب المقدمة ، اذ الحرمة مانعة عن تعلق الوجوب الغيري
بالوضوء المحرم ، ولذا لا يمكن التوصل ولا يتمشى من المكلف قصد القربة بالمحرم ،
بل هو بعيد عن ساحة قدسه جلّ وعلا ، اذ المحرم مبغوض لدى المولى الحكيم ، وكل
مبغوض لا يكون مقرّبا للعباد اليه ـ اي الى ساحة قدسه ـ فهذا لا يكون مقرّبا.
تأسيس الاصل
قوله
: في تأسيس الاصل في المسألة اعلم انه لا اصل في محل البحث في المسألة ... الخ والنكتة ، في انه لا اصل في محل البحث الذي هو مسألة مقدمة
الواجب المطلق لا اصل البراءة ولا الاستصحاب ، هي ان الغرض المهمّ المبحوث عنه
بيان الملازمة العقلية بين وجوب الشيء شرعا ووجوب مقدمته كذلك.
ذهب اكثر
الاصوليين الى ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة شرعا ووجوب مقدماته شرعا
، مثلا : اذا اوجب الشارع المقدس الصلاة على المكلف فالعقل يحكم بوجوب مقدماته
كذلك من الطهارة والاستقبال وامثالهما ، اذ العقل يرى الملازمة بين وجوب الواجب
وبين وجوب مقدماته وملازمه فالاكثر يثبت اللزوم بين الوجوبين في الازل ، وليست
للملازمة حالة سابقة متيقنة وحالة لاحقة مشكوكة حتى تستصحب عند الشك في بقائها ،
بل لها حالة واحدة متيقنة من الازل.
وذهب بعض الاصوليين
الى عدم الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب مقدمته في الازل ، فليست
للملازمة ـ اي لعدم الملازمة ـ حالتان السابقة المتيقنة واللاحقة المشكوكة ، بل له
حالة سابقة فقط ، فلا تتم اركان الاستصحاب لا من طرف الوجود ـ اي وجود الملازمة
العقلية ـ لان القائل بها يثبتها من الازل ، ولا من جانب عدم الملازمة المذكورة ،
لان القائل بعدمها ينفيها من الازل.
فاذن لا محل
للاستصحاب لا وجودا ولا عدما اي استصحاب بقاء الملازمة عند الشك في بقائها ،
واستصحاب عدم الملازمة عند الشك في بقائه حتى اذا عجزنا عن اقامة الدليل الاجتهادي
على ثبوتها وعلى عدمها فقد اعتمدنا عليه وأخذنا به وعملنا به ، وكذا لا مورد لاصل
البراءة بكلا قسميها العقلية والشرعية ، اما الاولى فلانها
واردة لنفى
المؤاخذة والعقاب لقبح العقاب بلا بيان ، لكن لا عقاب على ترك المقدمة.
وان قلنا
بالملازمة العقلية بين الوجوبين وان قلنا بوجوب المقدمة شرعا فالعقاب انما هو على
ترك الواجب النفسي فقط ، فلا موضوع للبراءة العقلية عند الشك في الملازمة وعدمها.
واما الشرعية
فلاجل انها وردت في الشريعة المقدسة مورد الامتنان ، فيختص موردها في محل اذا كانت
فيه كلفة ومشقة على المكلف ليكون في رفع الكلفة بالبراءة الشرعية امتنان.
والحال ان المفروض
انه لا كلفة في الملازمات العقلية التي يثبت بها وجوب المقدمة شرعا من حيث انه لا
عقاب على تركها فلا اثر للبراءة الشرعية في هذا المقام ايضا.
نعم لو كان الغرض
المهم نفس وجوب المقدمة لكان له حالة سابقة ، لان وجوبها يكون مسبوقا بالعدم ،
ويحدث بحدوث وجوب ذي المقدمة ، مثلا : ان الشارع المقدّس لم يوجب الصلاة على زيد
في زمن صباه فلم تجب مقدماتها ، فاذا أوجبها عليه وشككنا في وجوب مقدماتها حين
وجوب الصلاة فالاصل عدم وجوبها ، لكون الشك في التكليف ، وهو مجري البراءة الشرعية
، ولكن هذا البحث خارج عن البحث الاصولي لكونه مسألة فرعية فقهية.
قوله
: وتوهم عدم جريانه لكون وجوبها ... الخ والتوضيح يحتاج الى بيان اقسام اللازم وهي ثلاثة :
الاول
: لازم الماهية وهو
لا ينفك عن الماهية مع قطع النظر عن وجودها الذهني وعن وجودها الخارجي ، حيث ان
ذاك اللازم ثابت لها سواء وجدت في الذهن أم وجدت في الخارج ، مثل الزوجية للاربعة
والفردية للثلاثة مثلا ، وهو غير مسبوق بالعدم وغير مجعول لا بالجعل البسيط الذي
هو مفاد كان التامة وهو الوجود النفسي الذي هو وجود الشيء في نفسه ، ويقال له الوجود
المحمولي ، مثل قولنا (كان زيد) اي وجد زيد ، فلا يصح ان يقال انه اذا وجدت
الاربعة فالزوج
موجود ، ولا يحتاج
الزوج الى الجعل البسيط ـ اي جعل الوجود له بعد وجود الاربعة ـ ولا بالجعل
التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة الذي هو وجود الشيء لا في نفسه ، وذلك نحو (زيد
قائم) اي (كان زيد قائما) فوجود القيام ليس لاجل وجود نفس زيد بل لاجل قيامه في
الخارج.
فلا يصح ان يقال
ايضا اذا وجدت الاربعة جعلت الزوجية لها ، لانها قائمة بذاتها ومنتزعة عن نفسها
وقائمة بشيئيتها ولا تقبل الجعل لا بسيطا ولا تأليفيا.
فلازم الماهية هو
امر انتزاعي اعتباري ، منشأ انتزاعه واعتباره نفس الماهية مع قطع النظر عن وجودها
هنا أو خارجا كالزوجية للاربعة ، فالمجعول في الحقيقة هو منشأ الاعتبار دون الامر
الاعتباري وان نسب اليه الجعل بالعرض ، ولذا تكون الاربعة منقسمة بمتساويين ولا
حاجة الى تشكيل الصغرى والكبرى ونقول انها زوج وكل زوج منقسم بمتساويين.
والثاني
: لازم الوجود
الخارجي كالاحراق للنار ، فان النار اذا تحققت في الخارج تكون محرقة لا ما اذا
تصورناها في الذهن وإلّا لحرقت امعائي وقلبي وكبدي عند تصوري ايّاها ، فاذا وجدت
النار في الخارج كان الإحراق لازما لها.
والثالث
: لازم الوجود
الذهني كالكلية للانسان ، فانا اذا تصورنا الانسان بانه حيوان ناطق فهو قابل
الانطباق على كثيرين متفقين بالحقايق في جواب (ما هو) فالانسان كلي في عالم الذهن
فقط وجزئي في عالم الخارج ، اذ ليس الموجود فيه الا افراده.
اذا تمهدت هذه فقد
علم ان وجوب المقدمة يكون من قبيل لوازم الماهية ، يعني وجوب المقدمة يكون لازم
ماهية وجوب ذي المقدمة ، فهو مجعول بجعل الوجوب لذي المقدمة وليس مجعولا بجعل على
حدة.
فاذا كان وجوب ذي
المقدمة مفروضا ثابتا مثل وجوب الصلاة والحج فلا معنى لاصالة عدم وجوب
المقدمة لانه عند
وجوب ذي المقدمة لا بد من وجوب المقدمة للملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة وبين
وجوب المقدمة على القول بها.
