بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذى أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وجعله قيما لا عوج فيه مستقيما ، ودعا إلى اتباعه ، والسير على منهاجه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، القائل : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢].

وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، وصفيه من خلقه وحبيبه ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وعلم الأمة القرآن ، وقال : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (١) ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :

فالتفسير من أجل العلوم قدرا ، وأعلاها شرفا وذكرا ، وأعظمها أجرا ، وأسناها منقبة ، يملأ العيون نورا ، والقلوب سرورا ، والصدور انشراحا ، ويفيد الأمور اتساعا وانفتاحا ، لا يفنى بكثرة الإنفاق كنزه ، ولا يبلى على طول الزمان عزه ، به تتعلق مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم ؛ لذا كان أولى بالالتفات إليه ، وأجدر بالاعتماد عليه ؛ وكيف لا؟ وهو يتعلق بتفسير أعظم كتاب ، وأضبط كتاب ، وأهدى كتاب ؛ القرآن الكريم الذى (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢].

ولقد قام سلفنا الصالح من كبار العلماء العاملين بجهود عظيمة فى مجال تفسير القرآن الكريم ، فعبدوا طرقه ، ويسروا صعبه ، وبينوا مسائله ، راجين مرضاة الله ، طالبين رضاه ، ملتمسين عفوه ومغفرته.

ومما لا شك فيه أن دراسة التراث التفسيرى متمثلا فى تحقيق أمهات كتب التفسير ، والعناية بها ، والاطلاع عليها ـ يسهم كل ذلك بحظ وافر فى التعرف على كتاب الله العظيم ، وتفهم آياته ، ومعرفة تعاليمه ؛ مما ييسر العمل به. أضف إلى ذلك : التعرف على هذا التراث الضخم ، والثروة التفسيرية الهائلة الكاشفة عن جهود علمائنا الأجلاء فى خدمة القرآن الكريم.

لكل هذا آثرنا تحقيق كتاب «تأويلات أهل السنة» لأبى منصور الماتريدى ؛ وذلك لأهمية هذا الكتاب فى استخلاص مسائل العقيدة من آى الذكر الحكيم ، وأيضا لأن هذا

__________________

(١) أخرجه البخارى (٨ / ٦٩٢) فى كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (٥٠٢٧) (٥٠٢٨) ، وأخرجه أبو داود برقم (١٤٥٢) ، والترمذى برقم (٩٠٧ ، ٩٠٨ ، ٩٠٩) ، وابن ماجه برقم (٢١١) ، والدارمى (٢ / ٤٣٧) ، وأحمد فى المسند (١ / ٥٨ ، ٦٩).

الكتاب غير معروف عند كثير من الناس رغم أهميته ، ومؤلفه أيضا عالم فذ يحتاج من المحققين والدارسين الالتفات إليه ، ومن ثمّ حاولنا أن نسهم بجهد متواضع بتحقيق هذا الكتاب ؛ للوصول إلى هدفنا المنشود

ويشتمل تحقيق الكتاب على : مقدمة وتمهيد ، وبابين ، وخاتمة ، وفهارس مفصلة.

فأما المقدمة فتشتمل على : المنهج المتبع فى تحقيق الكتاب.

وأما التمهيد فيشتمل على :

أولا : التعريف بعصر الماتريدى من الناحية : السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والعلمية ، والثقافية.

ثانيا : التعريف بالماتريدى : مولده ونشأته ، ونسبه ، ووفاته.

ثالثا : التعريف بشيوخ الماتريدى وتلاميذه.

رابعا : قيمة الماتريدى العلمية من خلال بيان أبرز مصنفاته.

خامسا : منزلة تفسير «تأويلات أهل السنة» بين مصنفات الماتريدى.

الباب الأول : القسم الدراسى ، ويشتمل على عدة فصول :

الفصل الأول : نشأة التفسير وتطوره.

الفصل الثانى : المدارس التفسيرية.

الفصل الثالث : المناهج التفسيرية القديمة والحديثة.

الفصل الرابع : انتماء الماتريدى التفسيرى.

الفصل الخامس : بذور التجديد فى تفسير الماتريدى.

الفصل السادس : منهج الماتريدى فى التفسير.

الفصل السابع : تأثر الماتريدي بمن سبقوه من خلال تفسيره :

ـ في التفسير.

ـ في العقيدة.

ـ في الفقه.

ـ في علوم اللغة.

الفصل الثامن : تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده إلى العصر الحاضر من خلال تفسيره.

ـ في التفسير.

ـ في العقيدة.

ـ في الفقه.

ـ في علوم اللغة.

الفصل التاسع : القضايا العلمية التى تناولها الماتريدى فى تفسيره.

ـ القضايا العقدية والكلامية.

ـ القضايا الفقهية.

ـ القضايا اللغوية والبلاغية.

الباب الثانى : القسم التحقيقى.

وعملي فيه على النحو التالي :

١ ـ نسخ المخطوط مع الالتزام بالإملاء والترقيم الحديث.

٢ ـ مقابلة النسخة التي ستكون أصلا بالنسخ الخطية الأخرى للكتاب مع إثبات الفروق في هامش الكتاب.

٣ ـ ضبط النص وسد ما فيه من خلل.

٤ ـ تشكيل الأحاديث النبوية تشكيلا حرفيا.

٥ ـ تشكيل الكلمات الغريبة في النص.

٦ ـ وضع الآيات التي يفسرها المؤلف وضعا إجماليا في بداية التفسير مع ترقيمها هكذا : قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (٣) [الأنعام].

٧ ـ ترقيم الآيات القرآنية المستشهد بها في تفسير الآية مع تخريجها.

٨ ـ تخريج الأحاديث النبوية واتبعنا فيها المنهج التالي :

أولا : إذا كان الحديث في الكتب التسعة قمت بتخريجه منها ، مع بيان الحكم على الحديث.

ثانيا : إذا لم يكن الحديث في البخاري ومسلم أشرت إلى الحديث من حيث الصحة والضعف نقلا عن أئمة هذا الفن.

ثالثا : إذا لم يكن الحديث في الكتب التسعة خرجته من باقي كتب السنة مع بيان الصحة والضعف.

٩ ـ تخريج الآثار وعزوها إلى مظانها مع بيان الراجح منها.

١٠ ـ توثيق الأقوال والنقول الواردة في الكتاب.

١١ ـ توضيح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة وغريب الحديث وغريب القرآن.

١٢ ـ تراجم الأعلام الواردة في الكتاب مع توثيق الترجمة بمصدرين أو أكثر.

١٣ ـ التعريف بالأماكن والقبائل والبلدان.

١٤ ـ شرح المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في الكتاب ، مع بيان الاصطلاحات المشهورة فى كل فن.

١٥ ـ الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ وتوثيق ما يحتاج إلى توثيق.

١٦ ـ الرجوع إلى كتب معاني القرآن.

١٧ ـ الرجوع إلى كتب البلاغة.

١٨ ـ الرجوع إلى كتب القراءات المتواترة والشاذة وتوثيق القراءات الواردة في النص مع ضبطها.

١٩ ـ التعليق على بعض المسائل الفقهية ، مع بيان الراجح من المرجوح ، وأدلة كل فريق مع الترجيح.

٢٠ ـ التعليق على بعض المسائل الأصولية ، وبيان أدلة كل فريق ، مع التوثيق.

٢١ ـ التعليق على بعض المسائل العقائدية وبيان مذهب السلف الصالح.

٢٢ ـ تتبع الدخيل الموج ود في تفسير المؤلف ، مع بيان وجه ضعفه.

وبهذا نكون قد وضعنا القارئ على بينة من المنهج المتبع فى تحقيق الكتاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

* * *

الباب الأول

عصر الماتريدي

ويشتمل على الفصول الآتية :

الفصل الأول : قيام الدولة العباسية.

الفصل الثاني : أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية.

الفصل الثالث : ظاهرة الدولة المستقلة في الشرق الإسلامي.

الفصل الرابع : نظام الحكم في الدولة العباسية.

الفصل الخامس : الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي.

الفصل السادس : الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي.

الفصل الأول

قيام الدولة العباسية

تمخضت الأحداث المتلاحقة التي اعتورت المسلمين منذ عهد الشهيد عثمان ـ رضى الله عنه ـ عن مذاهب سياسية عدة ، كان أعظمها خطرا في التاريخ السياسي للدولتين الأموية والعباسية الحزب الشيعي ، فهو أقدم الأحزاب الإسلامية على الإطلاق ، حيث ظهر في آخر عصر عثمان ، ونما واشتد عوده منذ عهد علي بن أبي طالب ، وغدا ذا أثر كبير في توجيه مسار الحياة السياسية في الدولة الإسلامية.

وقد أجمع الشيعة على أن علي بن أبي طالب هو الخليفة المختار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه أفضل الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين (١).

كما رأى الشيعة في مبايعة أبي بكر وعمر وعثمان بالخلافة افتئاتا على حق علي في الخلافة ، كما ساءهم جدّا أن يستوي معاوية على كرسيها ، وعدّوا ذلك جورا وظلما حاق بعلي وآله ولا بد من رفعه.

وتباينت مواقف الشيعة من علي ، واختلفت آراؤهم فيه ، فالمقتصدون منهم قدّموه على جميع الصحابة دون تكفير أحد منهم ، ودون السمو به إلى مرتبة النبوة ، أما المغالون فرفعوه إلى درجة النبوة والتقديس.

على أن المغالين والمقتصدين جمع بينهم الإيمان بحق علي وبنيه في الخلافة ، وعملوا منذ بداية العصر الأموي على تحويل الخلافة إلى البيت العلوي.

وبعد أن استشهد الحسين في كربلاء (٢) ، انتشر التشيع في أنحاء الدولة الإسلامية ونادى فريق الشيعة بعلي زين العابدين بن الحسين بن علي إماما ، وعرف هؤلاء بالشيعة الإمامية ، بينما قام فريق آخر يتزعمه المختار بن عبيد الثقفي ، وقائد حرسه أبو عمرو بن كيسان ـ وكان من موالي الفرس ـ بالدعوة لمحمد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية ـ نسبة إلى أمه خولة بنت قيس بن جعفر الحنفي ـ مؤلفا فرقة من غلاة الشيعة نسبت إلى المختار بن عبيد الثقفي مرة وعرفت بالمختارية ، وإلى صاحب شرطته وحرسه مرة ثانية

__________________

(١) ينظر : الفرق بين الفرق ص (٤٣) أصول الدين للبزدوي (٢٤٧) الفصل في الملل والنحل (٤ / ١٣٧) ، الملل والنحل (١ / ١٩٠) المواقف للإيجي (٣ / ٦٧١) أصل الشيعة ص (٢٤٦).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري (٥ / ٤٠٠ ـ ٤٧٠) الطبقات الكبرى (٥ / ١٤٥) الكامل في التاريخ (٤ / ٥٠) تاريخ الإسلام حوادث سنة إحدى وستين ، البداية والنهاية (٨ / ١٨٦ ، ١٨٧) ومروج الذهب (٣ / ٦٤ ـ ٧٢) أنساب الأشراف (٣ / ٣٧٣ ـ ٤٢٦).

وعرفت بالكيسانية ، وإلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية مرة ثالثة ، وعرفت بالهاشمية (١).

وإذا كان محمد بن الحنفية زاهدا في الخلافة معرضا عنها ، بدليل أنه بايع عبد الملك ابن مروان راضيا ، فإن ولده أبا هاشم عبد الله رأى أن لآل علي حقّا فيها ؛ فجعل يسعى للدعوة سرّا إلى الخلافة.

وأحس سليمان بن عبد الملك بما يدبره أبو هاشم ، وبتطلعه إلى الخلافة لا سيما بعد أن آنس منه علما واسعا وذكاء متقدا ، فأرسل من دس له السم عند عودته من الشام (٢) ، فلما أحس أبو هاشم بدنو أجله آثر أن يتوجه إلى الحميمة (٣) للإقامة لدى علي بن عبد الله ابن عباس ، فعرفه حاله وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده ، وأعلمه كيف يصنع ثم مات عنده (٤).

ولا ريب أن أبا هاشم قد أبلغ شيعته ودعاته قبل وفاته أن أمر الخلافة مصروف إلى محمد بن علي العباسي ، وأمرهم بطاعته والإذعان له.

وكذلك فإن أبا هاشم قد أمد محمد بن علي بأسماء الدعاة للشيعة في الكوفة وخراسان وسلمه كتبا إليهم حتى يطمئنوا له.

«وعلى أساس هذه الوصية ورث محمد بن علي العباسي حق الكيسانية في الإمامة ، فما كاد أبو هاشم يموت حتى قصده الشيعة وبايعوه ثم عادوا إلى مراكزهم ، وبدءوا في نشر الدعوة لمحمد بن علي العباسي عن طريق الدعاة» (٥).

وخليق بنا أن نتساءل : لما ذا عدل أبو هاشم عن أهل بيته من العلويين ، وحوّل حقهم في الخلافة إلى بني عمه من العباسيين؟

يقول د / حسن إبراهيم حسن : «لكي نجيب على هذا السؤال نرجع إلى الوراء قليلا فنقول : إنه منذ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يرشح المسلمون للخلافة أحدا من بني هاشم إلا علي بن أبي طالب وأولاده ، ولم تتجه الأنظار إلى العباس عم النبي بعد وفاته ؛ لأنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام ؛ ومن ثم لم يرشّح للخلافة هو ولا أولاده من بعده ، وقد

__________________

(١) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، الإسكندرية مطبعة شباب الجامعة ص ١٨ ، ١٩.

(٢) مقاتل الطالبين ٩١ ، شذرات الذهب (١ / ١١٣) ، الكامل لابن الأثير (٥ / ٥٣ ، ٥٤).

(٣) ينظر : مراصد الاطلاع (١ / ٤٢٨).

(٤) انظر : ابن الأثير ، الكامل في التاريخ (٥ / ٥٣ ، ٥٤).

(٥) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص ٢٠.

قيل : إن أبا سفيان جاء العباس بعد بيعة أبي بكر فقال له : ابسط يدك أبايعك ، فأبى العباس. وكانت العلاقة بين بني ـ هاشم علويين وعباسيين ـ تقوم على الود والصفاء ، وكان البيتان متحدين على العدو المشترك من بني أمية ، إلى أن انتقل حق الإمامة من العلويين إلى العباسيين بنزول أبي هاشم بن محمد ابن الحنفية.

ويظهر أن العباسيين كانوا في أواخر القرن الأول الهجري أكثر كفاية ونشاطا في الناحية السياسية من العلويين ، وأكثر تطلعا منهم إلى النفوذ والسلطان.

وقد قيل : إن أبا هاشم إنما فعل ذلك ؛ لأنه لم يجد بين أفراد البيت العلوي من يستطيع النهوض بأعباء إمامة المسلمين ، أضف إلى ذلك اختلاف اعتقاد الشيعة الكيسانية (أنصار أبي هاشم) عن اعتقاد الشيعة الإمامية (أنصار أولاد فاطمة).

على أن هناك مسألة جديرة بالملاحظة ، وهي أن نزول أبي هاشم بن محمد ابن الحنفية عن حقه في الخلافة لا يمكن أن يعتبر نزولا من العلويين جميعا ؛ لأن فريقا كبيرا منهم ظل متمسكا بعقائد الشيعة الإمامية بدليل قيامهم في وجه العباسيين بعد قيام دولتهم» (١).

تنظيم الدعوة العباسية :

أدرك محمد بن علي بن عبد الله العباسي أن تحويل الدعوة إلى الخلافة من البيت العلوي إلى البيت العباسي على هذا النحو المفاجئ قد يقضي على الدعوة قضاء لا قيام لها بعده ، فآثر أن يمهد لذلك بتهيئة النفوس والعقول ، بأن اختار لدعوته شعارا تتستر وراءه ، ويضمن انضمام العباسيين والعلويين جميعا إليه ، وهو «الرضا من آل محمد» ، ويقصد به أي شخص من آل البيت النبوي يتفق عليه في الوقت المناسب ؛ درءا وتقية لما قد يصيب الدعوة من أخطار إذا ما اكتشفت السلطات الأموية سرها ، وفي الوقت نفسه كسبا لأنصار جدد من شيعة فارس الذين كانوا يميلون ـ سواء عن إيمان عقائدي راسخ أو بدافع من الشعور القومي ـ للعلويين ، وزيادة في تعمية الأمر على الأمويين والعلويين وتجنبا لإثارة الشبهات في نواياه الحقيقية (٢).

مراكز الدعوة العباسية :

اتخذ محمد بن علي العباسي الكوفة وخراسان مركزين لنشر الدعوة العباسية وبث مبادئها وأهدافها ، أما الكوفة فلأنها مهد التشيع ومستقر أنصار آل البيت ، وأما خراسان

__________________

(١) د / حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ١٠ ، ١١).

(٢) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، ص ٢٢.

فلما كان يعانيه الموالي الفرس من عسف الأمويين وجورهم ، بالإضافة إلى اعتقادهم في نظرية الحق الملكي المقدس التي سادت الفكر الفارسي منذ أمد بعيد.

يقول الإمام محمد بن علي العباسي مصورا طبيعة الأمصار الإسلامية ونوع الأهواء والأفكار السائدة بها آنذاك : «أما الكوفة فشيعة علي ، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف ، وأما الجزيرة فحرورية ، وأعراب لأعلاج ، ومسلمون في أخلاق النصارى ، وأما أهل الشام فلا يعرفون غير معاوية وطاعة بني أمية ، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهم أبو بكر وعمر ، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر ، وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ، ولم تتوزعها النحل ، ولم يقدح فيها فساد ، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجسام منكرة ، وبعد فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق (١).

ولم يكد القرن الهجري الأول ينتهي حتى انطلقت الدعوة السرية للبيت العباسي من الحميمة وأخذ محمد بن علي العباسي يوجه الدعاة في الآفاق فكان للعراق دعاة على التوالي هم : ميسرة العبدي (١٠٢ ـ ١٠٥ ه‍) ، وبكير بن ماهان (١٠٥ ـ ١٢٧ ه‍) ثم أبو سلمة الخلال (١٢٧ ـ ١٣٢ ه‍). كما وجه الدعاة إلى خراسان وكان أولهم أبو عكرمة السراج.

«ويلي طبقة الدعاة في المرتبة طائفة النقباء الذين يأتمرون بأمرهم ، ويجهلون إمام الوقت ، وكان لكل داعية اثنا عشر نقيبا ، ولكل نقيب سبعون عاملا يديرون الوحدات المتفرعة ، ويشرفون على الخلايا السرية المنبثة في مختلف الأقاليم ، وكان الدعاة والنقباء يتميزون بإخلاصهم الشديد للدعوة وتفانيهم في خدمتها ، كما كانوا يتصفون ببعد النظر والقدرة على فهم تقسيمات الناس ، وتمييز عناصرهم ؛ تمهيدا لاجتذابهم إلى دعوتهم ، وبالبراعة في التخفي والتنكر ، مع حظ كبير من الثقافة والعلوم الدينية واللغوية» (٢).

نجاح الدعوة في العراق :

لعب بكير بن ماهان الذي ولي أمر الدعوة العباسية في العراق دورا كبيرا في تاريخ الدعوة العباسية على مدار اثنين وعشرين عاما ، وإليه يرجع الفضل في تنظيم الدعوة في

__________________

(١) د / حسن إبراهيم تاريخ الإسلام (٢ / ١٢ ، ١٣).

(٢) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص ٢٥.

إطار من السرية الشديدة والحيطة الحذرة (١).

ثم خلفه أبو سلمة الخلال وكان سمحا كريما فصيحا عالما بالأخبار والأشعار والسير والجدل والتفسير ، وقد نهض بأمر الدعوة في طورها العسكري العنيف (٢).

ودرج المؤرخون على تقسيم الدعوة العباسية إلى طورين متعاقبين مرت بهما (٣).

أما الأولى : فتبدأ مع مطلع القرن الثاني الهجري وتنتهي بانضمام أبي مسلم الخراساني إليها ، ولم تصطنع الدعوة العباسية في هذا الطور أسلوب العنف والشدة ، وإنما جنحت إلى الدعوة السلمية التي امتازت بشيء غير قليل من السرية والكتمان ؛ إذ كان الدعاة يجوبون البلاد الإسلامية متظاهرين بالتجارة أو أداء فريضة الحج.

أما الطور الثاني : فيبدأ بانضمام أبي مسلم الخراساني إلى الدعوة العباسية (٤) ، وهو الطور الذي نشبت فيه الحروب بين بني أمية وبني عباس ، والتي أفضت إلى زوال السيادة الأموية وقيام الدولة العباسية.

الدعوة في خراسان :

لقيت الدعوة العباسية في خراسان شيئا غير قليل من العنت والمحن إبان ولاية أسد بن عبد الله القسري ، على الرغم مما حرص عليه الدعاة من إضفاء السرية عليها.

ولم يكتب للدعوة في خراسان الذيوع والانتشار إلا بعد وفاة أسد بن عبد الله سنة ١٢٠ ه‍ ، وعمد الدعاة في خراسان إلى جملة مبادئ وشعارات ، وجدوا أن إذاعتها وترديدها جدير بأن يجذب العرب والموالي الفرس جميعا إلى الدعوة العباسية كتحقيق مبدأ المساواة الذي كانت تتستر وراءه نزعات متباينة ، والذي أيده جماعات كبيرة من الشعوبيين العجم ؛ لأنه يحقق لهم مكاسب تهدف إلى إحياء المجد الفارسي القديم ، كما أيده آخرون من العرب على أساس تسوية الموالي بالعرب ؛ استنادا إلى مبدأ الفقهاء في

__________________

(١) ينظر : ابن الأثير الكامل في التاريخ (٥ / ٢٥ ، ١٣٦) ، (١٤٠ ، ١٩٦ ، ٢١٨) ، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (٧ / ١١٧ ، ١٨٦ ، ٢٢٩ ، ٢٥٢) البداية والنهاية (١٠ / ١٨).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري حوادث سنة (١٣٢) ه وفيات الأعيان (٢ / ١٩٥ ـ ١٩٧) سير أعلام النبلاء (٦ / ٧١) ، البداية والنهاية (١٠ / ٥٥) شذرات الذهب لابن العماد (١ / ١٩١).

(٣) د / حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ١٣).

(٤) ينظر : ترجمته في : شذرات الذهب (١ / ١٧٩) ، تاريخ بغداد (١٠ / ٢٠٧) ، العبر (١ / ٣٨٦) ، ميزان الاعتدال (٢ / ٥٨٩) ، لسان الميزان (٣ / ٤٣٦) ، سير أعلام النبلاء (٦ / ٤٨) ، تاريخ الطبري (٧ / ٤٧٩) ، المعارف (٣٧٠) ، البدء والتاريخ (٦ / ٧٨) ، تاريخ الإسلام للذهبي الطبقة الرابعة عشرة ص ٥٨١ ، وفيات الأعيان (٣ / ١٤٥) ، الكامل لابن الأثير (٥ / ٣٦٦).

الإصلاح ومحاربة الظلم والتعسف ، كذلك طالب الدعاة بالدعوة إلى الإصلاح ، ويقصد به الدعوة إلى الكتاب والسنة. وقد أدت هذه الشعارات إلى ازدياد عدد المؤيدين للدعوة في خراسان للرضا من آل محمد ، وانتشارها في بلاد فارس وخراسان وخوارزم وبلاد ما وراء النهر» (١).

سقوط الدولة الأموية :

توفي الإمام محمد بن علي بن عبد الله حامل لواء الدعوة العباسية سنة ١٢٥ ه‍ بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه إبراهيم.

وفي عهد إبراهيم دخلت الدعوة العباسية طور الصدام الحربي مع الأمويين ، وقيض لها شخصيتان بارزتان يرجع إليهما الفضل الأكبر في نجاح الدعوة العباسية ، هما : أبو سلمة الخلال الذي تولى رئاسة الدعوة خلفا لبكير بن ماهان ، وأبو مسلم الخراساني الذي قاد الجيوش العباسية إلى النصر والقضاء على الدولة الأموية.

إذ لم تدم السرية التي أسبغها العباسيون على دعوتهم ، بل أميط عنها اللثام في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية (١٢٧ ـ ١٣٢ ه‍) حيث وقع على رسالة لإبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني ، فقبض مروان على إبراهيم وسجنه ثم قتله.

وكان إبراهيم قد عهد إلى أخيه أبي العباس السفاح (٢) وأوصاه بمواصلة الدعوة والمسير إلى الكوفة ، فلما قتل إبراهيم الإمام سار رسوله إلى الحميمة وسلم وصيته إلى أبي العباس الذي توجه إلى الكوفة ومعه كبار بني هاشم من ولد العباس ، وفيهم أخوه أبو جعفر المنصور حيث أنزلهم أبو سلمة الخلال داعي الدعاة في دار لأحد أتباعه وكتم أمرهم نحوا من أربعين ليلة ، وحاول أن يصرف الأمر إلى آل علي بن أبي طالب عند ما بلغه نبأ وفاة إبراهيم الإمام ولكنه أخفق في هذه المحاولة ، واضطر إلى مبايعة أبي العباس السفاح بالخلافة (٣).

ولم يستطع والي الكوفة آنذاك محمد بن خالد بن عبد الله القسري مواجهة العباسيين

__________________

(١) د / السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص ٢٨.

(٢) انظر : الكامل لابن الأثير (٥ / ٤٠٨ ـ ٤١٧) ، (٥ / ٤٢٢ ، ٤٢٣).

(٣) ينظر : ترجمته في : شذرات الذهب (١ / ١٨٣ ، ١٩٥) فوات الوفيات (٢ / ٢١٥ ـ ٢١٦) ، البداية والنهاية (١٠ / ٥٢ ، ٥٨) ، تاريخ الطبري (٧ / ٤٢١) ، تاريخ خليفة (٤٠٩) ، تاريخ بغداد (١٠ / ٥٣) ، تاريخ الكامل لابن الأثير (٥ / ٤٠٨) ، سير أعلام النبلاء (٦ / ٧٧) ، مروج الذهب (٣ / ٢٦٦) ، المعارف (٣٧٧) ، أنساب الأشراف (٣ / ١٨٣) ، تاريخ الموصل (١٦١) ، تاريخ بغداد (١٠ / ٥٣) ، الوافي بالوفيات (١٧ / ٤٣٣) ، تاريخ الخلفاء (٢٠٦) ، الذهب المسبوك للمقريزي (٣٦).

والقضاء على دعوتهم في الكوفة ؛ فاضطر إلى تسليمها والإذعان لأصحاب الدولة الجديدة.

وفي الجامع الأموي بويع لأبي العباس بالخلافة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة ١٣٢ ه‍ (١).

ثم خطب خطبة مدح فيها آل البيت وقرر حق العباسيين في الخلافة ، ثم سب الأمويين الذين استأثروا بالأمر دون أهله وذويه ، ثم أثنى على أهل الكوفة قائلا : «يا أهل الكوفة ، أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا ، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زماننا ، وأتاكم الله بدولتنا ، فأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير» (٢).

ثم خرج العباس بعد الخطبة إلى معسكر أبي سلمة حيث أقام شهرا ، ثم ارتحل من هناك ، فنزل المدينة الهاشمية بقصر الإمارة (٣).

وعلى هذا النحو خرجت الدولة العباسية إلى الوجود السياسي الإسلامي ، وقضي على الأمويين قضاء سوف نعرف طرفا منه في الفصل القادم.

* * *

__________________

(١) ينظر المراجع السابقة.

(٢) انظر : الكامل لابن الأثير (٥ / ٤١١) ، سير أعلام النبلاء (٦ / ٧٨) ، تاريخ الطبري (٧ / ٤٢١) ، سمط النجوم العوالي (٣ / ٣٦٥).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ص. ٤٧

الفصل الثاني

أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية

حتى دخول البويهيين بغداد

إن الناظر في تاريخ الدولة العباسية منذ قيامها وحتى سقوطها يجده مشحونا بأحداث جسام يحتاج درسها واستيعابها مجلدات تند عن الحصر.

لذلك آثرنا أن نجتزئ في هذا الفصل ببعض هذه الأحداث التي نرى أنها تهب القارئ الكريم تصورا عامّا عن الدولة العباسية من الناحية السياسية.

القضاء على الأمويين واستئصال شأفتهم :

لم يكد لواء الخلافة يتحول إلى أبي العباس السفاح حتى عمد إلى الانتقام من بني أمية جزاء ابتزازهم الخلافة ، واستئثارهم بها دون أهلها من آل البيت ، وعقابا لهم على إيذاء العلويين والعباسيين جميعا.

وذهب نفر من المؤرخين إلى أن سياسة العباسيين تلك إن هي إلا امتداد للعداء المستحكمة حلقاته بين بني أمية وبني هاشم منذ الجاهلية ، وهو عداء لم تنجح مبادئ الإسلام في العدل والإخاء والمساواة في استئصال جذوره من النفوس والضمائر ، بل لعل الإسلام زاده شدة وضراوة ؛ نظرا لما كان بينهما من منافسة قوية على الظفر بمنصب الخلافة (١).

ومهما يكن من أمر فقد بالغ أبو العباس السفاح في التنكيل ببني أمية وافتن في إنزال ألوان الأذى وضروب القتل بهم ، فقتل عبد الله بن علي عم السفاح ثلاثمائة من بني أمية منهم : إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ، ويزيد بن عبد الملك ، وعبد الجبار بن يزيد ابن عبد الملك ، ومروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.

وروي عن أبي العباس السفاح أنه لما أتي برأس مروان بن محمد ووضع بين يديه ، سجد فأطال السجود ، ثم رفع رأسه فقال : الحمد لله الذي لم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك ، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك ، ثم قال : ما أبالي متى طرقني الموت ؛ فقد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين ، وأحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي ، وقتلت مروان بأخي إبراهيم ، وتمثل بقول الشاعر :

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ٨٤).

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم

ولا دماؤهم للغيظ ترويني

ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود ، ثم جلس وقد أسفر وجهه ، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له :

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

قواطع في أيماننا تقطر الدما

تورثن من أشياخ صدق تقربوا

بهن إلى يوم الوغى فتقدما

إذا خالطت هام الرجال تركتها

كبيض نعام في الوغى متحطما (١)

والحق أن الشعراء قد أذكوا لدى بني العباس نيران العداوة ضد بني أمية ، وزادوها اشتعالا ، فروي أن السفاح كان جالسا في مجلس الخلافة ، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك ، وقد أكرمه السفاح ، فدخل عليه سديف الشاعر فأنشده :

لا يغرنك ما ترى من رجال

إن تحت الضلوع داء دويّا

فضع السيف وارفع السوط حتى

لا ترى فوق ظهرها أمويّا

فالتفت سليمان وقال : قتلتني يا شيخ ، ثم دخل السفاح وأخذ سليمان فقتل (٢).

وقد أسرف العباسيون في التنكيل بالأمويين إسرافا لا يراعي للموت حقّا ولا يعرف له جلاله وحرمته ، فنبشوا قبر معاوية بن أبي سفيان ، فلم يجدوا فيه إلا خيطا مثل الهباء ، ونبشوا قبر يزيد بن معاوية ، فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد (٣).

ولم تكن سياسة الانتقام التي اصطنعها أبو العباس السفاح ضرورة طارئة ألجأه إليها إشباع روحه النزاعة إلى الانتقام ، أو تثبيت أركان دولته الناشئة ، بل كانت سياسة مضطردة توشك أن تسم العصر العباسي الأول كله بميسمها ؛ يقول ابن دأب ـ وقد كان من خواص الخليفة الهادي : «دعاني الخليفة الهادي في وقت من الليل لم تجر العادة أنه يدعوني في مثله ، فدخلت إليه ، فإذا هو جالس في بيت صغير شتوي وقدامه جزء ينظر فيه ، فقال لي : يا عيسى ، قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : إني أرقت في هذه الليلة وتداعت إليّ الخواطر واشتملت عليّ الهموم وهاج لي ما جرت إليه بني أمية من بني حرب وبني مروان في سفك دمائنا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، هذا عبد الله بن علي قد قتل منهم على نهر أبي فطرس فلانا وفلانا ، حتى أتيت على تسمية من قتل منهم ، وهذا عبد الصمد بن علي قد

__________________

(١) ابن الأثير ، الكامل (٥ / ٤٢٧ ، ٤٢٨) ، المسعودي ، مروج الذهب (٣ / ٢٧١ ، ٢٧٢).

(٢) ابن الأثير ، الكامل (٥ / ٤٢٩).

(٣) ابن الأثير الكامل (٥ / ٤٣٠) ، سمط النجوم العوالي (٣ / ٣٥٠ ، ٣٥١).

قتل منهم بالحجاز في وقت واحد نحو ما قتل عبد الله بن علي ...».

قال ابن دأب : فسر والله الهادي (١).

الصعوبات التي واجهت أبا جعفر المنصور في سبيل إرساء دعائم الدولة العباسية وتثبيت أركانها :

توفي أبو العباس السفاح سنة ١٣٦ ه‍ بعد أن عهد بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور على أن يليه في ولاية العهد عيسى بن موسى بن محمد العباسي.

وقد أنفق أبو جعفر سني خلافته في تثبيت دعائم الملك العباسي وتوطيد أركان الخلافة الجديدة ، وأبدى من الحزم والفطنة والكفاية ما هو خليق بعظماء الرجال ، حتى عده المؤرخون بحق المؤسس الحقيقي للدولة العباسية ؛ إذ استطاع أبو جعفر بفضل ما أتيح له من مواهب سياسية جماعها الحزم والشجاعة وسداد الرأي أن يقضي على الأخطار المحدقة بالدولة العباسية في طورها الباكر ، ولا غرو فهو على حد قول السيوطي :

«فحل بني عباس هيبة وشجاعة وحزما ، ورأيا وجبروتا ، جمّاعا للمال تاركا اللهو واللعب ، كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب ، فقيه النفس قتل خلقا كثيرا حتى استقام ملكه» (٢).

وقد تمثلت هذه الأخطار التي واجهت أبا جعفر فيما يلي :

١ ـ ثورة عبد الله بن علي العباسي.

٢ ـ تضخم نفوذ أبي مسلم الخراساني وإدلاله على الخلفاء العباسيين.

٣ ـ ثورات العلويين.

أولا : ثورة عبد الله بن علي العباسي :

أبى عبد الله بن علي العباسي أن يبايع أبا جعفر المنصور ، ورأى أنه أحق بالخلافة من ابن أخيه ، فادعى أن أبا العباس لما أراد توجيه الجند لقتال مروان بن محمد قال لهم : «من انتدب منكم للمسير إليه فهو ولي عهدي ، وإنه لم ينتدب لهذا الأمر أحدا غيري» (٣) ، فبايعه الجند والقواد بالخلافة. ولم تكد هذه الأخبار تنتهي إلى مسامع أبي جعفر حتى وجه إليه أبا مسلم الخراساني الذي قال له : لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله ، فإن عامة جنده من

__________________

(١) مروج الذهب ، المسعودي (٣ / ٣٣٨).

(٢) تاريخ الخلفاء ، السيوطي ، ص ٢٠٨ ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان.

(٣) ابن الأثير (٥ / ٤٦٤).

أهل خراسان وهم لا يعصونني.

وتمكن أبو مسلم الخراساني من إلحاق الهزيمة بجند عبد الله بن علي في بلاد الشام ، وفر عبد الله من ميدان القتال حتى وصل إلى البصرة ، واختفى عند أخيه سليمان بن علي ، وكان قد وليها من قبل المنصور ، واستولى أبو مسلم على ما في معسكر عبد الله من مال وعتاد.

وثمة خطئان وقع فيهما عبد الله بن علي تسببا في هزيمته :

أولهما : احتياله على قتل حميد بن قحطبة ، والذي كان يعد من أعظم قواد الدولة العباسية ، وكان قد انضم إلى عبد الله ، فلما وقف على مؤامرته للفتك به انضم إلى أبي مسلم الخراساني.

ثانيهما : قتله من كان في جيشه من الخراسانيين ، مما أضعف قوته وأثار حفيظة من بقي معه من الجند ، فلم يخلصوا له ولدعوته (١).

وذكر الطبري أن عبد الله بن علي بايع أبا جعفر المنصور سنة ١٣٨ ه‍ حين كان أخوه سليمان لا يزال على ولاية البصرة ، وأن سليمان لما عزل اختفى عبد الله خوفا على حياته ، ثم ألح المنصور على سليمان بن علي وعيسى بن موسى بإحضار عبد الله وأعطاهما الأمان على ألا يسيء إليه ، ولكنه أمر بحبسه ، وقتل بعض أصحابه ، ثم قتله سنة ١٤٩ ه‍ بعد أن حبسه تسع سنوات (٢).

وهكذا قضى أبو جعفر على فتنة كانت خليقة أن تعصف بالدولة العباسية في مهدها ، أو على أقل تقدير تفرق بين أفراد البيت العباسي وتشتت شمله.

القضاء على أبي مسلم الخراساني :

لعل من نافلة القول أن نذكر ما أنفقه أبو مسلم الخراساني من مجهود كبير في سبيل الدعوة العباسية ، وإخراجها من رحم الظلم والاضطهاد إلى نور الخلافة والملك ، وحسن بلائه في الحروب التي خاضها العباسيون ضد الأمويين ، فذاك أمر يحتاج بسط القول فيه وإقامة الأدلة والشواهد عليه صفحات كثيرة تضيق عنها هذه الدراسة الموجزة.

وأحسب أن أبا جعفر المنصور قد أدرك أن رسوخ قدمه في الملك والحكم منوط بالقضاء على أبي مسلم الخراساني الذي مثل نفوذه المتزايد وإعجابه بما قدم للدولة

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام ، (٢ / ٩٦) ، ابن الأثير (٥ / ٤٦٥).

(٢) الطبري (٧ / ٥٠١ ، ٥٠٢).

العباسية وإدلاله على رجالها خطرا كبيرا جديرا بأن يحيل الخلافة العباسية ألعوبة في يد أبي مسلم يحولها كيف شاء.

والحق أن روح العداء بين أبي جعفر المنصور وأبي مسلم الخراساني قديمة ، تسبق من غير شك ولاية المنصور للخلافة العباسية.

وهو عداء قد تلون في أكثر جوانبه بالمنافسة والتسابق في مضمار السياسة ، ثم غدا حقدا خالصا وكرها مستحكما.

ولا مراء في أن تصرفات أبي مسلم الخراساني قد أوغرت صدر المنصور عليه ، وحملته على أن يتربص به الدوائر ويغتنم الفرصة تسنح كي يتخلص منه. ولا بأس أن نذكر طرفا من العداوة بين الرجلين حتى يتبين القارئ صدق كلامنا :

ـ تقدم أبي مسلم الخراساني على المنصور في طريق الحج ، وعدم انتظاره إياه في طريق العودة عند ما بلغه نبأ وفاة أبي العباس السفاح (١).

ـ بعد وفاة السفاح أرسل أبو مسلم إلى المنصور رسالة يعزيه فيها دون أن يهنئه بالخلافة (٢).

ـ كان المنصور قد أمر الحسن بن قحطبة ، والي الجزيرة ، أن يلحق بأبي مسلم عند توجهه لمقاتلة عبد الله بن علي في الشام ، فكتب ابن قحطبة إلى وزير المنصور يقول : «إني قد رأيت بأبي مسلم أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم ، فيقرأه ويضحكان استهزاء» (٣).

ـ تجرأ أبو مسلم وقتل سليمان بن كثير الخزاعي أحد شيوخ الدعوة العباسية دون استشارة الخليفة.

ـ تحديه لأمر المنصور عند ما صرفه عن ولاية خراسان وولاه الشام ومصر وقوله : «هو يوليني الشام ومصر ، وخراسان لي» ، واستمراره في السير إلى خراسان (٤).

ـ تقديمه لاسمه على اسم الخليفة في رسائله (٥).

__________________

(١) ابن الأثير (٥ / ٤٦٨).

(٢) السابق (٥ / ٤٦٨).

(٣) ابن الأثير (٥ / ٤٦٩).

(٤) السابق (٥ / ٤٦٩).

(٥) السابق (٥ / ٤٧٥).

ـ ادعى أبو مسلم أنه ينتسب إلى سليط بن عبد الله بن عباس (١).

وهكذا اجتمعت لدى أبي جعفر المنصور الأدلة المقنعة للفتك بأبي مسلم ، وطفق يدبر أمر اغتياله ، فولى هشام بن عمر العقيلي مكان أبي مسلم ، فانصرف أبو مسلم ، وأقبل يريد خراسان مغاضبا لأبي جعفر ؛ حتى يثير أهل خراسان عليه ويجعل العباسيين دائما في قبضة يده ، فمر بالمدائن ، وأبو جعفر ينزل برومية على مقربة منها ، فلم يسع إلى لقائه ، ونفذ لوجهه حتى جاز حلوان ، فسير إليه المنصور نفرا من أصحابه فلحقوه وعظموا عليه الخطب ، وحذروه عاقبة البغي ونصحوه بالرجوع إلى المنصور ، فأقبل إلى العراق وقدم على أبي جعفر ، فأمر الناس بتلقيه ، فتلقاه بنو هاشم والناس ، فدخل على المنصور فقبل يده ، وأمره المنصور بأن ينصرف ويروح نفسه ويدخل الحمام ، فانصرف ، فلما كان الغد دعا المنصور عددا من الحرس وأمرهم بالجلوس وراء الرواق فإذا صفق بيديه وثبوا على أبي مسلم فقتلوه ، ثم أرسل إلى أبي مسلم يستدعيه ، ثم أخذ يعاتبه على مخالفته له ، فلما طال عتاب المنصور قال أبو مسلم : «لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني».

فقال له المنصور : «يا بن الخبيثة ، والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت ، إنما عملت في دولتنا وبريحنا ، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلا» ، فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه ، فقال له المنصور : «ما رأيتك اليوم ، والله ما زدتني إلا غضبا» ، قال أبو مسلم : «دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا الله تعالى» ، فغضب المنصور وشتمه ، ثم صفق بيده على الأخرى ، فخرج عليه الحرس فأخذوه بسيوفهم حتى قتلوه ، وتم ذلك في شعبان سنة مائة وستة وثلاثين هجرية.

ثم خطب المنصور في الناس بعد أن قتله فقال : «أيها الناس ، لا تخرجوا عن أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ، ولا تسروا غش الأئمة ، فإن من أسر غش إمامه أظهر الله سريرته في فلتات لسانه وسقطات أفعاله ، وأبداها الله لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به وإعلاء حقه بفلجه ، إنا لم نبخسكم حقوقكم ، ولم نبخس الدين حقه عليكم ، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه ، ثم نكث بيعته هو ، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا ، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه».

ثم اضطرب أصحاب أبي مسلم بعد قتله ، ففرقت فيهم الأموال ، فأمسكوا رغبة ورهبة (٢).

__________________

(١) السابق.

(٢) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول (ص ١٣١ ـ ١٣٢) ، وابن الأثير (٥ / ٤٧٥ ، ٤٧٦).

ويرى الدكتور حسن إبراهيم حسن أن أبا جعفر المنصور كان مدفوعا إلى ذلك بما كان بينه وبين أبي مسلم من حزازات شخصية قديمة ، وقد زاد أبو مسلم النار اشتعالا بتماديه في زهوه وإعجابه بنفسه وإسرافه في قتل النفوس البريئة بغير شفقة ولا رحمة.

كما يرى د / حسن أن إخلاص أبي مسلم وتفانيه في نصرة العباسيين أمر لم يقم الدليل بعد على إضعافه أو دحضه (١).

ومهما يكن من أمر فقد كان القضاء على أبي مسلم ضرورة ألجأ المنصور إليها سطوة أبي مسلم وازدياد نفوذه ، مع ما ينطوي عليه ذلك من مناوأة له وتهديد لحكمه.

ثورات العلويّين : محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم :

أشرنا من قبل إلى أن الدعوة العباسية قد رفعت شعار : «الرضا من آل محمد» حتى تأمن مناوأة العلويين لهم ، وخروجهم عليهم إن هم كشفوا عن نواياهم الحقيقية في الاستئثار بمنصب الخلافة ، «فلما ظفر العباسيون بالخلافة وأقاموا دولتهم على أنقاض دولة بني أمية ، لم يرق ذلك في نظر العلويين ولم تطب بذلك نفوسهم ، على الرغم من أن الجميع من أولاد هاشم ، وعلى الرغم من كونهم يدا واحدة على بني أمية ، واشتراكهم في العمل على إزالة دولتهم ؛ إذ أدركوا أن العباسيين قد خدعوهم واستأثروا بالخلافة دونهم مع أنهم أحق بها منهم ، فنابذوهم العداء ونظروا إليهم كما كانوا ينظرون إلى الأمويين من قبل ، فظلوا يناضلون ويكافحون ابتغاء الوصول إلى حقهم في الخلافة» (٢).

ولا تمر سنوات كثيرة من عمر الخلافة العباسية حتى يخرج على أبي جعفر المنصور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم.

ولم تنجح محاولات العباسيين في استرضاء العلويين من القول اللين حتى العطاء الجزيل ؛ فقد كان النفس الزكية يرى أنه أحق بالخلافة وأن أبا جعفر المنصور قد اغتصبها واستأثر بها من دونه ، فامتنع في أول الأمر عن مبايعة السفاح ثم تخلف هو وأخوه إبراهيم عن بيعة المنصور ، فلم يجد المنصور بدّا من العمل على التخلص منهما حتى يستقيم له أمر الملك.

وكان أن عهد المنصور بولاية المدينة إلى رباح بن عثمان بن حيان ابن عم مسلمة بن

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ١٠٣).

(٢) حسن إبراهيم (٢ / ١٢٢).

عقبة قائد الحرة في عهد يزيد بن معاوية ، فقدم عثمان المدينة سنة ١٤١ ه‍ وخطب أهلها خطبة سداها ولحمتها التهديد والتخويف ، فكان مما قال فيها : «يا أهل المدينة أنا الأفعى ابن الأفعى عثمان بن حيان وابن عم مسلمة بن عقبة ، المبيد خضراءكم المفني رجالكم ، والله لأدعنها بلقعا لا ينبح فيها كلب» (١).

بيد أن أهل المدينة قد هوت أفئدتهم إلى محمد النفس الزكية ، وتدفقت نفوسهم حماسة لآل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يحفلوا بتهديد عثمان ، بل أغلظوا له القول وهموا بالفتك به.

فكتب إليهم المنصور قائلا : «يا أهل المدينة ، فإن واليكم كتب إلي يذكر غشكم وخلافكم وسوء رأيكم واستمالتكم على بيعة أمير المؤمنين ، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنتهوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفا ، وليقطعن البر والبحر عنكم ، وليبعثن عليكم رجالا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام» (٢).

ولم يزحزح كتاب المنصور أهل المدينة عن موقفهم ، بل لعله زادهم إصرارا على الانتصار للعلويين ، فقبض عامله على عبد الله بن الحسن أبي محمد النفس الزكية وإخوته وذوي قرباه.

بيد أن عبد الله لم يكن بالرجل الذي تلين قناته ، بل كان يعتقد في أحقية ابنه بالخلافة دون المنصور والسفاح من قبله (٣). فطلب إلى ابنه أن يواصل مناجزة العباسيين ، وألا يحفل بما يعوقه في سبيل الحق من صعوبات.

واشتد إيذاء المنصور لأشياع النفس الزكية ، وعظم البلاء النازل بهم حتى اضطروا محمدا إلى الخروج ، ولما تتهيأ الظروف بعد لخروجه وذلك في سنة ١٤٥ ه‍ ، وقد شجعه على ذلك ظنه إجماع الناس على نصرته وشدة ميلهم إليه ، وتلك الفتوى التي أفتى بها الإمام مالك بن أنس ؛ حيث أفتى بجواز نقض بيعة المنصور حين قال لأهل المدينة : «إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين» (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري (٧ / ٥١٧) ، ابن الأثير (٥ / ٥١٣).

(٢) ينظر حسن إبراهيم (٢ / ١٢٦) نقلا عن تاريخ اليعقوبي (٢ / ٤٥٠).

(٣) حسن إبراهيم حسن (٢ / ١٢٧).

(٤) هذا أثر مروي عن ابن عباس موقوفا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٥ / ٤٨) من طريق هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي ، عن أبي يزيد المديني عن عكرمة عن ابن عباس ... ورجاله ثقات وعلقه البخاري (٩ / ٣٤٣ ـ فتح) في كتاب الطلاق وقال الحافظ في المصدر السابق وصله ابن أبي ـ

خرج محمد النفس الزكية في مائتين وخمسين من أصحابه ، فتوجه إلى السجن وأطلق سراح من فيه ، ثم قبض على عامل أبي جعفر المنصور في المدينة وأمر بحبسه.

وفي الوقت الذي خرج فيه النفس الزكية في المدينة كان أخوه إبراهيم يدعو له في البصرة ويأخذ من أهلها البيعة له.

والحق أن أبا منصور لم يدع وسيلة تمكنه من الظهور على خصمه إلا اصطنعها ، فكانت سياسته تجاه هذه الثورة مزيجا من الحزم والدهاء ، وقد ندب المنصور ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى للقضاء على النفس الزكية ، فنهض بما أمر به خير نهوض لا سيما وقد تفرق عن النفس الزكية جل أنصاره وشيعته ، فبقي في نفر قليل من خاصته ، لم يغنه في مواجهة جيش مدرب منظم كجيش عيسى بن موسى ، وقتل النفس الزكية واحتز رأسه وذلك في رمضان سنة ١٤٥ ه‍ (١).

وبعد أن فرغ عيسى من النفس الزكية في المدينة أمره المنصور بالتوجه إلى العراق للقضاء على أخيه إبراهيم ، وكان قد تغلب على البصرة والأهواز وفارس ، ودارت رحى الحرب وحمي وطيسها في باخمرى بين الكوفة وواسط ، وانجلى غبارها عن هزيمة إبراهيم وجنده ، ولم يزل يناضل العباسيين في فئة قليلة حتى قتل فاحتز ابن قحطبة رأسه (٢).

وهكذا استطاع المنصور بما أتيح له من حزم وذكاء أن يقضي على أول ثورة يحمل لواءها العلويون ، فوطد دعائم خلافته ومكن لها من البقاء والاستمرار.

أبرز الأحداث السياسية في عهد الخليفة المهدي :

ولي الخلافة العباسية بعد أبي جعفر المنصور ابنه المهدي (٣) ، ولبث في منصب

__________________

ـ شيبة وسعيد بن منصور جميعا عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المديني عن عكرمة عن يمين وانظر الرواية في ترتيب المدارك (١ / ٢٢٨) ، ووفيات الأعيان (٤ / ١٣٧) ، والانتقاء (٤٣) ، وتاريخ الطبري (٧ / ٥٦٠) قال : وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن سنان الخ كمي أخو الأنصار ، قال : أخبرني غير واحد أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد ، وقيل له : إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر ، فقال : إنما بايعتم مكرهين ، وليس على مكره يمين ، فأسرع الناس إلى محمد ، ولزم مالك بيته.

(١) الكامل (٥ / ٥٥٣ ـ ٥٥٦).

(٢) الكامل لابن الأثير (٥ / ٥٦٥ ـ ٥٧١).

(٣) ينظر ترجمة المهدي في : شذرات الذهب (١ / ٢٦٦ ـ ٢٦٩) ، تاريخ الخلفاء (٢٧١) ، الوافي بالوفيات (٣ / ٣٠٠ ـ ٣٠٢) ، العبر للذهبي (١ / ٢٣٠ ـ ٢٣١) ، الوزراء والكتاب (١٤١ ـ ١٦١) ، سير ـ

الخلافة عشر سنوات (١٥٨ ـ ١٦٩ ه‍) ، وامتازت ولايته بالاعتدال والرفق بالرعية ، بعد أن أرهقها المنصور إبان خلافته من أمرها عسرا ، «فرد الأموال التي صادرها أبوه إلى أهلها ، وأطلق العلويين الذين حبسهم أبوه ، وعفا عنهم وأجرى عليهم الأرزاق» (١).

ومن الثورات والفتن التي وقعت في عهد المهدي :

خرج عبد السلام بن هاشم من الخوارج في الجزيرة ، واشتدت شوكته وكثرت شيعته وأنصاره فعاث في الأرض فسادا ، فأرسل إليه المهدي عدة قواد هزم بعضهم ، لكنه في النهاية هزم وفر إلى قنسرين حتى قتل بها.

كما خرج عبد الله بن مروان الأموي ببلاد الشام ، فأرسل إليه المهدي من هزمه وأسره ، فحبسه المهدي ثم عفا عنه وأجزل له العطاء (٢).

بيد أن أكثر هذه الثورات أهمية وأعظمها خطرا على سياسة الدولة واستقرار المجتمع ، تلك التي حمل لواءها الزنادقة ، فقد أذاعوا في المجتمع مبادئ فاسدة تخالف أصول الإسلام أشد المخالفة ، وهي مبادئ تقوم على نوع من الديمقراطية الفاسدة التي تبيح المحرمات وتعبث بالآداب الاجتماعية والزوجية المرعية ، وتعرض الحياة السياسية والدينية للخطر.

والحق أن المهدي قد اشتد على الزنادقة ونكل بهم وحمى المجتمع من فسادهم وانحلالهم ، وقد حذا ابنه الهادي من بعده نفس السياسة التي لزمها أبوه تجاه الزنادقة ، فتعقبهم وقتل من ظفر به منهم.

هارون الرشيد : (١٧٠ ـ ١٩٣ ه‍) (٣) :

إن عصر هارون الرشيد يعد ـ بحق ـ العصر الذهبي للخلافة العباسية ؛ إذ بلغت أوج

__________________

ـ أعلام النبلاء (٧ / ٤٠٠) ، تاريخ بغداد (٥ / ٣٩١) ، الطبري (٨ / ١١٠) ، المعارف (٣٧٩) ، الكامل لابن الأثير (٦ / ٣٢ ـ ٣٤) ، (٨١ ـ ٨٧) ، البداية والنهاية (١ / ١٢٩ ـ ١٣١) ، مروج الذهب (٣ / ٣١٩) ، المحبر (٣٥ ـ ٧٠) ، أنساب الأشراف (٣ / ٨٠) ، تاريخ خليفة (٤٢٣) ، نسب قريش (٥٤) وما بعدها ، مرآة الجنان (١ / ٣٥٦ ـ ٣٥٨) ، تاريخ الزمان (١١ ، ١٢» ، تاريخ الخلفاء (٢٧١ ـ ٢٧٩) ، العبر للذهبي (١ / ٢٣٠) ، المختصر في أخبار البشر (٢ / ١٠) ، أخبار الدول (١٤٨).

(١) حسن إبراهيم حسن (٢ / ٤٢).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري (٩ / ٣٤١) ، (١٠ / ٩).

(٣) ينظر : هارون الرشيد في : شذرات الذهب (١ / ٣٣٤) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٢١٧) ، أخبار الدول للقرماني (١٤٩) ، تاريخ الخلفاء (٢٨٣) ، النجوم الزاهرة (٢ / ١٤٢) ، سير أعلام النبلاء (٩ / ٢٨٦) ، دول الإسلام (١ / ١١٣) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ١٠٦) وفيات الأعيان (١ / ٣٣١ ـ ٣٣٩) ـ

عظمتها وذروة قوتها في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة جميعا.

لقد كانت الدولة الإسلامية في تلك الفترة الدولة الكبرى والأولى والأقوى في العالم كله ، وقد ازداد اختلاط عناصر السكان فيها بعضهم ببعض ، وظهرت في الحياة العامة أخصب النزعات الاجتماعية والفكرية والدينية على صعيد واحد .. وزادت في الوقت نفسه أعداد المسلمين في الدولة مقابل الأديان الأخرى ، وغدا المسلمون بصورة عامة أكثر من نصف السكان (١).

وبلغ اقتصاد الدولة ذروة قوته وازدهاره ، حتى بلغت الأموال في خزائن الرشيد ما يقرب من ٧٢ مليون دينار ، عدا الضريبة العينية التي كانت تؤخذ مما تنتجه الأرض من الحبوب ، وحق للرشيد أن يخاطب السحابة قائلا :

اذهبي حيث شئت يأتينى خراجك (٢).

ومع ذلك ، فإن عهد هارون الرشيد لم يخل من الفتن والأزمات :

فقد خرج في زمنه يحيى بن عبد الله بن الحسن العلوي ب «الديلم» يدعو لنفسه ، فقويت شوكته ، والتف حوله الشيعة ، فبعث إليه الرشيد ، ففت في عضده ، فطلب الصلح من الرشيد ، فصالحه ، ثم أمنه ، ثم حبسه حتى مات (٣).

وخرج الوليد بن مطرف الشاري وحقق انتصارات على جيوش الرشيد ، وأفسد في الأرض ، فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فهزم الوليد وقتله (٤).

وفي عهد الرشيد لم تكف حركات البربر في إفريقية ؛ رغبة في الخروج عن الحكم العباسي ، ولكن الرشيد بعث إليهم هرثمة بن أعين فقضى على هذه الحركات ، وعمل الرشيد على قيام دولة الأغالبة لصد هجمات البربر والوقوف في وجه دولة الأدارسة ، لكن

__________________

ـ خلاصة الذهب المسبوك (٧٧ ، ٩٩) ، سراج الملوك (٥١) ، تاريخ بغداد (١٤ / ٥ ـ ١٣) رقم (٧٣٤٧) ، الفتوح لابن أعثم (٨ / ٢٤٣ ـ ٢٨٦) ، عيون الأخبار (١ / ١٧) ، البدء والتاريخ (٦ / ١٠١ ـ ١٠٧) ، نثر الدر (٢٩ ـ ٣٧) ، تاريخ خليفة (٤٣٧) ، أنساب الأشراف (٣ / ٩٤) ، تاريخ الطبري (٨ / ٢٣٠) ، المعارف (٣٨١) ، الأخبار الطوال (٣٨٦) تاريخ اليعقوبي (٢ / ٣٨٧) ، المعرفة والتاريخ (١ / ١٦١).

(١) أزمنة التاريخ الإسلامي ، د / عبد السلام الترمايني (١ / ٤٣١ ، ٤٣٢).

(٢) حسن إبراهيم (٢ / ٦٢).

(٣) ينظر : تاريخ الطبري (١ / ٥٤ ـ ٥٥) ، والنجوم الزاهرة (١ / ٨٠).

(٤) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٤٥).

ما لبثت هذه الدولة أن استقلت عن الدولة العباسية (١).

وفي مصر ثار أهل الحوف مرتين : الأولى سنة ١٧٨ ه‍ ، فأرسل الرشيد هرثمة بن أعين فأخمدهم. والثانية سنة ١٨٩ ه‍ بقيادة أبي النداء الذي خرج في مائة ألف رجل ، وكان في أيلة ، وأفسد مفسدة عظيمة ، فأرسل إليه الرشيد جيشا ، وأرسل والي مصر جيشا آخر ، فانهزم أبو النداء ، فأعلن أهل الحوف الإذعان والطاعة لما رأوه من انهزام قائدهم (٢).

ولما ولي الأمين الخلافة وقع الخلاف بينه وبين أخيه المأمون ، ووقع بينهما القتال ، خاصة عند ما خلع الأمين أخاه المأمون وعهد بالأمر لابنه موسى ، فدار القتال ، وحاصر طاهر بن الحسين قائد جيش المأمون بغداد أربعة عشر شهرا وقطع عنها الأقوات ، حتى وقع الناس في عنت شديد ، وانتصر طاهر ، وقتل الأمين ، وتمت البيعة للمأمون سنة مائة وثمانية وتسعين (٣).

وقيل : إن الأمين كان غير مهتم بشئون دولته ؛ حيث كان يحب اللهو والمجون ، ومن ثم كثرت الفتن في عهده ، وازدادت الثورات ، فاشتعلت نار الفتنة في الشام ، فقام علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية ، يدعو لنفسه ، فعظم أمره ، واشتد خطره حتى احتل دمشق ، وكاد يستقر له الأمر لو لا النزاع الذي وقع بين اليمنيين والمضريين من أتباعه ، وبعث الأمين جيشا يعيد الاستقرار إلى بلاد الشام ، لكنه لم يفعل شيئا ، ومن ثم بقيت بلاد الشام في اضطراب وقلاقل قيل : سنتين ، أو أكثر (٤).

وفي ولاية المأمون : كان خروج بعض العلويين ، فخرج عليه أبو السرايا سنة ١٩٩ ه‍ بالكوفة ، وأوقع بجيوش الحسن بن سهل ، ولم يستطع المأمون إخماد حركته إلا بعد عناء شديد ؛ فقد هزمه هرثمة بن أعين (٥).

وأراد المأمون استمالة العلويين فعين ولي عهده منهم ، فولى علي بن موسى الكاظم وخلع أخاه القاسم من ولاية العهد ، فاستثار بذلك حفيظة العباسيين وثاروا عليه في عدة مناطق (٦).

__________________

(١) ينظر : تاريخ الطبري (٢ / ٤٦).

(٢) ينظر : السابق (١٠ / ٦٢) ، والنجوم الزاهرة (٢ / ١٢٥).

(٣) ينظر : مروج الذهب (٣ / ٣٠٤).

(٤) ينظر : تاريخ الطبري (١٠ / ١٥٥).

(٥) ينظر : النجوم الزاهرة (٢ / ١٦٤) ، وتاريخ الطبري (١٠ / ٢٧٧).

(٦) ينظر : مروج الذهب (٣ / ٣٤٩) ، وتاريخ الطبري (١ / ٢٤٣).

كما شق عصا الطاعة نصر بن شبث الذي كان يتعصب للأمين ؛ فبعث له المأمون من يقاتله ، واستمرت المناوشات بينهم خمس سنين ، طلب بعدها نصر الأمان.

كما ثار المصريون ، فبعث لهم عبد الله بن طاهر ؛ لإخماد الثورة ، فاستولى على الفسطاط ، وأقر الأمن ، وأصلح البلاد (١).

ومن أخطر الأحداث التي ظهرت في عهد المأمون فتنة القول بخلق القرآن ، فقد أمر بامتحان القضاة والمحدثين في الولايات ، وابتلي الإمام أحمد بن حنبل فيها ابتلاء شديدا.

ولما تولى المعتصم وقعت في عهده أحداث كثيرة ، ففي عهده أغار الزط على الدولة العباسية ، واستولوا على طريق البصرة ، فحالوا دون وصول المئونة والأقوات إلى بغداد ، فقاتلهم وأرغمهم على طلب الأمان (٢) ، وكثر في عهده الترك وازداد نفوذهم (٣).

وقد أغار الروم على بلاد الإسلام ، فاستغاث الناس بالمعتصم ، وكان ذلك في سنة ٢٢٣ ه‍ ؛ فسير إليهم المعتصم جيشا ، وخرج على رأسه ، فحارب الروم وهزمهم ، وفتح حصونا كثيرة ، وفتح عمورية (٤).

وفي هذا يقول الشاعر العباسي أبو تمام :

يا يوم وقعة عمورية انصرفت

منك المنى حفلا معسولة الحلب

أبقيت جدّ بني الإسلام في صعد

والمشركين ودار الشرك في صبب (٥)

وقبل وفاة المعتصم : خرج المبرقع اليماني الذي أشعل نار الفتنة ب «فلسطين» ، فأرسل إليه المعتصم رجاء بن أيوب ، فلم يقدر على المبرقع الذي تجمع حوله الفلاحون ، فانتظر حتى ذهب عنه الفلاحون إلى زراعتهم ، وبقى المبرقع في نفر قليل ، فأغار عليه رجاء وأنزل به الهزيمة هو ومن معه (٦).

وتوفي المعتصم وتولى الواثق بالله سنة ٢٢٧ ه‍ ، وسار الواثق على سيرة أبيه المعتصم ، فاعتمد على الأتراك الذين شغلوا أعلى المناصب في كل ولايات الدولة (٧).

__________________

(١) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٦٠) ، والنجوم الزاهرة (٢ / ٢١٥ ـ ٢١٧).

(٢) ينظر : تاريخ الطبري (١٠ / ٣٠٦).

(٣) ينظر : مروج الذهب (٤ / ٩).

(٤) ينظر : مروج الذهب (٤ / ١٥).

(٥) ينظر : ديوان أبي تمام بشرح الخطيب (١ / ٤٨).

(٦) ينظر : تاريخ الطبري (١١ / ٥).

(٧) ينظر : النجوم الزاهرة (٢ / ٢٥٩).

ولم يمكث الواثق في الخلافة كثيرا فقد توفي سنة ٢٣٢ ه‍ ، وتولى بعده المتوكل.

الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل حتى سيطرة البويهيين عليها ، أهم الأحداث السياسية :

غدا مقررا بين المؤرخين أن عهد الخليفة المتوكل العباسي يعتبر بدء عصر انحلال الخلافة العباسية الذي انتهى بسقوطها تحت أقدام التتار سنة ٦٥٦ ه‍ (١).

ويسير على الباحث الوقوف على علة هذا الضعف المطبق الذي اتسم به تاريخ الخلافة العباسية مذ وليها المتوكل الذي كانت ولايته حدّا يفرق بين عهدين من زمانها ، كان الأول منهما عهد ازدهار واستقرار وقوة بينما كان الثاني على النقيض من ذلك.

وهذه العلة إنما هي اعتماد العباسيين على الفرس ثم على الأتراك وإيثارهم إياهم بالمناصب المدنية والعسكرية على العرب الذين كانوا مادة الإسلام وقوام الدولة الإسلامية فضعفت عصبتهم وانحطت منزلتهم وانصرفت قلوبهم عن تأييد الدولة (٢).

وكان اعتماد العباسيين على العنصر التركي منذ عهد المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ ه‍) إرهاصا ببدء عصر جديد في تاريخ الدولة العباسية عرف بعصر نفوذ الأتراك يبدأ بولاية المتوكل وينتهي بدخول البويهيين بغداد (٢٣٢ ـ ٣٣٤ ه‍).

وقد استبد الأتراك بمقاليد الأمور وتغلغل نفوذهم في الدولة بحيث أصبح الخليفة العباسي «مسلوب السلطة مهيض الجانب ضعيف الإرادة» (٣).

ولم يتورع الأتراك عن قتل الخلفاء العباسيين الذين وقفوا ضد أطماعهم واستبدادهم فدبروا مؤامرة لاغتيال الخليفة المتوكل «٢٤٧ ه‍» اشترك فيها ابنه المنتصر الذي طوعت له نفسه قتل أبيه ، فذاق وبال أمره ، فلم يمكث في الخلافة ستة أشهر إلا وقد أغرى الأتراك طبيبه ابن طيفور بقتله وأعطوه ثلاثين ألف دينار ، ففصده بريشة مسمومة سنة ٢٤٨ ه‍ (٤).

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ١).

(٢) السابق.

(٣) السابق (٣ / ٦).

(٤) ينظر : شذرات الذهب (٢ / ١١٨) ، والكامل لابن الأثير (٧ / ٥٤ ـ ٥٧) ، وفيات الأعيان (١ / ٣٥٠) ، النجوم الزاهرة (٢ / ٣٢٧) ، تاريخ الخلفاء (٣٥٦ ـ ٣٥٨) ، تاريخ الخميس (٢ / ٢٧٨) ، سير أعلام النبلاء (١٢ / ٤٢ ـ ٤٦) ، العبر للذهبي (١ / ٤٥٢) ، فوات الوفيات (٣ / ٣١٧) ، البداية والنهاية (١٠ / ٣٥٢) ، تاريخ ابن الوردي (١ / ٢٢٩) ، العقد الفريد (٤ / ١٦٥) ، الوافي بالوفيات (٢ / ٢٨٩) ، البدء والتاريخ (٦ / ١٢٣) ، المعارف (٣٩٣) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ٤٨٧) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٢١٠) ، تاريخ الطبري (٩ / ١٦٢) ، تاريخ بغداد (٢ / ١١٩).

ومنذ ذلك التاريخ غدت تولية الخلفاء وعزلهم منوطة بإرادة الأتراك ، فقد كانوا يعملون على تولية الخلافة من يطمئنون إليه من أمراء البيت العباسي ، وما أدق عبارة الفخري صاحب الآداب السلطانية في بيان هذه الحالة التي آل إليها أمر خلفاء بني العباس حيث قال : «كان الأتراك منذ قتل المتوكل قد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه وإن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه» (١).

ونتج عن ضعف الخلافة العباسية استقلال أكثر الولايات الإسلامية في مشرق الدولة ومغربها ، فانفرد الطولونيون بحكم مصر (٢٥٤ ـ ٢٩٢ ه‍) ثم الإخشيديون (٣٢٣ ـ ٣٥٨ ه‍) وأخيرا الفاطميون (٣٥٨ ـ ٥٦٧ ه‍).

أما في المشرق فقد قامت الدولة الطاهرية (٢٠٥ ـ ٢٥٩ ه‍) في خراسان ، ومنهم انتقلت السلطة إلى أسرة جديدة هي الدولة الصفارية (٢٥٤ ـ ٢٩٠ ه‍) التي قامت على يد يعقوب ابن الليث الصفار ، والدولة السامانية (٢٦٦ ـ ٣٨٩ ه‍) التي تفرعت عنها الدولة الغزنوية (٣٥١ ـ ٥٨٢ ه‍) (٢).

البويهيون :

وإزاء استبداد الأتراك بشئون الدولة تطلع الخلفاء العباسيون إلى قوة جديدة تقيل الخلافة من عثرتها وتستأصل شأفة الأتراك ، فوجدوا في دولة بني بويه الفتية ضالتهم ، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

برز البويهيون إلى رحاب التاريخ الإسلامي في مطلع القرن الرابع الهجري وسرعان ما ترقوا في معارج القوة والنفوذ ، فدانت لعلي بن بويه بلاد فارس بالطاعة (٣٢٣ ه‍) وانتزع من الخليفة الراضي العباسي اعترافا بسلطانه.

وتوجوا انتصاراتهم بدخول بغداد حاضرة الخلافة العباسية عام ٣٣٤ ه‍ في عهد أحمد ابن بويه (٣٣٤ ـ ٣٥٦ ه‍) فقابله الخليفة المستكفي واحتفى به وخلع عليه ولقبه معز الدولة ، ولقب أخاه عليّا عماد الدولة ، ولقب أخاه الحسن ركن الدولة ، وضرب ألقابهم على السكة ، ولقب المستكفي إمام الحق وضرب ذلك على السكة (٣) ، على أن البويهيين استأثروا بالسلطة دون الخلفاء كما صنع أسلافهم من الترك.

__________________

(١) ينظر : الكامل (٧ / ٥٧) وما بعدها ، تاريخ الخلفاء (٣٥٨) ، وتاريخ الطبري (٩ / ١٦٣).

(٢) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ٦٤).

(٣) السيوطي ، تاريخ الخلفاء ص ٤٦٠.

فعمل معز الدولة على توطيد مركزه وتقوية نفوذه في بلاد العراق التي أذعنت لحكمه إذعانا كاملا ، ولم يلبث أن استبد بالسلطان دون الخليفة وعمل على إضعاف الخلافة العباسية وفكر في القضاء عليها وإقامة خلافة شيعية على أنقاضها ، «ولكنه عدل عن هذه السياسة لما قد يتعرض له سلطانه من خطر بسبب وجود خلافة علوية يطيعها الجند ، ويعترف بها الديلم ، ويكونون أداة في يد الخليفة يستغلها لمصلحته متى شاء» (١).

وبلغ من إهانة معز الدولة البويهي للخلافة العباسية وانتقاصه من قدر خلفائها أن قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وحبسه إلى أن مات ، وأجلس المطيع (٣٣٤ ـ ٣٦٣ ه‍) على كرسي الخلافة وحدد له راتبا مائة دينار في اليوم ، ثم قطع ذلك الراتب وحدد له إقطاعات يسيرة يعيش منها كما عين له كاتبا يتصرف في شئونها (٢).

ثورة البساسيري : ذروة الضعف العباسي ، ودخول السلاجقة بغداد :

بلغ ضعف الخلافة العباسية غايته وعجزها منتهاه في عهد الخليفة القائم بأمر الله العباسي الذي تحقق من خيانة البساسيري ذي الميول الشيعية ، وتأكد من مكاتبته الخلافة الفاطمية في مصر.

فطلب إلى الملك الرحيم البويهي إبعاده عن العراق ، فسار البساسيري إلى الرحبة بلد نور الدولة لمصاهرة بينهما (٣) ، وعندئذ أدرك القائم بأمر الله أن نجم البويهيين قد أفل وأنهم أمسوا عاجزين عن حماية الخلافة العباسية ودرء خطر البساسيري عنها ، وأنه لا مناص من الاستعانة بالسلاجقة الذين طوى ملكهم بلاد الفرس والجزيرة وأصبحوا قاب قوسين أو أدنى من بغداد.

وكان أن أرسل طغرلبك إلى الخليفة العباسي القائم رسولا يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية ، فانتهز الخليفة ذلك وأمر بقطع الخطبة للملك الرحيم ، والخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد في رمضان سنة ٤٤٧ ه‍ «ثم أرسل طغرلبك يستأذن الخليفة العباسي في دخول بغداد ، فأذن له فوصل إلى النهروان ، وخرج الوزير إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة والنقباء والأشراف والشهود والخدم وأعيان الدولة ، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم» (٤).

__________________

(١) حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٣ / ٤٤).

(٢) السيوطي ، تاريخ الخلفاء ص (٤٦١).

(٣) الكامل في التاريخ ، بيروت ، دار صادر ١٩٧٩ (٩ / ٦٠٨ ، ٦٠٩).

(٤) السابق (٩ / ٦١٠).

واستغل البساسيري خروج طغرلبك من العراق وانشغاله بحصار الموصل ونصيبين فكاتب إبراهيم ينال أخا طغرلبك وأخذ يعده ويمنيه ويطمعه في ملك أخيه (١) حتى أصغى إليه وخالف أخاه ، فترك الموصل إلى الري ، فتقدم البساسيري إلى الموصل وحاصرها وتمكن من إخضاعها سنة ٤٥٠ ه‍ وتهيأ لدخول بغداد (٢) ، أما طغرلبك فقد انصرف إلى القضاء على عصيان أخيه إبراهيم ينال وتمكن من الظفر به وقتله بالقرب من الري سنة ٤٥٠ ه‍.

وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك فعفا عنه ، وإنما قتله في هذه المرة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه فلهذا لم يعف عنه (٣).

قدم البساسيري بغداد سنة ٤٥٠ ه‍ بالرايات المصرية ، وعليها ألقاب المستنصر صاحب مصر ، وجرى القتال بينه وبين الخليفة القائم الذي انضم إليه نفر من أهل السنة وقاتلوا معه ، بيد أن الخليفة لم يقو على صد البساسيري عن دار الخلافة فاستولى عليها بعد قتال دام شهرا ، وأقيمت الخطبة للمستنصر الفاطمي وزيد في الآذان : حي على خير العمل (٤).

ثم قبض البساسيري على الخليفة وحمله إلى مدينة عانة حيث حبسه بها (٥).

ولما فرغ السلطان طغرلبك من أمر أخيه إبراهيم ينال ، عمل على إعادة الخليفة إلى بغداد ، فكتب إلى قريش بن بدران يأمره أن يعيد الخليفة إلى داره ويتوعده إن لم يفعل ذلك ، فكتب قريش إلى مهارش بن مجلي يخبره بذلك ، فتولى مهارش أمر إعادة الخليفة إلى بغداد (٦).

ثم جهز طغرلبك جيشا لقتال البساسيري الذي لحق بواسط يتهيأ لقتال السلاجقة ليمنعه من الدخول إلى بلاد الشام ، فظفر به جيش طغرلبك فقتل وحملت رأسه إلى بغداد (٧).

وهكذا كانت فتنة البساسيري ـ كما ذكر ابن الأثير ـ أهم الأسباب التي حملت الخلافة العباسية على الاستعانة بالسلاجقة لتخليصهم من استبداد البويهيين ذوي الميول الشيعية والتي مثل البساسيري شكلا من أشكالها.

__________________

(١) ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة ، القاهرة (٥ / ٥) ، والسيوطي تاريخ الخلفاء ص (٤٨١).

(٢) ابن الأثير ، الكامل (٩ / ٦٣٩).

(٣) السابق (٩ / ٦٤٥).

(٤) ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة (٥ / ٦).

(٥) السابق (٥ / ٧).

(٦) ابن الأثير ، الكامل (٩ / ٦٤٦ ـ ٦٤٨).

(٧) السابق (٩ / ٦٤٩).

الفصل الثالث

ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي

تميز تاريخ الدولة العباسية بظاهرة فريدة لم يشهدها تاريخ الخلافتين الراشدة والأموية ، وهي ظاهرة الدول المستقلة في المشرق والمغرب جميعا.

وإذا كان ظهور النزعات الاستقلالية في العالم الإسلامي يرجع إلى أواخر العصر الأموي ، فإن هذه الظاهرة قد اتسعت على نحو كبير منذ مطلع الدولة العباسية ، فقامت الدولة الأموية بالأندلس (١٣٨ ـ ٣٩٧ ه‍) على يد عبد الرحمن الداخل ، وأسس إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى (١٧٢ ـ ٣١١ ه‍) ، وقامت دولة الأغالبة في تونس (١٨٤ ـ ٢٦٩ ه‍) على يد إبراهيم بن الأغلب ، وفي مصر ظهر الطولونيون (٢٥٤ ـ ٢٩٢ ه‍) ثم الإخشيديون (٣٢٣ ـ ٣٥٨ ه‍) ثم الخلافة الفاطمية (٣٥٨ ـ ٥٦٧ ه‍).

أما في الشرق فثمة دول استطاعت الاستقلال عن الدولة العباسية ، فقد قامت الدولة الطاهرية في خراسان ـ نسبة إلى طاهر بن الحسين (٢٠٥ ـ ٢٥٩ ه‍) ـ وعلى أنقاضها نشأت الدولة الصفارية (٢٥٤ ـ ٢٩٠ ه‍) على يد يعقوب بن الليث الصفار ، كما ظهرت الدولة السامانية (٢٦٦ ـ ٣٨٩ ه‍) (١).

ونستطيع أن نرد أسباب هذ الظاهرة ـ وهي نشأة الدول المستقلة ـ إلى تضخم نفوذ الأتراك في الدولة العباسية ، واستبدادهم بتصريف الشئون السياسية دون الخلفاء ، فأحدث الأتراك كثيرا من القلاقل والاضطرابات ، وغدت الدولة العباسية مسرحا للفوضى والاضطرابات السياسية ، الأمر الذي ترتب عليه ضعف السلطة المركزية في بغداد وما ارتبط به من استقلال أكثر الولايات الإسلامية.

وثمة أمر آخر هو أن انحسار نفوذ العرب والفرس وضعف مكانتهم وهوان شأنهم في الدولة العباسية ، دفعهم دفعا إلى الاستقلال ببعض بلدان الدولة العباسية في المشرق الإسلامي ، فكانت الدولتان : الصفارية والسامانية (٢).

وهاتان الدولتان تقع في إطارهما مدينة سمرقند التي ولد فيها الماتريدي ؛ ولذلك

__________________

(١) انظر : حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ٦٤).

(٢) ينظر : مروج الذهب (٤ / ٦٤) ، معجم الأنساب والأسرات الحاكمة (٢ / ٣٠٦).

سنتعرض لكل واحدة منهما بشيء من التفصيل.

أولا : الدولة الصفارية (٢٥٤ ـ ٢٩٠ ه‍):

قامت الدولة الصفارية على أنقاض الدولة الطاهرية ويرجع تأسيسها إلى يعقوب بن الليث الصفار (٢٥٤ ـ ٢٦٥ ه‍) ، الذي اتخذ من سجستان مركزا لانطلاقها. وتقع سجستان في أقصى الشرق من إيران وتسمى أيضا «نيمروز» وهي كلمة فارسية تعني «نصف يوم» أي أنها بخيراتها وثرواتها تساوي نصف ما تطلع عليه الشمس ، وهذا على سبيل المبالغة لا الحقيقة (١).

وقد انضم يعقوب إلى أحد قادة المطوعة ويدعى صالح بن النضر في ثورته على والي سجستان إبراهيم القوسي ؛ لظلمه واستبداده ، فتمكنوا من خلعه والاستيلاء على سجستان سنة ٢٣٧ ه‍ (٢).

والمطوعة جماعات عسكرية تعمل على حماية سجستان وفارس وكرمان من الفوضى التي تعرضت لها إثر ثورات الخوارج.

لم يكن صالح بن النضر أحسن حالا من الوالي السابق من قبل الطاهريين ، فبغى على الرعية ولم يسر فيهم سيرة العدل التي كانوا يرجونها منه ، فشكوه إلى يعقوب وأغروه بأن يتولى عليهم بدلا منه ، فاستجاب لهم واستطاع أن يتخلص من صالح بن النضر ، وأخذ يعمل على توطيد ملكه وتدعيم مركزه بالقضاء على المتمردين والمنشقين عليه ، فحارب الخوارج الذين رفضوا الدخول في طاعته وقتل كثيرا منهم حتى كاد أن يفنيهم ، وأذاع أنه يحارب الخوارج عن أمر الخليفة العباسي (٣).

ولم يكتف يعقوب بحكم سجستان بل مد نفوذه إلى بوشنج وهراة وما والاها ، واحتل نيسابور التي كان يحكمها الطاهريون ، وضم إليه بلاد فارس وخراسان ، وكرمان ، والسند ، وطبرستان ، والري ، وقزوين وأذربيجان وجنديسابور ، والأهواز ، حتى لقد هدد بغداد نفسها سنة ٢٥٧ ه‍ ، فأسس بذلك ملكا عريضا في شرق الدولة الإسلامية (٤).

__________________

(١) ينظر : ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، القاهرة ١٩٠٦ (١ / ٣٦٨).

(٢) ينظر : وفيات الأعيان ، ابن خلكان (٨ / ٥٠٨).

(٣) ينظر : ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، دار الكتاب العربي ، بيروت (٧ / ١٨٥) ، وينظر أيضا : اليعقوبي ، تاريخ اليعقوبي ، النجف ١٣٥٨ ه‍ ص (٢١٩).

(٤) ينظر : عصام عبد الرءوف الفقي ، الدولة الإسلامية المستقلة في الشرق ، دار الفكر العربي ١٩٨٧ م ، ص (٨ ـ ٩).

والحق أن الملكات السياسية والمواهب الشخصية التي اتسم بها يعقوب بن الليث هي التي أتاحت له ما حقق من نجاح كبير في تأسيس دولته الجديدة ، فقد امتاز باليقظة وحسن التدبير ، والتفكير العميق في عواقب الأمور ونتائجها ، والقدرة على اختيار رجاله وإعداد جيوشه الإعداد السليم ؛ فلا عجب أن قال عنه المسعودي : «كانت سياسة يعقوب لمن معه من الجيوش سياسة لم يسمع بمثلها ممن سلف من الملوك من الأمم الغابرة من الفرس وغيرهم ممن سلف وخلف ، وحسن انقيادهم لأمره ، واستقامتهم على طاعته ؛ لما قد شملهم من إحسانه ، وغمرهم من بره ، وملأ قلوبهم من هيبته» (١).

لا ريب أن الخلافة العباسية أوجست خيفة من يعقوب بن الليث الصفار ، ورأت في اتساع ملكه تهديدا خطيرا لنفوذها ، وكسرا للقاعدة التي جرت عليها في تولية حكام الأطراف بناء على تفويض منها ، فاعتبرت يعقوب متمردا ، وجمع الخليفة الحجاج القادمين من المشرق من خراسان والري وطبرستان وجرجان سنة ٢٦١ ه‍ وأعلمهم أنه لم يفوض يعقوب ، وأن دخوله خراسان وقضاءه على الطاهريين لم يكن بأمره ، ورد يعقوب على ذلك بمزيد من التحدي وقصد إقليم فارس فاستولى عليه سنة ٢٦١ ه‍ (٢).

وبدأ يعقوب يفكر في الاستيلاء على بغداد فتحرك صوبها سنة ٢٦٢ ه‍ ، مستغلّا انشغال الخلافة العباسية بالقضاء على ثورة الزنج ، فرأت الخلافة استمالته وإرضاءه ريثما تفرغ من أمر الزنج ، فأبى يعقوب مهادنة العباسيين وقال : إنه لا يرضيه إلا أن يسير إلى باب المعتمد (٣).

والتقت جيوش العباسيين بجيش يعقوب في قرية «اصطربند» على مقربة من واسط في رجب سنة ٢٦٢ ه‍ ، وكان الخليفة العباسي المعتمد يقود الجيش بنفسه ، ومعه أخوه طلحة في القلب.

وانجلى غبار المعركة عن هزيمة منكرة للصفار وجنده ، وغنم جند الخليفة معسكره وتراجع يعقوب في فلوله ، وتوفي بعد ذلك بقليل في سنة ٢٦٥ ه‍ (٤).

خلف يعقوب بن الليث أخوه عمرو بن الليث ، فبادر إلى استرضاء العباسيين

__________________

(١) ينظر : مروج الذهب (٢ / ٤٧٥).

(٢) ينظر : محمد عبد الحميد الرفاعي ، الخلافة العباسية والحركات الاستقلالية بالمشرق ، دار الثقافة العربية ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، ص (١٤٥).

(٣) ينظر : ابن الأثير (٧ / ٢٩٠).

(٤) ينظر : المنتظم ، ابن الجوزي ، حيدرآباد الدكن ١٣٥٨ ه‍ ، (٥ / ٣٣).

ومهادنتهم ، فوثق به الخلفاء العباسيون حتى عهدوا إليه بولاية شرطة بغداد بالإضافة إلى حكم ولايات خراسان وفارس وأصبهان وسجستان والسند وكرمان ، فقوي نفوذه واستقر ملكه (١).

وقد اتبع عمرو بن الليث نظاما دقيقا في مراقبة عماله وقواده ، ورتب موارد دولته وعمل على تنميتها وزيادتها (٢).

ولم يقنع عمرو بما استقام له من ملك ونفوذ على كثير من الولايات والممالك ، فطمع في بلاد ما وراء النهر التي كانت تحت حكم الدولة السامانية.

والحق أن الخلافة العباسية هي التي أغرت عمرو بحرب السامانيين ؛ إذ أرسلت إليه تفويضا بحكم بلاد ما وراء النهر ، وفي الوقت نفسه كتبت إلى الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني سرّا تدعوه إلى حرب الصفار وتعده بتوليته على ما تحت يديه من بلاد (٣).

ويقول ابن الفقيه موضحا هذه الخطة : «كتب المعتضد إلى الصفار يأمره أن يطلب إسماعيل بن أحمد ، وأنه قد ولاه عمله ، وكتب إلى إسماعيل بمثل ذلك» (٤).

وكان أن رفض الأمير إسماعيل الساماني تسليم بلاد ما وراء النهر ، وكتب إلى عمرو بن الليث قائلا : «إنك قد وليت دنيا عريضة ، وأنا في يدي ما وراء النهر ، وأنا في ثغر ، فاقنع بما في يدك ، واتركني مقيما بهذا الثغر» (٥).

وأسفر الصراع بين الجانبين عن هزيمة عمرو بن الليث الصفار ووقوعه في الأسر سنة ٢٨٧ ه‍ ، وعامله الأمير الساماني معاملة كريمة ، وخيره بين البقاء عنده أو إرساله إلى الخليفة فاختار السير إلى المعتضد ، ولكن الخليفة أمر أن يشهر به ويلقى في السجن ثم قتله سنة ٢٨٩ ه‍ (٦).

وقد تولى إمارة الدولة الصفارية ـ بعد عمرو بن الليث ـ طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث وكان صغيرا لاهيا عابثا ، فغلب عليه السبكري ـ غلام عمرو بن الليث ـ فاستبد

__________________

(١) ينظر : الطبري ، تاريخ الأمم والملوك (٩ / ٥٤٥).

(٢) ينظر : عصام عبد الرءوف ، الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١٠.

(٣) ينظر : محمد عبد الحميد الرفاعي ، الخلافة العباسية والحركات الاستقلالية بالمشرق ص ١٤٨ ، ١٤٩.

(٤) ينظر : ابن الفقيه ، مختصر كتاب البلدان ، ليدن ١٩٦٧ ، ص ٣١٢.

(٥) ينظر : الطبري ، تاريخ الأمم والملوك (١٠ / ٧٦).

(٦) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ، الخلافة العباسية والحركات الاستقلالية بالمشرق ص ١٤٩.

بالسلطة دونه ، ولم يكن لهذا الأمير الصغير حول ولا طول ، بل إن السبكري قبض عليه وعلى أخيه يعقوب ، وأرسل بهما إلى بغداد سنة ٢٩٦ ه‍ ، وبذلك خلا له حكم الدولة الصفارية (١).

ولم تكد الأمور تستقيم للسبكري حتى سار إليه الليث بن علي بن الليث وهزمه وطرده من فارس ، وذلك سنة ٢٩٧ ه‍ ، فاستنجد السبكري بالخليفة فسير جيشا إلى الليث أوقع به الهزيمة ، وعاد السبكري إلى ولاية الدولة الصفارية ، لكنه تمرد على الخلافة العباسية ، ورفض أداء الأموال إليها ، فعملت على التخلص منه ، فانتزعت منه فارس سنة ٢٩٨ ه‍ ، فلجأ إلى سجستان ، فسار إليه الأمير أحمد بن إسماعيل الساماني ، فاستولى على سجستان وقبض على السبكري وعلى محمد بن علي بن الليث الصفار وبعث بهما إلى بغداد سنة ٢٩٨ ه‍ ، وبذلك قضي على الدولة الصفارية قضاء لا قيام لها بعده (٢).

ويسعنا ـ بعد هذا العرض الموجز ـ أن نرجع سقوط الدولة الصفارية إلى سببين اثنين :

الأول : جهود الدولة العباسية وحرصها على التخلص منها.

الثاني : الهزائم المتكررة التي ألمت بجيوشها ، هذا بالإضافة إلى تمرد قوادها ، وما ترتب على ذلك من ضعف للدولة وانهيارها في النهاية.

الدولة السامانية

قامت الدولة السامانية في «منطقة ما وراء النهر» ، وتشمل جغرافيّا المناطق الواقعة على جانبي نهر جيحون مباشرة وإلى الشمال منه قليلا ، وينتسب سكان هذه الأقاليم إلى الجنس الفارسي ، الآري ـ لغة ودما وثقافة ـ أما المناطق التي تقع إلى أقصى الشمال والشرق ، فهي مناطق خاصة بالترك ، وهم عنصر آخر يعرف بالعنصر الطوراني ، وتسمى بلادهم تركستان (٣).

ويرتبط هذا الإقليم بخراسان وسجستان جغرافيّا وسياسيّا ؛ ولذلك اعتبر المقدسي هذه الأقاليم الثلاثة إقليما واحدا أسماه بالمشرق.

ويشمل إقليم ما وراء النهر عدة كور منها : بخارى وأشروسنة والشاش وفرغانة وكش

__________________

(١) ينظر : الطبري ، تاريخ الأمم والملوك (١٠ / ١٤١).

(٢) ينظر : عصام الدين عبد الرءوف ، الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١١ ، ١٢.

(٣) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ، ص ١٥١.

ونسف والصغانيان والختل وخوارزم والترمذ (١).

أما الدولة السامانية فتنتسب إلى أسرة فارسية عريقة في المجد يرجع أصلها إلى بهران ابن جور (٢).

ودخلت هذه الأسرة في الإسلام في العهد الأموي ، في ولاية خالد القسري الذي كان مهتمّا بأبناء الأسر الفارسية العريقة ، وأدنى إليه سامان وأكرمه ، فأسلم على يديه وولاه بلخ ، فلما رزقه الله بولده سماه أسدا تيمنا باسم هذا الوالي الكريم (٣).

وظهر أبناء سامان الأربعة على مسرح الأحداث السياسية في عهد الخليفة المأمون فولي نوح بن أسد سمرقند في سنة ٢٠٤ ه‍ ، وأحمد بن أسد فرغانة ، ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة ، وإلياس بن أسد هراة ، ولما ولي طاهر بن الحسين بلاد خراسان أقرهم في هذه الأعمال (٤).

واشتهر من أبناء أحمد بن أسد إسماعيل ونصر. فخلف نصر أباه على سمرقند وما يليها من قبل الطاهريين حتى ولاه الخليفة العباسي المعتمد بلاد ما وراء النهر سنة ٢٦١ ه‍. ومن ثم تأسست الدولة السامانية ، وولّى نصر أخاه إسماعيل على بخارى (٥).

ولم يلبث العداء أن أنشب أظفاره بين الأخوين إسماعيل ونصر ، وكان إسماعيل ـ كما مر ـ ينوب عن أخيه في حكم بخارى ، فآنس منه نصر طمعا في المال واستئثارا بالسلطة ، فوقعت حروب بين الأخوين انتهت بانتصار إسماعيل سنة ٢٧٥ ه‍ ، ولكنه أبدى إيثارا وتعظيما كبيرا لأخيه ، فترجل عن جواده ، وقبل ركابه وقال : إني مقر بأني أخطأت والذنب كله ذنبي ، فبكى نصر لوفاء أخيه ورجع إلى سمرقند تاركا إياه نائبا عنه في بخارى (٦).

وآل أمر الدولة السامانية بعد وفاة نصر بن أحمد الساماني إلى أخيه إسماعيل بن أحمد سنة ٢٧٩ ه‍ ، ويمكننا أن نعتبر إسماعيل المؤسس الحقيقي للدولة السامانية ، ففي عهده ظهرت الدولة بمظهر القوة ، وقامت بدور كبير في إزالة الدولة الصفارية.

واستطاع إسماعيل بفضل كفايته السياسية والحربية أن يخضع لسلطانه بلاد ما وراء

__________________

(١) ينظر : المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ليدن ١٩٦٧ ، ص ٢٦٠.

(٢) ينظر : حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٣ / ٧٣).

(٣) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ، ص ١٥٢ ، نقلا عن النرشخي صاحب تاريخ بخاري.

(٤) ينظر : حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٣ / ٧٣).

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : تاريخ بخارى للنرشخي ص ١١١ ، وتاريخ بخارى لأرمينيوس فاميري ص ٩٨.

النهر كلها ، ونجح في أن يضم إلى دولته خراسان وبعض المناطق الإيرانية الأخرى ، واتخذ من بخارى عاصمة لدولته (١).

وقد وصف ابن الأثير إسماعيل بن أحمد الساماني فقال : «إنه كان خيّرا يحب أهل العلم والدين ، ويكرمهم».

وقال في موضع آخر : «إنه كان عاقلا عادلا حسن السيرة في رعيته ، حليما. وحكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه ، فمر به الأمير إسماعيل يوما ، والمؤدب لا يعلم به ، فسمعه وهو يسب ابنه ويقول له : لا بارك الله فيك ولا فيمن ولدك ، فدخل إليه ، فقال له : يا هذا ، نحن لم نذنب ذنبا لتسبنا فهل ترى أن تعفينا من سبك ، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب ، فخرج إسماعيل من عنده وأمر له بصلة جزاء لخوفه منه» (٢).

علاقة السامانيين بالخلافة :

تختلف الدولة السامانية في علاقتها بالخلافة العباسية عن الدولة الصفارية إلى حد كبير ؛ فالصفاريون لم يعترفوا بسلطان الخليفة العباسي عليهم وتمردوا على نفوذه الروحي ، بل سعوا إلى الاستيلاء على بغداد نفسها.

أما الدولة السامانية فنعمت بالاستقلال في ظل الولاء الاسمي للخلافة العباسية ، بعد أن أثبتت تجربة الصفاريين فشل الحركات المناوئة للخلافة المتحدية لسلطانها ، وتأكد أن الخلافة ـ حتى في أحلك ظروفها ـ كانت تتمتع بنفوذ روحي لا يستهان به ، وأنها قادرة على تحريك الأحداث والإسهام فيها بالتدخل المباشر أو بالاستعانة بحلفائها. فوعى السامانيون هذا الدرس ، واعترفوا بالنفوذ الروحي للخلافة ، ورفعوا راية الجهاد في الثغور ، وأبدوا تعاونا مخلصا مع الخلافة في مواجهة أعدائها (٣).

ومن أمارات هذا الولاء الذي أبداه السامانيون للخلافة العباسية :

ـ تمسكهم بالمذهب السني الذي تدين به الدولة العباسية ، ورفضهم إقامة علاقات مع الفاطميين عند ما حاولوا استمالتهم إليهم.

ـ كما أقام السامانيون الخطبة للعباسيين ونقشوا أسماءهم على السكة ، وحرصوا على إكساب حكمهم صفة شرعية بالحصول على تفويض منهم (٤).

__________________

(١) ينظر : عبد الحميد الرفاعي ١٥٣.

(٢) ينظر : حسن إبراهيم حسن تاريخ الإسلام (٣ / ٧٤) نقلا عن ابن الأثير.

(٣) ينظر : الرفاعي ، ص ١٥١.

(٤) ينظر : السابق ، ص ١٥٥.

وفي المقابل بدأت الخلافة العباسية تثق في السامانيين وتطمئن إلى صدق ولائهم ، فاتخذت منهم أنصارا لها في المشرق خلفا للطاهريين ، وقد أشرنا قبل قليل إلى نجاح التحالف «العباسي الساماني» في القضاء على الدولة الصفارية التي هددت العباسيين تهديدا مباشرا.

كما أدى السامانيون دورا آخر لصالح الخلافة العباسية ، وهو التصدي للزيدية في طبرستان ، وتمكنوا من إسقاط دولة الحسن بن زيد سنة ٢٨٧ ه‍ ، ونجحوا في استمالة القائد الديلمي أسفار بن شيرويه فتخلى عن ولائه للزيدية ، وانضم إليهم ، وتكفل بإسقاط الدولة الزيدية الثانية سنة ٣١٦ ه‍ (١).

وكانت بخارى حاضرة الدولة السامانية في عهد الأمير إسماعيل ، فقد شيدت فيها القصور المنيفة ، والمنشآت الكبيرة ، والمدارس الدينية ، ووفد عليها العلماء من كل حدب وصوب ؛ لما وجدوه من التشجيع والحفاوة (٢).

وقد حكم إسماعيل أكثر من ثلاثين سنة ، سار فيها سيرة حسنة في الرعية ، فأرسى قواعد العدل والإحسان ؛ ولذلك كان لا يتهاون مع عماله إذا ظلموا الرعية.

وكانت خراسان تنقسم إلى أربعة أقسام : قسم عاصمته نيسابور ، وقسم عاصمته مرو ، وثالث عاصمته هراة ، والأخير عاصمته بلخ.

وأما بلاد ما وراء النهر فكانت تنقسم خمسة أقسام :

الأول : الصغد ، ولها عاصمتان هما بخارى وسمرقند.

والثاني : خوارزم.

والثالث : صغانيان.

والرابع : فرغانة.

والخامس : الشاش.

وقد كان لعمال إسماعيل على هذه الولايات سلطات واسعة (٣).

وقد توفي الأمير إسماعيل عام ٢٩٥ ه‍ ، وبعد وفاته بدأت الدولة السامانية في الضعف والانحلال ، وكان ذلك لعدة عوامل :

__________________

(١) ينظر السابق ، ص ١٥٤.

(٢) ينظر : تاريخ بخارى ، لفاميري (ص ١٠٣) وما بعدها.

(٣) ينظر : الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١٦.

أولها : انقسام البيت الساماني على نفسه طمعا في السيادة.

ثانيها : رجال الدولة السامانية الذين كانت لهم مطامع خاصة ، فسعوا إلى تحقيق هذه المطامع على حساب الدولة.

ثالثها : ضعف أمراء آل سامان حتى أصبحوا ألعوبة في أيدي كبار رجال الدولة.

وترتب على ضعف الدولة السامانية ازدياد نفوذ الترك الذين كانوا مجرد خدم وأتباع ، فتمكنوا من القضاء على الدولة السامانية وبسطوا نفوذهم كذلك على كثير من البلدان الإسلامية(١).

وبرغم ضعف الدولة السامانية بعد الأمير إسماعيل ، فإنها ظلت قائمة حتى منتصف القرن الرابع الهجري ، فقد تولى الأمير أحمد بن إسماعيل الحكم بعد أبيه ، وحاول المحافظة على ملك الدولة السامانية قدر جهده ، لكنه لم يستطع تخليص طبرستان من الأمير الحسن بن علي الزيدي الملقب بالأطرش الذي تغلب عليها وعلى بلاد الديلم ، وهدى الله على يديه نفرا كثيرا ممن لم يدخلوا الإسلام من أهل تلك البلاد ، فالتفوا حوله ، وطردوا والي السامانيين من بلادهم (٢).

وتوفّي أحمد بن إسماعيل سنة ٣٠١ ه‍ إثر مؤامرة دبرت له ، وولي من بعده ابنه نصر ، وكان صغيرا فتنافس أمراء البيت الساماني على الوصول إلى الحكم ، فشق عليه عمه إسحاق بن أحمد عصا الطاعة ، فاستقل بسمرقند ، واستقل أبو صالح منصور بن إسحاق في نيسابور ، ولكن نصرا عاجلهم وقضى على ثورتهم. كما هزم العلويين الذين زاد خطرهم في طبرستان وقتل قائدهم ، فاستطاع الأمير نصر بسبب هذه الانتصارات استعادة نفوذ الدولة السامانية على بلاد ما وراء النهر (٣).

وتوفي الأمير نصر ، فبدأ الانهيار الكامل للدولة السامانية ، فاستقل الأمراء ، كلّ بجهة معينة ، فواجه الأمير نوح بن نصر الذي خلف والده مصاعب كثيرة ، منها خروج أبي إسحاق أحمد في بخارى ، وأبو علي الأصفهاني في نيسابور.

وأخطر ما واجهه غزو ركن الدولة البويهي لبلاد الري واستيلاؤه عليها ، ولكن القائد الساماني أبا علي طرد منها البويهيين ، لكنه انقلب على سادته واستقل بها ، بل طمع في

__________________

(١) ينظر : السابق ، الصفحة نفسها.

(٢) ينظر : السابق ص ١٧.

(٣) ينظر : الكامل في التاريخ حوادث (٣٠١ ، ٣٠٢ ، ٣٠٦) ، وتاريخ بخاري لفاميري ص ١١٣ ، ١١٤.

إقليم خراسان. ومن ثم بدأ انحسار النفوذ الساماني فما عاد يتجاوز بلاد ما وراء النهر (١).

ومع ازدياد نفوذ البويهيين وضعف أمراء الدولة السامانية ازداد الانحسار ، فألقى الأمراء السامانيون بأنفسهم في أحضان الدولة الغزنوية الناشئة ، حتى آل أمر دولتهم جميعه إلى هذه الدولة ، فسقطت بذلك الدولة السامانية بعد ما حكمت بلاد ما وراء النهر وما جاورها قرابة قرن ونصف (٢).

على أنه ينبغي أن نسجل للدولة السامانية عدة أمور تعد في ميزان فضائل هذه الدولة وأمرائها :

أولها : أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في عهد الدولة السامانية ؛ حتى كانت بخارى ، وسمرقند ، وبلخ تحت حكمهم منارات للعلوم الدينية ، يفد إليها الطلاب من كل حدب وصوب.

ثانيها : انتشار الرخاء في عهدهم ، واتباعهم سبيل الحق في حكمهم ؛ حتى مدحهم المقدسي الذي رحل إلى بلادهم ، فقال : إنهم أحسن سيرة ، وهذا فضلا عما عرف عنهم من إجلال للعلم وأهله ، فقد كان من رسومهم ألا يكلفوا أهل العلم تقبيل الأرض بين أيديهم.

وقال في وصف أهل خراسان في العهد الساماني : إنهم من أشد الناس تمسكا بالحق ، وهم بالخير والشر أعلم.

كما أقر بعلمهم الكثير ، وحفظهم العجيب ، واستقرار الأمور في خراسان ، وانتشار الرخاء فيها (٣).

ثالثها : عدم قصر عنايتهم على العلوم الدينية ، بل اهتم أمراء الدولة السامانية بالعلوم الطبيعية والأدبية ، فقد نبغ علماء وشعراء في بلاط هذه الدولة ، فنبغ الرودكي ، أول شاعر غنائي في فارس ، ومؤسس الملحمة التعليمية التي تعد من أخصب فروع الأدب الفارسي. وابن سينا الفيلسوف الطبيب الذي بدأ يظهر إنتاجه في عصر منصور بن نوح الساماني ٣٥٠ ه‍ وبخاصة كتابه القانون في الطب (٤).

__________________

(١) ينظر : الدول الإسلامية المستقلة في الشرق ص ١٨.

(٢) ينظر : السابق ص ١٩.

(٣) ينظر : أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي ص ٢٩٤ ، وما بعدها.

(٤) ينظر : تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص ١١٤ ـ ١١٦.

ونسجل أيضا في هذا المقام أن الماتريدي صاحب التفسير المحقق بين أيدينا عاش في سمرقند ، ويمكننا القول : إنه عاش عمره كله في ظل الدولة السامانية ، وما من شك في أنه تأثر بأحداثها ، ونعم بخيرها ، واستقرارها الفكري والعلمي ، برغم ما حصل فيها من أحداث سياسية مضطربة في بعض المراحل ، فكان ذلك من عوامل نبوغه في العلوم الدينية المختلفة ، كما سنعرف في الباب الثاني من هذه الدراسة.

* * *

الفصل الرابع

نظام الحكم في الدولة العباسية

يقصد بنظام الحكم : أجهزة الدولة المختلفة التي تصرف أمورها ، وتدبر شئونها ، وتكون بمثابة حلقة الوصل بين الرعية وبين الحكام ، وذلك حتى تنضبط حركة الحياة ويتمكن الناس من القيام بالوظائف المنوطة بهم على نحو تتحقق به خلافة الإنسان في الأرض على الوجه المرضي.

والحديث عن نظام الحكم في أي عصر من عصور التاريخ ذو شعب ثلاث :

١ ـ النظام السياسي.

٢ ـ النظام الإداري.

٣ ـ النظام القضائي.

ولإعطاء القارئ صورة عن نظام الحكم في الدولة العباسية في الفترة محل الدراسة نعرض لهذه الأنظمة الثلاثة في شيء من الإيجاز :

أولا : النظام السياسي :

ويتمثل هذا النظام فيما يلي :

أ ـ الخلافة :

عرف صاحب الأحكام السلطانية الخلافة بقوله : «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا» (١).

كما عرفها ابن خلدون بأنها «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» (٢).

ومن البين أن التعريفين ينطويان على معنى الجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية.

__________________

(١) الماوردي ، الأحكام السلطانية والولايات الدينية ، مطبعة الحلبي ، الطبعة الثالثة ١٣٩٣ ه‍ ، ١٩٧٣ م ص ٥.

(٢) مقدمة ابن خلدون.

وقد كانت الخلافة في الدولة العباسية وراثية ، تنتقل من الآباء إلى الأبناء.

والخلفاء العباسيون يقتفون في ذلك أثر الأمويين الذين ابتدعوا مبدأ توريث الخلافة ، بعد أن كانت شورى يتداولها المسلمون فيما بينهم دون قصرها على بيت دون بيت أو أسرة دون أسرة.

وامتاز نظام الحكم في العصر العباسي الأول بغلبة النزعة الاستبدادية عليه ، فالخليفة العباسي يملك السلطات كلها في يده ، على الرغم من أن أصحاب الدواوين أو البارزين من أصحاب البيت العباسي كانوا بمثابة مستشارين غير رسميين (١).

ودرج الخلفاء العباسيون على نظام تولية العهد أكثر من واحد ، فقد عهد السفاح بالخلافة إلى أخيه أبي جعفر المنصور ثم إلى أخيه عيسى بن موسى ، وكذلك فإن المهدي عهد بالخلافة إلى ولديه الهادي ثم لهارون الرشيد ، وأما هارون الرشيد فولى عهده أولاده الثلاثة : الأمين والمأمون والمؤتمن ، وقسم البلاد بينهم (٢).

ولا ريب أن هذا النظام في ولاية العهد قد أثمر العداوة والبغضاء بين أبناء البيت العباسي بدافع المنافسة والرغبة في الظفر بمنصب الخلافة.

وقد آل أمر الخلافة العباسية منذ عهد المتوكل «٢٣٢ ـ ٢٤٧ ه‍» إلى حالة من الوهن والضعف ، بسبب ازدياد نفوذ الأتراك ثم البويهيين والسلاجقة ، وغدا الخلفاء العباسيون ألعوبة في يد هؤلاء ، وهو ما أشرنا إليه في المبحث الثاني من هذه الدراسة.

وعلى الرغم من ضعف الخلافة في عصر إمرة الأمراء وبني بويه ، فقد استمر الخلفاء العباسيون يولون العهد أبناءهم ، غير أن الأتراك والبويهيين من بعدهم كانوا لا يحفلون بهذا النظام إذ كان لا يتفق مع مصالحهم.

ب ـ الوزارة :

اقتبس العباسيون نظام الوزارة من الفرس ، والحق أن الوزارة كاختصاص ومهام ولقب قد استحدثت في العصر العباسي ، وإن عرفت كاختصاص فقط دون اللقب في العصر الأموي ، فكان عبد الحميد بن يحيى بن سعيد كاتب مروان بن محمد يقوم في الخلافة مقام الوزير من حيث تقريب الخليفة له واعتماده عليه في المشورة والرأي (٣).

__________________

(١) السابق (٢ / ٢٥٥).

(٢) السابق (٢ / ٢٥٦).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، ص ٢٥٣.

ولم تتضح مهام الوزارة وأعمال الوزير في صدر الدولة العباسية ، ولكنها لم تلبث أن تحددت وصيغت الصياغة النهائية في أواخر العهد العباسي.

وكان أكثر وزراء الدولة العباسية من الفرس أو الترك ، واشتهر من وزراء العصر الأول البرامكة وبنو سهل ، ومن وزراء العصر الثاني بنو الفرات وبنو وهب وبنو الجراح (١).

وأرهبت قوة الدولة العباسية وحزم خلفائها الوزراء ، فلم يستبدوا بأمر دون الخليفة ، ولم ينفردوا برأي دون الرجوع إليه ، بل كان الواحد منهم يتجنب أن يسمى وزيرا بعد أن مات أبو الجهم على يد المنصور ، فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ويأبى أن يسمى وزيرا على الرغم من منزلته عند الخلفاء (٢).

ولم يتردد الخلفاء العباسيون الأوائل في البطش بأي وزير يرون في تضخم نفوذه خطرا على كرسي الخلافة ، ومقتل أبي سلمة الخلال على يد السفاح ، وأبي الجهم على يد المنصور ، ونكبة البرامكة في عهد الرشيد أمثلة صادقة على قوة الخلافة ، وتضاؤل نفوذ الوزراء إلى جوار الخلفاء.

ولقد عرف العصر العباسي شكلين من أشكال الوزارة :

الأول : وزارة تنفيذ : وهي التي تقتصر مهمة الوزير فيها على تنفيذ أوامر الخليفة وعدم التصرف في شئون الدولة من تلقاء نفسه.

الثاني : وزارة تفويض : وهي أن يكل الخليفة الوزارة إلى شخص يثق فيه ، ويفوض إليه النظر في أمور الدولة والتصرف في شئونها دون الرجوع إليه.

ومن أشهر وزراء التفويض : آل برمك وآل سهل والفضل بن الربيع (٣).

ولما ضعفت الخلافة العباسية ودب الوهن في أوصالها ، تزايد نفوذ الوزراء وتعاظم خطرهم ، وقويت المنافسة على كرسي الوزارة.

ولم يكد البويهيون يستولون على بغداد سنة ٣٣٤ ه‍ حتى استبدوا بالسلطة دون الخلفاء العباسيين وقضوا على نفوذ الوزراء وحلوا محلهم ، ولكنهم اتخذوا لأنفسهم وزراء اشتهر بعضهم كأبي الفضل محمد بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه (٤).

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٠).

(٢) السابق (٢ / ٢٥٧).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ، ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، وانظر أيضا في أشكال الوزارة : الأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٢ ـ ٢٩.

(٤) ينظر : حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام (٣ / ٢٥٥).

ج ـ الكتابة :

اقتضى تطور منصب الوزارة وتشعب أعماله استحداث نظام جديد يعاون موظفوه الوزير في الإشراف على الدواوين وإدارة شئونها ، وهو نظام الكتابة.

ووجد في هذا العصر كاتب للرسائل ، وكاتب للخراج ، وكاتب للجند ، وكاتب للشرطة.

ومهمة كاتب الرسائل : إذاعة المراسيم والبراءات وتحرير الرسائل السياسية وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة ، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في الصيغة النهائية وختمها بخاتمه ، كما كان يجلس مع الخليفة في مجلس القضاء للنظر في المظالم وختم الأحكام بخاتم الخليفة.

واشتهر من كتاب الدولة العباسية : يحيى بن خالد البرمكي ، والفضل بن الربيع والفضل بن سهل والحسن بن سهل ، وأحمد بن يوسف ومحمد بن عبد الملك بن الزيات (١).

د ـ الحجابة :

استحدث الأمويون وظيفة سياسية جديدة في بلاطهم هي الحجابة ، ومهمة الحاجب : حجب الخليفة عن الناس ، وتنظيم دخول الرعية عليه وفقا لمنازلهم الاجتماعية ، ومراتبهم في الدولة.

ولعل الأمويين قد خافوا على أنفسهم من الرعية بعد حادثة الخوارج مع علي ومعاوية وعمرو بن العاص (٢).

وقد حذا العباسيون حذو الأمويين في اتخاذ الحجاب ، بيد أن مرتبة الحاجب قد ارتقت وزادت مكانته في بلاط العباسيين ، فأصبح يستشار في كثير من أمور الدولة ، ويستبد بالنفوذ دون الوزير ويلزم أصحاب الدواوين بالرجوع إليه (٣).

ثانيّا : النظام الإداري :

أ ـ تعيين الولاة :

امتاز النظام الإداري في العصر العباسي الأول بالمركزية التي غدا معها ولاة الأقاليم

__________________

(١) ينظر في كل ما سبق : تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٣ ، ٢٦٤).

(٢) ينظر في نظام الحجابة : السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ٢٥٩ ـ ٢٦٢.

(٣) ينظر تاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٢٦٧).

مجرد عمال لا ولاة ينفردون بالسلطة المطلقة ، وهو ما يفرق بين النظام الإداري العباسي والأموي ، حيث كان ولاة الدولة الأموية يتمتعون بنفوذ كبير وسلطة لا يغلها استبداد الخليفة ، فلا غرو أن اقتصرت وظيفة الوالي في بداية تاريخ الدولة العباسية على الصلاة وقيادة الجند (١).

ودرج الخلفاء العباسيون على اختيار العمال أو الولاة من بين أفراد البيت العباسي أو من بين كبار القادة ، «غير أن هؤلاء وأولئك آثروا البقاء في بغداد أو في سامراء ، وأنابوا عنهم نوابا يحكمون هذه الولايات باسمهم. ولم يكن هذا التقليد شديد الخطر على الدولة العباسية وهي في قوتها ، على أنه لما ضعفت السلطة المركزية ساءت الحالة في هذه الولايات ، وجنح بعض نواب الولاة إلى الاستقلال ، فظهرت في مصر الدولتان الطولونية والإخشيدية ، وظهرت في المشرق الدول : الطاهرية ، والصفارية والسامانية» (٢).

ب ـ الدواوين :

كلمة الديوان كلمة فارسية تعني السجل يكتب فيه ما يختص بشئون الإدارة. ثم أصبحت تدل على المكان الذي يعمل فيه الكتاب على اختلاف مهامهم (٣).

وتشبه الدواوين في نظامها وأعمالها الوزارات في العصر الحاضر.

وأول من دون الدواوين في الدولة الإسلامية هو عبد الملك بن مروان. ثم كثرت الدواوين في العصر العباسي لتنظيم شئون الدولة ، ومنها : ديوان الخراج ، وديوان الجند ، وديوان الموالي والغلمان ، وديوان البريد ، وديوان زمام النفقات ، وديوان الدية ، وديوان الرسائل ، وديوان الحوائج ، وديوان المنح ، وديوان الأكرة للإشراف على الترع والجسور وشئون الري (٤).

ويرجع الفضل في تنظيم إدارة الدواوين في العصر العباسي الأول إلى خالد بن برمك ، كما يرجع الفضل في إنشاء ديوان الزمام إلى المهدي لجمع ضرائب العراق ، وهو أول من أحدث هذا الديوان (٥).

__________________

(١) ينظر السابق (٢ / ٢٦٥).

(٢) ينظر : السابق (٢ / ٢٦٧).

(٣) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ٢٦٤ ، ٢٦٥ ، وانظر في سبب التسمية الأحكام السلطانية ١٩٩.

(٤) ينظر : تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٨).

(٥) السيد عبد العزيز سالم ، العصر العباسي الأول ٢٦٥.

ج ـ البريد :

أولى الخلفاء العباسيون نظام البريد عناية كبيرة وحفاوة بالغة تتلاءم مع ما عسى أن يقدمه صاحب البريد من معلومات عن الأمصار والولاة ، فهو بمثابة جهاز المخابرات في الدول الحديثة.

وكان لديوان البريد محطات على طول الطريق ، وظل الحمام الزاجل مستخدما في نقل الرسائل حتى عهد الخليفة المعتصم.

وكان البريد خاصّا بأعمال الدولة لا لنقل رسائل الجمهور ، ومن ثم كان مصلحة من مصالح الدولة الخاصة ، فكان صاحب البريد يراقب العمال ، ويتجسس على الأعداء ، ويقوم بالأعمال التي يقوم بها رئيس قلم المخابرات في وزارة الدفاع الآن ، وكانت مهمة صاحب البريد أول الأمر توصيل الأخبار إلى الخليفة من عماله في الأقاليم ، ثم توسعوا فيه حتى جعلوا صاحبه عينا للخليفة ينقل أوامره إلى ولاته كما ينقل أخبار ولاته إليه (١).

٤ ـ الشرطة :

اعتمد الخلفاء على الشرطة في حفظ الأمن ، ونشر الاستقرار والضرب على أيدي المجرمين والمفسدين.

وألحقت الشرطة في أول الأمر بالقضاء ؛ لأنها تقوم على تنفيذ الأحكام القضائية وصاحبها يتولى إقامة الحدود ، ثم لم تلبث أن غدت نظاما مستقلا (٢).

وكان صاحب الشرطة يختار من علية القوم وذوي العصبية والناس ؛ حتى يكون قادرا على ضبط المجرمين وإقامة الحدود ، وتنفيذ العقوبات.

وصاحب الشرطة يختار له مساعدين يأتمرون بأمره ويصدرون عن رأيه.

ثالثا : النظام القضائي :

ويشتمل على : القضاة ، والنظر في المظالم ، والحسبة.

أ ـ القضاة :

عرف منصب القضاء في الدولة الإسلامية منذ عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية. وكان القاضي يصدر في أحكامه عن كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عن رأيه

__________________

(١) د / حسن إبراهيم ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٦٩ ، ٢٧٠).

(٢) السيد عبد العزيز سالم ، ص ٢٧٩.

واجتهاده.

فلما كانت الدولة العباسية ، وتقررت المذاهب الفقهية المختلفة ، غدا كل قاض يصدر في أحكامه عن مذهب منها ، ويعوّل في الفصل بين الناس عليه. كما استحدثت الدولة العباسية منصب «قاضي القضاة» ، وأول من تلقب بهذا اللقب أبو يوسف في عهد هارون الرشيد.

وكان القضاة في العصر العباسي ينظرون في القضايا المدنية والدعاوى والأوقاف ، وتنصيب الأوصياء ، وأحيانا المظالم والقصاص وبيت المال (١).

ب ـ النظر في المظالم :

ويختص صاحب المظالم بالنظر في القضايا التي عجز القضاة عن الفصل فيها ، وكان يتولى النظر في المظالم ـ أحيانا ـ الخلفاء أنفسهم ، فكان بعض خلفاء بني العباس يجلس لهذا الأمر ؛ ليحكم في المظالم.

كما كان يرأس محكمة المظالم ـ إن لم يكن رئيسها هو الخليفة ـ الوالي أو من ينوب عنه.

وكان صاحب المظالم يعين للناس يوما يقصدونه فيه ، أو أسبوعا كاملا يفرغ لهم فيه.

وتنعقد محكمة المظالم في الأعم الأغلب في المسجد ، وكان يحضرها خمس جماعات لا بد من حضورهم هم :

أ ـ جماعة الحماة أو الأعوان : ومهمتهم التغلب على من يلجأ إلى العنف أو يحاول الفرار.

ب ـ جماعة الحكام : ومهمتهم الإحاطة بما يصدر من الأحكام لرد الحقوق إلى أهلها ، والعلم بما يجري بين الخصوم.

ج ـ جماعة الفقهاء : الذين يرجع إليهم صاحب المظالم فيما أشكل عليه.

د ـ جماعة الكتاب : ويقومون بتدوين أقوال الخصوم.

ه ـ الشهود.

ويختلف اختصاص صاحب المظالم عن اختصاص القاضي في عدة أمور :

أولها : صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يقيمها الأفراد على الولاة وعمال

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون (١٩٢ ، ١٩٣).

الخراج.

ثانيها : صاحب المظالم ينظر في القضايا التي يعجز عنها القاضي.

ثالثها : صاحب المظالم يحكم في القضايا التي تتعلق بإقامة العبادات كالحج والأعياد والجمع والجهاد (١).

ج ـ الحسبة :

وضع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب نظام الحسبة في الإسلام ، ويعني هذا النظام : النظر فيما يتعلق بالنظام العام من أمور تقتضي الفصل فيها على وجه السرعة.

ومن وظائف المحتسب أنه : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحافظ على الآداب العامة ، ويشرف على نظام السوق ، ويستوفي الديون ويراقب المكاييل والموازين تجنبا للتطفيف ، ويعاقب العابثين ... إلخ (٢).

بيد أن مصطلح الحسبة لم يستخدم أو يتداول في العصر العباسي بالرغم من تطبيق مفهومه.

* * *

__________________

(١) ينظر : الأحكام السلطانية للماوردي ص ٨١ ـ ٨٣.

(٢) حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٣١٦) ، الأحكام السلطانية ص ٢٤١.

الفصل الخامس

الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي

لا مرية في أن الأوضاع الاجتماعية في عصر من العصور تؤثر تأثيرا كبيرا في أفراد المجتمع عامتهم وخاصتهم على السواء ، ولعل أكثر الطبقات الاجتماعية تأثرا بهذه الأوضاع هم العلماء ؛ فهم أكثر اتصالا بحياة الناس وأشد اهتماما بشئونهم ورغبة في معرفة مشاكلهم والقضاء عليها.

ومرادنا من دراسة الحالة الاجتماعية : بيان طبقات المجتمع من حيث : الجنس ، والدين ، وما يربط هذه الطبقات بعضها ببعض من صلات وأواصر دينية أو اقتصادية أو اجتماعية.

كما تعني دراسة الأوضاع الاجتماعية عناية فائقة بمظاهر الحياة في المجتمع (١).

وتنتظم دراستنا للحالة الاجتماعية للفترة التاريخية التي نحن بصددها مبحثين اثنين هما :

المبحث الأول : سكان الدولة العباسية.

المبحث الثاني : مظاهر الحياة الاجتماعية.

* * *

__________________

(١) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٣٣٤).

المبحث الأول

عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي

تنوع سكان الدولة العباسية تنوعا كبيرا ، واختلفت عناصرهم وطبقاتهم أشد ما يكون الاختلاف ، وانصهرت جميعها في بوتقة المجتمع العربي الإسلامي في العصر العباسي. وهذه العناصر هي :

١ ـ العنصر العربي :

وقد أفاضت الدولة الأموية على العرب تميزا في المكانة الاجتماعية والاقتصادية ، حيث آثرتهم بالمناصب السياسية وقصرتها عليهم ، ونظرت بعين الازدراء للعناصر الأخرى ، وحرمتها من المشاركة السياسية الفاعلة.

أما الدولة العباسية فقامت على أكتاف الموالي من الفرس ، وبرزت إلى الوجود بفضل مناصرتهم وتأييدهم ، فلا غرو أن قدمهم العباسيون وآثروهم بالمناصب وأجروا عليهم الأعطيات السخية ، وفي المقابل تأخر العرب وصارت منزلتهم دون منزلة الفرس بكثير ، وحسبك دليلا على صحة ذلك أن المعتصم «٢١٨ ـ ٢٢٥ ه‍» أخرج العرب من ديوان العطاء.

ولقد عبر الجاحظ عن هذه الحالة في عبارة موجزة فقال :

«دولة بني العباس أعجمية خراسانية ، ودولة بني مروان عربية أعرابية».

٢ ـ العنصر الفارسي :

وقد أشرنا قبل قليل إلى تميز مكانة الفرس لدى الخلفاء العباسيين ، فأسندوا إليهم المناصب الهامة ، واعتمدوا عليهم اعتمادا كبيرا في تصريف شئون دولتهم.

وتخبرنا المصادر التاريخية أن أول من استعملهم هو الخليفة أبو جعفر المنصور ، فاستن بسنته في استعمالهم الخلفاء العباسيون من بعده حتى بلغ نفوذهم ذروته في عهد هارون الرشيد ، فكان مدبر أمر دولته آل برمك وأصولهم ساسانية.

وكذلك انتصر المأمون للفرس وأدناهم إليه واعتمد عليهم في حرب أخيه الأمين ، فلما انتصر على أخيه وآل أمر الملك إليه بفضل نصرة الفرس له قربهم أكثر ، فازدادوا نفوذا وتدخلا في شئون الخلافة العباسية.

٣ ـ العنصر التركي :

ازداد نفوذ الفرس في الدولة العباسية ، وأصبحوا يمثلون خطرا كبيرا على سلطة الخلفاء العباسيين ، فلم يجد العباسيون مناصا من الاعتماد على عنصر جديد يثقون في ولائه ومناصرته لهم ، فاستعان المعتصم بالعنصر التركي وأدخله إلى المجتمع العباسي. غير أن هذا العنصر استبد بالأمور دون الخلفاء منذ عصر المتوكل «٢٣٢ ـ ٢٤٧ ه‍» ، وغدا الترك أصحاب السلطان الحقيقي في الدولة ، والخلفاء ألعوبة في أيديهم.

٤ ـ المولدون :

نشأ نتيجة الاختلاط بين العناصر السابقة عنصر جديد لم يكن موجودا من قبل ، وهذا العنصر هو المولدون ، وكان لهؤلاء مميزات وصفات مختلفة في أجسامهم وعقولهم وأفكارهم ، وأثر لا ينكر في الحياة الاجتماعية والعلمية.

٥ ـ اليهود والنصارى :

وعلى الرغم من أن هؤلاء كانوا قلة في المجتمع العباسي إلا أنهم تمتعوا بكافة الحقوق في ظل التسامح الديني الذي دعا إليه الإسلام ، فكانوا يقيمون شعائرهم الدينية في حرية كاملة ، ويعيشون في طوائف منفصلة عن بعضها مختلطين مع المسلمين ، فلم يكن لهم في المدن الإسلامية أحياء مخصصة إلا إذا آثروا الحياة في أحياء خاصة بهم ، فتتكون تلقائيّا لهم أحياء خاصة.

طبقة الرقيق :

كثرت هذه الطبقة في المجتمع العباسي كثرة ظاهرة ، فنشأت أسواق خاصة بهم في بغداد ، وامتلأت قصور الخلفاء والأغنياء والحكام بالجواري. كما عني العباسيون بتهذيبهن وتعليمهن ضروبا من الفنون لا سيما الشعر والغناء.

ونعم الرقيق في ظل الدولة العباسية بكافة حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها سائر طبقات المجتمع من الأحرار ، وحسبك دليلا على صدق ما نقول أن كثيرا من أمهات الخلفاء العباسيين كن من الرقيق.

وكان ذلك بفضل ما أرساه الإسلام من مبادئ العدل والمساواة دون تمييز بين عربي وعجمي أو حر وعبد ، فالكل سواء في الحقوق الإنسانية (١).

__________________

(١) انظر فيما سبق : ضحى الإسلام (١ / ٥) ، وتاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٣٣٤).

هذا عن العناصر السكانية في المجتمع العباسي عامة أما بلاد ما وراء النهر ـ مسقط رأس الماتريدي ـ فإن غالبية السكان فيها كانوا من الفرس والترك ، وثمة طوائف عربية استوطنت هذه البلاد على أثر الفتوحات الإسلامية ، فاندمجوا مع سكان البلاد الأصليين ، الذين دخل منهم في الإسلام من دخل ، وبقى منهم على دينه من بقي ، متمتعا في ظل الإسلام بكافة الحقوق الإنسانية.

* * *

المبحث الثاني

مظاهر الحياة الاجتماعية

امتازت الحياة الاجتماعية في عصر الماتريدي بمظاهر عدة ، لعل أبرزها :

ـ ظهور حركة الشعوبية.

ـ ظاهرة الزندقة.

ـ غلبة اللهو والترف على المجتمع.

أولا : الشعوبية :

نشأت ظاهرة الشعوبية كنتيجة طبيعية للصدام السياسي والحضاري بين العرب والموالي ، فتعصب العرب لجنسهم واحتقروا الموالي ، وتعصب الموالي ـ الفرس والترك ـ لأرومتهم ، ورأي الفرس أنهم ذوو سابقة في الحضارة والمدنية وأن العرب طارءون على هذه الحضارة.

وغلبت هذه النزعة من العصبية على الدولة العباسية وأذكى نيرانها مساندة العباسيين للموالي وتقديمهم إياهم على العرب.

وبلغت الشعوبية ذروة خطورتها في القرن الثالث الهجري ، حيث نشط الفرس في الهجوم على العرب والتفتيش عن مثالبهم ، وتجريدهم من كل ميزة وفضيلة ، وربما ساعد على ذلك أن الخلفاء العباسيين لم يتعصبوا للعرب كجنس بقدر ما تعصبوا للإسلام كدين يسوي بين الناس في الحقوق والواجبات ، ولا يرى للعرب فضلا على سائر الأجناس إلا بالتقوى.

وثمة نزعات ثلاث تألفت ظاهرة الشعوبية من مجموعها :

النزعة الأولى : وتذهب إلى أن العرب خير الأمم ؛ لأنهم ظلوا ينعمون بالاستقلال والحرية ، بالرغم من أنهم كانوا يتاخمون أكبر دولتين : الفرس والروم ، كما أنهم يتمتعون بصفات أخلاقية امتازوا بها عن غيرهم ، كالكرم والوفاء والنجدة ، بالإضافة إلى أن الإسلام ـ وهذا هو العامل الأهم ـ نزل بأرضهم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ، وهم حاملو لواء دعوته إلى الناس ، فكل من أسلم ففي عنقه للعرب منة لا تقدر.

النزعة الثانية : ترى أن العرب ليسوا بأفضل الأمم ، فالأمم كلها متساوية ، يؤيد ذلك قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣].

ويمثل هذه النزعة وينتصر لها العلماء والصالحون من العرب والعجم جميعا.

النزعة الثالثة : يؤمن أصحاب هذه النزعة بأفضلية العجم على العرب ، ويفندون الحجج التي ارتكز عليها أصحاب النزعة الأولى في تفضيل العرب ، فيقولون : إن الإسلام ليس دينا عربيّا أنزله الله لهداية العرب وحدهم ، بل هو دين عام للناس أجمعين ، ودعوته موجهة لكل الأجناس ، وليس للعرب ما يمتازون به عن غيرهم.

وما افتخروا به من سجايا كريمة وشيم نبيلة كالكرم والوفاء والنجدة وغيرها ، ليست قصرا عليهم بل يشاركهم فيها سائر الأمم.

وقد أطلقت الشعوبية على هذه النزعة الأخيرة حتى غدت مرادفة لها ، فصنف العجم كتبا في مثالب العرب ومناقب العجم ، بل تجرأ الشعوبيون فوضعوا الأحاديث ونسبوها زورا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إثباتا لفضيلة العجم (١).

ثانيا : الزندقة :

لعل من الأسباب التي أدت إلى شيوع الزندقة وقوة تيارها في العصر العباسي : نشاط الحركة العلمية العقلية في هذا العصر ؛ إذ لم يقتصر البحث على العلوم الدينية النقلية من جمع أحاديث وتفسير للقرآن ، واستنباط للأحكام الشرعية ، بل تعداها إلى دراسة المنطق والكلام والفلسفة وغيرها من العلوم التي تثير في النفس والعقل من الحيرة والشك أكثر مما تثبت فيهما من الإيمان واليقين.

وكذلك فإن كثيرا من الفرس ساءهم ألا يحققوا ما يطمحون إليه من مطامع ، ورأوا أن الإسلام ما دام قويا ، فلن يتحقق لهم ما يرنون إليه ؛ ولذلك عملوا على هدم الإسلام من داخله عن طريق نشر المبادئ المانوية والزرادشتية والمزدكية ، فكان ذلك عاملا مباشرا أسهم في ذيوع الزندقة وانتشار أفكارها الهدامة (٢).

وتعني الزندقة اعتناق الإسلام ظاهرا ، واعتناق أديان الفرس باطنا ، وخاصة مذهب ماني ، وإنما أظهروا الإسلام رغبة في إفساده وهدم تعاليمه ، أو لنيل الجاه والظفر بالسلطان.

واجتهد الخلفاء العباسيون في تعقب الزنادقة ومحاكمتهم ، كما شجعوا المتكلمين وأهل الجدل على تأليف الكتب للرد على الزنادقة ، وأمر الخلفاء بمناظرتهم واستتابتهم ، فإن تابوا وإلا قتلوا.

__________________

(١) انظر : ضحى الإسلام (١ / ٤٩).

(٢) انظر : السابق (١ / ١٣٨ ، ١٣٩).

وأوصى الخليفة المهدي ابنه وولي عهده موسى الهادي ـ إذا آل إليه أمر الخلافة من بعده ـ بتعقبهم والقضاء عليهم.

واستحدث هارون الرشيد وظيفة جديدة سمى صاحبها ب «صاحب الزنادقة» مهمته امتحان كل من يتهم بالزندقة ومحاكمته إن ثبتت عليه التهمة.

وذكر الطبري والمسعودي أن المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة في البصرة ، فبعث إليهم ، وامتحنهم واحدا واحدا ، وأظهر لهم صورة ماني ، وأمرهم أن يتفلوا عليها ويبرءوا منها ، فلما أبوا أمر بهم فقتلوا (١).

وثمة نزعة إيمانية صادقة ظهرت كرد فعل لنزعة الإلحاد والزندقة ، حيث كثر العلماء المؤمنون الذين وقفوا حياتهم على خدمة الدين ، والتمسك بآدابه ومبادئه. وفي الحق أن هذه النزعة الإيمانية كانت هي الغالبة على المجتمع العباسي ؛ إذ كان الزنادقة قلة إذا قيسوا بالمؤمنين الأتقياء.

ثالثا : حياة الترف واللهو :

تدفقت الثروة وعم الرخاء في الدولة العباسية ، فانغمس كثير من الخلفاء والأمراء في حياة الترف والمجون ، بل أصبح الترف سمة امتازت بها حياة كثير من الناس في هذا العصر ، وقد تجلت مظاهر الترف واللهو في عدة أمور أبرزها :

أ ـ القصور المنيفة التي شيدت على أحسن طراز ، فقد كانت قصور الأمراء والخلفاء مضرب الأمثال في رونقها وبهائها ، وفخامة بنائها واتساعها ، والحدائق التي تحيط بها.

ب ـ شاع الغناء في هذا العصر ، وكثر المغنون ، حيث حفلت قصور الأمراء بالمغنين من الجواري ، واشتهر من المغنين عدد غير قليل لعل أبرزهم إبراهيم بن إسحاق الموصلي.

وحذا الأمراء والوزراء حذو خلفاء الدولة العباسية في الانغماس في حياة اللهو والترف ، وقد أوجدت هذه الحالة جماعة متطوعة تنكر على الفساق ببغداد ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وأثمرت حياة اللهو كذلك حياة مقابلة لها هي حياة الزهد التي سلكها بعض الناس (٢).

* * *

__________________

(١) انظر : تاريخ الأمم والملوك للطبري (١٠ / ٤٤) ، ومروج الذهب (٢ / ٢٤٩).

(٢) ضحى الإسلام (١ / ١٠١) ، وتاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٣٤٠).

الفصل السادس

الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي

كان الإسلام محور الحركة العلمية وأساسها الأول حتى أواخر العصر الأموي ، فالعلوم التي يتدارسها المسلمون ويعنون بتدوينها وجمع مسائلها علوم دينية مادتها مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وغايتها خدمة الإسلام ودعم أصوله وأركانه.

فمبنى الفقه على الكتاب والسنة الصحيحة ، ومدار الحديث على أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفعاله المأثورة عنه ، وأساس التاريخ سيرة النبي وغزواته.

أما العلوم الدنيوية : كالطب والكيمياء فحظ المسلمين من الاشتغال بها قليل ، واهتمامهم بها ضعيف ، وأكثر من برعوا فيها واهتموا بها من غير المسلمين.

أما الدولة العباسية فمعلوم لكل أحد أن الحركة العلمية نشطت في عصرها نشاطا كبيرا ، وتنازعت العلوم الدينية والعلوم العقلية اهتمام المسلمين وعنايتهم ، فكثر التدوين والتصنيف ورتبت مسائل العلوم ، وميّز كل علم عن غيره واستقل بموضوعه ومنهجه ، واستحدثت علوم جديدة كعلم التفسير والحديث وأصول الفقه ، وعني المسلمون بترجمة العلوم العقلية كالفلسفة والمنطق والرياضيات والطبيعة والكيمياء عن اليونان والهند.

فلا غرو أن أثرى هذا النشاط الحركة العلمية في عصر الدولة العباسية ـ عصر الماتريدي ـ ثراء عظيما ، حتى عد هذا العصر بحق العصر الذهبي للحضارة الإسلامية القائمة على العلم الديني والدنيوي على سواء.

ويمكننا أن نتلمّس ملامح الحركة العلمية ونقف على آثارها ونتائجها ببيان أهم العلوم التي دونت في القرنين الثالث والرابع الهجريين.

العلوم المدونة في القرنين الثالث والرابع الهجريين

وعني المسلمون منذ مطلع القرن الثالث الهجري بتدوين العلوم وجمع مسائلها وترتيب أبوابها ، واتسعت دائرة اهتمامهم العلمي لتشمل إلى جانب العلوم الدينية العلوم العقلية ، وفيما يلي نعرض بإيجاز لأبرز هذه العلوم :

١ ـ علم القراءات :

القراءات : جمع قراءة ، وهي في اللغة : مصدر سماعي لقرأ ، وفي الاصطلاح : مذهب

يذهب إلى إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه ، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئتها.

ونستطيع أن نقول : إن الدافع وراء اهتمام المسلمين بهذا العلم والتصنيف فيه خشية جماعة القراء من أن تتأثر قراءة القرآن باللكنة الأعجمية لا سيما بعد دخول الفرس في الإسلام أفواجا ، ومن ثم اهتم هؤلاء بضبط القراءات القرآنية وجعلوها علما كسائر العلوم.

وبرز في علم القراءات رجال كثيرون ، من أشهرهم :

١ ـ عبد الله بن عامر بدمشق ، توفي ١١٨ ه‍.

٢ ـ عبد الله بن كثير بمكة (توفي : ١٢٠ ه‍).

٣ ـ أبو بكر عاصم بن أبي النجود بالكوفة ، توفي ١٢٨ ه‍.

٤ ـ حمزة بن حبيب الزيات بالكوفة ، توفي ١٥٦ ه‍.

٥ ـ أبو عمر بن العلاء المازني بالبصرة (توفي : ١٦٤ ه‍).

٦ ـ نافع بن أبي نافع بالمدينة (ت : ١٦٧ ه‍) ، وأخذ عنه أبو سعيد عثمان بن سعيد المصري الملقب بورش (توفي ١٩٧ ه‍) ، وهو الذي يقرأ له أهل المغرب.

٧ ـ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي بالكوفة ، توفي ١٨٩ ه‍.

وهؤلاء هم المعروفون بالقراء السبعة الذين فاقوا غيرهم في الإتقان والضبط ، ويليهم في الشهرة :

٨ ـ أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني ، توفي ١٣٠ ه‍.

٩ ـ يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، توفي ٢٠٥ ه‍.

١٠ ـ خلف بن هشام البزار توفي ٢٢٩ ه‍.

وقراءات ما عدا هؤلاء العشرة قراءات شاذة.

والحق أن أول من تتبع وجوه القراءات ، وتقصى أنواع الشاذ منها ، وبحث أسانيدها وميز فيها الصحيح من الموضوع هارون بن موسى القاري ، (ت : ١٧٩ ه‍). أما أول من صنف في القراءات فهو أبو عبيد القاسم بن سلام (ت : ٢٤٤ ه‍).

وخليق بنا أن نسجل في هذا المقام الملاحظة التالية ، وهي أن أكثر القراء وأشهرهم وأبرز من دونوا في علم القراءات قد ظهروا في العصر العباسي ، وفي الفترة التاريخية التي

نحن بصددها تحديدا ، عصر الماتريدي.

ولا ريب أن تدوين القراءات وتأصيل مسائلها عامل مهم أورث حركة التشريع الإسلامي شيئا غير قليل من القوة والازدهار.

٢ ـ علم التفسير :

سيأتي بمشيئة الله تعالى الكلام عن بيان مفهوم علم التفسير عند الحديث عن التفسير ومناهج المفسرين وكذلك سيأتي الحديث عن نشأة علم التفسير وتطوره ، إلا أننا نقول هاهنا في عجالة سريعة إن علم التفسير نشأ في أول أمره فرعا من فروع الحديث ، حيث كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر القرآن لأصحابه ويبين لهم معانيه الخافية عنهم ، ثم عني الصحابة من بعده بتفسير القرآن ، وأثرت عنهم آراء كثيرة في التفسير وأقوال كانت أساسا صالحا قامت عليه المدارس التفسيرية فيما بعد.

وقد تطور علم التفسير في عصر التابعين ، فجاءت طبقة جمعت الأقوال التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين ، شأنهم في ذلك شأن المحدثين ، كما رحل بعض العلماء لجمع روايات التفسير من الأمصار المختلفة.

ولم يلبث علم التفسير أن انفصل عن علم الحديث ، في العصر العباسي ، وقام المفسرون بترتيب الروايات التفسيرية وفق ترتيب السور والآيات ، ويذكر ابن النديم : أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفراء صاحب كتاب «معاني القرآن» المتوفى سنة ٢٠٧ ه‍ ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل ، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب ، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه ، فقام الفراء بذلك فوضع كتابا في التفسير (١).

ثم وضع ابن جرير الطبري بعد ذلك تفسيرا ، عماده الروايات التفسيرية المأثورة عن الصحابة والتابعين ، بيد أنه أضاف إلى تفسيره شيئا من التفسير بالرأي.

فمنذ ذلك التاريخ غدا القرآن الكريم معينا خصبا لكثير من العلوم ، فعلماء النحو اعتمدوا عليه في استنباط القواعد النحوية ، وألفوا كتبا في إعراب المشكل من آياته ، وعني أهل اللغة بتفسير مفرداته وشرح معانيه ، كما عوّل عليه الفقهاء في بناء آرائهم وتأسيس مذاهبهم الفقهية ، وصنفت كتب في تفسير آيات الأحكام ، وأخذ العلماء يفسرون القرآن ،

__________________

(١) انظر : الفهرست ص ٩٩.

كل بما يتفق مع رأيه ، حتى علماء الكلام أوّلوا بعض الصفات بما يتفق مع آرائهم (١).

٣ ـ الحديث وعلومه :

علم الحديث هو علم يشتمل على أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفعاله وتقريراته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها.

ولم يدون الحديث النبوي الشريف تدوينا منظما إلا منذ مطلع القرن الثاني الهجري وقبل هذا التاريخ كان الصحابة يكتبون منه ما استقامت لهم سبل الكتابة وتيسرت أسبابها ، غير أن تدوينهم كان تدوينا خلا من النظام والترتيب.

ومن أشهر من كتب الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص ، حتى قال فيه أبو هريرة : «ما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد أكثر مني حديثا إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب» (٢).

ثم رأى عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ أن يجمع حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمعا منظما ويدونه تدوينا مستوعبا ، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم : «أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسننه فاكتبه ؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء» (٣).

ومنذ ذلك التاريخ بدأت عناية المسلمين بتدوين الحديث تقوى وتشتد ، وبرز في ميدان جمع الأحاديث أسماء كثيرة نذكرها بكل إجلال وتقدير ، وتوزع هؤلاء على الأمصار الإسلامية المختلفة :

ففي مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المتوفى سنة ١٥٠ ه‍.

وفي المدينة محمد بن إسحاق المتوفى سنة ١٥١ ه‍ ، ومالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ ه‍.

وبالبصرة الربيع بن صبيح المتوفى سنة ١٦٠ ه‍ وحماد بن سلمة المتوفى سنة ١٧٦ ه‍.

وفي الكوفة سفيان الثوري المتوفى سنة ١٦١ ه‍.

وفي الشام الأوزاعي المتوفى سنة ١٥٧ ه‍.

__________________

(١) انظر : ضحى الإسلام (٢ / ١٣٨) ، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد أنيس عبادة (٢ / ٧٥ ـ ٧٦).

(٢) انظر : تاريخ أبي زرعة الدمشقي (٥٥٦) ، الاستيعاب (٣ / ٩٥٧) ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال (١٥ / ٣٥٨).

(٣) انظر : الفكر السامي (٢ / ١١٠).

وفي اليمن معمر بن راشد المتوفى سنة ١٥٣ ه‍.

وفي خراسان عبد الله بن المبارك المتوفى سنة ١٨١ ه‍.

وبمصر الليث بن سعد المتوفى سنة ١٧٥ ه‍.

وكانت طريقتهم في التدوين تعتمد على وحدة الموضوع في أبواب منفصلة يحتوي كل باب على الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد ، فجمعت أحاديث الصلاة في باب ، والزكاة في باب آخر ، وهكذا.

ومن أشهر هذه المصنفات موطأ الإمام مالك.

ثم جاءت طبقة أخرى من علماء الحديث انتهجت نهجا آخر ، فكتبت السنة على طريقة المسانيد ، وأساسها وحدة الراوي وإن اختلف الموضوع ، ومن أشهر المسانيد مسند الإمام أحمد.

وفي القرن الثالث الهجري جاءت طبقة أخرى ، وجدت أمامها ثروة عظيمة من الأحاديث ، فاتبعت أسلوب الانتقاء والاختيار ، فألفت ما عرف بالصحاح ، وأفردت الحديث عن غيره من فتاوى الصحابة وأقوالهم ، وفي طليعة كتب الصحاح : صحيح البخاري المتوفى سنة ٢٥٦ ه‍ ، وصحيح مسلم المتوفي سنة ٢٦١ ه‍ ، وحذا حذو البخاري ومسلم الإمام أبو داود المتوفى سنة ٢٧٥ ه‍ ، وأبو عيسى الترمذي المتوفى سنة ٢٧٩ ه‍ ، وابن ماجه المتوفى سنة ٣٠٣ ه‍ وغيرهم.

ووجد بجانب المحدثين فريق من العلماء توفروا على نقد رواة الحديث ، وجرح بعضهم وتعديل البعض الآخر ، وعرفوا بعلماء الجرح والتعديل.

قال الذهبي : أول من زكى وجرح من التابعين ـ وإن كان قد وقع ذلك قبلهم ـ الشعبي وابن سيرين ؛ حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين.

وذلك لأن الصحابة كانوا عدولا ، وكبار التابعين الآخذين عنهم كانوا ثقات ، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلا الواحد بعد الواحد ، كالحارث الأعور ، والمختار الكذاب.

فلما مضى القرن الأول ، وجاء القرن الثاني ، كان من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين كان ضعفهم من قبل تحملهم وضبطهم ، فتراهم يرفعون الموقوف ، ويرسلون كثيرا ، ولهم غلط كأبي هارون العبدي.

فلما كان آخر عصر التابعين ـ وهو حدود الخمسين ومائة ـ تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة.

وقال صالح جزرة : أول من تكلم في الرجال شعبة ، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان ، ثم أحمد وابن معين.

قال السيوطي : يعني أنه أول من تصدى لذلك ، وإلا فقد سبقهم من الصحابة والتابعين من علمت.

وألف في الجرح والتعديل أئمة في الحديث.

منهم من ألف في الضعاف كالبخاري والنسائي والعقيلي والدارقطني وغيرهم.

ومنهم من ألف في الثقات كابن حبان.

ومنهم من ألف فيهما كالبخاري وابن أبي خيثمة ، وابن أبي حاتم.

ومن أشهر علماء الجرح والتعديل : يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة ١٨٩ ه‍ ، وعبد الرحمن بن مهدي المتوفى سنة ١٩٨ ه‍ ، ويحيى بن معين المتوفى سنة ٢٣٣ ه‍ ، وأحمد بن حنبل المتوفى ٢٤١ ه‍ (١).

٤ ـ علم الفقه :

علم الفقه : هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.

ظهرت فكرة كتابة بعض الأحكام الفقهية منذ عصر النبي ... وعصر الخلافة الراشدة ، غير أننا لا نستطيع أن نقول : إن علم الفقه ظهر في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام ؛ لأن هذه الكتابات ـ وإن سلمنا بوجودها ـ لا تمثل ظاهرة عامة جديرة بأن تؤسس علما مهما كعلم الفقه له أصوله وقواعده ، وغاية الأمر أن هذه الكتابات دليل على أن مسائل علم الفقه شغلت المسلمين منذ طور مبكر ، وأنها كذلك إرهاص مؤذن لنشأة علم الفقه في مرحلة تالية ، وإن كانت هي بذاتها لا تمثل علما ولا ترقى إلى رتبته ، كما نفهم نحن مصطلح العلم من ضرورة أن يتاح له منهج في الدرس ومادة مجموعة ومسائل مرتبة وعلماء يتوفرون عليه.

إن فكرة التدوين الفقهي المنظم وليدة القرن الثاني الهجري ، حيث تدلنا المصادر

__________________

(١) ينظر في كل ذلك : تاريخ التشريع للخضري ص (١٥١ ـ ١٥٣) ، وتاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى (٢ / ٥٢ ـ ٥٥) ، وتاريخ التشريع الإسلامي ومصادره للدكتور محمد سلام مدكور ص (٢٠٦ ـ ٢٠٨).

التاريخية على أن فقهاء المدينة قاموا بجمع فتاوى ابن عمر وعائشة وابن عباس ومن بعدهم من كبار التابعين الذين ظهروا بالمدينة.

وكذلك جمع فقهاء العراق فتاوى عبد الله بن مسعود ، وقضايا علي بن أبي طالب وفتاواه ، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة.

وقد وضعت بعض المؤلفات الفقهية في هذا العصر ، فقد ألف أبو حنيفة (الفقه الأكبر) وإبراهيم النخعي (فتاوى الشيوخ وآراؤهم) ، وغيرهما.

وكانت هذه المؤلفات تجمع بين الفقه والحديث.

وهناك من ألف من الفقه مجردا عن الحديث : كمحمد بن الحسن في كتبه الستة التي جمع فيها مسائل الأصول في مذهب إمامه أبي حنيفة وهي : المبسوط ، والجامع الصغير ، والجامع الكبير ، والزيادات ، والسير الصغير ، والسير الكبير ، ومثل : المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك.

وبجانب هذين النوعين من التدوين وجد تدوين المسائل الفقهية مصحوبا بأدلتها من الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس ، مثل كتاب الأم الذي رواه الربيع عن الإمام الشافعي.

واستمر الفقه في التطور والازدهار حتى أصبح علما قائما على سوقه (١).

٥ ـ علم أصول الفقه :

لم يكن استنباط الأحكام في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدر الإسلام بحاجة إلى أكثر من الرجوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وإلى أصحابه بعد مماته ، ولكن لما بعدت الشقة بين الناس والعهد النبوي احتاج المسلمون إلى وضع العلوم وتأسيس مناهجها ، ومن هذه العلوم أصول الفقه.

وقد أخذ الإمام الشافعي على عاتقه مهمة جمع قواعد علم أصول الفقه المبثوثة في بطون الكتب ، والموجودة في سنة النبي وآثار الصحابة ، ومن قبل ذلك وبعده من القرآن الكريم.

والسبب الذي دفع الشافعي إلى كتابة علم أصول الفقه هو ما ذكره ابن خلدون حينما

__________________

(١) ينظر : تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره للدكتور محمد يوسف موسى (٢ / ٥٨) ، وتاريخ التشريع ومصادره للدكتور محمد سلام مدكور ص (٢٠٩ ـ ٢١١).

قال : «لما وجد ـ أي الشافعي ـ الخلاف والنزاع مستمرا بين فقهاء الحجاز وفقهاء العراق ، أو بين أهل الحديث وأهل الرأي ، ووجد أن أهل الرأي على جانب من قوة البحث والنظر ، وأنهم أصحاب حجاج ولسن ، وأهل جدال وشغب ، وأنهم قد أسرفوا في الطعن على أهل الحديث وأئمتهم ، والحط من قدرهم وقيمتهم ، والرد على رأيهم ومذهبهم ، ووجد كذلك أن جمهرة المحدثين ، وبخاصة من كان موجودا في العراق منهم على شيء غير يسير من الخمول والكسل ، وضعف البحث والنظر ، وفساد الاستدلال والجدل ، وأنهم غير قادرين ـ القدرة التامة ـ على الانتصار لمذاهبهم والدفاع عن آرائهم ، والرد على خصومهم ، والصمود في وجوههم ؛ بسبب عدم الإدراك الصحيح لمباحث أصول الفقه ، وسوء التمييز بين الناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، وما إلى ذلك من المباحث.

لما وجد الأمر كذلك وأدرك حقيقة ما هنالك .. وضع مؤلفا جامعا في أصول الفقه ، يعين على فهم حقائقه ، وإدراك دقائقه ، ويكوّن القدرة على الاستدلال بأدلة الشرع ، وبيان كيفية إثباتها» (١).

وقد تتابع العلماء بعد الشافعي في تدوين مسائل هذا العلم ، من هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل الذي ألف كتاب «الناسخ والمنسوخ».

٦ ـ تدوين علم النحو واللغة :

كان لاتساع الفتوحات الإسلامية ، ودخول الكثير من العجم في الإسلام ، واختلاطهم بالعرب ـ الأثر البالغ على الملكة اللسانية العربية ، فبدأ اللحن يتسرب إلى اللسان العربي ، فخاف العلماء أن يتعرض القرآن الكريم للتحريف أو ينغلق فهمه على الناس ، ومن ثم بادروا إلى وضع القواعد الضابطة للسان العربي من الانحراف وهو ما اصطلح على تسميته ب «علم النحو».

وقيل : إن أبا الأسود الدؤلي هو أول من اشتغل بعلم النحو.

وقيل : إنه تعلم أصوله عن الإمام علي (٢) ، وأن سبب التفكير في وضعه هو تسرب اللحن إلى القرآن الكريم ، ومن ثم ، وضع علم النحو.

وكانت مدرسة البصرة هي أولى المدارس النحوية نشأة وأسبقها ظهورا ، تلتها مدرسة

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون ص (٣٩٧) وما بعدها.

(٢) ينظر : مقدمة ابن خلدون ص (٥٠٢) ، والفهرست لابن النديم (ص ٦٠ ، ٦١).

الكوفة ، وقد ألف تلاميذ المدرستين تآليف كثيرة ، وتتابع الناس يكتبون في هذا العلم ؛ حتى انتهى الأمر إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد ، فهذب الصناعة ، وكمل أبوابها ، وأخذ عنه سيبويه ، فكمل تفاريعها ، واستكثر من أدلتها وشواهدها ، ووضع فيها كتابه المشهور (١).

وممن كتب في هذا الفن : الأصمعي ، وأبو عبيدة ، وأبو عمرو بن العلاء ، وجميع من ذكرت من علماء البصرة ، ومن أشهر علماء الكوفة الذين كتبوا في هذا الفن : الكسائي والفراء (٢).

وكما تسرب اللحن إلى تركيب الجملة تسرب أيضا إلى الألفاظ ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضعه ، ومن ثم وجدت الحاجة إلى معاجم تحفظ المفردات اللغوية ، حتى لا تندرس ، فيترتب على ذلك جهل بالقرآن والحديث.

ولذلك شمر علماء اللغة عن سواعدهم ، وبدءوا يجمعون الكلمات العربية ، ويحددون معانيها ، فرحلوا إلى البادية واستقوا اللغة من منابعها الأولى ، كما أخذوا عن عرب البدو الذين وفدوا إلى الحضر ، وكان من أهم مصادرهم : القرآن الكريم ، والشعر العربي الجاهلي والإسلامي الموثوق به.

وقد تم جمع اللغة على مراحل ثلاث :

المرحلة الأولى : جمع المفردات كيفما اتفق.

المرحلة الثانية : جمعت فيها الكلمات المتقاربة نوعا من التقارب ، أو ما لها موضع واحد.

المرحلة الثالثة : جمع المعاجم ، وذلك في أواخر القرن الثاني الهجري حين وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي منهج كتاب العين الذي حصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي ، والثلاثي ، والرباعي ، والخماسي ، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف عليه ، واعتمد فيه على ترتيب المخارج ، فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده حتى وصل إلى الحروف الشفوية ، وجعل أحرف العلة آخرا ، وبدأ من حروف الحلق بالعين ؛ ولذلك سمى كتابه ب «العين».

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون (ص ٥٠٢).

(٢) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٢ / ٢٩٤).

وفي القرن الثالث الهجري انتشرت المعاجم الواسعة التي سار فيها أصحابها على طريقة الخليل بن أحمد من حيث ترتيب حروف المعجم على المخارج الصوتية والابتداء بحروف الحلق (١) ، ثم انتشرت المعاجم بعد ذلك في القرون التالية مصطنعة مناهج جديدة أكثر تيسيرا ، وموجود بين أيدينا الكثير منها الآن.

٧ ـ الأدب :

تطور الأدب كثيرا في العصر العباسي ، وبخاصة الشعر ؛ حيث وجد شعراء مجددون في معاني القصيدة وديباجتها كأبي تمام ؛ مما أدى إلى وجود نهضة أدبية وشعرية يمكن أن يقال عنها : إنها فاقت العصور السابقة.

ولم ينل الأدب العناية في جمعه وتأليفه مثلما نالت اللغة ، فقد كان جمع الأدب والشعر في العصور الإسلامية الأولى قائما على الانتقاء والاختيار لا الاستقصاء والشمولية ؛ ولعل السبب في ذلك أنه لا يستطيع فرد أو أفراد أن يقوموا بذلك (٢).

وقد دون عدد من الكتب في الأدب ونقده في العصر العباسي ؛ ككتابي أدب الكاتب ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ، والكامل للمبرد ، والبيان والتبين للجاحظ ، والنوادر لأبي علي القالي ، وتعتبر هذه الكتب أركانا في الأدب وعلومه (٣).

٨ ـ التاريخ والجغرافيا :

كان الاعتماد في التاريخ ـ في بادئ الأمر ـ على السماع ، فكان العرب يتناقلون أخبارهم وسير أجدادهم شفويّا ، ولكن لما جاء القرن الثاني الهجري أخذ البحث في التاريخ وتدوينه يأخذ جانبا من اهتمام العلماء ، وانصرف اهتمام المؤرخين في أول الأمر إلى السيرة النبوية ، فكتب ابن إسحاق سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذلك في منتصف القرن الثاني الهجري ، وفي أواخر هذا القرن وضع هشام بن محمد الكلبي والواقدي كثيرا من المصنفات والرسائل التاريخية شملت العصور المختلفة ، ثم جاء ابن هشام أواخر هذا القرن وبداية القرن الثالث فكتب سيرته الشهيرة المتناقلة بين الناس.

وفي القرن الثالث تطور التاريخ تطورا كبيرا ، فوجدت المصنفات الكبيرة ، واتسعت

__________________

(١) ينظر : مقدمة ابن خلدون (ص ٥٠٣ ، ٥٠٤) ، وتاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٣٥٣) ، وضحى الإسلام (٢ / ٢٥٢).

(٢) ينظر : ضحى الإسلام (٢ / ٢٧٤).

(٣) ينظر : مقدمة ابن خلدون (ص ٥٠٨).

مادته باتساع حوادث الدولة الإسلامية ، فوجدت مؤلفات في الحوادث ، ومؤلفات في الأنساب ، ومؤلفات في تاريخ الأمم والملوك ، ومؤلفات في تاريخ الأديان : كاليهودية ، والنصرانية ، ومؤلفات في التراجم.

ومن أشهر المؤلفات في القرن الثالث : كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد المتوفي سنة ٢٣٠ ه‍ ، وكتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة المتوفي سنة ٢٧٦ ه‍ ، وكتاب فتوح البلدان للبلازري المتوفي سنة ٢٧٩ ه‍ ، وكتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري المتوفي سنة ٢٨٢ ه‍ ، وكتاب تاريخ الأمم والملوك للطبري المتوفي سنة ٣١٠ ه‍ (١).

ومعنى هذا أن القرن الثالث الهجري شهد نهضة في علم التاريخ لم تشهدها القرون السابقة وربما القرون اللاحقة ؛ حيث الاعتماد على هذه المصنفات والمؤلفات في الغالب الأعم.

أما في مجال الجغرافيا فقد بدأ التدوين فيه متأخرا عن التاريخ ، ويعتبر أبو القاسم عبيد الله بن خرداذبه الذي عاش في النصف الأول من القرن الثالث الهجري ، وهو فارسي الأصل ـ يعتبر من أقدم علماء الجغرافيا ، وقد ألف كتاب : المسالك والممالك. ثم تلاه اليعقوبي المتوفي سنة ٢٨٢ ه‍ ، وألف في ذلك كتاب : البلدان (٢).

٩ ـ علم الطب :

كان لاختلاط العرب بالعجم أثر في تنمية المعارف ، وبخاصة بعد عملية الترجمة التي ازدهرت في عصر الخليفة المأمون ، ومن العلوم التي نقلها المسلمون عن الأمم الأخرى بفضل حركة الترجمة ، علم الطب ، فنبغ عدد غير قليل من الأطباء في عصر الرشيد ، والمأمون ، والمعتصم ، وبخاصة عصر الواثق ، وكانت مهنة الطلب يزاولها في بداية الأمر غير المسلمين من اليهود والنصارى وغيرهم ، فاشتهر عصر الرشيد بختيشوع المتوفى سنة ٢٤٤ ه‍ ، وفي عهد المعتصم يحيى بن ماسويه المتوفى سنة ٢٤٢ ه‍.

وفي عهد الواثق بدأ التأليف الفعلي لعلم الطب ، فقد طلب من حنين بن إسحاق المتوفي سنة ٢٧٠ ه‍ وضع كتاب في الطب ، فألف كتابا ذكر فيه الفرق بين الغذاء والدواء وغيرها من المسائل الطبية. ثم بدأت المصنفات تترى بعد ذلك ، وبنيت المستشفيات في بغداد وغيرها.

__________________

(١) ينظر : ضحى الإسلام (٢ / ٣٤١) ، وتاريخ الإسلام (٢ / ٣٠٢ ، ٣٠٣).

(٢) ينظر : تاريخ الإسلام السياسي (٣ / ٤٠٤).

الباب الثاني

ترجمة الماتريدي

ويشتمل على عدة فصول :

الفصل الأول : اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته.

الفصل الثاني : البيئة التي نشأ فيها الماتريدي.

الفصل الثالث : شيوخه وأقرانه وتلاميذه.

الفصل الرابع : قيمة الماتريدي العلمية.

الفصل الأول

اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته

اسمه وكنيته :

الماتريدي هو : محمد بن محمد بن محمود بن [محمد](١) أبو منصور الماتريدي.

وأصل نسبته : ماتريت أو ماتريد وهي محلة من سمرقند (٢) ، وأحيانا تضاف نسبته إلى سمرقند ، فيقال : أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (٣) ، وكنيته : أبو منصور.

ألقابه :

لقّب الماتريدي بألقاب كثيرة نذكر منها : «إمام الهدى» ، و «إمام المتكلمين» ، و «مصحح عقائد المسلمين» ، و «رئيس أهل السنة» ، وهي ألقاب تومئ إلى ما له من مكانة مرموقة في نفوس مؤرخيه على قلتهم (٤) ، كما تدل على منزلته العلمية الممتازة بين أصحابه.

نسبه :

قيل : إن نسب الماتريدي يرجع إلى أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، وهذه النسبة تشريف له ، ودليل على علو قدر أسرته وشرف نسبه ؛ إذ إنها تنتهي إلى أبي أيوب الأنصاري ، وهو الذي نزل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين هاجر إلى المدينة (٥).

لهذا يذكره البياضي فيقول : الإمام أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي الأنصاري (٦).

وترجح هذه النسبة لدينا ؛ لأن أحد شيوخ الماتريدي وهو أبو نصر العياضي من نسل ابن عبادة الأنصاري ، وكذلك جاء في كتاب السمعاني أن أم القاضي الإمام أبي الحسن

__________________

(١) هذه الزيادة بعد محمود نص عليها الزبيدي في إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين فقال : وجدت لها فى بعض المجاميع زيادة محمد بعد محمود.

(٢) ينظر : تاج التراجم (ص ٢٤٩) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠) ، وديوان الإسلام (٤ / ١٧٣).

(٣) ينظر : معجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠) ، وديوان الإسلام (٤ / ١٧٣).

(٤) ينظر : الجواهر المضيّة لمحيي الدين أبي محمد عبد القادر القرشي (مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند) (٢ / ٥٦٢) ، وتاج التراجم (٢٤٩) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

(٥) ينظر : إمتاع الأسماع للمقريزي (١ / ٤٧).

(٦) إشارات المرام (ص ٢٣).

علي بن الحسن وهو من سلالة أبي أيوب الأنصاري كانت بنت الإمام أبي منصور الماتريدي ، ولا شك أن شرفاء العرب كانوا يراعون الكفاءة في الزواج في البلاد النائية (١).

والحقيقة أن كتب التراجم لا تعطينا شيئا عن أسرة الماتريدي غير ما ذكره الدكتور خليف في مقدمة تحقيق كتاب التوحيد للماتريدي ، فقد ذكر أن الأستاذ «تربتون» ذهب إلى أن مؤلف كتاب «نقض المبتدعة عن السواد الأعظم على طريقة الإمام أبي حنيفة» ـ هو أبو القاسم إسحاق بن محمد الماتريدي (٣٤٢ ه‍) وربما يكون شقيق الماتريدي ، وأنه تتلمذ على يد الإمام الماتريدي ، ولا يستبعد الدكتور خليف أن يكون تتلمذ على يده ، لكنه يستبعد أن يكون شقيقه ، ويرى أن المقصود هو القاضي أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي (٢).

ولعل الذي ذهب إليه الدكتور خليف هو الأقرب إلى الصواب ؛ إذ إن المؤرخين لا يذكرون شيئا عن هذه القرابة ، ولا يعني مجرد الاشتراك في النسبة (الماتريدي) أنهما شقيقان ؛ لأنها نسبة إلى الموطن وليست إلى العائلة أو القبيلة ، ولقد عرف أكثر من شخص بالماتريدي ، مثل القاضي الماتريدي الحسين الذي كان رفيقا لأبي شجاع وإليه انتهت رئاسة أصحاب الإمام (٣).

إذن فالباحث عن أسرة الماتريدي يجد صعوبة بالغة ، وقد لا يهتدي إلى شيء ذي قيمة ؛ نظرا لإهمال المصادر التاريخية لذلك وسكوتها عنه.

مولده :

لم تذكر المصادر التاريخية شيئا نطمئن إليه عن تاريخ مولد الماتريدي ، ولكن نستطيع أن نتلمس مولده في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري ، وعلى وجه التحديد في عهد المتوكل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ ه‍) ، وبهذا يكون مولده متقدما على مولد أبي الحسن الأشعري ببضع وعشرين سنة على الأقل ؛ إذ ولد الأشعري سنة ٢٦٠ ه‍ ، وقيل : سنة ٢٧٠ ه‍ (٤).

ويرجح كون مولده في عهد المتوكل أن هناك شيخين من شيوخه هما : محمد بن

__________________

(١) ينظر : الأنساب للسمعاني (ص ٤٩٨).

(٢) مقدمة تحقيق كتاب التوحيد للماتريدي للدكتور فتح الله خليفة.

(٣) ينظر : الجواهر المضية لأبي الوفاء القرشي (٢ / ٣٤٤).

(٤) ينظر : وفيات الأعيان (٢ / ٤٤٦).

مقاتل الرازي ، ونصير بن يحيى البلخي ، مات الأول منهما سنة ٢٤٨ ه‍ ، وتوفي الثاني سنة ٢٦٨ ه‍ (١) ؛ أضف إلى هذا أن من أقرانه من توفي سنة ٢٦٨ ه‍ وهو محمد بن عبد الله بن المغيرة بن عمرو الأزدي (٢).

ويعني هذا أن الماتريدي قد ولد قبل عام ٢٤٨ ه‍ بوقت يسمح له بتلقي العلم عن شيخه الذي مات في تلك السنة.

ومن خلال ما سبق يمكننا القول : إن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري ، أي ما بين سنة ٢٣٣ ه‍ وحتى سنة ٢٤٠ ه‍ ؛ لأنه كما سبق أن قررنا منذ قليل ـ اعتمادا على رواية وفيات الأعيان ـ أنه ولد قبل الأشعري ببضع وعشرين سنة ، وقيل في إحدى الروايات : إن الأشعري ولد سنة ٢٦٠ ه‍ ، وبضم هذه الرواية إلى الرواية الأخرى التي ذكرت أن وفاة شيخه محمد بن مقاتل كانت سنة ٢٤٨ ه‍ يتبين لنا صحة ما ذهبنا إليه ، فقد يكون سنه على أقصى تقدير يوم وفاة شيخه خمسة عشر عاما ، وعلى أدنى تقدير ثماني سنوات ، ولا يعقل أن يكون الماتريدي قد بدأ في تلقي العلم قبل الثامنة من عمره ؛ لأنه وقتها يكون صغيرا جدّا ، وعلى فرض صحة ذلك فإنه لا يكون على أيدي الشيوخ الكبار أمثال الشيخ محمد بن مقاتل ، بل يكون على أيدي شيوخ صغار ؛ حيث يبدأ الطفل في حفظ القرآن الكريم أولا ، وشيئا من الحديث والشعر العربي ، وعلى أقصى تقدير بعض مبادئ العلوم.

وفاة الماتريدي وضريحه :

اتفقت معظم كتب التراجم على أن الماتريدي توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة بعد الهجرة (٣) ، بينما ذكر صاحب كشف الظنون أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة (٤) ، ويقطع بهذا بعض المؤرخين المحدثين (٥) ، أما طاش كبرى زاده فيذكر أنه مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة (٦) ، ولكن الصحيح المشهور هو الأول وهو ما أجمع عليه أصحاب الطبقات ، وهو سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.

__________________

(١) ينظر : الطبقات السنية للتميمي (٢ / ٥٦٠).

(٢) ينظر : الجواهر المضية (٢ / ٣٣) ، والطبقات السنية (٢ / ٤٠٣).

(٣) ينظر : ديوان الإسلام (٤ / ١٧٣) ، وتاج التراجم (ص ٢٥٠) ، ومعجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

(٤) ينظر : كشف الظنون (طبعة استانبول) (٢ / ٤٠٦).

(٥) ينظر : رجال الدعوة في الإسلام لأبي الحسن الندوي (طبعة دمشق) (ص ١٣٦).

(٦) ينظر : طبقات الحنفية (ص ٢٢).

الفصل الثاني

البيئة التي نشأ فيها الماتريدي

عرفنا في الفصل السابق أن الماتريدي قد يكون ولد في العقد الرابع من القرن الثالث الهجري ، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة من الهجرة ، ومعنى هذا أن الماتريدي عاش في الفترة ما بين أواخر النصف الأول من القرن الثالث والنصف الأول من القرن الرابع ، وكان ذلك في مدينة سمرقند التي تقع في إطار الدولة السامانية ، والتي أشرنا إلى طرف من تاريخها في الفصل الثالث من الباب الأول ، وقد رأينا أن نتمم ذلك بهذه الدراسة الموجزة لمدينة سمرقند التي نشأ فيها الماتريدي.

تاريخ سمرقند :

وسمرقند ـ بفتح السين والميم ـ ويقال لها : سمران : بلد معروف مشهور ، قيل : إنه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر.

قال أبو عون : سمرقند في الإقليم الرابع ، طولها تسع وثمانون درجة ونصف ، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف.

وقال الأزهري : بناها شمر أبو كرب ، فسميت شمر كنت ، فعربت فقيل : سمرقند.

وقيل : إن سمرقند من بناء الإسكندر ، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخا ، وفيها بساتين ومزارع وأرجاء ، ولها اثنا عشر بابا ، من الباب إلى الباب فرسخ ، وعلى السور آزاج ، وأبرجة للحرب ، والأبواب الاثنا عشر من حديد ، وبين كل بابين منزل للنواب ، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض ، وفيه أبنية وأسواق (١).

صفة سمرقند :

وأيّا من كان الذي بنى مدينة سمرقند ، فإنها مدينة عظيمة ، من أعظم مدن أوزبكستان في الاتحاد السوفيتي سابقا ، وهي بلد ثري جليل عتيق ، ومصر بهي رشيق ، رضي كثير الرقيق ، وماء غزير بنهر عميق ، بناء قوي سني وثيق ، ودرس كثير لأهل الفريق ، وعيش هني إليها الطريق ، وحمل المتاع من كل فج عميق ، وعلوم كثيرة وصدر نفيق ، وخيل ورجال ومال دقيق ، ذو رساتيق جليلة ومدن نفيسة وأشجار وأنهار ، وتجار ، في الصيف

__________________

(١) ينظر : الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية للدكتورة فاطمة محجوب (دار الغد العربي) (ص ٣٩١ ، ٣٩٢) نقلا عن معجم البلدان لياقوت الحموي (٣ / ٢٤٦).

جنة ، أهل جماعة وسنة ، ومعروف وصدقة ، وحزم وهمة ، غير أن في أهلها وهوائها بردا ، جفاة مع الغرباء ، بلية في الشتاء ، يشغبون على الأمراء ، وفيهم نفخ وعجب ومراء ، جيدة الجواري ردية الغلمان (١).

وليس غريبا أن تكون سمرقند بهذا الوصف ، فقد ذكر أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن مدينة خلف نهر جيحون تدعى سمرقند ، ثم قال : لا تقولوا : سمرقند ، ولكن قولوا : المدينة المحفوظة ، فقال أناس : يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال : أخبرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة ، لها أبواب على كل باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبحون ويهللون ، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها ، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي : يا دائم ، يا دائم ، يا الله يا صمد ، احفظ هذه المدينة ، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة وخارج المدينة ماء حلو عذب ، من شرب منه شرب من ماء الجنة ، ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وخارج المدينة على ثلاث فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها ، ويدعون الله بالذكر لهم ، وخلف هؤلاء الملائكة واد فيه حيات وحية تخرج على صفة الآدميين ، تنادي يا رحمان الدنيا ورحيم الآخرة ، ارحم هذه المدينة المحفوظة ، ومن تعبد فيها ليلة تقبل الله منه عبادة سبعين سنة ، ومن صام فيها يوما فكأنما صام الدهر ، ومن أطعم فيها مسكينا لا يدخل منزله فقر أبدا ، ومن مات في هذه المدينة فكأنما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة.

وزاد حذيفة بن اليمان في رواية : ومن خلفها قرية يقال لها : قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد كل شهيد منهم في سبعين من أهل بيته (٢).

وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني (٣) ، بيد أني لم أعثر له على إسناد ولم أجده في كتب الحديث المعتمدة.

وللحق فقد كثر الواصفون لسمرقند حتى لقد استهوت الشعراء واستحفزت قريحتهم ، منهم أحد ظرفاء العراق الذي كتب :

وليس اختياري سمرقند محلة

ودار مقام لا اختيار ولا رضا

__________________

(١) ينظر : السابق (ص ٣٩١) نقلا عن كتاب أحسن التقاسيم للمقدسي (ص ٣٣٨ ، ٣٣٩).

(٢) ذكر أيضا ياقوت الحموي في معجم البلدان (٣ / ٢٨٢) وعزاه للسمعاني في الأفانين.

(٣) ينظر : الموسوعة الذهبية (ص ٣٩٤ ، ٣٩٥).

ولكن قلبي حلّ فيها فعاقني

وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا

وإني لممن يرقب الدهر راجيا

ليوم سرور غير مغرى بما مضى

وقال البستي :

للناس في أخراهم جنة

وجنة الدنيا سمرقند

يا من يسوي أرض بلخ بها

هل يستوي الحنظل والقند (١)

دخول الإسلام سمرقند :

وأول من دخل سمرقند من المسلمين وفتحها هو سعيد بن عثمان عند ما ولي خراسان من جهة معاوية سنة خمس وخمسين من الهجرة ، فقد عبر النهر ونزل عليها محاصرا ، لكنه تركها ، ومن ثم قال يزيد بن مفرغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها :

لهفي على الأمر الذي

كانت عواقبه الندامه

تركي سعيدا ذا الندى

والبيت ترفعه الدعامه

فتحت سمرقند له

وبنى بعرصتها خيامه

وتبعت عبد بني علا

ج تلك أشراط القيامه (٢)

وفي سنة سبع وثمانين من الهجرة عبر قتيبة بن مسلم الباهلي النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند ، وهي غزوته الأولى ، ثم غزا ما وراء النهر عدة غزوات في سنين سبع ، وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام ، فأخرجت إليه الأصنام وأمر بتحريقها ، فقال سدنتها : إن فيها أصناما من أحرقها هلك ، فقال قتيبة : أنا أحرقها بيدي ، وأخذ شعلة نار وأحرقها ، فاضطرمت ، فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال (٣).

ويمكن أن نقول : إن الماتريدي عاش في عصر الدولة السامانية التي وليت سمرقند ما بين ٢٦١ ـ ٣٨٩ ه‍ ، وكان ملوكها أحسن الملوك سيرة وإجلالا للعلم وأهله (٤) كما أشرنا من قبل.

لقد نشأ الماتريدي في هذه المدينة التي تتمتع بخصائص ومميزات ، سواء من ناحية طبيعتها ، أو أهلها ، أو حتى حكامها ، وهذه أمور تساعد على تحصيل العلم والبروز فيه ،

__________________

(١) ينظر : الموسوعة الذهبية (٣٩٤) ، وانظر : ميزان الأصول (١ / ٢١).

(٢) ينظر : الكامل لابن الأثير (٤ / ٢٣٤ ـ ٢٣٦) ، ومعجم البلدان لياقوت الحموي (٣ / ٢٧٩) ، وميزان الأصول (١ / ٢٢).

(٣) المرجعان السابقان ، وانظر : الموسوعة الذهبية (ص ٣٩٣) ، والبداية والنهاية (٨ / ٧٩).

(٤) ينظر : أحسن التقاسيم للمقدسي (ص ٣٣٨ ـ ٣٣٩) ، وظهر الإسلام لأحمد أمين (ص ٢٥٩).

وقد استفاد الماتريدي من مميزات نشأته في هذه البيئة فبرز في علوم شتى ، أهمها : العقيدة ، والتفسير فكان واحد عصره وإمام دهره.

موقع سمرقند الجغرافي وحدودها :

تقع سمرقند في القارة الآسيوية ، وكانت عاصمة لبلاد الصغد فيما وراء النهر ، وتقع خلف نهر جيحون على الضفة الجنوبية منه ، وتقع بخارى على الضفاف السفلى من هذا النهر ، ويتبع سمرقند مدن : كرمانة ، ودبوسية ، وأشروسنة ، والشاس ، وتخسانجكث.

ولها حصن استدارة حائطه اثنا عشر فرسخا في أعلاه أبرجة للحرب ، وكان لها أربعة أبواب : باب مما يلي المشرق يعرف بباب الصين ، مرتفع من جهة الأرض ، ينزل إليه بدرج مطل على وادي الصغد ، وباب مما يلي المغرب ويعرف بباب النوبهار ، وباب مما يلي الشمال يعرف بباب بخارى ، وباب مما يلي الجنوب يعرف بباب كش (١).

سمرقند إداريّا :

خضعت سمرقند بعد الفتح الإسلامي لحكم الدولة الأموية ، ولما سقطت الدولة الأموية صارت إلى الدولة العباسية ، حتى جاء عصر الدويلات ، فتبادلت عليها ممالك عدة ، حتى خضعت لحكم السلاجقة كسائر بلاد ما وراء النهر ، ثم خضعت للمغول حتى أجلتها الروس بعد غزوها عام ١٨٧٥ م ، فأصبحت خاضعة من الناحية الإدارية للاتحاد السوفيتي سابقا ، وهي الآن أصبحت تابعة لجمهورية أوزبكستان (٢).

الحركة الثقافية في سمرقند :

تمتعت سمرقند بمكانة علمية وثقافية مرموقة ، فقد خرج منها علماء أفذاذ في تاريخ الإسلام ، كانت لهم بصمتهم الواضحة في الفكر الإسلامي ، بل والإنساني ، من أمثال : البخاري ، ومسلم ، وأبي زيد الدبوسي ، وآل البزدوي ، والكاساني ، وعبد الله النسفي ، وأبي الحسن الكرخي ، والجصاص الرازي ، وأبي بكر الشاشي وغيرهم (٣) من قادة الفكر الإسلامي ، ممن لا يتسع المقام لذكرهم.

هذه هي البيئة التي نشأ فيها الماتريدي ، وهي بيئة ـ من غير شك ـ تساعد على مدارسة العلم وتحصيله والنبوغ فيه ، ولقد كان لها أكبر الأثر في نبوغ صاحبنا الماتريدي.

__________________

(١) ينظر : تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان (١ / ١٦٦) ، ومعجم البلدان (٣ / ٢٧٩ ـ ٢٨٠) ، وصبح الأعشى (٤ / ٤٣٦).

(٢) ينظر : تاريخ الإسلام (٤ / ٣٤ ، ٣٥) ، والمعجم الجغرافي (ص ٩).

(٣) ينظر : صبح الأعشى (٤ / ٤٣٦).

الفصل الثالث

شيوخه وتلاميذه وأقرانه

أولا : شيوخه :

إن المصادر التي تحدثت عن هذا الإمام في تلقيه للعلوم والمعارف إنما تحدثت عن الصلة القوية بمدرسة الرأي ، تلك المدرسة التي تتصل حلقاتها وتأثرها بالإمام المبجل أبي حنيفة (١) النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي المولود سنة ثمانين في حياة بعض الصحابة ، تلقى علومه على عطاء بن أبي رباح والشعبي والأعرج وابن دينار وخلق كثير ، قال فيه الإمام الشافعي : الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة ، وقال علي بن عاصم : لو وزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم ، وتوفي شهيدا سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة.

ولقد تتلمذ الشيخ أبو منصور الماتريدي على يد علماء كبار ، ذكرت منهم كتب التراجم أربعة علماء يحتلون مكانة بارزة بين أعلام الفقه الحنفي وبين علماء زمانهم وهم :

١ ـ أبو نصر العياضي :

أحمد بن العباس بن الحسين بن جبلة بن غالب بن جابر بن نوفل بن عياض بن يحيى ابن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الفقيه السمرقندي.

قال في الجواهر المضيّة عن أبي منصور الماتريدي : تخرج بأبي نصر العياضي (٢) ، وأبو نصر العياضي ينتسب إلى الأنصار الذين ينتسب إليهم الماتريدي ، وهو من أهل العلم والجهاد ، لم يكن يضاهيه لعلمه وورعه وجلادته وشهامته أحد ، استشهد وخلّف أربعين رجلا من أصحابه كانوا من أقران الماتريدي ، وله ولدان فقيهان فاضلان : أبو بكر محمد ، وأبو أحمد (٣).

__________________

(١) ينظر : طبقات خليفة (١٦٧ ـ ٣٢٧) ، تاريخ البخاري (٨ / ٨١) ، التاريخ الصغير (٢ / ٤٣) ، الجرح والتعديل (٨ / ٤٤٩ ـ ٤٥٠) ، كتاب المجروحين (٣ / ٦١) ، تاريخ بغداد (١٣ / ٣٢٣ ـ ٤٢٤) ، الكامل في التاريخ (٥ / ٥٨٥ ـ ٥٤٩) وفيات الأعيان (٥ / ٤١٥ ـ ٤٢٣) ، تهذيب الكمال (١٤١٤ ـ ١٤١٧) تذكرة الحفاظ (١ / ١٦٨) ، ميزان الاعتدال (٤ / ٢٦٥) ، العبر (١ / ٣٢١) ، مرآة الجنان (١ / ٣٠٩) ، البداية والنهاية (١٠ / ١٠٧) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٤٤٩ ـ ٤٥٢).

(٢) ينظر : الجواهر المضية (٣ / ٣٦٠) ، وتاج التراجم (ص ٢٥٠).

(٣) ينظر : الجواهر المضية (١ / ١٧٧ ـ ١٧٨) ، وأعلام الأخيار ص ١١٦.

وذكره أبو المعين النسفي في كتابه «التبصرة» قائلا : كان أبو نصر العياضي يحرص أشد الحرص على جهاد أعداء الله الكفرة ، وكان من أشجع أهل زمانه وأربطهم جأشا وأشدهم شكيمة ، وكان في العلم بحرا لا يدرك قعره ، أما في الفروع والأصول فلا يدانيه غيره ، ومن نظر في كتابه المصنف في مسألة الصفات ، وما أتى فيه من الدلائل على صحة قول أهل الحق وبطلان قول المعتزلة عرف تبحره في ذلك.

وقال أبو القاسم الحكيم السمرقندي : ما أتى الفقيه أبا نصر العياضي أحد من أهل البدع والأهواء ، وأولى الجدال والمراء في الدين بآية من القرآن يحتج بها عليه لمذهبه ـ إلا تلقاها أبو نصر العياضي مبتدئا بما يفحمه ويقطعه.

وقد تفقه أبو نصر العياضي على الإمام أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني ، تلميذ سليمان بن موسى الجوزجاني ، وتفقه عليه جماعة منهم ولداه (١).

٢ ـ أبو بكر أحمد الجوزجاني :

الجوزجاني من رجال القرن الثالث الهجري ، روى عنه أبو منصور الماتريدي (٢) ، وقد تتلمذ أبو بكر أحمد الجوزجاني على أبي سليمان الجوزجاني ، وكان في أنواع العلوم في الذروة العالية ، ومن مصنفاته : (الفروق) ، و (التمييز) ، و (التوبة) وغيرها.

٣ ـ محمد بن مقاتل الرازي :

محمد بن مقاتل هو قاضي الري ، روى عن أبي مطيع ، وقال الذهبي : إنه حدث عن وكيع وطبقته.

وقيل : تفقه على أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي (٣).

٤ ـ نصير بن يحيى البلخي :

وقد تفقه على الإمام أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني ، وأبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي ، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي (٤).

ونظرة عامة إلى شيوخ الماتريدي تبين لنا أنهم جميعا يرجعون في علمهم إلى الإمام أبي حنيفة ، فأبو بكر الجوزجاني ونصير البلخي تفقها على الإمام سليمان بن موسى بن

__________________

(١) ينظر : الجواهر المضية (١ / ١٧٧).

(٢) ينظر : الطبقات السنية (خ) ص ١٧٧٠.

(٣) ينظر : الفوائد البهية (٢ / ١٢٥) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٢ / ٥).

(٤) ينظر : المصادر السابقة.

سليمان الجوزجاني الذي تفقه بدوره على أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني تلميذي أبي حنيفة ، كما أن محمد بن مقاتل الرازي ونصيرا البلخي قد تفقها على الإمامين : أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي ، وأبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي اللذين تفقها على الإمام أبي حنيفة ، وأخذ محمد بن مقاتل أيضا عن محمد بن الحسن (١).

ويدلنا ذلك على أن أساتذة الماتريدي وشيوخه يتبعون في الفقه مذهب أبي حنيفة ، ومن ثم فهو يعتبر متخرجا من مدرسة أبي حنيفة وعلى يد أعلام المذهب الحنفي ، ولا أدل على ذلك من أنه كان يتبع المذهب الحنفي في الفقه ، وبلغ فيه شأوا عظيما بين أقرانه.

وفيما يلي نبين في عجالة أبرز الصلات بين أبي حنيفة والماتريدي ، وهي صلات علمية ومذهبية وكلامية.

وأول هذه الصلات ما نراه عند الماتريدي من آراء أبي حنيفة الكلامية ، فقد كان لأبي حنيفة آراء كلامية ، فلقد روي عنه في علم الكلام موقفان :

الأول : يروى أن أبا حنيفة نظر في علم الكلام في مبدأ طلبه للعلم ، وبلغ في معرفة أصوله ومذاهبه مبلغا عظيما حتى غدا يشار إليه بالبنان ، فمضى عليه زمن يخاصم عنه ويناضل ؛ حتى دخل البصرة ؛ لأن أكثر الفرق بها ، وأخذ ينازع تلك الفرق ؛ لأنه كان يعد الكلام أرفع العلوم وأفضلها ؛ لكونه في أصول الدين (٢).

أما الموقف الثاني : فيتمثل في انصراف الإمام أبي حنيفة عن الكلام وانشغاله بالفقه الذي ذاع صيته فيه ، واشتهر به ، ولقد ذكر عنه أنه نهى عن الخوض في علم الكلام والاشتغال به ، وأنه ذكر أن الصحابة والتابعين لم يكونوا يشتغلون بعلم الكلام مع أنهم عليه أقدر وبه أعرف ، بل نهوا عنه أشد النهي ، ولم يخوضوا إلا في الشرائع وأبواب الفقه وتعليم الناس ، ومن ثم انصرف أبو حنيفة عن الكلام إلى الفقه.

ويمكن القول : إن الماتريدي قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية التي دونها في رسائله : كالفقه الأكبر ، والفقه الأوسط ، والعالم والمتعلم ، ورسالته إلى أبي مسلم ، وهي رسائل صغيرة ، اشتملت ـ وخاصة رسالة الفقه الأكبر ـ على بيان عقيدة أهل التوحيد ، وما يصح الاعتقاد عليه ، وبعض الأدلة لبعض القضايا الكلامية ، ونفى الإرجاء.

__________________

(١) ينظر : إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٢ / ٥).

(٢) ينظر : الخيرات الحسان في مناقب الإمام الأعظم للهيثمي المكي (ص ٢٧) ، وإشارات المرام للبياضي (ص ١٩).

ولا يغيب عنا في هذا المقام مناظرات أبي حنيفة مع المخالفين في العقيدة.

ولما انصرف أبو حنيفة إلى الفقه استفاد منه الماتريدي أيضا ، غير أن هناك قضايا كلامية كثيرة نشبت ولم يبد أبو حنيفة فيها رأيا أو جاءت بعد عصره ، فخاض فيها الماتريدي ونقد آراء المخالفين ، وعالج قضايا لم تكن موجودة مثل قضية المعرفة ، كما كتب بحثا تفصيليّا عن الصفات وإثبات التوحيد ، واستخدام العقل في ذلك ، كذلك كان علم الكلام غير مقبول عند أهل السنة قبل الماتريدي ، فجاء الماتريدي وأسس منه علما قائما على سوقه يلقى تأييدا ويجد قبولا لدى علماء أهل السنة (١).

وخلاصة القول : إنه إذا كان يرجع لأبي حنيفة الفضل في القيام بأول محاولة لإقامة مذهب كلامي على اعتقاد أهل السنة ، فإن للماتريدي فضل إقامة مذهب متكامل أيده بالحجة والبرهان للتعبير عن اعتقاد أهل السنة ، ولكن يبقى الماتريدي منتسبا إلى أبي حنيفة ومدرسته.

ثانيّا : تلاميذه :

قد تتلمذ على يد الشيخ أبي منصور الماتريدي كثيرون ، صاروا شيوخا وعلماء كبارا ، وأسهموا في نهضة الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في العالم الإسلامي.

ومن هؤلاء الذين تخرجوا بأبي منصور الماتريدي :

١ ـ إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن زيد ، أبو القاسم القاضي الحكيم السمرقندي.

قال عنه أبو سعد السمعاني : روى عن عبد الله بن سهل الزاهد ، وعمرو بن عاصم المروزي ، وتفقه بأبي منصور الماتريدي (٢).

وقد تولى إسحاق قضاء سمرقند أياما طويلة ، وحمدت سيرته ، ولقب ب «الحكيم» ؛ لكثرة حكمته ومواعظه (٣).

وروى عنه عبد الكريم بن محمد الفقيه السمرقندي في جماعة (٤).

وقد توفي ـ رحمه‌الله ـ في شهر المحرم يوم عاشوراء ، سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة

__________________

(١) ينظر : مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده (٢ / ١٥٤ ـ ١٥٧).

(٢) ينظر : الجواهر (١ / ٣٧١ ، ٣٧٢) ، والطبقات السنية (٢ / ١٥٨).

(٣) ينظر : السابقان.

(٤) ينظر : السابقان.

بسمرقند ، ودفن بها (١).

وذكر صاحب الطبقات السنية آخر يسمى إسحاق بن محمد أبو القاسم المعروف ب «الحكيم السمرقندي» ، ثم قال : أخذ عن الماتريدي الفقه والكلام ، ثم قال : ذكره في الجواهر ، وقال : أظنه الذي قبله (٢).

والراجح أنهما شخص واحد ؛ لأمرين :

الأول : تطابق الاسمين.

الثاني : أن الشيخ المأخوذ عنه في كلتا الحالتين هو الماتريدي.

وقد جمع صاحب الفوائد البهية في ترجمة الحكيم السمرقندي بين ما ورد فيها في الجواهر المضيّة وما جاء في الطبقات (٣).

