


التعريف بالمؤلف والكتاب
آ ـ التعريف بالمؤلف
١ ـ اسمه ونسبه :
هو محمد بن علي
بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني .
والشوكاني :
نسبة إلى «عدني شوكان» أو إلى «هجرة شوكان» ، وهما اسمان لقرية واحدة بينها وبين صنعاء دون مسافة
يوم ، وإليها نسب والده ، وهي نسبة على غير قياس ؛ لأن النسب إلى المضاف يكون إلى
صدره ، ونسبة غير حقيقية ؛ كما صرّح به أحد تلاميذه.
والصنعاني :
نسبة إلى صنعاء ، إذ فيها نشأ ، وفيها توفي ودفن ، رحمهالله تعالى.
٢ ـ مولده ونشأته :
ولد بهجرة
شوكان في وسط نهار الإثنين ٢٨ من شهر ذي القعدة سنة ١١٧٣ ه. ولا التفات إلى غير
هذا التاريخ الذي وصلنا موثقا بخطه وخط ولده.
ونشأ في حجر
والده بصنعاء ، وكان أبوه قاضيا وعالما ، ومعروفا بالطيبة والصلاح ، فتربّى الابن
على العفاف والطهارة ، والتفرّغ لطلب العلم ، مكفيّا في بيت أبيه من جميع أسباب
الحياة ووسائل الرزق.
__________________
وقد ابتدأ
تحصيله العلميّ الواسع بقراءة القرآن وحفظه على جماعة من المعلمين ، وختمه على
الفقيه حسن ابن عبد الله الهبل ، وجوّده على جماعة من مشايخ القرآن بصنعاء ، ثم
انتقل إلى حفظ كثير من المتون ، «كالأزهار» للإمام مهدي في الفقه ، و «مختصر
الفرائض» للعصيفري ، و «الملحة» للحريري ، و «الكافية» و «الشافية» لابن الحاجب ، و
«التهذيب» للتفتازاني ، و «التخليص» في علوم البلاغة للقزويني ... وغيرها.
وقرأ عدة كتب
في التاريخ والأدب ، ثم شرع بالسّماع والطلب على العلماء البارزين في اليمن ؛ حتى
استوفى كلّ ما عندهم من كتب ، تشمل العلوم الدينية واللسانية والعقلية والرياضية
والفلكية ، وكان في هذه المرحلة يجمع بين التحصيل العلميّ والتدريس ، فهو يلقي على
تلاميذه ما تلقّاه بدوره عن مشايخه ، حتى إذا استوفى كل ما عرفه أو سمع عنه من كتب
؛ تفرّغ لإفادة طلّاب العلم ، فكانت دروسه اليومية تزيد على عشرة دروس في اليوم في
فنون متعدّدة ؛ مثل التفسير ، والحديث ، والأصول ، والمعاني ، والبيان ، والمنطق ،
وتقدّم للإفتاء وهو في نحو العشرين من عمره ، ولم يعترض عليه شيوخه في ذلك.
٣ ـ حياته العلمية
ومناصبه :
تمتاز حياة
الشوكاني العلمية بالجد والمثابرة ، والحيوية والنشاط ، والذكاء الفطريّ ، وقد ظهر
هذا في اتّساع ثقافته ، وعمق تفكيره ، وتصدّيه للإصلاح والاجتهاد ، وقد لمسنا هذا
من خلال نشأته حيث جمع بين الدراسة والتدريس ، كما وفّق بين إلقاء الدروس اليومية
العديدة والتأليف.
ومن الثابت أنه
لم يرحل في طلب العلم ، وكان تحصيله مقتصرا على علماء صنعاء ؛ لعدم إذن أبويه له
في السفر منها ، وقد عوّض عن ذلك بالسّماع والإجازة والقراءة لكل ما وقعت عليه يده
من الكتب ، وفي مختلف العلوم ، كما استوفى كلّ ما عند علماء اليمن من كتب ومعارف ،
وزاد في قراءته الخاصة على ما ليس عندهم.
ولم يقتصر
الشوكاني رحمهالله تعالى في حياته العلمية منذ شبابه وحتى وفاته على الجمع
والمحاكاة ، مثل الكثير من علماء عصره ، بل دعا إلى ثورة عارمة في نبذ التعصب
والتقليد ، والنظر في الأدلة ، والعودة إلى هدي الكتاب والسّنة. وهذا الموقف
العلمي المتميّز ؛ أكسبه تحفزا زائدا واستحضارا دائما ؛ في مواجهة تحدّي الشانئين
له من المقلدين والحاسدين ، وجعله في طليعة المجدّدين المجتهدين ، الذين أسهموا في
إيقاظ الأمّة الإسلامية من سباتها العميق ، في العصر الحديث.
ورغم زهده في
المناصب ، وانعزاله عن طلّاب الدنيا ورجال الحكم والسياسة ، وتفرغه للعلم ، فإن
الدنيا جاءته صاغرة ، واختير للقضاء العام في صنعاء ، وهو في السادسة والثلاثين من
عمره ، ثم جمع بين القضاء والوزارة ، فأصبح متوليا شؤون اليمن الداخلية والخارجية
، وسار في الناس بأحسن سيرة ، ممتعا بشخصية قوية ، وسمعة طيبة ، مضيفا إلى أمجاد
أمته المسلمة تجربة فريدة فذة ، تجمع بين العلم والعمل ، والحكم والعدالة.
٤ ـ مذهبه وعقيدته :
كان مذهب
الشوكاني في مطلع حياته العلمية المذهب الزيديّ ، وقد حفظ أشهر كتب المذهب ، وألّف
فيه كتبا ، وبرع في مسائله وأحكامه حتى أصبح قدوة ، ثم طلب الحديث وفاق فيه أهل
زمانه من الزيدية وغيرهم ، مما جعله يخلع ربقة التقليد ، ويدعو إلى الاجتهاد
ومعرفة الأدلة من الكتاب والسّنّة.
ويظهر هذا
الموقف الاجتهاديّ المتميز في رسالة سمّاها : «القول المفيد في حكم التقليد» وفي
كتاب فقهيّ كبير سمّاه : «السيل الجرّار المتدفق على حدائق الأزهار» تكلّم فيه عن
عيون المسائل الفقهية عند الزيدية ، وصحّح ما هو مقيّد بالأدلة ، وزيّف ما لم يكن
عليه دليل. فقام عليه المقلدون والمتعصبون ، يجادلونه ويصاولونه ، ويتهمونه بهدم
مذهب أهل البيت. ولكنه بقي ثابتا على موقفه لا يتزحزح عنه ، وألّف كتابا جمع فيه
محاسن أهل البيت سمّاه «درّ السّحابة في مناقب القرابة والصحابة» وأظهر فيه وجوب
محبّة أهل البيت ، ولزوم موالاتهم ومودّتهم ؛ مما دفع عنه تهمة التعصب حيال مذهب
بعينه ، وأنّ دعوته إلى الاجتهاد تشمل أهل المذاهب جميعا.
أما عقيدة
الشوكانيّ ـ رحمهالله تعالى ـ فكانت عقيدة السّلف ، من حمل صفات الله تعالى
الواردة في القرآن والسّنة الصحيحة على ظاهرها من غير تأويل ولا تحريف ، وله رسالة
في بيان ذلك اسمها : «التحف بمذهب السّلف».
وقد دعا إلى
جانب ذلك إلى نبذ كلام المتكلمين ، وتطهير عقيدة التوحيد من مظاهر الشرك ، وتخليص
ما دخل على حياة الناس وتدينهم من البدع والخرافات. ويظهر هذا جليا في كثير من
كتبه ، وبخاصة كتابه : «قطر الوليّ على حديث الوليّ».
٥ ـ مشايخه وتلاميذه
:
لقد كفانا
الشوكاني رحمهالله تعالى مؤونة هذا البحث ، وألّف كتابا في مشايخه
وتلاميذه سمّاه : «الإعلام بالمشايخ الأعلام والتلاميذ الكرام» ، وترجم لبعضهم في
كتابه : «البدر الطالع» ومن أبرز مشايخه.