فاللابديّة
العقلية حاكمة على الاصل والاستصحاب ، اي على اصالة عدم وجوبها وعلى استصحاب عدم
وجوبها بل لا مورد للأصل والاستصحاب في المقام بعد فرض وجوب ذي المقدمة وبعد
اللابدية العقلية بين وجوب ذيها وبين وجوب المقدمة.
هذا اذ لا ريب في
لابدية فعل المقدمة في نظر العقل فرارا عن معصية الوجوب النفسي هذا اولا.
وثانيا
: لا يترتب على
استصحاب عدم وجوب المقدمة جواز ترك المقدمة عقلا والأمن من العقاب عليه ، كما ذكر
وجهه وهو اللابدية العقلية من فعل المقدمة اذا وجب ذو المقدمة.
وثالثا
: ان البحث عن وجوب
المقدمة او عدم وجوبها لا يناسب في المقام لانه فقهي لا اصولي وهذا يناسب في علم
الفقه الشريف.
ورابعا
: ان وجوب المقدمة
الذي هو لازم ماهية وجوب ذيها غير مجعول شرعا وليس اثرا مجعولا يترتب عليه ، اي لا
يكون وجوب المقدمة موضوعا للحكم الشرعي.
والحال انه يشترط
في جريان الاصل والاستصحاب ان يكون المستصحب إما حكما شرعيا مجعولا كاستصحاب وجوب
صلاة الجمعة ، او موضوعا يترتب عليه حكم شرعي كاستصحاب الخمرية المترتبة عليها
الحرمة.
اما وجوب المقدمة
فليس حكما شرعيا مجعولا ، اذ هو لازم ماهية وجوب ذي المقدمة ، وكل لازم الماهية
ليس بقابل للجعل لا بسيطا ولا تأليفيا كما ذكر.
وليس موضوعا للحكم
الشرعي المجعول لانه لا يحمل عليه وجوب وواجب ، اذ يلزم الاتحاد بين المحمول عليه
والمحمول في الحمل الشائع الصناعي مفهوما ومصداقا ولا غير الوجوب عليه لانه يلزم
حينئذ حمل احد المتباينين على المباين الآخر من حيث المفهوم والمصداق.
فبالنتيجة
: لا يجري
الاستصحاب في هذا المقام لفقدان شرط جريانه وهو
كون مجراه حكما
شرعيا او موضوعا ذا اثر شرعي.
فظهر مما ذكر ان
اصالة عدم وجوب المقدمة عبارة اخرى لاستصحاب عدم وجوبها كما لا يخفى على اهل الفن.
فتلخّص مما ذكر ان
لوازم الوجود الذهني كالعناوين الكلية العارضة في عالم الذهن على الماهيات الثابتة
في عالم السرمد ، وان لوازم الوجود الخارجي الملزوم كالحرارة العارضة في عالم
الخارج على النار وكالبرودة العارضة على الثلج وكالرطوبة على الماء مسبوقة بالعدم
وتوجد بوجود الملزوم ذهنا او خارجا ، بخلاف لوازم الماهية فانها ثابتة مع عدم
الملزومات ومع وجودها بل مع امتناعها.
وان اللزوم في
لوازم الماهية يكون بمعنى التبعية حيث ان جعل الماهية في عالم السرمد يكفي في
انتزاع اللوازم عن الماهيات وفي اعتبارها فلا حاجة الى الجعل على حدة.
فالجعل الواحد
ينسب الى الماهية اولا وبالذات ، والى لوازمها ثانيا وبالعرض ، ولذا لا وجود ولا
جعل لها غير وجود الماهية وغير جعل الماهية الملزومة.
واما اللزوم في
لوازم الوجود الذهني والوجود الخارجي فيكون بمعنى الاقتضاء وقابل للجعل التأليفي ،
وهو اتصاف الشيء بوصف ، كاتصاف (زيد) بوصف القيام بعد وجوده كما ان الجعل البسيط
ايجاد الشيء في الخارج.
قوله
: مدفوع بانه وان كان غير مجعول ... الخ واجاب المصنف عن هذا بان وجوب المقدمة على القول بالملازمة
بين وجوب الشيء وبين وجوب مقدماته عقلا وان كان من لوازم ماهية وجوب ذي المقدمة
ولازم الماهية غير مجعول لا بالجعل البسيط ، الذي هو اعطاء الوجود لشيء ولذا يعبر
عنه بمفاد (كان) التامة.
ولا بالجعل
التأليفي والتركيبي الذي هو جعل الشيء متصفا بصفة مثل جعل الثوب أحمر ، ولذا يعبّر
عنه بمفاد (كان) الناقصة.
وثبت في محله ان
الجعل لا يتعلق بلوازم ماهية الشيء وإلّا يلزم ان يكون لازم الشيء غير لازمه وهو
خلف الفرض ، ولكن لا ريب ان لازم ماهية الشيء
مجعول بتبع الشيء
الملزوم. وهذا المقدار من الجعل يكفي في جريان الاستصحاب.
وبعبارة اخرى : ان
وجوب المقدمة ، وان لم يكن مجعولا للشارع المقدس بالاصالة ومستقلا وعلى حدة ،
ولكنه مجعول له بتبع جعل الوجوب لذي المقدمة. ومجعولية التبعية كافية في اجراء
استصحاب عدم وجوب المقدمة حين الشك في وجوبها.
قوله
: ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة لاصالة عدم وجوب ... الخ هذا يكون لدفع التوهم وهو انه يلزم التفكيك بين الملزوم
واللازم من حيث الوجوب لو أجري استصحاب عدم وجوب المقدمة اذ وجوب ذي المقدمة ـ
كوجوب الحج ـ ثابت بالفرض ، ومقدمية ركوب الدابة او ركوب السيارة او ركوب الطيارة
مسلّمة.
والحال ان
الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب مقدماته وملازماته ثابتة بالفرض ،
فاستصحاب عدم وجوبها حينئذ مستلزم للتفكيك بين وجوب الملزوم وبين وجوب اللازم وهو
فاسد.
فاشار المصنف الى
دفعه وقال ان لزوم التفكيك بين الوجوبين ولزوم رفع الملازمة بينهما من اجل اجراء
استصحاب عدم وجوب المقدمة لا ينافيان الملازمة بين الوجوبين واقعا وثبوتا.
فبالاستصحاب
المذكور ترتفع الملازمة الظاهرية بين الحكمين الفعليين ، اي لا تبقى مع الاستصحاب
ملازمة بين وجوب ذي المقدمة فعلا وبين وجوب مقدمته كذلك ، ولا ترتفع به الملازمة
الواقعية بين الحكمين الواقعيين ، يعني اذا كان ذو المقدمة واجبا واقعا كان وجوبه
ملازما لوجوب المقدمة واقعا.
ولكن في الظاهر ،
بحكم الاستصحاب ، يحكم بعدم وجوبها ظاهرا فالاستصحاب لا ينافي الملازمة بين
الوجوبين ثبوتا ، فالمقدمة لم تكن واجبة ظاهرا بحكم الاصل والاستصحاب للشك في
الملازمة اثباتا.
فالمقام يكون نظير
استصحاب حياة زيد واستصحاب عدم نبات لحيته ، والحال انه يكون من لازم حياته نبات
لحيته ، لا سيما اذا كانت غيبته مدة طويلة.
ولكننا نستصحب
بقاء حياة زيد عند الشك في حياته ومماته ونستصحب عدم نبات لحيته في صورة الشك في
نباتها وعدمه ، فهنا يلزم التفكيك بين الملزوم وهو حياة زيد وبين اللازم وهو نبات
لحيته ظاهرا بحكم الاستصحابين المذكورين.
والحال ان هذا
التفكيك لا يقدح في هذا المورد ، فكذا فيما نحن فيه ، نعم لو كانت الدعوى هي
الملازمة المطلقة سواء كانت واقعية أم كانت ظاهرية.