٢ ـ عبد الكريم بن موسى بن عيسى أبو محمد الفقيه البزدوي النسفي. قال عنه في الطبقات : تفقه على الإمام أبي منصور الماتريدي ، وسمع من منصور أبي طلحة البزدوي صاحب البخاري ، وبالبصرة من أبي علي اللؤلؤي ، وحدث ، وكان زاهدا مفتيا ، روى عنه أهل سمرقند.

وقد توفي ـ رحمه‌الله ـ في شهر رمضان سنة تسعين وثلاثمائة (٤).

٣ ـ أبو عبد الرحمن بن أبي الليث البخاري :

قال عنه في الجواهر : صاحب أبي القاسم إسحاق بن محمد المعروف ب «الحكيم» (٥) ، وأستاذهما أبو منصور الماتريدي ، وعنه أخذ علم الكلام والفقه (٦). ولم نعرف له سنة وفاة.

ثالثا ـ أقرانه :

ومن أقران الماتريدي الذين صاحبوه في أثناء رحلته لطلب العلم وزاملوه :

١ ـ علي بن سعيد ، أبو الحسن الرّستغفنيّ ، وهو من كبار مشايخ سمرقند ، ومن

__________________

(١) ينظر : السابقان.

(٢) ينظر : الطبقات السنية (٢ / ١٥٩).

(٣) ينظر : الفوائد البهية (ص ٤٤).

(٤) ينظر : الطبقات السنية (٤ / ٣٧٨).

(٥) سبقت ترجمته في أوائل التلاميذ رقم (١).

(٦) ينظر : الجواهر (٤ / ٦٥).

أصحاب الماتريدي الكبار ، وله ذكر في الفقه والأصول في كتب أهل الطبقات ، وهو منسوب إلى إحدى قرى سمرقند.

ولعلي بن سعيد عدة مؤلفات ، منها : «إرشاد المهتدي» ، و «الزوائد والفوائد» (١).

وقد وقع خلاف بينه وبين الماتريدي حول مسألة المجتهد إذا أخطأ في إصابة الحق : فهو عند أبي منصور يكون مخطئا في الاجتهاد ، وعند أبي الحسن يكون مصيبا فيه (٢).

٢ ـ محمد بن أسلم بن مسلمة بن عبد الله بن المغيرة بن عمرو بن عوف الأزدي ، وكنيته : أبو عبد الله ، ولي قضاء سمرقند في أيام نصر بن أحمد بن أسد بن سامان الكبير (٣).

وقد توفي في شهر ربيع الآخر ، سنة ثمان وستين ومائتين (٤).

٣ ـ محمد بن اليمان ، وكنيته : أبو بكر ، الملقب بالسمرقندي الإمام ، قال عنه في الجواهر : من طبقة الماتريدي. صاحب كتاب «معالم الدين» ، وله كتاب «الرد على الكرامية» (٥).

ومن خلال دراسة شيوخ الماتريدي وتلاميذه وأقرانه نتبين أن بيئة الماتريدي كانت غاصّة بالعلماء الكبار من ذوي القدر والسبق ، كما يتضح لنا طبيعة الحياة العلمية والفكرية والثقافية الحافلة التي كان يعيشها هذا العالم الجليل أبو منصور الماتريدي ، ومدى ما بلغته من نضج وازدهار.

* * *

__________________

(١) ينظر : الجواهر (٢ / ٥٧٠) ، وتاريخ جرجان (الزيادات التي استدركها السهمي من تاريخ أسترآباذ) (ص ٤٨٨).

(٢) ينظر : الجواهر (٢ / ٥٧١).

(٣) هو نصر بن أحمد بن أسد بن سامان ، صاحب سمرقند والشاش وفرغانة ، المتوفى سنة تسع وسبعين ومائتين. ينظر : الكامل (٧ / ٤٥٦) ، والنجوم الزاهرة (٣ / ٨٣ ، ٨٤).

(٤) الجواهر المضية (٣ / ٩٢) الطبقات السنية برقم (١٨٩٧).

(٥) ينظر : الجواهر (٣ / ٤٠٠) ، تاج التراجم (٦٨) الفوائد البهية (٢٠٢).

الفصل الرابع

قيمة الماتريدي العلمية

تبين لنا مما سبق أن الماتريدي تعلم على أيدي علماء كبار ينتسبون إلى أبي حنيفة ، وأنه قد استفاد من آراء أبي حنيفة الكلامية ، ولكنه لم يكن مجرد شارح ومفصل لطريقة أبي حنيفة ، بل كان مبتكرا ، له منهجه الخاص به ومذهبه المغاير للمذاهب الكلامية الشائعة آنذاك ، ومن ثم فإن علم الكلام استوى على سوقه على يد الماتريدي.

ولكي نتعرف قيمة الماتريدي العلمية لا بد أن نعرض لأمرين :

أولا : مصنفاته :

لم يكن الماتريدي متكلما فحسب ، بل كان فقيها مفسرا ، ولعل أبرز ما يدل على علمه الواسع تلك الآثار والمصنفات الجليلة التي خلفها لنا ، وهي على النحو الآتي :

١ ـ مصنفاته في التفسير والتأويل :

وفي هذا المجال ذكرت له كتب الطبقات كتابا يسمى : «تأويلات أهل السنة» ذكره بهذا العنوان صاحب كتاب كشف الظنون (١) وهو الكتاب الذي نقدم له ونقوم بتحقيقه.

وقد عنونت له نسخة كوبريلي ب «تأويلات أبي منصور الماتريدي في التفسير» ، ويقول السمرقندي في مقدمة شرح هذا الكتاب : كتاب التأويلات المنسوب إلى الشيخ إمام الملة أبي منصور محمد بن أحمد الماتريدي السمرقندي (٢).

وذكره أصحاب التراجم والطبقات تحت عنوان «تأويلات القرآن» ، وتحمله نسخ موجودة في تركيا وألمانيا ودمشق والمدينة المنورة وطشقند والمتحف البريطاني (٣).

وذكر صاحب كشف الظنون كتابا آخر يحمل عنوان : (تأويلات الماتريدية في بيان أصول أهل السنة وأصول التوحيد) ، جاء في وصفه له أنه أخذه عنه أصحابه المبرزون تلقفا ؛ ولهذا كان أسهل تناولا من كتبه ، جمعه الشيخ الإمام علاء الدين محمد بن أحمد ابن أبي أحمد السمرقندي صاحب «تحفة الفقهاء» في ثمانية مجلدات (٤).

__________________

(١) ينظر : كشف الظنون لحاجي خليفة (طبعة استانبول) (١ / ٣٣٥).

(٢) ميكروفيلم ، بمكتبة جامعة الدول العربية تحت رقم (٣١٢٩).

(٣) انظر : تاريخ المخطوطات العربية لفؤاد سزكين.

(٤) ينظر : كشف الظنون (١ / ٣٣٦).

وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) غير كتاب (تأويلات الماتريدية) عند حاجي خليفة صاحب كشف الظنون.

وبمراجعة بعض نسخ التأويلات المنسوبة للماتريدي تبين لنا :

١ ـ أن نسخة دار الكتب المصرية التي تحمل عنوان (تأويلات أهل السنة) (١) ينقص منها الورقة الأولى ، ولكن الثانية توافق ما يقابلها من نسخة كوبريلي.

٢ ـ أن نسخة مكتبة علي باشا كاملة غير أنها لا تذكر شيئا عن المؤلف ، وتحمل اسم (تأويلات القرآن) ، وتبين من المراجعة أن نسختي دار الكتب المصرية ونسخة مكتبة علي باشا مأخوذتان عن كتاب واحد ، والخلاف فقط في التسمية.

ويتضح من هذا أن هاتين النسختين هما كتاب واحد ، فالاختلاف بينهما لا يعدو الاختلاف في الاسم ، وهو للماتريدي.

أما (تأويلات الماتريدية) الذي ذكره صاحب كشف الظنون ، وذكر أن تلامذته تلقفوه عنه ، فهو على ما ذكر حتى وإن أسند في بعض نسخه إلى الماتريدي ؛ لأنه أسهل تناولا من كتبه المصنفة ، كما يؤكد ذلك مراجعة نسخة دار الكتب المصرية على الجزء الأول من نسخة (تأويلات الماتريدية).

أما ما ذكره الشيخ علاء الدين في مقدمته من أن الكتاب المسمى ب (تأويلات القرآن أو تأويلات أهل السنة) ليس مما صنفه الماتريدي بنفسه وإنما أخذه عنه أصحابه تلقفا ، فهذا يخالف ما ذكرناه سابقا ، ويخالف ما يقرره الواقع ، وما تكشفه الموازنة بين أسلوب الكتاب وكتاب التوحيد الذي اتفق المؤرخون جميعا على أنه من تأليف الماتريدي ، أضف إلى هذا أن وحدة المنهج ووحدة الأسلوب تكشفان عن أن الكتاب من عمل واحد لا جماعة.

وعلى هذا فكتاب (تأويلات أهل السنة) الذي نقوم بتحقيقه هو لأبي منصور الماتريدي السمرقندي.

٢ ـ مصنفاته في علم الكلام :

صنف الماتريدي ـ رحمه‌الله ـ عدة كتب في مجال علم الكلام ذكرتها المصادر (٢) ،

__________________

(١) مخطوط تحت رقم (٦) تفسير.

(٢) ينظر : تاج التراجم (٢٤٩ ، ٢٥٠) ، والفوائد البهية في تراجم الحنفية (١٩٥) ، معجم المؤلفين (١١ / ٣٠).

منها :

ـ كتاب : (التوحيد) مخطوط بمكتبة جامعة كامبردج ، رقم ٣٩٨ ، ٣٦٥١ وقد طبع بمطبعة الجامعة بتحقيق الدكتور / خليف.

ـ كتاب : (المقالات) مخطوط في مكتبة كيرولو باستانبول ، رقم ٨٥٦ ، وهناك نسخة ناقصة منه بمكتبة إيمنينول باستانبول. أيضا.

ـ كتاب : (الرد على القرامطة).

ـ كتاب : (بيان وهم المعتزلة).

ـ كتاب : (رد الأصول الخمسة لأبي محمد الباهلي).

ـ كتاب : (رد أوائل الأدلة للكعبي).

ـ كتاب : (رد وعيد الفساق للكعبي).

ـ كتاب : (رد تهذيب الجدل للكعبي).

ـ كتاب : (رد الإمامة لبعض الروافض).

ولقد زاد بروكلمان كتاب (الأصول) في قائمة كتب الماتريدي ، وذكر أنه لمؤلف مجهول ، وذكر أيضا أن كتابي (التوحيد) و (المقالات) هما كتاب واحد ، بيد أنه أشار في الهامش إلى أنهما كتابان مستقلان في فهارس المرتضى (١).

ولم يحفظ لنا الزمان من هذه الكتب سوى كتاب (التوحيد) وكتاب (المقالات) ، وكتاب (التوحيد) صحيح النسبة إلى الماتريدي ، ذكرته كل كتب التراجم قديما وحديثا.

٣ ـ مصنفاته في الفقه وأصوله :

ذكرت كتب الطبقات للماتريدي في هذا المجال كتابين : كتاب (الجدل) ، وكتاب (مآخذ الشرائع) (٢).

وهذان الكتابان لهما أهميتهما ومكانتهما في أصول الفقه بين أتباع المذهب الحنفي ، فيذكر الإمام علاء الدين الحنفي في ميزان الأصول : أن تصانيف أصحابنا قسمان :

قسم وقع في غاية الإحكام والإتقان ؛ لصدوره ممن جمع الأصول والفروع ، مثل

__________________

(١) ينظر : تاريخ الأدب العربي (٤ / ٤٢ ، ٤٣).

(٢) ينظر : تاريخ التراجم (٢٥٠) ، الفوائد البهية (١٥٩) ، مفتاح السعادة (٣ / ٢٢) ، معجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

(مآخذ الشرائع) وكتاب (الجدل) للماتريدي ونحوهما.

وقسم وقع في نهاية التحقيق والمعاني وحسن الترتيب ، ويذكر الإمام علاء الدين أنه قد هجر القسم الأول ؛ لقصور الهمم والتواني ، واشتهر القسم الآخر (١).

ولم يقع لنا شيء من هذين المؤلفين ، غير أن بعض كتب الأصول قد نقلت عنهما ، فقد جاء في كتاب كشف الأسرار على أصول البزدوي في أثناء الحديث عن خبر الواحد إذا خالف عموم الكتاب أو ظاهره ، وبيان الآراء في صحة تخصيص هذا العموم به : «وعند العراقيين من مشايخنا والقاضي والإمام أبي زيد ومن تابعه من المتأخرين : لما أفادت عمومات الكتاب وظواهرها اليقين كالنصوص ، والخصوصات لا يجوز تخصيصها ومعارضتها به. فأما من جعلها ظنية من مشايخنا مثل الشيخ أبي منصور ومن تابعه من مشايخ سمرقند ، فيحتمل أن يجوز تخصيصها به» (٢).

وجاء في بدائع الصنائع في أثناء استنباط أوقات الصلوات الخمس من قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم : ١٧ ـ ١٨] : «قال الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي : إنهم فهموا من هذه الآية فرضية الصلوات الخمس ، ولو كانت أفهامهم مثل أفهام أهل زماننا ، لما فهموا منها سوى التسبيح المذكور» (٣).

٤ ـ كتب أخرى :

ذكر فؤاد سزكين أن للماتريدي رسالة فيما لا يجوز الوقف فيه في القرآن (٤) ، وهي رسالة صغيرة الحجم ، مودعة بدار الكتب المصرية برقم ٣٨٤ قراءات ، وعدد صفحاتها خمس ، وتدور حول بيان المواضع التي لا يجوز الوقف عليها في قراءة القرآن ، وفيما لو تعمد الواقف عليها الوقف بأنه يكفر ، ولو وقف ساهيا فسدت صلاته ، وقد بينها الماتريدي ـ إن صحت نسبتها إليه ـ في اثنين وخمسين موضعا في القرآن.

وهذه الرسالة لم يذكرها أحد للماتريدي سوى سزكين ، ومع هذا فلا يستبعد أن تكون له ؛ لأن الماتريدي كان دائم الاهتمام بالقرآن وتأويله وبيان أحكامه.

__________________

(١) ينظر : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (١١٣ ، ١١٤).

(٢) ينظر : كشف الأسرار على أصول الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي (٣ / ٩).

(٣) ينظر : بدائع الصنائع (١ / ٨٩ ، ٩٠).

(٤) ينظر : تاريخ التراث العربي (الترجمة العربية) (٤ / ٣٧٨).

وذكر له بروكلمان أيضا كتاب (مقتطفات في الوعظ) (١) ، ولم يذكره للماتريدي أحد سوى بروكلمان فيما نعلم من كتب الطبقات.

٥ ـ كتب نسبت إلى الماتريدي :

ومن الكتب المنسوبة إلى الماتريدي :

١ ـ كتاب : «شرح الفقه الأكبر» (٢) وهو مطبوع في حيدرآباد سنة ١٣٦٥ ه‍ ، ذكره فيننسك ، وذكر أنه راجع بعض النسخ المخطوطة لهذا الشرح فلم يجد فيها التصريح بنسبته إلى الماتريدي ، ورجح أن السبب في هذه النسبة وقوع بعض أقوال الماتريدي فيه ، وأيد هذا الشيخ أبو زهرة في كتابه عن أبي حنيفة ، واستند في ذلك إلى الخلاف مع آراء الأشعرية ، والمذهب الأشعري لم يتم إلا بعد الجيل الذي تلا وفاة الأشعري. ومن ثم يترجح أن نسبة هذا الشرح إلى الماتريدي نسبة غير صحيحة.

٢ ـ كتاب العقيدة ، ومنه نسخة بدار الكتب المصرية مخطوطة تحت رقم (١٤٧) تيمور عقائد ، وينفي نسبته للماتريدي السبب السابق نفسه في نفي نسبة كتاب (شرح الفقه الأكبر) إليه ؛ إذ اشتمل الكتاب على الخلاف بين الأشعرية والماتريدية.

٣ ـ كتاب (شرح الإبانة) (٣) ، وهي نسبة غير صحيحة ؛ لافتقارها إلى السند ، كذلك لم نر أحدا نسب هذا الكتاب إلى الماتريدي من أصحاب كتب الطبقات ، سواء القدماء أو المحدثون ، كذلك لم يرد أن كتاب (الإبانة للأشعري) وصل إلى بلاد ما وراء النهر في عصر الماتريدي.

إذن فنسبة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذا الكتاب إلى الماتريدي غير صحيحة.

وهذه الكتب التي ذكرتها كلها مخطوطة باستثناء كتاب التوحيد ، بل إن معظم هذه الكتب مفقود.

ثانيا : ثناء العلماء على الماتريدي :

ليس غريبا ـ بعد هذا كله ـ أن يثني العلماء على الماتريدي ثناء عظيما ، ولقد رأينا كيف لقبوه بألقاب هو لها أهل ، فقد لقبوه ـ كما ذكرنا ـ بإمام الهدى ، وإمام المتكلمين ، ومصحح عقائد المسلمين وغيرها.

__________________

(١) ينظر : تاريخ الأدب العربي (الترجمة العربية) (٤ / ٤٣).

(٢) ينظر : معجم المؤلفين (١١ / ٣٠٠).

(٣) ينظر : العقيدة الماتريدية (رسالة دكتوراه مخطوطة) للدكتور علي أيوب (٢٦٠).

ولن نحصي ما أثنى عليه به العلماء ، ومن ثم نقتطف بعض الومضات الكاشفة عن تقدير العلماء له والمبرزة لمكانته العالية عندهم.

ففي الفواكه الدواني يأتي الماتريدي وأبو الحسن الأشعري على رأس علماء أهل السنة ، فيقول : «كذلك عند أهل السنة وإمامهم أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي» (١).

قال صاحب النشر الطيب على شرح الشيخ الطيب الوزاني عند كلامه عن الماتريدي : «وكان معاصرا للأشعري ، وسبقه إلى نصرة أهل السنة» (٢).

والفرقة الناجية ـ كما يرى بعض العلماء ـ هم الأشاعرة مع الماتريدية الذين تابعوا في الأصول علم الهدى الشيخ أبي منصور الماتريدي (٣).

ويراه بعضهم رئيس مشايخ سمرقند ، قال صاحب كشف الأسرار : «وهو مذهب مشايخ سمرقند ، رئيسهم الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي رحمهم‌الله» (٤).

وقال عنه التميمي : إنه قد فاق الأقران وتجمل به الزمان ، وشاعت مؤلفاته ، وسارت مصنفاته ، واتفق الموافق والمخالف على علو قدره وعظمة محله ، فإنه كان من كبار العلماء الأعلام الذين بعلمهم يقتدى وبنورهم يهتدى.

قال التفتازاني : إن المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري ، أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة.

وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ، وهو محمد بن محمد ، كان يلقب بإمام الهدى (٥).

ويقول أبو معين النسفي في التبصرة : ولو لم يكن في الحنفية إلا الإمام أبو منصور الماتريدي الذي غاص في بحور العلم ، واستخرج دررها وأتى حجج الدين ، فزين

__________________

(١) ينظر : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (١ / ١٥).

(٢) ينظر : الفواكه الدواني (٢ / ١٠٣) ، حاشية الجمل على المنهج (٥ / ٣٨٧) ، وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي (٢ / ٤٩٢) ، والزواجر عن اقتراف الكبائر (١ / ١٦٥).

(٣) ينظر : فتوح الوهاب (السابق) (٥ / ٣٨٧) ، ورد المحتار على الدر المختار (١ / ٤٣) ، وبدائع الصنائع (١ / ٣٧ ، ١٣٥).

(٤) ينظر : كشف الأسرار (١ / ٢٩٧).

(٥) ينظر : الروضة البهية ص ٤٠٣.

بفصاحته ، وغزارة علومه ، وجودة قريحته غررها ، حتى أمر الشيخ أبو القاسم الحكيم السمرقندي أن يكتب على قبره حين توفي : هذا قبر من حاز العلوم بأنفاسه واستنفد الوسع في نشره وأقياسه ، فحمدت في الدين آثاره ... اجتمع عنده وحده من أنواع العلوم الملية والحكمية ما يجتمع في العادات الجارية في كثير من المبرزين المحصلين ؛ ولهذا كان أستاذه أبو نصر العياضى لا يتكلم في مجالسه ما لم يحضر ، وكان كل من رآه من بعيد نظر إليه نظر المتعجب وقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ)(١) [القصص : ٦٨].

ويذكر أيضا أنهم قالوا في تقديره : كان من أكابر الأئمة وأوتاد الملة.

وقال الكفوي في ترجمته : إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين ، نصره الله بالصراط المستقيم ، فصار في نصرة الدين القويم ، صنف التصانيف الجليلة ، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة.

قال صاحب الروضة البهية : اعلم أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة على كلام قطبين : أحدهما : الإمام أبو الحسن الأشعري ، والثاني : الإمام أبو منصور الماتريدي ، فكل من اتبع واحدا منها اهتدى وسلم من الزيغ والفساد في عقيدته (٢).

وقال العلامة الدردير : واشتهر الأشاعرة بهذا الاسم ـ أي أهل السنة ـ في ديار خراسان والعراق والحجاز والشام وأكثر الأقطار. وأما ديار ما وراء النهر فالمشهور فيها بهذا الاسم هو أبو منصور الماتريدي وأتباعه المعرفون بالماتريدية ، وكلام الفريقين على هدى ونور (٣).

وفي مفتاح السعادة : إن رئيس أهل السنة والجماعة في علم الكلام رجلان : أحدهما : حنفي ، والآخر : شافعي ، أما الحنفي : فهو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي إمام الهدى ... وأما الآخر الشافعي : فهو شيخ السنة ورئيس الجماعة إمام المتكلمين ، وناصر سنة سيد المرسلين والذاب عن الدين ، والساعي في حفظ عقائد المسلمين أبو الحسن الأشعري البصري(٤).

ويرى الشيخ محمد زاهد الكوثري : أنه إذا أطلق أهل السنة فالمراد بهم الأشاعرة

__________________

(١) ينظر : تبصرة الأدلة (١ / ٣٩٢).

(٢) ينظر : الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية (١١٧٢).

(٣) ينظر : شرح الخريدة البهية ص (١٠٢).

(٤) ينظر : مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده ج ٢ ص ١٥١.

والماتريدية ، وعند التحقيق والاستقراء ثلاث طوائف :

الأولى : أهل الحديث ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية من الكتاب ، والسنة ، والإجماع.

الثانية : أهل النظر العقلي وهم الأشعرية ، والحنفية ، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي.

الثالثة : أهل الوجدان والكشف ، وهم الصوفية ومبادئهم هي مبادئ أهل النظر والحديث في البداية ، والكشف والإلهام في النهاية (١).

وقد ذكر العلامة البغدادي : أن أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث ، وأخرج من هؤلاء الحشوية الذين يشترون لهو الحديث ، ومن أهل السنة فقهاء هذين الفريقين ـ الرأي والحديث ـ وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث.

ويقول الزبيدي عن الماتريدي في شرحه على الإحياء : وحاصل ما ذكروه أنه كان إماما جليلا مناضلا عن الدين مجليا لعقائد أهل السنة ، قطع المعتزلة وذوى البدع في مناظراتهم ، وخصمهم في محاوراتهم حتى أسكتهم (٢).

وقال عنه صاحب إشارات المرام العلامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي ـ من علماء القرن الحادي عشر الهجري ـ : «وحقق الأصول في كتبه بقواطع الأدلة ، وأتقن التفاريع بلوامع البراهين اليقينية».

فالماتريدي على هذا محقق مدقق ، قال الكوثري يصف تدقيقه وتحقيقه : إلى أن جاء إمام أهل السنة فيما وراء النهر أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي المعروف بإمام الهدى ، فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها ، فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد (٣).

يدلنا هذا كله على مكانة الماتريدي العالية ، وقدمه الراسخة في العلم ، وذيوع شهرته ، ومحبة العلماء له ، واقتدائهم به ، وأخذهم عنه ، فرحم الله ـ تعالى ـ الشيخ الماتريدي لقاء ما قدمه للعقيدة الإسلامية الصحيحة من جهود مشكورة في الذب عنها ، ودحض شبه المغرضين حولها.

__________________

(١) ينظر : تعليق الكوثري على إشارات المرام للبياضي ص ٢٩٨.

(٢) ينظر : إتحاف السادة المتقين للزبيدي (٢ / ٥).

(٣) ينظر : مقدمة إشارات المرام (ص ٦ ، ٧).

الباب الثالث

الفرق والمذاهب الإسلامية

ويشتمل على الفصلين الآتيين :

الفصل الأول : الفرق السياسية.

الفصل الثاني : المذاهب الاعتقادية.

الفصل الأول

الفرق السياسية

السياق التاريخي لنشأة الفرق الإسلامية :

إن الحديث عن الفرق الإسلامية ومذاهبها السياسية وآرائها العقدية يمت بأوثق الأسباب للأحداث السياسية التي ألمت بالمجتمع الإسلامي منذ وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما شجر بين المسلمين من وجوه الخلاف حول بعض المسائل التي طرأت بعد رحيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعظم مسألة نشب فيها الخلاف ووقع التخاصم والنزاع بسببها بين المسلمين هي مسألة الإمامة أو الخلافة العظمى ، بحيث يصح لنا أن نزعم أن مدار الخلاف بين المسلمين وما انبنى عليه من ظهور الفرق المتباينة في الأصول تباينها في الفروع ـ على الإمامة.

ومن الحق أن نقرر أن الفرق التي نزعت في أول أمرها منزعا سياسيّا ، وخرجت إلى الوجود من رحم الأحداث السياسية نفسها ، لم تلبث أن صارت لها آراء في الأصول الاعتقادية والفروع الفقهية جميعا ، على نحو مثلت معه هذه الآراء مذاهب مستقلة لعلها أبقى أثرا وأعظم خطرا في التاريخ من المعتقدات السياسية التي غدت مسائل تاريخية لا يعول عليها كثيرا ولا يلتفت إليها إلا قليلا في واقعنا المعاصر.

ولا غرو في أن ترتبط المذاهب السياسية بالنظريات العقدية في ظل شريعة لا تفصل بين الدين والسياسة فصلا قاطعا ، على غرار الشرائع الأخرى ، فالدين ـ في شريعة الإسلام ـ لب السياسة وقوامها ، ووظيفة السياسة منوطة بحماية الإسلام والذود عن أصوله المقررة ، وحراسته من عبث العابثين وهجوم المغرضين ، وذلك ما سبق إلى الالتفات إليه ابن خلدون حين عرف الخلافة بأنها : «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا» (١).

وثمة أمر آخر نود الإلماح إليه والتنويه به ، وهو أن الخلاف بين الفرق الإسلامية لم يمس ركنا من أركان الإسلام ، أو أصلا من أصوله الثابتة التي نقلت إلينا بالتواتر فغدت

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون (٢ / ٥٧٨) تحقيق علي عبد الواحد وافي.

معلومة من الدين بالضرورة لا يسع مسلما إنكارها أو التشكيك فيها ، «فلم يكن الاختلاف في وحدانية الله تعالى وشهادة أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا في أن القرآن نزل من عند الله القدير ، وأنه معجزة النبي الكبرى ، ولا في أنه يروى بطريق متواتر نقلته الأجيال الإسلامية كلها جيلا بعد جيل ، ولا في أصول الفرائض كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم ، ولا في طريق أداء هذه التكليفات ، وإنما الاختلاف في أمور لا تمس الأركان ولا الأصول العامة» (١).

وغني عن البيان أن شيئا من الخلاف بين المسلمين لم يقع إبان عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فقد كان المسلمون على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه ، غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا» (٢).

ولا غرابة في ذلك ؛ إذ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوضح للصحابة ما تشابه عليهم من مسائل الدين ، ويجيب عما يطرح عليه من أسئلة جوابا يلقي في ضمير السائل برد اليقين ويقطع من نفسه وعقله دواعي الحيرة والاضطراب.

ويوشك الإجماع أن ينعقد على أن أول خلاف حقيقي واجه الجماعة الإسلامية ظهر بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو خلافهم حول الإمامة ، حيث سارع الأنصار إلى الاجتماع في سقيفة بني ساعدة للنظر في أمر الإمامة وتعيين من يخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما يوار التراب بعد جسده الطاهر ، وأذعنت الأنصار إلى البيعة لسعد بن عبادة سيد الخزرج غير مدافع ، ولم يرتب الأنصار في أن الإمامة حق لهم ، ولا ينبغي أن تخرج عنهم إلى إخوانهم المهاجرين ، ولم يعدموا من الأدلة الواضحة والبراهين المفحمة ـ في نظرهم ـ ما يسوقونه بين يدي رأيهم ذاك ، «فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبث في قومه في مكة نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ، فما آمن منهم إلا قليل ، ولا منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأذى ولا أعزوا الدين ، فلما هاجر من مكة إلى المدينة نصره الأنصار وآمنوا به وأعزوا دينه ومنعوه وصحبه ممن أراد بهم سوءا وكانوا معه على عدوه حتى خضعت له جزيرة العرب ، وتوفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض ، وبهم قرير العين ، فهم أولى الناس أن يخلفوه» (٣).

بيد أن «نظرية الأنصار» تلك وجدت إنكارا ومعارضة من المهاجرين ؛ إذ لم يكد خبر السقيفة ينتهي إلى أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ حتى قصدا نحو مجتمع الأنصار في

__________________

(١) الإمام محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية ، ص ١١.

(٢) أبو منصور عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق ، دار التراث ، القاهرة ، ص ٣٥.

(٣) أحمد أمين ، فجر الإسلام ، الهيئة العامة للكتاب ، ص ٤٠١.

نفر من المهاجرين ، لإبداء الرأي في أمر الخلافة ، فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش ، واحتج عليهم بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإمامة في قريش» (١) وأن العرب لا تذعن بالطاعة إلا لهم ، كما أنهم عشيرة الرسول وذوو رحمه ، فهم أول من آمن به ، واحتملوا في سبيل نصرته من العنت والمشقة شيئا كثيرا يسوّغ لهم أن يرثوا الأمر من بعده.

وكما كان الأنصار أول من أعز الإسلام وانتصر له ، كانوا أول من حماه شر الفتنة ، وعواقب الخلاف ، فأذعنوا لإخوانهم المهاجرين منقادين ، ورجعوا إلى الحق طائعين «بعد

__________________

(١) ورد هذا الحديث من حديث أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب وأبو برزة

حديث أنس بن مالك :

أخرجه أبو داود الطيالسي (٢ / ١٦٣ ـ منحة) رقم (٢٥٩٦) والبزار (٣ / ٢٢٨ ـ كشف) رقم (١٥٧٨) ، وأبو يعلى (٦ / ٣٢١) رقم (٣٦٤٤) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ١٧١) ، والبيهقي (٨ / ١٤٤) كتاب قتال أهل البغي : باب الأئمة من قريش ، كلهم من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش إذا حكموا فعدلوا وإذا عاهدوا فوفوا وإذا استرحموا فرحموا».

وقال أبو نعيم : هذا حديث مشهور ثابت من حديث أنس.

وقال الحافظ في «تخريج أحاديث المختصر» (١ / ٤٧٤) : هذا حديث حسن وللحديث طرق أخرى عن أنس.

فأخرجه أحمد (٣ / ١٨٣) وابن أبي عاصم في «السنة» (١١٢٠) من طريق الأعمش عن سهل بن أبي الأسد عن بكير بن وهب الجزري عن أنس به.

وأخرجه أحمد (٣ / ١٢٩) ، والنسائي في الكبرى (٣ / ٤٦٧ ـ ٤٦٨) كتاب القضاء : باب الأئمة من قريش حديث (٥٩٤٢) من طريق شعبة عن علي بن أبي الأسد ثنا بكير بن وهب الجزري عن أنس به. وقد اختلف في اسم أبي الأسد وقد رجح أبو حاتم الرازي أن اسمه سهل :

فقال ولده في «العلل» (٢ / ٤٣٠ ـ ٤٣١) : سألت أبي عن حديث رواه أبو الجواب الأحوص بن جواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش عن سهل بن بكير الجزري عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الأئمة من قريش ... فسمعت أبي يقول : إنما هو الأعمش عن سهل بن أبي الأسد عن بكير الجزري عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ا. ه.

وأخرجه الطبراني في الكبير (١ / ٢٥٢) رقم (٧٢٥) من طريق ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس بن مالك به.

وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٥ / ٨) من طريق حماد بن أحمد بن حماد بن أبي رجاء المروزي قال : وجدت في كتاب جدي حماد بن أبي رجاء السلمي بخطه عن أبي حمزة السكري عن محمد ابن سوقه عن أنس به.

قال أبو نعيم : غريب من حديث محمد تفرد به حماد موجود في كتاب جده.

وأخرجه الحاكم (٤ / ٥٠١) من طريق الصعق بن حزن ثنا علي بن الحكم عن أنس مرفوعا بلفظ : الأمراء من قريش وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

وأخرجه البزار (١٥٧٩) من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس بلفظ : الملك في قريش.

والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥ / ١٩٥) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط ، أتم منهما والبزار إلا أنه قال : الملك في قريش ورجال أحمد ثقات.

أن قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، وبعد أن جرد الحباب بن المنذر سيفه وقال : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، من يبارزني؟ وبعد أن قام قيس بن سعد بنصرة أبيه سعد بن عبادة حتى قال عمر بن الخطاب في شأنه ما قال. ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه ، واجتمعوا على إمامته ، واتفقوا على خلافته ، وانقادوا لطاعته» (١).

وثمة نظرية ثالثة ذهب بعض الباحثين إلى أن لها وجودا ظاهرا آنذاك ، وهي أن تكون الخلافة في بيت النبي ، وأولى الناس من قرابة النبي وأمسهم رحما به هو علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ فقدمته في الإسلام وسابقته في الذود عنه معروفة ذائعة ، ومكانه من النبي مكانه ، فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة ، ووالد سبطيه الحسن والحسين ، وجهاده وفضله وعلمه لا ينكر.

على هذا النحو رأى القائلون بهذه النظرية أن بيت بني هاشم أحق بالخلافة من سواه ، وروي في ذلك أن عليّا سأل عما حدث في سقيفة بني ساعدة فقال : ما ذا قالت قريش؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال علي : «احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» (٢).

يريد أن المهاجرين احتجوا بأنهم من شجرة النبي فأولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش وهم قرابته (٣).

ومهما يكن من أمر فقد آل أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وكانت بيعته بيعة حرة ؛ إذ توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أن يحدد من يخلفه في هذا الأمر ، وخلا الكتاب من النص عليه أو تعيينه ، «صحيح أنه قد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أبا بكر بأن يؤم المسلمين في الصلاة أثناء مرضه الذي مات فيه ، وفهم البعض أن الصحابة قد اختاروه لهذا وقالوا : قد اختاره الرسول لأمر ديننا ، فأولى أن نختاره لأمر دنيانا ، ولكن هذا لا يعد عهدا ، وإن كان في جملته يشير إلى فضل أبي بكر ومقامه بين الصحابة ؛ إذ لو كان عهدا لاستشهد به في السقيفة وحسم النزاع» (٤).

ثم عهد أبو بكر ـ لما أحس بدنو أجله وخاف على المسلمين شر الفتنة وعاقبة الخلاف

__________________

(١) أبو الحسن الأشعري ، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، ت : محمد محيي الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية ، الطبعة الثانية (ص ٤١).

(٢) ينظر خبر السقيفة في : ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة (ص ١٩ ـ ٦٠).

(٣) أحمد أمين ، فجر الإسلام ص ٤٠٢.

(٤) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام ، دار الثقافة العربية ، (ص ٦٠).

ـ بالإمامة لعمر على سبيل الترشيح.

وسكن الخلاف ونامت الفتنة في خلافة الشيخين أبي بكر وعمر ؛ لأنهما أخذا نفسيهما بالعدل الشامل المطلق في دقيق الأمور وجليلها ، وانتصف كل واحد منهما من نفسه قبل أن ينتصف من رعيته ، وبلغا من العدل والمساواة بين الناس مبلغا أرهق من أتى بعدهما إذا رغب أن يحذو حذوهما ولا يخالف سيرتهما.

كما شغل المسلمون آنذاك بقمع المرتدين في داخل الجزيرة العربية ، وبالجهاد وفتح الأمصار خارجها لنشر الإسلام وإعلان التوحيد ، فغدا المسلمون كما كانوا في العهد النبوي على منهاج واحد ورأي واحد أتاح للدولة أن تزدهر في فترة قصيرة من عمر الحضارة الإنسانية.

الفتنة الكبرى في عهد عثمان وعلي ونشأة الأحزاب السياسية (١) :

ولي الخلافة عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب ـ رضوان الله عليهما ـ بعد أن أعطى المواثيق والعهود بالنصح للأمة ، والالتزام بسنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.

ورضي المسلمون على خلافة عثمان في ست السنين الأولى ، ثم نقموا منه أمورا رأوا أنه خالف فيها عن سيرة الشيخين وانحرف عن سنة النبي الكريم.

واستحال الإنكار الهادئ والاعتراض الناصح سخطا عارما عم الأمصار المختلفة ، وثورة عنيفة عمد المنخرطون فيها إلى خلع الخليفة عثمان رضي الله عنه.

وأفضت الثورة المسلحة إلى مقتل عثمان ، بعد أن حوصر في داره أربعين يوما منع خلالها من إمامة المسلمين في الصلاة.

وقد فتح مقتل عثمان على المسلمين باب الفتنة واسعا ، وأذكى نيران الخلاف بينهم من جديد ، وأورث القلوب والضمائر ضغنا وسوء ظن كان خليقا بأن يعصف بالوحدة الإسلامية ويقوض أركانها في هذا الطور الباكر.

ولم يستطع علي بن أبي طالب ـ الذي بويع بالخلافة من أغلبية المسلمين ـ أن يرأب صدع الخلاف وينتاش المسلمين من هوة الفتنة السحيقة التي تردوا فيها.

__________________

(١) ينظر : تلقيح فهوم أهل الأثر (ص ٨٤) ، الكامل في التاريخ (٢ / ٥٩) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٣ / ٥٣ ـ ٨٤) ، تاريخ الإسلام للذهبي ، جزء «الخلفاء الراشدون» (٣١١ ـ ٤٢٩) ، العواصم من القواصم (٥٦ ـ ٦٠) ، سمط النجوم العوالي (٢ / ٥١٨) ، سبل الهدى والرشاد (١١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨).

وكان من أشد المعارضين لعلي طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان ؛ إذ رأوا أنه قعد عن نصرة عثمان ، وكان في استطاعته رد الناس عنه ، وكان من حجة بعضهم أنه ـ وقد بويع ـ يجب عليه أن يقتص من قتلة عثمان ، ويقول كل من طلحة والزبير : إنه أولى بالمطالبة بدم عثمان ؛ لأنه من الستة الذين انتخبهم عمر للشورى ، ومن السابقين للإسلام ، ويقول معاوية : إنه أولى الناس رحما بعثمان ، وأقوى أهل بيته على المطالبة بدمه (١).

يقول أبو الحسن الأشعري : «ثم بويع علي بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ فاختلف الناس في أمره ، فمن بين منكر لإمامته ، ومن بين قاعد عنه ، ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته ، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم» (٢).

وأما طلحة والزبير فقتلا يوم الجمل (٣) ، وبقي معاوية وحده حاملا لواء المعارضة لخلافة علي بن أبي طالب ، مستعصما بالشام مطمئنا إلى اخلاص أهله وصدق ولائهم.

لم يجد علي بن أبي طالب مفرا من قتال معاوية بن أبي سفيان للقضاء على خطره ورد المسلمين إلى ما كانوا عليه من وحدة وتماسك ، فقاتله في صفين (٤) وكاد النصر يتم له لو لا أن عمد معاوية إلى خدعة التحكيم ، «فقال لعمرو بن العاص : ألم تزعم أنك لم تقع في أمر فظيع فأردت الخروج منه إلا خرجت؟ قال : بلى ، قال : فما المخرج؟ قال له عمرو بن العاص : فلي عليك ألا تخرج مصر من يدي ما بقيت؟ قال : لك ذلك ، ولك به عهد الله وميثاقه ، قال : مر بالمصاحف فترفع ، ثم يقول أهل الشام لأهل العراق : يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم ، البقية البقية ، فإنه إن أجابك إلى ما تريده خالفه أصحابه ، وإن خالفك خالفه أصحابه» ، وكان عمرو بن العاص في رأيه الذي أشار به كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق ، فأمر معاوية أصحابه برفع المصاحف وبما أشار به عليه عمرو بن العاص ، ففعلوا ذلك ، فاضطرب أهل العراق على علي ـ رضوان الله عليه ـ وأبوا عليه

__________________

(١) أحمد أمين ، فجر الإسلام (ص ٤٠٤).

(٢) مقالات الإسلاميين ، (ص ٥٤ ، ٥٥).

(٣) كانت وقعة الجمل يوما واحدا وقتل من أهل البصرة وغيرهم ثلاثة عشر ألفا ومن أصحاب علي رضي الله عنه سبعة آلاف وقيل خمسة آلاف ، وقال العلامة الذهبي : قتل بينهما ثلاثون ألفا وكانت الوقعة يوم الجمعة.

ينظر : تاريخ الإسلام للذهبي جزء «الخلفاء» (ص ٤٨٤) ، سمط النجوم العوالي (٢ / ٥٧١).

(٤) ينظر : أخبار ذلك في تاريخ الإسلام «الخلفاء» (ص ٥٤٠) ، سمط النجوم (٢ / ٥٧٥) ، مروج الذهب (٢ / ٣٨٤) ، تاريخ خليفة بن خياط (ص ١٤٦) ، المحاسن والمساوئ ص (٤٨).

إلا التحكيم ، وأن يبعث علي حكما ويبعث معاوية حكما ، فأجابهم علي إلى ذلك بعد امتناع أهل العراق عليه ألا يجيبهم إليه ، فلما أجاب علي إلى ذلك بعث معاوية وأهل الشام عمرو بن العاص حكما ، وبعث علي وأهل العراق أبا موسى حكما ، وأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق ، ومن هاهنا بدأ أمر الخلاف بين المسلمين يزداد تشعبا ، وبدأت الفرق المختلفة في الظهور ، كالتالي :

أولا : الخوارج

بيّنا في هذا العرض السابق لأحداث النزاع بين على ومعاوية أن أصحاب علي من أهل العراق قد حملوه حملا على إجابة معاوية إلى التحكيم حين أمر بالمصاحف فرفعت على أسنة الرماح ، وقال أهل الشام لأهل العراق : يا أهل العراق ، كتاب الله بيننا وبينكم ، وذلك على الرغم من أن عليّا ـ كرم الله وجهه ـ بيّن لهم ما ينطوي عليه نداء معاوية بتحكيم كتاب الله من مكر وخديعة ، فأبوا إلا التحكيم.

فلما وقف هؤلاء على خدعة التحكيم وأدركوا مرماه البعيد الذي أراده معاوية ، رفضوا التحكيم وطلبوا إلى علي أن ينقض ما أعطاه للحكمين ـ أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص ـ من العهد والميثاق ؛ لأن حكم الله في الأمر واضح جلي ، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيهما المحق ، وليس يصح هذا الشك ؛ لأنهم وقتلاهم إنما حاربوا وهم مؤمنون ـ بلا شك ـ أن الحق في جانبهم. وهذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية : «لا حكم إلا لله» فسرت الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي ، وتجاوبتها الأنحاء ، وأصبحت شعار هذه الطائفة (١).

وذهبت الخوارج إلى إكفار علي إذ قبل التحكيم ، وطلبوا إليه أن يقر بما باء به من إثم ثم يتوب ويرجع إلى قتال أهل البغي ؛ وإلا تخلوا عنه وصاروا من عدوه بعد أن كانوا من شيعته.

فأبى علي إلا الوفاء بما أعطى من عهود ومواثيق ، ثم كيف يقر على نفسه بالكفر ولم يشرك بالله شيئا مذ آمن ، وهبه أخطأ في قبول التحكيم ـ مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قبله مضطرّا لا مختارا ـ فلا يعدو أن يكون مجتهدا أخطأ فله أجر واحد ، وإن كان قد أصاب فله أجران ، ولا يستقيم لذي عقل إكفار المجتهد المخطئ.

__________________

(١) أحمد أمين ، فجر الإسلام ، (ص ٤٠٦).

جماع رأي الخوارج وما جمعهم من مبادئ :

لم تلبث آراء الخوارج السياسية أن تحددت ، وأخذت شكل نظرية يسع الدارسين ومؤرخي الفرق إضافتها إلى النظريات السياسية الإسلامية ، ولا ريب أن مناظرات رؤسائهم ومجادلاتهم لخصومهم كابن عباس ، وعلي بن أبي طالب وابن زياد وعبد الله بن الزبير قد أسهمت بشكل ملحوظ في بلورة موقفهم السياسي وتحديد معالمه (١).

ومعلوم أن الخوارج لم يكونوا نحلة واحدة متفقة آراؤها وأنظارها إلى مسائل السياسة والعقيدة ، بل تفرقوا أحزابا شتى ومذاهب متعارضة ، بيد أن ثمة مبدأين عامين يجمعان بين فرقهم المتباينة ، هما :

ـ القول بإكفار علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بتحكيم الحكمين.

ـ أما المبدأ العام الثاني : فهو وجوب الخروج على الإمام الجائر (٢).

وقد ذكر الكعبي في مقالاته أن مما يجمع الخوارج على افتراق مذاهبها الإكفار بارتكاب الذنوب ، بيد أن عبد القاهر البغدادي ذهب إلى أن رأي الكعبي منابذ للصواب ، وأنه قد أخطأ في دعواه إجماع الخوارج على تكفير مرتكبي الذنوب منهم ، واحتج البغدادي بأن النجدات من الخوارج لا يكفرون أصحاب الحدود من موافقيهم ، وقد قال قوم من الخوارج : إن التكفير إنما يكون بالذنوب التي ليس فيها وعيد مخصوص ، فأما الذنب الذي فيه حدّ أو وعيد في القرآن ، فلا يزاد صاحبه على الاسم الذي ورد فيه ، مثل تسميته زانيا وسارقا ، ونحو ذلك.

وقد قالت النجدات : إن صاحب الكبيرة من موافقيهم كافر نعمة وليس فيه كفر دين.

يقول عبد القاهر البغدادي : وفي هذا بيان خطأ الكعبي في حكايته عن جميع الخوارج تكفير أصحاب الذنوب كلهم منهم ومن غيرهم.

وإنما الصواب فيما يجمع الخوارج كلها ما حكاه شيخنا أبو الحسن ـ رحمه‌الله ـ من تكفيرهم عليّا وعثمان ، وأصحاب الجمل ، والحكمين ، ومن صوبهما أو صوب أحدهما أو رضي بالتحكيم(٣).

__________________

(١) انظر : محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٦٦).

(٢) انظر : عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق (ص ٩٢) ، أبو الحسن الأشعري ، مقالات الإسلاميين (ص ١٦٧).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ٩).

ومهما يكن من أمر فإن ما ذهب إليه الخوارج من تكفير لأقطاب الصحابة وأعلامهم قد دفع المسلمين إلى البحث في ماهية الكفر والإيمان؟ وتمييز الحدود الفارقة بين المعصية والكفر والفسوق ، والتماس العلاقة بين الإيمان وبين العمل ، إلى آخر هذه المسائل اللاهوتية التي ترتب عليها نشأة كثير من الفرق الدينية.

ومن بين المبادئ التي أذاعها الخوارج في المجتمع الإسلامي أن الخلافة ليست حقّا مقصورا على قريش دون سائر العرب ، بل يتولاها من تحققت فيه شروطها من الكفاية والعدل والبيعة الحرة ، وخالفوا في ذلك ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من اشتراط القرشية إعمالا لحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش».

ورأى الخوارج أن عدم اشتراط القرشية ينسجم مع ما جاء به الإسلام من مبادئ العدل والمساواة بين الناس دونما نظر إلى لون أو جنس ، فمناط المفاضلة بين الناس التقوى والعمل الصالح(١).

فرق الخوارج :

الخوارج عشرون فرقة ، ذكرها البغدادي صاحب الفرق بين الفرق وهي : المحكمة الأولى ، والأزارقة ، والنجدات ، والصفرية ، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها : الحازمية ، والشعيبية ، والمعلومية ، والمجهولية ، وأصحاب طاعة لا يراد الله تعالى بها ، والصلتية ، والأخنسية ، والشبيبية ، والشيبانية ، والمعبدية ، والرشيدية ، والمكرمية ، والحمزية ، والشمراخية ، والإبراهيمية ، والواقفة ، والإباضية.

والإباضية منهم افترقت فرقا معظمها فريقان : حفصية وحارثية.

وليس من وكدنا في هذا المقام ـ وهو مقام إيجاز واختصار وليس مقام بسط وتطويل ـ أن نستوعب آراء هذه الفرق جميعها ، وإنما نجتزئ بذكر فرق خمسة منها ، رأى الباحثون قبلنا أنها أشهر فرق الخوارج ، وهي :

ـ المحكمة الأولى.

__________________

(١) الفصل في الملل والنحل (٤ / ١٤٤) ، المواقف (٣ / ٦٩٢) ، التبصير في الدين (١ / ٤٥) ، حجج القرآن للرازي (١ / ٥٨) ، تلبيس إبليس (١ / ١١٠) ، مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية (١ / ١٥٦) ، أصول الدين للبغدادي ص (٣٣٢) ، أصول الدين ص (٢٤٨) ، نشر الطوالع (ص ٣٩٠) ، كشاف اصطلاحات الفنون (٢ / ١٨١ ـ ١٨٢) ، العناية على شرح الهداية (٢ / ١٩٩) ، أسنى المطالب شرح روض الطالب (٤ / ١١٢) ، حاشية البجيرمي على المنهج (٤ / ٢٠١) ، منح الجليل (٨ / ٣٩٠) ، بدائع الصنائع (٧ / ١٤٠) ، حاشية ابن عابدين (٣ / ٣١٠).

ـ الأزارقة.

ـ النجدات.

ـ الصفرية.

ـ الإباضية.

أولا : المحكمة الأولى :

وهم من خرج على عليّ ـ رضي الله عنه ـ حين قبل التحكيم ، ويقال لهم : محكمة ، وشراة ، وسموا محكمة ؛ لقولهم : «لا حكم إلا لله» ، وأما تسميتهم بالشراة فمحمولة على قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧] ، فكانوا يقولون : شرينا أنفسنا في طاعة الله ، أي : بعناها بالجنة (١).

يقول عبد القاهر البغدادي : «واختلفوا في أول من تشرى منهم ، فقيل : عروة بن حدير أخو مرداس الخارجي ، وقيل : أولهم يزيد بن عاصم المحاربي ، وقيل : رجل من ربيعة من بني يشكر ، كان مع علي بصفين ، فلما رأى اتفاق الفريقين على الحكمين استوى على فرسه وحمل على أصحاب معاوية وقتل منهم رجلا ، وحمل على أصحاب علي وقتل منهم رجلا ، ثم نادى بأعلى صوته ، ألا إني قد خلعت عليّا ومعاوية ، وبرئت من حكمهما ثم قاتل أصحاب علي حتى قتله قوم من همدان» (٢).

ومهما يكن من أمر فقد انحاز الخوارج بعد صفين إلى حروراء ، وهم يومئذ اثنا عشر ألفا ، وزعيمهم يومئذ عبد الله بن الكواء وشبث بن ربعي ، فخرج إليهم علي بن أبي طالب يناظرهم فوضحت حجته عليهم ، فلم يسع بعض الخوارج إلا الإذعان للحق ، فانضموا إلى علي وكان منهم ابن الكواء نفسه ، وخرج الباقون إلى النهروان وأمّروا على أنفسهم رجلين ، أحدهما : عبد الله بن وهب الراسبي ، والآخر : حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية.

فلما رأى علي انحراف الخوارج عن سماحة الإسلام ومحاولتهم فرض آرائهم على الناس بالقوة والبطش وليس بالجدال بالتي هي أحسن ، عمد إليهم في أربعة آلاف من أصحابه ، وناظرهم مرة أخرى ، وبين لهم وجه الحق فيما نقموا منه ، فاستمال منهم يومئذ ثمانية آلاف ، ولم يبق إلا أربعة آلاف أبوا إلا قتال عليّ وأمّروا عليهم ـ كما ذكرنا ـ عبد

__________________

(١) مقالات الإسلاميين ، (ص ٢٠٧).

(٢) الفرق بين الفرق (ص ٩٣ ، ٩٤).

الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير البجلي.

والتقى الجمعان في النهروان ، وظهر عليّ وصحبه على الخوارج ، وقتل عبد الله بن وهب ، وذو الثدية ، ولم يفلت من الخوارج في هذا اليوم إلا تسعة أنفس :

صار منهم رجلان إلى سجستان ، ومن أتباعهما خوارج سجستان ، ورجلان إلى اليمن ، ومن أتباعهما إباضية اليمن ، ورجلان صارا إلى عمان ، ومن أتباعهما خوارج عمان ، ورجلان إلى ناحية الجزيرة ، ومن أتباعهما كان خوارج الجزيرة ، ورجل منهم صار إلى تل موزن (١).

خلاصة رأي المحكمة الأولى :

ذهب المحكمة الأولى ـ كسائر الخوارج ـ إلى إكفار علي وعثمان ، وأصحاب الجمل وصفين ، ومعاوية وصحبه ، والحكمين ، ومن رضي بالتحكيم.

ومن آرائهم كذلك إكفار كل ذي ذنب ومعصية ، والقول بخلوده في النار (٢).

ثانيا : الأزارقة :

تنسب هذه الفرقة إلى نافع بن الأزرق الحنفي ، وهم أقوى فرق الخوارج بأسا وأعزها نفرا ، يقول البغدادي : «ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددا ولا أشد منهم شوكة» (٣).

وقد بايع الأزارقة نافع بن الأزرق وسموه أمير المؤمنين ، ولم يلبث أن انضم إليهم خوارج عمان واليمامة فصاروا أكثر من عشرين ألفا.

وقد هدد الخوارج الأزارقة الدولة الإسلامية تهديدا كبيرا ، حيث استولوا على الأهواز وما وراءها من أرض فارس ، ثم بسطوا نفوذهم على كرمان وجبوا خراجها ، فحاربهم عبد الله بن الحارث عامل عبد الله بن الزبير على البصرة ، ومنيت الجيوش التي وجهها لقتالهم بهزائم منكرة ، فعهد عبد الله بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة بقتالهم ، فهزمهم عند الأهواز وقتل نافع بن الأزرق ، فبايعت الأزارقة بعده عبيد الله بن مأمون التميمي فقتل ، ثم بايعوا قطري بن الفجاءة وسموه أمير المؤمنين ، «فقاتلهم المهلب حروبا كانت سجالا ، وانهزمت الأزارقة في آخرها إلى سابور من أرض فارس ، وجعلوها دار هجرتهم ، وثبت المهلب وبنوه وأتباعهم على قتالهم تسع عشرة سنة ، بعضها في أيام عبد الله بن

__________________

(١) السابق (ص ٩٨ ، ٩٩).

(٢) السابق (ص ٩٩).

(٣) السابق ص ١٠١.

الزبير ، وباقيها في زمان خلافة عبد الملك بن مروان وولاية الحجاج على العراق» (١).

وكان المهلب قبل الواقعة يثير خلافهم ، فتحتدم المناقشة بينهم احتداما شديدا ، ثم يلقاهم وهم على هذا الخلاف ؛ ولذا أخذ شأن الخوارج يضعف في عهد قطري بن الفجاءة ؛ لاختلافهم فرقا من جهة ، ولأثر هذا الاختلاف في مواقفهم في ميدان القتال من جهة ثانية ، وتألب المسلمين عليهم من جهة ثالثة ، وغلظتهم في معاملة مخالفيهم من جهة رابعة.

وقد توالت هزائمهم على يد المهلب ومن جاء بعده من قواد الأمويين حتى انتهى أمرهم (٢).

خلاصة المبادئ التي اعتنقها الأزارقة :

أجمل عبد القاهر البغدادي مبادئ الأزارقة في مسائل أربعة :

أولا : قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون ، وكانت المحكمة الأولى يقولون : إنهم كفرة لا مشركون.

ثانيا : قولهم : إن القعدة ـ ممن كان على رأيهم ـ عن الهجرة إليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم.

ثالثا : أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم : أن يدفع إليه أسير من مخالفيهم ويأمروه بقتله ، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم ، وإن لم يقتله قالوا : هذا منافق ومشرك وقتلوه.

رابعا : استباحوا قتل نساء مخالفيهم ، وقتل أطفالهم ، وزعموا أن الأطفال مشركون ، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار (٣).

ومن آرائهم كذلك : أن مرتكب الكبيرة والمعصية كافر مخلد في النار ، وأن دار مخالفيهم دار كفر ، كما يكفرون ـ كسائر الخوارج ـ عليّا في التحكيم ، والحكمين أبا موسى وعمرو بن العاص(٤).

__________________

(١) السابق ص ١٠٤.

(٢) الإمام محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧١).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١٠١ ، ١٠٢).

(٤) مقالات الإسلاميين (ص ١٧٠) ، وانظر أيضا : المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، المقريزي (٢ / ٣٥٤).

ومن الآراء الفقهية التي انفرد بها الأزارقة :

أنهم ينكرون حد الرجم على الزاني المحصن ، وحجتهم في ذلك أن القرآن لم ينص على ذلك ، فيهملون بذلك السنة الصحيحة في رجم الزاني المحصن.

كما يرون أن حد القذف لا يثبت إلا لمن يقذف محصنة بالزنى ، ولا يثبت على من يقذف المحصنين من الرجال ؛ لأنهم أخذوا بظاهر النص (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٤] فلم يذكر حد قذف المحصنين من الرجال (١).

ثالثا : النجدات :

وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي ، والسبب في ظهور هذه الفرقة أن بعض الخوارج الأزارقة قد نقموا من رئيسهم نافع بن الأزرق براءته من القعدة عنه بعد أن كانوا على رأيه وإكفاره إياهم ، وأنه استحل قتل أطفال مخالفيه ونسائهم ؛ ففارق نافعا جماعة من أتباعه منهم أبو فديك وعطية الحنفي ، وراشد الطويل وغيرهم ، وذهبوا إلى اليمامة ، وبايعوا بها نجدة بن عامر وأكفروا من قال بإكفار القعدة منهم عن الهجرة إليهم ، كما أكفروا من قال بإمامة نافع (٢).

ومن المسائل التي خالف فيها النجدات الأزارقة استحلالهم دماء أهل الذمة ، وأما الأزارقة فذهبوا إلى تحريم دمائهم احتراما لذمتهم التي دخلوا بها في أمان أهل الإسلام (٣).

وقال النجدات بعدم وجوب نصب الإمام ، من ناحية الشرع ، وأن إقامة إمام واجبة وجوبا مصلحيّا ، فإذا أقام المسلمون حدود الدين والتزموا أحكام الشريعة وتناصفوا فيما بينهم ، فليس ثمة حاجة إلى وجود خليفة أو إمام.

وقد ابتدع النجدات مبدأ جديدا لم يكن معروفا عند الخوارج آنذاك ، وهو مبدأ التقية ومعناه : «أن يظهر الخارجي أنه جماعي ؛ حقنا لدمه ، ومنعا للاعتداء عليه ، ويخفي عقيدته حتى يحين الوقت المناسب لإظهارها» (٤).

__________________

(١) محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٢) ، وانظر الخطط المقريزية (٢ / ٣٥٤).

(٢) عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق (ص ١٠٥).

(٣) انظر : خطط المقريزي (٢ / ٣٥٤) ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٣).

(٤) أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٣).

وقد تولى نجدة أصحاب الحدود ممن هم على مثل رأيه ، وقال : لعل الله يعذبهم بذنوبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة ، وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه (١).

وزعم النجدات كذلك أن من نظر نظرة صغيرة أو كذب كذبة صغيرة ثم أصر عليها فهو مشرك ، وأن من زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر فهو مسلم (٢).

فمناط الشرك في ارتكاب المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إنما هو الإصرار عليها ، فمن أصر على صغيرة فهو مشرك ، ومن لم يصر على كبيرة فهو مسلم ، وإن شاب إسلامه شيء من نقص ، يلحقه بأهل المعصية.

ومن بدع نجدة وضلالاته أنه أسقط حد الخمر (٣).

وجماع مذهب النجدات أن الدين أمران :

أحدهما : معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ، وتحريم دماء المسلمين وأموالهم.

والثاني : الإقرار بما جاء من عند الله جملة.

وما سوى ذلك من التحريم والتحليل وسائر الشرائع ، فإن الناس يعذرون بجهلها ، وأنه لا يأثم المجتهد إذا أخطأ (٤).

ولم يلبث النجدات أن ثاروا على رئيسهم نجدة وخرجوا عليه لأمور نقموها منه (٥) ، وقد تشعبوا لهذا إلى ثلاث فرق :

١ ـ فرقة صارت مع عطية بن الأسود الحنفي إلى سجستان ، وتبعهم خوارج سجستان ؛ ولهذا قيل لخوارج سجستان في ذلك الوقت : عطوية.

٢ ـ وفرقة صارت مع أبي فديك حربا على نجدة ، وهم الذين قتلوا نجدة.

٣ ـ وفرقة عذروا نجدة في أحداثه وأقاموا على إمامته (٦).

رابعا : الصفرية :

تنسب هذه الفرقة من الخوارج إلى زياد بن الأصفر ، وقد اختلف الخوارج الصفرية في

__________________

(١) الفرق بين الفرق (ص ١٠٧) ، وانظر أيضا : مقالات الإسلاميين (١ / ١٧٥).

(٢) مقالات الإسلاميين (١ / ١٧٥).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١٠٧).

(٤) خطط المقريزي (٢ / ٣٥٤).

(٥) انظر في ذلك : الفرق بين الفرق (ص ١٠٢) ، ومقالات الإسلاميين (١ / ١٧٥ ، ١٧٦).

(٦) الفرق بين الفرق (ص ١٠٦).

الحكم على مرتكب الكبيرة ، وتباينت آراؤهم في ذلك أشد التباين :

فمنهم من ذهب إلى الحكم عليه بالشرك ، شأنهم في ذلك شأن الأزارقة.

وزعم بعضهم أن الذنب الموضوع له حد لا نتجاوز تسمية الله فيه من أنه زان أو سارق أو قاذف وليس صاحبه كافرا ولا مشركا ، أما الذنب الذي لم تقرر له الشريعة حدّا كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر.

وثمة من الصفرية من رأى أن صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحده (١).

ولم ير الصفرية ـ خلافا للأزارقة ـ قتل أطفال مخالفيهم وسبي نسائهم ، كما أنهم لا يوافقون الأزارقة فيما ذهبوا إليه من عذاب الأطفال (٢).

ومن أئمة الصفرية : عمران بن حطان السدوسي ، وأبو بلال مرداس الخارجي.

فأما أبو بلال مرداس ، فقد خرج في أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة على عبيد الله ابن زياد ، فأرسل إليه عبيد الله من قتله.

فلما قتل مرداس اتخذت الصفرية عمران بن حطان إماما ، وهو الذي رثى مرداسا بقصائد يقول في بعضها :

أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه

ما الناس بعدك يا مرداس بالناس

وكان عمران بن حطان هذا ناسكا شاعرا شديدا في مذهب الصفرية وبلغ من خبثه في بغض علي ـ رضي الله عنه ـ أنه رثى عبد الرحمن بن ملجم ، وقال في ضربه عليّا :

يا ضربة من منيب ما أراد بها

إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البرية عند الله ميزانا

قال عبد القاهر : وقد أجبناه عن شعره هذا بقولنا :

يا ضربة من كفور ما استفاد بها

إلا الجزاء بما يصليه نيرانا

إني لألعنه دينا وألعن من

يرجو له أبدا عفوا وغفرانا

ذاك الشقي لأشقى الناس كلهم

أخفهم عند رب الناس ميزانا (٣)

__________________

(١) السابق (ص ١٠٨).

(٢) مقالات الإسلاميين (١ / ١٨٢).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١١٠ ، ١١١).

ويقول الإمام محمد أبو زهرة في شأن هذه الفرقة : «ومن أخبار الذين تولوا أمر هذه الطائفة من الخوارج نتبين أنها لا ترى إباحة دماء المسلمين ، ولا ترى أن دار المخالفين دار حرب ، ولا ترى جواز سبي النساء والذرية ، بل لا ترى قتال أحد غير معسكر السلطان» (١).

خامسا : الإباضية :

وإمام هذه الفرقة عبد الله بن إباض ، به تعرف وإليه تنسب ، وقد افترقت إلى فرق أربعة ، بيد أن ثمة مبادئ مشتركة تجمع بينها وتسوغ للباحث ردها إلى أصل واحد أو فرقة واحدة ، ومنها :

القول بأن مخالفيهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ، ولكنهم كفار ، وكفرهم كفر نعمة لا كفر اعتقاد ؛ وذلك لأنهم لم يكفروا بالله ، ولكنهم قصروا في جنب الله تعالى (٢).

وصحح الإباضية مناكحة مخالفيهم والتوارث بينهم ، وأجازوا شهادتهم.

وذهب الإباضية إلى أن دماء مخالفيهم حرام ، وإن أسروا ذلك في أنفسهم ولم يعلنوه.

واستحل الإباضية من غنائم المسلمين الخيل والسلاح ، وسواهما من أدوات الحرب وأسباب القوة ، دون الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابهما عند الغنيمة (٣).

ويقول الإمام محمد أبو زهرة عن الإباضية : «وهم أكثر الخوارج اعتدالا ، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرا ، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو ؛ ولذلك بقوا ، ولهم فقه جيد ، وفيهم علماء ممتازون ، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية ، وبعض آخر في بلاد الزنجبار ، ولهم آراء فقهية ، وقد اقتبست القوانين المصرية في المواريث بعض آرائهم ، وذلك في الميراث بولاء العتاقة ، فإن القانون المصري أخره عن كل الورثة حتى عن الرد على أحد الزوجين ، مع أن المذاهب الأربعة كلها تجعله عقب العصبة النسبية ويسبق الرد على أصحاب الفروض الأقارب» (٤).

ثانيا : الشيعة

نشأ المذهب الشيعي ـ كما ألمحنا إلى ذلك آنفا ـ كنتيجة مباشرة لإشكالية الإمامة التي

__________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٤).

(٢) السابق (ص ٧٦).

(٣) الفرق بين الفرق (ص ١٢٠).

(٤) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٧٦).

أورثت الجماعة الإسلامية شيئا غير قليل من الفرقة والاختلاف ، ومزقتهم شيعا وأحزابا متصارعة.

ولم يكن لدى أعضاء هذا الحزب في مبدأ ظهوره تصور محدد أو فكرة واضحة عن نظرية الإمامة ، غاية الأمر أن ثمة من المسلمين من رأى أن عليّا أحق بالخلافة من سائر أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه أولى قرابته بها ، فيذكر ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة أن من الصحابة من فضلوا عليّا ، وذهبوا إلى القول بأن الخلافة حق له ، منهم : عمار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن عبد الله ، وأبي بن كعب ، وحذيفة ، وأبو أيوب الأنصاري ، وسهل بن حنيف ، وعثمان بن حنيف ، وأبو الهيثم بن التيهان ، والعباس بن عبد المطلب وبنوه ، وبنو هاشم كافة (١).

تلك هي الفكرة المبدئية التي قام على أساسها مذهب الشيعة ، ثم تطورت هذه الفكرة نتيجة عوامل متباينة إلى نظرية لها أصول محددة وقواعد مجمع عليها من جانب الشيعة.

وأول هذه العوامل : الشعور العاطفي الذي خامر نفوس أكثر المسلمين بسبب الاضطهاد الذي وقع على آل بيت النبي عامة ، وآل علي خاصة ، والأحداث المحزنة التي تعاقبت على علي وآله ، ونستطيع أن نلتمس هذه الأحداث في «مصرع علي على يد الخوارج ، ثم في التياث الأمر على ابنه الحسن ، وتخاذل الناس عن نصرته حتى اضطر إلى التسليم ، ثم في موته في ظروف مريبة غامضة يرى شيعته أنها من تدبير أعدائه ، فبموته ضاع الأمل الذي كان باقيا في أن حقه ربما كان سيعود إليه بعد وفاة معاوية. ثم في قسوة زياد ـ الذي ألحقه معاوية بنسبه ـ على رجال الشيعة واضطهاده لهم ، وإرساله حجر بن عدي ـ من زعمائهم ومن أشراف العرب ومن خير الناس تقوى وعبادة ، وأبطال فتح نهاوند ـ إلى الشام ليقتل ؛ وذلك لاتهامه بأنه كان يعمل لإحداث ثورة في الكوفة ، ثم في تقرير معاوية العهد لابنه يزيد ، فأغلق الباب نهائيّا على أي أمل في عودة أبناء علي إلى الخلافة.

وأخيرا وهذه هي الطامة الكبرى والفاجعة التي حفرت في قلوب الشيعة وقلوب المسلمين آثارا عميقة من الحزن واللوعة ، لا يمكن أن يمحوها الزمن : ألا وهي مقتل الحسين. كل هذه الأحداث أو المآسي المتتابعة هي التي كونت فرقة الشيعة ودفعتهم إلى إنتاج آرائهم ، وأعطتهم هذه القوة التي جعلت منهم أكبر هيئة في المعترك السياسي الديني ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة (٢ / ٥١).

ومكنتهم من أن يصيروا الحزب الخالد الذي لا يزال باقيا بتمام قوته ووجوده إلى اليوم» (١).

إذن فقد أسهمت هذه الأحداث المفجعة في تكوين فرقة الشيعة وفي إنتاج آرائها في السياسة ثم في العقيدة ، وبيّن أن هذا العامل التاريخي يستند على الشعور والوجدان أكثر مما يقوم على البرهان والحجة.

وثمة عامل آخر ساعد بشكل كبير على قوة التيار الشيعي ، ومنحه ذيوعا وانتشارا ، وتأثيرا في الحياة السياسية ، ألا وهو انضمام الموالي الفرس إلى الحركة الشيعية.

والحق أن فكرة الشيعة عن الخلافة وما ذهبوا إليه من ضرورة تخصيصها بعلي وبنيه لاءمت إلى حد كبير نظرية الحق الملكي المقدس التي اعتنقها الفرس ؛ يقول الأستاذ دوزي موضحا حقيقة هذا العامل : «إن الشيعة فرقة فارسية في حقيقتها وجوهرها ... إن الفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور أن يوجد خليفة بالانتخاب ، فهذه الفكرة غير معهودة له وغير معقولة ، وإنما المبدأ الوحيد الذي يمكنه أن يفهمه هو مبدأ الوراثة ، وكل الذي كان هو في حاجة إليه ، وقد تغيرت بيئته واعتنق دينا جديدا ، هو أن ينقل ولاءه ويحول وجهة شعوره من أفراد أسرة مقدسة إلى أخرى. فليس من المبالغة إذن في شيء ـ وإن كان الدافع ونوع العاطفة ولا شك مختلفين وكان حدوث العملية غير شعوري ـ أن يقال : إن «البيت النبوي» ، وقد مثله آل علي ، قد حل في قلوب الفرس واعتبارهم محل بيت آل ساسان» (٢).

ويسعنا أن نضيف سببا آخر يفسر لنا انضمام الفرس إلى الشيعة وهو دفاعهم عما رأوه حقّا لعلي وبنيه ، وهو اضطهاد الأمويين للموالي والذي أورثهم شعورا مؤلما بانخفاض مستواهم المعيشي ، وتدني مكانتهم الاجتماعية عن العرب.

نتج عن العوامل السابقة مجتمعة تطور الفكرة الشيعية وتبلور ملامحها ، وغدا للشيعة رأي محدد في الإمامة ذكره ابن خلدون فقال : «إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة ، ويتعين القائم بتعيينهم ، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة ، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ، ويكون معصوما من الكبائر والصغائر ، وإن عليّا ـ رضي الله عنه ـ هو الذي عينه صلوات الله

__________________

(١) د / محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٦٩ ، ٧٠).

(٢) ينظر : محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٧١).

وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم ، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه ، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة» (١).

أبرز فرق الشيعة :

يطلق مصطلح الشيعة على فرق عدة منها المتطرف ومنها المقتصد ، عد منها البغدادي عشرين فرقة اعتبرها معدودة في فرق الأمة ، وما سوى هذه الفرق العشرين ، فليسوا من فرق الإسلام وإن كانوا منتسبين إليه (٢).

ونكتفي هاهنا بذكر أبرز فرق الشيعة :

الزيدية :

تنسب هذه الفرقة إلى زيد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وكان زيد قد خرج على هشام بن عبد الملك بالكوفة فقتل وصلب ، ويقول المسعودي في سبب خروجه :

كان زيد دخل على هشام ، فلما مثل بين يديه لم ير موضعا يجلس فيه فجلس حيث انتهى به المجلس ، وقال : يا أمير المؤمنين ، ليس أحد يكبر عن تقوى الله ولا يصغر دون تقوى الله ، فقال هشام : اسكت لا أم لك ، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة ، وأنت ابن أمة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن لك جوابا إن أحببت أجبتك به ، وإن أحببت سكت عنه ، فقال هشام : بل أجب قال : إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات ، وقد كانت أم إسماعيل أمة لأم إسحاق ، فلم يمنعه ذلك أن يبعثه الله نبيّا ، وجعله الله للعرب أبا ، فأخرج من صلبه خير البشر محمدا فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي ، وقام وهو يقول :

شرده الخوف وأزرى به

كذاك من يكره حر الجلاد

منخرق الكمين يشكو الجوى

تنكثه أطراف مرو حداد

__________________

(١) المقدمة (٢ / ٥٨٧) تحقيق د / علي عبد الواحد وافي.

(٢) الفرق بين الفرق (ص ٤٣) ، أصول الدين للبزدوي (ص ٢٤٧) ، نشر الطوالع (ص ٣٨٨) ، الفصل في الملل والنحل (٤ / ١٣٧) ، الملل والنحل (١ / ١٩٠) ، المواقف (٣ / ٦٧١) ، الصواعق المحرقة (١ / ٧٦) ، حجج القرآن للرازي (١ / ٥٤) ، أصل الشيعة ص (٤٦) ، التفكير الفلسفي في الإسلام (١ / ١٨٦) ، الموسوعة الإسلامية العامة (ص ٨٣٧) ، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية (٣ / ١١٢) ، سمط النجوم العوالي (٣ / ٣٥٥).

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

إن يحدث الله له دولة

يترك آثار العدا كالرماد

فمضى إلى الكوفة وخرج عنها ، ومعه القراء والأشراف ، فلما قامت الحرب انهزم عنه أصحابه ، وبقي في جماعة يسيرة ، فقاتل بهم أشد قتال وهو يقول متمثلا :

أذل الحياة وعز الممات

وكلا أراه طعاما وبيلا

فإن كان لا بد من واحد

فسيري إلى الموت سيرا جميلا

وانتهى الأمر بقتله (١).

والحق أن الزيدية أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية وأكثرها اعتدالا ؛ فهي لم ترفع الأئمة إلى مرتبة النبوة ، بل لم ترفعهم إلى مرتبة تقاربها بل اعتبروهم كسائر الناس ، ولكنهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

والزيدية لا يؤمنون بأن الإمام الذي أوصى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عينه بالاسم والشخص ، بل عرفه بالوصف ، وأن الأوصاف التي عرفت تجعل الإمام عليّا ـ رضي الله عنه ـ هو الإمام من بعده ؛ لأن هذه الأوصاف لم تتحقق في أحد بمقدار تحققها فيه. وهذه الأوصاف توجب أن يكون هاشميا ورعا تقيا ، عالما سخيا ، يخرج داعيا لنفسه ، ومن بعد علي يشترط أن يكون فاطميّا أي من ذرية السيدة فاطمة رضي الله عنها (٣).

الإمامية :

وهم يجعلون الإمام بعد علي زين العابدين محمد الباقر لا زيد بن علي ، وأهم فرقهم الاثنا عشرية والإسماعيلية.

والاثنا عشرية هي الفرقة التي تقول باثنى عشر إماما ، هم : علي المرتضى ، والحسن المجتبى ، والحسين الشهيد ، وعلي زين العابدين السجاد ، ومحمد الباقر ، وجعفر الصادق ، وموسى الكاظم ، وعلي الرضا ، ومحمد النقي ، وعلي التقي ، والحسن العسكري الزكي ، ومحمد المهدي الذي اختبأ واختفى سنة ٢٦٠ ه‍ وما يزال مستورا حتى يظهر في آخر الزمان ؛ ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا (٤).

__________________

(١) ينظر : مروج الذهب (٣ / ٢١٧ ـ ٢١٩).

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية ، محمد أبو زهرة (ص ٤٢).

(٣) الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٣٨) ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٤٣).

(٤) انظر : الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٣٨).

أما الإسماعيلية فساقوا الإمامة إلى جعفر الصادق ، وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل ، وإليه تنسب هذه الفرقة (١).

وافترقت الإسماعيلية فرقتين :

ـ فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر ، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه.

ـ وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حيث إن جعفرا نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل (٢).

وقد نشأ ذلك المذهب بالعراق كغيره من مذاهب الشيعة ، واضطهد كما اضطهد غيره ، وقد فر المعتنقون له بتأثير الاضطهاد إلى فارس وخراسان ، وما وراء ذلك من الأقاليم الإسلامية كالهند والتركستان ، وهناك خالط مذهبهم بعض آراء من عقائد الفرس القديمة ، والأفكار الهندية ، وتحت تأثير ذلك انحرف كثيرون منهم فقام فيهم ذوو أهواء ؛ ولذلك حمل اسم الإسماعيلية طوائف كثيرة ، بعضهم لم يخرجوا عن دائرة الإسلام ، وبعضهم انحرفوا بما انتحلوا من نحل لا يتفق ما اشتملت عليه مع المقرر الثابت من الأحكام الإسلامية ، وقد سموا الباطنية أو الباطنيين ؛ وذلك لاتجاههم إلى الاستخفاء عن الناس ، الذي كان وليد الاضطهاد أولا ، ثم صار حالة نفسية عند طوائف منهم (٣).

ومن الآراء الشاذة التي قال بها الإسماعيلية الباطنية :

ـ زعمهم أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبا للزعامة بدعوة النبوة والإمامة.

ـ تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا ، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم ، والحج زيارته وإدمان خدمته ، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام ، والزنى عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق.

وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها ، وتأولوا في ذلك قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] ، وحملوا اليقين على معرفة التأويل (٤).

__________________

(١) انظر : الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ٨١).

(٢) انظر : السابق (ص ٨١).

(٣) تاريخ المذاهب الإسلامية ، محمد أبو زهرة (ص ٥٢).

(٤) الفرق بين الفرق (ص ٣١٨).

كما زعموا أن تكاليف الدين وشعائره ليست إلا للعامة ولا يلزم الخاصة أن يعملوا بها (١).

ويقول البغدادي موضحا خطر الباطنية : «اعلموا ـ أسعدكم الله ـ أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس ، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم ، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان ؛ لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره ؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يوما ، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر (٢).

الكيسانية والراوندية :

سميت الكيسانية بذلك نسبة إلى كيسان رئيس جند المختار ابن عبيد الله الثقفي الذي خرج ودعا إلى محمد بن الحنفية.

ومنهم من يزعم أن محمد بن الحنفية لا يزال حيّا بجبال رضوى.

ومنهم من قال : إن الإمام بعد ابن الحنفية ابنه عبد الله بن محمد أبو هاشم الذي أوصى لمحمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالإمامة ، ومن ثم انتقلت الإمامة من أبناء علي إلى أبناء العباس.

ومن الكيسانية نشأت الراوندية ، حيث أوصى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلى ابنه إبراهيم ، وإبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس السفاح مؤسس الدولة العباسية.

والراوندية فرقة تشيعت للعباسيين ولم تكتف بمدح العباس بل أنكروا على أبي بكر وعثمان أن تقلدوا الخلافة مع وجود العباس ، وأنه ما كان يجوز لأحد أن يتولاها إلا العباس وعلي ؛ لأن العباس أذن له فيها.

بل ذهبوا إلى أبعد من هذا حينما قال بعضهم بالتناسخ ، أي : حلول روح آدم في زعيم لهم ، وروح جبريل في آخر (٣).

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي ، للشيخ السائس (ص ٢١٥).

(٢) الفرق بين الفرق (ص ٣٠٥).

(٣) انظر : الفرق بين الفرق ص (ص ٢٦ ، ٢٧) ، مقالات الإسلاميين (١ / ٢٨) ، وتاريخ التشريع الإسلامي للشيخ السائس (ص ٢١٧).

ثالثا : المرجئة

يوشك إجماع المؤرخين والمهتمين بعلم الكلام أن ينعقد على أن ظهور المرجئة كفرقة لها قسماتها الفكرية المميزة وآراؤها العقدية المغايرة للمألوف آنذاك ـ قد ارتبط ارتباطا مباشرا بمغالاة الخوارج في تكفير مخالفيهم ، والنظر إلى مرتكب الكبيرة على أنه كافر ، تخرجه ذنوبه من دائرة الإيمان والإسلام جميعا ، واعتبار العمل جزءا من إيمان صاحبه ، وأن الفصل بينهما فصل بين مرتبطين ضرورة (١).

وعلى العكس من معتقد الخوارج ، ذهبت المرجئة إلى أن الإيمان عقد بالقلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث ومات على ذلك ، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عزوجل وولي لله عزوجل ، من أهل الجنة (٢).

ولما كان الإيمان عند المرجئة غير مرتبط بعمل الجوارح قال مقاتل بن سليمان ـ وكان من كبار المرجئة ـ : لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا ، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا(٣).

وذهب عبد القاهر البغدادي إلى أن سبب تسميتهم بالمرجئة من الإرجاء بمعنى التأخير ؛ لأنهم أخروا العمل عن الإيمان (٤) ، بيد أن الراجح لدينا فيما يتصل بأمر التسمية ، أنهم سموا بذلك ؛ لأنهم يرجئون الحكم على صاحب الكبيرة إلى يوم الدين ، ويفوضون أمره إلى ربه (٥).

ونحسب أن هذا الرأي يستقيم مع الملابسات التاريخية التي واكبت نشأة المرجئة في المجتمع الإسلامي ، فهم قد ظهروا في عصر غلبت عليه نزعة تكفير الخصوم ، أو على أقل تقدير نسبتهم إلى الفسوق والعصيان والمخالفة عن أوامر الله ، أما الخوارج فيكفرون عثمان وعليّا والقائلين بالتحكيم ، وثمة من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان ، والفريقان جميعا ـ الشيعة والخوارج ـ يكفرون الأمويين ويعدونهم مغتصبين للخلافة ،

__________________

(١) ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية ، (ص ٨٥).

(٢) انظر في ذلك : محمد ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية (ص ٨٥) ، أحمد أمين ، فجر الإسلام (ص ٤٤١ ، ٤٤٢).

(٣) ابن حزم ، الفصل (٥ / ٢٠٤).

(٤) السابق (٥ / ٢٠٥).

(٥) الفرق بين الفرق (ص ٢١١).

والأمويون يقاتلون الجميع ويرون أنهم ضالون مضلون ، «فظهرت المرجئة تسالم الجميع ، ولا تكفر طائفة منهم ، وتقول : إن الفرق الثلاث : الخوارج والشيعة والأمويين مؤمنون ، وبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب ، ولسنا نستطيع أن نعين المصيب ، فلنترك أمرهم جميعا إلى الله ، ومن هؤلاء بنو أمية ، فهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فليسوا إذن كفارا ولا مشركين ، بل مسلمين نرجئ أمرهم إلى الله الذي يعرف سرائر الناس ويحاسبهم عليها» (١).

والحق أن هذه الفرقة قد وجدت لنفسها من مواقف بعض الصحابة تجاه الفتنة مستندا دعمت به وجهة نظرها ، بل يصح لنا أن نعتبر مواقف هؤلاء الصحابة البذرة الأولى التي نبتت منها المرجئة ، وتفصيل ذلك أن ثمة من الصحابة فئة لما رأوا الفتنة محدقة بالمسلمين ، ومقالة الكفر فاشية بين الناس جارية على ألسنتهم يرمون بها كل أحد مهما علا قدره وتميزت مكانته ـ : اعتصمت هذه الفئة من الصحابة بالصمت ، وأحجمت عن الانخراط في الفتنة ، وتمسكت بحديث أبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ستكون فتن : القاعد فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، ألا فإذا نزلت أو وقعت ، فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه ، فقال رجل : يا رسول الله ، من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ، ثم لينج إن استطاع النجاة» (٢).

ومن الصحابة الذين امتنعوا عن المشاركة في الفتنة عملا بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سعد ابن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو بكرة راوي الحديث وعمران بن الحصين ، وروي أن سعد بن أبي وقاص كان يقول إذا سئل القتال : «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يقول : هذا مؤمن وهذا كافر».

«وبهذا أرجئوا الحكم في أيّ الطائفتين أحق ، وفوضوا أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى. وقد قال النووي في ذلك : «إن القضايا كانت بين الصحابة مشبهة ، حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ، ولم يقاتلوا ، ولم يتيقنوا

__________________

(١) أحمد أمين ، فجر الإسلام (ص ٤٤٢).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢١٢) كتاب الفتن باب نزول الفتن (١٣ / ٢٨٨٧) ، وأحمد (٥ / ٣٩ ، ٤٨).

وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (٦ / ٧٠٨) كتاب المناقب باب علامات النبوة (٣٦٠٤) ، ومسلم (١٠ / ٢٨٨٦) في الموضع السابق.

الصواب» (١).

إن الحقيقة التي ينبغي التنويه بها والإشارة إليها في هذا المقام ، أن فرقة المرجئة على الرغم من خروجها من رحم الأحداث السياسية ، فإنها مذهب ديني فلسفي ، موضوعه البحث عن حقيقة الإيمان وعلاقة العمل به ، وكانت الغاية التي تهدف إليها ـ أصلا ـ الامتناع عن التسرع في إصدار الأحكام على أعمال الصحابة والتابعين ، ولا سيما تلك التي صدرت في خلال المنازعات التي وقعت بينهم ، فنظرة هذا المذهب إذن كانت إلى الماضي ، وكان حكمه على أعمال تاريخية (٢).

وقد صور ثابت قطنة ـ شاعر المرجئة ـ عقيدة الإرجاء خير تصوير في قصيدة له ، نجتزئ منها بهذه الأبيات :

يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا

أن نعبد الله لم نشرك به أحدا

نرجي الأمور إذا كانت مشبهة

ونصدق القول فيمن جار أو عندا

المسلمون على الإسلام كلهم

والمشركون استووا في دينهم قددا

ولا أرى أن ذنبا بالغ أحدا

م الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا

بدع المرجئة وضلالهم (٣) :

إن تحرج المرجئة من الحكم على أعمال الصحابة ، وتأثمهم من تكفير صاحب الكبيرة يحمد لهم من غير مماراة ، وهم في ذلك لا يخالفون المسلمين من حيث تفويض أمر مرتكب الكبيرة إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء تغمده برحمته وأدخله الجنة.

بيد أن المرجئة المتأخرين قد بالغوا في فصل الإيمان عن العمل ، فأتوا بدعا وضلالات تخرجهم من دائرة الإسلام أصلا ، فزعموا ـ كما أشرنا في صدر الحديث عنهم ـ أنه لا يضر مع الإيمان ذنب جلّ أو صغر ، كما لا يجدي مع الشرك والكفر طاعة ، فالإيمان في القلب واللسان ، وهو المعرفة بالله تعالى ، والمحبة والخضوع له بالقلب (٤).

__________________

(١) محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ١١٩).

(٢) انظر : ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية ، (ص ٨٦).

(٣) ينظر : أصول الدين للبزدوي (ص ٢٥٢) ، نشر الطوالع (ص ٣٩٠) ، الفرق بين الفرق (١ / ١٩٠) ، والفصل في الملل والنحل (٤ / ١٥٤) ، والمواقف (٣ / ٧٠٥) ، والتنبيه والرد على أهل الأهواء (١ / ٤٣) ، كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ٣) ، فجر الإسلام (٢٧١) ، التفكير الفلسفي في الإسلام (١ / ٢٠٥) ، الخطط والآثار للمقريزي (٤ / ١٧١) ، الفرقان بين الحق والباطل لابن تيمية (ص ٢٩) ، الموسوعة الإسلامية العامة (ص ١٢٨٠).

(٤) الفرق بين الفرق (ص ٢١٢).

وزعم أبو الحسين الصالحي أن الصلاة ليست بعبادة لله ، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته ، والإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة (١).

بل إن بعضهم زعم أن لو قال قائل : أعلم أن الله قد حرم أكل الخنزير ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هو هذه الشاة أو غيرها ، كان مؤمنا.

ولو قال : أعلم أنه قد فرض الحج إلى الكعبة ، غير أني لا أدري أين الكعبة ولعلها بالهند كان مؤمنا ، ومقصوده أن أمثال هذه الاعتقادات أمور وراء الإيمان لا أنه شاك في هذه الأمور ، فإن عاقلا لا يستجيز عقله أن يشك في أن الكعبة إلى أي جهة هي ، وأن الفرق بين الشاة والخنزير ظاهر (٢).

على هذا النحو هون المرجئة من شأن العمل ، وجعلوا الإيمان مجرد التصديق القلبي ، وإن دل عمل الجوارح على خلافه.

فلا غرو أن أطمع هذا المذهب الفساق في عفو الله ، واتخذوا من أقوال المرجئة ذريعة يبررون بها آثامهم ، حتى غدا الإرجاء دين المستهترين وعقيدة المذنبين ، وقد أثر عن زيد ابن علي بن الحسن أنه قال : «أبرأ من المرجئة الذين أطمعوا الفساق في عفو الله».

والخلاصة أن المرجئة ينقسمون إلى قسمين :

قسم : توقف في الحكم على أعمال الصحابة ، وتحرج من تصويب مواقفهم أو تخطئتها.

والقسم الثاني : منكر لأن يكون العمل جزءا من الإيمان ، وأن عفو الله يسع الصالحين والمذنبين جميعا ، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الشرك طاعة.

* * *

__________________

(١) مقالات الإسلاميين (١ / ٢١٤).

(٢) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ١٢٠ ، ١٢١) ، وانظر مقالات الإسلاميين (١ / ٢٢١).

الفصل الثاني

المذاهب الاعتقادية

توطئة :

امتاز الإسلام بعقيدته الواضحة الصافية ، التي تخاطب العقل والوجدان جميعا ، وتسلك في سبيل إقناع الناس بها طريقا وسطا بين المنطق والعاطفة لا تجد فيه أمتا ولا عوجا ، ولسنا نقصد بالمنطق ذلك العلم الذي تقررت أصوله وتحددت قواعده لدى اليونان ، واتسم بغير قليل من الغموض والتعقيد ، وإنما نريد به لفت العقول المستقيمة إلى ما يغص به الكون الفسيح من أعلام واضحة وأدلة مقنعة على وجود الله وقدرته ووحدانيته ، والتي لا تملك هذه العقول أمامها إلا الإذعان والتسليم ؛ قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] ، وقال كذلك : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢٠ ، ٢١] ، والحق أن الآيات التي تؤدي هذا المعنى وتلفت إليه في القرآن الكريم أكثر من أن تحصى.

ولا ريب أن وجود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين يميط اللثام لصحابته عما التبس عليهم من مسائل العقيدة ، ويجيب عما يضطرب في نفوسهم وضمائرهم من أمور مشكلة قد اشتبهت عليهم ـ قد عصم المسلمين من التردي في هوة الخلاف والجدل الذي ينفي من القلوب يقين الاعتقاد ، ويبث فيها بذور الشك والارتياب.

وتدلنا الآثار الصحيحة أن شيئا من التفكير في أصول الدين والنظر في بعض مسائله قد مس عقول نفر من الصحابة مسّا رفيقا ، وإن لم يمعنوا النظر أو يوغلوا في الدرس ، فقد روي أن أحد الصحابة حين أخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن كل إنسان قد كتب مقعده من النار أو الجنة قال : ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (١).

وروي أيضا عن أبي ذر الغفاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أخبره بأن من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، سأله أبو ذر بقوله : وإن زنى وإن سرق؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن زنى وإن سرق» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٣٣٢) كتاب القدر باب «وكان أمر الله قدرا مقدورا» (٦٦٠٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٠) كتاب القدر كيفية خلق الآدمي (٧ / ٢٦٤٧) عن علي بن أبي طالب.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٤٤٥) كتاب الجنائز باب في الجنائز (١٢٣٧) ، ومسلم (١ / ٩٤ ـ ٩٥) كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا (١٥٣ / ٩٤).

ومن الواضح أن السؤال الأول كان يتصل بالقدر ومشكلة التكليف ، والثاني يتصل بحكم صاحب الكبيرة (١).

ولم تكن هذه التساؤلات من جانب الصحابة للرسول الكريم عن رغبة في الجدال المذموم وإثارة للشبهات التي يأباها الإسلام ، بل كانت صادرة ـ هي وغيرها ـ عن رغبة صادقة ونزعة مخلصة في فهم الدين وتدبر مراميه ، حتى يكون حظ الاقتناع العقلي في الإيمان به أوفر من حظ الجهل والتقليد.

فإذا كان هذا هو حال المؤمنين الصادقين في طرح الأسئلة على النبي فيما يتصل بالقدر وصلتها بالعقيدة بينة ، فإن ثمة من المشركين من أثاروا هذه المسألة لا يريدون بها إلا الفتنة ، فقال الله فيهم : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧].

وقد اتخذ أولئك من القول بالقدر ذريعة تسوغ لهم الإشراك بالله ؛ قال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨].

ومهما يكن من أمر هؤلاء المشركين ، فإن العقيدة الإسلامية على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتسمت بما أشرنا إليه قبل قليل من القوة والوضوح والصفاء ، وما كان لشبه المشركين أن تزعزع الإيمان بها أو اليقين فيها ، لا سيما وقد التزم المسلمون المنهج السديد في النظر إلى العقائد وأصول الدين ، وهو منهج يقوم على التسليم بما ورد في كتاب الله دون المماراة فيه أو تأويله ، وتفويض أمر المتشابه إلى الله سبحانه وتعالى ، وحسبك شاهدا على صدق مقالتنا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمر بوجوب الإيمان بالقدر ونهى عن الخوض فيه ؛ «لأن الخوض فيه مضلة للأفهام ومزلة للأقدام ، وحيرة للعقول في مضطرب من المذاهب والآراء ، وذلك يدفع إلى الفرقة والانقسام ، ولأن إثارة الجدل فيه إثارة في أمر ليس في سلطان المجادل الإقناع به ، وليس بيد أحد من الأدلة العقلية ما يحسم به الخلاف ، ويقطع

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٥٦).

في الموضوع» (١).

فلا غرو أن كان المسلمون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد وفاته بقليل على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه ، غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا على حد تعبير البغدادي.

ويسعنا أن نضيف إلى ما سلف أن المسلمين في عهد أبي بكر الصديق قد شغلوا بقمع المرتدين ، وفتح الأمصار والأقاليم لنشر الدعوة الإسلامية وبثها في الآفاق ، فصرفوا إلى الدعوة نفسها أكثر مما عنوا بالنظر فيها والجدال حولها.

بيد أن الفتح نفسه وما ترتب عليه من اتساع رقعة الإسلام كان عاملا من عوامل الاختلاف حول العقائد الإسلامية ، وسببا أصيلا من أسباب الشقاق الفكري الذي صار معلما بارزا من معالم الحياة الإسلامية حتى الآن ، على نحو ما سوف نشير إليه بعد قليل.

نعم المسلمون بتلك الحالة التي أشرنا إليها من الاستقرار الديني والهدوء الفكري مدة خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب وشطرا من خلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وعرف الاختلاف طريقه إلى المسلمين منذ عهد عثمان نفسه ، وكان مقتله ذروة هذا الاختلاف الذي تجاوز المناقشات الفكرية والحوارات الهادئة إلى المناجزة العنيفة في ميادين القتال وساحات الوغى ، ونشأ من هذه وتلك فرق سياسية اصطرعت حول «مبدأ الخلافة» ، وأدلى كل منها بما يحسبه صوابا في ميدان السياسة ، وهي : الشيعة والخوارج ثم المرجئة ويمكن أن يضاف إليها الحزب الأموي «وهذه الأحزاب وإن كانت في الواقع سياسية ، إلا أنها لم تتخذ الشكل السياسي البحت ، بل اصطبغت بصبغة دينية قوية ، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية ، وصار الذين يقتتلون سياسيّا يقتتلون دينيّا ، ولكل حزب أدلته الدينية التي يؤيد بها رأيه ، وأخذ كل حزب يؤول في القرآن حسبما يوافق نزعته ورأيه» (٢).

وأثارت هذه الفرق مسألة مرتكب الكبيرة ، واحتدم النزاع فيما بينها حول نسبته إلى الكفر أو الإيمان ، وهل هو كافر مخلد في النار أم مؤمن يدخله الله برحمته الجنة ، «ولقد ساقهم الخلاف في هذه المسألة إلى الخلاف في تعريف الكفر والإيمان والكبائر والصغائر ونحو ذلك ، وتكون من كل منهم فرق لها آراؤها في الأصول والفروع مما كان أساسا فيما بعد لعلم الكلام» (٣).

__________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ٩٨).

(٢) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ٣).

(٣) السابق ، الصفحة نفسها.

الصدام الفكري بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى :

لم يكد القرن الأول الهجري ينتهي حتى كان المسلمون قد ضموا إلى دولتهم أقطارا شاسعة متباينة في الدين والعقيدة تباينها في نمط الحياة وطريقة العيش ، ففتحت بلاد العراق وفارس وما وراءهما ، والشام ومصر وما يليهما ، وأوغل المسلمون في الفتح فعبروا المحيط الأطلسي إلى أوربا ومدوا نفوذهم إلى الأندلس.

والحق أن حركة الفتوحات هذه قد امتد تأثيرها ليشمل إلى الجوانب السياسية والاقتصادية الدين والعقائد وما يرتبط بهما من شئون الفكر وألوان الثقافة ، وذاك أمر ما نعلم أن أحدا من الدارسين أو الباحثين قد شكك فيه أو غض الطرف عنه ، بل جلّ الباحثين الذين ينظر إليهم بعين الاحترام والاعتبار قد أرجعوا نشأة علم الكلام والتفكير الفلسفي في الإسلام إلى هذا السبب ، بالإضافة إلى أسباب أخرى أشرنا إلى بعضها وقد نشير فيما بعد إلى بعضها الآخر ، ولا غرابة في ذلك إذا نحن علمنا أن هذه البلاد المفتوحة لها عقائدها ودياناتها وثقافاتها المختلفة فتجد النصرانية في مصر والشام والعراق وإفريقية ، وتطل عليك اليهودية من العراق وشمال الحجاز ، ولو قد مددت ببصرك إلى فارس وما وراء النهر لرأيت الزرادشتية والمانوية والمزدكية ، وتستطيع أن تقف في غير ما صعوبة ومشقة على الفلسفة اليونانية منبثة في ثنايا هذه الأقطار.

إذا علمت ذلك كله ـ وما نحسب ذلك أمرا عسيرا ـ فإنك لا محالة تتبين أثر هذه الثقافات المختلفة والديانات المتباينة في العقيدة الإسلامية ، ومدى ما أسهمت به في تطورها عما كانت عليه في العهد الأول ، وما أضافته إلى البحث الديني والإسلامي من مسائل وأفكار لم يكن للمسلمين عهد بها ولا تفكير فيها ، ودونك أيها القارئ الكريم بعض الأمثلة :

تحدث اليهود في النسخ ولم يجيزوا القول به ، فالشريعة عندهم ابتدأت بموسى وتمت به ، واهتموا بمسائل الذات والصفات إذ وجدوا في توراتهم ما يدعو إلى ذلك من النزول عند طور سيناء انتقالا ، والاستواء على العرش استقرارا ، وجواز الرؤية وغير ذلك.

كما ناقش اليهود فكرة القدر وانقسموا حولها إلى فريقين : فريق يرى الجبر والاستسلام ، وفريق يرى القدرة والاختيار.

وقال اليهود بالرجعة ، فزعموا أن هارون مات وسيرجع ، ومنهم من قال : غاب وسيرجع.

أما النصارى ففي ثقافتهم الدينية مسائل يدلنا النظر في علم الكلام أن المسلمين قد تأثروا بها مثل مسألة الحشر ، وهل يكون للأبدان والأرواح أو للأرواح فقط ، وهل صفات الله زائدة عن ذات الله أو هو هي ، وهل ينزل المسيح قبل يوم القيامة أو لا ينزل ، وحرية الإنسان في إرادته أو القدر إلى غير ذلك مما ظهر الخلاف فيه بين فرق المسلمين (١).

وإلى المانوية والمزدكية والزرادشتية يرجع الأثر الأكبر في كثير من الأفكار المنحرفة التي عرفتها الثقافة الإسلامية : كالتناسخ والحلول والاتحاد.

«وكان الفرس ينظرون إلى ملوكهم نظرة إلهية وكانوا يعتقدون أن الله اصطفاهم للحكم بين الناس ، وخصهم بالسيادة ، وأنهم ظل الله في أرضه ... وهذه النظرة تأثر بها الشيعة في علي وأبنائه واعتقادهم أنهم أحق بالخلافة دون سواهم» (٢).

ولا أحسبني في حاجة إلى إقامة الأدلة والتماس البراهين على انتقال هذه الأفكار وغيرها إلى العقيدة الإسلامية ، وأثرها في نشأة علم الكلام نفسه عند المسلمين ، فنظرة سريعة في مصنفات هذا العلم تدلك على هذا في وضوح وجلاء ، ولسنا حين نقرر ذلك بدعا بين الباحثين الذين سبقوا إلى مثل رأينا حتى غدا محل إجماعهم ولقي من القبول والتأييد أكثر مما صادف من الإنكار والمعارضة.

إن انتقال مسائل العقائد الدينية لدى الأمم التي أسلفت ذكرها أمر فرضه واقع حياة المجتمع الإسلامي نفسه الذي كان مسرحا لديانات مختلفة ، دعت تعاليم الإسلام إلى احترامها وعدم جدال أصحابها إلا بالتي هي أحسن ، ونهى المسلمين عن فرض دينهم على مخالفيهم ؛ قال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦] ، «وبتقرير الإسلام لهذا المبدأ أصبح للكثيرين من أهل هذه الديانات أن يقيموا بين المسلمين على عقائدهم القديمة ، في نظير مبلغ من المال يدفعه القادر منهم لأجل حمايته والدفاع عنه ، وتمتعه بما يتمتع به المسلمون من حقوق ، بل لقد طمع بعضهم في أن يحولوا بعض المسلمين إلى دياناتهم بينما كان المسلمون ؛ من جانبهم جاهدين في نشر الدعوة الإسلامية ورفع رايتها ، وكان يقوم بهذه المهمة علماء مبرزون في العواصم الكبرى للأقطار التي فتحها المسلمون ؛ فثار بذلك خلاف بين المسلمين وبين أهل هذه الديانات كان سببا في تبادل الأفكار بين الفريقين» (٣).

__________________

(١) السابق (ص ١٠).

(٢) السابق (ص ١٢).

(٣) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ١٣).

ويسعنا أن نضيف إلى ذلك أن ثمة من أهل هذه الديانات من أسلم بلسانه ولم يطمئن قلبه للإسلام ؛ رغبة في الكيد له والطعن فيه ، بل إن من أسلم منهم صادقا مزج ـ عن غير قصد الإساءة ـ بين العقيدة الإسلامية ، وما درج عليه من عقائد دينه القديم ، فأسهم بغير شك في تطوير العقيدة الإسلامية ، وتغييرها.

أمست العقيدة الإسلامية ـ لما أسلفنا من أسباب ـ مفتقرة إلى من ينافح عنها ضد خصومها من أهل الديانات الأخرى ، الذين طمسوا معالمها أو كادوا ، وشوهوا صفاءها ونقاءها ، بما ألصقوه بها من آراء غريبة عنها وأفكار مناقضة لها ، بل إن حاجة العقيدة الإسلامية إلى من يدافع عنها فاقت حاجتها لمن يدعو لها ويروج لمبادئها.

ودعت الظروف الفكرية التي أحاطت بالمسلمين آنذاك إلى أن يتسلح من ندبوا أنفسهم للدفاع عن العقيدة الإسلامية بأسلحة الخصوم نفسها وهي المنطق والفلسفة وأدوات الحجاج العقلي والصراع الجدلي ؛ إذ كان من أهل الديانات المناوئة للإسلام من حذق الفلسفة اليونانية واصطنع أدواتها في تقرير عقائده والدعوة لها ، «وهكذا خاض المسلمون منذ عصر الأمويين في العقائد بمنهج جدلي عقلي غير ملتزمين بمنهج الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد أدى هذا الاتجاه إلى اختلاف المسلمين ووجود الفرق المختلفة التي حاولت كل منها أن تظهر رأيها على أنه الصورة الحقيقية للعقيدة الإسلامية الصحيحة عن طريق جذب النصوص الشرعية إلى رأيها الخاص ، وقد وجدوا في المتشابه مجالا لذلك ، فأخذوا يؤولون ويخرجون النصوص تخريجا يجعلها سندا لهم» (١).

ونتناول الحديث عن أهم هذه الفرق فيما يلي :

أولا : المعتزلة

أشرنا آنفا إلى أن العقيدة الإسلامية قد مست حاجتها إلى من ينافح عنها ، ويدحض شبه الطاعنين فيها من أهل الديانات الأخرى ، وأن من يقوم بهذه المهمة ينبغي عليه أن يقف على أدوات الحجاج العقلي ووسائل الجدل التي أتقنها الخصوم ، وهي المنطق والفلسفة ، والحق أن المعتزلة قد قاموا بهذه المهمة خير قيام ، وأسهموا في ميدان الدفاع عن الإسلام وتبيين عقائده والاستدلال لها استدلالا عقليّا ممتازا ـ ما يحمد لهم ، ويذكر في كفة حسناتهم بغير قليل من الإكبار والاحترام ، «فالمعتزلة تعد من أوائل الفرق الكلامية التي نظرت في العقائد وأيدتها بالبراهين العقلية ، وخاضت في الجدل والكلام ، وبرعت في

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٧٤).

مناظرة الخصوم وإفحامهم» (١).

وينتظم حديثنا عن هذه الفرقة الكلامية عدة محاور :

أولا : النشأة وسبب التسمية.

ثانيا : مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة.

ثالثا : منهج المعتزلة في درس العقائد.

رابعا : الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة.

أولا : النشأة وسبب التسمية :

تنسب هذه الفرقة ـ كما هو مقرر معلوم ـ إلى واصل بن عطاء (٨٠ ـ ١٣١ ه‍) الذي كان تلميذا للحسن البصري أشهر علماء زمانه وأبرزهم.

وثمة خلاف شجر بين الدارسين حول سبب تسمية هذه الفرقة للمعتزلة ، أثمر ـ أي هذا الخلاف ـ ثلاثة آراء متباينة لا بأس من ذكرها ، ثم نختار من بينها ما نراه صوابا.

أما الرأي الأول : فيذكره الشهرستاني صاحب الملل والنحل ، حيث روى أن رجلا دخل على الحسن البصري فقال له : يا إمام الدين : لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم الخوارج ، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ؛ لأن العمل عندهم ليس ركنا من الإيمان ، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأمة ، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟ ففكر الحسن في هذه المسألة وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء ـ الذي كان حاضرا مجلس الحسن البصري ـ : أنا لا أقول : إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ، ولا كافر مطلق ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، أي : لا مؤمن ولا كافر ، ثم قام واعتزل مجلس الحسن إلى مكان آخر من المسجد ، فلما رآه الحسن وبعض أصحابه قال :

اعتزل عنا واصل ؛ فسمى هو وأصحابه معتزلة (٢).

والرأي الثاني حكاه المسعودي في مروج الذهب حيث قال : سموا بذلك ؛ لأنهم قالوا باعتزال صاحب الكبيرة ، فيكون الاعتزال وصفا لمرتكب الكبيرة في الأصل ، وسميت به الفرقة ؛ لأنها جعلت مرتكب الكبيرة يعتزل المؤمنين والكافرين (٣).

__________________

(١) السابق (ص ٨١).

(٢) الملل والنحل (١ / ٩٥).

(٣) نصيب المعتزلة في تطوير علم الكلام (ص ١٩).

أما الرأي الثالث : فقد ذكره البغدادي حين قال : سموا بذلك ؛ لأنهم اعتزلوا قول الأمة (١) ، فالخوارج كانوا يقولون : إن مرتكب الكبيرة كافر ، والمرجئة يقولون : إنه مؤمن ، والحسن البصري ـ وهو ممثل علماء التابعين آنذاك ـ يرى أنه فاسق وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام (٢).

والذي نميل إليه ونأخذ به هو الرأي الثالث ؛ «لأن التسمية فيه تكون متعلقة بالجوهر وهو الآراء ، لا بالعرض وهو انتقال واصل ومن معه من حلقة من المسجد إلى حلقة أخرى ؛ إذ إن هذا الانتقال الحسي ليس بالأمر الهام ذي الخطر الذي من شأنه أن تسمى بسببه فرقة هامة كالمعتزلة» (٣).

ومهما يكن من أمر فقد نشأت المعتزلة على يد واصل بن عطاء وفي ذلك يقول طاش كبرى زاده : «وأول ما ظهر مذهب الاعتزال وشاع إنما ظهر من واصل بن عطاء ، أخذ الاعتزال عن الإمام أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية الذي قيل : إنه كان أول من أحدث مذهب الاعتزال واخترعه هو وأخوه الإمام الحسن بن محمد ابن الحنفية ... ولكن ظهر واشتهر الاعتزال من واصل بن عطاء أبي حذيفة المعروف بالغزال» (٤).

وقدّر لهذه الفرقة أن تملأ العالم وتشغل الناس ، يؤمن بعقائدها الخلفاء وأهل السياسة ، فقد اعتقد آراءهم المأمون وحمل الناس عليها حملا ، وامتحنهم بها امتحانا ، وتبعه المعتصم والواثق ، فلما جاء المتوكل ناهض المعتزلة وأمر الناس بترك النظر والمباحثة والجدال ، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة ، بيد أن المتوكل لم يستطع أن يقضي على آراء المعتزلة ولم يتمكن من اقتلاع أفكارهم من المجتمع الإسلامي ، بل ظلت هذه الآراء والأفكار باقية بعده ، وبالرغم من العبث بتراثهم وإتلاف كتبهم ، فإن آراءهم لا تزال باقية حتى اليوم (٥).

ثانيا : مراكز الاعتزال وفرق المعتزلة :

أشرنا فيما سبق إلى نشأة الاعتزال في البصرة على يد واصل بن عطاء ، فعدّت البصرة لذلك المركز الأول للمعتزلة والمدرسة الرائدة لهم.

__________________

(١) الفرق بين الفرق (ص ١٣٥).

(٢) السابق ص (١٣٥).

(٣) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ١٩).

(٤) السابق (١٩).

(٥) السابق (ص ٢٠).

بيد أن ثمة مركزا آخر ازدهر فيه الفكر الاعتزالي وغدا بمثابة المدرسة الثانية للمعتزلة ، ألا وهو «بغداد».

والحق أننا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ ظهور هذه المدرسة ، وإن كان الراجح لدينا أن هذا التاريخ لا يرجع إلى قبل عهد الرشيد ، حيث ازدهرت بغداد نفسها من الناحية العلمية منذ عهد الرشيد الذي أولى العلم عناية فائقة وأنزل العلماء في دولته مكانا رفيعا ، وبلغت مدرسة المعتزلة في بغداد أوج ازدهارها وذروة نفوذها منذ عهد المأمون الذي تبنى الآراء الاعتزالية وحمل الناس على الإيمان بها ، وكانت سنة ٢١٨ ه‍ سنة المحنة التي ابتلي فيها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية ، وطلب المأمون منهم أن يقروا بخلق القرآن ، وبحرية إرادة الإنسان وباستحالة رؤية الباري ، ومن لم يفعل ذلك حكم بكفره ، ولم تقبل شهادته (١).

على هذا النحو كانت مدرسة البصرة الاعتزالية أسبق إلى الوجود الفكري الإسلامي من مدرسة بغداد ، وكانت الأخيرة بمثابة فرع للأولى.

وثمة فروق دقيقة نستطيع أن نتبينها بين المدرستين :

ـ أولها : أن مدرسة البصرة كانت أكثر نزوعا إلى الاستقلال الفكري من مدرسة بغداد.

ـ ثانيها : أن شيوخ مدرسة بغداد كانوا أكثر اتصالا بالحياة السياسية والعلمية من علماء مدرسة البصرة الذين كانوا منغمسين في بحوثهم العلمية مكتفين بتفكيرهم الهادئ في العقائد الإسلامية.

ولا غرابة في ذلك ، حيث إن بغداد هي حاضرة الخلافة العباسية ومركز الحكم ، ولخلفائها اتصال بالمعتزلة وإعجاب بآرائهم وحدب على شيوخهم.

ـ وثمة أمر ثالث يفرق بين المدرستين هو «أن مدرسة بغداد عرفت بالتعمق في البحث والانتفاع بالآراء الفلسفية إلى أقصى حد ؛ لشدة حركة الترجمة في بغداد ، فمثلا نرى ثمامة ابن أشرس يذهب إلى أن العالم برز من الله ؛ لأن طبيعة الله من شأنها الإيجاد بالطبع ، ولا يمكن أن يتخلف ذلك ، ولا شك أن هذا الرأي يؤدي إلى القول بقدم العالم ؛ لأن طبيعة الله لا تتغير ، وثمامة في هذا الرأي متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم» (٢).

__________________

(١) انظر : نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ٢٠).

(٢) السابق (ص ٢١).

على هذا النحو كان تأثر معتزلي بغداد بالفلسفة اليونانية عظيما ، ولقد مزجوا هذه الفلسفة بدرس العقائد الإسلامية ، على نحو ما سنعرف عند حديثنا عن منهج المعتزلة.

وقد افترقت المعتزلة إلى اثنتين وعشرين فرقة وهي : الواصلية ، والعمروية ، والهذلية ، والنظامية ، والأسوارية ، والمعمرية ، والإسكافية ، والجعفرية ، والبشرية ، والمرداوية ، والهاشمية ، والثمامية ، والجاحظية ، والخابطية ، والحمارية ، والخياطية ، وأصحاب صالح قبة ، والمريسية ، والشحامية ، والكعبية ، والجبائية ، والبهشمية المنسوبة إلى أبي هاشم الجبائي.

فهذه ـ كما يذكر البغدادي ـ ثنتان وعشرون فرقة ، فرقتان منها من جملة فرق الغلاة في الكفر ، وهما : الخابطية والحمارية ، وعشرون منها قدرية محضة (١).

على أن ثمة أصولا مشتركة تؤلف بين هذه الفرق المختلفة ، درج الباحثون على نعتها بالأصول الخمسة ، ونرجئ الحديث عنها بعد أن نلم بمنهج المعتزلة في درس العقائد.

ثالثا : منهج المعتزلة في درس العقائد (٢) :

أشرنا فيما سبق إلى أن للسلف ـ رضوان الله عليهم ـ طريقة في فهم العقيدة تنهض على ساق من النصوص ـ القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ـ وساق من المعرفة العميقة باللغة العربية والفقه الواسع بأسرارها ، ولم يكونوا ينحرفون قليلا أو كثيرا عن هذا المنهج الذي أرسى دعائمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا ما اشتبه عليهم أمر من أمور العقيدة توقفوا فيه وفوضوا أمره إلى الحق تبارك وتعالى.

ولسنا في حاجة إلى أن نقرر أن السلف الصالح قدموا النقل على العقل ، وكانت مهمة العقل لديهم مقصورة على فهم النصوص دون تأويل ، فلا غرو أن كان العقل تابعا للنقل أو النص أو الوحي ، سمه ما شئت.

__________________

(١) الفرق بين الفرق (ص ١٣١).

(٢) ينظر : مقالات الإسلاميين (١ / ١٥٥) ، الفرق بين الفرق (١ / ٩٣) ، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (١ / ٢٨٤) ، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين (١ / ٣٨) ، التبصير في الدين (١ / ٦٧) ، الفصل في الملل والنحل (٣ / ٥٦) ، التعريفات للجرجاني (١ / ٢٨٢) ، المواقف للإيجي (٣ / ٦٥٧) ، أصول الدين للبزدوي (ص ٢٥٠) ، شرح العقيدة الطحاوية (ص ٥٢٨) ، شرح الخريدة البهية (ص ١٠١) ، تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي (ص ٤٤) ، نشر الطوالع (ص ٣٨٨) ، أصول الدين للبغدادي (ص ٣٣٥) ، الزينة لأبي حاتم (ص ٢٧٤) ، حاشية أحمد ملا على شرح العقائد النسفية (١ / ٥٣) ، أدب المعتزلة للدكتور عبد الحكيم بلبع (ص ٦٢) ، المعتزلة لزهدي جار الله (ص ٢٤٥) ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (١ / ١٠٢) ، الموسوعة الإسلامية العامة (ص ١٣١٨).

أما المعتزلة فقد خالفوا هذا المنهج ، حيث اعتدوا بالعقل اعتدادا كبيرا ، فارتادوا بالمسلمين في فهم العقائد ودرسها طريقا جديدة لم يألفها المسلمون ولا كان لهم عهد بها من قبل.

بيد أن ذلك لا يعني أنهم أهملوا النقل أو أنكروا حجيته ، بل كان منهجهم يعتمد على المنقول والمعقول جميعا ، وقد أشار إلى ذلك الأسفرائيني وذكر أنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف وجمعوا بين المعقول والمنقول ، وأقاموا سياجا قويّا من البراهين والحجج المنطقية للدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين لها والمعترضين عليها (١).

ولقد عزا الشهرستاني هذه النزعة العقلية التي امتاز بها المعتزلة إلى تأثرهم بالفلسفة اليونانية ، وإدمانهم النظر في المترجم منها إلى العربية (٢).

ويقول أحد الباحثين معلقا على ذلك :

«وقد ظهر أثر هذا التأثر بوضوح في آرائهم وأدلتهم ومقدمات براهينهم وقد دفعهم إلى ذلك أمران :

الأول : أنهم وجدوا فيها ـ أي في الفلسفة اليونانية ـ ما يرضي منهجهم العقلي وشغفهم الفكري ، وجعلوا فيها مرانا عقليا جعلهم يلحمون الحجة بالحجة.

الثاني : أن الفلاسفة وغيرهم لما هاجموا بعض المبادئ الإسلامية تصدى هؤلاء للرد عليهم ، واستخدموا بعض طرقهم في النظر والجدل ، وتعلموا الكثير منها ليستطيعوا أن ينالوا الفوز عليهم» (٣).

وإذا كان المعتزلة يجمعون في درسهم للعقائد الدينية بين العقل والنقل ، فإنهم يقدمون العقل ويتخذونه أساس المعرفة الأول ، ويرونه قادرا على معرفة كل شيء ما خلا الذات الإلهية ، فلا غرو أن عولوا عليه في النظر في العقائد وأمور السياسة والعلوم المختلفة كالحديث والفقه والأصول.

وهم بذلك يختلفون عن الأشاعرة والماتريدية اختلافا كبيرا حيث يقدم هؤلاء الدليل النقلي على الدليل العقلي ، ويرون العقل مجرد أداة لفهم النصوص واستنباط الأحكام

__________________

(١) انظر : د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٨٣).

(٢) الفصل في الملل والنحل (٣ / ٥٧).

(٣) منهج الأشاعرة والماتريدية في علم الكلام ، محمد حسن أحمد ، رسالة دكتوراه ، كلية أصول الدين ص (٧٦).

منها.

ولقد حمل هذا المنهج الاعتزالي أحد المشتغلين بالفكر الفلسفي في الإسلام إلى التصريح بأن المعتزلي لم يكن يأبه أن تكون النصوص الدينية متوافقة مع أصوله الفلسفية أو غير متوافقة ، وأن كل ما يرمي إليه هو دعم الأصل العقلي الذي وصل إليه (١).

كان المعتزلة يرون أن العقل أصل والسمع ـ أي النقل ـ فرع ، ولا يجوز تقديم الفرع على الأصل ، ومن هنا كان تقديمهم العقل على النقل.

ويتمثل النقل لدى المعتزلة في ثلاثة أدلة : الكتاب ، والخبر المجمع عليه ، والإجماع ، «وقد عولوا جميعا في بحوثهم على القرآن ، أما الحديث فقد اختلفوا في موقفهم منه ، فواصل لم يقبل منه إلا المتواتر أو المشهور ، وعمرو بن عبيد شكك في الرواية والرواة ، وأبو الهذيل العلاف يرفض المتواتر ، وبلغت هذه النزعة أوجها عند النظام الذي أنكر بعض الأحاديث ، ورفض الإجماع ، ولكن هذه النزعة قد خفت ومالت إلى الاعتدال عند المتأخرين من المعتزلة ، وخاصة القاضي عبد الجبار وتلاميذه الذين اعتدوا بالحديث» (٢).

وللدليل النقلي عند المعتزلة ضوابط وشروط ، لا يأخذون به إلا عند تحققها فيه ، وهي :

أولا : ألا يتعارض مع العقل ؛ لأن العقل حجة الله والشرع حجة الله ، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض.

ثانيا : أن يكون قطعي الثبوت ؛ ولذلك فهم لا يأخذون بأحاديث الآحاد ولا يعولون عليها في مسائل الاعتقاد.

ثالثا : أن يكون قطعي الدلالة بحيث لا يحتمل تأويلا (٣).

رابعا : الأصول الخمسة التي قال بها المعتزلة :

ثمة أصول خمسة أجمع المعتزلة ـ مع تعدد فرقهم وتباينها ـ على القول بها ، ولم ينتحل نحلة المعتزلة متكلم إلا وقد آمن بها ؛ قال أبو الحسن الخياط في كتابه الانتصار : «وليس أحد يستحق اسم الاعتزال ، حتى يجمع القول بالأصول الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،

__________________

(١) د / علي سامي النشار ، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (١ / ٢٥٧).

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٨٤).

(٣) شرح الأصول الخمسة (ص ٢٦٩).

فإذا جمع هذه الأصول فهو معتزلي» (١).

١ ـ التوحيد :

لا مراء في أن التوحيد جوهر الإسلام وحجر الزاوية في عقيدته ، وما من نبي أو رسول إلا دعا قومه إليه ودلهم على شواهده وبراهينه في الكون.

ويقوم التوحيد على تنزيه الله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وقد سلك السلف فيه طريقا وسطا بين النفي والإثبات دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه أو تجسيم.

أما المعتزلة فلهم طريقة مخصوصة في فهم التوحيد ، يدلنا عليها أبو الحسن الأشعري بقوله : [«أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وليس بجسم ، ولا شبح ، ولا جثة ، ولا صورة ، ولا لحم ، ولا دم ، ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة ، ولا طول ولا عرض ولا عمق ، ولا اجتماع ولا افتراق ، ولا يتحرك ولا يسكن ، ولا يتبعض ، وليس بذي أبعاض وأجزاء ، وجوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ، ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ، ولا يجري عليه زمان. ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن. ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم. ولا يوصف بأنه متناه. ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات ، وليس بمحدود ، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الأقدار ، ولا تحجبه الأستار ، ولا تدركه الحواس ، ولا يقاس بالناس ، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه. ولا تجري عليه الآفات ، ولا تحل به العاهات ، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له ، لم يزل أولا سابقا للمحدثات ، موجودا قبل المخلوقات ، ولم يزل عالما قادرا حيا ، ولا يزال كذلك ، لا تراه العيون ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأوهام ، ولا يسمع بالأسماع ، شىء لا كالأشياء ، عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء ، وأنه القديم وحده ولا قديم غيره ، ولا إله سواه ، ولا شريك له في ملكه ، ولا وزير له في سلطانه ، ولا معين على إنشاء ، أنشأ وخلق ما خلق ، لم يخلق الخلق على مثال سبق ، وليس خلق شىء بأهون عليه من خلق شىء. آخر ولا بأصعب عليه منه ، ولا يجوز عليه احتراز المنافع ولا تلحقه المضار ، ولا يناله السرور واللذات ، ولا يصل إليه الأذى والآلام ، ليس بذي غاية

__________________

(١) ينظر : التبصرة في الدين (١ / ٦٧) اعتقادات فرق المسلمين (١ / ٣٨) أصول الدين للبزدوي ص (٢٥٠) ، وللبغدادي ص (٣٣٥) ومقالات الإسلاميين (١ / ١٥٥).

فيتناهى ، ولا يجوز عليه الفناء ، ولا يلحقه العجز والنقص ، تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء»].

ونستطيع أن نزعم أن طريقة المعتزلة في فهم التوحيد تتكئ عندهم على بعض آيات القرآن الكريم التي اصطبغت بصبغة التنزيه ؛ كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٣ ، ٤].

ومهما يكن الدافع الذي سلك بالمعتزلة هذا الطريق في النظر إلى التوحيد ، فإن هذا الأصل عندهم ترتب عليه نتائج أخرى تكشف عن رأيهم في بعض مسائل الاعتقاد.

رأي المعتزلة في الصفات :

الصفات عند المعتزلة قسمان : صفات سلبية تسلب عن الله ما لا يليق به ، وصفات ثبوتية أو إيجابية.

ولم يجد المعتزلة في إثبات الصفات السلبية لله سبحانه ما يتعارض مع مفهومهم عن التوحيد ، أو يمس فكرة التنزيه كما يفهمونها من القرآن الكريم.

من هذه الصفات : القدم ، وتنفي هذه الصفة عن الله الحدوث ، والوحدانية وتنفي عن الله التعدد ، ومخالفة الحوادث.

«أما الصفات الثبوتية أو الإيجابية التي تتعلق بإثبات معنى زائد على الذات ـ ومن هذه الصفات : العلم والقدرة والإرادة والحياة ـ فقد نفى المعتزلة اتصاف الله بها أو أكثرها ؛ لأن إثباتها يتعارض مع فهمهم للتوحيد» (١).

فقد رأى المعتزلة أن إثبات هذه الصفات لله يجعلها مشاركة له في القدم ، ويعني هذا تعدد القدماء مع ما فيه من معارضة لفكرة التوحيد ، كما يؤدي إثباتها إلى الوقوع في التعدد الذي وقع فيه النصارى الذين قالوا بوجود ثلاثة أقانيم في الذات الإلهية ، الأب والابن والروح القدس. ولا يخفى أن منهج المعتزلة في النظر إلى صفات الله يتعارض مع القرآن الكريم الذي أثبت هذه الصفات لله ، وكذا فهمها الصحابة ولم يجادلوا فيها.

وثمة صفات أخرى تصف الله بما يوهم مشابهته للإنسان : كوصف الله بأن له وجها أو عينا أو يدا ، ووصفه بالاستواء على العرش والنزول إلى السماء وغير ذلك.

وقد وجد المعتزلة أن الإيمان بهذه الصفات دون تأويل يقود إلى التجسيم الذي

__________________

(١) د / عبد المقصود (ص ٨٧).

يتعارض مع التوحيد ، فلا غرو أن أولو هذه الصفات ، فاليد لديهم تعني القدرة ، والعين تدل على الرحمة ، والوجه يعني الذات.

والحق أن السلف آمنوا بهذه الصفات دون تأويل ، وما أدق عبارة الإمام مالك بن أنس في الإنباء عن منهج السلف في فهم الصفات حين سئل عن الاستواء فقال : «الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة».

القول بخلق القرآن :

ذهب المعتزلة إلى نفي صفة القدم عن القرآن الكريم ، وزعموا أن القرآن مخلوق ؛ لأن القول بقدمه يقود إلى تعدد القدماء ، وهو ما يتنافي مع مفهومهم للتوحيد.

وقد حاول المعتزلة إجبار غيرهم من المسلمين على الأخذ برأيهم ، غير أن بعض العلماء من أصحاب الاتجاه السلفي رفضوا هذا الرأي ، وكان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل الذي ذهب إلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن البحث في هذه المسألة مبتدع لم يثبت عن السلف ، ومن ثم لا ينبغي الخوض في هذه الأمور بل ينبغي الوقوف عند رأي السلف.

إنكار رؤية الله :

يقول أبو الحسن الأشعري : «أجمعت المعتزلة على أن الله سبحانه وتعالى لا يرى بالأبصار ، واختلفت : هل يرى بالقلوب؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة : نرى الله بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا ، وأنكر هشام الفوطي وعباد بن سليمان هذا وذلك» (١).

إن القول برؤية الله عند المعتزلة ينطوي على إلحاق الجسمية به سبحانه ؛ إذ يجري عليه عند ذلك ما يجري على المرئيات الجسمية ، والجسمية تتنافى مع التوحيد. وقد لجأ المعتزلة لإنكار رؤية الله إلى تأويل الآيات التي تثبت هذه الرؤية ، كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

كما طعنوا في صحة الأحاديث التي تثبت هذه الرؤية ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته» (٢) رواه البخاري ومسلم.

٢ ـ العدل :

هذا هو الأصل الثاني من الأصول الخمسة التي اتسم بها المعتزلة ، ويتخذ أهمية عظيمة

__________________

(١) مقالات الإسلاميين (١ / ٢٣٨).

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣) كتاب التفسير باب «وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب» (٤٨٥١) ومسلم (١ / ٤٣٩ ـ ٤٤٠) كتاب المساجد باب فضل صلاة الصبح والعصر (٢١١ / ٦٣٣) عن جرير بن عبد الله.

لديهم ، ويمثل مع التوحيد الأصلين اللذين بهما عرف المعتزلة ونسبوا إليهما حتى قيل : «أهل العدل والتوحيد».

والعدل صفة من صفات الحق تبارك وتعالى واسم من أسمائه الحسنى ، غير أن المعتزلة نظروا إلى «العدل» نظرة مغايرة لما عليه جمهور المسلمين ، وفلسفوه فلسفة خاصة أثمرت عددا من المسائل العقدية نوجزها فيما يلي :

وجوب الصلاح والأصلح على الله تعالى :

ويعني ذلك أنه إذا كان ثمة أمران أحدهما صلاح والآخر فساد ، وجب على الله تعالى فعل الصلاح منهما ، وإذا كان أمران أحدهما صلاح والآخر أصلح وجب على الله تعالى فعل الأصلح.

«وقد وجه إلى رأي المعتزلة كثير من الاعتراضات وهي في جملتها وتفصيلها قائمة على أساس أن في إيجاب الصلاح والأصلح تقييدا لإرادة الله ؛ ولذلك أخطأ المعتزلة في القول بإيجاب الصلاح والأصلح على الله ، وتطاولوا على مقام الألوهية ، وأساءوا الأدب مع الله كما وصفهم الماتريدي بذلك» (١).

الإنسان مريد لأفعاله :

إن مسألة الجبر والاختيار مسألة هامة من مسائل علم الكلام الإسلامي ، وركن أصيل من أركان الفكر الاعتزالي ؛ وتدور هذه المسألة حول العلاقة بين قدرة الله تعالى وأعمال العباد ، من حيث إن هذه الأعمال مخلوقة لله تعالى أو مخلوقة للعبد (٢).

فقد فرق المعتزلة بين نوعين من أفعال العباد أحدهما ضروري اضطراري ، والثاني : اختياري ، وحكموا بأن أفعال النوع الأول ليس للإنسان فيها اختيار.

أما أفعال النوع الثاني فالإنسان فيها فاعل مختار ، «ومن ثم قالوا : إن الأفعال الاضطرارية مخلوقة لله تعالى ، ولا دخل لقدرة العبد فيها ، وأما الأفعال الاختيارية فقد ذهبوا فيها إلى أنها واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال ، وهذه القدرة أوجدها الله تعالى في العبد باختياره» (٣).

وقد رأى المعتزلة في قولهم بحرية الإنسان في أفعاله انسجاما مع العدل الإلهي ؛ إذ مما

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٩١).

(٢) نصيب المعتزلة في تطور علم الكلام (ص ٩٤).

(٣) السابق (ص ٩٥).

يتعارض مع هذا العدل أن يحاسب الله الإنسان على أفعال ليست من إرادته أو اختياره.

كما يترتب على عدم القول بذلك بطلان التكليف والأوامر والنواهي ؛ لأن الاختيار مناطها ، كما يبطل الثواب والعقاب ؛ لأنه لا معنى لأن يعاقب المرء أو يثاب على غير فعله ، وتنتفي الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب.

وثمة دليل آخر احتج به المعتزلة على حرية الإنسان وإرادته ، خلاصته : أن الله تعالى لو كان هو الفاعل المريد لأفعال العباد ، لنسب إليه عزوجل ما يقع على أيديهم من المعاصي والشرور والقبائح ، وهو أمر لا يصح أن يوصف الله به (١).

واستدل المعتزلة لصحة ما ذهبوا إليه بآيات كثيرة من القرآن الكريم تثبت للإنسان إرادة حرة واختيارا مقصودا ؛ كقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨] ، وكقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠].

على هذا النحو كان رأي المعتزلة في حرية الإنسان ، ورأوا أن القول به يجعل التكليف مستساغا والثواب مقبولا والعقاب عادلا وينزه الله تعالى عن الشرور والآثام التي تجري على يد الإنسان.

٣ ـ الوعد والوعيد :

ربط المعتزلة بين العمل والجزاء ربطا وثيقا ، فجاء قولهم بالوعد والوعيد ملائما لهذا الربط ، فالله تعالى وعد الطائعين ثوابا عظيما وجنة خالدة وأوعد المذنبين عقابا أليما ونارا يصلونها ، والواجب على الله تعالى ألا يخلف وعده أو وعيده ؛ لما ينطوي عليه ذلك من فعل القبيح والله لا يفعل القبيح.

يقول أحد الباحثين مصورا رأي المعتزلة في وجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية :

«أما وجوب الثواب على الطاعة فلأن التكاليف الشاقة التي كلفنا الله بها ليست إلا لنفعنا وهو بالثواب عليها ؛ إذ ليس بمعقول أن يكلفنا الله بشيء لا لغرض لأن ذلك عبث ، فيستحيل صدوره من الله لقبحه ؛ فوجب أن يكون التكليف لغرض وهذا الغرض ينبغي ألا يكون عائدا إلى الله لتنزهه وتعاليه عن الانتفاع والضرر ، بل يجب أن يكون هذا الغرض عائدا إلى العبد وحده ، ثم يقال : لا يجوز أن يكون عائدا عليه في الدنيا لأن الإتيان

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني (ص ٩٢).

بالتكاليف بمشقة ملاحظ دنيوي إذ إن العبادة عناء وتعب ، وقطع للنفس عن شهواتها فوجب أن يكون الغرض عائدا عليه في الآخرة ، وحينئذ يقال : إما أن يكون هذا الغرض هو التعذيب على قيامه بالتكاليف وأن ذلك ظلم قبيح جدّا ، لا يليق أن يتصف به الله ؛ فوجب أن يكون الغرض هو النفع أو بعبارة أخرى هو الثواب وهو المطلوب. وأما العذاب فقالوا فيه : إن مرتكب الكبيرة إذا ما مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو الله عنه ، بل يجب عقابه ؛ لأن الله أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به ، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده ، والكذب في خبره ، وهو محال.

وأيضا إذا علم مرتكب الكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه لم ينزجر عن الذنب ، بل يكون ذلك تقريرا له على ذنبه ، وإغراء للغير عليه ، وأن ذلك قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات.

وإذن فالثواب على الطاعات ، والعقاب على المعاصي واجب لا يمكن أن يتخلف ، وعقاب مرتكب الكبيرة هو الخلود في النار».

والحق أن هذا الأصل من أصول المعتزلة يخالف ما عليه جمهور المسلمين من أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من عقاب العاصي أو إثابة الطائع ، وإن كان الحق لا يسوي بينهما فيثيب الطائع تفضلا منه ورحمة مصداقا لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة» (١).

أما العاصي فيعاقبه الله بعدله ، وإن شاء عفا عنه برحمته ، ولا نوجب شيئا على ربنا سبحانه له الأمر والمشيئة.

إن تحقيق الوعيد يرجع إلى قدرة الله على العاصين والمذنبين فهم في قبضته واقعون تحت قهر قدرته ، والعفو عنهم لا يلحق بالله نقصا أو قبحا ؛ لأنه يعفو ـ إذا عفا ـ عن قدرة ، والعفو عند المقدرة هو أسمى درجات العفو.

ثم إن قول المعتزلة بإيجاب الوعيد يعد حجرا على إرادة الله تعالى ومشيئته ، وتقييدا لرحمته (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٣٠٠) كتاب الرقاق باب القصد والمداومة (٦٤٦٣) ، ومسلم (٤ / ٢١٦٩) كتاب صفات المنافقين باب لن يدخل أحد الجنة بعمله (٧٥ / ٢٨١٦) عن أبي هريرة واللفظ لمسلم.

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٩٤).

٤ ـ المنزلة بين المنزلتين :

إن هذا الأصل قسمة مميزة من قسمات الفكر الاعتزالي ، انفردوا به ولم يشاركهم فيه أحد ، والقول به سبب نشأة المعتزلة كما أشرنا آنفا.

ويتعلق هذا الأصل بالحكم على مرتكب الكبيرة ، حيث اشتجر الخلاف بين المسلمين حوله وافترقوا شيعا وأحزابا ؛ يقول البغدادي (١) : «وكان واصل من منتابي مجلس الحسن البصري في زمان فتنة الأزارقة وكان الناس يومئذ مختلفين في أصحاب الذنوب من أمة الإسلام على فرق : فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب صغير أو كبير مشرك بالله وكان هذا قول الأزارقة من الخوارج وزعم هؤلاء أن أطفال المشركين مشركون ولذلك استحلوا قتل أطفال مخالفيهم وقتل نسائهم سواء كانوا من أمة الإسلام أو من غيرهم ، وكانت الصفرية من الخوارج يقولون في مرتكبي الذنوب بأنهم كفرة مشركون كما قالته الأزارقة غير أنهم خالفوا الأزارقة في الأطفال ، وزعمت النجدات من الخوارج أن صاحب الذنب الذي أجمعت الأمة على تحريمه كافر مشرك وصاحب الذنب الذي اختلفت الأمة فيه حكم على اجتهاد أهل الفقه فيه وعذروا مرتكب ما لا يعلم تحريمه بجهالة تحريمه إلى أن تقوم الحجة عليه فيه ، وكانت الإباضية من الخوارج يقولون إن مرتكب ما فيه الوعيد مع معرفته بالله عزوجل وبما جاء من عنده كافر كفران نعمة وليس بكافر كفر شرك ، وزعم قوم من أهل ذلك العصر أن صاحب الكبيرة من هذه الأمة منافق والمنافق شر من الكافر المظهر لكفره.

وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل والكتب المنزلة من الله تعالى ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند الله حق ولكنه فاسق بكبيرته وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام وعلى هذا القول الخامس مضى سلف الأمة من الصحابة وأعلام التابعين فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز واختلف الناس عند ذلك في أصحاب الذنوب على الوجوه الخمسة التي ذكرناها».

أما واصل بن عطاء ـ رأس المذهب وزعيم نحلة الاعتزال ـ فقد خرج عن قول جميع الفرق المتقدمة ، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر ، وجعل مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان.

ويعلل واصل بن عطاء لرأيه فيقول : إن الإيمان عبارة عن خصال خير ، إذا اجتمعت

__________________

(١) ينظر الفرق بين الفرق (١٣٤ ، ١٣٥).

سمي المرء مؤمنا ، وهو اسم مدح ، والفاسق لم يستكمل خصال الخير ، ولا استحق اسم المدح ، فلا يسمى مؤمنا ، وليس هو بكافر أيضا ؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه ، لا وجه لإنكارها ، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من أهل النار خالد فيها ؛ إذ ليس في الآخرة إلا الفريقان : فريق في الجنة وفريق في السعير ، ولكنه تخفف النار عليه» (١).

ويتضح من كلام واصل بن عطاء أن المعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة خالد في النار وقد ترتب على هذا المبدأ «أن مرتكب الكبيرة لا حظ له من شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالشفاعة ـ عند المعتزلة ـ ليست لأصحاب الكبائر ؛ لأن العدل يقتضي أن يعذب العاصي على معصيته ، والشفاعة تتنافى مع هذا العدل ، فالشفاعة عندهم ليست لهؤلاء وإنما هي للصالحين ، والمعتزلة بهذا الرأي ينكرون أو يؤولون كثيرا من الأحاديث التي تثبت الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولغيره من العلماء والشهداء والصالحين ، وهذه الشفاعة تنال أصحاب المعاصي فيخرجون بفضلها من النار ، فلا يبقى في النار بعد الشفاعة إلا من حبسهم القرآن المجيد وهم الكفار ؛ لأن هؤلاء لا يغفر الله لهم ولا تنالهم رحمته» (٢).

٥ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

هذا هو الأصل الخامس من أصول المعتزلة المتفق عليها ، فقد قرروا ذلك على المؤمنين أجمعين ، نشرا لدعوة الإسلام وهداية للضالين ، ودفعا لهجوم الذين يحاولون تلبيس الحق بالباطل ؛ ليفسدوا على المسلمين أمر دينهم ، ولذلك تصدوا للذود عن الحقائق أمام سيل الزندقة التي اندفعت في أول العصر العباسي ، تهدم الحقائق الإسلامية ، وتفكك عرا الإسلام عروة عروة ، كما تصدوا أيضا لمناقشة أهل الحديث والفقه ، وحاولوا حملهم على اعتناق آرائهم بالحجة والبرهان أو بالشدة وقوة السلطان (٣).

تلك هي الأصول الخمسة التي أجمع عليها المعتزلة ، ولا يستحق متكلم أن ينسب إلى اعتزال دون أن يؤمن بها.

* * *

__________________

(١) ينظر : الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٥٣).

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ٩٥).

(٣) محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ١٢٩).

ثانيا : الأشاعرة

اشتدت خصومة الفقهاء والمحدثين للمعتزلة ، واحتدم النزاع بين الفريقين في النظر إلى مسائل الاعتقاد ، ومرد ذلك إلى تباين المنهج الذي يصطنعه كل منهما ، فالفقهاء والمحدثون ينزعون منزعا سلفيّا يقدم النقل على العقل ، والمعتزلة يعتدون بالعقل اعتدادا جعلهم يؤولون ما يتعارض مع أدلته من آيات القرآن ، أو ينكرون ما يناقضها من أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخالفوا جمهور المسلمين في أمور كثيرة ؛ كالقول بخلق القرآن وإنكار الشفاعة ورؤية الله يوم القيامة وغير ذلك مما يصدم المشاعر الدينية للمسلمين.

ولم تخل الساحة الفكرية للمعتزلة فحسب ، بل كان هناك الحشوية من الحنابلة ، وكانوا على الطرف المقابل للمعتزلة حيث أجازوا على الله الملامسة والمصافحة والرؤية ، كما أثبتوا له ما وصف به نفسه في القرآن الكريم ـ كأن له عينا أو يدا أو وجها ـ إثباتا ماديّا يوهم التجسيم والمشابهة للحوادث ، واعتمدوا في ذلك على أحاديث فهموها فهما حرفيّا وقاسوها على ما يتعارف من صفات الأجسام ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق آدم على صورة الرحمن» (١) ، وقوله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» (٢) ، و «وضع يده على كتفي حتى وجدت برد أنامله» (٣).

على هذا النحو مست حاجة المسلمين إلى منهج جديد تتحقق فيه الوسطية التي دعا إليها الإسلام ، فيسلك بالمسلمين السبيل الذي سلكه الصحابة قبلهم في شئون الاعتقاد ، منهج ينزل العقل مكانه الصحيح فيعرف له حدوده وطاقته ، ولا يسرف في الاعتداد به ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٦٢) كتاب الاستئذان باب بدء السلام (٦٢٢٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٣) كتاب الجنة وصفة نعيمها باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (٢٨ / ٢٨٤١) ، وأحمد (٢ / ٣١٥) عن أبي هريرة بلفظ : «خلق الله آدم على صورته ... الحديث».

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٤٥) كتاب القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء (١٧ / ٢٦٥٤) وأحمد (٢ / ١٦٨) والآجري (ص / ٣١٦) وابن أبي عاصم في السنة برقم (٢٢٢) عن عبد الله بن عمرو بلفظ «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ...» الحديث.

وأخرجه أحمد (٦ / ٢٩٤ ، ٣٠١ ، ٣١٥) وعبد بن حميد (١٥٣٤) والترمذي (٥ / ٤٩٦) كتاب الدعوات (٣٥٢٢) وابن أبي عاصم في السنة (٢٢٣) عن أم سلمة بلفظ «... يا أم سلمة إنه ليس لآدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ...»

(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٢٤٣) ، والترمذي (٥ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦) كتاب التفسير باب (ومن سورة ص) (٣٢٣٥) ، وابن خزيمة في التوحيد (ص / ٢١٨) ، والطبراني في الكبير (٢٠ / ٢١٦) عن معاذ بن جبل مطولا.

منهج يعيد للنقل مكانته التي ضاعت على يد المعتزلة حين جعلوا الدليل النقلي فرعا يتبع الدليل العقلي.

«فظهر في آخر القرن الثالث رجلان امتازا بصدق البلاء : أحدهما : أبو الحسن الأشعري ، ظهر بالبصرة ، والثاني : أبو منصور الماتريدي ظهر بسمرقند ، وقد جمعهما مقاومة المعتزلة» (١).

وينسب مذهب الأشاعرة إلى أبي الحسن الأشعري «٢٦٠ ـ ٣٣٠ ه‍».

ولد أبو الحسن بالبصرة وتخرج في أصول الاعتقاد على المعتزلة ، حيث تتلمذ على شيخ من شيوخهم المبرزين هو أبو علي الجبائي ولازمه ملازمة أتاحت له شيئا غير قليل من النبوغ حتى عدّ من كبار رجال المعتزلة ، فلا غرو أن كان الجبائي ينيبه عنه في حضور كثير من المجادلات والمناظرات التي كان المعتزلة يخوضونها مع خصومهم ومخالفيهم.

الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة :

ولم يكد أبو الحسن الأشعري يبلغ الأربعين من عمره حتى تحول عن مذهب المعتزلة وأنكر طريقتهم في درس العقائد ، وكفر بآرائهم وأصولهم.

ويورد الدارسون أسبابا تبرر هذا التحول ، لعل من أهمها تلك المناظرة الشهيرة التي كانت بين الأشعري وشيخه الجبائي حول : وجوب فعل الصلاح والأصلح على الله ، حيث سأل الأشعري أستاذه الجبائي عن حال ثلاثة إخوة : الأكبر فيهم مؤمن تقي ، والأوسط كافر شقي ، والثالث مات صغيرا قبل بلوغه سن التكليف ، قال الجبائي : أما التقي ففي الجنة ، وأما الكافر ففي النار ، وأما الثالث فلا يثاب ولا يعاقب فهو من أهل السلامة ؛ لأنه ليس مكلفا.

فعاد الأشعري وسأله : فما ذا يقول الله للصغير إن هو أراد أن يكون مثل أخيه الأكبر في الجنة ؛ محتجّا بأنه لو طال عمره لأطاع واستحق الجنة؟! فرد الجبائي بأن الله يقول له : كنت أعلم أنك لو كبرت لوقعت في المعاصي ، ولدخلت النار ؛ فكان الأصلح لك أن تموت صغيرا.

قال الأشعري : فما الرأي لو قال الأخ الأوسط المعذب في النار : لم لم تمتني يا رب صغيرا حتى لا أعصيك ولا أعذب في النار؟! فلم يستطع الجبائي الإجابة على هذا السؤال

__________________

(١) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص ١٦٣).

الذي يهدم أصلا من أصول المعتزلة وهو مبدأ الصلاح والأصلح (١).

ولا ريب أن هذه المناظرة ـ ولا نستبعد وقوع مناظرات أخرى غيرها ـ قد زعزعت إيمان الأشعري فيما يؤمن به من آراء اعتزالية ، وحملته على إعادة النظر فيها ، وامتحانها عليه يهتدي إلى وجه الحق ، فعكف في بيته مدة ينظر في كتب المعتزلة ، ويزن أدلتهم ، حتى اهتدى إلى فسادها وبطلانها ، فرقى المنبر يوم الجمعة بالمسجد الجامع بالبصرة وقال :

«أيها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن ، وأن الله تعالى لا يرى بالأبصار ، وأن أفعال الشر أنا أفعلها ، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة ، مخرج لفضائحهم ، معاشر الناس ، إنما تغيبت عنكم هذه المدة ؛ لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة ، ولم يترجح عندي شيء على شيء ، فاستهديت الله تعالى ، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد ، كما انخلعت من ثوبي هذا ، ورمى ثوبا كان عليه» (٢).

والحق أن إعلان الأشعري السابق بضلال المعتزلة عن المنهج القويم في أمور الاعتقاد قد تضمن إشارة إلى أبرز وجوه الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة ، وهي : القول بخلق القرآن ، ونفي الصفات ، وإنكار رؤية الله تعالى ، وحرية الإرادة الإنسانية والزعم أن الإنسان خالق أفعاله (٣).

وذهب بعض الباحثين إلى أن العامل الحاسم في تحول أبي الحسن الأشعري عن مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل السنة إنما هو مذهبه الفقهي الذي كان يتعبد به ، وهو المذهب الشافعي ، وأمر الخصومة بين الفقهاء ـ ومنهم الإمام الشافعي ـ والمتكلمين لا سيما المعتزلة أظهر من أن نحتاج إلى إقامة الأدلة عليه ، فلقد ذم الشافعي علم الكلام وكان يعني بذلك المعتزلة ، وهاجمهم في بعض كتبه ولم يقبل شهادتهم ، وللشافعي نفسه آراء في الاعتقاد تخالف ما ذهب إليه المعتزلة ، فهو يعتقد أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة ، ويقول بالشفاعة ، ويؤمن بالقدر خيره وشره.

فلا غرو أن أحس الأشعري بتناقض كبير بين أصول مذهبه الفقهي ، وآراء مذهبه

__________________

(١) وفيات الأعيان لابن خلكان (٣ / ٢٨٤ ـ ٢٨٦) ، وطبقات الشافعية للسبكي (٣ / ٣٥٦ ، ٣٥٧) ، وانظر أيضا : دراسات في علم الكلام ، د / عبد المقصود عبد الغني (ص ١٠٢).

(٢) وفيات الأعيان (٣ / ٢٨٥).

(٣) انظر : منهج الأشاعرة والماتريدية في علم الكلام ، محمد حسن أحمد (ص ٢٦٩).

الكلامي أو الاعتقادي الذي رضيه لنفسه.

إذن فإن التكوين الفكري للأشعري نفسه كان يحمل بذور الشك في الفكر الاعتزالي وينطوي على أسباب الثورة والتمرد عليه ، على نحو ينتفي معه العجب من تحوله عن مذهب المعتزلة (١).

وثمة أمر آخر قد يحسن بنا أن نشير إليه في هذا المقام ، هو أن الأشعري كان معجبا بتوسط الإمام الشافعي في آرائه الفقهية بين أهل الرأي وأهل الحديث ، فحاول هو أن يقوم بدور الشافعي في علم الكلام بأن يوازن بين العقل والنقل أو بين غلو المعتزلة في العقل ووقوف بعض الحنابلة عند النقل (٢).

ومن هذه النقطة نفسها ننطلق إلى بيان نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية جميعا :

أولا : نقد الأشعري للمعتزلة :

لم يكتف الأشعري بالتحول عن الاعتزال حين انقدح له الرأي في مذهبهم بعد نظر وتأمل ، بل طفق يهدم هذا المذهب ، ويقوض أركانه ودعائمه ، ويفند ما يستند عليه من أدلة وبراهين ، ويكتسب نقد الأشعري للمعتزلة أهمية خاصة من كونه قد انتسب للمعتزلة فترة غير قصيرة ، وانتحل نحلتهم انتحالا أتاح له الوقوف على نقاط ضعفه وأسباب تهافته ، فكان نقده لهم نقد العالم الخبير المستند إلى رصيد ضخم من المعرفة بما ينقد.

والناظر في منهج الأشعري وموقفه من المعتزلة ومناظرته لهم يتبين له أن قوام نقده للمعتزلة إنما هو الإسراف في الاعتداد بالعقل وتقديمه على النص ، والاستناد إليه في كل أمر من أمور الاعتقاد ، فأقحموه بذلك في ميدان وعر تضل فيه الأفهام إذا لم يكن رائدها الوحي ، وتزل فيه الأقدام إذا تخلت عن النقل.

وقد أداهم ذلك إلى آراء خاطئة تخالف ما اصطلح عليه جمهور الأمة ، فنفوا عن الحق سبحانه وتعالى الصفات التي أثبتها القرآن الكريم والسنة المطهرة.

والناس في نظر المعتزلة خالقون لأفعالهم سواء كانت شرّا أم خيرا ، متمتعون بحرية الإرادة سواء خالفت مراد الله من الخلق أم اتفقت معه.

ويترتب على قول المعتزلة أن الناس مشاركون لله تعالى في أخص صفاته وهي الخلق ، وهو ما تأباه العقيدة الصحيحة ؛ إذ لا خالق في الكون إلا الله ، فلا غرو أن كان

__________________

(١) انظر : دراسات في علم الكلام ، د / عبد المقصود عبد الغني (ص ١٠٥ ، ١٠٦).

(٢) السابق (ص ١٠٦).

المعتزلة في رأي الأشعري شر من مذهب المجوس الذين جعلوا لله شريكا واحدا وهو الشيطان (١).

وساق الغلو في استخدام المعتزلة للعقل إلى القول بوجوب الصلاح والأصلح على الله ، وهو المبدأ الذي هدمه الأشعري في مناظرته لأستاذه أبي علي الجبائي ، وكان أحد الأسباب المباشرة في رفض الأشعري لمنهج المعتزلة وانصرافه عنه ، فمن نحن حتى نوجب على الله شيئا؟! فالعقيدة الصحيحة أن الله يثيب الطائع ويدخله الجنة لا بعمله ، ولكن بتفضله ورحمته.

ومن المسائل الكبرى التي أخذها الأشعري على المعتزلة القول بخلق القرآن ، «فجعلوه مشابها في الخلق والحدوث لجميع الأشياء الحادثة التي تنقصها القداسة ، ونفوا أن يكون صفة لله تعالى ، فخالفهم الأشعري في ذلك وقرر في كتاب الإبانة : أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وهو رأي السلف الذي تمسك به الإمام أحمد بن حنبل ، غير أن الأشعري قدم بين يديه أدلة سمعية وأخرى عقلية ، وبذل جهده لإبطال رأي المعتزلة» (٢).

والخلاصة أن الأشعري لم يرض عن طريقة المعتزلة في النظر إلى العقيدة ، وهي طريقة سداها ولحمتها التعويل على العقل والاستقلال به في تأسيس الأحكام في أصول الدين ، مما جعلهم يفسرون العقيدة والتوحيد تفسيرا لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ولا قاله أحد من الأئمة ، وصدق فيهم قول جولد تسيهر : «إنهم رفعوا العقل إلى مرتبة القياس والدليل في أمور الدين والإيمان» (٣).

نقد الأشعري للحشوية :

يطلق مصطلح الحشوية على طائفة من الحنابلة وجماعة من الشيعة ، تمسكوا بحرفية النصوص ، وحملوها على ظاهرها حملا انتهى بهم إلى القول بالتشبيه والتجسيم ؛ يقول الشهرستاني : «إن جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه ، قالوا : إن معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض إما روحانية أو جسمية يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن» (٤).

واستدل هؤلاء على رأيهم بنصوص من القرآن أثبتت لله سبحانه وتعالى بعض الصفات

__________________

(١) الإبانة للأشعري ص (١١).

(٢) دراسات في علم الكلام ، د / عبد المقصود عبد الغني (ص ١٠٨).

(٣) العقيدة والشريعة ، جولد تسيهر (ص ٩١).

(٤) ينظر : الملل والنحل للشهرستاني (٣ / ١٩٥).

من الاستواء واليد والعين والوجه ، فأثبتوها إثباتا ماديّا ، فأجازوا على الله الملامسة والمصافحة ، كما عولوا على بعض الأحاديث التي يؤدي معناها المادي الظاهري معنى التجسيم ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله آدم على صورته» (١) ، وقوله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» (٢).

وقد انتقد الأشعري هذه الطائفة وشدد النكير عليها ، ورماهم بضعف النظر العقلي الذي أداهم إلى آرائهم الشاذة في التجسيم الذي يتنافى مع الوحدانية الصحيحة ، وألف رسالة سماها : «استحسان الخوض في علم الكلام» ، أشار فيها إلى ضرورة النظر العقلي في مسائل الاعتقاد ، وأننا لن نعدم من الأدلة القرآنية ما يؤيد أن المنهج السليم ينبغي أن يقوم على النقل والعقل جميعا فقال :

«إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم ، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ، وطعنوا على من فتش في أصول الدين ، وزعموا أن الكلام في الحركة والسكون والجوهر والعرض والجزء والطفرة بدعة وضلالة ، مستدلين بأن شيئا من ذلك لم يؤثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه وأصحابه ولو كان خيرا لتكلموا فيه».

فأجابهم الأشعري بقوله : لم قلتم : إن البحث في ذلك بدعة مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل بأن من بحث عن ذلك وتكلم فيه فاجعلوه مبتدعا ضالّا؟! فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالا ؛ لأنكم قلتم ما لم يقله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم إن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق موجود في قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وأفول الكواكب والشمس والقمر.

وقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] دليل الوحدانية في القرآن الكريم ، وكلام المتكلمين في التوحيد والتمانع والتغالب فإنما مرجعه هذه الآية.

وطريقة إلزام الخصم نأخذها من القرآن الكريم ، فحينما جاء الحبر السمين وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] يريد بذلك إنكار نبوة محمد ، فرد القرآن عليه : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) [الأنعام : ٩١] وهذا إلزام أقر به الخصم.

كما استدل الأشعري على إبطال حوادث لا أول لها من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «فمن

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

أعدى الأول» (١).

على هذا النحو أثبت الأشعري أن القرآن الكريم والسنة الشريفة لم يهملا النظر العقلي ولا حرما أدلته ، بل حثا على الأخذ بهما في إلزام الخصوم ودحض شبههم ، وحسبك دليلا أن القرآن نفسه قد تضمن شيئا غير قليل من هذه الأدلة.

ويقول أحد الباحثين :

«وقد اضطر الأشعري للنظر العقلي للأسباب الآتية :

١ ـ أنه تخرج على المعتزلة وتربى على موائدهم الفكرية ، فنال من مشربهم وأخذ من منهلهم ، واختار طريقهم في إثبات العقائد ، وإن خالفهم في النتائج.

٢ ـ أنه تصدى للرد عليهم فلا بد أن يتبع طريقتهم.

٣ ـ أنه تصدى للرد على الفلاسفة والقرامطة والحشوية والروافض وغيرهم من أهل الأهواء الفاسدة والنحل الباطلة ، وكثير من هؤلاء لا يقنعه إلا أقيسة البرهان ، ومنهم فلاسفة علماء لا يقطعهم إلا دليل العقل ، ولا يرد كيدهم في نحورهم أثر أو نقل.

ومن رد الأشعري على المعتزلة وعلى الحنابلة نرى أن الدفاع عن المنهج الأشعري هو نقطة البداية لعلم الكلام السني من غير أن يتطرف في التأويلات العقلية كالمعتزلة ، أو

__________________

(١) من طرق من حديث أبي هريرة.

أخرجه البخاري (١١ / ٣٢٢) كتاب الطب باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن (٥٧١٧) ، ومسلم (٤ / ١٧٤٢) كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة (١٠١ / ٢٢٢٠) ، وأحمد (٢ / ٢٦٧ ، ٤٠٦ ، ٤٣٤) ، وأبو داود (٢ / ٤١٠) كتاب الطب باب في الطيرة (٣٩١١) ، وابن ماجه (٥ / ١٨٠ ـ ١٨١) كتاب الطب باب من كان يعجبه الفأل (٣٥٤١) ، والنسائي في الكبرى (٤ / ٣٧٦) كتاب الطب باب الصفر وهو داء يأخذ البطن ، وابن حبان (٦١١٥) والبيهقي (٧ / ٢١٦ ، ٢١٧) كلهم من طرق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» فقال أعرابي : يا رسول الله فما بال إبلي تكون في الرّمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال : «فمن أعدى الأول؟»

وأخرجه البخاري (١١ / ٤١٠) كتاب الطب باب لا عدوى (٥٧٧٥) ومسلم (٤ / ١٧٤٣) كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة (١٠٣ / ٢٢٢٠) من طريق سنان بن أبي سنان عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا عدوى» فقام أعرابي فقال أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء فيأتيها البعير الأجرب فتجرب قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن أعدى الأول».

وأخرجه الحميدي (١١١٧) وأحمد (٢ / ٣٢٧) من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يعدي شيء شيئا. لا يعدي شيء شيئا.» ثلاثا. قال : فقام أعرابي فقال : يا رسول الله إن النّقبة تكون بمشفر البعير أو بعجبه فتشمل الإبل جربا. قال : فسكت ساعة فقال : «ما أعدى الأول؟ لا عدوى ولا صفر ولا هامة خلق الله كل نفس فكتب حياتها وموتها ومصيباتها ورزقها».

يستهجن البحث الكلامي كالحنابلة ، ولكنه استطاع أن يوفق بين الجانبين ـ كما فعل الماتريدي ـ واعتمد على النظر العقلي فوضع للفتن الدينية حدّا ، فقضى على مذهب المعتزلة وحل مكانه» (١).

منهج الأشعري :

تبين لنا من نقد الأشعري للمعتزلة والحشوية أنه وقف على علة ضلالهما وفساد ما انتهوا إليه من آراء وتصورات في العقيدة ، وهذه العلة إنما هي الاقتصار على النقل وإهمال العقل ، أو تحكيم العقل وتقديمه على النقل ، أما المعتزلة فاستقلوا بالعقل في تأسيس مذهبهم الاعتقادي وظنوا أنه مرقاة إلى العقيدة السليمة ، فأداهم ذلك إلى آراء شاذة تنكرها النصوص الشرعية الثابتة ، من نفي الصفات والقول بخلق القرآن وإنكار الرؤية والشفاعة ، وفي سبيل ذلك أولو آيات القرآن الكريم وطعنوا في السنة الصحيحة والضعيفة جميعا.

وأما الحشوية فالتزموا بالنقل التزاما حرفيّا ، ولم يجعلوا للعقل حظا من فهمه والاستدلال عليه بأدلته ، فزلت أقدامهم في القول بالتجسيم والتشبيه ، ورأوا كذلك أن النظر العقلي في أصول الدين بدعة ، حيث لم يؤثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ـ رضوان الله عليهم ـ فصنف الأشعري للرد عليهم رسالة : «استحسان الخوض في علم الكلام» بين فيها أن القرآن والسنة يشتملان على أصول النظر العقلي والاستدلال المنطقي على صحة العقيدة الإسلامية ، وذهب إلى أن تأييد الشرع بالعقل ليس بدعة وإنما هو واجب لا بد من أن ينهض بأدائه علماء المسلمين.

اجتهد الأشعري ـ مستهديا بنقده للمعتزلة والحشوية ـ في تأسيس مذهب جديد يؤلّف في منهجه بين النقل والعقل ويوائم بينهما «فكان يفهم النص في ضوء العقل أو يسير وراء العقل في حدود الشرع ، ويجعل الشرع هاديا للعقل ؛ لأن العقل إذا ترك وشأنه اتبع هواه ، لكنه بالشرع يتبع هداه» (٢).

وإذا كان الأشعري قد جمع في منهجه بين العقل والنقل ، فإنه قدم النقل على العقل ؛ لأن مبنى العقائد على الغيبيات وطريقها الوحي لا العقل ، ونص الأشعري صراحة في مقدمة كتابه «الإبانة عن أصول الديانة» على أنه يتمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، كما نص على أن الإمام الذي يتبعه هو

__________________

(١) محمد حسن أحمد ، منهج الأشاعرة والماتريدية في علم الكلام (ص ٨٤ ، ٨٥).

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني ، دراسات في علم الكلام (ص ١١٤).

أحمد بن حنبل (١).

ونستطيع أن نقرر أن هذا المنهج الذي سلكه أبو الحسن الأشعري امتاز بالوسطية التي دعا إليها الإسلام وأكدها القرآن الكريم في غير آية ، حين حث على إعمال النظر والتفكر في الكون وتدبر إحكام صنعته ، فلم يهمل العقل ولا حرم استخدامه ، ولقد ألمحنا فيما سبق إلى أن القرآن نفسه اشتمل على أدلة عقلية وبراهين قوية ألزم بها خصومه ، بالإضافة إلى ما احتواه من أدلة سمعية.

«ولا ريب في أن الأشعري استطاع بذلك أن يمهد للاعتراف بعلم الكلام وأن يجعله من علوم الدين ، وأن يحسن للعلماء الخوض فيه ، واستطاع أيضا بمنهجه أن يرسخ قواعد المذهب وأن يجذب إليه الكثيرين ، وأن يحد من انتشار مذهب المعتزلة ، وأن يضيق الدائرة الحشوية ، وما ذلك إلا لوسطيته التي التزمها وحرص على تحقيقها في آرائه ، والوسط غالبا ما يكون أقرب إلى الصحة والاعتدال ، فكلا طرفي الأمور ذميم ، وإذا كان الناس قد تقبلوا مذهب الشافعي في الفروع لتوسطه بين أهل الحديث وأهل الرأي ، فإنهم تقبلوا مذهب الأشعري في الأصول ؛ لتوسطه بين الحنابلة والمعتزلة ، أو بين أهل النقل وأهل العقل» (٢).

وثمة إشكال في «منهج الأشعري الكلامي» يثيره كتابه «اللمع» الذي اقترب فيه ـ في رأي عدد من المهتمين بعلم الكلام بصفة عامة وبفكر الأشعري بصفة خاصة ـ من المعتزلة من حيث الاعتداد الكبير بالأدلة العقلية ومن حيث تأويل النصوص الشرعية ، الأمر الذي حمل بعض الدارسين على القول بأن الأشعري قد مر في آرائه الكلامية بمرحلتين متعاقبتين مختلفتين أشد الاختلاف :

المرحلة الأولى : ويقترب فيها من العقيدة السلفية اقترابا شديدا ، ويمثل هذه المرحلة خير تمثيل كتابه : «الإبانة عن أصول الديانة».

المرحلة الثانية : ويقترب فيها من المذهب الاعتزالي ، ويمثلها كتابه «اللمع».

إذ الناظر في كتاب اللمع يجده خاليا من الإشادة بالإمام أحمد ومن الانتساب إليه خلافا لما ذكره في الإبانة ؛ وكذلك فإن كتاب اللمع خلا من بعض المسائل التي أتى بها

__________________

(١) مقدمة الإبانة ص (٣).

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني (ص ١١٧).

في الإبانة مثل : إثبات الوجه واليدين والاستواء على العرش (١).

وقد اتخذ البعض من هذين الكتابين ذريعة لاتهام الأشعري بالتناقض في منهجه الكلامي ، أو على أقل تقدير اتخذوا من ذلك دليلا على تطور عقيدة الأشعري ، وتحولها في المرحلة النهائية إلى صورة أقرب للمعتزلة منها إلى أهل السنة.

ويدافع أحد الباحثين عن وحدة المنهج الأشعري ، مبينا أن التباين في المنهج الذي احتذاه الأشعري في كتابيه الإبانة واللمع يرجع إلى اختلاف الفرقة التي يرد عليها وينقد آراءها ، فيقول :

إن الأشعري حين ألف الإبانة كان يريد أن يحسم موقفه مع المعتزلة ويبين العقيدة التي يعتنقها ويسير عليها ويدافع عنها ، فجاء منهجه متحاملا على المعتزلة غير مهادن لهم ؛ لأنه كما نعلم أخذ على نفسه عهدا أن يكشف أمرهم ويظهر فضائحهم ، ومن ناحية أخرى فإنه أظهر أن الإمام الذي يسير على منهجه هو الإمام أحمد بن حنبل الذي وقف ضد المعتزلة وقفته المشهورة ، فكتاب الإبانة من هذه الناحية يعتبر تقريرا لعقيدة الأشعري بملامح منهجية جديدة.

أما كتاب اللمع فقد ألفه ليرد على الدهرية ونفاة الصانع بجانب رده على المعتزلة بعد أن تم له النصر عليهم فجاءت آراؤه بعيدة عن التحامل ؛ فالكتاب والأمر كذلك تعبير عن منهج قد نضج فعلا ، وقد دافع إمام الحرمين عن منهج الأشعري ، ولم يشر إلى أي مراحل منهجية مع أن الجويني كان إذا تصدى لمسألة فإنه يذكر الأقوال فيها ، ويبين طرقها المختلفة ، ويفند الأمر من وجهة نظره تفنيدا منهجيّا ، ولم يطلعنا وهو يرد على خصوم شيخه على أي اختلاف لمنهج الأشعري ، فلما طعن المعتزلة على الأشعري في تصدير كتابه اللمع بالدلالة القرآنية وبمفهومها الشارح لها ، بين الجويني في الشامل أن السبب الذي جعل الأشعري يسلك هذا المنهج هو أن الله تعالى احتج على الكفرة والمنكرين بالحجج التي صدر بها الأشعري اللمع حتى تكون حجته موافقة للقرآن ، فقال : «وما اعترضوا به من قولهم : إن الاستدلال بالقرآن على الدهرية ونفاة الصانع لا يتحقق باطل ؛ لأن شيخنا ما استدل عليهم بنفس الآية وإنما استدل عليهم بمعناها ، وهي تنطوي على وجه الحجاج ، والذي يوضح ذلك أن الرب تعالى احتج بما ذكره على الكفرة والمنكرين ، وذكره الأشعري ليقيم الاحتجاج به على حسب ما أراد الله من الاحتجاج».

__________________

(١) انظر : منهج الأشاعرة والماتريدية في علم الكلام ، محمد حسن أحمد (ص ١٨٦).

ومهما يكن من أمر ، فإن المذهب الأشعري نفسه قد تطور بعد وفاة رائده الأول أبي الحسن على يد الأشاعرة المتأخرين الذين كانوا في آرائهم ومنهجهم أدنى إلى المعتزلة ، من حيث الاعتماد على العقل في الاستدلال والاستنباط ، وإن كانوا لا يردون الشرع ولا يهملونه ؛ لأنهم يرون أن الشرع حجة الله والعقل حجة الله ، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض.

ويبدو قرب منهج الأشاعرة المتأخرين من منهج المعتزلة في موقفهم من الدليل السمعي والشروط التي وضعوها له ، والتي من أهمها ما يلي :

أولا : أن يكون غير مستحيل في العقل ، وهذا يتفق مع قولهم : إن العقل والشرع حجتين لله تعالى ، وحجج الله تتعاضد ولا تتعارض ؛ فلا يوجد في نظرهم دليل سمعي قطعي مستحيل في العقل.

ثانيا : أن يكون قطعي الثبوت ؛ ولذلك فأخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد ؛ لأنها ليست قطعية الثبوت.

ثالثا : أن يكون قطعي الدلالة ، فإذا كان السمعي قطعي الثبوت ، ولكنه يحتمل التأويل ، كان غير قطعي الدلالة (١).

بعض آراء الأشعري :

رأينا أن نختم حديثنا عن المذهب الأشعري ، بأن نذكر طرفا من آراء أبي الحسن وشيعته في بعض مسائل الاعتقاد ، والتي كانت ثمرة من ثمار المنهج الذي اصطنعوه ، من أجل أن يكون تصور القارئ عن هذا المذهب أدنى إلى الكمال وأقرب إلى الوضوح.

١ ـ اقترب الأشعري في بحثه لصفات الله تعالى من أهل السنة إلى حد بعيد ، حيث أثبت لله الصفات جميعا بقسميها أي الصفات السلبية والصفات الثبوتية كالعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات ، بيد أنه لم يقف عند هذا الحد ، بل تابع البحث في الصفات بحثا عقليّا فانتهى إلى ما يلي :

أولا : أن الصفات زائدة على الذات ، وليست عين الذات كما يرى المعتزلة ، ويرى الأشعري أن هذا التصور لصفات الله لا يترتب عليه تصور التعدد أو التركيب في ذات الله ، والدليل على صدق كلامه زيادة صفات الإنسان على ذاته دون أن تؤدي إلى تعدد في

__________________

(١) د / عبد المقصود عبد الغني (ص ١١٥ ، ١١٦).

ذات الإنسان (١).

ثانيا : هذه الصفات متغايرة فيما بينها ، فالعلم صفة لله تختلف عن صفة القدرة وكلتاهما مختلفتان عن صفة الإرادة.

ثالثا : هذه الصفات الإلهية أزلية لا بداية لها ، فهي تشترك في القدم مع الذات ، «ويدلل الأشعري على هذا الرأي بدليل يثبت به أن هذه الصفات لا يمكن أن تكون حادثة ؛ لما يترتب على ذلك من نتائج باطلة ، ويعلل ذلك بقوله : إننا إذا افترضنا جدلا أن هذه الصفات حادثة ، فسنكون أمام احتمالات أو فروض ثلاثة :

الأول منها : أن يحدث الله هذه الصفات في نفسه ، وهذا باطل ؛ لأنه يجعل الله محلّا للحوادث ومقارنا لها ، وما يتصل بالحوادث حادث عند المتكلمين.

والفرض الثاني : أن يحدثها الله في غيره ، وهذا باطل أيضا ؛ لأن ذلك يستلزم أن يكون هذا الغير موصوفا بصفات الله تعالى ، فيكون مريدا بإرادة الله تعالى ، وعالما بعلمه ، وهذا باطل.

والفرض الثالث : هو أن تكون الصفة الحادثة مستقلة بذاتها ، وهذا باطل أيضا ؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها بل تحتاج إلى موصوف تقوم به.

وإذا بطلت هذه الفروض الثلاثة لم يكن أمامنا إلا التسليم بقدم هذه الصفات وأزليتها» (٢).

٢ ـ ذهب الأشعري إلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، متابعا في ذلك رأي السلف الذي دافع عنه وأوذي بسببه الإمام أحمد بن حنبل ، بيد أن الأشعري قدم بين يدي رأيه أدلة سمعية وعقلية ، خلاصتها أن القرآن كلام الله فلا ينبغي أن يكون حادثا ؛ لما ينبني على ذلك من إلحاق صفة الحدوث بالله تعالى.

٣ ـ خالف الأشعري المعتزلة في مسألة رؤية الله في الآخرة ، حيث ذهب إلى إثباتها ، غير أنه نفى أن تكون هذه الرؤية رؤية إحاطة ؛ لأن الله تنزه عن أن تدركه الأبصار ، ونفى أيضا عن الرؤية معاني التجسيم والتشبيه ، ورأى أن الرؤية المقصودة أقرب إلى الرؤية القلبية ، فوقف بذلك موقفا وسطا بين المعتزلة المنكرين لها والمشبهة الذين أثبتوها وأثبتوا

__________________

(١) ينظر : اللمع للأشعري (٣١).

(٢) د / عبد المقصود عبد الغني (ص ١١٩).

ما تؤدي إليه من الجسمية والمكان (١).

٤ ـ خالف الأشعري المعتزلة في مسألة حرية العباد في أفعالهم ، ووقف موقفا وسطا بينهم وبين الجبرية حيث قال بنظرية الكسب ، وتعني أن الفعل خلق وإبداع من الله وكسب من العبد (٢).

٥ ـ هدم الأشعري مبادئ المعتزلة في وجوب الصلاح والأصلح على الله وإنكار الشفاعة ، والقول بخلود أصحاب الكبائر في النار ، ومال في ذلك كله إلى رأي السلف.

على هذا النحو اختلفت آراء المذهب الأشعري عن آراء المعتزلة والحشوية ، وكانت وسطا بينهما ، ولعل هذه الوسطية التي تحققت في فكر الأشعري ومدرسته هي السبب في ذيوع مذهبه وانتشاره في أكثر البلاد الإسلامية.

* * *

__________________

(١) السابق (ص ١٢١) ، نقلا عن كتاب «في علم الكلام» د / أحمد محمود صبحي (١ / ٤٧٥).

(٢) ينظر : اللمع ص (٣٣).

ثالثا : الماتريدية

أسس هذا المذهب العلامة محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي مصنف هذا الكتاب الذي نحن بصدد تحقيقه ، وقد سبقت ترجمتنا له.

وقد كان الماتريدي مشهورا بالاعتدال والتوسط حتى اتفق الناس على علو قدره وتميز منزلته ، حتى قيل : لو لم يكن في الحنفية إلا هذا الإمام لكفاهم.

وكنا قد أشرنا إلى أن الماتريدي كان أحد اثنين قاما بالذود عن عقيدة أهل السنة ، وتفنيد آراء المعتزلة المخالفة لها.

ومن الحق أن نقرر أن الماتريدي اتخذ منهجا امتاز بالوسطية والاعتدال ، على نحو ما صنع معاصره أبو الحسن الأشعري ، فاحتلت شخصيته مكانة تليق به كواحد من أفاضل علماء أهل السنة والجماعة في بلاد المشرق الإسلامي.

وسوف نفصل القول في بيان مذهب الماتريدية ، والمسائل التي خالف فيها الماتريدي أبا الحسن الأشعري.

فنقول :

يعد الماتريدي ـ بحق ـ واحدا من أبرز المؤسسين لعلم الكلام الإسلامي ؛ إذ ينسب إليه المذهب الماتريدي ، وهو مذهب يهدف إلى فهم أصول الشريعة وقواعد الإسلام في ضوء الأسس العقلية السليمة ، فهو مذهب يجمع بين العقل والنقل ، وإن كان العقل تابعا ، مهمته فهم أصول التوحيد التي نقلت إلينا من طريق الوحي.

وقد أشرنا في غير موضع إلى تشابه المذهب الأشعري مع المذهب الماتريدي ، وأن كلا المذهبين قد نشأ في سياق فكري واحد.

وقامت الماتريدية بالرد على المخالفين والمغالين وبخاصة المعتزلة والروافض والمشبهة ، وكان المنهج الذي اعتمده علماء هذا المذهب في الرد على المخالفين ومناقشة المسائل الكلامية منهجا معتدلا يوازن بين العقل والنقل ، وهو المنهج نفسه الذي عول عليه الأشعري.

أثمر اتفاق ـ أو قل تطابق ـ المنهجين اللذين اصطنعهما الأشاعرة والماتريدية ، اتفاقا بينهما في أمهات المسائل الكلامية ؛ مثل : وجود الله وصفاته ، وجواز رؤيته في الدنيا ، وتحقق الرؤية للمؤمنين في الآخرة ... إلى آخر هذه المسائل المثبتة في كتب التوحيد

وعلم الكلام.

ونذكر هنا على سبيل الإجمال المسائل التي اختلف فيها السادة الأشعرية مع السادة الماتريدية وقد تقدم بيان أن مدار جميع عقائد الملة الإسلامية على قطبين من أقطاب العلوم الشرعية : أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري ، والآخر الإمام أبو منصور الماتريدي.

وقبل ذكر هذه المسائل يجدر بي أن أبين أن الأشاعرة والماتريدية متفقون على الأصول العامة لعقيدة أهل السنة والجماعة ، والخلاف الظاهر بينهما في بعض المسائل الجزئية ، وهو أمر لا يقدح في نسبتهما جميعا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ، ولا يوجب القول بأن أحد الفريقين مبتدع ، مخالف للعقيدة السليمة (١).

قال الخيالي في حاشيته على شرح العقائد : «الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة ، هذا هو المشهور في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار ، وفي ديار ما وراء النهر يطلق ذلك على الماتريدية أصحاب الإمام أبي منصور ، وبين الطائفتين اختلاف في بعض المسائل ؛ كمسألة التكوين وغيرها». اه.

وقال الكستلي (٢) في حاشيته عليه : «المشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة ـ أي : طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والجماعة ـ أي : طريقة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة ، وبين الطائفتين اختلاف في بعض الأصول ؛ كمسألة التكوين ومسألة الاستثناء في الإيمان ، ومسألة إيمان المقلد. والمحققون من الفريقين لا ينسب أحدهما الآخر إلى البدعة والضلالة». اه.

وقال ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب : «اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد واحد فيما يجب ويجوز ويستحيل ، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك ... وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف :

الأولى : أهل الحديث ، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية ، أعني الكتاب والسنة

__________________

(١) ينظر : الروضة البهية (ص ٢٦٢).

(٢) ينظر : حاشيته على العقائد ص (٦٧).

والإجماع.

الثانية : أهل النظر العقلي والصناعة الفكرية ، وهم الأشعرية والحنفية ، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري ، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي ، وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه ، وفي المبادئ السمعية فيما يدرك العقل جوازه فقط ، والعقلية والسمعية في غيرها ، واتفقوا في جميع المطالب الاعتقادية إلا في مسألة التكوين ومسألة التقليد.

الثالثة : أهل الوجدان والكشف وهم الصوفية ، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية ، والكشف والإلهام في النهاية» اه.

وليعلم أن كلا من الإمامين أبي الحسن وأبي منصور ـ رضي الله عنهما وجزاهما عن الإسلام خيرا ـ لم يبتدعا من عندهما رأيا ولم يشتقا مذهبا ، إنما هما مقرران لمذاهب السلف مناضلان عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فأحدهما : قام بنصرة نصوص مذهب الشافعي وما دلت عليه ، والثاني : قام بنصرة نصوص مذهب أبي حنيفة وما دلت عليه ، وناظر كل منهما ذوي البدع والضلالات حتى انقطعوا وولوا منهزمين ، وهذا في الحقيقة هو أصل الجهاد الحقيقي ، فالانتساب إليهما إنما هو باعتبار أن كلّا منهما عقد على طريق السلف نطاقا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه ، فصار المقتدي به في تلك المسالك والدلائل يسمى أشعريّا وماتريديّا (١).

ويقول الدكتور محمد حسن أحمد حسانين :

فالماتريدية والأشاعرة متفقون في المذهب ، أما الناحية المنهجية : فإن بينهم بعض الاختلاف الذي لا يضر في العقيدة ولا يبدع أحدا منهم ؛ فالأمور المختلف فيها جزئية فرعية ، معظمها مبني على شبه الألفاظ وتعيين المعنى المراد منها.

وهي عند النظر السليم لا تخرج عن كونها اختلافات مثل ما بين أصحاب الأشعري وأصحاب أبي حنيفة (٢).

وقال العلامة السبكي في الطبقات : ولي قصيدة نونية جمعت فيها هذه المسائل وضممت إليها مسائل اختلف الأشاعرة فيها ... وقال في شرح عقيدة ابن الحاجب : ثم تصفحت كتب الحنفية ، فوجدت جميع المسائل التي بيننا وبين الحنفية خلاف فيها ثلاث

__________________

(١) ينظر : إتحاف السادة المتقين (٢ / ٦ ، ٧).

(٢) ينظر : منهج الأشاعرة والماتريدية في علم الكلام ص (٢٣١).

عشرة مسألة ، منها معنوي ست مسائل والباقي لفظي ، وتلك الستة المعنوية لا تقتضي مخالفتهم لنا ولا مخالفتنا لهم.

قلت : ومطلع القصيدة التي ذكرها السبكي هي :

الورد خدّك صيغ من إنسان

أم في الخدود شقائق النّعمان

والسيف لحظك سلّ من أجفانه

فسطا كمثل مهنّد وسنان

تالله ما خلقت لحاظك باطلا

وسدى تعالى الله عن بطلان (١)

ثم ذكر في البيت التاسع والستين وما بعده :

هذا اعتقاد مشايخ الإسلام وه

والدّين فلتسمع له الأذنان

الأشعري عليه ينصره ولا

يألو جزاه الله بالإحسان

وكذاك حالته مع النعمان لم

ينقض عليه عقائد الإيمان

يا صاح إن عقيدة النعمان وال

أشعري حقيقة الإتفان

فكلاهما والله صاحب سنّة

بهدى نبيّ الله مقتديان

لا ذا يبدّع ذا ولا هذا وإن

تحسب سواه وهمت في الحسبان

من قال إن أبا حنيفة مبدع

رأيا فذلك قائل الهذيان

أو ظنّ أن الأشعريّ مبدّع

رأيا فذلك قائل الهذيان

أو ظنّ أن الأشعريّ مبدّع

فلقد أساء وباء بالخسران

كلّ إمام مقتد ذو سنّة

كالسيف مسلولا على الشيطان

والخلف بينهما قليل أمره

سهل بلا بدع ولا كفران

فيما يقل من المسائل عدّه

ويهون عند تطاعن الأقران

ولقد يئول خلافها إمّا إلى

لفظ كالاستثناء في الإيمان (٢)

ويدلنا النظر في كتب العقائد وتأمل مصنفات الأصول أن ما بينهما من خلاف إنما هو خلاف فرعي لا يمس شيئا من الأصول.

وفيما يلي نجمل المسائل التي كانت محل خلاف بين الأشاعرة والماتريدية ، ثم نذكر نبذة يسيرة عن كل مسألة : مع بيان المسائل المختلف فيها لفظا والمختلف فيها معنى.

فأما المسائل المختلف فيها لفظا فهي :

١ ـ السعادة والشقاء.

__________________

(١) ينظر : طبقات الشافعية للسبكي (٣ / ٣٧٩).

(٢) ينظر : طبقات الشافعية للسبكي (٣ / ٣٨٣).

٢ ـ بقاء الرسالة.

٣ ـ الإرادة والرضا.

٤ ـ الاستثناء في الإيمان.

٥ ـ إيمان المقلد.

٦ ـ الكسب.

٧ ـ الكافر منعم عليه أم لا.

والمسائل المختلف فيها معنويّا :

١ ـ تكليف ما لا يطاق.

٢ ـ الثواب والعقاب.

٣ ـ التكوين.

٤ ـ كلام الله.

٥ ـ معرفة الله تعالى بالعقل أم بالشرع؟

٦ ـ عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

أولا : المسائل المختلف فيها لفظا :

المسألة الأولى : السعادة والشقاوة

السعادة والشقاوة في اللغة والاصطلاح :

أ ـ في اللغة :

السعادة : خلاف الشقاوة ، والسعيد : نقيضه الشقي ، والسعد : هو اليمن ونقيضه النحس (١).

ب ـ في الاصطلاح :

السعادة : هي ما يجده القلب من الطمأنينة عند تنزل الغيب ، وهي نور في القلب يسكن إلى شاهده ويطمئن صاحبه في الدنيا بالإيمان ، وفي الآخرة بالنظر إلى وجه الرحمن سبحانه وتعالى ، ودخول الجنة (٢).

__________________

(١) انظر : لسان العرب ، مادة (س ع د) (٣ / ٢١٣ ـ ٢١٧).

(٢) انظر : كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (٣ / ٧٠٢).

والاختلاف في هذه المسألة اختلاف حول الإجابة عن سؤال مهم ، ألا وهو :

هل يسعد الشقي أم لا ، وهل يشقى السعيد أم لا؟ حيث اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في الإجابة عن هذا السؤال.

فعند الماتريدية :

يرى الماتريدية أن السعادة والشقاوة تكونان في الحال ، وليستا أزليتين ، وبذلك يكون السعيد عندهم هو المؤمن في الحال ، ولو مات على الكفر فقد انقلب شقيّا بعد أن كان سعيدا ، والشقي هو الكافر في الحال ، ولو مات على الإيمان فقد انقلب سعيدا (١).

أما عند الأشاعرة :

فمفهوم السعادة عندهم هو الموت على الإيمان ، وذلك ـ باعتبار تعلق علم الله ـ تعالى ـ أزلا بذلك.

وكذلك فالشقاوة عندهم هي الموت على الكفر.

وبذلك يكون السعيد عندهم سعيدا في الأزل ، والشقي شقيّا في الأزل ، ولا يتبدل السعيد شقيّا ، أو الشقي سعيدا (٢).

والحق أن الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة خلاف لفظي ، ومحصور في مسألة بعينها ألا وهي : حال من أسلم بعد الكفر : هل هو شقي أم سعيد؟ والفريقان متفقان على أنه سعيد بإسلامه ، لكنهم قد اختلفوا فيما إذا كان قد تبدل بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة أم أنه سعيد أزلا في علم الله تعالى ، وليس هناك تبدل ، والكفر عرض له.

فقد ذهب الماتريدية إلى أنه قد تحول بإسلامه من الشقاوة إلى السعادة ، وذلك غير مخالف لما في علم الله أزلا.

أما الأشاعرة : فقد ذهبوا إلى أنه سعيد ، ولم يتبدل حاله من حيث السعادة والشقاوة ، فهو في حالة الكفر كان سعيدا أيضا تبعا للخاتمة (٣).

* * *

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري (٢١٢ ، ٢١٣).

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة ، لأبي الحسن الأشعري (٢٢٥).

(٣) انظر : الروضة البهية (ص ٨٩ ، ٩٠).

المسألة الثانية

حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل

قبل عرض المسألة والخلاف فيها ينبغي أولا أن نعرف بالرسول في اللغة والاصطلاح ، والفرق بينه وبين النبي.

ففي اللغة :

الرسول : يقال : أرسلت رسولا ، أي : بعثته برسالة يؤديها ، فهو فعول بمعني مفعول (١).

وفي الاصطلاح :

الرسول : هو من اختصه الله بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي ، وأمر بتبليغه (٢).

الفرق بين الرسول والنبي :

النبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر ؛ لإنبائه عن الله ـ تعالى ـ إذ هو المتلقي لوحي السماء ، وهو ـ اصطلاحا ـ : من اختصه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بسماع وحي بحكم شرعي تكليفي سواء أمر بتبليغه أم لا.

وبذلك يكون الفرق بين الرسول والنبي أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.

ولقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل على ما يلي :

الماتريدية :

وعندهم أن الرسل والأنبياء يظلون كذلك حتى بعد موتهم (٣).

وأما الأشاعرة :

فيرون أن الأنبياء والرسل بعد موتهم في حكم الرسالة ، وحكم الشيء يقوم مقام أصله (٤).

وبذلك يتضح أن الفريقين يتفقان في أصل المسألة وهي أن الرسالة باقية إلى الآن ، لكن الخلاف فيما إذا كانت الرسالة باقية حقيقة أم في حكم الرسالة (٥).

__________________

(١) انظر : لسان العرب مادة (ر س ل) (١٣ / ٢٩٨).

(٢) انظر : أصول الدين للبغدادي (ص ١٥٤).

(٣) انظر : بحر الكلام لأبي المعين النسفي (ص ٦٥ ، ٦٦).

(٤) انظر : الإنصاف للباقلاني (ص ٦٢).

(٥) انظر : الروضة البهية (ص ١٠٥) وما بعدها.

المسألة الثالثة

الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا

الإرادة : في اللغة والاصطلاح :

في اللغة :

الإرادة : هي القصد ، والمشيئة ، يقال : أراد كذا ، أو شاء كذا ، أي : قصده (١).

وفي الاصطلاح :

هي صفة ثبوتية قديمة قائمة بذاته تعالى وزائدة عليها ، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه من الأمور المتقابلة (٢).

وقد اختلف السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة بعد اتفاقهم على أن الله تعالى مريد ، وأن ما يقع في الكون من خير وشر فهو مراد له تعالى ـ في أنه : هل هناك تلازم بين الإرادة والرضا بالمراد أم لا؟

فالماتريدية :

يثبتون إرادة الله تعالى الشاملة لأفعال العباد ؛ لأن أفعال العباد من خلقه تعالى ، والقول بعدم إرادة الله الشاملة معناه عدم قدرة الله على أفعالهم ، فالقول بالقدرة المطلقة والإرادة المطلقة والعلم المطلق لازم لتمام صفات الألوهية.

غير أن الماتريدية يقولون : إنه لا محبة في صفة الإرادة ، وأن هذه الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة ؛ إذ الكفر غير مرض ، وهو مراد لله تعالى ، وأن الإرادة والمشيئة لفظان مترادفان ، كما أن إرادة الله صفة أزلية ليست حادثة ، وهي متعلقة بجميع الممكنات تعلق تخصيص ، ويترتب على ذلك نفي التلازم بين الإرادة والرضا والمحبة ؛ لأن الماتريدية يرون أن معنى الرضا ترك الاعتراض على الشيء لا إرادة وقوعه ، ومعنى المحبة استحماده تعالى له ، والإرادة عامة. وبذلك يكون بين الإرادة والرضا والمحبة عموم وخصوص وجهي (٣).

__________________

(١) لسان العرب مادة (ريد)

(٢) شرح المقاصد (٢ / ٦٩) ، المحصل (ص ١٢١) ، شرح الجوهرة (ص ٧٨) ، أبكار الأفكار (ص ٢٢٨).

(٣) انظر : التمهيد لقواعد التوحيد (٢٠) وتحقيق الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية (ص ١٢٤).

أما الأشاعرة :

فيرون أن الإرادة هي الرضا والمحبة ؛ إذ المحبة هي الإرادة والرضا كذلك معناه الإرادة ، والإرادة تستلزم الرضا والمحبة ، وبهذا تكون الإرادة والمحبة والمشيئة والرضا والاختيار كلها بمعنى واحد ، مثلما يكون المعرفة والعلم بمعنى واحد.

وفي هذا يقول الإمام البغدادي في المسألة السادسة :

أجمع أصحابنا أن إرادة الله تعالى مشيئته واختياره ، وعلى أن إرادته للشيء كراهيته لعدم ذلك الشيء كما قالوا : إن أمره بالشيء نهي عن ضده ، وقالوا أيضا : إن إرادته صفة أزلية قائمة بذاته ، وهي إرادة واحدة محيطة بجميع مراداته على وفق علمه بها فما علم منها كونه أراد كونه ، خيرا كان أو شرّا وما علم أنه لا يكون أراد ألا يكون. ولا يحدث في العالم شيء لا يريده الله ولا ينتفي ما يريده الله ؛ وهذا معنى قول المسلمين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (١).