١ ـ والده علي
بن محمد الشوكاني ، المتوفى سنة ١٢١١ ه.
٢ ـ السيد عبد
الرحمن بن قاسم المداني ، المتوفى سنة ١٢١١ ه.
٣ ـ العلامة
أحمد بن عامر الحدائي ، المتوفى سنة ١١٩٧ ه.
٤ ـ السيد
العلامة إسماعيل بن الحسن بن أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد ، المتوفى سنة ١٢٠٦ ه.
٥ ـ العلامة
القاسم بن يحيى الخولاني ، المتوفى سنة ١٢٠٩ ه.
٦ ـ العلامة
عبد بن إسماعيل النهمي ، المتوفى سنة ١٢٠٨ ه.
__________________
٧ ـ العلامة
الحسن بن إسماعيل المغربي ، المتوفى سنة ١٢٠٨ ه.
٨ ـ السيد
الإمام عبد القادر بن أحمد الكوكبائي ، المتوفى سنة ١٢٠٧ ه.
٩ ـ السيد
العلامة علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن عامر ، المتوفى سنة ١٢٠٧ ه.
١٠ ـ السيد
العارف يحيى بن محمد الحوتي ، المتوفى سنة ١٢٤٧ ه.
١١ ـ القاضي
عبد الرحمن بن حسن الأكوع ، المتوفى سنة ١٢٠٦ ه.
ومن أبرز تلاميذه :
١ ـ السيد محمد
بن محمد بن زبارة الحسني اليمني الصنعاني ، المتوفى سنة ١٢٨١ ه.
٢ ـ محمد بن
أحمد السودي ، المتوفى سنة ١٢٢٦ ه.
٣ ـ محمد بن
أحمد مشحم الصعدي الصنعاني ، المتوفى سنة ١٢٢٣ ه.
٤ ـ السيد أحمد
بن علي بن محسن بن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، المتوفى سنة ١٢٢٣
ه.
٥ ـ السيد محمد
بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي ثم الصنعاني ، المتوفى سنة ١٢٥١ ه.
٦ ـ عبد الرحمن
بن أحمد البهكلي الضمدي الصبياني ، المتوفى سنة ١٢٢٧ ه.
٧ ـ أحمد بن
عبد الله الضمدي ، المتوفى سنة ١٢٢٢ ه.
٨ ـ علي بن
أحمد هاجر الصنعاني ، المتوفى سنة ١٢٣٥ ه.
٩ ـ عبد الله
بن محسن الحيمي ثم الصنعاني ، المتوفى سنة ١٢٤٠ ه.
١٠ ـ القاضي
محمد بن حسن الشجني الذماري ، المتوفى سنة ١٢٨٦ ه.
١١ ـ ابنه
القاضي أحمد بن محمد الشوكاني ، المتوفى سنة ١٢٨١ ه.
٦ ـ كتبه ومؤلفاته :
جمع الإمام
الشوكاني رحمهالله تعالى في شخصيته العلمية الفذّة ثلاثة أمور ، رشحته إلى أن يعدّ من أعلام المسلمين ، ومن المجددين
، الذين يبعث الله على رأس كل قرن واحدا منهم ، يحفظ للأمة دينها ، ويجدد روح
العزة والمجد فيها ، وهذه الأمور الثلاثة هي :
سعة التبحر في
العلوم على اختلاف أجناسها.
كثرة التلاميذ
المحققين الذين يحيطون به ، ويسجلون كلامه ، ويتناقلون كتبه وأفكاره.
سعة التأليف في
مختلف العلوم والفنون.
ويهمنا في هذه
الفقرة أن نتعرف على الكتب المطبوعة ، التي تركها الشوكاني تراثا خالدا للأمة
الإسلامية ، تنهل منها العلم والمعرفة ، وتجد فيها الفكر الصائب المستنير وسط ظلام
الجمود والتعصب والتقليد ، مما يؤكد
__________________
أن الله تعالى يحفظ دينه ويعلي كلمته ، في كل الأمصار وفي جميع العصور ؛
على ألسنة العلماء العاملين ، وبأقلام المؤلفين النابهين.
وهذه الكتب هي :
١ ـ «إرشاد
الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات» تحقيق إبراهيم إبراهيم
هلال ـ دار النهضة العربية ـ القاهرة ، سنة ١٣٩٥ ه.
٢ ـ «أمناء
الشريعة» ـ مع مجموعة رسائل ، تحقيق إبراهيم هلال ـ دار النهضة العربية ـ القاهرة
ـ سنة ١٣٩٥ ه.
٣ ـ «القول
المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد» ـ تصحيح إبراهيم حسن ـ طبعة مصطفى البابي
الحلبي ـ القاهرة ١٣٤٧ ه.
٤ ـ «السيل
الجرار المتدفق على حدائق الأزهار» ـ تحقيق قاسم غالب أحمد وآخرون ـ طبعة مصطفى
البابي الحلبي ـ القاهرة ١٣٩٠ ه.
٥ ـ «إرشاد
الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» ـ المطبعة المنيرية ـ القاهرة سنة ١٣٤٧ ه.
٦ ـ «البدر
الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع» القاهرة ـ مطبعة السعادة ـ سنة ١٣٤٨ ه.
٧ ـ «تحفة
الذاكرين في شرح عدة الحصن الحصين ؛ للإمام الجزري» طبعة مصطفى الحلبي ـ سنة ١٣٥٠
ه.
٨ ـ «الدراري
المضيئة في شرح الدرر البهية» ـ القاهرة ـ مطبعة المعاهد سنة ١٣٤٠ ه.
٩ ـ «الدر
النضيد في إخلاص كلمة التوحيد» ـ المطبعة المنيرية ـ القاهرة سنة ١٣٤٣ ه. وطبعة
المنار ـ سنة ١٣٤٠ ه.
١٠ ـ «شرح
الصدور بتحريم رفع القبور» و «رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة» و «الدواء
العاجل في دفع العدو الصائل» القاهرة ـ المطبعة المنيرية ـ سنة ١٣٤٣ ه. ومطبعة
السنة المحمدية ـ القاهرة ـ ١٣٦٦ ه.
١١ ـ «الفوائد
المجموعة في الأحاديث الموضوعة» ـ القاهرة ـ مطبعة السنة المحمدية ـ سنة ١٣٨٠ ه.
١٢ ـ «فتح
القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من التفسير» مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ القاهرة
ـ سنة ١٣٤٩ ه.
١٣ ـ «نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار» مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ القاهرة سنة ١٣٤٧ ه.
١٤ ـ «قطر
الولي على حديث الولي» القاهرة ـ دار الكتب العربية ـ سنة ١٩٧٩ م.
١٥ ـ «درّ
السحابة في مناقب القرابة والصحابة» مطبوع بتحقيق د. حسين العمري. دار الفكر ـ دمشق
ـ ١٩٨٤.
وهذا ما رأيناه
مطبوعا واطلعنا عليه ، وهو غيض من فيض ، فهناك كتب لا تزال مخطوطة ، ورسائل
وفتاوى ، وأبحاث وأجزاء ، ذكرها تلاميذ الشوكاني ، والعلماء والمؤلفون ممن
ترجم له ، وبعضها أشار إليها المؤلف نفسه في بعض كتبه ، وقد أوصلها السيد محمد
صديق حسن خان في «أبجد العلوم» إلى عدد سور القرآن (١١٤).
٧ ـ وفاته :
توفي الشوكانيّ
في ٢٦ جمادى الآخرة من سنة ١٢٥٠ ه ـ ودفن بصنعاء ، وقد كان توفي قبله بشهر واحد
ابنه : عليّ بن محمد ، وهو في العشرين من عمره ، وكان نابغة ، وعبقريا فذا كأبيه ،
فاحتسب الأب وتصبّر ، ولم يظهر جزعا ولا حزنا. رحمهماالله تعالى ، وأسكنهما فسيح جنّاته ، وجمعنا بهما تحت لواء
سيدنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
إنه سبحانه
وتعالى أكرم مسؤول.