وبتقرير آخر وهو
ان الدعوى هي الملازمة بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب مقدماته ثبوتا وإثباتا فلا
يجوز التمسك بالاصل والاستصحاب المذكور كما لا يخفى. والحال ان الملازمة بين
الوجوبين واقعية ثبوتية لا ظاهرية إثباتية.
في الملازمة
العقلية :
قوله
: اذا عرفت ما ذكرنا فقد تصدى غير واحد من الافاضل لاقامة البرهان ... الخ فقد استدل على الملازمة العقلية بين وجوب الشيء شرعا وبين
وجوب مقدمته كذلك بادلة ثلاثة لا تخلو من الخلل والإشكال كما سيأتي ، ولذا كان
الاولى احالة ذلك الى الوجدان حيث انه اقوى شاهد على ان الانسان اذا اراد اتيان
شيء واذا طلبه فلا بد له ان يريد جميع مقدماته وملازماته التي يتوقف عليها وجود
الواجب في الخارج اذا التفت الانسان الى المقدمات الوجودية للواجب ، بل قد يأمر
بها مثل امر نفس الواجب امرا نفسيا غيريا ، كما اذا قال المولى لعبده (ادخل السوق
واشتر اللحم او الخبز) فالمولى كما يأمر باشتراء اللحم امرا مولويا نفسيا ، يأمر
بدخول السوق امرا مولويا غيريا مع الالتفات الى مقدمية دخول السوق لاشتراء اللحم
او الخبز مثلا.
فارادة الشيء
ملازمة لارادة مقدماته بحكم الوجدان. واما اذا اراد الانسان شيئا وله مقدمات ولكن
لم يلتفت اليها فبحكم الوجدان تتعلق ارادة المولى بها إجمالا ، فلا تفكيك بين
ارادة ذي المقدمة وبين ارادة مقدماته ، إما تفصيلا اذا التفت اليها ، وإما اجمالا
اذا لم يلتفت الى المقدمات.
ويؤيد الوجدان
وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات. اما الاولى فنحو قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)
، ونحو قوله عليهالسلام : «اغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه» ونحوه. واما
الثانية كالمثال السابق فوجودها يكون اقوى شاهد على ان وجوب الشيء ملازم مع وجوب
مقدماته.
بيان ذلك ان الامر
الغيري لا يتعلق بشيء إلّا ان يكون فيه مناط الامر الغيري ، وهو عنوان مقدمية
المأمور به بالامر الغيري المقدمي ، فكل شيء يؤمر به امرا غيريا لا محالة ان يكون
لاجل عنوان مقدميته. ومن هنا علم ان كل شيء يكون مقدمة يكون مأمورا بالأمر الغيري
لوجود ملاكه فيه. فنعلم من وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات ان كل
مقدمة ـ سواء كانت مثل الوضوء والغسل ودخول السوق أم كانت غيرها ـ واجب بالوجوب
الغيري المقدمي الترشحي لوجود المناط فيه وهو عنوان مقدمية كل مقدمة ، فلا يختص
الوجوب الغيري بمقدمة دون مقدمة.
وبتقرير اوضح :
وهو انه لا بد من ان يكون لهذه الاوامر الغيرية التي وردت في الشرعيات والعرفيات
ملاك لان أوامر المولى تابعة للملاكات والمصالح الواقعية ، فالملاك لا يخلو اما
يكون ملاك الواجب النفسي واما يكون عنوان المقدمية ، فعلى الاول يلزم ان تكون تلك
الاوامر أوامر نفسية وهو خلاف الفرض ، اذ الفرض كونها غيرية. فاذن يتعيّن الثاني
وهو كون ملاك الامر عنوان المقدمية ولا ريب ان هذا متحقق في كل مقدمة.
هذا ، مضافا الى
انه لا خصوصية للموارد التي وردت فيها الاوامر الغيرية فحينئذ يتعدّى منها الى
غيرها فيتعيّن القول بوجوب مطلق المقدمة.
غاية الامر ان
المولى اذا التفت الى ما يتوقف عليه مطلوبه حين الامر فقد ترشحت من ارادته ذا
المقدمة ارادة اخرى الى المقدمة ، فيأمر بها امرا مولويا على حدة مستقلا كالامر
بدخول السوق بعد ارادته اشتراء اللحم منه ، واذا لم يلتفت الى ما يتوقف عليه
المطلوب لم يأمر امرا مولويا غيريا مستقلا ولكن يأمر به مولويا
اجمالا تبعا.
فالتفصيل الآتي
بين السبب وغيره وبين الشرط الشرعي وغيره باطل ، وسيأتي ان شاء الله تعالى عن قريب
انه لا تفاوت في باب الملازمة العقلية بين مقدمة وأخرى بل التفاوت يكون فيما بين
وجوب ذي المقدمة وبين وجوب جميع المقدمة.
فتلخّص مما ذكر :
ان الاقوى عند المصنف قدسسره وجوب جميع المقدمة. وانه احتجّ عليه بوجهين :
الاول
: ان الوجدان حاكم
بالملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدماته وملازماته.
والثاني
: ان وجود الاوامر
الغيرية في الشرعيات والعرفيات يدل على وجوب المقدمات كلها.
الاستدلال على
وجوب المقدمة :
قوله
: ولا بأس بذكر
الاستدلال الذي هو كالاصل لغيره ... الخ والاصل ثبوت الملازمة العقلية بين وجوب
الشيء ووجوب مقدماته والفرع هو الاستدلال بالوجوه الآتية وبالوجهين السابقين. فمتى
لم تثبت الملازمة العقلية بين الوجوبين لم ينفع الاستدلال على وجوب المقدمة ، فلذا
من انكرها فهو في راحة عن الاستدلال على وجوبها. ولكن الاصل والفرع يكونان في
الأشياء الواقعية الخارجية ، والملازمة والوجوب امران اعتباريان ، اذ الاول
باعتبار العقل والثاني باعتبار الشرع.
فلذا قال المصنف
كالاصل اي مثل الاصل ، تنزيلا وتشبيها ، لان كل فرع يبتني على الاصل ، وجودا وعدما
، فكذا الاستدلال متفرع على الملازمة العقلية وجودا وعدما.
استدلال ابي الحسن
البصري :
وكيف كان فقد
استدل ابو الحسن البصرى على وجوب المقدمة شرعا بانه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها
، وحينئذ فان بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب
المطلق عن وجوبه.
وبعبارة اخرى : ان
المولى اذا اوجب شيئا فلا بد له من ايجاب جميع مقدمات ذلك الشيء ، وان لم يوجب تلك
المقدمات جاز تركها. وجواز الترك يستلزم احد محذورين :
اما ان يبقى وجوب
ذي المقدمة بحاله ، وهو محال ، لانه تكليف بما لا يطاق.
واما ان لا يبقى
وجوبه بحاله بل يصير مشروطا بحصول مقدمته ، فيلزم عندئذ انقلاب الواجب المطلق الى
الواجب المشروط ، وهو خلاف الفرض.
البرهان على وجوب
المقدمة :
قوله
: وفيه بعد اصلاحه بارادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى لا
الاباحة الشرعية ... الخ ولا ريب ان القضية الشرطية المتصلة دائما تثبت الملازمة وجودا وعدما بين
المقدم والتالي على تقدير حصول الشرط في الخارج ، وعلى فرض عدم حصول فيه نحو قوله
تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) والخطاب متوجه الى النبي الاكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم فالملازمة واضحة بين المقدم الذي هو شرك على فرض حصوله منه
وبين التالي الذي هو حبط العمل ، وجودا يعني لو فرض الشرك منك ليحبطنّ عملك ،
وعدما يعني لم يكن منك شرك قطعا فلم يكن حبط عملك يقينا.
فالمستدلّ لمّا
رتّب دليله من قضيتين شرطيتين أولاهما انه لو لم تجب المقدمة لجاز تركها.