والحق أن الفريقين يتفقان في أصل الإرادة ويختلفان في المراد ، ويرجع هذا الخلاف إلى الجهة التي نظر منها كل منهما إلى مفهوم الإرادة ، فالماتريدية نظروا إلى جهة العلم ، وبذلك فقد ذهبوا إلى أن الإرادة لا تستلزم الرضا ؛ إذ ليس هناك تلازم بين الإرادة والرضا ، بينما نظر الأشعرية إلى أنها عامة وشاملة للكائنات كلها ، وبذلك ذهبوا إلى أن كل مراد مرض ، وهناك تلازم بين الإرادة والرضا (٢).

المسألة الرابعة

الاستثناء في الإيمان

التعريف بالإيمان في اللغة والاصطلاح :

الإيمان في اللغة :

الإيمان : التصديق ، وهو ضد الكفر ، والتصديق ضد التكذيب ، من : آمن بالشيء ، يؤمن به ، إيمانا ، فهو مؤمن (٣) قال الله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧].

__________________

(١) أصول الدين ، البغدادي (ص ١٠٢).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١١٧) ، وما بعدها.

(٣) انظر : لسان العرب ، مادة (أ م ن) (١ / ١٤٠ ـ ١٤٤) القاموس المحيط (ص ١٩٧).

الإيمان في الاصطلاح :

لقد اختلف الماتريدية والأشاعرة في التعريف بالإيمان ومفهومه في الشرع على ما يلي :

مفهوم الإيمان عند الماتريدية :

يعرف الماتريدية الإيمان بأنه «تصديق بالقلب وإقرار باللسان» (١).

مفهوم الإيمان عند الأشاعرة :

ويعرفه الأشعرية بأنه «التصديق بالله تعالى» ، وهذا هو ما ذكره الإمام أبو الحسن الأشعري ، وقد حدد المقصود بالتصديق بأنه التصديق القلبي ، وهذا التصديق القلبي عند الأشاعرة هو : «الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وإثبات ما أثبته لنفسه من صفات وأنه ليس كمثله شيء» (٢).

الاستثناء عند الماتريدية :

ذهب الماتريدية إلى منع دخول الاستثناء في الإيمان ، فالمؤمن عندهم يكون مؤمنا حقّا ، وليس مؤمنا بالمشيئة ؛ وذلك لأن الماتريدية يرون أن الاستثناء شك في إيمان المؤمن وشرائطه التي لا تقبل الشك.

يقول الإمام الماتريدي : الأصل عندنا قطع القول بالإيمان والتسمي به بالإطلاق وترك الاستثناء فيه ؛ لأن كل معنى في اجتماع وجوده تمام الإيمان عندهم إذا استثنى فيه لم يصح ذلك المعنى ؛ نحو أن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله إن شاء الله ، أو : محمدا رسول الله إن شاء الله ، وكذلك الشهادة بالبعث والملائكة والرسل والكتب ... فالعرف الظاهر في الخلق أنهم لا يستعملونه ـ أي : الاستثناء ـ في موضع الإحاطة والعلم ، ومن سمع ذلك استعظم القول ، كمن أشار إلى محسوس ويستثني (٣).

الاستثناء عند الأشاعرة :

يذهب الأشاعرة إلى جواز الاستثناء في الإيمان ، فيمكن للمؤمن أن يقول :

أنا مؤمن إن شاء الله.

يقول الإمام البغدادي : كل من قال من أهل الحديث بأن جملة الطاعات من الإيمان

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر ، ملا علي القاري (ص ١٢٤).

(٢) انظر : اللمع ، لأبي الحسن الأشعري ، (ص ١٢٣).

(٣) انظر : التوحيد للماتريدي (ص ٣٨٨ ، ٣٨٩).

قال بالموافاة ، وكل من وافى ربه على الإيمان فهو المؤمن ، ومن وافى بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمنا ، والواحد من هؤلاء يقول : أعلم أن إيماني حق وضده باطل ، وإن وافيت ربي عليه كنت مؤمنا حقّا ، فيستثني في صحة إيمانه (١).

وبذلك يظهر أن محل الخلاف هو أن الماتريدية لا يجيزون الاستثناء في الإيمان ، بينما الأشعرية يجيزون ذلك.

المسألة الخامسة : إيمان المقلد

وقع اختلاف بين السادة الماتريدية والسادة الأشاعرة في صحة إيمان المقلد ، وكذلك صحة تسميته مؤمنا ، وهل يكتفي بالتقليد في العقائد الدينية أم لا؟

فالماتريدية :

يذهبون إلى القول بصحة إيمان المقلد ؛ لأن مع هذا الإيمان تصديقا ، والتصديق هو أصل الإيمان ، وعند الماتريدية يصح الاكتفاء بالتقليد في العقائد الدينية ، إلا أن المقلد يعد عاصيا بتركه للنظر إذا كان قادرا على ذلك ؛ ولذلك قيل : إن النظر واجب وجوب الفروع ، وليس وجوب الأصول ، وإلا كان هذا المقلد كافرا.

يقول أبو منصور الماتريدي :

«ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل العقلي ، ولكن إذا بنى اعتقاده على قول الرسول ، بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق فهذا القدر كاف لصحة إيمانه» (٢).

أما الأشاعرة :

فإنهم يقولون بأنه لا يكتفى بالتقليد في العقائد الدينية ، ولكن لا بد من الاعتقاد الجازم الناشئ عن دليل ؛ لأن الإيمان من المسائل الأصولية ، وهذه قليلة يمكن الإحاطة بها ، وتكفي فيها المعرفة على الإجمال ، ولا يشترط عندهم القدرة على التعبير عن ذلك ؛ لأننا مأمورون بأن نتبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرسول ـ عليه‌السلام ـ مأمور بتحصيل العلم بتلك الأصول ، والتصديق لا يوجد بدون العلم والمعرفة ، والمقلد لا علم له حتى يحصل عنده التصديق ، فإن لم يحصل هذا التصديق عنده فلا يحصل الإيمان.

__________________

(١) انظر : أصول الدين للبغدادي (ص ٢٥٣) ، وانظر كذلك الروضة البهية (ص ٦٠) وما بعدها.

(٢) أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية (ص ٣٨٧).

ويذهب الأشاعرة إلى أن المقلد عاص بتركه النظر والاستدلال ، ولكنه ليس مشركا أو كافرا ، ويجوز أن الله تعالى يغفر له ، فإذا عوقب على المعصية دخل الجنة.

يقول البغدادي :

إن معتقد الحق قد خرج باعتقاده عن الكفر ؛ لأن الكفر واعتقاد الحق في التوحيد والنبوات ضدان لا يجتمعان ، غير أنه لا يستحق اسم المؤمن إلا إذا عرف الحق في حدوث العالم وتوحيد صانعه ، وفي صحة النبوة ببعض أدلته سواء أحسن صاحبها العبارة عن الدلالة أو لم يحسنها» (١).

والمتأمل للمسألة يرى أن الماتريدية والأشعرية يتفقان على أن المقلد قد خرج بتقليده عن الكفر والشرك ، لكنهما يختلفان في تسمية المقلد مؤمنا أو لا ، فالماتريدية يسمونه مؤمنا ، بينما يمنع الأشعرية ذلك (٢).

المسألة السادسة : الكسب

الكسب : هو ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ ، وقد يستعمل فيما يظن أنه يجلب منفعة ثم جلب مضرة.

وقال ابن الكمال : هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر (٣).

وينبغي ذكر أن السادة الماتريدية قد اتفقوا مع الأشاعرة في القول بأن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى ، وللعباد فيها الكسب ، لكن الماتريدية يختلفون مع الأشاعرة في معنى الكسب.

فالماتريدية :

يثبتون للعبد قدرة وإرادة لها أثر في الفعل ، ولا أثر لها في الإيجاب والإحداث ، وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية ، وتتمثل هذه القدرة في القصد والاختيار للفعل ، والله سبحانه وتعالى يخلق للعبد القدرة على الفعل ، وتكون نتيجة الفعل عليه (٤).

وبذلك يثبت الماتريدية أن للعبد اختيارا في أفعاله ، وهذه الأفعال هي التي يترتب عليها

__________________

(١) أصول الدين للبغدادي (ص ٢٥٥) ، أصول البزدوي (ص ١٥٢).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١٤٤).

(٣) انظر : تعريفات ابن الكمال (ص ١٤٥).

(٤) انظر : أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية (ص ٤٣٢).

المدح والذم في الدنيا ، كما يترتب عليها الثواب والعقاب في الآخرة ، ولم يمنع الماتريدية إضافة الأفعال إلى الله تعالى ؛ إذ إنه هو الذي وصف نفسه بهذه الصفة على الحقيقة وما عداه مخلوق.

أما الأشاعرة :

فيذهبون إلى أن قدرة العباد التي وقع بها الفعل غير مخلوقة ، وأن أمرها بأيديهم ، وعليها مدار تكليفهم. والإرادة عند الأشاعرة هي الإرادة الجزئية ، أما الإرادة الكلية عندهم فهي مخلوقة لله تعالى (١).

المسألة السابعة

الكافر منعم عليه أم لا؟

التعريف بالنعمة والكفر في اللغة والاصطلاح :

أ ـ اللغة :

النعمة : هي اليد والصنيعة والمنة ، وكذلك : النعمى ، وهي النعماء والنعيم ، والجمع : أنعم.

أما الكفر : فهو نقيض الإيمان ، يقال : كفر يكفر كفرا وكفورا وكفرانا (٢).

ب ـ في الاصطلاح :

النعمة : ما قصد به الإحسان والنفع لا لغرض ولا لعوض.

أما الكفر : فهو ستر نعمة المنعم بالجحود أو بعمل هو كالجحود في مخالفة المنعم (٣).

وقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة فيما إذا كان الكافر منعما عليه أم لا ، وكذلك في هذه النعمة وهل هي نعمة دين أم دنيا أم هما معا ، وهل هي نعمة على الحقيقة أم لا؟ وذلك على ما يلي :

رأي الماتريدية :

يرى الماتريدية أن الكافر منعم عليه ، لكن هذا الإنعام إنما وقع في الدنيا فقط.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف للجرجاني (٨ / ١٤٦) وما بعدها ، وانظر كذلك : الروضة البهية (ص ١٤٦) وما بعدها.

(٢) انظر : لسان العرب مادة (ن ع م) (٢ / ٥٧٩).

(٣) التعريفات للجرجاني (ص ٢١٧).

يقول الإمام أبو حنيفة : إن الكافر منعم عليه في الدنيا ، حيث خوله الله تبارك وتعالى قوى ظاهرة وباطنة ، وجعل له أموالا ممتدة ، فالنعمة دنيوية والنقمة أخروية (١).

رأي الأشاعرة :

ويرى الأشاعرة أن الكافر لم ينعم عليه لا في الدين ولا في الدنيا ولا في الآخرة.

يقول الأشعري : إن الله تعالى لم ينعم على الكافر دنيا ولا أخرى ، وإن كان قد أنعم عليه نعمة الدنيا بأن خلقه ورزقه ، فإن الحياة في حد ذاتها نعمة بشرط أن يكون الإنسان موفقا في طاعة الله تعالى ، فإذا وجدت تلك النعمة مع فقد التوفيق في المكلف فليست الحياة نعمة إطلاقا.

ونرى أن الخلاف بين الفريقين في هذه المسألة ليس خلافا كبيرا ذلك أن الماتريدية القائلين بأن الكافر منعم عليه إنما يعنون النعم التي يعطاها الكافر في الدنيا حتى ولو لم تكن عقباه محمودة.

أما الأشاعرة الذين يقولون بأن الكافر غير منعم عليه فقد حصروا النعمة في مجال خاص ، إذ قصدوا بالنعمة ما ينعم به على الإنسان ويكون محمود العاقبة ، والمتأمل للمسألة يجد أن الفريق الأول ـ وهم الماتريدية ـ قد نظر إلى النعم نظرة خاصة لمفهوم النعم ذاته ، وبينما نظر الفريق الثاني ـ وهم الأشاعرة ـ إلى هذا المفهوم ـ وهو مفهوم النعم ـ نظرة أخرى (٢).

ثانيا : المسائل المختلف فيها معنويّا :

المسألة الأولى

التكليف بما لا يطاق

التكليف : في اللغة والاصطلاح :

التكليف في اللغة :

التكليف من الكلفة ، وهي التعب والمشقة ، يقال : تكلف الأمر إذا فعله على كلفة ومشقة (٣).

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر بشرح ملا علي القاري (ص ١٩٠).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١٠١).

(٣) انظر : لسان العرب (ك ل ف) (٩ / ٣٠٦ ـ ٣٠٨).

التكليف في الاصطلاح :

التكليف هو : إلزام الكلفة على المخاطب (١).

وقبل أن نبين رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة فإن ثمة أقساما وأركانا للتكليف يجب أن نعرضها وهي :

أقسام التكليف :

ينقسم التكليف باعتبار اللفظ الوارد به ، أو باعتبار الحكم :

فباعتبار اللفظ الوارد به يكون ثلاثة أقسام :

الأول : التكليف بالأمر ، مثل قول الله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣].

الثاني : التكليف بالنهي ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣٢].

الثالث : التكليف بالخبر ، وهو إما خبر في معنى الأمر ؛ مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] أو خبر في معنى النهي ؛ مثل قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٩].

أما باعتبار الحكم فيكون خمسة أقسام :

الأول : تكليف موجب ؛ مثل قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣].

الثاني : تكليف محرم ؛ مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣٢].

الثالث : تكليف يدل على أن ما ورد به سنة ؛ مثل قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١].

الرابع : تكليف يدل على أن ما ورد به مكروه ؛ مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق» (٢).

__________________

(١) انظر : التعريفات (ص ٥٨).

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٦٦١ ـ ٦٦٢) كتاب الطلاق باب في كراهية الطلاق (٢١٧٨) ، وابن ماجه (٣ / ٤٢٦) كتاب الطلاق باب حدثنا سويد بن سعيد (٢٠١٨) والحاكم (٢ / ١٩٦) ، وصححه البيهقي (٧ / ٣٢٢) ، وابن عدي في الكامل (٦ / ٤٦١ ـ ٤٦٢) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (٢ / ٦٣٨) من طرق عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر ... فذكره.

وقال ابن الجوزي : هذا حديث لا يصح. وذكره العلامة الألباني في الإرواء (٧ / ١٠٦) وقال : ضعيف.

قلت : قد ورد الحديث مرسلا عن محارب بن دثار.

أخرجه أبو داود (٢١٧٧) بلفظ : ـ

الخامس : تكليف يدل على إباحة ما ورد به من غير وجوب ولا حظر ولا كراهة ولا استحباب ؛ مثل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧].

أركان التكليف :

وللتكليف ثلاثة أركان :

الأول : المكلّف.

الثاني : المكلّف.

الثالث : المكلّف به.

مراتب التكليف :

وهما مرتبتان :

الأولى : التكليف بما يطاق.

الثانية : التكليف بما لا يطاق.

أما رأي الماتريدية والأشاعرة في المسألة فهو كما يلي :

الماتريدية :

يذهبون إلى عدم جواز أن يكلف الله تعالى عباده بما لا يطيق العباد ، فالماتريدية يرون أن التكليف يكون فيما يقدر على إتيانه ، أما غير المقدور على إتيانه فلا تكليف فيه.

يقول الماتريدي : «تكليف ما لا يطاق لوقت الفعل قبيح في العقل».

الأشعرية :

ويذهب الأشاعرة إلى أن قدرة الله تبارك وتعالى قدرة مطلقة ، ويجوز لله أن يكلف عباده بما لا يطيقون.

يقول أبو بكر الباقلاني : «يجوز لله أن يكلف عباده ما لا يطيقون ، إلا أن التكليف بما لا يطاق على نوعين :

أحدهما : العجز أصلا عن الفعل ، وذلك ينتفي التكليف به لوجود مانع ، وهو العجز.

الثاني : إذا كان المراد عدم القدرة على الفعل لتركه والاشتغال بضده ، فذلك جائز

__________________

ـ «ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» ورجح أبو حاتم في العلل (١ / ٤٣١) الرواية المرسلة على الموصولة حيث قال : إنما هو محارب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل.

التكليف به لارتفاع العجز المانع أصلا» (١).

وبعد عرض رأي كل من الماتريدية والأشعرية يظهر لنا أن الماتريدية والأشعرية متفقون في حكم أقسام التكليف ما عدا التكليف بالمحال لغيره ، وهو أدنى مراتب التكليف بما لا يطاق ، فقد ذهب الماتريدية إلى منعه إلا في المقدور على إتيانه ، أما ما لا يمكن إتيانه فلا تكليف فيه ، لكن الأشعرية قد ذهبوا إلى جوازه ؛ لأن قدرة الله تعالى قدرة مطلقة (٢).

المسألة الثانية : الثواب والعقاب

من الواضح أن كلّا من السادة الماتريدية والأشاعرة يتفقان في القول بعدم جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي.

أما محل الخلاف بينهما فهو في المدرك ، حيث ذهب الماتريدية إلى أن المدرك لذلك هو العقل والشرع.

وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن المدرك لذلك هو الشرع.

وقد ترتب على ذلك أن الماتريدية منعوا جواز تعذيب المطيع وإثابة العاصي ، بينما أجاز ذلك الأشعرية ، وفي ذلك خلاف سنفصل القول فيه على ما يلي :

الماتريدية :

لقد ذهب الماتريدية إلى القول بمنع تعذيب المطيع عقلا أو شرعا.

يقول الإمام أبو حنيفة : «لا يجوز مطلقا لا عقلا ولا شرعا أن يعذب الله تبارك وتعالى العبد الطائع ؛ إذ لا يجوز في بداهة العقل أن يعذب الله تبارك وتعالى المطيع» (٣).

وجاء في المسايرة لابن الهمام : «القول في تجويز تعذيب المحسن عقلا عدمه ، فوقوع ذلك منه تعالى مقطوع بعدمه وفاقا بالشرع» (٤).

الأشعرية :

أما الأشعرية فيذهبون إلى جواز تعذيب الله تعالى للعبد الطائع وإدخاله النار عقلا ، وإدخال الكافر الجنة ، كما أن الله تعالى إيلام البهائم والأطفال والمجانين ؛ لأنه عدل في حكمه متصرف في ملكه.

__________________

(١) انظر : التمهيد للباقلاني (ص ٢٩٤ ، ٢٩٥).

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ٢١٤ ، ٢١٥).

(٣) انظر : شرح الجوهرة المنيفة : شرح الملا إسكندر الحنفي (ص ٣١) ، طبعة الهند لسنة ١٣٢١ ه‍.

(٤) انظر : المسايرة بشرح المسامرة (ص ١٧٤).

يقول أبو عذبة : إنه لو وقع منه ـ سبحانه وتعالى ـ تعذيب العبد الطائع لم يكن ذلك منه ظلما ولا عدوانا ؛ لأنه متصرف في ملكه بالتعذيب وتركه ، فله ما يختار منهما ، لكنه سبحانه وتعالى جاد في حق العباد بالإحسان إليهم بترك العقاب.

وبذلك يظهر أن تعذيب الطائع لا يقع من الله سبحانه وتعالى شرعا عند كل من الماتريدية والأشاعرة ، لكن الأشاعرة يجيزون وقوع ذلك عقلا ؛ لأن الله تعالى متصرف في ملكه (١).

المسألة الثالثة : التكوين

لقد اختلف الماتريدية مع الأشاعرة في مسألة التكوين ، فقد أثبتها الماتريدية ، ونفاها الأشاعرة ، كما سيظهر فيما يلي :

الماتريدية :

يقول السادة الماتريدية بأن التكوين صفة حقيقية زائدة غير القدرة والإرادة ؛ إذ هو صفة أزلية ، وغير المكون الحادث ، وقدم التكوين لا يستلزم قدم المكوّن ، وأما كون التكوين غير المكوّن ؛ لأنه لو كان التكوين عين المكوّن لم يكن من الله تعالى شيء يوجب كونه خالقا للعالم سوى أن ذات الباري أقدم من العالم ، وكون ذاته أقدم من غيره لا يوجب كونه خالقا. والقول بأن التكوين عين المكوّن يؤدي إلى قدم العالم ، وكونه بنفسه لا بغيره ، وما لا يحتاج في حصوله إلى غيره كان قديما ، فدل ذلك على أن التكوين غير المكوّن (٢).

يقول الماتريدي : «إن صفته التي هي الفعل هي صفة ذاته ، فيقال : الله خالق ورحمان ورحيم وقد سمى به ذاته».

الأشاعرة :

أما الأشاعرة فيقولون بأن التكوين ليس صفة حقيقية له ، لكنه أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة المؤثر إلى الأثر ، وإضافته إليه ، فهو من صفات الأفعال ، وهي عند الأشعرية حادثة ، لا من الصفات الذاتية ، والتكوين عين المكوّن ، والتخليق هو القدرة

__________________

(١) انظر : نظم الفرائد وجمع الفوائد ، لشيخي زاده (ص ٣٠). وانظر كذلك الروضة البهية (ص ١٥٧) وما بعدها.

(٢) انظر : أبو منصور الماتريدي وآراؤه الكلامية ، (ص ١٨٥) وما بعدها.

باعتبار تعلقها بالمخلوق ، كما أن الترزيق هو القدرة باعتبار تعلقها بإيصال الرزق (١).

والمتأمل للمسألة يرى أن الخلاف بين الفريقين راجع إلى المعنى لا إلى اللفظ ، فعند الماتريدية مبدأ الإيجاد عندهم هو صفة التكوين ، وعند الأشاعرة التكوين لا يعد صفة حقيقية لله تعالى زائدة على القدرة والإرادة ، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر (٢).

المسألة الرابعة : كلام الله تعالى

إن هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الكلام بصفة عامة ، ولقد اشتدت أهميتها بعد الجدل الذي دار حول مسألة قدم القرآن وحدوثه ، والمحن التي تعرض لها علماء كثيرون بسبب ذلك ، وقبل عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة في هذه المسألة نبين أن ثمة قياسين يعارض كل منهما الآخر :

فالأول : هو أن كلام الله ـ تعالى ـ صفة له ، وكل ما هو صفة له فهو قديم ، وبذلك يكون كلامه تعالى قديما.

وأما الثاني : فهو أن كلام الله تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة في الوجود ، وكل ما من شأنه ذلك فهو حادث ، ويكون بذلك كلام الله تعالى حادثا.

ولقد اختلف المسلمون وافترقوا بين من قال بصحة القياس الأول ، وبين من قال بصحة القياس الثاني ، حيث نجد أن أهل السنة والحنابلة يقولون بصحة القياس الأول ، بينما يقول المعتزلة ومعهم الكرامية بصحة القياس الثاني.

أما فيما يخص السادة الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة فعلى النحو التالي :

الماتريدية

لقد ذهب الماتريدية إلى أن الكلام صفة لله تعالى ؛ لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ متكلم بكلام واحد ، وهو صفته الأزلية القائمة بذاته ، وهي صفة منافية للسكوت والآفة ، والله سبحانه وتعالى بهذه الصفة آمر ، ناه ، مخبر.

ويرى السادة الماتريدية كذلك أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد ، وإنما تكون على الموافقة والمجاز ، كما يقول المرء : سمعت كلام فلان وقول فلان ، ويكون ذلك على

__________________

(١) انظر : معالم أصول الدين للرازي (ص ٥٩) وما بعدها.

(٢) انظر : الروضة البهية (ص ١٩٤ ، ١٩٥).

المجاز وليس على الحقيقة ، وذلك لأنه لم يسمع قول فلان حقيقة ؛ ولم يسمع كلامه وإنما سمع صوتا يفهمه به.

وبناء على ذلك فإن الماتريدية يقولون بأن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يسمع كلام الله ، وإنما سمع صوتا دالّا عليه ، ولقد خلق الله تعالى هذا الصوت ، وليس ذلك لأحد من خلقه.

فالماتريدي يرى أن كلام الله القديم لا يسمع ، وأن ما نسمعه من الحروف والأصوات ليست هي كلام الله بذاتها ؛ وذلك لأنها عرض ، والعرض لا يبقى زمانين (١).

الأشاعرة :

يقول الأشاعرة بأن الكلام إنما يراد به الصفة القديمة.

يقول البيجوري في شرح الجوهرة عن الكلام : «إنه صفة أزلية قائمة بذاته ، ليست بصوت ولا حرف منزهة عن التقديم والتأخير ، ومنافية للسكوت والآفة».

ويقول أبو الحسن الأشعري : «إن كلامه واحد ، هو أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ، وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه لا إلى عدد في نفس الكلام» (٢).

ويجب أن يعرف أن الإمام أبا الحسن الأشعري لا ينكر الكلام اللفظي ، وإنما يثبت الكلام النفسي واللفظي ، ويتضح ذلك من قوله : «وأجمعوا على إثبات حياة لله عزوجل لم يزل بها حيّا ، وعلما لم يزل به عالما ، وقدرة لم يزل بها قادرا ، وكلاما لم يزل به متكلما ، وإرادة لم يزل بها مريدا ، وسمعا وبصرا لم يزل بهما سميعا بصيرا» (٣).

ويتضح من عرض رأي كل من السادة الماتريدية والأشاعرة أن الماتريدية يتفقون مع الأشاعرة في إثبات صفة الكلام لله تعالى ، وأن الماتريدية يرون أن حقيقة الكلام لا تسمع في الشاهد ، وإنما تسمع على سبيل الموافقة والمجاز.

ويظهر الخلاف بين الماتريدية والأشاعرة فيما سمعه موسى ـ عليه‌السلام ـ أن الماتريدية يذهبون إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يسمع كلام الله القديم وإنما سمع أصواتا دلت عليه ، وخص موسى بذلك ؛ لأنه بغير واسطة الكتاب والملك.

__________________

(١) انظر : شرح البيجوري للجوهرة ص (٨٥).

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني (١ / ٨٧ ، ٨٨).

(٣) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد (ص ٣٥٣) وما بعدها بتصرف.

وانظر كذلك : الروضة البهية (١٩٦) وما بعدها.

أما الأشاعرة فيذهبون إلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سمع كلام الله القديم بلا حرف ولا صوت (١).

المسألة الخامسة : معرفة الله تعالى

لقد اتفق علماء الكلام على أن النظر هو طريق المعرفة ، لكن الاختلاف بينهم في طريق ثبوت هذه المعرفة ، وهل هو واجب بالشرع أم بالعقل.

فالماتريدية :

يذهبون إلى أن معرفة الله ـ تعالى ـ واجبة بالشرع ، لكنهم يرون أن العقل آلة لوجوب المعرفة ، والله ـ عزوجل ـ هو الموجب.

ويرى الماتريدية ـ أيضا ـ أن العقل ليس موجبا بذاته ولكنه سبب لوجوب.

يقول الماتريدي : «يجب على الصبي العاقل معرفة الله تعالى ، فالحق ـ سبحانه وتعالى ـ قد فطر الناس على فطرة يعرفون وحدانيته وربوبيته بعقول مركبة فيهم».

وبذلك يذهب الماتريدي إلى أن العقل هو أساس المعرفة ويعاونه السمع في ذلك ، وقد يسر الله سبحانه السبيل إلى الوصول إلى الدين ، ومعرفة الله تعالى إنما هي عن طريق العقل والسمع ، والعقل هو المختص بمعرفة الله تعالى ، والسمع مختص بمعرفة الشرائع والعبادات.

ويقول أبو منصور الماتريدي في موضع آخر :

«إن حقيقة الحجة إنما هي في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها الرسل ، أما معرفة الله ـ تعالى ـ فإن سبيل لزومها العقل ، فلا يكون لهم في ذلك على الله حجة ؛ لأن الله خلق في كل واحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على وجود الله ووحدانيته وربوبيته ، والله قد بعث الرسل ليقطع عليهم الاحتجاج».

ولا عذر عند الماتريدية في معرفة الله تعالى عند من له عقل ؛ لأن من يملك العقل يستطيع معرفة الله عن طريق التفكر في خلق الكون وما فيه.

أما الأشاعرة :

فيرون أن معرفة الله ـ عزوجل ـ واجبة على الإنسان المكلف ، والشرع هو طريق وجوب هذه المعرفة ، وهو كتاب الله تعالى وسنة نبيه الكريم.

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص ٣٥٩) ، وانظر كذلك : الروضة البهية (١٦٨) وما بعدها.

ويذهبون إلى أن الواجبات ثابتة بالسمع ، فالحسن عندهم هو ما حسنه الشرع ، والقبيح عندهم هو ما قبحه الشرع ، والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولا يوجب.

يقول الإمام الغزالي : «إنه لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة الله تعالى وشكر نعمته خلافا للمعتزلة».

المسألة السادسة : عصمة الأنبياء

العصمة في اللغة والاصطلاح :

العصمة في اللغة (١) :

العصمة : المنع ، يقال : عصمه الطعام من الجوع ، أي : منعه.

وهي ـ كذلك ـ : الحفظ ، يقول الله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، أي : يحفظك.

العصمة في الاصطلاح (٢) :

هي : عدم خلق الله تعالى ذنبا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا تكون أمرا إعداميّا.

وهذا بصفة عامة ، وقد اختلف تعريف الماتريدية للعصمة عن تعريف الأشاعرة لها وذلك على ما يلي :

الماتريدية

يعرف السادة الماتريدية العصمة بأنها عدم القدرة على المعصية ، أو خلق مانع فيها (٣).

الأشعرية :

ويعرفها الأشعرية بأنها : «ألا يخلق الله فيهم ذنبا» ، وذلك بناء على أصلهم من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار (٤).

أما عن رأي كل من السادة الماتريدية والأشعرية في مسألة العصمة ، فذلك على ما يلي :

الماتريدية :

يقول السادة الماتريدية بعصمة الأنبياء من الكبائر والقبائح وخصوصا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة.

__________________

(١) انظر : لسان العرب مادة (ع ص م) (٢ / ٤٠٣) ، مختار الصحاح ص (٤٣٧).

(٢) انظر : بغية الراغبين في عصمة ومعجزة الأنبياء والمرسلين ، (ص ١١٣).

(٣) انظر : التحرير بشرح التيسير (٣ / ٢٠).

(٤) انظر : شرح المواقف (٨ / ٢٨٠).

ويذهب الماتريدية إلى أن الأنبياء معصومون من الصغائر ، وأوجبوا تأويل كل ما أوهم في حقهم عليهم‌السلام من الكتاب والسنة مما اغتر به بعض من أجاز عليهم الصغائر ، فالأنبياء منزهون عن الصغائر والكبائر ومن جميع المعاصي.

يقول شارح الفقه الأكبر :

«إن الأنبياء عليهم‌السلام معصومون عن الكذب ، خصوصا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة إما عمدا وإما سهوا : عمدا فبالإجماع ، وسهوا عند الأكثرين ، وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل ، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي ، وبعده بالإجماع ، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور ، وأما سهوا فجوزه الأكثرون» (١).

الأشاعرة :

يتفق الأشاعرة مع الماتريدية ـ وغيرهم من سائر الفرق ـ على أن الأنبياء معصومون من الكبائر مطلقا ، قبل البعثة وبعدها.

وفيما يخص الصغائر ، فهي عندهم نوعان :

أحدهما : صغائر قبل النبوة.

ثانيهما : صغائر بعد النبوة.

ويذهب الأشاعرة إلى أن الأنبياء تصدر عنهم هذه الصغائر قبل النبوة إذا لم تكن خسيسة وليس هناك دليل على منع ذلك ، سواء أكان ذلك عمدا أم سهوا ، أما بعد النبوة فإن الأنبياء معصومون عن تعمد كل ما يخل بصدقهم حتى إذا كان من الصغائر.

يقول الآمدي في الأحكام : «وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى» (٢).

وبهذا يتضح أن محل الخلاف بين الماتريدية والأشعرية في هذه المسألة أن الماتريدية يرون وجوب العصمة أيضا من الصغائر ، لكن بعض الأشاعرة يجيز وقوع الصغائر من الأنبياء قبل البعثة وبعدها كذلك سهوا (٣).

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر ، (ص ٨٨ ـ ٩١).

(٢) انظر : الإحكام في أصول الأحكام (١ / ٢٤٣).

(٣) انظر : الروضة البهية (٢٢٥) وما بعدها.

الباب الرابع

حول تفسير القرآن الكريم

ويشتمل على الفصول الآتية :

الفصل الأول : نشأة التفسير وتطوره.

الفصل الثاني : مدارس التفسير.

الفصل الثالث : المناهج التفسيرية بين القديم والحديث.

الفصل الأول

نشأة التفسير وتطوره

تمهيد :

يجدر بنا قبل الخوض في بيان نشأة التفسير وتطوره بيان معناه ، والفرق بينه وبين اصطلاحات قريبة المعنى منه ؛ ذلك أن فكرة التفسير والتأويل وما في معناهما كلفظ «المعنى» شغلت كثيرا من العلماء القدامى والمحدثين على السواء ، فمثلا يقول ابن فارس : «معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة : المعنى والتفسير والتأويل ، وهي وإن اختلفت فالمقاصد متقاربة» (١).

ونقل صاحب اللسان عن ابن الأعرابي وأحمد بن يحيى أن «المعنى والتفسير والتأويل واحد» (٢).

وسنتناول هذه الاصطلاحات الثلاثة في عجالة في الصفحات الآتية :

أولا : التفسير :

التفسير لغة :

مصدر فسّر ـ بتشديد السين ـ مأخوذ من الفسر ، والمحور الذي تدور عليه هذه المادة هو الكشف مطلقا ، سواء أكان هذا الكشف لغموض لفظ أم لغير ذلك ؛ يقال : فسرت اللفظ فسرا من باب ضرب ونصر (٣).

ويستعمل التفسير لغة في الكشف الحسي ، وفي الكشف عن المعاني المعقولة ، واستعماله في الثاني أكثر من استعماله في الأول (٤).

ومن المعنى اللغوي يمكن القول : إن التفسير بوصفه علما يقصد منه كشف المغلق من المراد باللفظ ، فالمفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي أنزلت فيه (٥).

__________________

(١) الصاحبي في فقه اللغة (طبع المكتبة السلفية ، ١٣٢٨ ه‍) ص ١٦٢.

(٢) لسان العرب لابن منظور (طبعة دار المعارف ، القاهرة) مادة : «عني» و «فسر» و «أول» (٤ / ٣١٤٧) ، (٥ / ٣٤٢١) ، (١ / ١٧٢).

(٣) ينظر : القاموس المحيط ، مادة «فسر» ، ود. الذهبي : التفسير والمفسرون ص ١٥.

(٤) ينظر : التفسير والمفسرون ، الصفحة نفسها.

(٥) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم (الطبعة الثانية ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٨٩ م) ص ١٤.

وقد استعمل القرآن الكريم المادة بهذا المعنى من الكشف والإبانة في قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : ٣٣] قال ابن عباس : يعني بيانا وتفصيلا (١).

التفسير اصطلاحا :

قدم كثير من العلماء تعريفات عدة للتفسير ، وعلى ما بينها من أوجه اختلاف فإنها تنص على أن التفسير : علم يبحث عن مراد الله ، سواء جاء ذلك تلميحا أو تصريحا (٢).

وهذا التعريف شامل لكل ما يتوقف عليه المعنى وفهمه وبيان المراد منه.

ثانيا : التأويل

التأويل لغة :

يدور حول معنيين لا ثالث لهما :

الأول : بمعنى الرجوع والعود والعاقبة.

والثاني : بمعنى تفسير الكلام وتبيين معناه.

وقد أشارت كتب اللغة إلى المعنيين ، ففي اللسان أن التأويل من «الأول : الرجوع ، آل الشيء يئول أولا ومآلا : رجع ... وفي الحديث «من صام الدهر فلا صام ولا آل» (٣) ، أي : لا رجع إلى خير ، وأول الكلام وتأوله : دبره وقدره ، وأوله وتأوله : فسره» (٤).

__________________

(١) ينظر : الزركشي : البرهان ، تحقيق : أبي الفضل إبراهيم (طبعة الحلبي ١٩٥٧ م) (٢ / ١٤٧).

(٢) ينظر مثلا تعريفات : السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (طبعة مصطفى الحلبي ، القاهرة) (٢ / ١٧٤) ، وأبي حيان : البحر المحيط ـ مقدمة التفسير (١ / ١٣) ، ود / الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٦).

(٣) ذكره بلفظه ابن الأثير في النهاية (١ / ٦٣).

وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو

أخرجه البخاري (٤ / ٧٤١) كتاب الصوم باب حق الأهل في الصوم (١٩٧٧) ، ومسلم (٢ / ٨١٤ ـ ٨١٥) كتاب الصيام باب النهي عن صوم الدهر (١٨٦ / ١١٥٩) ، وأحمد (٢ / ١٦٤ ، ١٨٨ ، ١٩٠ ، ١٩٥ ، ٢١٢) ، وعبد الرزاق (٧٨٦٣) ، والحميدي (٥٩٠) ، وعبد بن حميد (٣٢١) ، والترمذي (٢ / ١٣٢) كتاب الصوم باب ما جاء في سرد الصوم (٧٧٠) ، وابن ماجه (٣ / ١٩٤) كتاب الصيام باب ما جاء في صيام الدهر (١٧٠٦) ، والنسائي (٤ / ٢٠٦) كتاب الصيام باب ذكر الاختلاف على عطاء في الخبر فيه ، وابن خزيمة (٢١٠٩) ، والخطيب في تاريخه (١ / ٣٠٧) من طريق أبي العباس الشاعر عن عبد الله بن عمرو ... فذكره مطولا وقال في آخره قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صام من صام الأبد» مرتين.

(٤) ابن منظور : لسان العرب مادة (أول) (١ / ١٧١) ، وينظر : الفيروزآبادي : القاموس المحيط (أول) (٣ / ٣٣١).

وقد كثر استعمال لفظ «التأويل» في القرآن الكريم بمعنييه ، فمن الأول قول الله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣] يعني ما يئول إليه في وقت بعثهم ونشورهم.

ومن الثاني قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران : ٧] فالتأويل هنا يعني التفسير والتعيين والتوضيح.

التأويل اصطلاحا :

التأويل عند السلف في تعريفه غيره عند الخلف ؛ فالتأويل عند السلف يأتي على معنيين :

الأول : تفسير الكلام وبيان معناه ، وبذلك يكون التأويل والتفسير مترادفين.

والثاني : هو نفس المراد بالكلام ، فإن كان الكلام طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب ، وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به.

وبين هذا المعنى والذي قبله فرق ظاهر ، فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام : كالتفسير والشرح والإيضاح ، ويكون وجود التأويل فيه القلب واللسان ، وله الوجود الذهني واللفظي والرسمي. وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء أكانت ماضية أم مستقبلية ، فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا هو نفس طلوعها ، وهذا في نظر ابن تيمية هو لغة القرآن التي نزل بها ؛ ولهذا يمكن إرجاع كل ما جاء في القرآن الكريم من لفظ التأويل إلى هذا المعنى الثاني (١).

أما الخلف من المتفقهة والمتكلمين والمتصوفين وغيرهم فقد رأوا أن التأويل يعني : صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.

والمتأول عندهم يحتاج إلى أمرين :

الأول : أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد.

الثاني : أن يبين الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح ، وإلا كان تأويلا فاسدا وتلاعبا بالنصوص (٢).

ومن ثم قال الزركشي : «التأويل : التمييز بين المنقول والمستنبط ؛ ليحمل على

__________________

(١) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٩).

(٢) ينظر : السابق (١ / ١٩ ، ٢٠).

الاعتماد في المنقول ، وعلى النظر في المستنبط ؛ تجويزا له وازديادا» (١).

وأوضح من هذا ما قاله صاحب جمع الجوامع وشرحه : «التأويل : حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، فإن حمل عليه لدليل فصحيح ، أو لما يظن دليلا في الواقع ففاسد ، أو لا لشيء فلعب لا تأويل» (٢).

ثالثا : المعنى :

المعنى لغة واصطلاحا :

يراد بالمعنى لغة : القصد والمراد ، جاء في اللسان : «عنيت بالقول كذا : أردت ، ومعنى كل كلام ومعناته ومعنيته : مقصده ، ويقال : عرفت ذلك في معنى كلامه ومعناة كلامه وفي معنى كلامه» (٣).

وله علاقة بالإظهار والوضوح ، كما تقول : عنت القربة : إذا لم تحفظ ماءها بل أظهرته ، ومنه عنوان الكتاب ، أي : الجزء الظاهر منه والمنبئ عما بداخله (٤).

وتجدر الإشارة إلى أن هناك لفظا رابعا له اتصال ما بألفاظ التفسير والتأويل والمعنى ، وهو لفظ البيان ، ويعني : إظهار المتكلم المراد للسامع ، وهو أعم من الألفاظ الثلاثة جميعا ؛ لشموله كلّا من بيان التغيير وبيان التقرير ، وبيان الضرورة ، وبيان التبديل (٥).

الفرق بين التفسير والتأويل :

يمكن القول : إن حاصل ما تضمنته عبارات العلماء العديدة في هذا المقام لا يخرج عن اتجاهين :

الاتجاه الأول : أن التفسير والتأويل ترجمة عن معنى واحد ، بحيث إذا قلنا أحدهما على شيء قلنا الآخر عليه بلا أدنى فرق ، وإلى هذا ذهب أبو عبيد والطبري وطائفة (٦).

والاتجاه الثاني : أن التفسير والتأويل يختلف مدلول أحدهما عن الآخر اصطلاحا كما اختلفا لغة ، وقد حمل لواء هذا الاتجاه النيسابوري والزركشي والراغب الأصفهاني وغيرهم ... وقد تشددوا في التفريق بين اللفظين أيما تشدد ، حتى قال النيسابوري

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن (٢ / ١٧١ ، ١٧٢).

(٢) د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٢٠) نقلا عن جمع الجوامع (٢ / ٥٦).

(٣) اللسان ، مادة (عنى).

(٤) ينظر : السابق ، المادة نفسها.

(٥) ينظر : الجرجاني : التعريفات ، مادة (أول).

(٦) ينظر : السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٧٣).

معرّضا : «قد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه» (١).

وقد فرق العلماء بين اللفظين بفروق شتى ، نورد أبرزها ـ خشية الإطالة ـ فمثلا الراغب الأصفهاني يقول : «التفسير أعم من التأويل ، وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ ، والتأويل في المعاني» (٢).

وأبو طالب الثعلبي يفرق فيقول : «التفسير : بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا ، كتفسير «الصراط» بالطريق ، و «الصيب» بالمطر. والتأويل : تفسير باطن اللفظ ، مأخوذ من الأول ، وهو الرجوع لعاقبة الأمر ، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد ، والتفسير إخبار عن دليل المراد» (٣).

والماتريدي صاحبنا يقول : «التفسير : القطع على أن المراد من اللفظ هذا ، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا ، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح ، وإلا فتفسير بالرأي ، وهو المنهي عنه ، والتأويل : ترجيح أحد المحتملات بدون قطع ، والشهادة على الله» (٤).

والأقوال كثيرة في التفريق بين التفسير والتأويل ، بعضها يصل بمفهوم المصطلحين إلى حد التباين ، ولعل أولاها بالقبول ما ذكره جملة من العلماء من أن التفسير يرجع إلى الرواية ، والتأويل يرجع إلى الدراية والاستنباط ؛ لأن التفسير كشف وبيان عن مراد الله ، والكشف عن مراد الله لانجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي ، وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع ، وخالطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من معاني القرآن الكريم. أما التأويل فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل ، وهذا الترجيح يعتمد على الاجتهاد.

ومن ثم قال الزركشي ـ فيما أشرنا إليه من قبل ـ : «وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل ، التمييز بين المنقول والمستنبط ؛ ليحمل على الاعتماد

__________________

(١) السابق ، الصفحة نفسها.

(٢) د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٢١) ، ود. السيد خليل : نشأة التفسير في الكتب المقدسة والقرآن ص ٢٩ نقلا عن : مقدمة في التفسير للراغب ص ٤٠٢ ، ٤٠٣.

(٣) السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٧٣). وينظر : د. أبو شهبة : الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص ٤٣.

(٤) السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٧٣) ، والتفسير والمفسرون (١ / ٢١ ، ٢٢).

في المنقول ، وعلى النظر في المستنبط» (١).

وخلاصة القول : أنه برغم الاختلاف بين المصطلحين ، فإنهما يشتركان في معنى واحد ، وهو محاولة الكشف عن حقيقة شيء ، وأنه حين يستخدم كل منهما في شرح ألفاظ القرآن وبيان معانيه فإنه يجمعهما هذا المعنى العام.

نشأة التفسير وتطوره

من البدهيات أن كل شيء في الوجود لا يكتمل إلا إذا مر بمراحل معينة وأطوار متتالية ، وتلك سنة من سنن الله في الأشياء جميعا ، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) [فاطر : ٤٣].

ويصدق على العلوم ما يصدق على الأشياء ، فلم يعرف أن هناك علما من العلوم وجد كاملا هكذا فجأة ، وإنما كل علم مر بمراحل وتطورات حتى صار علما له أصوله وأركانه التي يقوم عليها.

ومن العلوم علم التفسير ، هذا العلم الذي شهد تطورات منذ نزول الآيات الأولى من كتاب الله الكريم وحتى يوم الناس هذا ، فبدأ بمرحلة المهد ثم الطفولة ، وتطورت به المراحل حتى استوى على سوقه ، وصارت له أصوله وأركانه.

وجدير بمن يتناول علم التفسير أن يقف عند هذه المراحل والتطورات ؛ لأنها تطورات متلاحقة ومتعانقة في آن واحد ، فلا يمكن فصل مرحلة عن مرحلة ، أو اعتماد مرحلة دون أخرى ، وإلا فقد هذا العلم ركنا من أركانه ، وأصلا من أصوله ، ولوقع المفسر في أخطاء جسيمة ، وأدخل في تفسيره للآيات غير مراد الله ومقصوده ، ومن ثم فعلى المفسر أن يراعي كل المراحل ، ولا يعتمد مرحلة دون مرحلة ، ويراعي في المقام الأول مرحلة التفسير في عهد النبوة ؛ لأنها الأساس الذي يبنى عليه ما بعده ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أعلم الناس بالقرآن.

هذا : وقد أشرنا إلى نشأة علم التفسير في عجالة سريعة عند حديثنا عن الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي في الفصل السادس من الباب الأول من هذه المقدمة ، إلا أنه لأهمية الوقوف على نشأة التفسير وتطوره ، خصصنا الصفحات الآتية لدراسة أبرز مراحل هذه النشأة وذلك التطور :

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن (٢ / ١٧١ ، ١٧٢).

المرحلة الأولى : التفسير في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ، وعلى أساليب بلاغة العرب وبيانهم ، فكانوا يفهمونه ، ويدركون أغراضه ومراميه ، وإن تفاوتوا في الفهم ، والإدراك ؛ تبعا لاختلاف درجاتهم العلمية ، ومواهبهم العقلية ، فقد قال ابن قتيبة : «إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه ، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض» (١).

ومعنى هذا أن هناك آيات تشكل معانيها على الصحابة ، وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يسألون الرسول ليوضح لهم موضع الإشكال ، فمن هنا بذرت البذور الأولى لعلم التفسير.

والحق أن التفسير في هذه المرحلة يتميز بسمات لم تتوافر لأي مرحلة تالية ، ومن أبرز هذه السمات :

أن لجميع الأقوال التفسيرية التي شهدتها هذه المرحلة قوة النص المفسّر ، أو هي الوجه الآخر له ، إذا صح هذا التعبير.

إن تفسير القرآن في هذا المرحلة كان من عند الله تبارك وتعالى ، فهو سبحانه أول مبين ومفسر لكتابه ؛ لأنه الأعلم به وبمراد نفسه من غيره ، ولأن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ؛ ولذلك يقول الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] ، ويقول سبحانه : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : ٣٣] ، ويقول جل وعلا : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٨ ـ ١٩].

وتفسير القرآن في هذه المرحلة ـ أيضا ـ كان موكولا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان طبيعيّا أن يفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن جملة وتفصيلا ، فهم ظاهره وباطنه ، ومجمله ومفصله ، ومقيده ومطلقه ، ومحكمه ومتشابهه ، وخاصه وعامه ، وأمره ونهيه ، وغريبه ومشكله ، وسائر ما يتعلق بالأحكام والاعتقاد والتكاليف ... إلخ.

وقد أعطى القرآن الكريم للرسول الحق في عملية التفسير ، فقد قال الله جل وعلا : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، وقال سبحانه : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٥١].

__________________

(١) ابن قتيبة : المسائل والأجوبة ص ٨ والنص منقول عن : د. عبد الله شحاتة : علوم القرآن والتفسير (دار الاعتصام ، الطبعة الثانية ١٩٨٣ م) ص (٣٤٥).

وقد بدأ التفسير في هذه المرحلة حينما كان الصحابة يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن فهم القرآن الكريم كاملا ليس ميسورا لهم ، «بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يشكل عليهم فهمه ؛ وذلك لأن القرآن فيه المجمل ، والمشكل ، والمتشابه ، وغير ذلك مما لا بد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها» (١).

والأمثلة كثيرة وثابتة تدل على أن الصحابة كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يشكل عليهم من معان قرآنية ، فمن ذلك ما أخرجه الترمذي عن على بن أبي طالب قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن «يوم الحج» فقال : «يوم النحر» (٢).

وقد فسر صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحساب اليسير بالعرض حيث قال : «من نوقش الحساب عذب» فقالت له السيدة عائشة : أو ليس قد قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) [الانشقاق : ٧ ـ ٩] فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك العرض» (٣) بيانا للحساب

__________________

(١) د. محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون (مكتبة وهبة ، القاهرة ، الطبعة الثالثة (١٤٠٥ ه‍ ـ ١٩٨٥ م /) (١ / ٣٦).

(٢) أخرجه الترمذي (٢ / ٢٨٠) ، أبواب الحج ، باب : ما جاء في يوم الحج الأكبر (٩٥٧) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في الدر المنثور (٣ / ٣٨٠) وأخرجه الترمذي (٩٥٨) وابن أبي شيبة وأبي الشيخ عن على موقوفا كما في الدر المنثور (٣ / ٣٨١).

وقال الترمذي : هذا أصح من الحديث الأول.

وله شاهد من حديث عبد الله بن عمر : أخرجه أبو داود (١ / ٥٩٨ ـ ٥٩٩) كتاب المناسك باب يوم الحج الأكبر (١٩٤٥) ، وابن ماجه (٤ / ٥٠٣) كتاب المناسك باب الخطبة يوم النحر (٣٠٥٨) ، والطحاوي في شرح المشكل (١٤٥٩) و (١٤٦٠) والطبراني (٦٤٤٧) والحاكم (٢ / ٣٣١) والبيهقي (٥ / ١٣٩) وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحيلة كما في الدر المنثور للسيوطي (٣ / ٣٨١) من طرق عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال : «أي يوم هذا؟» قالوا : يوم النحر قال : «هذا يوم الحج الأكبر».

(٣) أخرجه البخاري (٩ / ٧١٠) كتاب التفسير باب (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٤٩٣٩) ، ومسلم (٤ / ٢٢٠٥) كتاب الجنة وصفة نعيمها (٨٠ / ٢٨٧٦) ، وأحمد (٦ / ١٠٨) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس أحد يحاسب إلا هلك» قالت : قلت يا رسول الله جعلني الله فداءك أليس يقول الله عزوجل(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) [الانشقاق : ٧ ـ ٨] قال : «ذاك العرض يعرضون ، ومن نوقش الحساب هلك».

وأخرجه البخاري (٤٩٣٩) ، ومسلم (٧٩ / ٢٨٧٦) ، وأحمد (٦ / ٤٧ و ١٠٨ و ١٢٧) ، وأبو داود (٢ / ٢٠١) كتاب الجنائز باب عيادة النساء (٣٠٩٣) ، والترمذي (٤ / ٢٢٣) كتاب صفة القيامة (٢٤٢٦) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٤٩٧) كتاب التفسير باب قوله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) ، وأبو يعلى (٤٤٥٣) ، وابن حبان (٧٣٦٩) و (٧٣٧٠) و (٧٣٧١) ، والقضاعي في مسند الشهاب (٣٣٨) ، والبيهقي في الاعتقاد (٢٠٩ ـ ٢١٠) ، من طرق عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حوسب يوم القيامة عذب» فقلت : أليس قد قال الله ـ

اليسير.

وكذلك فسر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم القوة بالرمي في قوله سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠](١).

وأحيانا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر بنفسه المعنى دون أن يوجه إليه سؤال من أحد الصحابة ، من ذلك ما أخرجه الترمذي عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦] يقول : «لا إله إلا الله» (٢).

وهناك لون من التفسير وجد في العهد النبوي ، وهو ما يمكن تسميته : التفسير بالوقائع ، وفيه تفسير الآية قبل نزولها ؛ حيث تقع واقعة ، ويسأل الصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينزل الوحي بحكم هذه الواقعة المسئول عنها ، فيفهم الصحابة عن الله مراده في الآيات (٣).

__________________

ـ عزوجل : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) [الانشقاق : ٨] فقال : «وليس ذاك الحساب إنما ذاك العرض ، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب».

وأخرجه أحمد (٦ / ٤٨ و ١٥٨) ، وابن خزيمة (٨٤٩) ، من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في بعض صلاته : «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلما انصرف قلت : يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال : «ينظر في كتابه ويتجاوز له عنه. إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك وكل ما يصيب المؤمن يكفر الله به عنه حتى الشوكة تشوكه».

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٢٢) كتاب الإمارة باب فضل الرمي (١٦٧ / ١٩١٧) ، وأحمد (٤ / ١٥٦) ، وسعيد بن منصور (٢٤٤٨) وأبو داود (٢ / ١٧) كتاب الجهاد باب في الرمي (٢٥١٤) ، وابن ماجه (٤ / ٣٤٧) كتاب الجهاد باب الرمي في سبيل الله (٢٨١٣) ، وأبو يعلى (١٧٤٣) ، وابن حبان (٤٧٠٩) ، والطبراني (١٧ / ٣٣٠) (٩١١) ، والبيهقي (١٠ / ١٣) من طرق عن أبي علي الهمداني عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر : «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ألا إن القوة الرمي ، إلا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي» ، وأخرجه الترمذي (٥ / ١٦٤) كتاب التفسير باب (ومن سورة الأنفال) (٣٠٨٣) والطبري في تفسيره (٦ / ٢٧٥) (١٦٢٤١) و (١٦٢٤٢) من طريق صالح بن كيسان عن رجل عن عقبة بن عامر ... فذكره.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٢٨) من طريق مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر ... فذكره.

(٢) أخرجه : الترمذي (٥ / ٣٠٦) ، أبواب التفسير ، باب : ومن سورة الفتح (٣٢٦٥) ، وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (٥ / ١٣٨) ، والطبري (١١ / ٣٦٤) (٣١٥٧٩) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (١ / ١٨١) ، والدار قطني في الإفراد وابن مردويه كما في الدر المنثور (٦ / ٧٧) ، وقال الترمذي : هذا حديث غريب.

(٣) هذا اللون يسمى بعلم أسباب النزول ، وقد أفردت له مؤلفات عدة ، منها : أسباب النزول للنيسابوري ، وأسباب النزول للسيوطي ، وغيرهما ، ولمعرفة أسباب النزول فوائد جمة للمفسر ، فمن فوائدها : الوقوف على المعنى أو إزالة الإشكال ، قال الواحدي : «لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها ، وبيان سبب نزولها» وقال ابن دقيق العيد : «بيان سبب النزول طريق قوي ـ

والآيات التي نزلت مرتبطة بوقائع كثيرة في القرآن الكريم ، وقلما تجد سورة تخلو من آيات مرتبطة بوقائع ، فمن ذلك ما جاء في سورة البقرة : ففي قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] أخرج الواحدي والثعلبي من طريق محمد بن مروان والسدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء ، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تميم ، وشيخ الإسلام ، وثاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغار ، الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب ، الفاروق القوي في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد على ، فقال : مرحبا بابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وختنه (١) ، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله ، ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت ، فأثنوا عليه خيرا ، فرجع المسلمون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه بذلك ، فنزلت هذه الآية (٢).

وفي قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال : خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك».

فقال الأنصاري : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ، فتلون وجهه ، ثم قال : «اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار ، ثم أرسل الماء إلى جارك» ، واستوعب للزبير حقه ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة ، قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك (٣).

__________________

ـ في فهم معاني القرآن» وقال ابن تيمية : «معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ، وقد أشكل على جماعة من السلف معاني آيات حتى وقفوا على أسباب نزولها فزال عنهم الإشكال» (ينظر : الإمام السيوطي : أسباب النزول ، تحقيق وتعليق : قرني أبو عميرة ، مكتبة نصير ، القاهرة ، مصر ، ص ٥).

(١) أي صهره وزوج ابنته.

(٢) السيوطي : أسباب النزول (ص ١٠ ، ١١) وقال : هذا الإسناد واه جدا ، فإن السدي الصغير كذاب ، وكذا الكلبي ، وأبو صالح ضعيف وانظر الدر المنثور له (١ / ٦٩).

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ٣٠٧) كتاب المساقاة باب سكر الأنهار (٢٣٥٩) و (٢٣٦٠) ، ومسلم (٤ / ـ

وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : جاء العاصي بن وائل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم حائل ففته ، فقال : يا محمد أيبعث هذا بعد ما أرم؟ قال : «نعم ، يبعث الله هذا ، ثم يميتك ، ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم» ، فنزلت الآيات (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) [يس : ٧٧] إلى آخر السورة (١).

والأمثلة في هذا الشأن كثيرة جدّا ، وهي مبثوثة في كتب أسباب النزول ، وكتب السنة الصحيحة كذلك يراجعها من أراد.

إذن نستطيع القول : إن هناك طريقين ، أو بالأحرى مصدرين للتفسير في المرحلة النبوية ، هذان الطريقان هما :

الأول : القرآن الكريم ؛ حيث يجد الناظر في كتاب الله تعالى أن هناك آيات تفسر بها آيات أخرى ، فالقرآن الكريم «قد اشتمل على الإيجاز والإطناب ، وعلى الإجمال والتبيين ، وعلى الإطلاق والتقييد ، وعلى العموم والخصوص ، وما أوجز في مكان قد يبسط في مكان آخر ، وما أجمل في موضع قد يبين في موضع آخر ، وما جاء مطلقا في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى ، وما كان عامّا في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى ؛ لهذا كان لا بد لمن يتعرض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن أولا : فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد ، ويقابل الآيات بعضها ببعض» (٢) ، وقد فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد فسر القرآن الكريم بالقرآن الكريم حيث سئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام : ٨٢] فقال الصحابة لما نزلت : وأينا لا يلبس إيمانه بظلم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألم تقرءوا قول الله

__________________

ـ ١٨٢٩ ـ ١٨٣٠) كتاب الفضائل باب وجوب اتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٢٩ / ٢٣٥٧) ، وأحمد (٤ / ٤) ، وعبد بن حميد (٥١٩) ، وأبو داود (٢ / ٣٣٩) كتاب الأقضية أبواب القضاء (٣٦٣٧) ، وابن ماجه (١ / ٥١) في المقدمة باب تعظيم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٥) وفي (٢٤٨٠) ، والترمذي (٣ / ٣٦) كتاب الأحكام باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر (١٣٦٣) وفي (٣٠٢٧) ، والنسائي (٨ / ٢٤٥) كتاب آداب القضاة باب إشارة الحاكم بالرفق ، وابن الجارود (١٠٢١) ، وابن حبان (٢٤) ، والطحاوي في المشكل (١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢) ، وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ص / ٤٣) ، والحاكم (٣ / ٣٦٤) ، والبيهقي (٦ / ١٤٥ و ١٥٣ و ١٠ / ١٠٦) من طريق عروة بن الزبير أن عبد الله ابن الزبير حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير ... فذكره.

(١) أخرجه الطبري (١٠ / ٤٦٤) (٢٩٢٤٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والإسماعيلي في معجمه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والضياء في المختارة كما في الدر المنثور (٥ / ٥٠٧).

(٢) د. محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٤٠).

تعالى : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]» (١).

ففسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظلم في الآية الأولى بالشرك في الآية الثانية.

ومن تفسير القرآن بالقرآن ما جاء بحمل المجمل على المفصل ، مثال ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١] فقد جاء تفسير قوله سبحانه : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في آية كريمة أخرى هي قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٣].

ومن تفسير القرآن بالقرآن ـ أيضا ـ ما جاء بحمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص : فمن الأول : ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المطلق على المقيد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب ، ومثل له بآية الوضوء والتيمم ، فإن الأيدي مقيدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ... ومطلقة في التيمم في قوله تعالى في الآية نفسها : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة : ٦] فقيدت في التيمم بالمرافق أيضا (٢).

ومن النوع الثاني : نفي الخلة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤] فخصص العموم في قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] فقد استثنى ما أذن فيه من الشفاعة ، وفي قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧] فقد استثنى الله المتقين من نفي الخلة. (٣)

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ١٢٢) كتاب الإيمان باب ظلم دون ظلم (٣٢) ، ومسلم (١ / ١١٤ ـ ١١٥) كتاب الإيمان باب صدق الإيمان (١٩٧ / ١٢٤) ، وأحمد (١ / ٣٧٨ ، ٤٢٤ ، ٤٤٤) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٤٢٧) كتاب التفسير باب قوله تعالى (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، وأبو يعلى (٥١٥٩) والترمذي (٥ / ١٥٢) كتاب التفسير باب ومن سورة الأنعام (٣٠٦٧) وأبو عوانة (١ / ٧٣) ، وابن حبان (٢٥٣) ، وابن مندة (٢٦٥) و (٢٦٦) و (٢٦٧) و (٢٦٨) ، والبيهقي (١٠ / ١٨٥).

(٢) ينظر : د. محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٤٢).

(٣) ينظر : السابق ، الصفحة نفسها.

ومن تفسير القرآن بالقرآن : حمل المبهم على المبين ، كما في قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧] فقد فسر قوله : (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) بقوله : (الْفَجْرِ).

ومنه ـ أيضا ـ قول الله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) [الطارق : ١] فقد بينت كلمة الطارق بما تلاها من قول الله تعالى : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [الطارق : ٣].

«ومن تفسير القرآن بالقرآن : الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف : كخلق آدم من تراب في بعض الآيات ، ومن طين في غيرها ، ومن حمأ مسنون ، ومن صلصال ، فإن هذا ذكر للأطوار التي مر بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح» (١).

وتجدر الإشارة إلى أن تفسير القرآن بالقرآن كان النواة الأولى لعلم التفسير ، وهو ما قاله المستشرق جولد تسيهر ، ووافقه الذهبي حين قال : «نعم نستطيع أن نوافقه ـ يقصد جولد تسيهر» أن المرحلة الأولى للتفسير تتركز في القرآن نفسه ، على معنى رد متشابهه إلى محكمه ، وحمل مجمله على مبينه ، وعامه على خاصه ، ومطلقه على مقيده ... كما تتركز في بعض قراءاته المتواترة» (٢).

الطريق الثاني في تفسير القرآن الكريم في المرحلة النبوية : تفسيره بالسنة الشريفة ، وذلك حين لا نجد في القرآن ما نفسره به ، «فالسبيل المثالية التي لا ينبغي لعاقل أن يعدل عنها ، أن يطلب التفسير ثاني ما يطلبه ـ أي بعد القرآن مباشرة ـ من السنة ، وعلى هذا أطبق أهل السنة والجماعة ؛ انطلاقا منهم ـ رحمهم‌الله ـ من مسلمات أربع :

أولاها : أن خير من يمكن أن يفسر القرآن ، ومن ينبغي أن يطلب منه تفسيره بعد الله تعالى في محكم كتابه هو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي حدثنا ربه فيما حدث من وصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ، ٤].

فهو إذن صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقتضى كونه رسولا أولا ، ثم بمقتضى شهادة هذا النص وأشباهه ثانيا ـ لا يمكن أن يقر على خطأ أبدا ، دع عنك أن يكون الخطأ في مثل هذا الأمر الجلل ، أعني تفسير القرآن الكريم الذي هو أعظم معجزاته ، وأكبر آيات فضله وسمو منزلته ، فإن جاز عليه الخطأ بمقتضى بشريته في يسير الأمر ، فليس يجوز عليه في أهم المهمات بالنسبة له

__________________

(١) السابق ، الصحفة نفسها

(٢) السابق (١ / ٤٤) ، وينظر : جولد تسيهر : المذاهب الإسلامية في التفسير (١ / ١). وسنعود في قابل دراستنا هذه إلى مناقشة آراء المستشرقين في تفسير القرآن بالقرآن ؛ حيث إنه قد وقعت منهم مغالطات لا يمكن قبولها ، يبغون منها هدم القرآن والإسلام ، ولكن هيهات هيهات

ولشريعته وأمته أصلا ، بل إن جاز عليه الخطأ ولو في يسير من الأمر بمقتضى تلك البشرية ، فليس يجوز في عقل عاقل أن يقر عليه ، بمقتضى ما له من الرسالة ، بل لا محالة يهديه ربه إلى صواب القول والعمل.

الثانية : أن خير من يمكن أن يفسر الشيء من تكون أهم وظائفه تبيان ذلك الشيء ، فعند ذلك نقول : قد صرح الله في محكم ذكره بأن أولى غايتي إنزاله ، وبالتالي أهم وظيفة لنبيه هي تبيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الذكر للناس ، على ما قال جل من قائل : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ٤٤].

الثالثة : أن من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن السنة هي الأصل الثاني لهذا الدين ، والمصدر التالي للقرآن مباشرة في جميع كليات هذا الدين وجزئياته ، فالمجاوز للسنة إذن مع وجدان طلبته فيها راكب لعظيم ، مخالف لمقتضى ضروريات هذا الدين.

الرابعة : أن طلب البيان من السنة ما تيسر فيها هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما نأتي ونذر ؛ من أمثال قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩](١).

وقد رسخت هذه المسلمات وتقررت في أذهان أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا يسألونه ـ كما سبقت الإشارة ـ عن جميع ما يشكل عليهم من القرآن الكريم وغيره ، وقد ذكرنا فيما مضى بعض الأمثلة التي تبين ذلك ، ونزيد الأمر وضوحا بعرض مجموعة القضايا الآتية :

القضية الأولى : كيف بينت السنة القرآن (٢)؟

جاء بيان السنة للقرآن على وجوه متعددة ، أبرزها ما يأتي :

الوجه الأول : بيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض مجملات القرآن ، كما في بعض الفروض التي جاءت في القرآن مجملة : كالصلاة والزكاة والصوم والحج ، فقد قام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفصيل أمرها بأقواله أو أفعاله ، أو كليهما ، تفصيلا ما كنا نستطيع بدونه أن نفهم المقصود منها ، فقد بين صلى‌الله‌عليه‌وسلم مواقيت الصلوات الخمس ، وعدد ركعات كل صلاة وكيفيتها ، وبين مقادير الزكاة ،

__________________

(١) د. إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : دراسات في مناهج المفسرين ـ الجزء الأول (طبعة دار الوفاء ، نشر مكتبة الأزهر ، القاهرة (١٣٩٩ ه‍ ـ ١٩٧٩ م) (ص ٢١٣ ، ٢١٤).

(٢) ينظر في هذه القضية : د. محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥٧ ـ ٥٩) ، ود. إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : دراسات في مناهج المفسرين ـ الجزء الأول (ص ٢٣٥ ـ ٢٤٦) ود. عبد الله شحاتة : علوم القرآن والتفسير (ص ٢٤٧ ، ٢٤٨).

وأوقاتها ، وأنواعها ، وبين مناسك الحج وأركانه وسننه ؛ ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «صلوا كما رأيتموني أصلي» (١) ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول ـ أيضا ـ : «خذوا عني مناسككم» (٢).

وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين أنه قال لرجل : «إنك رجل أحمق ، أتجد الظهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ، ونحو ذلك ، ثم قال : أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسرا؟ إن كتاب الله تعالى أبهم هذا ، وإن السنة تفسر هذا» (٣).

الوجه الثاني : تخصيص العام في القرآن ، ومن أمثلته تخصيص آية الزانية والزاني بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفعله بغير المحصن.

وتخصيص الظلم في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)(٤) [الأنعام : ٨٢] بالشرك.

الوجه الثالث : تقييده صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقات القرآن ، ومن ذلك تقييده اليد في قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] باليمين (٥).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٥٣) ، والبخاري (٢ / ١١٠) كتاب : الأذان ، باب : من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد ، حديث (٦٣١) ، ومسلم (١ / ٤٦٦) كتاب : المساجد ، باب : من أحق بالإمامة ، حديث (٢٩٣ / ٦٧٤) ، وأبو داود (١ / ٣٩٥ ـ ٣٦) كتاب : الصلاة ، باب : من أحق بالإمامة ، حديث (٥٨٩) ، والترمذي (١ / ٣٩٩) كتاب : الصلاة ، باب : ما جاء في الأذان والسفر ، الحديث (٢٠٥) ، والنسائي (٢ / ٨ ـ ٩) كتاب : الأذان ، باب : أذان المنفردين في السفر ، وابن ماجه (١ / ٣١٣) كتاب : إقامة الصلاة ، باب : من أحق بالإمامة ، الحديث (٩٧٩) ، والدارمي (١ / ٢٨٦) ، والبيهقي (١ / ٣٨٥).

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ٣١٨) ، ومسلم (٢ / ٩٤٣) كتاب : الحج ، باب : استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر ، الحديث (٣١٠ / ١٢٩٧) ، وأبو داود (٢ / ٤٩٥) كتاب : المناسك ، باب : في رمي الجمار ، الحديث (١٩٧٠) ، والنسائي (٥ / ٢٧٠) كتاب : المناسك ، باب : الركوب إلى الجمار ، واستظلال المحرم ، وابن ماجه (٢ / ١٠٠٦) كتاب : المناسك ، باب : الوقوف بجمع حديث (٣٠٢٣) ، والترمذي (٣ / ٢٣٤) كتاب : الحج ، باب : ما جاء في الإفاضة من عرفات (٨٨٦) مختصرا.

وابن خزيمة (٤ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، وأبو يعلى (٤ / ١١١) ، رقم (٢١٤٧) وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) انظر زوائد نعيم بن حماد على كتاب الزهد لابن المبارك (١ / ٢٣) (٩٢).

(٤) سبق تخريجه.

(٥) أخرج الطبري وابن المنذر وأبو الشيخ من طرق عن ابن مسعود أنه قرأ (فاقطعوا أيمانها) كما في الدر المنثور (٢ / ٤٩٦).

وذكر له طريقا آخر قال : في قراءة عبد الله بن مسعود : (والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم).

الوجه الرابع : إيضاحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض مبهمات القرآن : كتفسيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعبد الصالح صاحب موسى عليه‌السلام بالخضر (١).

الوجه الخامس : بيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظا أو متعلقه : كبيان المغضوب عليهم في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧].

الوجه السادس : بيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحكاما زائدة على ما جاء في القرآن الكريم ، كتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها (٢) وصدقة الفطر (٣) ، ورجم الزاني المحصن (٤) ، وميراث

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٣٢٩) كتاب التفسير باب قوله وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف : ٥٤] (٤٧٢٥) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٧ ـ ١٨٥٠) كتاب الفضائل باب من فضائل الخضر (١٧٠ / ٢٣٨٠) ، وأحمد (٥ / ١١٦ و ١١٨ و ١١٩) ، وعبد بن حميد (١٦٩) ، وأبو داود (٢ / ٦٤٠) كتاب السنة باب في القدر (٤٧٠٧) ، وعبد الله في زياداته (٥ / ١١٧ و ١١٨ و ١٢١ و ١٢٢) ، وابن حبان (٦٢٢٠) والبيهقي في الأسماء والصفات (١ / ١٩٧) ، والنسائي في الكبرى (٣ / ٤٢٧ ـ ٤٢٩) كتاب العلم باب الرحلة في طلب العلم ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٧) من طريق سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل ... فذكره مطولا.

(٢) أخرجه مالك (٢ / ٥٣٢) كتاب : النكاح ، باب : ما لا يجمع بينه من النساء ، حديث (٢٠) ، والبخاري (٩ / ١٦٠) كتاب : النكاح ، باب : لا تنكح المرأة على عمتها ، حديث (٥١٠٩) ، ومسلم (٢ / ١٠٢٨) كتاب : النكاح ، باب : تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، حديث (٣٣ / ١٤٠٨) ، والشافعي في مسنده (٢ / ١٨) كتاب : النكاح ، باب : الترغيب في التزوج (٥٠) ، والنسائي (٦ / ٩٦) كتاب : النكاح ، باب : الجمع بين المرأة وعمتها ، والدارمي (٢ / ١٣٦) كتاب : النكاح ، باب : الحال التي يجوز للرجل أن يخطب فيها ، وأحمد (٢ / ٤٦٥) ، وسعيد بن منصور (١ / ٢٠٩) رقم (٦٥٤) ، ومحمد بن نصر في السنة (ص ـ ٧٨) رقم (٢٧٠ ، ٢٧١) ، والبيهقي (٧ / ١٦٥) كتاب : النكاح ، باب : ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها. من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.

ومن طريق أبي سلمة :

أخرجه مسلم (٢ / ١٠٢٩) كتاب : النكاح ، باب : تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح حديث (٣٧ / ١٤٠٨) ، والنسائي (٦ / ٩٧) كتاب : النكاح ، باب : الجمع بين المرأة وعمتها ، وسعيد بن منصور (١ / ٢٠٨) رقم (٦٥٠) ، وأحمد (٢ / ، ٤٢٣٢٢٩) ، وعبد الرزاق (٦ / ٢٦١) رقم (١٠٧٥٥) ، ومحمد بن نصر المروزي في السنة (ص ـ ٧٨) رقم (٢٦٩٦) من طريق أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

ومن طريق قبيصة بن ذؤيب :

أخرجه البخاري (٩ / ١٦٠) كتاب : النكاح ، باب : لا تنكح المرأة على عمتها (٥١١٠) ، ومسلم (٢ / ١٠٢٨) كتاب : النكاح ، باب : تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح ، حديث (٣٥ / ١٤٠٨) ، وأبو داود (٢ / ٥٥٤) كتاب : النكاح ، باب : ما يكره أن يجمع بينهن من النساء ، حديث (٢٠٦٦) ، والنسائي (٦ / ٩٦ ـ ٩٧) كتاب : النكاح ، باب : الجمع بين المرأة وعمتها ، وأحمد (٢ / ٤٠١ ، ٤٥٢ ، ٥١٨) ومحمد بن نصر المروزي في السنة (ص ـ ٧٨) رقم (٢٧٢) ، والبيهقي (٧ / ١٦٥) كتاب : النكاح ، باب : ما جاء في الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها ، ـ

__________________

ـ من طريق قبيصة بن ذؤيب أنه سمع أبا هريرة ... فذكره.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٣٦٩) كتاب : الزكاة ، باب : صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين ، حديث (١٥٠٤) ، ومسلم (٢ / ٦٧٧) كتاب : الزكاة ، باب : زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير ، حديث (١٢ / ٩٨٤) ، وأبو داود (٢ / ٢٦٣ ، ٢٦٤ ، ٢٦٥) كتاب : الزكاة ، باب : كم يؤدي في صدقة الفطر ، حديث (١٦١١) ، والنسائي (٥ / ٤٨) كتاب : الزكاة ، باب : فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين ، وابن ماجه (١ / ٥٨٤) كتاب : الزكاة ، باب : صدقة الفطر ، حديث (١٨٢٦) ، والترمذي (٣ / ٦١) كتاب : الزكاة ، باب : ما جاء في صدقة الفطر ، حديث (٦٧٦) ، ومالك (١ / ٢٨٤) كتاب : الزكاة ، باب : زكاة الفطر ، حديث (٥٢) ، والشافعي (١ / ٢٥٠) كتاب : الزكاة ، باب : الخامس في صدقة الفطر ، وأحمد (٢ / ١٣٧) ، والدارمي (١ / ٣٩٢) كتاب : الزكاة ، باب : في زكاة الفطر ، والبيهقي (٤ / ١٥٩) كتاب : الزكاة ، باب : من قال : زكاة الفطر فريضة ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (١ / ٣٢٠) ، من طريق مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، وقال الترمذي حسن صحيح.

(٤) أخرجه البخاري (١٢ / ١٣٦) كتاب : الحدود ، باب : سؤال الإمام المقر هل أحصنت؟ حديث (٦٨٢٥) ، ومسلم (٣ / ١٣١٨) ، كتاب : الحدود ، باب : من أجاز ألا يحضر الإمام ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٤٦٥ ، ٤٦٦) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من الناس وهو في المسجد فناداه : يا رسول الله ، إني زنيت فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله ، فقال : يا رسول الله ، إني زنيت فأعرض عنه ، فجاء لشق وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أعرض عنه ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أبك جنون؟ قال : لا يا رسول الله ، فقال : أحصنت؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : اذهبوا فارجموه».

وللحديث طريق آخر عن أبي هريرة :

أخرجه الترمذي (٤ / ٢٧) كتاب : الحدود ، باب : ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع ، حديث (١٤٢٨) ، وابن ماجه (٢ / ٨٥٤) كتاب : الحدود ، باب : الرجم ، حديث (٢٥٥٤) ، وأحمد (٢ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، ٤٥٠) ، وابن الجارود في المنتقى رقم (٨١٩) ، وابن حبان (٢٤٢٢ ـ الإحسان) ، والحاكم (٤ / ٣٣٦) ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٤٦٥) كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : «جاء ماعز بن مالك الأسلمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني زنيت فأعرض عنه ، ثم جاءه من شقه الأيمن فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت فأعرض عنه ، ثم جاءه من شقه الأيسر فقال : يا رسول الله إني قد زنيت فأعرض عنه ثم جاءه فقال : إني قد زنيت ، قال ذلك أربع مرات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انطلقوا به فارجموه» فانطلقوا به ، فلما مسته الحجارة أدبر يشتد ، فلقيه رجل في يده نحى جمل ، فضربه به فصرعه فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «فهلا تركتموه».

وقال الترمذي : حديث حسن ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وصححه ابن حبان.

وقال البغوي عقبه : هذا حديث متفق على صحته ، وهو وهم ، فهو متفق على صحته من حديث أبي هريرة ، ولكن ليس من هذا الطريق.

وللحديث طريق ثالث عن أبي هريرة :

أخرجه أبو داود (٤ / ٥٧٩) كتاب الحدود ، باب : رجم ماعز بن مالك ، حديث (٤٤٢٩) ،

الجدة (١) ، والحكم بشاهد ويمين (٢) ... وغير ذلك.

__________________

ـ والنسائي في الكبرى (٤ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧) كتاب : الرجم ، باب : استقصاء الإمام على المعترف عنده بالزنا ، حديث (٧١٦٤) ، وأبو يعلى (١٠ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥) رقم (٦١٤٠) كلهم من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن ابن عم لأبي هريرة عن أبي هريرة أن ماعز بن مالك جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إني قد زنيت فأعرض عنه حتى قالها أربعا ، فلما كان في الخامسة قال : «زنيت؟» قال : نعم ، قال : «وتدري ما الزنى؟» قال : نعم ، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا ، قال : «ما تريد إلى هذا القول؟» قال : أريد أن تطهرني ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والعصا في الشيء؟» قال : نعم يا رسول الله ، قال : فأمر برجمه فرجم ، فسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا ستر الله عليه ، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ثم مر بجيفة حمار فقال : «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا جيفة هذا الحمار» ، قالا : غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا؟ قال : «فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة يتقمص فيها».

وهذا إسناد ضعيف ، لجهالة ابن عم أبي هريرة ، لكن أخرجه به الرزاق (٧ / ٣٢٢) رقم (١٣٣٤٠) عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير عن عبد الرحمن بن الصامت عن أبي هريرة به ، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أبو داود (٤ / ٥٧٩) كتاب : الحدود ، باب : رجم ماعز بن مالك ، حديث (٤٤٢٨) ، والنسائي في الكبرى (٤ / ٢٧٧) كتاب : الرجم ، باب : ذكر استقصاء الغمام على المعترف عنده بالزنا ، حديث (٧١٦٥) ، وابن الجارود رقم (٨١٤) ، وابن حبان (١٥١٣ ـ موارد) ، والدار قطني (٣ / ١٩٦ ـ ١٩٧) كتاب الحدود ، والديات ، حديث (٣٣٩) ، والبيهقي (٨ / ٢٢٧) كتاب الحدود ، باب : من قال : لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات ، وقد أخرجه ابن حبان (١٥١٤ ـ موارد) من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الزبير به ، وأخرجه النسائي في الكبرى (٤ / ٢٧٧) كتاب : الرجم ، حديث (٧١٦٦) من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير ، وصححه ابن حبان.

وقال النسائي : عبد الرحمن ليس بمشهور.

قلت : ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (٥ / ٢٩٧) ، والبخاري في تاريخه الكبير (٥ / ٣٦١) ، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا ، وذكره ابن حبان في الثقات.

(١) أخرجه مالك (٢ / ٥١٣) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث الجدة ، حديث (٤) ، وأحمد (٤ / ٢٢٥) ، وأبو داود (٣ / ٣١٦) كتاب : الفرائض ، باب : في الجدة ، حديث (٢٨٩٤) ، والترمذي (٤ / ٤٢٠) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث الجدة ، حديث (٢١٠١) ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٩) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث الجدة ، حديث (٢٧٢٤) ، وعبد الرزاق (١٩٠٨٣) ، وابن الجارود رقم (٩٥٩) ، وأبو يعلى (١ / ١١٠) رقم (١١٩ ، ١٢٠) ، وابن حبان (١٢٢٤ ـ موارد) ، والدار قطني (٤ / ٩٤) كتاب : الفرائض ، والحاكم (٤ / ٣٣٨) كتاب : الفرائض ، باب : قضاء أبي بكر في الجدة ، والبيهقي (٦ / ٢٣٤) كتاب : الفرائض ، باب : فرض الجدة والجدتين ، كلهم من طريق قبيصة بن ذؤيب به.

وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.

وصححه ابن حبان.

وفيه نظر ، فإن قبيصة بن ذؤيب لم يدرك أبا بكر.

قال العلائي في جامع التحصيل (ص ـ ٢٥٤) : قبيصة بن ذؤيب ولد عام الفتح على الأصح ،

الوجه السابع : بيانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم النسخ ، كأن يبين لنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن آية كذا نسخت كذا ، أو أن حكم كذا نسخ بكذا ... وهكذا ، ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا وصية

__________________

ـ وقيل : أول سنة من الهجرة وفي التهذيب أن روايته عن أبي بكر وعمر رضي الله عنه مرسلة.

والحديث ذكره الحافظ في التلخيص (٣ / ٨٢) وقال : وإسناده صحح لثقة رجاله ، إلا أن صورته مرسل ، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق ، ولا يمكن شهوده للقصة.

وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (٢ / ١٣٢) : وقال ابن حزم في محلاه : لا يصح لأنه منقطع ؛ لأن قبيصة لم يدرك أبا بكر ولا سمعه من المغيرة ولا محمد ، وتبعه عبد الحق وابن القطان.

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٣٣٧) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين والشاهد حديث (٣ / ١٧١٢) ، وأبو داود (٤ / ٣٢) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين والشاهد حديث (٣٦٠٨) ، والنسائي في الكبرى (٣ / ٤٩٠) كتاب : القضاء ، باب : الحكم باليمين مع الشاهد الواحد حديث (٦٠١١) ، وابن ماجه (٢ / ٧٩٣) كتاب : الأحكام ، باب : القضاء بالشاهد واليمين حديث (٢٣٧٠) ، وأحمد (١ / ٢٤٨ ، ٣١٥ ، ٣٢٣) ، والشافعي (٢ / ١٧٨) كتاب : الأقضية رقم (٦٢٧ ، ٦٢٨) ، وابن الجارود في المنتقى رقم (١٠٠٦) ، وأبو يعلى (٤ / ٣٩٠) رقم (٢٥١١) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ١٤٤) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، والبيهقي (١٠ / ١٦٧) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٣٤٠» كلهم من طريق قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى باليمين على الشاهد».

وهذا الحديث قد طعن فيه الطحاوي فقال في «شرحه» : أما حديث بن عباس فمنكر ؛ لأن قيس ابن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء فكيف يحتجون به في مثل هذا. اه.

وقد رد عليه البيهقي فقال في المعرفة (٧ / ٤٠١ ـ ٤٠٢) : ورأيت أبا جعفر الطحاوي رحمنا الله وإياه ، أنكر واحتج بأنه لا يعلم قيسا يحدث عن عمرو بن دينار بشيء ، والذي يقتضيه مذهب أهل الحفظ والفقه في قبول الأخبار ما كان قيس بن سعد ثقة ، والراوي عنه ثقة ثم يروي عن شيخ يحتمله سنه ولقيه غير معروف بالتدليس كان ذلك مقبولا وقيس بن سعد مكي وعمرو بن دينار مكي وقد روى قيس عمن هو أكبر سنا وأقدم موتا من عمرو : عطاء بن أبي رباح ومجاهد بن جبر ، وروى عن عمرو من كان في قرن قيس وأقدم لقيا منه : أيوب ابن أبي تميمة السختياني فإنه رأى أنس ابن مالك وروى عن سعيد بن حبير ، ثم روى عن عمرو بن دينار فمن أين إنكار رواية قيس عن عمرو غير أنه روى عنه ما يخالف مذهب هذا الشيخ ولم يمكنه أن يطعن فيه بوجه آخر فزعم أنه منكر.

وقد روى جرير بن حازم وهو من الثقات عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن سعيد بن حبير عن ابن عباس أن رجلا وقصته ناقته وهو محرم فذكر الحديث ، فقد علمنا قيسا روى عن عمرو بن دينار غير حديث اليمين مع الشاهد فلا يضرنا جهل غيرنا. ثم تابع قيس بن سعد على روايته هذه عن عمر ومحمد بن مسلم الطائفي ا. ه قلت : والمتابعة التي أشار إليها البيهقي.

أخرجها أبو داود (٤ / ٣٢) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء باليمين والشاهد حديث (٣٦٠٩) والبيهقي (١٠ / ١٦٨) كتاب : الشهادات ، باب : القضاء باليمين مع الشاهد ، وفي المعرفة (٧ / ٤٠٢).

وفي الباب عن أبي هريرة ، وزيد بن ثابت ، وجابر ، وسعد بن عبادة.

لوارث» (١) يبين أن آية الوصية للوالدين والأقربين منسوخ حكمها وإن بقيت تلاوتها.

الوجه الثامن : دفعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض إشكالات وردت على القرآن : كدفعه ما استشكل به نصارى نجران على أخوة مريم لهارون ، يعنون أخا موسى ـ عليه‌السلام ـ مع أن بينها ـ عليها‌السلام ـ وبينه كذا وكذا ، فقد دفع ذلك ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن ليس المقصود في الآية (يا أُخْتَ هارُونَ) [مريم : ٢٨] هارون النبي ، بل هو آخر في عهدها سمي باسمه (٢).

الوجه التاسع : بيان التأكيد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنه يؤكد الحكم الذي جاء به القرآن ويقويه ، وذلك كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (٣) فإنه يوافق قوله سبحانه : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩].

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣ / ٢٩٠) كتاب : الوصايا ، باب : الوصية للوارث ، حديث (٢٨٧٠) ، والترمذى (٤ / ٤٣٣) كتاب : الوصايا ، باب : ولا وصية لوارث ، حديث (٢١٢٠) ، وابن ماجه (٢ / ٩٠٥) كتاب : الوصايا ، باب : لا وصية لوارث ، حديث (٢٧١٣) ، وأحمد (٥ / ٢٦٧) ، والطيالسي (٢ / ١١٧ ـ منحة) رقم (٢٤٠٧) ، وسعيد بن منصور (٤٢٧) ، والدولابي في الكني (١ / ٦٤) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (١ / ٢٢٧) ، والبيهقي (٦ / ٢٦٤) كتاب : الوصايا ، باب : نسخ الوصية للوالدين ، كلهم من طريق إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : «إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث».

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وأخرجه ابن الجارود في المنتقى رقم (٩٤٩) من طريق الوليد بن مسلم قال : ثنا ابن جابر ، ثنا سليم بن عامر ، سمعت أبا أمامة ، فذكر الحديث.

وفي الباب عن جماعة من الصحابة وهم عمرو بن خارجة ، وأنس بن مالك ، وابن عباس ، وجابر ، وعلي ، وعبد الله بن عمرو ، ومعقل بن يسار ، وزيد بن أرقم ، والبراء ، ومجاهد مرسلا

(٢) أخرجه مسلم (٩ / ٢١٣٥) وأحمد (٤ / ٢٥٢) والترمذي (٣١٥٥) وابن حبان (٦٢٥٠) والطبراني في الكبير (٢٠ / ٩٨٦) والبيهقي في الدلائل (٥ / ٣٩٢) وابن جرير (٨ / ٣٣٦) (٢٣٦٩١) ، (٢٣٦٩٢) وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن المغيرة بن شعبة كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٦) ولفظه :

قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرءون : يا أخت هارون ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألته عن ذلك فقال : إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم.

(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٧٢ ـ ٧٣) ، والدارمي (٢ / ٢٤٦) كتاب : البيوع ، باب : في الربا الذي كان في الجاهلية ، وأبو يعلى (٣ / ١٣٩) رقم (١٥٧٠) ، والدار قطني (٣ / ٢٦) كتاب : البيوع رقم (٩٢ ، ٩٣) والبيهقي (٦ / ١٠٠) كتاب : الغصب ، باب : من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بني عليه جدارا ، كلهم من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي حرة الرقاشي عن عمه به.

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ / ٢٦٨) وقال : رواه أحمد ، وأبو حرة الرقاشي وثقه أبو داود ـ

والغرض من هذا البيان التأكيدي هو ترسيخ مفهوم النص القرآني وحكمه في قلب السامع.

ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما ، واللفظ للبخاري عن عائشة قالت : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧] قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (١).

__________________

ـ وضعفه ابن معين ، وفيه علي بن زيد ، وفيه كلام. أ. ه.

لكن للحديث شواهد كثيرة يرتقى بها الحديث إلى الصحة منها : عن أبي حميد الساعدي ؛ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه».

أخرجه أحمد (٥ / ٤٢٥) ، والبزار (٢ / ١٣٤ ـ كشف) رقم ١٣٧٣٠) ، وابن حبان (١١٦٦ ـ موارد) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ٢٤١) وفي مشكل الآثار (٤ / ٤١ ـ ٤٢) ، والبيهقي (٦ / ١٠٠) كتاب : الغصب ، باب : من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا ، كلهم من طريق سليمان بن بلال عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن سعد عن أبي حميد الساعدي به.

قال البزار : لا نعلمه عن أبي حميد إلا من هذا الطريق ، وإسناده حسن ، وقد روى من وجوه عن غيره من الصحابة.

وصححه ابن حبان.

وقال الهيثمي في المجمع (٤ / ١٧٤) : رواه أحمد والبزار ، ورجال الجميع رجال الصحيح.

ومنها : عن عمرو بن يثربي قال : شهدت خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ب «منى» فكان فيما خطب به أنه قال : «ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه ...».

أخرجه أحمد (٣ / ٤٢٢ ، ٥ / ١١٣) ، والدار قطني (٣ / ٢٥ ـ ٢٦) كتاب : البيوع رقم (٨٩) ، والطحاوى في شرح معانى الآثار (٤ / ٢٤١) وفى مشكل الآثار (٤ / ٤٢) ، والبيهقي (٦ / ٩٧) من طريق عمارة بن حارثة عن عمرو بن يثربى به.

وقال الهيثمي في المجمع (٤ / ١٧٤) : رواه أحمد وابنه من زياداته أيضا ، والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات ا. ه.

ومنها أيضا : عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس في حجة الوداع ، فذكر الحديث وفيه : «لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفس».

أخرجه الدار قطني (٣ / ٢٥) كتاب : البيوع ، رقم (٨٧) ، والبيهقي (٦ / ٩٧) كتاب : الغصب ، باب : لا يملك أحد بالجناية شيئا ، من طريق ثور بن يزيد الأيلي عن عكرمة عن ابن عباس به.

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٧٢) كتاب التفسير (٤٥٤٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٥٣) كتاب العلم باب النهي عن اتباع متشابه القرآن (١ / ٢٦٦٥) ، والطيالسي (١٤٣٢) و (١٤٣٣) ، وأحمد (٦ / ١٢٤ و ١٣٢ و ٢٥٦) ، وأبو داود (٢ / ٦٠٩) كتاب السنة باب شرح السنة (٤٥٩٨) ، والترمذي (٥ / ٩٩) كتاب التفسير باب (ومن سورة آل عمران) (٢٩٩٤) ، وابن حبان (٧٣) ، والطبراني في الأوسط (٦٣٠٠) ، ـ

الوجه العاشر : ويعتبر من أروع الوجوه وأعظمها ، وهو تطبيق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن ، تطبيقا عمليّا في حياته ، مما يعد تفسيرا عمليّا وتطبيقيّا جليّا غاية الجلاء ، مما جعل حاجة الصحابة إلى التفسير القولي غير كبيرة ، فقد عايشوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاني القرآن ، وتسابقوا إلى الاقتداء به في العمل بآياته المنزلة.

روي عن السيدة عائشة أنها قالت حين سئلت عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان خلقه القرآن» (١).

ولست أبغي من وراء عرض كيفية بيان السنة للقرآن وتفسيره والأوجه المعتبرة في ذلك إلا تقرير الدور العظيم الذي اضطلع به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير القرآن الكريم في تلك المرحلة المتقدمة مرحلة نزول هذا الكتاب الكريم ، مما يعد أساسا من الأسس التي بنى عليها المفسرون فيما بعد عصر النبوة تفسيراتهم للقرآن والتي أسهمت بشكل كبير في استواء التفسير ـ بوصفه علما ـ على سوقه.

القضية الثانية : هل فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن كله؟ وما المقدار الذي بينه عليه الصلاة والسلام من القرآن لأصحابه؟

وهذه القضية خلافية بين العلماء عرضها الدكتور الذهبي في كتابه «التفسير والمفسرون» ، وذكر أن هناك فريقين يتنازعان القضية :

الفريق الأول : ذهب إلى القول بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين لأصحابه كل معاني القرآن ، كما بين لهم ألفاظه ، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية (٢).

__________________

ـ والبيهقي في الدلائل (٦ / ٥٤٥) ، والطحاوي في شرح المشكل (٢٥١٧) و (٢٥١٨) من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة.

وله طريق آخر عنها أخرجه أحمد (٦ / ٤٨) ، والترمذي (٢٩٩٣) وابن ماجه (١ / ٧٥) في المقدمة باب اجتناب البدع (٤٧) ، والطحاوي في شرح المشكل (٢٥١٥) و (٢٥١٦) وابن حبان (٧٦) والطبراني في الأوسط (٣٣٦٨) و (٤٩٥٢) من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة ليس فيه القاسم.

(١) أخرجه مسلم (١ / ٥١٢ ـ ٥١٤) كتاب صلاة المسافرين باب جامع صلاة الليل (١٣٩ / ٧٤٦) ، وأحمد (٦ / ٩١ و ١٦٣) ، والبيهقي (٢ / ٤٩٩) من طريق سعد بن هشام بن عامر عن عائشة ، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (٣٠٨).

(٢) المتفحص لأقوال الشيخ ابن تيمية يجده يقول بخلاف ذلك ، وهناك قرينتان تؤكدان ذلك :

القرينة الأولى : تصريحه أن أحسن طرق التفسير وأصحها أن يطلب أول ما يطلب من القرآن ذاته ، وأنه حين يعيينا ذلك ننتقل إلى السنة ، فإذا كان البيان النبوي شاملا لجميع القرآن فكيف يصرح الإمام ابن تيمية بأن القرآن يفسر بعضه بعضا أيضا ، وأنه إن لم نجد في القرآن ما يفسره يتم الانتقال إلى السنة. ـ

الفريق الثاني : ذهب إلى القول بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل ، وعلى رأس هؤلاء السيوطي (١).

ثم شرع الدكتور الذهبي في عرض أدلة كل فريق :

فأدلة الفريق الأول من الكتاب والسنة والمعقول :

فمن الكتاب : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ٤٤].

والبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن ، كما يتناول بيان ألفاظه ، وقد بيّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألفاظه كلها ، فلا بد أن يكون بيّن كل معانيه ـ أيضا ـ وإلا كان مقصرا في البيان الذي كلف به من الله.

ومن السنة ما روي عن أبي عبد الرحمن السلمي (٢) أنه قال : «حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن .. كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا» (٣).

فهذا الأثر يدل على أن الصحابة تعلموا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاني القرآن كلها ، كما تعلموا ألفاظه.

ومن المعقول قالوا : إن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في علم من العلوم كالطب أو الحساب ولا يستشرحوه ، فكيف بكتاب الله الذي فيه عصمتهم ، وبه نجاتهم وسعادتهم

__________________

ـ والقرينة الثانية : أن الشيخ ابن تيمية بعد أن صرح بما صرح به من تفسير القرآن بالقرآن ، فإن لم يوجد فتفسيره بالسنة ، قال : «وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال ، ... ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ، ولا سيما علماؤهم ، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهديين»

ومن هنا ، فشيخ الإسلام ابن تيمية برىء مما نسب إليه ، وما كان له أن يقول بهذا ، وهو الخبير بالدروب والعليم ببواطن الأمور.

(ينظر : د. إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : دراسات في مناهج المفسرين (ص ٢١٧) وما بعدها).

(١) ينظر : د. محمد حسين الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥١).

(٢) انظر : تهذيب الكمال (٢ / ٦٧٤) ، وتهذيب التهذيب (٥ / ١٨٣) (٣١٧) ، وتقريب التهذيب (١ / ٤٠٨) (٢٥٠) خلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٤٨) والكاشف (٢ / ٧٩) ، تاريخ البخاري الكبير (٥ / ٧٢).

(٣) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (١ / ٦٠) (٨٢).

في الدنيا والآخرة؟

ومما يدل على هذا الدليل العقلي ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «من آخر ما نزل آية الربا ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض قبل أن يفسرها» (١).

وهذا يدل بالفحوى على أنه كان يفسر لهم كل ما نزل ، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة موته بعد نزولها ، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه (٢).

وأما أدلة الفريق الثاني : فقد استدلوا ـ أيضا ـ من السنة والمعقول :

فمن السنة : ما أخرجه البزار عن عائشة قالت : «ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيات بعدد ، علمه إياهن جبريل» (٣).

ومن المعقول قالوا : إن بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل معاني القرآن متعذر ، ولا يمكن ذلك إلا في آي قلائل ، والعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل ، ولم يأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتنصيص على المراد في جميع آياته ؛ لأجل أن يتفكر عباده في كتابه.

وقالوا ـ أيضا ـ : لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن ، لما كان لتخصيصه ابن عباس بالدعاء له بقوله : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (٤) فائدة ؛ لأنه يلزم من بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه كل معاني القرآن ، استواؤهم في معرفة تأويله ، فكيف يخصص ابن عباس بهذا الدعاء؟ (٥).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٥٩٧) ، وابن ماجه (٣ / ٥٩٦) كتاب التجارات باب التغليظ في الربا (٢٢٧٦) ، وقال البوصيري في الزوائد (٢ / ١٩٨) : هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات.

(٢) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥١ ، ٥٢).

(٣) أخرجه البزار (٢١٨٥ ـ كشف الأستار).

(٤) أخرجه البخاري (١ / ٢٩٤) كتاب الوضوء : باب وضع الماء عند الخلاء حديث (١٤٣) ، ومسلم (٤ / ١٩٢٧) كتاب فضائل الصحابة : باب فضائل عبد الله بن عباس حديث (١٣٨ / ٢٤٧٧) ، وأحمد (١ / ٣٢٧) ، والنسائي في الكبرى (٥ / ٥١ ـ ٥٢) كتاب المناقب : باب عبد الله بن العباس حديث (٨١٧٧).

وأخرجه البخاري (١ / ٢٠٤) كتاب العلم : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الله علمه الكتاب» حديث (٧٥) ، و (٧ / ١٢٦) كتاب فضائل الصحابة : باب ذكر بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حديث (٣٧٥٦) ، و (١٣ / ٢٥٩) كتاب الاعتصام حديث (٧٢٧٠) والترمذي (٥ / ٦٨٠) كتاب المناقب : باب مناقب عبد الله بن عباس حديث (٣٨٢٤) والنسائي في الكبرى (٥ / ٥٢) كتاب المناقب حديث (٨١٧٩) وابن ماجه (١ / ٥٨) المقدمة : باب فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث (١٦٦) وأحمد (١ / ٢١٤ ، ٣٥٩).

(٥) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥٢ ، ٥٣).

ومن خلال عرض رأي الفريقين يتضح الآتي :

أولا : مغالاة الفريقين فيما ذهبا إليه ، وأن المقبول هو أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام بدور عظيم في تفسير كتاب الله ، لكنه لم يفسره كله بطبيعة الحال ؛ إذ لو قلنا بتفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن كله لما كان هناك داع لدعوة القرآن إلى تدبر آيات الله فيه (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] ، ولما كان للتحذير الشديد والوعيد القاصم للذين لا يتدبرونه في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٣ ، ٢٤] من قيمة.

ثم إنه إذا كان الأمر كذلك فلا قيمة للتفسيرات التي وضعها العلماء من لدن الصحابة وحتى يوم الناس هذا ، وهي تفسيرات فيها من الجديد المعجب ما لا يمكن إنكاره ، أو الزعم بأنه غير صحيح.

هذا بالإضافة إلى أننا لو قلنا بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر القرآن لفظه ومعناه لكذبناه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما قال عن القرآن من أنه : «لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد» (١) ، ولكان اختلاف الصحابة حول القرآن بعد رسول الله اجتراء منهم على الله وحيفا عن هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحاشا أن يفعل الصحابة ذلك أو يقع منهم.

كما أننا لو قلنا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر من معاني القرآن إلا القليل ، لهضمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقه في شخصه ودعوته ورسالته ؛ إذ إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصول الدين وأحكامه وشرائعه وأركانه المبثوثة في القرآن الكريم بصورة إجمالية أو كلية ، ففصل المجمل ، وأبان عن جزئيات الكلي ، فعرف الناس دينهم : أصوله وأركانه وشرائعه وجزئياته ، فلو قلنا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر إلا القليل ، فمن الذي بين لنا الدين «الإسلام» الذي جاء به القرآن؟!

كذلك لو قلنا بهذا لكذبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله

__________________

(١) هو طرف من حديث طويل. أخرجه أحمد (١ / ٩١) والترمذي (٥ / ٢٩ ـ ٣٠) كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل القرآن (٢٩٠٦) والبزار في البحر الزخار (٨٣٤) و (٨٣٥) و (٨٣٦) وأبو يعلى (٣٦٧) ومحمد بن نصر في قيام الليل (ص ١٢٣) من طريق حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث عن علي بن أبي طالب ... فذكره مطولا قال الترمذي :

هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول وفي حديث الحارث مقال.

معه» (١) ، ولأنكرنا سنته التي جاءت ـ كما سبق بيانه ـ لتبين مبهم القرآن ، وتفصل مجمله ، وتقيد مطلقه ، وتخصص عامه ، وتؤكد ما جاء فيه.

يتبين لنا أن التوسط والاعتدال بين المذهبين هو الخليق بالقبول ، ولذلك أقول : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه ، تشهد بذلك كتب الصحاح المليئة بتفسيرات الرسول لكثير من الآيات ببيان معانيها وأحكامها ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الوقت نفسه ـ لم يبين كل معاني القرآن ؛ لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧].

وبدهي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم ، ولم يفسر لهم ما تتبادر الأفهام إلى معرفته ، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وحقيقة الروح ، وإنما فسر لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض المغيبات التي أخفاها الله عنهم ، وأطلعه عليها وأمره ببيانها لهم ، وفسر لهم ـ أيضا ـ كثيرا مما يندرج تحت التفسير الذي تعرفه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم (٢).

ثانيا : أدلة الفريقين محجوجة ومفندة :

فأدلة الفريق الأول محجوجة بما يأتي :

استدلالهم بالآية (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) مردود عليه من وجهين :

الأول : أن القول بعموم الآية الشامل لجميع ألفاظ القرآن ومعانيه ليس صحيحا ؛ لقرينتين تفيدان التخصيص :

الأولى : قرينة مقالية تتمثل في قوله عزّ شأنه : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦١٠) كتاب السنة : باب في لزوم السنة حديث (٤٦٠٤) وأحمد (٤ / ١٣١) وابن عبد البر في (التمهيد) (١ / ١٥٠) من طريق عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه».

(٢) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥٥ ، ٥٦).

الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) [النحل : ٦٤].

فالآية صريحة في أن بيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكتاب مقصور على الذي اختلفوا فيه دون ما لم يختلفوا فيه.

والقرينة الثانية : قرينة حالية تتمثل في واقع القرآن الكريم وأمر من نزل بلسانهم العربي المبين ، فإن واقع أمر القرآن وأمر من أنزل بلسانهم أن فيه كثيرا من البينات ، بل قل بدهية البيان نفسها بالنسبة لكل ذي حظ من معرفة هذا اللسان فضلا عن أهله الخلص ، فلا يسيغ لذي منطق مع هذا أن يقوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أمثال هذه الجليات (١).

الوجه الثاني : أننا إذا سلمنا ببقاء ما في القرآن الكريم على العموم الصالح ؛ لأن يندرج تحته جميع اللفظ والمعنى ، فإننا لا بد أن ننظر إلى سياق القول الكريم الذي نزل فيه وحديثه عنه ، وذلك أن قوله سبحانه وتعالى : (نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) صلة ل (ما) ، فيفيد قطعا أن حديث هذا العموم هو عن المنزل فحسب ، لا عما لم ينزل أيضا.

وأقول : عرفنا أن جميع الألفاظ منزل ، وأن بعض المعاني منزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعضها غير منزل بطبيعة الحال ؛ لأن (ما) لا تدل على العموم هنا.

وأما استدلالهم بما روي عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها ، فهو استدلال لا ينتج المدعى ؛ لأن غاية ما يفيده ، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه ، وهو أعم من أن يفهموه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو من غيره من إخوانهم ، أو من تلقاء أنفسهم حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والاجتهاد (٢).

وأما استدلالهم بأن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه فمردود بأن العادة إنما جرت باستشراح ـ أي : طلب شرح ـ ما يشكل فهمه فحسب ، فأما الواضح الذي لا يشكل فهمه ولا يشتبه أمره ، فإن طلب شرح مثله ضرب من العبث واستنفاد الوقت والجهد في غير طائل ، وهذا ما لا يمكن أن يفعله صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

أما الأثر الوارد فلا يدل أيضا لأن وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبين لهم آية الربا لا تدل على

__________________

(١) ينظر : د. إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : دراسات في مناهج التفسير ـ الجزء الأول (ص ٢٢٣ ، ٢٢٤).

(٢) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥٣).

(٣) ينظر : د. إبراهيم عبد الرحمن محمد : دراسات في مناهج التفسير ـ الجزء الأول (ص ٢٢٥).

أنه كان يبين لهم كل معاني القرآن ، فلعل هذه الآية كانت مما أشكل على الصحابة ، فكان لا بد من الرجوع فيها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شأن غيرها من مشكلات القرآن (١).

وأما أدلة الفريق الثاني :

فاستدلالهم بحديث عائشة استدلال باطل ؛ لأن الحديث منكر غريب ؛ لأنه من رواية محمد بن جعفر الزبيري (٢) ، وهو مطعون فيه ، قال البخاري : لا يتابع في حديثه ، وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي (٣) : «منكر الحديث» ، وقال فيه ابن جرير الطبري : «إنه ممن لا يعرف من أهل الآثار».

وعلى فرض صحة الحديث ، فهو محمول ـ كما قال أبو حيان ـ على مغيبات القرآن وتفسيره لمجمله ، ونحو ذلك مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله (٤).

وأما استدلالهم بأن بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل معاني القرآن متعذر ، فإنه لا يدل على ندرة ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى التفسير ؛ إذ إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالبيان ، وقد يشكل الكثير على أصحابه فيلزمه البيان ، بمقتضى أمر الله له (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).

وأما استدلالهم بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس فمردود بأنه لو سلمنا أنه يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر كل معاني القرآن ، فلا نسلم أنه يدل على أنه فسر النادر منه كما هو المدعى.

وإذا علمنا ضعف استدلالات الفريقين ، فإنه من الأحرى الرجوع إلى الصواب الذي استراحت إليه النفس من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر كل القرآن ولكنه في الوقت نفسه ضرب بنصيب وافر فيه مما لا تستغني عنه الأمة في فهم دينها ، فقد أجاب على تساؤلات الصحابة فيما أشكل عليهم فهمه من آيات الكتاب الكريم.

وخلاصة القول أن المرحلة النبوية كان لها أثرها البارز في نشأة علم التفسير ـ بالرغم من أنها مرحلة النشأة ـ وذلك لأن كلا هذين القسمين ـ تفسير القرآن بالقرآن ، وتفسير القرآن بالسنة ـ لا شك في أنهما أعلى أنواع التفسير ، ولا شك في قبولهما ، أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره ، وكتاب الله تعالى أصدق الحديث ؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

__________________

(١) ينظر : د. الذهبي التفسير والمفسرون (١ / ٥٤).

(٢) ينظر : الثقات لابن حبان (٧ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦).

(٣) ينظر : سير أعلام النبلاء (١٦ / ٣٤٧) ، وتاريخ بغداد (٢ / ٢٤٣) ، والمنتظم (٧ / ١٢٥) ، وميزان الاعتدال (٣ / ٥٢٣).

(٤) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٥٤).

وأما الثاني فلأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت مهمته التوضيح والبيان (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ...) [النحل : ٤٤] الآية ، فما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرح أو بيان بسند صحيح ثابت فإنه مما لا شك فيه أنه حق يجب اعتماده» (١).

المرحلة الثانية : التفسير في عهد الصحابة رضوان الله عليهم :

جاء عهد الصحابة ، وما من شك في أنهم كانوا يفهمون القرآن جملة ، أي : بالنسبة لظاهره وأحكامه ، أما فهمه تفصيلا ، ومعرفة دقائق باطنه ، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة ، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن ، بل لا بد لهم من البحث والنظر ؛ وذلك لأن القرآن ـ كما سبقت الإشارة ـ فيه المجمل ، والمشكل ، والمتشابه ، وغير ذلك مما لا بد في معرفته من أمور أخرى يرجع إليها (٢).

ولذلك فإن قليلا من الصحابة من استشرف لمعرفة تفصيلات القرآن ودقائقه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقل منهم من رزق الفهم الصحيح بعد البحث والنظر ، وليس هذا التفاوت بقادح في أذهان الصحابة وصحة فهمهم للقرآن الكريم عامة ؛ إذ إنه راجع إلى اللغة نفسها ، وهي من أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ، ولا يحيط بها غير النبي المعصوم ، ولا بأس بغروب ألفاظها على بعض الصحابة ما دام ذلك لا يغرب على عامتهم (٣).

وبطبيعة الحال لم يكن الصحابة في درجة واحدة في فهم اللغة وإدراك أسرارها ، وليس بمقدور قوم أن يفهموا كل ما يكتب بلغتهم من العلوم على حد سواء ، ومن هنا لم يكن الصحابة في درجة واحدة لفهم معاني القرآن ، بل تفاوتت مراتبهم ، تبعا لتفاوتهم في فهم اللغة وإدراك أسرارها ، وهذا يرجع إلى تفاوتهم في القوة العقلية ، وما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات ، وأكثر من هذا أنهم كانوا لا يتساوون في معرفة المعاني التي وضعت لها المفردات ، فمن مفردات القرآن ما خفي معناه على بعض الصحابة ، ولا ضير في هذا ، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم ، ولم يدع أحد أن كل فرد من أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها (٤).

__________________

(١) محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن (الطبعة الثانية ١٤٠٠ ه‍ ـ ١٩٨٠ م) (ص ٦٥).

(٢) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٣٦).

(٣) ينظر : الإمام الشافعي : الرسالة ، تحقيق أحمد شاكر (دار التراث ١٩٧٩ م) (١ / ٤٢) ، والزركشي : البرهان في علوم القرآن ، تحقيق : أبي الفضل إبراهيم (طبعة مكتبة الحلبي ١٩٥٧ م) (١ / ٢٨٤).

(٤) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٣٦ ، ٣٧) ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم (الطبعة الثانية ١٤١٠ ه‍ ـ ١٩٨٩ م) (ص ٤٨).

والمواقف الدالة على ذلك كثيرة ، منها ما أخرج أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : «كنت لا أدري ما فاطر السموات؟ حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يقول : أنا ابتدأتها» (١).

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : «ما كنت أدري ما قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩] حتى سمعت ابنة ذي يزن الحميري وهي تقول : أفاتحك ، تعني أقاضيك» (٢).

وأظهر ما يدل على تفاوت فهم الصحابة للنصوص ما روي أن الصحابة فرحوا عند نزول قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] ؛ حيث ظنوا أنها إخبار وبشرى بكمال الدين ، ولكن عمر بكى وقال : ما بعد الكمال إلا النقص ؛ مستشعرا نعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وروى البخاري عن ابن عباس قال : «كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه من أعلمكم ، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم ، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١]؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم ولم يقل شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : وما تقول؟ قلت : هو أجل رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه الله له ، قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] فذلك علامة أجلك ، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ٣] ، فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول» (٤).

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس كما في الدر المنثور للسيوطي (٥ / ٤٥٨).

(٢) أخرجه الطبري في تفسيره (٦ / ٤) (١٤٨٦٧) و (١٤٨٦٩) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن الأنباري في الوقف والابتداء والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور (٣ / ١٩١).

(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (٤ / ٤١٩) (١١٠٨٧) ، وابن أبي شيبة عن عمر بنحوه كما في الدر المنثور (٢ / ٤٥٦).

وذكر له طريقا آخر عنه أخرجه إسحاق بن راهويه.

(٤) أخرجه البخاري (٩ / ٧٦٠) كتاب التفسير باب قوله (فسبح بحمد ربك واستغفره) (٤٩٧٠) والطبري (١٢ / ٧٣٠) (٣٨٢٣٧) و (٣٨٢٣٨) و (٣٨٢٣٩) ، وسعيد بن منصور وابن سعد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم معا في الدلائل كما في الدر المنثور (٦ / ٦٩٨).

كل هذه المواقف وغيرها تدل على تفاوت الصحابة في فهم معاني القرآن الكريم ؛ ولذلك قال ابن قتيبة : «إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه ، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض» (١).

هذا ، وقد بدأ الصحابة شارعين في تفسير القرآن الكريم ـ على تخوف وتحرج ـ بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمدين في تفسيرهم على القرآن الكريم نفسه ، أو على تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض الآيات وتشريعاته الأخرى (٢) ، أو الاجتهاد والاستنباط ، أو أهل الكتاب من اليهود والنصارى أحيانا ، فالصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ مقتدين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتمدوا القرآن في تفسير القرآن الكريم حتى قال الدكتور الذهبي : «هذا هو تفسير القرآن بالقرآن ، وهو ما كان يرجع إليه الصحابة في تعرف بعض معاني القرآن ، وليس هذا عملا آليّا لا يقوم على شيء من النظر ، وإنما هو عمل يقوم على كثير من التدبر والتعقل ؛ إذ ليس حمل المجمل على المبين ، أو المطلق على المقيد ، أو العام على الخاص ، أو إحدى القراءتين على الأخرى بالأمر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان ، وإنما يعرفه أهل العلم والنظر خاصة» (٣).

ثم إنهم لجئوا لتفسير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض آيات القرآن ، فقد «تناقلوا فيما بينهم ، تفسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فهموه من القرآن وأقرهم عليه ، كما هو الشأن في تناقلهم للأحاديث والآثار التي رووها عنه ، على ما وردت به وصايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٤).

غير أن الصحابة لم يتوقف جهدهم التفسيري عند حد النقل والرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل لجئوا مع ذلك إلى طريقين جديدين :

الأول : الاجتهاد والاستنباط :

كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إذا لم يجدوا التفسير في كتاب الله تعالى ، ولم يتيسر لهم أخذه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجعوا إلى اجتهادهم ، فأعملوا رأيهم ، وكانت أدواتهم في الاجتهاد هي : معرفة أوضاع اللغة وأسرارها ، ومعرفة عادات العرب ، ومعرفة أحوال اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول القرآن وقوة الفهم ، وسعة الإدراك ، ومن ثم

__________________

(١) المسائل والأجوبة (ص ٨) ، وينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٣٩).

(٢) تم التعرض لهذين المصدرين : القرآن والسنة بوصفهما مفسرين للقرآن الكريم ، وأنهما كانا المصدرين الوحيدين للتفسير في العهد النبوي ، وقد اعتمدهما الصحابة أيضا.

(٣) د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٤٣ ، ٤٤).

(٤) د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص (٥١ ، ٥٢).

يقول أحد الباحثين : «ولقد أعان بعض الصحابة على فهم القرآن عدة عوامل منها : معرفتهم بعادات العرب وتقاليدهم ، ومعرفة طرائق اللغة العربية وأسرارها في التعبير ، ثم معرفة أسباب النزول ، وما أحاط بالآيات من ظروف وملابسات تعين على فهمها ؛ ولهذا قالوا : معرفة سبب نزول الآية يعين على فهمها ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ، ثم ما يعطاه أحدهم من فهم وسعة إدراك يمكنه من الوصول إلى مراد الآيات» (١).

وقد روى البخاري ما يؤكد ذلك عن أبي جحيفة (٢) قال : قلت لعلي ـ رضي الله عنه ـ : «هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة.

قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر» (٣).

وفي هذا الأثر دليل على إعمال الصحابة رأيهم ، واجتهادهم في تفسير القرآن الكريم ، والكشف عن غوامضه ، لكن ينبغي التأكيد على أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا متفاوتين في معرفتهم بالأدوات المشار إليها ، وقد ترتب عليه تفاوتهم في فهم معاني القرآن.

الثاني : أهل الكتاب من اليهود والنصارى (٤).

بدأ الأخذ عن أهل الكتاب منذ عهد الصحابة مع شيء من التقييد والتحديد ، ولعل

__________________

(١) السابق ص (٥٠) ، وينظر : السيوطي : الإتقان (طبعة الحلبي ، القاهرة ١٩٧٨ م) (١ / ٣٨) ، وابن تيمية : مقدمة في أصول التفسير ، تحقيق : عدنان زرزور (طبعة الكويت ١٩٧١ م) ص (٤٧).

(٢) انظر : تهذيب الكمال (٣ / ١٤٧٨) ، وتهذيب التهذيب (١١ / ١٦٤) (٢٨١) وتقريب التهذيب (٢ / ٣٣٨) ، والكاشف (٣ / ٣٤٤) ، والتاريخ الكبير للبخاري (٨ / ١٦٣).

(٣) أخرجه البخاري (١ / ٢٧٥) كتاب العلم باب كتابة العلم (١١١) وأطرافه في (١٨٧٠ ، ٣٠٤٧ ، ٣١٧٢ ...) ، والحميدي (٤٠) ، وأحمد (١ / ٧٩) ، والترمذي (٣ / ٨٠) كتاب الديات باب ما جاء لا يقتل مسلم بكافر (٢٦٥٨) ، والنسائي (٨ / ٢٣) كتاب القسامة باب سقوط القود من المسلم للكافر ، والشافعي (٢ / ١٠٤) ، والطيالسي (٩١) ، وعبد الرزاق (١٨٥٠٨) ، والطحاوي في شرح المعاني (٢ / ١٩٢) ، والبزار (٤٨٦) ، والبيهقي (٨ / ٢٨).

(٤) جاء اليهود والنصارى إلى جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام بمئات السنين ، فقد انتشرت المسيحية على نطاق واسع ، وبخاصة في أطراف الجزيرة ، كما غلب اليهود على أقاليم كاملة منها ، وهذا الوجود اليهودي والنصراني في شبه الجزيرة العربية كان له بالطبع أثر ثقافي على العرب فيما قبل الإسلام ، كما كان للعرب في الجاهلية رحلاتهم شرقا وغربا ، وسجل القرآن الكريم إحداها ، وهي رحلة قريش : شتاء إلى اليمن ، وصيفا إلى الشام.

ولما جاء الإسلام كان من الطبيعي أن تكون هناك حوارات ومجادلات بين النبي ـ صلى الله عليه ـ

الذي دفع الصحابة إلى هذا الأخذ ، هو ما جاء في القرآن الكريم من قصص مبثوثة في ثناياه عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وبعض هذه القصص جاء مجملا ، فكانت «نفوس الصحابة تتوق إلى معرفة تفاصيل بعض القصص في القرآن والذي لم يسأل النبي فيه ، فكانوا لا يتحرجون في سؤال أهل الكتاب من جيرانهم فيما يتعلق بهذه التفاصيل التي لا تتعلق بحكم أو تشريع ، وإنما هي تشبع حالة الفضول الإنساني إلى المزيد من المعرفة» (١) ؛ مستندين في ذلك إلى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يقول فيه : «بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي ، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (٢)(٣).

ولقد حدد ابن كثير المراد من هذا الحديث ، فقال : «هو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا ، فليس عندنا ما يصدقها ولا يكذبها ، فيجوز روايتها للاعتبار ، فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه ؛ استغناء بما عندنا ، وما شهد له شرعنا

__________________

ـ وسلم ـ وبين أهل الكتاب بغرض دعوتهم إلى الإسلام ، ووجدت عوامل هيئات تسرب الإسرائيليات إلى تفسير القرآن الكريم ، ومن هنا وجدنا الصحابة يأخذون عن أهل الكتاب في تفسيرهم ، وتتابع الأخذ في العهود التالية ، ونشأت الدراسات الكثيرة الناقدة لما في التفاسير المعتمدة على ما عند أهل الكتاب ، ومصححة ما فيها : ينظر : د. آمال محمد عبد الرحمن ربيع الإسرائيليات في تفسير الطبري ـ دراسة في اللغة والمصادر العبرية (المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة ١٤٢٢ ه‍ ـ ٢٠٠١ م) ص ٢٦ ، ٢٧.

(١) السابق ص ٢٨.

(٢) ورد من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري وجابر.

فأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البخاري (٦ / ٥٧٢) في أحاديث الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (٣٤٦١) ، والترمذي (٥ / ٣٩) في العلم ، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل (٢٦٦٩) ، وأحمد (٢ / ١٥٩) من طريق حسان بن عطية عن أبي كبشة عن عبد الله بن عمرو رفعه «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وكذا أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ١٢٨) ، والخطيب في التاريخ (١٣ / ١٥٧) وعبد الرزاق (١٠١٥٧) والدارمي (١ / ١٣٦) ، وأبو نعيم في الحلية (٦ / ٧٨). وأما حديث أبي هريرة فأخرجه أبو داود (٢ / ٣٤٦) في العلم ، باب الحديث عن بني إسرائيل (٣٦٦٢) ، وأحمد (٢ / ٤٧٤ ، ٢٠٥) والحميدي (٢ / ٤٩١ ، ٤٩٢) برقم (١١٦٥) ، وابن أبي شيبة في الأدب (٩ / ٦٢) ، باب في الرخصة في حديث بني إسرائيل وابن حبان (١٠٩ ـ موارد) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به وكذا أخرجه الشافعي في مسنده (١ / ١٧) برقم (١٧) والخطيب في شرف أصحاب الحديث برقم (١٩). وأما حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو يعلى في مسنده (١٢٠٩) من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه مرفوعا بنحوه.

وأما حديث جابر فأخرجه ابن أبي شيبة (٩ / ٩٢).

(٣) البداية والنهاية (دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٩٧٨) (١ / ٦ ، ٧).

بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال».

وهذا الذي قاله ابن كثير اتبعه الصحابة ، فدققوا في الأخذ عن أهل الكتاب ، وكان أخذهم في أضيق الحدود ، وما أشيع عنهم من توسعهم في الأخذ عن أهل الكتاب قد يكون مرجعه إلى أنه قد وضع عليهم الكثير ، ودس عليهم من أقوال أهل الكتاب الكثير من الروايات التي لم يعتمدوها ، فأوهم ذلك المتأخرين توسع الصحابة في الأخذ عنهم.

وتأكيدا لهذا يقول الدكتور الذهبي : «رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب ، لم يكن له من الأهمية في التفسير ما للمصادر الثلاثة السابقة (١) ، وإنما كان مصدرا ضيقا محدودا ؛ وذلك أن التوراة والإنجيل وقع فيهما كثير من التحريف والتبديل ، وكان طبيعيّا أن يحافظ الصحابة على عقيدتهم ، ويصونوا القرآن عن أن يخضع في فهم معانيه لشيء مما جاء ذكره في هذه الكتب التي لعبت فيها أيدي المحرفين ، فكانوا لا يأخذون عن أهل الكتاب إلا ما يتفق وعقيدتهم ولا يتعارض مع القرآن» (٢).

إن ورع الصحابة وصدق إيمانهم جعلهم يسلكون في الأخذ عن أهل الكتاب مسلكا آمنا ، متمثلين وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا» (٣) ، هذا فيما يتعلق بالغيبيات أو الأخبار التاريخية المفصلة في الكتب السابقة. أما فيما يتعلق بالعقيدة أو الأحكام الشرعية ، أو ما لا يكون لمعرفة تفاصيله والوقوف على حقيقته فائدة تذكر ، فقد كانوا يعدون ذلك قبيحا من قبيل تضييع الأوقات (٤).

كما كانوا يردون على أهل الكتاب مقالاتهم المخالفة للشريعة ، ونختار للاستشهاد على ذلك موقف الصحابي الجليل أبي هريرة في مراجعته ومحاورته لهذين الكتابيين ـ كعب الأحبار وعبد الله بن سلام ـ حول ساعة يوم الجمعة التي عناها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وأشار

__________________

(١) يقصد : تفسير القرآن بالقرآن ، وتفسير القرآن بالسنة ، والاجتهاد والاستنباط في التفسير.

(٢) التفسير والمفسرون (١ / ٦٣).

(٣) أخرجه البخاري (٩ / ٢٢ ـ ٢٣) كتاب التفسير باب (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) (٤٤٨٥) والنسائي في الكبرى (٦ / ٤٢٦) كتاب التفسير باب سورة العنكبوت ، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور (٥ / ٢٨٢).

(٤) ينظر : ولي الله الدهلوي : الفوز الكبير في أصول التفسير (طبع المنيرية ، مصر) ص ٣٥ ، ود.

الذهبي : الإسرائيليات في التفسير والحديث (طبع مجمع البحوث الإسلامية ، القاهرة ١٩٨٦ م) ص (٥٨).

بيده يقللها» (١) ، فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة ، وهل هي باقية أو رفعت؟ وإذا كانت باقية ، فهل هي في جمعة واحدة من السنة أو في كل جمعة منها؟

فنجد أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ يسأل كعب الأحبار عن ذلك ، فيجيبه كعب بأنها في جمعة واحدة من السنة ، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا ، ويبين له أنها في كل جمعة ، فيرجع كعب إلى التوراة فيرى الصواب مع أبي هريرة ، فيرجع إليه.

ثم يتوجه أبو هريرة إلى عبد الله بن سلام يسأله تحديد هذه الساعة ، ويقول له : أخبرني ولا تضن علي ، فيجيبه ابن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة ، فيرد عليه أبو هريرة بقوله : كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي» (٢) ، وتلك الساعة لا يصلى فيها؟

ولذا كان تعليق كعب الأحبار على مثل هذه الأسئلة والمحاورات : «ما رأيت رجلا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة» (٣).

ويدل هذا الموقف من أبي هريرة على تيقظ الصحابة لهذه الأفكار الدخيلة التي بدأت تتسرب إلى دينهم ، ومقاومتهم لها في هذا الوقت المبكر (٤).

المفسرون من الصحابة :

اشتهر عدد غير قليل من الصحابة المفسرين ، عد السيوطي ـ رحمه‌الله ـ منهم : الخلفاء الراشدين ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبا موسى الأشعري ، وعبد الله بن الزبير ، رضي الله عنهم أجمعين.

وهناك من تكلم في التفسير غير هؤلاء : كأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعائشة ، غير أن ما نقل عنهم في التفسير قليل جدّا ، فلم يكن لهم

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٤٨٦ و ٥٠٤) و (٥ / ٤٥١ و ٤٥٣) ، وأبو داود (١ / ٣٤١) كتاب الصلاة باب فضل يوم الجمعة (١٠٤٦) والترمذي (١ / ٥٠٢) كتاب الجمعة باب في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة (٤٩١) والنسائي (٣ / ١١٣) كتاب الجمعة باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء وابن خزيمة (١٧٣٨) وأبو يعلى (٥٩٢٥) والحاكم (١ / ٢٧٨) و (٢ / ٥٤٤) والبيهقي (٣ / ٢٥٠) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

وأخرجه البخاري (١٢ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦) كتاب الدعوات باب الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة (٦٤٠٠) ومسلم (٢ / ٥٨٤) كتاب الجمعة باب في الساعة التي في يوم الجمعة (١٤ / ٨٥٢) من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة. وله طرق أخرى غير ما ذكرت.

(٢) تقدم.

(٣) تنظر القصة في : ابن حجر : الإصابة في تمييز الصحابة (طبع الشرفية ١٩٠٧ م) (٤ / ٢٠٨).

(٤) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٧٣.

شهرة ما كان للعشرة المذكورين أولا ، وحتى هؤلاء العشرة تفاوتوا فيما بينهم قلة وكثرة ، فأبو بكر وعمر وعثمان لم يرد عنهم في التفسير إلا النزر اليسير ؛ نظرا لاشتغالهم بمهام الخلافة وتقدم وفاتهم(١).

وعلى هذا يمكن القول : إن أبرز مفسري الصحابة هم : علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ؛ نظرا لكثرة الرواية عنهم في التفسير كثرة غذت مدارس التفسير في الأمصار المختلفة فيما بعد على اختلافها وكثرتها.

* * *

__________________

(١) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٦٤) ، والزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (دار إحياء الكتب العلمية ، عيسى البابي الحلبي) (٢ / ١٤).

أشهر المفسرين من الصحابة ودورهم في التفسير

١ ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ :

عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبو حفص المدني ، أحد فقهاء الصحابة ، وثاني الخلفاء الراشدين ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأول من سمي أمير المؤمنين ، شهد بدرا ، والمشاهد إلا تبوك ، وولي أمر الأمة بعد أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ وفتح في أيامه عدة أمصار ، أسلم بعد أربعين رجلا ، وعن ابن عمر مرفوعا : «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» (١) ، ولما دفن قال ابن مسعود : «ذهب اليوم تسعة أعشار العلم» ، استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين ، ودفن في أول سنة أربع وعشرين ، وهو ابن ثلاث وستين ، وصلى عليه صهيب ، ودفن في الحجرة النبوية ، ومناقبه جمة.

ب ـ دوره في التفسير :

لقد تهيب عمر بن الخطاب ـ كما تهيب أبو بكر قبله ـ القول في كتاب الله ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، من ذلك ما يرويه الشعبي قال : «سئل أبو بكر عن الكلالة ، فقال : إني سأقول فيها برأي ، فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، أراه ما خلا الوالد والولد».

يقول الشعبي : «فلما استخلف عمر ، قال : إني لأستحي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر (٢) ، ثم يتردد عمر فيرجع آخر عهده عن هذا القول ، ويذهب إلى أن الكلالة من لا ولد له ، ويقول : وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي فيها من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه ، ثم يقول : ثلاث لأن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها : الكلالة ، وأبواب الربا ، والخلافة» (٣).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٥٣ و ٩٥) وفي فضائل الصحابة له (٣١٣) و (٣١٤) وابن سعد في الطبقات (٣ / ٣٣٥) وعبد الله بن أحمد في زياداته على الفضائل (٣٩٥) والترمذي (٦ / ٥٧) في كتاب المناقب باب في مناقب أبي حفص عمر بن الخطاب (٣٦٨٢) وعبد بن حميد (٧٥٨) وابن حبان (٦٨٩٥) والطبراني في الأوسط (٢٩١) و (٢٧٤٧) وأبو نعيم في أخبار أصبهان (٢ / ٣٢٧) وابن عبد البر في التمهيد (٨ / ١٠٩) وانظر صحيح الترمذي للعلامة الألباني (٢٩٠٨). وقال الترمذي حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

(٢) أخرجه الطبري (٣ / ٦٢٥ ـ ٦٢٦) (٨٧٤٧) و (٨٧٤٨) ، وسعيد بن منصور وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، والدارمي ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور للسيوطي (٢ / ٤٤٣).

(٣) أخرجه الطبري (٤ / ٣٨١) (١٠٨٨٤) و (١٠٨٨٥) ، وابن ماجه (٤ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩) كتاب الفرائض باب الكلالة (٢٧٢٧) ، والطيالسي ، وعبد الرزاق ، والعدني والساجي ، والحاكم ، والبيهقي كما في الدر المنثور (٢ / ٤٤٢).

فهذا الموقف يكشف ـ أولا ـ عن تهيب عمر بن الخطاب مقتديا بأبي بكر من القول في كتاب الله ، ويكشف ـ ثانيا ـ عن أنه برغم التهيب فإن عمر أدلى بدلوه في التفسير ، وذلك حين تكون هناك مصالح عملية وواقعية تتوقف على مدلول العبارة.

ولكي يصل إلى جواب قاطع للمسألة ، كان أحيانا يلجأ إلى طرح المسألة على الناس ، مثلما فعل في مسألة تحديد ليلة القدر ، فقد روى أبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس أن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جلس في رهط من الصحابة فذكروا ليلة القدر ، فتكلم كل بما عنده ، فقال عمر : ما لك يا ابن عباس لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة ، قال ابن عباس : فقلت : يا أمير المؤمنين إن الله وتر يحب الوتر ، فجعل الدنيا تدور على سبع ، وخلق أرزاقنا من سبع ، وخلق فوقنا وتحتنا سبعا ، فأراها في السبع الأواخر من رمضان ، فتعجب عمر ، وقال : ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه (١).

والحق أن عمر بن الخطاب في تفسيره للقرآن كان يسلك مسلكا واقعيّا عمليّا ، بمعنى أنه إذا كانت هناك مصلحة عملية تتوقف على تحديد مدلول اللفظ ، فإن التفسير في هذه الحالة يصبح بحثا ملحّا وأمرا ضروريّا ، وأما إن لم تكن هناك مصلحة عملية فلا بأس عنده ألا يدري مدلول اللفظ ؛ ولذلك نجده فيما يروى عنه حين كان يقرأ قوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٢٧ ـ ٣١] فقال : الفاكهة والقضب ، وهذه الأشياء عرفناها ، فما الأبّ؟ فوضع يده على رأسه ثم قال : «إن هذا لهو التكلف يا ابن الخطاب ، وما عليك ألا تدري ما الأبّ؟» (٢).

ومن كل ما سبق يتكشف لنا أن دور عمر بن الخطاب في التفسير كان دورا محدودا ، لكنه لبنة في تطور التفسير لا يمكن إهمالها وتركها دون الإفادة منها.

٢ ـ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ :

علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي أبو الحسن ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه على ابنته ، أمير المؤمنين ، يكنى : أبا تراب ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ، وهي أول هاشمية ولدت هاشميّا ، له خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثا ، اتفق البخاري

__________________

(١) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٦٣٥) وذكر له طرق أخرى منها طريق عاصم أخرجه محمد بن نصر ، وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقى ، وطريق عكرمة أخرجه عبد الرزاق ، وابن راهويه ، ومحمد بن نصر ، والطبراني ، والبيهقى ، وطريق سعيد بن جبير أخرجه ابن سعد ، وعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٥١) (٣٦٣٦٧) و (٣٦٣٦٨) و (٣٦٣٦٩) (٣٦٣٧٠) وسعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب والخطيب والحاكم وصححه عن أنس عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٢٢).

ومسلم على عشرين منها وانفرد البخاري بتسعة ، ومسلم بخمسة عشر ، شهد بدرا والمشاهد كلها ، روى عنه أولاده الحسن والحسين ومحمد ، وفاطمة ، وعمر ، وابن عباس ، والأحنف ، وأمم.

قال أبو جعفر : كان شديد الأدمة ربعة إلى القصر ، وهو أول من أسلم من الصبيان جمعا بين الأقوال ، قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» (١) ، وفضائله كثيرة ، استشهد ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت أو خلت من رمضان سنة أربعين ، وهو حينئذ أفضل من على وجه الأرض.

ب ـ دوره في التفسير :

الرواية عن علي بن أبي طالب كثيرة ، وذلك راجع إلى أمور ، أبرزها :

الأول : تأخرت وفاته عن الخلفاء السابقين ، فقد كانت وفاته ـ رضي الله عنه ـ عام ٤٠ من هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : وجد في زمن كثرت فيه حاجة الناس إلى التفسير ؛ وذلك لاتساع رقعة الإسلام ، ودخول الأعاجم فيه حتى كادت تذوب بهم خصائص العروبة ، ونشأ جيل من أبناء الصحابة كان في حاجة إلى علم الصحابة.

الثالث : فهم علي ـ رضي الله عنه ـ العميق للقرآن ، وخصوبة فكره ، وغزارة علمه ، فكان أهلا لأن يحمل عنه ، ويدل على هذا ما روى معمر عن وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل قال : شهدت عليّا يخطب وهو يقول : «سلوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم. وسلوني عن كتاب الله ، فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار؟ أفي سهل أم في جبل؟» (٢).

__________________

(١) أخرج مسلم (٤ / ١٨٧١) في فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي ابن أبي طالب (٣٢ / ٢٤٤) ، والترمذي (٥ / ٢١٠) في التفسير ، باب ومن سورة آل عمران (٢٩٩٩) ، وأحمد (١ / ١٨٥) ، والحاكم (٣ / ١٥٠) ، والبيهقي (٧ / ٦٣) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : لما أنزل الله هذه الآية (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) [آل عمران : ٦١] دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : «اللهم هؤلاء أهلي».

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وينظر تفسير الدر المنثور (٢ / ٦٧ ـ ٧٠).

(٢) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (٢ / ٤٦٤) ، وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور والحارث بن أبي أسامة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من طرق عن علي بن أبي طالب.

وما روي عن ابن مسعود قال : «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وإن علي بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن» (١).

والآثار الكثيرة المروية عن علي ـ رضي الله عنه ـ تدل دلالة واضحة على فضله ومنزلته في التفسير ، ومدى الدور الذي اضطلع به في هذا الشأن.

كما أنه يعتبر أول من وضع بفكره الثاقب ، ونظره الصادق في القرآن الكريم ـ اللبنة الأولى في منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم الذي ما زال ـ حتى عصرنا هذا ـ يتحسس طريقه ، ويخطو خطواته الأولى عليه ، فقد كان علي ـ رضي الله عنه ـ يجمع الآيات في الموضوع الواحد ليستخلص منها جميعا حكما صادقا يفسر فيه القرآن بعضه بعضا (٢).

يدل على هذا ما رواه ابن حزم من أن عليّا ذكر عثمان حين أراد إقامة حد الزنى على من وضعت بعد زواجها بستة أشهر بقول الله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] مع قوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] ، فرجع عثمان عن إقامة الحد عليها» (٣).

«أي أن عثمان حكم العادة الجارية من أنه لا تلد المرأة لأقل من سبعة أشهر ، فاعتبر ولادتها قبل ذلك قرينة لإقامة الحد عليها ، لكن عليّا يستدرك عليه ويتدارك الأمر ، حيث حكم القاعدة التي تدرأ الحدود بالشبهات ، وفهم من الآيتين السابقتين مجتمعتين أن مدة الحمل يمكن أن تكون ستة أشهر ، واعتبر ذلك شبهة تحول دون القطع بوقوع الزنى ، ومن ثم فلا يقع الحد» (٤).

يتبين من خلال ما سبق البصمة الواضحة للإمام علي ـ رضي الله عنه ـ في التفسير ، وإسهامه الواضح في تطوره.

__________________

(١) أخرج طرفه الأول عن ابن مسعود مرفوعا البزار وأبو يعلى والطبراني في الأوسط ورجال أحدهما ثقات كما في مجمع الزوائد (٧ / ١٥٥) ومن طريق آخر أخرجه ابن جرير في تفسيره (١ / ٣٥ ـ ٣٦) (١٠).

(٢) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٥٥.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام (طبع العاصمة بالقاهرة ، د. ت) (٢ / ١٤٦) ، وينظر : الشاطبي : الموافقات في أصول الشريعة ، تحقيق : محمد عبد الله دراز (طبع بيروت ، ١٩٧٥) (٣ / ٣٧٣).

(٤) د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٥٦.

٣ ـ عبد الله بن عباس (ترجمان القرآن)

حبر الأمة ، وفقيه العصر ، وإمام التفسير ، أبو العباس عبد الله ، ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم ، واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي المكي الأمير رضي الله عنه.

مولده بشعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين.

صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا من ثلاثين شهرا ، وحدث عنه بجملة صالحة.

وحدث عن عمر ، وعلي ، ومعاذ ، ووالده ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي سفيان صخر بن حرب ، وأبي ذر ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت وخلق.

وقرأ على أبي ، وزيد.

قرأ عليه مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطائفة.

روى عنه : ابنه علي ، وابن أخيه عبد الله بن معبد ، ومواليه : عكرمة ، ومقسم ، وكريب ، وأبو معبد ، وأنس بن مالك ، وأبو الطفيل ، وخلق كثير.

وله جماعة أولاد ، أكبرهم العباس ، وبه كان يكنى ، وعلى أبو الخلفاء ، وهو أصغرهم ، والفضل ومحمد ، وعبيد الله ، ولبابة ، وأسماء.

وكان وسيما ، جميلا ، مديد القامة ، مهيبا ، كامل العقل ، ذكي النفس ، من رجال الكمال.

وأولاده : الفضل ، ومحمد ، وعبيد الله ، ماتوا ولا عقب لهم ، ولبابة لها أولاد وعقب من زوجها علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وبنته الأخرى أسماء كانت عند ابن عمها عبد الله بن عبيد الله بن العباس ، فولدت له حسنا ، وحسينا.

انتقل ابن عباس مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح ، وقد أسلم قبل ذلك ، فإنه صح عنه أنه قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين : أنا من الولدان ، وأمي من النساء.

وعن طاوس قال : ما رأيت أورع من ابن عمر ، ولا أعلم من ابن عباس.

وقال مجاهد : ما رأيت أحدا قط مثل ابن عباس ، لقد مات يوم مات وإنه لحبر هذه الأمة.

وروى الأعمش ، عن مجاهد ، قال : كان ابن عباس يسمى البحر ؛ لكثرة علمه.

وعن مجاهد قال : ما سمعت فتيا أحسن من فتيا ابن عباس إلا أن يقول قائل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن طاوس ، قال : أدركت نحوا من خمسمائة من الصحابة ، إذا ذاكروا ابن عباس ، فخالفوه ، فلم يزل يقررهم حتى ينتهوا إلى قوله.

قال يزيد بن الأصم : خرج معاوية حاجّا معه ابن عباس ، فكان لمعاوية موكب ، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم.

الأعمش : حدثنا أبو وائل قال : خطبنا ابن عباس ، وهو أمير على الموسم ، فافتتح سورة النور ، فجعل يقرأ ويفسر ، فجعلت أقول : ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا ، لو سمعته فارس ، والروم ، والترك لأسلمت.

قال علي بن المديني : توفي ابن عباس سنة ثمان أو سبع وستين.

وقال الواقدي ، والهيثم ، وأبو نعيم : سنة ثمان ، وقيل : عاش إحدى وسبعين سنة.

ب ـ دوره في التفسير :

فاز عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١) ، فكان له القدح المعلى بين صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير القرآن ، حتى أنه يوجد له تفسير يتداوله الناس يسمى تفسير ابن عباس.

وقد كان ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أكثر جرأة في الاجتهاد ، فيروى عن ابن عمر أن رجلا أتاه يسأله عن (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠] ، فقال : اذهب إلى ابن عباس فاسأله ، ثم تعال فأخبرني ، فذهب فسأله ، فقال : «كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات» فرجع إلى ابن عمر فأخبره فقال : «قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن علمت أنه أوتي علما» (٢).

وابن عباس يقف على رأس من يرون أن كلام العرب يوضح ما غمض من ألفاظ القرآن الكريم ، وأن الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن رجعنا إلى ديوانها ، ومسائلات نافع بن الأزرق (٣) التي أربت على المائتين تدل على ذلك (٤).

ومن ثم يمكن القول ـ وللأمانة العلمية ـ : إن المنهج اللغوي في تفسير القرآن من صنع ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فهو الذي أرسى دعائمه ، معتمدا في ذلك على البذور التي بذرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفاؤه الراشدون ، وبخاصة عمر (٥).

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية كما في الدر المنثور للسيوطي (٤ / ٥٦٩).

(٣) انظر : المغني (٢ / ٦٩٢) ، وميزان الاعتدال (٧ / ٦).

(٤) ينظر : السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (١ / ١٥٧).

(٥) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٥٨ ، ٥٩.

وكان ابن عباس يبين في تفسيره الكلمات المعربة عن لغات أخرى غير العربية ، مما يؤكد رئاسته للمنهج اللغوي ، حتى قيل عنه : «إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن الكريم» (١).

وإذا كان ابن عباس قد اهتم بالتفسير اللغوي ، فإنه ـ أيضا ـ ركز على عنصر الأخبار في تفسيره ، وبخاصة الأخبار التي لم ترد في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان يرجع إلى التاريخ العام ، وأخبار الأمم ، وبخاصة أهل الكتاب ، فكان ـ رضي الله عنه ـ يرجع إليهم ويأخذ عنهم (٢) ، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في

__________________

(١) جولد تسيهر : المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن الكريم ، تعريب : علي حسن عبد القادر (طبع دار العلوم ١٩٤٤ م) ص ٦٩ ، وينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٠.

(٢) اتهم ابن عباس باعتماده كثيرا على أهل الكتاب في تفسير القرآن ، فيقول جولد تسيهر المستشرق اليهودي المجري : «وكثيرا ما نجد من مصادر العلم المفضلة لدى ابن عباس اليهوديين اللذين اعتنقا الإسلام : كعب الأحبار وعبد الله بن سلام» ويقول أيضا : «وكثيرا ما يذكر أنه فيما يتعلق بتفسير القرآن ، كان ـ أي ابن عباس ـ يرجع إلى رجل يسمى أبا الجلد غيلان بن فروة الأزدي الذي أثنى الناس عليه بأنه كان يقرأ الكتب». وتابع أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام جولد تسيهر فيما ذهب إليه من أخذ ابن عباس عن أهل الكتاب كثيرا. ولعل الذي دعاهما إلى اتهام ابن عباس هذا الاتهام إثارة الشبه من قبل جولد تسيهر حول تفسير ابن عباس ، وكثرة ما وضع على ابن عباس مما لم يفطن الأستاذ أحمد أمين إلى أنه ليس لابن عباس.

وأقول : إذا كان ابن عباس قد لجأ إلى أهل الكتاب يستمد منهم التفسير القصصي للقرآن ، فإن موقفه منهم كان موقف الناقد البصير المعتز بدينه الذي ينخل ما ينقل إليه من أقوالهم ، ثم يعتمد الصحيح منها ، وقد ترخص الصحابة في السماع منهم حيث رأوا عمر يسمع من كعب الأحبار بعد إسلامه في خلافة عمر. ثم إنهم ـ أي الصحابة ـ جمعوا بين قوله عليه الصلاة والسلام : «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» وبين قوله : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» ـ بأن الأول محمول على ما وقع فيهم من الحوادث والأخبار ؛ لما فيه من العظة والاعتبار ، بدليل قوله بعد ذلك : «فإن فيهم أعاجيب» ، وأن الثاني محمول على ما إذا كان المخبر به من قبلهم محتملا ، ولم يقم دليل على صدقه أو كذبه. ثم كيف يستبيح ابن عباس لنفسه أن يحدث عن بني إسرائيل بمثل هذا التوسع الذي يجعله مخالفا لأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقد كان ابن عباس أشد نكيرا على من يفعلون ذلك ؛ فقد كان يقول : «يا معشر المسلمين ، تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدث الأخبار بالله ، تقرءونه لم يشب ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب ، فقالوا : (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٧٩] أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا رجلا منهم قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم».

ينظر : جولد تسيهر : مذاهب التفسير الإسلامي ص ٦٥ ـ ٦٧ ، وأحمد أمين : فجر الإسلام (لجنة التأليف والترجمة والنشر ، ١٩٣٥ م) ص ٢٤٨ ، ود. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٧٢ ـ ٧٤) ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٧١ ـ ٧٣.

القرآن وفصلت فيهما (١).

إن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بما أوتي من علم بكتاب الله أسهم إسهاما كبيرا في نشأة علم التفسير وتطوره ، بل إنه ليعد من أكبر مفسري القرآن الكريم في عصور الإسلام المختلفة ، فقد كانت له مدرسة يتلقى تلاميذها التفسير عنه ، استقرت في مكة (٢) ، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة ، وما زال تفسير ابن عباس يلقى من المسلمين إعجابا وتقديرا ، إلى درجة أنه إذا صح النقل عنه لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر (٣) ، وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء في التفسير (٤).

٤ ـ عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ :

عبد الله بن مسعود بن غافل ـ بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف ـ ابن حبيب بن شمخ ـ بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم ـ ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي ، أبو عبد الرحمن الكوفي ، أحد السابقين الأولين ، شهد بدرا والمشاهد ، وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا ، اتفق البخاري ومسلم على أربعة وستين منها وانفرد البخاري بأحد وعشرين ، ومسلم بخمسة وثلاثين ، وروى عنه خلق من الصحابة ، ومن التابعين : كمسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار ، تلقن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة.

قال علقمة : كان يشبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هديه ودله وسمته (٥).

وقال أبو نعيم : مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة.

ب ـ دوره في التفسير :

كان عبد الله بن مسعود خادم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان له من هذه الصلة النبوية خير مثقف

__________________

(١) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٠.

(٢) سنفصل القول في هذه المدرسة في الفصل الثاني عند الحديث عن مدارس التفسير.

(٣) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٧١).

(٤) ينظر : السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٨٣).

(٥) أخرجه البخاري (٧ / ٤٧٣) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٧٦٢) ، وأحمد (٥ / ٣٨٩ و ٣٩٥ و ٤٠١ و ٤٠٢) ، والترمذي (٦ / ١٣٩) كتاب المناقب باب عبد الله بن مسعود (٣٨٠٧).

وابن سعد في الطبقات (٣ / ١٥٤) ، والفسوي في المعرفة (٢ / ٥٤٠ و ٥٤٣) ، وابن حبان (٧٠٦٣) من طريق عبد الرحمن بن يزيد قال : سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نأخذ عنه فقال لا أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابن أم معبد.

ومؤدب ؛ لذلك عدوه من أعلم الصحابة بكتاب الله ، ومعرفة محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه ، حتى قيل عنه : إنه في التفسير أكثر رواية من علي كرم الله وجهه.

وقد أخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال : «والله الذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته» (١).

وهذا يدل على إحاطة ابن مسعود بمعاني كتاب الله ، وأسباب نزول الآيات ، وحرصه على تعرف ما عند غيره من العلم بكتاب الله تعالى.

وقد قام تفسير ابن مسعود على الرأي والاجتهاد والاستنباط ؛ لمواءمة البيئة العراقية المتأثرة بثقافة الفرس ، فوضع بذلك الأساس لهذه الطريقة في الاستدلال والتي توارثها أهل العراق في التفسير والفقه.

ويتميز ابن مسعود عن غيره في مجال تفسير القرآن بأنه اعتمد بعض القراءات التي تختلف عن القراءات المتواترة في المصاحف العثمانية ، وقد تكون هذه القراءات من الروايات التفسيرية التي وردت على لسانه ، وظنها تلامذته من القراءات ، كما يمكن أن يقال ـ أيضا ـ : إنها بهذا الاعتبار كانت بداية لنشوء علم تفسير القرآن (٢).

٥ ـ أبي بن كعب

أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن يزيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني ، سيد القراء ، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها ، له مائة وأربعة وستون حديثا ، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة ، وروى عنه : ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير ، وكان ربعة نحيفا أبيض الرأس واللحية ، وقد أمر الله عزوجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه ـ رضي الله عنه ـ وكان ممن جمع القرآن وله مناقب جمة رحمه‌الله تعالى ، وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو ثلاث وثلاثين ، وقال بعضهم : صلى عليه عثمان ، رضي الله عنه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٦) كتاب فضائل القرآن باب القراء من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥٠٠٢). وينظر : محمد عبد العظيم الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن ص ١٨.

(٢) ينظر : د. عبد الصبور شاهين : تاريخ القرآن (طبع دار الكاتب العربي ، القاهرة ، ١٩٦٧ م) ص ١٤٨ ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٥.

ب ـ دوره في نشأة التفسير :

أبي بن كعب هو ثالث ثلاثة بعد ابن عباس وابن مسعود كثرت عنهم الرواية ، وكان مقدما في القراءة ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه : «وأقرؤكم أبي بن كعب» (١).

وقد عد أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ من العلماء المكثرين في التفسير ، وربما مكنه من ذلك معرفته بمعاني كتب الله القديمة ؛ إذ كان من العارفين بأسرار هذه الكتب (٢) وكونه من كتاب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا بالضرورة يجعله على مبلغ عظيم من العلم بأسباب النزول ومواضعه ، ومقدم القرآن ومؤخره ، وناسخه ومنسوخه ، ثم لا يعقل بعد ذلك أن تمر عليه آية من القرآن الكريم يشكل معناها دون أن يسأل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

ولقد اتبع أبي في تفسيره منهجا يتحرى الحيطة والحذر ؛ إذ كان يتوقف عند ما ورد في الآيات عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستعينا بمعرفته مواضع النزول ، وأوقاته وأسبابه ، وأحوال من نزل فيهم ، بالإضافة إلى خبرته بالكتب القديمة ومعرفة أسرارها ، ووقوفه على ما ورد فيها من جهة ، وقراءته القرآن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإقراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بعضا منه تعليما وإرشادا من جهة أخرى ، فإذا لم يجد فيما ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، أو لم تعنه وسائله التفسيرية السابقة ، فإن صنيعه يتوجه إلى بيان الدلالات اللغوية للألفاظ القرآنية ؛ إذ كانت الثقافة اللغوية هي زاد القوم الذي يستمدون منه ما يعينهم على ذلك (٤).

لقد استطاع أبي بما أوتي من علم وموهبة تفسيرية أن يجتذب تلاميذ كثيرين ، أثر فيهم بمنهجه الشامل ، مما أدى إلى نشأة المدرسة المدنية في التفسير والفقه.

ملاحظات حول تفسير الصحابة :

نستطيع الآن أن نورد مجموعة من الملاحظات على تفسير الصحابة تبرز لنا بشكل أكثر

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ١٨٤ و ٢٨١) والترمذي (٦ / ١٢٧ ـ ١٢٨) كتاب المناقب باب مناقب معاذ بن جبل (٣٧٩١) وابن ماجه (١ / ١٦١) في المقدمة باب فضائل زيد بن ثابت (١٥٤) والطيالسي (٢٠٩٦) وابن أبي عاصم (١٢٨١) و (١٢٨٢) وابن حبان (٧١٣١) و (٧١٣٧) و (٧٢٥٢) والطحاوي في شرح المشكل (٨٠٨) و (٨٠٩) و (٨١٠) وأبو نعيم في الحلية (٣ / ١٢٢) والحاكم (٣ / ٤٢٢) والبيهقي (٦ / ٢١٠) من طريق أبي قلابة عن أنس بن مالك بلفظ «... وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ..».

(٢) ينظر : د. الشحات زغلول : أبي بن كعب ـ الرجل والمصحف (طبع الهيئة العامة للكتاب ، ١٩٧٨ م) ص ٩ ، ود. الذهبي : التفسير والمفسرون ، ص ٩٢.

(٣) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون ، ص ٩٢ ، ود. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٦.

(٤) ينظر : د. الشحات زغلول : أبي بن كعب ـ الرجل والمصحف ص ٨٧.

وضوحا الدور الذي قاموا به ، وهي كالآتي :

أولا : اتخذت تفسيرات الصحابة جميعهم شكل الحديث من حيث الرواية والتلقي.

ثانيا : الصحابة لم يفسروا القرآن الكريم كله ، وإنما تناولوا بالتفسير ما كانوا يسألون عنه ، أو ما يبدو غريبا في أذهان بعضهم.

ثالثا : تفسيراتهم لم تكن تخرج عن تفسير اللفظ بما يوضحه ، والاستشهاد له من اللغة ، وما يمكن أن يروى حوله من تفسير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مناسبة النزول.

رابعا : لم يكن بين تفسيراتهم اختلافات كبيرة ؛ نظرا لقربهم من عهد النبوة ، كما أنهم لم تتوزعهم الأهواء ، وما كان بينهم من اختلافات فهي للتنوع وليس للتضاد (١).

ومع كل هذا ، فقد كان الصحابة الأجلاء ، وبخاصة ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب ـ رضوان الله عليهم ـ هم أول من أسس علم التفسير بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قدموه من إسهامات فتحت الطريق أمام التابعين من بعدهم ومن تلاهم إلى يوم الناس هذا.

* * *

__________________

(١) ينظر : د. محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٦٩.

المرحلة الثالثة : التفسير في عصر التابعين

جاء عصر التابعين ، فوجدوا بين أيديهم ميراثا ضخما من التفسير ، لكنه ليس شاملا لكتاب الله تعالى كله ، بل هو تفسير لبعض الآيات ، كما أنه لم تكن هناك مصنفات كاملة فيه ، حيث إنه لم يدون في عهد الصحابة ، لقرب العهد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقلة الاختلاف ، وللتمكن من الرجوع إلى الثقات.

ثم لما انقضى عصر الصحابة أو كاد ، وصار الأمر إلى تابعيهم ، انتشر الإسلام ، واتسعت الأمصار ، وتفرقت الصحابة في الأقطار ، وحدثت الفتن ، واختلفت الآراء ، وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء ، فأخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن (١).

ومعنى هذا أن حركة واسعة لتدوين علوم الإسلام قد بدأت مع عصر التابعين ، في أواخر القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني ، وقد نال التفسير قسطا وافرا من اهتمام التابعين ، سواء فيما يتعلق بتدوينه أو تطويره والبلوغ به درجات لم يبلغها من قبل.

ونريد في عجالة أن نستجلي أهم ما قام به التابعون في مجال تفسير القرآن الكريم ، ولتحقيق ذلك نقف أمام النقاط الآتية :

أولا : مصادر التابعين في تفسير القرآن الكريم :

اتبع علماء التابعين سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته الكرام ، فصدروا عن طريقتهم في التفسير ، فجاءت مصادرهم في التفسير هي المصادر الثلاثة السابقة : تفسير القرآن بالقرآن ، وتفسير القرآن بالسنة ، وتفسير القرآن بما عند أهل الكتاب مما جاء في كتبهم ، ولكنهم زادوا مصادر أخرى : ففسروا القرآن بما رووه عن صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم توسعوا في الاجتهاد وتفسير القرآن بالرأي عما كان عليه في عهد الصحابة.

يقول الدكتور الذهبي : اعتمد هؤلاء المفسرون في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه ، وعلى ما رووه عن الصحابة من تفسيرهم أنفسهم ، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم ، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى.

وقد روت لنا كتب التفسير كثيرا من أقوال هؤلاء التابعين في التفسير ، قالوها بطريق

__________________

(١) ينظر : د. عبد الله شحاتة : علوم القرآن والتفسير ص ٢٥١.

الرأي والاجتهاد ، ولم يصل إلى علمهم شيء فيها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن أحد من الصحابة (١).

ثانيا : دور التابعين في تفسير القرآن الكريم :

بعدت الشقة بين عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصر التابعين ، وتزايد الغموض في فهم القرآن الكريم ، واحتاج الناس إلى التفسير وقد اضطلع التابعون في هذه المرحلة بدور بارز.

يقول الدكتور الذهبي : تزايد هذا الغموض ـ على تدرج ـ كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة ، فاحتاج المشتغلون بالتفسير من التابعين إلى أن يكملوا بعض هذا النقص ، فزادوا في التفسير بمقدار ما زاد من غموض ، ثم جاء من بعدهم فأتموا تفسير القرآن تباعا ، معتمدين على ما عرفوه من لغة العرب ومناحيهم في القول ، وعلى ما صح لديهم من الأحداث التي حدثت في عصر نزول القرآن ، وغير هذا من أدوات الفهم ووسائل البحث (٢).

وبرز في عصر التابعين علماء كثيرون ، كانوا قد تتلمذوا على أيدي صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوف نتعرض لأبرزهم في الفصل الثاني من هذه الدراسة عند الحديث عن المدارس التفسيرية.

ثالثا : يمتاز التفسير في عصر التابعين بما يلي :

أولا : غالب أقوالهم في التفسير تلقوها عن الصحابة ، وبعض منها رجعوا فيه إلى أهل الكتاب ، وما وراء ذلك فمحض اجتهاد لهم.

ثانيا : دخل في التفسير كثير من الإسرائيليات والنصرانيات ؛ وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام ، وكان لا يزال عالقا بأذهانهم من الأخبار ما لا يتصل بالأحكام الشرعية : كأخبار بدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، وبدء الكائنات وكثير من القصص ، وكانت النفوس ميالة لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية أو نصرانية ، فتساهل التابعون فزجوا في التفسير بكثير من الإسرائيليات والنصرانيات بدون تحر ونقد ، وأكثر من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب : عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، ولا شك أن الرجوع إلى هذه الإسرائيليات في التفسير أمر مأخوذ على التابعين كما هو مأخوذ على من جاء

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ١٠١).

(٢) التفسير والمفسرون (١ / ١٠٢).

بعدهم.

وترتب على دخول الإسرائيليات والنصرانيات أن غص التفسير بكثير من الأباطيل ، والخرافات ، وممن ساعد على رواج هذه الأباطيل القصاص والوعاظ بالمساجد ، ولم يسلم من نسبتها إليهم أئمة ورعون كالحسن البصري بالكوفة ، ومحمد بن كعب القرظي بالمدينة (١).

ثالثا : تعتبر هذه المرحلة من أخطر مراحل التفسير ؛ إذ وضعت فيها بذور المذاهب الإسلامية ، من نزوع العقل إلى فهم الآيات وتفسيرها ، إلى تصرف في اللغة وإيغال في التأويل ، وقد وجدنا هذا في مدرستي مكة والمدينة ، بالقدر الذي وجد في مدارس الكوفة والعراق ومصر بعامة ، وإن اختلف الأساس الذي بني عليه هذا الفهم في كل مدرسة على حدة (٢).

رابعا : يعتبر التابعون هم المؤسسون الرئيسون للمدارس التفسيرية (٣) التي وجدت بذور نشأتها في عهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فقد تبلورت المدارس التفسيرية وبرزت وتحددت في عصر التابعين والعصور التالية.

خامسا : ظهرت في هذا العصر نواة الخلاف المذهبي ، فظهرت بعض تفسيرات تحمل في طياتها هذه المذاهب ، فنجد مثلا قتادة بن دعامة السدوسي ينسب إلى الخوض في القضاء والقدر ويتهم بأنه قدري ، ولا شك أن هذا أثر على تفسيره ، ولهذا كان يتحرج بعض الناس من الرواية عنه ، ونجد الحسن البصري (٤) يفسر القرآن على إثبات القدر ، ويكفر من يكذب به.

سادسا : شهدت هذه المرحلة محاولات فردية في تدوين التفسير ، وإن ظل محتفظا بطابعه في عهد الصحابة من الرواية والتلقي الشفهي مثل الحديث ، إلا أنه لم يكن تلقيا ورواية بالمعنى الشامل كما هو الشأن في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، بل كان تلقيا ورواية يغلب عليهما طابع الاختصاص ، فأهل كل مصر يعنون ـ بوجه خاص ـ بالتلقي والرواية عن إمام مصرهم ، فالمكيون عن ابن عباس ، والمدنيون عن أبي ، والعراقيون عن ابن

__________________

(١) السابق (١ / ١٣١) ، وينظر : د / محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٧٥.

(٢) ينظر : د / الذهبي الإسرائيليات في التفسير والحديث (طبع مجمع البحوث ١٩٦٨ م) ص ٩٠ ، ود / محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ص ٧٥.

(٣) د / محمد إبراهيم شريف : بحوث في تفسير القرآن الكريم ، الصفحة نفسها.

(٤) ينظر : التفسير والمفسرون (١ / ١٣٢).

مسعود ... وهكذا (١).

وعموما ، فإن التفسير في عهد التابعين تطور عما كان عليه في عصر الصحابة ، مما أسهم في بلورته في المرحلة التالية.

المرحلة الرابعة : التفسير في عصور التدوين :

وهذه المرحلة تبدأ مع ظهور تدوين العلوم في أواخر عصر بني أمية وبداية عصر العباسيين ، وفي هذه المرحلة خطا التفسير خطوات أخرى ، نستطيع بلورتها فيما يلي :

الخطوة الأولى : أنه مع ابتداء التدوين لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت أبوابه متنوعة ، وكان التفسير بابا من هذه الأبواب التي اشتمل عليها الحديث ، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة ، وآية آية ، من مبدئه إلى منتهاه ، بل وجد من العلماء من طوف في الأمصار المختلفة ليجمع الحديث ، فجمع بجوار ذلك ما روي في الأمصار من تفسير منسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى أصحابه أو التابعين ، ومن هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة ١١٧ هجرية ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة ١٦٠ هجرية ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة ١٩٧ هجرية ، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة ١٩٨ هجرية ، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة ٢٠٥ هجرية ، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة ٢١١ هجرية ، وآدم بن إياس المتوفى سنة ٢٢٠ هجرية ، وعبد بن حميد المتوفى سنة ٢٤٩ هجرية ، وغيرهم ... وهؤلاء جميعا كانوا من أئمة الحديث ، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبواب الحديث ، ولم يكن جمعا للتفسير على استقلال وانفراد ، وجميع ما نقله هؤلاء الأعلام عن أسلافهم من أئمة التفسير نقلوه مسندا إليهم ، غير أن هذه التفاسير لم يصل إلينا شيء منها ؛ ولذا لا نستطيع أن نحكم عليها (٢).

الخطوة الثانية : انفصل بها التفسير عن الحديث ، فأصبح علما قائما بنفسه ، ووضع التفسير لكل آية من القرآن ، ورتب ذلك على حسب ترتيب المصحف ، وتم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه المتوفى سنة ٢٧٣ ه‍ ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ ه‍ ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة ٣١٨ ه‍ ، وابن أبي حاتم المتوفى سنة ٣٢٧ ه‍ ، وأبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة ٣٦٩ ه‍ ، والحاكم المتوفى سنة ٤٠٥ ه‍ ، وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة ٤١٠ ه‍ ، وغيرهم من أئمة هذا الشأن.

__________________

(١) السابق (١ / ١٣١ ، ١٣٢).

(٢) السابق (١ / ١٤٣ ، ١٤٤).

وكل هذه التفاسير مروية بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى الصحابة ، والتابعين ، وتابعي التابعين ، وليس فيها شيء من التفسير أكثر من التفسير المأثور ، اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها ، ورجح بعضها على بعض ؛ وزاد على ذلك الإعراب إن دعت إليه حاجة ، واستنبط الأحكام التي يمكن أن تؤخذ من الآيات القرآنية (١).

وتجدر الإشارة إلى أن التفسير إذا كان قد انفصل عن الحديث ، فإنه ليس معنى ذلك أن هذه الخطوة محت ما قبلها وألغت العمل به ، بل معناه أن التفسير تدرج في خطواته ، فبعد أن كانت الخطوة الأولى للتفسير هي النقل عن طريق التلقي والرواية ، كانت الخطوة الثانية له هي تدوينه على أنه باب من أبواب الحديث ، ثم جاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة ، وهي تدوينه على استقلال وانفراد ، فكل هذه الخطوات ، تم إسلام بعضها إلى بعض ، بل وظل المحدثون بعد هذه الخطوة الثالثة ، يسيرون على نمط الخطوة الثانية ، من رواية المنقول من التفسير في باب خاص من أبواب الحديث ، مقتصرين في ذلك على ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عن الصحابة أو عن التابعين (٢).

الخطوة الثالثة : تجاوز التفسير حدود التفسير بالمأثور ، بعد ما كان مقصورا على ذلك ، فصنف في التفسير خلق كثير ، اختصروا الأسانيد ، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن ينسبوها لقائليها ، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل ، وأصبح الناظر في هذه الكتب يظن أن كل ما فيها صحيح ، فنقله كثير من المتأخرين في تفاسيرهم ، ونقلوا ما جاء في هذه الكتب من إسرائيليات على أنها حقائق ثابتة ، وكان ذلك هو مبدأ ظهور خطر الوضع والإسرائيليات في التفسير (٣).

الخطوة الرابعة : وهي خطوة أوسع من سابقتها ، امتدت من العصر العباسي إلى يومنا هذا ، فبعد أن كان تدوين التفسير مقصورا على رواية ما نقل عن سلف الأمة تجاوز بهذه الخطوة الواسعة إلى تدوين تفسير اختلط فيه الفهم العقلي بالتفسير النقلي ، وتدرج ذلك تدرجا واضحا ، فبدأ أولا التفسير العقلي على هيئة محاولات فهم شخصي ، وترجيح لبعض الأقوال على بعض ، وكان هذا أمرا مقبولا ما دام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة الكلمات القرآنية ، ثم ظلت محاولات هذا الفهم الشخصي تزداد وتتضخم ، متأثرة بالمعارف المختلفة والعلوم المتنوعة والآراء المتشعبة والعقائد المتباينة ،

__________________

(١) السابق (١ / ١٤٤).

(٢) السابق (١ / ١٤٤ ، ١٤٥).

(٣) السابق (١ / ١٤٧).

حتى وجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة ، لا تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بعد عظيم (١).

ثم إن ما ظهر من مذاهب واتجاهات ، وما دون من علوم ، وما ترجم منها ، أدى إلى اختلاط التفسير بغيره من العلوم ، وتلونه بالمذاهب المختلفة ، فكل فسر القرآن الكريم حسب ما يتمشى مع فكره ومذهبه ، ويساير اتجاهه.

غير أنه يجب التنبيه إلى أن التفسير العقلي لم يطغ على التفسير بالمأثور الطغيان الذي يجعله في عداد ما درس وذهب ، فقد وجد من العلماء من استطاع في كل العصور مقاومة طغيان التفسير العقلي ، ففسر القرآن الكريم تفسيرا نقليا بحتا ، أو فسره تفسيرا نقليا مختلطا بالتفسير العقلي.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك من العلماء من اهتم بموضوعات معينة في القرآن الكريم ، فابن القيم مثلا أفرد كتابا سماه «التبيان في أقسام القرآن» ، وأبو عبيدة أفرد كتابا سماه «مجاز القرآن» ، وألف بعضهم في الناسخ والمنسوخ ، وبعضهم في أسباب النزول ، وبعضهم في أحكام القرآن ، وبعضهم في إعراب القرآن.

* * *

__________________

(١) ينظر : السابق (١ / ١٤٨).

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم

في زماننا بدأ يظهر ما يعرف بالتفسير الموضوعي ، وهو يعني أمرين :

الأول : أنه يعني الوحدة الموضوعية ، أي : أن بناء السورة الكريمة من سور القرآن الكريم يتناول في معظمه موضوعا واحدا ، تقوم السورة الكريمة على بيانه والإلحاح عليه من أولها إلى آخرها ، وقد يتخلل ذلك موضوعات أخرى أو إشارات إلى موضوعات أخرى ، ولكن يبقى الخيط العام في السورة وموضوعها واضحا ، ونادرا ما تقتصر سورة من سور القرآن على موضوع واحد ، وذلك من مميزات أسلوبه الفريد وإعجازه الواضح ، ومع هذا يبقى الموضوع الكبير وتفاصيله واضحا في بناء السورة الكريمة ، صغيرة كانت أو كبيرة.

يمثل ذلك سورة يوسف فإن موضوعها قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ منذ ولادته والرؤيا التي رآها إلى وفاته (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١].

ومع أن قصة يوسف هي موضوع السورة الأكبر ، وأن وحدة الموضوع وعناصره بادية في السورة من أولها إلى آخرها إلا أن الأسلوب القرآني المعجز يدخل في ثنايا ذلك موضوعات أخرى لا تخل بوحدة موضوع السورة ، ولكنها تضيف إليه التقدير والتعظيم.

فالموضوع الأكبر هو قصة يوسف ، وقد تم سردها بدقة وإحكام ، والموضوع الآخر إثبات صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به من القرآن الكريم ، فهو وحي من عند الله ومعجز لأمته ، وبين هذين الموضوعين تعرضت آيات القصة لكثير من القيم والتوجيهات الدينية ، وقد أفاد كل ذلك في بناء الموضوع ووحدته.

الأمر الثاني :

وهو سابق على الأمر الأول المتمثل في الوحدة الموضوعية في السورة ، فهناك محاولات سابقة للعلماء للربط بين الآيات وبيان المناسبة بين كل آية وآية مما يعد لبنة في تلك الدراسة ، فخصص السيوطي لذلك فصلا في كتابه «الإتقان في علوم القرآن» سماه : «مناسبة الآيات» قال فيه كلاما طيبا لا يبعد كثيرا عما يسمى بالوحدة الموضوعية ، بل وهناك محاولات لبيان مناسبة السورة مع التي قبلها.

وقد تطور هذا الأمر ، فأصبح التفسير الموضوعي يعني «جمع الآيات المتفرقة في سور القرآن الكريم المتعلقة بالموضوع الواحد لفظا أو حكما ، وتفسيرها حسب المقاصد

القرآنية».

وأطلق التفسير الموضوعي على جميع الأشباه والنظائر في القرآن الكريم حسب مادة الكلمة ، ثم ترتيبها ترتيبا معجميا ، وذلك كما صنع الفقيه الدامغاني في كتابه : «إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم».

ونستطيع القول : إن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هو معرفة مراد الله تعالى من كلامه الكريم في آيات عديدة يجمعها موضوع واحد ، وذلك بقدر الطاقة البشرية والعلوم المعنية (١).

ولكن مما ينبغي إبرازه أن التفسير الموضوعي وجد منذ عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس وليد العصر الحاضر ، وذلك لسببين :

الأول : أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا ، فما أجمل في موضع فصل في موضع آخر ، وما أبهم في موضع بين في موضع آخر ، وهكذا ، وفي ذلك يقول السيوطي عند حديثه عن شروط المفسر وآدابه : «قال العلماء : من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن ، فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر منه ، وقد ألف ابن الجوزي كتابا فيما أجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر منه» (٢).

والسبب الثاني : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استخدم هذا الأسلوب في بيان وتفسير ما أشكل على الصحابة من القرآن الكريم ، حيث ضم الآيات إلى بعضها ؛ ليتضح المعنى ويتبين المراد ، فمن ذلك أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لما سمعوا قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام : ٨٢] خافوا وظنوا أنهم قد حرموا الأمن والأمان ؛ لأن الظلم واقع من كل إنسان لا محالة ، حتى ظلمه لنفسه ، فذهبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فزع وخوف ، فطمأنهم ، وبين لهم أنهم في أمن وأمان ؛ لأن الظلم المراد في الآية هو الشرك ، وتلا عليهم قوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] فاطمأنت نفوسهم بذلك (٣).

وقد سار الصحابة على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، فكانوا يجمعون آيات القرآن

__________________

(١) ينظر فيما سبق : د / محمد نبيل غنائم : بحوث ونماذج من التفسير الموضوعي (دار الهداية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى ١٤٢٢ ه‍ ـ ٢٠٠٢ م) ص ١٠ وما بعدها.

(٢) الإتقان (٢ / ١٧٥).

(٣) ينظر : د / محمد نبيل غنائم : بحوث ونماذج من التفسير الموضوعي ص ١٩ ، ٢٠.

الكريم ؛ ليستنبطوا الحكم الصحيح وقد سبق أن ذكرنا عند حديثنا عن دور علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في التفسير أنه يعد ـ بحق ـ واضع اللبنة الأولى للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم ، ومن أمثلة ذلك ـ أيضا ـ ما سبق أن ذكرناه عن ابن عباس وعمر بن الخطاب في توقع موعد ليلة القدر ، فقد أخرج أبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب جلس في رهط من المهاجرين من الصحابة ، فذكروا ليلة القدر ، فتكلم كل بما عنده ، فقال عمر : ما لك يا ابن عباس صامت لا تتكلم؟ تكلم ولا تمنعك الحداثة ، قال ابن عباس : فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الله وتر يحب الوتر ، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع ، وخلق أرزاقنا من سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، وخلق فوقنا سماوات سبعا ، وخلق تحتنا أرضين سبعا ، وأعطى من المثاني سبعا ، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع ، وقسم الميراث في كتابه على سبع ، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع ، وطاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكعبة سبعا ، وسعى بين الصفا والمروة سبعا ، ورمى الجمار سبعا ، فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان ، فتعجب عمر ، وقال : ما وافقني فيها أحد إلا هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه (١).

وقد توالت الجهود وتتابعت في التفسير الموضوعي حتى أصبح مصطلحا معروفا واتجاها واضحا في التفسير في العصر الحديث ، حيث وجدنا من العلماء من يتناول بالتفسير سورة واحدة ، كما فعل الدكتور محمد البهي في تفسير سورة يوسف وإبراهيم وغيرهما ، ومنهم من تناول بالتفسير موضوعا من موضوعات القرآن ، فجمع آياته المتفرقة وقام بتفسيرها في كتاب واحد ، كما فعل الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه «الأخلاق في القرآن الكريم» ، والدكتور يوسف القرضاوي في كتابه «الصبر في القرآن الكريم» ، ومن قبل : الشيخ محمد رشيد رضا في «الوحي المحمدي» وتوالت الكتب المختصة بهذا الشأن ، حتى وجدنا بعض العلماء كالشيخ الغزالي يؤلف مباشرة تحت عنوان «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم».

وقد بلغ من شهرة هذا الاتجاه أن أصبح شعبة دائمة في منظمة المؤتمر الإسلامي ، وصدرت عنها عدة بحوث كان لها الأثر الكبير في التعريف بالقرآن والإسلام لدى غير المسلمين ، مما أسفر عن إعجاب الكثير بالإسلام وإعلان إسلامهم (٢).

إذن فإن التفسير «تفسير القرآن الكريم» مر بمراحل متعددة حتى صار إلى ما نراه الآن ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : د / محمد نبيل غنائم : بحوث ونماذج من التفسير الموضوعي ص ٢٤.

ومع هذا يبقى هذا السؤال الذي يتطلب منا جوابا ، وهو : هل صار التفسير علما بالمعنى الدقيق لكلمة علم؟

عرض الدكتور الذهبي ـ رحمه‌الله ـ لهذه المسألة ، فقال : يرى بعض العلماء : أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد ؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية ، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام الله ، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها.

ويرى بعض آخر منهم : أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية ، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد ؛ فيتكلف له التعريف ، فيذكر في ذلك علوما أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن ، كاللغة : والصرف ، والنحو ، والقراءات ... وغير ذلك (١).

والحق الذي يصدق الواقع ، وتشهد به التفاسير الكثيرة ، أن فن تفسير القرآن الكريم من قبيل العلوم ذات الموضوع والمسائل المنضبطة بوحدة موضوعها وغايتها وغير ذلك ، فإن له كتبه المدونة المختصة به كما لسائر العلوم ، وأيضا : فإن فيه كثيرا من القواعد الكلية التي يتدرج تحت كل واحدة منها من المسائل الجزئية ما لا يخفى على من طالع كتبه ، والتي تحصل لمن تمرس بها وأحسن رعايتها ملكة تعينه على خوض لجة هذا العلم والسباحة في بحره آمنا مطمئنا إن شاء الله ، وتمنع بالتالي من لم يمارسها ويتقن فقهها والتلقي لها عن أهلها الثقات من الكلام في هذا الفن.

وكونه مفتقرا إلى الاستعانة بكثير من العلوم لا يمنع أصلا من كونه علما متكاملا قد استوى على سوقه كما تستوي أدق العلوم وأدخلها في استحقاق اسم العلم ، فإن من الأمور التي قد أصبحت شبيهة بالبديهيات إن لم تكن منها بالفعل أنه لا يمنع من كون العلم علما قائما برأسه أن يستعين على مسائله بكثير من المسلمات في علوم أخرى وأن الواقع الذي لا تصلح المماراة فيه أن بعض العلوم يأخذ من بعض.

كما أن كونه بيانا لألفاظ القرآن ومعانيه لا يمنع بحال من عده علما قائما بذاته ، كما أن علم اللغة وفقهها لا يخرج عن كونه بيانا لمعاني ألفاظها واشتقاقاتها وما إلى هذا ، ثم لم يمنع ذلك من عده علما ، فالحق الذي ترتاح إليه النفس ويطمئن إليه القلب إذن أن التفسير علم بأكمل وأدق وأجل ما تنطوي عليه مثل هذه الكلمة الشريفة من معنى ، وأنه كذلك من أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق (٢).

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ١٥ ، ١٦).

(٢) د / إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : دراسات في مناهج المفسرين ص ٢٦ ، ٢٧.

الفصل الثاني

مدارس تفسير القرآن الكريم

قلنا : إن المدارس التفسيرية تبلورت في عصر التابعين ، فظهرت عدة مدارس ، لكل مدرسة منها أسلوبها وطريقتها ومنهجها في تفسير القرآن الكريم ، اضطلع بالتفسير فيها أئمة كبار من أهل العلم.

يقول الدكتور الذهبي : فتح الله على المسلمين كثيرا من بلاد العالم في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي عهود الخلفاء من بعده ، ولم يستقروا جميعا في بلد واحد من بلاد المسلمين ، بل نأى الكثير منهم عن المدينة مشرق النور الإسلامي ثم استقر بهم النوى ، موزعين على جميع البلاد التي دخلها الإسلام ، وكان منهم الولاة ، ومنهم الوزراء ، ومنهم القضاة ، ومنهم المعلمون ، ومنهم غير ذلك.

وقد حمل هؤلاء معهم إلى هذه البلاد التي رحلوا إليها ، ما وعوه من العلم ، وما حفظوه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجلس إليهم كثير من التابعين يأخذون العلم عنهم ، وينقلونه لمن بعدهم ، فقامت في هذه الأمصار المختلفة مدارس علمية ، أساتذتها الصحابة ، وتلاميذها التابعون.

واشتهر بعض هذه المدارس بالتفسير ، وتتلمذ فيها كثير من التابعين لمشاهير المفسرين من الصحابة ، فقامت مدرسة للتفسير بمكة ، وأخرى بالمدينة ، وثالثة بالعراق ، وهذه المدارس الثلاث ، هي أشهر مدارس التفسير في الأمصار في هذا العهد (١).

ويمكننا القول : إن أصل هذه المدارس ، وأعلمها بالتفسير هي مدرسة مكة ؛ لأن شيخها وأستاذها عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ، كان نسيج وحده في التفسير ، فكان أعلم الناس به ، وكان تلاميذه أعلم التابعين به أيضا ؛ ولذلك يقول ابن تيمية : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة ؛ لأنهم أصحاب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وغيرهم (٢).

ونحاول في الصفحات الآتية الوقوف أمام أبرز مدارس التفسير ؛ لبيان خصائصها

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ١٠٢) ، وينظر : الإسرائيليات والموضوعات في التفسير ص ٩٢ ، ٩٣.

(٢) ينظر : مقدمة في أصول التفسير ص ٦١.

وسماتها والمفسرين الذين يمثلونها وينتمون إليها.

أولا : المدرسة المكية :

واضع بذور هذه المدرسة ومؤسسها الأول الصحابي الجليل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ترجمان القرآن وحبر الأمة ، فقد جلس لتلاميذه يفسر لهم ما غمض من القرآن ويوضح لهم ما أشكل عليهم من معانيه ، وكان جلوسه لهم بمكة ، وقد اجتمع حوله كثير من التلاميذ الذين وعوا ما يقوله ورووه لمن جاء بعدهم ، وقد اشتهر من هؤلاء التلاميذ : سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس بن كيسان اليماني ، وعطاء بن أبي رباح.

ولكي نعرف بالمدرسة المكية لا بد لنا من دراسة خصائصها وسماتها في التفسير ، ثم بيان دور تلاميذها وما قاموا به في التفسير مع ترجمة موجزة لكل واحد منهم ، فنقول (١) :

تتسم المدرسة المكية في التفسير بعدة سمات ، أبرزها ما يأتي :

أ ـ الرواية :

قامت هذه المدرسة على الرواية عن ابن عباس ، فروى عنه سعيد بن جبير وسمع منه التفسير وأكثر من روايته عنه (٢).

وروى مجاهد والفضل بن ميمون وعكرمة وطاوس وعطاء بن أبي رباح ، وكانت رواية هؤلاء الأعلام أكثرها عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومن ثم تأثروا به وبمنهجه في التفسير.

ومما يدل على رواية هؤلاء الأعلام عن ابن عباس ما رواه الفضل بن ميمون أنه سمع مجاهدا يقول : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة (٣).

وروي عنه ـ أيضا ـ أنه قال : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات ، أقف عند كل آية ، أسأله فيم نزلت ، وكيف كانت (٤)؟

ولا تعارض بين هاتين الروايتين ؛ لأن الإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير ، فلعله

__________________

(١) لن نترجم للصحابة المؤسسين للمدارس التفسيرية ، لأمرين : أولهما : أنه قد سبقت ترجمتهم في الفصل الأول من هذه الدراسة ، وثانيهما : أنه برغم دور الصحابة الكبير في تأسيس المدارس التفسيرية ، فإن الفضل الأكبر يرجع في بلورتها إلى تلاميذهم من التابعين ومن جاء بعدهم.

(٢) ينظر : وفيات الأعيان لابن خلكان (١ / ٢٠٤).

(٣) ينظر : ميزان الاعتدال (٣ / ٩).

(٤) ينظر : تهذيب التهذيب (١٠ / ٤٢).

عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة ؛ لتمام الضبط ، ودقة التجويد وحسن الأداء ، وعرضه بعد ذلك ثلاث مرات ؛ طلبا لتفسيره ومعرفة ما دق من أسراره ، وخفي من معانيه ، كما تشعر بذلك ألفاظ الرواية (١).

ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ ما قاله حبيب بن أبي ثابت : «اجتمع عندي خمسة : طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير ، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما ، فلما نفد ما عندهما ، جعل يقول : أنزلت آية كذا في كذا ، وأنزلت آية كذا في كذا» (٢).

ومما يدل على ذلك ـ أيضا ـ ما قاله ابن عباس نفسه عن عطاء بن أبي رباح : «تجتمعون إليّ يا أهل مكة وعندكم عطاء؟!» (٣).

وهذا إن دل على رواية عطاء ، فإنه يدل كذلك على علو قدمه ورسوخها في تفسير القرآن الكريم ، حتى إن ابن عباس ـ وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ـ يستنكر على أهل مكة اجتماعهم عليه وبين أظهرهم عطاء بن أبي رباح.

وخلاصة القول : إن المدرسة المكية كانت تعتمد على الرواية في التفسير ، فمثل ما روى الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التفسير ، فقد روى أصحاب المدرسة المكية عن صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالأخص عن ابن عباس رضي الله عنهما.

هذا ، ولم تقتصر روايتهم عن ابن عباس والصحابة وحسب ، بل إنهم رووا عن أهل الكتاب مثلما فعل سلفهم ، لكنهم توسعوا حتى روى الذهبي في ميزانه أن أبا بكر بن عياش قال : قلت للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ كما في رواية ابن سعد قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب (٤).

لكن ينبغي ألا يتوهم من هذه الرواية أن أصحاب هذه المدرسة لم تكن لهم ضوابط في النقل عن أهل الكتاب ، كلا ، فلقد كانوا لا يروون إلا ما يعتقدون صدقه ، ولم يخالف بيّنا مما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف لا يتحرون الدقة في الأخذ عن أهل الكتاب ، ورأس مدرستهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ شدد النكير على من يأخذ عنهم أو يصدقهم فيما

__________________

(١) ينظر : د / الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٠٦ ، ١٠٧).

(٢) مقدمة فتح الباري ص ٤٥٠.

(٣) التفسير والمفسرون (١ / ١١٥).

(٤) السابق (١ / ١٠٧).

يقولون ، مما هو داخل تحت حدود النهي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ب ـ جمع القراءات

جمع أصحاب هذه المدرسة القراءات الثابتة ، وكان أكثر تلاميذ ابن عباس حرصا على ذلك ، هو سعيد بن جبير ، فقد كان سعيد بن جبير يؤم الناس في شهر رمضان ، فروي عنه أنه كان «يقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود ، وليلة بقراءة زيد بن ثابت ، وليلة بقراءة غيره ، وهكذا أبدا» (١).

وما من شك في أن جمع القراءات يمنح القدرة على التوسع في معرفة معاني القرآن وأسراره.

ج ـ التفسير بالرأي :

قلنا : إن هذه المدرسة قامت على الرواية ؛ وذلك لأن أصحابها تحرجوا من التفسير بالرأي ، فقد روى ابن خلكان عن سعيد بن جبير أنه كان يتورع من القول في التفسير برأيه ، فقد جاء رجل وسأل سعيدا أن يكتب له تفسير القرآن ، فقال : لأن يسقط شقي أحب إلى من ذلك.

لكن لم يكن كل أصحاب المدرسة على درجة واحدة في هذا التحرج ، فمنهم من زاد تحرجه كسعيد بن جبير ـ كما رأينا ـ ومنهم من خف تحرجه كمجاهد بن جبر ، فكان من أكثر تلاميذ المدرسة المكية تحررا ، لكنه التحرر المنضبط ؛ لذلك نجده يقول : «ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في شيء من كتاب الله ، إذا لم يكن عالما بلغات القرآن ، ولا يكتفي باليسير منها ؛ إذ اللفظ ربما كان مشتركا فيغفل عن أحد المعنيين» (٢).

ويقف في درجة وسطى بين شدة التحرج وخفته عكرمة ، فمن يتتبع تفسيره في بطون كتب التفسير يجد فيه خصائص تفسير أستاذه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الذي تعلوه المسحة اللغوية والرجوع إلى الشعر ، وهو يمثل لونا من التفسير بالرأي.

ومن ثم يمكن القول دونما وجل : إن المدرسة المكية في التفسير تقوم على الرواية «أي التفسير بالمأثور» لكنها في الوقت نفسه لم تهمل التفسير بالرأي ، يدل على ذلك ما رواه الطبري في تفسيره عن مجاهد في تفسير قول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا

__________________

(١) وفيات الأعيان (١ / ١٠٧).

(٢) ينظر : البرهان في علوم القرآن للزركشي (١ / ٢٩٢) ، ودراسات في القرآن الكريم للدكتور السيد خليل (دار المعارف ، القاهرة ١٩٧٢ م) ص ١٣٧.

مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] فقد فسر المسخ بأنه مسخ للقلوب ولم يقع على الأجسام ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا (١).

أعلام المدرسة المكية.

١ ـ سعيد بن جبير.

سعيد بن جبير الوالبي مولاهم الكوفي الفقيه أحد الأعلام ، روى عن ابن عباس وابن عمر وعبد الله بن مغفل وعدي بن حاتم وخلق ، وروى عنه الحكم وسلمة بن كهيل وسليم الأحول ، وسليمان الأعمش وأيوب وعمرو بن دينار ، وخلائق ، وقال اللالكائي : ثقة إمام حجة ، قال عبد الملك بن أبي سليمان : كان يختم في كل ليلتين ، قال ميمون ابن مهران : مات سعيد وما على ظهر الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه ، قتل سنة خمس وتسعين كهلا ، قتله الحجاج فما أمهل بعده ، قال خلف بن خليفة عن أبيه : شهدت مقتل ابن جبير ، فلما بان الرأس قال : لا إله إلا الله لا إله إلا الله ، فلما قالها الثالثة لم يتمها رضي الله عنه.

مكانته في التفسير :

شهد التابعون لسعيد بن جبير بتفوقه في العلم ولا سيما التفسير ، فقد قال عنه الإمام أحمد : «قتل الحجاج سعيد بن جبير ، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه فرضي الله عنه» (٢).

وقال عنه سفيان الثوري : «خذوا التفسير عن أربعة : سعيد بن جبير ، ومجاهد بن جبر ، وعكرمة ، والضحاك».

وقال قتادة : «كان أعلم الناس أربعة : كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بالسير ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام».

ولعلم سعيد وفضله كان يثق فيه أستاذه ابن عباس ، ويحيل عليه من يستفتيه ، وكان يقول لأهل الكوفة إذا أتوه ليسألوه عن شيء : أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير ويروي عمرو بن ميمون عن أبيه أنه قال : لقد مات سعيد بن جبير ، وما على ظهر

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري (١ / ٢٣٥) ، وتفسير ابن كثير (مكتبة دار التراث) (١ / ١٠٥).

(٢) ينظر : الإسرائيليات والموضوعات لمحمد أبي شهبة ص (١٩٥).

الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.

ويرى بعض العلماء أنه مقدم على مجاهد وطاوس في العلم ، وكان قتادة يرى أنه أعلم التابعين بالتفسير.