* * *
ب ـ التعريف بالكتاب
١ ـ الكتاب هو «فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم
التفسير».
٢ ـ معنى فني الرواية
والدراية عند المفسرين :
التفسير بالرواية
: هو التفسير بالمأثور ، وهو ما جاء في القرآن ، أو السنة ، أو كلام الصحابة ؛
بيانا لمراد الله تعالى من كتابه.
والتفسير
بالدراية : هو التفسير بالرأي والاجتهاد ، ويكون جائزا وموفقا ومحمودا إذا استند
إلى أربعة أمور :
أ ـ النقل عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ب ـ الأخذ بقول
الصحابي.
ج ـ الأخذ
بمطلق اللغة.
د ـ الأخذ بما
يقتضيه الكلام ، ويدل عليه قانون الشرع.
وهذا يكشف لنا
بسهولة ويسر منهج الشوكاني رحمهالله تعالى في تفسيره ، وكيف جاءت تسميته نتيجة حتمية لخطته
وطريقته ، وهذا واضح في المقدمة ، حيث قسّم المفسرين الذين سبقوه في التأليف إلى
فريقين : فريق اقتصروا على الرواية. وفريق اعتمدوا على مقتضيات اللغة وما تفيده
العلوم الآلية ، ولم يرفعوا للرواية رأسا البتة. وقال : لا بد من الجمع بين
الأمرين ، وعدم الاقتصار على أحد الفريقين.
٣ ـ مميزات فتح
القدير :
١ ـ الشخصية
العلمية الفذة للمؤلف ؛ فقد توافرت للشوكاني أنواع العلوم التي اشترطها العلماء في
المفسر لكتاب الله تعالى ، لتحقيق أعلى مراتب التفسير ، وهي اللغة والنحو والصرف ،
وعلوم البلاغة ، وعلم أصول الفقه ، وعلم التوحيد ، ومعرفة أسباب النزول ، والقصص ،
والناسخ والمنسوخ ، والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم ، وعلم الموهبة الشرعية ،
وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، ولا يناله من في قلبه بدعة ، أو كبر ،
أو حبّ دنيا ، أو ميل إلى المعاصي ، قال الله تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ١٤٦].
وقد سبق في
التعريف بالشوكاني رحمهالله أنه جمع هذه العلوم وزاد عليها ، حتى وصل مرتبة
الاجتهاد.
٢ ـ الجمع بين
فني الرواية والدراية من علم التفسير ، وقد ذكر السيد محمد صديق حسن خان في كتابه «أبجد
العلوم» أن هذا الجمع بين الرواية والدراية سبقه إليه العلّامة محمد بن يحيى بن
بهران ، وقال :
«لكن تفسير الشوكاني أبسط وأجمع وأحسن ترتيبا وترصيفا» .
٣ ـ حجمه الوسط
بين كتب التفسير المطولة والمختصرة ، فهو خمسة أجزاء مجلدة من الحجم المتوسط ، وقد
أشار رحمهالله تعالى في مواطن كثيرة من تفسيره إلى ترك الإطالة
والاستقصاء ، والإحالة إلى كتب الحديث أو كتب الفقه وغيرها ، مما جعل هذا التفسير
حقّا «لبّ اللّباب ، وذخرا من الذخائر التي ليس لها انقطاع» ومرجعا مقررا في المراكز العلمية والجامعات ، ومصدرا
وافيا لطلاب العلم في الجوانب الحديثية والفقهية واللغوية.
٤ ـ موارده :
استفاد
الشوكاني من كتب التفسير المتقدمة ، وانتقد اقتصار بعضها على الرواية ، وبعضها
الآخر على الدراية ، كما شنّع على أصحاب الآراء المذمومة ، وأتباع الأهواء الضالّة
، وكان من أبرز العلماء الذين ورد كتبهم ونهل منها ، وأورد عنهم نصوصا وأقوالا في
تفسيره تدل على حسن الاختيار وجودة الانتقاء ، هم :
١ ـ النّحاس :
أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري ، مفسّر ، كان من نظراء نفطويه وابن
الأنباري ، زار العراق واجتمع بعلمائه ، وصنّف في تفسير القرآن الكريم وإعرابه
ومعانيه. توفي سنة ٣٣٨ ه.
٢ ـ ابن عطية (المتقدّم)
: عبد الله بن عطية بن عبد الله بن حبيب ، أبو محمد ، عالم بالتفسير ، مقرئ ، من
أهل دمشق ، كان يحفظ خمسين ألف بيت للاستشهاد على معاني القرآن ، له «تفسير ابن
عطية» مخطوط ـ توفي سنة ٣٨٣ ه.
٣ ـ ابن عطية (المتأخّر)
: عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي ، من محارب قيس ، الغرناطي ،
أبو محمد : مفسر ، فقيه ، أندلسي ، من أهل غرناطة. له كتاب «المحرّر الوجيز في
تفسير الكتاب العزيز» في عشرة مجلدات ، مخطوط. توفي سنة ٥٤٢ ه.
٤ ـ القرطبي :
محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي المالكي ، أبو عبد الله ، مفسّر
، صاحب تصانيف ، من أشهر كتبه «تفسير القرطبي» مطبوع في عشرين مجلدا وهو التفسير
المشهور ، قال الذهبي عنه : عمل التفسير الكبير ، وتعب عليه ، وحشّاه بكل فريدة.
توفي سنة ٦٧٣ ه.
٥ ـ السيوطي :
عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي ، جلال الدين ، إمام
حافظ مؤرخ أديب ، صاحب التصانيف الكثيرة ، من أشهر كتبه «الدر المنثور في التفسير
بالمأثور» مطبوع في ثماني مجلدات. توفي سنة ٩١١ ه.
* * *
__________________
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة المؤلف
(كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت : ٣].
يروي المفتقر
إلى رحمة الله سبحانه وتعالى محمد بن محمد بن يحيى زبارة الحسني اليمني ـ غفر الله
له وللمؤمنين ـ للقاضي الحافظ الشهير محمد بن علي بن محمد الشوكاني الصنعاني ،
المتوفى سنة ١٢٥٠ هجرية ، عن المولى الجهبذ الكبير سيف الإسلام أحمد بن قاسم بن
عبد الله حميد الدين أبقاه الله تعالى ، عن السيد الحافظ عبد الكريم بن عبد الله
أبي طالب الحسني اليمني ، المتوفى سنة ١٣٠٩ ه ، عن القاضي الحافظ أحمد بن محمد بن
علي الشوكاني ، المتوفى سنة ١٢٨١ ه ، عن أبيه المؤلف. قال رحمهالله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي
جعل كتابه المبين كافلا ببيان الأحكام ، شاملا لما شرعه لعباده من الحلال والحرام
، مرجعا للأعلام عند تفاوت الأفهام وتباين الأقدام وتخالف الكلام ، قاطعا للخصام
شافيا للسقام مرهما للأوهام. فهو العروة الوثقى التي من تمسك بها فاز بدرك الحق
القويم ، والجادّة الواضحة التي من سلكها فقد هدي إلى الصراط المستقيم. فأيّ عبارة
تبلغ أدنى ما يستحقه كلام الحكيم من التعظيم؟ ، وأيّ لفظ يقوم ببعض ما يليق به من
التكريم والتفخيم؟. كلا والله إن بلاغات البلغاء المصاقع ، وفصاحات الفصحاء
البواقع ، وإن طالت ذيولها ، وسالت سيولها ، واستنت بميادينها خيولها ، تتقاصر عن
الوفاء بأوصافه ، وتتصاغر عن التشبث بأدنى أطرافه ، فيعود جيدها عنه عاطلا ، وصفات
ضوء الشمس تذهب باطلا ، فهو كلام من لا تحيط به العقول علما ، ولا تدرك كنهه
الطباع البشرية فهما ، فالاعتراف بالعجز عن القيام بما يستحقه من الأوصاف العظام
أولى بالمقام ، وأوفق بما تقتضيه الحال من الإجلال والإعظام. والصلاة والسلام على
من نزل إليه الروح الأمين ، بكلام ربّ العالمين ، محمد سيد المرسلين ، وخاتم
النبيين ، وعلى آله المطهرين ، وصحبه المكرّمين.