فالملازمة بين المقدم والتالي ثابتة اذا اريد من التالي ، يعني قوله : لجاز تركها
انه لم يكن منع شرعي عن تركها ، اي يجوز ترك المقدمة شرعا على فرض عدم وجوبها شرعا
، لا ان يراد من التالي الاباحة الشرعية ، لان رفع الوجوب
المولوي الغيري عن
المقدمة لا يستلزم خصوص الاباحة الشرعية ، بل يتردد بين الاحكام الاربعة الباقية
بناء على عدم خلو الواقعة عن حكم شرعي ، سواء كان تكليفيا أم كان وضعيا.
وحينئذ لا ملازمة
بين المقدم والتالي. فاذا جاز تركها شرعا ، على فرض عدم وجوبها شرعا ، رجع الى حكم
العقل ، وهو لزوم الإتيان بها بعد ثبوت وجوب ذيها وجوبا مولويا نفسيا ، وليس
المراد من التالي في القضية الاولى انه يباح تركها شرعا ، وإلّا كانت الملازمة بين
المقدم والتالي واضحة البطلان كما مر آنفا. هذا اصلاح الاول في الاولى.
واما اصلاح الثاني
: ان يراد الترك عما اضيف اليه الظرف الذي هو عبارة عن كلمة (حينئذ) مضاف الى امر
مقدر ناب عنه التنوين وعوض عنه ، ولا يراد منه جواز الترك ، فيصير التقدير (حينئذ
تركها) ولا يكون التقدير (حينئذ جاز تركها) وان كان بحسب ظاهر العبارة (حينئذ جاز
تركها) ولكن الاخذ بهذا الظاهر يوجب كذب الشرطية الثانية ، لان بقاء الواجب على
وجوبه ـ على تقدير جواز ترك المقدمة ـ لا يوجب التكليف بما لا يطاق ، بل يلزم على
تقدير الترك للمقدمة رأسا لانه للمكلف ان يفعل المقدمة ويتمكّن من الإتيان بذي
المقدمة ، فلا بد ان يراد من المضاف اليه الظرف ترك المقدمة بما هو ترك كي تصدق
القضية الشرطية الثانية ، وكي يترتب التالي على المقدم.
قوله
: ما لا يخفى هذا مبتدأ مؤخر
لقوله وفيه لان كل شيء يجوز تركه شرعا لا يجب تركه شرعا ، كالمباحات نحو المشي في
السوق والنوم ونحوهما وحينئذ جاز ترك المقدمة شرعا ، فلو تركها لا يلزم احد
المحذورين إما خلاف الفرض ، ان لم يبق وجوب ذي المقدمة بحاله ، وإما تكليف بغير
المقدور ، وتكليف بما لا يطاق ان بقي وجوب ذي المقدمة بحاله ، اي لا يلزم صدق احدى
الشرطيتين ، لان هذه المقدمة ـ وان لم تكن واجبة شرعا ـ يحكم العقل بوجوبها ارشادا
من حيث إن تركها يوجب ترك ذي المقدمة الذي يكون واجبا فعليا على الفرض ، بل يكون
واجبا منجّزا ،
وحينئذ لو ترك المكلف المقدمة لكانت معصية وسقط التكليف بذي المقدمة بالعصيان ،
والحال انه قد اشتهر ان التكليف يسقط بالمعصية كما يسقط بالطاعة ، لان المكلف
متمكن من الاطاعة ومن الإتيان بالواجب للإتيان بمقدمته. ولكن لما ترك المقدمة
بالاختيار ، فقد ترك ذا المقدمة بسوء اختياره.
فالمكلف مستحق
للذم في الدنيا وللعقاب في العقبى ، اذ العقل يحكم بلزوم اتيان المقدمة من باب
الارشاد الى ان تركها عصيان لأن تركها علّة لترك الواجب الفعلي المستتبع للعقاب ،
فالمعلول حرام ، فلا بد ان تكون العلّة محرمة.
فقول المستدل (ان
المقدمة لو لم تجب شرعا لجاز تركها) مسلّم مقبول. واما قوله : (فلو تركها لزم اما
الخلف واما التكليف بما لا يطاق) فهو غير مسلّم ، اذ بمجرد ترك المقدمة يسقط امر
ذي المقدمة عصيانا ، لان المقدمة مقدورة للمكلف ، والحال ان العقل حاكم ارشادا الى
دفع العصيان والعقاب بوجوب المقدمة ، فاذن لا محالة يتحقق العصيان الذي يسقط به
امر ذي المقدمة.
قوله
: نعم لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعا وعقلا ... الخ نعم لو كان المراد من جواز الترك من التالي في القضية
الاولى جواز ترك المقدمة شرعا وعقلا للزم حينئذ تكليف بما لا يطاق ان بقي وجوب ذي
المقدمة بحاله ، لعدم قدرة المكلف على اتيانه في حال ترك مقدمته ، او انقلاب
الواجب المطلق واجبا مشروطا بحصول مقدمته.
ولكن الجملة
الاولى تصير كاذبة ، لعدم الملازمة بين المقدم الذي هو عدم وجوب المقدمة شرعا ،
وبين التالي الذي هو جواز ترك المقدمة شرعا وعقلا ، بل تكون الملازمة بين عدم وجوب
المقدمة شرعا وبين جواز تركها شرعا فقط.
والحال ان القضية
الشرطية المتصلة دائما انما تكون لاثبات الملازمة وجودا بين المقدم والتالي على
فرض تحقّق الشرط في الخارج ، وعدما بينهما على تقدير عدم تحقق الشرط فيه. خلاصة
الكلام : يرد على المستدل احد إشكالين :
الاول
: منع القضية
الاولى وهي قضية لو لم تجب لجاز تركها ان كان المراد
من جواز الترك في
التالي جواز الترك شرعا وعقلا معا.
والثاني
: ان ترتب التالي ،
الذي هو لزوم الخلف او لزوم التكليف بما لا يطاق على المقدم في القضية الثانية ،
ممنوع. اذ لا يلزم من جواز ترك المقدمة شرعا احد المحذورين المذكورين ، اي لا يكون
المقدم علة للتالي لان المقدمة مقدورة للمكلف فيمكن ان يفعلها فيتمكن من اطاعة ذي
المقدمة ويمكن ان يتركها فيترك الواجب وذا المقدمة بسوء الاختيار عصيانا ، فلا
يلزم المحذور حينئذ أصلا لسقوط التكليف بذى المقدمة بالعصيان ، فلا يكون التكليف
الفعلي بذى المقدمة موجودا.
والحال ان المقدمة
مباحة شرعا وواجبة عقلا بالوجوب الارشادي. فاذا ترك المقدمة المباحة مما يوجب ترك
ذي المقدمة الواجب الفعلي على الفرض استحق اللوم في الدنيا ، والعقاب في العقبى.
ولكن يسقط امر ذي المقدمة للعصيان بترك ذي المقدمة ، فلا تكليف في البين كي يلزم
احد المحذورين المذكورين. هذا اذا ترك المقدمة ، واما اذا فعلها فلا إشكال أصلا.
وبعبارة اخرى :
انه اذا جاز ترك المقدمة شرعا فهذا لا يستلزم جواز تركها شرعا وعقلا ، لإمكان ان
لا تكون المقدمة محكومة بحكم شرعا ، كما في المهم اذا أمر المولى بالاهم ، مثل ما
اذا أمر بالازالة فان المهم كالصلاة لا حكم له أصلا ، إلّا انه لا يجوز اتصاف
المهم بحكم يخالف حكم الاهم. فكذا في المتلازمين ، فان الامر باحدهما لا يستلزم
الامر بالآخر.
فكذا ما نحن فيه.