هذا وقد وثق علماء الجرح والتعديل سعيد بن جبير ، فقال أبو القاسم الطبري : هو ثقة ، حجة ، إمام على المسلمين ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال : كان عبدا فاضلا ورعا ، وهو مجمع عليه من أصحاب الكتب الستة (١).

٢ ـ مجاهد بن جبر :

مجاهد بن جبر ـ بإسكان الموحدة ـ مولى السائب بن أبي السائب أبو الحجاج المكي المقرئ الإمام المفسر ، روى عن ابن عباس وقرأ عليه ، وعن أم سلمة وأبي هريرة وجابر ، وروى عنه عكرمة وعطاء وقتادة والحكم بن عتيبة وأيوب وخلق.

وثقه ابن معين وأبو زرعة.

قال ابن حبان : مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد ، ومولده سنة إحدى وعشرين.

مكانته في التفسير :

مجاهد أحد المبرزين في التفسير ؛ قال الفضل بن ميمون : سمعت مجاهدا يقول : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة ، وعنه ـ أيضا ـ قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كل آية منه ، وأسأله عنها فيم نزلت؟ وكيف كانت؟

وروى ابن جرير بسنده عن ابن أبي مليكة ، قال : «رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه ، فيقول ابن عباس : اكتب ، حتى سأله عن التفسير كله».

ولذا قال الإمام سفيان الثوري : «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك» ، وقال ابن تيمية : «ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي ، والبخاري وغيرهما من أهل العلم».

وقال السيوطي في الإتقان : «وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره عنه ، وما أورده فيه عن ابن عباس أو غيره قليل جدّا».

فكل هذه الأقوال تشهد لمجاهد بعلو المكانة في التفسير والعلم ، ومع هذا فقد تحرج بعض العلماء من الأخذ عنه في التفسير ، ولعل الذي دفعهم إلى ذلك أمران :

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ١٠٥).

الأول : أنه كان يسأل أهل الكتاب ، كما سبقت الإشارة إلى أن ابن سعد عزا عدم سؤالهم له في التفسير إلى ذلك ، فقال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.

والثاني : مسلك التحرر الذي سلكه وتفسيره القرآن بالرأي ، فلعل مثل هذا المسلك من مجاهد ، هو الذي جعل بعض المتورعين الذين كانوا يتحرجون من القول في القرآن برأيهم يتقون تفسيره ، ويلومونه على قوله في القرآن بمثل هذه الحرية الواسعة في الرأي ، فقد روي عن ابن مجاهد أنه قال : قال رجل لأبي : أنت الذي تفسر القرآن برأيك؟ فبكى أبي ثم قال : إني إذن لجريء ، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم (١).

وليس معنى هذا أن في مجاهد مطعنا ، كلا ، فهو ثقة بلا مدافعة ، وإن صح أنه كان يسأل أهل الكتاب فما أظن أنه تخطى حدود ما يجوز له من ذلك ، لا سيما وهو تلميذ حبر الأمة ابن عباس ، الذي شدد النكير على من يأخذ عن أهل الكتاب ويصدقهم فيما يقولونه مما يدخل تحت حدود النهي الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وعليه ، فتبقى لمجاهد إمامته في التفسير التي لا يمكن أن يدفعها عنه دافع ، فليس أخذه عن أهل الكتاب أو حريته في تفسير آيات القرآن يغضان من قيمته ومكانته أو يقللان من تفوقه في العلم والتفسير.

٣ ـ عكرمة

عكرمة البربري مولى ابن عباس أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام ، روى عن مولاه ، وعائشة وأبي هريرة ، وأبي قتادة ومعاوية وخلق ، وروى عنه الشعبي وإبراهيم النخعي ، وأبو الشعثاء من أقرانه وعمرو بن دينار وقتادة وأيوب وخلق.

قال الشعبي : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة رموه بغير نوع من البدعة ، قال العجلي : ثقة بريء مما يرميه الناس به ، ووثقه أحمد ، وابن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي ، ومن القدماء أيوب السختياني.

قال مصعب : مات سنة خمس ومائة.

مكانته في التفسير :

قال المروزي : قلت لأحمد : يحتج بحديث عكرمة؟ فقال : نعم يحتج به.

__________________

(١) د / الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٠٨ ، ١٠٩).

(٢) السابق (١ / ١٠٧).

وقال ابن معين : إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة ، وفي حماد بن سلمة ، فاتهمه على الإسلام.

وقال العجلي فيه : مكي تابعي ثقة ، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية.

وقال البخاري : ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة.

وقد وثقه النسائي وأخرج له في كتابه السنن ، كما أخرج له البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وغيرهم ، وكان مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأيا فيه ، ثم عدله بعد ما جرحه.

وقال المروزي : أجمع عامة أهل العلم بالحديث على الاحتجاج بحديث عكرمة ، واتفق على ذلك رؤساء أهل الحديث من أهل عصرنا ، منهم أحمد بن حنبل ، وابن راهويه ، ويحيى بن معين ، وأبو ثور ، ولقد سألت إسحاق بن راهويه عن الاحتجاج بحديثه فقال : عكرمة عندنا إمام الدنيا!!! تعجب من سؤالي إياه.

فإن عكرمة ـ رضي الله عنه ـ كان على مبلغ عظيم من العلم ، وعلى مكانة عالية من التفسير خاصة ، وقد شهد له العلماء بذلك ، فقال ابن حبان : كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن ، وقال عمرو بن دينار : دفع إليّ جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة وجعل يقول : هذا عكرمة مولى ابن عباس ، هذا البحر فسلوه.

وكان الشعبي يقول : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.

وقال حبيب بن أبي ثابت : اجتمع عندي خمسة : طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، فأقبل مجاهد وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير ؛ فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما ، فلما نفد ما عندهما جعل يقول : أنزلت آية كذا في كذا ، وأنزلت آية كذا في كذا.

وقال يحيى بن أيوب المصري : سألني ابن جريج : هل كتبتم عن عكرمة؟ فقلت : لا ، قال : فاتكم ثلثا العلم (١).

وروى البخاري في صحيحه عن عكرمة أن ابن عباس قال له : «حدث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرات ، ولا تمل الناس هذا القرآن ، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم ، فتقص عليهم ، فتقطع عليهم حديثهم فتملهم ، ولكن أنصت ، فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه ، وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه ، فإني

__________________

(١) ينظر : التفسير والمفسرون (١ / ١١٢ ، ١١٣).

عهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك» (١).

إن عكرمة حاز منزلة عظيمة في العلم ، فهو من أعلم الناس بالسير والمغازي ؛ قال سفيان الثوري عن عمرو قال : كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفون ويقتتلون.

وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن ، وشهد له الأئمة بذلك ، يقول الشعبي : «ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة».

ومع كل هذا ، فإن هناك بعض العلماء وجهوا مطاعن إلى عكرمة ، فكانوا يصفونه بالجرأة على العلم ويقولون : إنه كان يدعي معرفة كل شيء في القرآن ، ويزيدون على ذلك فيتهمونه بالكذب على مولاه ابن عباس ، وبعد هذا كله ، يتهمونه بأنه كان يرى رأي الخوارج ، ويزعم أن مولاه كان كذلك ، وقد نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب كل هذه التهم ونسبها لقائليها ، فمن ذلك : ما رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال : سأل رجل ابن المسيب عن آية من القرآن ، فقال : لا تسألني عن القرآن ، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء يعني عكرمة وحكى إبراهيم بن ميسرة أن طاوسا قال : لو أن مولى ابن عباس اتقى الله وكف من حديثه لشدت إليه المطايا.

وروى أبو خلف الجزار عن يحيى البكاء قال : سمعت ابن عمر يقول لنافع : اتق الله ، ويحك يا نافع ، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس.

وروي أن سعيد بن المسيب قال مثل ذلك لمولاه.

وروى ابن سعد : أن على بن عبد الله كان يوثقه على باب الكنيف ويقول : إن هذا يكذب على أبي.

ثم بعد ذلك كله يصورون للناس مبلغ كراهة معاصريه له فيقولون :

إنه مات هو وكثير عزة في يوم واحد ، فلم يشهد جنازته أحد ، أما كثير فقد شيعه خلق كثير (٢).

وهذه التهم فيها كثير من المبالغة ، حتى إن عكرمة نفسه كانت تصله فيتألم ، فقد روى حماد بن زيد عن أيوب أنه قال : قال عكرمة : رأيت هؤلاء الذين يكذبونني ، يكذبونني من خلفي ، أفلا يكذبونني في وجهي؟ فإذا كذبوني في وجهي فقد والله كذبوني. ثم نراه

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٢ / ٤٢٤) كتاب الدعوات باب ما يكره من السجع (٦٣٣٧).

(٢) التفسير والمفسرون (١ / ١٠٩ ، ١١٠).

يستشهد ببعض أصحابه على صدقه فيما يروي عن مولاه ، فعن عثمان بن حكيم قال : كنت جالسا مع أبي أمامة سهل بن حنيف ، إذ جاء عكرمة فقال : يا أبا أمامة ، أذكرك الله ، هل سمعت ابن عباس يقول : ما حدثكم عكرمة عني فصدقوه فإنه لم يكذب علي؟ فقال أبو أمامة : نعم.

هذا هو رد عكرمة على متهميه بالكذب ، وتفنيده لما نسب إليه من الافتراء على مولاه (١).

ثم إن كثيرا من التهم ردها علماء موثوق بهم كابن حجر ، وشهد له بعضهم وأنصفوه.

٤ ـ طاوس بن كيسان اليماني

طاوس بن كيسان اليماني الجندي ـ بفتح الجيم والنون ـ الإمام العلم ، قيل : اسمه ذكوان ؛ قاله ابن الجوزي ، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت ، وزيد ابن أرقم ، وجابر ، وابن عمرو ، وأرسل عن معاذ.

قال طاوس : أدركت خمسين من الصحابة.

وروى عنه مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، وحبيب بن أبي ثابت ، والزهري ، وأبو الزبير ، وعمرو بن دينار ، وسليمان الأحول وخلق.

قال ابن عباس : إني لأظن طاوسا من أهل الجنة.

وقال عمرو بن دينار : ما رأيت مثله.

وقال ابن حبان : حج أربعين حجة ، وكان مستجاب الدعوة.

قال ابن القطان : مات سنة ست ومائة ، وقال بعضهم : يوم التروية ، وصلى عليه هشام ابن عبد الملك ووثقه ابن معين وغيره.

مكانته في التفسير :

بلغ طاوس من العلم مبلغا عظيما ، وكان واثقا من علمه هذا ، وكان من الورع والأمانة حتى شهد له بذلك أستاذه ابن عباس فقال فيه ما أشرنا إليه منذ قليل : إني لأظن طاوسا من أهل الجنة ، وقال فيه عمرو بن دينار : ما رأيت أحدا مثل طاوس ، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة ، وقال ابن معين : إنه ثقة.

وقد أدرك طاوس جماعة من الصحابة وروى عنهم ، وروايته عن ابن عباس أكثر وأخذ

__________________

(١) السابق (١ / ١١٠ ، ١١١).

عنه التفسير أكثر من غيره ؛ ولهذا عد من تلاميذه ، وجاء ذكره في مدرسة مكة.

والتفسير المأثور عنه قليل جدّا ، ومعظمه يرويه عن ابن عباس ، ولقلة التفسير المأثور عنه وطول باعه في الفقه ، قالوا عنه : إنه فقيه لا مفسر ، وعده علماء الفقه فقيها (١).

٥ ـ عطاء بن أبي رباح :

عطاء بن أبي رباح القرشي ، مولاهم أبو محمد الجندي اليماني ، نزيل مكة وأحد الفقهاء والأئمة ، روى عن عثمان وعتاب بن أسيد مرسلا ، وعن أسامة بن زيد ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وأم سلمة ، وعروة بن الزبير ، وطائفة ، وروى عنه أيوب وحبيب بن أبي ثابت ، وجعفر بن محمد ، وجرير بن حازم ، وابن جريج ، وخلق.

قال ابن سعد : كان ثقة عالما كثير الحديث ، انتهت إليه الفتوى بمكة.

وقال أبو حنيفة : ما لقيت أفضل من عطاء.

وقال ابن عباس ـ وقد سئل عن شيء ـ : يا أهل مكة تجتمعون علي وعندكم عطاء.

وقيل : إنه حج أكثر من سبعين حجة.

قال حماد بن سلمة : حججت سنة مات عطاء سنة أربع عشرة ومائة.

مكانته في التفسير :

لم يكن عطاء مكثرا من رواية التفسير عن ابن عباس ، كما كان مقلّا في التفسير بالرأى ، ويرجع ذلك إلى تحرجه من القول بالرأي.

يقول الدكتور الذهبي : وإذا نحن تتبعنا الرواة عن ابن عباس نجد أن عطاء بن أبي رباح لم يكثر من الرواية عنه كما أكثر غيره ، ونجد مجاهدا وسعيد بن جبير يسبقانه من ناحية العلم بتفسير كتاب الله ، ولكن هذا لا يقلل من قيمته بين علماء التفسير ، ولعل إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي ، فقد قال عبد العزيز بن رفيع : سئل عطاء عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل له : ألا تقول فيها برأيك؟ قال : إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي (٢).

وبعد : فهذه هي مدرسة التفسير في مكة التي كان لها الأثر الكبير في نشأة علم التفسير

__________________

(١) ينظر : تهذيب الكمال (١٣ / ٣٥٧) ، وسير أعلام النبلاء (٥ / ٣٨) ، وتذكرة الحفاظ (١ / ٩٠) ، وشذرات الذهب (١ / ١٣٣).

(٢) التفسير والمفسرون (١ / ١١٥).

وتطوره ونشره في داخل مكة وخارجها ، فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الري ، نشر فيها الكثير من العلم (١) ، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكة ، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم ابن عباس وتفسيره ، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الإسلامية شرقا وغربا ، حيث رحل إلى خراسان واليمن والعراق والشام ومصر والحرمين (٢).

ثانيا : المدرسة المدنية :

هذه المدرسة لم يكن لها إسهام وافر في مجال تفسير القرآن الكريم بالرأي ؛ إذ التزم أصحابها السماع والرواية في تفسيرهم ، ومن هنا لم تضف هذه المدرسة لونا عقليّا تتميز به كما أضافت مدرسة مكة التي تحدثنا عنها قبل قليل ، أو مدرسة العراق التي سنتحدث عنها فيما بعد ، بل بقيت ثقافتها معتمدة على الوحي : الكتاب والسنة ، والإلمام بمواضع نزول الوحي وأوقاته ، والإحاطة بأسباب النزول ، وأحوال الذين نزل القرآن فيهم (٣).

ولكن هذا لا ينفي ما قام به زيد بن أسلم في مجال التفسير بالرأي حتى قال عنه عبيد الله بن عمر : «لا أعلم به بأسا إلا أنه يفسر القرآن برأيه ويكثر منه» (٤).

وهذا الحكم لا يعد مغمزا في زيد وثقته وعدالته ، أو طعنا في دينه وعلمه ؛ فلم يوجد من العلماء من نسبه إلى أحد المذاهب المبتدعة ، ويدل على توثيقه وعدالته أنه جلس إليه علماء كثيرون منهم علي بن الحسين زين العابدين ، ولما سئل عن هذا قال : «إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه» (٥).

وأستاذ هذه المدرسة ومؤسسها الأول أبي بن كعب ، وعنه أخذ أعلام المدرسة المدنية من التابعين ، لكن لم يكن أخذهم عنه وحده ، بل أخذوا كذلك عن أبي بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب كذلك ، ولكن ليس بدرجة أخذهم عن أبي بن كعب.

وقد اشتهر من أعلام هذه المدرسة في التفسير ثلاثة أو أربعة ، وهم : زيد بن أسلم ، وأبو العالية ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن كعب القرظي ، وسنقوم بترجمة كل واحد منهم.

__________________

(١) ينظر : حبر الأمة عبد الله بن عباس ص ١٤٥.

(٢) ينظر : وفيات الأعيان (١ / ٣١٩) ، والبداية والنهاية (٩ / ٢٥٤) ، ومعجم الأدباء (١٢ / ١٨١).

(٣) ينظر : أبي بن كعب ـ الرجل والمصحف للشحات زغلول (الهيئة المصرية العامة للكتاب ١٩٧٨ م) ص ٥٧ ، ٥٨.

(٤) تهذيب التهذيب (٣ / ٣٩٦) ، وميزان الاعتدال للذهبي (٢ / ٩٨).

(٥) تهذيب التهذيب (٣ / ١٩٧) ، والعبر في خبر من غبر للذهبي ، تحقيق : فؤاد سيد (الكويت ، ١٩٦١ م) (٦ / ١٨٣).

أعلام المدرسة المدنية :

١ ـ زيد بن أسلم :

زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني أحد الأعلام ، روى عن أبيه ، وابن عمر ، وجابر ، وعائشة في «أبو داود» وأبي هريرة في الترمذي ، وقال ابن معين : لم يسمع منه ولا من جابر ، وروى عنه بنوه ، وداود بن قيس ، ومعمر ، وروح بن القاسم.

قال مالك : كان زيد يحدث من تلقاء نفسه ، فإذا قام فلا يجترئ عليه أحد ، وثقه أحمد ويعقوب بن شيبة ، مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة.

٢ ـ أبو العالية :

رفيع ـ بضم أوله مصغرا ـ ابن مهران الرياحي ـ بكسر المهملة ـ مولاهم أبو العالية البصري مخضرم إمام من الأئمة ، صلى خلف عمر ، ودخل على أبي بكر ، روى عن أبي ، وعلي ، وحذيفة ، وخلق ، وروى عنه قتادة ، وثابت ، وداود بن أبي هند بصريون ، وخلق.

قال عاصم الأحول : كان إذا اجتمع عليه أكثر من أربعة قام وتركهم.

قال مغيرة : أول من أذن بما وراء النهر أبو العالية.

قال أبو خلدة : مات سنة تسعين ، وهو الصحيح.

٣ ـ سعيد بن المسيب :

سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن مخزوم المخزومي أبو محمد المدني الأعور ، رأس علماء التابعين وفردهم وفاضلهم وفقيههم ، ولد سنة خمس عشرة ، روى عن عمر في الأربعة ، وأبي ، وأبي ذر ، وأبي بكرة في ابن ماجه ، وعلي ، وعثمان ، وسعد في البخاري ومسلم ، وطائفة ، وروى عنه الزهري وعمرو ابن دينار وقتادة وبكير بن الأشج ويحيى بن سعيد الأنصاري وخلق.

قال قتادة : ما رأيت أعلم بالحلال والحرام منه.

وقال أحمد : مرسلات سعيد صحاح.

سمع من عمر ، وقال مالك : لم يسمع منه ، ولكنه أكب على المسألة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه.

وقال أبو حاتم : هو أثبت التابعين في أبي هريرة.

قال أبو نعيم : مات سنة ثلاث وتسعين ، وقال الواقدي : سنة أربع.

٤ ـ محمد بن كعب القرظي :

محمد بن كعب القرظي المدني ثم الكوفي أحد العلماء ، روى عن أبي الدرداء مرسلا ، وعن فضالة بن عبيد ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وروى عنه ابن المنكدر ، ويزيد بن الهاد ، والحكم بن عتيبة.

قال ابن عون : ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي.

وقال ابن سعد : كان ثقة ورعا كثير الحديث.

قيل : مات سنة تسع عشرة ومائة ، وقيل : سنة عشرين.

ثالثا : المدرسة العراقية :

من المدارس التي أصبحت لها قيمتها العلمية مدرسة العراق ، وكان تلاميذ هذه المدرسة منهم من كان ببغداد ، ومنهم من كان بالكوفة ، ومنهم من كان بالبصرة ، وأستاذ هذه المدرسة الأكبر هو : عبد الله بن مسعود ، حيث ولى سيدنا عمر عمار بن ياسر على الكوفة وسير معه عبد الله بن مسعود معلما ، ووزيرا ، وقد شرب من علمه أهل العراق عللا بعد نهل ، وأصبحوا متأثرين بطريقته في الاجتهاد في الفقه ، والأحكام ، والتفسير ، وهي حرية الرأي في الاجتهاد ، وحسن التصرف في النصوص ، وعدم الجمود عليها (١).

وقد روي عن مسروق أنه قال : وجدت علم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى إلى ستة : عمر ، وعلي ، وأبي ، وزيد ، وأبي الدرداء ، وعبد الله بن مسعود ، ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى اثنين : علي ، وعبد الله ؛ يعني ابن مسعود.

وفي رواية أخرى : ذكر أبا موسى بدل أبي الدرداء (٢).

وأهم سمة تميز مدرسة العراق شيوع طريقة الاستدلال فيها ؛ لأن أهل العراق عرفوا بأنهم أهل رأي ، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد الله بن مسعود (٣).

فالحسن البصري مثلا يعمل فكره ورأيه في فهم القرآن ، فيقول في تفسير قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] : «إن الله لم يجعل لأهل النار مدة ، بل قال : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) ، فو الله ما هو إلا أنه : إن انقضى حقب دخل آخر إلى الأبد ، فليس للأحقاب عدة

__________________

(١) الإسرائيليات والموضوعات ص ٩٨.

(٢) ينظر : السابق (ص ٩٩).

(٣) التفسير والمفسرون (١ / ١٢٠).

إلا الخلود ، وهو في هذا التفسير يهتدي بابن مسعود ؛ إذ يروى عنه أنه قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصا الدنيا لفرحوا ، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصا الدنيا لحزنوا» (١).

وليس معنى هذا أن تلاميذ هذه المدرسة أهملوا الرواية ، فقتادة نفسه روى عن السلف إلى جانب تفسيره بالرأي ، فهو يفسر الحكمة في قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩] بأنها علم القرآن ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه وأمثاله (٢).

أعلام المدرسة العراقية :

١ ـ علقمة بن قيس :

علقمة بن قيس بن عبد الله بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخع النخعي أبو شبل الكوفي ، أحد الأعلام مخضرم ، روى عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وطائفة ، وروى عنه إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وسلمة ابن كهيل ، وخلق.

وقال ابن المديني : أعلم الناس بابن مسعود علقمة والأسود.

قال ابن سعد : مات سنة اثنتين وستين ، وقال أبو نعيم : سنة إحدى وستين ، قيل : عن تسعين سنة.

٢ ـ مسروق

مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي الإمام القدوة ، روى عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، ومعاذ ، وطائفة. وروى عنه زوجته قمير ، وأبو وائل ، والشعبي ، وخلق ، وأرسل عنه مكحول.

قال أبو إسحاق : حج مسروق فما نام إلا ساجدا على وجهه.

وقال ابن المديني : صلى خلف أبي بكر.

وقال ابن معين : ثقة لا يسأل عن مثله.

وقال ابن سعد : توفي سنة ثلاث وستين.

__________________

(١) البغوي : معالم التنزيل (طبعة المنار) (٢ / ٤٤ ، ٤٥).

(٢) السابق ، الصفحة نفسها.

٣ ـ عامر الشعبي

عامر بن شراحيل الحميري الشعبي أبو عمرو الكوفي ، الإمام العلم ، ولد لست سنين خلت من خلافة عمر ، روى عنه وعن علي ، وابن مسعود ، ولم يسمع منهم ، وعن أبي هريرة ، وعائشة ، وجرير ، وابن عباس وخلق.

قال : أدركت خمسمائة من الصحابة.

وروى عنه ابن سيرين ، والأعمش ، وشعبة ، وجابر الجعفي ، وخلق.

قال أبو مجلز : ما رأيت فيهم أفقه من الشعبي.

وقال العجلي : مرسل الشعبي صحيح.

وقال ابن عيينة : كانت الناس تقول : ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه.

وقال يحيى بن بكير : توفي سنة ثلاث ومائة.

٤ ـ الحسن البصري

الحسن بن أبي الحسن البصري مولى أم سلمة والربيع بنت النضر أو زيد بن ثابت ، أبو سعيد الإمام ، أحد أئمة الهدى والسنة ، رمي بالقدر ، ولا يصح ، روى عن جندب ابن عبد الله ، وأنس ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومعقل بن يسار ، وأبي بكرة ، وسمرة.

قال سعيد : لم يسمع منه وأرسل عن خلق من الصحابة ، وروى عنه أيوب ، وحميد ، ويونس ، وقتادة ، ومطر الوراق ، وخلائق.

قال ابن سعد : كان عالما جامعا رفيعا ثقة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما ، ما أرسله فليس بحجة ، وكان الحسن شجاعا من أشجع أهل زمانه ، وكان عرض زنده شبر.

قال ابن علية : مات سنة عشر ومائة ، قيل : ولد سنة إحدى وعشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر.

قال أبو زرعة : كل شيء قال الحسن : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وجدت له أصلا مليّا خلاف أربعة أحاديث.

٥ ـ قتادة

قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري الأكمه ، أحد الأئمة الأعلام ، حافظ مدلس ، روى عن أنس ، وابن المسيب ، وابن سيرين ، وخلق ، وروى عنه أيوب ،

وحميد ، وحسين المعلم ، والأوزاعي ، وشعبة ، وعلقمة ، قال ابن المسيب : ما أتانا عراقي أحفظ من قتادة.

وقال ابن سيرين : قتادة أحفظ الناس.

وقال ابن مهدي : قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد.

قال حماد بن زيد : توفي سنة سبع عشر ومائة ، وقد احتج به أرباب الصحاح.

٦ ـ الأسود بن يزيد

الأسود بن يزيد بن قيس النخعي ، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن الكوفي ، مخضرم فقيه ، روى عن ابن مسعود ، وعائشة ، وأبي موسى ، وطائفة. وروى عنه إبراهيم النخعي ، وابنه عبد الرحمن ، وأبو إسحاق ، وعمارة بن عمير ، وطائفة.

وثقه ابن معين والناس ، قال إبراهيم : كان يختم في كل ليلتين ، وروي أنه حج ثمانين حجة. توفي سنة أربع أو خمس وسبعين.

٧ ـ مرة الهمداني

مرة بن شراحيل الهمداني ، أبو إسماعيل الكوفي العابد ، مرة الطيب ، ومرة الخير ، روى عن أبي بكر وعمر وجماعة. وروى عنه الشعبي ، وطلحة بن مصرف ، وطائفة.

وثقة ابن معين ، وقال الحارث الغنوي : سجد حتى أكل التراب جبهته.

قال ابن سعد : توفي بعد الجماجم.

وقيل : سنة ست وسبعين.

ومن خلال دراسة المدارس الثلاثة الرئيسية يمكننا القول بأنها تقوم في مجملها على الرواية ، وأن التفسير بالرأي لم يكن سائدا في هذه المرحلة المبكرة ، غير أن الذين جاءوا من بعد توسعوا في التفسير بالرأي ؛ بناء على البذور التي بذرها أعلام هذه المدارس من التفسير بالرأي ، وبخاصة مدرسة العراق التي كانت أوسع المدارس التفسيرية اتجاها إلى الرأي واستخدام العقل في التفسير.

ولقد كان لهذه المدارس دور مؤثر في نشأة التفسير وتطويره ونشره ، مما كان له أبعد الأثر على هذا العلم في العصور التالية ، وما زلنا حتى اليوم نغترف من فيض أعلام هذه المدارس.

الفصل الثالث

المناهج التفسيرية بين القديم والحديث

لقد أجمع علماء التفسير منذ القديم ـ فيما نقله الزركشي ـ على شروط كثيرة لا بد من مراعاتها عند تفسير القرآن الكريم أجملوها في أربعة شروط هي :

أولا : الأخذ بما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحاديث في التفسير.

ثانيا : الأخذ بقول الصحابي ، وخاصة فيما لا مجال للاجتهاد فيه : كالأمور الغيبية ، والناسخ والمنسوخ.

ثالثا : الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى غير معناها الحقيقي ، أو إلى غير مرادها.

رابعا : الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع (١).

واستمر العمل بهذا المنهج كحد يعرف به الرأي الممدوح من الرأي المذموم إلى أواخر القرن التاسع عشر ، حيث سادت العالم مناهج جديدة ، ومع مرور الزمن وتغلغل هذه المناهج وتمكنها من عقول بعض المفكرين داخل العالم الإسلامي ـ ظهرت مدرسة فكرية حديثة تدعو إلى تجديد فهم القرآن فهما عصريّا ، متبنية في ذلك ما توصل إليه العقل البشري من مناهج وعلوم ـ وخاصة الغربية ـ على رأسها علم الألسنية الحديثة وغيره. وكان من أهم آراء المدرسة الفكرية الحديثة الدعوة صراحة إلى تجاوز كل الأدوات المنهجية التراثية ؛ لأنها ـ حسب رأيها ـ تمثل فترة زمنية معينة ، ثم تبنيها الأدوات المنهجية المعاصرة ، مثل المنهج التاريخي ، والمنهج البنيوي ، والمنهج الجدلي وغيرها (٢).

وفي هذا الفصل محاولة لدراسة أهم مناهج التفسير في القديم والحديث ، وبيان أهم ما يميز هذه المناهج وما يعتورها من قصور ، وذلك على النحو التالي :

أولا : مناهج التفسير في القديم

بعد التابعين ، وقيام المدارس التفسيرية ، ظهرت مؤلفات في التفسير مستقلة ؛ حيث

__________________

(١) ينظر : الزركشي : البرهان في علوم القرآن (٢ / ١٥٦ ـ ١٦١).

(٢) ينظر : الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم ـ أبو القاسم حاج حمد نموذجا (بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر ، العدد ١٠١ ، السنة ٢٦ ، ربيع الثاني ١٤٢٢ ه‍ ـ يولية ٢٠٠١) ص (١٣ ، ١٤).

كان التفسير من قبل جزءا من الحديث ، وكان التفسير يقوم على الأسانيد ، فجاء مفسرون كثيرون في حوالي القرن الخامس الهجري فاختصروا الأسانيد ، ونقلوا الأقوال من غير أن يعزوها إلى قائليها ، ومن ثم كثر الدخيل في التفسير ، ثم إن التفسير غلب عليه التأويل والتفسير الاجتهادي لعلماء برعوا في بعض العلوم ، وبرزوا فيها ، ومنهم من هم من أهل السنة والجماعة ، ومنهم من هم من أهل الزيغ والابتداع ، فصار كل واحد منهم يميل بالتفسير إلى إبراز ما برع فيه ، فالنحوي ليس له هم إلا الإعراب وذكر الأوجه المحتملة في الآية ، والأخباري ليس له هم إلا ذكر القصص واستيفاؤها عمن مضى من الأنبياء والأمم والملوك ، وذكر ما يتعلق بالنقد والملاحم وأحوال الآخرة ، والفقيه يكاد يسرد فيه مسائل الفقه جميعها ، وكثيرا ما يستطرد إلى إقامة الأدلة ، وبيان منشأ الخلاف إلى غير ذلك مما لا تعلق له بالآية ، وصاحب العلوم العقلية قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها ، ويخرج من شيء إلى شيء ، ويستطرد ثم يستطرد حتى ينسى الإنسان أنه في كتاب تفسير ، ويخيل إليه أنه يقرأ كتابا من كتب الكلام ، وأصحاب المذاهب المبتدعة قد نحوا بالتفسير ناحية مذاهبهم كالشيعة والمعتزلة والباطنية والروافض وغيرهم (١).

ورغم هذا التعدد في الاتجاهات حول تفسير القرآن الكريم فإنه يمكننا أن نقول : إن مناهج التفسير القديمة تذهب في اتجاهات ثلاثة :

الاتجاه الأول : منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور.

والاتجاه الثاني : منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي.

والاتجاه الثالث : التفسير الإرشادي وغرائب التفسير.

وفي الصفحات التالية نلقي الضوء على هذه المناهج ، ببيان أهم ما يميز كل منهج ومميزاته ، وأوجه القصور فيه.

١ ـ منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور

التفسير بالمأثور هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة بيانا لمراد الله تعالى من كتابه ، فالتفسير بالمأثور إما أن يكون تفسير القرآن بالقرآن أو تفسير القرآن بالسنة النبوية ، أو تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة (٢) ، وبعضهم أدرج في التفسير بالمأثور

__________________

(١) ينظر : محمد بن محمد أبي شهبة : الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص (١٠٤ ـ ١١٠).

(٢) ينظر : الزرقاني ، مناهل العرفان في علوم القرآن ص ١٢ ، ومحمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن (٢ / ٦٣).

أقوال التابعين (١).

يقول الدكتور الذهبي : وإنما أدرجنا في التفسير بالمأثور ما روي عن التابعين ـ وإن كان فيه خلاف : هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي ـ لأنا وجدنا كتب التفسير بالمأثور : كتفسير ابن جرير وغيره ، لم تقتصر على ذكر ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما روي عن أصحابه ، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير (٢).

وعلى هذا ، فمصادر التفسير بالمأثور أربعة : القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، وأقوال الصحابة ، وأقوال التابعين.

المصدر الأول : القرآن الكريم :

يطلب تفسير القرآن العظيم أول ما يطلب من القرآن نفسه فحيثما ظفرنا بطلبنا في ذلك من القرآن لم يجز أن نعدل عنه إلى غيره بوجه من الوجوه ؛ وذلك لأمور أربعة كلها من البدهيات المسلمة من كافة من يعتبرون من أهل الإيمان ، بل من العقلاء.

أحدها : أن صاحب البيت أدرى بالذي فيه ، وأن خير من يفسر القول بالتالي هو قائله بنفسه.

ثانيها : أن من المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن هو المصدر الأول والدعامة الرئيسية التي يقوم عليها بنيان شريعة الإسلام ، بحيث لا يمكن أن يتم الإيمان بهذه الشريعة إلا بعد الأخذ بمحتوى هذا المصدر والإذعان لجميعه جملة وتفصيلا.

وثالثها : أن ذلك ولا ريب هو من جملة مقتضى الأوامر الإلهية الموجبة لطاعته تعالى فيما تنازعنا فيه فضلا عما اتفقنا عليه من أمثال قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩].

رابعها : كون القرآن كلام رب العالمين أفضل كل قول وأحسن كل حديث ؛ فلا يعدل عن الأفضل ما أمكن إلى المفضول ، وأنه معجزة بجملته وتفصيله بلفظه ومعناه ، بهدفه وغايته إلى غير ذلك من عظيم خصائصه وكريم فضائله ، فكيف يدعه العاقل إلى ما دونه في جميع ذلك؟!

لجميع هذه الأسباب وغيرها رأينا أهل الحق لا يطلبون تفسير القرآن من غيره ما

__________________

(١) د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٥٤).

(٢) السابق : الصفحة نفسها.

أتيحت لهم سبيل إلى نيل بغيتهم منه ، ومما لا ريب فيه أن الناظر في كتاب الله تعالى يجد فيه ألوانا شتى من تفسير بعضه لبعض ، فقد نرى ما أوجز منه في مكان قد بسط في مكان آخر كما ترى منه العام الذي جاء فيه تخصيصه ، والمطلق الذي وقع فيه تقييده ، والمجمل الذي حصل فيه بيانه ، والمبهم الذي ذكر فيه تفسيره (١).

هذا ، وقد ذكرنا في الفصل الأول من هذه الدراسة نماذج لتفسير القرآن بالقرآن ، وغيرها كثير يعلم بالتدبر في كتاب الله.

المصدر الثاني : السنة المطهرة :

سبقت الإشارة إلى أنه إن لم يتهيأ لنا الظفر بالبغية في القرآن اتجهنا مباشرة ـ كما فعل السلف ـ إلى السنة الصالحة للحجية ، أي : الثابتة بطريق صحيح أو حسن ، لا يقدم في ذلك غيرها عليها بحال من الأحوال ، انطلاقا من المسلمات الأربع التي سبق أن ذكرناها.

المصدر الثالث : أقوال الصحابة :

إن أعيانا البيان من القرآن الكريم وثابت السنة المطهرة تطلبناه في أقوال الصحابة عليهم الرضوان ، وقد أطلق الحاكم في المستدرك : أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي ، له حكم المرفوع ، فكأنه رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعزا هذا القول للشيخين حيث يقول في المستدرك : «ليعلم طالب الحديث أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ـ عند الشيخين ـ حديث مسند».

ولكن قيد ابن الصلاح والنووي وغيرهما هذا الإطلاق بما يرجع إلى أسباب النزول ، وما لا مجال للرأي فيه ، قال ابن الصلاح في مقدمته : «ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي ، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا مدخل للرأي فيه ؛ كقول جابر ـ رضي الله عنه ـ : كانت اليهود تقول : من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله عزوجل : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...)(٢) [البقرة : ٢٢٣] الآية ، فأما سائر تفاسير الصحابة التي

__________________

(١) ينظر : د. إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : الدخيل في التفسير ، الجزء الأول (مطبعة دار البيان بمصر ١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ م) (ص ٢٣ ، ٢٤).

(٢) أخرجه البخاري (٩ / ٤٦) كتاب التفسير باب (نساؤكم حرث لكم ..) (٤٥٢٨) ، ومسلم (٢ / ١٠٥٨) كتاب النكاح باب جواز جماع امرأته في قبلها (١١٧ / ١٤٣٥) ، والحميدي (١٢٦٣) والترمذي (٥ / ٨٦) كتاب التفسير باب (ومن سورة البقرة) (٢٩٧٨) ، وأبو داود (١ / ٦٥٦) كتاب النكاح باب في جامع النكاح (٢١٦٣) ، وابن ماجه (٣ / ٣٥٩) كتاب النكاح باب النهي عن إتيان ـ

لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعدودة في الموقوفات» (١).

والحق أن قول الصحابي يكون في حكم المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان قوله فيما لا مجال للرأي فيه ، ولم يكن قائله معروفا بالأخذ عن بني إسرائيل ، أو كان ولكن مرويه مما لا صلة له بما لدى بني إسرائيل ، فالواجب أن نأخذ بهذا القول أخذنا بالمرفوع بلا أدنى فرق ؛ انطلاقا في ذلك من عين المسلمات الأربع التي ينطلق أهل الحق في أخذهم بالمرفوع منها.

فإن لم يتوفر الثابت من مأثور الصحابة بأن اختل فيه الشرطان الآنفان أحدهما أو كلاهما ، لم يخل أمر ذلك المأثور عندهم من إحدى أحوال أربع :

أولاها : أن يعرف كونه محلّا لإجماع الصحابة وأنه لم يشذ عن القول به أحد منهم.

الثانية : أن يعرف كونه مجالا لاختلافهم اختلافا تضل معه الفكرة ، ولا يهتدى فيه إلى الصواب في غالب الظن.

الثالثة : أن يكون كسابقه ولكن مع تبين وجه الصواب منه وترجحه في غالب الظن.

الرابعة : ألا يعرف فيه إجماع منهم ولا اختلاف ، وإنما غاية الأمر فيه أنه أثر عن الواحد أو الاثنين مثلا دون أن يبلغنا عن أحد من الصحابة ما يخالفه أو ما يوافقه.

فإن كانت الحال الأولى فيما ثبت من مأثور الصحابة ، وجب عند القوم الأخذ بمقتضاه كسوابقه من الكتاب والسنة المرفوعة وما له حكم المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقوالهم في تفسير القرآن المجيد ؛ لأجل الإجماع ؛ انطلاقا في ذلك من مسألتين اثنتين :

أولاهما : ما اشتهر واستفيض عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عصمة أمته ـ أي : في كل عصر من عصورها ـ من أن تجتمع على خطأ أو ضلالة.

الثانية : أن الإجماع كما هو معلوم لا بد أن يكون له مستند من الكتاب أو السنة الصالحة للحجية ، فالأخذ بالمجمع عليه إذن هو أخذ في ذات الوقت بمستند الإجماع ، وانطلاقا من عين المسلمات المناسبة له ، أعني : أنه إن كان مستند إجماع الصحابة هو الكتاب ، فالأخذ بمقتضى إجماعهم حينئذ فوق كونه انطلاقا من المسلمة السابقة هو في ذات الوقت

__________________

ـ النساء في أدبارهن (١٩٢٥) ، وأبو يعلى (٢٠٢٤) ، والطحاوي في شرح المعاني (٣ / ٤٠ ، ٤١) وفي شرح المشكل (٦١١٩) ، وابن حبان (٤١٦٦) و (٤١٩٧) ، والطبراني في الأوسط (٥٧٥) و (٨٠٣١) ، وأبو نعيم في الحلية (٣ / ١٥٤) ، والبيهقي (٧ / ١٩٤ ، ١٩٥).

(١) د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٩٤).

أخذ كذلك بمقتضى الكتاب وانطلاق من عين المسلمات التي أسلفنا لك عند القول فيه ، وهكذا فقل في السنة على ما هو في غاية الظهور ، فهذه هي الحال الأولى لما ليس له حكم المرفوع من مأثور الصحابة ، عليهم الرضوان.

وأما الحال الثانية لذلك وهي : أن يقع منهم الاختلاف فيه على وجه لا يتبين معه الصواب في قوله هذا أو ذاك ، فإن أهل السنة لا يلتفتون إلى مأثور الصحابة في مثل هذه الحال ؛ لعدم الجدوى بالكلية فيما لا يتبين وجه الصواب فيه كما هو جلي.

وأما الحالان الباقيان لذلك بألا يصل اختلافهم فيه إلى خفاء وجه الصواب منه ، أو يثبت عن أحدهم الأثر دون أن يعرف إجماع منهم عليه ولا اختلاف فيه ـ فإنه يترجح عند أهل السنة في هاتين الحالين الأخذ بمقتضى مأثور الصحابة في تفسيرهم ؛ انطلاقا منهم في ذلك ـ أيضا ـ من مسلمات ثلاث :

إحداها : أن هؤلاء الصحابة ينبغي أن يكونوا خير الناس معرفة بهذا التنزيل المجيد من جهة أن أكثرهم عرب خلص ؛ فينبغي التحاكم إليهم فيما هو بلسانهم عربي مبين غير ذي عوج.

الثانية : أن أكثرهم كذلك حضروا الوحي ، وشهدوا وقائع التنزيل فينبغي أن ينتهي الأمر إليهم فيما يمكن أن يكونوا قد حضروه ، وشهدوا وقائعه.

الثالثة : أن لهم فوق هذا كله من الفهم التام والعلم الصحيح ما ليس لسواهم ، فهم أحق إذن أن يؤخذ بفهمهم وعلمهم (١).

ومن هذا يتبين :

أولا : تفسير الصحابي له حكم المرفوع ، إذا كان مما يرجع إلى أسباب النزول ، وكل ما ليس للرأي فيه مجال ، أما ما يكون للرأي فيه مجال ، فهو موقوف عليه ما دام لم يسنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثانيا : ما حكم عليه بأنه من قبيل المرفوع لا يجوز رده اتفاقا ، بل يأخذه المفسر ولا يعدل عنه إلى غيره بأية حال.

ثالثا : ما حكم عليه بالوقف ، تختلف فيه أنظار العلماء :

فذهب فريق : إلى أن الموقوف على الصحابي من التفسير لا يجب الأخذ به ؛ لأنه لما

__________________

(١) د. إبراهيم عبد الرحمن خليفة : الدخيل في التفسير ص ٢٧ ـ ٣٠.

لم يرفعه ، علم أنه اجتهد فيه ، والمجتهد يخطئ ويصيب ، والصحابة في اجتهادهم كسائر المجتهدين.

وذهب فريق آخر إلى أنه يجب الأخذ به والرجوع إليه ؛ لظن سماعهم له من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنهم إن فسروا برأيهم فرأيهم أصوب ؛ لأنهم أدرى الناس بكتاب الله ؛ إذ هم أهل اللسان ، ولبركة الصحبة والتخلق بأخلاق النبوة ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح ، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وغيرهم.

قال الزركشي في البرهان : «اعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل ، وقسم لم يرد ، والأول : إما أن يرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو الصحابة ، أو رءوس التابعين ، فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر في تفسير الصحابي : فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتماده ، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه ..... اه (١).

وقال الحافظ ابن كثير في مقدمة تفسيره : «إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة ؛ فإنهم أدرى بذلك ؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم : كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين ، والأئمة المهتدين المهديين ، وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهم (٢)».

المصدر الرابع : قول التابعي :

اختلف العلماء في تفسير التابعي :

فذهب بعض العلماء إلى أنه من المأثور ؛ لأنه تلقاه من الصحابة غالبا.

ومنهم من قال : إنه من التفسير بالرأي ، أي : له حكم بقية المفسرين الذين فسروا حسب قواعد اللغة العربية دون التزام بالمأثور (٣).

والخلاصة في هذا الخلاف : أنه إن ثبت عن التابعين فيه ـ أي التفسير ـ شيء : فإن

__________________

(١) ينظر : الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٨٣) ، ود. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ٩٥ ، ٩٦).

(٢) تفسير القرآن الكريم لابن كثير (١ / ٣).

(٣) الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ١٣) ، ومحمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ٦٦.

أجمعوا عليه أخذوا به ؛ لأجل الإجماع : انطلاقا في ذلك من عين المسلمتين اللتين ذكرناهما بالنسبة لإجماع الصحابة بل قل ذلك بالنسبة لكل إجماع أيضا.

فإن لم يكن إجماع فإنه ينظر : فإن توفر في قول أحدهم شرطان :

أحدهما : أن يكون له حكم المرفوع المرسل بأن كان فيما ليس للرأي فيه مجال ، ولم يكن قائله كذلك معروفا بالأخذ عن الإسرائيليات.

وثانيهما : أن يكون إماما من أئمة التفسير الآخذين لتفسيرهم عن الصحابة : كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، أو يتأيد قوله بمرسل آخر مثلهم أو نحو ذلك.

نقول : إن توفر في قول التابعي هذان الشرطان يترجح عند القوم الأخذ به.

وقد ذهب أكثر المفسرين : إلى أنه يؤخذ بقول التابعي في التفسير ؛ لأن التابعين تلقوا غالب تفسيراتهم عن الصحابة ، فمجاهد مثلا يقول : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته ، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. وقتادة يقول : ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا.

ولذا حكى أكثر المفسرين أقوال التابعين في كتبهم ونقلوها عنهم مع اعتمادهم لها.

والذي تميل إليه النفس : هو أن قول التابعي في التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه ، فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة ، فإن ارتبنا فيه ؛ بأن كان يأخذ من أهل الكتاب ، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه ، أما إذا أجمع التابعون على رأي فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره.

قال ابن تيمية : قال شعبة بن الحجاج وغيره : أقوال التابعين ليست حجة ، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني : أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح ، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن ، أو السنة ، أو عموم لغة العرب ، أو أقوال الصحابة في ذلك (١).

هذا هو الأصل في التفسير بالمأثور ، وما تحرر منه سبعة أمور :

أولها : ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن.

__________________

(١) ينظر : مقدمة في أصول التفسير ص (٢٨ ، ٢٩) والإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٧٩) ، والتفسير والمفسرون (١ / ١٢٩ ، ١٣٠).

ثانيها : ما كان تفسيرا للقرآن بالسنة الصالحة للحجية.

ثالثها : ما كان تفسيرا بما له حكم المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقوال الصحابة ، عليهم الرضوان.

رابعا : ما كان تفسيرا للقرآن بما أجمع عليه الصحابة أو التابعون.

وهذه الألوان الأربعة من التفسير يجب عند أهل الحق أخذها والتعويل عليها على هذا الترتيب الذي وقفناك عليه ، لكن بشرط ألا يتعارض أي منها تعارضا حقيقيّا يتعذر فيه الجمع مع المعقول القطعي ، فإن وقع مثل ذلك التعارض وجب تأويل المنقول وطرح ظاهره لأجل المعقول في جميع هذه الألوان.

خامسها : ما اختلف فيه الصحابة اختلافا لا يخفى معه وجه الصواب.

سادسها : ما لم يعرف فيه من مأثور الصحابة كذلك إجماع ولا اختلاف.

سابعها : ما كان له حكم المرفوع المرسل من مأثور التابعين ، واعتضد مع ذلك بمرسل آخر أو نحوه من شاهد أو تابع ، أو تحقق في قائله شرط الإمامة والأخذ لأغلب تفسيره عن الصحابة.

وهذه الثلاثة الأخيرة يترجح عند القوم الأخذ بها في التفسير ترجحا فحسب ، لكن يشترط ألا تتعارض مع معقول ولو ظنيّا ، وإلا طرحت بالكلية ، أو طرحت ظواهرها على أقل تقدير لأجل المعقول أيضا (١).

هذا : وقد تدرج التفسير بالمأثور في دورين : دور الرواية ، ودور التدوين.

أما في دور الرواية ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن ، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض ، ولمن جاء بعدهم من التابعين.

ثم وجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بمحض رأيه واجتهاده ، وكان ذلك على قلة يرجع السبب فيها إلى الروعة الدينية التي كانت لهذا العهد ، والمستوى العقلي الرفيع لأهله ، وتحدد حاجات حياتهم العملية ، ثم شعورهم مع هذا بأن التفسير شهادة على الله بأنه عنى باللفظ كذا.

ثم وجد من التابعين من تصدى للتفسير ، فروى ما تجمع لديه من ذلك عن رسول الله

__________________

(١) ينظر : د. إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : الدخيل في التفسير ص ٣٢ ، ٣٣.

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة ، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد ، بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة.

ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين وروت عنهم ما قالوا ، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض ... وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة ، وتروي الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها ، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

ثم ابتدأ دور التدوين ـ وهو ما يعنينا في هذا البحث ـ فكان أول ما دون في التفسير ، هو التفسير بالمأثور ، على تدرج في التدوين كذلك ، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا ، وقد رأينا أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون ـ على عادتهم ـ وضع كل علم لشخص بعينه ، يعدون واضع التفسير ـ بمعنى جامعه لا مدونه ـ الإمام مالك بن أنس الأصبحي ، إمام دار الهجرة.

وكان التفسير إلى هذا الوقت لم يتخذ له شكلا منظما ، ولم يفرد بالتدوين ، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة ، يجمعون فيه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة والتابعين.

ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث ، وأفرد بتآليف خاصة ؛ فكان أول ما عرف لنا من ذلك تلك الصحيفة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، ثم وجد بعد ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة ، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روق ، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.

ثم وجدت بعد ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير ، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وتابعيهم : كتفسير ابن جرير الطبري ، ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته ـ وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد ـ توسعوا في النقل وأكثروا منه ، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقا به.

كما يلاحظ أنه كان لا يزال موجودا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته ـ ممن أفردوا التفسير بالتأليف ـ رجال من المحدثين بوبوا للتفسير بابا ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث.

ثم وجد بعد هذا أقوام دونوا التفسير بالمأثور بدون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك ، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم بدون تفرقة بين الصحيح والعليل ؛ مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها ؛ لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق ، وهو

كثير في التفسير (١).

ومن المعلوم أن الشخص الذي يفسر نصّا من النصوص ، يتلون هذا النص بتفسيره إياه ، وينطبع بطابعه الخاص ، وفق قدرته الفكرية ، وسعة اطلاعه وأفقه العقلي غير أن هذا الطابع الشخصي الذي يطبع به التفسير ، إن ظهر جليّا واضحا في كتب التفسير بالرأي ، فإنا لا نكاد نجده لأول وهلة على هذا النحو من الوضوح والجلاء بالنسبة لكتب التفسير بالمأثور.

أسباب ضعف الرواية بالمأثور :

ذكرنا فيما تقدم أن تفسير بعض القرآن ببعض ، وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا شك في قبوله ، ولا خلاف في أنه من أعلى مراتب التفسير.

وأما تفسير القرآن بالمأثور عن الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه :

أولها : ما دسّه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس ، فقد أرادوا هدم هذا الدين المتين عن طريق الدس والوضع ، حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة ، وعن طريق الدليل والحجة.

ثانيها : ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجا لتطرفهم : كشيعة علي المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء ، ومثل أولئك المتزلفين للعباسيين فنسبوا إلى ابن عباس ما لم تصح نسبته إليه ، تملقا واستدرارا لدنياهم.

ثالثها : اختلاط الصحيح بغير الصحيح ، ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر ؛ مما أدى إلى التباس الحق بالباطل.

زد على ذلك أن هناك من يرى رأيا يعتمده دون أن يذكر له سندا ، ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلا ، ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية ، ولا من يرجع إليه القول.

رابعها : أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات ، ومنها كثير من الخرافات التي تصادم العقيدة الإسلامية ، والتي قام الدليل على بطلانها ، وهي مما دخل على المسلمين من أهل الكتاب (٢).

__________________

(١) ينظر : د. الذهبي : التفسير والمفسرون (١ / ١٥٤ ـ ١٥٦).

(٢) ينظر : الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٢٣ ، ٢٤) ، ومحمد علي الصابوني ، التبيان في علوم القرآن ص ٦٦ ، ٦٧.

وكلمة الإنصاف في التفسير بالمأثور أنه نوعان :

أحدهما : ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله ، وهذا لا يليق بأحد رده ، ولا يجوز إهماله وإغفاله ، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدي القرآن ، بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن.

ثانيهما : ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها ، وهذا يجب رده ، ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به ، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه على ضلاله وخطئه ، حتى لا يغتر به أحد.

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أهم كتب التفسير بالمأثور ، فقد دونت مؤلفات كثيرة تفسر القرآن بالمأثور ، منها :

تفسير الطبري ، وتفسير أبي الليث السمرقندي ، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ، وتفسير ابن كثير ، وتفسير البغوي ، وغيرها.

* * *

٢ ـ منهج التفسير بالرأي

بعد أن تحدثنا عن منهج تفسير القرآن الكريم بالمأثور وضوابطه ، ننتقل إلى منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي (الاجتهاد) أو التفسير بالمعقول.

وقد عرف الدكتور الذهبي التفسير بالرأي فقال : يطلق الرأي على الاعتقاد ، وعلى الاجتهاد ، وعلى القياس ، ومنه أصحاب الرأي ، أي : أصحاب القياس.

والمراد بالرأي هنا الاجتهاد ، وعليه فالتفسير بالرأي : عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة المفسر لكلام العرب ومناحيهم في القول ، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالتها ، واستعانته في ذلك بالشعر الجاهلي ووقوفه على أسباب النزول ، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن ، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسر (١).

والناظر في هذا التعريف يجده ـ على حد قول المناطقة ـ غير جامع ، وغير مانع ؛ ذلك أن التفسير بالرأي أوسع دائرة مما ذكر الدكتور الذهبي ؛ إذ هو قسمان : محمود ومذموم ، وهو ذكر المحمود دون المذموم.

ومن ثم فإن تعريف التفسير بالرأي هو تفسير القرآن الكريم بمطلق الاجتهاد ، سواء توافر لهذا الاجتهاد شرطه أم لا ، أو أن يكون مصحوبا بحسن قصد أم لا ، إلى آخر ما هنالك من الاحتمالات التي تعتور الاجتهاد (٢).

موقف العلماء من التفسير بالرأي :

اتفق العلماء المخلصون على أن تفسير القرآن بالرأي المذموم ممتنع وحرام ، بل كفر صريح إن تعمد فاعله سوء القصد ؛ لأنه كذب متعمد على الله تعالى وحكم عليه بما يعلم صاحبه أنه خلاف مراده تعالى ، ولا نحسب أن أحدا من أهل الإسلام يمكن أن يمتري في هذه القضية.

وإنما وقع الخلاف بين العلماء في أنه : هل كل تفسير للقرآن بالرأي يعتبر مذموما ، وإن بلغ صاحبه من حسن القصد ورسوخ القدم في الاجتهاد وعلو المرتبة في العلم ما بلغ ، أو أن بعض ذلك محمود وبعضه مذموم؟

ذكر الدكتور الذهبي الخلاف فقال : اختلف العلماء من قديم الزمان في جواز تفسير

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ٢٤٦).

(٢) ينظر : د / إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة : الدخيل في التفسير ص ٢٨٥.

القرآن بالرأي ، ووقف المفسرون بإزاء هذا الموضوع موقفين متعارضين :

فقوم تشددوا في ذلك فلم يجرءوا على تفسير شيء من القرآن ، ولم يبيحوه لغيرهم ، وقالوا : لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة ، والفقه ، والنحو ، والأخبار ، والآثار ، وإنما له أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، أو عن الذين أخذوا عنهم من التابعين.

وقوم كان موقفهم على العكس من ذلك ، فلم يروا بأسا من أن يفسروا القرآن باجتهادهم ، ورأوا أن من كان ذا أدب وسيع فموسع له أن يفسر القرآن برأيه واجتهاده (١).

ثم يقول : «ولو رجعنا إلى هؤلاء المتشددين في التفسير ، وعرفنا سر تشددهم فيه ، ثم رجعنا إلى هؤلاء المجوزين للتفسير بالرأي ، ووقفنا على ما شرطوه من شروط لا بد منها لمن يتكلم في التفسير برأيه وحللنا أدلة الفريقين تحليلا دقيقا ـ يظهر لنا أن الخلاف لفظي لا حقيقي (٢).

ولبيان ذلك ينقل عن القاسمي قوله : الرأي ضربان :

أحدهما : جار على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ، فهذا لا يمكن إهمال مثله لعالم بهما ؛ لأمور :

أحدها : أن الكتاب لا بد من القول فيه ببيان معنى واستنباط حكم وتفسير لفظ وفهم مراد ، ولم يأت جميع ذلك عمن تقدم ، فأما أن يتوقف دون ذلك فتتعطل الأحكام كلها أو أكثرها ، فذلك غير ممكن ؛ فلا بد من القول فيه بما يليق.

والثاني : أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبينا ذلك كله بالتوقيف.

فلا يكون لأحد فيه نظر ولا قول ، والمعلوم أنه ـ عليه‌السلام ـ لم يفعل ذلك فدل على أنه لم يكلف به على ذلك الوجه ، بل بين منه ما لا يتوصل إلى علمه إلا به ، وترك كثيرا مما يدركه أرباب الاجتهاد باجتهادهم فلم يلزم في جميع تفسير القرآن التوقيف.

والثالث : أن الصحابة كانوا أولى بهذا الاحتياط من غيرهم ، وقد علم أنهم فسروا القرآن على ما فهموا ، ومن جهتهم بلغنا تفسير معناه ، والتوقيف ينافي هذا فإطلاق القول

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ٢٤٦ ، ٢٤٧).

(٢) التفسير والمفسرون (١ / ٢٥٣).

بالتوقيف والمنع من الرأي لا يصح.

والرابع : أن هذا الفرض لا يمكن ؛ لأن النظر في القرآن من جهتين :

من جهة الأمور الشرعية ، فقد يسلم القول بالتوقيف فيه وترك الرأي والنظر جدلا.

ومن جهة المآخذ العربية ، وهذا لا يمكن فيه التوقيف ، وإلا لزم ذلك في السلف الأولين ، وهو باطل فاللازم عنه مثله.

وأما الرأي غير الجاري على موافقة العربية أو الجاري على الأدلة الشرعية ، فهذا هو الرأي المذموم من غير إشكال ، كما كان مذموما في القياس ـ أيضا ـ لأنه تقول على الله بغير برهان ؛ فيرجع إلى الكذب على الله تعالى ، وفي هذا القسم جاء من التشديد في القول بالرأي في القرآن ما جاء ؛ كما روي عن ابن مسعود : ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ، فعليكم بالعلم ، وإياكم التبدع ، وإياكم والتنطع وعليكم بالعتيق.

وعن عمر بن الخطاب : إنما أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس الملك على أخيه.

وعن عمر ـ أيضا ـ : ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ، ولا من فاسق بين فسقه ، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله (١).

وليس الأمر على ما ذهب إليه الدكتور الذهبي ومن وافقه ، فالخلاف على حقيقته ؛ ذلك أن ما ذكره القاسمي يتجه إلى قسمين متضادين من الرأي : قسم محمود ، وهو الجاري على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة ، وقسم مذموم وهو غير الجاري على موافقة كلام العربية وغير الجاري على الأدلة الشرعية.

فهذا الرأي المذموم من غير إشكال ممنوع ومحرم. وإنما وقع الخلاف بين أهل العلم في النوع الأول المحمود.

ويعضد هذا ما ساقه أحد الباحثين من أمور أربعة :

أحدها : أن مسألة الرأي الفاسد المبني على الهوى والتشهي والفاقد لتحقق شرط الاجتهاد وتوفر ملكاته مما يعلم لكل أحد بالضرورة ـ ولو كان من أصاغر عوام المسلمين

__________________

(١) القاسمي : محاسن التأويل ، تصحيح وتعليق : محمد فؤاد عبد الباقي (دار الفكر ، بيروت ، الطبعة الثانية (١٣٨٩ ه‍ ـ ١٩٧٨ م) (١ / ١٦٤ ، ١٦٥).

فضلا عن أكابر خواصهم وعلمائهم ـ ضرورة امتناعه فيبعد جدّا بل لا يكاد يتصور أن ينفرد المانعون فيما نحن بصدده هنا بإقامة الأدلة على امتناع هذا الرأي المذموم.

وكذلك يبعد أن يخفى أمر ذلك على المجيزين حتى يشتغلوا بنقض أدلة هؤلاء ثم معارضتها بما يثبت نقيضها على ما سترى إن شاء الله تعالى ، كيف والكل يشتركون ويتفقون على امتناع الرأي المذموم كما قلنا.

ثانيها : أنا لا ندري كيف ظهر للدكتور الذهبي ما خفي على كافة فحول العلماء من قبله حتى عدوا الخلاف بين الفريقين حقيقيّا وأوردوه جميعا في كتبهم على هذا النحو واشتغلوا ببيان وجه الحق فيه.

ثالثها : أن عبارة المانعين للتفسير بالرأي صريحة أبين صراحة في قصد كل تفسير بالرأي ، ناصة في جلاء لا يعتوره أدنى شائبة من غموض أو التواء على أنه حتى لو بلغ صاحب الرأي ما بلغ من علم واجتهاد وسعة أدب إلى آخر ذلك ، فليس له أن يفسر القرآن برأيه وإنما عليه أن يقتصر على المأثور فحسب.

رابعها : أن كلّا من أدلة المانعين وردود المجيزين على هذه الأدلة ظاهرة أتم ظهور في أن قصد المانعين إنما هو التعميم لكل رأي ، وأن قصد المجيزين هو إبطال ذلك التعميم بإثبات التخصص على حد ما هو معلوم لدى المناطقة وأهل آداب البحث والمناظرة عن كون مناقضة السلب الكلي هي بالإيجاب الجزئي كذلك فكيف كان يصلح من هؤلاء المانعين هذا التعميم لو أن قصدهم بالفعل هو إرادة التخصيص بالرأي الفاسد (١).

ويهمنا في هذا المقام دون خوض في عرض الخلاف بين المانعين والمجوزين أن نؤكد على ضعف القول بمنع تفسير القرآن بالرأي على الإطلاق ، وأن ما ساقه أصحاب هذا القول لتعضيد قولهم ما هو إلا شبهات أشبه بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الحق عنده يدحض هذه الشبهات ، ويكشف وجه الحق في المسألة ، وهو أن تفسير القرآن بالرأي جائز بشروطه الضابطة.

فهناك أمور ـ ذكرها الزركشي ـ يجب استناد المفسر بالرأي إليها ، فقال : «للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة :

الأولى : النقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع.

__________________

(١) د. إبراهيم عبد الرحمن خليفة : الدخيل في التفسير ص (٢٩٠ ـ ٢٩٣).

الثانية : الأخذ بقول الصحابي ، فقد قيل : إنه في حكم المرفوع مطلقا ، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.

الثالثة : الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.

الرابعة : الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١).

فمن فسر القرآن برأيه ، أي : باجتهاده ، ملتزما الوقوف عند هذه المآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله ، كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود ، ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها ، كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم» (٢).

ثم إن هناك أمورا أخرى فصل فيها القول الإمام السيوطي يجب أن يفعلها المفسر بالرأي ، وأمورا أخرى عليه أن يدعها ، فقد قال السيوطي : قال العلماء : يجب على المفسر أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص عما يحتاج إليه في إيضاح المعنى أو زيادة لا تليق بالغرض ، ومن كون المفسر فيه زيغ عن المعنى وعدول عن طريقه.

وعليه مراعاة المعنى الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام وأن يؤاخي بين المفردات.

ويجب عليه البداءة بالعلوم اللفظية ، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فيتكلم عليها من جهة اللغة ثم التصريف ثم الاشتقاق ، ثم يتكلم عليها بحسب التركيب فيبدأ بالإعراب ثم بما يليق بالمعاني ثم البيان ثم البديع ثم يبين المعنى المراد ثم الاستنباط ثم الإشارات.

وقال الزركشي في أوائل البرهان : قد جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر أسباب النزول ووقع البحث في أنه أيهما أولى بالبداءة به بتقدم السبب على المسبب أو المناسبة ؛ لأنها المصححة لنظم الكلام وهي سابقة على النزول.

__________________

(١) تقدم.

(٢) الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (١ / ٤٩ ، ٥٠).

قال : والتحقيق التفصيل بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على سبب النزول كآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨].

فهذا ينبغي فيه تقديم ذكر السبب ؛ لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد ، وإن لم يتوقف على ذلك فالأولى تقديم المناسبة.

وقال في موضع آخر : جرت عادة المفسرين ممن ذكر فضائل القرآن أن يذكرها في أول كل سورة ؛ لما فيها من الترغيب والحث على حفظها ، إلا الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها.

قال مجد الأئمة عبد الرحيم بن عمر الكرماني : سألت الزمخشري عن العلة في ذلك فقال : لأنها صفات لها والصفة تستدعي تقديم الموصوف ، وكثيرا ما يقع في كتب التفسير «حكى الله كذا» فينبغي تجنبه.

قال الإمام أبو نصر القشيري في المرشد : قال معظم أئمتنا : لا يقال : «كلام الله محكي» ولا يقال : «حكى الله» ؛ لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل.

وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار ، وكثيرا ما يقع في كلامهم إطلاق الزائد على بعض الحروف ، وعلى المفسر أن يتجنب ادعاء التكرار ما أمكنه.

قال بعضهم : مما يدفع توهم التكرار في عطف المترادفين ؛ نحو : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) [المدثر : ٢٨] (صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧] ، وأشباه ذلك ـ أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما فإن التركيب يحدث معنى زائدا ، وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك. انتهى.

وقال الزركشي في البرهان : ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز.

وقال في موضع آخر : على المفسر مراعاة مجازي الاستعمالات في الألفاظ التي يظن بها الترادف والقطع بعدم الترادف ما أمكن ؛ فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد ؛ ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد. انتهى.

وقال أبو حيان : كثيرا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم عند ذكر الإعراب بعلل النحو ودلائل مسائل أصول الفقه ودلائل مسائل الفقه ودلائل أصول الدين وكل ذلك مقرر في تآليف هذه العلوم ، وإنما يؤخذ ذلك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه.

وكذلك ـ أيضا ـ ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب بينها وتواريخ إسرائيلية ، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير (١).

وقال السيوطي في موضع آخر : وقال ابن النقيب : جملة ما تحصل في معنى حديث التفسير بالرأي خمسة أقوال :

أحدها : التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.

الثاني : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

الثالث : التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا.

الرابع : التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل.

الخامس : التفسير بالاستحسان والهوى.

ثم قال : واعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام :

الأول : علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه ، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو ، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعا.

الثاني : ما أطلع الله عليه نبيه من أسرار الكتاب واختصه به ، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لمن أذن له ، قال : وأوائل السور من هذا القسم ، وقيل : من القسم الأول.

الثالث : علوم علمها الله نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها ، وهذا ينقسم إلى قسمين : منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع ، وهو أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات وقصص الأمم الماضية وأخبار ما هو كائن من الحوادث وأمور الحشر والميعاد.

ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال والاستنباط والاستخراج من الألفاظ وهو قسمان : قسم اختلفوا في جوازه ، وهو تأويل الآيات المتشابهات في الصفات.

وقسم اتفقوا عليه ، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية ؛ لأن مبناها على الأقيسة.

وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ص (٢٢٧ ـ ٢٢٩).

واستخراجها لمن له أهلية (١).

ويمكن أن نستخلص من هذين النصين عدة أمور هي :

أولا : مطابقة التفسير للمفسر مطابقة تامة ، بحيث لا يقع له نقص من معناه ومقاصده ، ولا زيادة عليه بما ليس له به تعلق وثيق.

ثانيا : حمل الكلام على ما يتعين أو يترجح على أقل تقدير أنه المعنى المراد منه حقيقيّا كان ذلك المعنى أو مجازيّا ، في التركيب كان المجاز أو في المفردات.

ثالثا : مراعاة سياق الكلام ـ سوابقه ولواحقه ـ بحيث تتآخى وتترابط كافة أجزائه ، ويأخذ أوله بحجزه ، وفي ذلك لا بد من تجلية المناسبات بين الآيات ، بل بين السور كذلك.

رابعا : تجلية سبب النزول ، وعقد الصلة الوثيقة بينه وبين المنزل.

خامسا : تحقيق القول أولا في بيان كل ما يتعلق بمفردات النظم الكريم ، ثم الإتيان بعد ذلك على كل ما تحتاج إليه التراكيب من العلوم المختلفة ذات العلاقة بالنص.

سادسا : يجب على المفسر اجتناب الهجوم على التفسير من غير أخذ الأهبة له بكافة ما يلزمه من الصفات والعلوم.

سابعا : اجتناب الخوض في بيان ما استأثر الله بعلمه.

ثامنا : اجتناب الهوى والقول في القرآن بمجرد الاستحسان من غير برهان.

تاسعا : عدم القطع بأن مراد الله من النص كذا من غير دليل يستوجب مثل هذا القطع.

هذا ، ويحتاج المفسر بالرأي إلى خمسة عشر علما عددها السيوطي في مجموعات هي :

المجموعة الأولى : علوم اللغة وما يتعلق بالنحو والصرف والاشتقاق ، وهو ضروري للمفسر ؛ إذ كيف يمكن فهم الآية بدون معرفة المفردات والتراكيب ، وهل باستطاعة أحد أن يفسر قوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة : ٢٢٦] بدون أن يعرف المعنى اللغوي للإيلاء والتربص والفيء؟

ولهذا قال الإمام مالك : «لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب ، يفسر كتاب الله إلا

__________________

(١) السابق ص (٢٢٩) وما بعدها.

جعلته نكالا».

فعلم النحو ضروري للمفسر ؛ لأن المعنى يتغير بتغير الحركات تغيرا كبيرا. وعلم الصرف والاشتقاق ضروريان ـ أيضا ـ للمفسر ؛ حتى لا يخبط الإنسان خبط عشواء.

المجموعة الثانية : علوم البلاغة «المعاني ـ البيان ـ البديع» وهي ضرورية لمن أراد تفسير الكتاب العزيز ؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، وذلك لا يدرك إلا بهذه العلوم.

المجموعة الثالثة : أصول الفقه ، وأسباب النزول ، ومعرفة الناسخ والمنسوخ ، ومعرفة علم القراءات ، وهي كلها مما يحتاج إليه المفسر بالرأي ؛ حتى لا يخطئ الفهم ، ولا تزل قدمه بسبب الجهل بهذه الأمور الضرورية.

وأخيرا : علم الموهبة ، ويقصد به العلم اللدني الرباني (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥] الذي يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، ويفتح قلبه لفهم أسراره ، قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٨٢] فهو ثمرة التقوى والإخلاص ، ولا ينال هذا العلم من كان في قلبه بدعة أو كبر أو حب للدنيا أو ميل إلى المعاصي ، قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ١٤٦]

وما أجمل قول الشافعي رحمه‌الله :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور

ونور الله لا يهدى لعاصي (١)

قال السيوطي : «ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول : هذا شيء ليس من قدرة الإنسان ، وليس كما ظننت من الإشكال ، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد.

ثم قال : «علوم القرآن وما يستنبط منه بحر ولا ساحل له ، فهذه العلوم التي ذكرناها هي كالآلة للمفسر ، ولا يكون مفسرا إلا بتحصيلها ، فمن فسر بدونها كان مفسرا بالرأي المنهي عنه» (٢).

__________________

(١) ينظر : محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٥٧ ـ ١٦١.

(٢) الإتقان (٢ / ١٨١).

منهج المفسرين بالرأي :

قسم الشيخ محمد عبده التفسير إلى مرتبتين : مرتبة عليا ، ومرتبة دنيا.

ومن حاول المرتبة العليا من مراتب التفسير بالرأي ، فعليه أن يأخذ حذره ، وأن يتذرع بكل العلوم التي أشرنا إليها ؛ ليكون قد أصاب المراد أو كاد ، ووجب عليه أن ينهج الصواب والسداد باتباع ما يأتي :

أولا : أن يطلب المعنى من القرآن ، فإن لم يجده طلبه من السنة ؛ لأنها شارحة للقرآن ، فإن أعياه الطلب رجع إلى أقوال الصحابة ؛ فإنهم أدرى بالتنزيل وظروفه وأسباب نزوله ، فوق ما امتازوا به من الفهم التام والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ، فإن عجز عن هذا كله ولم يظفر بشيء من تلك المراجع الأولى للتفسير ، فيتبع طريق الاجتهاد والرأي.

ثانيا : اتباع طريق الاجتهاد والعقل باتباع الخطوات الآتية :

الأولى : فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعت في القرآن عن طريق استعمالات أهل اللغة من نحو وصرف واشتقاق ، مع ملاحظة المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن.

الثانية : إرداف ذلك بالكلام عن التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة ، وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه.

الثالثة : تقديم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي ؛ بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.

الرابعة : مراعاة التناسب بين الآيات ، فيبين وجه المناسبة ، ويربط بين السابق واللاحق من آيات القرآن ، حتى يوضح أن القرآن لا تفكك فيه ، وإنما هو آيات يأخذ بعضها برقاب بعض.

الخامسة : ملاحظة أسباب النزول ، فإن لسبب النزول دورا كبيرا في بيان المعنى المراد.

السادسة : مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام.

السابعة : مراعاة مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة.

الثامنة : مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون ، وعلم أحوال البشر ، واختلاف أحوالهم : من ضعف وقوة ، وعز وذل ، وإيمان وكفر.

التاسعة : مطابقة التفسير لما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هديه وسيرته ؛ لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته.

العاشرة : رعاية قانون الترجيح والاحتمال (١) ، وذلك أن اللفظ قد يحتمل معنيين فصاعدا ، فما ذا يكون العمل؟

نقل السيوطي عن الزركشي في هذه المسألة قولا من أجمع الأقوال ، فقال :

«قال الزركشي ـ رحمه‌الله ـ : كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا هو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي ، فإن كان أحد المعنيين أظهر ، وجب الحمل عليه ، إلا أن يقوم الدليل على أن المراد هو الخفي.

وإن استويا ، والاستعمال فيهما حقيقة ، لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية ، وفي الآخر شرعية ، فالحمل على الشرعية أولى ، إلا أن يدل دليل على إرادة اللغوية ، كما في : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣].

ولو كانت في أحدهما عرفية ، والآخر لغوية ، فالحمل على العرفية أولى.

وإن اتفقا في ذلك ـ أيضا ـ : فإن تنافى اجتماعهما ولم يمكن إرادتهما باللفظ الواحد : كالقرء للحيض والطهر ، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ، فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه ، وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير في الحمل على أيهما شاء؟ أو يأخذ بالأغلظ حكما؟ أو بالأخف؟ أقوال.

وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة ، إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما» (٢).

ونستجلي الأمر بوضوح أكثر عند الرجوع إلى نص الزركشي الأصلي ، ففي بيانه ـ رحمه‌الله ـ لأقسام التفسير ، وأنها أربعة أقسام ، قال في القسم الرابع :

والرابع : ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل ، وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه ، فالمفسر ناقل والمؤول ، مستنبط وذلك استنباط الأحكام

__________________

(١) ينظر : د. الذهبي التفسير والمفسرون (١ / ٢٦٤ ـ ٢٦٧) ، والزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن ص ٥٩ ، ٦٠ ، ومحمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٦٢ ، ود / إبراهيم عبد الرحمن خليفة : الدخيل في التفسير ص ٣٥١ وما بعدها ، ود / أبو شهبة : الإسرائيليات والموضوعات ص ١١٧ ـ ١٢١.

(٢) الإتقان (٢ / ١٨٢).

وبيان المجمل وتخصيص العموم.

وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه ، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل ، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه ، وعلى ما تقدم بيانه فكل لفظ احتمل معنيين ، فهو قسمان :

أحدهما : أن يكون أحدهما أظهر من الآخر ، فيجب الحمل على الظاهر ، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.

الثاني : أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة ، وهذا على ضربين :

أحدهما : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين ، هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية ، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينة على إرادة اللغوية ؛ نحو قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣].

وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية ، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة ، ولو دار بين الشرعية والعرفية ، فالشرعية أولى ؛ لأن الشرع ألزم.

الضرب الثاني : لا تختلف أصل الحقيقة ، بل كلا المعنيين استعملا فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء ، وهذا ـ أيضا ـ على ضربين :

أحدهما : أن يتنافيا اجتماعا ، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء ، حقيقة في الحيض والطهر ، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه ، فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه ، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه ؛ لأنه نتيجة اجتهاده ، وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم ، فمنهم من قال : يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال : يأخذ بأعظمهما حكما ولا يبعد اطراد وجه ثالث ، وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين.

الضرب الثاني : ألا يتنافيا اجتماعا ، فيجب الحمل عليهما عند المحققين ، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما ، وهذا ـ أيضا ـ ضربان :

أحدهما : أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر ؛ فيتعين المدلول عليه للإرادة.

الثاني : ألا تقتضي بطلانه ، وهذا اختلف العلماء فيه.

فمنهم من قال : يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر ، بل يجوز أن يكون مرادا ـ أيضا ـ وإن لم يدل عليه دليل من خارج ؛ لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه ، وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج.

ومنهم من قال : ما ترجح بدليل من خارج أثبت حكما من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر.

فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل ، والله أعلم.

إذا تقرر ذلك فينزل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (١) على قسمين من هذه الأربعة :

أحدهما : تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.

الثاني : حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم : علم العربية واللغة والتبحر فيها ، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء ، وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد ، ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا ، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه ، ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول : يحتمل كذا ، ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه ، فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله (٢).

وهذا القانون له نظائر أخرى غير ما ذكر الزركشي ، منها :

أولا : يجب حمل اللفظ إذا دار بين كونه حقيقة أو مجازا مع الاحتمال على حقيقته.

ثانيا : إذا دار الأمر في اللفظ بين جريانه على عمومه أو تخصيصه ، فإنه يحمل على عمومه ؛ لأن الأصل بقاء العموم.

ثالثا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مشتركا أو مفردا فإنه يحمل على إفراده ؛ كالنكاح فإنه مشترك بين الوطء وسببه الذي هو العقد فيحمل على الوطء دون العقد أو على العقد دون الوطء لا على الاشتراك.

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٣٣ ، ٢٦٩ ، ٢٩٣ ، ٣٢٣ ، ٣٢٧) والترمذي (٢٩٥٠) ، (٢٩٥١) والنسائي في الكبرى (٥ / ٣١) وأبو يعلى (٢٣٣٨) ، (٢٧٢١) والطبراني في الكبير (١٢ / ١٢٣٩٢) ، (١٢٣٩٣) والطبري في تفسيره (١ / ٥٨) (٧٣) ، (٧٤) ، (٧٥) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار».

(٢) البرهان في علوم القرآن (٢ / ١٦٦ ـ ١٦٨).

رابعا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مضمرا أو مستقلا فإنه يحمل على استقلاله وهو عدم التقدير.

خامسا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مقيدا أو مطلقا فإنه يحمل على إطلاقه.

سادسا : إذا دار اللفظ بين أن يكون زائدا أو متأصلا فإنه يحمل على تأصيله.

سابعا : إذا دار الأمر بين أن يكون اللفظ مؤخرا أو مقدما فإنه يحمل على تقديمه.

ثامنا : إذا دار اللفظ بين أن يكون مؤكدا أو مؤسسا فإنه يحمل على تأسيسه ... وهكذا (١).

وبالجملة فإن على من فسر القرآن برأيه لكي يكون تفسيره محمودا أن يتقن هذا القانون أيما إتقان ، وبقدر ما يقع له من الانحراف عنه بقدر ما يكون تفسيره دخيلا ، والمعصوم من عصم الله.

ويبقى أن نشير إلى بعض كتب التفسير بالرأي ، وهي : تفسير الجلالين ، وتفسير البيضاوي ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير أبي السعود ، وتفسير النيسابوري ، وتفسير الألوسي ، وتفسير الخطيب ، وتفسير الخازن.

* * *

__________________

(١) ينظر : شرح تنقيح الفصول للقرافي ص ١١٢ وما بعدها ، أحكام القرآن لابن العربي (٢ / ٥٩٦) ، ود.

إبراهيم عبد الرحمن خليفة : الدخيل في التفسير ص ٣٥٦ ـ ٣٦١.

٣ ـ منهج التفسير الإشاري

يقصد بالتفسير الإشاري : تأويل القرآن على خلاف ظاهره ؛ لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم ، أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس ، ممن نور الله بصائرهم فأدركوا أسرار القرآن العظيم ، وانقدحت في أذهانهم بعض المعاني الدقيقة بواسطة الإلهام الإلهي أو الفتح الرباني ، مع إمكان الجمع بينها وبين الظاهر المراد من الآيات الكريمة (١).

وقد وقع خلاف بين العلماء حول التفسير الإشاري : فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه ، ومنهم من عده من كمال الإيمان ، ومحض العرفان ، ومنهم من اعتبره زيغا وضلالا وانحرافا عن دين الله تبارك وتعالى.

والواقع أن الموضوع دقيق ، يحتاج إلى بصيرة وروية وغوص في أعماق الحقيقة ؛ ليظهر ما إذا كان الغرض من هذا النوع من التفسير هو اتباع الهوى والتلاعب في آيات الله كما فعل الباطنية ؛ فيكون ذلك زندقة وإلحادا ، أو الغرض منه الإشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يحيط به بشر ؛ لأنه كلام خالق القوى ، وأن لكلامه تعالى مفاهيم وأسرارا ، ونكتا ودقائق ، وعجائب لا تنقضي ، فيكون ذلك من محض العرفان وكمال الإيمان (٢) ، كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «إن القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أوغل فيه بعنف هوى ، أخبار وأمثال ، وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل ، فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء» (٣).

وإذا أردنا معرفة الحق في هذا الموضوع ، فعلينا أن ننقل شيئا من أقوال العلماء ؛ فقد قال الزركشي : «كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل : إنه ليس بتفسير ، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة ، كقول بعضهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] إن المراد النفس ، يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب ، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه».

وقال ابن الصلاح في فتاويه : «وجدت عند الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه

__________________

(١) محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٦٩ ، وينظر : الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٧٨).

(٢) ينظر : محمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص ١٧٠.

(٣) أخرجه الطبري في مقدمة تفسيره (٦٧ ، ٧٠) عن ابن مسعود بنحوه.

قال : صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير ، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر».

وقال النسفي في عقائده : «النصوص على ظواهرها ، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطل إلحاد».

وقال التفتازاني : «سميت الملاحدة باطنية ؛ لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها ، بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم ، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية».

قال : «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان» (١).

ونص التفتازاني هذا واضح الدلالة في بيان الفرق بين التفسير الإشاري الذي لا ينكر متعاطيه ظواهر النصوص التي هي أدعى إلى فهم أسرار القرآن ، وبين تفسير الباطنية الملاحدة الذين يريدون هدم الشريعة.

وينقل السيوطي عن ابن عطاء الله تحديدا للتفسير الإشاري ، فقال : «اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان ، ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء في الحديث «لكل آية ظهر وبطن» (٢).

فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذه إحالة لكلام الله وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس ذلك بإحالة ، وإنما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لم يقولوا ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله ما ألهمهم» (٣).

وأقول : هذا كلام الإنصاف ، فقد وضع الحق في موضعه ، وجمع بين النصوص الظاهرة والمعاني الخفية الواردة التي تشرق على قلب المؤمن العارف بالله ، كما كان الحال مع الصديق وعمر ، ولا عجب فالله تعالى يعطي الحكمة من يشاء ، ويضع الفهم

__________________

(١) تنظر هذه النصوص في : الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٧٨ ، ٧٩).

(٢) تقدم.

(٣) الإتقان في علوم القرآن (٢ / ١٨٥).

فيمن أراد ، وهذا هو القرآن الكريم يخبرنا عن داود وسليمان في أمر عرض عليهما ، فحكم كل واحد منهما بحكم يخالف الآخر ، فيقول : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء : ٧٩].

ونستطيع القول : إن التفسير الإشاري لا يحكمه منهج معين ، لكن له شروطا لا بد من توافرها حتى يكون تفسيرا مقبولا ، وهي خمسة شروط كالآتي :

أولا : عدم التنافي مع المعنى الظاهر في النظم الكريم.

ثانيا : ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر.

ثالثا : ألا يكون تأويلا بعيدا سخيفا : كتفسير بعضهم قول الله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩] بجعل كلمة (لَمَعَ) ماضيا ، وكلمة (الْمُحْسِنِينَ) مفعوله ، ومثل ذلك تفسير الباطنية لقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] أي : أن الإمام عليّا ورث النبي في علمه.

رابعا : ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي ، بل يكون له شاهد شرعي يؤيده.

خامسا : ألا يكون فيه تشويه على أفهام الناس (١).

وبدون هذه الشروط لا يقبل التفسير الإشاري ، ويكون عند ذلك من قبيل التفسير بالهوى والرأي المنهي عنه.

وقبل أن نغادر إلى الحديث عن المنهج الحديث في التفسير ، نشير إلى أبرز التفاسير الإشارية ، وهي : تفسير النيسابوري ، وتفسير روح المعاني للآلوسي ، وتفسير التستري ، وتفسير ابن عربي الفيلسوف ، وليس ابن العربي الفقيه القرطبي.

وأخيرا أنوه بأمر مهم ، وهو تحذير المسلمين من التفاسير الإشارية وعدم الاعتماد عليها دون التفاسير الأخرى ، وهذا ما حذر منه الشيخ الزرقاني حين قال :

«لعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر ، فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة ، بل الإسلام كله ، ما هو إلا سوانح وواردات ، على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات ، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات ، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح ؛ فلم يتقيدوا بتكاليف

__________________

(١) ينظر : الزرقاني : مناهل العرفان (٢ / ٨١) ، ومحمد علي الصابوني : التبيان في علوم القرآن ص (١٧٥).

الشريعة ، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية : كتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأدهى من ذلك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس ، أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية ، واتصلوا بالله اتصالا أسقط عنهم التكليف ، وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ، ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب ، وهذا ـ لعمر الله ـ هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام ، كيما يهدموا التشريع من أصوله ، ويأتوا بنيانه من قواعده : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [الصف : ٨] (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة : ٣٢]» (١).

إذن يجب عدم الانسياق وراء الشطحات والتخييلات التي تخرج بالنص القرآني عن مراده ومعناه المتوخى ، والله أعلم.

هذه هي المناهج التفسيرية العامة التي اعتمدها القدماء واستخدموها في تفسيراتهم بدرجات متفاوتة ، فقد اعتمد بعض المفسرين منهج التفسير بالمأثور ، وبعضهم اعتمد منهج التفسير بالرأي ، وبعضهم فسر القرآن تفسيرا إشاريّا ، وبعضهم جمع بين منهجين أو أكثر ، وكل مفسر ـ في النهاية ـ له منهجه الخاص الذي يستند إلى المنهج العام الذي ينتمي إليه ، سواء كان منهج التفسير بالمأثور أو بالرأي أو الإشاري.

ثانيا : منهج المدرسة الحديثة في التفسير :

تبين لنا من خلال ما سبق أن التفسير في القديم اعتمد عدة مناهج ، فنشأ التفسير شرحا للفظ غامض أو توضيحا لمعنى بعيد ، ثم تطور إلى تفسير بالمأثور ، وتفسير بالرأي.

وفي عهد التقليد والجمود تأثر التفسير بثقافة المفسر ، وليس ذلك عيبا بذاته ، ولكن العيب أن يتحول التفسير إلى كتاب في القواعد والإعراب ، أو البلاغة والبيان ، أو آراء الفرق والرد عليها.

قال السيد محمد رشيد رضا في مقدمة تفسير المنار :

«كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن مقاصد القرآن العالية وهدايته السامية ، فمنها ما شغله عن القرآن بمباحث الإعراب ، وقواعد النحو ، ونكت المعاني ، ومصطلحات البيان ، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين وتعصب

__________________

(١) الزرقاني : مناهل العرفان في علوم القرآن ص (٨٩).

الفرق والمذاهب بعضها على بعض ، ومنها ما يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزحت به من خرافات الإسرائيليات ، وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها» (١).

ولما جاء عهد النهضة ظهر أعلام جددوا في علوم الأمة ، فكانوا أساس نهضة الأمة ونهضة علومها ، ومنها التفسير ، فوجدنا : السيد جمال الدين الأفغاني ، وتلميذه الإمام محمد عبده ، ومن بعدهما السيد محمد رشيد رضا وسيد قطب وكان للأخيرين إسهام في مجال التفسير ، أفاد منه المفسرون من بعدهما ؛ حيث أعادا للتفسير نضارته وقوته وروحه ، ولكنهما سارا في إطار المناهج المأثورة عن السلف في التفسير ، وتجديدهما ليس في المنهج بقدر ما هو تجديد أملته روح العصر وتطورات الحياة إبان النهضة ، ثم ثقافتهما وشخصيتهما الناقدة الممحصة.

وإذا كان جمال الدين الأفغاني وتلاميذه ومن على شاكلتهم حاولوا النهضة من خلال العودة بالأمة إلى منابعها الصافية مع مراعاة ظروف الحياة ومقتضيات واقعهم المعيش ، سواء في علم التفسير أو غيره ، فإن هناك مدرسة فكرية حديثة دعت إلى تبني منهجية جديدة تخالف نهج القدماء في تفسير القرآن الكريم ، هذه المنهجية تدعو إلى أمرين :

الأول : تجاوز التفسير التراثي للقرآن من مناهج وأدوات تحليلية ، بحجة أنها تمثل فترة زمنية معينة أطلق عليها اسم العالمية الأولى.

الثاني : الأخذ بمناهج جديدة تلائم الفترة الزمنية الحالية ، العالمية الإسلامية الثانية (٢).

وقد حمل لواء هذه الدعوة مجموعة من الباحثين ، أبرزهم :

١ ـ الدكتور محمد شحرور في كتابه : «الكتاب والقرآن قراءة معاصرة» الذي حاول فيه تناول القرآن الكريم بمناهج وأدوات معاصرة ، مثل : المنهج البنيوي ، والمنهج الجدلي.

٢ ـ الدكتور مصطفى محمود في كتابه : «القرآن محاولة لفهم عصري» ، وهو مجموعة مقالات تحمل آراء غريبة ، وهي لا تتسم بالشمولية ، حاول من خلالها تطبيق بعض النظريات العلمية على النص القرآني.

__________________

(١) تفسير المنار ـ المقدمة.

(٢) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر ، عدد ١٠١).

٣ ـ الأستاذ جمال البنا في كتابه : «نحو فقه جديد» الذي قسمه إلى بابين :

أ ـ منطلقات ومفاهيم.

ب ـ فهم الخطاب القرآني ، قدم فيه الكاتب ما يراه فهما جديدا للقرآن على أنه معجزة خالدة ، ويتمثل إعجازه في نظمه الموسيقي ، وتصويره الفني ، ومعالجته السيكولوجية للإنسان ثم قيمه ومبادئه السامية.

٤ ـ الأستاذ ماهر المنجد في كتابه : «الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن : دراسة نقدية» ، وهو دراسة نقدية تحليلية لكتاب : الكتاب والقرآن لمحمد شحرور ، حاول فيه صاحبه ضبط القواعد المنهجية التي سار عليها محمد شحرور ، وإظهار قصوره ، والخلفية الفكرية التي استند إليها.

٥ ـ الشيخ خالد عبد الرحمن العك في كتابه : «الفرقان والقرآن» الذي حاول فيه تقديم قراءة إسلامية معاصرة ضمن الثوابت العلمية والضوابط المنهجية ، وتعرض فيه لمعظم الكتابات الحديثة في هذا الشأن بدءا من جمال الدين الأفغاني ، وانتهاء بمحمد شحرور.

٦ ـ أبو القاسم حاج حمد في كتابيه : «العالمية الإسلامية الثانية ومنهجية القرآن المعرفية» ، فلقد حاول فيهما الباحث تقديم منهجية جديدة ويمثلان ـ وبخاصة الكتاب الأول ـ أهم الخطوط الرئيسة للمنهج الجديد المقترح في تفسير القرآن الكريم.

وإذا أردنا التعرف على المدرسة الحديثة ومنهجها في التفسير فلا بد من عرض المسائل الآتية :

المناهج الحديثة وأدوات المدرسة الحديثة في التفسير :

اعتمد أصحاب المدرسة الحديثة في تفسيرهم للقرآن الكريم على بعض المناهج الحديثة ، أهمها ما يلي :

١ ـ المنهج التحليلي :

يزعم بعض أقطاب المدرسة الحديثة في التفسير أنهم يتميزون بالمنهج التحليلي عن القدماء ، يقول أبو القاسم حاج في كتابه العالمية الإسلامية الثانية : «لما ذا خصنا الله في هذا العصر بالرؤية المنهجية للقرآن؟ ولما ذا يختلف أسلوبنا التحليلي في التعامل مع القرآن عن الأسلوب التفسيري التقليدي؟ وبمعنى آخر : لما ذا نلجأ إلى الوحدة الناظمة في وقت لجئوا فيه هم إلى التعامل مع الكثرة؟ الفارق هنا يكمن في اختلاف أسلوب المعرفة ، فالفكر التحليلي قد يبنى حضاريّا في عصرنا الراهن على معالجة الكثرة ارتدادا بها إلى

الوحدة ، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي» (١).

ومن خلال هذا النص يتبين أن التحليل هو :

معالجة الكثرة ارتدادا بها إلى الوحدة ، وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي (٢).

والتحليل على هذا النحو مضر بفهم النص وتفسيره سواء كان نصّا قرآنيّا أو غيره ، أشار إلى ذلك بعض النقاد الغربيين في حديثهم عن تطبيق منهج التحليل «ويسمونه التفكيك» في الشعر حيث إن النقاد الجدد في أمريكا أقاموا مماراساتهم النقدية على أساس الشكل العضوي ، وهي الفكرة القائلة : إن للقصيدة وحدة شكلية تماثل وحدة الشكل الطبيعي ، ولكن بدلا من أن يكشف هؤلاء النقاد في الشعر وحدة العالم الطبيعي وتلاحمها ، فإنهم اكتشفوا معاني متعددة الأوجه ، وفي نهاية المطاف تحول النقد الذي يبحث عن نقد للالتباس والتعدد في المعنى ... إلى لغة ملتبسة مناقضة لفكرتهم الأصلية الكلية لوحدة الموضوع (٣).

ومن خلال هذا الكلام نتبين أن فكرة معالجة الكثرة ارتدادا إلى الوحدة ، وربط الظواهر ضمن علاقاتها بإطارها الموضوعي ، فكرة مستقاة من النقد الغربي ، وهي فكرة منتقضة من قبل الغربيين أنفسهم ، ذلك أنه كما يقول الدكتور عبد العزيز حمودة : «إن التفكيكية ، كممارسة نقدية أدبية ، تفكك النص لتكشف أن ما يبدو عملا متناسقا وبلا تناقضات ، وهو بناء من الاستراتيجيات والمناورات البلاغية ، إن فضح ذلك البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك ، غير متناقض ومفهوم يمكن تفسيره بشكل واضح» (٤).

٢ ـ المنهج البنيوي «الألسنية المعاصرة» :

والمنهج البنيوي : رؤية نقدية حديثة ، تعد النص الأدبي تشكيلا لغويّا فنيّا يتميز عن

__________________

(١) العالمية الإسلامية الثنائية (دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، ط ٢ ، ١٩٩٦ م) (٢ / ٥٠٦).

(٢) ينظر : الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر ، عدد ١٠١) (ص ٣١).

(٣) ينظر : رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ، ترجمة : د. جابر عصفور (دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع) القاهرة ، الطبعة الأولى ١٩٩١ م. ص (١٥٥ ، ١٥٦).

(٤) المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك (عالم المعرفة ، الكويت ، ذو الحجة ١٤١٨ ه‍ ـ إبريل نيسان ١٩٩٨ م) (ص ٣٤٨).

اللغة العادية بكون المعاني المباشرة للغة تتحول فيه إلى رموز متعددة الدلالات (١).

وقد تبنت المدرسة الحديثة في التفسير هذا المنهج «فأخذت بتطبيق المنهج على نماذج من هذه الإشكاليات ، ومن بينها ـ على سبيل المثال ـ ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن ، وتحديد العائد المعرفي بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم» (٢) ، وذلك انطلاقا من «أن معالجة النص القرآني عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة هو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح» (٣).

ولكن «إذا سلمنا بكفاءة المنهج البنيوي في تقديم تحليل منهجي علمي للغة ، فمن الصعب التسليم بكفاءته في تحليل النصوص الأدبية وإنارتها وتحقيق المعنى.

إن البنيوية الأدبية ، شأنها في ذلك شأن البنيوية اللغوية ، تتبع منهجا معكوسا عند مقاربتها للنص الأدبي ، فالمنهج لا يبدأ بالجزئيات وتحليلها بغية الوصول إلى كليات أو أنظمة ، ولكن يبدأ بالنظام الذي يحكم الإبداع في النوع ؛ لينتقل إلى الدرجة الأدنى على سلم التحليل وهو نسق النص ، ثم الوحدات التي تليها العناصر ، وهي أصغر مكونات النص ، وقد يسترجع الناقد البنيوي بعد ذلك خطواته متحركا من أصغر العناصر تجاه النسق أو النظام العام ليقارن بين الخاص (النص) والعام (النظام) ... والتحليل البنيوي على هذا الأساس ، كما يقول بعض الرافضين للمنهج البنيوي ، يشبه تسليط الأشعة السينية (أشعة) على الجسم لتصل إلى العظام متخطية بل متجاهلة لطبقات كثيرة قبل أن تصل إلى العظام.

وهناك شبه إجماع بين الرافضين للمنهج البنيوي ، بل بعض البنيويين أنفسهم ، على أن تطبيق النموذج اللغوي على النص الأدبي لا يحقق المعنى» (٤) فإذا كان هذا حال النص الأدبي عموما مع البنيوية ، فما بالنا بالنص القرآني؟!.

٣ ـ المنهج التاريخي :

تبنى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة منهجا ثالثا هو المنهج التاريخي.

__________________

(١) ينظر : د / إبراهيم عبد الرحمن : مناهج نقد الشعر في الأدب العربي الحديث (الشركة المصرية العالمية للنشر ـ لونجمان ، ١٩٩٧) ص (٣٣).

(٢) العالمية الإسلامية الثنائية (مرجع سابق) (١ / ٥٥).

(٣) السابق (١ / ٥٦).

(٤) المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك (ص ٢٨٢).

ويعنون به فهم التاريخ فهما إسلاميّا ، منطلقا من علاقة الغيب المدروسة والمحققة بحركة الواقع البشري ، وذلك من خلال منطق التدافع والدورات من لدن آدم ـ عليه‌السلام ـ وإلى عصرنا الحاضر (١).

وأصحاب هذه المدرسة يأخذون في تفسيرهم القرآن الكريم بالغائية ، ولكن يخالفون في الوقت نفسه منطق الفلاسفة الغائيين ، فالغائية ـ عند أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة ـ وسيلة تحكم مسار الحركة العامة وتتجه إليها جبريّا ، فهم لا يقولون بالغاية المسبقة.

وقد نبه أبو القاسم حاج إلى أن «مفهوم الحركة في التاريخ البشري من خلال القرآن لا يقوم عبر الصراع الطبقي ، كما هو الحال في النظرة الغربية ، وإنما يقوم عبر أشكال دائرية ، بدءا بالشكل الفردي ، ثم الشكل القومي ، وانتهاء بالشكل العالمي ، وبعبارة أوضح فإن هناك جدلا بين الإنسان والكون ، يتم عبر أطوار تاريخية ثلاثية ، فالانفصال المادي للإنسان من الكون عبر مراحل ثلاث : مواد مختلطة من النسيج الكوني تتحول إلى كائن عضوي ويتحول إلى إنسان ، يقابله اندماج الإنسان بالوعي في رحم الكون عبر مراحل ثلاث : الطور العائلي ، الطور القومي ، الطور العالمي ، وهي تماثل ثلاثية الخلق في الرحم» (٢).

وبناء على تبني المدرسة الفكرية المعاصرة لهذه المناهج ، يمكننا أن نبرز الآتي :

١ ـ ترى المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تفترق عن المدرسة التفسيرية التقليدية في المنهج المتبع من حيث إن أسلوب الأولى يعتمد على «التحليل» عوضا عن «التفسير» ، وعلى «التبيين المنهجي» في إطار الوحدة القرآنية بطرح «الجزء» في إطار «الكل» عوضا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه (٣).

ونقول : إن اعتماد هذه المدرسة «التحليل» دون «التفسير» لا يمكن أن يطبق تطبيقا كاملا في فهم القرآن الكريم ؛ وذلك لأمور منها :

أولا : المعنى اللغوي والاصطلاحي يؤكد ذلك ؛ فالتحليل ـ في اللغة ـ من حل العقدة

__________________

(١) ينظر الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر عدد ١٠١) ص (٣٢).

(٢) السابق ص (٣٣).

(٣) ينظر الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر عدد ١٠٢ السنة السادسة والعشرون) ص (٥٥).

يحلها حلّا ، فتحها ونقضها فانحلت ، والحل : حل العقدة (١).

والتحليل اصطلاحا عكس التركيب ، وهو إرجاع الكل إلى أجزائه ، فإذا تعلق بشيء مادي سمي تحليلا ماديّا ، وإذا تعلق بشيء ذهني سمي تحليلا خياليّا.

وينقسم من جهة أخرى إلى :

تحليل تجريبي ، ويمر بثلاث مراحل : ملاحظة ، تجربة ، استقراء.

وتحليل عقلي أو رياضي ، وهو يتألف من مجموعة قضايا ، أولها القضية المراد إثباتها ، وآخرها القضية المعلومة ؛ بحيث إذا ذهبت من الأولى «أي القضية المراد إثباتها» إلى الأخيرة «أي القضية المعلومة» كانت كل قضية نتيجة ضرورية للتي بعدها ، وكانت القضية الأولى نتيجة للقضية الأخيرة صادقة مثلها (٢).

فالمفهوم الأول يتعلق بالأمور المادية الخاضعة للتجربة ، والقرآن ليس خاضعا للتجربة.

والمفهوم الثاني يحتاج إلى قضية معلومة ينطلق منها في إثبات أخرى مجهولة ؛ فإذا قلنا بهذا في حق القرآن ، أصبحنا في أحسن الحالات نوظف القرآن في إثبات تصوراتنا المسبقة ، ونستغله في نشر «إيديولوجياتنا» وهذا مما لا يرتضيه أحد من المسلمين (٣).

وإذا اعتبرنا المنهج التحليلي الذي تنادي به المدرسة الحديثة هو جمع الآيات المتعلقة بموضوع ما ودراستها دراسة وافية ، فإن المدرسة التقليدية أولى بأن تنسب إلى هذا المنهج ، فقد استخدمت ما سبق أن أشرنا إليه في الفصل الأول مما يسمى بالتفسير الموضوعي.

ثانيا : تدعي المدرسة الفكرية المعاصرة أنها تأخذ القرآن في وحدته الكلية ، وأنها تتفوق بذلك على المدرسة التقليدية ، وهو ادعاء يعوزه الدليل ؛ لأن المدرسة التقليدية سعت في كل مراحلها إلى البحث عن الوحدة الكلية للقرآن الكريم ، وأكبر دليل على ذلك تبنيها ـ كما سبق بيانه ـ مبدأ تفسير القرآن بالقرآن ، فتفسير القرآن بالقرآن بحث عن الوحدة الموضوعية في القرآن ، وقد ألف العلماء الأقدمون مؤلفات بهذا الشأن ، مثل :

__________________

(١) لسان العرب ، مادة (حلل).

(٢) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة (المسلم المعاصر عدد ١٠٢ (ص ٥٦) ، نقلا عن أد. جميل صليبا : المعجم الفلسفي (١ / ٢٥٤ ، ٢٥٥).

(٣) السابق (ص ٢٦ ، ٥٧).

«الأشباه والنظائر» لمقاتل بن سليمان البلخي ، المتوفى سنة : ١٥٠ ه‍ ، و «نزهة الأعين النواظر في علم الأشباه والنظائر» لابن الجوزي ، المتوفى سنة : ٥٩٧ ه‍ ، و «أحكام القرآن» لأبي بكر الجصاص المتوفى سنة : ٣٧٠ ه‍ ، و «أحكام القرآن» لابن العربي المالكي ، المتوفى سنة : ٥٤٣ ه‍ ... وهكذا.

ثالثا : زعم أصحاب المدرسة الحديثة أن ألفاظ القرآن ترقى إلى درجة المصطلح ؛ بحيث لا يتغير معناها بتغير موقعها ، فأطلقوا القول بمخالفة ألفاظ القرآن لألفاظ اللغة العربية المعهودة ؛ ومن ثم تقاعسوا في فهم اللغة وتحصيلها ، وهم بذلك يبعدون عن منهج القدماء في تركيزهم على اللغة وضرورتها في التفسير ، بل جعلوا إتقانها شرطا لفهم كتاب الله.

بل إنهم يبعدون ـ أيضا ـ عن المنهج البنيوي الذي يزعمون تبنيه ، متجاهلين ما توصلت إليه المدارس اللسانية الحديثة من أن هناك فرقا بين اللسان ، والكلام فاللسان ـ كما عرفه دوسوسير ـ «هو نتاج اجتماعي للملكة اللغوية ، والكلام هو فعل فردي صادر عن الإرادة الفطنة» (١).

وعليه ، فليس هناك فرق بين لسان القرآن «المفردات التي صيغ بها القرآن وقواعد تركيبها» ، واللسان العربي العادي «المفردات التي يستعملها العرب وقواعد تركيبها» قال الله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥]. وقال سبحانه : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] فليس هناك فرق بين لسان القرآن ولسان العرب ، وإلا لكان حجة للعرب في أن الله خاطبهم بغير لسانهم.

فالفرق ليس في اللسان ـ الألفاظ وقواعد تركيبها ـ المستعمل ، وإنما الفرق في الكلام الذي «هو استعمال هذا البناء ـ اللسان ـ ووضعه موضع التنفيذ من قبل المتكلمين» (٢) ، ومن ثم نجد الحق تبارك وتعالى ينسب لنفسه الكلام ، وينسب اللسان للعرب ، فقال : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥] «فالذي يحرف هو الكلام ذاك التركيب الصادر من المبلغ ليغير معناه ، ويبطل أثره المقصود به ، أما تحريف اللسان فهو مسبة للمحرف وسلب عليه ؛ لأنه حرف الرموز المتواضع عليها بين أولئك المخاطبين وقطع طريق التواصل معهم ، فلم يعد يفهمه أحد

__________________

(١) كريستان بايلون بول فابر : مدخل الألسنية ، ترجمة : طلال وهبة (الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ، ط ١ ، ١٩٢٢ م) ص (٥٩).

(٢) السابق ص (٦٠).

منهم» (١).

وأقول : إن الاستخفاف باللغة العربية وقواعدها وزعم الاستغناء عنها باللسانيات الحديثة خرق لأصول العلم ومناهجه وتشكيك فيما أصبح من عداد المسلمات.

رابعا : اخترقت المدرسة المعاصرة في التفسير الثوابت ، فذهبت ـ مثلا ـ إلى أن السنة تجربة تاريخية خاصة بعصرها الذي ظهرت فيه ولا تلزم ما بعده من العصور ، وهذا الاختراق مرفوض ؛ لأنه يعرض الدين للتحلل من عقده ، ويفتح الأبواب على مصارعها للأفكار الهدامة تفعل فعلها في كيان الأمة.

وأقول : إن على المتطلعين إلى التجديد وبناء المناهج أن يعرفوا أن الثوابت هي العاصم والحافظ لكيان الأمة وعليها مدارها ، فالمساس بها والنيل منها هو مساس بروح الأمة وطعن لها في عمودها الفقري ، وتعريض لها لمزيد من الخطر والضياع ؛ ذلك أنه ـ كما يقول سيد قطب رحمه‌الله ـ «لكل نجم ولكل كوكب فلكه ومداره ، وله كذلك محوره الذي يدور عليه المدار ، وكذلك الحياة البشرية لا بد لها من محور ثابت ، وإلا انتهت إلى الفوضى والدمار» (٢).

ولسنا بكل ما ذكرناه ننفي تبني المناهج التي تبنتها المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم جملة وتفصيلا ، فهذا إن فعلناه أصابنا الجمود والوقوف عند حد التقليد دون التجديد والإبداع ، وهذا مخالف لما دعا إليه القرآن الكريم في كل المجالات ، بل وفي مجال التعامل معه ـ أي مع القرآن ـ فقد قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] والتدبر يعني الفهم المتجدد ؛ إذ لو كان التدبر يعني الوقوف عند فهم القدماء للقرآن ، لما أمرنا الله عزّ وعلا بتدبره ، ولكان أمرنا باتباع أسلافنا وحسب ؛ وهذا ينافيه طبيعة القرآن المتجددة.

إذن فإن هناك دعوة إلى التجديد في تفسير القرآن الكريم ، وتجريب المناهج الحديثة ، ولكن ذلك مضبوط بضوابطه التي منها :

أولا : احترام الثوابت ، وعدم هدمها.

__________________

(١) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (العدد ١٠٢ ـ المسلم المعاصر) ص (٦٠).

(٢) خصائص التصور الإسلامي (الاتحاد الإسلامي للمنظمات الطلابية ، ط ٣ ، ١٤٠٣ ه‍ ـ ١٩٨٣ م) (ص ٦٧).

ثانيا : معرفة التراث واستيعابه استيعابا يسمح بمعرفة مواطن القوة ، فيؤخذ بها ، ومواطن النقص لتفاديها.

ثالثا : الاطلاع على العلوم والمناهج المعاصرة ، شريطة ألا يكتفى من هذه العلوم بالمعرفة السطحية العابرة ، بل استيعابها استيعابا كاملا ، وشريطة إتقان الدربة في استخدام هذه الآليات وتوظيفها التوظيف السليم ، ولا يقع المجدد فيما وقعت فيه تلك الفئة التي عناها الدكتور طه عبد الرحمن بقوله :

«إنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة من مفاهيم مصطنعة وقواعد مقررة ومناهج متبعة ونظريات مسطرة ، فضلا عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائياتها» (١).

وأخيرا أود القول : إننا لا ندعو إلى نبذ مناهج بعينها في تفسير القرآن الكريم ، بل ندعو إلى تكامل المناهج ، فنأخذ وندع من كل المناهج سواء أكانت قديمة أو حديثة ، بشرط ألا ندع المسلمات جانبا ، وألا يؤثر ما نأخذه من منهج في توجيه المعنى القرآني وجهة تناقض مراد الله المقصود.

نماذج من تفسير المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم :

لعلنا نورد بعض النماذج من تفسير أعلام المدرسة الفكرية المعاصرة لبعض آيات القرآن الكريم تبرز مدى تجاوز هؤلاء القوم في تفسيراتهم ، وأنها لا تقوم على أساس متين أو منهج قويم.

ومن تلك النماذج ما جاء في تفريق أبي القاسم حاج حمد بين اللمس والمس ، وبين الرؤية والنظر والشهود.

فبالنسبة للتفريق بين اللمس والمس : يرى أبو القاسم حاج حمد أن «لمس» تعني قرآنيّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسى ، و «مسّ» تعني التفاعل العقلي والوجداني ؛ لذلك لم يمنع الله لمس المصحف فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم ، فلهم أن يتناولوه. أما مس القرآن بما يعني التفاعل مع مكوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٧٩](٢).

وهذا الفهم بعيد عن الصواب كل البعد ؛ إذ إن استقراء آيات القرآن الكريم تؤكد أن

__________________

(١) تجديد المنهج في تقويم التراث (الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي ، ط ١ ، ١٩٩٤) (ص ٢٥).

(٢) ينظر : العالمية الثنائية (١ / ٥٥).

المس معناه الاحتكاك المادي ، وليس الإحساس والوعي ـ كما زعم أبو القاسم حاج ـ ومن الآيات المعضدة لما ذهبنا إليه قول الله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) [النور : ٣٥] فأي تفاعل عقلي مع النار في هذه الآية وأمثالها؟ وأي تفاعل عقلي في قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٦] ، وفي قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران : ٤٧] فهل المس هنا يعني التفاعل العقلي؟ الحقيقة : أن المس هنا واضح بأنه احتكاك مادي ، فمس النار للجسم حركة مادية ، والولادة العادية تكون بعد مس الرجل زوجته عضويّا ، أي : بعد جماعها ؛ لذلك اعترضت السيدة مريم على الأمر ، ورأت أنه خلاف العادة (١).

وبالنسبة للتفريق بين الرؤية والنظر والشهود : يرى أبو القاسم حاج أن الرؤية تتعلق بالأمور الحسية ، وآلتها العين المجردة ، أما النظر فيتعلق بالأمور المعنوية التي تعتمد على التأمل والإدراك ، وآلتها العقل ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] فقال : «وقد طلب موسى رؤية الله عبر النظر ، بمعنى أن يرفع عوائق الرؤية الحسية أو حجابها ليمكن النظر ، والنظر يرتبط بالخيال والتأمل ، وقوي الإدراك خلاف الرؤية الحسية بالعين المجردة (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] فالنظر عقلي والرؤية حسية ؛ ولهذا قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] فهنا يتعلق النظر إلى الله بالوجوه ، وليس العين المجردة التي ترى ، في حين أن العقل هو الذي يدرك قيمة الأمر وينفعل به (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة : ٦٩] ؛ ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا ، أي : تقليب الرأي فيها ، ثم اتخاذ قرار قاطع ، كمن يرى الأمر عيانا في حقيقته (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢].

وكذلك ميز القرآن الكريم بين البصر والرؤية العينية ، فالبصر إدراك (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) [غافر : ٥٨].

__________________

(١) ينظر : الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير (المسلم المعاصر العدد ١٠٢) (ص ١١).

والسمع استيعاب (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].

وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤيته بالعين ، وهكذا قال : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان ؛ حيث يكون الإنسان مقيما ، ثم استثنيت حالتان ، مقيم مريض ، وغير مقيم مسافر ، ولم يطلب الله في هذه الآية رؤية الشهر ؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة ، ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) ، والشهور حساب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) [التوبة : ٣٦] فإن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالّا حين توقيته ، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون» (١).

هذا ما قاله أبو القاسم حاج عن التفريق بين الرؤية والنظر والشهود ، وقد جانبه الصواب ـ أيضا ـ كما جانبه الصواب في التفريق بين اللمس والمس ؛ لأنه بنظرة سريعة في آيات القرآن الكريم نجد أن النظر يعني الرؤية الحسية ـ أيضا ـ وليس مقصورا على الإدراك العقلي كما زعم المؤلف ، والدليل على ذلك قول الله تعالى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب : ١٩] ، وقد اعترف أبو القاسم حاج نفسه بأن الرسول رأى بعينه المجردة عقول المنافقين كيف تفكر حتى صارت أعينهم تدور كالذي يلفظ آخر أنفاسه (٢).

وأما قصر الرؤية على الحس ، وأن آلتها العين المجردة فقد وردت آيات كثيرة فيها «رأى» بمعنى علم ، منها قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] ترى هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاضرا في واقعة الفيل مشاهدا لها بأم عينه ، أم أنها أمر غيبي أوحاه الله إليه وعلمه إياه؟

إنه من غير شك أمر غيبي ، والرؤية هنا ليست رؤية حسية ، بل رؤية عقلية وجدانية.

وتحديد الكاتب الشهود بمعنى الحضور حصرا أمر في غاية الغرابة ، ووجه الغرابة أن هناك آيات أتت ليس فيها الشهود بمعنى الحضور ، فما ذا يقول في قول الله تعالى : (شَهِدَ

__________________

(١) العالمية الثنائية (٢ / ٥٤ ، ٥٥).

(٢) ينظر : ابن عاشور : تفسير التحرير والتنوير (الدار التونسية للنشر ، الكتاب الأول) (٣ / ١٨٦).

اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) [آل عمران : ١٨] فهل شهد هنا بمعنى حضر؟ لا ، بل شهد هنا بمعنى أقام الأدلة وبينها ، وما ذا يقول ـ أيضا ـ في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) [البقرة : ٢٠٤]؟ فهل الشهود هنا يعني الحضور والمعاينة؟

ثم إن الآيات التي استشهد بها أبو القاسم حاج ليدلل بها على ما ذهب إليه تدل على خلاف ما أراد ، فقول الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣].

فمادة (نظر) التي تكررت مرتين ، في كل مرة منهما لا يمكن أن تدل إلا على الرؤية الحسية ، وإلا كيف يستقيم المعنى إذا كان النظر إلى الجبل بمعنى النظر العقلي ، وما فائدة الشرط وجوابه في الآية؟ ومما يزيد الأمر غرابة أن المؤلف أورد آية أخرى هي من الوضوح على نقيض ما ذهب إليه ؛ مما لا يخفى على المبتدئ فضلا عن العالم (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) [البقرة : ٦٩] فالنظر هنا بالعين ، وليس بالعقل ، وإلا لبطل معنى الآية» (١).

وقول الله تعالى الذي استدل به على أن الشهود بمعنى الحضور (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هو معنى قال به المفسرون قبله ، فقد قال القرطبي : «وشهد بمعنى حضر ، وفيه إضمار ، أي : قال : من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه» (٢).

ومعنى هذا أنه لم يأت بجديد ، ولكن الجديد عنده والغريب في الوقت نفسه ، حصر الشهود في معنى الحضور ، وهو ما فندته قبل قليل.

ومحمد شحرور الذي تناول في كتابه «الكتاب والقرآن قراءة معاصرة» القرآن الكريم بأدوات معاصرة مثل : المنهج البنيوي والمنهج الجدلي ، له تفسيرات تقترب من التفسيرات السابقة ، فمثلا تجده ينكر الترادف ، وهو اتجاه عام لدى أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن ، فيقول عند التفريق بين الحرام والاجتناب : «تبين لنا

__________________

(١) الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (مجلة المسلم المعاصر ، العدد ١٠٢) (ص ١١ ، ١٢).

(٢) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن (دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، ط ٣ ١٣٨٧ ه‍ ـ ١٩٦٧ م) (٢ / ٢٩٩).

أن من قال : إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق ؛ لأن التحريم هو لحدود الله ، كقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) [المائدة : ٣](١).

وهذا القول يؤدي ـ كما يقول الجيلاني بن التوهامي مفتاح ـ إلى التحلل من بعض الأحكام الشرعية ، فالقول بأن الاجتناب أقل درجة من التحريم يقود حتما إلى القول بعدم حرمة الخمر والزنى (٢) ، وهو ما صرح به شحرور نفسه حين قال : «وإني أقول لهؤلاء الناس ، أيهما أكبر ، أمن يشرب كأسا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) [النساء : ٢٣](٣).

ويقال لشحرور : أليس الشرك من أكبر الكبائر ، وأعلى المنهيات حرمة ، فلما ذا عبر عنه الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالاجتناب ولم يعبر عنه بالحرمة؟ قال الله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] ، وقال سبحانه أيضا : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج : ٣٠].

فعلى مذهب الدكتور شحرور يصبح الشرك بالله والكفر به من الأمور العادية التي تخضع لثقافة الناس وأعرافهم ، مثل : الخمر التي يرى أنها ليست بحرام ولكن تعافها الفطرة ، وهو مخالف لما درج عليه أهل الفسق من استطابتها واعتبارها من أفضل مشروباتهم.

يتبين لنا أن تفسير محمد شحرور للحرام والاجتناب مجانب للصواب ، مخالف للأصول الثابتة ، مزلزل لقواعد القرآن وأصوله.

ومن تفسيراته ـ أيضا ـ ما جاء في مسألة الخلق الآدمي ، فقد انطلق ـ كما فعل كثير غيره من أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير ـ من نظرية دارون في التطور ، فهو يرى أن آدم انتخب من المملكة الحيوانية البشرية انتخابا ، ولم يخلق ابتداء كما يرى التراثيون ، ويرى شحرور أن خير من أوّل آيات خلق البشر هو (دارون) ، ويعتمد نظريته في التطور ويوظفها في تفسير قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) [آل عمران : ٣٣](٤).

وينقل ماهر المنجد في كتابه (الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن) عن شحرور قوله :

__________________

(١) د. شحرور : الكتاب والقرآن ، قراءة معاصرة (ص ٤٧٧).

(٢) المدرسة الفكرية المعاصرة في التفسير (المسلم المعاصر ، / عدد ١٠٢) ص (٤٩).

(٣) د. شحرور : الكتاب والقرآن ص (٤٧٧).

(٤) ينظر : الجيلاني بن التوهامي مفتاح : المدرسة الفكرية المعاصرة في تفسير القرآن الكريم (المسلم المعاصر ، عدد ١٠٢) (ص ٥١).

«أما قبل آدم فكان ثمة صنف من المملكة الحيوانية يدعى البشر ، وأن الله نفخ الروح في البشر فتحول إلى إنسان وتطور وتقدم ، ولم ينفخ الروح في القرود فبقيت كما هي» (١).

ويدلل الدكتور شحرور على تفسيره بدليل يراه دامغا ، وهو «أن كلية الطب تسمى كلية الطب البشري ؛ لأنها تدرس الإنسان من حيث كونه بشرا ، له شعر وجلد وعيون وجهاز هضمي وعصبي وقلب ودورة دم» (٢).

ولا شك أن هذا لا يمثل براهين علمية ، ولا أدلة عقلية ، ولا علاقة له أصلا بأي منهج علمي ، إلا إذا اعتبرنا أن التصورات والافتراضات المتخيلة هي من الحقائق العلمية.

ثم إن تفسيره للآية أوهى من نسج العنكبوت ؛ لأنه :

أولا : بتر الآية ، فالآية تقول : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٣٣] ، وهي واضحة في أنها تدل على غير مراد الدكتور شحرور ، وأن تفسيره لها غريب وبعيد كل البعد عن المراد منها ؛ حيث إن الله عطف نوحا وآل إبراهيم وآل عمران على آدم ، فهل كان هؤلاء مصطفون من المملكة الحيوانية المسماة بالبشر مثل آدم كما زعم؟ فهذا لا يصدق على نوح وآل إبراهيم وآل عمران ، ومن ثم فهو لا يصدق على آدم ـ أيضا ـ فترجح ما ذكرناه وهو مخالف لما ادعاه الدكتور شحرور.

ثانيا : تناسى المؤلف آيات كثيرة تدل على أن الله ـ سبحانه ـ ابتدأ خلق آدم من العدم ، وهو بقوله هذا يكذب صريح هذه الآيات ، فالله جل وعلا يقول : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ) [ص : ٧١ ، ٧٢] فالخلق يدل على الابتداء وأنه من العدم ، فكيف يقال : إن آدم اصطفاه الله من البشر.

ثالثا : هل الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي نفخ الله فيه الروح؟ وهل القرود التي مثل بها ليس فيها روح؟ وكيف يعيش أي كائن حي بدون روح وبخاصة العائلة الحيوانية؟

والخلاصة أن أصحاب المدرسة الفكرية المعاصرة ـ على الرغم من زعمهم التذرع بالمنهج التحليلي الموضوعي ـ قد تناقضت مقدماتهم مع نتائجهم ، واتسم تفسيرهم لبعض آيات القرآن بالتسرع وعدم الدقة والاستقصاء ، ولعل ذلك راجع إلى رغبتهم الجامحة في تسويق مشروعهم الفكري حتى ولو كان على حساب ثوابت القرآن الكريم ومعطياته الدلالية والمضمونية والسياقية ، أو على حساب المعنى الصحيح للآية المفسرة.

__________________

(١) ينظر ماهر المنجد : الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن (دار الفكر ، دمشق ، الطبعة الأولى ١٤١٥ ه‍ ـ ١٩٩٤) (ص ١٠٨).

(٢) الصفحة السابقة نفسها.

الباب الخامس

الماتريدي مفسرا

ويشتمل على عدة فصول :

الفصل الأول : انتماء الماتريدي في التفسير.

الفصل الثاني : منهج الماتريدي في التفسير.

الفصل الثالث : بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة.

الفصل الرابع : تأثر الماتريدي بمن سبقوه.

الفصل الخامس : تأثير الماتريدي في لاحقيه.

الفصل الأول

انتماء الماتريدي التفسيري

ظهر لنا فيما سبق أن هناك مدارس كثيرة في تفسير القرآن الكريم ، فهناك : مدرسة التفسير بالمأثور ، ومدرسة التفسير بالرأي ، ويقف بين هاتين المدرستين بعض المفسرين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فيتخذون من النقل والعقل طريقا للتفسير.

والنقل ـ كما سبقت الإشارة ـ : هو تفسير القرآن بالقرآن أو السنة أو المأثور عن الصحابة والتابعين ، وأما العقل ـ كما سبق أيضا ـ : فيعمل المفسر عقله في الآيات ، لكن هذا الإعمال مشروط بشروط تتلخص في : عدم عدول المفسر عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا إذا قامت القرائن الواضحة القاطعة التي تمنع من حقيقة اللفظ وتحمل على مجازه ، ومخالفة هذه القاعدة الأساسية اليسيرة قد أدى ـ عند بعض المفسرين ـ إلى كثير من الخطأ في تفسير بعض الآيات القرآنية المتعرضة للأنفس والآفاق (١).

ومن أهم الأسس التي يقوم عليها استخلاص المفسر لمضمونات اللفظ القرآني بطريق العقل ، وتكسب عمله سنده ومشروعيته ، هي مراعاة اللفظ القرآني في خطابه حال العرب ومشاهداتهم ومعارفهم ، ونزوله في التعبير على مستوى ما يعرفون ؛ ضمانا لهدايتهم ، ثم احتواؤه مع ذلك الحقيقة الأبدية التي يتجدد بها إيمان الناس كلما تكشفت لهم عصرا بعد عصر (٢) ، وهو أمر لا يعرف ولا يوجد في غير القرآن الكريم يمنحه الجدة الدائمة والثراء الذي لا ينفد ، ويعطي المتأملين فيه ، والباحثين في أسراره مشروعية مستمرة ، وضمانا وسندا دائمين ، وتأتي أساليب القرآن الكريم فوق ذلك مستجمعة درجات الفهم ، وفيها الغاية ـ كل الغاية ـ لكل عقل صحيح ، يقرؤها العالم فيستشف من خلالها علل الأشياء ، ويقرؤها الحكيم فيلتمس منها أسرار الوجود ، ويقرؤها غيرهما من الناس فتنقاد لها قلوبهم وعقولهم ، وترى الآي القرآني في علوه يداور المعاني ، ويخاطب الأرواح ، ويتألف الناس بهذه الخصوصية فيه حتى ينتهي بهم مما يفهمون إلى ما ينبغي أن يفهموا ، وحتى يقف بهم على نص اليقين ومقطع الحق (٣).

والماتريدي من هؤلاء العلماء الذين اشتهر عنهم أنه تابع لمدرسة أبي حنيفة ، ومدرسة

__________________

(١) ينظر بحوث في تفسير القرآن الكريم للدكتور محمد إبراهيم شريف (ص ١٠٤ ، ١٠٥).

(٢) الأستاد محمد رشيد رضا : تفسير القرآن الحكيم (طبع المنار ، ١٣٤٦ ه‍) (١ / ٤٠٢).

(٣) الرافعي : إعجاز القرآن والبلاغة النبوية (طبع الاستقامة ، القاهرة ١٩٥٢ م) ص (٢٠٦ ، ٢٠٧).

أبي حنيفة تمثل ـ كما هو معروف ـ مدرسة الرأي ، ومعنى هذا القول أن الماتريدي ينتمي إلى مدرسة الرأي.

وأقول : إن كان هذا يصدق على الماتريدي متكلما أو فقيها فلا يمكن أن يصدق عليه مفسرا ؛ إذ إنه في تفسيره لا يمكن أن ينتمي إلى مدرسة الرأي أو مدرسة النقل جميعا ، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين.

وبيان ذلك : أن الماتريدي في تفسيره قد استجمع شرائط مدرسة النقل والعقل ؛ حيث إنه استند في تفسيره على المأثور كما استند على المعقول وهذه سمة بارزة عنده ، ليس في هذا التفسير فقط ، بل في جميع مؤلفاته ، فقد رأى خطأ الوقوف عند حد النقل أو المغالاة في الجانب العقلي ، فالموقف العدل ـ عنده ـ هو التوسط بينهما ، وذكر أن من دواعي استحسان هذا الموقف الوسط هو قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ووسطية الماتريدي قائمة على رد كل ما لا يتفق مع أهل السنة من المعتزلة والمجسمة والمشبهة والحشوية وغيرهم ، وتقرير عقائد أهل السنة في أثناء تفسيره بالأدلة العقلية والنقلية.

وليس موقف الوسط ـ كما يظن ـ توفيقا بين الآراء ، وأنه يخلو من الابتكار ، بل هو قمة الابتكار ؛ لأنه يتطلب معرفة كاملة بأحكام النقل والعقل ؛ فلا بد من معرفة كاملة بالكتاب والسنة ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والأخبار وشروطها ، وهذه هي أحكام النقل ، ولا بد ـ أيضا ـ من معرفة أحكام العقل والنظر والتأويل والاجتهاد وإقامة الأدلة والبراهين.

وإذا تقرر هذا فيجب أن نثبت للماتريدي المفسر بعض الخصائص والسمات التي تجعله مفسرا متميزا ، هذه الخصائص والسمات تتلخص في :

أولا : استقلال الفكر :

كان الماتريدي لا يتعصب لمذهب معين أو رأي معين ، بل يبحث عن الحقيقة ، فلم يكن تابعا لفكر معين ، أو متعصبا أو انفعاليّا ؛ لأنه كان يعلم أن هذه الأمور تصد عن الوصول إلى الحقيقة ، ومن ثم ضمن له ذلك الاستقلالية والحرية والموضوعية في تناول القضايا في تفسيره.

والناظر في تفسيره ـ نظرة إجمالية ـ سوف تظهر له هذه الحقيقة ، فهو في تفسيره لا يعرض أحيانا للمذاهب أو الآراء بل إنه يعرض القضايا ، فيشعر القارئ كأنه يعرضها كما

يراها هو ، ولعلنا ندلل على ذلك بنموذج من تفسيره ، فعند قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] يقول : «سفههم ـ عزوجل ـ بما جعلوا له من الشركاء والأضداد على إقرار منهم أنه خلق السموات والأرض ، ولم يجعلوا له شركاء في خلقهما ، وعلى علم منهم أنه تعلق منافع الأرض بمنافع السماء ، مع بعد ما بينهما ، كيف جعلوا شركاء يشركونهم في العبادة والربوبية».

فهنا يفسر الآية من عند نفسه ، لكنه لا يهمل عرض الآراء حولها ، وما دامت هذه الآراء مقبولة فإنه يعرضها على إطلاقها ، فعند الآية نفسها يقول : «وقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) قال الحسن : الظلمات والنور : الكفر والإيمان ، وقال غيره من أهل التأويل : الليل والنهار في الحقيقة ما يكشف عما استتر من الأبصار ، أبصار الوجوه وأبصار القلوب ، والظلم ما يستر ويغطي على الأبصار : أبصار الوجوه ، وأبصار القلوب ، فالظلمة تجعل كل شيء مستورا عليه ، والنور يجعل كل شيء كان مستورا ظاهرا باديا عليه ، هذا هو تفسير الظلمة والنور حقيقة» ولأن كلا المعنيين لا ترفضه الآية فنجد الماتريدي لا يتعرض لأي منهما بالنقد أو التحليل ، بل يكتفي بعرضهما ، وهو ما يدل على عدم تعصبه.

لكن الأمر إذا احتاج منه إلى إضاءة فنجده بعد عرض الآراء حول الآية يحلل ويعقب ويوجه وينقد ، ففي الآية التي معنا ، في عجزها والتي بعدها ، يقول الماتريدي : «وقوله عزوجل : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] قيل : يشركون مع ما بيّن لهم ما يدل على وحدانية الرب وربوبيته ، أي : جعلوا كل ما يعبدونه دون الله عديلا لله ، وأثبتوا المعادلة بينه وبين الله تعالى ، وليس لله تعالى عديل ، ولا نديد ، ولا شريك ، ولا ولد ، ولا صاحبة ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وقال الحسن : (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يكذبون.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي : خلق آدم أبا البشر من طين ، فأما خلق بني آدم من ماء ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وأخبر الله تعالى أنه خلق آدم من الطين ، وخلق بني آدم سوى عيسى ـ عليه‌السلام ـ من النطفة ، وخلق عيسى ـ عليه‌السلام ـ لا من الطين ولا من الماء ؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الخلق لا من شيء ، وأنه لا اختصاص للخلق بشيء ، ولا ينكرون ـ أيضا ـ إنشاء الخلق وإحياءهم وموتهم ؛ وذلك لأنه لا يخلو إما أن صاروا ترابا أو ماء ، أو لا ذا ولا ذا ،

فإذا رأوا أنه خلق آدم من الطين ، وخلق سائر الحيوان من الماء ، وخلق عيسى ـ عليه‌السلام ـ لا من هذين ، كيف أنكروا إنشاء الخلق بعد الموت ، وهو لا يخلو من هذه الوجوه التي ذكرنا ، فيكون دليلا على منكري البعث بعد الموت ، وعلى الدهرية في إنشاء الخلق لا من شيء ، فإنهم ينكرون ذلك ويحيلونه ؛ ولهذا وقعوا في القول بقدم العالم ، والله الهادي.

ويحتمل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أن يراد به في حق جميع بني آدم ، وأضاف خلقنا إلى الطين ، وكان الخلق من الماء لما أبقى في خلقنا من قوة ذلك الطين الذي في آدم وأثره ، وإن لم يره تلك القوة وذلك الأثر ، وهذا كما أن الإنسان يرى أنه يأكل ويشرب ويتغذى ، ويحصل به زيادة قوة في سمعه وبصره ، وفي جميع جوارحه ، وقد يحيي بها جميع الجوارح ، وإن لم ير تلك القوة ، فكذلك هذا.

ويحتمل ـ أيضا ـ على ما روي في القصة أنه يمازج مع النطفة شيئا من التراب ، فيؤمر الملك بأن يأخذ شيئا من التراب من المكان الذي حكم بأن يدفن فيه ، فيخلط بالنطفة ، فيصير علقة ومضغة ، فإنما نسبهم إلى التراب لهذا.

ويحتمل النسب إلى التراب ، وإن لم يكونوا من التراب ؛ لما أن أصلهم من التراب ، وهو آدم».

فنلمح في هذا النموذج كيف يقلب الماتريدي الآية على وجوهها ؛ ليعطي القارئ تصورا عامّا حول القضية التي تطرحها الآية ، فحول قضية الخلق ، نجده ـ أولا ـ يعرض لمراحل الخلق جميعا ، وإمكانياته الواقعة في خلق الله من لدن آدم.

ونجده ـ ثانيا ـ يبين الغرض من هذه المراحل ، وهو غرض مزدوج ؛ حيث ترد هذه المراحل والإمكانيات على منكري البعث من جهة ، وترد على الدهريين من جهة ثانية.

وهو في عرضه يعمل عقله حتى يكون الرد مقنعا ، بل إنه يعمل عقله ويستخدم القياس ليخرج الآية ، وليبين لما ذا كان التوجه إلينا بها مع أنها تنص على الخلق بالطين.

ثم إنه يعرض ـ ثالثا ـ لاحتمال يدل على حس علمي شفيف ، وهو أن كل حيوان مخلوق من ماء يخلط بنوع من التراب ، وهذه لفتة علمية دقيقة ، يؤكدها العلم في العصر الحاضر.

ثانيا : النظرة الكلية للأشياء :

تؤكد النماذج السالفة تميز الماتريدي بنظرته الشمولية ، وقدرته على ربط الجزئيات

بالكليات ، ورد الفروع إلى الأصول ، وهي سمة ليست مقصورة على تفسيره فقط ، بل تؤكدها تآليفه في الفقه وأصوله والتوحيد ، وبخاصة أصول الفقه ذلك العلم الذي يقوم على ربط المسائل الفرعية بأصول الأحكام.

ثالثا : اهتمامه بالمضمون :

ينزع الماتريدي في تفسيره إلى بيان المضمون الذي تنطوي عليه الآيات دون النظر إلى الألفاظ ، وما يعتورها من نكات لغوية وبلاغية ، وإذا عرج على ذلك فلخدمة المضمون وإبرازه ، والنماذج السابقة دالة على ذلك.

وهذا يجعلنا نقرر سمة من سمات الماتريدي ، وهي اهتمامه بربط عملية الفكر بعملية التطبيق والعمل ، فالأفكار الذهنية لا قيمة لها بعيدة عن العمل والتطبيق ؛ ولذلك في كثير من الأحيان كان يرفض تفصيلات لا طائل تحتها ، ويذكر ذلك في صراحة أنه ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وهذا يفسر لنا اهتمامه في تفسيره لآيات القرآن الكريم بمعناها أكثر من اهتمامه بالشكل أو اللفظ ، فالمهم عنده كشف المضمون ومرامي الآيات.

هذا ، ولكي يبرز لنا انتماء الماتريدي التفسيري بوضوح أشد ، نقف وقفة مع موقفه من طرائق التفسير المختلفة :

أولا : موقف الماتريدي من التفسير بالمأثور :

نعني بتفسير القرآن الكريم بالمأثور ـ كما سبقت الإشارة ـ : تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم ، أو تفسيره بالسنة ، أو تفسيره بالقراءات ، أو تفسيره بأقوال الصحابة وأقوال التابعين.

ونتناول كل لون تفسيري من الألوان السابقة وموقف الماتريدي منه ، كل واحد على حدة :

أ ـ تفسير القرآن بالقرآن :

يقوم الماتريدي بتفسير بعض آيات القرآن الكريم بآيات أخرى منه ، ففي قوله تعالى من سورة الأنعام : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) [الأنعام : ٣] يقول :

«اختلف فيه ؛ قيل : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) : ما تضمرون في القلوب ، (وَجَهْرَكُمْ) : ما تنطقون ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) : من الأفعال التي عملت الجوارح ؛ أخبر أنه يعلم ذلك كله ؛ ليعلموا أن ذلك كله يحصيه ؛ ليحاسبهم على ذلك ؛ كقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ

يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] أخبر أنه يحاسبهم بما أبدوه وما أخفوه ، فعلى ذلك الأول فيه إخبار أن ذلك كله يحصيه عليهم ، ويحاسبهم في ذلك ؛ ليكونوا على حذر من ذلك وخوف».

ومن ذلك ما قاله عند تفسيره قول الله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] : «قيل : قبيله : جنوده وأعوانه ، حذرنا إبليس وأعوانه ، بما يروننا ولا نراهم.

فإن قيل : كيف كلفنا محاربته ، وهو بحيث لا نراه ، وهو يرانا ، ومثله في غيره من الأعداء لا يكلفنا محاربة من لا نراه أو من لا نقدر القيام على محاربته ، وليس في وسعنا القيام بمحاربة من لا نراه.

قيل : إنه لم يكلفنا محاربة أنفسهم ؛ إذ لم يجعل له السلطان على أنفسنا وإفساد مطاعمنا ومشاربنا وملابسنا ، ولو جعل لهم لأهلكوا أنفسنا وأفسدوا غذاءنا ، إنما جعل له السلطان في الوساوس فيما يوسوس في صدورنا ، وقد جعل لنا السبيل إلى معرفة وساوسه بالنظر والتفكير ، نحو قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠] ، وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف : ٢٠١] علمنا ما به ندفع وساوسه وهمزاته ، وجعل لنا الوصول إلى دفع وساوسه بحجج وأسباب».

لكن هناك ملاحظة يجب إثباتها هنا ، وهي بارزة في النموذجين السابقين ، وهي أن الماتريدي حين يفسر القرآن بالقرآن يسلك مسلكا خاصّا يخالف ما درج عليه سابقوه وحتى لاحقوه ؛ ذلك أنه قبل أن يأتي بالآية المفسّرة يقوم بتحليل الآية المفسّرة ، ثم يقول بعد التحليل : نحو قوله تعالى كذا. ثم إن الآية أو الآيات المفسّرة قد تكون غير صريحة في الدلالة على الآية المفسّرة ، بقدر ما يقصد تحليله هو.

وإذا أردنا أن نتبين هذا الفارق بين الماتريدي وغيره من المفسرين يكفينا أن نفتح تفسيرا واحدا هو تفسير ابن كثير الذي يقول عند تفسير قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧] ، «قيل : إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣]» (١).

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، القاهرة (١ / ٨١).

ونموذج آخر : ففي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ٤٨] يقول الإمام ابن كثير : «لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا ، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) يعني يوم القيامة (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي : لا يغني أحد عن أحد ، كما قال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الزمر : ٧] ، وقال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧] ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان : ٣٣] فهذا أبلغ المقامات أن كلّا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا» (١).

فإذا قارنا بين هذه النماذج سنجد أن الماتريدي يأتي بالآيات المفسّرة ليعضد تحليله ، صحيح أن هذه الآيات تدور في فلك الآية المفسّرة ، لكنها لا تتوجه إلى تفسير الآية المفسّرة مباشرة ، وتكون في معناها ، أو تفصل إجمالها كما عند ابن كثير.

وهذا يدعونا إلى القول بأن الماتريدي كان من المجددين في الطريقة حتى مع اعتماده على تفسير القرآن بالقرآن.

وهنا ملاحظة يجدر إثباتها ، وهو أنه بالرغم من أسبقية الماتريدي عن ابن كثير نجد طريقته في التفسير تتسم بالجدة بخلاف الأخير ، فإن طريقته تكاد تدور في فلك طريقة أوائل المفسرين ، ولسنا بذلك نعيب على ابن كثير طريقته ، لكن نريد إثبات الفارق بينه وبين الماتريدي الذي يعتبر سابقا إلى التجديد في التفسير حتى لكثير ممن جاء بعده.

ب ـ تفسير القرآن بالسنة :

لا يترك الماتريدي الاعتماد على السنة ، لكن اعتماده عليها قليل إلى حد ما ، وهو يأتي بالأحاديث المتوافقة والمفسرة للآية موضع الحديث ، ولكن الجدير بالملاحظة أنه يذكر بعض الأحاديث النبوية بالمعنى ، وكأنه يعتمد على حفظه ولا يرجع إلى نصوص الأحاديث أثناء تأويله.

ومن نماذج تفسيره بالحديث في السور محل التحقيق ما جاء عند تفسير قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فبعد ما فسر المقصود من سؤال موسى ربه الرؤية ، وأخذ يعدد الأوجه المحتملة في الآية ، قال : «لكنه لو لا أن القول بالرؤية كان أمرا

__________________

(١) السابق (١ / ٨٩).

ظاهرا ، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجئ فيها إليها ويدفع به الخبر» ، والله أعلم.

وأيضا ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير خبر أنه قال : «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون» (١) ، وسئل : هل رأيت ربك ، فقال : «بقلبي قلبي» (٢) ، فلم ينكر على السائل السؤال ، وقد علم السائل أن رؤية القلب ، إذ هي علم قد علمه ، وأنه لم يسأل عن ذلك ، وقد حذر المؤمنين عن السؤال عن أشياء قد كفوا عنها بقوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) [المائدة : ١٠١] فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء ـ وذلك كفر في الحقيقة عند قوم ـ ثم لا ينهاهم عن ذلك ، ولا يوبخهم في ذلك ، بل يليق القول في ذلك ، ويرى أن ذلك ليس ببديع ، والله الموفق».

ونلاحظ أن الماتريدي لا يكتفي بإيراد الحديث ، بل يحلله ويوجهه ، ويبين مراده ، وفي هذا إثراء لمعنى الآية وبيان المقصود منها.

ونلاحظ ـ أيضا ـ أن الماتريدي يكتفي بجزء من الحديث الدال على ما يريده ؛ فمثلا عند تفسيره قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] يستشهد بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة» (٣) فلا يذكر إلا هذا الجزء من الحديث ؛ وهو الجزء الدال على مراده.

وهو لا يكتفي بإيراد السنة القولية عند تفسيره القرآن الكريم ، بل يأتي بالسنة الفعلية ـ أيضا ـ فعند تفسير قول الله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف : ٢٠٤] ذكر أحاديث تمثل السنة القولية ، وأحاديث تمثل السنة الفعلية ، وأحاديث تمثلهما معا ، فقال : «الثاني : يجوز أن يكون أمر بالاستماع إليه في الصلاة ، على ما قال بعض أهل التأويل أنه في الصلاة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٥٧٥) كتاب التفسير باب (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس) (٤٨٥١) ، ومسلم (١ / ٤٣٩) كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاتي الصبح والعصر (٢١١ / ٦٣٣) من حديث جرير بن عبد الله.

(٢) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في الدر المنثور (٦ / ١٦٠) ولفظه : قال : لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين ثم تلا (ثم دنا فتدلى ...).

(٣) هو طرف من حديث عن أبي هريرة. أخرجه البخاري (٨ / ٣٧٢) كتاب التفسير باب سورة الروم (٤٧٧٥) ، وفي (١١ / ٥٠٢) كتاب القدر : باب الله أعلم بما كانوا عاملين (٦٥٩٩) ، وفي (٣ / ٢٩٠) كتاب الجنائز باب ما قيل في أولاد المشركين (١٣٨٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٧) كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة (٢٢ / ٢٦٥٨).

وقال بعضهم : في حال الخطبة ... وذكر ... أن الآية نزلت في الصلاة ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ في صلاته كانوا يقولون مثل ما قال ، فنزلت الآية بالنهي عن ذلك ، والأمر بالاستماع إليه والإنصات له.

روي عن أبي العالية قال : كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه ، حتى نزلت : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) [الأعراف : ٢٠٤] «فسكتوا» (١).

وعن علباء بن أحمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في صلاة الفجر «الواقعة» وقرأها رجل خلفه ، فلما فرغ من الصلاة قال : «من الذي ينازعني في هذه السورة؟» فقال رجل : أنا يا رسول الله ، فأنزل الله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

وزعم بعضهم أن القارئ خفية يسمى ناصتا ومنصتا ، واستدل بما روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة ، قلت : بأبي أنت ، أرأيت سكاتك بين التكبير والقراءة ، أخبرني ما تقول؟ قال : «أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المغرب والمشرق ...» (٢) وغير ذلك من الدعوات» وغير ذلك من الروايات الدالة على اعتماد الماتريدي على السنة في تفسيره ، وأنه لا يقتصر على نوع واحد من أنواع السنة ، بل يستعين بكل أنواع السنة ؛ القولية والفعلية.

ج ـ تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين :

يعتمد الماتريدي في تفسيره على أقوال الصحابة والتابعين ، ففي تفسير قول الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] ينقل عن الصحابة والتابعين معا ، فيقول : «وقال أبو أمامة الباهلي : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، قال : فينا نزلت معشر أصحاب بدر ، حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا ، إذ انتزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، فقسمه على السواء.

ومجاهد وعكرمة قالا : كانت الأنفال لله والرسول ، فنسخها (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : الأنفال : المغانم كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصة ، ليس لأحد فيها شيء ، ما أصابت

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ كما في الدر المنثور للسيوطي (٣ / ٢٨٦).

(٢) أخرجه البخاري (٢ / ٢٢٧) كتاب الأذان باب ما يقول في التكبير (٧٤٤) ، ومسلم (١ / ٤١٩) كتاب المساجد باب ما يقول بين تكبيرة الإحرام والقراءة (١٤٧ / ٥٩٨) ، وأبو داود (١ / ٢٠٥) كتاب الصلاة باب السكتة عند الافتتاح (٧٨١) ، والنسائي (٢ / ١٢٩) كتاب الافتتاح باب الدعاء بين التكبيرة والقراءة.

سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول ، فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها ، فقال : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ليس لكم فيها شيء» (١).

ففي النص السابق ينقل عن الصحابة وينقل عن التابعين ، ولكنه لا يقف عند حدود النقل بل يذكر الاحتمالات والوجوه التي يراها في الآية ، وهي وجوه عقلية في جملتها ، سوف نعرض لها بعد قليل.

وإنما الذي يعنينا هنا ـ بعد العرض السابق ـ أن نؤكد على أن التفسير بالمأثور يمثل جزءا من تفسير الماتريدي في تأويلاته ، وأن الماتريدي يقف موقف الذي يقبل الاعتماد على المأثور في التفسير.

ثانيا : موقف الماتريدي من التفسير بالمعقول :

يعتمد الماتريدي على العقل كثيرا في تفسيره ، ولعل مرجع ذلك إلى أن الماتريدي ـ في مجمله ـ تابع للمدرسة العراقية ، أو مدرسة الرأي التي أسسها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقاد لواءها من بعده أعلام أفذاذ ، من أبرزهم أبو حنيفة النعمان وتلميذاه أبو يوسف ومحمد الذين أثروا الحياة الفكرية والعلمية في الحضارة الإسلامية.

ولأن الماتريدي تلميذ لتلك المدرسة ، بل رائد من روادها فقد اصطبغ بصبغة هذه المدرسة ، لكنه لم يكن مجرد تابع أو مقلد ، بل كان ذا سمات خاصة ، مجددا مبتدعا ، وسنعرف ذلك في فصل تال إن شاء الله تعالى.

والذي يدل على عقلانية الماتريدي أمور :

أ ـ ذكر الاحتمالات المتعددة في تأويل الآيات :

يذكر الماتريدي في كل آية يتناولها الأوجه الممكنة والمحتملة في تفسيرها ، والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا الشأن ، نذكر منها نموذجا واحدا.

فعند تفسيره لقول الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة : ٦] يقف عند قوله تعالى : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) يقلب العبارة القرآنية على وجوهها المحتملة ، فيقول : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) دلالة على أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه ؛ إذ لو قبل ، لكان يكون مأمنه هذه الدار ، لا تلك الدار ، ولكان يحق عليه الخروج

__________________

(١) أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور (٣ / ٢٩٤).

منها ، لا العود إليها.

ثم معلوم أن كلام الله هو حجته ، وأن الحجة قد لزمته لوجهين :

أحدهما : ما ظهر عجز الخلق عن مثله ، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول الله بالرد ، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره ؛ فكان ذلك حجة بينة لزمتهم.

والثاني : أن جميع ما يتلى منه لا يؤتي عن آيات إلا وفيها مما تشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة ؛ مما لو قوبل بما فيه المعنى ، وما يحدث به من الفائدة ؛ ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب ، ولا يخفى عليه شيء ، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابرا ، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل لما لم يكن يضمن أمانة القبول ، ولا أن يعارضه بالرد ، وذلك أعظم مما فيه الحدود ، فالحد أحق ألّا يقام عليه ، والله أعلم».

ثم قال حول العبارة ـ أيضا ـ : «ثم قوله : (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) يحتمل وجهين : أحدهما : أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه ؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه ، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه.

والثاني : أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه ، وفي ذلك لزوم حق الأمان للجميع بإجارة بعض ، وعلى ذلك كل مسلم.

ثم سماع كلام الله يخرج عن القرآن ، وفيه ما ذكرت من الدلالة ، وعلى سماع أوامر الله ونواهيه في حق الفرض عليه ، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن. والله أعلم».

فهنا الماتريدي يقول في القرآن برأيه ، ويعرض الأوجه ويدلل تدليلا عقليّا دون أن يذكر ولو في إشارة دليلا نقليّا.

ب ـ اهتمامه بالأمور الفلسفية والعقدية :

يغص تفسير الماتريدي بالأمور الفلسفية والعقدية ، فما من آية تتعرض لأمر عقدي أو فكري إلا ويقف أمامها لإبراز جوانبها المتعددة بإعمال عقله.

ومن المسائل الاعتقادية التي ناقشها الماتريدي مسألة : سؤال أهل النار ربهم العودة إلى الدنيا كي يعملوا صالحا ، وذلك من خلال تفسيره قول الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] ، مستخلصا بعض

الأمور العقيدية في إطار تفسيره للآية.

يقول الماتريدي : «قوله عزوجل : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) قيل : إلى الدنيا ، وقيل : إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة ، لكن هذا تكلف لتحقيق مراد قوم ظهر سفههم ، ولعله ليس عندهم التمييز ، أو يقولون سفها كما قالوا كذبا بقوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

وقوله عزوجل : (بِآياتِ رَبِّنا) قال الحسن : بدين ربنا.

وقال قوم : بحجج ربنا ، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأول لا على الجهل ، وإن كان ثم آيات عاندوها ، وهم قوم قد سبق من الله الخبر عنهم مما فيه العناد منهم ...

ثم دل قوله : (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق لوجهين :

أحدهما : أنهم جعلوا الإيمان مقابل التكذيب ؛ ليعلم أنه التصديق.

والثاني : أنهم ذكروا الآيات ، والآيات يكذب بها ويصدق لا أن يعمل بها.

وبعد : فإن الذي في حد إمكان الإتيان مما فات هو التصديق ؛ إذ الغير لو توهم الأمر ليوجد ما سبق من الترك والتصديق لو أمر ، فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجمع ألا يؤمر من آمن بقضاء شيء مما فات ، فثبت أنهم أرادوا به التصديق ، وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة».

ويمضي الماتريدي في عرض هذه القضية العقدية ، ولا يقتصر على عرضه هو لها ، بل يستأنس بأقوال الآخرين ويعرض آراءهم ، فيقول : «وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ رُدُّوا) أي : إلى ما تمنوا أن يردوا إليه (لَعادُوا لِما نُهُوا) أخبر الله عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت إنما كان في علمه أن يكون ، وإن كان من حكمه ألا يردوا في ذلك أن الآية تضطر صاحبها ، ولا قوة إلا بالله.

وقال قوم : إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم الله أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد.

وقال قوم : إذ لم يجز لزوم العذاب بما يعلم الله من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف ، فعلى ذلك أمر الخلاف ، لكن الآية في خاص منهم ، وهم الذين اعتدوا وعاندوا الحق بعد الوضوح ، على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدا ، ثم

أمهلهم على ذلك ، وهذا يبين أن ليس يمنع الإعادة لما يعودون له لو كان يحتمل في الحكمة الإعادة ، إذ قد أمهل وأبقى على العلم بذلك ، فعلى ذلك الإعادة ، لكنه أخبر عن تعنتهم ، ثم ظنت المعتزلة أن الله لو علم أنهم لا يؤمنون لردهم إلى ذلك ؛ إذ بين أنهم لا يؤمنون فيستدلون بهذا ؛ إذ ليس لله قبض روح يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يوما من الدهر ، وقد بينا نحن أن ذلك لا يوجب ، وإن كان أولئك في علم الله أن يعودوا إلى ذلك ... إلخ.

ونلاحظ الأسلوب الفلسفي في عرض القضية ، وبنائها على مقدمات تسلم إلى نتائج كما يفعل المناطقة ، متأثرا في ذلك بالمدارس العقلية ، أو سالكا سبيلها.

ج ـ اهتمامه بالآيات الداعية إلى إعمال العقل :

يقف الماتريدي طويلا أمام الآيات التي تخاطب العقل الإنساني والحواس الإنسانية ، ففي قوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) قال : «يحتمل الأمر بالنظر وجوها ، أي : يحتمل : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أن كيف يقلبها ويحولها من حال إلى حال ، ومن لون إلى لون ، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته ، أي كمّ خرج ، وأي كمّ مقدار خرج ـ لم يقدروا عليه ؛ ليعلموا أنه قادر على إحياء الخلق بمرة واحدة ، وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة».

وهكذا يلح الماتريدي على إعمال العقل في تفسير القرآن الكريم ، لكنه العقل المنضبط غير المنفلت.

ومن خلال ما سبق نتبين بوضوح انتماء الماتريدي التفسيري ، فهو ينتمي من غير مرية إلى اتجاه معتدل يوازن بين النقل والعقل ، وإن كنا نلمس ميلا إلى العقل أحيانا عند تفسيره لبعض الآيات ، وبخاصة الآيات التي تناقش قضايا عقدية وتقيم البرهان على صحتها ، أو الآيات التي تخاطب العقل والفكر كحجج وبراهين على وجود الله ووحدانيته.

* * *

الفصل الثاني

منهج الماتريدي في تفسيره

في هذا الفصل تحاول الدراسة تلمس منهج الماتريدي في تفسيره في ضوء السور موضوع التحقيق في القسم الثاني من هذا البحث.

ويجدر بنا قبل الخوض في بيان منهج الماتريدي في التفسير أن نخص المنهج بنبذة نعرف به فيها لغة واصطلاحا.

المنهج لغة :

المنهج من نهج الطريق ينهج نهجا ، ونهوجا : وضح واستبان ، ويقال : نهج أمره ، ونهج الدابة أو الإنسان نهجا ونهيجا : تتابع نفسه من الإعياء ، ونهج الثوب : بلى وأخلق. ويقال : نهج الطريق : بينه ، ونهج الطريق : سلكه.

وانتهج الطريق : استبانه وسلكه ، واستنهج الطريق : صار نهجا ، ونهج سبيل فلان : سلك مسلكه.

والمنهاج : الطريق الواضح ، وفي التنزيل العزيز : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] والمنهاج : الخطة المرسومة ، ومنه : منهاج الدراسة ، ومنهاج التعلم ونحوهما ، والجمع : مناهج. والمنهج : المنهاج ، والجمع : مناهج (١).

ومن كل هذه المعاني ، نرى أن أقرب معنى لغوي يعبر عنه (المنهج) ويخص ما نحن فيه هو المنهج بمعنى الطريق الواضح ، أو بمعنى الخطة المرسومة.

وبهذا يكون المنهج لغة : هو ما يرسمه مؤلف ما من طريقة يسير عليها وهو يؤلف كتابه.

وأكبر الظن أن المنهج بالمعنى اللغوي المذكور كان بعيدا عن تفكير الماتريدي وأقرانه ، فما أظن أنهم كانوا يصنعون لأنفسهم خطة دقيقة يسيرون عليها ، أو منهجا واضحا ينتهجونه عند تأليفهم ، ولكن هذا لا يعني أن تآليفهم كانت عشوائية بدون ضابط ، وظني أن الضابط في تلك الآونة هو الانتماء المذهبي أو التفكير العقلي المعين الذي يقود صاحبه إلى التزام أسس معينة في التأليف ، لكن أن نقول بأن القدماء ـ ومنهم الماتريدي طبعا ـ كانوا يعرفون المنهج وخصائصه وسماته وضوابطه كما هو في واقعنا الحاضر

__________________

(١) المعجم الوسيط ، مادة (نهج) وانظر : لسان العرب ، مادة (نهج).

فذلك بعيد التصور.

المنهج في الاصطلاح :

يمكن تلمس تعريف المنهج في الاصطلاح في العلوم التطبيقية وما إليها : كالطبيعة والأحياء والتاريخ ، وهو أنه يعني : «الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة» (١).

وعلى هذا ، فمنهج الماتريدي في التفسير هو الطريق الذي سلكه للكشف عن معاني القرآن بواسطة مجموعة من السبل يسلكها اختطها لنفسه واختارها دون غيرها ، للوصول إلى مراده من تفسيره للقرآن الكريم.

منهج الماتريدي في تفسير القرآن الكريم :

سبق أن أشرت منذ قليل إلى أن الذي يحدد طريقة القدماء أو منهجهم في مؤلفاتهم ، إنما كانت تتحدد تبعا لمجموعة من العوامل المكونة لشخصياتهم سواء كانت هذه العوامل مذهبية أو ثقافية أو فكرية أو غير ذلك ، وخاصة أن علماءنا القدماء لم يكونوا يعرفون عن المنهج بالمفهوم الحديث شيئا.

ولذلك إذا أردنا الوقوف على طبيعة المنهج الذي سلكه الماتريدي في تفسيره يجدر بنا أن نقف على القضيتين الآتيتين :

القضية الأولى : مصادر الماتريدي في التفسير وطريقته في التعامل معها.

القضية الثانية : طريقة الماتريدي العامة في التفسير.

القضية الأولى : مصادر الماتريدي وطريقته في التعامل معها :

ما من شك في أن العالم ـ أي عالم ـ يتأثر بمن سبقوه ويستفيد من علمهم ، بل ومن طريقتهم.

وفي علم التفسير يستفيد المفسر ـ فضلا عن إفادته من العلماء السابقين ـ من مصدرين عظيمين لا يستغني عنهما ، ولو استغنى عنهما لأصاب تفسيره خلل عظيم وعطب خطير ، ألا وهما الكتاب والسنة.

__________________

(١) الدكتور أحمد بدر : أصول البحث العلمي ومنهاجه (وكالة المطبوعات ، الكويت ، دار القلم للتوزيع ، الطبعة السابعة ١٩٨٤ م) (ص ٣٣).

وقد سبق أن بينا عند الحديث عن انتماء الماتريدي التفسيري اعتماده عليهما ، وبينا في إجمال سريع كيفية تعامله مع هذين المصدرين حينما يعتمد عليهما في تفسيره للقرآن الكريم ، وفي هذا الفصل سنفصل القول في هذين المصدرين وفي المصادر الأخرى التي أثرت تفسيره ، وأثّرت فيه ، وهي :

أولا : تفسير القرآن بالقرآن :

لا ريب أن أعظم ما يفسر به القرآن الكريم هو القرآن نفسه ، فقد أجمع العلماء على اعتباره المصدر الأول للتفسير ، وهو أجل أنواع التفسير وأشرفها ؛ إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل جلاله من الله ، فصاحب البيت أدرى بما فيه ، فما أجمل في مكان فقد فسر في مكان آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في مكان آخر ، فالأخذ بذلك هو مقتضى البدهية المقررة ، وفوق ذلك هو مقتضى المعلوم من الدين بالضرورة ؛ إذ القرآن الكريم هو الأصل الأول ، والعماد المتين لهذا الدين ، ولا يمكن تحقق الإيمان دون الأخذ بما فيه جملة وتفصيلا (١).

والحق أن الماتريدي اعتمد على القرآن الكريم في تفسيره ـ وقد أشرنا إلى طرف من ذلك عند حديثنا عن موقفه من التفسير بالمأثور ـ لكنه لم يكثر منه ، ولعل ذلك راجع إلى ميله إلى التفسير بالرأي.

والطريقة الشائعة في استعانة الماتريدي بالقرآن أنه يحلل الآية ، ثم بعد ذلك نجده يأتي بآية أخرى دالة على ما يقول ، وهذا يؤكد ميله إلى القول في القرآن بالرأي ، لكنه الرأي المقيد بالنص.

ومن النماذج الدالة على هذا ما جاء عند تفسيره قول الله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فقد قال : «وقوله : (وَكَذلِكَ) لا يتكلم به إلا على أمر سبق ، فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يقول : لما قالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء الأعبد من قومك ، أفنحن نكون تبعا لهؤلاء ، ونحن سادة القوم وأشرافهم؟! فقال عند ذلك : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ، أي : كما فضلتكم على هؤلاء في أمر الدنيا ، فكذلك فضلتهم عليكم في أمر الدين ، ويكونون هم المقربين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمدنين مجلسهم إليه ، وأنتم أتباعهم في أمر الدين ، وإن كانوا أتباعكم في أمر الدنيا ، وكذلك امتحان بعضهم ببعض.

__________________

(١) السيوطي : الإتقان في علوم القرآن (مطبعة مصطفي البابي الحلبي ، الطبعة الرابعة ، ١٩٧٨ م) (٢ / ٢٢٥).

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يقال : كما كان له امتحان كل في نفسه ابتداء محنة ، كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ، وكقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) ، وكقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥] الآية».

فالماتريدي بعد ما حلل الآية موضع التفسير دفع بالآيات ليدلل على ما ذهب إليه ، وهي كلها تدل على معنى الآية المفسرة ، أو شبيهة بها.

ومنه ـ أيضا ـ ما جاء عند تفسير قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) حيث قال : «ويحتمل أن تكون الآية في جملة المؤمنين ، أي : استجيبوا لله في أوامره ونواهيه ، وللرسول فيما يدعوكم إليه ، وإنما كان يدعو إليه إلى دار الآخرة ، كقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) ، ودار الآخرة هي دار الحياة ؛ كقوله : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) كأنه قال ـ والله أعلم ـ أجيبوا لله وللرسول ؛ فإنه إنما دعاكم إلى ما تحيون فيها ، ليس كالكافر الذي لا يموت فيها ، ولا يحيا بتركه الإجابة».

ونلاحظ هنا أنه بدأ بالتحليل ، ثم ذكر الآيات الدالة ، ثم عاد للتحليل والتوجيه مرة أخرى.

وإذا كانت النماذج السابقة تتجه فيها الآيات المفسّرة إلى بيان معنى الآية المفسّرة ، فإن الآية المفسرة قد تفسر كلمة واحدة في الآية ، كما جاء في تفسيره لقول الله عزوجل : (وَاتَّقُوا فِتْنَةًلا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] فقد أراد الماتريدي تفسير كلمة (وَاتَّقُوا) فقال : «أي اتقوا فتنة التي تصيب الظلمة منكم خاصة بظلمهم ، وهو العذاب ؛ كقوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

ثانيا : أسباب النزول :

استعان الماتريدي في تفسيره ببيان أسباب النزول ، وأحيانا يحشر المرويات التي وردت في سبب النزول ولا يكتفي برواية واحدة ، وأحيانا أخرى يكتفي برواية واحدة.

ومما ذكره في أسباب النزول ما جاء في سبب نزول قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ...) الآية.

حيث قال : «فالسؤال يحتمل وجهين :

يحتمل أنهم سألوا عن حلها وحرمتها ؛ لأن الغنائم كانت لا تحل في الابتداء ، قيل : إنهم كانوا يغنمونها ويجمعونها في موضع ، فجاءت نار فحرقتها ، وسألوا عن حلها

وحرمتها ، فقال : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، أي : الحكم فيها لله والرسول يجعلها لمن يشاء.

ويحتمل السؤال عنها عن قسمتها ، وهو ما روي في بعض القصة أن الناس كانوا يوم بدر ثلاثة أثلاث : ثلث في نحر العدو ، وثلث خلفهم ردءا لهم ، وثلث مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرسونه ، فلما فتح الله عليهم اختلفوا في الغنائم ، فقال الذين كانوا في نحر العدو : نحن أحق بالغنائم ، نحن ولينا القتال ، وقال الذين كانوا ردءا لهم : لستم بأولى بها منا ، وكنا لكم ردءا ، وقال الذين أقاموا مع رسول الله : لستم بأحق بها منا ، كنا نحن حرسا لرسول الله فتنازعوا فيها إلى رسول الله ، فنزل (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وقال أبو أمامة الباهلي : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، قال : فينا نزلت معشر أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا ؛ إذ انتزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله ، فقسمه على السواء» (١).

ثالثا : السنة المطهرة :

استعان الماتريدي في تفسيره لكتاب الله بالسنة المطهرة ، وقد ذكرنا أمثلة لهذا من قبل عن تناولنا لموقفه من التفسير بالمأثور ، وهو يكثر من ذكر الأحاديث في تفسيره ، من نحو ما جاء عند تفسيره قول الله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥] فقد قال : «وقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) ... قال بعضهم : الدعاء هاهنا هو الدعاء ، وقد جاء «الدّعاء مخّ العبادة» (٢) ؛ لأن العبادة قد تكون بالتقليد ، والدعاء لا يحتمل التقليد ، ولكن إنما يكون عند الحاجة لما رأى العبد من نفسه الحاجة والعجز عن القيام بذلك ، فعند ذلك يفزع إلى ربه ، فهو مخ العبادة من هذا الوجه ...

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قيل : المجاوزين الحد بالإشراك بالله. وقيل : لا يحب الاعتداء في الدعاء ؛ نحو أن يقول : اللهم اجعلني نبيّا أو ملكا ، أو أنزلني في الجنة منزل كذا ، وموضع كذا.

وروي عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول : «اللهم إني أسألك الفردوس ، وأسألك كذا ، فقال له عبد الله : سل الله الجنة وتعوذ من النار ؛ فإني سمعت رسول الله ـ

__________________

(١) أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه كما في الدر المنثور (٣ / ٢٩٢).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٨٦) كتاب الدعوات باب (٢) (٣٣٧١) والطبراني في الأوسط (٣٢٢٠).

وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

وانظر ضعيف الترمذي للعلامة الألباني (٦٦٩).

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور» (١) ويحتمل الاعتداء في الدعاء هو أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له».

وهناك بعض الأمور يجدر التنبيه عليها في تفسير القرآن بالحديث عند الماتريدي ، أبرزها :

أ ـ أنه لا يذكر سند الحديث إلا قليلا جدّا.

ب ـ أنه ـ أحيانا ـ يذكر الحديث بالمعنى.

ج ـ أنه ـ أحيانا ـ يورد شرحا وتحليلا على الحديث المستشهد به.

د ـ أنه يذكر أكثر من حديث في الموضع الواحد.

ه ـ نشعر أن الماتريدي لا يهتم بمدى صحة الحديث.

رابعا : أقوال المفسرين السابقين :

استعان الماتريدي بأقوال المفسرين قبله من لدن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم ، فهو يدلل على صحة ما يذهب إليه أحيانا بذكر أقوال هؤلاء المفسرين حول الآية.

وطريقته في التعامل مع أقوال المفسرين قبله ، تكاد تتطابق مع طريقة تعامله مع القرآن والسنة حين يعتمد عليهما في التفسير ؛ حيث يقوم بتحليل الآية محل التأويل ، ثم يعرض بعد ذلك أقوال العلماء حولها ، وقد يعرضها على إطلاقها ، وقد يختار من بينها ، وقد يبدي اعتراضا على بعضها.

ففي قوله تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) يبدأ الماتريدي بشرح معنى الآية فيقول : كيف تعطون لهم العهد ، وكيف يستحقون العهد ، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلّا ولا ذمة.

وقال بعضهم : وكيف لا تقاتلونهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً).

ثم أدار حوارا طويلا ، نقل فيه كثيرا من أقوال المفسرين قبله حول معنى كلمة (الإل) ، قال : «الإل : الله ، والذمة : العهد. وقيل : الإل : القرابة ، وقيل : الإل : العهد والذمة.

وقال القتبي : الإل : العهد. قال : ويقال : القرابة.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٨٧) وأبو داود (١ / ٢٤) كتاب الطهارة باب الإسراف في الماء (٩٦) وابن ماجه (٢ / ١٢٧١) كتاب الدعاء باب كراهية الاعتداء في الدعاء (٣٨٦٤) وابن حبان (٦٧٢٥) والحاكم (١ / ٥٤٠).

وقال أبو عوسجة : الإل : القرابة.

وقال أبو عبيدة : الإل : العهد ، والذمة : التذمم.

وقال ابن عباس : الإل : الله ، بمنزلة جبريل ، تفسيره عبد الله ؛ لما قيل : جبر هو عبد الله.

وقيل : الإل : الحرم ، يقول : كيف تعطونهم العهد ، وهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) القرابة ولا العهد ، ولا يرقبون الحرم فيكم ، وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحمة حتى يعاون بعضهم بعضا ، ويناصره ، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة ، وكانوا يرقبون حرم الله حتى لا يقاتلوا في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام ، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل ، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها».

ويلفت النظر هنا أن الماتريدي تارة ينص على اسم العالم الذي ينقل عنه ، وتارة يعبر ب «قال بعضهم» أو «قيل».

ويلفت النظر ـ أيضا ـ أنه قدم تفسيرا للآية أولا دون أن يصرح بمعنى الإل ، ثم لما أورد قول بعضهم من أن الإل بمعنى الحرم ، قدم تفسيرا للآية أوضح وأبين من الأول ، ولا ندري إن كان هذا التفسير كلامه أم هو ناقل له عن غيره.

ونلاحظ أن نقوله السابقة اتجهت إلى معنى اللفظ في مجملها ، ولم تتجه إلى المعنى العام للآية ، وهو بذلك لا يكون ناقلا عن علماء التفسير وحسب ، بل قد يقع نقله في دائرة النقل عن علماء اللغة والأدب ، يدل على ذلك النموذج الآتي.

فعند قول الله تعالى : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) [التوبة : ١٦] اختار أن يكون معنى (وَلِيجَةً) : ملجأ يلجئون إليه ، وهذا المعنى مستفاد من تفسيره العام للآية ، ثم قال : «وقوله : (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب : الوليجة : البطانة من غير المسلمين ، وأصلها : الولوج ، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلا من المشركين وخليطا ودودا ، وجمعه : الولائج».

ثم أخذ يعدد معاني الوليجة ناقلا إياها عن بعض العلماء دون ذكر لأسمائهم.

وقد ينقل أقوال العلماء ، ثم يعرض عنها ، ويختار ما يستريح إليه ، وبعبارة أدق يتبنى رأيا خاصّا له ، فمثلا عند تفسير قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨].

يقول : «اختلف فيه :

قال بعضهم : النهي عن دخول المسجد الحرام نفسه.

وعندنا أن النهي عن دخول المسجد الحرام نهي عن دخول مكة نفسها للحج وإقامة العبادات ؛ دليله وجوه :

أحدها : قوله : (بَعْدَ عامِهِمْ) ولو كان لدخول المسجد لكان ذلك العام أحق عن المنع في دخوله من غيره.

والثاني : في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وخوف العيلة إنما يكون عن دخول مكة ؛ لأنه لو كان النهي عن دخول المسجد نفسه ، لكان لا خوف عليهم في ذلك ؛ لأنهم يحضرون ويدخلون مكة للتجارة ؛ فلا خوف عليهم في ذلك.

والثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا يحجّنّ بعد العام مشرك» (١) وفي آخر الآية دلالة ذلك ؛ لأنه قال : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

ونلاحظ ـ هنا ـ أنه يعترض على أسلافه ، ويذهب بعيدا عنهم في اختياره ، ويعضد اختياره بأدلة أرى أن الصواب يحالفه فيها.

وأحيانا نجد الماتريدي يطرح أقوالا للمفسرين السابقين ، ويذكر المعنى الذي يرتضيه ، ثم يعود إلى أقوال المفسرين السابقين مرة أخرى ، ويردها ، ويدلل على صحة تفسيره وخطأ تفسيرهم ، فمثلا عند قول الله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) يقول : «ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم ، يعني إلى المنافقين ، فقالوا : قد عيرنا وما نزل فيكم حتى متى ، فكانوا يحلفون للأنصار : والله ما كان شيء من ذلك ، فأكذبهم الله فقال : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) ما كان الذي بلغكم (لِيُرْضُوكُمْ) بما حلفوا (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُ) منكم يا معشر الأنصار (أَنْ يُرْضُوهُ) حيث اطلع على ما حلفوا وهم كذبة».

ثم لا يرتضي هذا التأويل فيقول : «والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كل منهم برسول الله ، أو طعن فيه ، أو استهزاء بدين الله ، فاعتذروا إليهم ، وحلفوا على ذلك ؛ ليرضوهم ، فقال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) حقيقة ، ولكن ليسوا بمؤمنين».

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٥٦٥) كتاب الحج باب لا يطوف بالبيت عريانا (١٦٢٢) ومسلم (٢ / ٩٨٢) كتاب الحج باب لا يحج بالبيت مشركا (٤٣٥ / ١٣٤٧) من حديث أبي هريرة.

ثم شرع يعدد أقوال أهل التأويل الأخرى ، مفندا إياها ، فقال : «وأما ما قاله بعض أهل التأويل : إن رجلا من المنافقين قال : والله ، لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمر ، فسمعها رجل من المسلمين ، فأخبر بذلك رسول الله ، فدعاه ، فقال : «ما حملك على الّذي قلت» فحلف والتعن ما قاله ، فنزل قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) هذا لو كان ما ذكر لكانوا يحلفون لرسول الله ، لا يحلفون لهم ؛ دل أن الآية في غير ما ذكر.

ويذكر ابن عباس أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فجعلوا يحلفون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبدا. وكذلك قال غيره من أهل التأويل ، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول الله ويرضونه ، لا للمؤمنين ؛ دل على أن الأشبه ما ذكرنا من وجوه :

أحدها : أن فيه دلالة تحقيق رسالته ليعلموا أنه حق ؛ حيث اطلع عليه بما أسروه في أنفسهم ، وكتموا من المكر وأنواع السفه.

والثاني : ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه ؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون.

والثالث : تنبيها للمؤمنين وتعليما لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف ؛ طلبا لإرضاء بعضهم بعضا ، ولكن يتوبون إلى الله ، ويطلبون به مرضاته».

والنقول التي جاء بها الماتريدي في هذا النص تدخل في إطار ما يعرف بأسباب النزول ، ولكنه عزاها هو إلى أهل التأويل تارة وإلى ابن عباس تارة أخرى ، ثم ردها دون أن يتحقق من مدى صحتها ، ولعل هذا من المآخذ التي يمكن أن يؤاخذ بها في تفسيره ، لكن مع ذلك فإن ما ساقه من حجج عقلية يقوي موقفه ، خاصة وأنه ساق رواية تكاد تكون رواية فرضية ، يفهم هذا من كلامه ؛ هذا من جهة.

ومن جهة أخرى : يدل هذا النص على أن الماتريدي لا يهمل أسباب النزول في تفسيره ، وإن كانت طريقته ذات سمات خاصة في عرضه لهذه الأسباب تخالف ما درج عليه المفسرون ، فالمفسرون حين يتعرضون لذكر هذه الأسباب يصرحون بذلك ، فيقولون : ورد في سبب النزول كذا ، أو سبب نزول هذه الآية أو الآيات ما روي كذا ... وهكذا.

وقد يعرض الماتريدي أقوال أهل التأويل دون أن يتعرض لها بالنقد ، ولكن يضيف إليها ، كما جاء في تفسير قوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)

[الأنعام : ١٠٩] ؛ حيث قال : «اختلف فيه :

قال الحسن وأبو بكر الأصم : إنه خاطب بقوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) أهل القسم الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ، فقال : (وَما يُشْعِرُكُمْ) أي : ما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءتكم آية ، ثم استأنف ، فقال : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ... وهكذا كان يقرؤه الحسن بالخفض : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على الاستئناف والابتداء.

وقال غيرهم من أهل التأويل : الخطاب لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنهم لما قالوا : (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) ظنوا أنهم لما أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم يؤمنون إذا جاءتهم آية : يفعلون ذلك ويؤمنون على ما يقولون ؛ فقال لهم : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) على طرح «لا» ، أي : ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون. وهكذا كأنه أقرب.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن أهل الإسلام قالوا : إنهم وإن جاءتهم آية لا يؤمنون ، فقال عند ذلك : (وَما يُشْعِرُكُمْ) خاطب به هؤلاء (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

والثاني : أنهم وإن آمنوا بها إذا جاءت ، فنقلب أفئدتهم من بعد».

وعلى كل حال فما نقله الماتريدي عن أهل التأويل أو أهل التفسير ، فإنه لم يقف ـ في الجملة ـ حياله عاجزا ، بل حاور سابقيه ، ورد أقوالهم ونقدها وفندها أحيانا ، وزاد عليها أحيانا أخرى.

خامسا : علم الكلام :

سبق أن بينا أن للماتريدي مذهبا اعتقاديا ينصر فيه اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وبينا بشيء من التفصيل الفارق بين مذهبه والمذاهب الأخرى ، وبخاصة الأشعرية.

وتفسير الماتريدي لا يخلو من آراء كلامية ، سواء صرح بذكر قائليها أو لم يصرح ، ولعلنا نعرض لبعض النماذج التي تؤيد ما نقول.

يقول الماتريدي عند تفسير قول الله تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) [الأنعام : ٣٦] : «الحياة حياتان : مكتسبة : وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات ، وحياة منشأة : وهي حياة الأجسام ، فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة ، وأما المؤمن فله الحياتان جميعا ؛ المكتسبة والمنشأة ، فيسمي كلّا بالأسماء التي اكتسبها ، فالمؤمن اكتسب أفعالا طيبة فسماه بذلك ، والكافر اكتسب أفعالا قبيحة ، فسماه بذلك».

ومسألة الكسب مسألة كلامية ، وهي مسألة خلافية بين الأشعرية والماتريدية كما سبق بيانها.

وقد اهتم الماتريدي في تفسيره هذا بدحض آراء المعتزلة وتفنيدها ـ اهتماما كبيرا ، والأمثلة على هذا كثيرة ومنتشرة على مدار التفسير ، فمن ذلك ما ذكره في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦١] حيث قال : «إن الآية دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأنه ذكر مجيء الموت وتوفي الرسل ، وقال : خلق الموت والحياة ، ومجيء الموت هو توفي الرسل ثم أخبر أنه خلق الموت دل على أنه خلق توفيهم ؛ فاحتال بعض المعتزلة في هذا ، وقال : إن الملك هو الذي ينزع الروح ويجمعه في موضع ، ثم إن الله يتلفه ويهلكه فلأن كان ما قال ، فإذن لا يموت بتوفي الرسل ؛ لأنهم إذا نزعوا وجمعوا في موضع تزداد حياة الموضع الذي جمعوا فيه ؛ لأنه اجتمع كل روح النفس في ذلك ، فإن لم يكن دل أن ذلك خيال ، والوجه فيه ما ذكرنا من الدلالة ، وهو ظاهر بحمد الله ، يعرفه كل عاقل يتأمل فيه ولم يعاند ، وبالله التوفيق» (١).

ويمكنني القول : إنه في مرآة تفسير الماتريدي انعكس اتجاهه العقدي والمذهبي ، فبرز واحدا من حماة المذهب السني الماتريدي ذائدا عن حصنه ، غيورا على شرف كلمته ، متصديا لأهل الأهواء والبدع ، منازلا المعتزلة والجهمية والخوارج والمرجئة والجبرية وغيرهم ، داحضا آراءهم في ضوء التنزيل الكريم ، ومن ثم كان رائدا لمن جاء بعده من العلماء الذين نقلوا عنه ، ويكفي أن نلقي نظرة على تفسير مثل تفسير النسفي ليتأكد لنا ذلك ، حتى لقد ذكر بعض الباحثين أن النسفي لم يصرح بمصدره الكلامي إلا فيما أخذه عن أبي منصور الماتريدي.

وليتأكد لنا ذلك نعرض لمسألة الجبر والاختيار التي ناقشها الماتريدي عند تفسيره قول الله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] فقال :

«قال الحسن : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة القدرة ، وقال : لو شاء الله قهرهم وأعجزهم حتى لم يقدروا على معصية قط ، على ما جعل الملائكة ـ جبلهم ـ على الطاعة حتى لا يقدروا على معصية قط ، ثم يفضل الملائكة على الرسل والأنبياء والبشر جميعا ، ويقول : هم مجبورون على الطاعة ؛ فذلك تناقض في القول لا يجوز من كان مقهورا مجبورا على

__________________

(١) ينظر : محمود لطفي محمد جاد عبد العاطي : منهج الإمام النسفي في تفسير القرآن ومقارنته بمنهج الزمخشري والبيضاوي وأبي السعود (رسالة دكتوراه ، كلية أصول الدين ، جامعة الأزهر) (ص ٦٥).

الطاعة يفضل على من يعمل بالاختيار مع تمكن الشهوات فيه ، والحاجات التي تغلب صاحبها وتمنعه عن العمل بالطاعة.

أو يقول : فضلهم بالجوهر والأصل ، فلا يجوز أن يكون لأحد بالجوهر نفسه فضل على غير ذلك الجوهر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر فضل شيء بالجوهر إلا مقرونا بالأعمال الصالحة الطيبة ؛ كقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وغيره ، وقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، وقوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ونحوه ، لم يفضل أحدا بالجوهر على أحد ، ولكن إنما فضله بالأعمال الصالحة ؛ لذلك قلنا : إن قوله يخرج على التناقض.

وتأويل قوله : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) عندنا ظاهر ، ولو شاء لهداهم جميعا ووفقهم للطاعة وأرشدهم لذلك ، وهو كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ ... فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣] الآية ، فإذا كان الميل إلى الكفر لمكان ما جعل لهم من الفضة والزينة ، فإذا كان ذلك للمؤمنين آمنوا ، ثم لم يجعل كذلك ؛ دل هذا على أن قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) هو الأمر والرضا ، أو ذكروا على الاستهزاء ؛ حيث قال : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

والمعتزلة يقولون : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة قسر وقهر ، وقد ذكرنا أنه لا يكون في حال القهر إيمان ، إنما يكون في حال الاختيار ، والمشيئة مشيئة الاختيار ، ولا يحتمل مشيئة الخلقة ؛ لأن كل واحد بشهادة الخلقة مؤمن ؛ فدل أن التأويل ما ذكر».

فالنص يدل دلالة واضحة على تبني الماتريدي الدفاع عن عقيدة أهل السنة ، التي تقول بأن أفعال العباد اختيارية ليس فيها إجبار ، يقول الأسفرائيني :

أفعالنا مخلوقة لله

لكنها كسب لنا يا لاهي

وكل ما يفعله العباد

من طاعة أو ضدها مراد

لربنا من غير ما اضطرار

منه لنا فافهم ولا تماري (١)

فأهل السنة والجماعة أثبتوا أن العباد فاعلون حقيقة ، وأن أفعالهم تنسب إليهم على وجه الحقيقة لا على جهة المجاز ، وأن الله خالقهم وخالق أفعالهم.

هذا ، وقد يصرح الماتريدي بنسبة الآراء الاعتقادية إلى أصحابها ، دون تعليق منه ،

__________________

(١) عبد العزيز السلمان : الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الوسطية (دار الدعوة السلفية ، الإسكندرية) (ص ٢٩١).

ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قول الله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] حيث قال : «تعلق بظاهر هذه الآية : الخوارج والمعتزلة.

أما المعتزلة فإنهم قالوا : إنهم لما طلبوا الرد ولم يردهم لما علم أنه لو ردهم لعادوا إلى التكذيب ثانيا ، ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان يردهم ؛ فدل أنه إنما لم يردهم ؛ لما علمه منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل ؛ فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن الله لا يفعل بالعبيد إلا الأصلح لهم في الدين ، وقالوا : لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم ، ومن قولهم : إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته ، وغير ذلك من المخاييل والأباطيل.

وقالت الخوارج : أخبر أنه لو ردهم لعادوا لما نهوا عنه ، وسماهم بالقول كاذبين ، بما في علمه أنهم لا يفعلون بما يقولون ، فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها ، فإذا أتى بها يصير فيما اعتقده ألا يأتي بها كاذبا ؛ ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول أنهم لا يأتون بها ، وعلى ذلك كانت المبايعة بقوله عزوجل : (يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ) [الممتحنة : ١٢] الآية ، فإذا سرقن ، صرن كاذبات في البيعة ، كما جعل من ذكر كاذبا في الوعد إذا أخلف ، وعلى ذلك يجعلونه كافرا».

سادسا : علم الفقه :

علمنا من ترجمة الماتريدي أنه تتلمذ بأبي حنيفة النعمان ، وإن لم يلقه ، فهو قد تتلمذ عليه من خلال مذهبه الفقهي المعروف ، فقد قرأ ما كتب أبو حنيفة وما كتب تلاميذه ونقلوه عنه.

ولم يكن الماتريدي ناقلا تابعا للمذهب الحنفي وحسب ، بل كان مجددا ، فهو قد أخذ من المذهب الحنفي أسلوبه في التفكير العقلي ، واعتماده الرأي في التفسير والفقه والعقيدة ، لكن دون إهمال للنص أو افتئات عليه ، بل ـ كما سبق ـ وازن الماتريدي بين النقل والعقل موازنة جعلته من العلماء أصحاب الآراء الصائبة في كثير من الأحوال.

ونكاد عند مطالعة تفسير الماتريدي لا نجد من أعلام الفقه من يذكر باسمه سوى أبي حنيفة النعمان ، ولعل هذا يؤكد الصلة الوثيقة التي أشرنا إليها منذ برهة بين الماتريدي وأبي حنيفة ، وتلمذة الأول على الثاني.

والماتريدي حين تعرض له آية من آيات الأحكام لا ينسى أن يقف أمامها يستجلي

بعض أحكامها ومسائلها ، مما يدلنا على اعتماده علم الفقه مصدرا من مصادر تفسيره.

وتتمثل طريقته في اعتماد علم الفقه مصدرا لتفسير القرآن الكريم في أنه يقوم بتحليل الآية التي تتضمن الحكم الفقهي ، ثم يورد بعض أقوال العلماء ، ثم يفصل القول حول المسألة الفقهية المعروفة بما أفاض الله عليه.

ففي تفسيره لقول الله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٦٠] عرض الماتريدي لعلاقة هذه الآية بما قبلها ، وشرح الآية ، ثم ذكر بعض الروايات عن الصحابة عامة ، وعن بعضهم خاصة :

كحذيفة وابن عباس وعمر وعلي ـ رضي الله عنهم ـ في تفسير الآية وبيان ما فيها من أحكام فقهية ، ثم شرع يدلي بدلوه في تفسير الآية ، وبيان الأحكام الفقهية التي تنطوي عليها ، ونراه ينقل عن الأئمة دون أن يذكر أسماءهم ، ويعرض لاختلافات المذاهب دون أن يحددها ويعينها ، وتناول ـ أيضا ـ : الأصناف الثمانية المخصوصة بالزكاة بشيء من التفصيل ، ويستعين في ذلك ببعض الأحاديث والمرويات وأقوال العلماء.

لكن ليس معنى هذا أن الماتريدي يهمل نسبة الآراء الفقهية إلى أصحابها في كل الأحوال ، بل إنه في مواضع ذكر الآراء منسوبة إلى أصحابها.

ومن ذلك ما جاء عند تفسيره لقول الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ...) الآية ، فقد ذكر الماتريدي الأحكام التي تتعلق بالآية ، وذكر كثيرا من الأخبار والمرويات بشأنها ، وأخذ يحلل ويدلل ، ومما قال : «وكان أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ يسهم للفارس بسهمين ، وأبو يوسف ـ رحمه‌الله ـ يرى أن يسهم للفرس بسهمين ، ولصاحبه بسهم ، والحجة في ذلك قوله : قال الله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ).

فهنا ينسب الماتريدي الآراء إلى أصحابها ، ونلاحظ أن المذهب الحنفي هو المذهب الغالب ـ أو الأكثر ورودا ـ في تفسير تأويلات القرآن ، وليس هذا غريبا ؛ لأن الماتريدي ـ كما قلنا ـ يتبع المذهب الحنفي.

سابعا : علوم اللغة :

لا يعول الماتريدي كثيرا على علوم اللغة في تفسيره ؛ لذلك نراه مقلّا جدّا من توظيفها إلا ما كان من ذكر أقوال العلماء حول بيان بعض الألفاظ ، كما سبق في بيان معنى كلمة

(الإل) ، وهذا اللون من أكثر الألوان شيوعا في تفسير الماتريدي فيما يخص توظيفه علوم اللغة ، ولكن مع هذا لا نعدم توجيها نحويا أو نكتة بلاغية هنا أو هناك.

فمن قبيل التوجيهات النحوية ما جاء عند تفسيره قول الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنفال : ٤١].

فقد قال الماتريدي : «وقوله عزوجل : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) ... قال بعضهم : هو صلة قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، ثم قال : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي : وإن تولوا هم وقد آمنتم أنتم فاعلموا أن الله مولاكم ، ليس بمولى لهم.

وقالت طائفة : قوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ) ليس على الشرط على ألا تكون غنيمة إذا لم يكونوا مؤمنين ، ولا يجب العدل في القسمة إذا كانوا غير مؤمنين ، ولكن على التنبيه والإيقاظ».

والماتريدي ـ كما هو بيّن من النص ـ يعرج على اللغة بهدف الكشف عن مراد الله من الآية ، فهو لا يفعل كبعض المفسرين الذين ينصب اهتمامهم على اللغة ، حتى تكاد تفسيراتهم تكون لغوية خالصة ككتب معاني القرآن ، من مثل : معاني القرآن وإعرابه للزجاج ، ومعاني القرآن للأخفش ، ومعاني القرآن للفراء ... وغيرها ، أو تكون التفسيرات ذات صبغة لغوية بارزة بجوار الاهتمام بمعاني الآيات ، كتفسير النسفي.

ومن قبيل النكات البلاغية التي أشار إليها الماتريدي في تفسيره ، ما جاء في قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) [التوبة : ٨٢] حين قال : «يشبه أن يكون الضحك كناية عن الفرح والسرور ، والبكاء كناية عن الحزن ، يقول : افرحوا وسروا قليلا ، وتحزنون في الآخرة طويلا».

ولم يشر ـ أيضا ـ الماتريدي إلى النكتة البلاغية بغرض إثباتها وحسب ، بل لأنها تخدم المعنى وترشد إليه ؛ ولذلك كان الماتريدي مقلّا من الاتكاء على مباحث البلاغة ، ولم يكن تفسيره تفسيرا بلاغيّا صرفا ككتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة ، أو كتب إعجاز القرآن ككتاب إعجاز القرآن للباقلاني ، ولم يكن متشبعا بالمباحث البلاغية كتفسير الزمخشري مثلا ، بل إن النكتة البلاغية تأتي لبيان غرض معين.

ولعل عدم اهتمام الماتريدي بعلوم اللغة راجع إلى أمرين :

الأول : اهتمامه بالمضمون دون الشكل ، والمعنى دون اللفظ.