وبعد : فإن
أشرف العلوم على الإطلاق ، وأولاها بالتفضيل على الاستحقاق ، وأرفعها قدرا
بالاتفاق ، هو علم التفسير لكلام القويّ القدير ، إذا كان على الوجه المعتبر في
الورود والصدر ، غير مشوب بشيء من التفسير بالرأي الذي هو من أعظم الخطر ، وهذه
الأشرفية لهذا العلم غنية عن البرهان ، قريبة إلى الأفهام والأذهان ، يعرفها من
يعرف الفرق بين كلام الخلق والحق ، ويدري بها من يميز بين كلام البشر ، وكلام
خالق القوى والقدر ، فمن فهم هذا استغنى عن التطويل ، ومن لم يفهمه فليس
بمتأهل للتحصيل ، ولقد صدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث يقول فيما أخرجه عنه الترمذي وحسّنه من حديث أبي
سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه».
ولما كان هذا
العلم بهذه المنزلة الشامخة الأركان ، العالية البنيان ، المرتفعة المكان ، رغبت
إلى الدخول من أبوابه ، ونشطت إلى القعود في محرابه ، والكون من أحزابه ، ووطنت
النفس على سلوك طريقة ، هي بالقبول عند الفحول حقيقة ، وها أنا أوضح لك منارها ،
وأبيّن لك إيرادها وإصدارها فأقول :
إن غالب
المفسرين تفرّقوا فريقين ، وسلكوا طريقين : الفريق الأول اقتصروا في تفاسيرهم على
مجرّد الرواية ، وقنعوا برفع هذه الراية. والفريق الآخر جرّدوا أنظارهم إلى ما
تقتضيه اللغة العربية ، وما تفيده العلوم الآلية ، ولم يرفعوا إلى الرواية رأسا ،
وإن جاءوا بها لم يصحّحوا لها أساسا ، وكلا الفريقين قد أصاب ، وأطال وأطاب ، وإن
رفع عماد بيت تصنيفه على بعض الأطناب ، وترك منها ما لا يتمّ بدونه كمال الانتصاب
، فإن ما كان من التفسير ثابتا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كان المصير إليه متعينا ، وتقديمه متحتما ، غير أن
الذي صحّ عنه من ذلك إنما هو تفسير آيات قليلة بالنسبة إلى جميع القرآن ، ولا
يختلف في مثل ذلك من أئمة هذا الشأن اثنان. وأما ما كان منها ثابتا عن الصحابة رضي
الله عنهم ، فإن كان من الألفاظ التي قد نقلها الشرع إلى معنى مغاير للمعنى اللغوي
بوجه من الوجوه فهو مقدّم على غيره ، وإن كان من الألفاظ التي لم ينقلها الشرع فهو
كواحد من أهل اللغة الموثوق بعربيتهم. فإذا خالف المشهور المستفيض لم تقم الحجة
علينا بتفسيره الذي قاله على مقتضى لغة العرب ، فبالأولى تفاسير من بعدهم من
التابعين وتابعيهم وسائر الأئمة. وأيضا كثيرا ما يقتصر الصحابي ومن بعده من السلف
على وجه واحد مما يقتضيه النظم القرآني باعتبار المعنى اللغوي ، ومعلوم أن ذلك لا
يستلزم إهمال سائر المعاني التي تفيدها اللغة العربية ، ولا إهمال ما يستفاد من
العلوم التي تتبيّن بها دقائق العربية وأسرارها كعلم المعاني والبيان ، فإن
التفسير بذلك هو تفسير باللغة ، لا تفسير بمحض الرأي المنهيّ عنه. وقد أخرج سعيد
بن منصور في سننه ، وابن المنذر والبيهقي في كتاب الرؤية ، عن سفيان قال : ليس في
تفسير القرآن اختلاف ، إنما هو كلام جامع يراد منه هذا وهذا. وأخرج ابن سعد في
الطبقات ، وأبو نعيم في الحلية ، عن أبي قلابة قال : قال أبو الدرداء : لا تفقه كل
الفقه حتى ترى للقرآن وجوها. وأخرج ابن سعد أن عليا قال لابن عباس : اذهب إليهم ـ يعني
الخوارج ـ ولا تخاصمهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ، ولكن خاصمهم بالسنة ؛ فقال له : أنا
أعلم بكتاب الله منهم ، فقال : صدقت ، ولكن القرآن حمّال ذو وجوه. وأيضا لا يتيسر
في كل تركيب من التراكيب القرآنية تفسير ثابت عن السلف ، بل قد يخلو عن ذلك كثير
من القرآن ، ولا اعتبار بما لم يصح كالتفسير بإسناد ضعيف ، ولا بتفسير من ليس بثقة
منهم وإن صحّ إسناده إليه. وبهذا تعرف أنه لا بد من الجمع بين الأمرين ، وعدم
الاقتصار على مسلك أحد الفريقين ، وهذا هو المقصد الذي وطنت نفسي عليه ، والمسلك
الذي عزمت على سلوكه إن شاء الله مع تعرّضي للترجيح بين التفاسير المتعارضة مهما
أمكن واتضح لي وجهه ، وأخذي من بيان المعنى العربي
والإعرابي والبياني بأوفر نصيب ، والحرص على إيراد ما ثبت من التفسير عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أو الصحابة أو التابعين أو تابعيهم ، أو الأئمة
المعتبرين. وقد أذكر ما في إسناده ضعف ، إما لكونه في المقام ما يقوّيه ، أو
لموافقته للمعنى العربي ، وقد أذكر الحديث معزوّا إلى راويه من غير بيان حال
الإسناد ، لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير
والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم ، ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفا
ولا يبيّنونه ، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم قد علموا ثبوته ، فإن من الجائز
أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإسناد ، بل هذا هو الذي يغلب به الظن ، لأنهم لو
كشفوا عنه فثبتت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك ، كما يقع منهم كثيرا التصريح
بالصحة أو الحسن ، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها
فلينظر في أسانيدها موفقا إن شاء الله.
واعلم أن تفسير
السيوطي المسمى ب «الدرّ المنثور» قد اشتمل على غالب ما في تفاسير السلف من
التفاسير المرفوعة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتفاسير الصحابة ومن بعدهم ، وما فاته إلا القليل
النادر. وقد اشتمل هذا التفسير على جميع ما تدعو إليه الحاجة منه مما يتعلق
بالتفسير ، مع اختصار لما تكرّر لفظا واتحد معنى بقولي : ومثله أو نحوه ، وضممت
إلى ذلك فوائد لم يشتمل عليها وجدتها في غيره من تفاسير علماء الرواية ، أو من
الفوائد التي لاحت لي من تصحيح أو تحسين أو تضعيف ، أو تعقب أو جمع أو ترجيح.
فهذا التفسير وإن
كبر حجمه ، فقد كثر علمه ، وتوفر من التحقيق قسمه ، وأصاب غرض الحق سهمه ، واشتمل
على ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد ، مع زوائد فوائد وقواعد شوارد ، فإن
أحببت أن تعتبر صحة هذا فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة ، انظر تفاسير المعتمدين
على الرواية ، ثم ارجع إلى تفاسير المعتمدين على الدراية ، ثم انظر في هذا التفسير
بعد النظرين ، فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين ، ويتبيّن لك أن هذا الكتاب هو لبّ
اللباب ، وعجب العجاب ، وذخيرة الطلاب ، ونهاية مأرب الألباب. وقد سميته :
«فتح القدير»
«الجامع بين فنّي الرواية والدراية من علم التفسير»
مستمدا من الله
سبحانه بلوغ الغاية ، والوصول بعد هذه البداية إلى النهاية ، راجيا منه جلّ جلاله
أن يديم به الانتفاع ويجعله من الذخائر التي ليس لها انقطاع.