فذو المقدمة والمقدمة وان كانا متلازمين في الوجود كالصلاة الصحيحة والوضوء ولكن
الامر بالصلاة لا يستلزم الامر بالوضوء كالمتلازمين ، كالنظر الى الاجنبية
والمعاشرة معها فان الاول منهيّ عنه وحرام والثاني يكون غير منهي عنه.
فالاختلاف من حيث
الحكم ثابت في المتلازمين ولو بحسب الاتفاق كما في النظر والمعاشرة ، فكذا الامر
باحدهما لا يستلزم الامر بالآخر ، مثل ما اذا أمر المولى بالحركة ، فهذا لا يستلزم
الامر بالانتقال الذي هو لازم الحركة. ولكن اذا أمر
المولى بشيء له
مقدمة كالصعود على السطح فالعقل يحكم ارشادا بوجوب نصب السلم للتوصل الى الصعود
الواجب فرارا عن العصيان واللوم والعقاب فالوجوب العقلي لكل مقدمة واجب مسلّم لا
ريب فيه ، وهذا واضح.
التفصيل بين السبب
وغيره :
قوله
: واما التفصيل بين السبب وغيره فقد استدل على وجوب السبب ... الخ فقد استدل المفصّل بين السبب وغيره بان التكليف لا يتعلق
إلّا بالامر المقدور ، والمسبّب من حيث هو غير مقدور. فالمقدور هو السبب ، فلا بد
من ان يرجع الامر بالمسبب ظاهرا مثل (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) و (مثل تزوج
وتطهر) ونحوها الى اسبابها ، اي (ان ظاهرت فأجر العقد) اي عقد العتق ، وعقد
التزويج.
فالمقدمة السببية
واجبة بالوجوب المولوي الغيري ، اذ التكليف لا يجوز ان يتعلق بالمسبب بنفسه ، لانه
لا يكون من افعال المكلف وحركاته او سكناته ، بل هو من آثار أفعال المكلف ومن
نتائجها المترتبة عليها قهرا كترتب العتق على اجراء عقده مثلا. واما غيرها ، من
المقدمة الشرطية ومن المقدمة العادية ، فليس واجبا بالوجوب المولوي الغيري. اذ
المشروط كالصلاة ـ اي فعلها ـ مقدور. فاذن لا داعي ولا موجب لارجاع الامر الى
الشرط كالوضوء ، هذا مثال المشروط الشرعي والشرط الشرعي.
واما مثال المقدمة
العادية العرفية وذي المقدمة العرفية كنصب السلم بالاضافة بالكون على السطح ، وهو
مقدور للمكلف ، فلا موجب لارجاع الامر الذي يتعلق بالكون على السطح الى نصب السلم
، فطبيعة الامر ليس غيرها واجبا مولويا غيريا كما لا يخفى.
قوله
: ولا يخفى ما فيه ... الخ قال المصنف قدسسره ان هذا الاستدلال ليس دليلا على التفصيل بين السبب وغيره ،
بل هو دليل على ان الامر النفسي المولوي انما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب ، اذ
الاول مقدور والثاني غير مقدور. فبين الدليل
والمدعى ، وهو
وجوب مقدمة السببية وجوبا غيريا ، بون بعيد. هذا اولا.
وثانيا
: على فرض تسليمه
من حيث الدلالة على مدعى المفصل ان هذا الاستدلال فاسد لانه نسلم ان يكون متعلق
التكليف مقدورا سواء كان مقدورا بلا واسطة كالامر بالافعال المباشرية كالصلاة
والصوم والجهاد ونحوها أم كان مقدورا مع الواسطة كالامر بالافعال التسبيبية.
ومن الواضح ان
المقدور بالواسطة مقدور ، ولذا يصح امر المولى بالإحراق والإغراق والإعدام لان هذه
الأمور مقدورة بواسطة القاء الحطب او الخشب او الثوب في النار ، والقاء شخص في ماء
البحر ، والقاء السم في فم الشخص ، والحال ان بناء العقلاء على اعتبار مطلق القدرة
، سواء كانت القدرة على فعل المأمور به بلا واسطة أم كانت مع الواسطة ، والشارع
المقدس تبعهم في هذا البناء والسيرة المستمرة المتصلة. فالتكليف بالمسبب جائز لانه
مقدور بواسطة السبب ، فلا حاجة الى ارجاع الامر المتعلق بالمسبب ظاهرا الى السبب ،
كما لا يخفى.
التفصيل بين الشرط
الشرعي وغيره :
قوله
: واما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ... الخ واستدل المفصل بين الشرط الشرعي وغيره من الشرط العقلي
والشرط العادي بانه لو لم يكن الوجوب الغيري الشرعي للوضوء لم يكن شرطا ، لان
المفروض ان الوضوء ليس بشرط عقلي وعادي. فمنشأ شرطية الوضوء هو وجوب غيري يتعلق به
، فعلم ان الشرط الشرعي واجب بالوجوب المولوي الغيري دون غيره.
توضيح
: وهو ان الشرط على
اقسام :
الاول
: الشرط الشرعي
كالطهارات الثلاث والستر ونحوهما للصلاة.
الثاني
: الشرط العقلي
كالسير الجوّي او البرّي للحج.
الثالث
: الشرط العادي
كنصب السلم مثلا للكون على السطح.
فالاول واجب دون
الثاني والثالث ، لان منشأ شرطية الاول هو الوجوب
الغيري ، كما سبق
، وهو يحتاج الى الوجوب الغيري. ومنشأ شرطية الثاني هو العقل لا الوجوب الغيري ،
كما ان منشأ شرطية الثالث هو العادة البشرية ، فلا يحتاجان الى الوجوب الغيري.
ولذا فهما ليسا واجبين بالوجوب المقدمي الترشحي.
جواب المصنف على
الإشكال :
قوله
: وفيه ، مضافا الى
ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي الى العقلي ، انه لا يكاد ... الخ فاجاب المصنف قدسسره عن هذا الاستدلال بوجهين :
الاول
: ان الشرط الشرعي
يرجع الى الشرط العقلي ، اذ للشرط ، سواء كان شرعيا كالوضوء أم كان عقليا كالسير
للحج للشخص النائي عن مكة المكرمة زاد الله تعالى شرفها ، معنى واحد ومفهوم فارد ،
وهو انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه وان لم يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.
غاية الامر ان
شرطية بعض الأشياء مجهولة عند العقل ولا يمكن ان يدركها ، ولذا يبين الشارع المقدس
شرطية بعض الأشياء ، كشرائط الصلاة من الوضوء والستر والاستقبال ونحوها مثلا ،
ولكن بعد بيان الشرطية يرجع الشرط الشرعي الى الشرط العقلي ، اذ بانعدام الشرط
ينعدم المشروط كالشرط العقلي.
فالمدرك للشرطية
اذا كان شارعا يسمى بالشرعي ، واذا كان عقلا يسمى بالعقلي. ولكن كل الشرط من حيث
المفهوم واحد ، فاذا كان الشرط واجبا شرعا كان واجبا على الاطلاق. فلا وجه للتفكيك
بين الشرط الشرعي وبين الشرط العقلي ، ونقول ان الاول واجب شرعا دون الثاني.
والثاني
: ان استدلال
المفصل مستلزم للدور. بيانه : ان الامر الغيري لا يتعلق إلّا بالمقدمة ، فيتوقف
الامر الغيري على كون الشيء مقدمة وعلى كونه دخيلا في وجود ذي المقدمة فلو توقفت
المقدمية والشرطية على الامر الغيري للزم الدور. فقول المستدل انه لو لا الوجوب
الغيري لما كان مقدمة مع ضميمة ان الشيء لو لم يكن مقدمة لما أمر به مستلزم للدور
بالوجدان والشرطية وان كانت مجعولة شرعا
بالجعل التبعي.