والثاني : اهتمامه في تفسيره بالمسائل العقدية والفقهية ، وهو أمر مترتب على الأول.

ثامنا : إعمال العقل والتفسير بالرأي :

إن الماتريدي فضلا عن اعتماده على المصادر المذكورة سابقا ، أعمل عقله في الآيات وقال فيها برأيه ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ، وهو حين يعمل عقله يقلب الآية على وجوهها المختلفة تارة ، ويذكر فيها وجها واحدا تارة أخرى.

فمن الأول ـ وهو كثير ـ : ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) [الأنفال : ٣٧] حيث قال الماتريدي : قوله عزوجل : (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يجعلهم دركات بعضها أسفل بعض ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].

والثاني : يحتمل أن يجعل بعضهم على بعض مقرنين في الأصفاد.

(فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) قيل : يجمعه جميعا بعضهم على بعض».

ومن الثاني ما جاء في تفسيره لصدر الآية المذكورة (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) حيث قال : «جعل الله تعالى الخبيث مختلطا بالطيب في الدنيا في سمعهم وبصرهم ونطقهم وجميع جوارحهم ولباسهم وطعامهم وشرابهم وجميع منافعهم من الغنى والفقر وأنواع المنافع ، جعل بعضهم ببعض مختلطين في الدنيا ... لكنه ميز بين الطيب والخبيث في الآخرة بأعلام ، يعرف بتلك العلامات الخبيث من الطيب ، من نحو ما ذكر في الطيب قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

ويلفت النظر في تفسير الماتريدي بالرأي أنه يتوخى المعاني القريبة من ظاهر الآية ، فهو لا يوغل في التأويل كما يفعل المتصوفة في تفسيراتهم ولا يقف عند حدود ظاهر النص كما يفعل الظاهرية ، بل إن الماتريدي ينظر في الآيات نظرة فاحصة معتدلة ، ويتجه إلى المعاني التي تحتملها الآيات ولا تخرج بها عن المراد منها.

القضية الثانية : طريقة الماتريدي في التفسير :

نستطيع من خلال ما عرضناه من مصادر الماتريدي في التفسير ومن خلال تأمل التفسير الذي بين أيدينا أن نتلمس بعض الخطوط العامة لمنهج الماتريدي في التفسير.

إن منهج الماتريدي منهج متميز متفرد ، فقد اختط لنفسه طريقة خاصة ، وأسلوبا متميزا ، وهي طريقة تتميز بالشمولية ، وأسلوب يتسم بالوضوح ، فهو يقوم باستقصاء الآية من كافة وجوهها ، ويعرض المعنى الذي يريد إبرازه في وضوح ويسر ، يفهمه القارئ العادي فضلا عن المتخصص وكأننا أمام تفسير حديث ، وليس تفسيرا كتب في القرن الرابع الهجري.

وهذه الطريقة تتميز عن طريقة المفسرين السابقين ، من وجوه يمكن استخلاصها مما سبق :

الأول : أن التفاسير السابقة كانت تقوم ـ في مجملها ـ على الرواية ، بمعنى أن هذه التفسيرات تندرج تحت ما يعرف ب «التفسير بالمأثور» ، لكن الماتريدى يجمع بين الأمرين جميعا.

الثاني : أن التفاسير السابقة كانت تعتمد على السنة عند إيراد المرويات ، سواء كانت هذه المرويات أحاديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أم أقوالا للصحابة ، أو حتى أقوالا لمفسري التابعين ، فالمفسر كان يأتي بالسند كاملا حتى يرفع الخبر أو الأثر المروي إلى قائله ، وخير مثال على ذلك تفسير ابن جرير الطبري.

ولم يقتصر الأمر على التفاسير المتقدمة وحسب ، بل إن تفسيرا كتفسير القرآن العظيم لابن كثير المكتوب في القرن الثامن الهجري ، يقوم على هذه الطريقة ، فنجد السند والعنعنات.

وهذا بخلاف تفسير تأويلات القرآن الكريم للماتريدي الذي تخلى عن ذكر السند في نقله للمرويات ، سواء كانت من السنة أو من غيرها ، حتى أننا نجده أحيانا يهمل حتى القائل المباشر للرواية ، فيقول : «قال بعضهم» أو : «قيل» ، وهكذا.

وهذه الطريقة هي التي نجدها في تفسيرات المحدثين ، وهي تناسب عصر الناس هذا ، وكان الماتريدي سابقا إليها قبل المحدثين بقرون متطاولة.

الثالث : أن تفسير الماتريدي ـ كما قلنا ـ شامل وعام ، فنجد فيه : المسائل الاعتقادية ، والمسائل الفقهية ، ومضمون الآية ، بخلاف التفسيرات السابقة ، بل وأحيانا اللاحقة التي يكون من همها التركيز على جانب واحد من جوانب هدايات القرآن المتعددة ، فنجد مفسرا ينصب اهتمامه على مسائل اللغة ، ومفسرا آخر ينصب اهتمامه على مسائل الفقه ، وبعضهم على مسائل الاعتقاد ، وهكذا.

وطريقة الماتريدي أو منهجه يقوم على عدة خطوط عامة ، هي :

أولا : يقوم الماتريدي ـ أحيانا ـ بعرض الآراء التي قيلت حول الآية ، أو الأوجه المحتملة فيها ، فيستخدم : «قال بعضهم» ، «قال آخرون» ، أو : «قيل» ، أو : «قيل فيه بوجوه» ، أو : «قال فلان» ... وهكذا.

وهذا حينما يفسر بالنقل لا بالعقل ، وإزاء هذه النقول لا يقف الماتريدي عاجزا ، بل ينقد ويحلل ويوجه ويختار من بين الأقوال المذكورة ما يراه أولى بمعنى الآية والمراد منها.

ثانيا : يقوم الماتريدي ـ أحيانا ـ بذكر الأوجه المحتملة في تفسير الآية وذلك حين يفسر بالرأي ، فيقول : «يحتمل» ، أو : «يحتمل وجوه» ... وهكذا.

ثالثا : يقوم الماتريدي باستخلاص المسائل الاعتقادية والمسائل الفقهية ، ويدير حولها حوارا طويلا يستقصي جوانبها ، حتى لو لم يكن بعض هذه الجوانب داخلا تحت إطار الآية المفسرة.

رابعا : يبدأ الماتريدي أحيانا تفسيره للآية بذكر القراءات الواردة فيها ، فحين يفسر قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية يقول : «اختلف في قراءتها : قرأ بعضهم بالياء ، وبعضهم بالتاء» ويعلل للقراءات بقوله : «فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ومن قرأ بالياء صرف الخطاب إلى الكفرة».

خامسا : يبين الماتريدي ـ أحيانا ـ أسباب نزول الآية ، ولكنه لا يسلم ببعضها ؛ لما يراه أنه مخالف للمعنى المقصود ، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من هذا القبيل.

سادسا : يبين الماتريدي ـ أحيانا ـ المعنى اللغوي لبعض الألفاظ ، ولا يهتم في تأويله بالشعر فلا يأتي إلا نادرا ، ولا يهتم بأقوال العرب ؛ اكتفاء منه بالقرآن الكريم وسنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال العلماء.

سابعا : أن الماتريدي حين يستعين بالسنة لا يهتم بذكر السند ، كما أنه يذكر الحديث بالمعنى ، وكأنه يعتمد على حفظه دون كتب السنة المثبت فيها الأحاديث ، ثم إنه يجتزئ من الحديث بما يدل على الغرض ، ولا يهتم بإيراده كاملا.

ثامنا : يهمل الماتريدي الحديث عن المكي والمدني ، وإبراز فضائل السور ، والناسخ والمنسوخ.

تاسعا : أنه حين يشرع في تفسير أي سورة لا يقدم لها ، بل يدخل إلى عالمها مباشرة ،

ويعيش في رحاب آياتها دون أن يعرفنا شيئا عن طبيعة هذه السورة ، وعدد آياتها ، وهل هي مكية أو مدنية ، والظروف العامة لنزولها ... إلخ.

ويمكن القول : إنه من خلال عرض منهج الماتريدي وطريقته في التفسير ، يتبين القارئ أنه أمام تفسير غاية في الأهمية ، يجمع كثيرا من أطراف العلوم ، وأنه يقوم على منهج نقدي تحليلي يقف ضد العقليين والنصيين المتطرفين.

يقول الكوثري : «كانت بلاد ما وراء النهر سليمة من أهل الأهواء والبدع ؛ لسلطان السنة على النفوس هناك من غير منازع ، تتناقل تلك الآثار بينهم جيلا بعد جيل ، إلى أن جاء إمام السنة فيما وراء النهر أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي المعروف بإمام الهدى ؛ فتفرغ لتحقيق مسائلها وتدقيق دلائلها ؛ فأرضى بمؤلفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد» (١).

* * *

__________________

(١) إشارات المرام (ص ٦).

الفصل الثالث

بذور التجديد في تفسير الماتريدي

يمكن رصد التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة في ناحيتين :

الأولى : الإطار العام.

والثانية : الجزئيات.

فأما الناحية الأولى فتتمثل في :

أولا : التجديد في المنهج :

سبق أن بينا أن طريقة الماتريدي في تفسيره طريقة متميزة ، ومنهجه متطور إلى حد كبير ، سواء من جهة الإطار العام ، أو من جهة جزئيات المنهج.

فقد قام المنهج الماتريدي في تفسيره على التحليل والنقد ، ولم يكن هذا معهودا في التفسير قبل الماتريدي ؛ حيث كان التفسير ـ كما قلنا ـ يعتمد على الرواية دون كبير تدخل من المفسر ودون نقد أو تمحيص أو تحليل ، وفتح الماتريدي بهذا الباب واسعا أمام من جاء بعده للتوسع في التحليل والشرح والتأويلات للآيات بإعمال العقل والنقل جميعا.

وقد توسع الماتريدي في تفسيره في إعمال العقل ، لكن مقيدا بالنص ، وهو لون من ألوان التجديد ؛ حيث استطاع الماتريدي الموازنة بين العقل والنقل ، وقد كان السابقون عليه يعتمدون في تفسيراتهم على النقل فقط. صحيح أن هناك من سبق الماتريدي في إعمال العقل ، لكنه لم يكن في تفسير القرآن الكريم ، بل كان في المسائل الاعتقادية ، والمسائل الفقهية.

ويعد من التجديد في الإطار العام للمنهج عند الماتريدي في تفسيره الاستغناء عن ذكر السند عند التفسير بالمرويات.

ثانيا : الاهتمام بالمسائل الاعتقادية :

اهتم الماتريدي كثيرا في تفسيره بالمسائل الاعتقادية ، ولعله غير مسبوق في الاهتمام بالمسائل الاعتقادية في التفسير ؛ حيث كانت التفاسير السابقة تقوم على بيان معنى لفظ ، أو شرح آية بشروح موجزة ، مع ذكر الروايات حول الآية موضع التفسير ، أما الاهتمام بالمسائل الاعتقادية التي تتضمنها فلا نكاد نجدها في التفاسير السابقة على تفسير تأويلات

أهل السنة ، فقد توسع هذا التفسير في بيان هذه المسائل وناقشها ، وذكر مذاهب العلماء فيها ، بما يزيد ـ أحيانا ـ عما تتضمنه الآيات من معان.

ثالثا : الاهتمام بالمسائل الفقهية :

يعتبر الماتريدي في تأويلاته رائد المفسرين الذين ركزوا على المسائل الفقهية وعرض الآراء حولها في تفسيراتهم : كالإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن الكريم ، فقد قام الماتريدي بعرض المسائل الفقهية المتضمنة في بعض الآيات ، وعرض الآراء حولها ، وزاد عن الحد المطلوب من الآية أحيانا ، وقد ذكرنا نماذج من هذا القبيل.

رابعا : بروز شخصية الماتريدي في التفسير :

كانت التفاسير السابقة على الماتريدي تعتمد ـ كما قلنا مرارا ـ على المرويات ، أما تفسير تأويلات أهل السنة فقد اعتمد فيه الماتريدي على التحليل ، وعرض الآراء ومناقشتها ، والقول في القرآن بالرأي ، وإبداء الآراء الشخصية حول الآيات ، فنحن نحس بشخصية الماتريدي بارزة في تفسيره ، فلم يكن مجرد ناقل أو جامع للروايات كما كان شأن أسلافه ، والنماذج السابقة تكشف عن ذلك بوضوح.

هذه هي أبرز بذور التجديد في تفسير تأويلات أهل السنة ، الذي أحسبه يسلك فيه منهجا ويتبع فيه طريقة لم يسلكها المفسرون المتأخرون.

* * *

الفصل الرابع

تأثر الماتريدي بمن سبقوه

إن الماتريدي تأثر بمن سبقه ، عامة ، وتأثر بالإمام أبي حنيفة النعمان خاصة ، حيث أخذ عنه الإطار العام لمذهبه في الكلام.

لقد تأثر الماتريدي بالمنهج المتوازن بين العقل والنقل الذي سلكه أبو حنيفة ، فقد سلك ذلك المسلك الوسط الذي لم يسلكه ـ كما يقول الشيخ أبو زهرة ـ سوى أبي حنيفة ، وبلغ فيه الشأو والغاية (١).

وهذا المنهج الذي سار عليه الإمام أبو حنيفة ، وتبناه الماتريدي ، لا يقدح في سلفية كل منهما ، ولا يخرجهما عن دائرة أهل السنة ؛ لأن أبا حنيفة يعد أول من كون مدرسة كلامية لأهل السنة وحاربت المبتدعة ، وأظهرت الحق جليّا.

يقول أبو اليسر البزدوي : «أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ تعلم هذا العلم ، وكان يناظر المعتزلة وأهل البدع ، وكان يعلمه أصحابه في الابتداء ، وقد صنف فيه كتبا ، وقع بعضها إلينا ، وعامتها محاها وغسلها أهل البدع ، ومما وقع إلينا كتاب العالم والمتعلم ، وكتاب الفقه الأكبر ، وقد نص كتاب العالم والمتعلم أنه لا بأس بتعلم العلم» (٢).

وهذا النص يكشف عن دور أبي حنيفة البارز ، كما يدل في الوقت نفسه على مجموعة من مؤلفاته التي أثرت في الماتريدي كما سنعرف فيما بعد.

وهذه الكتب رد فيها على المعتزلة ، وبخاصة كتابه : الفقه الأكبر ، ونصر فيه قول أهل السنة في خلق الأفعال ، وفي الاستطاعة مع الفعل (٣).

ولقد استفاد الماتريدي من هذه الكتب ، فقد تناول هذه الكتب والرسائل ، وتأثر بها تأثرا فكريّا واضحا ؛ حتى إنه ليمكن القول : إن منهج الماتريدي لا يخرج عن المنهج العام الذي وضعه أبو حنيفة في مؤلفاته ، هذا المنهج الذي يستخدم العقل ، لكنه العقل المقيد بالنص ، بحيث لا يخرج عنه ، ولا يتقدم عليه بحال ؛ لأن الله تعالى ركب العقول ووفقها للاستدلال.

ومعلوم أن أبا حنيفة ـ رحمه‌الله ـ كون مدرسة فكرية ضمت أعظم العلماء وجهابذة

__________________

(١) ينظر : الشيخ أبو زهرة : أبو حنيفة (ص ٧٢ ، ٧٣).

(٢) أصول الدين ص (٣).

(٣) البغدادي : أصول الدين ص (٣١٢).

الفكر في أصول الدين وفروعه ، ويرى الزبيدي أن علم أبي حنيفة المذكور في كتبه هو من الأمالي التي أملاها على أصحابه كحماد وأبي يوسف وأبي مطيع بن عبد الله البلخي وأبي مقاتل حفص ابن مسلم السمرقندي ، فهم الذين قاموا بجمعها ، وتلقاها عنهم جماعة من الأئمة كإسماعيل بن حماد ومحمد بن مقاتل الرازي ونصر بن يحيى البلخي وغيرهم ، إلى أن وصلت إلى أبي منصور الماتريدي (١).

ولكن كيف وصل علم أبي حنيفة ومؤلفاته إلى الماتريدي؟

معلوم أن الإسلام تغلب على بلاد ما وراء النهر منذ الفتح الإسلامي ـ كما أشرنا إلى ذلك في أول هذه الدراسة ـ وأن أهل هذه البلاد دخلوا في الإسلام أفواجا ، وأنهم فتحوا المدارس لتعليم الناس أمور الدين الإسلامي.

ولما ظهرت المذاهب الفقهية اعتنق أكثرهم المذهب الحنفي ، فانتشرت آراء أبي حنيفة وكتبه في هذه البلاد ، ومن هنا يقول أبو معين النسفي : «إن أئمة أصحاب أبي حنيفة السالكين طريقه في الأصول والفروع الناكبين عن الاعتزال في جميع ديار ما وراء النهر وخراسان من مرو ، وبلخ وغيرهما ـ كلهم من قديم الزمان كانوا على هذا المذهب».

ومن أبرز هؤلاء الأئمة : أبو مطيع البلخي الذي تفقه على أبي حنيفة ، وأبو سليمان الجوزجاني صاحب محمد بن الحسن الذي أخذ عنه الفقه وروى كتبه ، وعلى أبي سليمان الجوزجاني تتلمذ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني وأبو نصر العياضي اللذان أخذ عنهما أبو منصور الماتريدي كما ذكرناه عند حديثنا عن ترجمته وشيوخه.

ولم يكن تأثير المذهب الحنفي في الماتريدي في المذهب الكلامي فقط ، بل إنه تأثر به في مجال الفقه ، وتأثر به في المنهج والطريقة.

ولم يكن ـ أيضا ـ المذهب الحنفي هو المؤثر الوحيد في الماتريدي ، بل إنه ـ وكما بان لنا ـ تأثر بالصحابة فيما نقل عنهم ، وتأثر بالتابعين ، وتأثر بجملة من العلماء لا يمكن حصرهم ، وقد ذكرنا نماذج دالة على ذلك فيما سبق.

لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن الماتريدي عند ما نقل وتأثر بسابقيه لم يكن بالمقلد التابع الذي يحتذي دونما بصر أو وعي ، بل كان ينقض وينقد ويحلل ويدقق ؛ ولذلك يمكن أن يقال : استطاع أبو منصور أن يؤسس المنهج الماتريدي ؛ إذ كان أول متكلم من أهل السنة يعرض نظرية المعرفة بطريقة منهجية تحدد سيره في الاستدلال والوصول إلى

__________________

(١) الزبيدي : إتحاف السادة المتقين (٢ / ١٤).

العلم ، حتى كان رائدا لأهل السنة في اتباع هذه الطريقة.

هذا ، ولقد تأثر الماتريدي بأبي حنيفة في آرائه الكلامية ، حيث إن المدرسة السنية فيما وراء النهر ، ظلت تدافع عن العقيدة الصحيحة ، بدفع البدع ، وصد الانحرافات ، ومقاومة الضلالات الناتجة عن التعصب للفرق المخالفة لأهل السنة ، بعيدا عن التوغل في الدقائق الكلامية ، مهتدية في مسلكها بمنهج الإمام أبي حنيفة دون أن تدخل عليه جديدا ، الأمر الذي جعلنا لم نصل إلى آراء خاصة لهم خارجة عن آراء شيخهم ، وهؤلاء مهدوا الطريق لأبي منصور للقيام بمنهجه ولإرساء دعائم مذهبه الكلامي المتأثر بمنهج أبي حنيفة والمجدد في الوقت ذاته.

* * *

الفصل الخامس

تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده

لقد كان الماتريدي من أفاضل علماء أهل السنة في بلاد الشرق الإسلامي ، ففي الطبقات السنية : اتفق الناس على علو قدره وعظم محله وطيب نشره ، فإنه كان من كبار علماء الإسلام الذين بعلمهم يقتدى ، وبنور فضلهم يهتدى (١) ، وكان إمام المتكلمين ومصحح عقائد المسلمين ، نصره الله بالصراط المستقيم ، فصار في نصرة الدين القويم ، صنف التصانيف الجليلة ، ورد أقوال أصحاب العقائد الباطلة (٢).

ولذلك كان أثر الماتريدي في لاحقيه أثرا كبيرا ، ولعلنا نتلمس هذا التأثير في عدة اتجاهات هي :

أولا : تأثيره في التفسير :

تأثر الذين جاءوا من بعد الماتريدي به كثيرا في التفسير ، فأخذ عنه كثير من المفسرين ، منهم صاحب روح المعاني ، حيث تجد تأثره بالماتريدى في تفسير قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) يقول : «فهو الحامد والمحمود ، والجميع شئونه ، ولهم كلام غير هذا ، والكل يسقى بماء واحد ، وعن إمامنا الماتريدي ـ روح الله روحه ـ أنه جعل هذا حمدا من الله تعالى لنفسه ، قال : وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ، ولا ضير في ذلك ؛ لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك ؛ إذ لا عيب يمسه ، ولا آفة تحل به» (٣).

وينقل عنه الألوسي ـ أيضا ـ تفريقه بين التفسير والتأويل ، فيقول : «وقال الماتريدي : التفسير : القطع بأن مراد الله تعالى كذا ، والتأويل ترجيح أحد الاحتمالات بدون قطع ، وقيل : التفسير ما يتعلق بالرواية ، والتأويل ما يتعلق بالدراية» (٤).

ونقول الألوسي عن الإمام الماتريدي في تفسيره لا تحصى عددا (٥).

ونقل عنه ـ أيضا ـ القرطبي ، فعند تفسيره قول الله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [المائدة : ٢] قال : «حكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي ـ رحمه‌الله ـ أنه قال :

__________________

(١) الطبقات السنية ص (٥٦٧).

(٢) كتائب الأعلام ص (١٢٩).

(٣) روح المعاني (١ / ٧٤).

(٤) السابق (١ / ٥).

(٥) ينظر على سبيل المثال : السابق (١ / ١٨) ، (٥ / ٨١) ، (١٧ / ١٧٧) ، (١٩ / ١٦٤) ، (٣٠ / ٢٠٠) ، وغيرها.

يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية ، أما من لم يجاوز الحد وفعل كما كان يفعل في عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو حسن» (١).

وأفاد من الماتريدي ـ أيضا ـ المفسر الكبير ، واللغوي البحر ، الجامع بين الرواية والدراية ، العالم أبو حيان في كتابه البحر المحيط ، فمثلا عند قوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء : ١٢٨] ينقل عن الماتريدي تأويله : «ويحتمل أن يراد بالشح الحرص ، وهو أن يحرص كل على حقه ، يقال : هو شحيح بمودتك ، أي : حريص على بقائها ، ولا يقال في هذا : بخيل ، فكأن الشح والحرص واحد في المعنى ، وإن كان في أصل الوضع : الشح للمنع ، والحرص للطلب ، فأطلق على الحرص الشح ؛ لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر ، ولأن البخل يحمل على الحرص ، والحرص يحمل على البخل» (٢).

هذا ولم يقتصر تأثير الماتريدي على مفسري المتقدمين ، بل لقد أفاد منه مفسرو المتأخرين حتى عصرنا الحاضر ، فقد أفاد منه السيوطي في الإتقان (٣) ، وأفاد منه الزرقاني في مناهل العرفان (٤) ، وأفاد منه الزركشي في برهانه (٥) ، وأفاد منه ابن تيمية في فتاويه (٦) ، وغيرهم كثير وكثير ، وما يزال اسم الماتريدي وتفسيره تأويلات أهل السنة يتردد في تفاسير المحدثين وبحوثهم في التفسير.

ثانيا : تأثير الماتريدي في العقيدة :

لقد كان لمذهب الماتريدي الكلامي أثره في اللاحقين ، فقد أفادوا منه أيما إفادة ، وأفادوا من مسائله الاعتقادية التي عرضها في تفسيره تأويلات أهل السنة.

وتدليلا على ذلك نسوق بعض النماذج ، فقد جاء في أنواء البروق ما نصه : «وأما الحلف بصفات الأفعال ، ففي المجموع وشرحه وحاشيته ما حاصله : أن اليمين لا ينعقد بنحو الإماتة والإحياء ، اللهم إلا أن يلاحظ المذهب الماتريدي ، وهو أن صفات الأفعال

__________________

(١) تفسير القرطبي (٦ / ٣٨).

(٢) البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٣٦٤) ، وينظر أيضا (١ / ٤٧٦) ، (١ / ٤٨٠) ، (١ / ٤٩٠).

(٣) ينظر : الإتقان (٢ / ٤٦٠).

(٤) ينظر : مناهل العرفان (٢ / ٦).

(٥) ينظر البرهان : (٢ / ٤٣٠).

(٦) ينظر : فتاوي ابن تيمية في التفسير (١٦ / ٢٦٩).

قديمة ترجع إلى صفة التكوين ، أو يريد مصدرها ومنشأها وهو القدرة والاقتدار الراجع للصفة المعنوية ، أي : كونه قادرا ؛ إذ المعنوية ينعقد بها جزما» (١).

ونقل عنه وعن غيره ابن تيمية ، ما نصه : «وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام من الرادين على المعتزلة والمرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم فيطردون ما ذكر من الأدلة ، ويقولون : لا يكون فاعلا إلا بفعل يقوم بذاته وتكوين يقوم بذاته ، والخلق الذي يقوم بذاته غير الخلق الذي هو المخلوق ، وهذا هو ما ذكره الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك في كتبهم ، كما ذكره فقهاء الحنفية كالطحاوي وأبي منصور الماتريدي» (٢).

وفى فتاوى الرملي : «أن الكلام القديم هو صفة الله تعالى يجوز أن يسمع بلا صوت ولا حرف ؛ كما يرى في الآخرة بلا كم ولا كيف ، وهذا هو المرجح في كلام الشيخ جلال الدين ، ومنع الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني ذلك ، وهو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي» (٣).

وتأثر اللاحقين بالماتريدي في الآراء الكلامية أكثر من أن تقوم به هذه الصفحات القليلة (٤) ، بل إنه يحتاج إلى دراسات مستفيضة ، وكيف لا وهو صاحب ذلك المذهب المعروف بمذهب الماتريدية في علم الكلام كما أوضحنا من قبل.

ثالثا : تأثير الماتريدي في علم الفقه :

امتد تأثير الماتريدي في لاحقيه إلى الفقه ، فقد أفاد منه العلماء في هذا المجال إفادة جمة ، وفي سبيل إثبات ذلك نذكر بعض النماذج الدالة ، منها ما ذكر صاحب بدائع الصنائع من «أنه إذا استيقظ فوجد على فخذه أو على فراشه بللا على صورة المذي ، ولم يتذكر الاحتلام ـ فعليه الغسل في قول أبي حنيفة ومحمد ، وعند أبي يوسف لا يجب ، وأجمعوا أنه لو كان منيّا أن عليه الغسل ؛ لأن الظاهر أنه عن احتلام ، وأجمعوا أنه إن كان وديا لا غسل عليه ؛ لأنه بول غليظ ، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه إذا وجد على

__________________

(١) أنواء البروق (٣ / ٤٨) ، وانظر : (٣ / ٧).

(٢) الفتاوي (٦ / ٤٣٢).

(٣) فتاوي الرملي (٤ / ٣٥٣).

(٤) ينظر : الزواجر (١ / ١٦٤) ، وتحفة المحتاج (٩ / ٩٢) ، وغمز عيون البصائر (١ / ١٠٠) ، والفواكه الدواني (١ / ١٠٢) ، وبرقية محمودية (١ / ١٥٥) ، والبحر المحيط (١ / ٤١٩) ، (٣ / ١١٥ ، ١١٦) ، (٣ / ١٢٩) ، (٤ / ١٩٨) ، (٤ / ٢٤٨).

فراشه منيّا فهو على الاختلاف ، وكان يقيسه على ما ذكرنا من المسألتين. وجه قول أبي يوسف أن المذي يوجب الوضوء دون الاغتسال ، ولهما ما روى إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي بإسناده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا رأى الرجل بعد ما ينتبه من نومه بلة ، ولم يذكر احتلاما اغتسل ، وإن رأى احتلاما ، ولم ير بلة فلا غسل عليه» (١) ، وهذا نص في الباب» (٢).

وفي تفسير قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية ، نقل أبو حيان عن الماتريدي قوله : «في الآية دليل على أن المال كله للذكر ، إذا لم يكن معه أنثى ؛ لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين ، وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر ، بقوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ، ومثلا النصف هو الكل. انتهى» (٣).

رابعا : تأثير الماتريدي في علوم اللغة :

لم يكن تأثير الماتريدي كبيرا في علوم اللغة ؛ نظرا ؛ لأنه كان لا يعتمد عليها في تفسيره كثيرا ، ومع هذا لا نعدم نقلا عنه هنا أو هناك في هذا المجال ؛ ومن ذلك ما جاء في التلويح عند الكلام عن قول الله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] : «ذهب الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي ـ رحمه‌الله ـ إلى أن هذا مجاز عن سرعة الإيجاد ، والمراد التمثيل لا حقيقة القول».

وخلاصة ما سبق أن الماتريدي كان له فضل على لاحقيه لا ينكر ، وأن أثره ممتد ومتشعب في مجالات شتى من العلوم : علم الكلام ، والفقه ، واللغة ، والتفسير ، وغيرها ؛ مما يدل على موسوعية هذا العالم الجليل وفضله الذي لا ينكر في خدمة الإسلام وعلومه.

* * *

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٢٥٦) والترمذي (١ / ١٥٤ ـ ١٥٥) كتاب الطهارة باب فيمن يستيقظ فيرى بللا (١١٣) وأبو داود (١ / ١١١) كتاب الطهارة باب في الرجل يجد البلة في منامه (٢٣٦) وابن ماجه (١ / ٤٨٥) كتاب التيمم باب من احتلم ولم ير بللا (٦١٢) وأبو يعلى (٤٦٩٤) من حديث عائشة بلفظ : «إذا استيقظ أحدكم من نومه فرأى بللا ولم ير أنه احتلم اغتسل وإذا رأى أنه قد احتلم ولم ير بللا فلا غسل عليه».

(٢) بدائع الصنائع (١ / ٣٧).

(٣) البحر المحيط (٣ / ١٩٠) وينظر : (٣ / ٣٤٥).

وصف نسخ الكتاب الخطية

اعتمدنا فى تحقيق «تأويلات أهل السنة للماتريدي» على ثلاث نسخ خطية : نسختين بدار الكتب المصرية ، ونسخة بتركيا.

النسخة الأولى : نسخة مصورة منقولة عن المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (٦) قوله ، ومحفوظة أيضا تحت رقم ٢٧٣٠٦ ب وتقع في ثلاثة مجلدات ، ينتهى الأول بورقة ٢١٩ ، والثاني بورقة ٤٤٠ ، والثالث بورقة ٦٥٦.

والنسخة مكتوبة بخط مصطفى بن محمد بن أحمد فى سنة ١١٦٥ ه‍ ، وتشتمل على ٦٥٦ ورقة ، وهى نسخة جيدة كاملة ، ليس فيها تآكل سوى الورقة الأولى ، وكل صفحة منها تتكون من سبعة وأربعين سطرا ، يشتمل كل سطر على نحو خمس وعشرين كلمة.

والمخطوطة الأصلية المصور عنها تقع فى مجلد واحد ، مذهبة الصفحات ، تبدأ فيها كل آية بمداد أحمر تكتب به كلمة : قوله ، والخط فيها واضح تماما ، وبها من هذه النسخة بعض تعليقات ، إما تكميل آية وردت بالأصل ، أو تعليق على رأى بمزيد توضيح ، أو تبيين لمعنى لغوى.

النسخة الثانية : نسخة مصورة منقولة عن النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة كوبريلّى بالآستانة تحت رقم ٤٨ ، ومحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم ٨٧٣ تفسير ، وهى مكتوبة بخط أحمد بن محمد يوسف الخالدى الصفدى الحنفى ٨١٨ ه‍ ، ويوجد من هذه النسخة بدار الكتب المصرية أجزاء تنتهى بتفسير سورة الإسراء ، وتقع في ١٦٣٩ ورقة ، وفى كل صفحة ٣٥ سطرا تقريبا ، ويشتمل كل سطر على نحو ١٦ كلمة ، وخطها واضح فى الأغلب منها ، ويوجد بعض أجزاء من هذه المصورة فى مكتبة معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية بالقاهرة ، وقد تم الاعتماد عليها في التحقيق.

النسخة الثالثة : يوجد منها جزء واحد موجود فى دار الكتب المصرية فى ضمن أجزاء نسخة كوبريلّى ، ولكنه يختلف عن هذه النسخة من جهات :

ـ الجزء أصل مخطوط ، بينما أجزاء نسخة كوبريلّى مصورة.

ـ ثم إنه بخط يختلف عن خط النسخة.

ـ وتتكون صفحاته كل صفحة من نحو ٢٨ سطرا ، يشتمل كل سطر على ١٥ كلمة تقريبا.

وهذا يؤكد أن هذا الجزء يختلف عن هذه النسخة ، وأنه من نسخة أخرى.

وهذا الجزء يبدأ بتفسير سورة «المنافقون» من قوله : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) [المنافقون : ٤] إلى آخر القرآن الكريم ، وعدد صفحاته ٢٥٦ صفحة ، وفيه خرم ورقة أو ورقتين من سورة المزمل.

* * *

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي ، رضي الله تعالى عنه : الفرق بين التأويل والتفسير هو ما قيل : التفسير للصحابة ، رضي الله عنهم ، والتأويل للفقهاء ، ومعنى ذلك : أن الصحابة شهدوا المشاهد ، وعلموا الأمر الذي نزل فيه القرآن.

فتفسير الآية أهم لما عاينوا وشهدوا ، إذ هو حقيقة المراد ، وهو كالمشاهدة ، لا تسمح إلا لمن علم ، ومنه قيل : من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ؛ لأنه فيما يفسر يشهد على الله به.

وأما التأويل : فهو بيان منتهى الأمر ، مأخوذ من : آل يؤول ، أي يرجع ، ومعناه ـ كما قال أبو زيد : لو كان هذا كلام غيره يوجه إلي كذا وكذا من الوجوه ، فهو توجيه الكلام إلى ما يتوجّه إليه ، ولا يقع التشديد في هذا مثل ما يقع في التفسير ، إذ ليس فيه الشهادة على الله ؛ لأنه لا يخبر عن المراد ، ولا يقول : أراد الله به كذا ، أو عنى ، ولكن يقول : يتوجه هذا إلى كذا وكذا من الوجوه ، هذا مما تكلم به البشر. والله أعلم ما صحته من الحكمة.

ومثاله : أن أهل التفسير اختلفوا في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) :

قال بعضهم : إن الله تعالى حمد نفسه.

وقال بعضهم : أمر أن يحمد.

فمن قال : عنى هذا ، دون هذا ، فهو المفسر له.

وأما التأويل ـ فهو أن يقول : يتوجه الحمد إلى الثناء والمدح له ، وإلى الأمر بالشكر لله عزوجل ، والله أعلم بما أراد.

فالتفسير ـ ذو وجه واحد ، والتأويل ـ ذو وجوه](١).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة فاتحة الكتاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)

التّسمية هى آية من القرآن ، وليست من فاتحة الكتاب.

دليل جعلها آية : ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأبىّ بن كعب (٢) : «لأعلّمنّك آية لم

__________________

(١) ما بين المعقوفين مثبت من ط ، وسقط فى أ ، ب.

(٢) أبى بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية الأنصارى النجارى أبو المنذر ، وأبو الطفيل سيد القراء من أصحاب العقبة ، شهد بدرا والمشاهد كلها وجمع القرآن فى حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعرض على النبى عليه الصلاة والسلام وحفظ عنه علما مباركا وكان رأسا في العلم والعمل. وقال ابن عباس : ـ

تنزل على أحد قبلى إلّا على سليمان بن داود فأخرج إحدى قدميه ، ثمّ قال له : بأىّ آية تفتتح بها القرآن؟ قال : ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). فقال : هى هى» (١).

ففى هذا أنها آية من القرآن ، وأنها لو كانت من السور لكان يعلمه نيّفا ومائة آية لا آية واحدة.

ولو كانت منها أيضا ؛ لكان لا يجعلها مفتاح القرآن ، بل يجعلها من السور.

ثم الظاهر أن من لم يتكلف تفسيرها عند ابتداء السورة ثبت أنها ليست منها.

وكذلك ترك الأمة الجهر بها ، على العلم بأنه لا يجوز أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بها ثم يخفى ذلك على من معه ، وأن يكونوا غفلوا ثم يضيعون سنّة بلا نفع يحصل لهم ، حتى توارثت الأمة تركها فيما يحتمل أن يكون الجهر سنة ثم يخفى ، فيكون فى فعل الناس دليل واضح أنها ليست من السور.

ودليل آخر على ذلك ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله أنه قال : «قسمت الصّلاة بينى وبين عبدى نصفين ، فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤). فقال : هذا لى». وهى ثلاث آيات.

وقال بعد قوله : (اهْدِنَا) إلى آخرها : «هذا لعبدى» ، ثبت أنها ثلاث آيات ؛ لتستوى القسمة.

ثم قال فى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) : «هذا بينى وبين عبدى نصفين» (٢).

__________________

ـ قال أبى لعمر بن الخطاب : إنى تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل عليه‌السلام وهو رطب. وقال ابن العباس : قال عمر : أقضانا على ، وأقرؤنا أبى ، وإنا لندع من قراءة أبى ، وهو يقول : لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).

وروى أبو قلابة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرأ أمتى أبى».

حدث عنه أبو أيوب الأنصارى وابن عباس وأبو هريرة وخلق كثير واختلف فى موته فقيل : مات سنة ٢٠ ه‍ وقيل : سنة ١٩ ه‍ وقيل سنة ٢٢ ه‍ وقيل سنة ٣٠ ه‍ وهو أثبتها. ينظر : تهذيب الأسماء واللغات (١ / ١٠٨ ـ ١١٠) طبقات القراء (١ / ٣١) أسد الغابة (١ / ٦١) الإصابة (١ / ٢٦) المعارف (٢٦١) دول الإسلام (١ / ١٦).

(١) أخرجه مالك (١ / ٨٣) كتاب الصلاة ، باب ما جاء فى أم القرآن (١) :

أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز أخبره ... فذكره بنحوه ، ومن طريق آخر أخرجه البغوى فى تفسيره (١ / ٤٢ ـ ٤٣) ، عن أبى هريرة وله شاهد من حديث بريدة.

أخرجه الدار قطنى (١ / ٣١٠) ، والبيهقى (١٠ / ٦٢) ، وزاد السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٢٦) ابن أبى حاتم والطبرانى ، وإسناده ضعيف.

(٢) أخرجه مالك (١ / ٨٤) كتاب : الصلاة ، باب : القراءة خلف الإمام ، الحديث (٣٩) ، وأحمد (٢ / ٢٨٥) ، ومسلم (١ / ٢٩٧) كتاب : الصلاة ، باب : وجوب قراءة الفاتحة ، الحديث (٣٩ ، ٤٠) ، ـ

فثبت أنها آية واحدة ؛ فصارت بغير التسمية سبعا. وذلك قول الجميع : إنها سبع آيات مع ما لم يذكر في خبر القسمة ؛ فثبت أنها دونها سبع آيات.

وقد روى عن أنس بن مالك (١) ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «صلّيت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلف أبى بكر (٢) ، وعمر (٣) ، وعثمان (٤) ـ رضى الله عنهم ـ فلم

__________________

ـ وأبو داود (١ / ٥١٢ ـ ٥١٣ ـ ٥١٤) كتاب : الصلاة ، باب : من ترك قراءة الفاتحة الحديث (٨٢١) والترمذى (٢ / ٢٥) كتاب : الصلاة ، باب : لا صلاة إلا بالفاتحة ، الحديث (٢٤٧) ، والنسائى (٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦) كتاب : الصلاة ، باب : ترك قراءة البسملة فى الفاتحة ، والبخارى فى «جزء الفاتحة» (ص ٤) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٤٣) كتاب : الأدب ، باب : ثواب القرآن ، حديث (٣٧٨٤) ، والدار قطنى (١ / ٣١٢) وابن خزيمة (١ / ٢٥٣) ، والبيهقى (٢ / ٣٩) عن أبى هريرة.

ولفظ مالك عن أبى السائب مولى هشام بن زهرة ، عن أبى هريرة ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج ، هى خداج هى خداج غير تمام» قال : فقلت : يا أبا هريرة إنى أحيانا أكون وراء الإمام ، قال : فغمز ذراعى ، ثم قال : اقرأ بها فى نفسك يا فارسى فإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله تبارك وتعالى : قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ، فنصفها لى ، ونصفها لعبدى ، ولعبدى ما سأل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقرءوا ، يقول العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى : حمدنى عبدى ...» الحديث.

(١) هو أنس بن مالك بن النضر ، النجارى الخزرجى الأنصارى ، ولد سنة ١٠ ق ه صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخادمه ، خدمه إلى أن قبض. ثم رحل إلى دمشق ، ومنها إلى البصرة ، فمات بها آخر من مات بها من الصحابة سنة ٩٣ ه‍ له فى الصحيحين ٢٢٨٦ حديثا.

ينظر : تهذيب ابن عساكر (٣ / ١٩٩) ، وصفة الصفوة (١ / ٢٩٨).

(٢) هو : عبد الله بن أبى قحافة : أبو بكر الصديق رضى الله عنه. وكان اسمه فى الجاهلية : عبد الكعبة ، فسماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله واسم أبى قحافة : عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك القرشى التيمى. وسمى الصديق : لبداره إلى تصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى كل ما جاء به ، وقيل : لتصديقه له فى خبر الإسراء. وكان يقال له : عتيق لجماله وعتاقة وجهه ، وقيل : لأنه لم يكن فى نسبه شىء يعاب به ، وقيل : كان له أخ يسمى عتيقا فمات فسمى به ، وقيل : بل رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا ، فقال : «من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا».

لم يختلف أنه بويع له ـ رضى الله عنه ـ فى اليوم الذى توفى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختلف فى اليوم الذى توفى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كم كان من الشهر بعد اتفاقهم على أنه يوم الاثنين فى شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة ، فقيل : لاثنتى عشرة مضت من ربيع الأول. قال ابن جماعة فى مختصر السير : وهو المرجح عند الجمهور ، ولم يصححه السهيلى ولا أبو الربيع بن سالم. انتهى. وقيل : غرة ربيع الأول ، وقيل : الثانى منه ، وإلى هذين القولين مال أبو الربيع بن سالم فى كتابه الاكتفاء فى أخبار الخلفاء.

وفى الاستيعاب : مكث فى خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال ، وقيل : سنتين وثلاثة أشهر وسبع ليال ، وقيل : عشرة أيام ، وقيل : واثنتى عشرة ليلة. واختلف فى حين وفاته : فقيل : هو يوم الجمعة لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ، وقيل : يوم الاثنين ، وقيل : ليلة الثلاثاء ، وقيل : عشى يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. ينظر : تخريج الدلالات السمعية ص (٢١ ، ٢٣ ، ٣٤).

يكونوا يجهرون ب «بسم الله الرحمن الرحيم» (١).

__________________

(٣) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدى بن كعب القرشى العدوى : أبو حفص. أسلم بعد أربعين رجلا ، فكان إسلامه عزا ظهر به الإسلام بدعوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى السير لابن إسحاق : أن خباب بن الأرت قال لعمر يحضه على الإسلام يوم أسلم : والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فإنى سمعته أمس وهو يقول : «اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب». ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة وقتل ـ رحمه‌الله ـ سنة ثلاث وعشرين ، طعنه أبو لؤلوة فيروز غلام المغيرة بن شعبة لثلاث بقين من ذى الحجة (هكذا قال الواقدى) وقيل : لأربع بقين منه يوم الأربعاء ، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر. أسلم قبل الهجرة بخمس سنين وشهد المواقع وبويع بالخلافة بعد وفاة أبى بكر وتوفى سنة ٢٣ ه‍.

ينظر : تخريج الدلالات السمعية ص (٤٠ ـ ٤١) صفة الصفوة (١ / ١٠١) حلية الأولياء (١ / ٣٨) تاريخ الخميس (٢ / ٢٦٧) تذكرة الحفاظ (١ / ٥) أسد الغابة (٤ / ٥٢) الاستيعاب (٢ / ٤٢٨) (ت ١٨٤٥) مجمع الزوائد (٩ / ٦٠).

(٤) هو عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى ، القرشى ، أمير المؤمنين ذو النورين ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. ولد بمكة سنة ٤٧ ق ه. وأسلم بعد البعثة بقليل. وكان غنيا شريفا فى الجاهلية. جمع القرآن فى مصحف واحد ، وأفضل من قرأ القرآن على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروى جملة كثيرة من العلم ، روى عنه بنوه : عمرو وأبان وسعيد. ومولاه حمران وأنس بن مالك وأبو أمامة بن سهيل والأحنف بن قيس وسعيد بن المسيب وغيرهم. وجهز جيش العسرة ، وصارت إليه الخلافة بعد وفاة عمر سنة ٢٣ ه‍. وتوفى رحمه‌الله سنة ٣٥ ه‍.

ينظر : الاستيعاب (٢ / ٤٨٧) ت (٢٠٢٢) ، صفة الصفوة (١ / ١١٢) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٣ / ٥٣) ، طبقات الفقهاء للشيرازى ص (٨) ، حلية الأولياء (١ / ٥٥) ، تذكرة الحفاظ (١ / ٨) ، تاريخ الخميس (٢ / ٢٨٣) ، غاية النهاية (١ / ٥٠٧).

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤) ، ومسلم (١ / ٢٩٩) كتاب : الصلاة ، باب : حجة من قال لا يجهر بالبسملة ، الحديث (٥٢) ، والبيهقى (٢ / ٥٠) كتاب : الصلاة ، باب : من قال لا يجهر ب «بسم الله الرحمن الرحيم» ، من رواية الأوزاعى ، عن قتادة ، عن أنس قال : «صليت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى بكر ، وعمر ، وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم فى أول القراءة ولا آخرها».

وأخرجه أحمد (٣ / ٢٧٣) ، ومسلم (١ / ٢٩٩) كتاب : الصلاة ، باب : حجة من قال لا يجهر بالبسملة ، الحديث (٥٠) ، والدار قطنى (١ / ٣١٥) كتاب : الصلاة ، باب : اختلاف الرواية فى الجهر بالبسملة ، الحديث (٢) ، والبيهقى (٢ / ٥١) كتاب : الصلاة ، باب : من قال لا يجهر بالبسملة ، من رواية شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : «صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر ، وعمر ، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم».

وأما الرواية التى فيها : «فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» :

أخرجها أحمد (٣ / ١٧٩) ، والدار قطنى (١ / ٣١٥) كتاب : الصلاة ، باب : اختلاف الروايات فى الجهر بالبسملة ، الحديث (٣) ، كلهم من رواية وكيع ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : «صليت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبى بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم».

وأخرجها الطحاوى أيضا فى شرح معانى الآثار (١ / ٢٠٣) كتاب : الصلاة ، باب : قراءة البسملة فى الصلاة ، من طريق الأعمش عن شعبة ، وابن الجارود فى المنتقى (١ / ٧١) كتاب : الصلاة ، ـ

وروى ذلك عن على (١) ـ رضى الله عنه ـ وعبد الله بن عمر (٢) وجماعة ، وهو الأمر المعروف فى الأمة ، مع ما جاء فى قصة السحر : أن العقد كانت إحدى عشرة ، وقرأ عليها المعوذتين دون التسمية ؛ فكذا غيرها من السور مع ما إذا جعلت مفتاحا كانت كالتعوذ ، والله الموفق.

والأصل عندنا أن المعنى الذى تضمنه فاتحة القرآن فرض على جميع البشر ؛ إذ فيه الحمد لله والوصف له بالمجد ، والتوحيد له ، والاستعانة به ، وطلب الهداية ، وذلك كله يلزم كافّة العقلاء من البشر ، إذ فيه معرفة الصانع على ما هو معروف ، والحمد له على ما يستحقه ، إذ هو المبتدئ بنعمه على جميع خلقه ، وإليه فقر كلّ عبد ، وحاجة كلّ محتاج ، فصارت لنفسها ـ بما جمعت الخصال التى بيّنّا ـ فريضة على عباد الله.

__________________

ـ باب : صفة صلاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الحديث (١٨١) ، من طريق سعيد بن أبى عروبة ، عن قتادة.

وأخرجه ابن خزيمة (١ / ٢٥٠) كتاب : الصلاة ، باب : ذكر الدليل على عدم الجهر بالبسملة ، الحديث (٤٩٦) ، والطحاوى فى شرح معانى الآثار (١ / ٢٠٣) كتاب : الصلاة ، باب : قراءة البسملة فى الصلاة ، والطبرانى (١ / ٢٢٨) رقم (٧٣٩) ، وأبو نعيم فى الحلية (٦ / ١٧٩) ، من رواية الحسن ، عن أنس : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبا بكر ، وعمر ـ رضى الله عنهما ـ كانوا يسرون بسم الله الرحمن الرحيم.

وأما الرواية التى فيها : «فكانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم».

أخرجها الدارقطنى (١ / ٣١٦) كتاب : الصلاة ، باب : اختلاف الرواية فى الجهر بالبسملة ، الحديث (٩) ، والحاكم (١ / ٢٣٣) كتاب : الصلاة ، باب : الجهر بالبسملة (٧) ، بلفظ : «فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم».

وفى البخارى (٩ / ٩٠ ـ ٩١) كتاب : فضائل القرآن ، باب : مد القراءة ، الحديث (٥٠٤٦) ، من رواية قتادة قال : سئل أنس ، كيف كانت قراءة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : كانت مدّا ، ثم قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» ، يمد بسم الله ، ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم.

(١) هو أمير المؤمنين على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم ، أبو الحسن ، ابن عم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزوج فاطمة الزهراء ، وأبو الحسن والحسين ، من الأوائل إسلاما وفضائله كثيرة ، استشهد فى رمضان سنة ٤٠ ه‍.

ينظر : خلاصة الخزرجى (٢ / ٢٥٠) ، أسد الغابة لابن الأثير ترجمة (٣٧٨٩) ، الإصابة لابن حجر ترجمة (٥٧٠٤).

(٢) أخرجه البيهقى (٢ / ٤٨) عنهما : أنهما كانا يجهران بهما.

وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، أبو عبد الرحمن. قرشى عدوى. صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نشأ فى الإسلام ، وهاجر مع أبيه إلى الله ورسوله. شهد الخندق وما بعدها ، ولم يشهد بدرا ولا أحدا لصغره. أفتى الناس ستين سنة. ولما قتل عثمان عرض عليه ناس أن يبايعوه بالخلافة فأبى. شهد فتح إفريقية. كف بصره فى آخر حياته. كان آخر من توفى بمكة من الصحابة. وهو أحد المكثرين من الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ينظر : تهذيب الكمال (٢ / ٧١٣) ، وتهذيب التهذيب (٥ / ٣٢٨) (٥٦٥) ، تقريب التهذيب (١ / ٤٣٥) (٤٩١) ، خلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٨١) ، تاريخ البخارى الكبير (٥ / ٢ ، ١٤٥) ، تاريخ البخارى الصغير (١ / ١٤٥ ، ١٥٧) ، الجرح والتعديل (٥ / ١٠٧) ، أسد الغابة (٣ / ٣٤٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٢٥) ، الإصابة (٤ / ١٨١).

ثم ليست هى فى حق الصلاة فريضة ، وذلك نحو التسبيحات بما فيها من تنزيه الله.

والتكبيرات بما فيها من تعظيمه فريضة لنفسها ؛ إذ ليس لأحد ألا ينزه ربه ، ولا يعظمه من غير أن يوجب ذلك فرضيتها فى حق الصلاة ، وفى حق كل مجعولة هى فيه ، لا من طريق توضيح الفرضية من غير طريق الذى ذكرت.

ثم ليست هى بفريضة فى حق القراءة فى الصلاة ؛ لوجوه :

أحدها : أن فرضية القراءة عرفنا بقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] وفيها الدلالة من وجهين :

أحدهما : أنه قد يكون غيرها أيسر.

والثانى : أن فرضيّة القراءة فى هذه الآية من حيث الامتنان بالتخفيف علينا والتيسير ، ولو لم يكن فريضة لم يكن علينا فى التخفيف منّة إذا بالترك.

ثم لا نخير فى فاتحة القرآن ، والآية التى بها عرفنا الفرضية فيما تخير ما يختار من الأيسر ، ثبت أنها رجعت إلى غيرها ، وبالله التوفيق.

والثانى : أن نبىّ الله أخبر عن الله : أنه جعل بها فى حق الثناء ، وهو ما ذكر فى خبر القسمة فصارت تقرأ بذلك الحق ، فلم يخلص لها حق القراءة ، بل ألحق بها حق الدعاء والثناء ، وليس ذلك من فرائض الصلاة ، وبالله التوفيق.

والثالث : ما روى عن عبد الله بن مسعود (١) ـ رضى الله عنه ـ : «أنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيا ليلة بقوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) [المائدة : ١١٨] الآية. وبه كان يقوم ، وبه كان يركع ، وبه يسجد ، وبه يقعد» (٢). فثبت أنه لا يتعين قراءتها فى الصلاة مع ما أيّده الخبر الذى فيه

__________________

(١) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فأر بن مخزوم الهذلى أبو عبد الرحمن من أكابر الصحابة ومن أقربهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من السابقين للإسلام كان خادم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحب سره ، كان له أصحاب سادة منهم علقمة والأسود ومسروق وعبيدة السلمانى وأبو وائل وطارق بن شهاب وزر بن حبيش وأبو عمرو الشيبانى وأبو الأحوص وزيد بن وهب وخلق سواهم ولى بيت المال بالكوفة ثم قدم المدينة فى خلافة عثمان رضى الله عنه فتوفى بها سنة ٣٢ ودفن بالبقيع.

ينظر الإصابة (٤ / ١٢٩) ت (٤٩٤٥) ، الاستيعاب (٢ / ٣٧٠) ت (١٥٣٦) ، صفة الصفوة (١ / ١٥٤) ، طبقات الفقهاء للشيرازى ص (١١) ، غاية النهاية (١ / ٤٥٨) ، تاريخ الخميس (٢ / ٢٨٧) ، تاريخ الإسلام (٢ / ١٠٠) ، الأعلام للزركلى (٤ / ٢٨٠).

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ١٥٦ ، ١٧٠ ، ١٧٧) ، والنسائى (٢ / ١٧٧) كتاب الافتتاح ، باب ترديد الآية ، وابن ماجه (٢ / ٤٧٩ ـ ٤٨٠) كتاب إقامة الصلاة ، باب ما جاء فى صلاة الليل (١٣٥٠) وابن أبى شيبة وابن مردويه والبيهقى عن أبى ذر بنحوه كما فى الدر المنثور (٢ / ٦١٦) ، وفى إسناده مقال.

«أن ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ» (١) ؛ إذ قال له وقت التعليم (٢) : «اقرأ ما تيسّر عليك» فثبت أن المفروض ذلك.

وأيضا روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٣).

__________________

(١) أخرجه البخارى (١١ / ٣٦) كتاب : الاستئذان ، باب : من رد فقال عليك السلام ، رقم الحديث (٦٢٥١) ، ومسلم (١ / ٢٩٨) كتاب : الصلاة ، باب : وجوب قراءة الفاتحة ، الحديث (٤٥ / ٣٩٧) ، وأبو داود (١ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨) كتاب : الصلاة ، باب : صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع والسجود (٨٥٦) ، والنسائى (٢ / ١٢٤) كتاب الافتتاح ؛ باب فرض التكبيرة الأولى ، والترمذى (٢ / ١٠٣ ـ ١٠٤) أبواب الصلاة ، باب : ما جاء فى وصف الصلاة ، حديث (٣٠٣).

وابن ماجه (١ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧) كتاب : إقامة الصلاة ، باب : إتمام الصلاة (١٠٦٠) ، وأحمد (٢ / ٤٣٧) وأبو عوانة (٢ / ١٠٣) ، والبيهقى (٢ / ١٥ ـ ٣٧ ـ ٦٢) ، وابن خزيمة (١٠ / ٢٣٥) رقم (٤٦١) عن أبى هريرة ، وقال الترمذى : هذا حديث حسن صحيح.

وللحديث شاهد فى حديث رفاعة بن رافع بمثل حديث أبى هريرة :

أخرجه أبو داود (١ / ٢٨٩) كتاب : الصلاة ، باب : صلاة من لا يقيم صلبه فى الركوع ، والسجود (٨٦٠) ، والنسائى (٢ / ١٩٣) كتاب : الافتتاح ، باب : الرخصة فى ترك الذكر فى الركوع (١٠٥٣) ، والترمذى (٢ / ١٠٠ ـ ١٠٢) : أبواب الصلاة ، باب : ما جاء فى وصف الصلاة (٣٠٢) ، وأحمد (٤ / ٣٤٠) ، والشافعى فى الأم (١ / ٨٨) ، والدارمى (١ / ٣٠٥ ، ٣٠٦) ، وابن الجارود (ص ١٠٣ ـ ١٠٤) ، والحاكم (١ / ٢٤٢) ، والبيهقى (٢ / ١٠٢) ، من طرق عن رفاعة بن رافع به.

وقال الترمذى : حديث حسن.

وقد أخرجه من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن يحيى بن على بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقى ، عن أبيه ، عن جده ، عن رفاعة.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبى.

وقد أخرجه من طريق إسحاق بن يحيى بن أبى طلحة ، عن على بن يحيى بن خلاد ، عن أبيه ، عن عمه رفاعة بن رافع.

والحديث صححه ابن خزيمة (١ / ٢٧٤) وابن حبان (٤٨٤ ـ موارد).

وأخرجه أيضا عبد الرزاق (٣٧٣٩) والطحاوى فى شرح معانى الآثار (١ / ١٣٧) والطيالسى (١٣٧٢) وابن حزم فى المحلى (٣ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧) والبغوى فى شرح السنة (٢ / ٢٣٠).

(٢) فى أ : التعلم.

(٣) أخرجه الشافعى فى الأم (١ / ١٢٩) كتاب : الصلاة ، باب : القراءة بعد التعوذ ، وأحمد (٥ / ٣١٤) ، والدارمى (١ / ٢٨٣) كتاب : الصلاة ، باب : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، والبخارى (٢ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧) كتاب : الأذان ، باب : وجوب القراءة للإمام (٧٥٦) ، ومسلم (١ / ٢٩٥) كتاب : الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة ، الحديث (٣٤ / ٣٩٤) ، وأبو داود (١ / ٥١٤) كتاب : الصلاة ، باب : من ترك قراءة الفاتحة ، الحديث (٨٢٢) ، والترمذى (٢ / ٢٥) كتاب : الصلاة ، باب : لا صلاة إلا بالفاتحة ، الحديث (٢٤٧) ، والنسائى (٢ / ١٧٣) كتاب : الافتتاح ، باب : وجوب قراءة فاتحة الكتاب ، وابن ماجه (١ / ٢٧٣) كتاب : إقامة الصلاة ، باب : القراءة خلف الإمام ، الحديث (٨٣٧) ، والدار قطنى (١ / ٣٢١) كتاب : الصلاة ، باب : وجوب قراءة أم الكتاب ، الحديث (١٧) ، والبيهقى (٢ / ٣٨) كتاب : الصلاة ، باب تعيين القراءة بفاتحة الكتاب ، وأبو عوانة (٢ / ١٢٤) ، وابن أبى شيبة (١ / ٣٦٠) ، وعبد الرزاق (٢٦٢٣) ، وابن خزيمة (١ / ٢٤٦) رقم (٤٨٨) ، والبغوى فى شرح السنة (٢ / ٢٠١) ـ

ثم روى عنه بيان محلها : «إنّ كلّ صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداج ، نقصان ، غير تمام» (١).

والفاسد لا يوصف بالنقصان ، وإنما الموصوف بمثله ما جاز مع النقصان. وبالله التوفيق.

ثم خص فاتحة القرآن بالتأمين بما سمّى بالذى ذكره خبر القسمة.

وغير الفاتحة وإن كان فيه الدعاء ، فإنه لم يخص بهذا الاسم ؛ لذلك لم يجهر به ، فالسبيل فيه ما ذكرنا فى القسمة ، مع ما كان هو أخلص بمعنى الدعاء منها.

ثم السّنّة فى جميع الدعوات المخافتة.

والأصل : أنّ كل ذكر يشترك فيه الإمام والقوم فسنته المخافتة إلا لحاجة الإعلام ، وهذا يعلم من قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) فيزول معناه.

وسبيل مثله المخافتة مع ما جاء به مرفوعا ومتوارثا.

وخبر الجهر يحتمل : السبق ، كما كان يسمعهم فى صلاة النهار أحيانا. ويحتمل : الإعلام ، أنه كان يقرأ به. وبالله التوفيق.

ثم جمعت هذه خصالا من الخير ، ثم كل خصلة منها تجمع جميع خصال الخير.

منها : أن فى الحرف الأول من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) شكرا لجميع النعم ، وتوجيها لها إلى الله لا شريك له ، ومدحا له بأعلى ما يحتمل المدح ، وهو ما ذكرنا من عموم نعمه وآلائه جميع بريّته.

__________________

ـ والحميدى (٣٨٦) والطبرانى فى الصغير (١ / ٧٨) كلهم من طريق الزهرى عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.

وقال الترمذى : حديث حسن صحيح.

(١) أخرجه مالك (١ / ٨٤) كتاب : الصلاة ، باب : القراءة خلف الإمام ، الحديث (٣٩) ، والشافعى (١ / ١٢٩) كتاب : الصلاة ، باب : القراءة بعد التعوذ ، والطيالسى (١ / ٣٣٤) ، الحديث (٢٥٦١) ، وأحمد (٢ / ٢٨٥) ، ومسلم (١ / ٢٩٧) كتاب : الصلاة ، باب : وجوب قراءة الفاتحة ، الحديث (٤١ / ٣٩٥) ، وأبو داود ، كتاب : الصلاة ، باب : من ترك قراءة الفاتحة ، الحديث (٨٢١) ، والترمذى (٢ / ٢٥) كتاب : الصلاة ، باب : لا صلاة إلا بالفاتحة ، الحديث (٢٤٧) ، والنسائى (٢ / ١٣٥) كتاب : الافتتاح ، باب : ترك قراءة البسملة فى فاتحة الكتاب ، والبيهقى (٢ / ٣٩) كتاب : الصلاة ، باب : تعيين القراءة بفاتحة الكتاب ، والبخارى فى جزء القراءة (ص ٣) ، وابن خزيمة (١ / ٢٤٧) رقم (٤٨٩). والحميدى رقم (٩٧٤) والدار قطنى (١ / ٣١٢) والطحاوى فى شرح معانى الآثار (١ / ٢١٦) وابن حبان (١٧٧٩ ـ الإحسان) كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج هى خداج هى خداج غير تام».

ثم فيه الإقرار بوحدانيته فى إنشاء البريّة كلها ، وتحقيق الربوبية له عليها بقوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) وكل واحد منها يجمع خصال خير الدارين ، ويوجب القائل به ـ عن صدق القلب ـ درك الدارين.

ثم الوصف لله ـ عزوجل ـ بالاسمين يتعالى عن أن يكون لأحد من معناهما حقيقة ، أو يجوز أن يكون منه الاستحقاق نحو «الله» و «الرحمن».

ثم الوصف بالرحمة التى بها نجاة كل ناج ، وسعادة كل سعيد ، وبها يتقى المهالك كلها مع ما من رحمته خلق الرحمة التى بها تعاطف بينهم وتراحمهم.

ثم الإيمان بالقيامة بقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) مع الوصف له بالمجد ، وحسن الثناء عليه.

ثم التوحيد ، وما يلزم العباد من إخلاص العبادة له ، والصدق فيها ، مع جعل كل رفعة وشرف منالا به عزوجل.

ثم رفع جميع الحوائج إليه ، والاستعانة به على قضائها ، والظفر بها على طمأنينة القلب وسكونه ، إذ لا خيبة عند معونته ، ولا زيغ عند عصمته.

ثم الاستهداء إلى ما يرضيه ، والعصمة عما يغويه فى حادث الوقت ، على العلم بأنه لا ضلال لأحد مع هدايته فى التحقيق.

والرجاء والخوف من الله لا من غيره.

وعلى ذلك جميع معاملات العباد ، ومكاسبهم على الرجاء من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سببا به يصل إلى مقصوده ، ويظفر بمراده. ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(٤)

قوله عزوجل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

احتمل : أن يكون جلّ ثناؤه حمد نفسه ؛ ليعلم الخلق استحقاقه الحمد بذاته ؛ فيحمدوه.

فإن قيل : كيف يجوز أن يحمد نفسه ، ومثله فى الخلق غير محمود؟!

قيل له : لوجهين :

أحدهما : أنّه استحقّ الحمد بذاته ، لا بأحد ؛ ليكون فى ذلك تعريف الخلق لما يزلفهم لديه بما أثنى على نفسه ؛ ليثنوا عليه. وغيره إنما يكون ذلك له به ـ جل وعزّ ـ فعليه : توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه ؛ إذ نفسه لا تستوجبه بها ، بل بالله تعالى.

والثانى : أن الله تعالى حقيق بذلك ؛ إذ لا عيب يمسّه ، ولا آفة تحل به فيدخل نقصان فى ذلك. ولا هو خاصّ بشيء. والعبد لا يخلو عن عيوب تمسّه ، وآفات تحل به ، ويمدح بالائتمار ، ويذم بتركه. وفى ذلك تمكن النقصان ، وحق لمثله الفزع إلى الله ، والتضرع إليه ؛ ليتغمده برحمته ، ويتجاوز عن صنيعه.

وعلى ذلك معنى التكبير ، نحمد به ربنا ولا نحمد غيره ؛ إذ ليس للعبد معنى يستقيم معه تكبّره ، إذ هم جميعا أكفاء من طريق المحبّة ، والخلق ، وما أدرك أحد منهم من فضيلة أو رفعة فبالله أدركه ، لا بنفسه ؛ فعليه تنزيه الرب ، والفزع إليه بالشكر ، لا بالتكبر على أمثاله. والله عن هذا الوصف متعال.

ويحتمل أن يكون قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على إضمار الأمر ، أى : قولوا : الحمد لله ؛ لأن الحمد يضاف إلى الله ، فلا بد من أن يكون له علينا ؛ فأمر بالحمد لذلك.

ثم يخرج ذلك على وجهين :

أحدهما : ما روى عن ابن عباس (١) ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «الحمد لله : أى الشكر لله بما صنع إلى خلقه» (٢).

فيخرج تأويل الآية على هذا ؛ لأنه ـ على هذا الترتيب ـ على الأمر بتوجيه الشكر إليه ، وذلك يتضمن الأمر أيضا بكل الممكن من الطاعة على ما روى عن النبى ـ عليه‌السلام ـ «أنّه صلّى حتّى تورّمت قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا» (٣)!.

__________________

(١) هو : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشى ، أبو العباس حبر الأمة الصحابى الجليل ، ولد بمكة سنة (٣ ق ه) وشهد مع الإمام على (الجمل وصفين) وعن أبى وائل قال : استعمل ابن عباس على الحج فخطب خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا. وقال أبو بكر : قدم ابن عباس علينا بالبصرة وما فى العرب مثله جسما وعلما وبيانا وجمالا وكمالا ، وينسب إليه كتاب فى تفسير القرآن جمعه بعض أهل العلم من مرويات المفسرين عنه فى كل آية ، توفى بالطائف سنة ٦٨ ه‍ فى أيام الزبير ، وكان ابن الزبير قد أخرجه من مكة إلى الطائف فمات بها وهو ابن سن ٧٠ ، وقيل : ابن ٧١ سنة ، وقيل : ٧٤ سنة ، رحمه‌الله. راجع : الإصابة (٤ / ٩٠ / ت ٤٧٧٢) ، صفة الصفوة (١ / ٣١٤) ، الاستيعاب (٢ / ٣٨٣ / ت ١٥٩٣) ، طبقات الفقهاء للشيرازى ص (١٨) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ٢٢٤) ، أسد الغابة (٣ / ١٩٢) ، حلية الأولياء (١ / ٣١٤) ، تذكرة الحفاظ (١ / ٣٤) ، تاريخ الخميس (٢ / ٣٤٥) ، معالم الإيمان (١ / ١٠٧) ، تاريخ الإسلام (٣ / ٣٠) ، مفتاح دار السعادة (٢ / ١٣ ـ ١٤).

(٢) أخرجه ابن جرير ، وابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٣٤).

(٣) أخرجه البخارى (٩ / ٥٥٨) كتاب التفسير ، باب قوله :(«ليغفر الله لك ...») الآية (٤٨٣٦) ، ومسلم (٤ / ٢١٧١) ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب إكثار الأعمال والاجتهاد فى العبادة (٧٩ / ٢٨١٩) ، وعبد الرزاق (٤٧٤٦) ، والحميدى (٧٥٩) ، وأحمد (٤ / ٢٥١ ، ٢٥٥) ، والترمذى (١ / ٤٣٧) ، كتاب الصلاة ، باب ما جاء فى الاجتهاد فى الصلاة (٤١٢) ، وابن ماجه (٢ / ٥٣١) ، كتاب ـ

فصيّر أنواع الطاعات شكرا له ، فمن أطاع الله ـ تعالى ـ فقد شكر له ، فيخرج تأويل الآية على هذا.

والوجه الثانى : أنه يخرج مخرج الثناء على الله ـ عزوجل ـ والمدح له ، والوصف بما يستحقه ، والتنزيه عما لا يليق به ، من توجيه النعم إليه ، وقطع الشركة عنه فى الإنعام والإفضال على عباده.

وعلى ذلك ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن الله ـ عزوجل ـ يقول : قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله ربّ العالمين ، قال الله تعالى : حمدنى عبدى» (١) ؛ فجعل الحمد هذا الحرف ، وصيّر منه ثناء ؛ لوجهين :

أحدهما : أنه نسب الربوبية إليه فى جميع العالم ، وقطعها عن غيره.

والثانى : أنه سمّى ذلك صلاة ، والصلاة اسم للثناء والدعاء ، وذلك خلاف الذم ونقيضه.

وفى الوصف بالبراءة من الذم مدح ، وثناء بغاية المدح والثناء ؛ ولذلك يفرق القول بين الحمد والشكر ؛ إذ أمرنا بالشكر للناس بما جاء عن رسول الله ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ من لم يشكر النّاس لم يشكر الله» (٢) صيره بمعنى المجازاة ، والحمد بمعنى الوصف بما هو أهله ؛ فلم يستحب الحمد إلا لله. وبالله التوفيق.

وقوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ).

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «سيد العالمين». والعالم : كل من دبّ على وجه الأرض.

وقد يتوجه : «الربّ» إلى الرّبوبية لا إلى السؤدد ؛ إذ يستقيم القول برب كل شىء من بنى آدم وغيره ، نحو رب السموات والأرضين ، ورب العرش ونحوه ، وغير مستقيم القول بسيد السموات ونحوه.

__________________

ـ إقامة الصلاة ، باب ما جاء فى طول القيام (١٤١٩) ، والنسائى (٣ / ٢١٩) ، كتاب قيام الليل ، باب الاختلاف على عائشة فى إحياء الليل ، وابن خزيمة (١١٨٢ ، ١١٨٣) ، وابن حبان (٣١١) ، والبيهقى (٣ / ١٦) ، (٧ / ٣٩) ، والخطيب فى تاريخه (١٤ / ٣٠٦) ، والبغوى (٢ / ٤٦٧) ، من حديث المغيرة بن شعبة.

وأخرجه البخارى (٤٨٣٧) ، ومسلم (٨١ / ٢٨٢٠) عن عائشة.

(١) تقدم.

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٢٥٨ ، ٢٩٥ ، ٣٠٢ ، ٣٨٨ ، ٤٦١ ، ٤٩٢) والبخارى فى الأدب المفرد (٢١٨) ، وأبو داود (٢ / ٦٧١) ، كتاب الأدب ، باب فى شكر المعروف (٤٨١١) ، والترمذى (٣ / ١٩٥٤) ، كتاب البر والصلة ، باب ما جاء فى الشكر لمن أحسن إليك (١٩٥٤) عن أبى هريرة.

وقد يتوجه اسم الرب إلى المالك ؛ إذ كل من ينسب إليه الملك يسمّى أنه مالكه ، ولا يسمّى أنه سيد إلا فى بنى آدم خاصة.

واسم الرب يجمع ذلك كلّه ؛ لذلك كان التوجيه إلى المالك أقرب ، وإن احتمل المروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ إذ هو فى الحقيقة سيّد من ذكر وربّهم. والله الموفق.

ثم اختلف أهل التفسير فى العالمين :

فمنهم من رد إلى كل ذى روح دب على وجه الأرض.

ومنهم من رد إلى كل ذى روح فى الأرض وغيرها.

ومنهم من قال : لله كذا ، كذا عالم.

والتأويل عندنا ما أجمع عليه أهل الكلام : أن العالمين : اسم لجميع الأنام والخلق جميعا. وقول أهل التفسير يرجع إلى مثله ، إلا أنهم ذكروا أسماء الأعلام ، وأهل الكلام ما يجمع ذلك وغيرهم.

ثم العالم اسم للجميع ، وكذلك الخلق ، ثم تعريف ذلك بالعالمين والخلائق يتوجه إلى جمع الجمع ، من غير أن يكون فى التحقيق تفاوت ، وقد يتوجه إلى عالم كل زمان وكذا خلق كل زمان على حكم تجدد العالم. وبالله التوفيق.

وفى ذلك أن الله ـ عزوجل ـ ادعى لنفسه : رب العالمين كلهم ، من تقدم وتأخر ، ومن كان ويكون ، ولم يقدر أحد أن ينطق بالتكذيب ، يدّعى شيئا من ذلك لنفسه ؛ فدل ذلك على أن لا رب غيره ، ولا خالق لشىء من ذلك سواه ؛ إذ لا يجوز أن يكون حكيم أو إله ينشئ ويبدع ولا يدعيه ، ولا يفصل ما كان منه ما كان لغيره ، وبنفسه قام ذلك لا بغيره ؛ وعلى ذلك معنى قوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] فهذا ـ مع ما فى اتّساق التدبير ، واجتماع التضاد ، وتعلق حوائج بعض ببعض ، وقيام منافع بعض ببعض ، على تباعد بعض من بعض وتضادها ـ دليل واضح على أن مدبر ذلك كله واحد ، وأنه لا يجوز كون مثل ذلك من غير مدبّر عليم. والله المستعان.

وقوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

اسمان مأخوذان من الرحمة ، لكنه روى فيهما : رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر ، وكأن الذى روى عنه هذا أراد به لطيفان أحدهما ألطف من الآخر ، دليل ذلك وجهان :

أحدهما : مجىء الأثر فى ذلك ـ اللطيف ـ فى أسماء الله تعالى مع ما نطق به

الكتاب ، ولم يذكر فى شىء من ذلك رقيق.

ومعنى اللطيف : استخراج الأمور الخفية وظهورها له ؛ كقوله : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) إلى قوله : (لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] ، وبالله التوفيق.

والثانى : أن اللطيف حرف يدل على البرّ والعطف.

والرقة على رقة الشىء التى هى نقيض الغلظ والكثافة ، كما يقال : فلان رقيق القلب.

وإذا قيل : فلان لطيف ، فإنما يراد به بارّ : عاطف ؛ فلذلك يجوز : لطيف ، ولا يجوز : رقيق ، وكذلك فسر من فسر «الرحمن» بالعاطف على خلقه بالرزق.

وذهب بعضهم ـ وهو الأول ـ إلى اللطافة وذلك بعيد ، وإنما هو من اللّطف.

وقوله : أحدهما أرق من الآخر ، بمعنى اللطف ـ يحتمل وجهين :

أحدهما : التحقيق بأن اللطف بأحد الحرفين أخص وأليق ، وأوفر وأكمل ، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال : رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه ؛ ولذا ذكر أمته وإن أشركهم فى الرزق فيما يراهم غيرهم ؛ ألا ترى أنه لا يقال : رحمن بالمؤمنين ، وجائز القول : رحيم بهم ، وكذلك لا يقال : رحيم بالكافرين ، مطلقا؟! وبالله التوفيق.

ووجه آخر : أن أحدهما ألطف من الآخر ؛ كأنه وصف الغاية فى اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما فى كل واحد منهما من اللطف ، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف. وبالله التوفيق.

ثم فى هذا أن اسم «الرحمن» هو المخصوص به الله لا يسمى به غيره ، و «الرحيم» يجوز تسمية غيره به ؛ فلذلك يوصف أن «الرحمن» اسم ذاتى ، و «الرحيم» فعلى ، وإن احتمل أن يكونا مشتقين من الرحمة ؛ ودليل ذلك : إنكار العرب «الرحمن» ، ولا أحد منهم أنكر «الرحيم» ، حيث قالوا : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) [الفرقان : ٦٠] وذلك قوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] يدل على أنّه ذاتىّ لا فعلىّ ، وإن كان الفعل صفة الذات ؛ إذ محال صفته بغيره ؛ لما يوجب ذلك الحاجة إلى غيره ليحدث له الثناء والمدح. وفى ذلك خلق الخلق لنفع الامتداح ، وهو عن ذلك متعال ، بل بنفسه مستحقّ لكل حمد ومدح ، ولا قوة إلا بالله.

وروى فى خبر القسمة : «أن العبد إذا قال : الرحمن الرّحيم ، قال الله تعالى : أثنى علىّ عبدى ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدنى عبدى» (١). وذكر أنه قال فى الأول : بالتمجيد ، وفى الثانى : بالثناء ، وذلك واحد ؛ لأن معنى الثناء الوصف بالمجد والكرم

__________________

(١) تقدم بنحوه.

والجود ، والتمجيد هو الوصف بذلك ، وبالله التوفيق.

ثم أجمع على أن قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) أنه يوم الحساب والجزاء. وعلى ذلك القول : (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) [الصافات : ٥٣] ، وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) [النور : ٢٥] وهو الجزاء.

ومن ذلك قول الناس : «كما تدين تدان».

وجائز أن يكون (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) على جعل ذلك اليوم لما يدان اليوم ؛ إذ به يظهر حقيقته ، وعظم مرتبته ، وجليل موقعه عند ربه.

وفى الآية دلالة وصف الرب بملك ما ليس بموجود لوقت الوصف بملكه ، وهو يوم القيامة.

ثبت أن الله بجميع ما يستحق الوصف به يستحقه بنفسه لا بغيره.

ولذلك قلنا نحن : هو خالق لم يزل ، ورحيم لم يزل ، وجواد لم يزل ، وسميع لم يزل ـ وإن كان ما عليه وقع ذلك لم يكن ـ وكذلك نقول : هو رب كل شىء ، وإله كل شىء فى الأزل ـ وإن كانت الأشياء حادثة ـ كما قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) وإن كان اليوم بعد غير حادث. وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٥) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٦) اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة].

وقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

فهو ـ والله أعلم ـ على إضمار الأمر ، أى : قل : ذا. ثم لم يجعل له أن يستثنى فى القول به ، بل ألزمه القول بالقول فيه. ثم هو يتوجه وجهين :

أحدهما : يحال (١) القول به على الخبر عن حاله ؛ فيجب ألا يستثنى فى التوحيد ، وأن من يستثنى فيه عن شكّ يستثنى.

والله ـ تعالى ـ وصف المؤمنين بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ...) الآية [الحجرات : ١٥].

وكذلك سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أفضل الأعمال فقال : «إيمان لا شكّ فيه» (٢).

__________________

(١) فى أ : لحال.

(٢) طرف من حديث عبد الله حبشى :

أخرجه أحمد (٣ / ٤١١) ، وأبو داود (١ / ٤٢٢) كتاب الصلاة ، باب افتتاح صلاة الليل بركعتين (١٣٢٥) ، وباب طول القيام (١٤٤٩) ، والنسائى (٥ / ٥٨) ، كتاب الزكاة ، باب جهد المقل. ـ

والثانى : عن الأحوال التى ترد فى ذلك. لكنه إذا كان ذلك على اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه ؛ إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات ، إنما تعتقد للأبد ؛ لذلك لم يجز الثناء فيه فى الأبد. وبالله التوفيق.

ثم قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يتوجه وجهين :

أحدهما : إلى التوحيد ، وكذا روى عن ابن عباس (١) ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : «كلّ عبادة فى القرآن فهو توحيد».

والوجه الآخر : أن يكون على كل طاعة أن يعبد الله بها ، وأصلها يرجع إلى واحد ؛ لما على العبد أن يوحد الله ـ تعالى ـ فى كل عبادة لا يشرك فيها أحدا ، بل يخلصها فيكون موحّدا لله تعالى بالعبادة والدين جميعا.

وعلى ذلك قطع الطمع ، والخوف ، والحوائج كلها عن الخلق.

وتوجيه ذلك إلى الله تعالى بقوله : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر : ١٥] وعلى ذلك المؤمن لا يطمع فى الحقيقة بأحد غير الله ، ولا يرفع إليه الحوائج ، ولا يخاف إلا من الوجه الذى يخشى أن الله جعله سببا لوصول بلاء من بلاياه إليه على يديه ؛ فعلى ذلك يخافه ، أو يرجو أن يكون الله تعالى جعل سبب ما دفعه إليه على يديه ، فبذلك يرجو ويطمع ، فيكون ذلك من الضّالّين ، فيكون فى ذلك التعوّذ من جميع أنواع الذنوب ، والاستهداء إلى كل أنواع البر.

وقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

فذلك طلب المعونة من الله تعالى على قضاء جميع حوائجه دينا ودنيا.

ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى الله بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على طلب التوفيق لما أمر به ، والعصمة عما حذّره عنه ، وكذلك الأمر البيّن فى الخلق من طلب التوفيق ، والمعونة من الله ، والعصمة عن المنهى عنه جرت به سنة الأخيار. والله الموفق.

__________________

ـ وفى الباب عن أبى ذر :

أخرجه البخارى (٥ / ٤٤٦) كتاب العتق ، باب أى الرقاب أفضل (٢٥١٨) ، ومسلم (١ / ٨٨) ، كتاب الإيمان باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (١٣٦ / ٨٤) ، والنسائى (٦ / ١٩) ، كتاب الجهاد ، باب ما يعدل الجهاد فى سبيل الله.

وعن أبى هريرة :

أخرجه البخارى (٤ / ١٥٦) كتاب الحج ، باب فضل الحج المبرور (١٥١٩) ومسلم (١٣٥ / ٨٣) ، والنسائى (٦ / ١٩).

(١) أخرجه ابن جرير (١ / ٩٩) (١٧١) عنه بنحوه ، وذكره السيوطى فى الدر (١ / ٣٩) وزاد نسبته لابن أبى حاتم.

ثم لا يصلح هذا على قول المعتزلة (١) ؛ لأن تلك المعونة على أداء ما كلف قد أعطى ؛

__________________

(١) المعتزلة : هم أصحاب واصل بن عطاء الغزالى الذى اعتزل عن مجلس الحسن البصرى ، حين دخل على الحسن رجل ، فقال : يا إمام الدين ، ظهر فى زماننا جماعة يكفرون صاحب الكبيرة ، فكيف تحكم لنا؟ فتفكر الحسن ، وقبل أن يجيب قال واصل : أنا لا أقول صاحب الكبيرة مؤمن ولا كافر ، ثم قام إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد ، وأخذ يقرر على جماعة من أصحاب الحسن أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر. فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ؛ فلذلك سمى أصحابه : معتزلة ، ويلقبون بالقدرية ؛ لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم فيها أى خلق لله تعالى. والمعتزلة لقبوا أنفسهم : أصحاب العدل والتوحيد. أما تلقيبهم بالأول ؛ فلقولهم بوجوب الأصلح وثواب المطيع ، وأما بالثانى ؛ فلقولهم بنفى الصفات القديمة.

وقد افترقوا إلى عشرين فرقة وهى :

ـ الواصلية : أصحاب واصل بن عطاء وقالوا بنفى الصفات وبالقدر وامتناع إضافة الشر إلى الله وبالمنزلة بين المنزلتين ... إلخ.

ـ العمرية : نسبة إلى عمرو بن عبيد.

ـ الهذيلية : أصحاب أبى الهذيل العلاف وقالوا بفناء مقدورات الله وأن أهل الخلدين يصيرون إلى خمود ؛ ولذلك سمى المعتزلة أبا الهذيل جهمى الآخرة.

ـ النظامية : أصحاب إبراهيم بن سيار النظام. قالوا : لا يقدر الله أن يفعل بعباده فى الدنيا ما لا صلاح لهم فيه ... إلخ.

ـ الأسوارية : أصحاب الأسوارى ، زادوا : أن الله تعالى لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم عدمه والإنسان قادر عليه.

ـ الإسكافية : أصحاب أبى جعفر الإسكاف قالوا : الله لا يقدر على ظلم العقلاء بخلاف ظلم الصبيان والمجانين.

ـ الجعفرية : أصحاب الجعفرين : ابن مبشر وابن حرب. زادوا : أن فى فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس. والإجماع على حد الشرب خطأ. وسارق الحبة منخلع عن الإيمان.

ـ البشرية : ينسبون إلى بشر بن المعتمر. قالوا : الأعراض من الألوان والطعوم والروائح وغيرها تقع متولدة والقدرة سلامة البنية والله قادر على تعذيب الطفل ظالما ولو عذبه لكان عاقلا عاصيا وفيه تناقض.

ـ المزدارية : نسبة إلى أبى موسى عيسى بن صبيح المزدار. قالوا : الناس قادرون على مثل القرآن نظما يعنى أن إعجازه كان بصرف الله الناس عن الإتيان بمثله لا بعجز طبيعى منهم.

ـ الهشامية : هو هشام بن عمرو الغوطى. قالوا : لا يطلق اسم الوكيل على الله لاستدعائه موكلا ... إلخ.

ـ الصالحية : أصحاب الصالحى جوزوا قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت.

ـ الحائطية : أصحاب أحمد بن حائط من أصحاب النظام قالوا : للعالم إلهان ، قديم هو الله تعالى ومحدث هو الذى يحاسب الناس فى الآخرة.

ـ الحدبية : أصحاب فضل الحدبى. زادوا التناسخ وأن كل حيوان مكلف.

ـ المعمرية : أصحاب معمر بن عياد السلمى. قالوا : الله لم يخلق شيئا غير الأجسام ولا يوصف بالقدم ولا يعلم نفسه والإنسان لا فعل له غير الإرادة.

ـ التمامية : أصحاب تمامة بن أشرس النميرى. قالوا : اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة يصيرون ترابا لا يدخلون جنة ولا نارا وكذلك البهائم والأطفال ... إلخ. ـ

إذ هو على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفا قد بقى شىء ـ مما به أداء ما كلف ـ عند الله ، وطلب ما أعطى كتمان العطية ، وكتمان العطية كفران ؛ فيصير كأنّ الله أمر أن يكفر نعمه ويكتمها ويطلبها منه تعنتا. وظنّ مثله بالله كفر.

ثم لا يخلو من أن يكون عند الله ما يطلب فلم يعطه التمام إذا ، أو ليس عنده فيكون طلبه استهزاء به ، إذ من طلب إلى آخر ما يعلم أنه ليس عنده فهو هازئ به فى العرف ، مع ما كان الذى يطلب إما أن يكون لله ألا يعطيه مع التكليف فيبطل قولهم ؛ إذ لا يجوز أن يكلف وعنده ما به الصلاح فى الدين فلا يعطى ، أو ليس له ألا يعطى فكأنه قال : اللهم لا تجر.

ومن هذا علمه بربه فالإسلام أولى به ، وهذا مع ما كان لا يدعو الله أحد بالمعونة إلا ويطمئن قلبه أنه لا يذل عند المعونة ، ولا يزيغ عند العصمة ، وليس مثله يملك الله عند المعتزلة. ولا قوة إلا بالله.

وقد روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فى خبر القسمة : «الله يقول : هذا بينى وبين عبدى نصفين».

وذلك يحتمل : أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها جميعا الفزع إلى الله بالعبادة ، والاستعانة ورفع الحاجة إليه ، وإظهار غناه ـ جل وعلا ـ عنه ؛ فيتضمن ذلك الثناء عليه ، وطلب الحاجة إليه.

ويحتمل : أن يكون الحرف الأول لله بما فيه عبادته وتوحيده ، والثانى للعبد بما فيه

__________________

ـ الخياطية : أصحاب أبى الحسين بن أبى عمرو الخياط. قالوا : بالقدر وتسمية المعدوم شيئا وجوهرا وعرضا وأن إرادة الله كونه غير مكره ولا كاره وهى فى أفعال نفسه الخلق وفى أفعال عباده الأمر ... إلخ.

ـ الجاحظية : أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ : قالوا : إن الأجسام ذوات طبائع ويمتنع انعدام الجواهر. والنار تجذب إليها أهلها لا أن الله يدخلها والخير والشر من فعل العبد والقرآن جسد ينقلب تارة رجلا وتارة امرأة.

ـ الكعبية : أصحاب أبى القاسم بن محمد الكعبى قالوا : فعل الرب واقع بغير إرادته ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه.

ـ الجبائية : أصحاب أبى على الجبائى : قالوا : إرادة الله حادثة لا فى محل والعالم يفنى بفناء لا فى محل والله متكلم بكلام يخلقه فى جسم ولا يرى فى الآخرة والعبد خالق لفعله ومرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر وإن مات بلا توبة يخلد فى النار ... إلخ.

ـ البهشمية : انفرد أبو هاشم عن أبيه بإمكان استحقاق الذم والعقاب بلا معصية وبأنه لا توبة عن كبيرة مع الإصرار على غيرها عالما بقبحه ولا مع عدم القدرة. ولا يتعلق علم بمعلومين على التفصيل ولله أحوال لا معلومة ولا مجهولة ولا قديمة ولا حادثة. ينظر : حاشية أحمد ملا على شرح العقائد النسفية للعلامة التفتازانى (١ / ٥٣) وما بعدها.

طلب معونته وقضاء حاجته.

ويؤيد ذلك بقية السورة أنه أخرج على الدعاء فقال الله ـ عزوجل ـ : «هذا لعبدى ، ولعبدى ما سأل».

وقوله : (اهْدِنَا).

قال ابن عباس (١) ـ رضى الله عنهما ـ : أرشدنا.

والإرشاد ، والهداية واحد ، بل الهداية فى حق التوفيق أقرب إلى فهم الخلق من الإرشاد بما هى أعم فى تعارفهم.

ثم القول بالهداية يخرّج على وجوه ثلاثة :

أحدها : البيان. ومعلوم أن البيان قد تقدم من الله لا أحد يريد به ذلك لمضى ما به البيان من كتاب وسنة ، وإلى هذا تذهب المعتزلة.

والثانى : التوفيق له ، والعصمة عن زيغه. وذلك معنى قولهم : «اللهمّ اهدنا فيمن هديت» ، وقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ) وصفهم إلى آخر السورة ، ولو كان على البيان على ما قالت المعتزلة فهو والمغضوب عليهم فى ذلك سواء ، فثبت أنه على ما قلنا دون ما ذهبوا إليه.

والثالث : أن يكون على طلب خلق الهداية لنا ؛ إذ نسب إليه من جهة الفعل ، وكل ما يفعله خلق ؛ كأنه قال : اخلق لنا هدايتنا ، وهو الاهتداء منا. وبالله التوفيق.

ثم تأويل طلب الهداية ، ممن قد هداه الله يتوجه وجهين :

أحدهما : طلب الثبات على ما هداه الله ، وعلى هذا معنى زيادات الإيمان ، أنها بمعنى الثبات عليه ، وذلك كرجلين ينظران إلى شىء فيرفع أحدهما بصره عنه ، جائز القول بازدياد نظر الآخر.

ووجه آخر : على أن فى كل حال يخاف على المرء ضد الهدى ، فيهديه مكانه أبدا فيكون له حكم الاهتداء ؛ إذ فى كل وقت إيمان منه دفع به ضده.

وعلى ذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ ...) الآية [النساء : ١٣٦] ونحو ذلك من الآيات.

وقد يحتمل أيضا معنى الزيادة هذا النوع. وبالله التوفيق.

وأما (الصِّراطَ) فهو الطريق والسبيل فى جميع التآويل وهو قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (١ / ١٠١) (١٧٣) عنه بنحوه ، وذكره السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٤٠) وزاد نسبته لابن أبى حاتم.

...) الآية [الأنعام : ١٥٣] ، وقوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨].

ثم اختلفوا فيما يراد به :

فقال بعضهم : هو القرآن (١).

وقال بعضهم : هو الإيمان.

وأيهما كان فهو القائم الذى لا عوج له ، والقيّم الذى لا اختلاف فيه ، من لزمه وصل إلى ما ذكر. وبالله التوفيق.

وقوله : (الْمُسْتَقِيمَ).

قيل : هو القائم بمعنى الثابت بالبراهين والأدلة ، لا يزيله شىء ، ولا ينقض حججه كيد الكائدين ، ولا حيل المريبين.

وقيل : (الْمُسْتَقِيمَ) الذى يستقيم بمن تمسك به حتى ينجيه ، ويدخله الجنة.

وقيل : (الْمُسْتَقِيمَ) بمعنى : يستقام به ؛ كقوله : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [النمل : ٨٦] ، أى : يبصر به. يدل عليه قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ...) الآية [فصلت : ٣٠] ؛ فالمستقيم هو المتبع له. وبالله التوفيق.

ثم ذكر من ذكر من المنعم عليهم ؛ ولله على كل مؤمن نعم بالهداية.

وما ذكر دليل على أن «الصراط» هو الدين ؛ لأنه أنعم به على جميع المؤمنين.

لكن تأويل من يردّ إلى الخصوص يتوجه وجهين :

أحدهما : أنه أنعم عليهم بمعرفة الكتب والبراهين ، فيكون على التأويل الثانى من القرآن والأدلة.

والثانى : أن يكون لهم خصوص فى الدين قدّموا به على جميع المؤمنين ؛ كقول داود ، وسليمان : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) [النمل : ١٥] ، وعلى هذا الوجه يكون (اهْدِنَا).

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى الشعب كما فى الدر المنثور (١ / ٤١) عن قيس بن سعد عن رجل مرفوعا ، ونسبه البغوى فى تفسيره (١ / ٤١) لعبد الله بن مسعود.

فى الباب عن على مرفوعا به.

أخرجه أحمد (١ / ٩١) والترمذى (٥ / ٢٩ ، ٣٠) كتاب فضائل القرآن ، باب ما جاء فى فضل القرآن (٢٩٠٦) وأبو يعلى (٣٦٧) وابن جرير (١٧٤ ، ١٧٥) وابن أبى شيبة والدارمى وابن أبى حاتم وابن الأنبارى فى المصاحف وابن مردويه والبيهقى فى شعب الإيمان كما فى الدر المنثور (١ / ٤١).

قال الترمذى : إسناده مجهول ، وفى حديث الحارث مقال.

وأخرجه ابن جرير (١٧٦) عنه موقوفا.

ووجه آخر : وهو المخصوص الذى خص به كثيرا من المؤمنين من بين غيرهم ، لكن الثّنيا يدل على صرف الإرادة إلى جملة المؤمنين ؛ إذ انصرف إلى غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

وقوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).

على قول المعتزلة : ليس لله على أحد من المؤمنين نعمة ليست على المغضوب عليهم ولا الضالين ؛ إذ لا نعمة من الله على أحد إلا الأصلح فى الدين والبيان للسبيل المرضى ، وتلك قد كانت على جميع الكفرة فيبطل على قولهم الثّنيا. والله الموفق.

ثم اختلف فى (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

منهم من قال : هو واحد ؛ إذ كل ضال قد استحق الغضب عليه ، وكل مغضوب عليه استحق الوصف بالضلال.

ومنهم من قال : (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هم اليهود ، وإنما خصوا بهذا : بما كان منهم من فضل تمرد وعتو لم يكن ذلك من النصارى نحو إنكارهم بعيسى ، وقصدهم قتله مما لم يكن ذلك من النصارى.

ثم قولهم فى الله : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ...) الآية [المائدة : ٦٤]. وقولهم : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ ...) الآية [آل عمران : ١٨١]. وقول الله تعالى فيهم : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ...) الآية [المائدة : ٨٢].

وكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد استفتاحهم ، وشدة تعنتهم ، وظهور النفاق ؛ فاستحقوا بذلك اسم الغضب عليهم ، وإن كانوا شركاء غيرهم فى اسم الضلال. وبالله التوفيق.

وفى هذا وجه آخر : أن يحمل الذنوب على وجهين :

منها ما يوجب الغضب ـ وهو الكفر ـ ومنها ما يوجب اسم الضلال ـ وهو ما دونه ـ كقول موسى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠].

ورؤية الهداية لأهلها والتعوذ به من كل ضلال ، ومن جميع ما يوجب مقته وغضبه ـ وبالله النجاة والخلاص ـ مع ما فى خبر القسمة ، وعد جليل من رب العالمين فى إجابة العبد مما يرفع إليه من الحوائج ، إذ قال : «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» ثم صيّر آخر السورة لعبده ، وليس فى صلاته سوى إظهار الفقر ، ودفع الحاجة ، وطلب المعونة ، والاستهداء إلى ما ذكر مع التعوذ عما وصف ، وليس ذلك مما يوصف به العبد أنّه له ؛ فثبت أن له فى ذلك إجابة ربه فيما أمره به ، ووعد ذلك ، وهو لا يخلف وعده.

فأنّى يحتمل ذلك بعد أمره العبد بالذى تضمنه أول السورة ، فقام به العبد مع لؤمه

وجفائه ، والله بكرمه وجوده لا ينجز له ما وعد؟!

لا يكون هذا البتة ، وقد قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وغير ذلك مما فيه الإنجاز ، وأنه لا يخلف الميعاد.

ثم قد جعلت ـ بما جاء من الحديث فى تلاوتها ـ أن قدمها على التوراة ، والإنجيل ، وعدلها بثلثى القرآن ، وجعلها شفاء من أنواع الأدواء للدين ، والنفس ، والدنيا ، وجعلها معاذا من كل ضلال ، وملجأ إلى كل نعمة. وبالله نستعين.

مع ما أوضح ـ فى الأسماء التى لقب فيها فاتحة القرآن ـ عظيم موقعه ، وجليل قدره ، وهو أن سمّاه فاتحة القرآن بما به يفتح القرآن ، وكذلك روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يفتتح القراءة به وسمى فاتحة الكتاب بما به يفتتح كتابة المصاحف والقرآن.

وسمى أم القرآن لما يؤم غيره فى القراءة.

وقيل : الأم بمعنى الأصل ، وهو ألا يحتمل شىء مما فيه النسخ ولا الرفع فصار أصلا.

وسمى المثانى ؛ لما يثنى فى الركعات ، ولا قوة إلا بالله.

وفى قوله : (اهْدِنَا) إلى آخره وجهان سوى ما ذكرنا ؛ إذ قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) دعاء كاف عما تضمن إلى آخر السورة ؛ إذ ليس فيها غير تفسير هذه الجملة.

أحدهما : تذكير نعم الله على الذين يقبلون دينه فى قلوبهم ، والتوفيق لهم بذلك ، وأفضاله عليهم بما ليس لهم عليه.

والثانى : تعوذهم عن كل زيغ ومقت ، وضلال ، وذنب ، والتجاؤهم إليه فى ذلك بقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

* * *

تفسير سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

(وبه نستعين على القوم الكافرين)

قوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

(الم)

قيل : فيه وجوه :

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : قوله : (الم) أنا الله أعلم (١).

وقيل : إنه قسم أقسم بها (٢).

وقيل : إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة (٣).

وقيل : إن كل حرف من هذه الحروف كناية اسم من أسماء الله : الألف الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه (٤).

وقيل : إن اللام آلاؤه ، والميم مجده (٥).

وقيل : إن الألف هو الله ، واللام جبريل ، والميم محمد.

وقيل : إنها من التشبيب ؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام ، والمنثور من نحو الشعر ونحوه.

وقيل : إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما ألحق ذكرها بها على أثرها نحو قوله :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٣٨) ووكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس من طرق عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٥٤).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٦) وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقى فى كتاب الأسماء والصفات عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٥٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٣٣٠ ، ٣٣١) ، من طرق عن مجاهد بنحوه ، وزاد السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٥٤) ابن المنذر وابن أبى حاتم وأبا الشيخ عنه ، وعزاه أيضا لابن أبى شيبة فى تفسيره وعبد بن حميد وابن المنذر عن عامر الشعبى ولابن مردويه عن ابن عباس ، ولأبى الشيخ ، والبيهقى فى الأسماء والصفات عن السدى ، ولابن المنذر وابن أبى حاتم عن الحسن.

(٤) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٤٤) ونسبه لمحمد بن كعب.

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٤٣ ، ٢٤٤) عن الربيع بن أنس بنحوه ، وعزاه للسيوطى فى الدر المنثور (١ / ٥٤) لعبد بن حميد عنه.

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) [أول سورة البقرة] ، (ذلِكَ الْكِتابُ) هو تفسير (الم) ، و (الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [أول سورة آل عمران] ، و (المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [أول سورة الأعراف] ، و (الر كِتابٌ) [أول سورة هود ، وإبراهيم] ، و (الم (١) تِلْكَ آياتُ) [أول سورة لقمان] كلّ ملحق بها فهو تفسيرها.

وقيل (١) : إن فيها بيان غاية ملك هذه الأمة من حساب الجمّل ، ولكنهم عدوا بعضها وتركوا البعض.

وقيل (٢) : إنه من المتشابه الذى لم يطلع الله خلقه علم ذلك ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء من المحن.

وقيل : إنهم كانوا لا يستمعون لهذا القرآن ؛ كقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] ، وكقوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الأنفال : ٣٥] فأنزل الله عزوجل هذه الحروف المعجمة ليستمعوا إليها فيلزمهم الحجة.

والأصل فى الحروف المقطعة : أنه يجوز أن تكون على القسم بها على ما ذكرنا.

وأريد بالقدر الذى ذكر كلية الحروف بما كان من شأن العرب القسم بالذى جلّ قدره ، وعظم خطره. وهى مما بها قوام الدارين ، وبها يتصل إلى المنافع أجمع. مع ما دلّت على نعمتين عظيمتين ـ اللسان والسمع ـ وهما مجرى كل أنواع الحكمة ، فأقسم بها على معنى إضمار ربّها ، أو على ما أجلّ قدرها فى أعين الخلق ، فيقسم بها ، ولله ذلك ، ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : أن يكون بمعنى الرمز والتضمين فى كل حرف منها أمرا جليلا يعظم خطره على ما عند الناس فى أمر حساب الجمل. ثم يخرّج على الرمز بها عن أسماء الله وصفاته ونعمه على خلقه ، أو على بيان منتهى هذه الأمة ، أو عدد أئمتها ، وملوكها ، والبقاع التى ينتهى أمرها ، وذلك هو فى نهاية الإيجاز ، بل بالاكتفاء بالرمز عن الكلام ، وبما هو بمعنى من الإشارة فى الاكتفاء بها عن البسط ، ولا قوة إلا بالله ؛ ليعلم الخلائق قدرة الله ، وأنّ له أن يضمن ما شاء فيما شاء على ما عليه أمر الخلائق من لطيف الأشياء التى كادت العقول وأسباب الإدراك تقصر عنها ، وكنهها التى يدركها كل أحد ، وبين الأمرين ، فعلى ذلك أمر تركيب الكلام ، ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) فى هذا المعنى ذكر السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٥٥) حديثا عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله ، وعزاه لابن إسحاق والبخارى فى تاريخه وابن جرير بسند ضعيف.

(٢) ذكره القرطبى فى تفسيره (١ / ١٠٨).

ويجوز أن يكون بمعنى اسم السور ، ولله تسميتها بما شاء كما سمى كتبه ، وعلى ذلك منتهى أسماء الأجناس خمسة أحرف ، وكذلك أمر السور ، دليل ذلك وصل كل سورة فتحت بها إليها ، كأنه بنى بها. ولا قوة إلا بالله.

ويجوز أن يكون على التشبيب ، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور فى المتعارف أن المنظوم فى الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام ، فعلى ذلك أمر الكلام المنزل.

ألا ترى أنه خرج على ما عليه فنون الكلام فى الشاهد إلا أنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم ، فمثله أمر التشبيب. ولا قوة إلا بالله.

وجائز : أن يكون الله أنزلها على ما أراد ؛ ليمتحن عباده بالوقف فيها ، وتسليم المراد فى حقيقة معناه والذى له يزول ذلك ، ويعترف أنه من المتشابه ، وفيها جاء تعلق الملحدة ، ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : أن يكون إذ علم الله من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] أنزل على وجه يبعثهم على التأمل فى ذلك بما جاء بالعجيب الذى لم يكونوا يعرفون ذلك : إما لما عندهم أنه كأحدهم ، أو لسبيل الطعن ؛ إذ خرج عن المعهود عندهم ، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياء ؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأحرف بالتأمل فيها من بين الجميع. ولا قوة إلا بالله.

وقيل : إنه دعا خلقه إلى ذلك ، والله أعلم بما أراد.

وقوله : (ذلِكَ الْكِتابُ).

أى : هذا الكتاب ، إشارة إلى ما عنده ، وذلك شائع فى اللغة ، جائز بمعنى هذا.

وقيل : ذلك بمعنى ذلك ، إشارة إلى ما فى أيدى السفرة والبررة.

وقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ).

قيل : فيه وجوه ؛ لكن الحاصل يرجع إلى وجهين :

أى : لا ترتابوا فيه أنه من عند الله (١).

وقيل : لا ريب فيه أنه منزل على أيدى الأمناء والثقات.

وقوله : (هُدىً).

قيل فيه بوجهين :

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٤٥).

(هُدىً) : أى : بيانا ووضوحا ، فلو كان المراد هذا ، فالتّقىّ وغير التّقىّ سواء.

والثانى : هدى أى : رشدا ، وحجة ، ودليلا.

ثم اختلفوا فى الدليل :

فقال الراوندى (١) : الدليل إنما يكون دليلا بالاستدلال ؛ لأنه فعل المستدل. مشتق من الاستدلال ؛ كالضرب من الضارب وغيره.

وقال غير هؤلاء : الدليل بنفسه دليل ، وإن لم يستدل به ؛ لأنه حجة ، والحجة حجة وإن لم يحتج بها. غير أن الدليل يكون دليلا بالاستدلال ، ومن لم يستدل به فلا يكون له دليلا ، وإن كان بنفسه دليلا ، بل يكون عليه عمى وحيرة كقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) [التوبة : ١٢٤] ثم قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].

وقوله : (لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

قيل : فيه بوجهين :

يؤمنون بالله غيبا (٢) ، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأمم السالفة ، من أنبيائهم ؛ كقول بنى إسرائيل لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥].

والثانى (٣) : يؤمنون بغيب القرآن ، وبما يخبرهم القرآن من الوعد والوعيد ، والأمر والنهى ، والبعث ، والجنة ، والنار. والإيمان إنما يكون بالغيب ؛ لأنه تصديق ، والتصديق والتكذيب إنما يكونان عن الخبر ، والخبر يكون عن غيب لا عن مشاهدة.

والآية تنقض قول من يقول : بأن جميع الطاعات إيمان ؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

يحتمل وجهين :

__________________

(١) هو : أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسين الراوندى أو ابن الراوندى ؛ فيلسوف مجاهر بالإلحاد.

من سكان بغداد. نسبته إلى (راوند) من قرى أصبهان. قال ابن خلكان : له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وقد انفرد بمذاهب نقلوها عنه فى كتبهم ، وقال ابن كثير : أحد مشاهير الزنادقة ، وقال ابن حجر العسقلانى : ابن الراوندى الزنديق الشهير كان أولا من متكلمى المعتزلة ثم تزندق واشتهر بالإلحاد ، ويقال كان غاية فى الذكاء. مات برحبة مالك بن طوق (بين الرقة وبغداد) ، وقيل صلبه أحد السلاطين ببغداد ينظر : الأعلام (١ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨).

(٢) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٤٧) مختصرا.

(٣) أخرجه ابن جرير بنحوه عن كل من : ابن عباس وابن مسعود (٢٧٣) ، وزر بن حبيش (٢٧٤) ، وقتادة (٢٧٥) ، والربيع بن أنس (٢٧٦) ، وانظر الدر المنثور للسيوطى (١ / ٦٠).

يحتمل : الصلاة المعروفة (١) ، يقيمونها بتمام ركوعها وسجودها ، والخشوع ، والخضوع له فيها ، وإخلاص القلب فى النّية ؛ على ما جاء فى الخبر «انظر من تناجى» (٢).

ويحتمل : الحمد له والثناء عليه. فإن كان المراد هذا فهو لا يحتمل النسخ ، ولا الرفع فى الدنيا والآخرة.

وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

من الأموال يحتمل فرضا ونفلا (٣).

ويحتمل : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من القوى فى الأنفس وسلامة الجوارح ، (يُنْفِقُونَ) : يعينون. والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ).

يحتمل وجهين :

أى : ما أنزل إليك من القرآن.

ويحتمل : ما أنزل إليك من الأحكام ، والشرائع التى ليس ذكرها فى القرآن.

وقوله : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ).

يحتمل وجهين أيضا :

يعنى الكتب التى أنزلت على سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

ويحتمل : الشرائع ، والأخبار سوى الكتب ، والله أعلم.

وقوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

بمعنى يؤمنون.

والإيقان بالشىء هو العلم به. والإيمان هو التصديق ، لكنه إذا أيقن آمن به وصدق به لعلمه به ؛ لأن طائفة من الكفار كانوا على ظن من البعث ؛ كقوله : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢] فأخبر عزوجل عن حال هؤلاء أنهم على يقين ، ليسوا على الظن والشك كأولئك.

وقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ).

__________________

(١) هو قول ابن عباس ، أخرجه عنه ابن جرير (٢٨٢ ، ٢٨٣) ، وذكره السيوطى فى الدر (١ / ٦٢).

(٢) أخرجه الطبرانى فى الأوسط (٣٩٣٥) عن أبى هريرة مرفوعا : «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليقبل عليها حتى يفرغ منها ، وإياكم والالتفات فى الصلاة فإن أحدكم يناجى ربه ما دام فى الصلاة».

(٣) هو قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٥ ، ٢٨٦) وأخرجه أيضا (٢٨٧) عن الضحاك.

وانظر الدر المنثور (١ / ٦٢).

قيل (١) : على صواب ، ورشد من ربهم.

وقيل (٢) : إنهم على بيان من ربهم ، لكن البيان ليس المؤمن أحقّ به من الكافر ؛ لأنه يبين للكافر جميع ما يحتاج إليه ، إما من جهة العقل ، وإما من جهة السمع. فظهر بهذا أن الأول أقرب إلى الاحتمال من الثانى.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : الباقون فى نعم الله والخير.

وقيل (٣) : الظافرون بحاجاتهم ، يقال : أفلح ، أى : ظفر بحاجته.

وقيل : (الْمُفْلِحُونَ) هم السعداء ، يقال : أفلح ، أى : سعد.

وقيل (٤) : (الْمُفْلِحُونَ) الناجون ؛ يقال : أفلح ، أى : نجا. وكله يرجع إلى واحد ؛ كقوله : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) [آل عمران : ١٨٥] وكل واحد ممن زحزح عن النار فقد فاز ومن أدخل الجنة فقد فاز فكذلك الأول.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ للهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)(١٠)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

هذا ـ والله أعلم ـ فى قوم خاص ، علم الله أنهم لا يؤمنون ، فأخبر عزوجل رسوله بذلك ، فكان كما قال.

وفيه آية النّبوّة.

ويحتمل أيضا : أنهم لا يؤمنون ما داموا فى كفرهم ؛ كقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٢٥٨ ، آل عمران : ٨٦ ، التوبة : ١٩ ، ١٠٩ ، الصف : ٧ ، الجمعة : ٥] والكافرون ما داموا كافرين ظالمون.

وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ٤٨).

(٢) ينظر التخريج السابق.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٩٤) عن ابن عباس بنحوه.

(٤) انظر تفسير البغوى (١ / ٤٨).

روى عن الحسن (١) : «إن للكافر حدا إذا بلغ ذلك الحد ، وعلم الله منه أنه لا يؤمن ، طبع على قلبه حتى لا يؤمن».

وهذا فاسد على مذهب المعتزلة لوجهين :

أحدهما : أن مذهبهم أن الكافر مكلف ، وإن كان قلبه مطبوعا عليه.

والثانى : أن الله ـ عزوجل ـ عالم بكل من يؤمن فى آخر عمره ، وبكل من لا يؤمن أبدا ، بلغ ذلك الحد أو لم يبلغ.

فعلى ما يقوله الحسن إيهام أنه لا يعلم ما لم يبلغ ذلك.

والمعتزلة يقولون : إن قوله : (خَتَمَ) ، و (طَبَع) يعلم علامة فى قلبه أنه لا يؤمن كإعلام الكتب والرسائل.

ولكن عندنا : خلق ظلمة الكفر فى قلبه.

والثانى : خلق الختم والطبع على قلبه [إذا فعل فعل الكفر ؛ لأن](٢) فعل الكفر من الكافر مخلوق عندنا ، فخلق ذلك الختم عليه ؛ وهو كقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الإسراء : ٤٦] أى : خلق الأكنة. وغيره من الآيات.

__________________

(١) هو الحسن بن أبى الحسن بن يسار ، أبو سعيد ، مولى زيد بن ثابت الأنصارى ، ويقال مولى أبى اليسر كعب بن عمرو السلمى ؛ وكانت أم الحسن مولاة لأم سلمة أم المؤمنين المخزومية ؛ ويقال : كان مولى جميل بن قطبة ويسار أبوه من سبى ميسان. سكن المدينة ، وأعتق ، وتزوج بها فى خلافة عمر ، فولد له بها الحسن رحمة الله عليه لسنتين بقيتا من خلافة عمر واسم أمه : خيرة ، ثم نشأ الحسن بوادى القرى ، وحضر الجمعة مع عثمان ، وسمعه يخطب ، وشهد يوم الدار وله يومئذ أربع عشرة سنة رأى عثمان ، وطلحة ، والكبار ، وروى عن عمران بن حصين ، والمغيرة بن شعبة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وسمرة بن جندب ، وأبى بكرة الثقفى ، والنعمان بن بشير ، وجابر ، وجندب البجلى ، وابن عباس ، وعمرو بن تغلب ، ومعقل بن يسار ، والأسود بن سريع ، وأنس ، وخلق من الصحابة وقرأ القرآن على حطان بن عبد الله الرقاشى ، وروى عن خلق من التابعين وعنه أيوب وشيبان النحوى ، ويونس بن عبيد ، وابن عون ، وحميد الطويل ، وثابت البنانى ، ومالك بن دينار ، وهشام بن حسان ، وجرير بن حازم ، والربيع بن صبيح ، ويزيد بن إبراهيم التسترى ، ومبارك بن فضالة وخلق كثير وقال سليمان التيمى : كان الحسن يغزو ، وكان مفتى البصرة جابر بن زيد أبو الشعثاء ، ثم جاء الحسن فكان يفتى. قال محمد بن سعد : كان الحسن ـ رحمه‌الله ـ جامعا عالما ، رفيعا فقيها ، ثقة ، حجة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا ، جميلا ، وسيما. وما أرسله فليس بحجة وقال ضمرة بن ربيعة ، عن الأصبغ بن زيد : سمع العوام بن حوشب ، قال : ما أشبه الحسن إلا بنبى. وعن أبى بردة ، قال : ما رأيت أحدا أشبه بأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه. وعن أنس بن مالك ، قال : سلوا الحسن ، فإنه حفظ ونسينا. ينظر : سير أعلام النبلاء (٤ / ٥٦٣ ، ٥٦٤ ، ٥٦٥ ، ٥٦٦ ، ٥٧٢ ، ٥٧٣) ، طبقات ابن سعد (٧ / ١٥٦) ، وطبقات خليفة ت (١٧٢٦) ، والزهد لأحمد (٢٥٨) ، وتاريخ البخارى (٢ / ٢٨٩) ، والمعارف ص (٤٤٠).

(٢) بدل ما بين المعقوفين فى أ : إذ.

والأصل فى ذلك : أنه ختم على قلوبهم لما تركوا التأمل ، والتفكر فى قلوبهم فلم يقع ، وعلى سمعهم لما لم يسمعوا قول الحق والعدل ، خلق الثقل عليه ، وخلق على أبصارهم الغطاء لما لم ينظروا فى أنفسهم ، ولا فى خلق الله ليعرفوا زوالها وفناءها وتغير الأحوال ؛ ليعلموا أن الذى خلق هذا دائم لا يزول أبدا.

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

إخبار منهم أنهم قالوا ذلك بألسنتهم قولا ، وأظهروا خلاف ما فى قلوبهم ؛ فأخبر عزوجل نبيّه عليه الصلاة والسلام : أنهم ليسوا بمؤمنين ، أى : بمصدقين بقلوبهم.

وكذلك قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١].

وكذلك قوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...) الآية [النساء : ٦٥].

هذه الآيات كلها تنقض على الكراميّة (١) ؛ لأنهم يقولون : الإيمان قول باللسان دون التصديق (٢). فأخبر الله ـ عزوجل ـ عن جملة المنافقين أنهم ليسوا بمؤمنين لما لم يأتوا بالتصديق ، وهذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب.

__________________

(١) الكرامية : فرقة من فرق الخوارج تنسب لابن كرام. ينظر : نشر الطوالع ص (٣٩٠).

(٢) التصديق يعنى الإذعان ، والإذعان معناه الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

والإيمان شرعا : هو التصديق بما جاء به من عند الله والإقرار ، إلا أن الإقرار ركن يحتمل السقوط ، والتصديق لا يحتمله.

وقد وقع خلاف بين العلماء فى الإيمان الشرعى على ثمانية مذاهب :

الأول : ذهب فريق من العلماء إلى أن الإيمان الشرعى هو التصديق بما جاء به الرسول من عند الله والإقرار باللسان فالإيمان الشرعى عند هذا الفريق مركب من جزءين : التصديق والإقرار باللسان وهذان الركنان ـ أو الجزءان ـ للإيمان ليسا على درجة واحدة من الثبات : فالتصديق لا يقبل السقوط ، بينما الإقرار باللسان ركن يحتمل السقوط فى حالات معينة كما سيأتى.

والتصديق يجب أن يكون بجميع ما جاء به الرسول من عند الله مما علم من الدين بالضرورة ، بناء على هذا لو صدق إنسان بوحدانية الله تعالى وصفاته وأنكر نبوة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يكون مؤمنا بحسب الشرع وإن كان مؤمنا بحسب اللغة ، وكذلك من صدق بالله واتخذ معه شريكا ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦] فالموجود عند هؤلاء هو الإيمان اللغوى لا الشرعى.

ولا يشترط فى التصديق بجميع ما جاء به النبى التفصيل بل يكفى الإجمال فى الخروج عن عهدة التكليف بالإيمان ، ولا تنحط درجة هذا الإيمان الإجمالى عن درجة الإيمان التفصيلى فى الخروج من عهدة الإيمان وإن كان التفصيلى أفضل من الإجمالى.

أما الإقرار باللسان ـ وهو الركن الثانى للإيمان لدى هذا الفريق فإنه يحتمل السقوط إذ قد يسقط حالة الإكراه والخرس مثلا بخلاف التصديق فإنه لا يحتمل السقوط.

وقد اعترض على هذا المذهب باعتراضين : ـ

__________________

ـ أحدهما أن : أطفال المؤمنين لا تصديق عندهم وهم مؤمنون فيكون التصديق ساقطا فى حقهم.

والثانى : أن النائم والغافل مؤمنان مع أنهما لا تصديق عندهما أيضا.

وقد أجيب عن الاعتراض الأول بأن الكلام فى الإيمان الحقيقى وهو الذى لا يسقط فيه التصديق بخلاف الإيمان الحكمى فإنه يسقط فيه التصديق ، وإيمان أطفال المؤمنين إيمان حكمى ؛ لأنه من باب إلحاق المعدوم بالمحقق ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل إيمان أحد الأبوين إيمانا للأولاد.

وقد أجيب عن الاعتراض الثانى بجوابين :

أولا : أن التصديق موجود عند النائم والغافل وإنما الغفلة عن حصوله.

وقد رد هذا الجواب بأنه ينافى قول المتكلمين : إن النوم ضد الإدراك فذلك يفيد أن التصديق غير موجود عند النائم.

وأجيب عن هذا الرد بأن مراد المتكلمين بقولهم : إن النوم ضد الإدراك هو أن النوم ضد الإدراك ابتداء وليس منافيا لبقاء الإدراك ؛ فالنائم لا يدرك الأشياء ابتداء إنما إذا أدرك شيئا حال يقظته ثم نام كان هذا الإدراك باقيا فى القلب وهناك غفلة عن حصوله فقط.

والجواب الثانى أننا لو سلمنا عدم حصول التصديق للنائم والغافل نقول : إن الأمر إذا تحقق ولم يطرأ عليه ما ينافيه فإنه يكون فى حكم الباقى ، والنائم والغافل قد تحقق لديهما تصديق قبل حصول النوم والغفلة ولم يطرأ على هذا التصديق ما ينافيه فذلك يكون تصديقهما فى حكم الباقى.

والفرق بين هذا وبين إيمان الأطفال أنه فى الأطفال جعل غير الحاصل حاصلا فهو إيمان حكمى ، وفى النائم والغافل جعل المحقق غير الباقى فى حكم الباقى ولذلك كان المؤمن اسما لمن آمن فى الحال أو فى الماضى ويكتفى بالإقرار مرة واحدة فى العمر مع أنه جزء من مفهوم الإيمان ، فما ذاك إلا لأن الشارع جعل المحقق الذى لم يطرأ عليه ما يضاده فى حكم الباقى.

فإن قيل : إن الإقرار مرة واحدة فى العمر إذا كان كافيا فى الإيمان كان ساقطا فى غير حالة الاضطرار ، وأنتم تقولون : إنه لا يسقط فى غير حالة الاضطرار.

فالجواب أن معنى سقوطه أنه يجوز صدور المنافى له عند الاضطرار ، والمقر مرة واحدة فى العمر لم يأت بما ينافيه فهو موجود عنده باعتبار أن المحقق غير الباقى فى حكم الباقى.

المذهب الثانى : وهو مذهب جمهور المحققين أن الإيمان هو التصديق بجميع ما جاء به النبى ، وأما الإقرار باللسان فليس ركنا بل هو شرط لإجراء الأحكام فى الدنيا ، وهذا المذهب هو المختار ، وعليه فمن تحقق منه التصديق بالقلب ولم يقر باللسان فهو مؤمن ناج عند الله وإنما لا تجرى عليه أحكام المؤمنين فى الدنيا ؛ لأن التصديق فى القلب خفى لا يعلم إلا بما يدل عليه ، ولا بد على هذا المذهب من أن يعلن هذا الإقرار للناس حتى تجرى عليه الأحكام فى الدنيا بخلافه على المذهب الأول القائل بأن الإقرار ركن فإنه لا يشترط فيه إعلانه.

المذهب الثالث : أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، دون تعرض للتصديق ، وهو مذهب الكرامية.

المذهب الرابع : أن الإيمان هو التصديق بالجنان والعمل بالأركان والإقرار باللسان ، وهو مذهب المعتزلة والكثير من الفقهاء والمحدثين.

المذهب الخامس : أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وهو مذهب القدرية وبعض منهم قال : إنه المعرفة بالله وبما جاء به الرسول من عند الله.

المذهب السادس : أن الإيمان هو الإقرار والعمل مطلقا سواء أكان فرضا أم نفلا ، وهو مذهب الخوارج. ـ

__________________

ـ المذهب السابع : أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط بشرط حصول المعرفة القلبية وبدونها لا يتحقق الإيمان ؛ وهو مذهب الرقاشى.

المذهب الثامن : أن الإيمان هو الإقرار باللسان بشرط التصديق ، وهو مذهب القطان.

هذه هى المذاهب الثمانية فى الإيمان الشرعى والمختار منها كما أشرنا هو المذهب الثانى :

وقد تضافرت على هذا المذهب الأدلة من القرآن الكريم والسنة.

أما القرآن الكريم : فقد وردت آيات كثيرة تدل لهذا المذهب ـ وهو أن الإيمان هو التصديق ، فى حين أن الإقرار شرط لإجراء الأحكام ـ فمن هذه الآيات :

ـ قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢]

ـ وقوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦]

ـ قوله سبحانه وتعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]

وأما الأدلة من السنة المطهرة :

فقوله عليه الصلاة والسلام : «اللهم ثبت قلبى على دينك وطاعتك».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلا شققت عن قلبه».

فهذه النصوص تدل صراحة على أن محل الإيمان هو القلب وليس الإقرار والعمل من حقيقته.

ونوقش الاستدلال بأن أعمال القلب كثيرة فمنها التصديق والعفة والشجاعة والقدرة وهذه النصوص وإن دلت على أن الإيمان محله القلب فهى لا تدل على خصوص التصديق دون سائر أعمال القلب.

والجواب أن ما عدا التصديق من أعمال القلب ليس من الإيمان باتفاق الخصوم ، وإنما خلافهم هل الإيمان تصديق وشىء آخر أو هو تصديق فقط؟ وأيضا فإن الإيمان فى اللغة معناه التصديق ولم يعين فى الشرع لمعنى آخر كما عين لفظ الصلاة والصوم والزكاة ؛ إذ لو كان له معنى آخر غير التصديق لبينه الشارع لنا إذ لو لم يبينه لنا لكان مخاطبا لنا بما لا نفهمه وذلك مستلزم لعدم الإمكان ، وإنما وقع البيان من الشارع عن المؤمن به لا عن الإيمان ولذلك قال عليه‌السلام لمن سأله عن الإيمان «أن تؤمن بالله .... إلخ» ولم يبين له معنى الإيمان ، وما ذاك إلا لأنه معروف فى اللغة ، فدل ذلك على أنه لم ينقل عن معناه اللغوى إلى معنى آخر فى الشرع ، فالإيمان شرعا ولغة هو التصديق ويزيد فى الشرع المتعلق وهو بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله ، والنقل من المعنى اللغوى إلى غيره لا يكون إلا بدليل ؛ لأنه خلاف الأصل وهاهنا لا دليل ، بل الدليل قائم على عدم النقل.

أدلة الكرامية : احتج الكرامية لما ذهبوا إليه من أن الإيمان هو التصديق باللسان بدليلين :

أحدهما : الاحتكام إلى اللغة ، حيث إن اللغة لا تعرف إلا التصديق اللسانى دون القلبى ، ومعلوم أن التصديق واحد فى اللغة وفى الشرع ، فلم ينقله الشارع إلى غير التصديق اللسانى الذى هو معروف فى اللغة ؛ ومن ثم وجب القول بأن الإيمان هو التصديق باللسان فقط.

الثانى : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحكمون بإيمان من تلفظ بالشهادتين من غير استفسار عما فى قلبه فهم يقنعون منه بمجرد التصديق اللسانى فدل ذلك على أن هذا هو الإيمان.

ويجاب عن الدليل الأول : بأن القول : إن اللغة لا تعرف من التصديق إلا فعل اللسان غير صحيح بل الأمر بالعكس ؛ إذ إن اللغة لا تعرف إلا التصديق القلبى.

ويؤيد كون التصديق عمل القلب لا اللسان أن الله عزوجل قد نفى الإيمان عن بعض المقرين ـ

__________________

ـ باللسان كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وقوله عزوجل : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) الآية فقد ثبت بهاتين الآيتين أن الإيمان ليس هو التصديق باللسان وإلا لما نفى عن هؤلاء المذكورين فى الآيتين.

والجواب على الدليل الثانى : أنه لا نزاع فى كون المتلفظ بكلمة الشهادتين مؤمن لغة ، كما أنه لا نزاع فى أن إيمانه هذا تترتب عليه الأحكام الشرعية ، والنزاع فى كون مثل هذا المتلفظ الذى لم يصدق بقلبه مؤمنا حقا ؛ فأنتم تقولون إنه مؤمن حقا وإن كان غير ناج ، ونحن نقول إنه غير مؤمن حقا ، بل إيمانه ظاهرى فقط. ما داموا يشترطون التصديق القلبى لإجراء الأحكام الأخروية فمن لم يصدق بقلبه وأقر بلسانه لا يدخل الجنة عندهم وكذا على مذهب الجمهور وإنما غلط الكرامية فى تسمية مثل هذا مؤمنا حقا ، وطبعا هم لا يقولون بكفر من منعه مانع من الإقرار وإن كان لازما لمذهبهم.

أدلة المعتزلة : استدل المعتزلة لمذهبهم بأربعة أدلة :

الدليل الأول : أن فعل الواجبات هو الدين ؛ لقوله سبحانه وتعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

فإن قوله : (وَذلِكَ) يعود على ما أمر به من الواجبات السابقة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ؛ فدل ذلك على أن فعل الواجبات هو الدين.

وإذا ثبت هذا : فإن الدين هو الإسلام ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ، وكذلك فإن الإسلام هو الإيمان لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) فلو كان الإيمان غير الإسلام لما قبل من مبتغيه مع أنه يقبل منه قطعا ، فثبت من هذا كله أن فعل الواجبات مساو للدين والدين مساو للإسلام والإسلام مساو للإيمان. إذن ففعل الواجبات مساو للإيمان. والجواب عن هذا الاستدلال أن اسم الإشارة (وَذلِكَ) راجع إلى الإخلاص المذكور قبله فى الآية فبطل بذلك قولهم : (إن فعل الواجبات هو الدين) ، وبطل بالتالى ما أدى إليه من القول بأن فعل الواجبات هو الإيمان ، ويؤيد رجوع اسم الإشارة إلى الإخلاص أنه مفرد فرجوعه إلى مفرد أولى من رجوعه إلى المأمور به من الطاعات لأنها متعددة ، وأيضا فهذه الطاعات مؤنثة واسم الإشارة مذكر.

الدليل الثاني : استدل المعتزلة ثانيا بقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى صلاتكم إلى بيت المقدس ، فدلت الآية على أن الصلاة إيمان أى جزء منه.

يجاب عن هذا الاستدلال بأن المراد تصديقكم بوجوبها ، والمعنى : وما كان الله ليضيع تصديقكم بوجوب الصلوات الخمس التى توجهتم بها إلى بيت المقدس.

ولو سلم جاز أن يكون ذلك مجازا من باب إطلاق الإيمان على ما يدل عليه من الصلاة ، والمجاز أولى من النقل الذى هو لازم مذهبكم ، إذ الإيمان معناه فى اللغة التصديق ، فإذا كان المراد منه الصلاة فقد نقل من معناه اللغوى إلى معنى آخر.

الدليل الثالث : قوله ـ عزوجل ـ فى قاطع الطريق : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقد دل بذلك على أن قاطع الطريق ليس بمؤمن ؛ لأن المؤمن لا يخزى ؛ لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ويؤيد هذا الدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزنى الزانى وهو مؤمن» فدل ذلك على أن ترك المنهيات من الإيمان.

والجواب أن عدم الإخزاء فى هذا اليوم خاص بالنبى وأصحابه فلا يعم المؤمنين جميعا وليس فى الصحابة قاطع طريق ، ويصح أن يكون قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) مستأنفا خبره (يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وحينئذ جاز أن يكون المؤمن مخزيا لأن عدم الإخزاء على هذا خاص بالنبى. ـ

__________________

ـ الدليل الرابع أن التصديق يجامع الشرك بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وإذا كان التصديق يجامع الشرك فلا يكون إيمانا.

والجواب أن الإيمان فى الآية المقصود به التصديق ببعض ما جاء به النبى لا بكل ما جاء به الذى هو الإيمان حقيقة ، وعلى ذلك فالإيمان فى الآية لغوى لا شرعى ثم إن هذه الآية ـ إذا سلمنا بما ذكرتموه من أن الإيمان المذكور فيها يقصد به الإيمان الشرعى ـ لا تلزمنا وحدنا ، وإنما تلزمنا جميعا نحن وأنتم ؛ لأن الإيمان لو كان منه العمل لجامع الشرك أيضا والله أعلم.

هذا مما يبطل مذهب المعتزلة ويؤيد ما سبق أن اخترناه من أن الإيمان هو التصديق ، وأما الإقرار باللسان فهو شرط لإجراء الأحكام فى الدنيا لأمور منها :

الأول : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وغيره مما ورد فيه عطف العمل على الإيمان ، وهو كثير فى القرآن الكريم ، ووجه الدلالة من ذلك أنه قد عطف الأعمال على الإيمان. والعطف يقتضى المغايرة وعدم دخول المعطوف فى المعطوف عليه ؛ فلا يكون المعطوف عين المعطوف عليه ولا جزءا منه ، فإن قيل : إن ما ذكرتموه ينتقض بقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) فإن ظاهر هذه الآية يدل على أن الروح هو جبريل وهو جزء من مجموع الملائكة ، وقد عطف عليها. فالجواب أن هذا العطف بتأويل أن يكون الروح عظيما جدّا حتى كأنه ليس منهم. أو يقال : إن الروح ليس جبريل بل هو خلق آخر أعظم من خلق الملائكة.

الثاني : أن الإيمان جعل شرطا للأعمال فى قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ) الآية مع القطع بأن المشروط لا يدخل فى الشرط ، إذ لو دخل فيه لكان فى ذلك اشتراط الشىء بنفسه ؛ وبيان ذلك أن الأعمال لو كانت من الإيمان وقد جعل شرطا لها لكانت مشروطة بنفسها لأنها جزء الشرط وجزء الشرط شرط.

ونكتفى بما أوردناه هاهنا دون أن نتعرض لبقية المذاهب الثمانية المذكورة آنفا لأنها لا تزيد عن كونها خزعبلات لا دليل عليها ؛ ومن ثم ، لا نضيع جهدنا فى عرضها.

وأما الخلاف فى زيادة الإيمان ونقصانه :

فقد اختلف العلماء فى هذه المسألة على قولين :

القول الأول : وبه قال الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان وإمام الحرمين من الشافعية : أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

القول الثانى : أن الإيمان يزيد وينقص.

وقيل : إن الخلاف لفظى مبنى على تفسير الإيمان ؛ فإن كان معناه التصديق فهو لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق البالغ حد الجزم والإذعان لا يتصور فيه تفاوت بالزيادة والنقصان ، وإن كان الإيمان معناه التصديق والعمل والإقرار أو العمل مطلقا فهو يقبل الزيادة والنقصان.

وقد استدل كل فريق لما ذهب إليه بأدلة إليك بيانها :

أولا : استدل القائلون بزيادة الإيمان ونقصانه بآيات كثيرة من القرآن الكريم ، منها : قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً).

وقد أول أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ هذه الآية بأن الصحابة كانوا آمنوا فى الجملة ، ثم يأتى فرض بعد فرض فكانوا يؤمنون بكل فرض عند حصوله فزاد الإيمان بحسب زيادة ما يجب الإيمان به من الفروض.

والظاهر من هذا التأويل الذى ذكره الإمام أبو حنيفة أنه إنما يظهر فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما بعد عصره فالفروض كلها قد تمت وحصلت فلا يتصور الإيمان بكل فرض إلا أن بعض العلماء قد أجاب ـ

__________________

ـ عن هذه فقال : إنه يتصور أيضا فى غير عصر النبى عليه‌السلام وبين ذلك بأن الاطلاع على تفاصيل جميع الفروض ممكن فى غير عصر النبى ، والإيمان واجب إجمالا فيما علم إجمالا ، وتفصيلا فيما علم تفصيلا ، والتفصيلى أكمل من الإجمالى وعلى ذلك يصح فى غير عصر النبى أن يطلع شخص على جميع الفرائض تفصيلا فيؤمن بها كذلك ، ولا يطلع شخص آخر على جميع الفرائض تفصيلا فيؤمن بها إجمالا ، فإيمان الأول أكمل من الثانى ، وقد يتصور ذلك فى حق شخص واحد أيضا بأن يطلع على بعض الفرائض فيؤمن بها إجمالا ، ثم بعد ذلك يتمكن من الاطلاع عليها تفصيلا فيؤمن بها كذلك فإيمانه الثانى أكمل من إيمانه الأول.

وقد أول إمام الحرمين الآية السابقة وما شابهها بأن المراد بزيادة الإيمان الثبات والدوام عليه فى كل ساعة فزيادته بحسب زيادة الأزمان وذلك لأنه عرض لا يبقى زمانين فيتجدد بتجدد أمثاله.

ولكن يرد على هذا التأويل أن تجدد الأمثال عبارة عن انعدام الإيمان وحصول مثله وليس ذلك من الزيادة فى شىء.

وقد أجيب عن ذلك بأن زيادته على هذا بزيادة أعداده المتجددة.

وبعض العلماء أول هذه الآية وما شابهها بأن المراد بزيادة الإيمان ثمرته وإشراق نوره وضياؤه فى القلب.

فتحصل مما تقدم أن من قال : إن الإيمان هو التصديق منع زيادته ونقصانه وأول الآيات الواردة بالزيادة بما تقدم عن أبى حنيفة وإمام الحرمين وغيرهما ، ومن قال : إن الإيمان هو الأعمال مطلقا فرضا أو نفلا فقبوله الزيادة والنقص ظاهر ، ومن قال : إن الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل المفروض قال أيضا بقبوله الزيادة والنقص بحسب زيادة أوقات الأعمال المفروضة أو بحسب فرضية الأعمال كلها أو بعضها.

هذا كله على رأى من يقول إن الخلاف لفظى مبنى على تفسير الإيمان ولكن الحق أن الخلاف حقيقى وأن الإيمان يقبل الزيادة والنقص حتى لو كان معناه التصديق وهو يتفاوت قوة وضعفا بدليل أن تصديق النبى عليه‌السلام ليس كتصديق آحاد المكلفين وكذلك فإن قول إبراهيم عليه‌السلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يدل على قبول التصديق اليقينى الزيادة أيضا : فإن المطلوب من العوام هو الظن الذى لا يخطر معه احتمال النقيض على بالهم وذلك كاف فى إيمانهم ولا شك أنه يقبل الزيادة.

ينظر لسان العرب لابن منظور طبعة دار المعارف مادة (أ م ن) (١ / ١٤٠). القاموس المحيط للفيروزآباديّ مادة (أ م ن) (١ / ١٩٧) ، مختار الصحاح للرازى مادة (أ م ن) ص (٢٦) التوحيد للمصنف ، تحقيق الدكتور فتح الله خليف ، طبعة الجامعات ص (٣٧٧) اللمع لأبى حسن الأشعرى تعليق الدكتور حمودة غرابة طبعة مجمع البحوث الإسلامية ص (١٢٣). الإنصاف للباقلانى ، تحقيق محمد زاهر الكوثرى ، مؤسسة الخانجى ص (٢٣). الإرشاد لإمام الحرمين أبى المعالى الجوينى ، مكتبة الخانجى ص (٤٠٠). أصول الدين للإمام البزدوى طبعة عيسى البابى الحلبى ص (١٤٥).

شرح المواقف للإيجى بشرح الجرجانى ، مطبعة السعادة (٨ / ٣٢٢). أصول الدين للبغدادى ص (٢٥١). المحصل للرازى مكتبة الكليات الأزهرية (٢٤٠) ، معالم أصول الدين للرازى طبع الكليات الأزهرية (١٢٧) ، المسايرة للكمال بن الهمام ، المطبعة الأميرية بولاق ص (٢) ، شرح ملا على القارئ على الفقه الأكبر ص (٢٠٨) ، نظم الفرائد وجمع الفوائد ، المطبعة الأدبية بالقاهرة ص ٣٧ ، حاشية رمضان أفندى على العقائد طبعة دار سعادات ص (٢٣٦) ، شرح الخريدة البهية للدردير مع حاشية أبى السعود ، طبع دار هجر ص (٣٨٨).

والكراميّة يقولون : بل هم مؤمنون.

وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

لا يقصد أحد مخادعة الله ، لكنهم كانوا يقصدون مخادعة المؤمنين ، وأولياء الله ، فأضاف الله عزوجل ذلك إلى نفسه ؛ لعظم قدرهم ، وارتفاع منزلتهم عند الله ؛ وهو كقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، والله لا يحتاج أن ينصر ، ولكن كأنه قال : إن تنصروا أولياء الله ينصركم ؛ وهو كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] والله لا يبايع ، ولكن إضافة ذلك إلى نفسه ؛ لعظم قدر نبيه ، وعلو منزلته عند الله تعالى ، فكذلك الأول أضاف مخادعتهم أولياءه إلى نفسه لعلو منزلتهم عند الله وقدرهم لديه.

والمخادعة هو فعل اثنين ؛ لخداع هؤلاء بحضور المؤمنين ؛ لذلك المعنى ذكر المفاعلة. والله أعلم.

وقوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

الأول : أى حاصل خداعهم ، ووباله يرجع إليهم.

والثانى : أنهم يظهرون لهم الموافقة ليأمنوا ، فلحقهم خوف دائم بذلك الخداع فى الدنيا.

وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ).

الأول : أى : ما يشعرون أن حاصل الخداع يرجع إليهم فى الآخرة.

والثانى : ما يشعرون أن الله يظهر ، ويطلع نبيه على ما أضمروا هم فى قلوبهم ، والله أعلم.

وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

يقال (١) : شك ونفاق ؛ سمّى عزوجل المنافقين مرضى ؛ لاضطرابهم فى الدين ؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بالقول ، ويضمرون الخلاف لهم بالقلب ؛ فكان حالهم كحال المريض الذى هو مضطرب بين الموت والحياة ؛ إذ المريض يشرف ـ ربما ـ على الموت ، ويرجو الإقبال عليه منه ثانيا ؛ فهو مضطرب بين ذلك ، فكذلك هم ، لما كانوا مضطربين فى دينهم سماهم مرضى.

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥٠).

وأخرجه ابن جرير (٣٢٢ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤) عن ابن عباس بنحوه ، وكذا أيضا عن قتادة (٣٢٦) ، وأنس (٣٢٧) ، وعبد الرحمن بن زيد (٣٢٥ ، ٣٢٨) وانظر الدر المنثور (١ / ٦٧ ، ٦٨).

وأما سائر الكفرة فإنهم لم يضطربوا فى الدين ، بل أظهروا بالقول على ما أضمروا بالقلب ؛ فسماهم موتى ، لما لم ينتفعوا بحياتهم ، ولم يكتسبوا الحياة الدائمة.

وسمى المؤمنين أحياء ؛ لما انتفعوا بحياتهم ، واكتسبوا الحياة الدائمة ، لموافقتهم باللسان والقلب جميعا لدين الله ـ عزوجل ـ والله أعلم.

وقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).

اختلف فى تأويله :

قالت المعتزلة : هو التخلية بينهم وبين ما اختاروا.

وأما عندنا : فهو على خلق أفعال زيادة الكفر والنفاق فى قلوبهم ، لما زادوا هم فى كل وقت من إظهار الموافقة للمؤمنين بالقول ، وإضمار الخلاف لهم بالقلب ، خلق الله عزوجل تلك الزيادة من المرض فى قلوبهم باختيارهم.

وقد ذكرنا الوجه فى ذلك فيما تقدم فى قوله : (اهْدِنَا).

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

لأن عذاب الدنيا قد يكون ولا ألم فيه ؛ فأخبر الله عزوجل أن عذاب الآخرة عذاب شديد عظيم ، ليس كعذاب الدنيا.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)(١٦)

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).

بالمخادعة للمؤمنين ، وإظهار الموافقة لهم بالقول ، وإضمار الخلاف لهم بالقلب ، والاستهزاء بهم عند الخلوة ، والقول فيهم بما لا يليق بهم ، وعبادة غير الله. وأىّ فساد أكبر من هذا؟!.

وقوله : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ).

بإظهار الموافقة بالقول.

وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ).

أخبر تعالى أنهم هم المفسدون ؛ لما أضمروا من الخلاف لهم ، والمخادعة ، والاستهزاء بهم.

وقوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

الأول : أى : لا يشعرون أن حاصل ذلك لا يرجع إليهم.

والثانى : لا يشعرون أن ما كانوا يفعلون الفساد.

فإن كان هذا فهو ينقض قول من يقول : بأن الحجة لا تلزم إلا بالمعرفة ، وهو قول الناس ؛ لأنه عزوجل أخبر بفساد صنيعهم ، وإن لم يشعروا به.

وهو كقوله أيضا : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢] : أخبر بحبط الأعمال وإن كانوا لا يعلمون.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ).

تحتمل الآية : أن تكون فى المنافقين ، وتحتمل : فى أهل الكتاب.

فإن كانت فى المنافقين فكأن قوله : آمنوا يا أهل النفاق فى السر والعلانية ، كما آمن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى السر والعلانية جميعا ، وهو كقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة : ١٣٧].

وإن كان فى أهل الكتاب ففيه الأمر بالإيمان الذى هو إيمان ، وهو التصديق. والإيمان عندنا هو التصديق بالقلب ؛ دليله قول جميع أهل التأويل والأدب أنهم فسروا (آمَنُوا) : صدقوا فى جميع القرآن.

وقوله : (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) الآية.

السفه : هو ضد الحكمة ، وهو العمل بالجهل على العلم أنه يبطل ، والجهل هو ضد العلم. والسفه هو الشتم ؛ يقول الرجل لآخر : يا سفيه.

وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ).

يقول بعض المتكلمين : إن هذا شتم من الله لهم ، جوابا على المؤمنين ، ويستجيزون ذلك على الجواب ، وإن لم يجز على الابتداء ، كالمكر ، والكيد ، والاستهزاء ، والخداع ونحوه ، فعلى ذلك هذا.

وأما عندنا فهو غير جائز ؛ لأن من يشتم آخر يذم عليه ، وهو عمل السفهاء. فأخبر عزوجل : أنهم هم الذين يعملون بالجهل على علمهم أن دينهم الذى يدينون به باطل ، وأن الدين الذى يدين به المؤمنون حق.

وقوله : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

قيل فيه بوجهين :

أحدهما : لا يعلمون أنهم هم السفهاء.

والثانى : لا يعلمون ما يحل بهم من العذاب لذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا).

يعنى : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (قالُوا آمَنَّا).

أظهروا لهم الموافقة فى العلانية ، ويضمرون لهم الخلاف فى السر.

وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ).

قيل فيه بأوجه :

قيل : إن شياطينهم ؛ يعنى الكهنة (١) ؛ سموا بذلك لبعدهم عن الحق.

يقال : شطن ، أى : بعد.

وقيل : إن كلّ عات ومتمرد يسمى شيطانا لعتوه وتمرده ؛ كقوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] سموا بذلك لعتوهم وتمردهم ؛ إذ من قولهم : إن الشياطين أصلهم من الجن.

وقيل : سموا شياطين ؛ لأنه كان مع كل كاهن شيطان يعمل بأمره ، فسموا بأسمائهم ؛ وذلك جائز فى اللغة جار ، والله أعلم.

وقوله : (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).

قيل : فيه وجهان :

الأول : أى : معكم فى القصد (٢) والمعونة.

والثانى : إنا معكم ، أى : على دينكم لا على دين أولئك ، والله أعلم.

قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

بإظهار الموافقة لهم فى العلانية ، وإظهار الخلاف لهم فى السر.

وقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٣) : يجزيهم جزاء الاستهزاء.

وكذلك قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] أى : يجزيهم جزاء المخادعة ، وكذلك قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] أى : يجزيهم جزاء

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥١).

(٢) فى أ : النصر.

(٣) ذكره ابن جرير (١ / ١٦٦) ، والبغوى (١ / ٥٢).

المكر ، يحمل على الجزاء ؛ لما لا يجوز إضافة المكر والخداع والاستهزاء مبتدأ إلى الله ؛ لأنه مذموم من الخلق إلا على المجازاة ، فكيف من الله عزوجل؟!

وقال بعضهم : يجوز إضافة الاستهزاء إلى الله ، وإن كان لا يجوز من الخلق أن يستهزئ بعضهم من بعض ، كالتكبر ، يجوز لله ولا يجوز للخلق ؛ لأن الخلق أشكال بعضهم لبعض وأمثال ، والله ـ عزوجل ـ لا شكل له ولا مثل.

وكذلك الاستهزاء يجوز له ، ولا يجوز لغيره ؛ لأن الاستهزاء هو الاستخفاف ، فلا يجوز أن يستخف ممن هو مثله فى الخلقة ، وما خلق له من الأحداث والغير ، والله تعالى يتعالى عن ذلك. والأول أقرب ، والله أعلم.

أو أضاف استهزاء المؤمنين بهم إلى نفسه كما ذكرنا فى المخادعة.

ثم اختلف فى كيفية الاستهزاء :

فقال الكلبى (١) : هو أن يفتح لهم باب من الجنة فيدنون منه ، ثم يغلق دونهم. فإن ثبت ذا فهو كما قال.

وقيل : إنه يرفع لأهل الجنة نور يمضون به ، فيقصد أولئك المضى معهم بذلك النور ، ثم يطفأ ذلك النور ؛ فيتحيرون وهو قولهم : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) [الحديد : ١٣].

وقيل : أن يعطى لهم فى الدنيا ما ينتفعون به من أنواع النعم ظاهرا على ما أظهروا لهم الموافقة فى العلانية ، ويحرم لهم ذلك فى الآخرة بإضمارهم الخلاف لهم فى السر.

وقوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

الآية فى قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ؛ كقوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

__________________

(١) ذكره السيوطى فى الدر المنثور (١ / ٦٩) وعزاه للبيهقى فى الأسماء والصفات عن ابن عباس بنحوه ، انظر تفسير البغوى (١ / ٥٢).

وهو : دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج ، بفتح المعجمة وسكون الزاى ثم جيم ، ابن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف الكلبى صحابى مشهور ، أول مشاهده الخندق وقيل : أحد ، ولم يشهد بدرا ، وكان يضرب به المثل فى حسن الصورة ، وكان جبريل عليه‌السلام ينزل على صورته ، جاء ذلك من حديث أم سلمة ، ومن حديث عائشة ، وروى النسائى بإسناد صحيح ، عن يحيى بن معمر ، عن ابن عمر رضى الله عنهما : كان جبرائيل يأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صورة دحية الكلبى ، وروى الطبرانى من حديث عفير بن معدان ، عن قتادة ، عن أنس ـ أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان جبرائيل يأتينى على صورة دحية الكلبى» وكان دحية رجلا جميلا ، شهد دحية اليرموك ، وكان على كردوس وقد نزل دمشق وسكن المزة ، وعاش إلى خلافة معاوية. ينظر الإصابة (٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٣) ، أسد الغابة ت (١٥٠٧) ، والاستيعاب ت (٧٠٠) ، سير أعلام النبلاء (٢ / ٥٥٠).

[البقرة : ٦] غير أن هذه فى المنافقين والأولى فى الكفرة.

وهى تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن الله لا يقدر أن يستنقذهم فى حال الاختيار ، وإنما يقدر الاستنقاذ منهم فى حال الاضطرار ، فأخبر عزوجل : أنه يستنقذهم على فعل الطغيان.

وقوله : (وَيَمُدُّهُمْ) أى : يخلق فعل الطغيان فيهم.

ويحتمل : أن يخذلهم ويتركهم لما اختاروا من الطغيان إلى آخر عمرهم.

ويحتمل : أنه لم يهدهم ولم يوفقهم.

وفى هذا إضافة المد إلى الله. وإضافة المد على الطغيان لا يضاف إليه إلا لمدح ، والمدح يكون بالأوجه الثلاثة التى بينا ، وفى هذا أنه إذا كان هو الذى يمدهم فى الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان ؛ فدل أن الله خالق فعل العباد ؛ إذ من قولهم : إن القدرة التامة هى التى إذا قدر على شىء قدر على ضده.

والعمه : الحيرة فى اللغة.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى).

أى : اختاروا الضلالة على المدعو إليه ـ وهو الهدى ـ من غير أن كان عندهم الهدى ، فتركوه بالضلالة.

وهو كقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] من غير أن كانوا فيه ، فكذلك الأول ، تركوا الهدى بالضلالة ابتداء.

وقيل : الضلالة : الهلاك ؛ أى : اختاروا ما به يهلكون على ما به نجاتهم ، وإن كانوا لا يقصدون شراء الهلاك بما به النجاة ؛ كقولهم : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥] لا يقدر أحد أن يصبر على النار ، ولكن فما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار.

وكذلك قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩٠] أى : بئسما اختاروا ما به هلاك أنفسهم على ما به نجاتهم.

وفى هذه الآية دلالة جواز البيع بغير لفظة البيع ؛ لأنهم ما كانوا يتلفظون باسم البيع ، ولكن كانوا يتركون الهدى بالضلالة.

وكل من ترك لآخر شيئا له ببذل يأخذه منه فهو بيع وإن لم يتكلموا بكلام البيع.

وكذلك قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...) الآية [التوبة : ١١١]. وهو على بذل الأموال والأنفس له بالموعود الذى وعد لهم ، وهو الجنة.

وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

أى : ما ربحوا فى تجارتهم ؛ لأن التجارة لا تربح ولكن بالتجارة يربح ، وقد يسمى الشىء باسم سببه.

وهو كقوله : (جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [النمل : ٨٦] ، والنهار لا يبصر ، ولكن بالنهار يبصر.

وذلك سائغ (١) فى اللغة ، جائز تسمية الشىء باسم سببه.

ثم فى قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) نفى الربح دون نفى الأصل فى الظاهر ، غير أن النفى على وجهين :

نفى شىء يوجب إثبات ضده ، وهو نفى الصفة ؛ كقولك : فلان عالم : نفيت الجهل عنه ، وفلان جاهل : نفيت العلم عنه.

ونفى شىء لا يوجب إثبات ضده ، وهو نفى الأعراض ؛ لأنك إذا نفيت لونا لم يوجب ضد ذلك اللون.

وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) نفى الأصل ؛ كأنه قال : بل خسرت تجارتهم ، أوجبت إثبات ضده.

دليله قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩٠] ، و (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٢].

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٢٠)

وقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

اختلف فيه :

قيل (٢) : إنها نزلت فى المنافقين ؛ لأنها على أثر ذكر المنافقين ، وهو قوله : (وَإِذا لَقُوا

__________________

(١) فى أ : شائع.

(٢) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٣٨٦ ، ٣٨٧ ، ٣٨٩) وقتادة (٣٩١) والضحاك (٣٩٢) ، ومجاهد (٣٩٣ ، ٣٩٤ ، ٣٩٥) وغيرهم ، وانظر الدر المنثور للسيوطى (١ / ٧١ ـ ٧٣).

الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية [البقرة : ١٤].

وقيل (١) : إنها نزلت فى اليهود ؛ لأنه سبق ذكر اليهود ، وهو قوله : (... أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية [البقرة : ٦].

ويحتمل : نزولها فى الفريقين جميعا.

وروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : «إن هذا من المكتوم» فلا يحتمل ما قال ؛ لأنه مثل ضربه الله ، والأمثال إنما تضرب لتفهم وتقرّب إلى الفهم ما بعد منه ؛ فلو حمل على ما قال لم يفهم مراده وما قرّب إلى الفهم شيئا ، إلا أن يريد من المكتوم : أنه لم يعلم فيمن نزل ، فهو محتمل ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ...) الآية.

يحتمل : أن يكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ...) الآية [البقرة : ٨] ، وقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ...) الآية [البقرة : ١٤ ، ٧٦]. وذلك يخرج على وجوه :

أحدها : أنهم قصدوا قصد المخادعة بأولياء الله والاستهزاء بهم ؛ ففضحهم الله بذلك فى الدنيا والآخرة.

فأما فى الدنيا فبما هتك سترهم ، وأطلع على ذلك أولياءه ؛ فعادت إليهم المخادعة ، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم ، وبما أرادوا ذلك الأمن ، فأعقبهم الله خوفا دائما كما وصفهم الله (يَخْشَوْنَ النَّاسَ ...) الآية [النساء : ٧٧]. وقال : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون : ٤]. وقال : (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد : ٢٠] ، وقال : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ...) الآية [الأحزاب : ١٩] ، وقال : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ...) الآية [التوبة : ٦٤].

أو أن يكونوا طلبوا ـ بإظهار الموافقة فى الدين ـ الشرف فيهم والعز ، وكذلك عند الكفرة مما أظهروا أنهم يخادعون بذلك المؤمنين ، ويستهزءون بهم ؛ فعلموا أنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم ، فطردوا من بينهم فقال الله : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) [المجادلة : ١٤] ، وقال : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ ...) الآية [النساء : ١٤٣] ، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز ، وأبدل لهم به الهوان والذل.

فمثلهم فى ذلك مثل مستوقد نار ليستضيء بضوئها ، وينتفع بحرّها ، فأذهب الله ضوءه

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥٣) ونسبه لعطاء ومحمد بن كعب.

حتى ذهب ما كان يأمل من الاستنارة بها والانتفاع ، وأعقبه الله تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها ، وذهب عنه ما طلب بذلك ـ من شرف الوقود فى الأيام الشاتية ، أو ما يصلح بها ـ من الأغذية بذهاب البصر.

فيكون ذلك معنى قوله : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ، و (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) إذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمن ، والذلّ بما طلبوا به العزّ ، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره ، والله أعلم.

وعلى ذلك قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أى : اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذى قد أظهروه عند المؤمنين.

فيكون تحقيق استهزاء الله بهم ، ومخادعته إياهم فعل أوليائه بهم بما أخبروا من سرائرهم ، وبما حطوا أقدارهم ، وذلوا فى أعينهم ، فأضيف ذلك إلى الله ؛ إذ به فعلوا ، كما أضيفت مخادعتهم المؤمنين إليه ؛ إذ عن دينه خادعوهم. والله أعلم.

وعلى هذا التأويل أمكن أن يخرج قول من زعم : أن الآية نزلت فى الكافرين ، أنهم كانوا يعرفون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وجدوا نعته فى التوراة والإنجيل ، أنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ...) الآية [الأعراف : ١٥٧] ، وقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] إلى آخر السورة ، وقال عزوجل : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦ ، الأنعام : ٢٠] ، وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

كانوا كمستوقد النار ، أى : طالب الوقود ليستضيء به ، فلما ظفر به أذهب الله نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار ، فلم ينتفع به.

فكذلك لما كفروا عند بعث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا من أنفسهم وبغيا ؛ إذ كان من غيرهم ؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه ، ولا قوة إلا بالله.

وأما فى الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين ، وموالاتهم فى الظاهر ، ومشاركتهم إياهم فى المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح ، وخالفوهم فى الباطن.

فكذلك الله أشركهم فى المنافع الظاهرة الحاضرة فى الدنيا ، وخالفهم بمنافع دينه فى الباطن الغائب وهى الآخرة ؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين فى الدنيا ، وصرفها عنهم فى الآخرة.

فكما أروهم الموافقة فى الظاهر مع المخالفة فى الباطن ، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة فى ضوئها بالإيقاد ، وقد أذهب الله ضوء بصره ؛ فذهب عنه منفعته عند ظنه أنه يصل إليها ، كالمنافقين فى الآخرة ، إذ ظنوا فى الدنيا أنهم شركاؤهم فى الآخرة لو

كانت ؛ ولذلك قالوا : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣] ، وقوله : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ...) الآية [النساء : ١٤١ ، الحديد : ١٤] فذلك وجه الاستهزاء بهم ، والمخادعة أنه أشركهم فى أحكام الدنيا وخالفهم فى أحكام الآخرة.

وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى ، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم.

وعلى ذلك يخرج تأويل من صرف إلى أهل الكتاب ؛ لأنهم آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف ، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم ، وشاهدوا كفروا به ؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم ، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردّوا إيمانهم به عند المشاهدة ، والله أعلم.

وروى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه ضم تأويل هذه الآية والتى تتلوها من قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] إلى قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] وذلك ـ والله أعلم ـ أنهم قوم لا يعرفون الله حق المعرفة ؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم ، ولا يؤمنون بالآخرة ؛ فيكون عملهم للعواقب ، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها ، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمنا لها.

فإذا رأوا فى دين الإسلام الغنائم والسلوة ، رأوا تجارتهم مربحة فاطمأنوا بها ، واجتهدوا بالسعى فيها.

وإذا أصابتهم الشدة والبلايا رأوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدين ؛ فمثلهم مثل المستوقد نارا ؛ إنه يجتهد فى الإيقاد ما دام يطمع فى نور النار ، ومنافع حرها لمصالح الأطعمة ، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها ، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد ، كالمنافق فيما استقبله المكروه فى الإسلام تمنى أن لم يكن أسلم قط.

وذلك قوله : (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) [الأحزاب : ٢٠].

وقوله : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤].

وقوله : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) [التوبة : ٥٠].

وقوله : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) [النساء : ٧٢].

وكذلك البرق الذى يضىء يمشى المرء فى ضوئه ، وكذلك المنافق ، إذا رأى خيرا فى الإسلام مشى إليه ، وإذا أظلم عليه قام متحيرا حزينا ؛ ألا يكون اختار السلوك ، والله الموفق.

وقال أبو بكر الأصمّ (١) : مثل من يظهر الإيمان فيما يتزين بنوره فى الناس ، مثل مستوقد النار فيما يستضىء حول النار بنورها ، ثم يذهب الله نوره فى الآخرة كما أذهب هو فى السر ، وكذلك أذهب الله نور المستوقد ؛ فيذهب به التزين بالنور حول النار.

قال : وقيل : ذا لعن.

كما يقال : أذهب الله نوره ، أى : الذى كان يظهره ؛ فيبقى المنافق فى ظلمات الآخرة ، والمستوقد فى ظلمات العمى والليل.

ثم قال : جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيّب ، وما فيه من الجهاد كظلمة الليل ، وما فيه من الغنيمة كالبرق ، وجعل أصابعهم فى الآذان من سماع ما فى الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ).

أى : ما فى الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه.

وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا وصدوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو شاء الله لذهب بما ذكر ، أى : أصمهم وأعماهم.

وروى عن الضحاك (٢) عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : «أن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين» ؛ فشبه به إيمان المنافق أنه عن سريع يزول.

وقال القتبى (٣) : كان المنافق فى ظلمة الكفر فاهتدى بما أعطى من النور ، كمستوقد

__________________

(١) شيخ المعتزلة ، أبو بكر الأصم ، كان ثمامة بن أشرس يتغالى فيه ، ويطنب فى وصفه ، وكان دينا وقورا ، صبورا على الفقر ، منقبضا عن الدولة ، إلا أنه كان فيه ميل إلى الإمام على.

وله تفسير ، وكتاب (خلق القرآن) ، وكتاب الحجة والرسل ، وكتاب الحركات ، والرد على الملحدة ، والرد على المجوس ، والأسماء الحسنى ، وافتراق الأمة ، وأشياء عدة. مات سنة إحدى ومائتين.

ينظر : سير أعلام النبلاء (٩ / ٤٠٢) ، والفهرست (٢١٤) ، وتاريخ بغداد (٨ / ٤٠١) ، وميزان الاعتدال (٢ / ٥٨) ، والنجوم الزاهرة (٢ / ١٧٩) ، وشذرات الذهب (٢ / ١٣).

(٢) هو : الضحاك بن مزاحم الهلالى مولاهم الخراسانى يكنى أبا القاسم. روى عن أبى هريرة ، وابن عباس ، وأبى سعيد ، وابن عمر ، وزيد بن أرقم ، وأنس. وروى عنه عبد الرحمن بن عوسجة ، وعبد العزيز بن أبى رواد وقرة بن خالد وخلق. قال سعيد بن جبير : لم يلق ابن عباس. ووثقه أحمد وابن معين ، وأبو زرعة. وقال ابن حبان : فى جميع ما روى نظر ، إنما اشتهر بالتفسير. قال أبو نعيم : مات سنة خمس ومائة ينظر : الخلاصة (٢ / ٥) (٣١٤٦).

(٣) العلامة الكبير ، ذو الفنون ، أبو محمد ، عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى ، وقيل : المروزى ، الكاتب ، صاحب التصانيف. نزل بغداد ، وصنف وجمع ، وبعد صيته. حدث عن : إسحاق بن راهويه ، ومحمد بن زياد بن عبيد الله الزيادى ، وزياد بن يحيى الحسانى ، وأبى حاتم السجستانى ، وطائفة. حدث عنه : ابنه القاضى أحمد بن عبد الله ، بديار مصر ، وعبيد الله السكرى ، وعبيد الله ابن أحمد بن بكر ، وعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوى ، وغيرهم. قال أبو بكر الخطيب : كان ـ

النار بنوره فى ظلمة الليل.

وكذلك السالك فى ظلمة الليل ، فلما ذهب نوره ـ أو سكن لمعان البرق ـ رجع إلى ما فيه من الظلمة.

والأصل فى هذا الباب : أن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أهلها ، وجعل لهم دارا يجزيهم فيها ، مما لو لا هى لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثا ؛ إذ يكون خلق الخلق للفناء بلا عواقب لهم ، وذلك عبث فى العقول ؛ لأن كل شارع ـ فيما لا عاقبة له ـ عابث ، وفيما لا يريد معنى يكون فى العقل هازل ؛ ولذلك قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى ؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلا بالمعروف من هذه ؛ إذ بهذه عرفت تلك ؛ ولهذا خلق الله الممتحنين بحيث يألمون ويتلذذون ؛ ليعرفوا قدر الآلام التى بها أوعدوا ، واللذات التى فيها رغبوا.

فعلى ذلك ضرب الله مثل من عمى عن الآخرة ، وصم عن سماع ما يرغب فيها ، أو عمى عن أمر الله ونهيه ، أو ألحق بالأعمى ، والأصم ، والميت ونحو ذلك ؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة ؛ إذ هى مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأمل والتدبر.

فإذا غفل عن ذلك سمى بالذى ذكرنا. وبينا أنه لو لا الآخرة ودار الجزاء ، لم يكن لخلق شىء من ذلك حكمة نعقلها نحن.

فعلى ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب ـ الذى به يبصر العواقب وينتفع بها ـ بذهاب نور البصر ، فى زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره ، وكذلك أمر السمع وغيره.

فكان على ذلك أمكن إخراج المثلين جميعا على الكفرة والمنافقين.

أما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه ـ وهو نور البصر ـ لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذى بصر ، وكذلك سائر منافع النار ؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب

__________________

ـ ثقة دينا فاضلا وله تصانيف منها : غريب القرآن ، غريب الحديث ، كتاب المعارف ، كتاب مشكل القرآن ، كتاب مشكل الحديث ، كتاب أدب الكاتب ، كتاب عيون الأخبار ، كتاب طبقات الشعراء ، كتاب إصلاح الغلط ، كتاب الفرس ، كتاب الهجو ، كتاب المسائل ، كتاب أعلام النبوة ، كتاب الميسر ، كتاب الإبل ، كتاب الوحش ، كتاب الرؤيا ، كتاب الفقه ، كتاب معانى الشعر ، كتاب جامع النحو ، كتاب الصيام ، كتاب أدب القاضى ، كتاب الرد على من يقول بخلق القرآن. مات فجاءة ، صاح صيحة سمعت من بعد ، ثم أغمى عليه ، وكان أكل هريسة فأصاب حرارة ، فبقى إلى الظهر ، ثم اضطرب ساعة ، ثم هدأ ، فما زال يتشهد إلى السحر ، ومات وذلك فى شهر رجب ، سنة ست وسبعين ومائتين. ينظر : سير أعلام النبلاء (١٣ / ٢٩٦ ، ٢٩٧) ، (١٣ / ٣٠٠).

وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائها.

وكذلك الذى ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيرا ؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عنه بصر القلب ؛ إذ به يبصر عواقب الأشياء.

بل الذى قصد السلوك بالبروق ، والاستضاءة بنور النار ، إذا ذهب كان أعظم حسرة وأشد خوفا من النار ، وشدة المطر ، وخبث الطريق من الذى لم يعرف ـ فى الابتداء ـ نفع النار أو البرق ، ويكره المطر على شدة رغبته فيه ، والنار بما ذهب منه.

وكذلك المنافق فى الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يرد إلى درك الأسفل ، ولا قوة إلا بالله.

وكذلك الكافر لم يبصر ـ بما أعطاه من البصر ـ عواقب البصر الظاهر ، ولا يسمع ـ بما أنعم عليه من السمع ـ عواقب السمع ؛ إذ حق ذلك أن يؤدى ذلك ما أدركه إلى العقل ليعتبر به أنه لم يخلق شىء من ذلك بالاستحقاق ، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة ، فيعلم عظم نعمة الله وخروج مثله عن العبث ، فيقوم بأداء شكره ؛ وبذلك يصير به إلى الجزاء فى العواقب ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله عزوجل : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : صم ؛ لأنه ختم على آذانهم ، وعلى سمعهم ، وعلى قلوبهم ؛ فلا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يعقلون.

ويحتمل : أنهم صم بكم عمى ؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم ، وأبصارهم ، وقلوبهم.

ثم اختلف فى جواز إضافة لفظ «الاستهزاء» إلى الله تعالى :

فأجازه قوم ، وإن كان ذلك قبيحا من الخلق ؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأحد ـ إما لجهله ، أو لقبح فى الخلقة ، أو لزيادة فى الخلق ـ إلا والمستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لو لا إنعام الله عليه الذى قد أغفل عنه ، أو لدناءة فى الخلق باشتغاله بما ذكر ، مع ما لعل الإغفال من هذا أوحش ، وأقبح من حال المستهزأ به.

ولذلك قال عزوجل : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ...) الآية [الحجرات : ١١].

وذلك نحو التكبر : أنه قبيح من الخلق ، بما لهم أشكال فى الحدث ، وآثار الصنعة ، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره.

وجائز إضافته إلى الله تعالى ، لتعاليه عن الأشباه والأشكال ، وإحالة احتمال ما احتمل

غيره ، وبه يقول حسين النجار (١).

وأبى قوم ذلك إلا على أثر أحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاء ، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء ؛ فيفهم منه جزاء الاستهزاء كذكر السيئة فى الجزاء ، والمكر ونحو ذلك.

ثم يخرج ما نحن فيه على أوجه :

أحدها : ما بينا.

والثانى : ما ينسب إليه فعل المأمور ، نحو قول المؤمنين للمنافقين فى الآخرة : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) [الحديد : ١٣] وقول أهل الجنة ، ودعائهم أهل النار بالخروج ، لو ثبت ما ذكره الكلبى ، وقول الملائكة : (فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر : ٥٠] وغير ذلك.

وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٩ ـ ٢٠].

ثم ما ذكر من «الظلمات» يخرج على وجوه ثلاثة :

أحدها : ظلمات كفرهم بقلوبهم ؛ إذ أظهروا الإيمان أولا.

والثانى : المتشابه فى القرآن ، وهو الذى تعلق به كثير من المشركين حتى نزول (٢) قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ...) الآية [آل عمران : ٧].

والثالث : ما فى الإسلام من الشدائد ، والإفزاع من الجهاد ، والحدود وغير ذلك.

وأمكن صرف الأول ، والآخر إلى الفريقين : الكافر ، والمنافق ، وصرف تأويل المتشابه إلى الكافر.

على أنا بيّنا أن لكلّ من ذلك حظّا ، ويدل آخر الآية ـ وهو قوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) ـ على أن المثل لهم ، إلا أن المنافق شريكهم فى الكفر ، والله الموفق.

وجائز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين :

__________________

(١) هو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار ، من علماء الكلام الذى يقول بالجبر ، كان حائكا وقيل يعمل فى صناعة الموازين ، وكان إذا تكلم سمع له صوت كصوت الخفاش ، وله مع النظام المعتزلى مجالس ومناظرات ، وإليه تنسب فرقة النجارية ، ينظر : الفهرست (٢٦٨) ، ومقالات الإسلاميين (١ / ٣١٥) ، والملل والنحل (١ / ٨٨) ، والتبصير (٦١).

(٢) فى أ : نزل.

صنف ينتحل الكتاب الذى هو عندهم مما جاء به الرسل ، [لكن أئمتهم](١) قد غيروا ما فى كتبهم من دين الله وأحكامه حتى عطلوا (٢) ذلك ، وأبدعوا غير الذى جاءت به الرسل من الدين والأحكام.

بيّن ذلك قوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا ...) الآية [آل عمران : ١٠٥].

وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) [المائدة : ١٥].

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ...) الآية [الأنعام : ١٥٩].

ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم ؛ كقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ...) الآية [آل عمران : ٧٨].

تبين ما ظهر من التفرق فيهم ، ومن القول فى أنبيائهم ، وفى الله سبحانه. ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف ، وبما كان من الفترة اندرست الكتب ، وذهبت الرسوم ؛ فصاروا فى ظلمة الضلالة ، وحيرة الزيغ ، وتاهوا فى سبيل الشيطان ، وانقطع من بين أظهرهم الأئمة الذين يوثق بهم فى الدين ، بما ليس لأحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياء ، والاعتصام بكتبهم ؛ إذ كلهم يدعى ذلك ـ وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذى لا تحتمله الحكمة ، ولا يصبر عليه العقل.

وصنف : لا ينتحل الكتاب ، ولا يؤمن بنبى من الأنبياء ، بل يعبدون الأوثان والنيران والأحجار ، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع ، ليس لهم شرع ، بل هم حيارى ، لا يعرفون معبودا ، ولا يبصرون طريقا ، وليس فيهم من إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة ، وأطلعهم على الحق ، بل هم فى الضلال تائهون ، وفى الظلمات متحيرون.

فأحوج الفريقين جميعا ما حل بهم من الحيرة والتّيه ، إلى من يشفيهم من داء الضلالة بنور الهدى ، ومن ظلمة الاختلاف بضياء الائتلاف ، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل الله ، ويدلّهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أربابا.

فبعث إليهم ـ عند شدة حاجتهم ـ رسولا ، وأكرمهم بما أراهم من الآيات التى يعلمهم بها أنه أنعم بها عليهم ؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أطاعوه ، وشكروا نعمة الله.

فكانوا كقوم بلوا بظلمات الليل والسحاب ، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم ، وتعذر عليهم الوجه فى وضع أقدامهم ، فتاهوا ، فدفعهم التّيه إلى استيقاد النار ؛ ليبلغوا حوائجهم ، ويأمنوا العطب فى وضع الأقدام.

__________________

(١) فى أ : لكنهم.

(٢) فى أ : غلطوا.

وكقوم بلوا فى شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجدبه ، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأغاثهم بالمطر.

ثم منهم من عرف نعمة من أنعم عليهم بالوقود وأغاثهم بالمطر ، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك ، ووصلوا إلى حوائجهم بالنار والمطر.

وذلك مثل من اتبع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرف نعم الله فشكره.

ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه ، ونسى ما كان عليه ، وهو قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) [الزمر : ٨ ، ٤٩] آيات فيها ذكر ما بينت ، وقوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ...) الآية [الإسراء : ٦٧] ، فأذهب الله نوره فلا ينتفع بنور النار ، ولا وصل إلى حاجته التى بها يقضى.

وذلك مثل الذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنهم لم ينتفعوا به ، ولا قضوا حاجاتهم ، بل زادهم ذلك ظلمة وحيرة ، كمستوقد النار إذا ذهب بصره.

وكذلك قوم بلوا بالسلوك فى الطريق عند شدة الظلمة ، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذى جعل لهم لوضع أقدامهم بنور البرق فأذهب الله نوره ، وسكن لمعان البرق ؛ فعاد الغياث له هلاكا ، والمطر ـ الذى وجهه ـ عليه بلاء.

فمثله من كابر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعترض على الاستماع إليه ، ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٥)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).

فالخطاب يحتمل الخصوص والعموم.

وقوله : (اعْبُدُوا) : وحدوا ربكم (١).

__________________

(١) قاله ابن عباس كذا أخرجه ابن جرير (٤٧٢) ، وابن إسحاق وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ٧٤).

جعل العبادة عبارة عن التوحيد ؛ لأن العبادة التى هى لله لا تكون ولا تخلص له إلا بالتوحيد. ويقال : (اعْبُدُوا) ؛ أى : أطيعوا له ؛ أى : اجعلوا عبادتكم لله ، لا تعبدوا غيره ، فى كلا التأويلين يرجع إلى الكفرة.

ويقال : (اعْبُدُوا) ؛ أى : أطيعوا له.

والعبادة جعل العبد كلّيته لله قولا ، وعملا ، وعقدا ، وكذلك التوحيد ، والإسلام.

والطاعة ترجع إلى الائتمار ؛ لأنه يجوز أن يطاع غير الله ، ولا يجوز أن يعبد غير الله ؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه ؛ كقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المائدة : ٩٢] ولا كل من عمل بأمر آخر فهو عابد له ، وبالله نستعين.

ثم بين الذى أمر بالتوحيد إياه وبالعبادة له خالصا ، فقال : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

والذين تعبدونهم لم يخلقوكم ، ولا خلقوا الذين من قبلكم ، فكيف تعبدونهم دون الذى خلقكم؟! وبالله التوفيق.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : تتقون المعاصى ، والمناهى ، والمحارم التى حرم الله عليكم. فإذا كان هذا هو المراد فذلك راجع إلى المؤمنين.

ويحتمل قوله : (تَتَّقُونَ) الشرك وعبادة غير الله ، فذلك راجع إلى الكفرة.

قال الشيخ : الأحسن فى الأمر بالتقوى والتوحيد أن يجعل عامّا ، وفى الخبر عن التقوى خاصّا.

(لَعَلَّكُمْ) أى : كى تتقوا.

وقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

بيّن اتقاء (١) الذى أمر بالتوحيد له ، وتوجيه العبادة إليه ، وإخلاص النية له ؛ فقال : الذى فرش لكم الأرض لتنتفعوا بها ، وتقضوا حوائجكم فيها ، من أنواع المنافع عليها ، واتخاذ المستقر والمسكن فيها.

(وَالسَّماءَ بِناءً) أى : رفع السماء بناء.

والسماء : كل ما علا وارتفع ، كما يقال لسقف البيت : سماء ؛ لارتفاعه.

__________________

(١) فى أ : أنه.

وسمى السماء بناء ـ وإن كان لا يشبه بناء الخلق ـ حتى يعلم أن البناء ليس اسم ما يبنى الناس خاصة.

ثم بين بقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

أى : وجهوا العبادة إلى الذى ينزل لكم من السماء ماء عند حوائجكم ، ولا تعبدوا من تعلمون أنه لم يخلقكم ، ولا أنزل لكم من السماء ماء ، ولا أخرج لكم من ذلك الماء ثمرات تكون رزقا لكم.

بل هو الله الواحد الذى لا شريك له ؛ ولأنه يخلقكم ، ويرزقكم ، ويخرج لكم من ذلك الماء المنزل من السماء رزقا تأكلونه ، وماء عذبا تشربونه.

وفى الآية دلالة أن المقصود فى خلق السماء والأرض ، وإنزال الماء منها ، وإخراج هذه الثمرات وأنواع المنافع ـ بنو آدم ، وهم الممتحنون فيها ؛ بدلالة قوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) وما ذكر من المخرج والمنزل منها ، وما ذكر فى آية أخرى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، ومنه (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهار) [إبراهيم : ٣٣ ، النحل : ١٢] ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) [إبراهيم : ٣٢] مما يكثر من الآيات.

أضاف ذلك كلّه إلينا ، ثم جعل ـ عزوجل ـ بلطفه منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما من المسافة ، حتى لا تخرج الأرض شيئا إلا بما ينزل من السماء من الماء ؛ ليعلم أن منشئ السماء هو منشئ الأرض ؛ لأنه لو كان منشئ هذا غير منشئ الآخر لكان لا معنى لاتصال منافع هذا بمنافع الآخر على بعد ما بينهما ، ولتوهم كون الاختلاف من أحدهما للآخر.

فإذا كان كذلك دل على أن منشئهما واحد ، لا شريك له ولا ند.

ثم زعم قوم : أن الأشياء كلها حلّ لنا ، طلق ، غير محظور علينا ، حتى يجىء ما يحظر ، فاستدلوا بظاهر هذه الآية بقوله : (رِزْقاً لَكُمْ) ، وبقوله : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨].

وقال آخرون : لا يدل ذلك على الإباحة ؛ وذلك أن الأشياء لم تصر لنا من كل الوجوه ، فهو على الحظر حتى تجىء الإباحة ، ولأن الأشياء لا تحل إلا بأسباب تتقدم ؛ فظهر الحظر قبل وجود الأسباب ، فهو على ذلك حتى يجىء ما يحل ويبيح.

أو أن يقال : خلق هذه الأشياء لنا محنة امتحنا بها ، أو فتنة فتنا بها ؛ كقوله : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال : ٢٨ ، التغابن : ١٥] ، فتنّا بها ؛ وكقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ

بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥] ، ولأن فى العقل ما يدفع حمل الأشياء كلها على الإباحة ، لما فى ذلك فساد الخلق ، وتفانيهم.

فبين لكل منهم ملكا على حدة بسبب يكتسب به ؛ لئلا يحملهم على التفانى والفساد ، وبالله نستعين.

وقوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً).

أى : أعدالا ، وأشكالا فى العبادة ، وكله واحد.

ند الشىء : هو عدله. وشكله : هو مثله.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

الأول : أن لا ندّ ، ولا عدل ، ولا شكل ؛ لما أراكم من إنشاء هذه الأشياء ولم تروا من ذلك ممن تعبدونه شيئا.

والثانى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لما أنشأ فيكم من الأشياء ما لو تدبرتم وتفكرتم وتأملتم ، علمتم أنه لا ندّ له ولا شكل له ؛ كقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

وقوله عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا).

من القرآن أنه مختلق مفترى ، وأنه ليس منه ؛ كقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] ، وقولهم : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ، و (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ) [القصص : ٣٦].

وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).

أى : ائتوا أنتم بمثل ما أتى هو ؛ إذ أنتم وهو سواء فى الجوهر والخلقة واللسان ، ليس هو أولى بذلك منكم ؛ أعنى : فى الاختلاق.

وقوله : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

أى : استعينوا بآلهتكم الذين تعبدون من دون الله ، حتى تعين لكم على إتيان مثله إن كنتم صادقين فى مقالتكم أنه مختلق مفترى.

ويقال : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ). يعنى شعراءكم وخطباءكم ليعينوكم على إتيان مثله.

ويقال : ادعوا شهداءكم من التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وسائر الكتب المنزلة على الرسل السالفة أنه مختلق مفترى.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا).

يحتمل وجوها :

يحتمل أنهم أقروا على أثر ذلك بالعجز عن إتيان مثله من غير تكلف ولا اشتغال كان منهم لما دفع عزوجل عن أطماعهم إتيان مثله نظما ، ولا اجتهدوا كل جهدهم ، وتكلفوا

كل طاقتهم على إطفاء النور ليخرج قولهم على الصدق بأنه مختلق مفترى ، ويظهر كذب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كلام رب العالمين.

فدل إقرارهم بالعجز عن إتيان مثله ، وترك اشتغالهم بذلك : أنه كلام رب العالمين ، منزّل على نبيه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

الوقود بالنصب هو الحطب ، وبالرفع هو النّار.

أخبر عزوجل أن حطبها الناس كلما احترقوا أعيدوا وبدّلوا ؛ كقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [النساء : ٥٦].

والحجارة فيه وجهان :

قيل (١) : هى الكبريت.

وقيل : الحجارة بعينها لصلابتها ، وشدتها أشد احتراقا ، وأكثر إحماء.

وقوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

فى الآية دلالة أنها لم تعدّ لغير الكافرين.

وهى تنقض على المعتزلة قولهم حيث خلدوا صاحب الكبيرة فى النار ، ولم يطلقوا له اسم الكفر ، وفى زعمهم أنها أعدت للكافرين أيضا ، وإن كان تعذيب المؤمن بمعاصى يرتكبها ، وأوزار حملها ، وفواحش تعاطاها ؛ وذلك أن الله يعذب من يشاء بما شاء ، وليس إلى الخلق الحكم فى ذلك ؛ لقوله : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) [الكهف : ٢٦].

فإن قالوا : إن أطفال المشركين فى الجنة ، والجنة لم تعدّ لهم ، وإنما أعدت للمؤمنين ، ثم جاز دخول غيرهم فيها وتخليدهم. وكذلك النّار وإن كانت معدة للكافرين ، جاز لغير الكافر التعذيب والتخليد فيها ، كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) الآية [آل عمران : ١٠٦] شرط الكفر بعد الإيمان.

ثم من ينشأ على الكفر ، والذى كفر بعد الإيمان سواء فى التخليد ، فكذلك مرتكب الكبيرة ، والكافر ، سواء فى التخليد.

فيقال لهم : إن كل كافر تشهد خلقته على وحدانية ربه ؛ فإذا ترك النظر فى نفسه ، واختار الاعتناد فصار ككفر بعد الإيمان ؛ لأنه لم يكن مؤمنا ثم كفر.

وأما قولهم فى الأطفال ؛ فإنهم إنما خلّدوا الجنة جزاء لهم من ربهم ، ولله أن يعطى

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود (٥٠٣ ، ٥٠٤ ، ٥٠٧) ، وابن عباس (٥٠٥) ، وابن جريج (٥٠٦).

وانظر الدر المنثور (١ / ٧٨).

الجزاء من شاء بلا فعل ، ولا صنع كان منه ؛ فضلا وكرامة ، وذلك فى العقل جائز إعطاء الثواب بلا عمل على الإفضال والإكرام.

وأما التعذيب فإنه غير جائز فى العقل بلا ذنب يرتكبه ، والله أعلم.

وقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

الآية تنقض قول من جعل جميع الطاعات إيمانا ؛ لما أثبت لهم اسم الإيمان ، دون الأعمال الصالحات ، غير أن البشارة لهم ، وذهاب الخوف عنهم إنما أثبت بالأعمال الصالحات.

ويحتمل : الأعمال الصالحات : عمل القلب ، وهو أن يأتى بإيمان خالص لله ، لا كإيمان المنافق بالقول دون القلب.

وقوله : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

يعنى بساتين.

وقوله : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قيل فيه بوجوه :

قيل : إن البساتين ليست هى اسم الأرض والبقعة خاصة ، ولكن ما يجمع من الأشجار ، وما ينبت فيها من ألوان الغروس المثمرة فعند ذلك يسمى بستانا.

وقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أى : من تحت أشجارها ، وأغراسها الأنهار.

وقيل : من تحتها : مما يقع البصر عليها ، وذلك أنزه عند الناس ، وأجلى ، وأنبل.

وقيل أيضا : من تحتها أى : من تحت ما علا منها [من القصور والغرف](١) ، لا تحت الأرض مما يكون فى الدنيا فى بعض المواضع يكون الماء تحت الأرض.

دليله [قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) : «تحت كل شعرة جنابة» (٣) ؛ أى تحت ما علا ، لا تحت الجلد ؛

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى ط : ما روى أن.

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ١٧١ ـ ١٧٢) كتاب : الطهارة ، باب : فى الغسل من الجنابة ، الحديث (٢٤٨) ، والترمذى (١ / ١٧٨) كتاب : الطهارة ، باب : ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (١٠٦) ، وابن ماجه (١ / ١٩٦) كتاب : الطهارة ، باب : تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (٥٩٧) ، وابن عدى فى الكامل فى ضعفاء الرجال (٢ / ٦١٢) فى ترجمة الحارث ابن وجيه الراسبى ، وأبو نعيم فى حلية الأولياء (٢ / ٣٨٧) ، والبيهقى (١ / ١٧٥) كتاب : الطهارة ، باب : تخليل أصول الشعر بالماء ، كلهم من حديث الحارث بن وجيه ، عن مالك بن دينار ، عن محمد بن سيرين ، عن أبى هريرة ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر» ، وفى لفظ : «فاغسلوا وأنقوا البشرة» ، وقال أبو داود : «الحارث بن وجيه حديثه منكر ، وهو ضعيف» ، وكذلك ضعفه الترمذى.

وقال البيهقى فى «معرفة السنن والآثار» (١ / ٤٣١ ـ ٤٣٢) كتاب : الطهارة ، باب : إيصال الماء إلى أصول الشعر : أنكره من أهل العلم بالحديث البخارى ، وأبو داود. وقال الشافعى : هذا الحديث ـ

فكذلك الأول من تحت ما علا منها من القصور ، والغرف ، والله أعلم.

وقوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ).

قيل فيه بوجوه :

(رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) فى الدنيا (١).

__________________

ـ ليس بثابت ، وقال أبو حاتم فى علل الحديث (١ / ٢٩) : وقال أبى : هذا منكر ، والحارث ضعيف الحديث. اه.

والحارث بن وجيه ، قال ابن معين وغيره : ليس بشيء.

وضعفه أبو حاتم والنسائى وأبو داود والساجى والعقيلى وابن حبان وغيرهم ، وقال الحافظ : ضعيف.

ينظر : التقريب (١ / ١٤٥) ، والتهذيب (٢ / ١٦٢).

وللحديث شواهد من حديث عائشة ، وعلى ، وأبى أيوب.

حديث عائشة :

أخرجه أحمد (٦ / ١١٠ ـ ١١١) : ثنا أسود بن عامر ، ثنا شريك عن خصيف قال : حدثنى رجل منذ ستين سنة ، عن عائشة قالت : أجمرت رأسى إجمارا شديدا فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة ، أما علمت أن على كل شعرة جنابة» ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (١ / ٢٧٧) ، وأعله بجهالة الرجل الذى لم يسم.

وحديث على : عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مع كل شعرة جنابة» ، ولذلك عاديت شعر رأسى.

أخرجه أبو داود الطيالسى ص (٢٥) ، الحديث (١٥٧) ، والدارمى (١ / ١٩٢) كتاب : الطهارة ، باب : من ترك موضع شعرة من الجنابة ، وأحمد (١ / ٩٤) ، وأبو داود (١ / ١١٥) كتاب الطهارة ، باب : فى الغسل من الجنابة ، الحديث (٢٤٩) ، وابن ماجه (١ / ١٩٦) كتاب : الطهارة ، باب : تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (٥٩٩) ، والبيهقى (١ / ١٧٥) كتاب : الطهارة ، باب : تخليل أصول الشعر بالماء ، وأبو نعيم فى حلية الأولياء (٤ / ٢٠٠) عن حماد ، عن عطاء بن السائب عن زاذان عن على ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها ماء فعل الله ـ تعالى ـ به كذا وكذا من النار» قال على ـ رضى الله عنه ـ : فمن ثم عاديت شعر رأسى.

وكان يجز شعره ، وعطاء بن السائب اختلط.

وقد سمع منه حماد حال الاختلاط كما فى ترجمة عطاء من التهذيب.

وينظر : التهذيب (٧ / ٢٠٣ ـ ٢٠٨).

وحديث أبى أيوب :

أخرجه ابن ماجه (١ / ١٩٦) كتاب : الطهارة ، باب : تحت كل شعرة جنابة ، الحديث (٥٩٨) من حديث عتبة بن أبى حكيم : حدثنى طلحة بن نافع ، حدثنى أبو أيوب الأنصارى ، أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداء الأمانة ـ كفارة لما بينها قلت : وما أداء الأمانة؟ قال : غسل الجنابة ؛ فإن تحت كل شعرة جنابة».

قال البوصيرى فى الزوائد (١ / ٢٢٢) : وهذا سند فيه مقال ، طلحة بن نافع لم يسمع من أبى أيوب ، قاله ابن أبى حاتم عن أبيه ، وفيما قاله أبو حاتم نظر ؛ فإن طلحة بن نافع وإن وصفه الحاكم بالتدليس فقد صرح بالتحديث ، وهو ثقة ، وثقه النسائى ، والبزار ، وابن عدى ، وأصحاب السنن الأربعة ، وعتبة بن حكيم مختلف فيه. رواه أحمد بن منيع بإسناده ومتنه.

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود معا (٥١٢) وقتادة (٥١٣) وابن زيد (٥١٦) وانظر الدر المنثور (١ / ٨٢).

وقيل : (رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أى : هذا الذى وعدنا فى الدنيا أنّ فى الجنة هذا.

وقيل : (رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ، فى الجنة قبل هذا.

وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (مُتَشابِهاً) فى المنظر ، مختلفا فى الطعم (١).

وقيل : (مُتَشابِهاً) فى الطعم مختلفا فى رأى العين والألوان (٢) ؛ لأن من الفواكه ما يستلذ بالنظر إليها دون التناول منها.

وقيل : (مُتَشابِهاً) فى الحسن والبهاء.

وقوله : (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ).

قيل فيه بوجوه :

(مُطَهَّرَةٌ) من سوء الخلق والدناءة ، ليس كنساء الدنيا لا يسلمن عن ذلك (٣).

وقيل : (مُطَهَّرَةٌ) من الأمراض ، والأسقام ، وأنواع ما يبلى به فى الدنيا من الدرن ، والوسخ والحيض (٤).

وقيل : (مُطَهَّرَةٌ) لصفاء جوهرها ؛ كما يقال : يرى مخّ ساقيها من كذا وكذا.

وقيل : (مُطَهَّرَةٌ) مختارة مهذبة.

وقوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ).

أى : يقيمون أبدا.

فالآية ترد على الجهمية (٥) قولهم ؛ لأنهم يقولون بفناء الجنة ، وفناء ما فيها ؛ يذهبون إلى أن الله تعالى هو الأول ، والآخر ، والباقى ، ولو كانت الجنة باقية غير فانية لكان ذلك

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود معا بنحوه (٥٢٤) ومجاهد (٥٢٦) والربيع بن أنس (٥٢٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٨٣).

(٢) أخرجه ابن جرير عن مجاهد بنحوه (٥٣٠ ، ٥٣١).

(٣) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٥٧).

(٤) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود معا بنحوه (٥٣٨) ومجاهد (٥٤٠ ـ ٥٤٥) ، وقتادة (٥٤٦ ـ ٥٤٨) ، وعبد الرحمن بن زيد (٥٥٠) ، والحسن (٥٥١ ، ٥٥٢) ، وعطاء (٥٥٣) وانظر الدر المنثور (١ / ٨٤).

(٥) الجهمية : أتباع جهم بن صفوان الترمذى الفارسى الذى قتل فى سنة ١٣١ أواخر الدولة الأموية ، كان ينفى الصفات الإلهية كلها ، وينفى رؤية الله ، ويزعم أن الجنة والنار تفنيان وتنقطع حركات أهلهما محتجا بأن عدم فنائهما يتعارض مع معنى قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ينظر : الفرق الإسلامية ص (٥٦).