واعلم أن
الأحاديث في فضائل القرآن كثيرة جدا ، ولا يتم لصاحب القرآن ما يطلبه من الأجر
الموعود به في الأحاديث الصحيحة حتى يفهم معانيه ، فإن ذلك هو الثمرة من قراءته.
قال القرطبي :
ينبغي له أن يتعلّم أحكام القرآن فيفهم عن الله مراده وما فرض عليه ، فينتفع بما
يقرأ ويعمل بما يتلو ؛ فما أقبح بحامل القرآن أن يتلو فرائضه وأحكامه عن ظهر قلب
وهو لا يفهم معنى ما يتلوه ، فكيف يعمل بما لا يفهم معناه ، وما أقبح أن يسأل عن
فقه ما يتلوه ولا يدريه! فما مثل من هذه حالته إلا كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وينبغي له أن يعرف المكّي من المدنيّ ، ليفرّق بين ما خاطب الله به عباده في أوّل
الإسلام ،
وما ندبهم إليه في آخر الإسلام ، وما فرض في أوّل الإسلام وما زاد عليهم من
الفرائض في آخره ، فالمدنيّ هو الناسخ للمكّي في أكثر القرآن :
وقال أيضا :
قال علماؤنا : وأما ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة والتابعين. فمن ذلك أن عليّ
بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم ، فقال له رجل : جعلت فداك ، تصف
جابرا بالعلم وأنت أنت؟ فقال : إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥]. وقال مجاهد : أحبّ الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل الله.
وقال الحسن : والله ما أنزل الله آية إلا أحبّ أن يعلم فيمن نزلت وما يعني بها.
وقال الشعبي : رحل مسروق في تفسير آية إلى البصرة ، فقيل له إن الذي يفسرها رحل
إلى الشام ، فتجهّز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة في قوله عزوجل : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٠٠] طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته. قال ابن عبد
البرّ : هو ضميرة بن حبيب. وقال ابن عباس : مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر عن
المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يمنعني إلا مهابته ، فسألته فقال : هي حفصة وعائشة.
وقال إياس بن معاوية : مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم
جاءهم كتاب من عند مليكهم ليلا وليس عندهم مصباح ، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في
الكتاب. ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب. وذكر
ابن أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم : لو طلبتم
كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون ، فقالوا : قد تعلّمنا القرآن ، فقال : إن
في تعلّمكم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم ، فقالوا : كيف يا أبا عليّ؟ قال
: لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكمه ومتشابهه وناسخه من منسوخه ، فإذا
عرفتم استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة. وللسلف رحمهمالله من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر.
سورة الفاتحة
معنى الفاتحة
في الأصل أوّل ما من شأنه أن يفتتح به ، ثم أطلقت على أوّل كل شيء كالكلام ،
والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، فسميت هذه السورة «فاتحة الكتاب» لكونه
افتتح بها ، إذ هي أول ما يكتبه الكاتب من المصحف ، وأول ما يتلوه التالي من
الكتاب العزيز ، وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن. وقد اشتهرت هذه السورة الشريفة
بهذا الاسم في أيام النبوّة. قيل : هي مكية ، وقيل : مدنية.
وقد أخرج
الواحديّ في أسباب النزول ، والثعلبيّ في تفسيره عن عليّ رضي الله عنه قال : نزلت
فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وأبو نعيم
والبيهقي كلاهما في دلائل النبوّة ، والثعلبيّ والواحديّ من حديث عمرو بن شرحبيل :
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما شكا إلى خديجة ما يجده عند أوائل الوحي ، فذهبت به
إلى ورقة فأخبره فقال له : «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي : يا محمد يا محمد يا
محمد! فأنطلق هاربا في الأرض ، فقال : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتّى تسمع ما يقول
ثم ائتني فأخبرني ؛ فلمّا خلا ناداه يا محمّد قل : بسم الله الرحمن الرحيم ، حتّى
بلغ ولا الضّالّين» الحديث. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن رجل من بني سلمة قال :
لما أسلم فتيان بني سلمة وأسلم ولد عمرو بن الجموح قالت امرأة عمرو له : هل لك أن
تسمع من ابنك ما روى عنه؟ فسأله فقرأ عليه : الحمد لله رب العالمين ، وكان ذلك قبل
الهجرة. وأخرج أبو بكر بن الأنباري في المصاحف عن عبادة قال : فاتحة الكتاب نزلت
بمكة. فهذا جملة ما استدل به من قال إنها نزلت بمكة.
واستدلّ من قال
إنها نزلت بالمدينة بما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ، وأبو سعيد بن الأعرابي في
معجمه ، والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد عن أبي هريرة : رنّ إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب. وأنزلت بالمدينة.
وأخرج ابن أبي
شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو نعيم في الحلية وغيرهم من طرق
عن مجاهد قال : نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة ، وقيل إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة
بالمدينة جمعا بين هذه الروايات.
وتسمّى «أمّ
الكتاب» قال البخاري في أول التفسير : وسميت أمّ الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في
المصاحف ، ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن عن أيوب عن
محمد بن سيرين كان يكره أن يقول أمّ الكتاب ويقول : قال الله تعالى : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ولكن يقول : فاتحة الكتاب. ويقال لها الفاتحة لأنها
يفتتح بها القراءة ، وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الإمام. قال ابن كثير في
تفسيره :
__________________
وصحّ تسميتها بالسبع المثاني ، قالوا : لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل
ركعة. وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال في أمّ القرآن ، وهي السّبع المثاني ، وهي القرآن
العظيم».
وأخرج ابن جرير
في تفسيره عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «هي أمّ القرآن ، وهي فاتحة الكتاب ، وهي السّبع
المثاني». وأخرج نحوه ابن مردويه في تفسيره والدارقطني من حديثه ، وقال كلهم ثقات.
وروى البيهقيّ عن عليّ وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) بالفاتحة.
ومن جملة
أسمائها كما حكاه في الكشاف سورة الكنز ، والوافية ، وسورة الحمد ، وسورة الصلاة.
وقد أخرج الثعلبيّ أن سفيان بن عيينة كان يسمي فاتحة الكتاب : الوافية. وأخرج
الثعلبيّ أيضا عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة
خلف الإمام ، فقال : عن الكافية تسأل؟ قال السائل : وما الكافية؟ قال : الفاتحة ،
أما علمت أنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. وأخرج أيضا عن الشّعبيّ أن رجلا
اشتكى إليه وجع الخاصرة ، فقال : عليك بأساس القرآن ، قال : وما أساس القرآن؟ قال
: فاتحة الكتاب. وأخرج البيهقي في الشعب عن أنس عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الله أعطاني فيما منّ به عليّ فاتحة الكتاب
، وقال : هي من كنوز عرشي» وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده عن عليّ نحوه مرفوعا.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره للفاتحة اثني عشر اسما.
وهي سبع آيات
بلا خلاف كما حكاه ابن كثير في تفسيره. وقال القرطبيّ : أجمعت الأمة على أن فاتحة
الكتاب سبع آيات إلّا ما روي عن حسين الجعفي أنها ستّ ، وهو شاذ. وإلّا ما روي عن
عمرو بن عبيد أنه جعل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) آية ، فهي عنده ثمان ، وهو شاذ. انتهى. وإنما اختلفوا
في البسملة كما سيأتي إن شاء الله. وقد أخرج عبد بن حميد ، ومحمد بن نصر في كتاب
الصلاة ، وابن الأنباري في المصاحف عن محمد بن سيرين أن أبيّ بن كعب وعثمان بن
عفان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوّذتين ، ولم يكتب ابن مسعود شيئا منهنّ. وأخرج
عبد بن حميد عن إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود لا يكتب فاتحة الكتاب في
المصحف ، وقال : لو كتبتها لكتبت في أول كل شيء.