ولكن منشأ جعلها
وعلة جعلها ليس امرا غيريا ، بل امر نفسي وهو ما يتعلق بالصلاة مع الطهارة فيكون
موجبا لشرطية الطهارة للصلاة. فالامر النفسي لا يتوقف على شرطية الوضوء للصلاة.
فبالنتيجة : الشرطية تتوقف على الامر النفسي ، ولكن الامر النفسي لا يتوقف على
الشرطية والمقدمية ، وعليه فلا دور في البين.
قوله
: فافهم وهو اشارة الى ان
الدور باق على حاله على هذا البيان ، لانه لا يتعلق الامر النفسي بالصلاة مع
الوضوء متى لم يكن الوضوء دخيلا لها ، ومتى لم تكن الطهارة شرطا للصلاة ، بل يتعلق
الامر النفسي بالصلاة بلا طهارة. والحال ان الغرض توقف شرطية الوضوء للصلاة على
الامر النفسي ، فالشرطية تتوقف على الامر النفسي ، والامر النفسي يتوقف على
الشرطية ، فيبقى الدور في الامر النفسي على حاله ، وسيأتي الجواب عن هذا الدور ،
ان شاء الله تعالى في بحث جعل الاحكام الوضعية امرا غيريا أم كان نفسيا ، غاية
الامر ان الدور يكون تارة مع الامر الغيري واخرى مع الامر النفسي ، والشرطية علة
والامر الغيري معلول.
في مقدمة المستحب
:
قوله
: تتمة : ولكن الامر النفسي علة والشرطية معلول اي لا ريب ولا اشكال في ان مقدمة المستحب كالسفر الى
البلاد لتحصيل العلم والتفقه في الدين تكون كمقدمة الواجب ، فتكون مستحبة اذا قلنا
بالملازمة العقلية بين ارادة الشيء ومقدماته. غاية الامر انه في مقدمة الواجب
يترشح الوجوب الغيري ، وفي مقدمة المستحب يترشح الاستحباب الغيري.
وبالجملة : بناء
على استقلال العقل بالملازمة بين ارادة الشيء وارادة ما يتوقف عليه ذلك الشيء ،
كما اذا اراد المولى من عبده كونه على السطح ، فالعقل قاض بالملازمة بين ارادته
وارادة نصب السلم ، فلا فرق بين ارادة الشيء ايجابا وعلى نحو الوجوب ، وارادته
استحبابا وعلى نحو الاستحباب والندب ، ففي كليهما
تتعلق ارادة
المولى بالمقدمة.
غاية الامر انه ان
كانت ارادة المولى لذي المقدمة ايجابية فايجابية كما في الصلاة والوضوء ، وان كانت
استحبابية فاستحبابية كما في تحصيل العلم والتفقه والهجرة الى النجف الأشرف ،
لوحدة المناط وهو توقف ذيها عليها وعنوان المقدمية في كل من مقدمتى الواجب والمستحب
والمندوب. وهذا المناط يقتضي الوجوب في مقدمة الواجب المطلق والاستحباب في مقدمة
المستحب ، اذ لا فرق في نظر العقل بين كون ارادة ذي المقدمة وجوبيا كالصلاة
الواجبة ، وبين كونه استحبابيا كالزواج مثلا.
مقدمة الحرام
والمكروه :
قوله
: واما مقدمة الحرام والمكروه فمقدمتهما ليست بحرام ولا مكروه ، لانها ليست علة لتركهما
، اذ المكلف قادر ـ مع فعل مقدمتهما ـ على ترك الحرام وعلى ترك المكروه ، مثلا :
شرب الخمر حرام وتركه مطلوب. وكذا يكون مطلوبا مقدمات ترك شرب الخمر أيضا ولكن مع
الذهاب الى بيت الخمر واخذ ظرفه وشرائه فالمكلف قادر على تركه بحيث إن شاء شرب ،
وان شاء لم يشرب ، فهو مختار حينئذ على شربه وعلى ترك شربه ، فترك الذهاب اليه
وترك شرائه ليسا مقدمة لتركه كي يكون الذهاب اليه حراما على القول بالملازمة
العقلية بين ارادة الشيء وارادة ما يتوقف عليه ذلك الشيء.
فترك الذهاب الى
بيت الخمر ليس علة لترك شربه ، كما ان الذهاب اليه ليس علة لشربه. فترك الذهاب
اليه والذهاب اليه متساويان بالاضافة الى شربه والى ترك شربه.
خلاصة الكلام : ان
مقدمات الحرام والمكروه من حيث الفعل والوجود ليست علة لفعل الحرام والمكروه في
الخارج حتى تكون حراما ومكروها ، على القول بالملازمة العقلية بين حرمة الشيء
وكراهة الشيء وبين حرمة مقدماته وكراهة
مقدماته ، كما ان
المقدمات ـ اي مقدمات الحرام والمكروه ـ من حيث الترك ليست علة وسببا لترك الحرام
والمكروه ، لانه يمكن ان يريد المكلف فعل الحرام كشرب الخمر مثلا ، وفعل المكروه
كأكل الشحمة مثلا. ولكن يحصلان له بفعل الغير بلا اتيانه مقدمتهما ، فيكون الحرام
والمكروه تابعين لارادة المكلف فعلا وتركا ، بلا دخل فعل مقدمتهما في فعلهما ،
وبلا دخل ترك مقدمتهما في تركهما ، فلا يترشح من طلب تركهما طلب ترك مقدمتهما.
نعم بعض المقدمات
يكون شرطا لفعل الحرام او شرطا لترك الحرام. فالاول : مثل وجود الثمن لاشتراء
الخمر. والثاني : مثل عدم وجود الثمن لدى المكلف وبعضها الآخر يكون مقتضيا لفعل
الحرام او مقتضيا لترك الحرام.
فالاول
: مثل حرية المكلف
في فعل الحرام كما في القارة الاوربية والامريكية.
والثاني
: مثل عدم اجازة
القانون الاساسي الاسلامي لفعل الحرام كما في ايران والباكستان الاسلاميتين
وغيرهما من الممالك الاسلامية. وبعضها الآخر معدّ لفعل الحرام كوجود الخمر ، او
لترك الحرام مثل عدم وجود الخمر ، وكل واحد من الشرط والمقتضي والمعد ليس بحرام ،
لان المكلف ـ مع وجود احدها ـ قادر على فعل الحرام وعلى تركه بحيث ان شاء فعله وان
شاء تركه.
فمقدمات الحرام
والمكروه ليست بحرام ولا مكروه. فاذا حرم إحراق المسلم لم يحرم حفر الحفيرة ولا
جمع الحطب ولا جمع الخشب ولا تأجيج النار لامكان ان يتحقق جميع هذه المقدمات ،
ولكن لا يتحقق الإحراق في الخارج اذ قدرة المكلف على الإحراق وعلى تركه محفوظة.
نعم يحرم من بين
جميع المقدمات خصوص الالقاء في النار لانه هو المقدمة الاخيرة التي لا يتمكن
المكلف معها من ترك الإحراق المحرّم في الخارج. فيترشح من طلب ترك إحراق المسلم
طلب ترك القائه في النار فيحرم خصوص هذه المقدمة من بين جميع مقدمات الحرام.
وكذا الامر في
جانب المكروه ، مثل : طلاق الزوجة لانه مكروه في الشريعة
المقدسة ، أما
مقدماته فليست مكروهة مثل المشي الى المحضر وبذل المهر والصداق لاجل الطلاق ، لان
الزوج قادر على فعل الطلاق وعلى تركه وان فعل هذه المقدمات.
نعم اجراء صيغة
الطلاق يكون مكروها لكونه علّة مباشرة للطلاق ، فالمعلول مكروه قطعا ، فالعلة لا
بد ان تكون مكروها للتلازم بينهما في الحكم واللازم.