تشبيها.

لكن ذلك وهم عندنا ؛ لأن الله تعالى هو الأول بذاته ، والآخر بذاته ، والباقى بذاته ، والجنة وما فيها باقية بغيرها.

ولو كان فيما ذكر تشبيه لكان فى العالم ، والسميع ، والبصير تشبيه ، ولكان فى الخلق أيضا فى حال البقاء تشبيه ، فإذا لم يكن فيما ذكرنا تشبيه لم يكن فيما تقدم تشبيه.

وأيضا : فإن الله تعالى جعل الجنة دارا مطهرة من المعايب كلها ؛ لما سماها دار قدس ، ودار سلام.

ولو كان آخرها للفناء كان فيها أعظم المعايب ؛ إذ المرء لا يهنأ بعيش إذا نغص عليه بزواله ؛ فلو كان آخره بالزوال كان نعمة منغصة على أهلها ؛ فلما نزه عن العيوب كلها ـ وهذا أعظم العيوب ـ لذلك كان التخليد لأهلها أولى بها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٢٩)

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

كأن هذا ـ والله أعلم ـ يخرج جوابا على أثر قول قاله الكفرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على ما ذكره بعض أهل التأويل ـ فقالوا (١) : ما يستحى ربك أن يذكر البعوض والذباب ونحوها مما يصغر فى نفسه ، وملوك الأرض لا يذكرون ذلك ، ويستحيون؟

فقال عزوجل جوابا لقولهم : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ...) الآية.

لأن ملوك الأرض إنما ينظرون إلى هذه الأشياء بالاستحقار لها ، والاستذلال ؛ فيستحيون ذكرها على الإنكاف ، والأنفة.

والله ـ عزوجل ـ لا يستحيى عن ذلك ؛ لأن الأعجوبة فى الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته فى خلق الصغير من الجثة والجسم ، أكبر من الكبار منها والعظام ؛ لأن

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٥٥٧ ، ٥٥٨) عن قتادة بنحوه ، وانظر الدر المنثور (١ / ٨٨).

الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوض والذباب ، وتركيب ما يحتاج إليه من الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ـ ما قدروا ، ولعلهم يقدرون على ذلك فى العظام من الأجسام والكبار منها.

فأولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة ، ولكن نظروا للحقارة ، والخساسة أنفا منهم وإنكافا.

ثم اختلف أهل الكلام فى إضافة الحياء إلى الله تعالى :

فقال قوم : يجوز ذلك بما روى فى الخبر : «أن الله يستحيى أن يعذب من شاب فى الإسلام» (١) ولأنه يجوز كالتكبر ، والاستهزاء ، والمخادعة ، وقد ذكرنا الوجه فيما تقدم.

وقال آخرون : لا يجوز إضافته إلى الله تعالى ؛ لأن تحته الإنكاف والأنفة ، وذلك عن الله تعالى منفىّ ، ولكن الحياء هو الرضاء هاهنا ، والحياء الترك ؛ أى : لا يترك ولا يدع.

وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).

أى : علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار الأجسام والجثة حق ؛ لما نظروا إلى ما فيها من الأعجوبة والحكمة واللطافة.

وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).

لم ينظروا فيها لما فيها من الأعجوبة والحكمة ، ولكن نظروا للخساسة والحقارة.

وقوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً).

الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه جواب قولهم : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فقال : أراد أن يضل بهذا المثل كثيرا ، وأراد أن يهدى به كثيرا ، أضل به من علم منه أنه يختار الضلالة ، ويهدى به من علم أنه يختار الهدى ، أراد من كل ما علم منه أنه يختار ويؤثر ، والله أعلم.

وهم يقولون : بل أراد أن يهدى به الكلّ ، ولكنهم لم يهتدوا.

والثانى : يضلّ به كثيرا ؛ أى : خلق فعل الضلالة من الضال ، وخلق فعل الاهتداء من المهتدى. وقد ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

__________________

(١) ذكره العجلونى فى كشف الخفاء (١ / ٢٨٤) بلفظ :

«إن الله يستحيى أن يعذب شيبة شابت فى الإسلام».

وقال : هكذا ذكره الغزالى فى الدرة الفاخرة ، ورواه السيوطى فى الجامع الكبير عن ابن النجار بسند ضعيف بلفظين آخرين ... فذكرهما.

أى : ما يضل بهذا المثل إلا الفاسق الذى لا ينظر إلى ما فيها من الأعجوبة واللطافة فى الدلالة.

وقوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

عهد الله يكون على وجهين :

عهد خلقة ؛ لما يشهد خلقه كلّ أحد على وحدانية الرب ؛ كقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

وكقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ...) الآية [الروم : ٨]. إنه إن نظر فى نفسه وتأمل عرف أن له صانعا وأنه واحد لا شريك له.

وعهد رسالة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ؛ كقوله : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ...) الآية [المائدة : ١٢].

وكقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) الآية [آل عمران : ١٨٧].

فنقضوا العهدين جميعا ؛ عهد الخلقة ، وعهد الرسالة.

وقوله : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

يحتمل وجهين :

يقطعون الإيمان ببعض الرسل وقد أمروا بالوصل ؛ كقوله : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠].

وقيل : يقطعون ما أمر الله أن يوصل من صلة الأرحام (١).

وقوله : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ).

قيل فيه بوجهين :

يفسدون بما يأمرون فى الأرض بالفساد ؛ كقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة : ٦٧].

وقيل : يفسدون ، أى : يتعاطون بأنفسهم فى الأرض بالفساد ؛ كقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٣٣ ، ٦٣].

وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

يحتمل أيضا وجهين :

خسروا لما فات عنهم ، وذهب من المنى والأمانى فى الدنيا.

وروى عن الحسن أنه قال فى قوله : (هُمُ الْخاسِرُونَ) : أى : قذفوا أنفسهم ـ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن قتادة بنحوه (٥٧٤) ، وزاد السيوطى فى الدر (١ / ٨٩) عبد بن حميد.

باختيارهم الكفر ـ بين أطباق النار ؛ فذلك هو الخسران المبين.

وقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).

يحتمل وجوها :

«كيف» : من أين ظهرت لكم الحجة أن تعبدوا من دون الله من الأصنام وغيرها أنه حق ، ولم يظهر لكم منها الإنشاء بعد الموت ، ولا الإماتة بعد الإحياء؟

وقيل (١) : كيف تكفرون بالبعث بعد الموت (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) يعنى نطفا (فَأَحْياكُمْ) ، وأنتم لا تنكرون إنشاء الأول فكيف تنكرون البعث والإحياء بعد الموت؟

وقيل : كيف تكفرون بالإحياء والبعث بعد الموت ، وفى العقل أن خلق الخلق للإفناء والإماتة من غير قصد العاقبة عبث ولعب ؛ لأن كل بان بنى للنقض فهو عابث ، وكذلك كل ساع فيما لا عاقبة له فهو عابث هازل ، فكيف تجعلون فعله عزوجل ؛ إذ لو لم يجعل للخلق دارا للجزاء ، والعقاب كان فى خلقه إياهم عابثا هازلا خارجا من الحكمة؟! تعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

أى : تعلمون أنكم ترجعون إليه ، وكذلك المصير والمآب.

والثانى : ترجعون إلى ما أعدّ لكم من العذاب. احتج عليهم بما أخبرهم الله أنه أنشأهم بعد الموتة الأولى ، وأنه يبعثهم بعد الموتة الأخرى (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كأنه يقول : ثم اعلموا أنكم إليه ترجعون.

قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

قيل : إنه صلة قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) أى : كيف تكفرون بالذى خلق لكم ما فى الأرض ما يدلكم على وحدانيته ؛ لأنه ليس شىء من الأرض إلا وفيه دلالة وحدانيته.

ويحتمل : كيف تكفرون بالذى خلق لكم ما فى الأرض نعيما من غير أن كان وجب لكم عليه حق من ذلك لتشكروا له عليها ، فكيف وجّهتم أنتم الشكر فيها إلى غيره؟

ويحتمل (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) : محنة يمتحنكم بها فى الدنيا ؛ كقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ثم لتجزون فى دار أخرى فكيف أنكرتم البعث؟!

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ٥٩).

وفى بيان حكمة خلق الخلق فى الدنيا للفناء ، والإحياء للآخرة ـ حكمة ، وفى إنكارها ذهاب الحكمة.

وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : استوى إلى الدخان ؛ كقوله : (اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١].

وقيل (١) : استوى : تمّ ؛ كقوله : (بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [الأحقاف : ١٥] أى : تمّ.

وقيل (٢) : استوى : أى : استولى.

والأصل عندنا فى قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [فصلت : ١١] و (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] ، وغيرها من الآيات من قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ ...) الآية [الفجر : ٢٢] ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ ...) الآية [البقرة : ٢١٠] من الآيات التى ظنت المشبّهة (٣) أن فيها تحقيق وصف الله تعالى بما يستحق كثير من الخلق الوصف به على

__________________

(١) قاله ابن جرير وأخرجه عن مجاهد بنحوه (٢٧٢٤٢ ، ٢٧٢٤٣ ، ٢٧٢٤٤).

(٢) يأتى فى تفسير سورة طه.

(٣) المشبهة : على صيغة اسم الفاعل من التشبيه ، وهو يطلق على فرقة من كبار الفرق الإسلامية ، شبهوا الله بالمخلوقات ومثلوه بالحادثات ، ولأجل ذلك جعلناهم فرقة واحدة قائلة بالتشبيه وإن اختلفوا فى طرقه :

فمنهم مشبهة غلاة الشيعة كالسبئية والبيانية والمغيرية والهشامية ، وغيرهم القائلين بالتجسيم والحركة والانتقال والحلول فى الأجسام ونحو ذلك.

ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس المشبهة ، والهجيمى ، فقالوا : هو جسم لا كالأجسام ، وهو مركب من لحم ودم لا كاللحوم والدماء ، وله الأعضاء والجوارح ، وتجوز عليه الملامسة والمصافحة والمعانقة للمخلصين ، حتى نقل عن أحدهم أنه قال : «أعفونى عن اللحية والفرج وسلونى عما وراءه».

ومنهم مشبهة الكرامية ، وقيل فيه : الفقه فقه أبى حنيفة وحده ، والدين دين محمد بن كرام.

وأقوالهم فى التشبيه متعددة لا تنتهى ، فاقتصرنا على ما قاله زعيمهم ، وهو أن الله على العرش من جهة العلو مماس له من الصفحة العليا ، ويجوز عليه الحركة والنزول ، واختلفوا أيملأ العرش ، أم لا يملؤه بل يكون على بعضه ، وقال بعضهم : ليس هو على العرش بل محاذ له ، واختلفوا : أببعد متناه أو غيره.

ومنهم من أطلق عليه لفظ الجسم ، ثم اختلفوا هل هو متناه من الجهات كلها أو من جهة التحت أو غير متناه فى جميع الجهات ، وقالوا : تحل الحوادث فى ذاته إنما يقدر عليها دون الخارجة عن ذاته ، ويجب على الله أن يكون أول خلقه حيا يصح منه الاستدلال.

وقالوا : النبوة والرسالة صفتان قائمتان بذات الرسول سوى الوحى والمعجزة والعصمة وصاحب تلك الصفة رسول من غير إرسال ولا يجوز إرسال غيره ، وهو حينئذ ، أى حين إذ أرسل ، مرسل ، وكل مرسل رسول بلا عكس كلى ، ويجوز عزل المرسل دون الرسول وليس من الحكمة الاقتصار على إرسال رسول واحد ، وجوزوا إمامين فى عصر كعلى ومعاوية إلا أن إمامة على على وفق السنة ـ

التشابه.

فى الحقيقة إنها تحتمل وجوها :

أحدها : أن نصفه بالذى جاء به التنزيل على ما جاء ، ونعلم أنه لا يشبه على ما ذكر من الفعل فيه بغيره ؛ لأنك بالجملة تعتقد أن الله ليس كمثله شىء ، وأنه لا يجوز أن يكون له مثل فى شىء ؛ إذ لا يوجد حدثه فيه ، أو قدم ذلك الشىء من الوجه الذى أشبه الله.

وذلك مدفوع بالعقل والسمع جميعا ، مع ما لم يجز أن يقدر الصانع عند الوصف بالفعل كغيره ، وأنه حى ، قدير ، سميع ، بصير ، نفى ما عليه أمر الخلق لما يصير بذلك أحد الخلائق.

وإذا بطل هذا بطل التشابه وانتفى ، ولزم أمر السمع والتنزيل على ما أراد الله. وبالله التوفيق.

والثانى : أن يمكن فيه معان تخرج الكلام مخرج الاختصار والاكتفاء بمواضع إفهام فى تلك المواضع على إتمام البيان ، وذلك نحو قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) [الفجر : ٢٢] أى : بالملك. وذلك كقوله : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ ...) [المائدة : ٢٤] أى : بربك (فَقاتِلا) ؛ إذ معلوم أنّه يقاتل بربه ؛ ففهم منه ذلك.

وكذلك معلوم أن الملائكة يأتون ، فكأنه بين ذلك.

يدل عليه قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ، وكذلك (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ ...) الآية [البقرة : ٢١٠].

ومما يوضح أنه لم يكن أحد اعتقد أو تصوّر فى وهمه النظر لإتيان الربّ ومجيئه ، ولا كان بنزوله وعد بنظر. وكان بنزول الملائكة ؛ كقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى ...) الآية [الفرقان : ٢٢] ، وقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨]. فيما ذكرنا عظيم أمرهم ، وجليل شأنهم ، ومثله فى قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] مع ما له وجهان :

أحدهما : أن يكون معنى العرش الملك والاستواء التام الذى لا يوصف بنقصان فى ملك ، أو الاستيلاء عليه ، وألا سلطان لغيره ، ولا تدبير لأحد فيه.

والثانى : أن يكون العرش أعلى الخلق وأرفعه.

__________________

ـ بخلاف إمامة معاوية لكن يجب طاعته ، وقالوا الإيمان قول الذرية فى الأزل (بلى) وهو باق فى الكل على السوية إلا المرتدين ، وإيمان المنافق كإيمان الأنبياء كذا فى شرح المواقف.

ينظر : كشاف اصطلاحات الفنون (٤ / ١٩٤ ، ١٩٥) ، وشرح المواقف (٤٩١ ، ٤٩٢).

وكذلك تقدره الأوهام ؛ فيكون موصوفا بعلوه على التعالى عن الأمكنة ، وأنه على ما كان قبل كون الأمكنة ، وهو فوق كل شىء ؛ أى بالغلبة ، والقدرة ، والجلال عن الأمكنة ، ولا قوة إلا بالله.

وأصله ما ذكرنا : ألا نقدّر فعله بفعل الخلق ، ولا وصفه بوصف الخلق ؛ لأنه أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

وقوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

مرة قال : (فَسَوَّاهُنَ) [الطلاق : ١٢] ، ومرة قال : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) [الملك : ٣] ، ومرة قال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...) الآية [فصلت : ١٢] ، ومرة قال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧]. وكله يرجع إلى واحد.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٣٩)

وقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ).

قال الشيخ ـ رضى الله عنه ـ : القول فيما يتوجه إليه مما تضمن قصة آدم عليه‌السلام من سورة البقرة ، والكشف عما قال فيها أهل التفسير من غير شهادة لأحد منا لإصابة جميع ما فيه من الحكمة أو القطع على تحقيق شىء ، ووجهوا إليه بالإحاطة.

ولكن الغالب مما يحتمله تدبير البشر ، ويبلغه مبلغ علمنا مما يجوز أن يوصف به أهل المحنة ، وإن كان تنزيه الملائكة عن كل معنى فيه وحشة أولى بما وصفهم الله من الطاعة

بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

وقوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) إلى قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) الآية [الأنبياء : ٢٧].

وقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ...) الآية [النحل : ٥٠].

وقوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩].

وما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وصف طاعتهم لله ، ومواظبتهم على العبادة.

وما لا يذكر عن أحد من الرسل وصف ملك بالمعصية ، بل إنما ذلك يذكر عن بعض السلف مما لا لوم فى مخالفته فى فروع الدين ، فضلا من أن يبسط اللسان فى ملائكة الله سبحانه ، وبالله المعونة والعصمة.

قال الله تعالى لملائكته : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ...) الآية.

زعم قوم أن هذا زلة منهم ، لم يكن ينبغى لهم أن يقابلوا قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بهذا ؛ لما يخرج مخرج الاستعتاب بقولهم : أتفعل ونحن نفعل كذا؟! كالمنكرين لفعله.

وأيدوا ذلك بقوله عزوجل : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أنه لو لا كان فى ذلك طرف من الجهل يحذر عن مثله قائله ، لم يتبع قولهم هذا ، ومعلوم عندهم أن يكون هو يعلم ما لا يعلمون.

وأيد ذلك بما امتحنهم بالإنباء عن أسماء الأشياء ، مقرونا بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولو لا أنه سبق منهم ما استحقوا عليه التوعد لم يكن لذلك الشرط عند القول : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) فائدة مع ما يوضع موضع التوبيخ والتهدد.

ومنهم من قال : إن قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) قول إبليس ، هو الذى تعرض بهذا القول ، وإن كان الكلام مذكورا باسم الجماعة ؛ لأنه جائز خطاب الواحد على إرادة الجماعة ، وذكر الجماعة على إرادة الواحد ، وإن كان خطاب الله تعالى لجملة ملائكته حيث قال : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ...) الآية.

قوله : (أَنْبِئُونِي) بكذا ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون ذلك ، ولا يحتمل أن يأمرهم بذلك وهم لا يعلمون. ولو تكلفوا الإخبار للحقهم الكذب فى ذلك.

ثبت أن ذلك على التوبيخ والتهدد لما فرط منهم.

ويكشف عن ذلك أيضا عند اعترافهم بأن لا علم لهم إلا ما علمهم الله (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [البقرة : ٣٣] ، ولو لم يكن منهم ما استحقوا به التأديب والتنبيه عن غفلة سبقت منهم ، لم يكن لذلك كثير معنى ؛ إذ لا يخفى على الله عزوجل علم ما ذكر من الكفرة الأشقياء ، فضلا عن الكرام البررة.

ولكن قد يعاتب الأخيار عند الهفوة ، والزلة بما يحل من خوف التنبيه والتوبيخ :

نحو قوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١].

وقوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ ...) الآية [الإسراء : ٧٥].

ولملائكته : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) [الأنبياء : ٢٩].

واستجازوا إمكان العصيان عند المحنة.

ودليل المحنة ما بينا من الفعل بالأمن والخوف المذكورين ، وما مدحوا بعبادتهم لله تعالى ، وما أوعدوا لو ادّعوا الألوهية ؛ ولما لم يحتمل أن يحمدوا على العبادة والطاعة فيما كان فعلهم على الخير والشر ، ولا تعظم المحنة فيما لا يمكن المعصية ، ولا تحتملها البنية ؛ إذ الطاعة هى فى اتقاء المعصية.

وقال أيضا : (لا يَعْصُونَ اللهَ) [التحريم : ٦] ، ولا يقال مثله لمن لا يحتمل فعل المعصية.

فثبت أن المعاصى منهم ممكنة ؛ ولذلك خطر طاعاتهم ، وعظم قدر عباداتهم ، والممتحن مخوف منه الزّلة والهفوة ، بل المعصية ، وكل بلاء إلا أن يعصمه الله تعالى ويحفظه ، وذلك من الله إفضال وإحسان لا يستحقّ قبله ، ولا يلزمه أحد من خلقه.

فجائز الابتلاء به مع ما فى زلة أمثالهم من ترك الرجاء بالخلق ، وقطع الإياس ، والحث على الفراغ إلى الله تعالى بالعصمة والمعونة ؛ إذ لم يقم لطاعته أحد وإن جل قدره عند ما وكل إلى نفسه مما يعلم الله أنه يختار فى شىء الخلاف ، لا أنه يفزع إليه وينزع (١) إليه.

وعلى ذلك معنى زلات الرسل عليهم الصلاة والسلام.

وزعم قوم أن ذلك ليس منهم بالزّلة ، بل الله تعالى عصمهم عنها ، ولكن قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) يخرج على وجهين :

أحدهما : على السؤال بعد أن أعلمهم الله أنهم يفعلون ؛ فقالوا : كيف يفعلون ذلك ، وقد خلقتهم ورزقتهم وأكرمتهم بأنواع النعم ، ونحن إذ خلقتنا نسبّحك بذلك ، ونقدس

__________________

(١) فى أ : ويتضرع.

لك؟!

أو كيف تحتمل عقولهم عصيانا ـ مع عظم نعمتك عليهم ـ ونحن معاشر الملائكة تأبى علينا العقول ذلك؟!

فقال الله عزوجل : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

أى : أمتحنهم مع ما ركب فيهم من الشهوات التى ـ لغلبتها على أنفسهم ـ تعتريهم (١) أنواع الغفلة ، ويصعب عليهم التيقظ ؛ لكثرة الأعداء لهم ، وغلبة الشهوات ؛ فلما عظمت المحنة عليهم يكون منهم ذلك.

وهذا الوجه يخرج على سؤال الحكمة فى خلق من يعصيه.

فأخبر أنه يعلم ما لا تعلمون ؛ إذ بذلك بيان الأولياء والأعداء ، وبيان أن الله لا يخلق من يخلق لحاجته له ، أو لمنفعة له ؛ إذ لو كان كذلك لم يخلق من يخالفه فى الفعل الذى أمر به.

وإنما خلق الخلق بعضهم لبعض عبرا وعظة ؛ فيكون فى عقوبة العصاة ووعيدهم مزجر لغيرهم وموعظة ، ولغير ذلك من الوجوه.

والوجه الآخر : أن يكون المعنى من قوله : (أَتَجْعَلُ فِيها) على الإيجاب ، أى : أنت تفعل ذلك ؛ إذ ليس عليك فى خلق من يعصيك ضرر ، ولا لك فى خلق من يطيعك نفع ، جل ثناؤك ، من أن يكون فعلك لأحد هذين.

وذلك كقوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ ...) الآية [النور : ٥٠] على إيجاب ذلك ، لا على الاستفهام.

مع ما يحتمل أن الألف زائدة ؛ كقوله : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) [القصص : ١٩] ، وقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] بمعنى : إنكم وتريد (٢) ، وذلك يرجع إلى الأول.

وقال : ومعنى قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) : أن الله قد كان أخبرهم عن الذين يفسدون ، ولم يكن أعلمهم ما فيهم من الرسل والأخيار ، فهو يعلم ما لا تعلمون من الأخيار فيهم ؛ ولذلك ذكّرهم عند سؤال الإنباء بما أعلمهم من عظيم امتنانه على آدم أن جعله بمعنى نبي إلى الملائكة بما علمهم الأسماء.

ولم يكن بلغ توهمهم أن فى البشر ما يحتاج المخلوقون من النور ـ الذى هو سبب

__________________

(١) فى أ : تغيرهم.

(٢) فى أ : تريدون.

رفع الأستار عن الأشياء ، وجلاء الأشياء به ـ ثم يحتاجون فى اقتباس العلم إلى من هو من جوهر التراب والماء الذى هو أصل الستر والظلمة.

فأراهم الله بذلك ليعلموا أن ليس طريق المعرفة ، والعلم بالأشياء الخلقة ، ولكن لطف الله وامتنانه ، ولا قوة إلا بالله.

وقال قوم : كان منهم من استحق العتاب من طريق الخطر بالقلوب ، لا من طريق الزّلة ـ التى هى العصيان ـ ولكنهم يعاتبون على أمثال ذلك ـ وإن لم تبلغ بهم المعصية ـ لعلوّ شأنهم ، ولعظم قدرهم.

كما قد عاتب الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أشياء وإن لم يكن ذلك منه معصية ؛ كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ ...) الآية [التوبة : ٤٣].

وقوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ١٠٧].

وقوله : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ...) الآية [الأحزاب : ٣٧]. ولم يكن إثم فى ذلك ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) الآية [أول سورة التحريم] ؛ [لأنه](١) من غير أن كان منه عصيان ؛ فمثل ذلك أمر الملائكة.

ثم تكلموا فى معنى ذلك :

فمنهم من يقول : ظنوا أنهم أكرم الخلق على الله ، وأنه لا يفضّل أحدا عليهم.

ومنهم من يقول : ظنوا أنهم أعلم من جميع من يخلق من جوهر النار أو التراب ؛ من حيث ذكرت من جوهرهم ، أو لعظم عبادتهم لله ، وعلمهم بأن فى الجن والإنس عصاة ؛ فلهذا امتحنهم بالعلم ، ثم بالسجود ؛ لإظهار علو البشر وشرفه ، وعظم ما أكرموا به من العلم.

ومنهم من [يقول : ظنوا أنهم فضلوا بفعلهم :](٢)(نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).

وقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

قال قوم (٣) : يريد به آدم عليه‌السلام ، يخلف الملائكة فى الأرض ومن تقدمه من الجان.

وذلك بعيد ؛ كأنهم قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) ولم يكن آدم ـ عليه‌السلام ـ بالذى كان يفسد فى الأرض ، ويسفك الدماء ، بل كان يسبح بحمده ويقدس له.

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى ط : قالوا : بقوله.

(٣) انظر : تفسير البغوى (١ / ٦٠).

ولكن يحتمل : أن يريد آدم وولده (١) ـ إلى يوم القيامة ـ أن يجعل بعضهم خلفاء لبعض ؛ كقوله : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢] ، أو يجعلهم خلفاء من ذكروا ، إن صح الذى قالوا.

وجائز أن يكونوا على وجه الأرض ، إذ هى مخلوقة لهم قرارا ومهادا ومعادا ، وهم جعلوا سكانها وعمّارها ـ أن يكونوا خلفاء ، فى إظهار أحكام الله تعالى ودينه ، كقوله لداود عليه‌السلام : (إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) [ص : ٢٦] فجعله كذلك ليحكم بين أهلها بحكم الله ولا يتبع الهوى ، وبذلك أمر بنو آدم.

وقوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

قيل : بأمرك.

وقيل : بمعرفتك.

وقيل (٢) : بالثناء عليك ؛ إذ كانوا أضافوا ذلك إلى أنفسهم دون أن يذكروا عظيم منّة الله عليهم بذلك ، واختصاصه إياهم بالتوفيق له ؛ إذ كيف ذكروا من نعوت البشر شرّ ما فيهم ، دون أن يحمدوا الله ـ بما وفقوا له ـ أو يدعوا للبشر بالعصمة والمغفرة مما ابتلوا.

ولذلك ـ والله أعلم ـ صرفوا شغلهم من بعد إلى الاستغفار لمن فى الأرض ، ونصر أولياء الله ، ولا قوة إلا بالله.

ومن الناس من أخبر فى ذلك : أن إبليس سألهم : لو فضّل آدم عليهم ، وأمروا بالطاعة له ما يصنعون؟

فأظهر الله عزوجل أنه علم ما كتم إبليس من العصيان ، وما أظهروا هم من الطاعة.

وهذا شىء لا يعلم حقيقته ؛ لأن المعاتبة كانت فى جملة الملائكة ، والمخاطبة بالإنباء ، وما ألحق به وأمر بالسجود وكان فى غيره.

ولم يحتمل أن يكونوا يؤاخذون بسؤال إبليس اللعين.

ولكن يحتمل وجوه العتاب الإخبار فيما لم يبلغوا العصيان ، والله الموفق.

وقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ).

يحتمل : أن يكون علم لهم.

ويحتمل : أن يكون علّم بإرسال ملك من غير الذين امتحنوا به. وفى ذلك تثبيت أحد وجهين :

__________________

(١) قاله ابن سابط ، أخرجه ابن جرير عنه (٦٠٣).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ٦١).

إما أن يكون العلم بالأشياء حقيقة ضرورة ، يقع عند النظر فى الأسباب التى هى أدلة وقوعه عند التأمل فيها ؛ نحو وقوع الدّرك بالبصر عند النّظر وفتح العين.

وإما أن يكون الله تعالى خلق فعل التعلم الذى يعلم المرء فيما يضاف فيه إلى الله تعالى أنه علم.

وكذا قوله : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٤].

وكذا قوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] ، ولا يحتمل هذه الأسباب لما كانت له كلها ، ولم يكن تعلّم حقيقة ليؤذنه.

وكذلك قول الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] ، والله الموفق.

وقوله : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ).

ظاهره أمر ، ولكنه يحتمل التوعد والمعاتبة على ما بينا ، وذلك فى القرآن كثير.

وإن كان فى الحقيقة أمرا ، ففيه دلالة جواز الأمر فيما لا يعلمه المأمور إذا كان بحيث يحتمل العلم به إلى ذى العلم تبين له إذا طلب واستوجب رتبة التعلم والبحث.

ويحتمل : أن يكونوا نبّهوا حتى لا يسبق إليهم ـ عند إعلام آدم ـ أن ذلك من حيث يدركونه لو تكلفوا.

أو أراد أن يريهم آية عجيبة تدل على نبوته ، ذكّرهم عجزهم عن ذلك ، وألزمهم الخضوع لآدم عليه‌السلام فى إفادة ذلك العلم له ، كما قال عزوجل : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [طه : ١٧] ذكره أولا حاله وحال عصاه ، ليعلم ما أراه ما فى يده من آية نبوته على نبينا وعليه‌السلام.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى المعانى التى ذكروا ؛ إذ كنتم مذ خلقتم موصوفين بالصدق.

أو على تحذير القول بلا علم وكأنه قال : واصدقوا ، واحذروا القول بالجهل. وفى ذلك أنهم لم يتكلفوا بالقول فى شىء لم يعلمهم الله تعالى.

قال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان : هذا يبطل قول المنجمة والعافة (١) بدعواهم على

__________________

(١) فى أ : القافة.

الغيب بلا تعليم ادّعوه من الله تعالى.

وفى قصة آدم عليه‌السلام دلالة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ أخبر نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما علم بما فى غير القرآن من الكتب السماوية من غير أن عرف بالاختلاف إليهم ، أو معرفة الألسن التى بها ذكرت فى كتبهم. ذكرها على ما لم يدّع أحد ـ له العلم بها ـ النكير عليه ؛ ليعلم أنه بالله علم ذلك.

وفيها دلالة فضل آدم عليه‌السلام أبى البشر ؛ إذ أحوج ملائكته إليه لاقتباس أصل الأشياء ، وهو العلم الذى كل خير له كالتابع ، وبه يصلح وينفع ، ولا قوة إلا بالله.

وفيها دلالة محنة الملائكة بوجهين :

أحدهما : تعلّمهم العلم الذى هو أحق شىء يحتمل الخير ؛ إذ قد يلهم المرء ربما من غير تكلف ، وهم قد أمروا به مع ما قدم ما يخرج مخرج التهدّد فى القول من قوله : (أَنْبِئُونِي) وذلك ـ فيما لا محنة ـ فاسد مع ما سبق من دليل المحنة.

والثانى : فيما أمرهم بالسجود لآدم عليه‌السلام حتى صيّر من أبى كافرا إبليسا.

وفى ذلك أيضا دليل فضل آدم عليه‌السلام ؛ إذ جعل موضع عبادة خيار خلق الله معه ، وبالله التوفيق.

وفى ذلك أن السجود ليس بنفسه عبادة ؛ إذ قد يجوز السجود لأحد من الخلق كما أمر به لآدم عليه‌السلام : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] ولم يجز الأمر بالعبادة لآدم ، ولله اسم المعبود ، ولو جاز لأحد ذلك لكان غير الله إله.

دليل ذلك تسمية العرب كلّ شىء يعبدونه إلها ، ولا قوة إلا بالله.

ثم السجود يحتمل وجهين :

[الوجه الأول] : الخضوع كما قال الله تعالى : (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) الآية [الحج : ١٨].

وقوله : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] ، فإن كان المراد منه الخضوع له والتعظيم ، [فكذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى إذ فضله عليهم بما أطلعه على علوم خصه بها أمره بالخضوع والتعظيم](١) ، فذلك الحق على كل محتاج إلى آخر ما به رجاء النجاة ، أو درك العلو والكرامة أن يعظمه ويبجّله ، ويخضع له.

والثانى : امتحنهم بوجه يظهر قدر الطاعة ؛ لأن الخضوع لمن يعلو أمره ويجلّ قدره ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

أمر سهل ، عليه طبع الخلق ، فإذا كان فى تقدير المأمور بالخضوع أنه دونه فى الرتبة ، أو شكله ، أو لم يكن بينهم كثير تفاوت اشتدّت المحنة فى مثله بالطاعة له والخضوع.

فامتحنهم الله به حتى ظهر الخاضع لله ، والمستسلم لحقه ، والمتكبر فى نفسه ، وهو إبليس.

وعلى ذلك الغالب من أتباع الأنبياء عليهم‌السلام والذين يأبون ذلك ، أن الذى يحملهم على الإباء عظمهم فى أنفسهم ، وظنّهم أنهم أحقّ بأن يكونوا متبوعين ، والله أعلم.

والوجه الثانى : أن يكون المراد من ذكر السجود حقيقة السجود فهو يخرّج على وجهين :

أحدهما : أن يجعل السجود تحية ؛ ألزم الملائكة تحية آدم به ، وهو ابتداء ما أكرم به أصل الإنس ، وإليه مرجع جملة المؤمنين فى الجنة أن يأتيهم الملائكة بالتحيات والتحف ، وإن اختلفت أنفس التحيات.

وفى ذلك دليل بيّن : أنّ السجود ليس بعبادة فى نفسه ؛ إذ قد يؤمر به للبشر ، ولا يجوز الأمر بعبادة غير الله ؛ فيكون السجود لغيره من حيث الفعل ، والعبادة به لله كغيره من المعروف ، يصنع إلى الخلق.

ومثله أمر سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليه‌السلام ، والله أعلم.

والثانى : أن يكون السجود له بمعنى التوجه إليه ، وهى الحقيقة لله تعالى ، نحو السجود إلى الكعبة لله تعالى تعظيما له ، وتبجيلا لكعبته ، وتخصيصا من بين البقاع.

كذلك أمر السجود لآدم عليه‌السلام ، تعظيما له وتبجيلا من بين سائر البشر ، كلاهما سيّان.

ثم قد ثبت نسخ السجود للخلق بما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو كان يحل لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (١).

ولما جعل السجود فى العبادة عبادة للمسجود له ، واعترافا بعرف الأشرار بعبادة عظمائهم ، ومن يعبدونه من دون الله ؛ فيصير ذلك المعنى هو السابق فى القلوب ، وذلك

__________________

(١) أخرجه الترمذى (٢ / ٤٥٣) كتاب الرضاع ، باب ما جاء فى حق الزوج (١١٥٩) وابن حبان (٤١٦٢) ، والحاكم (٤ / ١٧١ ـ ١٧٢) ، والبيهقى (٧ / ٢٩١) عن أبى هريرة بلفظ «ما ينبغى لأحد أن يسجد لأحد ، ولو كان أحد ينبغى أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما عظم الله عليها من حقه» واللفظ لابن حبان.

مما لا يحتمل لأحد دون الله ؛ فنهى عنه لذلك ـ وإن لم يكن بنفسه عبادة للمسجود له فى الحقيقة ـ كما نهى عن أشياء بما يتصل بها من الوحشة ، وإن لم يكن ذلك فى الحقيقة محتملا له ، فكذلك الأمر الأول ، كما نهى عن سبّ من يعبد من دون الله خوفا لسبّ الله ، ويؤمر بأمور ليست ـ بنفسها ـ بقربة ليتوصل بها إلى القربة ، كالسعى إلى الحج والجمعة ، ونحو ذلك.

وفيه أن السّنّة تنسخ الكتاب ؛ لأن السجود لآدم عليه‌السلام فى الكتاب ، ومثله السجود ليوسف ، ثم نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فحرم ؛ فدل أن السنة تنسخ الكتاب.

وقول الملائكة : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

يشبه أن يكون السابق إلى وهمهم منى ، أو خطر فعل ما كان بالله خرج من أن يعقلوا حكمته ؛ إمّا بما لم يبلغهم العلم بها ، أو يخطر ببالهم أنه تعالى كيف يأمرهم ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون بها ، أو خطر ببالهم من غير تحقيق ذلك ، ولكن على ما يبلى به الأخيار ؛ كقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ...) الآية [الحج : ٥٢].

أو كما لا يخلو به الممتحن عن الخواطر التى تبلغ المحنة بهم المجاهدة بها فى دفعها ، وإن لم يكن لهم بما يخطر ببالهم صنع.

فقالوا : (سُبْحانَكَ) ؛ نزّهوا عمّا خطر ببالهم ، وسبق إلى وهمهم.

ووصفوا بأنه (عليم) : لا يخفى عليه شىء.

(حكيم) : لا يخطئ فى شىء ، ولا يخرج فعله عن الحكمة ، وبالله التوفيق والعصمة.

وفى الآية منع التكلم فى الشىء إلا بعد العلم به ، والفزع به إلى الله عن القول به إلا بعلم ، وهذا هو الحق الذى يلزم كلّ من عرف الله.

وبه أمر الله تعالى نبيّه عليه الصلاة والسلام فقال : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...) الآية [الإسراء : ٣٦].

وسئل أبو حنيفة (١) ـ رضى الله عنه ـ عن الإرجاء ما بدؤه؟ فقال : فعل الملائكة إذا

__________________

(١) أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بن ماه ، الإمام الفقيه الكوفى مولى تيم الله بن ثعلبة وهو من رهط حمزة الزيات ، كان خزازا يبيع الخز أصله من أهل كابل وقيل بابل وقيل من أهل الأنبار وقيل من نسا وقيل من ثرمد ولد أبوه على الإسلام وأدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة وهم : أنس بن مالك وعبد الله بن أبى وسهل بن سعد وأبو الطفيل عامر ، ولد أبو حنيفة سنة ثمانين وقيل سنة إحدى وثمانين من الهجرة والأول أصح ، وحدث عن عطاء ونافع وعبد الرحمن بن هرمز وعدى بن ـ

سئلوا عن أمر لم يعلموا فوضوا ذلك إلى الله تعالى.

ومعنى الإرجاء نوعان :

أحدهما : محمود ؛ وهو إرجاء صاحب الكبائر ، ليحكم الله تعالى فيهم بما يشاء ، ولا ينزلهم نارا ولا جنة ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].

والإرجاء المذموم هو الجبر ، أن ترجأ الأفعال إلى الله تعالى ، لا يجعل للعبد فيه فعلا ، ولا تدبير شىء من ذلك.

وعلى ذلك المروىّ ، حيث قال : «صنفان من أمتى لا ينالهم شفاعتى ؛ القدرية والمرجئة» (١).

والقدرية (٢) : هى التى لم تر لله ـ فى فعل الخلق ـ تدبيرا ، ولا له عليه قدرة التقدير.

والمرجئة (٣) : هى التى لم تر للعبد فيما ينسب إليه من الطاعة والمعصية فعلا البتة ؛ فأبطلت الشفاعة لهما ، وجعلت للمذهب الأوسط بينهما ، وهو الذى يحقق للعبد فعلا ، ولله تقديرا ، ومن العبد تحركا بخير أو شر ، ومن الله خلقه.

وذلك على المعقول مما عليه طريق العدل والحق بين التفريط والتقصير.

__________________

ـ ثابت وتفقه به زفر والقاضى أبو يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم ، وحدث عنه وكيع ويزيد بن هارون وسعد بن الصلت وتوفى سنة خمسين ومائة وقيل سنة ثلاث وخمسين ومائة والأول أصح ، ينظر : طبقات الفقهاء للشيرازى (ص ٦٧) ، غاية النهاية (٢ / ٣٤٢) ، تاريخ بغداد (١٣ / ٣٢٣) ، تاريخ الخميس (٢ / ٣٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (١٠ / ١٠٧) ، تذكرة الحفاظ (١ / ١٥١) ، النجوم الزاهرة (٢ / ١٢) ، تاريخ الأدب العربى (٣ / ٢٣٥) ، وفيات الأعيان (٥ / ٤٨).

(١) أخرجه عبد بن حميد (٥٧٩) والترمذى (٤ / ٢٥) كتاب الولاء والهبة ، باب ما جاء فى القدرية (٢١٤٩) وابن ماجه (١ / ٨٦) فى المقدمة (٦٢). وابن أبى عاصم (٩٤٦) عن ابن عباس ، ولفظه : «صنفان من أمتى لا تنالهما شفاعتى : المرجئة والقدرية».

(٢) هم المغالون فى إثبات القدرة للإنسان وأنه لا يحتاج إلى معونة إلهية فى أعماله ، وهذا مذهب قريب من مذهب المعتزلة كما لا يخفى ، وزعيم هذا المذهب النظام من شيوخ المعتزلة ، وأول من قال بالقدر بهذا المعنى معبد الجهنى وكان يجالس الحسن البصرى وتبعه أهل البصرة فعذبه الحجاج وصلبه سنة ٨٠ ه‍ بأمر عبد الملك بن مروان. ينظر الفرق الإسلامية ص ٥٧.

(٣) المرجئة : اسم فرقة من كبار الفرق الإسلامية ؛ لقبوا به لأنهم يرجئون العمل عن النية ، أى : يؤخرونه فى الرتبة عنها وعن الاعتقاد ، من : أرجأه ، أى : أخره ، ومنه : أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الأعراف : ١١١] أى : أمهله وأخره ؛ أو لأنهم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة ، فهم يعطون الرجاء ، وعلى هذا ينبغى ألا يهمز لفظ «المرجية» ، وفرقهم خمس : اليونسية ، والعبيدية ، والغسّانية ، والثوبانية ، والثومنية.

ينظر كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ٣).

وكذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الأمور أوساطها» (١).

وكذلك قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) الآية [البقرة : ١٤٣] ، ولا قوة إلا بالله.

وعن ابن جريج (٢) قال : سجود الملائكة لآدم إيماء ، ولم يكن يحل وضع الوجه بالأرض لأحد.

وعن ابن عباس (٣) ـ رضى الله عنهما ـ قال : كان سجود الملائكة سجود تحية ، ولم يكن سجود عبادة.

وعن قتادة (٤) قال : كانت الطاعة لله ، والسجدة لآدم عليه‌السلام إكراما له ، والله أعلم.

ثم اختلف فى إبليس :

قال بعضهم (٥) : هو من الملائكة.

وقال آخرون : لم يكن من الملائكة ، وهو قول الحسن (٦) ؛ والأصم : ذهبوا فى ذلك إلى وجوه :

أحدها : ما ذكر عزوجل عن طاعة الملائكة له بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ...)

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (٣ / ٢٧٣) عن عمرو بن الحارث مرسلا وقال : هذا منقطع.

وذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٩٣) وعزاه للبيهقى عن معبد الجهنى عن بعض أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا بلفظ : «وخير الأعمال أوساطها»

(٢) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٠٢) وعزاه لأبى الشيخ فى العظمة عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومى. وهو : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموى مولاهم أبو الوليد وأبو خالد المكى الفقيه أحد الأعلام. عن ابن أبى مليكة وعكرمة مرسلا. وعن طاوس مسألة ومجاهد ونافع وخلق.

وعنه يحيى بن سعيد الأنصارى أكبر منه والأوزاعى والسفيانان وخلق قال ابن المدينى : لم يكن فى الأرض أحد أعلم بعطاء من ابن جريج. وقال أحمد : إذا قال أخبرنا وسمعت حسبك به. وقال ابن معين : ثقة إذا روى من الكتاب. قال أبو نعيم : مات سنة خمسين ومائة. ينظر الخلاصة : (٢ / ١٧٨) (٤٤٤٠).

(٣) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٦٢) ولم ينسبه لأحد.

(٤) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٠٢) وعزاه لابن أبى حاتم عن ابن عباس بنحوه.

وهو قتادة بن دعامة السدوسى أبو الخطاب البصرى الأكمه ، أحد الأئمة الأعلام حافظ مدلس.

قال ابن المسيب : ما أتانا عراقى أحفظ من قتادة. وقال ابن سيرين : قتادة أحفظ الناس. وقال ابن مهدى : قتادة أحفظ من خمسين مثل حميد. قال حماد بن زيد : توفى سنة سبع عشرة ومائة ، وقد احتج به أرباب الصحاح. ينظر الخلاصة (٢ / ٣٥٠) (٥٨٣٣).

(٥) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٩٨٥ ـ ٦٩٠) والضحاك بن مزاحم (٦٩١) وسعيد بن المسيب (٦٩٢) وقتادة (٦٩٣ ، ٦٩٤).

(٦) أخرجه ابن جرير (٦٩٦ ، ٦٩٧) وانظر الدر المنثور (١ / ١٠٢ ، ١٠٣).

الآية [التحريم : ٦].

وقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) الآية [الأنبياء : ٢٧].

وقال : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ...) الآية [الأنبياء : ١٩].

وصف الله تعالى طاعتهم له ، وائتمارهم إياه ؛ فلو كان اللعين الرجيم منهم لأطاعه كما أطاعوه.

والثانى : قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] والملائكة إنما خلقوا من النور.

والثالث : قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] ولم يقل من الملائكة فدلّ هذه الآيات أنه لم يكن من الملائكة.

ثم قال فى قوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) : إنه قد يجوز الاستثناء من غير نوع المستثنى منه ؛ نحو ما يقال : دخل أهل الكوفة هذه الدار إلا رجلا من أهل المدينة. وذلك جائز فى اللغة.

ويستدل بالاستثناء أن الأمر كان عليهم جميعا فى الأصل ، وكان الأمر بالسجود له وللملائكة جميعا ؛ كقوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [البقرة : ١٩٩] دل أن كان هنالك أمر للناس بالإفاضة ، فكذلك الأول ، والله أعلم.

وذهب من قال : إنه من الملائكة ، أنه لما لم يذكر فى قصة من القصص ـ مع كثرة التكرار لها فى القرآن ، وغيره من الكتب السالفة ـ أنه ليس منهم ، وليس فيما ذكر من الآيات ما يدل على أنه لم يكن منهم ؛ لأن قوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] لو لم يتوهم منهم العصيان والخلاف لله تعالى لم يكن للمدح بالطاعة والخضوع له معنى.

ألا ترى إلى قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ...) الآية [الأنبياء : ٢٩] مع ما ذكرنا : أنهم يمتحنون بأنواع المحن ، وكل ممتحن فى شىء يجوز كون المعصية منه والخلاف لديه.

وأما قوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] أى صار من الجن.

وقيل (١) : الجنّ أراد به الملائكة ؛ سمّوا جنّا لاستتارهم عن الأبصار ؛ كقوله : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النجم : ٣٢].

وأما قوله خلق الملائكة من النّور ، وإبليس من النار ـ فهو واحد ؛ لأنه أخبر ـ عز

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦٩٥) عن ابن إسحاق.

وجل ـ أنه خلقه من مارج من نار.

وقيل (١) : المارج هو لهبها مع ما ليس فى القرآن ، ولا فى الخبر أنهم إنما خلقوا من النور (٢) ، ولم يخلقوا من غيره.

ثم اختلف فى إبليس : إنه لم كفر بالله؟ قيل : إنّه كفر لما لم ير الأمر بسجود من فوقه لمن هو دونه حكمة.

وقيل : كفر لما رأى أن الله تعالى وضع الأمر فى غير موضع الأمر ، ورآه جورا ؛ فكفر به.

وقيل : كفر لما أبى الائتمار بالسجود واستكبر فكفر.

وقيل : كفر لما أضمر إضلال الخلق.

وقيل : أبى الطاعة فيما أمر به ، واستكبر على آدم ؛ لما رأى لنفسه فضلا عليه بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].

وقوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

أى صار كقوله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [النساء : ٢٢].

وكقوله : (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) [الأعراف : ١٧٥] أى : صار.

وقيل (٣) : كان فى علم الله تعالى أنّه سيكفر.

وقوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ).

قد ذكرنا فيما تقدم أن الجنة هى اسم البقعة التى حفت بالأشجار والغروس وأنواع النبات.

دليله : قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ).

وذلك أيضا ظاهر معروف عند الناس ؛ ألا تسمى كل بقعة من الأرض بستانا ، ولا جنة حتى يجتمع فيها ما ذكرنا.

ثم لا يدرى ما تلك الجنة التى أمر آدم وحوّاء بالكون ، والمقام فيها : أهى التى وعد المتقون ، أو جنة من جنات الدنيا؟ إذ ليس فى الآية بيان ذلك.

وفى الآية دلالة أن الشرط فى الذكر قد يضمر ، ويكون شرطا بلا ذكر ؛ لأنه قال : (أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) [طه : ١١٨] ثم قد جاع وعرى حين عصى ، فدل أن ترك المعصية كان

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦٨٥) عن ابن عباس بنحوه.

(٢) فى أ : النار.

(٣) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٦٣) والقرطبى فى الجامع (١ / ٢٠٤).

شرطا فيه.

ثم مضى الأمر من الله تعالى لآدم وزوجته بالسّكنى فى الجنة ، والمقام فيها ، وأمرهما بالتناول من جميع ما فيها إلا شجرة نهيا عن التناول منها ، وأمرا بالاجتناب عنها بقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) وذى صورة الممتحن أن يؤمر بشيء وينهى عن شىء.

وقوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ).

قوله : (رَغَداً) أى : سعة ؛ يقال : أرغد فلان إذا وسّع عليه ، وكثر ماله.

وقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ).

أى : لا تأكلا.

دليله قوله : (وَكُلا مِنْها) ؛ ولأنه بالقربان ما يوصل إلى التناول. واللغة لا تأبى تسمية الشىء باسم سببه.

ثم اختلف فى تلك الشجرة :

فقال بعضهم (١) : هى شجرة العنب ، ولذلك جعل للشيطان فيها حظا لما عصيا ربهما بها.

وقيل (٢) : إنها كانت شجرة الحنطة ؛ ولذلك جعل غذاء آدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ وغذاء أولادهما منها إلى يوم القيامة ليقاسوا جزاء العصيان والخلاف له.

وقيل (٣) : إنها شجرة العلم ؛ لما علما من ظهور عورتهما ، ولم يكونا يعلمان قبل ذلك ، وهو قوله : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [الأعراف : ٢٢] والله أعلم.

والقول فى ماهيتها (٤) لا يجوز إلا من طريق الوحى. ولا وحى فى تلاوتها. ولا يجوز القطع على شىء من ذلك.

ثم احتمل معنى النهى عن التناول منها وجوها :

أحدها : إيثار الآخر عليه.

وقد يكون هذا أن ينهى الرجل عن التناول من شىء إيثارا لآخر عليه.

ويحتمل : النهى عن التناول من الشىء لداء يكون فيه لما يخاف الضرر به ، لا على

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٧٣٠ ، ٧٣١) والسدى (٧٣٢ ، ٧٣٨) وجعدة بن هبيرة (٧٣٣ ـ ٧٣٦) وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٠٧).

(٢) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧٣١) قال : هى الكرمة وتزعم اليهود أنها الحنطة.

(٣) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٦٣) ونسبه لقتادة.

(٤) فى أ : ما بينا.

جهة الإيثار ، ولكن إشفاقا عليه ورحمة.

ويحتمل أيضا النهى عن التناول من الشىء على جهة الحرمة ، فإذا كان ممكنا هذا محتملا حمل آدم وحواء على التناول منها لما اشتبه عليهما ، ولم يعرفا معنى النهى بأنه نهى حرمة ، أو نهى إيثار غيره عليهما ، أو نهى داء ؛ لأنهما لو كانا يعلمان أن ذلك النهى نهى حرمة لكانا لا يأتيان ولا يتناولان ، وبالله التوفيق.

ثم فى الآية دلالة على أن الحال التى يكون فيه الإنسان فى سعة ورغد يشتد على الشيطان اللعين ؛ لأنه إنما تعرض لآدم وحواء بالوسوسة التى وسوس إليهما ليزيل تلك الحال عنهما.

وإنما يبلى بالسعة ، والرخاء ثم لما لحقته من الشدائد والبلايا مما كسبت أيدينا ؛ لقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠].

ثم الآية ترد على بعض المتقشفة قولهم بتحريم الطيبات والزينة.

وقوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

أى : الضّارّين (١) ؛ لأن كل ظالم ضارّ نفسه فى الدارين جميعا.

وقوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها).

أى : دعاهما ، وزين لهما إلى سبب الزلة والإخراج عنها ، لا أن تولى إخراجهما وإزلالهما.

وقد ذكرنا أن الأشياء تسمى باسم أسبابها ، أو الأسباب باسم الأشياء. وذلك ظاهر معروف فى اللغة ، غير ممتنع تسمية الشىء باسم سببه.

ثم تكلموا فيما أصاب آدم من الشجرة ، وفى جهة النهى عنها :

فقال قوم : أكل منها وهو ناس لعهد الله نسيان ترك الذكر.

وأبى ذلك قوم

واحتج الحسن بأن نسيانه نسيان تضييع واتباع الهوى ، لا نسيان الذكر بأوجه :

أحدها : ما جرى فى حكم الله ـ تعالى ـ من العفو عن النسيان الذى هو ترك الذكر ، وألا يلحق صاحبه اسم العصيان ، وقد عوقب هو به ، ونسب إلى العصيان بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] مع ما تقدم القول فيه أن يكونا من الظالمين.

والثانى : أنّ عدوّه قد ذكّره لو كان ناسيا ؛ حيث قال : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ ...) الآية [الأعراف : ٢٠].

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ٦٣).

وقوله : (وَقاسَمَهُما) [الأعراف : ٢١].

وقوله : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) [الأعراف : ٢٢].

ولو كان نسيان الذكر لم يكونا ليغترا بالقسم والإغواء عن ذلك ، ولا وصفا بأن استزلهما الشيطان ونحو ذلك.

فثبت أنه كان نسيان تضييع ، وذلك كقوله : (وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه : ١٢٦] ، وقوله : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١] ، وغير ذلك مما ذكر فيه النسيان ومعناه التضييع ، سمى به لما كان كل منسىّ متروكا ، وترك اللازم تضييع ، أو بما ينسى به ويغفل عما يحل به من نعمة الله ، فسمى به كما وصف ذنب المؤمن بجهالة الجهلة بما يحل به لا بجهله بحقيقة فعله.

أو سمى به من حيث لا يقصد بذلك عصيان الرب أو طاعة الشيطان.

وإلى ذلك يصرف بعض وجوه النسيان ، لا حقيقته.

ومن يقول : بأنه كان على النسيان فهو يخرّج النسيان على وجوه :

أحدها : أنه لكثرة ما كان بينه ، وبين عدوه من التراجع اشتغل قلبه بوجوه الدفاع له ، والفكر فى الأسباب التى بها نجاته ، ويتخلص من مكايده ، حتى أنساه ذلك ذكر العهد.

والسبب الذى يدفع الأشياء عن الأوهام فى الشاهد كثرة الاشتغال ، وإنما كان النسيان عدوّا فى الأمور وسببا للعفو ؛ لأنه لا يخرج الآخذ به عن الحكمة ، وذلك معلوم فى الشاهد ، أن من أقبل على أمر ، وأخذ فى تحفظه وتذكره عمل عليه ذلك ، وإذا أحب ذلك مع الاشتغال بغيره من الأمور صعب عليه ، بل الغالب فى مثله الخفاء.

وجائز معاتبة آدم مع ذلك وتسميته عصيانا بأوجه :

أحدها : أنه لم يكن امتحن بأنواع مختلفة يتعذر عليه وجه الحفظ فى ذلك.

وإنما امتحن بالانتهاء عن شجرة واحدة بالإشارة إليها ؛ فجائز ألا يعذر فى مثله.

وكذلك النسيان فيما يعذر فى الشاهد ، إنما يعذر فى النوع الذى يبلى به ، وتكثر به النوازل.

ألا ترى أنه يعذر بالسلام فى الصلاة (١) ، وترك التسمية فى الذبيحة (٢) ونحو ذلك ، ولا

__________________

(١) السلام على المصلى سنة عند المالكية وجائز عند الحنابلة ، فقد سئل أحمد عن الرجل يدخل على القوم وهم يصلون : أيسلم عليهم؟ قال : نعم.

وأما رد السلام من المصلى فقد ذكر الحنفية ـ كما فى (الهداية) ـ أنه لا يرد السلام بلسانه ؛ لأنه كلام ، ولا بيده ؛ لأنه سلام معنى ، حتى لو صافح بنية التسليم تفسد صلاته. وذكر صاحب (فتح القدير) أن رد المصلى السلام بالإشارة مكروه وبالمصافحة مفسد. ثم إن المصلى لا يلزمه رد ـ

يعذر فى الأكل فى الصلاة (١) ، وفى الجماع فى الحج (٢) ، ونحو ذلك ، فمثله الأمر الذى نحن فيه.

__________________

ـ السلام لفظا بعد الفراغ من الصلاة ، بل يرد فى نفسه فى رواية عن أبى حنيفة. وفى رواية أخرى عنه أنه يرد بعد الفراغ ، إلا أن أبا جعفر قال : تأويله : إذا لم يعلم أنه فى الصلاة. وعند محمد يرد بعد الفراغ ، وعن أبى يوسف : لا يرد ، لا قبل الفراغ ولا بعده فى نفسه. وذكر المالكية أن المصلى لا يرد السلام باللفظ ، فإن رد عمدا أو جهلا بطل. ورده باللفظ سهوا يقتضى سجود السهو ، بل يجب عليه أن يرد السلام بالإشارة ، خلافا للشافعية القائلين بعدم وجوب الرد عليه. وذهب الحنابلة إلى أن رد المصلى السلام بالكلام عمدا يبطل الصلاة. ورد المصلى السلام بالإشارة مشروع عند الحنابلة.

وأما ابتداء المصلى السلام على غيره وهو فى الصلاة بالإشارة بيد أو رأس فيجوز عند المالكية فقط ، ولا يلزمه السجود لذلك.

ينظر : جواهر الإكليل (١ / ٢٥١) ، المغنى (٢ / ٦٠ ـ ٦١) ، كشاف القناع (١ / ٢٤١) ، الهداية وفتح القدير (١ / ١٧٣ ، ٢٩١ ـ ٢٩٢).

(٢) ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة فى المشهور عندهم إلى أن التسمية واجبة عند الذبح ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] ولا تجب التسمية على ناس ، ولا أخرس ، ولا مكره ، ويكفى من الأخرس أن يومئ إلى السماء ؛ لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق. وذهب الشافعية ، وهو رواية عن أحمد إلى أن التسمية سنة عند الذبح ، وصيغتها أن يقول : «باسم الله» عند الفعل ؛ لما روى البيهقى فى صفة ذبح النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأضحيته : ضحى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بكبشين أملحين أقرنين عظيمين موجوأين ، فأضجع أحدهما فقال : «بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عن محمد ، ثم أضجع الآخر فقال : بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عن محمد وأمته ممن شهد لك بالتوحيد ، وشهد لى بالبلاغ». ويكره عند الشافعية تعمد ترك التسمية ، ولكن لو تركها عمدا يحل ما ذبحه ويؤكل ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أباح ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥] وهم لا يذكرون التسمية ، وأما قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] فالمراد ما ذكر عليه غير اسم الله ، أى : ما ذبح للأصنام ، بدليل قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] وسياق الآية دال عليه ؛ فإنه قال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ، والحالة التى يكون فيها فسقا هى الإهلال لغير الله تعالى.

ينظر : حاشية ابن عابدين (٥ / ١٩٠ ـ ١٩٢) ، جواهر الإكليل (١ / ٢١٢) ، شرح الزرقانى (٢ / ٧٣) ، المقنع (٣ / ٥٤٠) ، المغنى (٨ / ٥٦٥ ، ٥٨١ ، ٥٨٢ ، ٥٨٣).

(١) اتفق الفقهاء على بطلان الصلاة بالأكل والشرب من حيث الجملة ، قال الحنفية : ولو سمسمة ناسيا.

واستثنوا من ذلك ما كان بين أسنانه وكان دون الحمصة فإنه لا تفسد به الصلاة إذا ابتلعه ، وصرحوا بفساد الصلاة بالمضغ إن كثر ، وتقديره بالثلاث المتواليات. وكذا تفسد بالسكّر إذا كان فى فيه يبتلع ذوبه. قال ابن عابدين : إن المفسد : إما المضغ ، أو وصول عين المأكول إلى الجوف بخلاف الطعم. قال فى (البحر) عن (الخلاصة) : ولو أكل شيئا من الحلاوة وابتلع عينها ، فدخل فى الصلاة ، فوجد حلاوتها فى فيه وابتلعها لا تفسد صلاته ، ولو أدخل الفانيذ أو السكر فى فيه ، ولم يمضغه ، لكن يصلى والحلاوة تصل إلى جوفه ـ تفسد صلاته.

وفرق المالكية بين عمد الأكل والشرب وسهوه : فإن أكل أو شرب المصلى عمدا بطلت صلاته اتفاقا ، وأما إن أكل أو شرب سهوا لم تبطل صلاته ، وانجبر بسجود السهو.

وذهب الشافعية إلى بطلان الصلاة بالأكل ولو كان قليلا ، وإن كان مكرها عليه ؛ لشدة منافاته ـ

والثانى : أنه جائز أخذ الأخيار ومعاتبة الرسول بالأمر الخفيف اليسير الذى لا يؤخذ بمثل ذلك غيره ؛ لكثرة نعم الله عليهم ، وعظم منّته عندهم ، كما أوعدوا التضاعف فى العذاب على ما كان من غيره.

وعلى ما ذكر فى أمر يونس عليه‌السلام من العقوبة بماء لعل ذلك من عظيم خيرات غيره ؛ إذ فارق قومه عما عاين من المناكير فيهم ، وفعل مثله من حد ما يوصف به غيره.

__________________

ـ للصلاة مع ندرته ، واستثنوا من ذلك : الناسى أنه فى الصلاة ، والجاهل بالتحريم لقرب عهده بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء فلا تبطل صلاته بالأكل إلا إذا كثر عرفا ، ولا تبطل ما لو جرى ريقه بباقى طعام بين أسنانه وعجز عن تمييزه ومجه كما فى الصوم. وصرحوا : بأنه لو كان بفمه سكرة فذابت فبلع ذوبها عمدا ، مع علمه بالتحريم ، أو تقصيره فى التعلم ـ فإن صلاته تبطل. كما صرحوا ببطلان الصلاة بالمضغ إن كثر ، وإن لم يصل إلى جوفه شىء.

وفرق الحنابلة فى ذلك بين صلاة الفرض والنفل : فصلاة الفرض تبطل بالأكل والشرب عمدا ، قل الأكل أو الشرب أو كثر ؛ لأنه ينافى الصلاة. وأما صلاة النفل فلا تبطل بالأكل والشرب إلا إذا كثر عرفا لقطع الموالاة بين الأركان. قال البهوتى : وهذا رواية ، وعنه أن النفل كالفرض ، قال فى (المبدع) : وبه قال أكثرهم ؛ لأن ما أبطل الفرض أبطل النفل ، كسائر المبطلات. وكل ما سبق فيما إذا كان الأكل والشرب عمدا ، فإن كان سهوا أو جهلا فإنه لا يبطل الصلاة فرضا كانت أو نفلا إذا كان يسيرا ؛ لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأن تركهما عماد الصوم ، وركنه الأصلى ، فإذا لم يؤثر فى حالة السهو فى الصيام فالصلاة أولى. قالوا : ولا بأس ببلع ما بقى فى فيه من بقايا الطعام من غير مضغ ، أو بقى بين أسنانه من بقايا الطعام بلا مضغ مما يجرى به ريقه وهو اليسير ؛ لأن ذلك لا يسمى أكلا ، وأما ما لا يجرى به ريقه بل يجرى بنفسه ـ وهو ما له جرم ـ فإن الصلاة تبطل ببلعه لعدم مشقة الاحتراز. قال المجد : إذا اقتلع من بين أسنانه ما له جرم وابتلعه بطلت صلاته عندنا ، وصرحوا بأن بلع ما ذاب بفيه من سكّر ونحوه كالأكل.

ينظر : حاشية ابن عابدين (١ / ٤١٨) ، حاشية الدسوقى (١ / ٢٨٩) ، مواهب الجليل (٢ / ٣٦) ، الخرشى على خليل (١ / ٣٣٠) ، نهاية المحتاج (٢ / ٥٢) ، مغنى المحتاج (١ / ٢٠٠) ، شرح روض الطالب (١ / ١٨٥) كشاف القناع (١ / ٣٩٨).

(٢) يحرم على المحرم باتفاق العلماء وإجماع الأمة : الجماع ودواعيه الفعلية أو القولية وقضاء الشهوة بأى طريق. والجماع أشد المحظورات حظرا ؛ لأنه يؤدى إلى فساد النسك. والدليل على تحريم ذلك النص القرآنى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] ، وفسر الرفث بأنه ما قيل عند النساء من ذكر الجماع وقول الفحش. وثبت ذلك عن ابن عباس ؛ فتكون الآية دليلا على تحريم الجماع على المحرم بطريق دلالة النص ، أى : من باب الأولى ؛ لأنه إذا حرم ما دون الجماع ، كان تحريمه معلوما بطريق الأولى. وفسر الرفث أيضا بذكر إتيان النساء ، من الرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم. ونقل ذلك عن ابن عمر وبعض التابعين ؛ فتدل الآية على حرمة الجماع لدخوله فى عمومها. كما فسر بالجماع أيضا ، ونسب ذلك إلى جماعة من السلف منهم ابن عباس وابن عمر ؛ فتكون الآية نصا فيه.

ينظر : تفسير ابن كثير (١ / ٢٣٦ ، ٢٣٧).

وكذلك ما عوتب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما خطر بباله تقريب أجلة الكفرة ؛ إشفاقا عليهم ، وحرصا على إسلامهم ومن يتبعهم على ذلك مما لعل من دونه لا يعدل شىء من خيراته بالذى عوتب به ، وبالله التوفيق.

والثالث : أنه لما عوتب بالذى يجوز ابتداء المحنة به ، ولمثله خلقه حيث قال لملائكته : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) لكنه بكرمه ، وبالذى عوّد خلقه من تقديم إحسانه وإنعامه فى الابتلاء على الشدائد والشرور ، وإن كان له التقديم بالثانى ، وذلك فى جملة قوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، وقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥] ، وبالله التوفيق.

وعلى ما فى ذلك من مبالغة غيره ، والزجر عن المعاصى ، وتعظيم خطره فى القلوب ؛ إذ جوزى أبو البشر وأول الرسل منهم ـ على ما فضله بما امتحن ملائكته بالتعلم منه ، والسجود ـ بذلك القدر من الزلة ؛ ليعلم الخلق أنه ليس فى أمره هوادة ، ولا فى حكمه محاباة ؛ فيكونون أبدا على حذر من عقوبته ، والفزع إليه بالعصمة عما يوجب مقته ، وألّا يكلهم إلى أنفسهم ؛ إذ علموا بابتلاء من الذى ذكرت محله فى قلوبهم بذلك القدر من الزلة ، ولا قوة إلا بالله.

والثانى : أن يكون حفظ النهى عنه لكنه خطر بباله النهى عن وجه لا يلحقه فيه وصف العصيان ، أو نسى قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، وقد ذكرنا النهى فى وقت الفعل ، ولكن يسمى الوصف بالفعل من الظلم والنهى ؛ لعله سبق إلى وهمه غير جهة التحريم ، إذ يكون النهى على أوجه :

أحدها : للحرمة.

والثانى : نهى لما فيه من الداء وعليه فى أكله ضرر ، وهذا معروف فى الشاهد بما عليه الطباع ، نهى قوم عن أشياء محللة هى لهم ما يؤذى ويضر ، فيحتمل أن يسبق إلى وهمه ذلك ، لما وعد له فى ذلك من عظيم النفع.

يحتمل ما خوف به ليصل إلى ما وعد على ما سبق وجّه النهى إلى ما وجه من حيث الضرر والمشقة ، ونسى قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أو ذكرا وعرفا أن الظلم قد يقع على الضّرر ؛ كقوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أى : لم ينقص منه ، والنقصان فى النفس ضرر.

وعلى ذلك فسر عامة أهل التفسير الظلم فى القرآن أنه الضرر. واسم الضرر يأخذ ضرر الداء ، وضرر المأثم وإن كانت حقيقته وضع الشىء فى غير موضعه ، ولا قوة إلا بالله.

وقد يحتمل النهى أن يخرج مخرج المنع ؛ ليكون غيره هو الذى يبدأ به ، ويخص ذلك لغيره ، لا على التحريم ، نحو الأمر بالمعروف ، فيما يمنع الرجل ولده عن التناول مما يريد به غيره ، لا على التحريم.

وإذا احتمل ذا ، ثم بيّن له عظيم ما فى ذلك من البركة من غير أن عاين عدوه ليعلم أن ذلك صنيعه.

وجائز أن يسبق إليه أن ذلك إشارة ملك أو إلهام فى النفس ـ على ما يكون لكثير من الأخيار ـ إلا أنه من وحى عدوه ، فدعته نفسه إلى الأكل ، فيكون كالناسى والجاهل بحقيقة وجه النهى ، وإن كان تعمد أكله ، ولا قوة إلا بالله.

والأصل فى هذا أن فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان على نسيان العهد ، أو على الذكر له ، فإن الذى أصابه عقوبة.

وإن كان بالذى يكون به المحنة ، فلو لا أنّ الله إن يعاقبه على ما فعله لم يكن ليغيّر عليه نعمة أنعم عليه بعذاب ، وقد قال : إنه لا يغيّر نعمه التى أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

وما لا يحتمل العقوبة بالتغيير لم يكن ليفعل بعد وعده ذلك ، مع ما قد اعترفا بالظلم ؛ إذ قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣].

وقد قال الله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١]. وقد كان قال لهما : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ١٩]. فكان فيما بلى به وجهان :

أحدهما : أن ذلك لم يزل عنهما اسم الإيمان ، ولا دعيا إليه بعد لفعلهما ذلك.

ثبت أنه لا كلّ ذنب يزيل اسم الإيمان ، وأن الذنوب لا يحقّق فيها الكذب فيما اعتقد ألا يعصى الله فى شىء.

وفى ذلك فساد أهل الخوارج (١) والمعتزلة ، وبيان أن قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ

__________________

(١) الخوارج : كل من خرج على الإمام الحق الذى اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيّا سواء كان الخروج فى أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة فى كل زمان ، والمرجئة صنف آخر تكلموا فى الإيمان والعمل إلا أنهم وافقوا الخوارج فى بعض المسائل التى تتعلق بالإمامة ، والوعيدية داخلة فى الخوارج وهم القائلون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده فى النار.

وأول من خرج على أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه جماعة ممن كان معه فى حرب صفين وأشدهم خروجا عليه ومروقا من الدين الأشعث بن قيس ومسعود بن فدكى التميمى وزيد بن حصين الطائى حين قالوا القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف حتى قال أنا أعلم بما كتاب الله انفروا إلى بقية الأحزاب انفروا إلى من يقول كذب الله ورسوله وأنتم تقولون ـ

وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً) [النساء : ١٤] ليس على كل عصيان ، ولا الوعيد بالظلم المطلق بوجه كل ظالم وكل عصيان وغواية ، بل يلزم به تقسيم هذه الحروف على ما يليق به ، ومن يريد بها الجمع فى كل الأنام خارج عن المعروف من أحكام الله فى أهل المآثم.

والثانى : قد عوقب بوجه لا يجب جزء منها بما يسميه المعتزلة كبيرة ، بل يزيل به اسم الإيمان ؛ من نحو شرب قطرة من الخمر ، أو قذف محصنة ، أو أخذ عشرة دراهم من مال آخر.

وكذلك فعل أولاد يعقوب. ثم لم يجترئ أحد على دعوى خروج من ذكرت من دين الله ؛ لزم بطلان قولهم ، مع ما كان من قولهم : إن الصغيرة لا يجوز فى الحكمة التعذيب عليها ، ولا الكبيرة العفو عنها.

وقد كان عذب آدم عليه‌السلام ـ بأنواع العذاب ، لما لو لم يكن سوى ما أظهر فعلهما على رءوس الخلائق لكان عظيما.

ثم اختلف فى الوجه الذى بلى :

منهم من يقول : لما كان من صلبه من الكفرة وهم ليسوا بأهل الجنة.

وقيل : رحمة للخلق لئلا ييأسوا ، ولا يزيل الولاية بكل ذنب.

وقيل : بليا لتنبئة الخلق ـ بهما ـ ألا يقوم أحد بتعاهد نفسه عما يذم إليه إذا وكل نفسه إليه ، فيكون ذلك سببا لزجر الخلق عن النظر إلى أنفسهم فى شىء من الخير ، والفزع إليه ، بالعصمة عن كل شىء.

وقيل : بلى بحق المحنة ؛ إذ هى ترد صاحبها بين اللذات والآلام ، وبين أحوال مختلفة لا يحتمل أن يصير بحيث يأمن الزلل ، وإنما ذلك بحفظ الله ومنّه ، لا بتدبير أحد وجهده ،

__________________

ـ صدق الله ورسوله قالوا لترجعن الأشتر عن قتال المسلمين وإلا لنفعلن بك كما فعلنا بعثمان فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع وولوا مدبرين وما بقى منهم إلا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة فامتثل الأشتر أمره وكان من أمر الحكمين أن الخوارج حملوه على التحكيم أولا وكان يريد أن يبعث عبد الله بن عباس فما رضى الخوارج بذلك وقالوا هو منك فحملوه على بعث أبى موسى الأشعرى على أن يحكما بكتاب الله تعالى فجرى الأمر على خلاف ما رضى به فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا لم حكمت الرجال لا حكم إلا لله. وهم المارقة الذين اجتمعوا بالنهروان. وكبار فرق الخوارج ستة : الأزارقة والنجدات والصفرية والعجاردة والإباضية والثعالبة ، والباقون فروعهم ويجمعهم القول بالتبرى عن عثمان وعلى ويقدمون ذلك على كل طاعة ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقا واجبا. ينظر الفصل فى الملل والنحل (١ / ١٥٥ ـ ١٥٧).

وإن كان الله تعالى يوفق على قدر الجهد ، ويعصم على قدر الرغبة إليه والاعتصام به ، ولا قوة إلا بالله.

وليس بنا حاجة إلى ذكر حكمة الزّلة ، إذا كانت نفسه مجبولة على حبه ، باعثة إلى مثله لو لا نعمة الرب.

كما قال يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي ...) الآية [يوسف : ٥٣].

وقال : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤].

ثم اختلف فى ماهية الشجرة :

قيل (١) : بأنها شجرة العنب ، وجعل للشيطان فيها نصيبا بما بلى به أبو البشر وأمهم.

وقيل (٢) : الحنطة فيها جعل غذاء ولده ؛ ليبدل بالراحة الكد ، وبالنعمة البؤس.

وقيل (٣) : شجرة العلم ، إذ بدت لهما سوآتهما فعلما بذلك ما لم يسبق لهما فى ذلك ، وفزعا إلى ما يستران به من الورق (٤).

فالأصل أن هذا نوع ما يعلم بالخبر من عند عالم الغيب ، وليس بنا إلى تعرف حقيقته حاجة ، وإنما علينا معرفة قدر المعصية ؛ فنعتصم بالله عنها ، والطاعة ؛ فنرغب فيها ، وبالله العصمة.

والأصل فيه أن الله تعالى فرق بين دار المحنة ودار الجزاء ؛ إذ الجمع بينهما يزيل البلوى ، ويكشف الغطاء ؛ فجعل اللذيذ الذى لا راحة فيه ، والمؤلم الذى لا تنغيص فيه ـ جزاء ، والتردد بينهما محنة ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله تعالى : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).

أى : تصيران منهم.

وكذلك القول فى إبليس : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أى : صار منهم.

ويحتمل : ممن يكونون كذلك ؛ إذ فى علم الله أنهم يصيرون ممن فى علم الله كذلك ، مع جواز القول بلا تحقيق آخر ؛ كقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ، لا أنّ ثمّ خالقا غيره.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) فى أ : الرزق.

ثم اختلف فى الوجه الذى أوصل إبليس إليه الوسوسة :

فقال الحسن : كان آدم ـ عليه‌السلام ـ فى السماء وإبليس فى الأرض ، ولكنه أوصل إليه بالسبب الذى جعل الله لذلك.

وقال قوم (١) : كان خاطبه فى رأس الحية.

وقيل : تصور بغير الصورة التى كان عليها عند قوله : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ...) الآية [طه : ١١٧] فاغتر به ، ولو عرفه لما اغتر به بعد أن حذره الله عنه ، والله أعلم كيف كان ذلك.

وعلى ذلك اختلف فى الوجوه التى يوسوس إلى بنى آدم :

منهم من يقول : يجرى بين الجلد واللحم كما يجرى الدم ، فيقابل وجه بصره بقلبه ؛ فيقذف فيه.

ومنهم من يقول : هو بحيث جعلت له قوة إيصال الخطر بباله ، والقذف فى قلبه من الوجه الذى جعل له ، وذلك لا يعلمه البشر.

ومنهم من يقول : إن النفس كأنها سيالة فى الجسد ، دائرة فى جميع الآفاق ، لو لا الجسد الذى يحبسه لكان له الانتشار ، على ما يظهر فى حال النوم عند سكون جسده ، ومن ذلك سلطان فكرة الرجل على من فى أقصى بقاع الأرض حتى يصير له كالمعاين ؛ ففى ذلك يكون قدحه وقذفه.

ونحن نقول ـ وبالله التوفيق ـ : إنا لا نعلم حقيقة كيفية ذلك ، لكن الله تعالى جعل للحق أعلاما ، وكذلك للباطل.

وكل معنى يدعو إلى الباطل ، ويحجب عن الحق ، فهو عمل الشيطان ، يجب التعوذ منه والفزع إليه وإن لم يعلم حقيقة كيفية ذلك ؛ قال الله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠ ، فصلت : ٣٦].

وقال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف : ٢٠١].

وقال الحسن فى قوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠] : وقد علم آدم أن الملائكة أفضل ، وقد علم ألا خلود يكون معه ، وقد أخبر أنه يموت ، وقد علم أنه لا يكون ملكا ، وقد خلق من طين والملائكة من

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس بنحوه (٧٥٠) وابن مسعود (٧٤٣) ووهب بن منبه (٧٤٢) وغيرهم.

وانظر الدر المنثور (١ / ١٠٨ ، ١٠٩).

نور ، ولكن يكون على فضل الملائكة.

(وَقاسَمَهُما) [الأعراف : ٢١].

حلف لهما فى وسوسته أنه يقول ذلك عن نصيحة ، فتابعاه فى الأكل لا على القبول عنه ما ذكر ؛ إذ لو كان عن قبول كان أعظم من الأكل ، ولكن أكلا على الشهوة ، واتباع الهوى.

ولو صدّقاه فى ذلك لكفرا ، وكان هذا أعظم من الأكل ، ولم يقل لهما ذلك فيهما لأجل ذلك الشىء.

وذلك كما يقول الرجل لآخر ـ فى شىء يقتل عليه أو يقطع له ـ : لو فعلت لا يفعل بك ذلك (١) ، فيقدم عليه ، أنه يقدم لشهوته ، لا على التصديق له فى ذلك.

وكذا من يذكّر أحدا بمثل امرأة بحبها وإيثارها إياه ؛ فيأتيها بشهوة لا بتصديق الآخر ؛ فمثله أمر آدم فيما وسوس إليه الشيطان.

وهذا الذى يذكر الحسن يوجب أن يكون آدم كان يعلم أن ذلك كان من الشيطان عدوّه.

وذلك إقدام على أثر ما ذكر على ما يصف أنه كان يعلم أنه أمر فظيع (٢) يوجب فعله ـ على العلم بالنهى ـ أنه لا ينال به خيرا ، ولا يصل بذلك إلى فضل ، بل اتبع الشيطان بما هوى واشتهى.

وهذا لو كان شهده كان فظيعا أن يدّعيه على أبى البشر ، ومن قد فضّله الله بالذى سبق ذكره.

بل لو قيل له : إنه لم يكن علم أنه من عدوه ، أو إلهام ـ على ما يكون للأخيار ـ أو كان أسمع على غير الصورة التى أدّاها من قبل ، كان أقرب وأحق أن ينطق (٣) به من أن يذكر الذى ذكر.

ومتى يكون الإقدام لجهة بخير لا على طمع فى ذلك؟! بل لا ينكر أن يكون له ، ولكن على ما بينا.

وليس من ذلك الوجه ، الوحشة فى الدين.

ثم قد ذكر ملكين ، والكلام فى الفضل وغير الفضل ـ على قوله ـ لا معنى له ؛ لأنّه

__________________

(١) فى أ : ولك.

(٢) فى أ : قطع.

(٣) فى أ : يظن.

يجعل فعلهم جبرا ـ ومن فعله جبر لا ترتفع درجته ولا يعلو قدره ، ثم يجعل الفضل لهم بالخلقة ، فكيف كان يطمع فى ذلك ولم يكن هو بخلقتهم.

ولهذا أنكر أن يكون منهم عصيان ؛ إذ خلقوا من نور ، ومن لا يعصى بالخلقة ، فإنه لا يحمد. ولو كان يجب الحمد به لوجب فى كل موات ، وكل حيوان لا يعصى بالخلقة ، وذلك بعيد.

وجائز أن يكون آدم ـ عليه‌السلام ـ طمع أن يكونا ملكين ؛ بأن يجعل على ما عليه صنيعهم من العصمة ، أو الاكتفاء بذكر الله وطاعته عن جميع الشهوات.

والله قادر على أن يجعل البشر على ذلك ، وذلك على ما يوجد فيهم من معصوم ومخذول ، ليعلم أن الخلقة لا توجب شيئا مما ذكر ، ولا قوة إلا بالله.

ثم الأصل أن معرفة موت البشر وما عنه خلق كل شىء إنما هو سمعى ، ليس هو حسى ، ولا فى الجوهر دليل الفناء ، ولله أن يميت من شاء ويبقى من شاء.

فقول الحسن ـ إنّه علم ذلك ثبت بثبات الخبر عن الله ـ ينتهى إليه أنه كان بلغه فى ذلك [الوقت](١).

وكذلك أمر الملائكة ، وحال الإغذاء (٢) ، ومحبة الذّكر ، وظهور العصمة تعرف بالمحبة والمشاهدة بمنها ، ولا قوة إلا بالله.

ثم ذكر الحسن فى خلال ذلك : أن آدم ـ عليه‌السلام ـ قد علم أن الملائكة لا يموتون.

لا أدرى ما هذا؟

أهو عقد اعتقد ، أو جرى على لسانه؟ لأن مثله لا يعلم إلا بما لا يرتاب فى ذلك أنه جاء عن الله ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها).

أى : دعاهما وزيّن لهما ، أى : سبب الزّلة والإخراج منها ، لا أن تولى هو إخراجهما وإزلالهما.

وقد ذكرنا أنه قد تسمّى الأشياء باسم أسبابها ، والأسباب باسم الأشياء. وذلك ظاهر معروف فى اللغة ، غير ممتنع تسمية الشىء باسم سببه ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) لله [البقرة : ٣٦].

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) فى أ : الأضداد.

من الخصب ، والسّعة ، والنعم التى أنزلهما الله ـ تعالى ـ فيها ، وأباح لهما التناول مما فيه.

ثم اختلف فى وسوسة الشيطان لآدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ فيم كان؟ ومن أين كان؟ ولما ذا كان؟.

قيل (١) : إنه كان فى السماء ، فوسوس إليهما من رأس الحيّة ؛ حسدا منه لما رآهما يتقلّبان فى نعم الله ، ويتنعمان فيه ، فاشتد ذلك عليه.

وقيل : إنه كان فى الدنيا فوسوس لهما من بعد ، والله أعلم.

ثم اختلف فى الشيطان : أله سلطان على القلوب؟ أو يوسوس فى صدورهم من بعد؟

فقال بعضهم : له سلطان على القلب ؛ على ما جاء أنه يجرى فى الإنسان بين الجلد واللحم مجرى الدم.

وقيل : إنه لا سلطان له على القلوب ، ولكنه يقذف فيهم من البعد ، ويدعوهم إلى الشر بآثار ترى فى الإنسان من الأحوال ؛ من حال الخير والشر ، وكأن تلك الأحوال ظاهرة من أثر الخير والشر.

فإذا رأى ذلك فعند ذلك يوسوس ، ويدعوه إلى الشر. وعلى ذلك قوله عزوجل : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] أخبر أنه لا سلطان له علينا سوى الدعاء لنا وهو لا يشبه ، والله أعلم.

ثم قيل فيمن عصى ربه : أليس قد أطاع الشيطان؟

قيل : بلى.

فإن قيل : فإذا أطاع ألا يكفر؟

قيل : لا ؛ لأنه ليس يقصد قصد طاعة الشيطان ، وإنما يكفر بقصد طاعة الشيطان ، وإن كان فى عصيان الرب طاعته.

وكذلك روى عن أبى حنيفة ـ رضى الله عنه ـ أنه سئل عن ذلك فأجاب بمثل هذا الجواب.

والأصل : أن الفعل الذى يبلى له ليس هو لنفسه فعل الطاعة للشيطان ليصير به مطيعا ، إنما يجعله طاعة القصد بأن يجعله طاعة له ، وقد زال ، وإن سرّ هو به وفرح كما سرّ بزوال السرور عنهما واللذة ، وإن كان ذلك بفعل من لا يجوز وصف من فعل ذلك بطاعة الشيطان ، ولا قوة إلا بالله.

__________________

(١) تقدم.

وقوله : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا).

قيل (١) : الهبوط النزول فى موضع ، كقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة : ٦١] أى : انزلوا فيه.

ويحتمل الهبوط منها هو النزول من المكان المرتفع إلى المنحدر ، والدون من المكان.

وقوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

قيل (٢) : يعنى إبليس وأولاده ، وآدم وأولاده ، بعضهم لبعض عدو. والعداوة فيما بيننا وبينهم ظاهرة.

وقيل (٣) : بيننا وبين الحيّة التى حملت إبليس حتى وسوس لهما من ذؤابتها.

فهذا لا يعلم إلا بالسمع ، إذ ليس فى الكتاب ذلك.

غير أن العداوة بيننا وبين الحيّات عداوة طبع ، والعداوة التى بيننا وبين إبليس عداوة اختبار (٤) وأمر ؛ إذ الطبع ينفر عن كل مؤذ ومضر ، وبالله التوفيق.

وقوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ).

يقرون فيها ، كقوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) [غافر : ٦٤].

وقوله : (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ).

أى : متاعا لكم إلى انقضاء آجالكم.

ويحتمل : متاعا لكم لانقضاء الدنيا وانقطاعها.

وقوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ).

أى : أخذ.

وقوله : (مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ).

قيل : إن فيه وجوها :

قيل : فتاب عليه ، أى : وفق له التوبة ، وهداه إليها فتاب ، كقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة : ١١٨] ، أى : وفق لهم التوبة فتابوا.

وقيل : خلق فعل التوبة منه ، فتاب ، كما قلنا فى قوله : (وَهَداهُ) [النحل : ١٢١] ،

__________________

(١) ذكره القرطبى فى الجامع (١ / ٢١٨).

(٢) أخرجه ابن جرير عن مجاهد (٧٥٨) ، وأبى العالية (٧٥٩).

(٣) أخرجه ابن جرير عن أبى صالح بنحوه (٧٥٤) والسدى (٧٥٥) ومجاهد (٧٥٦ ، ٧٥٧) وانظر الدر المنثور (١ / ١١٠).

(٤) فى أ : واختيار.

أى : خلق فعل الاهتداء منه فاهتدى.

وقيل : تاب عليه ، أى : تجاوز.

وقيل : إن التوبة (١) هى الرجوع. رجع آدم عن عصيانه ؛ فرجع هو إلى الغفران

__________________

(١) التوبة فى اللغة : العود والرجوع ، يقال : تاب ، إذا رجع عن ذنبه وأقلع عنه. وإذا أسند فعلها إلى العبد يراد به رجوعه من الزّلّة إلى الندم ، يقال : تاب إلى الله توبة ومتابا : أناب ورجع عن المعصية ، وإذا أسند فعلها إلى الله تعالى يستعمل مع صلة وهى (على) ويراد به رجوع لطفه ونعمته على العبد والمغفرة له ، يقال : تاب الله عليه : غفر له وأنقذه من المعاصى ، قال الله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة : ١١٨].

وفى الاصطلاح : التوبة هى : الندم والإقلاع عن المعصية من حيث هى معصية ، لا لأن فيها ضررا لبدنه وماله ، والعزم على عدم العود إليها إذا قدر. وعرفها بعضهم بأنها : الرجوع عن الطريق المعوج إلى الطريق المستقيم. وعرفها الغزالى بأنها : العلم بعظمة الذنوب ، والندم والعزم على الترك فى الحال والاستقبال والتلافى للماضى. وهذه التعريفات وإن اختلفت لفظا هى متحدة معنى. وقد تطلق التوبة على الندم وحده ؛ إذ لا يخلو عن علم أوجبه وأثمره وعن عزم يتبعه ؛ ولهذا قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة» ، والندم توجّع القلب وتحزّنه لما فعل وتمنى كونه لم يفعل. قال ابن قيم الجوزية : التوبة فى كلام الله ورسوله كما تتضمن الإقلاع عن الذنب فى الحال والندم عليه فى الماضى والعزم على عدم العود فى المستقبل ـ تتضمن أيضا العزم على فعل المأمور والتزامه ؛ فحقيقة التوبة : الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يجب وترك ما يكره ؛ ولهذا علق ـ سبحانه وتعالى ـ الفلاح المطلق على التوبة حيث قال : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : ٣١].

وقد ذكر أكثر الفقهاء والمفسرين أن للتوبة أربعة شروط : الإقلاع عن المعصية حالا ، والندم على فعلها فى الماضى ، والعزم عزما جازما ألا يعود إلى مثلها أبدا. وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمى ، فيشترط فيها رد المظالم إلى أهلها أو تحصيل البراءة منهم. وصرحوا كذلك بأن الندم على المعصية يشترط فيه أن يكون لله ؛ ولقبحها شرعا. وهذا معنى قولهم : الندامة على المعصية لكونها معصية ؛ لأن الندامة على المعصية لإضرارها ببدنه ، وإخلالها بعرضه أو ماله ، أو نحو ذلك ـ لا يكون توبة ؛ فلو ندم على شرب الخمر والزنى للصداع ، وخفة العقل ، وزوال المال ، وخدش العرض ـ لا يكون تائبا. والندم لخوف النار أو طمع الجنة يعتبر توبة. واعتبر بعض الفقهاء هذه الشروط أو أكثرها من أركان التوبة فقالوا : التوبة : الندم مع الإقلاع والعزم على عدم العود ، ورد المظالم ، وقال بعضهم : الندم ركن من التوبة ، وهو يستلزم الإقلاع عن الذنب والعزم على عدم العودة ، وأما رد المظالم لأهلها فواجب مستقل ليس شرطا فى صحة التوبة. ويؤيد هذا الرأى ما ورد عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الندم توبة».

وعلى جميع الاعتبارات لا بد من التنبيه على أن الإقلاع عن الذنب لا يتم إلا برد الحقوق إلى أهلها ، أو باستحلالهم منها فى حالة القدرة ، وهذا كما يلزم فى حقوق العباد يلزم كذلك فى حقوق الله تعالى : كدفع الزكوات ، والكفارات إلى مستحقيها. ورد الحقوق يكون حسب إمكانه : فإن كان المسروق أو المغصوب موجودا رده بعينه ، وإلا يرد المثل إن كانا مثليين والقيمة إن كانا قيميّين ، وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر عليه ، وتصدق به على الفقراء بنية الضمان له إن وجده. فإن كان عليه فيها حق : فإن كان حقا لآدمى كالقصاص اشترط فى التوبة التمكين من نفسه وبذلها للمستحق ، وإن كان حقا لله تعالى كحد الزنى وشرب الخمر فتوبته بالندم والعزم على عدم العود. ـ

والتجاوز ، وبعضه قريب من بعض.

وفى الآية : أنه إنما تاب عليه لكلمات تلقاها من ربه.

والآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن من ارتكب صغيرة فهو مغفور له لا يحتاج إلى الدعاء ، ولا إلى التوبة.

فآدم ـ عليه‌السلام ـ دعا بكلمات ، تلقاها منه ؛ فتاب عليه. ولو كان مغفورا له ما ارتكب لكان الدعاء فضلا وتكلفا ، وبالله التوفيق.

والكلمات هى ما ذكرت فى سورة أخرى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣].

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

أى : قابل التوبة.

وقيل (١) : أى موفق التوبة ، وهادى لها ؛ كقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) [غافر : ٣] وقد ذكرنا فى قوله : (فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧] ما احتمل فيه.

(الرَّحِيمُ) بالمؤمنين ، ورحيم بالتائبين.

وقوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً).

ذكر هبوطهم جميعا ؛ فإذا هبطوا فرادى لم يخرجوا من الأمر ، بل كانوا فى الأمر ، فدل أن الجمع فى الأمر ، والذكر ، لا يصيّر الجمع فى الفعل شرطا.

وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً).

أى : ليأتينكم. وهذا جائز فى اللغة.

وقوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

أى : من تبع هداى ، ودام عليه حتى مات ، فلا خوف عليهم ، ولا هم يحزنون وكذلك قوله : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ) : فى الدنيا ، (وَلا يَشْقى) [طه : ١٢٣] فى الآخرة ، إذا مات عليه.

وهذه الآية والتى تليها وهو قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

تنقض على الجهمية ؛ لأنهم يقولون بفناء الجنة والنار ، وانقطاع ما فيهما.

__________________

ـ ينظر : القليوبى (٤ / ٢٠١) ، الآداب الشرعية (١ / ٩٨) ، إحياء علوم الدين للغزالى (٤ / ٣) ، تفسير الألوسى (٢٨ / ١٥٨) ، الجمل (٥ / ٣٨٧) ، مدارج السالكين (١ / ٣٠٥ ، ٣٠٧ ، ٣٠٩).

(١) ذكره القرطبى فى الجامع (١ / ٢٢٢).

فلو كانت الجنة تفنى وينقطع ما فيها ، لكان فيها خوف وحزن ؛ لأن من خاف فى الدنيا زوال النعمة عنه وفوتها يحزن عليه ، وينغصه ذلك ، ولهذا وصف الدنيا بالخوف والحزن لما يزول نعيمها ولا تبقى ، فأخبر عزوجل ألا خوف عليهم فيها ؛ أى : خوف النقمة ، ولا حزن ، أى : حزن فوات النعمة.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) دل أنها باقية ، وأن نعيمها دائم ، لا يزول.

وكذلك أخبر عزوجل أن الكفار فى النار خالدون وأن عذابها أليم شديد ، فلو كان لهم رجاء النجاة منها لخف ذلك العذاب عليهم وهان ؛ لأن من عوقب فى الدنيا بعقوبة ، وله رجاء النجاة منها هان ذلك عليه وخف ، وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٤٦)

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).

يحتمل وجوها :

يحتمل قوله : اذكروا نعمتى التى خصصت لكم دون غيركم من نحو ما جعل منكم الأنبياء ، والملوك ، كقوله : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠].

ويحتمل (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) يعنى : النجاة من فرعون ، حيث كان يستعبدكم ويستخدمكم ويستحيى نساءكم ، كقوله تعالى : (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ...) الآية [الأعراف : ١٤١].

ويحتمل : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) من نحو ما أعطاهم ـ عزوجل ـ المن والسّلوى ، وتظليل الغمام وغير ذلك من النعم ، ما لم يؤت أحدا من العالمين ، خصوا بذلك من دون غيرهم.

وقيل : نعمته محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث وقت اختلافهم فى الدين ، وتفرّقهم فيما كان عليه من مضى من النبيين ليدلّهم على الحق من ذلك ، ويؤلف بينهم بالبيّنات (١).

__________________

(١) فى أ : بالبيان.

كما أحوجهم الاختلاف إلى من يقوم (١) بذلك من وجه يعلم صدقه فى ذلك ؛ فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمة منه عليهم ، إذ بطاعته نجاتهم ، ولا قوة إلا بالله.

ويحتمل : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) أى : وجهوا شكر نعمتى إلىّ ، ولا توجهوها إلى غيرى.

فإن كان هذا المراد ، فهم وغيرهم فيه سواء ؛ إذ على كل منعم عليه أن يوجّه شكر نعمه إلى ربه.

وكان الأمر بذكر النعمة ـ والله أعلم ـ أمرا بعرفانها فى القلب أنها منّة ، لا الذكر باللسان ؛ إذ لا سبيل إلى ذكر كل ما أنعم عليه سوى الاعتراف بالعجز عن أداء شكر واحدة منها طول عمره.

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي).

قد ذكرنا فيما تقدم أن عهد الله على وجهين :

عهد خلقة : لما جعل فى خلقة كلّ أحد دلائل تدل على معرفته وتوحيده ، وأنه لم يخلقه للعبث ، ولا يتركه سدى.

وعهد رسالة : على ألسن الرسل ؛ كقوله تعالى : (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ...) الآية [المائدة : ١٢].

وكقوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية [المائدة : ١٢].

وكقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...) الآية [آل عمران : ١٨٧].

وقوله تعالى : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

الذى وعدتكم ؛ وهو الجنة ، كقوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ ...) الآية [المائدة : ١٢].

ويقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أى : أدوا ما فرضت عليكم من فرائض ، ووجّهوا إلىّ شكر نعمتى ، ولا تشكروا غيرى.

ويكون أوفوا بعهدى الذى أخذ على النبيّين بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ ...)

الآية [آل عمران : ٨١] ، (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٧] فيكون عهده تبليغ ما بيّن فى كتبهم ؛ من بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإقرار به ، والنصر له إذا بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

أى : اخشوا سلطانى وقدرتى.

__________________

(١) فى أ : يقول.

وقيل (١) : اخشوا عذابى ونقمتى.

وقيل (٢) : اخشوا نقض عهدى وكتمان بعث محمد نبيّى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) على نبيّى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن.

(مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

أى : موافقا لما معكم من الكتب ؛ من التوراة ، والإنجيل ، وغيرهما.

وهم قد عرفوا موافقته كتبهم ؛ إذ لم يتكلفوا جمع هذا إلى كتبهم ، ومقابلة بعض ببعض.

أو يحتمل قوله : (مُصَدِّقاً) أى : موافقا لما معكم من الكتب ، وليس كما قال صنف من الكفرة ـ وهم الصابئون ـ : إن الإنجيل نزل بالرّخص (٣) ، والتوراة نزلت بالشدائد. فقالوا باثنين ؛ لما لم يروا نزول الكتب ـ بعضها على الرّخص وبعضها على الشدائد من واحد ـ حكمة.

فقال عزوجل : (مُصَدِّقاً) أى : موافقا للكتب ، وأنها إنما نزلت من واحد لا شريك له ، وإن كان فيه شدائد ورخص ؛ إذ لله أن ينهى هذا عن شىء ، ويأمر آخر ، وينهى فى وقت ، ويأمر به فى وقت ، وليس فيه خروج عن الحكمة أن يأمر أحدا وينهاه فى وقت واحد ، وفى حال واحدة ، وفى شىء واحد.

ثم فى الآية دلالة أن المنسوخ موافق للناسخ ، غير مخالف له ؛ لأن من الأحكام والشرائع ما كانت فى كتبهم ، ثم نسخت لنا ، فلو كان فيها خلاف لظهر القول منهم إنه مخالف ، وإنه غير موافق.

وكذلك فى القرآن ناسخ ومنسوخ ، فلم يكن بعضه مخالفا لبعضه ، كقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن أبى العالية بنحوه (٨١٢) ، والسدى (٨١٣).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ٦٧).

(٣) تطلق كلمة (رخصة) ـ فى لسان العرب ـ على معانى كثيرة منها :

الإذن فى الأمر بعد النهى عنه : يقال : رخّص له فى الأمر ، إذا أذن له فيه ، والاسم رخصة على وزن (فعلة) مثل (غرفة) ، وهى ضد التشديد ، أى : أنها تعنى التيسير فى الأمور ، يقال : رخّص الشرع فى كذا ترخيصا ، وأرخص إرخاصا إذا يسره وسهله ، قال عليه الصلاة والسلام : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته». وفى الاصطلاح عرفها الغزالى بأنها : عبارة عما وسّع للمكلف فى فعله لعذر عجز عنه مع قيام السبب المحرّم.

ينظر : المستصفى (١ / ٦٣) ، لسان العرب ، تاج العروس (رخص).

وقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : لا تكونوا أول قدوة يقتدى بكم فى الكفر.

وقيل : أى لا تكونوا أول كافر بما آمنتم به ؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به.

وقيل : هم أول من التقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه ظهر بين أظهرهم ؛ فلو كفروا لكانوا أول من يكفر به فيلحقهم ما يلحق من سن الكفر لقومه مع ما يكونون هم بمعنى الحجة لغيرهم ؛ إذ كانوا أعرف به ، وأبصر بما معه من الأدلة والبراهين ؛ فيقتدى بهم من لم يشهد ولا علم.

فيكون عليهم ـ لو كفروا ـ ما على أول من كفر ـ ولا قوة إلا بالله ـ مع ما يلحقهم فيه وصف التعنّت والتمرد ، والله الموفق.

وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

قيل : بحجتى.

قال الحسن : الآيات فى جميع القرآن هى الدين ؛ كقوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦ ، ١٧٥].

وأما عندنا فهى الحجج ، وقد ذكرنا أن اسم الشراء قد يقع من اختيار شىء بشيء وإن لم يتلفظ بلفظ الشراء.

وقوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ).

أى : اتقوا عذابى ونقمتى ، ويحتمل : سلطانى وقدرتى. وقد ذكرناه.

وقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : لا تشتروا بالحق الباطل.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تلبسوا ؛ هو تلبيس الحق بالباطل.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تخلطوا.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تشبهوا الحق بالباطل.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : تكتموا.

ويحتمل : لا تلبسوا ، أى : لا تمحوا نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تثبتوا غيره. وكله يرجع إلى واحد.

ثم (الْحَقَ) يحتمل وجوها :

يحتمل : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته.

ويحتمل الحق : القرآن.

ويحتمل الحق : الإيمان.

والباطل : هو الظلم والكفر ، والله أعلم.

وقوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

لما ذكر هو ونعته فى كتابهم أنه حق ؛ إن كان محمدا عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ، أو القرآن والإيمان ، لكن تعاندون وتكابرون.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة أمرا بقبول الصلاة (١) المعروفة والزكاة المعروفة والمدعوة إليهما ؛ كقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ، ليس هو إخبارا عن إقامة فعلهما ، ولكن القبول لهما والإيمان بهما ، والله أعلم.

ويحتمل : أن يكون الأمر بإقامة الصلاة والزكاة أمرا بكونهم على حال تكون صلاتهم صلاة ، وزكاتهم زكاة.

قال : كونوا فى حال تكون صلاتكم صلاة ، وزكاتكم زكاة فى الحقيقة ؛ لأن الآية نزلت فى بنى إسرائيل وهم كانوا أهل كتاب ، وكانوا يصلّون ويصّدقون ، ولكن صلاتهم وزكاتهم لم تكن لله ، لما لم يأتوا بإيمانهم فأمروا أن يأتوا بالإيمان ؛ لتكون صلاتهم تلك صلاة فى الحقيقة.

ويحتمل : الأمر بإقامة الصلاة والزكاة أمرا بإقامتها بأسبابها وشرائطها (٢) من نحو

__________________

(١) فى أ : الصلوات.

(٢) قسم الحنفية ، والمالكية ، والشافعية شروط الصلاة إلى : شروط وجوب ، وشروط صحة ، وزاد المالكية قسما ثالثا هو : شروط وجوب وصحة معا.

أما شروط الوجوب : فهى : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، على تفصيل للمذاهب فيها :

وأما شروط الصحة فهى :

الطهارة الحقيقية : وهى طهارة البدن والثوب والمكان عن النجاسة الحقيقية ؛ لقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤] وإذا وجب تطهير الثوب فتطهير البدن أولى ، ولقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنزهوا من البول ، فإن عامة عذاب القبر منه» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلى عنك الدم وصلّى» ، فثبت الأمر باجتناب النجاسة ، والأمر بالشىء نهى عن ضده ، والنهى فى العبادات يقتضى ـ

الطهارة واللباس ، وإخلاص النية له ، وذلك راجع إلى المؤمنين.

ويحتمل : الأمر بالصلاة والزكاة أمرا لمعنى فيهما ، وهو الخضوع والطاعة له ، والثناء عليه ، وذلك على كل أحد أن يخضع لربه ويطيعه ولا يعصيه ، وكذلك الزكاة على كل أحد أن يزكى نفسه عن جميع القاذورات ، ويحفظها ، ويصونها عن جميع ما يضر به وذلك فرض على كل واحد ، وبالله التوفيق.

وقوله عزوجل : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).

قيل فيه بوجوه :

__________________

ـ الفساد. وأما طهارة مكان الصلاة ؛ فلقوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ١٢٥] وقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤] ؛ فهى تدل بدلالة النص على وجوب طهارة المكان ، كما استدل بها على وجوب طهارة البدن كما سبق. ولما روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه «نهى عن الصلاة فى المزبلة والمجزرة ومعاطن الإبل وقوارع الطريق والحمام والمقبرة» ... إلخ ، ومعنى النهى عن الصلاة فى المزبلة والمجزرة كونهما موضع النجاسة.

الطهارة الحكمية : وهى طهارة أعضاء الوضوء عن الحدث ، وطهارة جميع الأعضاء عن الجنابة ؛ لقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦] وقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقبل صلاة بغير طهور» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحت كل شعرة جنابة ؛ فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة» ، والإنقاء هو التطهير.

ستر العورة : لقول الله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : المراد به : الثياب فى الصلاة. ولقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ؛ ولأن ستر العورة حال القيام بين يدى الله تعالى من باب التعظيم.

استقبال القبلة : لقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٥٠] وقال ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ : «بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة».

العلم بدخول الوقت : لقول الله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] ولقول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمنى جبريل عند البيت مرتين ، فصلى الظهر فى الأولى منهما حين كان الفىء مثل الشّراك ، ثم صلى العصر حين كان كل شىء مثل ظله ، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شىء مثله لوقت العصر بالأمس ، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شىء مثليه ، ثم صلى المغرب لوقته الأول ، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل ، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض ، ثم التفت إلى جبريل وقال : يا محمد ، هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين». وقد اتفق الفقهاء على أنه يكفى فى العلم بدخول الوقت غلبة الظن.

ينظر : بدائع الصنائع (١ / ١١٦) ، حاشية ابن عابدين (١ / ٢٧٠) ، حاشية الدسوقى (١ / ٢١١) ، مغنى المحتاج (١ / ١٨٤) ، كشاف القناع (١ / ٢٦٣) ، تفسير القرطبى (٧ / ١٨٩).

قيل (١) : إن اليهود كانوا يصلون ولا يركعون ؛ فأمروا أن يصلوا لله ويركعوا فيها على ما يفعله المسلمون.

وقيل : إنّهم كانوا يصلون وحدانا لغير الله ؛ فأمروا بالصلاة مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بالجماعة.

وفيه أمر بحضور الجماعة.

وقيل (٢) : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أى : كونوا مع المصلين يعنى المسلمين ، ولا تخالفوهم فى الدين والمذهب ، أى : اعتقادا.

وقوله عزوجل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يعنى : الأتباع والسفلة باتباعكم ، وتعظيمكم لعلمكم (٣) ، وتلاوتكم الكتاب ، (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ولا تأمرونها باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعظيمه ، لعلمه ، ولنبوته ، ولفضل منزلته عند الله؟!

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ).

أى : تجدون فى كتابكم أنه كذلك.

وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

أنّ ذا لا يصحّ؟!.

وقيل : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) يعنى : الفقراء والضعفة بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تأمرون الأغنياء وأهل المروءة بالإيمان به ، لما تخافون فوت المأكلة ، والبر ، وانقطاعه عنكم.

ويحتمل أن ذا الخطاب لهم ولجميع المسلمين ، ألا يأمر أحد أحدا بمعروف إلا ويأمر نفسه بمثله ، بل الواجب أن يبدأ بنفسه ، ثم بغيره ، فذلك أنفع وأسرع إلى القبول.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن ذلك فى العقل لازم أن يجعل أول السعى فى إصلاح نفسه ، ثم الأمر لغيره. والله أعلم.

وقوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : أن استعينوا بالصبر على ترك الرئاسة والمأكلة فى الدنيا ؛ لأن الخطاب كان

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ٦٧).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ٦٧).

(٣) فى أ : لعملكم.

للرؤساء منهم بقوله : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ) إلى قوله : (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) والله أعلم.

ويحتمل : أن اصبروا على ترك الرئاسة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والانقياد والخضوع له ، لما بيّن لكم من الثواب فى الآخرة لمن آمن به وأطاعه ، وترك الرئاسة له.

ويحتمل : أن اصبروا على المكاره وترك الشهوات ؛ بأن الجنة لا تدرك إلا بذلك ؛ لما جاء : «حفت الجنة بالمكاره ، والنار بالشهوات» (١).

ويحتمل : أن استعينوا بالصوم والصلاة على أدائهما.

لكن هذا يرجع إلى المؤمنين ، والآية نزلت (٢) فى رؤساء بنى إسرائيل ، دليله قوله : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ).

وإنما يصلح هذا التأويل فى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ...) الآية [البقرة : ١٥٣].

وقوله عزوجل : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ).

يخرّج ـ والله أعلم ـ على ما ذكرنا من ترك الرئاسة ، والمأكلة فى الدنيا ، إنها لكبيرة عليهم إلا على الخاشعين ، فإنها غير كبيرة ، ولا عظيمة عليهم.

ويحتمل : أنّ ترك الرئاسة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانقياد له ، والخضوع ـ لثقيل إلا على الخاشعين ؛ فإنه لا يثقل ذلك عليهم ، ولا يكبر.

ويحتمل أن يقال : إن الصبر على الطاعة ، وأداء هذه الفرائض كبيرة على المنافقين إلا

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة باب صفة نعيمها ، حديث (١ / ٢٨٢٢) والترمذى (٤ / ٦٩٣) ، كتاب صفة الجنة ، باب ما جاء «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» ، حديث (٢٥٥٩) ، وأحمد (٣ / ١٥٣ ، ٢٥٤ ، ٢٨٤) ، وأبو يعلى (٦ / ٣٣) ، رقم (٣٢٧٥) ، وابن حبان (٧١٦ ، ٧١٨) ، والبيهقى فى (الشعب) (٧ / ١٤٧) رقم (٩٧٩٥) والخطيب فى (تاريخ بغداد) (٨ / ١٨٤) ، والبغوى فى (شرح السنة) (٧ / ٣٣١) من حديث أنس بن مالك به مرفوعا ، وقال الترمذى : حسن صحيح غريب.

وله شاهد من حديث أبى هريرة :

أخرجه البخارى (١١ / ٣٢٧) كتاب الرقاق ، باب حجبت النار بالشهوات ، حديث (٦٤٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤) ، كتاب الجنة ، حديث (١ / ٢٨٢٣) ، وأحمد (٢ / ٢٦٠) ، وابن حبان (٧١٩) ، كلهم من طريق أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة به.

وعند البخارى : (حجبت) بدلا من (حفت).

وأخرجه القضاعى فى مسند الشهاب (٥٦٧) من طريق مالك عن سمى عن أبى صالح عن أبى هريرة به.

(٢) هذا يفهم من سياق الآية السابقة فإن ابن جرير أخرجه عن ابن عباس (٨٤٠ ، ٨٤١) أن الخطاب لبنى إسرائيل ، وبمثله عن السدى (٨٤٢) وقتادة (٨٤٣) وابن زيد (٨٤٥).

على المؤمنين خاصة ، فإنه لا يتعاظم ذلك عليهم.

وقيل : إن تحويل القبلة إلى الكعبة لثقيل على اليهود ، والله أعلم.

وقوله : (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (١) : الخاشع ؛ هو الخائف بالقلب.

وقيل (٢) : الخاشع ؛ المتواضع.

وقيل (٣) : الخاشع ـ هاهنا ـ المؤمن.

وقال الحسن (٤) : الخشوع هو الخوف اللازم بالقلب.

وقوله عزوجل : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ).

يعنى : يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو ربهم بكسبهم وصنيعهم.

وقوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).

أى : سيعلمون يومئذ أنهم راجعون إليه.

قال صاحب المنطق : الظن هو الوقوف على أحد طرفى اليقين ، والشك هو الوقوف على أحد طرفى الظن (٥). والهمّة بين هذين.

__________________

(١) قاله أبو العالية بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٨٥٨).

(٢) قاله مقاتل بن حيان كما فى تفسير البغوى (١ / ٦٩).

(٣) قاله مجاهد بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٨٥٩ ، ٨٦٠) وعبد بن حميد كما فى الدر المنثور (١ / ١٣٢).

(٤) ذكره البغوى فى تفسيره بنحوه (١ / ٦٩).

(٥) الشك لغة : نقيض اليقين ، وجمعه : شكوك. يقال : شك فى الأمر ، وتشكّك : إذا تردد فيه بين شيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر ، قال الله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤] أى غير مستيقن ، وهو يعم حالتى الاستواء والرجحان. وفى الحديث الشريف : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» قيل : إن مناسبته ترجع إلى وقت نزول قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] حيث قال قوم ـ إذ ذاك ـ : شك إبراهيم ولم يشك نبينا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أى : أنا لم أشك مع أننى دونه فكيف يشك هو؟!

والشك فى اصطلاح الفقهاء : استعمل فى حالتى الاستواء والرجحان على النحو الذى استعملت فيه هذه الكلمة لغة فقالوا : من شك فى الصلاة ، ومن شك فى الطلاق ، أى : من لم يستيقن ، بقطع النظر عن استواء الجانبين أو رجحان أحدهما. ومع هذا فقد فرقوا بين الحالتين فى جزئيات كثيرة.

والشك فى اصطلاح الأصوليين : هو استواء الطرفين المتقابلين ؛ لوجود أمارتين متكافئتين فى الطرفين ، أو لعدم الأمارة فيهما.

ينظر : النهاية فى غريب الحديث (٢ / ٤٩٥) ، نهاية السول فى شرح منهاج الأصول للبيضاوى (١ / ٤٠) ، لسان العرب والمصباح المنير (شك).

قوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(٥٣)

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).

يحتمل وجوها :

يحتمل : (أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن الناس كانوا على فترة من الرسل ، وانقطاع من الوحى ، واختلاف من الأديان والمذاهب ؛ فبعث الله ـ تعالى ـ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليجمعهم ويدعوهم إلى دين الله ، ويؤلف بينهم ، ويخرجهم من الحيرة والتيه ، وذلك من أعظم نعمة أنعمها عليهم ، وبالله التوفيق.

وذلك أيضا يحتمل فيما تقدم من الآيات.

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي ...) الآية [البقرة : ٤٠].

وقوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [البقرة : ٤١] يعنى : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعهده فى الأرض رسوله ، كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) إلى قوله : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) [آل عمران : ٨١] أى : عهدى.

وعلى ذلك قوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة : ٤١] يعنى : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) [البقرة : ٤٢] يعنى : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكذلك قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣] أمكن تخريج هذه الآيات كلها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويحتمل أيضا قوله : (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) الوجوه التى ذكرنا.

أحدها : أن جعل منكم الأنبياء والملوك ؛ كقوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) [المائدة : ٢٠].

كما قيل : إن كل نبى من لدن يعقوب إلى زمن عيسى عليه‌السلام كان من بنى إسرائيل.

ويحتمل : ما آتاهم ـ عزوجل ـ من أنواع النعم ما لم يؤت أحدا من العالمين ؛

كقوله : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠] من المن ، والسلوى ، وتظليل الغمام ، وامتداد اللباس على قدر القامة والطول.

كما قيل : إن ثيابهم كانت تزداد وتمتد عليهم على قدر ما تزداد قامتهم ، وكانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ ، وذلك مما لم يؤت أحدا سواهم.

ويحتمل أيضا قوله : (نِعْمَتِيَ) أى : النجاة من فرعون وآله ؛ كقوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...) الآية [البقرة : ٤٩].

وقوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

قيل (١) : فضّلوا على جميع من على وجه الأرض ؛ على الدوابّ بالجوهر ، وعلى الجن بالرسل ، وعلى البشر بالإيمان.

ويحتمل تفضيلهم على العالمين وجوها أيضا :

ما ذكرنا من بعث الأنبياء منهم.

والنجاة من أيدى العدو.

وإهلاك العدو وهم يرونه.

وفرق البحر بهم ، والنجاة منه ، وإهلاك العدو فيه.

وذلك من أعظم النعم : أن ترى عدوّك فى الهلاك وأنت بمعزل منه آمن.

وقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) إلى قوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

يحتمل : فضّل أوائلهم.

وفى الآية وجهان على المعتزلة :

أحدهما : قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ، وعندهم : أن جميع ما فعل مما عليه الفعل ، ولو فعل غيره لكان يكون به جائزا ، فإذا كان تركه بفعله جائزا ففعله حق عليه.

ولا أحد يكون بفعل ما لا يجوز له الترك منعما على أحد ؛ فثبت أن كان ثمّ منه معنى زائد خصهم به ، وأن ليس التخصيص محاباة كما زعمت المعتزلة ، ولا ترك الإنعام بخل كما قالوا.

والثانى : قوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، فلو لم يكن منه إليهم فضل معنى ، لم يكن لهم تفضيل على غيرهم ؛ فثبت أن كان فيهم ذلك.

ومن قول المعتزلة : أن ليس لله أن يخص أحدا بشيء إلا باستحقاق يفعله ، وبذلك هم

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن قتادة بنحوه (٨٦٩) وأبى العالية (٨٧٠) ومجاهد (٨٧١ ، ٨٧٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٣).

فضّلوا أنفسهم على العالمين ، لا هو ، فكيف يمنّ عليهم بذلك؟! ولا قوة إلا بالله.

مع ما لا يخلو تفضيله إياهم على غيرهم من أن يكون لهم الفضل فى الدين أولا.

فإن لم يكن فليس ذلك بتفضيل.

وإن كان ثبت أن ليس من الحق عليه التسوية بين الجميع فى أسباب الدين.

وقوله عزوجل : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً).

الآية ـ والله أعلم ـ كأنّها مؤخّرة فى المعنى وإن كانت فى الذكر مقدمة ؛ لأنه قال : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ، ثم ذكر الأفضال والمنن فقال : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ...) الآية [البقرة : ٤٩] ، وقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) ، وقوله : (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٠].

ذكّرهم ـ عزوجل ـ عظيم نعمه ومننه عليهم ؛ ليشكروا له ، وليعرفوا أنها منّة ، وأنه فضل منه.

ثم حذّرهم ـ جل وعزّ ـ فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ...) الآية ؛ ليكونوا على حذر ؛ لئلا يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة من الهلاك وأنواع العذاب بعد الأمن ، والتوسع عليهم ، كقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) إلى قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ...) الآية [الأنعام : ٤٣ ـ ٤٤].

ثم فى الآية دليل لقول أبى حنيفة وأصحابه : إن الولد يصير مشتوما مقذوفا بشتم والديه ؛ لما عيرهم ـ جل وعزّ ـ بصنع آبائهم بقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) [البقرة : ٥١] وهم لم يتخذوا العجل ، وإنما اتخذ ذلك آباؤهم.

وكذلك ذكر ـ عزوجل ـ صنعه ومننه عليهم ، من نحو النجاة من الغرق ، وإخراجهم من أيدى العدو ، وفرق البحر بهم ، وإهلاك العدو. وإنما كان ذلك لآبائهم دونهم ، لكن ذكّرهم ـ جل وعزّ ـ عظيم مننه على آبائهم ؛ ليشكروا له على ذلك ، وكذلك عيّرهم بصنيع آبائهم من اتخاذ العجل ، وإظهار الظلم ؛ ليكونوا على حذر من ذلك ، والله أعلم.

وفى قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أى : بما كان إنعامى عليهم باتباعهم الرسول موسى ـ عليه‌السلام ـ وطاعتهم له ، فاتّبعوا اسم الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطيعوا له ، ولا تتركوا اتباعه.

وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً).

قيل : أى لا تؤدى نفس عن نفس شيئا ؛ كقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ...) الآيات [عبس : ٣٤ ـ ٣٥].

وقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : لا يكون لهم شفعاء يشفعون ؛ كقوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) [الشعراء : ١٠٠] وكقوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) [السجدة : ٤].

وقيل : لو كان لهم شفعاء لا تقبل شفاعتهم ؛ كقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] أى : لا يؤذن لهم بالشفاعة ؛ كقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

وقوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

والعدل : هو الفداء ، إما من المال ، وإما من النفس.

وذلك أيضا يحتمل وجهين :

يحتمل : ألا يكون لهم الفداء ، على ما ذكرنا فى الشفيع.

ويحتمل : أن لو كان لا يقبل منهم ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) [المائدة : ٣٦].

ثم الوجوه التى تخلص المرء فى الدنيا إذا أصابته نكبة بثلاث :

إما بفداء يفدى عنه ـ مالا أو نفسا ـ وإما بشفعاء يشفعون له ، وإما بأنصار ينصرون له ؛ فيتخلص من ذلك.

فقطع ـ عزوجل ـ عنهم جميع وجوه التخلص فى الآخرة.

والآية نزلت (١) ـ والله أعلم ـ فى اليهود والنصارى ، وهم كانوا يؤمنون بالبعث ، والجنة ، والنار ؛ كقوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وقوله : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤].

ولذلك ذكر اسم الفداء والشفيع ، وما ذكر ، وأما من لم يؤمن بالآخرة فلا معنى لذكر ذلك.

وقوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ).

قيل : آل الرجل : شيعته ؛ ولذلك قيل : آل رسول الله : قرابته.

وقيل (٢) : كل مؤمن فهو من آله ، وعلى ذلك الأمر بالصلاة عليه وعلى جميع من آمن به.

__________________

(١) وهذا يفهم من سياق الكلام.

(٢) قاله القرطبى فى تفسيره (١ / ٢٦٠) بنحوه.

وقوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : يقصدونكم أشد العذاب. وذلك يرجع إلى الاستعباد ، والاستخدام بأنفسهم.

وقيل (١) : يسومونكم ، يذيقونكم أشد العذاب ، وذلك يرجع إلى ما يسوءهم من تذبيح الأبناء وتقتيلهم ، كقوله : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) [البقرة : ٤٩ ، إبراهيم : ٦] أى : يقتلون أبناءكم.

وقوله : (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ).

يحتمل أيضا وجهين :

يحتمل : يستحيون من الحياء ، أى : استحيوا قتل النساء ، لما لا يخافهن.

ويحتمل من الإحياء ، أى : تركوهن أحياء فلم يقتلوهن.

وقوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

قيل (٢) : البلاء ـ ممدود ـ هو النعمة ، كأنه قال : فيما ينجيكم من فرعون وآله نعمة عظيمة.

وقيل (٣) : البلا ـ مقصور ـ هو الابتلاء والامتحان ؛ كأنه قال : فى استعباده إياكم واستخدامه امتحان عظيم.

وقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

قيل (٤) : فرقنا ، أى : جعلنا لكم البحر فرقا ، أى : طرقا تمرون فيه.

وقيل : فرقنا ، أى : جاوزنا بكم البحر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

كان الوعد لهم ـ والله أعلم ـ وعدين :

أحدهما : من الله ـ عزوجل ـ بصرف موسى إليهم مع التوراة ، كقوله : (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) [طه : ٨٦] أى : صدقا.

ووعد آخر ، كان من موسى بانصرافه إليهم بالتوراة على رأس أربعين ليلة ، كقوله :

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٣٠٩) والبغوى (١ / ٦٩) ، والقرطبى (١ / ٢٦١).

(٢) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٩٠٠) والسدى (٩٠١) ومجاهد (٩٠٢ ، ٩٠٣) وابن جريج (٩٠٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٤).

(٣) قاله البغوى (١ / ٧٠).

(٤) أخرجه ابن جرير (٩٠٥) عن السدى بنحوه وعزاه السيوطى فى الدر (١ / ١٣٤) لعبد بن حميد عن قتادة.

(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) [طه : ٨٦].

وقوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ).

يحتمل وجهين :

(اتَّخَذْتُمُ) : أى عبدتم ؛ فاستوجبوا ذلك التعبير واللائمة بعبادة العجل لا باتخاذه نفسه.

ويحتمل : اتخذتم العجل إلها ؛ فاستوجبوا ذلك باتخاذهم إلها ، كقوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الأعراف : ١٤٨].

وهذا كان أقرب.

وقيل : اتخذتم ، أى : صنعتم ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ).

قيل فى الظلم بوجوه :

قيل : إن كل فعل يستوجب به الفاعل عقوبة فهو ظلم.

وقيل : إن كل عمل لم يؤذن له فهو ظلم.

وهاهنا ـ حيث فعلوا ما لم يؤذن لهم ـ نسبهم إلى الظلم ؛ لأنهم ظلموا أنفسهم.

وقيل (١) : إن الظلم هو وضع الشىء فى غير موضعه ؛ فسموا بذلك لأنهم وضعوا الألوهية فى غير موضعها ، وهذا كأنه ـ والله أعلم ـ أقرب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ...) الآية.

ينقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يزعمون أن الله إذا علم من أحد أنّه يؤمن به فى آخر عمره ـ وإن طال ـ أو يكون من نسله من يؤمن إلى آخر الأبد ، لم يكن له أن يميته ، ولا له أن يقطع نسله.

فإذا كان على الله أن يبقيهم ، ولا يقطع نسلهم ، لم يكن للامتنان عليهم ، ولا للإفضال وطلب الشكر منهم ـ معنى ؛ إذ فعل ـ جل وعزّ ـ ما عليه أن يفعل. وكل من فعل ما عليه أن يفعل لم يكن فعله فعل امتنان ، ولا فعل إفضال ؛ لأنه ـ عزوجل ـ منّ عليهم بالعفو عنهم ، حيث لم يستأصلهم ، وتركهم حتى تناسلوا وتوالدوا ، ثم وجه الإفضال والامتنان على هؤلاء ـ وإن كان ذلك العفو لآبائهم ؛ لأنه لو أهلك آباءهم وقطع تناسلهم انقرضوا وتفانوا ، ولم يتوالدوا ؛ فالمنّة عليهم حصلت ؛ لذلك طلبهم بالشكر له ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٣٢٣).

فإذا كان هذا ما وصفنا دلّ أن ليس على الله أن يفعل الأصلح لهم فى الدين (١) ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) ذهب أهل السنة إلى : أن الأصلح للعبد غير واجب على الله تعالى ، فيجوز ترك هذا الأصلح والعدول عنه إلى غيره إذا كانت هناك حكمة تقتضى هذا الترك كما هو مذهب الماتريدية القائلين : إن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الحكمة ؛ لأن خلو الفعل عن مطلق الحكمة عبث يتنزه الله تعالى عنه ، فمراعاة الحكمة لا بد منها عندهم لكنهم يتأدبون مع الله تعالى فلا يعبرون عن مرادهم بقولهم (يجب) كما أنهم لا يقولون بوجوب مراعاة حكم خاصة.

أما الأشاعرة فيقولون : يجوز لله ـ سبحانه وتعالى ـ ترك الأصلح مطلقا ولو لم تقتض الحكمة تركه لأن الله لا يجب عليه شىء ، لا حكم خاصة ، ولا مطلق الحكم ، بخلاف الماتريدية يقولون لا بد من مراعاة مطلق الحكم.

فإن قيل : كيف يقول الماتريدية ذلك مع أنهم صرحوا أيضا بأن الله لا يجب عليه شىء.

فالجواب : أنهم إنما قالوا ذلك لأنهم ينفون الوجوب فى الخصوصيات من اللطف والأصلح للعبد والثواب والعقاب ، فلا ينافى أنهم يقولون لا بد من مراعاة مطلق الحكم.

هذا ولأهل السنة خمسة أدلة يستدلون بها على مذهبهم من عدم وجوب الأصلح على الله عزوجل :

الدليل الأول : أن الأصلح ليس بواجب على الله ، وإلا لما خلق الكافر الفقير المعذب فى الدنيا والآخرة ، قال الشيخ صالح شرف :

ونوقش هذا الدليل : بأن قولهم «الفقير المعذب فى الدنيا» لا حاجة إليه فى الدليل لأن الخصم لا يقول بوجوب الأصلح للعبد فى الدنيا.

ثم إن هذا الدليل لا يلزم جمهور البصريين من المعتزلة ؛ لأن مذهبهم أن ما فعله الله عزوجل بالكافر من خلقه وبقائه سليم الحواس وتعريضه لأعلى المنزلتين هو الأصلح له فى دينه ، لكن هذا الدليل يلزم الجبائى فقط ؛ لأنه يقول : إن الأصلح للكافر عدم خلقه أو إماتته وإن شئت إلزام جمهور البصريين فقل فى الدليل : لو كان الأصلح واجبا على الله لما أمات الطفل أو أجن العاقل.

الدليل الثانى : أن الأصلح لو كان واجبا على الله لترتب عليه ألا يكون لله ـ عزوجل ـ منة على العباد ولما استحق الشكر على الهداية وإفاضة أنواع الخيرات ، لكن هذا باطل لأن الله ـ عزوجل ـ قد من على المؤمنين بقوله (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤] وقال أيضا (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) [الحجرات : ١٧] وقال (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥٢] ؛ فلما ثبتت المنة علينا من الله عزوجل وبان أنه يستحق الشكر بطل القول بوجوب الأصلح عليه تعالى ؛ لأنه لو كان واجبا عليه ، لما أمكنه أن يتركه ، والفاعل لما لا يقدر على تركه لا يستحق أن يشكر عليه.

وقد نوقش هذا الدليل بما يلى :

أولا : أن قوله : «وإفاضة أنواع الخيرات» لا حاجة إلى ذكره فى الدليل لأن هذا متعلق بالدنيا ، وأجيب عن هذا بأن الزيادة على الدعوى لا تضر إنما المضر نقص الدليل. ونوقش الدليل ثانيا بأن المنة واستحقاق الشكر لا ينافيان وجوب فعل الأصلح فيكون فعل الأصلح واجبا على الله ، ويمن ويشكر عليه ، بدليل أن الوالد شفقته على أولاده واجبة لا يمكنه تركها ويمن عليهم ويستحق منهم الشكر.

وأجيب عن ذلك بأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الوالد له حالتان : شفقة راجعة إلى أصل طبعه وجبلته لا يمكن تركها ، وشفقة راجعة إلى اختياره يمكنه تركها ، وهو لا يمن على ولده بالنوع الأول ولا يستحق شكرا على حصول هذه الشفقة الجبلية منه لأنها لازمة لذاته لا يمكنه تركها ، ـ

__________________

ـ وأما الشفقة الراجعة إلى اختياره فإنها إن وجدت صح له أن يمن على أولاده بها ، ويستحق منهم الشكر على حصولها.

وحالة الأصلح الواجب على الله مثل الشفقة الجبلية ؛ لأن كلا منهما لازم للذات لا يمكن تركه فلا يمن الفاعل ولا يستحق شكرا ، وبذلك تم الدليل.

وهذا الدليل ملزم للبصريين جميعا ؛ لأنه مفروض فى مؤمن هداه الله إلى الإيمان ، فقد فعل الله به الأصلح الواجب على كلا المذهبين.

الدليل الثالث : لو كان الأصلح واجبا على الله لما كان امتنانه على النبى فوق امتنانه على أبى جهل لأن الله ـ عزوجل ـ قد فعل بكل منهما غاية مقدوره بأن عرضهما للنعيم بعد خلقهما وبقائهما سليمين فهما مستويان فى هذا ، والله فعل الواجب عليه فى حقهما فلم يصح أن تكون هناك منة أكثر على النبى ، هذا باطل لأن الله تعالى قد امتن على النبى أكثر بنص القرآن.

وقد نوقش هذا الدليل أولا : بأنه لا لزوم له بعد الدليل الثانى ؛ لأن الدليل الثانى نفى أصل المنة على مقتضى مذهب الخصوم فلا تكون هناك كثرة منة من باب أولى.

ويجاب عن هذه المناقشة بأن هذا الدليل مبنى على تسليم أصل المنة فهو دليل مستقل بغض النظر عن الدليل الثانى.

ونوقش هذا الدليل ثانيا بأن كثرة الامتنان على النبى لكثرة العطاء الواصل إليه من إرساله إلى الخلق وكونه خاتم المرسلين.

ويجاب عن هذه المناقشة بأن الكلام فى الأصلح الواجب عليه من التعريض لأعلى المنزلتين فلا تكون هناك منة ولا كثرة من باب أولى ، يقول الشيخ صالح شرف : ولكن للمعتزلة أن يقولوا : إن هذه الكثرة على الرسالة التى هى غير أصلح لا على التعريض الواجب عليه. والحق أن هذا الدليل لا يتم ، وعلى فرض تمامه هو ملزم لغير الجبائى لأن الجبائى ملزم بخلق نفس أبى جهل.

الدليل الرابع : لو كان يجب على الله تعالى فعل الأصلح لما كان لسؤال العصمة والتوفيق وكشف الضراء والبسط فى الخصب والرخاء معنى ، وهذا باطل ، فبطل ما أدى إليه. وقد نوقش هذا الدليل بما يلى :

أولا : إن قوله (والبسط) زيادة فى الدليل.

ثانيا : إن العصمة ليست من الأصلح الواجب ؛ لأنه على مذهب الجبائى الأصلح الواجب هو الإيمان ، وأما على مذهب جمهور البصريين فالأصلح الواجب هو خلق العبد وبقاؤه سليم الحواس وتعريضه لأعلى المنزلتين ، فالعصمة أمر زائد على الأصل الواجب ؛ فيصح طلبها نعم إن التوفيق الذى هو خلق الهداية فى العبد أصلح للعبد فى دينه فيجب على الله فلا معنى لطلبه لأنه حاصل على مقتضى مذهب الجبائى.

إنه ينبغى ألّا يحتجّ بهذا الدليل على المعتزلة ؛ لأنهم لا يقولون بالدعاء ولا ينفعه ، ومن ثم فإن الاحتجاج عليهم بهذا الدليل هو احتجاج بما لا يسلمونه ، أي : أن المحتج يحتج بما يسلمه هو ويراه صحيحا ، لا ما يراه خصمه ويسلم به. والأولى فى الاستدلال أن يكون بما يسلم به الخصم.

وقد أجيب عن هذه المناقشة بأنه لما ثبت بالدليل القاطع نفع الدعاء ، لزم أن يكون نفعه مذهبا للخصم ولا عبرة بعدم قيام النصوص المؤيدة له بإنكارهم.

الدليل الخامس : استدل أهل السنة كذلك على مذهبهم بأن الأصلح لو كان واجبا على الله لما بقى فى قدرة الله تعالى شىء بالنسبة إلى مصالح العباد ، لأن الله تعالى بذلك يكون قد أتى بالواجب عليه ولا يستطيع أن يفعل خلافه ، وهذا باطل ؛ لما فيه من تحديد القدرة والمقدورات وأن القدرة لا يمكنها أن ـ

__________________

ـ تفعل خلاف هذا الأصلح. يقول الشيخ صالح شرف : ولكن للمعتزلى أن يقول إنه لا تحديد للقدرة لأن مصالح العباد تتجدد بخلقهم فمصالحهم التى هى متعلق القدرة متجددة بتجدد خلقهم ، ولا يضير القدرة ألا تتعلق بالمستحيل لأنه ليس من وظيفتها. وهذا الدليل على فرض صحته ملزم للبصريين جميعا.

المذهب الثانى : مذهب معتزلة بغداد : وهو أنه يجب على الله الأصلح فى الدين والدنيا ، بمعنى الأوفق للحكم والمصالح لا بمعنى الأنفع للعبد. وبناء على هذا يجوز عندهم أن يترك الأنفع للعبد مراعاة للحكمة ، وأفعاله تعالى لا بد وأن توافق الحكم والمصالح ، فهم على هذا لا يخاصمون الماتريدية فى قولهم وما هو الأصلح للعبد فليس ذلك بواجب على الله تعالى لأنهم لا يوجبون الأصلح بالنسبة للعبد ، فهم ينطقون بهذه الدعوى كما ينطق بها الأشعرى والماتريدية ، إذ إن هؤلاء جميعا قد اتفقوا على عدم وجوب الأصلح للعبد بمعنى الأنفع له ، وأما الأصلح بمعنى الأوفق للحكمة بالنسبة للعباد جملة واحدة فيجب عند معتزلة بغداد ، ولا بد منه عند الماتريدى ولا يجب عند الأشعرى كما لا يجب الأصلح بمعنى الأنفع للعبد.

ومن هذا يتبين أنه لا خصومة بين الماتريديين والبغداديين ولا خلاف بينهم إلا فى التعبير الموهم عند البغداديين

المذهب الثالث : مذهب الجبائى يرى الجبائى ـ وهو أحد معتزلة البصرة ـ أن الأصلح بمعنى الأنفع للعبد فى الدين على حسب علم الله تعالى واجب عليه فأوجب على الله ما فيه نفع للعبد فى دينه ، فما علم أنه ينفع العبد فى دينه من الإيمان وجب عليه فعله ، وما علم أنه غير نافع له فى دينه من الكفر وجب عليه تركه ويستحيل عليه فعله.

وقد اعترض على مذهب الجبائى هذا بخلق الكافر لأن الكفر ليس فيه نفع للعبد فى دينه فكان يجب على الله عدم خلقه ، أو خلقه ثم إماتته طفلا ، أو سلب عقله إذ كان الخلق أشرف من العدم.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأجوبة :

أحدها : أن للجبائى أن يقول : إن الأصلح واجب على الله إذا لم يوجب تركه حفظ أصلح آخر بالنسبة إلى شخص آخر ، أما إذا كان ترك الأصلح مستلزما لحفظ أصلح آخر فإنه يجوز تركه ، فربما يكون موت الكافر صغيرا موجبا لكفر أبويه أو إخوته ، فلم يفعل الأصلح به من الإماتة نظرا للأصلح بالنسبة لأبويه أو إخوته ، وأيضا ربما يخرج الله من نسل الكافر صلحاء ، فرعاية لأصلح كثيرين وجب فوت الأصلح له.

وفى هذا يقول الشيخ صالح شرف : غير أن هذا الجواب لا ينفع الجبائى لأن مذهبه يقرر ربط الأصلح بالنسبة للعبد نفسه ، فترك الأصلح فى حقه مراعاة لأصلح آخر فى حق غيره ظلم.

الجواب الثانى أن الجبائى لا يقول بأن الإبقاء وإيصال النفع واجب على الله تعالى ، حتى يرد ما عليه ذلك الاعتراض ، بل الذى يقول به الجبائى هو أن الواجب على الله تعالى هو اللطف والتمكين والإقدار على الأصلح ؛ كإعطاء العقل ، وإرسال الرسل ، وذلك حاصل للكافر ، وكل ذلك نافع له فى دينه. يقول الشيخ صالح شرف : ولكن هذا الجواب أيضا لا ينفع الجبائى ؛ لأن وجوب اللطف على الله أمر آخر غير وجوب الأصلح عند معتزلة البصرة ، إذ اللطف عندهم هو الفعل المقرب إلى الطاعة المبعد عن المعصية ، كبعثة الأنبياء وهذا غير الأصلح بمعنى الأنفع للعبد فى دينه مثل إيمانه. ولكن كيف يقال إن هذا مذهب الجبائى وهو يعلم أن الدنيا مملوءة بالكفر والفسوق؟ وكيف يحرر مذهبه ضد ما هو مشاهد؟ والجواب أن هذا هو المنقول عنه ويصح أن يكون الخطأ فى النقل.

الرابع مذهب جمهور معتزلة البصرة : حيث ذهبوا إلى أنه يجب على الله سبحانه وتعالى الأصلح بمعنى الأنفع للعبد فى دينه هذا الأنفع الواجب على الله تعالى للعبد ، قد حددوه بأنه خلق العبد ـ

__________________

ـ وبقاؤه سليم الحواس وتعريضه لأعلى المنزلتين من النعيم المقيم ؛ وأما الكافر فمن نفسه وعمله بقدرته بناء على مذهبهم من أن العبد يخلق أفعال نفسه ، وعلى ذلك لا يلزمون بالكافر لأن الله فعل به الأصلح من خلقه وبقائه سليم الحواس وتعريضه للنعيم ، غير أنهم يلزمون بمن مات صغيرا أو جن بعد البلوغ ؛ لأن ذلك ليس أصلح له ، فكان يجب على الله عدم فعله على مذهبهم ، وهذا المذهب أيضا منقول عنهم.

أدلة المعتزلة :

استدل المعتزلة بأنه لو جاز لله تعالى أن يترك الأصلح للعبد ، لترتب على هذا أن يجوز على الله ـ تعالى ـ بعض صفات النقص كالجهل والبخل والسفه والعبث ، وهذه الصفات محالة فى حق الله ـ تعالى ـ فهو متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص ، فيستحيل بالتالى ما أدى إليها من جواز ترك الأصلح ، ووجهوا استدلالهم هذا بأن ترك الأصلح إن كان لعدم القدرة عليه لزم العجز ، وأما إن كان قادرا عليه ولكن تركه لعدم العلم به لزم الجهل ، وإن كان تركه مع العلم به والقدرة عليه ولكن تركه شحّا لزم البخل ، وإن كان ترك الأصلح لغير ما ذكر ولكن لغرض فاسد لزم السفه ، وإن كان تركه لا لغرض أصلا لزم العبث. وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأن جواز ترك الأصلح لا يترتب عليه شىء من تلك الصفات التى أوردتموها من العجز والجهل والبخل والسفه والعبث ؛ لأن الله عزوجل إذا ترك الأصلح للعبد يكون قد منع ما هو حق وملك له ؛ ولذا قيل فى مثل هذا المقام : (إن منعك ما هو لك فقد ظلمك وإن منعك ما هو له فما ظلمك).

والخلاصة : أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة كرم الله تعالى وحكمته ولطفه وعلمه بالعواقب ، وأن الله وإن جاز فى حقه ترك الأصلح للعبد فلا يتركه إلا لحكمة تقتضى ذلك الترك ؛ لأن من كان كريما حكيما عليما بالعواقب لا يفعل الشىء ولا يتركه إلا لحكمة يعلمها هو وإن خفيت علينا وعلى ذلك يجوز أن يترك الأصلح فى حق العبد مراعاة لحكمة يعلمها وإن خفيت على هذا العبد ولا يكون فى ذلك ظلم له لأنه لا حق له على الله تعالى.

ثم إن الزمخشرى قال فى قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) [المائدة : ١١٨] فليس ذلك بخارج عن حكمتك ، فيفهم من كلامه أنه يجوز ترك الأصلح الذى هو التعذيب إلى غير الأصلح الذى هو المغفرة ؛ لأن الترك ليس بخارج عن الحكمة.

وقد أجيب عن كلام الزمخشرى هذا بأربعة أجوبة :

أحدها : أن كلامه لا يفهم منه هذا الفهم المذكور ، بل يحتمل أن يكون التعذيب واجبا لا أصلح ، ووجوبه بالنسبة إلى استيجاب كفرهم إياه بناء عليه تكون المغفرة غير واجبة ، ويجوز عندهم ترك الواجب إلى غير الواجب لحكمة. والفرق بين الواجب والأصلح ـ على هذا الجواب ـ أن الواجب حق الله فقط ، والأصلح حق العبد وعلى ذلك يكون كلام الزمخشرى معناه إن تعذبهم وتفعل الواجب بهم فإنهم عبادك وإن تترك هذا الواجب إلى غيره من المغفرة التى هى غير واجب فذلك ليس بخارج عن حكمتك ، فيكون ذلك من باب ترك الواجب إلى غير الواجب لا من باب ترك الأصلح إلى غيره.

ثانيا : وأجيب بأنه لو سلمنا أن التعذيب أصلح ، فإننا لا نسلم بأن المغفرة غير أصلح ، بل هى أصلح آخر على فرض وقوعها ، وبناء عليه يكون المعنى : إن تفعل التعذيب الذى هو أصلح فهم عبادك ، وإن تترك هذا الأصلح إلى المغفرة التى هى أصلح أيضا فذلك ليس بخارج عن حكمتك ، ولا يلزم من ذلك أن تكون المغفرة أصلح فى ذاتها ، بل كونها أصلح مبنى على فرض وقوعها الذى هو محال ، وعلى هذا تكون المسألة من باب ترك الأصلح إلى أصلح آخر على فرض وقوعه. ـ

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أى : لكى تشكروا. وكذلك قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] أى : لكى يوحدوا.

وذلك يحتمل وجوها :

يحتمل : أن يشهد خلقه كلّ أحد على وحدانيته ، وكذلك يشكر خلقه كلّ أحد له.

ويحتمل : عبادة الأخيار بوحدانيته ، والشكر له بما أنعم وأفضل عليه ، وذلك يرجع إلى من يعبد ويوحد.

ويحتمل : أنه خلقهم ؛ ليأمرهم بالعبادة ، والشكر له ، من احتمل منهم الأمر بذلك.

وقوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ).

يعنى : التوراة. والكتاب : اسم لكل مكتوب.

وقوله : (وَالْفُرْقانَ).

قيل : سميت فرقانا ؛ لما فرق وبيّن فيها الحلال والحرام ، وكل كتاب فرق فيه بين

__________________

ـ وأجيب ثالثا بأننا حتى لو سلمنا لكم أن التعذيب أصلح وأن المغفرة غير أصلح فإن هذا لا ينهض دليلا لما فهمتموه ؛ لأن تجويز ترك الأصلح الذى هو التعذيب معلق على المغفرة والمغفرة محال وقوعها ، والمعلق على المحال محال ، فترك التعذيب الذى هو أصلح محال. وعلى هذه الأجوبة الثلاثة تكون الخصومة متحققة بين الماتريدية والمعتزلة بما فيهم الزمخشرى.

رابعا : لو سلمنا لكم جواز هذا الفهم الذى فهمتموه من كلام الزمخشرى وأنه يجوز عنده ترك الأصلح إلى غيره إذا اقتضت الحكمة الترك. فإن هذا لا يعدو أن يكون رأيا للزمخشرى وليس رأيا لكل المعتزلة.

هذا ويمكن التوفيق بين الفريقين ، بما نقله الشيخ صالح شرف عن بعض العلماء من أنه : لا يعقل أن يكون هناك خلاف بل مرادهم بوجوب الأصلح على الله تعالى أنه لا بد من حصوله وكل ما هو واقع بالعبد فهو أصلح لأن فيه حكمة ومصلحة سواء أكان فعلا أم تركا وسواء أكان نافعا للعبد فى دينه أم لا ، ولا يعنون بالوجوب عليه الإكراه أو سلب الاختيار ، بل المعنى أنه لا بد من حصوله وأن أفعال الله لا تخلو عن الحكم والمصالح ـ وإن خفيت علينا ـ ولذلك قال الإمام الفاضل محمد عبده رحمه‌الله تعالى : (قد قطع البرهان بأن الواجب لا يكون عابثا فى أفعاله بل لا بد أن تكون مبنية على الحكمة التامة وأنه ليس شىء مما يبرز فى الوجود بقاصر عن المصالح لولاها لم يكن فى الوجود ، بل ربما كان يختل به نظام كل موجود فإذا التفتنا إلى تعداد تفصيل هذه الحكم فقد ندرك الحكمة بوجه وقد لا ندركها ، وعدم إدراكنا لها لا يوجب عدمها لما قام من البرهان ، فقول المعتزلى يجب على الله الأصلح ، إن كان يريد ما ذكرناه فنعم ولا خلاف لأصحابنا معه خصوصا الماتريدية لأنهم لا يجوزون العبث على الله تعالى ، وإن كان يريد أن يجب عليه الأصلح أى يجب عليه أن يراعى المصالح على حسب ما نحن نفهمه وندركه فذلك ضرب من الجهالة كأنه يريد أن يضرب لله قانونا لا يجوز لله تجاوزه على حسب عقله السخيف).

ينظر أصول البزدوى ص (١٢٦) ، ونشر الطوالع ص (٢٨١) ، وحاشية البيجورى ص (٧٦) ، والنشر الطيب للوزانى ص (٢ / ١٠٣).

الحلال والحرام فهو فرقان.

وقيل (١) : يسمى فرقانا ؛ لما فرق فيه بين الحق والباطل. وهما واحد.

وقيل : سميت التوراة فرقانا ؛ لما فيها المخرج من الشبهات.

وقيل : الآية على الإضمار ؛ كأنه قال : وإذ آتينا موسى الكتاب ـ يعنى التوراة ـ ومحمدا الفرقان ؛ كقوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١].

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

فالكلام فيه كالكلام فى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقد ذكرنا فيه ما أمكن ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)(٥٩)

وقوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ).

وقيل (٢) : ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلها.

وقوله عزوجل : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ).

قيل : ارجعوا عن عبادة العجل إلى عبادة ربكم.

وقيل : ارجعوا عن اتخاذ العجل إلها إلى اتخاذ خالقكم إلها.

وقوله عزوجل : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

قال الفقيه أبو منصور ـ رحمه‌الله ـ : لو لا اجتماع أهل التأويل والتفسير على صرف ما أمر الله ـ جل وعزّ ـ إياهم بقتل أنفسهم على حقيقته ، وإلا لم نكن نصرف الأمر بقتل أنفسهم على حقيقة القتل ؛ وذلك لأن الأمر بالقتل كان بعد التوبة ، ورجوعهم إلى عبادة الله ، والطاعة له ، والخضوع.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن أبى العالية (٩٢٩) ومجاهد (٩٣٠ ، ٩٣١ ، ٩٣٢) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٥).

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٧٣).

دليله قوله عزوجل : ـ (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ١٤٩]. ظهر بهذا : أنهم تابوا قبل أن يؤمروا بالقتل.

وقد شرع على ألسن الرسل : قتال الكفرة حتى يسلموا ؛ فلا يجوز ذلك إن أسلموا ، فيحصل الإرسال للقتل خاصة ، لا للدين ، والله أعلم.

ولأن القتل هو عقوبة الكفر ، لا عقوبة الإسلام ، وخاصة قتل استئصال ، على ما روى فى الخبر : أن قتل سبعون ألفا فى يوم واحد (١).

وذلك استئصال وإهلاك ، ولم يهلك الله قوما إلا فى حال الكفر والعناد ؛ إذ الإسلام سبب درء القتل وإسقاطه ؛ لأن من يقتل لكفره إذا أسلم سقط القتل عنه وزال ، وكذلك إذا أسلم وتاب ومات عليه ، لم يعاقب فى الآخرة لكفره فى الدنيا.

فعلى ذلك : يجب ألا يعاقب هؤلاء فى الدنيا ـ بالقتل ـ بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله وطاعته.

ويصرف الأمر بالقتل ، إلى إجهاد أنفسهم بالعبادة لله ، والطاعة له ، واحتمال الشدائد والمشقة ؛ لتفريطهم فى عصيان ربهم ، باتخاذهم العجل إلها ، وبعبادتهم إياه دون الله.

وذلك جار فى الناس ، يقال : فلان يقتل نفسه فى كذا ، لا يعنون حقيقة القتل (٢) ، ولكن : إجهاده نفسه فى ذلك ، وإتعابه إياها ، واحتمال الشدائد والمشقة فيه.

فعلى ذلك ، يصرف الأمر بقتل أنفسهم إلى ما ذكر ، بالمعنى الذى وصفنا ، والله أعلم.

ثم صرف ذلك إلى حقيقة القتل احتمل وجهين :

أحدهما : أن يجعل ذلك ابتداء محنة من الله ـ تعالى ـ لهم بالقتل ، لا عقوبة لما سبق من العصيان.

ولله أن يمتحنهم ـ ابتداء ـ بقتل أنفسهم ؛ كقوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) الآية [النساء : ٦٦] على تأويل كثير من المتأولين فى ذلك ؛ إذ له أن يميتهم بجميع أنواع الإماتة.

فعلى ذلك : له أن يأمر بقتل أنفسهم ، وفيه إماتة ، مع ما فيه الاستسلام لعظيم ما دعوا إليه ، من بذل النفس لله ، مما فى مثله جعل وفاء إبراهيم الأمر بالذبح ، وبذل ولده النفس

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (٩٣٧ ، ٩٤٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٥).

(٢) فى أ : الأمر.

له.

فيكون فى ذلك القدر وفاء وتوبة لا حقيقة القتل ، والله أعلم.

والثانى : يجوز ذلك ؛ لأن عقوبات الدنيا وثوابها محنة ، لجواز الامتحان بعد التوبة والرجوع إلى طاعة الله ؛ لأنها دار محنة.

وأما عقوبات الآخرة وثوابها فليستا بمحنة ؛ لأنها ليست بدار امتحان ؛ لذلك : جاز التعذيب فى الدنيا بعد التوبة ، ولم يجز فى الآخرة إذا مات على التوبة ، والله أعلم.

ثم قيل فى قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، بوجوه :

قيل : أمروا ببذل الأنفس للقتل ، والتسليم له ؛ فصاروا كأن قد قتلوا أنفسهم.

ويجوز أن يكون الأمر بقتل أنفسهم أمرا بمجاهدة الأعداء ، وإن كان فيها تلفهم على ما قال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ...) الآية [التوبة : ١١١] مذكور ذلك فى التوراة.

وكذا قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤] نهى عن القتل الذى فيه قتل أنفسهم.

وقد قيل فى قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] بمعنى : أى لا تقتلوا من تقتلون ، فكأنما قد قتلتم أنفسكم ، وعلى هذا التأويل خرّج أبو بكر قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٦٦]. والله الموفق.

وقيل (١) : أمر بعضا بقتل بعض ، كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً) [النور : ٦١] أى : يسلم بعضهم على بعض.

وقيل : أمر كلّ من عبد العجل بقتل نفسه ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ).

قيل : إن التوبة خير لكم عند خالقكم.

وقيل (٢) : قتلكم أنفسكم خير لكم من لزوم عبادة العجل.

ويحتمل : عبادة الرب ـ عزوجل ـ خير لكم من عبادة العجل ، والله أعلم.

وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وقد ذكرنا المعنى فى ذلك فيما تقدم.

وفى بذل أنفسهم للقتل ، والصبر عليه ، وكف أيديهم عن الدفع ، والممارسة ـ فيه وجهان :

__________________

(١) تقدم عن ابن عباس ، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد (٩٣٩ ، ٩٤٠) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٥).

(٢) قاله ابن جرير (١ / ٣٢٨).

أحدهما : أنه كأنهم طبعوا على أخلاق البهائم والدواب.

وذلك أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم استنقذهم من خدمة فرعون وآله ، ونجاهم من الشدائد التى كانت عليهم ، ولحوق الوعيد بهم ، وأراهم من الآيات العجيبة : من آية العصا ، واليد البيضاء ، وفرق البحر ، وإهلاك العدو فيه ، وتفجير الأنهار من حجر واحد ، وغير ذلك من الآيات ما يكثر ذكرها ، أن لو كانت واحدة منها لكفتهم ، ودلتهم على صدقه ونبوته.

ثم ـ مع ما أراهم من الآيات ـ إذا فارقهم ، دعاهم السامرى إلى عبادة العجل ، واتخاذه إلها ، كقوله : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) [طه : ٨٨] فأجابوه إلى ذلك ، وأطاعوه.

وكان هارون ـ صلوات الله على نبينا وعليه ـ فيهم ، يقول : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [طه : ٩٠] ، فلم يجيبوه ولا صدقوه ، ولا اكترثوا إليه ، مع ما كان هارون من أحب الناس إليهم.

فلو لا أنهم كانوا مطبوعين على أخلاق البهائم والدواب ، وإلا ما تركوا إجابته ، ولا عبدوا العجل ، مع ما أروا من الآيات التى ذكرنا.

فإذا كان إلى هذا يرجع أخلاقهم لم يبالوا ببذل أنفسهم للقتل ، والله أعلم ، ونحو ذلك قوله : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨].

وعلى ذلك جعلت آيات موسى كلها حسية لا عقلية ؛ إذ عقولهم كادت تقصر عن فهم المحسوس ودركه ، فضلا عن المستدل عليه ، والله أعلم.

والثانى : يحتمل أن أروا ثواب صبرهم على القتل فى الآخرة ، وجزيل جزائهم ، وكريم مآبهم ؛ فهان ذلك عليهم وخف.

كما روى أن امرأة فرعون لما علم فرعون ـ لعنه الله ـ بعبادتها ربها ، وطاعتها له ، أمر أن تعاقب بأشد العقوبات ، ففعل بها فضحكت فى تلك الحال ، لما أريت مقامها فى الجنة ، وكريم مآبها ؛ فهان ذلك عليها وسهل.

فعلى ذلك يحتمل بذل هؤلاء أنفسهم للقتل ، والصبر عليه لذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

قال بعضهم (١) : قال الذين اختارهم موسى ـ وكانوا سبعين رجلا ـ لن نصدقك بالرسالة والتوراة حتى نرى الله جهرة ، يخبرنا أنّه أنزلها عليك.

__________________

(١) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٣٦) وعزاه لابن جرير وابن أبى حاتم عن الربيع بن أنس بنحوه.

ويحتمل : لن نؤمن لك أنه إله ، ولا نعبده حتى نراه جهرة عيانا.

فاحتج بعض من ينفى الرؤية فى الآخرة بهذه الآية (١) ؛ حيث أخذتهم الصاعقة لما سألوا الرؤية.

قالوا : فلو كان يجوز أن يرى لكان لا تأخذهم الصاعقة ، ولا استوجبوا بذلك العذاب والعقوبة.

وأما عندنا ، فإنه ليس فى الآية دليل نفى الرؤية ، بل فيها إثباتها.

وذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ لما سئل الرؤية لم ينههم عن ذلك ، ولا قال لهم : لا تسألوا هذا.

وكذلك سأل هو ربه الرؤية ، فلم ينهه عنها ، بل قال : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] وإذا صرف الوعد لا يجوز ذلك ، لو كان لا يحتمل ؛ لأنه كفر ، ومحال ترك النهى عنه.

وكذلك ما روى فى الأخبار : من سؤال الرؤية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قالوا : أنرى ربنا (٢)؟ لم يأت عنه النهى عن ذلك ، ولا الرد عليهم ؛ فلو كان لا يكون لنهوا عن ذلك ومنعوا.

وإنما أخذ هؤلاء الصاعقة بسؤالهم الرؤية ؛ لأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد ، وإنما سألوا سؤال تعنت.

دليل التعنت ، فيما جاء من الآيات ، من وجه الكفاية لمن ينصف ؛ لذلك أخذتهم الصاعقة ، والله أعلم.

أو أن يقال : أخذتهم الصاعقة بقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) ، لا بقولهم : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً). وسنذكر هذه المسألة فى موضعها ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ).

قيل : الصاعقة كل عذاب فيه هلاك.

لكن الهلاك على ضربين :

هلاك الأبدان والأنفس.

__________________

(١) الكلام على الرؤية سيأتى عند قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣].

(٢) أخرجه البخارى (٤٥٨١) ، ومسلم (٣٠٢ / ١٨٣) ، عن أبى سعيد الخدرى.

ومن طريق آخر أخرجه أحمد (٣ / ١٦) ، وابن ماجه (١٧٩) وابن أبى عاصم (٤٥٢) ، وأبو يعلى (١٠٠٦) وابن خزيمة (١٦٩).

وهلاك العقل والذهن ، كقوله : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) [الأعراف : ١٤٣] قيل (١) : مغشيّا.

وفيه هلاك الذهن والعقل ؛ وكذلك قوله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] أى غشى. والله أعلم.

وقيل (٢) : الصعقة : صياح شديد.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

قيل فيه بوجهين :

قيل : تعلمون أن الصاعقة قد أخذتهم وأهلكتهم بقولهم الذى قالوا ؛ فكونوا أنتم على حذر من ذلك القول.

وقيل (٣) : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ـ الخطاب لأولئك الذين أخذتهم الصاعقة ـ أى : تنظرون إلى الصاعقة وقت أخذتها لكم ، أى : لم تأخذكم فجأة ، ولا بغتة ، ولكن عيانا جهارا ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى).

يذكرهم ـ عزوجل ـ عظيم منّته عليهم ، وجزيل عطائه لهم ؛ ببعثهم بعد الموت ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المن والسلوى من السماء لهم ، وذلك مما خصوا به دون غيرهم.

ثم ما كان لنا من الموعود فى الجنة ، فكان ذلك لهم فى الدنيا معاينة ، من نحو البعث بعد الموت ومن الظل الممدود ، والطير المشوى ، والثياب التى كانت لا تبلى عليهم ولا تتوسخ ؛ فذلك كله مما وعد لنا فى الجنة ، وكان لهم فى الدنيا معاينة يعاينون.

مع ما كان لهم هذا لم يجيبوا إلى ما دعوا ، ولا ثبتوا على ما عاهدوا ، وذلك لقلة عقولهم ، وغلظ أفهامهم ، ونشوئهم على أخلاق البهائم والدواب ، والله أعلم.

وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : ما لم يحل لهم الفضل على حاجتهم ، فأباح لهم القدر الذى لهم إليه حاجة ،

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٣٣٠).

(٢) أخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس بنحوه (٩٥٣).

(٣) قاله ابن جرير (١ / ٣٣٠).

وسماه طيبات.

ويحتمل أنه سماه طيبات ؛ لما لا يشوبه داء يؤذيهم ، ولا أذى يضرهم ، ليس كطعام الدنيا مما لا يسلم عن ذلك ، والله أعلم.

وقد قيل : الطيب هو المباح الذى يستطيبه الطبع ، وتتلذذ به النفس.

وقوله : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ...) الآية.

وقد ذكرنا معنى الظلم فيما تقدم.

وقد يحتمل وجها آخر : وهو النقصان ؛ كقوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] أى : لم تنقص منه.

وحاصل ما ذكرنا : أن الظلم هو وضع الشىء فى غير موضعه ، وكل ما ذكرنا يرجع إلى واحد.

وقوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ).

اختلف فى تلك القرية :

قيل (١) : إنها بيت المقدس ، كقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) [المائدة : ٢١].

أمروا بالدخول فيها ، والمقام هنالك ؛ لسعة عيشهم فيها ورزقهم ؛ إذ هو الموصوف بالسعة والخصب.

وقيل : إن تلك القرية التى أمروا بالدخول ، والمقام هنالك ، هى قرية على انقضاء التيه ، والخروج منها.

غير أن ليس لنا إلى معرفة تلك القرية حاجة ، وإنما الحاجة إلى تعرف الخلاف الذى كان منهم ، وما يلحقهم بترك الطاعة لله والائتمار ، والله أعلم.

وقوله : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً).

والرغد قد ذكرنا فيما تقدم : أنه سعة العيش ، وكثرة المال.

وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً).

يحتمل المراد من الباب : حقيقة الباب ، وهو باب القرية التى أمروا بالدخول فيها.

ويحتمل المراد من الباب : القرية نفسها ، لا حقيقة الباب ؛ كقوله : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) ذكر القرية ولم يذكر الباب ، وذلك فى اللغة سائغ (٢) ، جائز ؛ يقال : فلان دخل

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن قتادة (١٠٠٠) والسدى (١٠٠١) والربيع (١٠٠٢) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٨ ـ ١٣٩).

(٢) فى أ : شائع.

فى باب كذا ، لا يعنون حقيقة الباب ، ولكن : كونه فى أمر هو فيه.

وقوله : (سُجَّداً).

يحتمل المراد من السجود : حقيقة السجود ؛ فيخرج على وجوه :

يخرج على التحية لذلك المكان.

ويخرج على الشكر له ؛ لما أهلك أعداءهم الذين كانوا فيها ، لقولهم : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) [المائدة : ٢٢].

ويحتمل : حقيقة السجود ؛ لما روى عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ بنى إسرائيل أمروا بالدخول سجدا فدخلوا منحرفين» (١) فما أصابهم إنما أصاب بخلافهم أمر الله.

ويحتمل : الكناية عن الصلاة ؛ إذ العرب قد تسمى السجود صلاة ؛ كأنهم أمروا بالصلاة بها.

ويحتمل الأمر بالسجود : لا حقيقة السجود والصلاة ، ولكن : أمر بالخضوع له والطاعة ، والشكر على أياديه التى أسدى (٢) إليهم وأنزل : من سعة التعيش ، والتصرف فيها فى كل حال ، والله أعلم.

وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ).

قيل بوجهين :

قيل (٣) : الحطة : هو قول : لا إله إلا الله ، سميت حطة ؛ لأنها تحط كل خطيئة كانت من الشرك وغيره ؛ فكأنهم أمروا بالإيمان والإسلام.

وقيل (٤) : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) : أى اطلبوا المغفرة والتجاوز عما ارتكبوه من المآثم والخطايا ، والندامة على ما كان منهم ؛ فكأنهم أمروا أن يأتوا بالسبب الذى به يغفر الذنوب ، وهو الاستغفار ، والتوبة ، والندامة على ذلك ، والله أعلم.

وذلك يحتمل الشرك ، والكبائر ، وما دونهما.

__________________

(١) أخرجه البخارى (٤٤٧٩) ومسلم (٣٠١٥) ، وأحمد (٢ / ٣١٢ ، ٣١٨) والترمذى (٢٩٥٦) ، وابن جرير (١٠٢٠ ، ١٠٢١).

(٢) فى أ : أسند.

(٣) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير (١٠١٦) وعبد بن حميد وابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٣٨).

وهو قول ابن عباس أيضا ، أخرجه البيهقى فى الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٣٩).

(٤) هو قول ابن عباس وغيره أخرجه ابن جرير (١٠١٣) وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٨ ، ١٣٩).

ذكر ـ عزوجل ـ مرة خطايا ، ومرة خطيئات ، ومرة قال : ادخلوا ، ومرة قال : اسكنوا ، ومرة قال : فأنزلنا ، ومرة قال : فأرسلنا ـ والقصة واحدة ـ حتى يعلم :

أن ليس فى اختلاف الألفاظ والألسن تغيير المعنى والمراد. وأن الأحكام والشرائع التى وضعت لم توضع للأسامى والألفاظ ، ولكن للمعانى المدرجة والمودعة فيها ، والله أعلم.

وقوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

يحتمل المراد من المحسنين : المسلم الذى كان أسلم قبل ذلك.

ويحتمل : الذى أسلم بعد قوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، وكان كافرا إلى ذلك الوقت.

والزيادة تحتمل : التوفيق بالإحسان من بعد ، كقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ...) الآية [الليل : ٥].

ويحتمل : الثواب على ما ذكر من قوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ...)

الآية [القصص : ٥٤].

وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).

قوله «بدّل» يحتمل : إحداث ظلم ، بعد أن لم يكن ، والخلاف لما أمرهم به عزوجل.

ويحتمل : نشوؤهم على غير الذى قيل لهم.

ولم يبين : ما ذلك القول الذى بدلوا؟ وليس لنا ـ إلى معرفة ذلك القول ـ حاجة ؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما يلزمهم بالتبديل ، وترك العمل بأمره ، وإظهار الخلاف له ، فقد تولى الله بيان ذلك بفضله ، وبالله التوفيق.

وقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ).

قيل (١) : «الرجز» : هو العذاب المنزل من السماء على أيدى الملائكة ؛ لأن من العذاب ما ينزل على أيدى الملائكة كعذاب قوم لوط وغيره.

ومنه عذاب ينزل من السماء ـ لا على أيدى أحد ـ نحو : الصاعقة ، والصيحة ، ونحوهما.

وقوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

مرة ذكر «يفسقون» ، ومرة ذكر «يظلمون» ، وهو واحد.

وفى هذه الآيات التى ذكرناها ، والأنباء التى وصفنا ـ دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثبات

__________________

(١) هو قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٤٣) وعن قتادة (١٠٣٩) وابن زيد (١٠٤٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٣٩).

نبوته.

وذلك أن أهل الكتاب كانوا عرفوا هذه الأنباء بكتبهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر ذلك بمشهدهم ، كما فى كتابهم ، ولم يكن ظهر منه اختلاف إليهم ، ولا درس كتابهم ؛ فدل : أنه بالله عرف ، وكان فيها تسكين قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتصبر عليه ؛ لظهور الخلاف له من قومه ، وترك طاعتهم إياه ، وأن ذلك ليس بأول خلاف كان له من قومه ، ولا أول تكذيب ، بل كان من الأمم السالفة لأنبيائهم ذلك ، فصبروا عليه ؛ فاصبر أنت كما صبروا ؛ كقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ...) الآية [الأحقاف : ٣٥].

قوله تعالى : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٦١)

وقوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ).

يعنى : طلب الماء لقومه عند حاجتهم إليه ؛ فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : أن اضرب بعصاك الحجر.

قد ذكرنا فيما تقدم : أن الله ـ عزوجل ـ قد أراهم من عصاه آيات عجيبة ، من نحو الثعبان الذى كان يتلقف ما يأفكون ؛ كقوله : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الشعراء : ٤٥] ، وقوله : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الشعراء : ٣٢].

ومن ضربه البحر بها حتى انفلق ؛ كقوله : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣].

ومن ضربه الحجر بها ، وانفجار العيون منه ، وغير ذلك من الآيات مما يكثر ، ذكرها عزوجل من آيات رسالته ، وآيات نبوته.

وفيما أرى منها ، من عجيب آياته : دلالة حدوث العالم (١) وإبداعه ، لا من شىء ؛

__________________

(١) حدوث العالم من ضرورات الدين ، وركنه الركين ؛ لأن حدوث العالم أصل الشرائع ، وقاعدة الدين ، إذ إثبات الخالق والآخرة وبعثة الرسل والأنبياء يتوقف على حدوث العالم ؛ إذ لو لم يكن حادثا بل قديما لا يحتاج إلى وجود الخالق ؛ وإذا لم يوجد الخالق لم يرسل الأنبياء ، ولم تكن الآخرة ؛ لأن الآخرة قائمة على فناء العالم. ـ

لأنه ـ عزوجل ـ قد أخرج بلطفه ، من حجر يصغر فى نفسه ـ مما يحمل من مكان إلى مكان ـ من الماء ما يكفى لخلق لا يحصى عددهم إلا الله ، وفجر منه أنهارا ، لكل فريق نهر على حدة.

__________________

ـ وقد اعتنى العلماء الأولون بمبحث حدوث العالم ، فبرهنوا على حدوثه وخلقه ، وكان هدفهم من ذلك هدفا دينيّا بحتا ؛ إذ فى إثبات ذلك بيان إعجاز الخالق فى السنن والقوانين التى يسير عليها الخلق ، من حيث إن الله تعالى يعطى كل مخلوق طبيعته المقدرة له أو ماهيته الخاصة به ، ومن هنا كان خلقه للعالم لحكمة ، ولم يخلقه عبثا.

وعلة أخرى ، وهى بيان تهافت كثير من الخلق فى القول بقدم الخلق ، وهم كثير بل جمهور المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة على القول بقدم العالم ، ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ، فاتبعوه إلا قليلا من المؤمنين.

والعالم اسم لما سوى الله تعالى وصفاته من الموجودات ، فالمعدوم ليس من العالم ، وهو شامل السموات والأفلاك وما فيها ، ويطلق عليها اسم العالم العلوى ، وشامل لما انحط من السموات والسحاب والأرض ، وما فيها من الهواء ، وما على الأرض من نبات وحيوان وجماد ، وما فيها من بحار وجبال وأنهار وغيرها ، ويطلق عليه اسم العالم السفلى وهو حادث.

والعالم فى اللغة : عبارة عما يعلم به الشىء ؛ قال الجوهرى فى الصحاح : «العالم : الخلق» وقال ابن منظور : «والعالم : الخلق كله ، وقيل : هو ما احتواه بطن الفلك» وقال الزبيدى : «والعالم : الخلق كله».

وفى ترتيب القاموس : «والعالم : الخلق كله ، أو ما حواه بطن الفلك» ، وقال الزبيدى فى تاج العروس : «وهو فى الأصل اسم لما يعلم به كالخاتم لما يختم به ، فالعالم آلة فى الدلالة على موجده ، ولهذا أحالنا عليه فى معرفة وحدانيته ، فقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٧] ، وقال جعفر الصادق : «العالم : عالمان كبير وهو الفلك بما فيه ، وصغير وهو الإنسان ؛ لأنه على هيئة العالم الكبير ، وفيه كل ما فيه».

قال البغدادى : «... وزعم بعض أهل اللغة أن العالم كل ما له علم وحس ، وقال آخرون : إنه مأخوذ من العلم الذى هو العلامة ، وهذا أصح ؛ لأن كل ما فى العالم علامة ، ودلالة على صانعه».

والعالم فى الاصطلاح : هو عبارة عن كل ما سوى الله من الموجودات ؛ لأنه يعلم به الله من حيث أسماؤه وصفاته. ومن أجمع التعريفات له ما حده به إمام الحرمين الجوينى فى العقيدة النظامية حيث قال : «العالم : كل موجود سوى الله تعالى ، وهو أجسام محدودة ، متناهية المنقطعات ، وأعراض قائمة بها ، كألوانها ، وهيئاتها ، فى تركيبها وسائر صفاتها ، وما شاهدنا منها ، واتصلت به حواسنا ، وما غاب منها عن مدرك حواسنا ، متساوية فى ثبوت حكم الجواز لها ، ولا شكل يعاين أو يفرض منا ، صغر أو كبر ، أو قرب أو بعد ، أو غاب أو شهد ، إلا والعقل قاض بأن تلك الأجسام المشكلة ، لا يستحيل فرض تشكلها على هيئة أخرى ، وما سكن منها لم يحل العقل تحركه ، وما تحرك منها لم يحل سكونه ، وما صودف مرتفعا إلى سمك من الجو ، لم يبعد تقدير انخفاضه ، وما استدار على النطاق لم يبعد فرض تداوره ، نائيا عن مجراه ، وترتب الكواكب على أشكالها ...».

قال البغدادى فى أصول الدين : «والعالم عند أصحابنا كل شىء هو غير الله عزوجل».

وفى العقائد النسفية : «والعالم : أى ما سوى الله تعالى من الموجودات مما يعلم به الصانع ، يقال : عالم الأجسام ، وعالم الأعراض ، وعالم النبات ، وعالم الحيوان ، فتخرج صفات الله ـ

__________________

ـ تعالى ؛ لأنها ليست غير الذات ، كما أنها ليست عينها».

والعالم ـ كما قسمه المتكلمون ـ إما جواهر ، وإما أعراض قال البغدادى : «والعالم نوعان : جواهر وأعراض».

وينبغى هنا أن نوضح المقصود بالجوهر والعرض ، على تفصيل :

الجوهر لغة : هو كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به ، ومن الشىء ما وضعت عليه جبلته. قاله الفيروزآبادي.

قال الزبيدى : «والجوهر : كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به ، وهو فارسى معرب ، كما صرح به الأكثرون ، ... ومن الشيء ما وضعت عليه جبلته ...» قال الجوهرى فى الصحاح : «والجوهر معرب ، الواحدة جوهرة» وفى اللسان قال ابن منظور : «والجوهر كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به ، وجوهر كل شىء ما خلقت عليه جبلته».

واصطلاحا : قال البغدادى : «والجوهر كل ذى لون».

وقال الجرجانى : «الجوهر : ماهية إذا وجدت فى الأعيان ، كانت لا فى موضوع ، وهو منحصر فى خمسة : هيولى ، وصورة ، وجسم ، ونفس ، وعقل ...».

وقال فى شرح المواقف : «الجوهر ممكن موجود لا فى موضوع عند الفلاسفة ، وحادث متميز بالذات عند المتكلمين» ، وأما العرض لغة فهو : ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه ، قاله الجوهرى ، وفى اللسان : «والعرض : من أحداث الدهر من الموت والمرض ، ونحو ذلك.

قال الأصمعى : «العرض : الأمر يعرض للرجل يبتلى به» قال الزبيدي : «والعرض بالتحريك : ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه كالهموم والأشغال ، ... والعرض حطام الدنيا ، والغنيمة : اسم لما لا دوام له ، وهو مقابل الجوهر ...».

واصطلاحا : هو ما قام بغيره ، قال البغدادى : «والأعراض هى الصفات القائمة بالجواهر من الحركة والسكون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة» وقال الجرجانى : «العرض : ما يعرض فى الجوهر مثل الألوان والطعوم والذوق واللمس وغيره مما يستحيل بقاؤه بعد وجوده» وقال المرعشى فى نشر الطوالع : «... وهو عند الأشاعرة موجود قائم بمتحيز» وقال سعد الدين التفتازانى فى العقائد النسفية : «والعرض ما لا يقوم بذاته بل بغيره ، بأن يكون تابعا له فى التحيز أو مختصّا به اختصاص الناعت بالمنعوت».

أما المذاهب فى حدوث العالم فقد قال المرعشى فى نشر الطوالع : «اتفق المسلمون والنصارى واليهود والمجوس على أن الأجسام كلها محدثة ، بذواتها وصفاتها».

قال البزدوى فى «أصول الدين» : «قال عامة أهل القبلة ، وعامة أهل الأديان : إن العالم محدث أحدثه الله تعالى لا عن أصل. وقالت الدهرية الذين ينكرون الصانع ـ جل جلاله ـ : «إن العالم قديم».

وقد اختلف الفلاسفة فى قدم العالم ، فالذى استقر عليه رأى جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه.

قال البزدوى : «وقال عامة الفلاسفة : إن الصانع قديم والهيولى قديم أيضا ، والهيولى عندهم أصل العالم وطينته ، منه خلق الله تعالى العالم».

وقال بعض الفلاسفة : «الصانع قديم ، والخلاء قديم ، وهو المكان الذى خلق الله تعالى فيه العالم».

وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن العالم محدث أحدثه الله تعالى عن غير مادة ، ولأدلتهم فى ـ

__________________

ـ ذلك تفصيل ، وهى إما أدلة عقلية أو نقلية :

أولا ـ الأدلة العقلية : وإنما قدمت الأدلة العقلية ؛ لأن الفلاسفة يعتبرون بها ، ويعولون عليها ، فوجب أن نثبته من مادة أدلتهم : اعلم ـ وفقك الله ـ أن الأدلة العقلية على حدوث العالم كثيرة جدّا ؛ لأن الآفاق والأنفس مملوءة بدلائل حدوثه ، فإن ادعى أحد قدم العالم ، فلا يدعى قدم نفسه بل ادعى حدوثه بحدوث زمانى بالضرورة ؛ لأنه تولد من أبويه بعد ما لم يكن فى سنة كذا مع أن ذلك المدعى جزء من أجزاء العالم ، وما يكون جزؤه حادثا يكون كله حادثا.

ولو كان العالم قديما لكان باقيا على حاله ، فلا وجود للآخرة ، وذلك كله باطل ، فقدم العالم باطل ، فثبت حدوثه ، ولأن القديم لا يكون محلا للحوادث مع أن العالم محل للحوادث بداهة ، فالعالم بجميع أجزائه حادث ؛ لأن العالم إما أعيان ، وإما أعراض ، وكل منهما حادث ، ودليل ذلك الأخير على تفصيل :

دليل حدوث الأعراض : «أما حدوث الأعراض ؛ فلأن بعضها حادث بالمشاهدة كالحركة بعد السكون ، والسكون بعد الحركة مثلا فى بعض الأجرام ، وبعضها ، وهو ما لم يشاهد حدوثه كسكون بعض الأجرام الثابتة حادثة بالدليل ، وهو أنه يجوز طرآن العدم عليه بوجود ضده ؛ لأن الأجرام كلها متساوية فيجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر ، وكل ما يجوز عليه العدم يكون قديما ؛ لأن القديم إذا كان واجبا لذاته لم يجز أن يكون صادرا بالاختيار للزوم الحدوث له حينئذ ، فتعين أن يكون صادرا بطريق التعليل من واجب لذاته ، فيلزم استمرار وجوده ما دامت علته موجودة ، فلا يجوز عليه العدم.

دليل حدوث الجواهر : وأما حدوث الجواهر ؛ فلأنها ملازمة للأعراض الحادثة ؛ لأن من الأعراض الحركة والسكون ، فلو كانت غير ملازمة لأحدهما لارتفعت الحركة والسكون ، وهما ضدان مساويان للنقيضين ، وارتفاع النقيضين أو ما ساواهما باطل ، وملازم الحادث حادث ؛ لأنه لو لم يكن حادثا للزم إما قدم الحادث اللازم له ، وإما انفكاك التلازم بينهما ، وهما باطلان ، فالجواهر حادثة.

قال البزدوى فى أصول الدين : «ثم الدليل على حدوث جميع العالم أنا نشاهد حدوث بعضها ، فإن الثمار كلها تحدث ، وكذلك الحيوانات ، وكذا النبات ، وكذا الألوان ، هذه الأشياء تحدث ، فإذا كان بعضها يحدث يعلم به حدوث ما سواهما إذ كلها أجسام وأعراض وجواهر ، فإن الشىء دال على شكله ، فإن بعض النبات إذا رأيناه يفسد ، قضينا فى شكله بالفساد ؛ ولأن الأجسام لا تخلو عن الأعراض ، فإنها لا تخلو عن الافتراق ، والاجتماع ، والسكون ، والحركة ، والثقل والخفة ... قال : فلو كانت الأعراض قديمة لما تصور بطلانها ؛ لأن القديم واجب الوجود ، فلا يتصور عليه البطلان والعدم ؛ لأنه لو جاز عدمه فى المستقبل من الزمان جاز عدمه فى الماضى من الزمان ، فلا يتصور العدم هذا كما يجب أن الاثنين إذا ضم إلى واحد يكون ثلاثة ، وإذا كان هذا واجبا لا يتصور أن يوجد زمان يضم الاثنين إلى الواحد ، ولا يكون ثلاثة ، فدل أن الأعراض حادثة.

قال الرازى فى المطالب العالية : «الحجة الأولى : وهى الحجة القديمة للمتكلمين أن قالوا : الجسم لا يخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث ، فالجسم حادث».

والحجة الثانية : أن تقول : الأجسام قابلة للحوادث ، وكل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا يخلو عن الحوادث ، وكل ما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث ، ينتج أن الأجسام حادثة ...».

وقد ساق حججا كثيرة ، فلتطالع هناك لمن شاء التفصيل.

ولأبى محمد بن حزم براهين كثيرة فى إثبات العالم ضمنها كتابه «الفصل فى الملل والأهواء ـ

__________________

ـ والنحل».

ثانيا ـ الأدلة النقلية :

فمن القرآن قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢].

ومن السنة ما أخرجه البخارى فى صحيحه عن عمران بن حصين ـ رضى الله عنهما ـ قال : دخلت على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعقلت ناقتى بالباب ، فأتاه ناس من بنى تميم ، فقال : اقبلوا البشرى يا بنى تميم. قالوا : قد بشرتنا فأعطنا (مرتين) ، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن ، فقال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبل بنو تميم. قالوا : قد قبلنا يا رسول الله. قالوا : جئنا نسألك عن هذا الأمر.

قال : كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب فى الذكر كل شىء ، وخلق السموات والأرض ، فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا بن الحصين ، فانطلقت فإذا هى يقطع دونها السراب ، فو الله لوددت أنى كنت تركتها».

والدليل على خلق الله السموات والأرض ، وما بينهما لا يعد ولا يحصى من الآيات والأحاديث ، وقد اعترض بعض المفكرين القدماء والمحدثين على أن بحث المتكلمين فى العالم لبيان حدوثه وخلقه ، بحث لا يرجع إلى القرآن الكريم ؛ معتمدين أن لفظ «القدم» أو «الحدوث» هو نفسه مردود إلى مصدر فلسفى أجنبى ، وهذا غير صحيح.

وقد كانت أول الحقائق التى ذكرها القرآن الكريم أن العالم حادث مخلوق من لا شىء ، وإذا كان العالم محدثا ، فلا بد له من خالق ، وهو الله تعالى ، خلق كل شىء ، فهو المصور والمبدع.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى قدرته تعالى المطلقة على الخلق ، وأنه تعالى خلق الخلق بعلمه ، وصورهم ، ورزقهم ، ولم يكن معه معين ولا نصير :

قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧].

وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ٦].

وقال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٠١].

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر : ٣].

شبهات وردود :

ولا يسلم الأمر لأهل السنة والجماعة قولهم بإثبات حدوث العالم ، فقد أبى الله تعالى إلا أن يجعل للباطل نصيبا يقوم عليه أهله ، وذلك لحكمة يعلمها الله تعالى ، ولعل منها بيان معرفة الحق من الباطل ، والتمييز بين الفريقين ؛ ليحيا من حيى عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة.

ولكن أدلة القائلين بقدم العالم ـ على كثرتهم ـ أدلة واهية لا تقوى على الرد والتفنيد. قال الغزالى فى التهافت : «لو ذهبت أصف ما نقل عنهم فى معرض الأدلة ، وذكر فى الاعتراض عليه ، لسودت فى هذه المسألة أوراقا ، ولكن لا خير فى التطويل ، فلنحذف من أدلتهم ما يجرى مجرى التحكم أو التخيل الضعيف الذى يهون على كل ناظر حله».

ثم ساق أقوى أدلتهم ، ثم عرج عليها تفنيدا وردّا ، والمقام ليس مقام بسط ، وتفصيله فى تهافت الفلاسفة.

ونذكر هنا بعض الشبه التى ذكرها البزدوى فى أصول الدين ، ورده عليها ، يقول : «إنهم يقولون : إنا نقول بقدم الهيولى لا غير لا بقدم كل العالم ، والهيولى شيء واحد لا يتصور افتراقه ، ولا ـ

__________________

ـ اجتماعه ، وليس بقابل لعرض ما ، وليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض».

فيقول : لا بد من أن يكون الهيولى ـ وهو لفظ يونانى بمعنى الأصل والمادة ـ جسما أو جوهرا أو عرضا ؛ لأنه من جملة العالم ، والعالم هذه الثلاثة وإذا كان واحدا من هذه الثلاثة يكون حادثا كسائر الأجسام والجواهر والأعراض ، ولأنه لا يخلو عرض ما إن كان يخلو عن الاجتماع والافتراق ، وهو الخفة والثقل والحركة والسكون.

ثم يقول : لم كان الهيولى أولى بالقدم من سائر العالم من الأجسام والأعراض والجواهر؟ فإن قالوا : إنما وجب القول بقدمه ؛ لأنا لم نر شيئا يخلق من غير شىء ، كل شىء يخلق من شىء آخر ، لما لم نشاهد خلق شىء من غير شىء قضينا على العالم أنه لم يخلق من غير شىء ، بل خلق من شىء ، فاضطررنا إلى القول بالهيولى ، فتكون الأشياء مخلوقة منه ، والهيولى عند الفلاسفة للعالم كالقطن للثوب.

ثم يقول : إن خلق الشيء من الشىء تغيير ذلك الشىء ، وهو تبديل الأوصاف بأن يجعل المفترق مجتمعا والمجتمع مفترقا ، والنار كرسيّا ، والشعر لبدا ، أو إخراج الشىء من الشىء أو إيجاد الشىء من الشىء ، والتغير مستحيل فى الهيولى ؛ لأن تغيير الشىء الواحد مستحيل ، ولأن التغيير إلى أن يصير الواحد أشياء مستحيل ، وكذلك إخراج الشيء منه مستحيل ، وإيجاد الشىء من الشىء مستحيل ، فدل أن خلق الشىء من الشىء إيجاد ذلك الشىء حقيقة.

فإن قالوا : العالم متناه أو غير متناه؟ فنقول : العالم مخلوق ، وكل مخلوق متناه ، فالعالم يكون متناهيا لا محالة.

فإن قالوا : لما كان العالم متناهيا ، ففى أى موضع هو ، فإن الجسم يحتاج إلى مكان ، والعالم أجسام؟ فنقول : العالم أجسام فى غير مكان ؛ لأن المكان من جملة العالم ، فإن المكان إما أن يكون هواء أو جسما لطيفا غير الهواء أو كثيفا ، والهواء من جملة العالم ، وهو جسم لطيف ، وكذا سائر الأجسام اللطيفة ...».

هذا ، ولقد نظر الماديون فى كيفية تكون العالم نظرة قاصرة ولم تسع عقولهم ما وراء المحسوس فقالوا : إن العالم يصدر بعضه عن بعض بواسطة الطبيعة إلى غير ذلك مما أسرفوا فيه القول وفيما يلى نذكر شبههم ونكر عليها بالإبطال.

الشبهة الأولى :

قالوا : لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها ، وتركها لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض موجودة فى الأزل فتكون قديمة والجواب على هذه الشبهة : قولكم كان ترك الفعل لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا ... إلى آخر ما ذكرتم تقسيم فاسد ظاهر البطلان. وذلك لأن الجسم ذو أبعاد ثلاثة الطول والعرض والعمق وترك الفعل لا يوصف بطول ولا عرض ولا عمق ؛ فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما والعرض هو الوصف الملازم للجسم وترك الفعل من الله للجسم والعرض ليس وصفا بشيء فلا يكون عرضا ؛ فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ولا عرضا وإنما هو عدم محض والعدم المحض ليس بشيء وترك الفعل من الله تعالى ليس فعلا البتة بخلاف صفة خلقه لأن ترك الفعل من المخلوق فعل ، برهان ذلك : أن ترك الفعل من المخلوق لا يكون إلا بفعل آخر كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون وكتارك القيام لا يكون إلا بفعل آخر كفعل الجلوس أو النوم أو غير ذلك.

ويظهر أن الذى سهل عليهم هذا القول هو قياس الغائب على الشاهد فإنهم لما رأوا أن عدم ـ

__________________

ـ الفعل من المخلوق يكون بفعل آخر قاسوا الغائب عليه ورتبوا ذلك الإنكار ولو رجعوا إلى قول الأكابر من رؤسائهم لما تعلقوا بهذه الشبهة فقد نسب إلى أكابر الماديين أنهم قالوا :

إن قياس الغائب على الشاهد قياس خداع لأنه كثيرا ما يخدع الإنسان ويوقعه فى الغلط فلا يصح التعويل عليه.

فصح أن فعل البارى تعالى غير فعل خلقه وأن تركه للفعل ليس فعلا فبطل ما قالوا.

الشبهة الثانية :

قالوا إن الفعل لا يمكن أن يتصور موجودا ليس من جنس المخلوقات فلا يكون جسما ولا مادة جسم ولا صورة جسم ولا آخذا قدرا من الفراغ وحيث لا يمكن تصور موجود بهذه الصفة فلا يمكن التصديق بوجوده لأن التصديق بالوجود فرع التصور.

والجواب عن هذه الشبهة :

قد اتفقتم معنا على أن تكون العالم سواء كان علويّا أو سفليّا على هذه الحالة التى نشاهدها حدث بعد أن لم يكن ولا إخالكم تخالفوننا فى أن ذلك العالم بلغ من الإتقان والإحكام والصنع الغريب ما حارت أولو الألباب فى اكتناهه وعجزت المراصد عن إحصائه ووقف علماء الفلك حيارى أمام بدائعه.

ولا شك أن العقل يجزم أن إتقان الأثر يدل على عظمة المؤثر والمبدع ألا ترى أنهم يستدلون بما يشاهد من أعمال النفوس والآثار العظيمة الباقية من زمن الأمم الغابرة على رقى تلك الأمم وتقدمها فى العلوم والصنائع.

وإلى جانب هذا إذا نظرنا إلى منزل الإنسان من حيث الإدراك نجد أنا لو قارنا بين ما يجهله وما يعلمه وسلكنا طريق الإنصاف لكانت نسبة المعلوم إلى المجهول كنقطة ماء من بحر أو ذرة من رمال بل لو نظرنا إلى الأشياء التى دخلت تحت دائرة معلوماته ، نجده بعد إعمال فكره وكثرة بحثه يجهل كثيرا من مباحثها.

وإذا نظرنا إلى أصحاب النظريات الفلسفية نجدهم يبطلون اليوم ما أثبتوه بالأمس ولا يستقرون على رأى ونجد الطائفة المتأخرة تفند نظريات الطائفة المتقدمة وهكذا.

ولننظر إلى حاسة السمع والبصر والشم والذوق فإنا نعتقد أن كل حاسة تدرك ما هو من خواصها ولكن كيفية الإدراك لا نعلمها علما يقينيا.

كل هذا يدلنا دلالة واضحة لا شك فيها ولا مرية على جهل الإنسان بحقائق كثيرة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] فهل بعد إدراك عظم هذه المخلوقات الدالة على عظمة المبدع وثبوت جهل الإنسان بأكثر الأشياء تقولون إن عقولنا لا يمكن أن تتصور موجودا ليس جسما وتجعلوا عدم تصور العقل دليلا على عدم الوجود فى حين أنكم تعترفون أن هناك حقائق كثيرة نجهلها ولا تتصورها عقولنا ومع ذلك لا يمكنكم أن تقولوا إن عدم التصور دليل على عدم الوجود ويظهر أيضا أن الذى سهل عليهم هذا هو قياسهم الغائب على الشاهد ؛ فإنهم لما رأوا فى الشاهد أن الموجود لا بد أن يأخذ قدرا من الفراغ ولا بد أن يكون جسما أو مادة جسم أو صورة جسم قاسوا ذلك الغائب عليه وهو كما علمت سابقا قياس فاسد لا يعول عليه فثبت أن العالم محدث أحدثه الفاعل المختار جل وعلا.

الشبهة الثالثة :

قالوا الإيجاد جود وإحسان فلو لم يكن الله تعالى موجدا فى الأزل لكان تاركا للجود والإحسان مدة غير متناهية وذلك غير جائز ـ وربما عبروا عنه بعبارة أخرى فقالوا علة وجود العالم جود البارى ـ

__________________

ـ تعالى وجود البارى تعالى أزلى فيلزم أن يكون وجود العالم أزليّا.

والجواب عن هذه الشبهة :

هذا ينتقض بإيجاد هذه الصور والأعراض الحادثة فإنه جود ولم يلزم منه قدم الصورة والأعراض.

هذا وقال إمام الحرمين فى الإرشاد مستدلا على حدوث العالم وعدم قدمه بطريق الإلزام :

الأرض عند خصومنا محفوفة بالماء ، والماء بالهواء ، والهواء بالنار ، والنار بالأفلاك ، وهى أجرام متميزة شاغلة جوا وحيزا وبالاضطرار تعلم أن فرض هذه الأجسام متيامنة عن مقرها أو متياسرة أو أكبر مما وجدت شكلا وعظما أو أصغر من ذلك ليس من المستحيلات وكل مختص بوجه من وجوه الجواز دون سائر الوجود محتاج بضرورة العقل إلى مخصص.