وقد ورد في فضل
هذه السورة أحاديث ، منها : ما أخرجه البخاري وأحمد وأبو داود والنسائيّ من حديث
أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : «لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج
من المسجد ، قال : فأخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يا رسول الله!
إنّك قلت : لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن ، قال : نعم ـ الحمد لله ربّ العالمين ـ
هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته». وأخرج أحمد والترمذي وصححه ، من
حديث أبيّ بن كعب أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال له : «أتحبّ أن أعلّمك سورة لم ينزل في التوراة ولا
في الإنجيل ولا في الزّبور ولا في الفرقان مثلها؟ ثم أخبره أنّها الفاتحة». وأخرجه
النسائي وأخرج أحمد في المسند من حديث عبد الله بن جابر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : «ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن؟ قلت : بلى
يا رسول الله! قال : اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها» وفي إسناده ابن عقيل
، وقد احتج به كبار الأئمة ، وبقية رجاله ثقات. وعبد الله بن جابر هذا هو العبدي
كما
__________________
قال ابن الجوزي ، وقيل الأنصاري البياضي كما قال ابن عساكر. وفي الصحيحين
وغيرهما من حديث أبي سعيد «أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لمّا أخبروه بأن رجلا رقى سليما بفاتحة الكتاب :
وما كان يدريه أنها رقية؟» الحديث. وأخرج مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه من
حديث ابن عباس قال : «بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه ، فرفع جبريل بصره إلى
السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قطّ ، قال : فنزل منه ملك فأتى
النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك :
فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلّا أوتيته» وأخرج مسلم
والنسائي والترمذي ، وصحّحه من حديث أبي هريرة «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ
القرآن فهي خداج ـ ثلاثا ـ غير تامة». وأخرج البزار في مسنده بسند ضعيف عن أنس قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو
الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلّا الموت» وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن
أبي زيد ـ وكان له صحبة ـ قال : كنت مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم في بعض فجاج المدينة ، فسمع رجلا يتهجد ويقرأ بأمّ
القرآن ، فقام النبيّ صلىاللهعليهوسلم فاستمع حتى ختمها ثم قال : «ما في القرآن مثلها». وأخرج
سعيد بن منصور في سننه ، والبيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدريّ أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم». وأخرج أبو الشيخ
نحوه من حديثه ، وحديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرج الدارمي ، والبيهقي في شعب الإيمان
بسند رجاله ثقات عن عبد الملك بن عمير قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في فاتحة الكتاب «شفاء من كل داء». وأخرج أحمد وأبو
داود والنسائي وابن السني في عمل اليوم والليلة ، وابن جرير والحاكم ، وصححه عن
خارجة بن الصلت التميمي عن عمه : أنه أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم أقبل راجعا من عنده ، فمرّ على قوم وعندهم رجل مجنون
موثق بالحديد ، فقال أهله : أعندك ما تداوي به هذا؟ فإن صاحبكم قد جاء بخير ، قال
: فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام في كل يوم مرتين غدوة وعشية ، أجمع بزاقي ثم
أتفل فبرأ ، فأعطاني مائة شاة ، فأتيت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فذكرت ذلك له فقال : «كل ، فلعمري من أكل برقية باطل
فقد أكلت برقية حق». وأخرج الفريابي في تفسيره عن ابن عباس قال : «فاتحة الكتاب
ثلث القرآن». وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ أمّ القرآن وقل هو الله أحد ، فكأنّما قرأ
ثلث القرآن». وأخرج عبد بن حميد في مسنده بسند ضعيف عن ابن عباس يرفعه إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن». وأخرج الحاكم
وصححه ، وأبو ذرّ الهروي في فضائله ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : «كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم في مسير له ، فنزل فمشى رجل من أصحابه إلى جنبه ،
فالتفت إليه النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «ألا أخبرك بأفضل القرآن؟ ، فتلا عليه الحمد لله
رب العالمين». وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي شيء من القرآن ، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت
في كفة الميزان ، وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع
مرات». وأخرج أبو عبيد في فضائله عن الحسن مرسلا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان».
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اختلف أهل
العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها؟ أو هي بعض آية من أول كل
سورة ، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها ، أو أنها ليست بآية في الجميع وإنما
كتبت للفصل؟ والأقوال وأدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك. وقد اتفقوا على أنها
بعض آية في سورة النمل. وقد جزم قرّاء مكة والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل
سورة. وخالفهم قرّاء المدينة والبصرة والشام فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من
غيرها من السور ، قالوا : وإنما كتبت للفصل والتبرّك. وقد أخرج أبو داود بإسناد
صحيح ، عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرّحمن
الرّحيم. وأخرجه الحاكم في المستدرك. وأخرج ابن خزيمة في صحيحه ، عن أم سلمة أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية. وفي
إسناده عمرو بن هارون البلخي وفيه ضعف ، وروى نحوه الدارقطني مرفوعا عن أبي هريرة.
وكما وقع
الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة. وقد أخرج النسائي في سننه ،
وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أنه صلّى
فجهر في قراءته بالبسملة ، وقال بعد أن فرغ : إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلىاللهعليهوسلم. وصحّحه الدارقطني والخطيب والبيهقي وغيرهم. وروى أبو
داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرّحمن الرّحيم. قال
الترمذي : وليس إسناده بذاك. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ : كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يجهر ب : بسم الله الرحمن الرحيم. ثم قال : صحيح. وأخرج
البخاري في صحيحه ، عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : كانت قراءته مدّا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن
الرحيم ، يمدّ بسم الله ، ويمدّ الرحمن ، ويمدّ الرحيم. وأخرج أحمد في المسند وأبو
داود في السنن وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، عن أمّ سلمة أنها قالت
: كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقطع قراءته : بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب
العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. وقال الدارقطني : إسناده صحيح.