وليعلم ان الافعال
التي تصدر من العباد على قسمين :
الاول
: الافعال
الاختيارية المباشرية التي اذا أتى المكلف بتمام مقدماتها كان اختيار المكلف باقيا
محفوظا على حاله ، بحيث ان شاء أتى بالفعل وان شاء لم يفعله ، كالزنا والقمار وشرب
الخمر ونحوها من المحرمات التي هي من الافعال المباشرية.
الثاني
: الافعال
التوليدية التسبيبية نحو القتل والإحراق التي لو أتى المكلف بتمام مقدماتها تحقق
الفعل قهرا ولا يكون اختيار المكلف باقيا محفوظا على حاله بحيث ان شاء فعله وان
شاء تركه. فاذا قطع اوداجه او شقّ بطنه او ألقاه في النار زهقت روحه قهرا بلا
اختيار للفاعل بحيث اذا ندم بعد قطع الاوداج او الشق او الالقاء واراد ان لا يزهق
الروح لم يتمكن المكلف منه.
وعليه ففي
المحرمات المباشرية ، حيث انها ليست مقدمة ، لا يبقى معها اختيار ترك الحرام
محفوظا على حاله ، بل يبقى اختيار ترك الحرام والمحرم وان فعل تمام المقدمات ، فلا
تتصف مقدمة من المقدمات بوصف الحرمة الشرعية اصلا وأبدا. بخلاف التسبيبية اذ يحرم
الجزء الاخير من العلة التامة نحو القطع والشق والالقاء. فقتل المسلم حرام ،
والقطع والشق حرامان ، كما ان إحراق المؤمن حرام والقاؤه في حفيرة النار حرام ،
لكونه علّة له ، فالمعلول حرام قطعا ، والعلة لا بد ان تكون حراما للتلازم بين العلة
والمعلول في الحكم واللازم كما لا يخفى.
تحقيق الإشكال
ودفعه :
قوله
: لا يقال كيف ولا يكاد يكون فعل الا عن مقدمة اعترض بانه ما من فعل من الافعال الا وله مقدمة لا محالة ،
ومعها يوجد ويتحقق في الخارج. وهذه المقدمة هي
الجزء الاخير من
العلة التامة فكيف يقال انه ليست في المحرمات المباشرية مقدمة بحيث لا يبقى اختيار
ترك الحرام محفوظا مع اتيانها ، فلا تتصف بعنوان الحرمة مقدمة من مقدماتها ابدا ،
بل على هذا القانون العقلي يجب ان يتصف الجزء الاخير من علتها التامة بالحرمة
الغيرية ، كما في الجزء الاخير منها في المحرمات التسبيبية ، طابق النعل بالنعل.
وبتقرير آخر وهو
انه لو قيل كيف يوجد المحرم في الخارج بلا علة تامة؟ والحال ان الشيء متى لم يجب
لوجود علّته لم يوجد في الخارج. ولذا قيل ان الشيء ما لم يجب لم يوجد. فاذن لا بد
للحرام اذا وجد وتحقق في الخارج من العلة التامة التي تكون محرمة ، للتلازم بين
العلة والمعلول في الحكم واللازم.
فمتى استفيد من
قول المصنف قدسسره بانه لو لم تكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار المكلف
على ترك الحرام ، لما اتصفت بوصف الحرمة مقدمة من مقدماته. وهذا اشتباه.
فانه يقال : نعم
ان قولكم صحيح وهو ان كل فعل من الافعال اذا وجد في الخارج فلا بد ان تكون له علة
تامة ، اذ الشيء ما لم يجب لم يوجد في الخارج. ولكن يمكن ان تكون العلة مركبة من
الامر الاختياري والامر غير الاختياري ، نحو شرب الخمر ، فان علته التامة مركبة من
الامر الاختياري كالذهاب الى بيت الخمر وشرائه ثم اخذ ظرفه في اليد ، ومن الامر
غير الاختياري كارادة شربه التي هي غير قابلة للحرمة الشرعية ، اذ هي امر غير
اختياري ، فاحد اجزاء علة شرب الخمر ـ بعد الذهاب الى بيت الخمر ، وبعد شرائه ،
وبعد اخذ ظرفه في اليد ـ ارادة شربه ، وهي ليست قابلة للتكليف ، لانها فعل غير
اختياري ، اذ الفعل الاختياري مسبوق بالارادة ، فلو كانت الارادة مسبوقة بارادة
أخرى للزم التسلسل وهو محال ، كما قرر في علم الكلام. فالعلة التامة اذا كانت
بأسرها اختيارية مثل القاء الحطب او الخشب في النار فهو علة لاحراقهما ، فاذا كان
الإحراق حراما كان الالقاء حراما ايضا ، للتلازم بين العلة والمعلول في الحكم.
واما اذا كانت
العلة مركبة من الافعال الاختيارية ومن الارادة فليست هذه العلة حراما وان كان
معلولها حراما كشرب الخمر مثلا ، لانه حرام في الشريعة ، ولكن علته التي هي من
المقدمات الاختيارية كالذهاب الى بيت الخمر وشرائه واخذ ظرفه ، ومن ارادة شربه
ليست بحرام ومحرم. والوجه قد مر آنفا.
فتلخص مما ذكر ان
مختار المصنف صاحب (الكفاية) قدسسره وجوب مقدمات الواجب المطلق بالوجوب العقلي ، واستحباب
مقدمات المستحب لوحدة المناط فيهما وهو التوقف والمقدمية كما سبق ، وعدم حرمة
مقدمات الحرام عقلا ، وعدم كراهة مقدمات المكروه عقلا. والسر في ذلك ان المطلوب في
الواجب وفي المستحب هو الفعل والايجاد اي ايجاد المأمور به وهو يتوقف على مقدماته
من حيث الوجود الخارجي. وعليه يحكم العقل بالملازمة بين ارادة الشيء وارادة ما
يتوقف عليه ذلك الشيء.
واما المطلوب في
الحرام والمكروه ، وهو الترك ، فهو مما يعتبر فيه تمكن المكلف منه واقتداره عليه ،
فهو مربوط بالقدرة لا بالمقدمات. ولذا لا يحكم العقل بالملازمة هاهنا ، اذ قدرة
المكلف على الترك محفوظة وان فعل مقدمات الحرام والمكروه.
تمّ الجزء الأول
بعون الله تعالى وتوفيقه في بلدة قم المشرفة حرم الأئمة الاطهار عليهالسلام في شهر شعبان المعظم سنة ١٤١٥ ه وسيتلوه الجزء الثاني
قريبا ان شاء الله تعالى
والحمد لله كما هو اهله وصلى الله على النبي وآله آمين.