وقد قامت البراهين على أن المخصص لهذه الكائنات هو الله الفاعل المختار فبطل حينئذ كون المادة قديمة وعلة وقد قام البرهان القاطع على أن موجد العالم إله متصف بجميع صفات الكمال فيكون هو الموجد للمادة كما أنه موجد للكائنات بطريق الاختيار لا بطريق العلة والضرورة.

وكان ينبغى ألا يختلف الناس فى هذه العقيدة ؛ لأن دلالة الأثر على المؤثر والفعل المحكم على الحكيم دلالة بديهية فطرية بل قالوا إن ذلك مما يدركه الحيوان الأعجم فضلا عن الإنسان فإنك إذا ضربت الحيوان التفت ليرى من ضربه لأنه مركوز فى فطرته أن الأثر لا يكون بلا مؤثر والفعل لا يكون بلا فاعل وقد قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [النور : ٤١] وإذا رأيت كلمة من ثلاثة أحرف لم تشك فى أن كاتبا كتبها ، وما مثل من ينكر الخالق جل وعلا ـ وهو أظهر من الشمس ـ إلا كمن رأى كتابا بديع المبانى بليغ المعانى ، وفيه من الأفكار السامية والأدب الرائع ما يفوق أفكار أفلاطون وأدب أبى العلاء ، فلما نظر فيه قال ما هذا الكتاب إلا أوراق كانت فى صندوق وكان معها شىء من حروف الطباعة ، ثم اهتز الصندوق هزات متوالية فوجد ذلك الكتاب على ما ترون فهل لا ترمى صاحب تلك الفلسفة بالجنون وإذا كنت لا تسلم أن باخرة توجد بلا مهندس ، بل لا تسلم أن كلمة صغيرة توجد بلا كاتب ، فكيف تسلم أن هذا الكون العظيم الذى بهر العقول وحير الألباب قد وجد بلا موجد ونظم بلا منظم ، وكان كل ما فيه من نجوم وغيوم وقفار وبحار وليل ونهار وظلمات وأنوار وأشجار وأزهار وشموس وأقمار إلى أنواع لا يحصيها العد ولا يأتى عليها الحصر قد وجدت بلا موجد إن هذا لهذيان وجنون.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ٦ ـ ١١] ترشد هذه الآيات إلى أن القائل فى السموات كيف نسق هذا النظام البديع وارتبطت كواكبها بعضها ببعض حتى أشبهت ـ من حيث خضوعها لنظام بديع وترتيب عجيب ـ البناء المحكم فمن الذى نظم عقد هذه الكواكب ومن الذى رتبها حتى صارت بهجة للناظرين ومن الذى أزاح عنها الخلل فليس فى هذا البناء المحكم فروج ينفذ فيها الخلل فتختل دوراتها فيصطدم بعضها ببعض اصطداما يتداعى منه ذلك البنيان وتندك منه السماء (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١] إن الذى بيده أمر هذه المجاميع العلوية والسفلية وينظم أمرها ويحفظها من الخلل ويعطى كل شىء منها قسطه الطبيعى لا بد أن يكون موجدا مريدا مختارا.

مثل هذا النظام الذى تنجلى فيه الحكمة والعناية والدقة والإحاطة محال أن ينسب إلى المصادفة ـ

ثم لا يحتمل : كون ذلك الماء بكليته فيه ، لصغره وخفته ، ولا كان ينبغى ذلك من أسفله.

فإذا كان هذا كما ذكرنا ظهر أن الله ـ عزوجل ـ كان ينشئ ذلك الماء فيه ، ويحدث من لا شىء ؛ لأن ذلك الحجر لم يكن من جوهر الماء ، ولا من أصله.

فإذا كان قادرا على هذا فإنه قادر على إنشاء العالم من لا شىء سبق ، ولا أصل تقدم.

وكذلك ما أراهم ـ عزوجل ـ من العصا : الثعبان والحية ، لم يكونا من جوهرها ، ولا من أصلها ، ولا تولدها منها ، بل أنشأ ذلك وأبدع ، بلطفه. والله الموفق.

وقوله : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً).

قيل (١) : كانوا اثنى عشر سبطا ؛ لقوله : (اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) [المائدة : ١٢] وهم بنو يعقوب ؛ فجعل لكل سبط نهرا على حدة ، فانضم (٢) كل فريق إلى أبيهم الذى كانوا منه ، ولم ينضموا إلى أعمامهم وبنى أعمامهم.

ففيه دلالة : أن المواريث لا تصرف إلى غير الآباء إلا بعد انقطاع أهل الاتصال بالآباء.

وفيه دلالة : أن القوم فى الصحارى والبوادى ينزلون مجموعين غير متفرقين ، ولا متباعدين بعضهم من بعض بحيث يكون بعضهم عونا لبعض وظهيرا ؛ لأنهم نزلوا جميعا فى موضع واحد ، مجموعين ـ مع كثرتهم وازدحامهم ـ غير متفرقين ولا متباعدين ، وإن

__________________

ـ كما يقول الملحدون فإن المصادفة تضاد النظام وتخالفه كل المخالفة.

محال أن يكون هذا النظام المتناهى فى الدقة من أثر الفوضى والإهمال وأن ينسب إلى عدم الفاعل والموجد ، تلك محالات أزلية يرفض العقل الاقتناع بها والركون إليها وها هى أكثر الآيات الدالة على وجود الخالق العظيم آتية بطريق الاستفهام التقريرى مما يدل على أن الجميع مقرون بوجوده :

هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ [فاطر : ٣] (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ١٤] (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١] (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور : ٣٥ ـ ٣٦].

هذه دلائل واضحة يسلم بها العقل متى عرضت عليه لأن فى فطرته الاعتراف بها ، فقد ثبت بهذه الأدلة وبما سبقها من الأدلة العقلية والكونية أن للعالم صانعا مختارا فى إيجاده وكون هذا العالم على هذا الوجه المشاهد بدون اضطرار ولا إيجاب.

ينظر أصول الدين ص (٣٤ ، ٣٣ ، ١٤) ، العقيدة النظامية (١ / ٣٠٩) ، العقيدة النسفية ص (٢٣ ، ٢٥) ، نشر الطوالع ص (١٧٥ ، ١٧٧) ، التعريفات (٨٦) ، المطالب العالية للرازى (١ / ٣٠٩ ، ٣١١) وما بعدها ، الفصل فى الملل والأهواء والنحل (١ / ٤٧) وما بعدها ، تهافت الفلاسفة ص (٥٠).

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٤٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٠).

(٢) فى أ : فانقسم.

كان ذلك أنفع لهم ، وأهون عليهم ، من جهة الرعى والربع وسعة المنازل.

وفى الأول : سبق المعنى الذى وصفنا ، والله أعلم.

وقوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ).

أى : موردهم.

وفيه دلالة قطع التنازع ، ودفع الاختلاف من بينهم ؛ لما بين لكل فريق منهم موردا على حدة.

ولو كان مشتركا لخيف وقوع التنازع والاختلاف بينهم ، وفى وقوع ذلك بينهم قطع الأنساب والأرحام ، وبالله التوفيق.

وقوله : (كُلُوا).

يعنى : المنّ والسلوى.

وقوله : (وَاشْرَبُوا) من رزق الله ، من الماء الذى أخرج لهم من الحجر ، وكلاهما رزق الله ، الذى ساقه إليهم ، من غير تكلف ولا مشقة.

وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

قيل (١) : لا تسعوا فى الأرض بالفساد.

ويحتمل : لا تعثوا ، أى : لا تفسدوا ؛ لأن العثوّ هو الفساد نفسه ، كأنه قال : لا تفسدوا فى الأرض ؛ فتكونوا مفسدين.

وقوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : أول ما أنزل المن ، فعند ذلك قالوا : لن نصبر على طعام واحد ، ثم أنزل السلوى.

وقيل (٢) : كانوا يتخذون من المن القرص ، فيأكلون مع السلوى ، فهو طعام واحد ؛ فقالوا : لن نصبر عليه.

ويحتمل : أن يكون طعامهم فى اليوم مرة ؛ فطلبوا الأطعمة المختلفة. والله أعلم.

وقوله : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٥٤) وعن أبى العالية (١٠٥١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٠).

(٢) ذكره البغوى فى تفسيره بنحوه (١ / ٧٨).

قال : يبين لنا معنى إضافة خصوصية الأشياء إلى الله ـ عزوجل ـ يخرج مخرج التعظيم لذلك الشىء المخصوص ، من ذلك : بيت الله ، ورسول الله ، وناقة الله ، هذا كله يخرج مخرج التعظيم لهذه الأشياء.

وإضافة كلية الأشياء إلى الله تعالى يخرج مخرج تعظيم الرب وإجلاله ، نحو ما قال : (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٦٤] ، و (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦ ، الأنعام : ١٠٢ ، الزمر : ٦٢ ، غافر : ٦٢] ، و (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦ ، الأنبياء : ٥٦] ، و (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١ ، الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣] ونحوه. هذا كله وصف تعظيم الرب وإجلاله.

وقد اختلف فى «الفوم» :

قيل : الفوم هو الثوم (١) ، وكذلك روى فى قراءة عبد الله (٢) أنه قرأه : وثومها (٣).

وقيل (٤) : الفوم البر.

وقوله : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

قيل فى «أدنى» بوجوه :

قيل (٥) : أدنى فى القيمة.

وقيل (٦) : أدنى فى الخطر والرغبة.

وقيل : أدنى فى المنافع.

وقيل : أدنى ؛ لما لا يصل هذا إليهم إلا بالمؤنة والمشقة ، وذلك لهم بلا مئونة ولا مشقة ؛ فهو خير.

وكل يرجع إلى واحد ، والله أعلم.

ويحتمل : أدنى ، أى : أدون وأقل ، ولا شك أن ما طلبوا ، وسألوا دون الذى كان لهم.

ويحتمل : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) : قد أعطوا.

__________________

(١) هو قول ابن عباس ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٤١) ، وقول مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٧٨) وعن أبى العالية (١٠٧٩).

(٢) ينظر : اللباب (٢ / ١١٦) ، والبحر المحيط (١ / ٣٩٥) ، والمحرر الوجيز (١ / ١٥٣) ، والقرطبى (١ / ٢٨٨).

(٣) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٤١) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبى داود فى المصاحف وابن المنذر.

(٤) وهو قول ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (١٠٧٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤١).

(٥) انظر تفسير ابن جرير (١ / ٣٥٢).

(٦) ينظر السابق.

ولو كان ذلك أصلح لهم فى الدين ، لم يكن موسى ليلومهم عليه. ثبت أنه لم يكن ، ثم أعطوا ذلك. ثبت أن الله تعالى قد يجوز له ـ فى الحكمة ـ فعل ما كان غيره أصلح لهم فى الدين ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً).

قيل (١) : المصر المعروف.

وقيل (٢) : مصر من الأمصار ؛ لأن ما طلبوا لا يوجد إلا فى الأمصار ، وبالله التوفيق.

وقوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ).

من الأطعمة المختلفة إن كان المراد منه المراد ، وإن كان الأطعمة المختلفة فهو كما قال.

وقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : الذلة : ذلة احتمال المؤنة والشدائد ؛ لما سألوا من الأطعمة المختلفة.

وقيل (٣) : الذلة : ذلة الجزية والصغار ؛ بعصيانهم ربّهم.

وقيل : ذلة الكسب والعمل ؛ لأن الأول كان يأتيهم من غير كسب ولا مئونة.

وقوله : (وَالْمَسْكَنَةُ).

قيل (٤) : هى الفقر والحاجة.

وقيل : قطع رجائهم من الآخرة ، ؛ لما عصوا ربهم.

وقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٥) : باءوا : رجعوا.

وقيل : استوجبوا.

وقيل (٦) : أقروا ، وكله يرجع إلى واحد.

__________________

(١) هو قول أبى العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٨٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٢).

(٢) هو قول قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٨٢ ، ١٠٨٤) وعن السدى (١٠٨٣) ومجاهد (١٠٨٥).

(٣) قاله الحسن وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (١٠٨٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٢).

(٤) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٠٩١) وعن أبى العالية (١٠٩٠) وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٢).

(٥) قاله ابن جرير (١ / ٣٥٦) ، وذكره السيوطى فى الدر المنثور (١ / ١٤٢) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة وقال : (انْقَلَبُوا).

(٦) قاله أبو عبيدة كما فى تفسير البغوى (١ / ٧٨).

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ).

قد ذكرنا فيما تقدم : أن الآيات ، هى الحجج التى أعطى الرسل ، وأجراها على أيديهم.

وقال الحسن : هى دين الله.

وقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

يحتمل : أن يكون هذا فى غيرهم ؛ لأنه لم يكن فى زمن موسى نبى سوى هارون ، وهم لم يقتلوه.

إلا أن يقال : إن ذلك كان من أولادهم بعد موسى.

أو كان ذلك من غيرهم سوى هؤلاء وأولادهم.

على أن قتل الأنبياء فى بنى إسرائيل كان ظاهرا ، حتى قيل : قتل فى يوم كذا كذا نبيّا.

ولم يذكر قتل رسول من الرسل ، وذلك ـ والله أعلم ـ لقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] ، ولقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧٢] أخبر أنه ينصرهم ، وأنهم منصورون ومن كان الله ناصره فهو المنصور أبدا.

ولأن الرسل هم الذين أوتوا الآيات المعجزة ؛ فلم يكن لهم استقبال الرسل بذلك للآيات التى كانت معهم.

وأما الأنبياء ، فلم يكن معهم تلك الآيات المعجزة ، وإنما كانوا يدعون الخلق إلى دين الله بالآيات التى كانت للرسل ، والحجج التى كانت معهم ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

قال قوم : لم يقتل أحد من الرسل ، وإنما قتل الأنبياء ، أو رسل الرسل.

فإن كان كذلك فعلى ذلك يخرج ما ذكرنا من الآيات.

وإن لم يكن فالنصر كان بالحجج والآيات ؛ فكانت تلك للكل.

وعلى ذلك : لا دلالة فى كون الآيات مع الأنبياء ، وغير كونها ، فإن لم يكن (١) لهم ابتداء شرع ، ولا نسخ ، بل على الدعاء إلى ما سبق من الشرائع وكانت آياتهم كآيات الرسل ، أو دلالات العصمة ، مع ما كان بهم حفظ الكتب السماوية بلا تبديل.

والله أعلم بالحق فى ذلك ، ونعتصم بالله عن بسط اللسان فى ذلك ، بالتدبير ، دون شىء ظهر على ألسن الرسل ، أو القول فيهم بشيء إن كانت آية لكل ، أو لا. لكن الله تعالى قد أقام حجته لكلّ على قدر الكفاية والتمام.

__________________

(١) فى أ : فلما لم يكن.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٢)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قيل : إن اليهود والنصارى وهؤلاء جائز أن يكون لهم تعلق بظاهر هذه الآية ؛ لأنهم كانوا يقولون : إنا آمنا بالله ، وآمنا باليوم الآخر ، فليس علينا خوف ولا حزن.

لكن الجواب لهذا وجوه :

أحدها : أنّه ذكر المؤمنين بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وإيمانهم ما ذكر فى آية أخرى وهو قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

وهم قد فرقوا بين الرسل ، بقولهم : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء : ١٥٠].

وفرقوا بين الكتب أيضا : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض.

فهؤلاء الذين ذكرهم ـ عزوجل ـ فى هذه الآية ، هم الذين آمنوا بجميع الرسل ، وآمنوا بجميع الكتب أيضا.

فإذا كان هذا إيمانهم لم يكن عليهم خوف ولا حزن.

والثانى : ذكر الإيمان بالله. والإيمان بالله هو الإيمان بجميع الرسل ، وبجميع الكتب.

ولكنهم لا يؤمنون بالله ، ولا يعرفونه فى الحقيقة.

أو أن يقال : ذكر عمل الصالحات ، والكفر ببعض الرسل ليس من عمل الصالحات ؛ لذلك بطل تعلقهم بهذا ، والله أعلم.

وقيل : ذلك على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : إن الذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، والذين آمنوا ... الآية.

وللمعتزلة تعلق أيضا بظاهر قوله : (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وصاحب الكبيرة عليه خوف وحزن ، فلو كان مؤمنا لكان لا خوف عليه ولا حزن ؛ لأنه أخبر أن المؤمن لا خوف عليه ولا حزن ؛ فدل : أنه يخرج من إيمانه إذا ارتكب كبيرة.

فيقال لهم : لم ينف عنهم الخوف ، والحزن فى كل الوقت.

فيحتمل : أن يكون عليه خوف فى وقت ، ولا يكون عليه خوف فى وقت آخر ؛ لأن لكل مؤمن خوف البعث وفزعه حتى الرسل ، بقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا

أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) [المائدة : ١٠٩] ؛ لشدة فزعهم من هول ذلك اليوم.

فإذا دخلوا الجنّة ، ونزلوا منازلهم ، ذهب ذلك الخوف والفزع عنهم.

فعلى ذلك المؤمن : يكون له خوف فى وقت ، ولا يكون عليه خوف فى وقت آخر ، والله أعلم.

واختلف فى الصابئين :

قيل (١) : الصابئون : قوم يعبدون الملائكة ، ويقرءون الزبور.

وقيل : إنهم قوم يعبدون الكواكب.

وقيل (٢) : هم قوم بين المجوس والنصارى.

وقيل (٣) : هم قوم بين اليهود والمجوس.

وقيل : هم قوم يذهبون مذهب الزنادقة ؛ يقولون باثنين لا كتاب لهم ، ولا علم لنا بهم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٦٦)

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ).

قد ذكرنا فيما تقدم : أن ميثاق الله ، وعهده على وجهين : عهد خلقة وفطرة ، وعهد رسالة ونبوة.

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) فى التوراة أن يعملوا بما فيها ، فنقضوا ذلك العهد لما رأوا فيها الحدود ، والأحكام ، والشرائع كرهوا ؛ فرفع الله الجبل فوقهم ، فقبلوا ذلك.

ويحتمل ما ذكرنا من عهد خلقة وفطرة فنقضوا ذلك.

وقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ).

قيل (٤) : خذوا التوراة بالجد والمواظبة.

__________________

(١) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٠٩) وعن قتادة (١١١٠) وأبى العالية (١١١١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٥ ـ ١٤٦).

(٢) قاله سعيد بن جبير بنحوه ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ١٤٥).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٠٣) وعن الحسن (١١٠٤) وابن أبى نجيح (١١٠٥) ، ومجاهد (١١٠٦) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٥ ـ ١٤٦).

(٤) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٣١) ، وعن قتادة (١١٣٠) وانظر تفسير البغوى (١ / ٨٠).

وقيل (١) : «بقوة» يعنى : بالطاعة له والخضوع.

ثم احتج بعض المعتزلة بهذه الآية على تقدم القدرة الفعل ؛ لأنه أمرهم ـ عزوجل ـ بالقبول له ، والأخذ والعمل بما فيها.

فلو لم يعطهم قوة الأخذ والقبول له قبل الأخذ له والفعل ، لكان لا يأمرهم بذلك ؛ لأنهم يقولون : لا قوة لنا على ذلك ؛ فدل أنه قد أعطاهم قبل ذلك ، لكنه غلط عندنا ؛ لأنه لو كان أعطاهم القوة قبل الفعل ، ووقت الأمر به ، ثم تذهب عنهم تلك القوة وقت الفعل ـ لكان الفعل بلا قوة ؛ إذ من قولهم : أن القوة لا تبقى وقتين ؛ فدل : أنها تحدث بحدوث الفعل ، لا يتقدم ولا يتأخر ، ولكن يكونان معا.

ولأنها سميت : قدرة الفعل ، فلو كانت تتقدم الفعل ، لم يكن لإضافة الفعل إليها معنى ، والله أعلم.

والأصل فى ذلك : أن الله ـ تعالى ـ قال : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) ومعلوم أن المراد من ذلك الأخذ بقوة الآخذ.

ثم فيه وجهان :

أحدهما : أن للأخذ قوة غير التى للترك.

والثانى : أنه ذكر الأخذ بقوة ، فإذا لم تكن معه لم يكن بها أن يرى أن الوقت إذا تباعد لم يحتمل بما تقدم من القوة أوقاتا ؛ فمثله وقت واحد.

وقوله : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٢) : اذكروا ، واحفظوا ما فيه من أمره ونهيه ، ولا تضيعوه ؛ لعلكم تتقون المعاصى والمآثم.

ويحتمل : اذكروا ما فيه من التوحيد والإيمان ؛ لعلكم تتقون الشرك والكفر.

ويحتمل : اذكروا ما فيه من الأحكام والشرائع.

ويحتمل : الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد. وكله واحد.

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

يعنى : من بعد القبول.

دل هذا على : أنهم كانوا قبلوا ذلك مرة ، قبل أن يأتيهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ؛ فلما أتاهم ـ

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٢٩).

(٢) قاله القرطبى فى تفسيره (١ / ٢٩٧).

ورأوا التشديد ، والمشقة ـ أبوا قبولها ، وتركوا العمل بما فيها من الأحكام والشرائع ؛ فخوّفوا برفع الجبل فوقهم ؛ فقبلوا ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

يحتمل وجوها :

قيل (١) : فضل الله عليكم الإسلام ورحمته : القرآن.

وقيل : فضل الله عليكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعث إليكم رسولا ؛ ليجمعكم ، ويؤلف بينكم ، ويدعوكم إلى دين الله الحق ، بعد ما كنتم فى فترة من الرسل ، وانقطاع من الدين والعمل.

ويحتمل : فضل الله عليكم ؛ لما أنجى آباءكم من العذاب ، ولم يرسل عليهم الجبل ، وإلا ما توالدتم أنتم.

وقيل : فضل الله عليكم ؛ لما أعطاهم التوراة ، ووفقهم على قبولها ، وإلا كنتم من الخاسرين. وبعضه قريب من بعض.

وقوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ).

فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛

كأنه قال : ولقد علمتم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعلم الذين اعتدوا منكم فى السبت ، ولا كان علم ما فعل بهم ، ثم علم ذلك ؛ فإنما علم بالله ـ عزوجل ـ لأنه لم يكن قرأ كتابكم ، ولا كان يختلف إلى أحد ممن يعرف ذلك ؛ فبالله ـ عزوجل ـ عرف ذلك ، وبه علم ؛ فدل : أنه رسول الله إليكم.

ويحتمل قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

أى : علمتم ما أصاب أولئك باعتدائهم يوم السبت بالاصطياد ، وكنتم تقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨]. يعنى : أبناء رسل الله وأحباؤه.

فلو كان كما تقولون ، لم يكن ليجعلهم قردة ـ وهى أقبح خلق الله ، وأوخشه ـ إذ مثل ذلك لا يفعل بالأحبّاء ولا بالأبناء.

أو أن يحمل على التحذير لهؤلاء ؛ لئلا يكذّبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعصوه فى أمره ، فيصيبكم ما أصاب أولئك ؛ بتكذيبهم موسى ، وعصيانهم أمره ، والله أعلم.

ثم سبب تحريم الاصطياد فى السبت كان ـ والله أعلم ـ لما قيل : إنّ موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يجعل يوما لله ، خالصا للطاعة له ، والعبادة فيه ـ وهو يوم الجمعة ـ فخالفوا هم أمره

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٣٧ ، ١١٣٨).

ونهيه ، وقالوا : نجعل ذلك اليوم السبت ؛ لأنه لم يخلق لعمل. فحرم الاصطياد فى ذلك اليوم لذلك وحولوا قردة ؛ عقوبة لهم لما نهوا عن الاصطياد فى ذلك اليوم فاصطادوا.

وعلى ذلك تأويل قوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) [النحل : ١٢٤] يعنى : يوم الجمعة.

وقيل : (اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، يعنى : فى الله.

ثم اختلف فى قوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) :

قال قوم (١) : قوله : (كُونُوا قِرَدَةً) من الأصل ؛ على ذهاب الإنسانية منهم.

وقيل (٢) : حوّل جوهرهم إلى جوهر القردة ، على إبقاء الإنسانية فيهم ؛ من الفهم والعقل ؛ لأنه قيل : إن الذين كانوا ينهونهم عن الاصطياد فى ذلك اليوم دخلوا عليهم ، فيقولون لهم : ألم ننهكم عن ذلك ، ونزجركم؟!

فأومئوا : أى نعم. ودموعهم تفيض على خدودهم.

فلو كان التحويل على ذهاب جميع الإنسانية منهم لكانوا لا يفهمون ذلك ، ولا حزنوا على ما أصابهم ؛ لأن كلّ ذى جوهر راض بجوهره الذى خلقه الله سبحانه يسرّ به.

ولأن تحويله إياهم قردة عقوبة لتمردهم فى التكذيب ، وجرأتهم على الله ؛ ليعلموا ذلك ، ويروا أنفسهم أقبح خلق الله وأوخشه.

وفيه نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : ليس فى خلق الله قبيح.

فلو لم يكن فى خلق الله قبيح لم يكن لتحويل صورتهم من صورة الإنسان ، إلى أقبح صورة معنى ؛ ليروا قبح أنفسهم ؛ عقوبة لهم بما عصوا أمر الله ، ودخلوا فى نهيه.

وقوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً).

قيل (٣) : الهاء راجعة إلى القرية التى كانوا فيها.

وقوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْها).

من أهل القرية.

وقوله : (وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

حواليها.

وقيل : أراد بالهاء : القرية ، (لِما بَيْنَ يَدَيْها) من القرى ، (وَما خَلْفَها) من القرى.

__________________

(١) هذا قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١١٣٩ ، ١١٤٠) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٧).

(٢) هذا قول مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١١٤٤ ، ١١٤٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٧).

(٣) قاله ابن جرير فى تفسيره (١ / ٣٧٥).

وقيل (١) : أراد بالهاء : العقوبة والنكال ، (لِما بَيْنَ يَدَيْها) يعنى : لما مضى من الذنوب. (وَما خَلْفَها) يعنى : ما بقى ، والله أعلم.

وقوله : (خاسِئِينَ).

قيل (٢) : الخاسئ : الصاغر.

وقيل (٣) : الخاسئ : الذليل.

وقيل (٤) : البعيد. وكله يرجع إلى واحد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٧٤)

وقوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً).

قيل (٥) : قتل قتيل فى بنى إسرائيل ، وألقى على باب غيرهم ؛ فتنازعوا فيه واختلفوا ؛ فأمر الله نبيّه موسى أن يذبحوا بقرة ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فاضربوا ببعضها ذلك الميت ؛ فيحيى ، فيقول : من قتلنى.

وقوله : (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٥٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٨).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٤٦ ، ١١٤٧ ، ١١٤٨) وعن قتادة (١١٤٩) والربيع (١١٥٠).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٥١).

(٤) قاله ابن جرير (١ / ٣٧٤) ، والبغوى (١ / ٨١) بنحوه.

(٥) قاله عبيدة ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١١٧٤) وعن أبى العالية (١١٧٥) ، والسدى (١١٧٦) ، وغيرهم ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٤٨ ـ ١٥٠).

هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ).

قال بعضهم : كفروا بهذا القول ؛ لأنهم سمّوه هازئا ، ومن سمّى رسولا من الرسل هازئا يكفر ؛ ألا ترى أنهم قالوا فى الآخر : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ)؟! دل أن ما قال لهم أول مرّة ليس بحق عندهم.

وليس هذا بشيء. ولا يحتمل ما قالوا.

ولكن يحمل على المجازاة ، كأنهم قالوا : أتجازينا بهذا لما مضى منا وسبق من العصيان بك ، والخلاف لك؟! لما لم يعلموا أنه من عند الله يأمر بذلك.

وهذا وأمثاله على المجازاة جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء ، والمخادعة ، والمكر ، كله على المجازاة جائز.

وكقول نوح لقومه : (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) [هود : ٣٨] على المجازاة [جائز على ما ذكرنا من الاستهزاء](١) ؛ فكذلك الأول.

وأما الاستهزاء فيما بين الخلق فهو جهل يسخر بعضهم ببعض ؛ لجهل بأحوال أنفسهم ؛ إذ كلهم سواء من جهة الجوهر والخلقة ، وتركيب الجوارح ، وتصوير الصّور ، وتمثيلها.

ألا ترى : أن موسى أجاب لهم عن الهزء بالجهل ، فقال : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)؟!

دل أن الهزء فى الخلق لجهل فيهم ، وبالله التوفيق.

ثم استدل قوم بهذه الآية على : عموم الخطاب وقت قرع السمع ؛ لأنه أمرهم بذبح بقرة لم يبين لهم كيفيّتها ، ولا ماهيتها وقت الخطاب ، إلا بعد البحث والسؤال عنها ؛ فثبت أنه على العموم.

ألا ترى ما روى فى الخبر : «لو عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأتهم ، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم» (٢).

لكن هذا لا يصح ؛ لأنه دعوى على الله ، لحدوث شىء فى أمره ، وبدوّ فى حكمه ، فذلك كفر ، لا يقوله مسلم ، فضلا عن أن يقول به رسول من الرسل.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) أخرجه البزار وابن أبى حاتم وابن مردويه من طريقين عن أبى هريرة بنحوه ، وأخرجه الفريابى وسعيد ابن منصور وابن المنذر عن عكرمة مرسلا ، وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج وقتادة مرسلا كما فى الدر المنثور (١ / ١٥٠).

تأويل هذا أنه قال : إنه يقول كذا ، فلو كان الأول على غير ذلك لكان قد بدا له فيما عم وفسر بما لم يكن أراد. وذلك معنى البداء ، بل معنى الرجوع عن الأول مما أراد ، والتفسير له بغيره ، ولا قوة إلا بالله.

ثم فى الآية دليل خصوص الخطاب من وجهين :

أحدهما : أخذ كل آية خرجت فى الظاهر على العموم حتى الخصوص.

والثانى : جواز تأخير البيان على تقدم الأمر به ؛ لما ذكرنا : أنها لو حملت على العموم ـ وهو مرادها ـ ثم ظهر الخصوص ، فهو بدو وحدوث فى الأحكام والشرائع ، فذلك حال من جهل العواقب والنهايات ، تعالى الله عن ذلك.

ومعنى سؤالهم ؛ بدعاء الرب لهم : البيان بما أريد جعل ذلك آية ؛ فوقع عندهم : أن لا كل بقرة تصلح للآيات ، ولذلك لم يسألوا موسى عن تفسيرها ؛ إذ الله ـ تعالى ـ هو الذى يعلم الآيات.

والحرف الثانى هو الأول الذى قلنا : إليه انصرف المراد فى الابتداء ؛ لما يوجبه ، وأن الأمر بالذبح فى الابتداء كان على ما آل أمرها إليه وظهر.

لكنهم أمروا بالسؤال عنها ، والبحث عن أحوالها ؛ ليصلوا إلى المراد فيه ، لا أنه أحدث لهم ذلك بالسؤال.

وعلى ذلك : ما روى فى الخبر : «أن صلة الرحم تزيد فى العمر» (١).

أى : لما علم من عبده أنه يصل رحمه ، جعل مدة عمره أكثر مما لو علم أنه لا يصل ، لا أنه يجعل أجله إلى وقت ، فإذا وصل رحمه زاد على ذلك.

لا على ما يقوله المعتزلة : أن الله ـ تعالى ـ يجعل لكل أحد أجلين ، فإذا وصل رحمه أماته فى أبعد الأجلين ، وإذا لم يصل جعل أجله الأول.

فهذا أمر من يجهل العواقب ، فأما من كان عالما بالعواقب فلا ؛ لأنه بدوّ ورجوع عما تقدم من الأمر.

ثم من استدل بهذه الآية : بقبول قول أولياء المقتول وهم ؛ لأوجه :

أحدها : ما لا يقبل قول القتيل قبل خروج الروح منه : إنّ فلانا قتلنى ، فى قطع حق الميراث ، وإغرام الدية (٢).

__________________

(١) طرف من حديث عن أبى أمامة ، أخرجه الطبرانى فى الكبير كما فى مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ١١٨) ، وقال : وإسناده حسن ، وصححه العلامة الألبانى فى الصحيحة (١٩٠٨) بمجموع طرقه.

(٢) الديات ، جمع : دية ، وهى فى اللغة مصدر : ودى القاتل القتيل يديه دية : إذا أعطى وليه المال الذى ـ

والثانى : أن ذلك كان آية عظيمة لهم ، لم يكن ذلك لغيرهم.

والثالث : أن أولياء المقتول قد كانوا ـ قبل أن يحيى ـ يدّعون عليهم القتل ، فلو كان لهم حق القبول ، لم يحتج إلى تلك الآية.

والرابع : أن قبول قول الميت أحق من قبول قول الولى ؛ لأن الولىّ ينتفع بقوله ، والميت لا ينتفع بقوله شيئا ، ثم القتيل لا يقبل قوله فى شريعتنا فكذلك الولى ، والله الموفق.

ثم وجه جعل البقرة آية دون غيرها من البهائم وجهان :

أحدهما : ما روى (١) أن رجلا كان بارّا بوالديه ، محسنا إليهما عاطفا عليهما ، وكانت له بقرة على تلك الصفة والشبه ، فأراد الله ـ عزوجل ـ أن يوصل إليه فى الدنيا جزاء ما كان منه بمكان والديه.

والثانى : أنهم كانوا يعبدون البقور والعجاجيل ، وحبّب ذلك إليهم ؛ كقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، ثم تابوا وعادوا إلى عبادة الله وطاعته ، فأراد الله أن يمتحنهم بذبح ما حبّب إليهم ؛ ليظهر منهم حقيقة التوبة ، وانقلاع ما كان فى قلوبهم من حب البقور والعجاجيل ، والله أعلم.

وقوله : (لا فارِضٌ).

__________________

ـ هو بدل النفس ، وأصلها : ودية ؛ فهى محذوفة الفاء كعدة من الوعد ، وزنة من الوزن. وكذلك هبة من الوهب. والهاء فى الأصل بدل من فاء الكلمة التى هى الواو ، ثم سمى ذلك المال : (دية) تسمية بالمصدر.

وفى الاصطلاح : عرفها بعض الحنفية بأنها اسم للمال الذى هو بدل النفس. ومثله ما ذكر فى كتب المالكية ، حيث قالوا فى تعريفها : هى مال يجب بقتل آدمى حر عوضا عن دمه. لكن قال فى (تكملة الفتح) : الأظهر فى تفسير الدية ما ذكره صاحب (الغاية) آخرا من أن الدية : اسم لضمان مقدر يجب بمقابلة الآدمى أو طرف منه ، سميت بذلك ؛ لأنها تؤدى عادة وقلما يجرى فيها العفو ؛ لعظم حرمة الآدمى. وهذا ما يؤيده العدوى من فقهاء المالكية حيث قال بعد تعريف الدية : إن ما وجب فى قطع اليد مثلا يقال له : دية حقيقة ؛ إذ قد وقع التعبير به فى كلامهم. أما الشافعية والحنابلة فعمموا تعريف الدية ليشمل ما يجب فى الجناية على النفس وعلى ما دون النفس. قال الشافعية : هى المال الواجب بالجناية على الحر فى نفس أو فيما دونها. وقال الحنابلة : إنها المال المؤدّى إلى مجنىّ عليه ، أو وليه ، أو وارثه بسبب جناية. وتسمى الدية : عقلا أيضا ، وذلك لوجهين : أحدهما : أنها تعقل الدماء أن تراق ، والثانى : أن الدية كانت إذا وجبت وأخذت من الإبل تجمع فتعقل ، ثم تساق إلى ولى الدم.

ينظر : كفاية الطالب مع حاشية العدوى (٣ / ٢٣٧ ، ٢٣٨) ، نهاية المحتاج (٧ / ٢٩٨) ، مغنى المحتاج (٤ / ٥٣) ، مطالب أولى النهى (٦ / ٧٥) ، كشاف القناع (٦ / ٥).

(١) تقدم.

يقول : ليست بكبيرة.

وقوله : (وَلا بِكْرٌ).

ولا شابة.

وقوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ).

بين الشابة والكبيرة.

وقيل (١) : (لا فارِضٌ) : لا كبيرة ، على ما ذكرنا (وَلا بِكْرٌ) ، أى (٢) : ولا ما [لا] تلد ، (عَوانٌ بَيْنَ) أى : (٣) قد ولدت بطنا أو بطنين.

وقوله : (صَفْراءُ).

قيل (٤) : الصفراء ؛ التى تضرب إلى السواد ، وذلك لشدته.

وقيل (٥) : الصفراء ؛ من الصّفر المعروف.

وقوله : (فاقِعٌ لَوْنُها).

قيل (٦) : صاف.

وقوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ).

تعجب الناظرين.

وقيل (٧) : (فاقِعٌ لَوْنُها) ؛ صفراء الظلف والقرن ، والله أعلم.

وقوله : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

وقوم موسى مع غلظ أفهامهم ، ورقة عقولهم ـ أعرف لله ، وأمهل (٨) توحيدا من المعتزلة ؛ لأنهم قالوا : إن شاء الله لكنا من المهتدين.

والمعتزلة يقولون : قد شاء الله أن يهتدوا ، وشاءوا هم ألا يهتدوا ؛ فغلبت مشيئتهم

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١١٨٩) وعن مجاهد (١١٨٦) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٢) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٠٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٠٩ ، ١٢١٨) وعن السدى (١٢١٩).

(٤) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٢٢٢ ، ١٢٢٣) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٥) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٢٧ ، ١٢٢٨).

(٦) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٢٩) وعن أبى العالية (١٢٣٠ ، ١٢٣١) ، والسدى (١٢٣٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٧) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٢٤) وعن سعيد بن جبير (١٢٢٦) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥١).

(٨) فى أ : وأجهل.

على مشيئة الله على قولهم (١) ـ فنعوذ بالله من السّرف فى القول ، والجهل فى الدين.

وقوله : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها).

قيل (٢) : لم يذللها للعمل ؛ أى : لم يزرع عليها ، ولا هى مما يسقى عليها الحرث.

وقيل : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) ؛ أى : بقرة وحشية صعبة ، تثير الأرض ، ولكن إثارة الأرض لم تذللها ؛ لصعوبتها وشدتها.

وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

قيل فيه بوجوه :

(وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ، خوفا على أنفسهم أن يفتضحوا لظهور القاتل.

وقيل (٣) : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاء ثمنها.

والأول أقرب ، والله أعلم.

وقيل : إنهم استقصوا فى صفة تلك البقرة ، والسؤال عن أحوالها ، والاستقصاء فى الشىء ربما يكون للمدافعة ، والله الموفق.

وفى قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) دليل لأبى حنيفة ـ رحمه‌الله وأصحابه ـ أن من خلف لا يأكل لحم بقرة ، فأكل لحم ثور حنث ؛ لأن الله تعالى ذكر البقرة ، ثم بين فى آخره ما يدل أنه أراد به الثور ؛ لقوله : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ).

والثور هو الذى يثير الأرض ، ويسقى الحرث ، دون الأنثى منها ؛ لذلك كان الجواب على ما ذكرنا.

إلا أن يكونوا هم كانوا يحرثون بالأنثى منها كما يحرث أهل الزمان بالذكر ، فحينئذ لا يكون فيه دليل لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

فى الآية : دليل مراد الخصوص ـ وإن خرجت فى الظاهر مخرج العموم ـ لأنه قال عزوجل : (قَتَلْتُمْ) ، وإنما قتله واحد ، وقال : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ، وإنما كان كتمه الذى قتله.

__________________

(١) فى أ : قلوبهم.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٥٢٥) وعنه السدى (١٢٥٣) ، وأبو العالية (١٢٥٤) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥٢).

(٣) قاله محمد بن كعب القرظى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٢٧٨ ، ١٢٧٩) وانظر الدر المنثور (١ / ١٥٢).

لذلك قلنا : ألا نصرف مراد الآية إلى العموم بلفظ العموم ، ولا إلى الخصوص بلفظ الخصوص إلا بعد قيام الدليل والبرهان على ذلك ، والله الموفق.

وقوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها).

قال بعضهم : بفخذها الأيمن.

لكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن الله تعالى ، ولكن يقال : (بِبَعْضِها) بقدر ما فى الكتاب.

وقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى).

أى : هكذا يحيى الله الموتى ، من الوجه الذى لا يتوهمون إحياءه ، بضرب بعض البقرة عليه.

وكذلك قوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) [فاطر : ٩].

فكما أحيا الأرض بعد موتها بالمطر المنزل من السماء ، يقدر على إحياء الموتى ، وبعثهم على الوجه الذى لا يظنون ولا يتوهمون ، والله أعلم.

ويحتمل : إحياء ذلك القتيل لهم ، لما لم يكونوا اطمأنّوا على إحياء الموتى ؛ فأراهم الله ـ عزوجل ـ ذلك ؛ ليطمئنوا ، وليستقروا على ذلك ، ولا يضطربوا فيه ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ).

يحتمل : يريكم آيات وحدانيته.

ويحتمل : يريكم آيات إحياء الموتى ، وآيات البعث.

ويحتمل : آياته فيما تحتاجون إليه ، كما أرى من تقدمكم عند حاجاتهم.

ويحتمل : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) آيات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ هو خبّر عن الغيب.

وأوضح آيات الرسالة ؛ الخبر عن الغيب ، وذكر القصة على الوجه الذى يعلم أن الاختراع لا يبلغ ذلك ؛ لتعلموا أنه بالله علم ؛ إذ لم يذكر له خط كتاب ، ولا اختلاف إلى من عنده.

على أنه لو كان مسموعا منهم ، يجرى على مثله القول بالزيادة والنقصان ، ولكن منعهم الله تعالى عن ذلك ـ إذ علموا صدقه ـ إشفاقا على أنفسهم ، أن ينزل عليهم نقمة الله.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

لكى تعقلوا آيات وحدانيته ، وتعقلوا أنه قادر على إحياء الموتى بعد الموت.

وقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

ضرب الله لقلوبهم مثلا بالحجارة ، وشبهها بها ؛ لتساويها ، وشدة صلابتها ، وأنها أشدّ قسوة من الحجارة ، وذلك : أن من الحجارة ـ مع صلابتها وشدتها ، مع فقد أسباب الفهم والعقل عنها ، وزوال الخطاب منها ـ ما تخضع له ، وتتصدع ؛ كقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١].

وقوله : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ...) الآية [الأعراف : ١٤٣].

وقلب الكافر ـ مع وجود أسباب الفهم والعقل ، وسعة سببية القبول ـ لا يخضع له ، ولا يلين.

وكذلك أخبر الله عزوجل عن الجبال أنها تلين ، وتخضع لهول ذلك اليوم بقوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥]. وقلب الكافر لا يلين أبدا.

أو أن يقال : إنّ الله عزوجل جعل من الجبال منافع للخلق مع صلابتها وشدتها حتى يتفجر منه الأنهار والمياه. وقلب الكافر ـ مع احتمال ذلك وإمكانه ـ لا منفعة منه لأحد. وبالله التوفيق.

ثم وجه حكمة ضرب قلوبهم مثلا بالحجارة ، وتشبيهها بها ، دون غيرها من الأشياء الصّلبة ؛ من الحديد ، والصّفر ، وغيرهما ، وذلك ـ والله أعلم ـ أن الحديد تلينه النار ، وكذلك الصّفر حتى تضرب منهما الأوانى.

والحجر لا تلينه النار ولا شىء ؛ لذلك شبه قلب الكافر بها. وهذا ـ والله أعلم ـ فى قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا.

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

خرجت على الوعيد ـ أبلغ الوعيد ـ والوعظ ؛ حين ذكرهم علمه بما يعملون.

قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)(٧٩)

وقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ).

قيل (١) : الآية ـ وإن خرجت على عموم الخطاب ـ فالمراد منها الخصوص ، وهو

__________________

(١) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٣٢٩).

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإلى هذا يذهب أكثر أهل التفسير.

وقيل : المراد منها ـ بعموم الخطاب ـ العموم ؛ يعنى : النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصحابه ؛ وكأنها خرجت على النهى عن طمع الإيمان منهم ، كأنه قال : لا تطمعوا فى إيمانهم.

كقوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزمر : ١٩] ؛ أى : لا تنقذ.

وكقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ)(١) [الزخرف : ٤٠] ؛ أى : لا تسمع الصم (٢).

وقوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ...) الآية.

لقائل أن يقول : أليس فيما كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ما يجب أن يدفع الطمع عن إيمان هؤلاء؟

فهو ـ والله أعلم ـ لوجهين :

أحدهما : أنهم كانوا أصحاب تقليد ؛ كقوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].

فأخبر ـ عزوجل ـ أن هؤلاء ـ وإن رأوا الآيات العجيبة ـ فإنهم لا يؤمنون أبدا ؛ لأنهم أصحاب تقليد ، لا ينظرون إلى الحجج والآيات.

والثانى : أنهم ـ مع كثرة ما عاينوا من الآيات ، وشاهدوا من العجائب فى عهد رسول الله موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يطمع فى إيمانهم ، فكيف طمعتم أنتم فى إيمان هؤلاء ، وهم أتباعهم؟ والله الموفق.

ولهذا وجهان آخران :

أحدهما : كأنه قال : لا تطمع فى إيمانهم ؛ لأنهم ـ فى علم الله على ما عليه من ذكر.

والثانى : لأن أولئك كانوا خيرا من هؤلاء ، وأرغب فى الحق منهم ، ثم لم يؤمنوا مع سماع الحجج ، وما يجب (٣) به الإيمان ، فكيف تطمع فى إيمان هؤلاء؟

وقوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

أنه من عند الله ، ويعلمون أنه رسول الله ، وأنه حقّ.

وقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا).

فقد ذكرنا فيما تقدم أنها فى المنافقين نزلت.

وقوله : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ).

__________________

(١) فى أ : الموتى.

(٢) فى أ : الموتى.

(٣) فى أ : ويجب.

يحتمل وجهين :

يحتمل : خلا بعض المنافقين إلى بعض ، قالوا : أتحدثونهم بكذا.

ويحتمل : خلاء المنافقين إلى اليهود.

وقوله : (قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ).

قيل (١) : فتح الله ؛ قصّ الله.

وقيل (٢) : فتح الله ؛ بيّن الله.

وقيل : فتح الله ؛ قضى الله.

وقيل (٣) : منّ الله عليكم فى التوراة. وكله يرجع إلى واحد.

وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ).

أى : باعترافكم عند هؤلاء.

ويحتمل : على إضمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال : ليحاجوكم بإقراركم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويحتمل : على معنى ليحاجوكم به عند ربكم أى فى ربكم ؛ إذ العرب تستعمل حروف الخفض بعضها فى موضع بعض.

ويحتمل : عند ربكم ، أى : يوم القيامة. ويكون ليحاجوكم بما عند الله ؛ أى : بالذى جاءكم من عند الله.

لكن لقائل أن يقول : ما معنى ذكر المحاجّة عند ربكم ، والمحاجة يومئذ لا تكون إلا عنده ، ولا تكون ليحاجوكم بها عند الله ؛ أى : بالذى جاءكم من عند الله؟

قيل : لأن ذلك أشد إظهارا ، وأقلّ كتمانا ؛ لما سبق منهم الإقرار بذلك ؛ لذلك نهوا عن ذلك ، لأنهم كانوا ينهون أولئك عن الإقرار بالإيمان عند المؤمنين ، وإظهار ما فى التوراة من بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته.

وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

أنّ هذه حجة لهم عليكم ، حيث تعترفون به ، وتظهرون نعته وصفته ثم لا تبايعونه.

ويحتمل : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنه حق.

٧٧ وقوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٨٧).

(٢) قاله الكسائى كما فى تفسير البغوى (١ / ٨٧).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٣٤٥).

قيل : (ما يُسِرُّونَ) فى الخلوة ؛ من الكفر به والتكذيب له (وَما يُعْلِنُونَ) لأصحابه ؛ من التصديق له والإيمان به.

وقيل : (ما يُسِرُّونَ) من كتمان نعته وصفته. (وَما يُعْلِنُونَ)(١) من إظهار نعته وصفته الذى فى التوراة.

ويحتمل : ما يسرّ هؤلاء لهم من النهى عن إظهار ما فى التوراة ، وما يعلن هؤلاء للمؤمنين من إظهار نعته وصفته ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ).

يقول : من اليهود من لا يقرأ التوراة ولا يعرفها ، إلا أن يحدثهم العلماء والرؤساء عنها.

والأمّىّ : الذى لا يكتب ، ولا يقرأ عن كتابة ، لكنه يقرأ لا عن كتابة ، كالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان لا يكتب ، ولا يقرأ عن كتابة ؛ كقوله : (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨].

ويقال أيضا : الذى لا يقرأ ولا يكتب ، لا عن كتابة ، ولا ؛ غير كتابة.

وقوله : (إِلَّا أَمانِيَ).

قيل (٢) : أحاديث باطلة يحدث لهم ، وهو قول ابن عباس.

وقيل (٣) : إلا أمانىّ ، يعنى إلا كذبا.

وقال الكسائى (٤) : إلا أمانى : إلا تلاوة ؛ كقوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] يعنى : فى تلاوته.

وقوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ، يقول : ما هم إلا ظن يظنون فى غير يقين.

وأصله : أى لا يعلمون علم الكتاب ، إنما عندهم أمانىّ النفس وشهواتها ؛ كقوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) [النساء : ١٢٣].

__________________

(١) فى أ : وما تظهرون.

(٢) أخرجه ابن جرير عنه (١٣٧٣).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٣٦٨) وعن مجاهد (١٣٦٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٥٨).

(٤) قاله أبو عبيدة كما فى تفسير البغوى (١ / ٨٨) ،

وهو على بن حمزة بن عبد الله الأسدى بالولاء ، الكوفى ، أبو الحسن الكسائى : إمام فى اللغة والنحو والقراءة. من تصانيفه «معانى القرآن» و «المصادر» و «الحروف» و «القراءات» و «النوادر» و «المتشابه فى القرآن» و «ما يلحن فيه العوام». توفى بالرى فى العراق سنة ١٨٩ ه‍.

انظر : ابن خلكان (١ / ٣٣٠) ، تاريخ بغداد (١١ / ٤٠٣).

وقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ).

قيل (١) : الويل : الشدة.

وقيل (٢) : الويل : واد فى جهنم.

وقيل : الويل : هو قول كلّ مكروب وملهوف يقول : ويل له بكذا.

وقوله : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) يحتمل وجهين :

يحتمل : يكتبون : يمحون نعته ، وصفته عن التوراة.

ويحتمل : يكتبون : يحدثون كتابة ، على خلاف نعته وصفته ، ثم يقولون : هذا من عند الله ؛ فتكون الكتابة فى هذا إثباتا ؛ كقوله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] ، والمثبت : هو ذلك الملحق ليظن أنه كذلك فى الأصل.

وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ).

ذكر لهم ثلاث ويلات :

ويل ؛ بإحداث كتابة ببعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحوه وتغييره.

والثانى : بقولهم : هذا من عند الله.

والثالث : وويل لهم مما يكسبون من المأكلة والهدايا.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٨٢)

وقوله : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).

أجمع أهل التفسير (٣) والكلام على صرف الأيام المعدودة المذكورة فى هذه الآية إلى أيام عبادة العجل. وذلك لا معنى له ؛ لوجهين :

__________________

(١) نسبه البغوى فى تفسيره (١ / ٨٨) عن ابن عباس قال : شدة العذاب.

(٢) قاله أبو عياض ، أخرجه ابن جرير عنه (١٣٨٦ ، ١٣٨٧) ، وقد ورد هذا القول فى حديث مرفوعا عن أبى سعيد الخدرى ، أخرجه أحمد وهناد بن السرى فى الزهد وعبد بن حميد والترمذى وابن أبى الدنيا فى صفة النار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبى حاتم والطبرانى وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى المستدرك وصححه وابن مردويه والبيهقى فى البعث كما فى الدر المنثور (١ / ١٥٩).

(٣) منهم ابن جرير فإنه ساقه بإسناده عن ابن عباس (١٤٠٢) ، وقتادة (١٤٠٣ ، ١٤٠٦).

أحدهما : أن هؤلاء لم يعبدوا العجل ، وإنما عبد آباؤهم ؛ فلا معنى لصرف ذلك إلى هؤلاء.

والثانى : لو صرف ذلك إلى آبائهم الذين عبدوا العجل لم يحتمل أيضا ؛ لأنهم قد تابوا ورجعوا عن ذلك ؛ فلا معنى للتعذيب على عبادة العجل بعد التوبة والرجوع إلى عبادة الله ؛ كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، والله أعلم.

وتصرف الأيام المعدودة إلى العمر الذى عصوا فيه ؛ لما لم يروا التعذيب إلا على قدر وقت العصيان والذنب ، أو لما لم يكونوا يرون التخليد فى النار أبدا ، أو لما هم عند أنفسهم ، كما أخبر الله عنهم ، بقوله : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وكقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨].

يقولون : إنا لا نعذّب أبدا ، إنما نعذّب تعذيب الأب ابنه أو الحبيب حبيبه ؛ يعذّب فى وقت قليل ، ثم يرضى ، ويدخل الجنة.

ولكن عقوبة الكفر أبدا ، والتخليد فيها لا لوقت ، وكذلك ثواب الإيمان للأبد لا لوقت ؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده للأبد لا لوقت ؛ فعلى ذلك جزاؤه للأبد لا لوقت.

وأما من ارتكب ذنبا من المسلمين ؛ بشهوة تغلبه فى وقت ، فيرتكبه ، ثم يتركه ـ فإنما يعاقب إن عوقب على قدر ما ارتكب فى وقت ؛ لأنه لم يرتكبه للأبد ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ).

والعهد يحتمل : هل عندكم خبر عن الله تعالى بأنكم لا تعذبون أبدا ، ولكن أياما معدودة؟ فإن كان لكم هذا فهو لا يخلف عهده.

والثانى : أتخذتم عند الله عهدا ، أى لكم أعمال صالحة عند الله فوعدكم بها الجنة ، فهو لا يخلف وعده.

أى : ليس لكم واحد من هذين ، لا خبر عن الله بأنه لا يعذبكم ، ولا أعمال صالحة وعد لكم بها الجنة.

وقوله : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ* بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

هذا إكذاب من الله ـ عزوجل ـ إياهم بذلك القول ، كأنه قال : بل تقولون على الله ما لا تعلمون ؛ ألا ترى أنه قال : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)؟!

يقول : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) يعنى : شركا (وَأَحاطَتْ بِهِ) ، أى : مات عليها.

(فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.

وقيل : (وَأَحاطَتْ بِهِ) : بقلبه.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(٨٦)

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

قد ذكرنا عهد الله وميثاقه أنه يكون على وجهين : عهد خلقة وفطرة ، وعهد رسالة ونبوة.

وقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : لا تجعلون الألوهية إلا لله.

ويحتمل : نفس العبادة ، أى : لا تعبدون غير الله ، من الأصنام والأوثان وغيرهما.

وقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى).

برّا بهما ، وعطفا عليهما ، وإلطافا لهما ، وخفض الجناح ، ولين القول لهما ؛ كقوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ...) الآية [الإسراء : ٢٣ ، ٢٤] ، وكقوله : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥].

فإن قيل : إن الأمر بالإحسان فيما بين الخلق يخرج مخرج الإفضال والتبرع ، لا على الوجوب ، واللزوم.

غير أن الإحسان يجوز أن يكون الفعل الحسن نفسه ؛ كقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] استوجبوا هذا بالفعل الحسن ، لا بالإحسان إلى الله تعالى ، وفعل الحسن فرض واجب على كل أحد.

والثانى : أن الإحسان إليهم يجوز أن يكون من حق الله عليهم ، وحقّ الله عليهم لازم ، وعلى ذلك صلة القرابة والمحارم ، والإنفاق عليهم من حق الله عليهم ، وهو لازم.

فهذا ينقض على الشافعى (١) قوله : إنه لا يوجب النفقة إلا على الوالدين ، ولا يتكلم فى الآباء والأمهات بالقرابة ، ولا سموا بهذا الاسم ؛ فدل : أنه أراد به غير الوالدين ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ).

يحتمل : على النفل من الصدقة والفرض جميعا.

وقوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).

يحتمل وجوها :

يحتمل : لا تكتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته ولكن أظهروها.

ويحتمل : الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.

ويحتمل : المراد به الكلّ ، كل شىء وكل قول ؛ أى : لا تقولوا إلا حسنا. والله أعلم.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

يحتمل : الإقرار بها ، والقبول لها.

ويحتمل : إقامتها فى مواقيتها ، بتمام ركوعها وسجودها وخشوعها.

ويحتمل : أن كونوا فى حال تكون لكم الصلاة والتزكية.

__________________

(١) هو : محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد المطلبى ، أبو عبد الله ، الشافعى الإمام العلم ، وقال قتيبة : الشافعى إمام ولد سنة خمسين ومائة روى عن مالك وإبراهيم بن سعد وابن عيينة ومحمد بن على بن شافع وخلق ، وعنه : أبو بكر الحميدى وأحمد بن حنبل والبويطى وأبو ثور وحرملة وطائفة ، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ، والموطأ وهو ابن عشر سنين ، قال الربيع : كان الشافعى يختم القرآن ستين مرة فى صلاة رمضان ، وقال بحر ابن نصر : كنا إذا أردنا أن نبكى قلنا بعضنا لبعض : قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبى يقرأ القرآن ، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى يتساقط الناس من بين يديه ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته ، وقال ابن مهدى : كان الشافعى شابا ملهما. وقال أحمد : ستة أدعو لهم سحرا أحدهم الشافعى. وقال : إن الشافعى للناس كالشمس للعالم. وقال أبو عبيد : ما رأيت أعقل من الشافعى.

وتوفى فى آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين ، رضى الله عنه.

ينظر : تهذيب التهذيب (٩ / ٢٥) ، وتاريخ بغداد (٢ / ٥٦) ، والثقات (٩ / ٣٠) ، والخلاصة (٢ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨).

وقوله : (وَآتُوا الزَّكاةَ).

يحتمل الوجوه التى ذكرناها فى الصلاة.

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ).

الآية ظاهرة.

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ).

قد ذكرنا الميثاق والعهد فى غير موضع.

وقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ).

يحتمل وجهين :

أى : لا تسفكون دماء غيركم ، فيسفك دماءكم ؛ فتصيرون كأنكم سفكتم دماءكم.

ويحتمل : لا يسفك بعضكم دماء بعض ؛ كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، أى : يسلم بعضكم على بعض.

وذكر نقض العهد فى هؤلاء وإن كان فى أوائلهم ؛ لوجهين :

أحدهما : لما رضى هؤلاء بفعل آبائهم.

والثانى : بقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ...) الآية [الزخرف : ٢٢ ، ٢٣].

وقوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ).

يحتمل أيضا وجهين :

يحتمل : ولا يخرج بعضكم بعضا.

ويحتمل : لا تخرجوا غيركم من ديارهم ، فتخرجون من دياركم ؛ على ما ذكرنا فى قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ).

يحتمل : ثم أقررتم وأنتم تشهدون بالعهد والميثاق ، وتشهدون أنه فى التوراة.

وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ).

يعنى : يا هؤلاء.

وقوله : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ).

يحتمل الوجهين اللذين ذكرتهما فى قوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ).

وقوله : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ).

أى : تعاونون عليهم ، يعاون بعضكم بعضا بالإخراج ، وهو الظلم والعدوان.

وقوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ).

أى : ذلك الإخراج محرم عليكم.

وقوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ ...).

الآية ـ وإن كانت مؤخرة فى الذكر ـ فهى مقدمة ؛ كأنه قال : لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم ، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم.

وقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).

آمنوا بالمفاداة من الأسارى ، وكفروا بالإخراج وسفك الدماء.

ويحتمل : الإيمان ببعض ما فى التوراة ، وكفروا ببعضها ، وهو نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته ؛ إذ لم يكن على موافقة مرادهم.

ويحتمل : أن فادوا أسراهم من غيرهم ، وسبوا ذرارى غيرهم.

وقوله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ).

قيل (١) : الخزى فى الدنيا إجلاء بنى النضير من ديارهم ، وإخراجهم إلى الشام.

وقيل (٢) : مقاتلة بنى قريظة ، وسبى ذراريهم ، وذلك لحرب وقع بينهم ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). ولكن لا يعاقبون فى الدنيا ، بل يردون إلى أشد العذاب فى الآخرة ، وإن استوجبوا ذلك فى الدنيا ؛ كقوله : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ ...) الآية [إبراهيم : ٤٢].

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

وعيد. قد ذكرنا ذلك فيما تقدم.

وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

يحتمل : أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل خروجه وبعثه ، فلما بعث على خلاف مرادهم كفروا به ، فذلك اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة.

ويحتمل : ابتداء اختيار الضلال على الهدى ، والحياة الدنيا على الآخرة ، من غير أن آمنوا به ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٤٤٦).

(٢) ينظر السابق.

وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٩١)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ).

يعنى : التوراة ، وهو ظاهر.

وقوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ).

وقيل (١) : وقفينا : أردفنا ، وهو من القفا ، قفا يقفو.

وقيل (٢) : أتبعنا رسولا على أثر رسول ؛ كقوله : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) [المؤمنون : ٤٤] واحدا على أثر واحد.

وقوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ).

قيل (٣) : البينات : الحجج.

وقيل (٤) : العجائب التى كانت تجرى على يديه ، من خلق الطين ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإنباء ما يأكلون وما يدخرون.

وقيل : البينات : الحلال والحرام.

ثم الرسل فى أنفسهم حفظوا حججا ؛ فلم يحتج كل قول يقولون إلى أن يكون مصحوبا بدليل وبيان على صدقهم ؛ لأنهم فى أنفسهم حجة.

وأما سائر الناس فليسوا بحجج فى أنفسهم ، فلا بد لكل قول يقولون أن يأتوا بدليل يدل على صدقهم ، وبيان يظهر الحقّ من الباطل ، والصواب من الخطأ ، والصدق من الكذب. وبالله التوفيق.

وقوله : (وَأَيَّدْناهُ) : قويناه.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٤٤٧).

(٢) ينظر السابق.

(٣) قاله ابن جرير (١ / ٤٤٨).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٤٨٦).

(بِرُوحِ الْقُدُسِ).

اختلف فيه :

قيل (١) : روح القدس : جبريل.

وفى الأصل : القدوس ، لكن طرحت الواو للتخفيف (٢).

وتأييده : هو أن عصمه على حفظه ؛ حتى لم يدن منه شيطان ، فضلا أن يدنو بشيء ، والله أعلم.

وقيل : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعنى بالروح : روح الله.

ووجه إضافة روح عيسى إلى الله ـ عزوجل ـ : أن تكون أضيفت تعظيما له وتفضيلا (٣) ، وذلك أن كل خاص أضيف إلى الله ـ عزوجل ـ أضيف ؛ تعظيما لذلك الشىء ، وتفضيلا له ، كما يقال لموسى : كليم الله ، ولعيسى : روح الله ، ولإبراهيم : خليل الله ، على التعظيم والتفضيل.

وإذا أضيف الجمل إلى الله ـ عزوجل ـ فإنما تضاف ؛ تعظيما له ـ عزوجل ـ وتنزيها ؛ كقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦] أضيف ذلك إليه ؛ تعظيما وتنزيها ، والله الموفق.

والأصل فى ذلك : أن خاصية الأشياء إذا أضيف ذلك إليه أضيف تعظيما لتلك الخاصية. وإذا أضيف جمل الأشياء إلى الله ، فهو يخرج على تعظيم الرب والتبجيل له.

وقوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ).

فى ظاهر هذه الآية أنهم كذبوا فريقا من الرسل ، وقتلوا فريقا منهم.

ويقول بعض الناس : إنهم قتلوا الأنبياء ولم يقتلوا الرسل ؛ لقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] ، ولقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧٢] أخبر أنه ينصرهم ، ومن كان الله ناصره فهو لا يقتل.

ومنهم من يقول : إنهم قتلوا الرسل والأنبياء.

فنقول : يحتمل قوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) فى رسول دون رسول ، فمن نصره الله فهو

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٤٨٨) ، وعن السدى (١٤٨٩) ، والضحاك (١٤٩٠) ، والربيع (١٤٩١). وانظر الدر المنثور (١ / ١٦٧).

(٢) ينظر : اللباب فى علوم الكتاب (٢ / ٢٦٦) ، والدر المصون (١ / ٢٩٤) ، والمحرر الوجيز (١ / ١٧٦) ، والبحر المحيط (١ / ٤٦٧).

(٣) فى أ : وتخصيصا.

لم يقتل. أو كان ما ذكر من النّصرة لهم كان بالحجج والآيات.

ثم فى الآية دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوته ؛ لأنه أخبرهم بتكذيب بعض الرسل ، وقتل بعضهم ، فسكتوا عن ذلك ، فلو لا أنهم عرفوا أنه رسول ـ عرف ذلك بالله ـ وإلا لم يسكتوا عن ذلك.

وقوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ).

يعنى : فى أكنة عليها الغطاء ؛ فلا نفهم ما تقول ، ولا نفقه ما تحدّث.

يدّعون زوال الخطاب عن أنفسهم ؛ كراهية لما سمعوا.

وأكذبهم الله تعالى بقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ) أى : طردهم الله ؛ بكفرهم ، وعتوهم ، وتفريطهم فى تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعتنادهم إياه ، لا أن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئا مما يخاطبون به ـ على ما يزعمون ـ ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها.

وقيل فى قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) : يعنى : أوعية ، تفهم وتعى ما يقال ، ويخاطب ، ولكن لا تفهم ما تقول ، ولا تفقه ما تحدث ، فلو كان حقّا وصدقا لفهمت ولفقهت عليه.

يدّعون إبطال ما يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، وذلك نحو ما قالوا لشعيب : (ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) [هود : ٩١].

وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ).

قيل فيه بوجهين :

قيل (١) : فقليلا أى بقليل ما يؤمنون من التوراة ؛ لأنهم عرفوا نعته وصفته ، وحرفوه ، فلم يؤمنوا به.

وقيل : فقليلا ، أى : قليل منهم يؤمنون بالرسل ، صلى الله عليهم وسلم.

وقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ).

فلو لا أنهم عرفوا أن هذا الكتاب هو موافق لما معهم من الكتاب ، غير مخالف له ، وإلا لأظهروا الخلاف لو عرفوا ذلك ، ولتكلفوا على إطفاء هذا النّور ودفعه ؛ فدل سكوتهم عن ذلك ، وترك اشتغالهم بذلك ، أنهم عرفوا موافقته لما معهم من التوراة ؛ ففيه آية نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

__________________

(١) قاله معمر ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٥١٩).

(يَسْتَفْتِحُونَ) : يستنصرون (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) قبل أن يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقولون : اللهم انصرنا بحق نبيّك الذى تبعثه ، فلما لم يجئهم على هواهم ومرادهم كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين.

وقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ).

يقول : اشتروا ما به هلاكهم بما به نجاتهم.

وذلك أنهم كانوا آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكان إيمانهم به نجاتهم فى الآخرة ، فكفروا به ، وذلك هلاكهم ، وبالله التوفيق.

وقيل (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ) : باعوا به أنفسهم بعرض يسير من الدنيا ، بعذاب فى الآخرة أبدا.

وقوله : (بَغْياً).

قيل (١) : حسدا منهم ؛ وذلك أنهم قد هووا أن يبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أولاد إسرائيل ؛ لأنهم كانوا أمّته ، فلما بعث من أولاد إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ والعرب كانت من أولاده كفروا به ، وكتموا نعته حسدا منهم.

وقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

يعنى : النبوة والكتاب على محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل (٢) : (بَغْياً) أى : ظلما ، ظلموا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتكذيبهم إياه.

وقوله : (فَباؤُ).

قد ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ).

يحتمل وجهين :

قيل : استوجبوا الغضب من الله ؛ بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أثر غضب ؛ بكفرهم بعيسى ، وبما جاء به.

وقيل : إنما استحقوا اللّعنة على أثر اللّعنة ؛ بعصيان بعد عصيان ، وبذنب على أثر الذنب. والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ).

على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٥٣٩) وعن السدى (١٥٤٠) وأبى العالية (١٥٤١).

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٩٤).

وقوله : (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا).

يعنى التوراة ، وهم لم يكونوا آمنوا بالتوراة ؛ لأنهم لو كانوا آمنوا بها لكان فى الإيمان بها إيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما أنزل عليه ، وإيمان بجميع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ والرسل ، وبجميع ما أنزل عليهم ؛ لأن فيها الأمر بالإيمان بجميع الرسل وبكتبهم ؛ لأنه قال : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) ، وموافقا له.

فالإيمان بواحد منهم إيمان بجميع الكتب ، وبعضها موافق لبعض.

وقوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ).

قيل (١) : وراء التوراة كفروا بالإنجيل والفرقان ؛ كأنه قال : كفروا بالذى وراءه وهو الحق ؛ إذ هما موافقان لما معهم ، غير مخالف له.

ويحتمل : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يعنى : وراء موسى بعيسى وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كأنه قال : من ورائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

فإن قالوا : إنا لم نقتل الأنبياء ، ونحن مؤمنون.

قيل لهم : إنكم ـ وإن لم تتولوا القتل ـ فقد رضيتم بصنيع أولئك ، واتبعتم لهم ، مع ما قد همّوا بقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا ؛ ولذلك أضيف إليهم.

وقيل : أخبر ـ عزوجل ـ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاية سفههم ، وعتوهم ، ومكابرتهم فى تكذيبه.

وذلك : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا اليهود إلى الإيمان به ، وبما أنزل عليه. فقالوا : ائتنا بالآيات والقربان ، كما كانت الأنبياء ـ من قبل ـ يأتون بها قومهم.

يقول الله ـ عزوجل ـ : قد كانت الأنبياء من قبل تجىء ـ بما تقولون ـ إلى آبائكم ؛ من الآيات والقربان ، فكانوا يقتلونهم.

فيقول الله ـ عزوجل ـ لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن قل لهم : لم تقتلون؟

يقول : لم قتل آباؤكم أنبياء الله قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جاءوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأن الله عهد إليكم (٢) فى التوراة : ألا تؤمنوا (٣) لرسول حتى يأتيكم (٤) بقربان تأكله النار ، وقد جاءوا به. فلم قتلوهم؟!

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١٥٦٠) ، وعن الربيع (١٥٦١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٧٢).

(٢) فى أ : إلينا.

(٣) فى أ : نؤمن.

(٤) فى أ : يأتينا.

فهو ـ والله أعلم ـ أنهم أخذوا هذه المحاجة من أوائلهم ، وإن علموا بما ظهرت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه مبعوث ، وأنتم تقلدونهم ، فتقلدونهم ـ لو أوتيتم ـ كما قلدتموهم ، وإن علمتم بما عاينتم ؛ إذ لا حجة لكم. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)

وقوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ).

والبينات : ما ذكرنا ـ فيما تقدم ـ من الآيات المعجزة ، والحجج العجيبة ، والبراهين الظاهرة على رسالته ونبوته ، وصدق ما يدعوهم إليه ، مما يدل كله أنه من عند الله.

ثم ـ مع ما جاءهم موسى بها ـ عبدوا العجل واتخذوه إلها ، وكفروا بالله.

يعزّى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لئلا يظن أنه أول مكذّب من الرسل ، ولا أول من كفر به ؛ حتى لا يضيق صدره بما يقولون ، ويستقبلونه بما يكره ، وبالله التوفيق. كقوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود : ١٢٠].

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم ما فيه مقنع ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : (وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا).

يحتمل وجهين :

يحتمل : اسمعوا ، أى : أجيبوا.

ويحتمل : اسمعوا : أطيعوا ، لكن هذا فيما بين الخلق جائز السمع والطاعة.

وأما إضافة الطاعة إلى الله ـ عزوجل ـ فإنه غير جائز ؛ إذ لا يجوز أن يقال : أطاع الله. وأما السمع فإنه يجوز ؛ لقوله : «سمع الله لمن حمده» (١).

__________________

(١) أخرجه البخارى (٢ / ٢٨٣) ، كتاب الأذان ، باب فضل «اللهم ربنا لك الحمد» (٧٩٦) ، وطرفه فى (٣٢٢٨) ، ومسلم (١ / ٣٠٦) ، كتاب الصلاة ، باب التسميع والتأمين (٧١ / ٤٠٩) ، عن أبى هريرة.

(قالُوا سَمِعْنا) قولك ، (وَعَصَيْنا) أمرك.

لكن قولهم : (وَعَصَيْنا) لم يكن على أثر قولهم : (سَمِعْنا) ، ولكن بعد ذلك بأوقات ؛ لأنه قيل : لما أبوا قبول التوراة ؛ لما فيها من الشدائد والأحكام ، رفع الله الجبل فوقهم (١) ، فقبلوا ؛ خوفا من أن يرسل عليهم الجبل ، وقالوا : أطعنا ، فلما زايل الجبل ، وعاد إلى مكانه ، فعند ذلك قالوا : (وَعَصَيْنا) ، وهو كقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٦٤] فالتولى منهم كان بعد ذلك بأوقات.

وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).

قيل (٢) : أشربوا ، أى : جعل فى قلوبهم حبّ عبادة العجل بكفرهم بالله عزوجل.

وقيل : سقوا حبّ العجل.

وقيل : إن موسى لما أحرق العجل ، ونسفه فى البحر جعلوا يشربون منه لحبهم العجل.

وقيل (٣) : لما أحرق ونسف فى البحر جعلوا يلحسون الماء حتى اصفرت وجوههم.

وقيل : إنهم لما رأوا فى التوراة ما فيها من الشدائد ، قالوا عند ذلك : عبادة العجل علينا أهون مما فيها من الشرائع.

وكله يرجع إلى واحد ، وذلك كله آثار الحب.

وقوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قيل (٤) : قل يا محمد : بئسما يأمركم إيمانكم بالعجل الكفر بالله عزوجل.

وقيل : إن اليهود ادعوا أنهم مؤمنون بالتوراة ؛ فقال : (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) أى بالتوراة ؛ إذ كفرتم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد وجدتم فيها نعته وصفته.

وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وذلك أن أعداء الله ـ تعالى ـ كانوا يقولون : إن الجنة لنا فى الآخرة ، بقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] ، وكقولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] ، وكقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ؛

__________________

(١) فى أ : عليهم.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٥٦٤) ، وعن أبى العالية (١٥٦٥) ، والربيع (١٥٦٦).

وانظر الدر المنثور (١ / ١٧٢).

(٣) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٥٦٧) ، وعن السدى (١٥٦٨).

(٤) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ٩٥).

فقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل لهم : إن كانت لكم الدار الآخرة ـ كما تزعمون ـ وأنكم أبناء الله وأحباؤه ـ كما تقولون ـ (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وذلك أن المرء لا يكره الانتقال إلى داره ، وإلى بستانه ، بل يتمنى ذلك ، وكذلك المرء لا يكره القدوم على أبيه ، ولا على ابنه ، ولا على حبيبه ، ولا يخاف نقمته ولا عذابه ، بل يجد عنده الكرامات والهدايا.

فإن كان كما تقولون ، فتمنوا الموت ؛ حتى تنجوا من غم الدنيا ، ومن تحمل الشدائد التى فيها إن كنتم صادقين فى زعمكم : بأن الآخرة لكم ، وأنكم أبناء الله وأحباؤه.

فإن قيل : إنكم تقولون : إن الآخرة للمؤمنين ، ثم لا أحد منهم يتمنى الموت إذا قيل له : تمنّ الموت ، فما معنى الاحتجاج عليهم بذلك ، وذلك على المؤمنين كهو عليهم؟

قيل : لوجهين :

أحدهما : أن المؤمنين لم يجعلوا لأنفسهم من الفضل والمنزلة عند الله ما جعلوا هم لأنفسهم ؛ فكان فى تمنيهم صدق ما ادعوا لأنفسهم ، وفى الامتناع عن ذلك ظهور صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثانى : ما ذكرنا أنهم ادعوا : أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وفى تمنيهم الموت ردهم ، وصرفهم إلى الحبيب ، والأب الذى ادعوه ، ولا أحد يرغب وينفر عن حبيبه وأبيه ؛ فدل امتناعهم عن ذلك : على كذبهم فى دعاويهم. وبالله نستعين.

فإن سألونا عن قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أنهم إذا تمنوا ليس كان انقضاء عمرهم بدون الأجل الذى جعل لهم ، وفى ذلك : تقديم الآجال عن الوقت الذى كان أجلا ، وقال الله تعالى : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤].

قيل : إن الله علم منهم ـ فى سابق علمه ، وأزليته ـ أنهم لا يتمنون جعل أجلهم ذلك. ولو علم منهم أنهم يتمنون الموت لكان يجعل أجلهم ذلك فى الابتداء ، وكذلك هذا الجواب ؛ لما روى : «أن صلة الرحم تزيد فى العمر» (١).

إنه كذلك يحتمل فى الابتداء ، لا أن يجعل أجله إلى وقت ، ثم إذا وصل رحمه يزيد على ذلك الأجل أو ينقص ، فيتمنى الموت عن الأجل المجعول المضروب له ، وبالله التوفيق.

وقوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً).

فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنه أخبر ـ عزوجل ـ أنهم لا يتمنون أبدا ،

__________________

(١) تقدم.

فكان كما قال ؛ فدل أنه من عند الله علم ذلك.

وقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ).

من الذنوب ، والعصيان ، والتكذيب بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحسد له.

وهم ـ والله أعلم ـ قد عرفوا عن صنيعهم ، وما لهم من عند الله من العذاب والجزاء ، لكنهم قالوا ذلك ؛ على التعنت ، والمكابرة ، والسفه ؛ لذلك لم يتمنوا ، والله الموفق.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

هو على الوعيد ؛ كقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) [إبراهيم : ٤٢].

ويحتمل : عليم بالظالمين ؛ بما يفضحهم بالحجج ، ويظهر كذبهم فى الدنيا ؛ لئلا يظن أحد أنه عن غفلة بما يعملون ، بل خلقهم على علم منه بما يعملون. خلقهم ؛ ليعلم أنه لا لنفع له بخلقهم خلقهم ، وأن ذلك لا يضره.

وقوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) يعنى اليهود.

(أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ).

وعلى كراهية الموت.

فدل حرصهم على حياة الدنيا أنهم كذبة فيما يزعمون ويدعون.

وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ).

يعنى : المجوس (١).

__________________

(١) والمجوسية بالفتح نحلة. وفى الحديث : «فأبواه يمجسانه».

ويقول الشهرستانى : (المجوسية يقال لها الدين الأكبر ، والملة العظمى).

وأطلق العرب اسم المجوس على قرصان النورمان ، والسكاندينافيين الذين حاولوا فى القرون الوسطى اقتحام السواحل أو الحدود فى بلاد الغرب الإسلامى.

وقد عرفت المجوسية بأنها ديانة الفرس ؛ لأن معظم الفرس كانوا يدينون بها منذ ظهرت فى بلادهم خصوصا (الزرادشتية). التى كانت الدين الرسمى (للدولة الساسانية) التى تأسست عام ٢٢٦ ق. م. وإن كانت بدايتها أسبق من نشأة هذه الدولة بكثير ، فشأن المجوسية شأن غيرها من أديان قديمة جابت أرجاء المعمورة فى مصر واليونان والصين والهند والعراق وغيرها ، لكنها لم تقتصر على بلاد الفرس وحدها ، حيث إن بعض العرب دانوا بها فى هجر وحضرموت وعمان ، وقيل : إن بعض العرب كان يدين (بالمزدكية) وممن تمجس من العرب (زرارة بن عدس) وابنه (حاجب) و (الأقرع بن حابس) وغيرهم. ـ

__________________

ـ ولم يرد ذكر المجوس فى القرآن الكريم إلا فى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [الحج : ١٧].

ويقرر ابن خلدون أنهم ـ أى المجوس ـ من أقدم الأمم ، فيقول :

هذه الأمة ـ أى المجوس ـ من أقدم أمم العالم ، وأشدهم قوة وآثارا فى الأرض ، وكانت لهم دولتان عظيمتان طويلتان :

الأولى : الكينوية ، والثانية : الساسانية الكسروية.

ثم يحدد ملكهم فيقول (إن مدة ملكهم من ـ كيومرث ـ أبيهم إلى الملك يزدجرد أيام عثمان رضى الله عنه أربعة آلاف سنة ومائتان وإحدى وثمانون سنة).

ولقد مرت المجوسية بمراحل أربعة تمايزت كل منها عن سابقتها :

الأولى ـ من نشأتها حتى ظهور زرادشت.

الثانية ـ المجوسية فى عهد زرادشت.

الثالثة ـ المجوسية بعد زرادشت وحتى ظهور الإسلام.

الرابعة ـ المجوسية بعد ظهور الإسلام.

وللمجوسية عقائدها الفاسدة :

فهم يعتقدون أن للعالم إلهين اثنين ، أو أصلين يقتسمان الخير والشر ، ويسمون الأول (النور) والآخر (الظلمة) ، وبالفارسية (يزدان) و (أهرمن).

ويقول ابن حزم (والمجوس لا يقرون بنبوة أحد من الأنبياء إلا زرادشت.

ويقول السكسكى فى معرض حديثه عن المجوس : (إنهم ينكرون نبوة آدم ونوح عليهما‌السلام).

وقالوا : لم يرسل الله عزوجل إلا رسولا واحدا لا ندرى من هو؟

وللمجوس كتاب مقدس يسمى (الأوفستا) أو الأبستاق يزعمون أنه نزل على نبيهم (زرادشت) من الإله وعمل (زرادشت) تفسيرا له سماه (زندا) والمجوس تؤمن باليوم الآخر والبعث والحساب والجنة والنار والصراط بيد أنه كان إيمانا شائها ، وهم يرون أن البعث للأرواح دون الأجساد فهم يعتقدون أن الروح ألبست الجسد من أجل محاربة (أهرمن) وجنوده من الشياطين ، فإذا قضى عليهم فإن الروح تخلص من الجسد فيكون البعث بها فقط ، ولهم مراء عجيبة فى مصير الروح بعد مفارقتها الجسد ، وبعض فرق المجوس تعتقد فى التناسخ ، شأنها فى ذلك شأن معظم الأديان الوضعية القديمة.

ومن فرق المجوس فرقة تسمى التناسخية تقول : بتناسخ الأرواح فى الأجساد والانتقال من شخص إلى شخص آخر. والمجوسية تؤمن بالمهدى فيذكر الشهرستانى عن (زرادشت) قوله فى كتابه (زند أوستا) سيظهر فى آخر الزمان رجل اسمه (أشيزريكا) ومعناه الرجل العالم يزين العالم بالدين والعدل ، ثم يظهر فى زمانه (بتياره) فيوقع الآفة فى أمره ، وملكه عشرون سنة ثم يظهر بعد ذلك (أشيزريكا) على أهل العالم ويحيى العدل ، ويميت الجور ويرد السفن المغيرة إلى أوضاعها الأولى وتنقاد له الملوك ، وتتيسر له الأمور ، وينصر الدين والحق ، ويحصل فى زمانه الأمن ، وسكون الفتن ، وزوال المحن.

وللمجوسية شعائرها الضالة التى فيها :

ـ عبادة النار. ـ

أى : هم أحرص الناس على حياة الدنيا من المجوس ؛ لأن المجوس لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة ، وهم يؤمنون بها ؛ فهم ـ مع إيمانهم بالبعث ، وتصديقهم بالقيامة ـ أحرص على حياة الدنيا من المجوس الذين لا يؤمنون بالبعث ولا بالقيامة.

وقيل : إنّه على الابتداء.

ولا يتنافى بقول : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) يعنى : المجوس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ؛ لأنهم يقولون فيما بينهم : ألف سنة تأكل النيروز والمهرجان ، ويقولون بالفارسية : هزارساله بزه.

فأخبر الله ـ تعالى ـ أن طول العمر فى الدنيا لا ينجيه من العذاب فى الآخرة ، ولا يباعده عنه.

وهو قوله : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) ، وهو كقوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ

__________________

ـ تعظيم الملوك ورفعهم إلى مرتبة الألوهية.

ـ الصلوات والزمزمة.

ـ شرب الخمر.

ـ الولع بالغناء والمعازف.

ـ استحلال المحارم.

وللمجوسية فرق يحددها الإمام الشهرستانى على النحو والترتيب التاليين :

ـ الكيومرثية.

ـ الزروانية.

ـ الزرادشتية.

ثم يفرق بينهم وبين الثنوية فيحصر فرق الثنوية فى :

ـ المانوية.

ـ المزدكية.

ـ الديصانية.

ـ المرقيونية.

ـ الكينوية.

ـ والصيامية.

ـ والتناسخية.

ينظر : لسان العرب لابن منظور مادة (مجس) ، تاج العروس من جواهر القاموس لمحمد مرتضى الزبيدى (٤ / ٢٤٦) ، مختار الصحاح لمحمد بن أبى بكر الرازى مادة (مجس) ، الملل والنحل للشهرستانى (١ / ٣٣) ، الدين والفلسفة والعلم أ / محمود أبو الفيض ص (١٠٩) ، تاريخ العرب قبل الإسلام جواد على (٦ / ٢٣٤) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٣٠٨) ، موسوعة الفرق الإسلامية (١ / ١١٠) وما بعدها ، الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم الأندلسى (١ / ٣٤) ، (البرهان فى عقائد أهل الأديان للسكسكى تحقيق / على بن ناصر عسيرى ص (٥١٠) ، قصة الحضارة لويل ديورانت (٢ / ٤٢٦).

مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) (٢٠٧) [الشعراء].

وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

هو على الوعيد أيضا.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)(٩٨)

وقوله : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ).

وذلك أن اليهود قالوا : لو كان الذى ينزل (١) على محمد بالوحى ميكائيل لاتّبعناه ، ونؤمن به ؛ لأن ميكائيل هو الذى ينزل بالغيث والرحمة ، وجبريل هو المنزل بالعذاب والحرب والشدائد ، فهو عدو لنا ؛ لذلك لا نتّبعه.

وفى جهة العداوة بينهم وبين جبريل وجه آخر ، وهو أن قالوا : إن جبريل أرسل بالوحى والرسالة فى أولاد إسرائيل ، لكنه أنزلها على أولاد إسماعيل ؛ عداوة لنا وبغضا ؛ لذلك نصبوا العداوة بينه وبينهم ـ والله أعلم بذلك ـ فأكذبهم الله ـ تعالى ـ بزعمهم ، فقال : (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) ، لا كما تقول اليهود. وما ينزل من العذاب والشدائد ، إنما ينزل بأمره ، لا من تلقاء نفسه وذاته.

ثم كان إظهارهم عداوة جبريل ، لاعتقادهم عداوة الله ـ عزوجل ـ لكنهم لم يجترئوا على عداوة الله ـ على التصريح ـ فدل أنه على الكناية عن عداوة الله تبارك وتعالى.

ويدل هذا على أن الروافض طعنوا فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث طعنوا.

وقوله : (نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ).

تقول الباطنية : إن القرآن لم ينزل على رسول الله ـ عليه‌السلام ـ بالأحرف التى نقرؤها ، ولكنه إلهام ، نزل على قلبه ، ثم هو يصوره ويرسمه ذا الحروف ، ويعبر به ، ويعربه بالمعربة التى نقرؤها.

فلو كان على ما يقولون لزال (٢) موضع الاحتجاج عليهم بما أتى به معجزا ؛ كقوله :

__________________

(١) فى أ : نزل.

(٢) فى أ : تقول لزوال.

(إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣] إذ كان لهم أن يقولوا : أنزل على لسان العجمى ، لكنه غيّر ذلك بلسانه.

وكذلك قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] مخافة النسيان والذهاب.

وكذلك قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [طه : ١١٤].

فدلت هذه الآيات كلها على بطلان قولهم ، وفساد مذهبهم ، وبعدهم عن دين الله المستقيم.

وقوله : (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

هدى من الضلالة ، وبشرى للمؤمنين بالجنة.

وقوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) الآية.

يحتمل وجهين :

يحتمل : من كان عدوّا لله ، أو ملائكته ، أو رسله.

ويحتمل : افتتاح العداوة به دون هؤلاء على التعظيم لهم ، وفضل المنزلة عند الله ، وحسن المآب لديه ؛ كقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] معنى إضافة ذلك إليه : على التعظيم له ، والإفضال لله ، لا على جعل ذلك لله مفردا.

فعلى ذلك : معنى افتتاح العداوة به ـ على ما ذكرنا ـ والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١٠٣)

وقوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ).

بيّن فيها الحلال والحرام ، وما يؤتى وما يتّقى ، وما ينهى وما يؤمر.

ويحتمل : الآيات التى أنزلها عليه لينصر بها على المعاندين له ، والمكابرين ، والله أعلم.

وقوله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

يقول : كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم.

يحتمل : العهود التى أخذت عليهم ـ فى التوراة ـ أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يكفروا به بعد الإيمان.

أو أخذ عليهم : ألا يكتموا نعته ، وصفته ، الذى فى التوراة لأحد ، فنبذوا ذلك ، ونقضوا تلك المواثيق والعهود التى أخذت عليهم.

ثم فى الآية دلالة جعل القرآن حجة ؛ لأنه قال : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ، ولو كان فى كتبهم ما ادعوا من الحجة والاتباع لأتوا به معارضا ؛ لدفع ما احتج به عليهم ؛ فثبت أنهم كانوا كذبة فى دعاويهم ؛ حيث امتنعوا عن معارضته.

وقوله : (وَما يَكْفُرُ بِها).

أى : وما يكفر بتلك الآيات إلا الفاسقون.

وقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ).

أى : نعته الذى كان فى التوراة موافق لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل (١) : لما جاءهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارضوه بالتوراة ؛ فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة والقرآن ، وأخذوا بكتاب السحر الذى كتبه الشياطين.

ويحتمل : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاءهم كان موافقا لما مضى من الرسل ، غير مخالف لهم ؛ لأن الرسل كلهم آمنوا به ، وصدق بعضهم بعضا.

وقوله : (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ).

يحتمل : كتاب الله : التوراة ، على ما ذكرنا.

ويحتمل : كتاب الله ، القرآن العظيم. والله أعلم.

وقوله : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

أى : يعلمون ، ولكن تركوا العمل به ، والإيمان بما معهم ؛ كأنهم لا يعلمون ؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم خرج فعلهم فعل من لا يعلم.

__________________

(١) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٦٤٧). وانظر الدر المنثور (١ / ١٨١).

أخبر : أنهم نبذوا نبذ من لا يعلم ، لا أنهم لم يعلموا ، ولكن نبذوه ، سفها ، وتعنتا ، والله أعلم.

وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

قيل : تتلو : ما كتبت الشياطين من السحر (١).

__________________

(١) السحر لغة : كل ما لطف مأخذه ودق ، ومنه قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من البيان لسحرا» وسحره : أى خدعه ، ومنه قوله تعالى : (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] أى المخدوعين. ويطلق السحر على أخص من ذلك ، قال الأزهرى : السحر : عمل تقرب به إلى الشيطان وبمعونة منه ، كل ذلك الأمر كينونة للسحر. قال : وأصل السحر : صرف الشىء عن حقيقته إلى غيره ؛ فكأن الساحر لما أرى الباطل فى صورة الحق ، وخيل الشىء على غير حقيقته ، قد سحر الشىء عن وجهه ، أى : صرفه. اه. وروى شمر : أن العرب إنما سمت السحر سحرا ؛ لأنه يزيل الصحة إلى المرض ، والبغض إلى الحب. وقد يسمى السحر : طبّا ، والمطبوب : المسحور ، قال أبو عبيدة : إنما قالوا ذلك تفاؤلا بالسلامة ، وقيل : إنما سمى السحر طبا ؛ لأن الطب بمعنى الحذق ، فلوحظ حذق الساحر فسمى عمله طبا. وورد فى القرآن العظيم لفظ (الجبت) ، فسره عمر وابن عباس وأبو العالية والشعبى بالسحر ، وقيل : الجبت أعم من السحر ، فيصدق أيضا على الكهانة والعرافة والتنجيم. أما فى الاصطلاح فقد اختلف الفقهاء وغيرهم من العلماء فى تعريفه اختلافا واسعا ، ولعل مرد الاختلاف إلى خفاء طبيعة السحر وآثاره ؛ فاختلفت تعريفاتهم له تبعا لاختلاف تصورهم لحقيقته : فمن ذلك ما قال البيضاوى : المراد بالسحر : ما يستعان فى تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان ، وذلك لا يحصل إلا لمن يناسبه فى الشرارة وخبث النفس. قال : وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل والآلات والأدوية ، أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم ، وتسميته سحرا هو على سبيل التجوز لما فيه من الدقة ؛ لأن السحر فى الأصل لما خفى سببه. اه. ونقل التهانوى عن (الفتاوى الحامدية) : السحر : نوع يستفاد من العلم بخواص الجواهر وبأمور حسابية فى مطالع النجوم ، فيتخذ من ذلك هيكل على صورة الشخص المسحور ، ويترصّد له وقت مخصوص فى المطالع ، وتقرن به كلمات يتلفظ بها من الكفر والفحش المخالف للشرع ، ويتوصل بها إلى الاستعانة بالشياطين ، ويحصل من مجموع ذلك أحوال غريبة فى الشخص المسحور. وقال القليوبى : السحر شرعا : مزاولة النفوس الخبيثة لأقوال أو أفعال ينشأ عنها أمور خارقة للعادة. وعرفه الحنابلة بأنه : عقد ورقى وكلام يتكلم به ، أو يكتبه ، أو يعمل شيئا يؤثر فى بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له.

وقد اختلف العلماء فى أن السحر هل له حقيقة ووجود وتأثير حقيقى فى قلب الأعيان ، أم هو مجرد تخييل؟ فذهب المعتزلة وأبو بكر الرازى الحنفى المعروف بالجصاص ، وأبو جعفر الأسترآباذي والبغوى من الشافعية : إلى إنكار جميع أنواع السحر وأنه فى الحقيقة تخييل من الساحر على من يراه ، وإيهام له بما هو خلاف الواقع ، وأن السحر لا يضر إلا أن يستعمل الساحر سما أو دخانا يصل إلى بدن المسحور فيؤذيه ، ونقل مثل هذا عن الحنفية ، وأن الساحر لا يستطيع بسحره قلب حقائق الأشياء ؛ فلا يمكنه قلب العصا حية ، ولا قلب الإنسان حمارا. قال الجصاص : السحر متى أطلق فهو اسم لكل أمر مموّه باطل لا حقيقة له ولا ثبات ، قال الله تعالى : (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] يعنى : موهوا عليهم حتى ـ

وقيل : تتلو ؛ من التلاوة.

وقيل : ما تتلو : ما يروى الشياطين من السحر. وهو قول ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ وهو يرجع إلى واحد.

والآية (١) فى موضع الاحتجاج على اليهود ؛ لأنهم ادعوا : أن الذى هم عليه أخذ عن سليمان عليه‌السلام ، فإن كان كفرا فقد كفر سليمان.

فأخبر الله ـ عزوجل ـ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن سليمان ما كفر ، ولكن الشياطين كفروا بما علّموا الناس من السحر.

ويحتمل : لكن أتباع الشياطين كفروا باعتقادهم السحر ، وعملهم به بتعليم الشياطين ، فنسب ذلك إلى الشياطين بما بهم كفروا ، كما نسبت عبادة الأصنام إلى الشياطين بما بهم عبدوا ، والله أعلم.

__________________

ـ ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى ، وقال تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦] فأخبر أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا ، وقد قيل : إنها كانت عصيّا مجوفة مملوءة زئبقا ، وكذلك الحبال كانت معمولة من أدم محشوة زئبقا ، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته. وذهب جمهور أهل السنة إلى أن السحر قسمان :

قسم هو حيل ومخرقة وتهويل وشعوذة وإيهام ليس له حقائق ، أو له حقائق لكن لطف مأخذها ، ولو كشف أمرها لعلم أنها أفعال معتادة يمكن لمن عرف وجهها أن يفعل مثلها ، ومن جملتها ما ينبنى على معرفة خواص المواد والحيل الهندسية ونحوها ، ولا يمنعه ذلك عن أن يكون داخلا فى مسمى السحر ، كما قال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] وهذا ما لم يكن خفاء وجهه ضعيفا فلا يسمى سحرا اصطلاحا ، وقد يسمى سحرا لغة ، كما قالوا : سحرت الصبى بمعنى : خدعته.

القسم الثانى : ما له حقيقة ووجود وتأثير فى الأبدان. فقد ذهبوا إلى إثبات هذا القسم من حيث الجملة ، وهو مذهب الحنفية على ما نقله ابن الهمام ، والشافعية والحنابلة. واستدل القائلون بتأثير السحر وإحداثه المرض والضرر ونحو ذلك بأدلة : منها قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ* وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ* وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق : ١ ـ ٤] والنفاثات فى العقد : هن السواحر من النساء. فلما أمر بالاستعاذة من شرهن علم أن لهن تأثيرا وضررا. ومنها قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢] ، ومنها ما ورد أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشىء وما يفعله» ولذلك قصة معروفة فى الصحيح ، وفيها أن الذى سحره جعل سحره فى مشط ومشاطة تحت راعوفة فى بئر ذروان ، وأن الله أطلعه على ذلك فاستخرجها ، وأنزلت عليه المعوذتان فما قرأ على عقدة إلا انحلت ، وأن الله تعالى شفاه بذلك.

ينظر : لسان العرب مادة (سحر) ، الجمل على شرح المنهج (٥ / ١٠٠ ، ١١٠) ، كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ٦٤٨) ، كشاف القناع (٦ / ١٨٦).

(١) فى أ : ولأنه.

وروى عن ابن عباس (١) ـ رضى الله عنهما ـ قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شىء بأمر سليمان ، ويدفنه تحت كرسيه ؛ فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا ، وكفرا ، وكذبا ؛ فقالوا : هذا الذى كان يعمل به سليمان ؛ فأكفره جهال الناس وسبوه ، ووقف علماؤهم ، فلم يزل جهالهم يسبونه ؛ حتى أنزل الله ـ عزوجل ـ على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ ...) الآية.

وقال بعضهم (٢) : إن الشياطين ابتدعت كتابا من السحر والأمر العظيم ، ثم أفشته فى الناس وعلمته إياهم ؛ فلما سمع بذلك سليمان تتبع تلك الكتب ، فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس. فلما قبض نبىّ الله سليمان ـ عليه‌السلام ـ عمدت الشياطين إلى تلك الكتب فاستخرجتها من مكانها ، وعلموها الناس ، وأخبروهم أنه علم كان سليمان يكتمه ، ويستأثره ؛ فعذر الله نبيّه سليمان ، وبرأه من ذلك على لسان نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ...)(٣) الآية.

وقيل أيضا (٤) : لما مات سليمان ـ عليه‌السلام ـ وقع فى الناس أوصاب وأوجاع ؛ فقال الناس : لو كان سليمان ـ عليه‌السلام ـ حيّا لكان عنده من هذا فرج ، فظهرت الشياطين لهم فقالوا : نحن ندلكم على ما كان يعمل به سليمان ـ عليه‌السلام ـ فكتبوا

__________________

(١) أخرجه النسائى وابن أبى حاتم كما فى الدر المنثور (١ / ١٨٢).

(٢) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه (١٦٥٠). وانظر الدر المنثور (١ / ١٨٣).

(٣) ثبت فى حاشية أ : وقيل : معنى السحر : الإزالة وصرف الشىء عن وجهه ، تقول العرب : ما سحرك عن كذا ، أى : ما صرفك عنه؟ فكأن الساحر لما أرى الباطل فى صورة الحق فقد سحر الشىء عن وجهه ، أى : صرفه. هذا أصله من حيث اللغة.

وأما حقيقة فقد قيل : إنه عبارة عن التمويه والتخييل ، ومذهب أهل السنة أن له وجودا أو حقيقة ، والعمل به كفر ، وذلك إذا اعتقد أن الكواكب هى المؤثرة فى قلب الأعيان ، وروى عن الشافعى : يخيّل ، ويمرض ، وقد يقتل ، حتى أوجب القصاص على من قتل.

وقيل : إن السحر يؤثر فى قلب الأعيان : فيجعل الإنسان على صورة حمار ، والحمار على صورة الكلب ، وقد يطير الساحر فى الهواء. وهذا القول ضعيف عند أهل السنة ؛ لأنهم قالوا : إن الله ـ تعالى ـ هو الخالق الفاعل لهذه الأشياء عند عمل الساحر ، وهو الفاعل لها المؤثر فيها.

والأصح : أن السحر تخييل الخبل : فساد الأعضاء والفلج.

قاموس. ويؤثر فى الأبدان بالأمراض والجنون والموت ، ويدل على ذلك أن للكلام تأثيرا فى الطبائع ؛ فقد يسمع الإنسان ما يكره فيغمّ ، وقد مات قوم بكلام سمعوه ؛ فالسحر بمنزلة العلل فى الأبدان. لباب ابن مازن.

(٤) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٨٣) وعزاه لسعيد بن منصور عن خصيف بنحوه.

كتبا ، فجعلوها فى البيوت ، فاستخرجوا الكتب التى كتبت لهم الشياطين من السحر ، فقالوا : هذا ما كان يعمل به سليمان. فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ...) الآية.

فلا ندرى كيف كانت القصة ، غير أن اليهود تركت كتب الأنبياء والرسل ، واتبعوا كتب الشياطين وما دعوهم إليه من السحر والكفر ، وبالله التوفيق.

وفيه دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ بما أخبرهم عن قصتهم ـ على ما كان ـ فدل أنه كان عرف ذلك بالله عزوجل.

وفى ذلك أن قد نسب إلى سليمان ما برأه الله عنه من غير أن يبيّن ماهيّته.

ذكره الله عزوجل لوجهين : دلالة لرسوله ، وتكذيبا للذين نحلوه بما هو كفر.

وقوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ).

أى : فى ملكه ؛ إذ كان ذلك الوقت هو وقت ظهورهم ، ثم سخّرهم الله لسليمان ، فأمكن ذلك منهم.

ألقاه على ألسن المعاندين لسليمان فى السّر ؛ فرووه عنه بعد الوفاة ؛ فكذبهم الله ـ عزوجل ـ وبرأ نبيّه ـ عليه‌السلام ـ عن ذلك ، وبين كيف كان بدؤه.

فإنما بينها للخلق ؛ لئلا يتبعوا فى الرواية كلّ من لقى النبى (١) ؛ إذ قد يكون من أمثالهم : اختراع الرواية ، وإلزام السامعين الأمور المعتادة من الرسل ، ورد ما لا يوافق ذلك من الرواية ؛ ولذلك أبطل أصحابنا خبر الخاصّ فيما يبلى به العام.

وقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ).

قيل : (وَما أُنْزِلَ) على النفى ، والجحد ، معطوفا على قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ).

وقيل : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) : والذى أنزل على الملكين ببابل.

وقيل (٢) : سميت بابل لما تبلبلت به الألسن ، يعنى : اختلفت ؛ فلا يعلم ذلك إلا بالسمع.

ثم اختلف فى «هاروت» و «ماروت».

فقال الحسن : لم يكونا ملكين ، ولكنهما كانا رجلين فاسقين متمردين ؛ وذلك أن

__________________

(١) فى أ : الشىء.

(٢) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٨٤) عن أنس فى سياق طويل ، وعزاه للدينورى فى المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم بن سالم عنه.

الله ـ عزوجل ـ وصف ملائكته بالطاعة له والائتمار بأمره ، بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ...) الآية [التحريم : ٦] ، وكقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) الآية [الأنبياء : ٢٧].

وكذلك يقول الحسن فى إبليس : إنه لم يكن من الملائكة. وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم.

ثم عارض نفسه بقولهما : (فَلا تَكْفُرْ).

فقال : إن المخبر بمثله إذا عرف ولوع السامع به ، وبما يعرض مثله ـ على العلم منه : أنه يفعل ، ولا يرتدع عن ذلك ـ يقول ذلك له ؛ ترغيبا منه ، والله أعلم.

ومنهم من يقول (١) : كانا ملكين ، لكنهما علما الاسم الأعظم ، فيقضيان به الحوائج إلى أن حل بهما ما حل.

وبهذا يحتج فى بلعم (٢) بقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ ...) الآية [الأعراف : ١٧٥].

ثم اختلف بعد هذا على أوجه :

قال بعضهم : لم يكن ذلك منهما سحرا ، بل هو تعويذ الفرقة يقدر عليه.

وقال قائلون : إن ما أنزل على الملكين أنزل كلاما حسنا صوابا ، لكنه خلط بالذى لقنهم الشيطان ؛ فصار سحرا.

وقال آخرون : بلى. كان هو فى نفسه سحرا ، يعلمان الناس ذلك ، لكنه لا ينهى عن تعليمه ، ولا يكفر الذى تعلم (٣). إنما ينهى عن الاعتقاد له ، فكان كالكفر الذى يعلم ، لا

__________________

(١) هو قول ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٦٨٤ ، ١٦٨٥) وعن ابن عمر (١٦٨٧ ، ١٦٨٨). وانظر الدر المنثور (١ / ١٨٥ ـ ١٩٣).

(٢) قال ابن عباس وابن مسعود : نزلت هذه الآية فى (بلعم بن باعوراء).

وقال مجاهد : بلعام بن باعر.

وقال عطية عن ابن عباس : كان من بنى إسرائيل.

وروى عن ابن أبى طلحة : أنه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين.

وقال مقاتل : هو من مدينة البلقاء ، وذلك أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقومه ، قصد بلده ، وغزا أهله وكانوا كفارا ، فطلبوا منه أن يدعو على موسى وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه ، فما زالوا يطلبونه حتى دعا عليه ، فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل فى التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب بأى ذنب وقعنا فى التيه؟

فقال : بدعاء بلعم ، فقال : كما سمعت دعاءه على ، فاسمع دعائى عليه ، ثم دعا موسى عليه‌السلام أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان ، فسلخه الله مما كان عليه ، ونزع منه المعرفة ، فخرجت من صدره حمامة بيضاء.

(٣) فى أ : يعلم.

ينهى عن ذلك ؛ لأنه ما لم يعلم لم نعلم (١) قبحه وفساده ، ولكن إنما ينهى عن الاعتقاد له ؛ فكان كالكفر الذى فى تعلمه ، والله أعلم.

ثم نقول : إن قولهما : (فَلا تَكْفُرْ) على الاختيار منهما ، وكلمة السحر جار عليهما فى اللسان ، من غير صنع لهما فيه ، والله أعلم.

وقوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

قيل (٢) : إلا بعلم الله وقضائه.

وقيل : بخذلانه وتخليه.

وقيل : بمشيئة الله وإرادته.

وأما ظاهر الإذن فهو يخرج على الإباحة ؛ فالعقل يدفعه.

وقيل (٣) : إنه لا يصل إلى هاروت وماروت أحد من بنى آدم ، وإنما يختلف بينهم شيطان فى كل مسألة ، والله أعلم.

ثم السحر يكون على وجهين (٤) :

سحر يكفر به صاحبه ؛ فإن كان ذلك منه بعد الإسلام ، يقتل به صاحبه (٥) ؛ لأنه ارتداد منه.

__________________

(١) فى ط : يعلم.

(٢) قاله سفيان ، أخرجه ابن جرير (١٧٠٧) عنه بنحوه.

(٣) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ١٠٢) ونسبه لمجاهد.

(٤) ثبت فى حاشية أ :

والسحر على قسمين ، أحدهما ؛ يكفر به صاحبه. وهو أن يعتقد أن القدرة لنفسه ، وذلك هو المؤثر ، أو يعتقد أن الكواكب هى المؤثرة النقالة.

فإذا انتهى به السحر إلى هذه الغاية صار كافرا بالله ، ويجب قتله ؛ لما روى عن جنوب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الساحر ضربه بالسيف صدق» أخرجه الترمذى.

والقسم الثانى من السحر ؛ هو التخييل الذى يشاكل النيرنجات ، والشعبذة ، ولا يعتقد صاحبه لنفسه فيه قدرة ، ولا أن الكواكب هى المؤثرة ، ويعتقد أن القدرة لله تعالى ، وأنه هو المؤثر.

فبهذا القدر لا يكفر به صاحبه ، ولكنه معصية ، وهو من الكبائر ، ويحرم فعله.

فإن قتل بسحر قتل قصاصا ؛ لما روى عن مالك ، بلغه أن حفصة ، زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتلت جارية لها سحرتها. وقد كانت دونها فأمرت بها فقتلت. أخرجه فى الموطأ. (لباب ابن مازن).

(٥) عقوبة الساحر : ذهب الحنفية إلى أن الساحر يقتل فى حالين : الأول أن يكون سحره كفرا ، والثانى إذا عرفت مزاولته للسحر بما فيه إضرار وإفساد ولو بغير كفر. ونقل ابن عابدين أن أبا حنيفة قال : الساحر إذا أقر بسحره أو ثبت عليه بالبينة يقتل ولا يستتاب ، والمسلم والذمى فى هذا سواء ، وقيل : لا يقتل إن كان ذميا. ويفهم من كلام ابن الهمام أن قتله إنما هو على سبيل التعزير ، لا بمجرد فعله إذا لم يكن فى اعتقاده ما يوجب كفره ، وقال ابن عابدين : يجب قتل الساحر ولا يستتاب ، وذلك لسعيه فى الأرض بالفساد لا بمجرد عمله إذا لم يكن فى اعتقاده ما يوجب كفره ، لكن إن جاء تائبا قبل أن يؤخذ قبلت. وذهب المالكية إلى قتل الساحر ، لكن قالوا : إنما يقتل إذا حكم بكفره ، وثبت ـ

وسحر لا يكفر به صاحبه ؛ فلا يقتل به ، إلا أن يسعى فى الأرض بالفساد : من قتل الناس ، وأخذ الأموال. فهو كقاطع الطريق ، يحكم بحكمهم من القتل وسائر العقوبات ، وإذا تاب قبلت توبته.

ألا ترى أن سحرة فرعون لما رأوا الآيات آمنوا بالله ـ تعالى ـ وتابوا توبة لا يطمع فى

__________________

ـ عليه بالبينة لدى الإمام ، فإن كان متجاهرا به قتل وماله فىء إلا أن يتوب ، وإن كان يخفيه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب ، واستثنى المالكية ـ أيضا ـ الساحر الذمى ، فقالوا : لا يقتل ، بل يؤدب. لكن قالوا : إن أدخل الساحر الذمى ضررا على مسلم فيتحتم قتله ، ولا تقبل منه توبة غير الإسلام ، نقله الباجى عن مالك. لكن قال الزرقانى : الذى ينبغى اعتماده أن ذلك يوجب انتقاض عهده ، فيخير الإمام فيه. أما إن أدخل الساحر الذمى ضررا على أحد من أهل ملته فإنه يؤدب ما لم يقتله ، فإن قتله قتل به. وعند الشافعية : إن كان سحر الساحر ليس من قبيل ما يكفر به ، فهو فسق لا يقتل به ما لم يقتل أحدا ويثبت تعمده للقتل به بإقراره. وذهب الحنابلة إلى أن الساحر يقتل حدا ولو لم يقتل بسحره أحدا ، لكن لا يقتل إلا بشرطين : الأول : أن يكون سحره مما يحكم بكونه كفرا مثل فعل لبيد بن الأعصم ، أو يعتقد إباحة السحر ، بخلاف ما لا يحكم بكونه كفرا ، كمن يزعم أنه يجمع الجن فتطيعه ، أو يسحر بأدوية وتدخين ، وسقى شىء لا يضر. الثانى : أن يكون مسلما ، فإن كان ذميا لم يقتل ؛ لأنه أقر على شركه وهو أعظم من السحر ، ولأن لبيد بن الأعصم اليهودى سحر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقتله ، قالوا : والأخبار التى وردت بقتل الساحر إنما وردت فى ساحر المسلمين لأنه يكفر بسحره. والذمى كافر أصلى فلا يقتل به ، لكن إن قتل بسحر يقتل غالبا ، قتل قصاصا. وشرط آخر أضافه صاحب المغنى : وهو أن يعمل بالسحر ، إذ لا يقتل بمجرد العلم به. ثم قال بعضهم : ويعاقب بالقتل أيضا من يعتقد حل السحر من المسلمين ، فيقتل كفرا ؛ لأنه يكون بذلك قد أنكر مجمعا عليه معلوما من الدين بالضرورة. واحتجوا لقتل الساحر بما روى جندب مرفوعا «حد الساحر ضربة بالسيف». وبما ورد عن بجالة بن عبدة أن عمر ابن الخطاب كتب : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. وبأن حفصة أمرت بقتل ساحرة سحرتها. وأن معاوية كتب إلى عامله قبل موته بسنة : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدى الوليد بن أبى عقبة.

وذهب الجمهور خلافا للحنفية إلى أن القتل بالسحر يمكن أن يكون عمدا ، وفيه القصاص. ويثبت ذلك عند المالكية بالبينة أو الإقرار. وذهب الشافعية إلى أن الساحر إن قتل بسحره من هو مكافئ له ففيه القصاص إن تعمد قتله به ، وذلك بأن يثبت ذلك بإقرار الساحر به حقيقة أو حكما ، كقوله : قتلته بسحرى ، أو قوله : قتلته بنوع كذا ، ويشهد عدلان يعرفان ذلك ، وقد كانا تابا ، بأن ذلك النوع يقتل غالبا. فإن كان لا يقتل غالبا فيكون شبه عمد. فإن قال : أخطأت من اسم غيره إلى اسمه فخطأ. ولا يثبت القتل العمد بالسحر بالبينة عند الشافعية لتعذر مشاهدة الشهود قصد الساحر وتأثير سحره. قال المالكية والشافعية : يستوفى القصاص ممن قتل بسحره بالسيف ولا يستوفى بسحر مثله ، أى لأن السحر محرم ؛ ولعدم انضباطه. وصرح المالكية بأن الذمى إن قتل بسحره أحدا من أهل ملته فإنه يقتل به.

وصرح الشافعية والحنابلة بأن الساحر غير المستحق للقتل ، بأن لم يكن سحره كفرا ولم يقتل بسحره أحدا ، إذا عمل بسحره يعزر تعزيرا بليغا لينكف هو ومن يعمل مثل عمله ، ولكن بحيث لا يبلغ بتعزيره القتل ، على الصحيح من المذهب عند الحنابلة لارتكابه معصية. وفى قول للإمام : تعزيره بالقتل.

مثل تلك التوبة من المسلم الذى نشأ على الإسلام ، حيث أوعدهم فرعون بقطع الأيدى والأرجل ، والصلب ، وأنواع العذاب ، فقالوا : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٥٠].

وذكر عن أبى حنيفة ـ رحمه‌الله ـ فى الساحرة : أنها لا تقتل مرة ، وذكر عنه مرة : أنها تقتل. وقال فى الساحر بالقولين.

فأما ما روى عنه فيه بالقتل بعمل السحر ، فهو على ما ذكرنا من قتله الناس بالسحر ؛ فهو كالساعى فى الأرض بالفساد ، لا بعين (١) السحر.

أو كفر بسحره بعد الإسلام ؛ فيقتل كالمرتد عن الإسلام.

وما ذكر عنه : أنه لا يقتل ؛ فهو إذا لم يكن سحره سحر كفر ، ولا يسعى بالقتل فى الأرض لم يقتل به.

ثم قوله ـ فى الساعى فى الأرض بالفساد : إنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه ، سقط عنه القتل ؛ فكذا الساحر.

وأما الذى هو لأجل الكفر يلزم القتل قبل التوبة ، بعد القدرة عليه.

وعلى هذا يخرج قوله فى الساحرة أيضا.

ففيما قال : إنها لا تقتل ؛ لما كان سحرها سحر كفر ، والنساء لا يقتلن للكفر.

وفيما قال : يقتلن ؛ فلأنهن يقتلن للسعى فى الأرض بالفساد كالرجل ، والله أعلم.

وقال بعض الناس : لا تقبل توبة الساحر. وهو غلط.

وأحقّ من يقبل توبته الساحر ؛ إذ هو أبلغ فى تمييز ما هو حجة مما لا حجة.

وهذا هو الأصل : أن المدّعى لشىء ـ على عهد الأنبياء ـ إذا استقبلهم بمثله الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ فهو أحق من يلزمهم الإيمان به ؛ لعلمهم بالحق منه.

والعوامّ منهم لا يعرفون إلا ظاهر ما يلزمهم ، من تصديق الحجج ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ) ـ فى الدنيا ـ (وَلا يَنْفَعُهُمْ) فى آخرتهم.

وقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا).

يعنى : اليهود فى التوراة.

وقوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ).

يعنى : اختاره للسحر.

وقيل : يتعلمون ما يضرهم فى آخرتهم ، ولا ينفعهم إن علموه.

__________________

(١) فى أ : بغير.

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) يقول : لقد علمت اليهود أن فى التوراة آية لمن اختار السحر.

وقوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ).

يقول : نصيب فى الثواب.

وقيل : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ) أى : ما له عند الله وجه.

وقوله : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

أى : بئس ما باعوا به أنفسهم ، يعنى : اليهود الذين يعلّمون الفرقة والسحر.

وقيل (١) : (ما شَرَوْا بِهِ) يقول : ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر. يعنى : من لا يقرأ التوراة.

أو يعنى : أن لو كانوا يعلمون ما باعوا به أنفسهم ، ولكنهم لا يعلمون. أى : لو علموا أنهم بم باعوا أنفسهم من العذاب الدائم ، لعلموا أنهم بئس ما باعوا به.

وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا).

بتوحيد الله.

(وَاتَّقَوْا).

الشرك ، والسحر.

(لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ).

يقول : لكان ثوابهم عند الله خيرا من السحر والكفر.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

ولكنهم لا يعلمون علم الانتفاع به ، وهو كقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨ ، ١٧١] ليسوا بصم ولا بكم ولا عمى فى الحقيقة ، ولكنهم صم من حيث لا ينتفعون به ؛ إذ الحاجة من العلم ، والبصر ، والسمع الانتفاع به ، فإذا ذهبت المنافع بهما فكان كمن لا علم معه ولا بصر له ولا سمع ؛ حيث لا ينتفع ، ولا يعمل به ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ

__________________

(١) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٧١٩). وانظر الدر المنثور (١ / ١٩٥).

أَلِيمٌ).

قيل (١) : كانت الأنصار فى الجاهلية يقولون هذا لرسول الله ـ عليه‌السلام ـ فنهاهم الله ـ تعالى ـ أن يقولوها.

وقيل (٢) : كانت اليهود تقول للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : راعنا من الرعونة ؛ من قولك للرجل : يا أرعن ، وللمرأة يا : رعناء.

وكان الحسن يقرؤها : (راعنا) بالتنوين (٣).

وقال الكلبيّ (٤) : كان فى كلام اليهود (راعِنا) سبّا قبيحا ؛ يسب بعضهم بعضا ، وكانوا يأتون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيقولون : راعنا ، ويضحكون ، فنهى المؤمنين عن ذلك خلافا لهم.

وقوله : (وَقُولُوا انْظُرْنا).

قيل : فهمنا بقول بيّن لنا.

وقال مقاتل : أى اقصدنا (٥).

وقيل : إن الأمر بالإنظار يقع موقع التشفع فى النظرة لوجهين : بالصحبة مرة ، وبالخطاب ثانيا فقولهم : (انْظُرْنا) لما لا يبلغ أفهامنا القدر الذى يعنى ما يخاطبنا به.

والثانى : على قصور عقولهم عما يستحقه من الصحبة والإيجاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأما الأمر ب «راعنا» ، فهو استعمال فى الظاهر بالمراعاة ، وذلك يخرج على التكبر عليه ، وترك التواضع له ، والخضوع.

وقوله : (وَاسْمَعُوا).

أى : أجيبوا له.

وقيل (٦) : أطيعوا له.

وقيل (٧) : (وَاسْمَعُوا) أى : اسمعوا وعوا.

وقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ

__________________

(١) قاله عطاء ، أخرجه ابن جرير عنه (١٧٣٦ ، ١٧٣٧ ، ١٧٣٨).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٧٣٤).

(٣) قال ابن عطية : هى قراءة شاذة. ينظر : المحرر الوجيز (١ / ١٨٩) ، واللباب (٢ / ٣٦٠) ، والبحر المحيط (١ / ٥٠٨) ، والدر المصون (١ / ٣٣٢).

(٤) ذكره السيوطى فى الدر (١ / ١٩٥) ، وعزاه لأبى نعيم فى الدلائل عن ابن عباس بنحوه.

(٥) فى أ : مصدقا.

(٦) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ١٠٣).

(٧) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٧٤٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٩٦).

مِنْ رَبِّكُمْ).

(ما يَوَدُّ) أى : ما يريد وما يتمنى (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ما يود هؤلاء (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : أنهم كانوا يهوون ويحبون أن يبعث الرسول من أولاد إسرائيل وهم كانوا من نسله. فلما بعث من أولاد إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ على خلاف ما أحبوا وهووا ، لم تطب أنفسهم بذلك ، بل كرهت ، وأبت أشدّ الإباء والكراهية.

والثانى : لم يحبّوا ذلك ؛ لما كانت تذهب منافعهم التى كانت لهم ، والرئاسة بخروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله أعلم.

وقوله : (مِنْ خَيْرٍ).

قيل (١) : الخير ؛ النبوة.

وقيل : الخير ؛ الإسلام.

وقيل : الخير ؛ الرسول هاهنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن على الله أن يعطى لكلّ الأصلح فى الدين ، فى كل وقت ، وكل زمان.

فلو كان عليه ذلك لم يكن للاختصاص معنى ، ولا وجه.

والثانى : قال : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) والمفضل عند الخلق هو الذى يعطى ويبذل ما ليس عليه ، لا ما عليه ؛ لأن من عليه شىء فأعطاه ، أو قضى ما عليه من الدّين ، لا يوصف بالإفضال ؛ فدل أنه استوجب ذلك الاختصاص ، وذلك الفضل ، لما لم يكن عليه ذلك ، ولو كان عليه لكان يقول : ذو العدل ، لا ذو الفضل ، وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ١٠٣).

عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٠)

وقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها).

قال بعض أهل الكلام (١) : (ما نَنْسَخْ) من اللوح المحفوظ (أَوْ نُنْسِها) : ندعها فى اللوح.

وقيل : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أى نرفع بآية أخرى أو نتركها فى الأخرى.

وقيل (٢) : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فنرفع حكمها ، والعمل بها ، (أَوْ نُنْسِها) أى : نترك قراءتها وتلاوتها.

فيجوز رفع عينها ، ويجوز رفع حكمها وإبقاء عينها ؛ لأوجه :

أحدها : ظهور المنسوخ ؛ فبطل قول من أنكر النسخ ؛ إذ وجد. ومن أنكر ذلك فإنما أنكر لجهل بالمنسوخ ؛ لأن النسخ بيان الحكم إلى وقت ، ليس على البداء ، على ما قالت اليهود.

والثانى : أن للتلاوة فيها فضلا ـ كما للعمل ـ فيجوز رفع فضل العمل ، وبقاء فضل التلاوة.

والثالث : على جعل الأول فى حالة الاضطرار ، والثانى فى وقت السعة ، كقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣].

ثم يجوز أن يرفع عينها فينسى ذكرها ، كما روى عن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «كنا نعدل سورة الأحزاب بسورة البقرة ، حتى رفع (٣) منها آيات ، منها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» (٤).

وأما قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).

فاختلف فيه : قيل : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أى : أخفّ وأهون على الأبدان ؛ كقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) [البقرة : ١٨٤] ، إن الأمر بالصوم كان لوقت دون وقت ؛ إذ رجع الحكم عند الطاقة إلى غيره. وكذا ما كان من الحكم فى تحريم الأكل عند النوم والجماع ، وكذا

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٣).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٣ ـ ١٠٤).

(٣) فى أ : يرفع.

(٤) أخرجه ابن حبان (٤٤٢٨ ، ٤٤٢٩) عن أبى بن كعب بنحوه ، وأصله فى الصحيحين من حديث عمر ابن الخطاب.

تحريم الميتة : لو لم يرد فيهما الإباحة والحل عند الضرورة لكنّا نعرفه بالحرمة ، وذلك أخف وأهون ، والله أعلم.

وقيل : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) فى الثواب فى العاقبة.

وقيل (١) : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) فى المنفعة (أَوْ مِثْلِها) فى المنفعة.

وقيل : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) وهو أن يظهر لكم به الخير فى حق الاتباع. والمثل : فى حق الأمر ؛ فيشترك أصحاب المنكرين للنسخ فى حق الائتمار بالمثل ، ويفضلونهم بظهور الأخير.

وهو كالصلاة إلى بيت المقدس ؛ كان لهم مثل ما لليهود فى حق الائتمار ما كان ظهر لهم الأخير فى وقت ظهور الأمر ، وأبهم الخير. وظهر عنده فيمن أبى : أن اتباعه لم يكن لأجل حق المتابعة ، بل لما كان عنده الحجة.

فأما من جعله خيرا على البدل فاستدل بها الآخر رخصة وإباحة ، والإباحة ورودها للتخفيف.

ومن استدل على أن النسخ ـ أبدا ـ يرد على ما هو أغلظ ، عورض بقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) [النساء : ١٥] ، فأبدل بعقوبة أشد من الأول ـ وهو الرجم ـ بقوله : «خذوا عنى. خذوا عنى».

ويحتمل قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) وجها آخر : وهو آية والآيات هى الحجج ؛ فيكون معناه : ما نرفع من حجة فننفيها عن الأبصار ، إلا نأت بخير منها يعنى أقوى منها فى إلزام الحجة ، أو مثلها.

ولا شك أن ما يعترض هو أقوى حالة الاعتراض فى لزوم الحجة على ما غاب عن الأبصار ؛ فيكون قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) على هذا الوزن ، أى : نأت بحجة هى أقوى وأكثر من الأولى ، أو مثلها فى القوة.

فإن قيل : ما الحكمة فى النسخ؟ وما وجهه؟

قيل : محنة يمتحن بها الخلق ، ولله أن يمتحن خلقه بما يشاء ، فى أى وقت شاء : يأمر بأمر فى وقت ، ثم ينهى عن ذلك ، ويأمر بآخر.

وليس فى ذلك خروج عن الحكمة ، ولا كان ذلك منه لبداء يبدو له ، بل لم يزل عالما بما كان ويكون ، حكيما يحكم بالحق والعدل ؛ فنعوذ بالله من السرف فى القول.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٧٧٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ١٩٧).

وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

يحتمل : أن يكون الخطاب له ـ عليه‌السلام ـ والمراد بالخطاب الذين سبق ذكرهم فى قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية [البقرة : ١٠٥].

إنه قادر على إنزال الخير على من يشاء ، واختصاص بعض على بعض ، وتفضيل بعضهم على بعض.

ويحتمل : أن يكون المراد فى الخطاب له ـ عليه الصلاة والسلام ـ على حقيقة العلم على التذكير والتنبيه ، أى : تعلم أنت أن الله على كل شىء قدير ، وهو كقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩]. على حقيقة العلم له.

ويحتمل : على الإعلام والإخبار لقومه ، وقد ذكرنا.

وعلى ذلك يخرج قوله :

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أى : من كان يملك ملك السموات وملك الأرض ، يملك تخصيص بعض على بعض ، وتفضيلهم فيها ، ويحكم فيها بما يشاء ، ويحدث من الأمر ما أراد ، والله أعلم.

ويحتمل : نزوله على أثر نوازل لم تذكر فيه ، وذلك فى القرآن كثير ، وإنما يقال هذا الحرف عند ضيق القلب ؛ تسكينا له.

ومعنى تخصيص السّماوات والأرض بالملك له ؛ لمنتهى علم الخلق بهما (١) ، وإن كان له ملك الدنيا والآخرة ، وبالله التوفيق.

وقوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

يدل هذا على أنه خرج على أثر نوازل وإن لم تذكر.

وقوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ).

سؤال تعنت : لن نؤمن لك ـ تعنتا ـ حتى نرى الله جهرة.

وقيل (٢) : إنهم سألوا ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سأل قوم موسى موسى.

وقيل (٣) : سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل الصفا ـ لهم ـ ذهبا إن كان ما يقوله حقّا.

وقيل (٤) : سؤالهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١] ، وكانوا

__________________

(١) فى ط : لهما.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٧٨١) ، وعن السدى (١٧٨٢). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠١).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٧٨٣ ، ١٧٨٤ ، ١٧٨٥). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠١).

(٤) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٥).

يسألون سؤال تعنت ، لا سؤال استرشاد واهتداء.

وقوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ).

قيل (١) : اختار الكفر بالإيمان.

وقيل (٢) : ومن يختر (٣) شدة الآخرة على رخائها وسعتها.

وفى حرف ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ : «ومن يشتر الكفر بالإيمان» وذلك كله واحد.

وقوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

قيل (٤) : عدل عن الطريق.

وقيل (٥) : عدل عن قصد الطريق.

وقيل (٦) : أخطأ قصد طريق الهدى ، وكله واحد.

وقوله : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً).

إنهم كانوا يجهدون كل جهدهم حتى يصرفوا ويردوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن دين الله ـ الإسلام ـ إلى ما هم عليه ؛ كقوله تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [آل عمران : ٦٩] ، وكقوله : (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) [آل عمران : ١٠٠] ، وكقوله : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ...) الآية [آل عمران : ١٤٩].

وذلك ـ والله أعلم ـ لخوف فوت رياستهم التى كانت لهم ، وذهاب منافعهم التى ينالون من الأتباع والسفلة ، فودّوا ردّهم وصرفهم إلى دينهم.

ثم احتجت المعتزلة علينا بظاهر قوله تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ، قالوا : دلت الآية على أن الحسد (٧) ليس من عند الله بما نفاه ـ عزوجل ـ عنه ، وأضافه إلى أنفسهم

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٥).

(٢) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (١٧٨٧ ، ١٧٨٨). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠١).

(٣) فى ط : يختار.

(٤) قاله السدى ، أخرجه ابن أبى حاتم عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٠١).

(٥) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٥).

(٦) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٥).

(٧) الحسد : بفتح السين أكثر من سكونها ، وهو مصدر : حسد ، ومعناه فى اللغة : أن يتمنى الحاسد زوال نعمة المحسود. وأما معنى الحسد فى الاصطلاح فلا يخرج عن المعنى اللغوى.

والحسد إن كان حقيقيا ـ أى : بمعنى تمنى زوال النعمة عن الغير ـ فهو حرام بإجماع الأمة ؛ لأنه اعتراض على الحق ، ومعاندة له ، ومحاولة لنقض ما فعله ، وإزالة فضل الله عمن أهّله له ، ـ

بقوله : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).

قيل : صدقتم فى زعمكم بأن الحسد ليس من عند الله ، وكذلك نقول ، ولا نجيز إضافة الحسد إليه بحال ولكن نقول : خلق فعل الحسد من الخلق ، وكذلك يقال فى الأنجاس ، والأقذار ، والحيّات والعقارب ونحوها : إنه لا يجوز أن تضاف إلى الله تعالى فيقال : يا خالق الأنجاس والحيات والعقارب ، وإن كان ذلك كله خلقه ، وهو خالق كل شىء.

فعلى ذلك ، نقول بخلق فعل الحسد ، وفعل الكفر من العبد ، ولا نجوّز أن يضاف إلى الله تعالى.

ثم يقولون فى الطاعات والخيرات كلها : إنها من عند الله ، غير مخلوقة ، فلئن كانت

__________________

ـ والأصل فى تحريمه الكتاب والسنة والمعقول :

أما الكتاب : فقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [الفلق : ٥] فقد أمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالاستعاذة من شر الحاسد ، وشره كثير ، فمنه ما هو غير مكتسب وهو إصابة العين ، ومنه ما هو مكتسب كسعيه فى تعطيل الخير عنه وتنقيصه عند الناس ، وربما دعا عليه أو بطش به إلى غير ذلك. وقد اختلف أهل التأويل فى الحاسد الذى ورد الأمر بالاستعاذة من شره : فقال قتادة : المراد : شر عينه ونفسه. وقال آخرون : بل أمر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية أن يستعيذ من شر اليهود الذين حسدوه ، والأولى بالصواب فى ذلك ـ كما قال الطبرى ـ : أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بأن يستعيذ من شر كل حاسد إذا حسد. وإنما كان ذلك أولى بالصواب ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ لم يخصص من قوله : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) [الفلق : ٥] حاسدا دون حاسد ، بل عم أمره إياه بالاستعاذة من شر كل حاسد فذلك على عمومه. والحاسد كما قال القرطبى عدو نعمة الله. قال بعض الحكماء : بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه : أحدها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه كأنه يقول : لم قسمت هذه القسمة؟ ثالثها : أنه ضاد فعل الله ، أى : أن فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهو يبخل بفضل الله. ورابعها : أنه خذل أولياء الله ، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها : أنه أعان عدوه إبليس.

وأما السنة فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والحسد ؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو العشب».

وأما المعقول فإن الحاسد مذموم ، فقد قيل : إن الحاسد لا ينال فى المجالس إلا ندامة ، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء ، ولا ينال فى الخلوة إلا جزعا وغما ، ولا ينال فى الآخرة إلا حزنا واحتراقا ، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا. ويستثنى من تحريم الحسد ما إذا كانت النعمة التى يتمنى الحاسد زوالها عند كافر أو فاسق يستعين بها على معاصى الله تعالى.

أما إذا كان الحسد مجازيّا ـ أى بمعنى الغبطة ـ فإنه محمود فى الطاعة ، ومذموم فى المعصية ، ومباح فى الجائزات ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حسد إلا فى اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، ورجل أتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» أى : كأنه قال : لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة فى هذين الأمرين.

ينظر : تفسير الطبرى (٣٠ / ٢٢٨) ، صحيح مسلم بشرح النووى (٦ / ٩٧) ، فيض القدير (٣ / ١٢٥) ، فتح البارى (١ / ١٦٧).

العلة فى الذى لا يكون مخلوقا ، أنه ليس هو من عنده لوجب القول بخلقه ما هو من عنده ، ثم لم يقولوا به ؛ فبان أن ما يقولون فاسد ، باطل ، ليس بشيء.

ثم جهة الحسد ما ذكرنا أنهم أحبوا أن تكون الرسالة فيهم ، أو أن يكون من عنده سعة ؛ كقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) [هود : ١٢] وكقوله : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ؛ فبهذين الوجهين يخرج حسدهم.

قوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ).

أى : من قبلها ، لا أن الله ـ تعالى ـ أمرهم. وليس يضاف إلى الله ـ تعالى ـ بأنه من عنده بما يخلق ، ولكن بما يأمر أو يلزم.

ألا ترى أن الأنجاس كلها ، والخبائث ، والشياطين ، كلهم مخلوقة وإن لم يجز نسبتها إلى الله ـ تعالى ـ بمعنى أنه من عنده؟ كذلك ما ذكر من الحسد.

على أنه معلوم أنهم لم يكونوا يدعون من دون الله خلقا فبذلك الوجه ينكر عليهم ، بل كانوا يدعون الأمر فى كل ما نسب إلى الله تعالى ؛ فعلى ذلك ورد العقاب ، والله أعلم.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ).

أى : بين لهم فى التوراة أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبى ، وأن دينه الإسلام ؛ كقوله : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦ ، الأنعام : ٢٠].

وقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).

يحتمل : النهى عن مكافأة ما يؤذونه فى الدّنيا ، ثم لم ينسخ.

وقيل (١) : فيه نهى عن قتالهم ، حتى يأتى أمر الله فى ذلك ، ثم جاء بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) الآية [التوبة : ٢٩].

وقيل : حتى يأتى الله بأمره ، أى : بعذابه ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

من التعذيب والانتقام ، وبكل شىء. ولم ينسخ هذا.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

كرر الله ـ عزوجل ـ الأمر بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فى القرآن تكرارا كثيرا ، حتى كانت لا تخلو سورة إلا وذكرهما فيها ـ فى غير موضع ـ وذلك لعظم شأنهما ، وأمرهما ، وعلو منزلتهما عند الله ، وفضل قدرهما.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٠٠) ، وعن الربيع (١٨٠١) ، والسدى (١٨٠٣). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٢).

وعلى ذلك جعلهما شريعة فى الرسل السالفة ، صلوات الله عليهم.

ألا ترى إلى قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم : ٤٠].

وقوله لموسى وهارون : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) إلى قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [يونس : ٨٧]. وقول عيسى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١] ، وقوله : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) [المائدة : ١٢].

وذلك ـ والله أعلم ـ أن الصلاة قربة فيما بين العبد وبين ربه ، تجمع جميع أفعال الخير ، وفيها غاية منتهى الخضوع له ، والطاعة : من القيام بين يديه ، والمناجاة فيه ، والركوع له ، والسجود على الأرض ، وتعفير الوجه فيها حتى لو أن أحدا ممن خلص دينه لله لو أعطى ما فى الدنيا على أن يعفّر وجهه فى الأرض لأحد من الخلق ما فعل ، وبالله التوفيق.

والزكاة فيما بين العبد وبين الخلق ؛ لتآلف القلوب واجتماعها ، وفيها إظهار الشفقة لهم والرحمة (١).

__________________

(١) إيتاء الزكاة كان مشروعا فى ملل الأنبياء السابقين ، قال الله ـ تعالى ـ فى حق إبراهيم وآله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ)[الأنبياء : ٧٣]. وشرع للمسلمين إيتاء الصدقة للفقراء ، منذ العهد المكى ، كما فى قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١١ ـ ١٦] وبعض الآيات المكية جعلت للفقراء فى أموال المؤمنين حقا معلوما ، كما فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج : ٢٥ ـ ٢٦]. وقال ابن حجر : اختلف فى أول فرض الزكاة : فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة ، وادعى ابن خزيمة فى (صحيحه) أن فرضها كان قبل الهجرة. واحتج بقول جعفر للنجاشى : «ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام» ويحمل على أنه كان يأمر بذلك فى الجملة ، ولا يلزم أن يكون المراد : هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول. قال : ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة ؛ لأن الآية الدالة على فرضيّته مدنية بلا خلاف ، وثبت من حديث قيس بن سعد قال : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، ثم نزلت فريضة الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهانا ، ونحن نفعله».

ويظهر فضل الزكاة من أوجه :

ـ اقترانها بالصلاة فى كتاب الله تعالى ، فحيثما ورد الأمر بالصلاة اقترن به الأمر بالزكاة ، من ذلك قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ١١٠] ، ومن هنا قال أبو بكر فى قتال مانعى الزكاة : «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، إنها لقرينتها فى كتاب الله».

ـ أنها ثالث أركان الإسلام الخمسة ؛ لما فى الحديث : «بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت». ـ

لذلك عظّم الله شأنهما ، وشرف أمرهما ، وأعلى منزلتهما ؛ وعلى ذلك قرنهما بالإيمان فى المواضع كلها ، وأثبت بين الخلق الأخوّة بهما بقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة : ١١].

ثم هما تكرمان بالعقل ؛ لأن الصلاة تجمع جميع أنواع خيرات الأفعال ، وفيها غاية الخضوع له ، والخشوع ـ على ما ذكرنا ـ وذلك مما يوجبه العقل ، وإن لم يرد فيه السمع.

وكذلك الزكاة : فيها تزكية الأنفس وتطهيرها ، وذلك مما فى العقل واجب.

فإن قيل : ما الحكمة فى وجوبها؟

قيل : إظهار ما أنعم الله [على العبد](١) ، من الأموال والسّعة فيها ، وما أعطاهم من سلامة الجوارح عن جميع الآفات ، يخرج مخرج الأمر بأداء شكر ما أنعم عليهم عزوجل.

فإن قيل : ما الحكمة فى وجوبها فيما أعطى منهما ، يعنى من النفس ، والمال دون غيره؟

قيل : لأن الوجوب من غيره يخرج مخرج المعاوضة والمبادلة ، لا مخرج أداء الشكر ، والله أعلم.

ثم الحكمة فى : إيجاب الصلاة والزكاة ، وغيرهما من العبادات أن الله ـ تعالى ـ إذ عمهم بنعمه فيما فضلهم بالجوهر ، وسخر لهم جميع ما فى الأرض ، وبسط عليهم النعم ، حتى صار كل منهم لا يبصر غير نعمه ، من غير استحقاق منهم شيئا من ذلك ـ لزمهم الشكر عليها.

__________________

ـ أنها من حيث هى فريضة أفضل من سائر الصدقات ؛ لأنها تطوعية ، وفى الحديث القدسى : «ما تقرب إلى عبدى بشيء أحب إلى مما افترضته عليه».

ـ أن الصدقة وإنفاق المال فى سبيل الله يطهران النفس من الشح والبخل وسيطرة حب المال على مشاعر الإنسان ، ويزكيه بتوليد مشاعر الموادّة ، والمشاركة فى إقالة العثرات ، ودفع حاجة المحتاجين ، أشار إلى ذلك قول الله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣].

ـ الزكاة تدفع أصحاب الأموال المكنوزة دفعا إلى إخراجها لتشترك فى زيادة الحركة الاقتصادية ، يشير إلى ذلك قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا من ولى يتيما له مال فليتجر فيه ، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة».

ـ الزكاة تسد حاجة جهات المصارف الثمانية ، وبذلك تنتفى المفاسد الاجتماعية والخلقية الناشئة عن بقاء هذه الحاجات دون كفاية.

ينظر : فتح البارى (٣ / ٢٦٦) ، حجة الله البالغة (٢ / ٣٩ ، ٤٠)

(١) فى ط : عليه.

ثم كانت الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح فيما لله فيها القيام بها شكرا له ، مع ما فيها توقف أحوال نفسه بالاختيار بما هى عليه بالاضطراب والخلقة والقلب بالنية ، والخوف والرجاء ، وإحضار الذهن والعقل بالتعظيم والتبجيل ؛ فيكون كل شىء منه فى شكره ؛ لما له فيه من سبوغ النعمة ، والله أعلم.

وكذلك بالأموال فضلوا ـ فى هذه الدنيا ـ واستمتعوا بلذيذ العيش ؛ فأمروا بالإخراج لله ، مع ما إذ سخرت هذه الأرض ـ بما فيها ـ لجميع البشر ، ألزم من ذلك صلة من لم يملك ، ليستووا فى الاستمتاع بالتسخير لهم ، من الوجه الذى علم الله لهم فى ذلك صلاح الدارين ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ).

الآية تخرج على خلاف قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن من ارتكب كبيرة ثم أقام الصلاة وآتى الزكاة ، وجاهد فى سبيل الله ، وحج بيت الله الحرام ، فقدم خيرات كثيرة ـ فإنه لا يجد مما قدم شيئا ، ولكن يجد ما قدم من شر.

وذلك ليس من فعل الكريم والجواد ، ولا كذلك وصف الله نفسه ، بل وصف نفسه على خلاف ما وصفوا هم ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) [الأحقاف : ١٦].

وهم يقولون : لا يتقبل عنهم ما قدموا من الخيرات ، ولا يتجاوز عن سيئاتهم ، وذلك سرف فى القول ؛ فنعوذ بالله من السرف فى القول ، والحكم على الله ، وبالله العصمة والتوفيق.

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

بما قدمتم من الخير والشر ؛ تنبيه منه عزوجل ليكونوا على حذر من الشر ، وترغيب منه لهم بالخيرات. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٣)

وقوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أن قالوا ذلك جميعا ؛ لما أرادوا أن يروا الناس الموافقة فيما بينهم ؛ ليرغبوا فى دينهم ، وينفروا عن دين الإسلام ، وإن كانوا هم ـ فى الباطن ـ على الخلاف والعداوة.

ويحتمل : أن يكون ذلك القول من كل فريق فى نفسه ، لا عن كل الفريقين جميعا على الموافقة.

دليله : قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) دلت الآية أن ذلك القول لم يكن من الفريقين جميعا على الموافقة ، ولكن كان من كلّ فى نفسه على غير موافقة منهم ولا مساعدة ، والله أعلم.

ثم فى الآية دليل ، لزم الدليل على النّافى ؛ لأنهم نفوا دخول غيرهم الجنّة بقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) فطولبوا بالبرهان بقوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه لا يدخل فيها سواكم.

فإن قيل : إنهم إذا نفوا دخول غيرهم فيها ادعوا لأنفسهم الدخول ، فإنما طولبوا بالبرهان على ما ادعوا ، ليس على ما نفوا.

قيل : لا يحتمل ذا ؛ لأنهم لم يذكروا دخول أنفسهم تصريحا ، إنما نفوا دخول غيرهم وهو كمن يقول : لا يدخل هذه الدار إلا فلان وفلان ، ليس فيه أن فلانا وفلانا يدخلان ولكن فيه نفى دخول غيرهما.

أو نقول : نفوا دخول غيرهم تصريحا ، وادعوا لأنفسهم الدخول مستدلا ، وإنما يطلب الحجة على مصرّح قولهم ، لا على مستدلّهم.

ألا ترى أن الجواب من الله ـ عزوجل ـ بالإكذاب والرد عليهم خرج على ما نفوا دخول غيرهم ، وهو قوله : (بَلى) ـ يدخل الجنة ـ (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).

ألا ترى إلى ما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا نكاح إلا بشهود» (١) ليس فيه

__________________

(١) ذكره الزيلعى فى نصب الراية (٣ / ١٦٧) ، وقال : غريب بهذا اللفظ. قلت : وفى الباب عن عائشة : أخرجه ابن حبان (٤٠٧٥ ـ الإحسان) ، والدار قطنى (٣ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧) ، والبيهقى (٧ / ١٢٤ ـ ١٢٥) من طريق عروة عنها بلفظ :

«لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل ، وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل ، فإن تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له».

قال ابن حبان : لم يقل أحد فى خبر ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهرى هذا «وشاهدى عدل» إلا ثلاثة أنفس : ـ

إثبات النكاح إذا كان ثمّ شهود ؛ ولكن فيه نفى النكاح بغير شهود تصريحا.

ألا ترى أن من قال : لا نكاح إلا بشهود ، لا يسأل أن : لم قلت : إن النكاح يجوز بالشهود؟ ولكن يسأل أن : لم قلت : إنه لا يجوز بغير شهود؟ فعلى ذلك قوله : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ليس فيه إثبات الدخول لهم تصريحا ، وفيه نفى دخول غيرهم تصريحا ، والله أعلم.

وقوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ).

قد قلنا : إنه خرج مخرج الرد عليهم ، والإنكار لحكمهم على الله ؛ فقال : بل يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن.

ثم اختلف فى قوله : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ).

قيل (١) : أخلص دينه لله وعمله.

وقيل : أسلم نفسه لله.

وقد يجوز أن يذكر الوجه على إرادة الذات ، كقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أى : إلا هو.

وقيل : أسلم ، أى : وجه أمره إلى دينه فأخلص. وبعضه قريب من بعض.

أسلم نفسه لله أى بالعبودية ؛ كقوله : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) [الزمر : ٢٩].

وذلك معنى الإسلام : أن تخلص نفسك لله ، لا تجعل لأحد شركا من عبودة ، ولا من عبادة.

وقوله : (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قد ذكرنا متضمنها فيما تقدم.

وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ).

فإن قيل : كيف عاتبهم بهذا القول ، وقد أمر نبيه ـ عليه‌السلام ـ فى آية أخرى أن يقول لهم ذلك : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ)؟ [المائدة : ٦٨].

قيل : إنما أمر نبيه : أن يقول لهم : إنهم ليسوا على شىء إذا لم يقيموا التوراة ، فأما إذا

__________________

ـ سعيد بن يحيى الأموى عن حفص بن غياث ، وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبى عن خالد بن الحارث ، وعبد الرحمن بن يونس الرقى عن عيسى بن يونس ، ولا يصح فى ذكر الشاهدين غير هذا الخبر.

(١) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨١٢). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٣).

أقاموا التوراة ـ وفيها أمر لهم بالإسلام ، واتباع الرسول محمد ـ فهم على شىء.

ومعنى هذا الكلام ـ والله أعلم ـ أن قال لهم : كيف قلتم ذلك ، وعندكم من الكتاب ما يبين لكم ، ويميز الحق من الباطل ، ويرفع من بينكم الاختلاف ، لو تأملتم فيه وتدبرتم؟!

ويحتمل : أن كل فريق منهم لما قال لفريق آخر ذلك : أنهم ليسوا على شىء ، أكذبهم الله ـ تعالى ـ وردّ عليهم : بلى من أسلم منهم فهم على شىء ؛ لأنه كان أسلم من أوائلهم.

ويحتمل : أنهم ليسوا على شىء ، على نفس دعاويهم ، وقولهم فى الله بما لا يليق ، وهم على شىء ، فى تكذيب بعضهم بعضا بما قالوا.

وقيل : لما قالت اليهود : ليست النصارى على شىء من الدين ؛ فما لك يا محمد اتبع ديننا ؛ فإنهم ليسوا على شىء ؛ وكذلك قول الفريق الآخر لأولئك.

ثم اختلف فى «الإسلام» :

قيل (١) : الإسلام هو الخضوع.

وقيل : الإسلام هو الإخلاص بالأفعال ، وهو أن يسلم نفسه لله ، أو يسلم دينه ، لا يشركه فيه.

وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

قيل (٢) : الذين لا يعلمون : الذين لا كتاب لهم ، وهم مشركو العرب.

وقيل : الذين لا يعلمون : هم الذين لا يقدرون على تلاوة [القرآن و](٣) الكتاب ، وتمييز ما فيه ، وهم جهالهم.

سوّى ـ عزوجل ـ بينهم فى القول ـ من علم منهم ومن لم يعلم ـ لأن من علم منهم لم ينتفع بعلمه ؛ فكان كالذى لم يعلم شيئا ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم فى قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨ ، ١٧١] أنه سماهم بذلك ؛ لما لم ينتفعوا بالآيات ، والأسباب التى أعطاهم الله ـ عزوجل ـ والله أعلم.

وقوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

بالعذاب ؛ لاختلافهم فيما بينهم ، وبقولهم فى الله بما لا يليق ، تعالى الله عما يقول

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٥٤٠) ، والبغوى (١ / ١٠٦).

(٢) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٢١) ، ونسبه البغوى فى تفسيره (١ / ١٠٦) لمقاتل.

(٣) سقط فى ط.

الظالمون علوّا كبيرا.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)(١١٥)

وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ).

يقول : لا أحد أظلم لنفسه ، ولا أوضع لها.

وقوله : (مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).

اختلف فيه :

قيل : مساجد الله : الأرض كلها ؛ لأن الأرض كلها مساجد الله ؛ كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا» (١) منع أهل الكفر أهل الإسلام أن يذكروا فيها اسم الله ، وأن يظهروا فيها دينه.

وقوله : (وَسَعى فِي خَرابِها).

وهو كقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٣٣].

ويخرج قوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ).

أى : لا يدخلون البلدان والأمصار إلا بالخوف ، أو بالعهد ؛ كقوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١١٢] وهو العهد.

ويحتمل قوله : (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) : ما كان ينبغى لهم ـ بما عليهم من حق الله ، وتعظيمه ـ أن يدخلوا المساجد إلا خائفين وجلين ؛ لما كانت هى بقاع اتخذت لعبادة الله ، ونسبت إليه تعظيما لها ؛ فدخلوا مخرّبين لها ، مانعين أهلها من عبادة الله فيها.

وقيل (٢) : مساجد الله : المسجد الحرام.

وذلك أنهم حالوا بينها وبين دخول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيها ، حتى رجعوا من عامهم ذلك. ثم فتح الله ـ عزوجل ـ مكة لهم ، فصار لا يدخلها مشرك إلا خائفا ؛ كقوله ـ عز

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٣٧١) كتاب المساجد (٥ / ٥٢٣) ، وأحمد (٢ / ٤١١) ، والترمذى (٣ / ٢١٢) ، أبواب السير ، باب ما جاء فى الغنيمة (١٥٥٣) ، وابن ماجه (١ / ٤٥٤) كتاب الطهارة وسننها ، أبواب التيمم (٥٦٧) ، عن أبى هريرة.

وله طريق آخر عند البخارى (١٤ / ١٧١ ، ١٧٢) كتاب الاعتصام ، باب قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت بجوامع الكلم» (٧٢٧٣) وليس فيه موضع الشاهد.

(٢) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (١٨٢٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٤).

وجل. : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٤].

وقيل (١) : أراد بمساجد الله : بيت المقدس ؛ قيل (٢) : إن النصارى استعانوا ببخت نصّر (٣) وهو رئيس المجوس ، حتى خربوا المساجد ، وقتلوا من فيها من أهل الإسلام ، ثم بنى أهل الإسلام ـ بعد ذلك بزمان ـ مساجد ، فكان لا يدخل نصرانى فيها إلا خائفا ، مستخفيا. والله أعلم.

وقوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ).

قيل (٤) : الخزى : الجزية. ويحتمل القتال ، (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

وقوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

قيل (٥) : إن رهطا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلقوا سفرا ، وذلك قبل أن تصرف القبلة إلى الكعبة ، فحضر وقت الصلاة ، فاشتبه عليهم ، فتحرّوا : فمنهم من صلى إلى المشرق ، ومنهم من صلى إلى المغرب ؛ صلوا إلى جهات مختلفة ، فلما بان لهم ذلك قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوا عن ذلك ؛ فنزلت الآية فيهم (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٢٢) وعن مجاهد (١٨٢٣) ، (١٨٢٤) وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٤).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٢٥ ، ١٨٢٦) ، وعن السدى (١٨٢٧) وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٤).

(٣) وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبى : كان بخت نصر أصفهبذا لما بين الأهواز إلى الروم للملك على الفرس وهو لهراسب. وكان قد بنى مدينة بلخ التى تلقب بالخنساء ، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الأماكن وبعث بختنصر لقتال بنى إسرائيل بالشام فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق ، وقد قيل إن الذى بعث بختنصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب وذلك لتعدى بنى إسرائيل على رسله إليهم. وقد روى ابن جرير : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن سليمان بن بلال عن يحيى ابن سعيد الأنصارى ، عن سعيد بن المسيب : أن بختنصر لما قدم دمشق وجد بها دما يغلى على كبا يعنى القمامة فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر قال فقتل على ذلك سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا وهذا لا يصح لأن يحيى بن زكريا بعد بختنصر بمدة والظاهر أن هذا دم نبى متقدم أو دم لبعض الصالحين أو لمن شاء الله ممن الله أعلم به.

(٤) قاله السدى أخرجه ابن جرير عنه (١٨٣١) ، وعن قتادة أخرجه ابن جرير (١٨٢٩ ـ ١٨٣٠) وعبد الرزاق كما فى الدر المنثور (١ / ٢٠٤).

(٥) أخرجه عبد بن حميد (٣١٦) والترمذى (١ / ٣٧٥) كتاب الصلاة باب ما جاء فى الرجل يصلى لغير القبلة فى الغيم (٣٤٥) ، وابن ماجه (٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧) كتاب إقامة الصلاة باب من يصلى لغير القبلة (١٠٢٠) ، والدار قطنى (١ / ٢٧٢) ، وأبو نعيم فى الحلية (١ / ١٧٩ ـ ١٨٠) ، والبيهقى (٢ / ١١) ، عن عامر بن ربيعة بنحوه ، وقال الترمذى : هذا الحديث ليس إسناده بذلك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف فى الحديث.

وفى الباب شواهد انظرها فى الدر المنثور (١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦).

اللهِ).

وهذا يردّ على الشافعى قوله ؛ لأنه يقول : إن صلى إلى جهة القبلة يجوز ، وإلا فلا. وليس فى الآية ذكر جهة دون جهة ، بل فيها ذكر المشرق والمغرب ، وكذلك فى الخبر ذكر المشرق والمغرب ؛ فخرج قوله على ظاهر الآية ، وهذا عندنا فى الاشتباه والتحرى ، وأما عند القصد فهو قوله : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وروى عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ أن قوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ...) الآية ، نزلت فى النوافل فى الأسفار (١).

ولكن عندنا على ما ذكرنا فى الكل ، والله أعلم.

وقوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ).

اختلف فيه :

قيل : ثم وجه الله ، يعنى : ثمّ ما قصدتم وجه الله.

وقيل (٢) : ثمّ قبلة الله.

وقيل : ثمّ وجه الله : ثم الله. على ما ذكرنا من جواز التكلم بالوجه على إرادة الذات ، أى : ليس هو عنهم بغائب.

وقيل (٣) : ثمّ رضاء الله.

وقيل : ثم ما ابتغيتم به وجه الله.

وقيل فيه : ثم وجه الذى وجهكم إليه إذا لم يجئ منكم التقصير ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أكل الناسى : «إنما أطعمك الله وسقاك» (٤).

وقيل فيه : ثم بلوغكم ما قصدتم بفعل الصلاة من وجه الله ورضائه ، أى : ظفرتم به.

ثم الغرض فى القبلة ليس إصابة عينها ، ولكن أغلب الظن ، وأكبر الرأى ؛ لأنه ليس لنا إلى إصابة عينها سبيل ؛ إذ سبيل معرفتها بالاجتهاد ، لا باليقين والإحاطة ، ليس كالمياه والأثواب وغيرها من الأشياء ؛ لأن هذه الأشياء فى الأصل طاهرة ، والنجاسة عارضة فيظفر بأعينها على ما هى فى الأصل.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (١٨٤١ ، ١٨٤٢). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٥).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٥٠ ، ١٨٥١). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٦).

(٣) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٠٨).

(٤) أخرجه البخارى (٤ / ٦٥٨) ، كتاب الصوم ، باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا (١٩٣٣) ، ومسلم (٢ / ٨٠٩) ، كتاب الصيام ، باب أكل الناسى وشربه (١٧١ / ١١٥٥) ، عن أبى هريرة بلفظ : «إذا نسى فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه».

وأما أمر القبلة فإنما بنى على الاجتهاد والقصد ، دون إصابة عينها. والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ).

قيل (١) : الواسع : الغنىّ.

وقيل (٢) : الواسع : الجواد ، حيث جاد عليهم بقبول ما ابتغوا به وجه الله ، وحيث وسع عليهم أمر القبلة.

(عَلِيمٌ) بما قصدوا ونووا.

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(١١٨)

وقوله (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ).

فيه تنزيه ، نزه به نفسه عما قالوا فيه بما لا يليق ، ورد عليهم.

ومعناه ـ والله أعلم ـ : أنّ اتخاذ الولد ، والتبنى ـ فى الشاهد ـ إنما يكون لأحد وجوه ثلاثة تحوجه إلى ذلك :

إما لشهوات تغلبه ؛ فيقضيها به.

وإما لوحشة تأخذه ؛ فيحتاج إلى من يستأنس به.

أو لدفع عدو يقهره ؛ فيحتاج إلى من يستنصر به ويستغيث.

فإذا كان الله ـ عزوجل ـ يتعالى عن أن تمسه حاجة ، أو تأخذه وحشة ، أو يقهره عدو ، فلأى شىء يتخذ ولدا؟!.

وقوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

رد على ما قالوا : بأن من ملك السموات وما فيها ، وملك الأرض وما فيها ـ لا تمسه حاجة ، ولا يقهره عدو ؛ إذ كل ذلك ملك له ، يجرى فيهم تقديره ، ويمضى عليهم أمره وتدبيره ، وإنما يرغب إلى مثله إذا اعترض له شىء مما ذكرنا ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

فإن عورض بالخلة ، قيل : إن الخلة تقع على غير جوهر من منه الخلة ، والولد لا

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٨).

(٢) انظر تفسير البغوى (١ / ١٠٨).

يكون إلا من جوهره ، وإلى هذا يذهب الحسن (١).

والثانى : أن الخلة تقع لأفعال تكتسب ، وتسبق منه ، فيعلو أمره ، وترتفع مرتبته ؛ فيستوجب بذلك الخلة بمعنى الجزاء ، وأما الولد فإنه لا يقع عن أفعال تكتسب ، بل بدو ما به استحقاقه يكون من مولده. وقد نفى عن نفسه ما به يكون بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١].

والثالث : ما قاله الراوندى : أنه لا بد من أن يدعى إلى التسمى ، أو إلى التحقيق ؛ إذ فى الخلة تحقيق ما به يسمى.

ثم لم يحتمل فى هذا تحقيق ما به يسمى ، والاسم لم يرد به الإذن ، وبالله التوفيق.

ويحتمل قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وجها آخر ، وهو أن يقال : إن ما فى السموات وما فى الأرض ، كلهم عبيده وإماؤه ، فأنتم مع شدة حاجتكم إلى الأولاد لا تستحسنون أن تتخذوا عبيدكم وإماءكم أولادا ، فكيف تستحسنون ذلك لله ـ عزوجل ـ وتنسبون إليه مع غناه عنه؟ وبالله التوفيق.

وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٢) : إن كل من فى السموات والأرض من الملائكة ، وعيسى ، وعزير ، وغيرهم ـ من الذين قلتم : إنه اتخذهم ولدا ـ قانتون له ، مقرّون بالربوبية له ، والعبودية لأنفسهم له.

وقيل (٣) : (قانِتُونَ) : مطيعون ؛ أى : كلهم مطيعون متواضعون.

وقيل (٤) : القانت : هو القائم ، لكن القائم على وجهين : يكون القائم المنتصب على الأقدام ، ويكون القائم بالأمر والحفظ.

ثم لا يحتمل أن يراد بالقانت هاهنا : المنتصب بالقدم ؛ فرجع إلى الطاعة له وحفظ ما عليه ، وهو كقوله : (هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] من الحفظ والرزق.

ويحتمل : تنزيه الخلقة ؛ لأن خلقة كل أحد تنزه ربه عن جميع ما يقولون فيه.

أو أن يقال : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) فى الجملة ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧].

__________________

(١) فى أ : الحسين.

(٢) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٥٨). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٨).

(٣) قاله ابن عباس وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (١٨٥٢ ، ١٨٥٧). وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٨).

(٤) قاله الربيع ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٥٩) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٠٨).

وقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ابتدعهما ولم يكونا شيئا.

والبديع والمبدع واحد ؛ وهو الذى لم يسبقه أحد فى إنشاء مثله ؛ ولذلك سمى صاحب الهوى : مبتدعا ؛ لمّا لم يسبقه فى مثل فعله أحد.

ثم فيه الحجة على هؤلاء الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ، يقول : إن من قدر على خلق السموات والأرض من غير شىء ، ولا سبب ، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟!

والثانى : أن يقال : إن من له القدرة على خلق ما يصعب ، ويعظم فى أعينكم ، بأقل الأحرف عندكم ـ كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟!

وقوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ).

قيل (١) : وإذا حكم حكما : فإنما يقول له : كن فيكون.

وقيل : (وَإِذا قَضى أَمْراً) ؛ يعنى قضى بإهلاك قوم واستئصالهم (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

ثم قوله : (كُنْ فَيَكُونُ).

ليس هو قول من الله : أن كن ـ بالكاف والنون ـ ولكنه عبارة بأوجز كلام ، يؤدى المعنى التام المفهوم ؛ إذ ليس فى لغة العرب كلام التحقيق بحرفين يؤدى المعنى المفهوم أوجز من هذا ، وما سوى هذا فهو من الصّلات ، والأدوات ، فلا يفهم معناها ، والله أعلم.

ثم الآية تردّ على من يقول : بأن خلق الشىء هو ذلك الشىء نفسه ؛ لأنه قال : (وَإِذا قَضى أَمْراً) ذكر «قضى» وذكر «أمرا» ، وذكر «كن فيكون». ولو كان التكوين والمكون واحدا لم يحتج إلى ذكر كن فى موضع العبارة عن التكوين فال «كن» تكوينه ، فيكون المكون ؛ فيدل أنه غيره.

ثم لا يخلو التكوين : إما أن لم يكن فحدث ، أو كان فى الأزل.

فإن لم يكن فحدث ، فإما أن يحدث بنفسه ـ ولو جاز ذلك فى شىء لجاز فى كل شىء ـ أو بإحداث آخر ، فيكون إحداث بإحداث ، إلى ما لا نهاية له. وذلك فاسد ، ثبت أن الإحداث والتكوين ليس بحادث ، وأن الله تعالى موصوف فى الأزل أنه محدث ،

__________________

(١) قاله ابن جرير بنحوه (١ / ٥٥٦) وكذا البغوى (١ / ١٠٨).

مكون ؛ ليكون كل شىء فى الوقت الذى أراد كونه فيه ، وبالله التوفيق.

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : الّذين لا يعلمون ، يعلمون فى الحقيقة ، ولكن سماهم بذلك ؛ لما لم ينتفعوا بعلمهم.

وقيل (١) : لا يعلمون توحيد ربهم ؛ وهم مشركو العرب. قالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلا يكلمنا الله ، أو تأتينا آية فتخبرنا بأنك رسوله.

وقيل : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) ، أى : لا يعلمون أنهم لم يبلغوا المبلغ الذى يتمنون تكليم الله إياهم.

وقيل : (لا يَعْلَمُونَ) أنه قد كلمهم وأخبرهم بالوحى ، وإيتاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات على رسالته ، لكنهم يعاندون.

وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).

قيل : الذين من قبلهم : بنو إسرائيل ؛ قالوا لموسى مثل ما قال مشركو العرب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) [الفرقان : ٢١].

وقيل (٢) : اليهود سألوا مثل سؤال النصارى.

وقيل : النصارى سألوا مثل سؤال اليهود ، والله أعلم.

وقوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ).

بالكفر والسفه.

وقيل : تشابهت قلوبهم فى المقالة ؛ يشبه بعضها بعضا فى السؤال ؛ لأنهم سألوا سؤال تعنت ، لا سؤال مسترشد.

وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

يحتمل وجهين :

أحدهما : هذا القول.

والثانى : أن يسألوا سؤال التعنت والعتو ، لا سؤال مسترشد ؛ إذ الله ـ تعالى ـ قد أثبت آيات الإرشاد لمن يبتغى الرشد ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

__________________

(١) قاله قتادة والربيع والسدى ، أخرجه ابن جرير عنهم (١٨٦٥ ، ١٨٦٦ ، ١٨٦٧). وانظر تفسير البغوى (١ / ١٠٩).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٦٩ ، ١٨٧٠).

قيل : بينا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات ، والحجج التى أقامها : أنه رسول لمن آمن به ، وصدقه ، ولم يعانده.

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(١٢٣)

وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً).

قيل : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) يا محمد ؛ لتدعوهم إلى الحق ، وهو التوحيد.

وقيل : بالحق : بالقرآن.

وقيل : بالحق : بالحجج والآيات.

(بَشِيراً) لمن أطاعه بالجنة ، (وَنَذِيراً) لمن عصاه وخالف أمره بالنار.

وقيل : بالحق الذى لله على الخلق ، والحق الذى لبعض على بعض ؛ لتدعوهم إليه وتدلهم عليه.

وقوله : «ولا تسأل عن أصحاب الجحيم» (١).

وجائز أن يكون بمعنى : لا تسأل بعد هذا عنهم. ولم يذكر أنه سئل عنهم بعده ؛ فيكون ذلك آية له بما هو خبر عن علم الغيب.

قيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «ليت شعرى! ما فعل أبواى؟» فأنزل الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) ثبت فى حاشية أ : قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فيه لغتان ؛ بنصب التاء ، وضمها. أما النصب ، فقد قيل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل عن أبويه ذات يوم ؛ فقال : ليت شعرى! ما فعل أبواى؟!

فأوحى الله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) بمعنى النهى عن أصحاب الجحيم.

وأما الضم فيحتمل وجهين :

لا ؛ أى لا تسأل أنت يا محمد عن ذنوب أصحاب الجحيم. وهو كقوله تعالى : «ولا يسألون عما كانوا يعملون». وكقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ونحوه.

والثانى : أى لا تسأل بعد هذا عن أصحاب الجحيم. ولم يذكر أنه سأل عنهم بعده.

فإن كان على هذا الوجه فهو أثر دلالة على إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه أخبر عن الغيبة فلا يعرف إلا بطريق الوحى ، والله تعالى أعلم ، شرح.

هذه الآية (١).

وفيها لغتان : «لا تسأل» بنصب التاء (٢) وهو ما ذكرنا.

ويحتمل وجها آخر : أى لا تشتغل بأصحاب الجحيم ؛ فإن ذلك تكلف منك وشغل.

وفيها لغة أخرى برفع التاء (٣) : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ، أى : لا تسأل أنت يا محمد عن ذنوب أصحاب الجحيم ؛ وهو كقوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة : ١٣٤ ، ١٤١] ، وكقوله : (عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] ، وكقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤ ، الإسراء : ١٥ ، فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧] ونحوه.

وقوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

اختلف فى الملة :

قيل الملة : السنة ؛ كقوله : «بسم الله ، وعلى ملة رسول الله» (٤) ، وكقوله (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣].

وقيل الملة : الدين ، كقوله عليه‌السلام : «لا يتوارث أهل الملتين» (٥).

وقيل : الملة هاهنا : القبلة ، وهو كقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥].

آيس ـ عزوجل ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اتباع أولئك دينه وقبلته ؛ لأنهم يختارون الدين ، والقبلة ؛ بهوى أنفسهم ، لا بطلب الحق ، وظهوره ، ولزوم الحجة.

وذلك : أن النصارى إنما اختاروا قبلتهم المشرق ؛ لأن مكان الجبل الذى كان فيه

__________________

(١) أخرجه وكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق وعبد بن حميد ، وابن جرير (١٨٧٧ ، ١٨٧٨) ، وابن المنذر عن محمد بن كعب كما فى الدر المنثور (١ / ٢٠٩) وقال السيوطى : هو مرسل ضعيف الإسناد.

وأخرجه ابن جرير (١٨٧٩) عن داود بن أبى عاصم ، وقال السيوطى فى الدر (١ / ٢٠٩) : معضل الإسناد ضعيف لا يقوم به ولا بالذى قبله حجة.

(٢) ينظر : البحر المحيط (١ / ٣٦٨) ، والتبيان (١ / ٤٣٦) ، والحجة لأبى زرعة (١١١) ، والمعانى للأخفش (١ / ١٤٦).

(٣) ينظر : البحر المحيط (١ / ٣٦٧) ، وتفسير الرازى (١ / ٤٧١) ، والكشاف للزمخشرى (١ / ٩١) ، وتفسير الطبرى (٢ / ٥٦٠).

(٤) أخرجه أحمد (٢ / ٦٩) ، والنسائى فى الكبرى (٦ / ٢٦٨) ، وابن حبان (٧٧٢ ، ٧٧٣ ـ موارد) ، وأبو يعلى (٥٧٥٥) ، والحاكم (١ / ٣٦٦) ، وصححه عن ابن عمر.

(٥) أخرجه أحمد (٢ / ١٧٨ ، ١٩٥) ، وأبو داود (٢ / ١٤٠) ، كتاب الفرائض ، باب هل يرث المسلم الكافر (٢٩١١) ، وابن ماجه (٤ / ٢٩١) ، كتاب الفرائض ، باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك (٢٧٣١) ، وابن الجارود (٩٦٧) ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

عيسى فى ناحية المشرق بقوله : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) [مريم : ١٦].

واليهود اختاروا قبلتهم ناحية المغرب ؛ لأن موسى عليه‌السلام كان بناحية المغرب لما أعطى الرسالة وكلمه ربه ؛ كقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤].

وأما أهل الإسلام فإنما اختاروا الكعبة ـ شرفها الله ـ قبلة بالأمر ، لا اتباعا لهواهم.

والعقل يوجب أن تكون الكعبة قبلة ؛ إذ هى مقصد الخلق من آفاق الدنيا ، فلما احتيج فى الصلاة إلى التوجه إلى وجه كان أحق ذلك الموضع الذى جعل للخلق مقاصد أخرى (١).

ثم قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).

أخبر ـ عزوجل ـ رسوله : أن ليس فى وسعك إرضاء هؤلاء ؛ لاختلافهم فى الدعاوى فى الملل.

فإن قيل : كيف نهى رسوله عن اتباع ملتهم على علم منه : أنه لا يتبع؟

قيل : لأن العصمة لا تزيل المحنة ، ولا تدفعها ، بل المحنة إنما تقع فى العصمة لوجهين :

أحدهما : أن عصمته لما مضى لا توجب عصمته فى الحادث.

والثانى : أن أحق من ينهى عن الأشياء من أكرم بالعصمة ؛ إذ على زوال النهى يرتفع عنه جهة العصمة ؛ لأنه يصير برفع النهى مباحا.

فلهذا دل القول على النهى عما فيه إرضاؤهم ـ وإن كان فى الأصل معصوما عنه ـ وبالله التوفيق.

وفى إزالة الأمر والنهى إزالة فائدة العصمة ؛ لأن العصمة : هى أن يعصم فى الأمر حتى يؤديه ، وفى النهى ، حتى ينتهى عنه ، وبالله التوفيق.

وقوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).

قيل : إن دين الله ـ الذى اختاره أهل الإسلام ؛ بالأمر ، واتباع الآيات ، والحجج ـ هو الدين ، لا كما اختار أولئك بهوى أنفسهم ، واستقبال الآيات والحجج بالرد ، والإنكار ، والمعاندة.

ويحتمل : أن يكون الخطاب فى قوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)

__________________

(١) فى أ : مقصدا آخر.

والبيان لأصحابه ، ومن دخل فى دينه وصدقه ، لا هو. وذلك كثير فى القرآن ؛ يخاطب هو والمراد غيره.

وقوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

ظاهره : من ولى يتولى الدفاع عنك ، ولا نصير يمنعك من العذاب.

ويحتمل : ينصرك فتغلب به سلطان الله فيما يريد تعذيبك.

وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ).

قيل : الكتاب : أراد به التوراة أو الإنجيل.

وقيل : أراد به القرآن.

ومن حمله على التوراة والإنجيل قال : فيه إضمار واو كأنه قال : الذين آتيناهم الكتاب ، ويتلونه حق تلاوته ، أولئك يؤمنون به ، أى : إذا تلوا حق التلاوة ؛ فحينئذ يؤمنون به.

وقيل (١) : يتلونه حق تلاوته ، يعنى يعملون به حق عمله ، ولا يكتمون نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يحرفونه.

(أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).

وهم الذين أسلموا منهم.

وقيل (٢) : يتبعونه حق اتباعه. وهو واحد.

ومن حمله على القرآن ، فالذين يتلونه حق تلاوته أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٢٩)

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٩٤ ، ١٨٩٦ ، ١٨٩٩) ، وعن عطاء (١٩٠٢) ، والحسن (١٩٠٣) وقتادة (١٩٠٤). وانظر الدر المنثور (١ / ٢١٠).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٨٩٠) ، وعن عطاء (١٨٩١) وابن رزين (١٨٩٢ ، ١٨٩٣) وغيرهم. وانظر الدر المنثور (١ / ٢٠٩).

وقوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ).

قيل (١) : الابتلاء والامتحان فى الشاهد : استفادة علم خفى عليه من الممتحن والمبتلى به ، ليقع عنه علم ما كان ملتبسا عليه.

وفى الغائب لا يحتمل ذلك ؛ إذ الله ـ عزوجل ـ عالم فى الأزل بما كان ، وبما يكون فى أوقاته أبدا.

ثم يرجع الابتلاء منه إلى وجوه :

أحدها : أن يخرج مخرج الأمر بالشىء أو النهى عنه ، لكن الذى ذكر يظهر بالأمر والنهى ؛ فسمى ابتلاء من الله تعالى.

والثانى : ليكون ما قد علم الله أنه يوجد موجودا ، وليكون ما قد علم أنه سيكون كائنا.

وعلى هذا يخرج قوله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) [محمد : ٣١] ، حتى نعلمه موجودا ، كما علم أنه يوجد ؛ كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الأنعام : ٧٣ ، التوبة : ٩٤ ، ١٠٥ ، الرعد : ٩ ، المؤمنون : ٩٢ ، السجدة : ٦] ، علم الغيب ، علم أنه موجد. وعلم الشهادة ، علم به موجودا ، حتى يوجد الذى علم أنه يجاهد منهم ـ مجاهدا ، و [الذى] يصبر منهم صابرا.

ثم اختلف فى الكلمات التى ابتلاه بها :

فقال بعضهم (٢) : الكلمات : هى التى ذكرت فى سورة الأنعام ، وهو قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) [الأنعام : ٧٦] ، ورأى القمر بازغا ، ورأى الشمس بازغة ، هى الحجج التى أقامها على قومه بقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣].

وقيل (٣) : ابتلاه بعشر ففعلهن : خمسة فى الرأس ، وخمسة فى الجسد.

لكن فى هذا ليس كبير حكمة ؛ إذ يفعل هذا كل واحد ، ولكنّ الحكمة فيه هى :

ما قيل : إن ابتلاءه بالنار ، حيث ألقى فيها ، فصبر ، حتى قال له جبريل : «أتستعين بى؟ قال : أمّا منك فلا» (٤).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١١١).

(٢) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (١٩٣٥ ، ١٩٣٦ ، ١٩٣٧ ، ١٩٣٨). وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٢).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (١٩١٢ ، ١٩١٣) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢١٠).

(٤) قاله معتمر بن سليمان عن بعض أصحابه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٦٦٣).

وابتلى بإسكان ذريته الوادى ، الذى لا ماء فيه ، ولا زرع ، ولا غرس.

وابتلى بالهجرة من عندهم ، وتركهم هنالك ـ وهم صغار ـ ولا ماء معهم ، ولا زرع ، ولا غرس.

وابتلى بالهجرة إلى الشام.

وابتلى بذبح ولده.

ابتلى بأشياء لم يبتل أحد من الأنبياء بمثله ، فصبر على ذلك.

ففى مثل هذا يكون وجه الحكمة.

وفيه لغة أخرى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ) بالرفع (رَبُّهُ) بنصب الباء (١).

ومعناه ـ والله أعلم ـ : أنه سأل ربه بكلمات فأعطاهن. وهو تأويل مقاتل. وهو أن قال : اجعلنى للناس إماما. قال : نعم. قال : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ، قال : نعم قال : (وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ، قال : نعم. قال : و (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً).

قال : نعم. قال : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قال : نعم.

مثل هذا : سأل ربه هذا فأعطاهن إياه.

وقوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).

يحتمل : جعله رسولا يقتدى به ؛ لأن أهل الأديان ـ مع اختلافهم ـ يدينون به ، ويقرون نبوته.

ويحتمل : إماما من الإمامة والخلافة.

وقوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

فإن قيل : كيف كان قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) جوابا لقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وكانت الرسالة فى ذريته ؛ كقوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف : ٢٨]؟

يحتمل قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) : أحب أن تكون الرسالة تدوم فى ذريته أبدا ؛ حتى لا تكون بين الرسل فترات ؛ فأخبر أن فى ذريته من هو ظالم ، فلا ينال الظالم عهده.

ويحتمل : أن يكون سؤاله جعل الرسالة فى أولاد إسماعيل ؛ لأن العرب من أولاد إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ فأخبر أن فى أولاده من هو ظالم ؛ فلا يناله.

والعهد : ما ذكرنا ، هو الرسالة والوحى.

__________________

(١) ينظر : اللباب فى علوم الكتاب (٢ / ٤٤٥).

وقال الحسن (١) : لا ينال الظالم فى الآخرة العهد.

ويحتمل : أن يكون المراد من ذلك : وذريتى ، فأخبر أن فيهم من لا يصلح لذلك.

ويحتمل : أن يريد به الإمامة لا النبوة ، وقد كانت هى فى نسل كل الفرق ، والنبوة كانت فيهم.

ويحتمل : أن يكون قصد خصوصا من ذريته ، ممن علم الله أن فيهم من لا يصلح لذلك.

ولا يحتمل : أن يريد به الإمامة لا النبوة وقد ذكر ، أو قال الإنسان : قيل له : إنه من ذريتك لكن لا ينال من ذكر ؛ ولهذا خص بالدعاء من آمن منهم دون من كفر.

وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ).

قيل (٢) : المثابة. المجمع.

وقيل (٣) : المثابة : المرجع ، يثوبون : يرجعون.

وقيل (٤) : يحجون.

وقوله : (مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً).

هو فعل العباد ؛ لأنهم يأمنون ويثوبون.

أخبر أنه جعل ذلك ؛ ففيه دلالة خلق أفعال العباد (٥).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٩٥٩ ، ١٩٦٠) وعن إبراهيم (١٩٦١).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (١٩٧٧) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٢).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٩٦٩) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٢) ، والدر المنثور (١ / ٢٢٢).

(٤) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (١٩٧٤ ، ١٩٧٥) وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٢) ، والدر المنثور (١ / ٢٢٢).

(٥) وهى مسألة معروفة بخلق أفعال العباد ، ومسألة الجبر والاختيار من المسائل التى نوقشت بشدة بين مفكرى الإسلام الذين انقسموا فيها إلى فرق شتى ، واختلفوا تبعا لفهم كل منهم لها ، فمن قائل بالجبر ، وقائل بالحرية التامة ، ووسط هذه المعارك نجد من يحاول جمع الفرق المتنازعة على كلمة سواء ويمكن أن نرد الخلاف حول المسألة إلى أربعة مذاهب :

الأول : مذهب المعتزلة : وهو أن العبد فاعل ومحدث لأفعاله الاختيارية ، فأفعال العباد من حركات وسكنات واقعة من جهتهم بإقدار الله لهم على هذه الأحداث ، وعلى ذلك فإن من قال : إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله ، فقد أخطأ ، فقدرة الله لا تتعلق بأفعال العباد من حيث الإيجاد والنفى.

أدلتهم استدل المعتزلة من العقل فقالوا : «لو كان الله تعالى هو الخالق لأفعال العباد لوجب كونهم مضطرين إليها ، وألا يكون بين ما يكتسبه العبد وما يضطر إليه فرق. وفى علمنا بالفرق بينهما دلالة على فساد كل قول يسقط الفرق الذى علمناه». ـ

__________________

ـ وكذا قالوا : «لو كان الله تعالى هو الخالق لفعل العباد لما استحقوا الذم على القبيح والمدح على الحسن ، وذلك لأن المدح والذم على فعل الغير لا يصح ، ولا فرق بين من اعتقد حسن ذلك وبين من اعتقد ذم الجماد والأعراض ومدحها لما يقع منه تعالى من الأفعال».

واستدلوا من القرآن بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ...) [الملك : ٣] ووجه استدلالهم من الآية أنها تنفى التفاوت عن خلقه سبحانه ، وهذا من أكبر الأدلة على أنه سبحانه لم يخلق أفعال العباد لما فيها من تفاوت كبير.

الثاني : مذهب الجبرية : وهو نفى القدرة والاستطاعة عن الإنسان فى سائر أعماله ، وأن الأفعال مخلوقة لله تعالى فينا لا تعلق لنا بها أصلا ، لا اكتسابا ولا إحداثا وإنما نحن كالظرف لها.

وكأن مذهب الجبرية يأتى فى مقابل مذهب المعتزلة ، فهما على النقيض.

الثالث : مذهب الأشاعرة : ويرى الأشاعرة أن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى وحدها وليس للعبد فيها أدنى تأثير ، فهى مخلوقة لله من حيث الإبداع والإحداث وللعبد فيها الكسب.

ويفسرون حدوث الأفعال من العبد بأن الله سبحانه وتعالى قد أجرى عادته بأن يوجد فى العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يوجد مانع أوجد فعله المقدور مقرونا بهذه القدرة والاختيار وهم هنا يثبتون للعبد فى أفعاله الكسب ، ومعناه كما يقول الإمام أبو الحسن الأشعرى : «الفعل القائم بمحل قدرة العبد».

فالأشعرى يرى أن الإنسان يقدره الله على إحداث الفعل عند مباشرته ، فيقع الفعل عند هذه القدرة لا بها. ومن هنا يرى أنه ليس لهذه القدرة تأثير فى إيجاد الفعل.

ويختلف بعض الأشاعرة مع الأشعرى فى مفهوم الكسب فذهب الباقلانى : إلى أن أفعال العباد من حيث هى أفعال واقعة بقدرة الله ، ومن حيث هى صفات واقعه بقدرة العباد ، فمثلا : الصلاة من حيث هى فعل واقعة بقدرة الله ، ومن حيث تخصيصها واقعة بقدرة العبد.

وعلى ذلك فالباقلانى يتفق مع الأشعرى فى أن الفعل واقع بقدرة الله من حيث هو فعل ويختلف معه فى القول بأنه واقع بقدرة العبد من حيث هو صفة.

وذهب الجوينى : إلى القول بأن لقدرة العبد تأثيرا فى وجود المقدور ، لكن ليس باستقلال ، بل إن هذه القدرة تستند إلى سبب ، وهذا السبب يستند إلى سبب ، وهكذا حتى ينتهى الأمر إلى مسبب الأسباب.

فهو يختلف عن إمام المذهب ، حيث جعل لقدرة العبد أثرا فى إحداث الفعل.

وذهب الأسفرائيني : إلى أن فعل العبد واقع بقدرة الله وقدرة العبد معا.

ومع هذا الاختلاف بين الأشاعرة فإنه يبقى اتفاقهم على أن الفعل واقع بقدرة الله وللعبد فيه الكسب.

والأشاعرة بهذا يقفون موقفا وسطا بين المعتزلة والجبرية.

أدلتهم : ساق الأشاعرة الكثير من الأدلة النقلية والعقلية :

أولا : الأدلة النقلية :

استدلوا من النقل بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية :

فمن القرآن الكريم :

ـ قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢].

ووجه استدلالهم من الآية أنها تدل على أن الله ـ تعالى ـ خالق كل شىء ، ولما كانت أفعال العباد أشياء فوجب كونه خالقا لها. ـ

__________________

ـ قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦].

ووجه الدلالة : أن الله ـ تعالى ـ خلق العباد وخلق الأشياء التى يصنعونها فخلقه شامل للعبد وما يكتسبه.

ومن الأحاديث النبوية :

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خالق كل صانع وصنعته».

ووجه الدلالة ، أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شىء ، فهو الخالق للإنسان وما يفعل.

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فى دعائه «يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك» فقيل يا رسول الله أتخاف علينا وقد آمنا بك وبما حدثت به فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها هكذا وأشار إلى السبابة والوسطى يحركهما».

ووجه الدلالة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرجع أمر الهداية والإضلال إلى الله ، فمعنى هذا أن ما يفعله العبد يكون بتقدير الله ، فدل ذلك على أن أفعال العبد مخلوقة لله.

ثانيا : الأدلة العقلية :

قالوا «إن فعل العبد ممكن ، وكل ممكن مقدور لله تعالى ، لشمول قدرة الله تعالى لجميع الكائنات الممكنات ، ففعل العبد مقدور لله تعالى فلو كان مقدورا للعبد أيضا على وجه التأثير للزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد وهو ممتنع».

وقالوا كذلك «خالق الشىء لا بد أن يكون قادرا على إعادته مع علمنا بأن الواحد منا لا يقدر على كسبه وهذا دليل على أن ابتداء وجود كسبه كان بقدرة غير قدرته وهى قدرة الله تعالى».

وقالوا أيضا : «إن الأمة مجمعة على صحة تضرع العبد إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان والطاعة ويجنبه الكفر والمعصية ، ولو لا أن الكل بخلق الله تعالى لما صح ذلك ، إذ لا وجه لحمله على سؤال الإقدار والتمكين لأنه حاصل ، أو التقرير والتثبيت لأنه عائد إلى الحصول فى الزمان الثانى وذلك عندهم بقدرة العبد».

الرابع : مذهب الماتريدية :

اتفق الماتريدية مع الأشاعرة فى القول بأن أفعال العباد واقعة بقدرة الله تعالى ولهم فيها الكسب ، إلا أنهم اختلفوا مع الأشاعرة فى معنى الكسب.

فالماتريدية ذهبوا إلى «إثبات أن للعبد قدرة وإرادة لها أثر فى الفعل ، لكن لا أثر لها فى الإيجاد والإحداث وإنما أثرها ينصب على وصف الفعل بكونه طاعة أو معصية ، فهذه القدرة متمثلة فى القصد والاختيار للفعل ، وعلى أساس هذا القصد وذاك الاختيار يخلق الله للعبد القدرة على الفعل ، وعليه تكون نتيجة الفعل».

فالماتريدية يرون أن للعبد اختيارا فى أفعاله والتى يترتب عليها المدح والذم فى العاجلة والثواب والعقاب فى الآجلة ، ولم يمنعوا أن تضاف الأفعال إلى الله تعالى ؛ لأنه هو الذى وصف نفسه بهذه الصفة على الحقيقة وما عداه مخلوق.

أدلة الماتريدية : استدل الماتريدية على صحة مذهبهم بأدلة نقلية وعقلية :

أولا : الأدلة النقلية :

استدل الماتريدية من النقل بالكتاب والسنة :

ـ فمن الكتاب قوله ـ تعالى ـ : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠].

ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [الحج : ٧٧].

ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) [الملك : ١٣]. ـ

ثم بين فيه ـ عزوجل ـ شدة اشتياق الناس إليها ، وتمنيهم الحضور بها ، مع احتمال الشدائد والمشقة ، وتحمل المؤن ، مع بعد المسافة والخطرات ؛ فدل أن الله تعالى ـ بلطفه وكرمه ـ حبب ذلك إلى قلوب الخلق ، وأنه جعل من آيات الربوبية والوحدانية ، وتدبير سماوى ، لا من تدبير البشرية.

وفيه دلالة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ أخبر عما قد كان ؛ فثبت أنه أخبر عن الله عزوجل.

وقوله : (وَأَمْناً) لمن دخله من عذاب الآخرة.

وقيل : (وَأَمْناً) لكل مجترم (١) آوى به ، وآوى إليه من القتل ، وغيره ؛ كقوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] عن كل ما ارتكب.

وأما عندنا : فإنه إن قتل قتيلا ، ثم التجأ إليه ، فإنه لا يقتل ما دام فيه ؛ لأنه لا يقتل للكفر (٢) هنالك.

__________________

ـ ووجه الدلالة من الآيات أنها تدل على أن أفعال العباد واقعة بقدرة حادثة منها ، وهذه القدرة يخلقها الله تعالى مقارنة للفعل لا سابقة عليه ولا متأخرة عنه.

ثانيا : الأدلة العقلية :

استدل الماتريدية من المعقول ، فقالوا : «إن كل واحد منا يعرف بطريق الضرورة الفرق بين ما هو فيه مختار وله فيه عمل ، وبين ما هو فيه مضطر ، فمن سوى بين الأمرين كالمجبرة فإن بطلان قوله لا يحتاج إلى برهان».

وقالوا : «إن العبد يقدر بإقدار الله له فلا يمكن أن يقدر بإقدار من ليست له القدرة عليه كما لا يجوز أن يعلم بإعلام من لا علم له به ، ومعلوم أن فاقد الشىء لا يعطيه فلا يمكن لأحد أن يقدر غيره على شىء لم يقدر هو عليه.

وقد ثبتت قدرة الله عليه وعلى ما يقدره الله عليه ، فمحال وجود الفعل بغير قدرته مما يدل على أنه تعالى خالق ذلك الفعل ولا خالق سواه.

وخلاصة القول فى المسألة أن العبد مسير ومخير ، مسير فى الأمور الخارجة عن قدرته ، ومخير فيما هو واقع تحت قدرته.

وأن العبد فى الأفعال الاختيارية الواقعة تحت قدرته يوقع الأفعال بإرادة الله ومشيئته ، وأن إرادة الله ومشيئته لا تعنى الإجبار ، بل تعنى أن فعل العبد لا يتأخر وقوعه ولا يتقدم عن تقدير الله له.

ويعضد هذا القول منهج القرآن الكريم فى هذه المسألة ، فهو تارة ينسب الأفعال تحت قدرة العبد ، فيقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] ويقول : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] وتارة يجعل أفعال العباد خاضعة لمشيئة الله وإرادته ، فيقول ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] ولا تنافى بين الأمرين. والله أعلم. ينظر : المغنى للقاضى عبد الجبار (٨ / ١٩٣) ، الأصول الخمسة ص (٣٣٤) ، والملل والنحل (١١٤) ، والفرق بين الفرق (٢١١).

(١) فى أ : مجرم.

(٢) فى أ : لكفر.

فعلى ذلك القصاص ؛ لقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١] ، وما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ مكّة حرام بتحريم الله إيّاها يوم خلق السّماوات والأرض ، لم تحلّ لأحد قبلى ولا تحلّ لأحد بعدى. وإنّما أحلّت لى ساعة من نهار. لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها» (١).

وما روى عن ابن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «لو ظفرت بقاتل عمر فى الحرم ما قتلته» وإذا قتل فى الحرم يقتل به هنالك (٢).

والوجه فيه : أن إقامة مثله عليه فيما يرتكبه فى الحرم أحق ؛ إذ هى كفارة ؛ لينزجر عما ارتكب ، وأحق ما يقع فيه الزجر بمثله ، ما هو فيه من المكان.

وإذا قتل فى غير الحرم ، ثم التجأ إلى الحرم ـ قال أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ لا يخرج من الحرم.

وأبو يوسف (٣) ـ رحمه‌الله ـ جعل ذلك للسلطان ، ذهب إلى أنه قال : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ

__________________

(١) أخرجه البخارى (٤ / ٤٦ ـ ٤٧) كتاب : جزاء الصيد ، باب : لا يحل القتال بمكة ، حديث (١٨٣٤) ، ومسلم (٢ / ٩٨٦ ، ٩٨٧) كتاب : الحج ، باب : تحريم مكة وصيدها ، وحلالها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام ، حديث (٤٤٥ / ١٣٥٣).

وأبو داود (٢ / ٦) كتاب : الجهاد ، باب : فى الهجرة هل انقطعت ، حديث (٢٤٨٠) ، والنسائى (٧ / ١٤٦) كتاب : الجهاد ، باب : ذكر الاختلاف فى انقطاع الهجرة ، والترمذى (٤ / ١٢٦) كتاب : السير ، باب : ما جاء فى الهجرة ، حديث (١٥٩٠) ، والدارمى (٢ / ٢٣٩) كتاب : السير ، باب : لا هجرة بعد الفتح ، وعبد الرزاق (٥ / ٣٠٩) رقم (٩٧١٣) ، وابن الجارود (١٠٣٠) ، وابن حبان (٤٨٤٥ ـ الإحسان) ، والبيهقى (٥ / ١٩٥) ، والطبرانى فى الكبير رقم (١٠٩٤٤) ، والبغوى فى (شرح السنة) (٥ / ٥٢٠) من طريق منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح ـ فتح مكة ـ : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى ، ولم يحل إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها» فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال : «إلا الإذخر» ، وهذا لفظ البخارى.