واحتجّ من قال
بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم ، عن عائشة ، قالت : كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب : الحمد لله رب
العالمين. وفي الصحيحين عن أنس قال : صليت خلف النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون ب : الحمد لله
ربّ العالمين. ولمسلم : لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في
آخرها. وأخرج أهل السنن نحوه عن عبد الله بن مغفّل. وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة
وجماعة من الصحابة. وأحاديث الترك وإن كانت أصحّ ولكن الإثبات أرجح ، مع كونه
خارجا من مخرج صحيح ، فالأخذ به أولى ولا سيما مع إمكان تأويل الترك ، وهذا يقتضي
الإثبات
الذاتي ، أعني : كونها قرآنا ؛ والوصفي أعني : الجهر بها عند الجهر بقراءة
ما يفتتح بها من السور في الصلاة. ولتنقيح البحث والكلام على أطرافه استدلالا
وردّا وتعقبا ودفعا ورواية ودراية ، موضع غير هذا. ومتعلّق الباء محذوف وهو أقرأ
أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له ؛ فمن قدّره متقدما كان غرضه
الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل ، ومن قدّره متأخرا كان غرضه الدلالة
بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم ، والإشارة إلى
أن البداية به أهمّ لكون التبرك حصل به ، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخرا في
مثل هذا المقام ، ولا يعارضه قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) لأن ذلك المقام مقام القراءة ، فكان الأمر بها أهمّ ،
وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسما أو فعلا فلا يتعلق بذلك كثير
فائدة. والباء للاستعانة أو المصاحبة ، ورجّح الثاني الزمخشري. واسم أصله سمو حذفت
لامه ، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة
إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن ، وهو اللفظ الدالّ على المسمى ؛ ومن زعم
أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة وسيبويه والباقلاني وابن فورك ، وحكاه
الرازي عن الحشوية والكرامية والأشعرية فقد غلط غلطا بينا ، وجاء بما لا يعقل ، مع
عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب ، بل
العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة غير المسمى الذي هو
مدلوله ، والبحث مبسوط في علم الكلام. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة : «إن
لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة». وقال الله عزوجل : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) وقال تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره ،
وأصله إله حذفت الهمزة وعوّضت عنها أداة التعريف فلزمت. وكان قبل الحذف من أسماء
الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق ، كالنجم والصعق ،
فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة ، وبعده من الأعلام المختصة. و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة ، ورحمن
أشد مبالغة من رحيم. وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا ، ولذلك
قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا. وقد تقرّر أن زيادة البناء تدل على
زيادة المعنى. وقال ابن الأنباري والزجاج : إن الرحمن عبراني والرحيم عربي
وخالفهما غيرهما. والرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عزوجل. وأما قول بني حنيفة في مسيلمة : رحمان اليمامة ، فقال
في الكشاف : إنه باب من تعنتهم في كفرهم. قال أبو عليّ الفارسيّ : الرحمن اسم عام
في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين ، قال
الله تعالى (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَحِيماً) وقد ورد في فضلها أحاديث. منها ما أخرجه سعيد بن منصور
في سننه وابن خزيمة في كتاب البسملة والبيهقي عن ابن عباس قال : استرق الشيطان من
الناس أعظم آية من القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج نحوه أبو عبيد وابن
مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا. وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كان جبريل إذا جاءني بالوحي أوّل ما يلقي عليّ
بسم الله الرحمن الرحيم». وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره والحاكم في المستدرك ،
وصحّحه البيهقي في شعب الإيمان
__________________
عن ابن عباس : أن عثمان بن عفان سأل النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال : «هو اسم من أسماء
الله ، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلّا كما بين سواد العين وبياضها من القرب».
وأخرج ابن جرير وابن عديّ في الكامل وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر
في تاريخ دمشق ، والثعلبي بسند ضعيف جدا ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب لتعلّمه ،
فقال له المعلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال له عيسى : وما بسم الله
الرحمن الرحيم؟ قال المعلم : لا أدري ، فقال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين
سناه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم
رحيم الآخرة» وفي إسناده إسماعيل بن يحيى وهو كذّاب. وقد أورد هذا الحديث ابن
الجوزي في الموضوعات. وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال : لما نزلت بسم الله
الرحمن الرحيم : هرب الغيم إلى المشرق ، وسكنت الريح ، وهاج البحر ، وأصغت البهائم
بآذانها ، ورجمت الشياطين من السماء ، وحلف الله بعزّته وجلاله أن لا تسمّى على
شيء إلّا بارك فيه. وأخرج أبو نعيم والديلمي عن عائشة قالت : لما نزلت بسم الله
الرحمن الرحيم ، ضجّت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها ، فقالوا : سحر محمد الجبال ،
فبعث الله دخانا حتى أظلّ على أهل مكة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم موقنا سبحت معه
الجبال إلّا أنه لا يسمع ذلك منها». وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله له بكل حرف
أربعة آلاف حسنة ، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة ، ورفع له أربعة آلاف درجة». وأخرج
الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب». وهذه
الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها والكلام عليها بما يتبيّن بعد البحث إن شاء
الله. وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بيّنها الشارع منها : عند الوضوء ، وعند
الذبيحة ، وعند الأكل ، وعند الجماع ، وغير ذلك.
* * *
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ
(٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ (٧))
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري ،
وبقيد الاختياري فارق المدح ، فإنه يكون على الجميل وإن لم يكن الممدوح مختارا ،
كمدح الرجل على جماله وقوّته وشجاعته. وقال صاحب الكشاف : إنهما أخوان. والحمد
أخصّ من الشكر موردا وأعمّ منه متعلقا. فمورد الحمد اللسان فقط ، ومتعلقه النعمة
وغيرها. ومورد الشكر اللسان والجنان والأركان ، ومتعلقه النعمة. وقيل إن مورد
الحمد كمورد الشكر ، لأن كل ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح
ليس بحمد بل سخرية واستهزاء. وأجيب بأن اعتبار موافقة القلب والجوارح في الحمد لا
يستلزم أن يكون موردا له بل شرطا ـ وفرق بين الشرط والشطر ـ وتعريفه : لاستغراق
أفراد الحمد وأنها مختصة بالرّبّ سبحانه على معنى أن حمد غيره لا اعتداد به ، لأن
المنعم هو الله عزوجل ، أو على أن حمده هو الفرد الكامل فيكون الحصر
ادّعائيا. ورجّح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الاستغراق ،
والصواب ما ذكرناه. وقد جاء في الحديث «اللهمّ لك الحمد كله» وهو مرتفع بالابتداء
وخبره الظرف وهو لله. وأصله النصب على المصدرية بإضمار فعله كسائر المصادر التي
تنصبها العرب ، فعدل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات المستفاد من
الجمل الاسمية دون الحدوث والتجدد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية ، واللام الداخلة
على الاسم الشريف هي لام الاختصاص. قال ابن جرير : الحمد ثناء أثنى به على نفسه ،
وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه ، فكأنه قال : قولوا الحمد لله ؛ ثم رجّح اتحاد
الحمد والشكر مستدلا على ذلك بما حاصله : إن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون
كلا من الحمد والشكر مكان الآخر. قال ابن كثير : وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من
العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة
والمتعدية. والشكر لا يكون إلا على المتعدية ، ويكون بالجنان واللسان والأركان
انتهى. ولا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله
جماعة من العلماء المتأخرين ، فإن ذلك لا يرد على ابن جرير ، ولا تقوم به الحجة ؛
هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية ، فإن ثبتت وجب تقديمها. وقد أخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس قال : قال عمر : قد علمنا سبحان الله ولا إله إلّا الله ، فما الحمد
لله؟ فقال عليّ : كلمة رضيها لنفسه. وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس أنه قال :
الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله قال : شكرني عبدي. وروى هو
وابن جرير عن ابن عباس أيضا أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له
والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك. وروى ابن جرير عن الحكم بن عمير ،
وكانت له صحبة قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا قلت : الحمد لله ربّ العالمين ؛ فقد شكرت الله فزادك».
وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والخطابي في
الغريب ، والبيهقيّ في الأدب ، والديلميّ في
مسند الفردوس ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لا يحمده».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبي قال : الصلاة شكر
والصيام شكر ، وكل خير تفعله شكر ، وأفضل الشكر الحمد. وأخرج الطبراني في الأوسط
بسند ضعيف عن النّواس بن سمعان قال : سرقت ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي فرجعت ، فلما
رآها قال : الحمد لله. فانتظروا هل يحدث رسول الله صلىاللهعليهوسلم صوما أو صلاة ، فظنوا أنه نسي فقالوا : يا رسول الله!
قد كنت قلت : لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي ، قال : ألم أقل الحمد لله؟».
وقد ورد في فضل
الحمد أحاديث. منها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصحّحه ، والبخاري في الأدب
المفرد عن الأسود بن سريع قال : «قلت يا رسول الله! ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي
تبارك وتعالى؟ فقال : أما إن ربك يحبّ الحمد». وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن
ماجة وابن حبان والبيهقي عن جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أفضل الذكر لا إله إلّا الله ، وأفضل الدعاء الحمد
لله». وأخرج ابن ماجة والبيهقي بسند حسن عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان
الذي أعطى أفضل مما أخذ». وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والقرطبي في
تفسيره ، عن أنس عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي
ثم قال الحمد لله ، لكان الحمد أفضل من ذلك» قال القرطبي : معناه لكان إلهامه
الحمد أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ، لأن ثواب الحمد لا يفنى ، ونعيم الدنيا لا
يبقى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل منها».