فهرست الموضوعات
موضوع علم الاصول............................................................. ٧
المقدمة.......................................................................... ٧
تحقيق المصنف في موضوع علم الاصول............................................. ٨
البحث عن العوارض............................................................ ١٣
اقسام الواسطة................................................................. ١٤
بما ذا يتمايز العلم؟............................................................. ١٦
الوضع........................................................................ ١٨
تحقيق وضع المعنى الحرفي......................................................... ١٩
الخبر والانشاء.................................................................. ٢١
المبهمات...................................................................... ٢٢
كيفية استعمال المجازي.......................................................... ٢٣
استعمال اللفظ في نوعه وصنفه وشخصه.......................................... ٢٤
أإنّ الدلالة تتبع الارادة أم لا؟.................................................... ٢٦
وضع المركبات.................................................................. ٢٨
علامات الحقيقة والمجاز.......................................................... ٢٩
عدم صحة السلب............................................................. ٣١
الاطراد........................................................................ ٣٥
رفع الإشكال.................................................................. ٣٦
تعارض احوال اللفظ............................................................ ٣٧
الحقيقة الشرعية................................................................ ٤٠
تأييد الوضع الاستعمالي......................................................... ٤٢
الثمرة......................................................................... ٤٤
الصحيحي والأعمّي............................................................ ٤٦
تفسير الصحة.................................................................. ٤٩
القدر الجامع................................................................... ٥٠
اشكال الجامع.................................................................. ٥٢
الجواب عن الإشكال............................................................ ٥٣
اشكال المصنف على الجامع الأعمّي.............................................. ٥٤
تصوير الجامع على قول الأعمّي.................................................. ٥٥
ادلّة الصحيحي................................................................ ٦٧
الاستدلال بالاخبار على المدّعى.................................................. ٦٩
أدلّة الأعمّى................................................................... ٧١
اسامي المعاملات............................................................... ٧٦
الفاظ المعاملات................................................................ ٧٧
وقوع الاشتراك................................................................. ٨٢
وجوب الاشتراك................................................................ ٨٤
استعمال المشترك............................................................... ٨٥
المشتق........................................................................ ٩٣
عنوان المشتق وأنه أعم من المشتق الصرفي.......................................... ٩٦
عدم اختصاص النزاع ببعض المشتق.............................................. ١٠٠
الإشكال الوارد على اسم الزمان................................................. ١٠١
خروج الافعال والمصادر عن محل النزاع........................................... ١٠٣
عدم دلالة الفعل على الزمان................................................... ١٠٤
امتياز الماضي على غيره........................................................ ١٠٦
الجملة الاسمية................................................................ ١٠٨
تأييد عدم دلالة الفعل على الزمان.............................................. ١٠٩
امتياز الحروف عما عداها...................................................... ١١٠
ردّ تفصيل فاضل التوني........................................................ ١١٤
الفرق بين التلبّسات والتعلقات.................................................. ١١٥
الأصل اللفظي................................................................ ١٢١
الاصل العملي في المقام........................................................ ١٢٢
برهان التضاد على نحو آخر.................................................... ١٢٥
استدلال القائل بالاعم........................................................ ١٣٦
بقية الاقوال في المشتق......................................................... ١٤١
هل المشتق بسيط أو مركب؟................................................... ١٤٣
عقد الحمل وعقد الوضع في القضايا............................................. ١٤٩
الاستدلال على بساطة مفهوم المشتق............................................ ١٥٧
الفرق بين المبدإ والمشتق........................................................ ١٥٨
ملاك الحمل.................................................................. ١٦٢
مغايرة الذات والمبدإ........................................................... ١٦٧
اختلاف تلبس الذات......................................................... ١٦٩
الاوامر...................................................................... ١٧٦
اعتبار العلو في معنى لفظ الامر................................................. ١٨٢
اتحاد الطلب والارادة وتغايرهما................................................... ١٨٨
اقسام الطلب................................................................. ١٨٩
الطلب والارادة............................................................... ١٩١
سائر الصيغ الانشائية......................................................... ١٩٣
كون النزاع لفظيا لا معنويا..................................................... ١٩٥
تحقيق مدلول الصيغة.......................................................... ٢٠٨
تحقيق الجملة الخبرية........................................................... ٢٠٩
اختلاف الاصوليين في الجملة الخبرية............................................. ٢١٠
هل الصيغة ظاهرة في الوجوب أم لا؟............................................ ٢١٣
اعتبار قصد القربة عقلا........................................................ ٢١٥
قصد القربة.................................................................. ٢٢٣
اقسام التقابل................................................................. ٢٢٤
الرجوع الى اصالة الاشتغال..................................................... ٢٢٦
عدم دخل قصد القربة والتميز.................................................. ٢٢٨
الشك في تعبدية الواجب وتوصليته.............................................. ٢٢٩
الجزء والشرط قابلان للوضع والرفع.............................................. ٢٣٠
المرة والتكرار.................................................................. ٢٣٤
تحقيق معنى المرة والتكرار....................................................... ٢٣٧
الفرق بين مسألة الطبائع والافراد................................................ ٢٤١
الإشكال الوارد على المرّة....................................................... ٢٤٢
دلالة الامر على الفور أو التراخي............................................... ٢٤٤
وحدة المطلوب وتعدّده......................................................... ٢٤٩
الكلام في الإجزاء............................................................. ٢٥٠
عدم اعتبار قصد الوجه........................................................ ٢٥١
معنى الاقتضاء................................................................ ٢٥٢
الفرق بين مسألة الإجزاء والمرّة والتكرار........................................... ٢٥٦
إجزاء الامر الاضطراري والظاهري عن امر نفسهما................................ ٢٥٧
الاجزاء...................................................................... ٢٦٠
الإشكال على الأمر الاضطراري................................................ ٢٦٢
إجزاء الامر الظاهري عن الواقع................................................. ٢٦٦
الاحتمالات الاربع ثبوتا في الامر الظاهري....................................... ٢٧١
بيان الشك في الإجزاء وعدمه.................................................. ٢٧٣
الإجزاء في القطع بالأمر خطأ................................................... ٢٧٦
الاجزاء لا يوجب التصويب.................................................... ٢٧٨
مقدمة الواجب............................................................... ٢٨١
كون مسألة المقدمة عقلية...................................................... ٢٨٣
المقدمة الداخلية والخارجية...................................................... ٢٨٤
خروج الاجزاء عن محل الخلاف................................................. ٢٨٧
تعريف المقدمة الخارجية واقسامها................................................ ٢٩٠
المقدمة العقلية والشرعية والعادية................................................ ٢٩١
مقدمة الوجود والصحة والوجوب والعلم.......................................... ٢٩٣
المقدمة المتقدمة والمقارنة والمتأخرة................................................. ٢٩٥
شرائط الوضع................................................................ ٢٩٨
الواجب المطلق والمشروط....................................................... ٣٠٢
تقييد الهيئة أو المادة........................................................... ٣٠٥
دخول مقدمات الواجب المطلق في حريم النزاع..................................... ٣١٥
وجوب المعرفة والتعلّم.......................................................... ٣١٧
اطلاق الواجب على المشروط................................................... ٣١٨
المعلّق والمنجّز................................................................. ٣٢٢
الفرق بين المشروط والمعلّق...................................................... ٣٢٥
وجوب المقدمات قبل الوقت.................................................... ٣٢٨
بيان الشرط المتأخر............................................................ ٣٣٠
موارد وجوب المقدمة قبل وجوب ذي المقدمة...................................... ٣٣١
ترجيح اطلاق الهيئة على اطلاق المادة............................................ ٣٣٨
بطلان ترجيح اطلاق الهيئة على اطلاق المادة..................................... ٣٤١
النفسي والغيري............................................................... ٣٤٥
استحقاق الثواب على بعض المقدمات........................................... ٣٥٦
اشكال أمر الغيري ودفعه...................................................... ٣٥٩
المقدمة العبادية............................................................... ٣٦١
دفع الإشكال في المقدمات العبادية.............................................. ٣٦٢
لا يعتبر قصد التوصل في الطهارات الثلاث....................................... ٣٦٦
تبعية المقدمة لذيها في الاطلاق والاشتراط........................................ ٣٦٩
استدلال صاحب العروة........................................................ ٣٩٦
ثمرة القول بالمقدمة الموصلة...................................................... ٣٩٨
الواجب الاصلي والتبعي....................................................... ٤٠٥
ثمرة المسألة................................................................... ٤٠٩
ثمرة وجوب المقدمة............................................................ ٤١٦
تأسيس الاصل............................................................... ٤٢٢
الملازمة العقلية................................................................ ٤٢٨
الاستدلال على وجوب المقدمة.................................................. ٤٣٠
التفصيل بين السبب وغيره..................................................... ٤٣٥
التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره.............................................. ٤٣٦
في مقدمة المستحب........................................................... ٤٣٨
مقدمة الحرام والمكروه.......................................................... ٤٣٩
تحقيق الإشكال ودفعه......................................................... ٤٤١
شكر وتقدير................................................................. ٤٤٤
فهرست الموضوعات........................................................... ٤٤٥
|