(٢) كما أنه لا خلاف بين الفقهاء فى أن من دخل الحرم مقاتلا وبدأ القتال فيه ، يقاتل ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١].

ينظر : تفسير القرطبى (٧ / ١٠٤) ، ابن عابدين (٢ / ٢٥٦) ، والبدائع (٧ / ١١٤) ، جواهر الإكليل (١ / ٢٠٧).

(٣) هو : يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصارى الكوفى البغدادى صاحب أبى حنيفة وتلميذه وأول من نشر مذهبه ولد بالكوفة سنة ١١٣ ه‍ ونشأ فى طلب العلم سمع هشام بن عروة وأبا إسحاق الشيبانى وعطاء بن السائب ، وأخذ عنه محمد بن الحسن الفقيه وأحمد بن حنبل وبشر بن الوليد وغيرهم ، وولى القضاء ببغداد ، وكان أول من دعى قاضى القضاة. من تصانيفه : كتاب الخراج والآثار وغيره ، ومات ببغداد سنة ١٨٢ ه‍. ينظر : طبقات الفقهاء للشيرازى ص ١١٣ ، والبداية والنهاية (١٠ / ١٨٠) ـ

حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ، كما قال : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ، فأوجب الإخراج ، من حيث أخرج ، كما أوجب القتل من حيث قتل.

[و] قيل : لم يخرج من الحرم إذا لم يخرج منه ، كما لم يقتل فى الحرم إذا لم يقتل فيه.

أو نقول بالإخراج للقتل ، قصد ما لم يسغ فعله فيه كان كالصيد يخرج ، يلزم فيه ما يجب بالقتل ؛ فمثله فى موضع الحظر.

وبعد فإنه لو أخرج لم يأمن بالحرم ، بل زيد فى عقوبته ؛ إذ الإخراج عقوبة ، فقد زيد عليه ، مع ما لم يجز فى الكفار ـ الذين نهوا عن قتلهم ـ إخراجهم للقتل ، كذلك القاتل.

وذهب الآخر : إلى أنه يخرج ؛ لإقامة الحد عند أبى حنيفة ـ رحمه‌الله ـ وإن لم يرتكب فيه.

وإخراج المرتكب له ، أقل فى الحكم من إقامته عليه. غير أنه غلط ؛ لأنّ إخراجه للقتل يرفع من الحد ؛ لأنه يصل إلى قتله ، ولما فى القتل عقوبة واحدة ، وفى الإخراج عقوبتان. ثم لم يلزمه العقوبة الواحدة ـ وهى القتل ـ إذا لم يقتل فيه كان من ألا يلزمه العقوبتان أحق.

وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

اختلف فى (مَقامِ إِبْراهِيمَ) :

منهم (١) من جعل الحرم كله مقامه ـ يصلى إليه ـ لمقامه هنالك بأولاده.

ومنهم (٢) من جعل المسجد مقامه ؛ لأنه كان مكان عبادته فهو المصلى.

ومنهم (٣) من جعل ما ظهر من مقامه ـ وهو موضع ركوبه ونزوله ـ لما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه لما قدم مكة قام إلى الركن اليمانى ، فقال عمر : «يا رسول الله! ألا تتخذ مقام إبراهيم مصلى؟!» فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٤).

وعندنا : القبلة البيت ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤ ،

__________________

ـ والنجوم الزاهرة (٢ / ١٠٧) ، وتاريخ الخميس (٢ / ٣٧١) والفوائد البهية فى تراجم الحنفية ص (٩٤) ، ومفتاح السعادة (٢ / ٢٣٤) ، وتاريخ الأدب العربى (٣ / ٢٤٥) ، والأعلام للزركلى (٩ / ٢٥٢).

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٠٠) ، وأخرجه عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن ابن عباس كما فى الدر المنثور (١ / ٢٢٣).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٠٢) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٢).

(٣) قاله أبو جعفر ، أخرجه ابن جرير عنه بنحوه (١٩٩٠).

وأخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير كما فى الدر المنثور (١ / ٢٢٤).

(٤) أخرجه البخارى (٩ / ٢٠) كتاب التفسير ، باب قوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (٤٤٨٣) ، ـ

١٥٠] ، وقوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة : ٩٧] أى : مقاما لقيام العبادات.

وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ).

فيه الأمر ببنائه.

وقوله : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ).

يحتمل التطهير لوجهين :

أحدهما : عن الأصنام والأوثان التى كانت هنالك ، وعبادة غير الله والأنجاس.

ويحتمل : التطهير عن كل أنواع الأقذار ، وعن كل أنواع المكاسب ، على ما روى فى جملة المساجد.

وقوله : (لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

قيل (١) : الطائف : هو القادم ؛ سمى طائفا لدخوله بطوافه.

وقيل : الاستحباب الطواف ؛ لذلك قال أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ الطواف للقادم أفضل من الصلاة (٢). والصلاة للمقيم أفضل.

__________________

ـ وأحمد (١ / ٢٣ ، ٢٤ ، ٣٦) ، والترمذى (٥ / ٧٤) ، كتاب التفسير ، باب (ومن سورة البقرة) (٢٩٦٠) ، وابن ماجه (٢ / ٢٣٩) ، كتاب إقامة الصلاة ، باب القبلة (١٠٠٩) والنسائى فى الكبرى (٦ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠) ، كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

(١) قاله سعيد بن جبير بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠١٩) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٤).

(٢) ويسمى طواف القادم : طواف الورود ، وطواف الوارد ، وطواف التحية ؛ لأنه شرع للقادم والوارد من غير مكة لتحية البيت. ويسمى أيضا : طواف اللقاء ، وأول عهده بالبيت ، وطواف القدوم سنة للآفاقى القادم من خارج مكة عند الحنفية والشافعية والحنابلة ، تحية للبيت العتيق ؛ لذلك يستحب البدء به دون تأخير ، وسوى الشافعية بين داخلى مكة المحرم منهم وغير المحرم فى سنية طواف القدوم. وذهب المالكية إلى أنه واجب ، من تركه لزمه الدم. ووجوب طواف القدوم عند المالكية على كل من أحرم من الحل ، سواء كان من أهل مكة أو غيرها ، وسواء كان إحرامه من الحل واجبا كالآفاقى القادم محرما بالحج ، أم ندبا كالمقيم بمكة الذى معه نفس متسع من الوقت وخرج من الحرم فأحرم من الحل ، وسواء كان أحرم بالحج مفردا أم قارنا ، وكذا المحرم من الحرم إن كان يجب عليه الإحرام من الحل ، بأن جاوز الميقات حلالا مخالفا للنهى. وهو واجب على هؤلاء ما لم يكن أحدهم مراهقا ، وهو من ضاق وقته حتى خشى فوات الوقوف بعرفات. والأصل فيه فعل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت فى أول حديث جابر قوله : «حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا» ، وعن عائشة ـ رضى الله عنها ـ : «إن أول شىء بدأ به حين قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة أنه توضأ ثم طاف ...» الحديث. فاستدل المالكية بذلك على الوجوب بقوله : «خذوا عنى مناسككم». وقال الجمهور : إن القرينة قامت على أنه غير واجب ؛ لأن المقصود به التحية ، فأشبه تحية المسجد ، فيكون سنة.

ينظر : المسلك المتقسط فى المنسك المتوسط ص (٥١ ـ ٥٢)

والعاكف : المقيم.

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) منهما جميعا.

وقيل (١) : العاكفون : المجاورون ؛ يعنى : من أهل مكة والقادمين إليها.

وقوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً).

قد ذكرنا الوجه فى قوله : (آمِناً).

وقوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

لما علم أن المكان ليس بمكان ثمر ولا عشب دعا ، وسأل ربه : أن يرزق أهله عطفا على أهله ، وعلى كل من ينتاب إليه من الآفاق.

ثم خص المؤمنين بذلك ؛ لوجوه :

أحدها : أنه لما أمرهما بتطهير البيت عن الأصنام والأوثان ظن أنه لا يجعل لسوى أهل الإيمان هنالك مقاما ؛ فخص لهم بالدعاء ، وسؤال الرزق.

والثانى : أنه أراد أن يجعل آية من آيات الله ؛ ليرغّب الكفار إلى دين الله ، فيصيروا أمة واحدة ؛ فكان كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ...) الآية [الزخرف : ٣٣].

ووجه آخر قيل : لما كان قيل له : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فلعله (٢) خشى أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهم على ما فيه العصيان.

وفى ذلك : أن لا بأس ببيع الطعام من الكفرة. ولا يصير ذلك كالمعونة على ما هم عليه.

ويحتمل الدعاء المبهم للكفرة : القبح ؛ إذ ذلك اسم من يعبد غير الله.

وقوله : (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً).

بالنعم ؛ لأن الدنيا دار محنة ، لا توجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق ، ولا إلى الولى من العدو فى الدنيا.

وأما الآخرة فهى دار جزاء ، ليست بدار محنة ؛ فيوجب النظر إلى المستحق للنعم من غير المستحق.

ومعنى قوله : (قَلِيلاً) لأن الدنيا كلها قليل.

ثم الامتحان على وجهين : امتحان بالنعم ، وامتحان بالشدائد.

__________________

(١) قاله مجاهد وعكرمة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٠٢٢) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٤).

(٢) فى ط : فعله.

وقد قرئ (١) : «فأمتعه» على معنى دعاء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ «ومن كفر فأمتعه» بالجزم.

فإن قيل : لم لا كان تفاضل الامتحان بتفاضل النعم.

وإنما يعقل فضل الامتحان بفضل العقل ، ويعلم أن المؤمن هو المفضّل بالعقل.

كيف لا وقع فضل ما به يمتحن ـ وهو النعم ـ لأن العقل الذى به يدرك الحق واحد ، لا تفاضل فيه لأحد.

ثم العقل الذى به يمتحن واحد ؛ فهما متساويان ـ فيما به درك الحق ـ إلا أن أحدهما يدركه فيتبعه ، والآخر يدركه فيعانده. فهو ـ من حيث معرفته ـ ذو عقل ، أعرض عنه ؛ فيسمى معاندا ، إذ من لا عقل له يسمى مجنونا.

وقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ).

ذكر الاضطرار ، وهو كقوله : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) [الدخان : ٤٧] وهو السوق ، وكقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) [مريم : ٨٦] إنهم يساقون إليها ، ويدعّون ، لا أنهم يأتونها طوعا واختيارا.

وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

أى : بئس ما صاروا إليه.

وقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا).

أمرا برفع البيت وببنائه ؛ ففعلا ، ثم سألا ربهما : أن يتقبل منهما. فهكذا الواجب على كل مأمور بعبادة ، أو قربة ـ إذا فرغ منها ، وأداها ـ أن يتضرع إلى الله ، ويبتهل ؛ ليقبل منه ، وألا يرد عليه ؛ ليضيع سعيه.

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائهم. (الْعَلِيمُ) بما نووا وأضمروا.

وقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ).

والإسلام قد ذكرنا فيما تقدم أنه يتوجه إلى وجوه :

أحدها : هو الخضوع له والتذلل.

والثانى : هو الإخلاص.

ثم اختلف أهل الكلام فى الإسلام :

فقال بعضهم : إنه يتجدد فى كل وقت ؛ لذلك سألوا ذلك ، وهو كقوله ـ تعالى ـ

__________________

(١) ينظر : اللباب (٢ / ٤٥٧) ، والسبعة (١٧٠) ، وإتحاف الفضلاء (١ / ٤١٧) ، والعنوان (٧١) ، وشرح الطيبة (٤ / ٦٨).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦] معناه : آمنوا بالله فى حادث الوقت ؛ لأنه تارك فعل الكفر فى كل وقت ؛ فبترك الكفر يتجدد له الإيمان.

وعلى ذلك : يخرج تأويلنا فى الزيادة بقولهم : زادتهم إيمانا يتجدد له ، ويزداد فى حادث الوقت.

وقال آخرون : كان سؤالهم الإسلام سؤال الثبات عليه والدوام.

وقد ذكرنا أن العصمة لا ترفع خوف الزوال.

ومثل هذا : الدعاء والسؤال ـ على قول المعتزلة ـ يكون عبثا ؛ لأنه لا يملك إعطاء ما سألوا عندهم ، بل هم الذين يملكون ذلك ، فيخرج السؤال فى هذا ـ عندهم ـ مخرج اللعب والعبث ، فنعوذ بالله من السرف فى القول والزيغ عن الهدى.

ثم الإيمان : هو التصديق والتصديق بالقلب يتجدد فى كل وقت ، فلا وقت يخلو القلب عنه فى حال سكون ، أو حال حركة ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).

يحتمل : أن الأمة المسلمة هى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك : أنّه لم يكن من أولاد إسماعيل رسول سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألا : أن يجعل من ذريتهما رسولا ، وأمة مسلمة ، خالصة له.

وإنما الرسل كانوا من أولاد إسحاق ومن نسله ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا).

وقيل فى قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) : يريد الإراءة إلى يوم القيامة ، يدل عليه قراءة عبد الله : «وأرهم مناسكهم» ، وفى قراءة غيره (١) على ضم الرؤية إلى نفسه.

والمنسك : هو القربة. وأفعال الحج سميت (٢) مناسكا.

ثم لا يحتمل : أن يسألا ذلك ، من غير أمر سبق منه ـ عزوجل ـ بذلك ؛ لأنه ليس من الحكمة سؤال : إيجاب فضل عبادة ، أو قربة بغير أمر ؛ فدل أنه قد سبق منه بذلك أمر ، لكنه لم يبين لهما ، فسألا : تعليم ماهيتها وكيفيتها ، فعلمهما جبريل ذلك.

ففيه : دلالة تأخير البيان عن (٣) وقت قرع السمع الخطاب ؛ ألا ترى أنه أمر بالنداء للحج ولم يعلم.

والثانى : أن آدم والملائكة قد كانوا حجوا هذا البيت قبل إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فدل

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط (١ / ٣٩٠) ، والكشاف (١ / ٩٤) ، ومعانى القرآن للفراء (١ / ٧٩).

(٢) فى ط : سمى.

(٣) فى ط : من.

أن الأمر به قد سبق.

والثالث : قوله ـ فى نفس الحج ـ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧].

ثم لا يحتمل : لزوم الكلفة بالخروج قبل وجوب الحج ؛ لما لم يأمر بفعل ما له إيجاب الحقوق والفرائض.

لكنها أوجبت شكرا لما أنعم عليه ؛ فدل أن الحج كان واجبا قبل الخروج ، وقد تأخر الإمكان ؛ فمثله البيان ، والله أعلم.

واحتج بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ ، النساء : ٧٧ ، ١٠٣] : أن ظاهره يوجب خضوعا ، لزم به ما أداه السمع على تأخر ما بينه (١) ، وكذلك الزكاة ، وكذا ظاهر قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].

واحتج أيضا بقول القائل وسؤاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أوقات الصلاة ففعله فى يومين ، وقد كان يمكنه تعليمه وقت السؤال ، لكنه أخر ؛ فدل أن البيان يجوز تأخره عن وقت قرع الخطاب السمع.

ثم فى تأخير البيان محنة المخاطب به ، أمر فى تعلم العلم وطلب مراد ما تضمن الخطاب ، والله أعلم.

وذكر فى أمر الحج ـ عند كل نسك من المناسك ـ معانى لها ، لكنها ذكرت لأحوال كانت فى شأن آدم وأمر إبراهيم ، وأمر محمد ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد كان الحج قبلهم.

وقد ذكر فى أمر الرّمل (٢) أنه كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ؛ ليعلم به قوتهم ؛ حتى

__________________

(١) فى أ : ماهيته.

(٢) الرمل : هو إسراع المشى مع تقارب الخطا وهز الكتفين من غير وثب. والرمل سنة فى كل طواف بعده سعى ، فعن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : «قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ، ولقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلى الحجر ، وأمرهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا وكذا». لكن الرمل ظل سنة فى الأشواط الثلاثة الأولى بتمامها ؛ فقد فعله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حجته ، وكانت بعد فتح مكة ودخول الناس فى دين الله أفواجا ، كما فى حديث جابر : «فرمل ثلاثا ومشى أربعا». وسار على ذلك الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم الرمل كالاضطباع سنة فى حق الرجال ، أما النساء فلا يسنّ لهن رمل ولا اضطباع. واستثنى الحنابلة من سنية الرمل أهل مكة ومن أحرم منها أيضا ، فلا يسن لهم الرمل عندهم.

ينظر : مختصر الخرقى بشرح المغنى (٣ / ٣٧٦) ، الفروع (٣ / ٤٩٩).

قال عمر ـ رضى الله عنه ـ : «علام أهز كتفى ، وليس أحد إزاءه؟! لكنى أتبع رسول الله ، عليه‌السلام» أو كما قال ، رحمه‌الله.

وقد ذكر ذلك فى قصة إبراهيم عليه‌السلام : أنه رمل ، ولم يكن فى وقته من كان الفعل لأجله ، وكذلك غيره من الأنبياء ، صلى الله عليهم وسلم.

إلا أنّا نقول : جعل الله كذلك ؛ لعلمه بالحاجة إلى ذلك فى وقت قد جعل ذلك نسكا ، فحفظ ذلك على حق النسك ، وإن لم يكن المعنى مقارنا له فى كل وقت ، على ما قيل : «إن صلة الرحم تزيد فى العمر» (١) ـ بمعنى جعل الله أجله ذلك بما علم أنه يصل الرحم ـ فيكون صرف العمر إلى تلك المدة لذلك.

وكما يكتب شقيّا أو سعيدا فى الأزل للوقت الذى فيه يكون كذلك ، ونحو ذلك ، والله الموفق.

ثم الأصل : أن الله ـ جل ثناؤه ـ جعل على عباده فى كل الأنواع التى يتقلب فيها البشر للمعاش ، أو لأنواع اللذات ؛ لتكون العبادة منهم فى كل نوع مقابل ما يختار صاحب ذلك شكرا لما مكن من مثله ، لما يتلذذ به ويتعيش ؛ إذ كل لذة ، وكل ما يتعيش به نعمة خصّ الله بها صاحبها ، بلا تقدّم سبب يستوجبها العبد ؛ فلزمه ـ فى الحكمة ـ الشكر لمن أسدى إليه تلك النعمة.

وعلى ذلك : نجد التقلب ـ من حال القيام ، إلى حال القعود ، والاضطجاع ـ أمرا عامّا فى البشر ، من أنواع اللذات ، فمثله يكون العبادة بذلك النوع عامة ، نحو الصلوات.

وعلى ذلك : معنى الرق ، والعبودة لازم لا يفارق ، فمثله الاعتراف به ، والاعتقاد دائم لا محالة لا يخلو منه وقت.

وعلى ذلك : أمر إعطاء النفس شهواتها ، من المطاعم ونحو ذلك ؛ لا يعم الأوقات عموم التقلب من حال إلى حال ؛ إذ لا يخلو عنها المرء وإن كانت مختلفة. فجعلت عبادة الصيام فى خاص الأوقات.

ثم لم يمتد ما بين الأوقات امتدادا متراخيا ، فعلى ذلك : جعل العفو عن الصيام ، لم يجعل كذلك ، بل فى سنة ، مع ما قد يدخل الصيام فى كثير من الأمور.

ثم للناس فى الأموال معاش ، وبها تلذذ :

لكن منها قوت لا بد منه ؛ فالارتفاق بمثله لازم ، لا يحتمل جعل القربة فيه ، سوى أن جعل ذلك لعينه قربة ؛ إذ فرض على المرء الاستمتاع به.

__________________

(١) تقدم.

ومنها فضل ، به جعلت قرب التصدق ؛ لأنه له بحق التلذذ ، لا بحق ما لا بد منه.

وكذلك نوع تقلب الأحوال فى النفس التى هى بحق الضرورة ، لم يجعل لمثل ذلك فضل قربة يؤديها سوى ما به حياته. وذلك يجعل بحكم الفرض عليه ولا ندبه.

وكذلك أمر الصيام : لم يجعل عما لا بد منه للقوة ، ولكن فضل قوة فى الاحتمال.

لكن الزكاة (١) هى من حقوق ما يجوز أن يكون هى لغير من عليه ، ففرض عليه البذل إلى غيره.

وحقوق الأفعال لا تحتمل أن يصير السبب الذى له به يجب أن يكون لغيره فيجب عليه ؛ فجعل فرض ذلك الفعل فى نفسه. وهى تجب للأحوال لوجهين :

أحدهما : أن فيها حقوقا شائعة ، على نحو النفقات ، فأخرت هى إلى الحول ؛ تخفيفا ، أو لما هى تجب فيما له حكم الفضل.

والفضل : ما يفضل عن الحاجة. والحاجات تتجدّد فى أوقات ـ لا أنها تتتابع ـ لا يظهر فى مثله الفضل إلا بمدة بينة أكثرها حول.

ثم فرض الحجّ جعل فى العمر مرة (٢) ؛ لأنه فى حق الأسفار المديدة ، التى لا يختار مثلها للذات إلا فى النوادر ، فلم يوجب مثله إلا خاصّا ؛ فأوجب فى جميع العمر مرة.

__________________

(١) فى أ : الزكوات.

(٢) الحج فرض عين على كل مكلف مستطيع فى العمر مرة ، وهو ركن من أركان الإسلام ، ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع :

ـ أما الكتاب : فقد قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧]. فهذه الآية نص فى إثبات الفرضية ، حيث عبر القرآن بصيغة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) وهى صيغة إلزام وإيجاب ، وذلك دليل الفرضية ، بل إننا نجد القرآن يؤكد تلك الفرضية تأكيدا قويا فى قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فإنه جعل مقابل الفرض الكفر ، فأشعر بهذا السياق أن ترك الحج ليس من شأن المسلم ، وإنما هو شأن غير المسلم.

ـ وأما السنة فمنها حديث ابن عمر عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بنى الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، والحج». وقد عبر بقوله : «بنى الإسلام ...» فدل على أن الحج ركن من أركان الإسلام. وأخرج مسلم عن أبى هريرة قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قلت نعم ، لوجبت ولما استطعتم ...». وقد وردت الأحاديث فى ذلك كثيرة جدا حتى بلغت مبلغ التواتر الذى يفيد اليقين والعلم القطعى اليقينى الجازم بثبوت هذه الفريضة.

ـ وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة على وجوب الحج فى العمر مرة على المستطيع ، وهو من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة ويكفر جاحدها.

ينظر : الشرح الكبير للدردير (٢ / ٢) ، مغنى المحتاج (١ / ٤٥٩) ، شرح منتهى الإرادات (١ / ٤٧٢).

وقد أوجب فى الأموال فى كل سنة (١) ؛ لأن أرباب الأموال قد يتقلبون فى البلاد النائية رغبة فى فضول اللذات ؛ فلذلك يجوز فرض مثل ذلك.

وعلى ذلك أمر الجهاد ـ على أن الجهاد كالذى لا بد من الأقوات ـ إذ فى ترك ذلك خوف غلبة الأعداء ، وفيها تلف الأبدان والأديان ، والأموال ففرض على قدر ما فرض من الأقوات ؛ لما بينت من الخلل ، ثم كانت أحوال أهل السفر تكون على غير المعروف من أحوال المقيمين ـ فى حق الرّزانة والوقار ، وحق الانبساط والنشاط ـ فعلى ذلك : فرائض الأمرين ـ نحو الجهاد ـ فيه أنواع : ما عدّ فى غيره من اللعب ، وكذلك أمر الحج. وعلى مثل هذا يخرج رمى الجمار والرمل والسعى ونحو ذلك.

فجعل ذلك فى حق الأسفار سنّة ، وإن كان مثل ذلك عدّ فى غير ذلك عبثا ؛ إذ قد بينا مخرج العبادات ، على ما عليه أحوال العباد بأنفسهم ، لو لا العبادات ، والله أعلم.

ثم جعل ذلك فى أمكنة متباعدة الأطراف ؛ إذ هو بحق أمر الأسفار يجب فى المعهود ؛ فجعل فى النسك ، بنفسه بالذى به يقطع الأسفار ، ولا قوة إلا بالله.

ووجه آخر : من المعتبرات : أن العبادات جعلت أنواعا :

منها ما يبلغ القيام بحقها العام فصاعدا ، وهذه لم يجز أن يجعل وقتها ينقص عن احتمال فعلها. ولا وقت من طريق الإشارة أجمع لمختلف الأحوال بعد سقوط اعتبار العمر من السنة.

ثم لأن فعل الحج قد يمتد ذلك ، ويجاوز ، لم يجعل ذلك وقتا له ، وإنما جعل العمر ، لما كان لا وقت يشار إليه إلا وجميع ما فيه مما يحتمله العام الآخر ، وما تقدمه وما تأخره ، ثم فى العمر أحوال ، لا تحتمل إضافتها إلى الأعوام ؛ لأن ما يضاف إلى عام

__________________

(١) وذلك بأن يتم على المال بيد صاحبه سنة كاملة قمرية ، فإن لم تتم فلا زكاة فيه ، إلا أن يكون بيده مال آخر بلغ نصابا قد انعقد حوله ، وكان المالان مما يضم أحدهما إلى الآخر ، فيرى بعض الفقهاء ، أن الثانى يزكى مع الأول عند تمام حول الأول ، ودليل اعتبار الحول قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا زكاة فى مال حتى يحول عليه الحول». ويستثنى من اشتراط الحول فى الأموال الزكوية : الخارج من الأرض من الغلال الزراعية ، والمعادن ، والركاز ، فتجب الزكاة فى هذين النوعين ولو لم يحل الحول ؛ لقوله تعالى فى الزروع : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) ، ولأنها نماء بنفسها فلم يشترط فيها الحول ، إذ إنها تعود بعد ذلك إلى النقص ، بخلاف ما يشترط فيه الحول فهو مرصد للنماء.

والحكمة فى أن ما أرصد للنماء اعتبر له الحول ؛ ليكون إخراج الزكاة من النماء لأنه أيسر ؛ لأن الزكاة إنما وجبت مواساة ، ولم يعتبر حقيقة النماء ؛ لأنه لا ضابطه له ، ولا بد من ضابط ، فاعتبر الحول.

ينظر : المغنى (٢ / ٦٢٥) ، الشرح الكبير للدردير (١ / ٤٥٦ ، ٤٥٧).

فذلك لكل عام. وليس ما يضاف إلى العمر موجودا بحق الأعوام. فجعل ذلك وقته ، والله أعلم.

ثم الزكاة (١) هى تجب للأموال ؛ صونا لها ؛ لكسب عدد ، وفضل غنى ، ولكن على ذلك تكتب لأحوال الحياة لا لما يخلف ؛ فلم يمتد أمرها إلى العمر ؛ على أنها جعلت حقّا للفقراء. ومتى أريد جعل الوقت له العمر يصير لغيره ، ويجب فيه ما يجب فى الأول ؛ فتبطل الزكاة ويبقى الفقراء بلا عيش ؛ إذ الله ـ بفضله ـ قدر أقوات الخلق ، ثم فضل الخلق فى الأملاك ، حتى كان بعضهم بحيث لا يملك شيئا ، وبعضهم يجاوز ما ينال أضعاف عمره.

ثبت أن ذلك له بما يقتضى به كفاية الفقراء ؛ فلا بد أن يجعل لذلك مدة يتوسع فى ذلك الفريقان جميعا.

ثم كانت الأقوات ـ التى هى مجهولة للخلق جميعا ـ تتجدد فى كل عام على ذلك ؛ إذ جعلت أقوات الفقراء فى أموال الأغنياء ، جعلت فى كل عام.

على أنه إذ جعلت أقوات الخلق فى بركات السماء والأرض ، جعلها الله متجددة بتجدد الأعوام ، ولا قوة إلا بالله.

والصلاة والصيام عبادتان تلزم قوى الأبدان ، فعلى ما يختلف قواهما ، اختلف فى الأمر بهما والترك ، وفى أنواع الرخص.

لكن الصلاة ليس فيها مكابدة الشهوات ، ولا مدافعة اللذات ؛ إذ لا سبيل إلى مثلها متتابعا لما يصير اللذة ألما ، والشهوة وجعا ؛ فيبطل حق التتابع ، وقدر المفروض من الصلوات لا يشتغل عما يقوم بها النفس.

والصيام يضاد ذلك ، ويضر فى البدن.

فجعل عبادة الصلوات فى كل يوم ، وعبادة الصيام فى أوقات متراخية ؛ إذ هى تضاد معنى المجعول له الأغذية بين إقامة الأبدان ، وفى الصيام خوف فنائها ؛ لذلك استعين بطول الاغتذاء على أوقات الصيام ، ولا قوة إلا بالله.

وإن شئت قلت : إن الله أنعم على البشر بما هو غذاء وقوام ، وبما هو لذة وشهوة ، ثم أنعم عليهم بما هو لهم به رفعة وجاه عند الخلق ـ وهى الأموال ـ فألزمهم فى كل نوع من هذه الأنواع عبادات.

__________________

(١) فى أ : الزكوات.

وعلى ذلك : وقع كل نوع منها لفوت النعمة ، التى هى المرغوبة المختارة فى الطبيعة ، وإلى ما يدوم تلك يدعو العقل ببذل ما ينقطع منه ، ثم جعلت قوى النفس بشهواتها ، ونعم الأموال بأنواع الكد والجهد.

فعلى ذلك : خفف حقوق الأموال ؛ فلم يجعل إلا فى الفضل الذى لا اختيار لهم ألا يبلغوا بالجهد ذلك ، ففى ذلك جعلت الحقوق على ما يحتمل الوسع لهم من الترتيب ، مع اليسر الذى أخبر الله أنه يريد بهم ذلك ، لا العسر ، والله أعلم.

وقوله : (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

دل سؤال التوبة أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ قد يكون منهم الزلات والعثرات ، على غير قصد منهم.

ثم فيه الدليل على أن العبد قد يسأل عن زلة لم يتعمدها ولم يقصدها ؛ لأنهم سألوا التوبة مجملا. ولو كان سبق منهم شىء علموا به وعرفوه لذكروه ؛ فدل سؤالهم التوبة مجملا على أن العبد مسئول عن زلات لم يتعمدها.

وقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ).

يحتمل وجوها :

يحتمل (رَسُولاً مِنْهُمْ) : من المسلمين ؛ لأنه أخبر أن عهده لا يناله الظالم.

ويحتمل (رَسُولاً مِنْهُمْ) : من جنسهم ، من البشر ؛ لأنه أقرب إلى المعرفة والصدق ممن كان من غير جنسهم ، كقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ...) الآية [الأنعام : ٩].

ويحتمل (رَسُولاً مِنْهُمْ) : أى من قومهم ، ومن جنسهم ، وبلسانهم ، لا من غيرهم ، ولا بغير لسانهم ـ والله أعلم ـ كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ) [التوبة : ١٢٨].

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ).

قيل : الآيات هى الحجج.

وقيل : الآيات هى الدين.

ويحتمل : يدعوهم إلى توحيدك ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ).

يعنى القرآن : ما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، ونحو ذلك.

وقوله : (وَالْحِكْمَةَ)

قيل (١) : الفقه ، يقول : يعلمهم الكتاب وما فيه من الفقه.

وقيل : الحكمة ما فيه من الأحكام من الحلال والحرام.

وقيل (٢) : الحكمة : هى السنة هاهنا.

وقيل : الحكمة : هى الإصابة. وبعض هذا قريب من بعض ، وبالله التوفيق.

وقال (٣) الحسن : الحكمة : هى القرآن ؛ أعاد القول به. يعنى تكرارا.

وقال ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : الحكمة : الفقه.

وقوله : (وَيُزَكِّيهِمْ).

قال ابن عباس (٤) ـ رضى الله عنه ـ : يأخذ زكاة أموالهم ـ فذلك يزكيهم ـ كقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣].

وقيل : يزكيهم إلى ما به زكاة أنفسهم.

وقيل : يزكيهم بعمل الصالح.

فإن قال لنا قائل ممن ينتحل مذهب الاعتزال : أليس الله ـ عزوجل ـ أضاف التزكية والهداية إلى رسوله ، ولم يكن منه ـ حقيقة ـ فعل التزكية والهداية ، ولا خلق ذلك منه ـ كيف لا قلتم أيضا ـ فيما أضاف ذلك إلى نفسه : أن ليس فيه منه خلق ذلك ، ولا حقيقة سوى الدعاء والبيان ، على ما لم يكن فى إضافة ذلك إلى رسوله سوى الدعاء والبيان؟!

قيل : كذلك على ما قلتم : أنه أضاف ذلك إلى رسوله بقوله : (وَتُزَكِّيهِمْ) [التوبة : ١٠٣] ، وبقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] ، وقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] ، غير أنه جعل إلى نفسه فضل هداية ، لم يجعل ذلك لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثبت زيادة تزكية ، لم يثبت ذلك لرسوله عليه‌السلام ؛ كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ، وكقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النور : ٢١].

فدل إضافة تلك الزيادة إلى نفسه على : أنّ له فضل فعل ، ليس ذلك لرسوله ، وهو خلق فعل الاهتداء ، وفعل التزكية ، وبالله التوفيق.

وبعد : فإن الرسول لا يحتمل أن يملك قدرة فعل أحد يقدره عليه لو أراده (٥) بما

__________________

(١) قاله مالك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٤). وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٠٨٣). وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٣) قال مجاهد : فهم القرآن ، كما فى تفسير البغوى (١ / ١١٦).

(٤) أخرجه ابن جرير بنحوه (٢٠٨٦) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٥) فى أ : أرادهم.

أقدرهم الله على الفعل ، حتى قدروا ؛ فجاز أن يكون له عليه قدرة.

وفى تحقيقها جواز خلق ذلك له ، ومثله فى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحتمل ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

أى : لا شىء يعجزه ، والعزيز بذاته ، وكل شىء دونه غير عزيز ، ذليل.

وقيل (١) : العزيز : المنيع.

وقيل (٢) : العزيز : المنتقم من أعدائه.

والحكيم : هو المصيب فى فعله. والحكيم فى أمره ونهيه. والحكيم هو الذى أحكم كل شىء جعله دليلا (٣) على وحدانيته.

ثم ذكر بعض المفسرين علل المناسك فقال : سميت العرفات عرفات ؛ لما قيل له : عرفت. ومنّى ؛ لما قيل له : تمنّه. ورمى الجمار ؛ لما استقبل لإبراهيم الشيطان فرمى.

فهذه العلل لا تطمئن بها القلوب ، وتنفر عنها الطباع ، ألا ترى أنه ذكر فى قصة آدم فعل ذلك جملة ؛ فزال المعنى الذى ذكر فى إبراهيم عليه‌السلام؟!

ثم قد ذكر فى الخبر أن الملائكة قالت لآدم : حججناها قبلك بألفى عام ؛ فثبت أنهم قد فعلوا هذا كله.

ثم يمكن نصب الحكمة فيه من طريق العقل ، وهو أن الحج قصد لزيارة ذلك المكان ؛ فأمر بمختلف الأفعال الواقع بها الزيارة.

كالصلاة : إنها الخضوع لعينه ؛ ولذلك أمر فيها بإحضار الأفعال المختلفة من حال الخضوع.

ثم المرء قد يخضع مرة بالقيام ، ومرة بالركوع ، ومرة بالسجود. أمر بإحضار مختلف الأفعال التى فيها الزورة.

غير أن الصلاة تخالف الحج ؛ فلأن أفعالها فعل المعاش أمر فيها بإحضار حالة تذكره الخضوع ، والوقوف لله ، مفرقا بين تلك الحالة وحالة المعاش ؛ ولهذا تقضى فى كل مكان.

ثم أفعال الحج فى ظاهرها إلى أفعال المعاش ، وما إليه وقع القصد ـ لا عينها ـ غير

__________________

(١) انظر تفسير البغوى (١ / ١١٧).

(٢) ينظر التخريج السابق.

(٣) زاد فى أ : به.

أن فيه تكلف المعاش ؛ ولهذا ما لا يقضى فى كل مكان.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٣٤)

وقوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ).

ثم اختلف فى الملة ؛ قيل : الملة : الدين.

وقيل : الملة السنة.

وقيل : الإسلام.

وكله واحد. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).

بما يعمل من عمل السفه.

ويحتمل : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) أى بنفسه ؛ فكان انتصابه لانتزاع حرف الخافض.

وقيل (١) : جهل نفسه فيضعها فى غير موضعها.

وقوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا).

بالنبوة والرسالة والعصمة.

ويحتمل : ما جزاهم فى الدنيا بثناء حسن لم ينقص من جزائهم فى الآخرة.

وقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

فى المنزلة والثواب.

ويحتمل (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : لمن المرسلين.

ويحتمل : أن يكون بشّره فى الدنيا : أنه كان من الصالحين فى الآخرة ؛ فيكون ـ فى ذلك ـ وعد له بصلاح الخاتمة ، كما وعد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر.

وفى ذلك أيضا : وعد بصلاح الخاتمة ـ والله أعلم ـ فأخبر بما كان بشّره. ويجوز : تفاضلهم فى الآخرة ، على ما كانوا عليه.

__________________

(١) قاله ابن كيسان والزجاج كما فى تفسير البغوى (١ / ١١٧).

وقوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

قيل (١) : أخلص.

ويحتمل : أن يكون أمرا بابتداء إسلام ، على ما ذكرنا من تجدده فى كل وقت يهمد (٢).

ثم يحتمل : أن يكون وحيا أوحى إليه ، أن قل كذا ، فقال به. فإن كان وحيا فهو على أن يسلم نفسه لله.

ويحتمل : أن يكون إسلام القلب ـ بتغاضى (٣) الخلقة بالإسلام ـ فإن كان على هذا ؛ فهو على الإسلام دون توحيده.

ويحتمل : أن يكون إسلام خلقة ؛ كقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، بالخلقة.

وعلى ذلك يخرج قوله لإبراهيم : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) [الحج : ٢٧] ؛ فدعاهم ، فأجابوه فى أصلاب آبائهم إجابة الخلقة وقت كونهم.

وقيل : يحتمل : أن يكون أمر بابتداء الإسلام ، كقوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً ...) [الأنعام : ٧٦] إلى آخره. ثم قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٨٩] يكون جواب قوله : (أَسْلِمْ) والله أعلم.

وقوله : (وَوَصَّى بِها).

يعنى بالملة. والملة تحتمل ما ذكرنا.

وقوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وهو الإسلام ؛ ردّا على قول أولئك الكفرة : إن إبراهيم كان على دينهم ؛ لأن اليهود زعمت أنه كان على دينهم يهوديّا. وقالت النصارى : بل كان على النصرانية. وعلى ذلك قالوا لغيرهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥].

فلما ادّعى كلّ واحد من الفريقين : أنه كان على دينهم ، أكذبهم الله ـ عزوجل ـ فى قولهم ، ورد عليهم فى ذلك فقال : قل يا محمد : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران : ٦٧] ؛ فعلى ذلك قوله : (اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٦١٠) والبغوى (١ / ١١٨).

(٢) فى أ : يهمه.

(٣) فى أ : بتقاضى.

أخبر ـ عزوجل ـ أن دينه كان دين الإسلام ، وهو الذى اصطفاه له ، لا الدين الذى اختاروا هم من اليهودية والنصرانية ؛ لقوله تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) [النجم] أى ليس له.

وقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً).

يقول : أكنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؟! أى : ما كنتم شهداء حين حضر يعقوب الموت.

قيل (١) : ويحتمل : أن اليهود قالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟ فأنزل الله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أى : أكنتم شهداء وصية يعقوب بنيه؟! أى : لم تشهدوا وصيته ، فكيف قلتم ذلك؟!

ثم أخبر ـ عزوجل ـ عن وصية يعقوب بنيه فقال :

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ ...) الآية.

وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

يعنى : مخلصين بالتوحيد ، وبجميع الكتب والرسل ، ليس كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ثم يدعون : أن ذلك دين إبراهيم ، ودين بنيه.

ثم فى الآية دلالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر عن الأخبار التى قالوا ، من غير نظر منه فى كتبهم ، ولا سماع منهم ، ولا تعلم ، دل : أنه بالله علم ، وعنه أخبر.

وقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).

كان ـ والله أعلم ـ لما ادعوا أن إبراهيم ومن ذكر من الأنبياء كانوا على دينهم ؛ فقال عند ذلك : لا تسألون أنتم عن دينهم وأعمالهم ، ولا هم يسألون عن دينكم وأعمالكم ، بل كلّ يسأل عن دينه وما يعمل به.

قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ)(١٣٨)

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١١٨).

وقوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ...) الآية.

فالآية تنقض على من يستثنى فى إيمانه ؛ لأنه أمرهم أن يقولوا قولا باتّا ، لا ثنيا فيه ولا شك.

وكذلك قوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ).

ثم يحتمل : أن يكون هذا ردّا على أولئك الكفرة ، حيث فرقوا بين الرسل ، آمنوا ببعضهم وكفروا ببعض. وكذلك آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعضها ؛ فأمر الله ـ عزوجل ـ المؤمنين ، ودعاهم : إلى أن يؤمنوا بالرسل كلهم ، والكتب جميعا ، لا يفرقون بين أحد منهم ، كما فرق أولئك الكفرة.

ويحتمل : أن يكون ابتداء تعليم الإيمان من الله ـ عزوجل ـ لهم بما ذكر من الجملة.

ثم اختلف فى الحنيف :

قيل (١) : الحنيف : المسلم.

وقيل (٢) : الحنيف : الحجاج.

وقيل (٣) : كل حنيف ذكر بعده مسلم فهو الحجاج ، وكل حنيف لم يذكر بعده مسلم فهو مسلم.

وقيل (٤) : الحنيف : المائل إلى الحق والإسلام.

وقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا).

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : لا تقرأ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) ؛ فإن الله ليس له مثل ، ولكن اقرأ : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) ، أو (بما آمنتم به (٥)). وكذلك فى حرف ابن مسعود (٦) ـ رضى الله عنه ـ : (فإن آمنوا بما آمنتم به) ، تصديقا لذلك.

وعلى ذلك قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] إن الكاف زائدة ، أى : ليس

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٦١٧) ، وقال آخرون : بل الحنيفية الإسلام.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٠٢) ، وعن عطية (٢٠٩٧ ، ٢٠٩٨) ، ومجاهد (٢٠٩٩ ، ٢١٠١) والحسن (٢١٠٠) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٧).

(٣) قاله السدى ، أخرجه ابن المنذر عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٥٧).

(٤) قاله ابن عباس كما فى تفسير البغوى (١ / ١١٩).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢١١٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٨).

(٦) ينظر : اللباب (٢ / ٥٢٢) ، والدر المصون (١ / ٣٨٦) ، والبحر المحيط (١ / ٥٨١) ، والشواذ (١٠) ، والمحرر الوجيز (١ / ٢١٦).

مثله شىء. وهو فى حرف ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ كذلك.

ويحتمل : آمنوا بلسانهم ، بمثل ما آمنتم بلسانكم ، من الرسل والكتب جميعا فقد اهتدوا.

ويحتمل بمثل ما آمنتم به : أى بلسان غير لسانهم فقد اهتدوا.

وقوله : (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ).

قيل (١) : الشقاق هو الخلاف.

وقيل : الشقاق هو الخلاف الذى فيه العداوة ، والله أعلم.

وقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

هذا وعيد من الله ـ عزوجل ـ لهم ، ووعد وعد نبيّه بالصبر له ؛ لأن أولئك كانوا يتناصرون بتناصر بعضهم ببعض ، فوعد له عزوجل النصر له بقتل بعضهم ، وإجلاء آخرين إلى الشام وغيره.

وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً).

قيل (٢) : دين الله.

وقيل (٣) : فطرة الله ؛ كقوله : «كل مولود يولد على الفطرة» (٤).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢٠).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٢٨) ، وعن قتادة (٢١٢٠) وأبى العالية (٢١٢١) والربيع (٢١٢٢) وغيرهم. وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٩).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٣١ ، ٢١٣٢ ، ٢١٣٣) وانظر الدر المنثور (١ / ٢٥٩).

(٤) أخرجه البخارى (١١ / ٤٩٣) كتاب : القدر ، باب : الله أعلم بما كانوا عاملين ، الحديث (٦٥٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٨) كتاب : القدر ، باب : معنى كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٢٥ / ٢٦٥٨) ، وأبو داود (٥ / ٨٦) كتاب : السنة ، باب : فى ذرارى المشركين ، الحديث (٤٧١٤) ، والترمذى (٣ / ٣٠٣) كتاب : القدر ، باب : كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٣٢٢٣) ، ومالك (١ / ٢٤١) كتاب : الجنائز ، باب : جامع الجنائز ، الحديث (٥٢) ، وأحمد (٢ / ٢٣٣) ، والحميدى (٢ / ٤٧٣) رقم (١١١٣) ، وعبد الرزاق (٢٠٠٨٧) ، وأبو يعلى (١١ / ١٩٧) ، رقم (٦٣٠٦) ، وابن حبان (١٢٨ ، ١٣٠) ، وأبو نعيم فى الحلية (٩ / ٣٢٨) ، من حديث أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ؛ فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج الإبل جمعاء ، هل تحس فيها من جدعاء ، قالوا : يا رسول الله أرأيت الذى يموت وهو صغير ، قال : الله أعلم بما كانوا عاملين».

ولفظ مسلم مصدر بلفظ : «كل إنسان تلده أمه على الفطرة ، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، فإن كانا مسلمين فمسلم ، كل إنسان تلده أمه ، يلكزه الشيطان فى حضنيه إلا مريم وابنها».

وفى الباب عن جابر ، والأسود بن سريع ، وابن عباس ، وسمرة بن جندب.

حديث جابر : ـ

وقيل : (صِبْغَةَ اللهِ) : حجة الله التى أقامها على أولئك.

وقيل (١) : (صِبْغَةَ اللهِ) : سنة الله.

ثم يرجع قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) أى : دينا [وسنة](٢) وحجة تدرك بالدلائل التى نصبها وأقامها فيه ، ليس كدين أولئك الذين أسسوا على الحيرة والغفلة بلا حجة ولا دليل.

وقيل (٣) : إن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فى ماء ليطهروهم بذلك ؛ فقال الله عزوجل : (صِبْغَةَ اللهِ) يعنى الإسلام هو الذى يطهرهم لا الماء.

وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ).

قيل : موحدون.

وقيل : مسلمون مخلصون.

ويحتمل : ونحن عبيده.

قوله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ

__________________

ـ أخرجه أحمد (٣ / ٣٥٣) من طريق أبى جعفر الرازى عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا».

وذكره الهيثمى فى المجمع (٧ / ٢٢١) ، وقال : رواه أحمد ، وفيه أبو جعفر الرازى وهو ثقة ، وفيه خلاف ، وبقية رجاله ثقات.

حديث الأسود بن سريع :

أخرجه أحمد (٣ / ٤٣٥) ، وابن حبان (١٦٥٨ ـ موارد) ، وأبو يعلى (٢ / ٢٤٠) رقم (٩٤٢) ، والطبرانى فى الكبير (١ / ٢٨٣) رقم (٨٢٨) ، والطحاوى فى مشكل الآثار (٢ / ١٦٣) من حديث الأسود بن سريع بمثل حديث جابر.

وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٥ / ٣١٩) ، وقال : رواه أحمد بأسانيد والطبرانى فى «الكبير» و «الأوسط» ، وبعض أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح.

حديث ابن عباس :

أخرجه البزار فى مسنده (٢١٦٧ ـ كشف) ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٧ / ٢٢١) بلفظ : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه».

وقال الهيثمى : رواه البزار ، وفيه ممن لم أعرفه غير واحد.

حديث سمرة بن جندب :

أخرجه البزار (٢١٦٦ ـ كشف) ، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (٧ / ٢٢١) ، وقال : رواه البزار ، وفيه عباد بن منصور وهو ضعيف ، ونقل عن يحيى القطان أنه وثّقه.

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢١).

(٢) سقط فى ط.

(٣) قاله ابن عباس بنحوه كما فى تفسير البغوى (١ / ١٢١).

مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)

وقوله : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ).

روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : قالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أولى بالله منكم ، فأنزل الله ـ فى ذلك ـ : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ).

وقيل (١) : فى الله ، يعنى : فى دين الله. أى : أتحاجون وتخاصمون فى دين الله؟!

وقوله : (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ).

أى : أتحاجّون فى الله مع علمكم وإقراركم أنه ربّنا وربكم بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧].

وقوله : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ).

قيل : لنا ديننا ولكم دينكم ؛ كقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

ويحتمل : (لَنا أَعْمالُنا) لا تسألون أنتم عنها ، (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا نسأل نحن عن أعمالكم ؛ كقوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة : ١٣٤ ، ١٤١].

[وقوله :] (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ).

دينا وعملا ، لا نشرك فيه غيره.

وقوله : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ).

قيل : بل تقولون.

وقيل (٢) : على الاستفهام فى الظاهر : أيقولون ، لكنه على الرد والإنكار عليهم ، وذلك أن اليهود قالوا : إن إبراهيم وبنيه ، ويعقوب وبنيه كانوا هودا أو نصارى. قال الله تعالى : قل يا محمد : أنتم أعلم بدينهم أم الله ، مع إقراركم أنه ربكم ، لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء؟!.

ومعنى الاستفهام : هو تقرير ما قالوه ، كالرد عليهم والإنكار.

وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ).

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢١).

(٢) قاله البغوى بنحوه (١ / ١٢١).

قيل (١) : الشهادة التى عنده : علمهم أنهم كانوا مسلمين ، ولم يكونوا على دينهم.

وقيل (٢) : الشهادة التى عندهم بالإسلام : أنه دين الله وأنه حق.

وقيل (٣) : الشهادة التى كانت عندهم : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ بيّنه الله فى كتابهم وأخذ عليهم المواثيق والعهود بقوله : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] فكتموه وكذبوه.

وقيل (٤) : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) فى قول اليهود لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وما ذكر من الأنبياء كانوا هودا أو نصارى ؛ فيقول الله ـ عزوجل ـ : لا تكتموا الشهادة إن كان عندكم علم بذلك. وقد علم الله أنكم كاذبون.

وقيل (٥) : (وَالْأَسْباطِ) : بنو يعقوب ؛ سموا أسباطا ؛ لأنه ولد لكل رجل منهم أمّة.

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

خرج على الوعيد ، أى : لا تحسبوا أنه غافل عما تعملون.

ويجوز أن يكون لم ينشئهم على غفلة مما يعملون ، بل على علم بما يعملون خلقهم ؛ ليعلم أن ليس له فى شىء من عمل الخلق له حاجة ؛ ليخلقهم على رجاء النفع له ، ولا قوة إلا بالله.

خلقهم وهو يعلم أنهم يعصونه.

وقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) الآية.

قد ذكرنا هذا فيما مرّ.

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)

__________________

(١) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢١).

(٢) أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة بنحوه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٦٠).

(٣) ينظر التخريج السابق.

(٤) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢١٣٨).

(٥) تقدم.

وقوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها).

هذا ـ والله أعلم ـ وعد كان وعده عزوجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يحوله إلى الكعبة من بيت المقدس ، وإخبار عما يقول له اليهود قبل أن يحول وقبل أن يقولوا له شيئا.

ألا ترى إلى قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] ، أنه لو لم يكن فيها وعد بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لكان تقلب وجهه إلى السماء بذلك تخييرا منه وتحكما عليه.

وليس لأحد على الله التخيير والتحكم عليه فى الأحكام والشرائع ولا فى غيرها ، فدل أنه على الوعد له ما فعل. والله أعلم.

ثم فيه إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان أخبره على ما أخبر من التحويل إلى الكعبة.

[والقول منهم نقل أنه علم ذلك بالله واختلف فى قوله (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) قيل : هو اليهود ، وقالوا ذلك عند تحويل القبلة إلى الكعبة](١)

وذلك أنهم لا يرون نسخ الشرائع والأحكام ؛ لأنه كالبداء والرجوع عنها.

وذلك فعل من يجهل عواقب الأمور ، كبان بنى بناء ثم نقضه لجهل منه به.

لكن ذلك منهم جهل بمعرفة النسخ وقدره.

ولو عرفوا ما النسخ ما نفوا نسخ الشرائع والأحكام.

وأما النسخ عندنا : فهو بيان منتهى الحكم إلى وقت ليس فيه بداء ولا نقض لما مضى ، بل تجديد حكم فى وقت بعد انقضاء حكم على بقاء الأول لوقت كونه ، ليس على ما فهمت اليهود من البداء والنقض لما مضى كالبناء الذى وصفوا. وبالله التوفيق.

وإن كانت الآية فى غير اليهود من أهل مكة ، على ما يقول بعض أهل التفسير ، فقالوا : لما رجع محمد إلى قبلتنا من القبلة الأولى يرجع إلى ديننا. فقال الله عزوجل : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ).

قل يا محمد : لله المشرق والمغرب والأمكنة كلها والنواحى ، يأمر بالتوجه إلى أى ناحية شاء شرقا وغربا ، فالطاعة له فى الائتمار لأمره ، والقبول لدعائه ، لا للتوجه نحو الشرق أو نحو الغرب لهوى هووا ولتمنّ تمنوا ؛ لأن اليهود جعلوا قبلتهم المغرب اتباعا لهواهم ، لا اتباعا لأمر أمروا به.

وكذلك النصارى اتخذوا المشرق قبلة لهوى أنفسهم ؛ فأخبر الله تعالى المؤمنين أنهم يأتمرون بالله حيث ما أمروا توجهوا نحوه.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

وقوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

هذا على المعتزلة ؛ لأنه أخبر عزوجل أنه (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، ولا جائز أن يهدى وهو لا يهتدى. وهم يقولون : شاء أن يهدى ولكن لم يهتدوا.

قوله : (مَنْ يَشاءُ) على (١) أن مشيئة الهداية ليست للكل على ما قالت المعتزلة : أن هدايته بيان وذلك للجميع.

وفيه دليل نسخ السنة بالكتاب ؛ لأن القبلة إلى بيت المقدس لم تكن مذكورة فى الكتاب ، بل عملوا على سنة الأولين الماضين ، وهذا على الشافعى ؛ لأنه لا يرى نسخ الكتاب بالسنة إلا بعد عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا عمل به صار سنة ، فهو نسخ السنة بالسنة ، لا نسخ بالكتاب.

فهذا منه قبيح فاحش.

وفيه نبذ الكتاب وهجره ، وقد نهينا عنه ، والتحكم على الله عزوجل ؛ لأنه لم يجعل الكتاب من القدر ما يقع فيه الزجر على ما كان عليه آنفا لو لا علمه (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنعوذ بالله من السرف فى القول والزيغ عن الهدى.

ولكن لم يعرف ما النسخ وما قدره ، ولو علم لما قال بمثله. وهو عندنا : ما ذكرنا (٣) من بيان منتهى الحكم إلى وقته ، ولله جل جلاله نصب الأحكام والشرائع فى كل وقت ، يبين ذلك مرة بالكتاب ، وتارة على لسان المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبالله التوفيق.

وكما (٤) جعل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعمل به ، فنسخ الكتاب فيه تلك الشريعة. فكذلك فى غيره من الناس. والله أعلم.

وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

(وَكَذلِكَ) ، لا يتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا على العطف على ما سبق من الخطاب ، وهو ـ والله أعلم ـ معطوف على قوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ ...) الآية [١٣٦] ، كأنه قال : كما وفقكم على الإيمان بما ذكر ، وهداكم للإسلام ، كذلك جعلكم (أُمَّةً وَسَطاً) يعنى عدلا ، (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ).

__________________

(١) فى ب : إلى.

(٢) فى ب : عمله.

(٣) فى أ : ذكر.

(٤) فى ب : ولما ..

ثم اختلف فى قوله : (عَلَى النَّاسِ) :

قيل : «على» بمعنى «اللام» أى للناس. وهذا جائز فى اللغة سائغ ، كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ، أى للنصب.

وقيل : (عَلَى) بمعنى «على» ، أى أن يشهدوا (١) على الأمم للأنبياء على تبليغ الرسالة ، ويشهد الرسول لهم بالعدالة.

وفيه دليل قبول شهادة أهل الإسلام على أهل الكفر ، ورد شهادتهم علينا (٢) ؛ لأنه لو قبلت شهادتنا عليهم على التبليغ ، ثم شهد أولئك بأنهم لم يبلغوا ، لكان فيه تناقض. فدل أن شهادتنا تقبل عليهم ، ولا تقبل شهادتهم علينا. والله أعلم.

ويحتمل قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) الذين أبوا إجابة الرسل. (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أن جحدتم الرسالة ، وذلك قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...) الآية [١٤٣] ، أضاف الله إليه جعلهم (أُمَّةً وَسَطاً). ثبت أن لله فى فعل ذلك فعل به ذكر مننه. والله أعلم.

قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، فالوسط : العدل. أخبر ـ عزوجل ـ أنه جعل هذه الأمة عدلا ، فالعدل هو المستحق للشهادة والقبول لها.

ففيه الدلالة على [جعل إجماع (٣) هذه الأمة](٤) حجة ؛ لأنه وصفها بالعدالة ، وصيرها

__________________

(١) فى أ : تشهدوا.

(٢) الأصل أن يكون الشاهد مسلما ؛ فلا تقبل شهادة الكفار ، سواء أكانت الشهادة على مسلم أم على غير مسلم ؛ لقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ. وقوله : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، والكافر ليس بعدل وليس منا ، ولأنه أفسق الفساق ويكذب على الله تعالى فلا يؤمن منه الكذب على خلقه. وعلى هذا الأصل جرى مذهب المالكية والشافعية والرواية المشهورة عن أحمد. لكنهم استثنوا من هذا الأصل شهادة الكافر على المسلم فى الوصية فى السفر فقد أجازوها ؛ عملا بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ). وأجاز الحنفية شهادة الذميين بعضهم على بعض ، وإن اختلفت مللهم ، وشهادة الحربيين على أمثالهم. وأما المرتد فلا تقبل شهادته مطلقا.

ينظر : البحر الرائق (٧ / ١٠٢ ، ١٠٤) ، المبسوط (١٦ / ١٣٣ ، ١٣٥).

(٣) الإجماع فى اللغة يراد به تارة : العزم ، يقال : أجمع فلان كذا ، أو أجمع على كذا ، إذا عزم عليه ، وتارة يراد به : الاتفاق ، فيقال : أجمع القوم على كذا ، أى : اتفقوا عليه ، وعن الغزالى أنه مشترك لفظى. وقيل : إن المعنى الأصلى له العزم ، والاتفاق لازم ضرورى إذا وقع من جماعة.

والإجماع فى اصطلاح الأصوليين : اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عصر ما بعد عصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر شرعى ، والمراد بالأمر الشرعى : ما لا يدرك لو لا خطاب الشارع ، سواء أكان قولا أم فعلا أم اعتقادا أم تقريرا. ينظر : المستصفى (١ / ١٧٣).

وجمهور أهل السنة على أن الإجماع ينعقد باتفاق المجتهدين من الأمة ، ولا عبرة باتفاق غيرهم مهما كان مقدار ثقافتهم ، ولا بد من اتفاق المجتهدين ولو كانوا أصحاب بدعة إن لم يكفروا ـ

من أهل الشهادة. فإذا اجتمعوا على شىء وشهدوا به ، لزم قبول ذلك ، والحكم بما شهدوا ، والشهادة فيه أنه من عند الله وقع لهم ذلك.

والثانى : قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة : ١١٩] ، أخبر الله عزوجل أن فيهم صدقة ، يلزم اتباعهم.

والثالث : ما قال عزوجل : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥] ولا يجوز الوعيد فى مثله إذا لم يكن ذلك هو الحق عند الله.

والرابع : قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] ، أمر عزوجل عند التنازع الرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فدل أنه إذا لم يتنازع لم يجب الرد إلى ما ذكر. والله أعلم.

وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، روى عن ابن عباس (١) ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه قال : يسأل الله تعالى يوم القيامة الأمم عن تبليغ الأنبياء رسالته إليهم ، فينكرون. ثم يأتى بهذه الأمة يشهدون عليهم بالتبليغ. فذلك قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، ويشهد الرسول عليهم يعنى لهم بالعدالة والتزكية. والله أعلم.

__________________

ـ ببدعتهم ، فإن كفروا بها كالرافضة الغالين فلا يعتد بهم ، وأما أصحاب البدعة غير المكفرة أو الفسق فإن الاعتداد بخلافهم أو عدم الاعتداد فيه خلاف وتفصيل بين الفقهاء والأصوليين.

وذهب قوم إلى أن العبرة باتفاق الخلفاء الراشدين فقط ؛ لما ورد عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى ، عضوا عليها بالنواجذ». وهذا خبر آحاد لا يفيد اليقين ، وعلى فرض التسليم فإنه يفيد رجحان الاقتداء بهم لا إيجابه.

وقال قوم : إن الإجماع هو إجماع أهل المدينة دون غيرهم ، وهذا ظاهر مذهب مالك فيما كان سبيله النقل والتواتر ، كبعض أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كالأذان والإقامة وتحديد الأوقات وتقدير الصاع والمد ، وغير ذلك مما يعتمد على النقل وحده لا على الاجتهاد ، وما سبيله الاجتهاد فلا يعتد عنده بإجماعهم.

وقد اتفق الأصوليون على أن الإجماع ممكن عقلا ، وذهب جمهورهم إلى أنه ممكن عادة ، وخالف فى ذلك النظّام وغيره. وخالف البعض فى إمكان نقله. ينظر : إرشاد الفحول للشوكانى ص (٧٣).

والإجماع حجة قطعية على الصحيح ، وإنما يكون قطعيا حيث اتفق المعتبرون على أنه إجماع ، لا حيث اختلفوا ، كما فى الإجماع السكوتى وما ندر مخالفه. ينظر : شرح جمع الجوامع وحاشية البنانى عليه (٣ / ٢٢٤).

(٤) فى ب : جعل هذه الإجماع.

(١) أخرجه ابن جرير بنحوه (٢٢٠٣).

قال الشيخ ـ رضى الله تعالى عنه ـ : وفى قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، وجهان :

أحدهما : على الكفرة. وفى ذلك دليل قبول شهادة المسلمين عليهم ، ورد شهادتهم عليهم ، لما يتناقض فيزول منفعة الشهادة عليهم.

والثانى : ليكون من شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شهود على من يكون بعدهم.

وفى ذلك دليل من تأخر الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، عن الخلاف لهم ، (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) إذا خالفتموه وعصيتموه.

وقوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

فهذا ـ والله أعلم ـ لما كانوا فى المتابعة على قسمين :

منهم من تبعه لما وافق هواه.

ومنهم من تبعه لما علم أنه الحق من عند الله عزوجل ؛ ليبين (١) لهم ويقع علم ذلك عندهم : من المتبع له بهواه ، ومن المتبع له بالأمر والطاعة له.

وقيل أيضا فى قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) ، قيل : ليعلم من يتبع الرسول ما قد علم أنه يكون كائنا ، وليعلم ما قد علم أنه يوجد موجودا.

وقيل : إنه يجوز أن يراد بالعلم المعلوم. معناه ـ والله أعلم ـ إلا ليكون المتبع له ، والمنقلب على عقبيه.

ثم الأصل فى هذا ونحوه من قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١] ، أنا لا نصف الله تعالى بالعلم فى الخلق ، قال : غير الحال التى الخلق عليها ؛ لأن وصفنا إياه بالعلم على غير الحال التى عليها الخلق يومئ إلى وصفه بالجهل ؛ لأنه لا يجوز أن يقال : يعلم من الساكن فى حال السكون حركة ، أو السكون فى حال الحركة ، أو يعلم من الجالس قياما ، أو القائم (٢) جلوسا.

وكذلك لا يجوز أن يقال : يعلم من العدم موجودا ، أو من الوجود معدوما فى حال وجوده ؛ لأنه وصف بعلم ما ليس ، وهو محال. وبالله العصمة.

وقيل : إن كل علم يذكر على حدوث المعلوم يذكر بذكر الوقت للمحدث ـ بفتح الدال ـ أى : يسند علمه إلى المحدث بذكر الوقت ؛ لئلا يفهم بذكره قدم المعلوم فى

__________________

(١) فى أ : فامتحنهم الله عزوجل ليبين.

(٢) فى أ ، ط : النائم.

الأزل.

وإذا وصفنا الله بما هو حقيقة بلا ذكر الخلق مع ذلك نصفه بالذى نصفه به فى الأزل لتعاليه عن التغير والزوال وعن الانتقال من حال إلى حال. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ).

يعنى : تحويل القبلة ، لكبيرة : ثقيلة ، على من كان اتباعه لهواه ، دون أمر أمر به ، إلا على الذى يتبع أمر الله فيها ويعتقد طاعته فإنها ليست بثقيلة عليه ولا كبيرة.

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

قال بعض أهل التفسير (١) : إن قوما صلوا إلى بيت المقدس ثم ماتوا على ذلك ، فلما حولت القبلة إلى الكعبة قالوا : ضاعت صلواتهم التى صلوا إليها ، إشفاقا عليهم.

لكن هذا بعيد لا يحتمل ؛ لأن الذى اعتقد الإسلام من الصحابة ، رضى الله تعالى عنهم ، وعرف موقع أمر الله وأمر رسوله ، لا يجوز أن يخطر ببالهم [هذا ، أو يعملون لو خطر ببالهم](٢) حتى يسألوا عن ذلك ، بل كانوا أعلم بالله من أن يجد عدو لله فيهم ذلك ؛ ولأنهم قوم يأتمرون بأمر الله وطاعته ، ويموتون على التصديق ، وعلموا أنهم مؤمنون ، ثم يشككون (٣) فى أحوالهم ، لكن إن كان ثم سؤال فهو من اليهود الذين اعتقدوا بطلان التناسخ فى الأحكام والشرائع ، فكانوا يحتجون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ينهى عن التفرق والاختلاف ، ثم يدعوهم إلى ذلك. أو قوم من الكفرة آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفرطوا فى التكذيب له والخلاف والمعاداة ، فأرادوا الإسلام ، فظنوا أن ما كان منهم من العصيان والتكذيب يمنع قبول الإسلام ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ، لما كان منكم فى حال الكفر.

ألا ترى أن آخر الآية يدل عليه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

أخبر أنه (رَحِيمٌ) يتجاوز عمن تاب.

أو قوم علموا ألا تناسخ فى الدين ولا اختلاف فيه ؛ فظنوا أن نسخ الأحكام وتبديلها

__________________

(١) قال ابن عباس : لما وجه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة قالوا : يا رسول الله ، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى : وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أخرجه أحمد (١ / ٢٩٥ ، ٣٠٤) ، وأبو داود (٤٦٨٠) ، والترمذى (٢٩٦٤) ، وابن جرير (٢٢٢٤) ، وابن حبان (١٧١٧) ، والحاكم (٢ / ٢٦٩).

(٢) سقط فى أ ، ط.

(٣) فى أ : يشكون.

يوجب اختلافا فى الدين وتفرقا فيه.

فنقول : إن الإيمان فى الأصل الذى لا يقع على اعتقاد الصلاة إلى جهة دون جهة ، بل يقع على الائتمار. فالإيمان من الصحابة ، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، الذين ماتوا كان على اعتقاد الائتمار فهم مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى بيت المقدس ، مؤمنون باعتقاد الائتمار إلى الكعبة. فلا تفرق ولا اختلاف فى الإيمان ، إذ فى الأصل به وقع الاعتقاد للائتمار. وبالله التوفيق.

ثم قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) تأويله : أى لا يضيع إيمانكم بالصلاة إلى بيت المقدس. ولو كان على الصلاة فهو لوجهين :

أحدهما : أنها إنما قامت بالإيمان ، فهو سبب لها ، وقد يذكر الشىء باسم سببه.

والثانى : أن اليهود عرفوه إيمانا ، فورد الخطاب على ما عندهم معروف ؛ كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] ، لا أن كان ثم آلهة ، لكن لما عندهم ، وكذلك قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ، لا أن كان ثم خالق سواه ، ولكن لما عرفوا كل صانع خالقا ، فخرج على الخطاب على ما عرفوا هم ذلك الأول. والله أعلم.

قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١٤٨)

وقوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ).

قد ذكرنا أنه يخرج على الوعد له.

قوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها).

قال بعض المفتون (١) : إنه كان يقلب بصره إلى السماء لما يكره أن تكون قبلته قبلة اليهود. ولكن هذا بعيد ؛ لأن مثل هذا لا يظن بأحد من المسلمين ، فكيف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

__________________

(١) ورد فيه حديث عن البراء بن عازب : أخرجه ابن ماجه (١٠١٠) ، وهو قول ابن عباس : أخرجه ابن مردويه عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٦٩) ، وقول قتادة والربيع والسدى : أخرجه ابن جرير عنهم (٢٢٣٥ ، ٢٢٣٦ ، ٢٢٣٧ ، ٢٢٣٨) ، وفى أ ، ط : المفسرين.

إلا أن يقال : كره كراهة الطبع والنفس ، وأما كراهة الاختيار ، فلا يحتمل.

ويقال : إنه كان حبب إليه الصلاة حتى لا يصبر عنها ، وقد نهى عن الصلاة إلى بيت المقدس ، ولم يؤمر بعد بالتوجه إلى غيرها ، فكان تقلب وجهه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالتوجه إلى غيرها ، أو أن يقال : «قبلة ترضاها» ؛ لأنها كانت قبلة الأنبياء من قبل ، فلا شك أنه كان يرضاها. وهذا جائز فى الكلام. يقول الرجل لآخر : أعطيك شيئا ترضاه ، وإن لم يظهر منه الكراهية فى ذلك ، ولا التردد.

وقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وقد ذكرنا القول فى القبلة ، والاختلاف فيه فيما تقدم.

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).

يحتمل قوله : (أَنَّهُ الْحَقُ) على وجهين :

أحدهما : أى علموا أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حق ، لكنهم يعاندون ويتبعون هواهم.

والثانى (١) : أى علموا بما بيّن له فى كتبهم أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه حق.

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

وهو على ما ذكرنا أنه على الوعيد والتهديد. والله أعلم.

وقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).

فى قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ولا يتابعون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قبلته حيث آيسه عن متابعتهم إياه ؛ لأنها لو كانت فى أهل الكتاب كلهم لكان لهم الاحتجاج على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعوى الكذب عليه ؛ لأن من أهل الكتاب من قد آمن. فدل أنهم لم يفهموا من عموم اللفظ عموم المراد ، ولكن فهموا من عموم اللفظ خصوصا. وكان ظاهرا فى أهل الإسلام وأهل الكفر جميعا المعنى الذى وصفنا لك. فظهر أنه لا يجوز أن يفهم من مخرج عموم اللفظ عموم المراد.

وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه فى موضع الإخبار بالإياس عن الاتباع له. ولا يوصل إلى مثله إلا بالوحى عن الله عزوجل.

وفيه أن كثرة الآيات وعظمها فى نفسها لا يعجز المعاند عن اتباع هواه والاعتقاد لما يخالف هواه.

وقوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).

__________________

(١) زاد فى أ : يحتمل.

فيه الوعد له بالعصمة فى حادث الوقت وما يتلوه.

ويحتمل قوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ، أى وما لك أن تتابعهم فى القبلة ، وهذا التأويل كأنه أقرب لما خرج آخر الآية على الوعيد له بقوة.

وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهى.

ويحتمل : أن يكون المراد من الخطاب غيره.

وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ).

لأن الأولاد إنما تعرف بالأعلام وأسباب تتقدم ، فعلى ذلك معرفة الرسل ، عليهم‌السلام ، إنما تكون بالدلائل والأعلام ، وقد كانت تلك الدلائل والأسباب فى رسول الله ظاهرة ، لكنهم تعاندوا وتناكروا وكتموا بعد معرفتهم به أنه الحق ، دليله قوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

والكتمان أبدا إنما يكون بعد العلم بالشىء ؛ لأن الجاهل بالشىء لا يوصف بالكتمان.

وروى عن عبد الله بن سلام ، أنه قال : أعرفه أكثر مما أعرف ولدى ؛ لأنى لا أدرى ما أحدث النساء بعدى (١).

وفيه الدلالة أن نعته وصفته كانت غير مغيرة يومئذ ، وإنما غيرت بعد حيث أخبر أنهم كتموا ذلك.

وقيل : (لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣] : لا يؤمنون ؛ وهو على ما بينا من نفى بذهاب نفعه ، وجائز أن يكونوا عرفوه بما وجدوه بنعته فى كتبهم ، كما قال الله عزوجل : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧].

وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

يحتمل : أن يكون الخطاب له والمراد غيره.

ويحتمل : هو ، وإن كان يعلم أنه لا يمترى ؛ لما ذكرنا فى غير موضع أن العصمة لا

__________________

(١) أخرجه الثعلبى من طريق السدى الصغير عن الكلبى عن ابن عباس عنه كما فى الدر المنثور (١ / ٢٧١).

تمنع النهى عن الشىء.

وقوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها).

قيل فيه بوجوه :

قيل : «هو موليها» [يعنى الله موليها](١) ومحولها.

وقيل : «هو» يعنى المصلى ، هو موليها.

وقيل (٢) : ولى ـ أقبل وأدبر ـ (هُوَ مُوَلِّيها) هو مستقبلها.

ويقال فى قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) لكل ملة من المسلمين قبلكم جعلت قبلتها الكعبة.

وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل (٣) : بادروا الأمم السالفة بالخيرات والطاعات.

وقيل : (فَاسْتَبِقُوا) هو اسم الازدحام ، يقول : يبادر بعضكم بعضا بالخيرات.

ويحتمل : أى استبقوا فى أمر القبلة والتوجه إليها غيركم من الكفرة. والله ورسوله أعلم.

وقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً).

قيل : أينما كنتم يقبض الله أرواحكم من البقاع البعيدة والأمكنة الحصينة.

وقيل : (أَيْنَ ما تَكُونُوا) أى فى أى حال كنتم ـ عظاما ناخرة أو بالية أو رفاتا ـ يجمعكم الله ويحييكم ، ولا يتعذر عليه ذلك ، وهو كقوله : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً* قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً* أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء : ٤٩ ـ ٥١] ، أخبر أن شدة الحال عندكم لا يتعذر عليه ، ولا يشتد من الإحياء والإماتة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

من جمع ما ذكرنا من الأشياء المتفرقة وإحياء العظام البالية.

قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا

__________________

(١) سقط فى أ ، ط.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩١ ، ٢٢٩٢) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٧٢).

(٣) قاله الربيع بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩٣) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٢٦).

وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ)(١٥٢)

وقوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

نقول ـ والله أعلم : حيثما كنت من المدائن والبلدان (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، شطره : تلقاءه ونحوه وجهته.

وهذا يبطل قول من يقول : إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت ، وبعد من أهل الآفاق ، حيث أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان. وبالله العصمة والتوفيق.

وقال الشيخ رحمه‌الله تعالى : ذكر المسجد ، ومعناه موضعا منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية ، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به.

وقوله : (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

قيل (١) : (وَإِنَّهُ) تحويل القبلة ، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ).

وقيل : (وَإِنَّهُ) يعنى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو الحق (مِنْ رَبِّكَ) [ويحتمل يعنى : القرآن هو الحق من ربك](٢).

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) على ما ذكرنا.

وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

خاطب الكل ، وأمرهم بالتوجه إليه حيثما كانوا ، حتى لا يكون هو المخصوص به دونهم.

وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)

تأويل هذا الكلام ـ والله أعلم ـ أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة ، والنصارى ناحية المشرق بهواهم ، فأنزل الله عزوجل : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ

__________________

(١) قاله ابن جرير (٢ / ٣٤).

(٢) سقط فى أ ، ط.

مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ١٤٢] ، وقال : فأينما تولوا وجوهكم شطره ، فثم وجه الله. فيقطع عذرهم وحجاجهم بما بين فى كتب لهم أنه يحولهم. وذلك معنى قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

ثم اختلف فى قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

قيل : أراد ب «الناس» أهل الكتاب ، وأراد ب «الذين ظلموا» غيرهم من الكفرة.

وتأويله : لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة ، ولا الذين ظلموا.

وقيل : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ) يعنى أهل الكتاب (عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) فيقولوا : ليس هذا الوصف فى كتبهم أنه يصلى إلى بيت المقدس وقتا ثم يتحول إلى الكعبة ، (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يقول : إلا من ظلم منهم عليكم فى الكلام بلا حجة ولا دليل فيقولوا : ليس هذا الوصف. ومثل هذا جائز فى الكلام ، يقول لآخر : ليس لك على حجة إلا أن تظلمنى بلا حجة.

وقال الفراء : هذا كما يقول الرجل لآخر : الناس لك حامدون إلا الظالم المتعدى عليك ، صواب فى المعنى ، خطأ فى العربية. وذكر بيتا يدل على الجواز.

ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروان (١)

بمعنى : ولا دار مروان.

وقيل أيضا : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) على القطع من الأول والابتداء بهذا ، أى : لا تخشوا الذين ظلموا فى الضرر لكم ، ولكن اخشونى فى ترككم إياها ، وأن يقال : لا تخشوهم بالقتال والغلبة ، فذلك لهم منه أمن وإظهار على الأعداء ، وعلى هذا يخرج قوله : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) يعنى الأمن من الأعداء ، [ولا نعمة أعظم من الأمن وإظهار الحق كقوله : (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] قيل : هو الأمن من الأعداء](٢) أو أراد بالنعمة كل نعمة من الإسلام ، والنصر ، وغيره.

(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) القبلة.

(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الإرشاد والصواب.

__________________

(١) البيت للفرزدق فى الكتاب (٢ / ٣٤٠) ، وليس فى ديوانه ، وبلا نسبة فى تذكرة النحاة ص (٥٩٦) ، والجنى الدانى ص (٥١٩) ، والمقتضب (٤ / ٤٢٥).

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

وقوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

(كَما) حرف لا يصح ذكره إلا على تقدم كلام ؛ إذ هو حرف عطف ونسق ، وهو ـ والله أعلم ـ كما أرسلنا إليكم رسولا ، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة وأنعم عليكم بإكرامه إياكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كذلك يجب عليكم أن تذكروه وتشكروا له.

ويحتمل على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التفسير : كأنه قال : فاذكرونى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ، وذلك فى القرآن كثير.

قال الفراء : يحتمل : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم ، فيكون فيه جوابه ؛ لذلك جزم ، وهذا كقول الرجل : كما أحسنت فأحسن.

وقوله : (وَيُزَكِّيكُمْ) ، قال ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : يأخذ زكاة أموالكم (١) ، ففيه زكاتهم (٢).

وقيل : (وَيُزَكِّيكُمْ) يدعوكم إلى ما به زكاة أنفسكم وصلاحها ، وهو التوحيد ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) هو القرآن.

(وَالْحِكْمَةَ) ، قيل فيه بوجوه :

قيل : «الحكمة» : الفقه.

وقيل : «الحكمة» : الحلال والحرام.

وقيل (٣) : «الحكمة» : السنة.

وقيل (٤) : «الحكمة» المواعظ.

وقيل : «الحكمة» : هى الإصابة ؛ ومنه سمى الحكيم حكيما ؛ لأنه مصيب.

وقال الحسن : (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : واحد ، وهو على التكرار ؛ كقوله : (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) [النمل : ١] ، وهما واحد.

وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من التوحيد والشرائع ، والمحاجة مع الكفرة ،

__________________

(١) فى ط : أموالهم.

(٢) تقدم

(٣) انظر تفسير البغوى (١ / ١٢٨).

(٤) ينظر : التخريج السابق.

وما أكرمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أنعم عليهم من أنواع النعم.

وقوله : (رَسُولاً مِنْكُمْ) : خاطب العرب ، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم ، وإنزال الكتاب بلسانهم وهم كانوا يتمنون ذلك ، كقوله : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٧] ، فمنّ عليهم بذلك ، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم ، وكفى بهم فضلا ، وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢].

وقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

قيل (١) : (فَاذْكُرُونِي) قيل : بالطاعة فى الدنيا ، (أَذْكُرْكُمْ) فى الآخرة بالتجاوز عن سيئاتكم.

وقيل (٢) : اذكرونى فى الرخاء والسعة ، أذكركم فى الضيق والشدة.

وقيل : اذكرونى فى الخلوات ، أذكركم فى ملأ الناس وأذكركم فى ملأ من الملائكة.

ويحتمل : اذكرونى بالشكر بما أنعمت عليكم ، أذكركم بالزيادة عليها. والله أعلم.

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) ، أى : وجهوا شكر نعمتى إلىّ ، ولا تشكروا غيرى.

ويحتمل : (وَاشْكُرُوا لِي) : أى وجهوا العبادة إلىّ ، (وَلا تَكْفُرُونِ) : ولا تعبدوا غيرى. والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(١٥٧)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

قد ذكرنا تأويل هذه الآية فيما تقدم.

وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : إن العرب كانت تعرف الموتى من انقطع ذكره ، إذا لم يبق له أحد يذكر به من

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣١٨) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٧٣).

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٢٨).

نحو الولد وغيره فيقولون عند موت هؤلاء : إن ذكرهم قد انقطع ، فأخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم مذكورون فى ملأ الملائكة.

وقال الحسن (١) : إن أرواح المؤمنين تعرض على الجنان ، وتعرض أرواح الكفرة على النيران ، فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لغيرهم من الأرواح. ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم بعرضها على النار ما لا يكون لغيرهم من الكفرة ذلك ، فاستوجبوا اسم الحياة بفضل لذة ما يجدون من اللذة على غيرهم.

أخبر عزوجل : أن أرواح الشهداء فى الغيب تتلذذ مثل تلذذهم على ما كانت عليه فى الأجساد فى دنياهم هذه.

وقيل (٢) : إن الشهيد حى عند ربه ، كما عرف فى اللغة : أن الشهيد هو الحاضر ، أخبر عزوجل أنهم حضور عند ربهم وإن غابوا عنكم.

وقيل : إن الحياة والموت على ضروب :

فمنها : الحياة الطبيعية ، والحياة العرضية ، والموت الطبيعى ، والموت العرضى.

فالحياة العرضية هى اليقظة ، وهى الحياة بالدين ، كقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢] ، وكقوله فى الحياة بالعلم ، إنه ميت بالجهل.

والحياة الطبيعية : هى التى بها قوام النفس.

والموت الطبيعى : هو الذى به فوات النفس.

والشهادة : هى التى بها اكتساب الحياة فى الآخرة ، سمى به (حياة). والله أعلم.

ويحتمل قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) ، أى لا تقولوا (أموت) ، لما ينفر طبعكم عن الموت ، ولكن قولوا (أَحْياءٌ) لترغب أنفسكم فى الجهاد ، إذ هو يرد بحياة الدنيا والدين ، مع ما يحتمل أن يكون الله بفضله يجعل لهم ما كان لهم لو كانوا أحياء يعملون. فكأنهم أحياء فيما جعلت لهم حياة الدنيا. والله أعلم.

وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

وقوله : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

__________________

(١) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ١٣٠).

(٢) قاله أبو العالية بنحوه ، أخرجه ابن أبى حاتم والبيهقى فى الشعب كما فى الدر المنثور (١ / ٢٨٤) ، ووردت آثار فى هذا المعنى فانظرها فى تفسير ابن جرير (٢ / ٤٢ ، ٤٣).

وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) وما ذكر فيه تذكير من الله عزوجل للخلق ؛ لئلا يجزعوا على ما يصيبهم من أنواع ما ذكر ، من المصائب.

وفى كل نوع ما ذكر من المصائب إضمار «شىء» ، من نحو (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) و (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) والله أعلم ؛ لأن الله عزوجل أخبر فى غير آية من القرآن : أنه خلقهم للموت والفناء ، وأن ما أعطاهم من الدنيا والزينة فيها كله للفناء والفوات بقوله : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] وقال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨) [الكهف]. أخبر أن الدنيا وزينتها للفناء ، فمن عرف أن ذلك كله [لما ذكرنا يحق عليه ما يصيبه من الأمراض والأوجاع والنقص فى الأموال والأنفس وما ذكر إذ ذلك كله](١) دون ما ذكر ، وليعلموا أن ما أعطاهم من الحياة والصحة والسلامة لم يكن أعطاهم لحق لهم ، بل للإفضال والإحسان ، وقد جعل ذلك لمدة لا للأبد ، فكأنها فى غير تلك المدة لغيرهم لا لهم ، فعرفوا به منته لوقت وحقه وقت الأخذ.

ثم يحتمل ما ذكر من الخوف وجهين :

على جهة العبادة من نحو الأمر بمجاهدة العدو والقتال معه.

ويحتمل لا على جهة العبادة ، وكذلك الجوع يحتمل الجوع الذى فيه عبادة ، وهو الصوم. ويحتمل ما يصيبهم من المجاعة فى القحط ما أصاب أهل مكة سنين ، وكذلك قوله : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ) ، يحتمل : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) يمتحنهم بأداء الزكاة والصدقة. ويحتمل الهلاك بنفسها ، وكذلك (وَالْأَنْفُسِ) يحتمل الصرف على الوجهين اللذين ذكرتهما. وكذلك (وَالثَّمَراتِ).

ثم لا يحتمل خصوص الامتحان بما ذكر دون غيره ؛ لأنهم كلهم عبيده ، له أن يمتحنهم بأجمعهم بجميع أنواع المحن ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا أنه لما عرفهم أن كل ذلك إنما خلق للفناء ، فالبعض منه كذلك ، ليخف ذلك عليهم. والله أعلم.

ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر الذين صبروا على المصائب التى امتحنهم بها عزوجل ، ولم يجزعوا عليها ، وقالوا : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). فيه الإقرار بوحدانيته عزوجل ، وبالبعث بعد الموت.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

وقيل (١) : إن هذا الحرف خص به هذه الأمة دون غيرها من الأمم ؛ لأنه لم يذكر هذا الحرف عن الأمم السالفة ؛ ألا ترى أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ على كثرة ما أصابه من المحن والمصائب والحزن على يوسف لم يذكر هذا الحرف عنه ، ولكن قال : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] ولو كان لهم هذا لظهر منهم على ما ظهر غيره ؛ فدل أنه مخصوص لهذه الأمة. والله أعلم.

وروى عن ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، أنه قال : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضى به» (٢).

ثم الصبر : هو حبس النفس عن الجزع على ما يفوت ؛ إذ هو كله لله عزوجل مستعار عند الخلق ، والجزع على فوت ما لغيره محال ؛ ألا ترى إلى قوله عزوجل : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [الحديد : ٢٣]. نهانا أن نحزن على ما يفوت عنا ؛ إذ هو فى الحقيقة ليس لنا ، وأن نفرح بما أتانا ؛ إذ هو فى الحقيقة لغيرنا. والله الموفق.

وقوله : (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) ، فهو على إضمار «الشىء» فى كل حرف ، إذ هو بحق العطف على ما تقدم ؛ فكأنه قال : بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع. ولا قوة إلا بالله.

ثم يتوجه ما أخبر من البلوى إلى وجهين :

أحدهما : أن يبلوه بعبادة فيها ما ذكر.

والثانى : أن يبلوه بالذى ذكر لا على عبادة يدفع إليه ؛ وذلك نحو أن يبلوه بالجهاد ، وفيه الخوف ، أو يبلوه بأنواع أوصاب تحل به ، فيخاف عند ذلك على نفسه.

والجوع : أن يبلوه بالصيام الذى فيه ذلك ، أو بقلّة الإتراب وغلاء الأسعار.

ونقص من الأموال : يكون فى الجهاد ، والحج ، والزكوات ، والمؤن المجعولة فى الأموال ، ويكون فى الخسران فى التجارات ، وما يلحق أنواع المكاسب من الحوائج.

والأنفس : يكون بالجهاد ، ومحاربة الأعداء ، ويكون بأنواع الأمراض.

والثمرات : ترجع إلى قلة الإنزال ، وقصور الأيدى عما به ينال ، ومفارقة الأوطان للجهاد والحج ونحو ذلك مما فيه.

ثم الله سبحانه وتعالى أخبر أنه يبلوهم بشيء مما ذكرنا ، لا بالكل. دل أنه ـ عز

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٣٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٨٦).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٣٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٨٦).

وجل ـ لم يقطع عليهم كل المخارج ، بل جعل لهم فى كل نوع من ذلك مسلكا وإن كان فى ذلك نقصا وضررا ، وجائز بلوغ ذلك تمام ما فى كل نوع ، لكنه بلطفه قرب إليهم فيما خوفهم وجه الرجاء ، وعلى ذلك جميع الفعال ذى المحن أنها مقرونة بالخوف والرجاء ، وكذلك هم فى أنفسهم. ولا قوة إلا بالله.

ثم إن الله دلهم على ما عليهم من الحق فيما أخبر أنه يبلوهم به بحرف البشارة والوعد الجزيل الذى يسهل بمثله البذل لمن لا حق له ، فكيف ومن له كليته ذلك ؛ فقال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). ثم وصف الصابرين فقال : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) هدى الله عبده إلى الاعتماد بحرف التوحيد عند المصيبة ؛ إذ جعل التوحيد داخلا فى ذلك الحرف.

وفيه التبرى من أن يكون له فى حكم الله تدبيرا ورأى ، وبذل النفس له وما للنفس ليحكم فيها بما شاء.

وقوله : (إِنَّا لِلَّهِ) ، كأنه قال : ما لنا فيما ليس لنا حكم ولا تدبير ، وأبدا يكون الحكم فى كل ملك لمن يملكه. وبمثل هذا يقدر على كف الأنفس عن الجزع وحملها على ما يكره.

وقوله : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، فكأنه يقول إذ إليه مرجعنا ، لا فرق أن نرجع إليه جملة أو بالتفاريق ، بل فى التفريق علينا الإبقاء وفضل القبول منا البعض دون الكل.

وفى ذلك تذكير النفس عاقبتها ليكون كمن تقدم شيئا مما به قوامه إلى مكان قراره ، وقد انتهى الخبر بالبلوغ.

فمعلوم أن ذلك أطيب لنفسه ، وأسكن بقلبه من أن يكون جميع ذلك معه. وبالله التوفيق. وجملة ذلك أن هذه الدنيا أنشئت لا لها ولكن ليكتسب بها الآخرة ، وجعل كل شىء منها زائلا فانيا لينال به الدائم الباقى.

فهذا لأن حق كل فيما يصيبه أن يرى الذى أنشئ وما له يسعى ، فيعلم أنه بلغ فى تجارته غايتها من الربح ، وأنه باع الشىء الفانى بالباقى ، مع ما كان كل شىء من الدنيا مأوى بآفات الفناء والهلاك ، فأبدل المأوى بالذى لا آفة فيه. فيجب فى التدبير ألا يعد ذا مصيبة ، بل هو أعلى السرور وأرفع الربح ، لكن البشر جبل على طباع نافرة عن كل ألم جاهل بالعواقب التى لعلها يرغب فيها كل أحد ، لا أن ينفر عنها. والله المستعان.

فإن قال قائل : هذا الاسترجاع خص به هذه الأمة ؛ إذ قال يعقوب : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] الآية. فهو والله أعلم ، إن كان فهو موضع التلقين والتعليم أن

قولوا ذلك ، لا أن هذا المعنى مما يحتمل أن يكون يعقوب لا يحققه ، بل حققه بقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [يوسف : ٨٣] وقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [يوسف : ٨٦].

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] وهو مع ذلك قد كان بما أخبره يوسف ، وبما أوحى إليه أنه قد علم أنه لم يهلك بعد ، ولم يوجد منه إلى حيث يرجع هو إليه من البعث بعد الموت. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ، قيل : الصلاة من الله عزوجل يحتمل وجوها :

يحتمل (١) : الرحمة والمغفرة.

ويحتمل : الصلاة منه ـ مباهاته الملائكة ؛ جوابا لهم لما قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ، كيف قلتم هذا؟ وفيهم من يقول كذا.

وقيل : الصلاة منه : الثناء عليهم. وأى كرامة تبلغ كرامة ثناء الله عليهم.

[وقوله (وَرَحْمَةٌ) قال بعضهم الرحمة والصلاة واحد وهو على التكرار ، وقيل : الرحمة : النعمة وهى الجنة](٢)

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)

شهد الله عزوجل بالاهتداء لمن فوض أمره إلى الله تعالى ، ويسلم لقضائه وتقديره السابق وهو كائن لا محالة ؛ كقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحديد : ٢٢].

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) يبلوهم بالذى كان به عالما ليكون به ما علمه يكون بالأمر والنهى بحق المحنة ، وهو كما يستخبر عما هو به خبير ، مع ما كانت المحنة فى الشاهد لاستخراج الخفيات يكون بالأمر والنهى ، فاستعملت فى الأمر والنهى ، وإن كان لا يخفى عليه شىء ، بل هو كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الأنعام : ٧٣]. ثم له جعل الغيب شاهدا ، فجرت به المحنة ، ليعلم ما قد علمه غائبا شاهدا ، إذ هو موصوف بذلك فى الأزل. وبالله التوفيق.

ثم كان العبد بجميع ما هو له من السعة والسلامة فهو لله فى الحقيقة ، لكنه بفضله

__________________

(١) قاله ابن جرير (٢ / ٤٥) ، والبغوى (١ / ١٣١).

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

وكرمه يعامل عبيده معاملة من ليس له ما كان يطلب منه ويأمره به ، فقال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] ، وقال : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل : ٢٠] ليكون ذلك أطيب لأنفسهم وأرغب لهم فى البذل لما طلب منهم ، وإن كان له أخذ ذلك منهم بلا شىء يعدهم عليه ، فعلى ذلك قال ـ عزوجل ـ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) بالذى ذكر ، يدلهم على أن ذلك منه ؛ ليعلموا أنه فيما كان وعد الاشتراء منهم ، وطلب منهم البذل بجزيل العوض لهم ، فيخف ذلك عليهم وتطيب به أنفسهم ، وأن يكون يذكر أولا أنه يبتليهم بالذى ذكر ليطيبوا أنفسهم به ، ولا يتكلفوا ذلك من قلوبهم ، فيضجرون عند الابتلاء بذلك ، وكذا كل خلاف للطبع إذا كان عن رياضته إياه وإشعاره به قبل النزول ، كان ذلك أيسر عليه من أن يأتيه ذلك من حيث لم يعلم به ، مع ما كان فى ذلك خطر بالقلوب نسبة مثله إلى الخلق والتشاؤم بهم ، فقدم الله فى ذلك البيان ليعلموا أن ذلك بالذى جرى به الوعد ، وذلك كقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) [الحديد : ٢٢] ، الآية ، فبين أن ذلك مكتوب عليهم لتطيب الأنفس وتطمئن القلوب عليه.

والأصل فى هذا : أن جميع ما ذكر البلوى به فى التحقيق ليس بحق للعبد ، بل هو امتنان من الله وإفضال منه ، وأنه لم ينشئه ولا أحياه نشوء الأبدية ولا حياة السرمدية ، فعلى ذلك جميع ما أنعم عليه ، وإذا سكن العبد على هذا الذى جبل عليه أمر نفسه وما ملك عليه سهل عليه ذهابه ، وطابت به نفسه ، مع ما يعلم أنه أنعم عليه لوقت ، ثم هو نعمة على غيره ولغيره ، فيكون المأخوذ منه فى الحقيقة لغيره ، وإن كان الله عزوجل ذكره فى الابتلاء والمصائب ، فهو على ما أخبرت من كرمه فيما يعامل عبيده عزوجل. ولا قوة إلا بالله.

ثم بين الله عزوجل ما يكرمهم ؛ إذا خضعوا لحكمه (١) ورضوا لقضائه ، مع ما دل عليه أيضا بقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...) الآية [الأحزاب : ٣٦] ، فقال : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ، وقال فى موضع آخر : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ، فكان من فضله أن سمى ما وعدهم على الصبر أجرا ، ومعلوم أن كان ذلك حقّا لله عليهم ، بالسابق من نعمه ، مع عظم مننه ، لكنه سمى ما أفضل به أجرا له ، مع ما كان العبد

__________________

(١) فى ط : خنعوا لحكمه.

يعمل لنفسه ، ولا يحتمل أن يستحق به الأجر لو لا الإنعام منه جل ثناؤه.

ثم وعد له فى حال فعله بخصال ثلاثة :

إحداها : أن عليه صلاته. وصلاته تحتمل مباهاته الملائكة تعظيما لما بذل عبده له ، وخضع لحكمه عليه ، وهو أن قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ...) الآية [البقرة : ٣٠] ، فيخبرهم أن هذا قد سبح حضرة المصيبة ، وخضع لحكمه عليه فيها بالاسترجاع.

ويحتمل : مغفرته وإيجاب الثواب الجزيل له بقوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران : ١٥٧] (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) [آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١] وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] إلى ما ذكر من الإفضال. والله الموفق.

ويحتمل ثناؤه ذكرهم فى أخبار عباده ، كقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) [البقرة : ١٥٤] ، وقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ...) الآية [آل عمران : ١٦٩]. مع ما يرجى له من زيادة الهدى فى الدنيا بقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩] ، وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧].

والثانية : الرحمة. قد يرجع [إلى ما ذكرنا ، وجائز أن تكون](١) رحمته هى التى أكرمته بذلك الاسترجاع.

ويحتمل : النعمة ، أو رحمة يلقيها فى قلوب العباد حتى يحبونه بها ، أو خلف يعطيه فى الدنيا.

والثالثة : ثم شهد الله لهم بالهداية ، وذلك يحتمل : أن يكونوا اهتدوا لدينه ، ولما من عليهم فى المصيبة من التسليم لله.

ويحتمل : الاهتداء لطريق الجنة على ما بينه أنه وعد الشهداء. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] للاسترجاع. وقد روى عن نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لم يعط الاسترجاع من كان قبلكم» (٢) ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) أخرجه الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس بلفظ : «أعطيت أمتى شيئا لم يعطه أحد من الأمم ، أن يقولوا عند المصيبة : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)» وانظر الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢٨٦).

فهو على ما بينا من القول به ، وأما حق التسليم فقد كان فى توقيت وقت الصبر ، ثم روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الصبر عند الصدمة الأولى» (١). وقد روى عن أنس ، رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «ما من مصيبة وإن طال عهدها فيجدد لها العبد بالاسترجاع إلا جدد الله له ثوابها كلما استرجع» (٢).

فلعل هذا لمن أحسن القبول وقت المصيبة ، أو رجع عما كان فرط منه وتاب.

والأول فى غير ذلك. والله الموفق.

ثم فى الآية وجوه من المعتبر :

أحدها : ما يلزم العبد من المصائب ، وما يستوجبه إذا وفى بما عليه.

والثانى : فى ذلك بيان أن الصحة ، والأمن ، وحفظ المقدر لأحد ليس بلازم فى الحكمة ، لكنها إنعام من الله ، وله الابتلاء بأخذه ؛ إذ لو كان عليه الأول لم يكن يلزمه الشكر فى ذلك. والله الموفق.

والثالث : أن الله تعالى ذكر أنه بلا العباد بالذى ذكر ، ومعلوم أن ذلك يجرى على أيدى العباد بهم ، فأضاف ذلك إلى نفسه. ثبت أن له فى ذلك تدبيرا حتى يبلوهم به. والله أعلم.

وفيه أن الله تعالى قال : ونبلوكم بكذا ، ولم يكن كان يومئذ ثم كان ذلك ، وكذلك قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢١٤] ، ثم بلوا بذلك ليعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم ذلك بالله ، وتبين أيضا أنه بموضع البشارة بما يعظم على الخلق ويقتضى القرار فى الطبع ، لم يحتمل أن يجيزهم به لو لا الأمر به وطاعة الله فى ذلك.

وأيضا أنه ذكر الخوف فيعلم أن الخوف من الخلق لا يوهن الاعتقاد ، وكذلك قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١] فعلى ذلك الرجاء والطمع وجملته أن أمر

__________________

(١) أخرجه البخارى (٣ / ١٧٧) كتاب الجنائز ، باب زيارة القبور (١٢٨٣) ، ومسلم (٢ / ٦٣٧ ـ ٦٣٨) كتاب الجنائز ، باب فى الصبر على المصيبة (١٥ / ٦٢٦).

(٢) أخرجه الحكيم الترمذى كما فى الدر المنثور (١ / ٢٨٧) ، ولفظه : «ما من نعمة وإن تقادم عهدها فيجدد لها العبد الحمد إلا جدد الله له ثوابها ، وما من مصيبة وإن تقادم عهدها فيجدد لها العبد الاسترجاع إلا جدد الله له ثوابها وأجرها».

وله شاهد من حديث على بن الحسين :

أخرجه أحمد (١ / ٢٠١) ، وابن ماجه (١٦٠٠) ، وأبو يعلى (٦٧٧٧ ، ٦٧٧٨) ، وابن حبان فى المجروحين (٣ / ٨٨).

الدنيا محمول كله على أسباب ، لا أنها توجب ولكن الله تعالى أجرى أحكامه عليها ، فيكون الخوف والرجاء فى التحقيق من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سببا. والله الموفق.

وأيضا : أن يعلم أن المصائب فى الدنيا ليست كلها عقيب الآثام ، بل لله تعالى الابتلاء بالحسنات والسيئات ، أيضا لا يدل على وهن عقد المصائب ، ولا زلة بلى بها. وعلى ذلك أمر الأنبياء والرسل ، عليهم‌السلام ، ولكن على وجهين :

أحدهما : أن يكون الله تعالى يريد أن يحمى وليه لذات الدنيا لينالها موفرة فى الآخرة.

والثانى : أن يكون لهم بعده زلات لا يسلم عنها البشر ، فيبتلوا ، فيبعثوا يوم القيامة ولا زلة بقيت مما يجزيهم تلك. ولا قوة إلا بالله. وإنما كذلك جعلت لمحنة.

قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨)

قال دل : قوله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

دل أن صعودهما من اللازم فى نسكه ، وكذلك صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا وقال : «نبدأ بما بدأ الله» (١) ، وقد قال الله تبارك وتعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) الآية ، ولم يقل : بينهما. فمن لم يصعد الصفا والمروة فلم يطف بهما ، مع ما قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [المائدة : ٢] ، وفى ترك صعودهما إحلال شعائر الله ، إذ قد بين الله أنهما (من شعائر الله). وما روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بينهما على ناقته ، ومعلوم أن ناقته لا تصعدهما ، فهو عندنا للعذر فعل ذلك ، وإلا فإنه قد روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه صعدهما واستقبل البيت وقال : نبدأ بما بدأ الله.

دليل ذلك ما روى عن ابن عباس ، رضى الله عنه ، أنه طاف بينهما على ناقته وبالبيت لعذر به.

ولا يحتمل أيضا أن يكون بغير عذر وهو الملقب بالسعى ؛ لما فيه من فعل السعى ، والراكب لا يسعى.

__________________

(١) طرف من حديث جابر الطويل : أخرجه مسلم (٢ / ٨٨٦) كتاب الحج (١٤٧ / ١٢١٨) ، وأبو داود (٢ / ١٨٢) كتاب الحج ، باب صفة حجة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٩٠٥) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٢٢) كتاب المناسك ، باب حجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٠٧٤).

وقال الشافعى : روى عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة على ناقته ليرى الناس (١).

وقال : خبر جابر أولى من خبر ابن جبير ؛ فكأنه وقع عنده أنه عن ابن جبير. وذلك عن ابن جبير عن ابن عباس ، رضى الله تعالى عنه ، وهو أولى ؛ لأن العذر كامن لا يعرف بالنظر من بعد ، وإنما يعرف بالتأمل ، أو بالخبر من عند ذى العذر ، وعلى هذا خرج خبر ابن عباس ، رضى الله عنه ، على أن خبر جابر لو صح على ما يروى فهو لما ذكر أنه «يرى الناس» فكأنه أراد أن يعلمهم ، وذلك كالتعليم منه ، والتعليم عليه لازم ، فهو بتركه يلام عليه ، فذلك عذر. والله أعلم.

والثانى : أنه يجوز أن يكون فعله ذلك ليس هو فعل ما كان عليه ، أنه كيف كان يفعله؟ فكان ذلك لمكان الدلالة للخلق بذلك هو الأمر المتوارث من صنيع الحج والعمرة ، أن الأولى يفعلون ما يفعل الحاج ، لا على فعل الحج ، ولكن على التعليم ؛ فعلى ذلك أمر المروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله أعلم.

ثم اختلف فى الطواف بينهما بعد ما قيل : إن الجناح فيه لوجهين :

أحدهما : ما قيل (٢) : كان بالصفا صنم وبالمروة صنم فيخرجوا لمكانهما.

وقيل (٣) : كان بينهما أصنام ، لذلك كان يخرجهم.

ثم قال الشافعى : إن السعى بينهما مفروض (٤) ، حتى لو ترك الحاج خطوة منه وأتى

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٩٢٦) ، كتاب الحج ، باب جواز الطواف على بعيره وغيره (٢٥٤ / ١٢٧٣) ، وأحمد (٣ / ٢١٧ ، ٣١٣) ، وأبو داود (١ / ٥٧٩) كتاب الحج ، باب الطواف الواجب (١٨٨٥) ، والنسائى (٥ / ٢٤١) كتاب المناسك ، باب الطواف بين الصفا والمروة على الراحلة.

(٢) قاله الشعبى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٤١ ، ٢٣٤٢ ، ٢٣٤٤) ، وزاد السيوطى فى الدر (١ / ٢٩٢) سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٦٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٢).

(٤) ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعى وأحمد إلى أن السعى ركن من أركان الحج لا يصح بدونه ، حتى لو ترك الحاج خطوة منه يؤمر بأن يعود إلى ذلك الموضع فيضع قدمه عليه ، ويخطو تلك الخطوة.

وهو قول عائشة وعروة بن الزبير.

وذهب الحنفية إلى أن السعى واجب فى الحج وليس بركن ، وهو مذهب الحسن البصرى وسفيان الثورى.

وركن السعى عند الجمهور سبعة أشواط ، حتى لو ترك شيئا منها لم يتحلل من إحرامه ، أما الحنفية فإن ركن السعى أكثر أشواط السعى ، والثلاثة الباقية ليست ركنا ، وتنجبر بالفداء.

والمشى للقادر واجب فى السعى عند الحنفية والمالكية ، سنة عند الشافعية والحنابلة.

ينظر : فتح القدير (٢ / ١٥٦ ـ ١٥٨) ، والمسلك المتقسط (١١٥ ـ ١٢١) ، وشرح الرسالة ـ

أقصى بلاد المسلمين أمر بالعود ليضع قدمه موضعها ويخطو تلك الخطوة.

واحتج بما روت صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال : «إن الله كتب عليكم السعى بين الصفا والمروة فاسعوا» (١). وهو يأتى مرة بقبول المراسيل لتوهم الغلط ، ومرة يحتج بامرأة لا يعرف ولا يذكر اسمها.

والوجه فيه إن ثبت وصح أن الكتاب يحتمل غير ما قاله. وهو أن يقال : (كتب) أى حكم ، كقوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) [الأحزاب : ٦] ، وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) [النساء : ٢٤] ، قيل : به حكم الله عليكم.

وقال آخرون : ليس بفرض ولا لازم.

واحتجوا بما ذكر فى حرف أبىّ : «لا جناح عليه أن لا يطوف بينهما» ، ولا يذكر ذلك فى شىء واجب.

والثانى : إن هذه اللفظة لفظة رخصة ، ولا يرخص بترك ما هو فرض أو لازم.

ثم الجواب عن الحرف الأول أن اللاءات ربما تزاد وتنقص ، ولا يوجب زيادتها ونقصانها تغير حكمها ، كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] أى : لا تضلوا. ومثل هذا كثير فى القرآن.

والثانى : ما ذكرنا أن المسلمين كانوا يتحرجون عن الطواف بينهما لمكان الأصنام. فبين عزوجل أن لا حرج عليهم فى ذلك ، لا أن ليس الجناح يدفع الحرج فى تركه.

وأما عندنا : فهو لازم ؛ لأنه نوع ما لا يتبرع به ، والأصل عندنا : أن ما لا يتبرع به يخرج الأمر به مخرج الوجوب واللزوم ؛ كالطواف ، وسجدة التلاوة ، وكالوتر ، والأضحية وغيره.

وقد روى عن عائشة ، رضى الله تعالى عنها ، أنها قالت : «ما تم حج امرئ قط إلا بالسعى». فهو وصف [بالنقصان لا وصف](٢) بالفساد ، وفرق بين التمام من النقص وبين

__________________

ـ وحاشية العدوى (١ / ٤٧٠ ـ ٤٧٢) ، وشرح المنهاج (٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧) ، شرح المهذب (٨ / ٧١) ، والمغنى (٣ / ٣٨٥ ـ ٣٩٠).

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٤٢٢) عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبى تجزئة قالت : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكرته.

وله شاهد من حديث ابن عباس : أخرجه الطبرانى فى الكبير (١١ / ١٨٤) (١١٤٣٧) ، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد (٣ / ٢٥١) : وفيه المفضل بن صدقة وهو متروك.

(٢) سقط فى ط.

الجواز من الفساد.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

قيل : (شاكِرٌ) ، أى يجزيهم جزاء الخطير بعمل اليسير.

وقيل : يقبل القليل ويعطى الجزيل. وهو واحد.

عامل الله عزوجل بكرمه ولطفه عباده معاملة من لا حق له فى أموالهم وأنفسهم ؛ حيث وعد قبول اليسير من العمل ، وإعطاء الجزيل من الثواب ؛ وحيث طلب منهم الإقراض ، ووعد لهم العظيم من الجزاء ، كمن لا حق له فيها ، بقوله : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل : ٢٠] ، وحيث خرج القول منه فى الابتلاء والامتحان مخرج الاعتذار لهم كأن لا حق له فيه ، بقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ...) [البقرة : ١٥٥] ، ثم بشرهم بالجنة بما صبروا على أخذ ما له أخذه ، وذلك من غاية اللطف والكرم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)(١٦٢)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

قيل : (الْبَيِّناتِ) هى الحجج ، أى كتموا ما أنزل الله من الحجج التى كانت فى كتبهم.

وقيل (١) : كتموا ما بين فى كتبهم من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفته.

وجائز أن يكون (الْبَيِّناتِ) ما بين للخلق مما عليهم أن يأتوا ويتقوا من الأحكام من الحلال والحرام.

وقوله : (وَالْهُدى).

قيل : الصواب والرشد.

وقيل : (وَالْهُدى) ما جاءت به أنبياؤهم من شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ودينه وأمروا من هديه من

__________________

(١) قاله الربيع وقتادة والسدى ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٣٧٩ ، ٢٣٨٠ ، ٢٣٨١) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٥ ، ٢٩٦).

تصديقه وقيل : كتموا الإسلام ومن دين الله كتموا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١) ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل.

[وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) اختلف فى الناس.

قيل : هم اليهود كتموا بعد ما بين لهم](٢).

وقيل : بينا للمؤمنين ما كتمهم اليهود من نعته ودينه.

ويحتمل : البيان بالحجج والبراهين.

ويحتمل : البيان بالخبر ، أخبر المؤمنين بذلك.

وقوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) ، قال بعض أهل الكلام : اللعن : هو الشتم من الله تعالى ، لكنا لا نستحسن إضافة لفظ الشتم إليه ؛ لأن المضاف إليه الشتم يكون مذموما به فى المعروف مما جبل عليه الخلق. ونقول : اللعن : هو الطرد فى اللغة ، طردهم الله عزوجل عن أبواب الخير.

وقوله : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، يعنى الداعين عليهم باللعن ، سموا بذلك «اللاعنين».

ويحتمل : تستبعدهم عن الخيرات وأنواع البر.

وقيل (٣) : (اللَّاعِنُونَ) هم البهائم ، إذا قحطت السماء ، وأسنت الأرض قالت البهائم : منعنا القطر بذنوب بنى آدم ، لعن الله عصاة بنى آدم.

وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا).

قيل (٤) : (تابُوا) عن الشرك ، و (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم ، و (وَبَيَّنُوا) صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن الكتمان ، و (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا بالكتمان ، و (وَبَيَّنُوا) ما كتموا.

وقوله : (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

قيل : يتوب عليهم : يقبل توبة من يتوب.

وقيل : يتوب عليهم ، أى : يوفقهم على التوبة.

وقيل : (الرَّحِيمُ) : هو المتجاوز عن ذنبهم فى هذا الموضع.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى ط.

(٢) بدل ما بين المعقوفين فى أ ، ط : اختلف فى (بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ)

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٨٥ ، ٢٣٨٦ ، ٢٣٨٧ ، ٢٣٨٨) ، وعن عكرمة (٢٣٨٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٦).

(٤) انظر تفسير البغوى (١ / ١٣٤).

وقيل : الكاشف عن كربهم.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

قيل : لعنة الله ، هو إدخاله إياهم النار وإخلادهم فيها.

ولعنة الملائكة قوله : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٥٠] جوابا لما سألوهم من تخفيف العذاب ، كقوله : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [غافر : ٤٩] ، وكقوله : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) [المؤمنون : ١٠٧] ، فتقول لهم الملائكة : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] ، هذا ما قيل من لعنة الملائكة.

وقيل : لعنة الناس أجمعين ، أنهم لما طلبوا من أهل الجنة الماء بقوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [الأعراف : ٥٠] هذا لعنة الناس. والله أعلم.

وقوله : (خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

قيل : لا يقالون ولا يردون إلى ما تمنوا ، كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣].

وقيل (١) : لا ينظرون ولا يؤجلون.

وقيل : لا يناظرهم خزان النار بالعذاب.

قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١٦٤)

وقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

ذكر هذا الاسم ؛ لأن كل معبود يعبد عند العرب يسمون إلها ؛ كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] ، وكقوله (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣] ؛ لهذا ذكر أن إلهكم الذى يستحق الألوهية والعبادة واحد بذاته ، لا واحد من جهة العدد بالخلق ذى أعداد وأزواج وأشكال ، بل واحد بذاته وبجلاله وعظمته وارتفاعه وتوحده عن شبه

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٠٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٢٩٨).

الخلق وجميع معايبهم. يقال : فلان واحد زمانه. يراد لارتفاع أمره وعلو مرتبته ، لا بحيث العدد ، إذ بحيث العدد مثله كثير.

وقوله : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، فيه إثبات إله واحد ، وفى قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفى غيره من الآلهة.

فإن قيل : لم كان هذا دليلا؟ وهو فى الظاهر دعوى.

قيل له : دليل وحدانيته فى قوله :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

خلق السموات وجعل فيها منافع ، وخلق الأرض وجعل فيها منافع للخلق ، ثم جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض لبعد ما بينهما ؛ إذ لا منفعة للخلق فى منافع إحداهما إلا باتصال منافع الأخرى بها من نحو ما جعل من معرفة الطرف فى الأرض بالكواكب ، وإنضاج الأعناب والثمار وينعها بالشمس والقمر ، وجعل إحياء الأرض وإخراج ما فيها من النبات من المأكول والمشروب والملبوس بالأمطار ؛ فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر وتعلقها به على أن منشئهما واحد ؛ لأنه لو كان من اثنين لكان إذا قطع هذا وصل الآخر ، وإذا وصل هذا قطع الآخر. فإذ لم يكن ، ولكنه اتصل ، دل أنه فعل واحد ، فهو ينقض على الثنوية والزنادقة قولهم.

وكذلك يدل اختلاف الليل والنهار على أن خالقهما واحد ؛ لأنه لو كان اثنين لكان إذا أتى هذا بالليل منع الآخر بالنهار ، وإذا أتى أحدهما بالنهار منع الآخر بالليل.

وفيه ذهاب عيش الخلق ، وفى ذهابه تفانيهم وفسادهم. فدل أنه واحد.

والثانى : أنه جعل للخلق فى الليل والنهار منافعا ، وجعل بعضها متصلة ببعض متعلقة مع تضادهما ، كقوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧٣]. فدل اتصال منافع أحدهما بالآخر مع اختلافهما وتضادهما أن محدثهما واحد.

وفيه دلالة حدوث العالم ؛ لما ذكرنا من تغييرها وزوالها من حال إلى حال. [فدل تغييرها وزوالها على إنما حدث زوال مثل هذه الأشياء](١) بابتدائها وعجزها على قدرة مثلها على أن لها محدثا.

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين فى ط : ودل أنه جهل هذه الأشياء.

والثانى : أن كل واحد منهما ، أعنى الليل والنهار ، يصير بمجيء الآخر مغلوبا ، فلو لا أن كان ثم لغير فيه تدبير ، وإلا ما احتمل أن يصير مغلوبا بعد ما كان غالبا ، فدل أن لهما محدثا ، وأنه واحد.

فيه دلالة البعث والحياة بعد الموت ؛ لأن الليل يأتى على النهار فيتلفه ويذهب به حتى لا يبقى فيه من أثر النهار شىء ، وكذلك النهار يأتى على الليل فيتلفه حتى لا يبقى من أثر الليل شىء. ثم وجد بعد ذلك كل واحد منهما على ما وجد فى النشوء من غير نقصان ولا تفاوت. فدل أنه قادر على إنشاء ما أماته وأتلفه ، وإن لم يبق له أثر ، على ما قدر من إيجاد ما أتلف ، وإنشاء ما أذهب من الليل بالنهار ، ومن النهار بالليل ، وإن لم يبق له أثر.

وقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، وقيل : اختلافهما لما جعل أحدهما مظلما والآخر مضيئا.

وقيل : اختلافهما لنقصانهما وزيادتهما ، إذ ما ينتقص من أحدهما يزداد فى الآخر ، فدل انتقاصهما وزيادتهما على أن منشئهما واحد ؛ لأنه لو كان من اثنين لمنع كل واحد منهما صاحبه من الزيادة والنقصان ، وبالله التوفيق ، ولتغير التدبير ، ولا يجرى كل عام الأمر فيه على ما جرى عليه فى العام الأول.

وقوله : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) فالآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه عزوجل جعل الفلك التى تجرى فى البحر من آياته. والمعتزلة جعلوها من آيات البحارين ؛ لأن الفلك قبل أن يعمل فيها وينحت لا تسمى فلكا ، ولكن يسمى خشبا ، فلو لم يكن عمل العباد وفعلهم فيها من مصنوعه ومخلوقه ، لزال به موضع الحجاج وتسميته باسم الآيات ؛ فدل أن له فيها صنعا وتقديرا حيث صار من عجيب آياته.

ثم فيه أعجوبة ، وهو أن الطباع تنفر من مغافصة البحر بالاطلاع على أمواجه وأهواله ، وأراهم من عظم آياته مما يجريه فى البحر على الحفظ والأمر الواقع لهم ؛ فدل أنه من عند قادر لطيف خبير.

وفيه أيضا دلالة وحدانيته ؛ وذلك أن أهل البر لهم الانتفاع بأهل البحر ، ولأهل البحر الانتفاع بأهل البر على بعد ما بينهما وتضادهما ؛ فدل أن محدثهما واحد.

ثم فيه دلالة إباحة التجارات مع الخطرات على احتمال المشقات وتحمل المؤنات.

وفى ذلك دلالة النبوة ؛ لأن يعلم أن اتخاذ السفن وبما فيه من المنافع لا يقوم له تدبير البشر ، ثبت أنه علم ذلك ممن علم جواهر الأشياء ، وما يصلح الأشياء وما لا يصلح ، وفى الحاجة إلى ذلك إيجاب القول بالرسالة للبشر.

وقوله : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) ، وفيه دلالة فضل العلوى على السفلى ؛ لأن ما ينزل من السماء من الماء ينزل عذبا ، وما يخرج من الأرض يخرج مختلفا : منه ما هو عذب ومنه ما هو أجاج ، ومنه ما هو مر. فدل ذا [على] فضل العلوى على السفلى.

وقوله : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، قد ذكرنا هذا أن فيه دلالة البعث.

وقوله : (وَبَثَّ فِيها) ، قيل : خلق.

وقيل : بسط.

وقيل (١) : فرق.

(مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ).

قيل : جعل فيها من كل جوهر الدابة.

منها : ما جعل مأكولا منتفعا بها من كل أنواع المنافع ؛ ليدلهم وليرغبهم على ما وعد لهم فى الجنة.

ومنها : ما جعل غير مأكولة ولا منتفع بها ، بل جعلها أعداء لهم ليدلهم على تحذير ما أوعدوا وحذروا فى النار.

وقوله : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) يحتمل وجهين :

يحتمل : تصرفها مرة للعذاب ، ومرة للمنافع ؛ لأنه جعل فيها منافع كثيرة للخلق : بها تجرى السفن فى البحار ، وبها تنشر السحاب فى الهواء ، وبها تنتفى الأشياء ، وبها يتميز ما للخلق مما للدواب مما يكثر ذلك. ثم يعلم من عظم لطفه أنه جعل الهواء بحال لا يقر فيها شىء وإن لطف ، والسحاب مع غلظه وكثافته جعل الهواء مع لطافتها ورقتها مقرّا للسحاب حتى يعلم أن ليس لغير الله فيه تدبير.

ويحتمل : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) صرفه (٢) إياها مرة صباء ، ومرة دبورا ، ومرة جنوبا ومرة نسيما ، ومرة يمينا ، ومرة شمالا للمنافع.

ثم فيه دلالة أنها من الأجسام ، لا من الأعراض ؛ لأنه جل وعزّ جعلها ماسة مانعة لا صارعة من قام فى ناحيتها ، وذلك صفة الأجسام ، لا صفة الأعراض ، لكن لا ترى للطافتها ؛ فدل أنها من الأجسام ما لا يرى ولا يمس ، كالهواء لا يرى ولا يمس وهو من الأجسام ، وكالذرة التى فى الشمس ترى ولا تمس.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١ / ٦٩) ، والبغوى (١ / ١٣٥).

(٢) فى ب : عرفه.

ثم دلهم عزوجل أن الذى سخر السحاب بالرياح التى جعلها فى الهواء ، وبما فيها من المنافع التى تقدم ذكرها ، على أن مدبرهما واحد ؛ إذ لو كان التدبير من عند اثنين لأوجب التناقض فى التدبير والصنعة ، إذ يجعل كل منهما على خلاف ما جعله الآخر ، ويتدبر كل منهما لينقض تدبير الآخر.

وفى اتساق التدبير واتقان (١) الصنعة وإحكامها دليل أن إلهكم هو الواحد الذى دعتكم هذه الأشياء إلى الإقرار بوحدانيته ، وألزمتكم العبودية له بما أودع له فى كل هذه المصنوعات من أدلة وحدانيته وآيات ربوبيته ؛ ولهذا قال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ليعتبروا ما فيها من الأدلة والحجج ؛ إذ من لا يعقل جهة الحكمة فى خلق هذه الأشياء : مم خلقت ، ولما ذا خلقت؟ وما الحكمة فيها؟ يستوى (٢) عليه خلقها وغير خلقها.

ثم فيه دلالة أن ما خلق من السموات والأرض ، والليل والنهار ، والرياح والسحاب ، خلقها ليدلهم على وحدانيته وربوبيته ، وجعلها مسخرة مذللة لهم. وبالله التوفيق.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(١٦٧)

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ).

قيل فيه بوجوه :

قيل : (يَتَّخِذُ) يعبد (مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً).

وقيل : (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) فى التسمية. يعنى : يتخذ الجواهر التى تصاغ أو تنحت ونحو ذلك ، مما يتعلق كونهم بصنيعهم ، يسفههم بهذا ، أنهم تركوا عبادة من به قامت لهم كل نعمة ، وسلم لهم كل خير ، وعبدوا ما قد اتخذوه بالمعالجات ولا قوة إلا بالله.

وقيل : (يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) ، أى أشباها فى التسمية ، أو أعدالا فى العبادة ، أو شركاء فى الحقوق كقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا

__________________

(١) فى أ ، ط : واتفاق.

(٢) فى أ : لا يستوى.

هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ...) الآية [الأنعام : ١٣٦] ، يسفههم بما عبدوا ما قد صنعوه بالصناعة أو النحت ، وزينوا بأنواع الزينة ، وعلموا أنه لا يملك شيئا ، وأعرضوا بذلك عن عبادة من عرفوه بشهادة جميع العالم به [لهم وعلموا أنه لا يملك شيئا مما عبدوه ضرّا ولا نفعا](١) ، بل لو كان يجوز العبادة لغير الله لكان أولئك الذين اتخذوا أولى من المتخذين.

ثم بين عظم سفههم : علمهم بجهلها بعبادتهم ، وعجزها عن الدفع عنها ، ثم قاموا بنصرها والدفع عنها سفها بغير علم.

وقوله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ).

قيل (٢) : يحبون عبادة الأنداد وطاعتهم [كحبهم عبادة](٣) الله وطاعته ؛ لأنهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

وقيل : يحبون عبادة الأنداد كحب المؤمنين عبادة ربهم.

وقيل (٤) : يحبون آلهتهم كما يحب الذين آمنوا ربهم.

ثم قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) منهم لآلهتهم.

قيل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أى : أشد حبّا لأجل الله.

وقيل : أى أشد اختيارا لطاعته ، وأكثر ائتمارا وإعظاما وإجلالا لأمره من إعظامهم وإجلالهم آلهتهم. والله أعلم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أى لعبادته منهم لعبادة الأوثان من حيث لا يؤثر المؤمن على عبادة الله ، أعنى فى الاختيار لا فيما يوجد من ظاهر الأحوال فى الدارين جميعا ، وهم يتركون عبادة الأوثان بوجود ما هو أعجب منها أو بأدنى شىء من متاع الدنيا.

ثم المحبة ـ محبة الشهوة والميل إليها ، وهو فى الخلق ، لا يحتمل فى الله ، ومحبته ـ الطاعة وإيثار الأمر والإعظام ، فهو فى الله يحتمل.

وبعد فإن الحب يخرج على الثناء ، وعلى العبادة والطاعة ، وعلى التبجيل والتعظيم ، وقد يخرج على ميل القلوب ، فحب الكفرة هذا ، وهو حب الجسدانى به الذى يولده

__________________

(١) سقط فى ط.

(٢) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤١٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٣).

(٣) فى ط : كعبادة.

(٤) قاله الربيع ، وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤١٧ ، ٢٤١٨) ، وأخرجه عبد بن حميد عن عكرمة وقتادة كما فى الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

الشهوة أو يستحسنه البصر.

وحب الله من المؤمنين من هذين الوجهين فاسد ، بل هو من الوجوه التى ذكرنا ، وقد كان حب الهيبة والرغبة ؛ إذ علموا النعم كلها من الله تعالى ، وعلموا أن السلطان والعزة لله ولا أحد ينال شيئا من ذلك إلا بالله ، فأوجب ما عنده من النعم الرغبة ، وما له من السلطان الهيبة. فذلك طريق حب المؤمنين مع ما ظهر من أياديه التى لا تحصى وأفضاله التى لا تحاط ، والعلم بهما موجبا تعظيم الأمور والمبادرة بالقيام بها مع الأدلة المظهرة تعاليه عن تقدير العقول وتصوير الأوهام. فيكون حبه فى الحقيقة فى تعظيم أموره ، وحسن صحبة نعمه ، ومعرفة حقوقه ، لا فى توهم ذاته ، وإشعار القلب ما يعقله ليرجع المحبة إلى ذلك ، بل هو فيما ذكرت ؛ ولذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران : ٣١] ، وهو أن من أحب آخر محبة الجلال والرفعة عظم رسوله وانقاد لما يدعوه إليه وإن كان فى ذلك هلاكه ، وتعظيما لأمره وتبجيلا ، فكيف فيما نجاته وفوزه فى الدارين. والله الموفق.

وقوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ).

قوله : (يَرَى) قرئ بالياء والتاء جميعا (١).

ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : ولو ترى الذين ظلموا يا محمد : شهدوا لك : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

ومن قرأ بالياء ، يقول : ولو يرى الذين ظلموا فى الدنيا إذا رأوا العذاب يعلمون أن القوة لله جميعا.

[ويحتمل : لو علم الذين ظلموا إذا علموا عذاب الآخرة يعلمون أن القوة لله جميعا](٢)

ويحتمل : المراد من قوله : (يَرَى) ، أى : يدخل ، كقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) [النازعات : ٣٦] ، أى لمن يدخلها ويصليها.

وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ).

(الَّذِينَ اتُّبِعُوا) يعنى : الرؤساء ، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعنى : الأتباع والسفلة ، تبرأ بعضهم من بعض العبادة من الأتباع من القادة ، وهو كقوله : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا

__________________

(١) ينظر : اللباب فى علوم الكتاب (٣ / ١٣٩ ، ١٤٠) ، المحرر الوجيز (١ / ٢٣٥) ، والبحر المحيط (١ / ٦٤٥) ، والدر المصون (١ / ٤٢٨).

(٢) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] ، وقوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٣٩] ، وكقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] ، وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [سبأ : ٣٣] ، وقوله : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) [سبأ : ٣٢] ، وكقوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥].

وقيل (١) : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) ، يعنى : الشياطين ، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) يعنى : الإنس.

وقيل : يبرأ الله كلا غدا أن أوثانهم لن تغنى عنهم شيئا ، ولا شركاؤهم الذين أضلوهم ، ولا أشرافهم شغلوا عنهم حين عاينوا النار.

وقوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ).

قيل (٢) : (الْأَسْبابُ) الأرحام والأنساب ؛ كقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، وكقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧].

وقيل : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) يعنى العهود والأيمان التى كانت بينهم فى الدنيا.

وقيل (٣) : تواصلهم فى الدنيا وتوادهم لم ينفعهم شيئا ؛ لأنهم كانوا يتواصلون ويتوادون فى الدنيا رجاء أن ينفع بعضهم بعضا ؛ كقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

وقوله : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ) التى لم يريدوا الله بها.

(حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) ، أى : حسرة عليهم وندامة.

__________________

(١) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٢٤) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٣٧) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٢٥ ، ٢٤٢٦ ، ٢٤٢٧ ، ٢٤٢٨ ، ٢٤٢٩) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٤).

وقيل : كل عمل عملوه أرادوا به غير وجه الله ، كان ذلك عليهم حسرة يوم القيامة.

وقيل (١) : أعمالهم التى عملوها فى الدنيا تصير حسرات عليهم حين يرفع الله لهم الجنة ، فينظرون إلى مساكنهم التى كانت لهم ، وبأسمائهم لغيرهم ، وبأسماء غيرهم لهم.

قال : وهذا عندى لا يصح أن يجعل الله لأحد نصيبا فى الجنة ثم يحرمه ، ولكن هذا على أصل الوعد ـ وعد من أطاع الله الجنة ، ومن عصاه النار ـ فهو على أن هؤلاء لو أطاعوا كان لهم نصيبا فى الجنة ، وهؤلاء لو عصوا كان لهم نصيبا فى النار.

أو يكون ذكر النصيب لهؤلاء فى الجنة هو الذى ادعوه لأنفسهم كما قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] فيحرمون ونورث عنهم ما ذكروا أنه لهم فى الجنة ؛ كما قال الله تعالى : (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا* وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) [مريم : ٧٩ ـ ٨٠].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١٦٩)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)

قيل فيه بوجوه :

قيل (٢) : إنهم كانوا يحرمون التناول من أشياء والانتفاع من نحو البحائر ، والسوائب ، والوصائل ، والحوامى ، فيقولون : حرم الانتفاع بها ؛ فأنزل الله تعالى فقال : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) وانتفعوا بها ؛ فإن الله لم يحرمها عليكم ، كقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [المائدة : ١٠٣].

وقيل : خلق فى الأرض ما هو حلال وما هو حرام ؛ فأباح التناول من الحلال ونهى عن الحرام.

وقيل : إن قوما يحرمون التناول من الرفيع من الطعام والرفيع من الملبوس ، ويتناولون من الدرن والرثة ، فنهوا عن ذلك.

ولا يحتمل أن يراد بالطيبات الحلال منها ، ولكن ما تطيب النفس من التناول ؛ لأن

__________________

(١) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٤٢) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٣٧).

(٢) قاله ابن جرير بنحوه (٢ / ٨٠) ، والبغوى (١ / ١٣٨).

النفس لا تتلذذ بالتناول من كل حلال ، ولكن إنما تطيب بما هو لها ألذ وأوفق (١). والله أعلم.

وعلى ذلك قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) الآيات [الأعراف : ٣٢ ـ ٣٣]. فيكون كأنه الذى فى الأرض حلالا وحراما ، ثم فما حل طيب دون ما حرم. فأمر بأكل ما طاب من ذلك إذا قدر عليه ؛ لأنه على قدر طيبه يعظم محله فى القلب ، وعلى ذلك يرغب نفسه بالشكر لمن أنعم به عليه ، والتعظيم لمن أكرمه بالذى طابت له به النفس. والله أعلم.

واختلف فى قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ).

قيل (٢) : آثار الشيطان.

وقيل : وساوس الشيطان.

وقيل : سبل الشيطان ؛ كقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣].

فهو يرجع إلى واحد.

وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وذكر فى موضع آخر ، وسماه وليّا بقوله : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧]. فالوجه فيه أنه يريهم فى الظاهر الموالاة ولكنه يريد فى الباطن إهلاكهم ، فإذا كان كذلك فهو فى الحقيقة عدو.

وجائز أن يكون (أَوْلِياؤُهُمُ) [البقرة : ٢٥٧] أى هو أولى بهم إذ عملوا ما عملوا بأمره ، أو أولياؤهم بما وافقوهم (٣) فى الفعل ، وشاركوهم فى الأمر (٤) ، وكانوا فى الحقيقة لهم أعداء ، إذ ذلك هلاكهم. ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) [النساء : ٧٦] ؛ لأنه يوسوس ويدعو فإن أطاعه ـ وإلا ليس له عليه سلطان سوى ذلك ـ فهو ضعيف ؛ لأن من لا ينفذ على رعيته سوى قوله فهو ضعيف ، يوصف بالضعف ـ والله أعلم ـ ويكون ضعيفا على من يتأمل مكايده ويتحفظ أحواله.

وقوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ).

قيل : يحتمل : أن يكون السوء هو الفحشاء ، والفحشاء هو السوء. لما أن كل واحد

__________________

(١) فى أ : وأرق.

(٢) قاله البغوى فى تفسيره (١ / ١٣٨).

(٣) فى ب : والوهم.

(٤) فى أ : الشر.

منهما يشتمل على كل نوع من الآثام.

ويحتمل : أن يكون السوء ما خفى من المعاصى ، والفحشاء ما ظهر منها.

وقيل (١) : السوء ما لا حد فيه ، والفحشاء ما فيه حد من نحو الزنى (٢) وشرب

__________________

(١) قاله ابن عباس كما فى تفسير البغوى (١ / ١٣٨).

(٢) الزنى لغة : الفجور. وهذه لغة أهل الحجاز ، وبنو تميم يقولون : زنى زناء. ويقال : زانى مزاناة ، وزناء : بمعناه.

وشرعا :

عرفه الحنفية بتعريفين : أعم ، وأخص. فالأعم : يشمل ما يوجب الحد وما لا يوجبه ، وهو وطء الرجل المرأة فى القبل فى غير الملك وشبهته ، قال الكمال بن الهمام : ولا شك فى أنه تعريف للزنى فى اللغة والشرع ؛ فإن الشرع لم يخص اسم الزنى بما يوجب الحد منه بل هو أعم. والموجب للحد منه بعض أنواعه ؛ ولذا قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين النظر ...» الحديث. ولو وطئ رجل جارية ابنه لا يحد للزنى ، ولا يحد قاذفه بالزنى فدل على أن فعله زنى وإن كان لا يحد به. والمعنى الشرعى الأخص للزنى : هو ما يوجب الحد ، وهو وطء مكلف طائع مشتهاة حالا أو ماضيا ، فى قبل خال من ملكه وشبهته ، فى دار الإسلام ، أو تمكينه من ذلك ، أو تمكينها.

وعرفه المالكية بأنه : وطء مكلف مسلم فرج آدمى لا ملك له فيه بلا شبهة تعمدا.

وعرفه الشافعية بأنه : إيلاج حشفة أو قدرها فى فرج محرم لعينه مشتهى طبعا بلا شبهة.

وعرفه الحنابلة : بأنه فعل الفاحشة فى قبل أو فى دبر.

والزنى حرام ، وهو من أكبر الكبائر بعد الشرك والقتل ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً* إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠]. وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢]. قال القرطبى : قال العلماء : قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) أبلغ من أن يقول : ولا تزنوا ؛ فإن معناه : لا تدنوا من الزنى. وروى عبد الله بن مسعود قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى الذنب عند الله أكبر؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قلت : ثم أى؟ قال : «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك». قلت : ثم أى؟ قال : «أن تزانى بحليلة جارك».

وقد أجمع أهل الملل على تحريمه فلم يحل فى ملة قط ؛ ولذا كان حده أشد الحدود ؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب. وهو من جملة الكليات الخمس ، وهى حفظ النفس والدين والنسب والعقل والمال.

ويتفاوت إثم الزنى ويعظم جرمه بحسب موارده : فالزنى بذات المحرم أو بذات الزوج أعظم من الزنى بأجنبية أو من لا زوج لها ؛ إذ فيه انتهاك حرمة الزوج ، وإفساد فراشه ، وتعليق نسب عليه لم يكن منه ، وغير ذلك من أنواع أذاه ؛ فهو أعظم إثما وجرما من الزنى بغير ذات البعل والأجنبية. فإن كان زوجها جارا انضم له سوء الجوار ، وإيذاء الجار بأعلى أنواع الأذى ، وذلك من أعظم البوائق ، فلو كان الجار أخا أو قريبا من أقاربه انضم له قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم ، وقد ثبت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بواثقه» ، ولا بائقة أعظم من الزنى بامرأة الجار. فإن كان الجار غائبا فى طاعة الله كالعبادة ، أو طلب العلم ، أو الجهاد ، تضاعف الإثم حتى إن الزانى بامرأة ـ

الخمر (١) وغيره.

__________________

ـ الغازى فى سبيل الله يوقف له يوم القيامة ، فيأخذ من عمله ما شاء ، قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم ، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين فى أهله فيخونه فيهم ، إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء فما ظنكم؟!» أى : ما ظنكم أن يترك له من حسناته وقد حكم فى أن يأخذ ما شاء على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة. فإن اتفق أن تكون المرأة رحما له انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها ، فإن اتفق أن يكون الزانى محصنا كان الإثم أعظم ، فإن كان شيخا كان أعظم إثما وعقوبة ، فإن اقترن بذلك أن يكون فى شهر حرام ، أو بلد حرام ، أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلوات وأوقات الإجابة تضاعف الإثم. ينظر : شرح القدير (٥ / ٣١) ، حاشية ابن عابدين (٣ / ١٤١) ، حاشية الدسوقى (٤ / ٣١٣) ، مغنى المحتاج (٤ / ١٤٣).

(١) حرمة الخمر ثابتة بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩٠ ، ٩١]. وتحريم الخمر كان بتدرّج وبمناسبة حوادث متعددة ؛ فإنهم كانوا مولعين بشربها. وأول ما نزل صريحا فى التنفير منها قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعضهم ، وقالوا : نأخذ منفعتها ، ونترك إثمها. فنزلت هذه الآية : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فتركها بعض الناس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعضهم فى غير أوقات الصلاة حتى نزلت : يا (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...) الآية ؛ فصارت حراما عليهم ، حتى صار يقول بعضهم : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر.

وقد أكد تحريم الخمر وكذلك الميسر فى الآية بوجوه من التأكيد : منها : تصدير الجملة ب (إنما). ومنها : أنه سبحانه وتعالى قرنهما بعبادة الأصنام. ومنها : أنه جعلهما رجسا. ومنها : أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتى منه إلا الشر البحت. ومنها : أنه أمر باجتنابهما. ومنها : أنه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الارتكاب خيبة وممحقة. ومنها : أنه ذكر ما ينتج عنهما من الوبال ، وهو وقوع التعادى والتباغض من أصحاب الخمر والقمار ، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلاة. وقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون ، أم أنتم على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟!

وأما السنة فقد وردت أحاديث كثيرة فى تحريم الخمر قليلها وكثيرها.

وقد قال جماهير العلماء : كل شراب أسكر كثيره حرم قليله ، فيعم المسكر من نقيع التمر والزبيب وغيرهما ؛ لما تقدم من الآية الكريمة ، وللأحاديث الشريفة التالية : عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل شراب أسكر فهو حرام». وقال عليه الصلاة والسلام : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام» ، وعن سعد بن أبى وقاص أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» ، وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، وقال عليه الصلاة والسلام : «كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام» ، وعن أم سلمة قالت : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كل مسكر ومفتر». فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر حرام ، ومنها ما يدل على تسمية كل مسكر خمرا ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مسكر خمر» ، كما يدل بعضها على أن ـ

وقيل : الفحشاء ما فحش فى العقل ، والسوء ما ينتهى بالنهى عنه.

وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

يخرج على الأول ، وهو السوء والفحشاء ، يأمرهم بذلك فيقولوا : الله أمرنا بها.

ويحتمل قوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ما قالوا : إن الله حرم هذه الأشياء ، أو القول على الله ما لا يعلمون بما لا يليق به من الولد وإشراك غيره فى عبادته. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٧١)

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا).

يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أن آباءهم كانوا أوصوهم ألا يفارقوا دينهم الذى هم عليه ، فقالوا عند ذلك : لا ندع وصية آبائنا ، كقوله : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣].

أو كانوا قوما سفهاء أصحاب التقليد ، فقالوا : إنا قلدنا آباءنا ، فلا نقلد غيرهم.

وقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ).

يخرج هذا الكلام على وجهين :

أى : تقلدون أنتم آباءكم وإن كانوا لا يعقلون شيئا.

ويحتمل : (أَوَلَوْ كانَ) ، أى : وقد كان آباؤكم لا يعقلون شيئا فكيف تقلدونهم؟ وهو كقوله : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) [الزخرف : ٢٤] ، أى وقد جئتكم. أو أن يقال : من جعل آباءكم قدوة يقتدى بهم؟

وقوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً)

قيل فيه بوجهين :

قيل (١) : مثلنا (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) أى يصوت (بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) يسمعون الصوت ولا يفهمون ما فيه.

__________________

ـ المسكر حرام لعينه ، قل أو كثر ، سكر منه شاربه أو لم يسكر.

ينظر : تفسير الزمخشرى (١ / ٦٧٤ ـ ٦٧٥) ، وتفسير القرطبى (٦ / ٢٨٥) ، وتفسير الطبرى (٧ / ٣١) ، وتفسير الرازى (٢ / ١٧٩).

(١) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٦٠ ، ٢٤٦١) ، وعن مجاهد (٢٤٦٢ ، ٢٤٦٣) ، وقتادة (٢٤٦٤ ، ٢٤٦٥) ، وانظر الدر المنثور (١ / ٣٠٦).

وقيل : (يَنْعِقُ) بمعنى ينعق ، ذكر الفاعل على إرادة المفعول ؛ كقوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أى مرضية. فعلى ذلك الأولى ، وهو فى اللغة جائز جار.

وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ).

سماهم بذلك وإن لم يكونوا فى الحقيقة كذلك ؛ لما لم ينتفعوا بها ، إذ الحاجة من هذه الأشياء الانتفاع بها ؛ ولذلك سماهم سفهاء لما لم ينتفعوا بعلمهم وعقلهم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٧٣)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ).

[يتوجه وجهين :

أحدهما : الإذن فى الأكل ما تستطيبه النفس وتتلذذ به ، ليكون أرضى وأشكر لله فيما أنعم عليه ، ويكون على إرادة الحلال بقوله : (طَيِّباتِ) ، فيكون فى الآية دليل كون المرزوق حلالا وحراما ، إذ قيل : «من ذا» ، ولم يقل : «كلوا ذا» ، ولو كان كل الرزق حلالا لكان يقول : «كلوا مما رزقناكم». والله أعلم.

ثم حق المحنة التمكين مما يحرم ويحل ، ومما ترغب إليه النفس وتزهد. فجائز جميع ذلك كله فى الملك وفى الرزق ليمكن لكم من الأمرين بالمحنة ، إذ ذلك حق المحنة. والله الموفق.

وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)](١) يدل على أن الذى كان لهم الأكل وأمرهم بالتناول منه هو الحلال (٢).

ثم فيه الدليل على أن من الرزق ما هو طيب حلال ، وما هو خبيث حرام ؛ إذ لو لم يكن منه طيب وخبيث لكان لا يشترط فيه ذكر الطيب ، بل يقول : «كلوا مما رزقناكم».

فإن قيل : فما وجه الحكمة فى الامتحان بجعل الخبيث رزقا لهم؟

قيل : هذا أصل المحنة فى كل شىء ، يجعل لهم الغذاء ؛ فلا يأمرهم بالامتناع عنه ، ويجعل لهم قضاء الشهوة فى المحرم ويأمرهم بالكف. وهو الظاهر من المحن.

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ.

(٢) فى ط : الحال.

على ما أباح لكم من الطيبات.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

أى : إن كنتم منه ترون ذلك.

ويحتمل : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أى إياه توحدون.

ويحتمل : (إِنْ كُنْتُمْ) ممّن تعبدونه ـ إياه تقصدون ـ فاجعلوا عبادتكم له خالصة ، لا تعبدوا غيره ليكون له. ولا قوة إلا بالله.

وقيل : «إن» بمعنى : إذ آثرتم عبادته فاشكروا له.

ويحتمل قوله : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) على جميع ما أنعم عليكم من الدين ، والنبى ، والقرآن وغير ذلك من النعم ، أى : كونوا له شاكرين.

وقوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ).

ذكر «الميتة» فمعناه : حرم عليكم الأكل من الميتة والتناول منها ، فإذا كان كذلك فليس فيه حرمة ما لا يؤكل والانتفاع به من نحو الصوف ، والشعر ، والعظم ونحوه.

ألا ترى أن هذا إذا أريد من الشاة وهى حية وأبين منها لم تصر ميتة لا يجوز الانتفاع به ، وغيره من اللحم إذا أبين منها صار ميتة (١) ؛ لما روى فى الخبر : «ما أبين من الحى

__________________

(١) إن العضو الذى يبان من الحيوان ـ أى يفصل منه ـ يختلف الحكم الشرعى فى حلّ أكله وحرمته بحسب الأحوال. وتفصيل ذلك كما يلى :

أ ـ العضو المبان من حيوان حى : يعتبر كميتة هذا الحيوان فى حل الأكل وحرمته ، فالمبان من السمك الحى أو الجراد الحى يؤكل عند الجمهور ؛ لأن ميتتهما تؤكل. والمالكية يقولون فى الجراد : إن كانت الإبانة خالية عن نية التذكية ، أو خالية عن التسمية عمدا لم يؤكل المبان ، وإن كانت مصحوبة بالنية والتسمية أكل المبان إن كان هو الرأس ، ولا يؤكل إن كان جناحا أو يدا أو نحوهما. والمبان من سائر الحيوانات البرية ذات الدم السائل لا يؤكل ، سواء أكان أصله مأكولا كالأنعام ، أم غير مأكول كالخنزير ؛ فإن ميتة كل منهما لا تؤكل بلا خلاف ، فكذلك ما أبين منه حيا ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميتة».

ب ـ العضو المبان من الميتة : حكمه حكم سائر الميتة فى الأكل وعدمه بلا خلاف.

ج ـ العضو المبان من المذكّى المأكول فى أثناء تذكيته قبل تمامها : حكمه حكم المبان من الحى. فلو قطع إنسان حلقوم الشاة وبعض مريئها للتذكية ، فقطع إنسان آخر يدها أو أليتها ، فالمقطوع نجس حرام الأكل ، كالمقطوع من الحى ، وهذا لا خلاف فيه أيضا.

د ـ العضو المبان من المذكى المأكول بعد تمام تذكيته وقبل زهوق روحه : يحل أكله عند الجمهور ؛ لأن حكمه حكم المذكى ؛ لأن بقاء رمق من الحياة هو رمق فى طريق الزوال العاجل ، فحكمه حكم الموت.

ه ـ العضو المبان من المصيد بآلة الصيد : إما أن يبقى المصيد بعد إبانته حيّا حياة مستقرة ، وإما أن تصير حياته حياة مذبوح : ففى الحالة الأولى : يكون عضوا مبانا من حيوان حى ؛ فيكون كميتته. وفى الحالة الثانية : يكون عضوا مبانا بالتذكية ، ويختلف النظر إليه ؛ لأن له صفتين شبه متعارضتين : ـ

فهو ميت» (١).

ولأن الصوف واللبن وغيرهما ليسوا بذوى الروح فيموت باستخراج الروح منها ؛ كالحيوان على ما ذكرنا من الخبر.

وروى عن عمر ، رضى الله تعالى عنه ، أنه سئل عن الأنفحة استخرجت من الميتة ، فقال : أفيها دم؟ فقيل : لا. فقال : لا بأس (٢) ، كلوا ؛ فإن اللبن على ذكاة فيه. أو كلام نحو هذا.

وكذلك روى عن ابن عمر ، رضى الله تعالى عنهما ، أنه قال : لا بأس (٣).

فإن قيل : ألا فسد بنجاسة الضرع ؛ كالوعاء النجس يكون فيه اللبن يفسد بفساده؟

قيل : إن الشىء إذا كان موضعا للشىء ومعدنه فى الأصل فإن فساد ذلك الموضع لا يوجب فساد ما فيه.

ألا ترى أن الدم الذى يجرى بين الجلد واللحم إذا ذبح لا يفسد اللحم لما كان ذلك موضعه ومظانه؟! فعلى ذلك اللبن فى الضرع.

وأما الإهاب : فإنه إذا دبغ فقد طهر ؛ لما روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» (٤).

والدم المذكور فى هذه الآية هو الدم المسفوح. دليله قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام : ١٤٥] ،

__________________

ـ الصفة الأولى : أنه عضو أبين قبل تمام التذكية فيكون حكمه حكم المبان من الحى فلا يحل. والصفة الثانية : أن التذكية سبب فى حل المذكى ، وكل من المبان والمبان منه مذكى ؛ لأن التذكية بالصيد هى تذكية للمصيد كله لا لبعضه ، فيحل العضو كما يحل الباقى.

ينظر : مواهب الجليل (٣ / ٢٢٨) ، والمحلى لابن حزم (٧ / ٤٤٩) ، والشرح الكبير (١١ / ٥٣) ، وحاشية ابن عابدين (٥ / ١٩٧).

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ١٢٤ ، ٢٣٩) عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن جباب أسنمة الإبل وأليات الغنم ، فقال : «ما قطع من حى فهو ميت» ، وقال الحاكم بعد الرواية الأولى : رواه عبد الرحمن بن مهدى عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم مرسلا ، وقيل : عن زيد بن أسلم عن ابن عمر. ثم ساقه من حديث ابن عمر مسندا ، وقال بعد الرواية الثانية : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ووافقه الذهبى.

قلت : ورجح الدار قطنى الرواية المرسلة ، نقله الحافظ فى التلخيص (١ / ٣٩) ، وذكر له شواهد فانظرها.

(٢) انظر السنن الكبرى للبيهقى (١٠ / ٦ ـ ٧).

(٣) ينظر : التخريج السابق.

(٤) أخرجه مسلم (١ / ٢٧٧) ، كتاب الحيض : باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (١٠٥ / ٣٦٦) ، ومالك فى الموطأ (٢ / ٤٩٨) ، (١٧) ، والشافعى فى مسنده (١ / ٢٦) (٥٨).

فالمحرم من الدماء المسفوح وهو السائل. ألا ترى أن الشاة إذا ماتت صارت ميتة بهلاك ذلك المحرم من الدم فيها؟!

وقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

واختلف فيه على أوجه :

قيل : قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) هو تفسير قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) ، وهو كقوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [النساء : ٢٥] ، فصار قوله : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) تفسير قوله : (مُحْصَناتٍ) ؛ لأنها إن كانت محصنة كانت غير مسافحة ولا متخذة الأخدان. فعلى ذلك إن كان مضطرّا كان غير باغ ولا عاد. والله أعلم.

وقيل (١) : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) أى غير مستحل لتناوله ، (وَلا عادٍ) بعدو على أكله للجوع.

وقيل (٢) : (غَيْرَ باغٍ) غير متجاوز حده ، (وَلا عادٍ) ولا مقتصر نهايته.

[وقيل : (غَيْرَ باغٍ) فيه (وَلا عادٍ) على حد الله إذ حرمه عليه فى غير حال الاضطرار ، فيصير باغيا فى الأكل ، عاديا على حد الله.

وقيل (٣) : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) فى مجاوزته فى أكل الحد المجعول له من إقامة المهجة ودفع الضرورة ، فأكل بشهوة أو لحاجة غير حاجة الجوع خاصة.

وقيل (٤) : (غَيْرَ باغٍ) على المسلمين ، (وَلا عادٍ) عليهم](٥).

[لكن تصريح النهى عن الانتفاع بالشىء وحرمة هتكها صاحبها نهى عما هتك لا عما كان مباحا لهم كما روى عن نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صلاة للمرأة الناشزة ولا للعبد الآبق» وذلك نهى عن الإباق والنشوز لا عن الصلاة ، فمثله لو كان نهيا ، فكيف ولا نهى؟! ولكن ذكر إباحة على صفة لم يذكر الحل والتحريم فى الابتداء مع تلك الصفة وجملته أن بغيه لا يحرم ما قد أحل بالخبر هو بالاتفاق ؛ فكذلك ما أحل بالسبب ، دليل ذلك : أمر الكفرة وسائر الفسقة أنه لم يحرم بينهم شىء من ذلك.

__________________

(١) قاله مقاتل بن حيان كما فى تفسير البغوى (١ / ١٤١).

(٢) ذكره البغوى فى تفسيره (١ / ١٤١).

(٣) قاله السدى بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠١).

(٤) قاله مجاهد كما فى الدر المنثور للسيوطى (١ / ٣٠٨) ، وعزاه لسفيان بن عيينة ، وآدم ابن أبى إياس وسعيد بن منصور وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبى الشيخ والبيهقى فى المعرفة والسنن ، عنه.

(٥) ما بين المعقوفين سقط فى أ.

والثانى النهى عن قتله](١)

ثم اختلف فى حرمة عين الميتة فى حال الاضطرار (٢) وحلها :

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط فى أ ، ط.

(٢) أجمع المسلمون على إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطر ، وقد ذكر الله عزوجل الاضطرار إلى المحرمات فى خمسة مواطن من القرآن الكريم : الأول ـ الآية ١٧٣ من سورة البقرة ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). الثانى ـ الآية ٣ من سورة المائدة ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). الثالث ـ الآية ١٤٥ من سورة الأنعام ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). الرابع ـ الآية ١١٩ من سورة الأنعام ، وقد جاء فيها : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ). الخامس ـ الآية ١١٥ من سورة النحل ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) معناه : فمن دفعته الضرورة وألجأته إلى تناول الميتة ونحوها ، بأن يخاف عند ترك تناولها ضررا على نفسه أو بعض أعضائه مثلا. والباغى ، هو الذى يبغى على غيره فى تناول الميتة ، بأن يؤثر نفسه على مضطر آخر ، فينفرد بتناول الميتة ونحوها فيهلك الآخر من الجوع. وقيل : الباغى هو العاصى بالسفر ونحوه والعادى : هو الذى يتجاوز ما يسد الرمق ويندفع به الضرر ، أو يتجاوز حد الشبع. والمخمصة : المجاعة ، والتقييد بقوله تعالى : (فِي مَخْمَصَةٍ) إنما هو لبيان الحالة التى يكثر فيها وقوع الاضطرار ، وليس المقصود به الاحتراز عن الحالة التى لا مجاعة فيها ؛ فإن المضطر فى غير المجاعة يباح له التناول كالمضطر فى المجاعة. والمتجانف للإثم : هو المنحرف المائل إليه ، أى : الذى يقصد الوقوع فى الحرام ، وهو البغى والعدوان المذكوران فى الآيات الأخرى.

ومما ورد فى السنة النبوية ما رواه أبو واقد الليثى ـ رضى الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا مخمصة ، فما يحل لنا من الميتة؟ فقال : «إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها».

غير أنهم اختلفوا فى المقصود بالإباحة ، وفى حد الضرورة المبيحة ، وفى تفصيل المحرمات التى يبيحها الاضطرار ، وترتيبها عند التعدد ، وفى الشبع أو التزود منها ، وغير ذلك من المسائل. وبيان ذلك ما يأتى :

المقصود بإباحة الميتة ونحوها :

اختلف الفقهاء فى المقصود بإباحة الميتة ونحوها ، فقال بعضهم : المقصود : جواز التناول وعدمه ؛ لظاهر قوله تعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). وهذا القول ذهب إليه بعض المالكية والشافعية والحنابلة. وقال آخرون : إن المقصود بإباحة الميتة ونحوها للمضطر : وجوب تناولها. وإلى هذا ذهب الحنفية ، وهو الراجح عند المالكية والشافعية والحنابلة. ودليله قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) وقوله عزوجل : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). ولا شك أن الذى يترك تناول الميتة ونحوها حتى يموت يعتبر قاتلا لنفسه ، وملقيا بنفسه إلى التهلكة ؛ لأن الكف عن التناول فعل منسوب للإنسان.

ولا يتنافى القول بالوجوب عند القائلين به مع قوله تعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ؛ لأن نفى الإثم فى ـ

__________________

ـ الأكل عام يشمل حالتى الجواز والوجوب ، فإذا وجدت قرينة على تخصيصه بالوجوب عمل بها كما فى قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فنفى الجناح عن التطوف ، أى : السعى بين الصفا والمروة ، مفهوم عام قد خصص بما دل على وجوبه أو فرضيته.

حد الضرورة المبيحة :

قال أبو بكر الجصاص : معنى الضرورة فى الآيات : خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل. وقد انضوى تحته معنيان :

أحدهما : أن يحصل فى وضع لا يجد غير الميتة.

والثانى : أن يكون غيرها موجودا ، ولكنه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه.

وكلا المعنيين مراد بالآية عندنا ؛ لاحتمالهما. وحالة الإكراه يؤيد دخولها فى معنى الاضطرار قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». ويؤخذ من (الدر المختار) أن الضرورة تشمل خوف الهلاك ، وخوف العجز عن الصلاة قائما أو عن الصيام. وفسر (الشرح الصغير) للمالكية الضرورة بخوف الهلاك أو شدة الضرر. وفسرها الرملى الشافعى فى (نهاية المحتاج) بخوف الموت أو المرض أو غيرهما من كل محذور يبيح التيمم ، وكذا خوف العجز عن المشى ، أو التخلف عن الرفقة إن حصل له به ضرر ، وكذا إجهاد الجوع إياه بحيث لا يستطيع معه الصبر. والمحذور الذى يبيح التيمم عند الشافعية هو حدوث مرض أو زيادته أو استحكامه ، أو زيادة مدته ، أو حصول شين فاحش فى عضو ظاهر ، بخلاف الشين الفاحش فى عضو باطن. والظاهر : ما يبدو عند المهنة كالوجه واليدين ، والباطن : بخلافه. ويعتمد فى ذلك قول الطبيب العدل فى الرواية. وإذا كان المضطر عارفا فى الطب عمل بمقتضى معرفته ، ولا يعمل بتجربته إن كان مجربا ، على ما قاله الرملى. وقال ابن حجر : يعمل بها ، ولا سيما عند فقد الطبيب. وقال الحنابلة : إن الضرورة أن يخاف التلف فقط لا ما دونه ، هذا هو الصحيح من المذهب ، وقيل : إنها تشمل خوف التلف أو الضرر ، وقيل : أن يخاف تلفا أو ضررا أو مرضا أو انقطاعا عن الرفقة يخشى معه الهلاك.

تفصيل المحرمات التى تبيحها الضرورة :

ذكر فى الآيات السابقة تحريم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وما ذبح على النصب ، فهذه كلها تبيحها الضرورة بلا خلاف. وكذا كل حيوان حى من الحيوانات التى لا تؤكل يحل للمضطر قتله بذبح أو بغير ذبح للتوصل إلى أكله. وكذا ما حرم من غير الحيوانات لنجاسته ، ويمثلون له بالترياق المشتمل على خمر ولحوم حيات. أما ما حرم لكونه يقتل الإنسان إذا تناوله ـ كالسموم ـ فإنه لا تبيحه الضرورة ؛ لأن تناوله استعجال للموت وقتل للنفس ، وهو من أكبر الكبائر. وهذا متفق عليه بين المذاهب.

واختلفت الاجتهادات فى الخمر فقال الحنفية : يشربها من خاف العطش ولم يجد غيرها ، ولا يشرب إلا قدر ما يدفع العطش ، إن علم أنها تدفعه. وقال المالكية والشافعية والحنابلة : لا يشرب المضطر الخمر الصرفة للعطش ، وإنما يشربها من غص بلقمة أو غيرها ، فلم يجد ما يزيل الغصة سوى الخمر. ـ

__________________

ـ شروط إباحة الميتة ونحوها للمضطر :

إن الفقهاء فى كلامهم عن الاضطرار وأحكامه الاستثنائية لم يجمعوا شروط إباحة الميتة وغيرها من المحرمات لمضطر تحت عنوان خاص بالشروط ، بل يجدها المتتبع مفرقة فى خلال المسائل والأحكام. ويستخلص من كلامهم عن حالات الاضطرار وأحكامها أن الشروط الشرعية التى يشترطها فقهاء المذاهب لإباحة المحرمات للمضطر نوعان : شروط عامة متفق عليها بين المذاهب لجميع أحوال الاضطرار ، وشروط عامة اشترطتها بعض المذاهب دون سواها. وفيما يلى بيان ذلك :

أولا ـ الشروط العامة المتفق عليها :

يشترط فى إباحة الميتة ونحوها للمضطر بوجه عام ثلاثة شروط : الأول ـ ألا يجد طعاما حلالا ولو لقمة ، فإن وجدها وجب تقديمها ، فإن لم تغنه حل له المحرم.

الثانى ـ ألا يكون قد أشرف على الموت بحيث لا ينفعه تناول الطعام ، فإن انتهى إلى هذه الحالة لم يحل له المحرم.

الثالث ـ ألا يجد مال مسلم أو ذمى من الأطعمة الحلال ، وفى هذا الشرط بعض تفصيل بيانه فيما يلى :

قال الحنفية : لو خاف المضطر الموت جوعا ، ومع رفيقه طعام ليس مضطرا إليه فللمضطر أن يأخذ بالقيمة منه قدر ما يسد جوعته ، فإن لم يكن معه ما يؤدى به القيمة حالا لزمته دينا فى ذمته. وإنما تلزمه القيمة ؛ لأن من القواعد العامة المقررة عندهم : أن الاضطرار لا يبطل حق الغير. وكذا يأخذ من الماء الذى لغيره ما يدفع العطش ، فإن منعه صاحبه قاتله المضطر بلا سلاح ؛ لأن الرفيق المانع فى هذه الحال ظالم. فإن خاف الرفيق جوعا أو عطشا ترك له بعضه. ولا يحل له أن يدفع الجوع أو العطش بالمحرمات كالميتة والخمر مع وجود حلال مملوك لغيره ليس مضطرا إليه ، والمضطر قادر على أخذه ولو بالقوة. وجوز المالكية فى هذه الحال مقاتلة صاحب الطعام بالسلاح بعد الإنذار ، بأن يعلمه المضطر أنه مضطر ، وأنه إن لم يعطه قاتله ، فإن قتله بعد ذلك فدمه هدر ؛ لوجوب بذل طعامه للمضطر ، وإن قتله الآخر فعليه القصاص.

وقال الشافعية والحنابلة : لو وجد المضطر طعاما لغيره ، فإن كان صاحبه غائبا ولم يجد المضطر سواه ، أكل منه وغرم عند قدرته مثله إن كان مثليا ، وقيمته إن كان قيميا ؛ حفظا لحق المالك. فإن كان صاحبه حاضرا ، فإن كان ذلك الحاضر مضطرا أيضا لم يلزمه بذله للأول إن لم يفضل عنه ، بل هو أولى ؛ لحديث : «ابدأ بنفسك ...» ، لكن يجوز له إيثاره على نفسه إن كان الأول مسلما معصوما ، واستطاع الثانى الصبر على التضييق على نفسه. فإن فضل بعد سد رمقه شىء لزمه بذله للأول. وإن لم يكن صاحب الطعام الحاضر مضطرا لزمه إطعام المضطر. فإن منعه ، أو طلب زيادة على ثمن المثل بمقدار كثير جاز للمضطر قهره ، وإن أدى إلى قتله ، ويكون دم المانع حينئذ مهدرا. وإن قتل المالك المضطر فى الدفع عن طعامه لزمه القصاص. وإن منع المالك الطعام عن المضطر فمات هذا جوعا لم يضمنه المانع بقصاص ولا دية ؛ لأنه لم يحدث فعلا مهلكا. فإن لم يمنع المالك الطعام ، ولكن طلب ثمنا ، ولو بزيادة على ثمن المثل بمقدار يسير لزم المضطر قبوله به ، ولم يجز له قهره. ولو أطعمه ولم يذكر عوضا فلا عوض له على الأرجح ؛ حملا له على المسامحة المعتادة فى الطعام ، ولا سيما فى حق المضطر. وقيل : يلزمه ـ

قال بعضهم : عينها حلال ليس بمحرم.

وقال آخرون : عينها محرمة لكن التناول منها مباح. وهو قول أصحابنا رحمهم‌الله.

فمن قال بحل عينها للضرورة ذهب إلى أن الحظر والإباحة لا يقع فى الأصل لعين الشىء ، ولا يتكلم فيها بحل ولا حرمة بحيث العين ، بل الحرمة والحل هى الواردة عليها ، موجبة حق الحرمة ، ثم الحرمة ترتفع بالضرورة. فيبقى عينه على ما كان فى الأصل.

ومن قال بحرمة عينها وبحل التناول منها ذهب إلى أن الحرمة حدثت لما كانت ميتة ومهلّا لغير وجه الله. فحدوث الحل للضرورة يدل على أن العلة كانت هى الضرورة فى حق رفع حرمة التناول ، ولم ترفع حرمة عينها إلا أنه أبيح التناول منها للضرورة على بقاء الحرمة. ولكن يجب ألا يتكلم فى هذا ومثله بحرمة العين وحلها بعد أن تكون الإباحة للضرورة ؛ إذ لله أن يحل عينا محرمة فى حال الاضطرار ، وله أن يحرم عينها ويحل التناول منها للاضطرار. فالتكلم فيه فضل وتكلف. وبالله التوفيق.

__________________

ـ ثمن المثل ؛ لأنه خلص من الهلاك بذلك فيرجع عليه بالبدل ، فإن اختلفا فى ذكر العوض صدق المالك بيمينه ؛ إذ لو لم يصدق لرغب الناس عن إطعام المضطر ، وأفضى ذلك إلى الضرر.

ثانيا ـ الشروط العامة المختلف فيها :

اختلف فقهاء المذاهب فى بعض الشرائط المبيحة لأكل الميتة ونحوها من المحرمات للمضطر : فاشترط الشافعية أن يكون المضطر نفسه معصوم الدم. فإن كان المضطر مهدر الدم شرعا كالحربى ، والمرتد ، وتارك الصلاة الذى استوجب القتل ، لم يجز له أكل المحرمات من ميتة أو غيرها إلا إذا تاب. أما مهدر الدم الذى لا تفيد توبته عصمة دمه : كالزانى المحصن ، والقاتل فى قطع الطريق الذى قدر عليه الحاكم ، فقيل : لا يأكل الميتة حتى يتوب وإن لم تكن توبته مفيدة لعصمته. وقيل : لا يتوقف حل الميتة له على توبته.

واشترط الشافعية والحنابلة ألا يكون المضطر عاصيا بسفره أو بإقامته. فإن كان كذلك لم يحل له تناول الميتة ونحوها حتى يتوب. والعاصى بسفره أو بإقامته هو الذى نوى بسفره أو إقامته المعصية ، أى : هو الذى سافر أو أقام لأجل المعصية ، كمن خرج من بلده ناويا قطع الطريق ، وكذا الذى قصد بسفره أو إقامته أمورا مباحة ثم قلبه معصية : كمن سافر أو أقام للتجارة ثم بدا له أن يجعل السفر أو الإقامة لقطع الطريق. وأما العاصى فى أثناء السفر ـ وهو من سافر سفرا مباحا ، وفى أثناء سفره عصى بتأخير الصلاة عن وقتها ، أو بالزنى وهو غير محصن ، أو بالسرقة أو نحو ذلك ـ فلا يتوقف حل أكله للميتة ونحوها على توبته. ومثله العاصى فى إقامته ، كمن كان مقيما فى بلده لغرض مباح ، وعصى فيها بنحو ما سبق ، فإنه يباح له الأكل من المحرم إن اضطر إليه من غير توقف على التوبة. والوجه لمنع المسافر سفر معصية أن أكل الميتة رخصة ، والعاصى بسفره أو إقامته ليس من أهلها ، وأيضا فى الأكل المذكور عون على المعصية فلا يجوز.

أما الحنفية والمالكية ، فقالوا : لا يشترط فى المضطر عدم المعصية ، لإطلاق النصوص وعمومها.

ينظر : أحكام القرآن للجصاص (١ / ١٥٠) ، والمحلى لابن حزم (٧ / ٤٢٦) ، وحاشية ابن عابدين (٥ / ٢١٥ ، ٢٦٥) ، والشرح الصغير مع حاشية الصاوى (١ / ٣٢٣).

ثم المسألة فى الباغى والعادى : يحرم عليه التناول منها فى حال الاضطرار أم لا؟

قال بعض أهل العلم : محرم ذلك عليه لأوجه :

أحدها : لأنه ظالم. وفى المنع عن التناول منها زجر عن الظلم ، وفى إباحة التناول منها إعانة على الظلم ، لذلك حرم عليه.

والثانى : أن القاتل عوقب عند ما يأوى إلى الحرم بترك المؤاكلة والمشاربة والمجالسة إلى أن يضطر فيخرج عقوبة له. فكذلك هذا يحرم عليه التناول منه عقوبة له إلى أن ينزجر.

وقال : إنه قد استحق بالبغى على أهل الإسلام العقوبة العظيمة ، ويعاقب بهذا أيضا.

ثم من قول هذا الرجل فى الباغى : أنه إذا أتلف أموال أهل العدل لا يتعرض له بها ولا يغرم. وكذلك العادل إذا أتلف أموال أهل البغى (١) لا غرامة عليه (٢).

__________________

(١) البغى حرام ، والبغاة آثمون ، ولكن ليس البغى خروجا عن الإيمان ؛ لأن الله سمى البغاة مؤمنين فى قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ...) إلى أن قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ، ويحل قتالهم ، ويجب على الناس معونة الإمام فى قتالهم. ومن قتل من أهل العدل أثناء قتالهم فهو شهيد. ويسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله ، ويقول الصنعانى : إذا فارق أحد الجماعة ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم يخلى وشأنه ؛ إذ مجرد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال المخالف. وفى حديث رواه الحاكم وغيره قال النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لابن مسعود : «يا ابن مسعود : أتدري ما حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟» قال ابن مسعود : الله ورسوله أعلم. قال : «حكم الله فيهم ألا يتبع مدبرهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يذفّف على جريحهم». ويرى الشافعية أن البغى ليس اسم ذم ؛ لأن البغاة خالفوا بتأويل جائز فى اعتقادهم ، لكنهم مخطئون فيه ، فلهم نوع عذر ؛ لما فيهم من أهلية الاجتهاد. وقالوا : إن ما ورد فى ذمهم ، وما وقع فى كلام الفقهاء فى بعض المواضع من وصفهم بالعصيان أو الفسق ـ محمول على من لا أهلية فيه للاجتهاد ، أو لا تأويل له. وكذلك إن كان تأويله قطعى البطلان.

ينظر : سبل السلام (٣ / ٤٠٩) ، وروح المعانى (٢٦ / ١٥١).

(٢) اتفق الفقهاء على أن أموال البغاة لا تغنم ، ولا تقسم ، ولا يجوز إتلافها ، وإنما يجب أن ترد إليهم. لكن ينبغى أن يحبس الإمام أموالهم دفعا لشرهم بكسر شوكتهم حتى يتوبوا ، فيردها إليهم لاندفاع الضرورة ، ولأنها لا استغنام فيها ، وإذا كان فى أموالهم خيل ونحوها ـ مما يحتاج فى حفظه إلى إنفاق ـ كان الأفضل بيعه وحبس ثمنه. وفى ضمان إتلاف مالهم كلام ؛ فإن العادل إذا أتلف نفس الباغى أو ماله حال القتال بسبب القتال أو ضرورته لا يضمن ؛ إذ لا يمكن أن يقتلهم إلا بإتلاف شىء من أموالهم كالخيل ، فيجوز عقر دوابهم إذا قاتلوا عليها ، وإذا كانوا لا يضمنون الأنفس فالأموال أولى. أما فى غير حال القتال وضرورته فلا تحرق مساكنهم ، ولا يقطع شجرهم ؛ لأن الإمام إذا ظفر لهم بمال حال المقاتلة فإنه يحبسه حتى يرد إليهم ، فلا تؤخذ أموالهم ؛ لأن مواريثهم قائمة ، وإنما قوتلوا بما أحدثوا من البدع ، فكان ذلك كالحد يقام عليهم. وقيد الماوردى الضمان بما إذا كان الإتلاف خارج القتال بقصد التشفى والانتقام ، أما إذا كان لإضعافهم أو هزيمتهم فلا ـ

والغرامة نوع من العقوبات ، فإذا استويا فى سقوط الغرامة ـ وإن كان أحدهما ظالما ـ كيف لا استويا أيضا فى هذا؟ وما الذى يوجب التفرقة بينهما؟

ثم نقول لهذا المخالف لنا : إن الباغى المقيم يمسح يوما وليلة ، وإذا سافر لم يرخص له المسح. وهو فى الحضر رخصة كهى فى السفر. فما باله حرم إحدى الرخصتين على إباحة الأخرى مع وجود الظلم والبغى؟ فقال : لأن الضرورة طريق التناول فيه رخصة ، لا ترخص الظالم ، إذ هو تخفيف.

والأصل فى المسألة أن الباغى على أهل الإسلام لا يأتمر بأحكام أهل الإسلام ؛ إذ لو ائتمر أمر بالكف عن بغيه. وإذا لم يأتمر فى ذا ، لا شك أنه لا يأتمر فى الثانى ، ولا يؤمر بما فيه العبث ، ولا يزجره التحريم عن التناول ، إذ على العلم بحرمة البغى بغى ما اشتهت نفسه ، فكيف ينتهى للحرمة فيما اضطرت إليه نفسه؟ ولم يملك الغلبة عليها فى شهوتها إيثارا لها ، كذلك إنظارا لها للكف لا معنى لإحداث الحرمة عليه ببغيه.

__________________

ـ ضمان. واستظهر الزيلعى وابن عابدين حمل الضمان على ما قبل تحيزهم وخروجهم ، أو بعد كسرهم وتفرق جمعهم.

ونقل الزيلعى عن المرغينانى : أن العادل إذا أتلف نفس الباغى أو ماله لا يضمن ولا يأثم ؛ لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم. وفى (المحيط) : إذا أتلف مال الباغى يؤخذ بالضمان ؛ لأن مال الباغى معصوم فى حقنا ، وأمكن إلزام الضمان ، فكان فى إيجابه فائدة.

وإذا أتلف أهل البغى لأهل العدل مالا فلا ضمان عليهم ؛ لأنهم طائفة متأولة فلا تضمن كأهل العدل ؛ ولأنه ذو منعة فى حقنا ، وأما الإثم فإنه لا منعة له فى حق الشارع ، ولأن تضمينهم يفضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة ؛ لما رواه عبد الرزاق بإسناده عن الزهرى ، أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها ، وشهدت على قومها بالشرك ، ولحقت بالحرورية فتزوجت ، ثم إنها رجعت إلى أهلها تائبة ، قال فكتب إليه : أما بعد ، فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ممن شهد بدرا ـ كثير ، فاجتمع رأيهم على ألا يقيموا على أحد حدّا فى فرج استحلوه بتأويل القرآن ، ولا قصاصا فى دم استحلوه بتأويل القرآن ، ولا يرد مال استحلوه بتأويل القرآن ، إلا أن يوجد شىء بعينه فيرد على صاحبه ، وإنى أرى أن ترد إلى زوجها ، وأن يحد من افترى عليها.

وفى قول للشافعى : يضمنون ؛ لقول أبى بكر : «تدون قتلانا ، ولا ندى ـ من الدية ـ قتلاكم» ، ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح ؛ فوجب ضمانه ، كالتى أتلفت فى غير حال الحرب. وإذا تاب البغاة ورجعوا أخذ منهم ما وجد بأيديهم من أموال أهل الحق ، وما استهلكوه لم يتبعوا به ، ولو كانوا أغنياء ؛ لأنهم متأولون.

وإذا قتل الباغى أحدا من أهل العدل فى غير المعركة يقتل به ؛ لأنه قتل بإشهار السلاح والسعى فى الأرض بالفساد كقاطع الطريق ، وقيل : لا يتحتم قتله ، وهو الصحيح عند الحنابلة ؛ لقول على ـ رضى الله عنه ـ : (إن شئت أن أعفو ، وإن شئت استقدت).

ينظر : حاشية الدسوقى (٤ / ٣٠٠) ، والتاج والإكليل (٦ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩) ، حاشية ابن عابدين (٣ / ٣١٢) ، تبيين الحقائق (٣ / ٢٩٦) ، المغنى (٨ / ١١٣).

وأصله قوله عزوجل : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، وقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ، حرم عليهم إلقاء أنفسهم إلى المهالك ، وقتلهم الأنفس. وفى دفع هذه الرخصة عنه إباحة محرم ، وهو أعظم منه عليه. فلم يفعل؟ وأما [من] قال : بأن من قتل فأوى إلى الحرم ، فإن أهله نهوا عن مؤاكلته ومشاربته ، ولم ينه فى نفسه الأكل والشرب ، إذ لا يقدر أحد منعه عن ذلك. فالقول فى مثله تكلف. فكذا الأول. والله أعلم.

ثم المسألة فى القدر الذى يجوز أن يتناول منها.

فعندنا : أن الإباحة كانت للاضطرار ، فهو على القدر الذى له الدفع والإزالة ، وذلك بدون ما فيه شدة المجاعة ، وذلك الأصل فى انتفاء الضرورة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(١٧٦)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) : أى فى الكتاب يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أن كتموا ما فى كتبهم من بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله ، وصفته.

ويحتمل : ما كتموا من الأحكام والشرائع من نحو الحدود والرجم وغير ذلك من الأحكام. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم.

وقوله : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).

يحتمل وجهين :

يحتمل : ما يأكلون فى دنياهم إلا أوجب ذلك لهم فى الآخرة أكل النار.

ويحتمل : ما يأكلون فى دنياهم إلا أكلوا فى الآخرة عين النار.

وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قيل : لا يكلمهم بكلام خير ، ولكن يكلمهم بغيره ، كقوله : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].

وقيل (١) : لا يكلمهم غضبا عليهم ؛ يقال : فلان لا يكلم فلانا ، لما غضب عليه.

__________________

(١) قاله البغوى بنحوه (١ / ١٤١).

وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ).

قيل : استحبوا الضلالة على الهدى.

وقيل : اختاروا العذاب على المغفرة. وما قاله الكلبى فهو أحسن : أنهم اشتروا اليهودية ـ التى هى تحصل عذابا ـ بالإيمان ـ الذى يحصل مغفرة ـ وقد ذكرنا هذا فيما تقدم أيضا.

وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).

قيل (١) : فما أدومهم فى النار.

وقيل (٢) : فما أصبرهم على العمل الذى يوجب لهم النار.

وقيل : فما أجرأهم على عمل أهل النار.

وقيل (٣) : ما أعملهم بأعمال أهل النار.

وقال الحسن (٤) : فما لهم عليها صبر ولكن ما أجرأهم على النار.

وقد يقال لمن يطول حبسه : فما أصبرك على الحبس. لا على حقيقة الصبر ، لكن على وجوده فيه.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ).

أى : خالفوا. وإلا قد اختلف أهل الإيمان والكفر ، ولكن أراد ـ والله أعلم ـ بالاختلاف : الخلاف ، أى : خالفوا الكتاب ولم يعملوا به.

(لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)

قيل (٥) : لفى خلاف بعيد.

وقيل : لفى ضلال طويل.

وقيل (٦) : لفى عداوة بعيدة.

وقيل : حرف «البعيد» فى الوعيد إياس ؛ كأنه قال : لا انقطاع له.

* * *

__________________

(١) قاله الكسائى كما فى تفسير البغوى (١ / ١٤٢).

(٢) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠٨) ، ونسبه البغوى (١ / ١٤٢) للحسن وقتادة.

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٥١٩).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٥١٠) ، وانظر تفسير البغوى (١ / ١٤٢).

(٥) قاله البغوى (١ / ١٤٢).

(٦) قاله السدى ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٢٠).

فهرس المحتويات

مقدمة.......................................................................... ٣

الباب الأول : عصر الماتريدي...................................................... ٧

الفصل الأول : قيام الدولة العباسية................................................. ٩

الفصل الثاني : أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية........................... ١٦

الفصل الثالث : ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي.......................... ٣٣

الفصل الرابع : نظام الحكم في الدولة العباسية...................................... ٤٤

الفصل الخامس : الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي............................... ٥٢

المبحث الأول : عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي................. ٥٣

المبحث الثاني : مظاهر الحياة الاجتماعية.......................................... ٥٦

الفصل السادس : الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي.......................... ٥٩

الباب الثاني : ترجمة الماتريدي..................................................... ٧١

الفصل الأول : اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته............................... ٧٣

الفصل الثاني : البيئة التي نشأ فيها الماتريدي........................................ ٧٦

الفصل الثالث : شيوخه وتلاميذه وأقرانه........................................... ٨٠

الفصل الرابع : قيمة الماتريدي العلمية............................................. ٨٦

الباب الثالث : الفرق والمذاهب الإسلامية......................................... ٩٥

الفصل الأول : الفرق السياسية................................................... ٩٧

أولا : الخوارج................................................................. ١٠٣

ثانيا : الشيعة................................................................ ١١٢

ثالثا : المرجئة................................................................. ١١٩

الفصل الثاني : المذاهب الاعتقادية.............................................. ١٢٣

أولا : المعتزلة................................................................. ١٢٨

ثانيا : الأشاعرة............................................................... ١٤٣

ثالثا : الماتريدية............................................................... ١٥٦

أولا : المسائل المختلف فيها لفظا................................................ ١٦٠

المسألة الأولى : السعادة والشقاوة............................................... ١٦٠

المسألة الثانية : حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل................................ ١٦٢

المسألة الثالثة : الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا.............................. ١٦٣

المسألة الرابعة : الاستثناء في الإيمان............................................. ١٦٤

المسألة الخامسة : إيمان المقلد................................................... ١٦٦

المسألة السادسة : الكسب.................................................... ١٦٧

المسألة السابعة : الكافر منعم عليه أم لا؟........................................ ١٦٨

ثانيا : المسائل المختلف فيها معنويّا.............................................. ١٦٩

المسألة الأولى : التكليف بما لا يطاق............................................ ١٦٩

المسألة الثانية : الثواب والعقاب................................................. ١٧٢

المسألة الثالثة : التكوين....................................................... ١٧٣

المسألة الرابعة : كلام الله تعالى.................................................. ١٧٤

المسألة الخامسة : معرفة الله تعالى................................................ ١٧٦

المسألة السادسة : عصمة الأنبياء............................................... ١٧٧

الباب الرابع : حول تفسير القرآن الكريم......................................... ١٧٩

الفصل الأول : نشأة التفسير وتطوره............................................ ١٨١

أولا : التفسير................................................................ ١٨١

ثانيا : التأويل................................................................ ١٨٢

ثالثا : المعنى.................................................................. ١٨٤

نشأة التفسير وتطوره.......................................................... ١٨٦

المرحلة الأولى : التفسير فى عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم........................................ ١٨٧

المرحلة الثانية : التفسير في عهد الصحابة رضوان الله عليهم......................... ٢٠٩

أشهر المفسرين من الصحابة ودورهم في التفسير................................... ٢١٧

المرحلة الثالثة : التفسير في عصر التابعين......................................... ٢٢٨

التفسير الموضوعي للقرآن الكريم................................................ ٢٣٤

الفصل الثاني : مدارس تفسير القرآن الكريم....................................... ٢٣٨

الفصل الثالث : المناهج التفسيرية بين القديم والحديث............................. ٢٥٥

٢ ـ منهج التفسير بالرأي....................................................... ٢٦٧

٣ ـ منهج التفسير الإشاري..................................................... ٢٨١

الباب الخامس : الماتريدي مفسرا................................................ ٢٩٩

الفصل الأول : انتماء الماتريدي التفسيري........................................ ٣٠١

الفصل الثاني : منهج الماتريدي في تفسيره......................................... ٣١٤

الفصل الثالث : بذور التجديد فى تفسير الماتريدي................................ ٣٣٣

الفصل الرابع : تأثر الماتريدي بمن سبقوه.......................................... ٣٣٥

الفصل الخامس : تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده................................. ٣٣٨

وصف النسخ الخطية.......................................................... ٣٤٢

تفسير سورة الفاتحة

البسملة..................................................................... ٣٤٩

من آية ٢ إلى ٤.............................................................. ٣٥٧

من آية ٥ إلى ٧ ............................................................. ٣٦٢

تفسير سورة البقرة

من آية ١ إلى ٥.............................................................. ٣٧٠

من آية ٦ إلى ١٠............................................................ ٣٧٥

من آية ١١ إلى ١٦........................................................... ٣٨٤

من آية ١٧ إلى ٢٠........................................................... ٣٨٩

من آية ٢١ إلى ٢٥........................................................... ٣٩٨

من آية ٢٦ إلى ٢٩........................................................... ٤٠٦

من آية ٣٠ إلى ٣٩........................................................... ٤١٢

من آية ٤٠ إلى ٤٦........................................................... ٤٤٢

من آية ٤٧ إلى ٥٣........................................................... ٤٥١

من آية ٥٤ إلى ٥٩........................................................... ٤٦٢

من آية ٦٠ إلى ٦١........................................................... ٤٧١

آية ٦٢..................................................................... ٤٨٤

من آية ٦٣ إلى ٦٦........................................................... ٤٨٥

من آية ٦٧ إلى ٧٤........................................................... ٤٨٩

من آية ٧٥ إلى ٧٩........................................................... ٤٩٦

من آية ٨٠ إلى ٨٢........................................................... ٥٠٠

من آية ٨٣ إلى ٨٦........................................................... ٥٠٢

من آية ٨٧ إلى ٩١........................................................... ٥٠٦

من آية ٩٢ إلى ٩٦........................................................... ٥١١

من آية ٩٧ إلى ٩٨........................................................... ٥١٧

من آية ٩٩ إلى ١٠٣......................................................... ٥١٨

من آية ١٠٤ إلى ١٠٥....................................................... ٥٢٨

من آية ١٠٦ إلى ١١٠....................................................... ٥٣٠

من آية ١١١ إلى ١١٣....................................................... ٥٣٩

من آية ١١٤ إلى ١١٥....................................................... ٥٤٣

من آية ١١٦ إلى ١١٨....................................................... ٥٤٦

من آية ١١٩ إلى ١٢٣....................................................... ٥٥٠

من آية ١٢٤ إلى ١٢٩....................................................... ٥٥٣

من آية ١٣٠ إلى ١٣٤....................................................... ٥٧٤

من آية ١٣٥ إلى ١٣٨....................................................... ٥٧٦

من آية ١٣٩ إلى ١٤١....................................................... ٥٨٠

من آية ١٤٢ إلى ١٤٣....................................................... ٥٨١

من آية ١٤٤ إلى ١٤٨....................................................... ٥٨٨

من آية ١٤٩ إلى ١٥٢....................................................... ٥٩٢

من آية ١٥٣ إلى ١٥٧....................................................... ٥٩٥

آية ١٥٨.................................................................... ٦٠٤

من آية ١٥٩ إلى ١٦٢....................................................... ٦٠٧

من آية ١٦٣ إلى ١٦٤....................................................... ٦٠٩

من آية ١٦٥ إلى ١٦٧....................................................... ٦١٣

من آية ١٦٨ إلى ١٦٩....................................................... ٦١٧

من آية ١٧٠ إلى ١٧١....................................................... ٦٢١

من آية ١٧٢ إلى ١٧٣....................................................... ٦٢٢

من آية ١٧٤ إلى ١٧٦....................................................... ٦٣٢

فهرس المحتويات............................................................... ٦٣٥

* * *

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ١

المؤلف: أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي
الصفحات: 638
  • مقدمة 3
  • الباب الأول : عصر الماتريدي 7
  • الفصل الأول : قيام الدولة العباسية 9
  • الفصل الثاني : أبرز الأحداث السياسية في الدولة العباسية 16
  • الفصل الثالث : ظاهرة الدول المستقلة في الشرق الإسلامي 33
  • الفصل الرابع : نظام الحكم في الدولة العباسية 44
  • الفصل الخامس : الحالة الاجتماعية في عصر الماتريدي 52
  • المبحث الأول : عناصر السكان في الدولة العباسية في عصر الماتريدي 53
  • المبحث الثاني : مظاهر الحياة الاجتماعية 56
  • الفصل السادس : الحياة الفكرية والعلمية في عصر الماتريدي 59
  • الباب الثاني : ترجمة الماتريدي 71
  • الفصل الأول : اسمه ولقبه وكنيته ونسبه ومولده ووفاته 73
  • الفصل الثاني : البيئة التي نشأ فيها الماتريدي 76
  • الفصل الثالث : شيوخه وتلاميذه وأقرانه 80
  • الفصل الرابع : قيمة الماتريدي العلمية 86
  • الباب الثالث : الفرق والمذاهب الإسلامية 95
  • الفصل الأول : الفرق السياسية 97
  • أولا : الخوارج 103
  • ثانيا : الشيعة 112
  • ثالثا : المرجئة 119
  • الفصل الثاني : المذاهب الاعتقادية 123
  • أولا : المعتزلة 128
  • ثانيا : الأشاعرة 143
  • ثالثا : الماتريدية 156
  • أولا : المسائل المختلف فيها لفظا 160
  • المسألة الأولى : السعادة والشقاوة 160
  • المسألة الثانية : حكم بقاء الرسالة بعد موت الرسل 162
  • المسألة الثالثة : الإرادة وهل تستلزم الرضا والمحبة أم لا 163
  • المسألة الرابعة : الاستثناء في الإيمان 164
  • المسألة الخامسة : إيمان المقلد 166
  • المسألة السادسة : الكسب 167
  • المسألة السابعة : الكافر منعم عليه أم لا؟ 168
  • ثانيا : المسائل المختلف فيها معنويّا 169
  • المسألة الأولى : التكليف بما لا يطاق 169
  • المسألة الثانية : الثواب والعقاب 172
  • المسألة الثالثة : التكوين 173
  • المسألة الرابعة : كلام الله تعالى 174
  • المسألة الخامسة : معرفة الله تعالى 176
  • المسألة السادسة : عصمة الأنبياء 177
  • الباب الرابع : حول تفسير القرآن الكريم 179
  • الفصل الأول : نشأة التفسير وتطوره 181
  • أولا : التفسير 181
  • ثانيا : التأويل 182
  • ثالثا : المعنى 184
  • نشأة التفسير وتطوره 186
  • المرحلة الأولى : التفسير فى عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم 187
  • المرحلة الثانية : التفسير في عهد الصحابة رضوان الله عليهم 209
  • أشهر المفسرين من الصحابة ودورهم في التفسير 217
  • المرحلة الثالثة : التفسير في عصر التابعين 228
  • التفسير الموضوعي للقرآن الكريم 234
  • الفصل الثاني : مدارس تفسير القرآن الكريم 238
  • الفصل الثالث : المناهج التفسيرية بين القديم والحديث 255
  • 2 ـ منهج التفسير بالرأي 267
  • 3 ـ منهج التفسير الإشاري 281
  • الباب الخامس : الماتريدي مفسرا 299
  • الفصل الأول : انتماء الماتريدي التفسيري 301
  • الفصل الثاني : منهج الماتريدي في تفسيره 314
  • الفصل الثالث : بذور التجديد فى تفسير الماتريدي 333
  • الفصل الرابع : تأثر الماتريدي بمن سبقوه 335
  • الفصل الخامس : تأثير الماتريدي فيمن جاءوا بعده 338
  • وصف النسخ الخطية 342
  • تفسير سورة الفاتحة
  • البسملة 349
  • من آية 2 إلى 4 357
  • من آية 5 إلى 7 362
  • تفسير سورة البقرة
  • من آية 1 إلى 5 370
  • من آية 6 إلى 10 375
  • من آية 11 إلى 16 384
  • من آية 17 إلى 20 389
  • من آية 21 إلى 25 398
  • من آية 26 إلى 29 406
  • من آية 30 إلى 39 412
  • من آية 40 إلى 46 442
  • من آية 47 إلى 53 451
  • من آية 54 إلى 59 462
  • من آية 60 إلى 61 471
  • آية 62 484
  • من آية 63 إلى 66 485
  • من آية 67 إلى 74 489
  • من آية 75 إلى 79 496
  • من آية 80 إلى 82 500
  • من آية 83 إلى 86 502
  • من آية 87 إلى 91 506
  • من آية 92 إلى 96 511
  • من آية 97 إلى 98 517
  • من آية 99 إلى 103 518
  • من آية 104 إلى 105 528
  • من آية 106 إلى 110 530
  • من آية 111 إلى 113 539
  • من آية 114 إلى 115 543
  • من آية 116 إلى 118 546
  • من آية 119 إلى 123 550
  • من آية 124 إلى 129 553
  • من آية 130 إلى 134 574
  • من آية 135 إلى 138 576
  • من آية 139 إلى 141 580
  • من آية 142 إلى 143 581
  • من آية 144 إلى 148 588
  • من آية 149 إلى 152 592
  • من آية 153 إلى 157 595
  • آية 158 604
  • من آية 159 إلى 162 607
  • من آية 163 إلى 164 609
  • من آية 165 إلى 167 613
  • من آية 168 إلى 169 617
  • من آية 170 إلى 171 621
  • من آية 172 إلى 173 622
  • من آية 174 إلى 176 632
  • فهرس المحتويات 635