وأخرج عبد الرزاق في المصنف نحوه عن الحسن مرفوعا. وأخرج مسلم والنسائي وأحمد عن
أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان»
الحديث. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وحسّنه وابن مردويه ، عن رجل من بني
سليم ؛ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «سبحان الله نصف الميزان ، والحمد لله تملأ
الميزان ، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض ، والطهور نصف الإيمان ، والصوم
نصف الصبر». وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، ولا إله
إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه». وأخرج البيهقي عن أنس قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «التأني من الله ، والعجلة من الشيطان ، وما شيء أكثر
معاذير من الله ، وما شيء أحب إلى الله من الحمد». وأخرج ابن شاهين في السنة
والديلمي عن أبان عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «التوحيد ثمن الجنة ، والحمد ثمن كل نعمة ، ويتقاسمون
الجنة بأعمالهم». وأخرج أهل السنن وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع». وأخرج
ابن ماجة في سننه عن ابن عمر «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حدّثهم أن عبدا من عباد الله قال : يا ربّ! لك الحمد
كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فلم يدر الملكان كيف يكتبانها ، فصعدا إلى
السماء فقالا : يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله ـ وهو
أعلم بما قال عبده ـ : ما ذا قال عبدي؟
قالا يا ربّ إنه قال : لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فقال
الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني وأجزيه بها». وأخرج مسلم عن أنس قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها
، أو يشرب الشربة فيحمده عليها».
(رَبِّ الْعالَمِينَ) قال في الصحاح : الربّ اسم من أسماء الله تعالى ، ولا
يقال في غيره إلا بالإضافة ، وقد قالوه في الجاهلية للملك. وقال في الكشاف : الربّ
المالك. ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن
يربّني رجل من هوازن. ثم ذكر نحو كلام الصحاح. قال القرطبي في تفسيره : والربّ
السيد ، ومنه قوله تعالى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ
رَبِّكَ) وفي الحديث «أن تلد الأمة ربّها» ، والربّ : المصلح
والجابر والقائم قال : والربّ : المعبود. ومنه قول الشاعر :
أربّ يبول
الثّعلبان برأسه
|
|
لقد هان من بالت
عليه الثّعالب
|
والعالمين :
جمع العالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ؛ قاله قتادة. وقيل أهل كل زمان عالم ،
قاله الحسين بن الفضل. وقال ابن عباس : العالمون الجنّ والإنس. وقال الفرّاء وأبو
عبيد : العالم عبارة عمن يعقل وهم أربعة أمم : الإنس ، والجن ، والملائكة ،
والشياطين. ولا يقال للبهائم عالم ، لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل. حكى هذه
الأقوال القرطبي في تفسيره وذكر أدلتها وقال : إن القول الأول أصحّ هذه الأقوال
لأنه شامل لكل مخلوق وموجود ، دليله قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما
رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا
قال الزجّاج. وقال : العالم : كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة ، انتهى. وعلى
هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليبا للعقلاء على غيرهم. وقال في
الكشاف : ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه ، وهي الدلالة على معنى العلم. وقد أخرج ما
تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والحاكم وصحّحه. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وأخرجه ابن جرير عن
سعيد بن جبير. وأخرج ابن جبير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) قال : إله الخلق كله ، السموات كلهنّ ومن فيهنّ. والأرضون
كلهنّ ومن فيهنّ ، ومن بينهنّ مما يعلم ومما لا يعلم.
(الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) قد تقدم تفسيرهما. قال القرطبي : وصف نفسه تعالى بعد
ربّ العالمين بأنه الرحمن الرحيم ، لأنه لما كان في اتصافه بربّ العالمين ترهيب ؛
قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب ، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة
إليه ، فيكون أعون على طاعته وأمنع ، كما قال تعالى :
(نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي
__________________
أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) . وقال : (غافِرِ الذَّنْبِ
وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع
في جنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» انتهى.
وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) قال : ما وصف من خلقه ، وفي قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال : مدح نفسه.
ثم ذكر بقية
الفاتحة (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) قرئ ملك ومالك وملك بسكون اللام ، وملك بصيغة الفعل. وقد
اختلف العلماء أيّهما أبلغ ملك أو مالك؟ فقيل إن ملك أعمّ وأبلغ من مالك ، إذ كل
ملك مالك ، وليس كل مالك ملكا ، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا
يتصرف إلا بتدبير الملك ، قاله أبو عبيد والمبرّد ورجّحه الزمخشري. وقيل مالك أبلغ
لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم ، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم. وقال أبو حاتم : إن
مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك. وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك ، لأن
المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك ، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا. واختار
هذا القاضي أبو بكر بن العربي. والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في
الآخر ؛ فالمالك يقدر على ما يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع
والهبة والعتق ونحوها ، والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات
العائدة إلى تدبير الملك وحياطته ورعاية مصالح الرعية ؛ فالمالك أقوى من الملك في
بعض الأمور ، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور. والفرق بين الوصفين بالنسبة
إلى الربّ سبحانه أن الملك صفة لذاته ، والمالك صفة لفعله. ويوم الدين : يوم
الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال : (وَما أَدْراكَ ما
يَوْمُ الدِّينِ ـ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ـ يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وهذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع ، كقولهم : يا
سارق الليلة أهل الدار ؛ ويوم الدين وإن كان متأخرا فقد يضاف اسم الفاعل وما في
معناه إلى المستقبل ، كقولك : هذا ضارب زيدا غدا. وقد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة أن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ ملك بغير ألف. وأخرج نحوه ابن الأنباري عن
أنس. وأخرج أحمد والترمذي عن أنس أيضا أن النبي صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرءون مالك بالألف. وأخرج
نحوه سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا وكيع في تفسيره وعبد بن
حميد وأبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا. وأخرجه أيضا عبد الرزاق في تفسيره وعبد بن
حميد وأبو داود عن ابن المسيب مرفوعا مرسلا. وقد روي هذا من طرق كثيرة ، فهو أرجح
من الأول. وأخرج الحاكم وصحّحه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ مالك يوم الدين ، وكذا رواه الطبراني في
الكبير عن ابن مسعود مرفوعا. وأخرج ابن جرير والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود وناس من
الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب. وكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : يوم الدين :
يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
__________________
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قراءة السبعة وغيرهم بتشديد الياء ، وقرأ عمرو بن فائد
بتخفيفها مع الكسر ؛ وقرأ الفضل والرقاشي بفتح الهمزة ؛ وقرأ أبو السوار الغنوي «هياك»
في الموضعين وهي لغة مشهورة. والضمير المنفصل هو «إيا» وما يلحقه من الكاف والهاء
والياء هي حروف لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب كما ذهب
إليه الجمهور ، وتقديمه على الفعل لقصد الاختصاص ، وقيل للاهتمام ، والصواب أنه
لهما ولا تزاحم بين المقتضيات. والمعنى : نخصّك بالعبادة ونخصّك بالاستعانة ، لا
نعبد غيرك ولا نستعينه ، والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلّل. قال ابن كثير : وفي
الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف ، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب
لقصد الالتفات ، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع
، وأكثر إيقاظا له كما تقرر في علم المعاني. والمجيء بالنون في الفعلين لقصد
الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد ، وقيل : إن المقام لمّا كان عظيما
لم يستقلّ به الواحد استقصارا لنفسه واستصغارا لها ، فالمجيء بالنون لقصد التواضع
لا لتعظيم النفس ؛ وقدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية ،
وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب ، وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم. وقد أخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : إياك نعبد : يعني إياك نوحد ونخاف يا
ربنا لا غيرك ، وإياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها. وحكى ابن كثير عن قتادة
أنه قال في : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم.
وفي صحيح مسلم من حديث المعلّى ابن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى : قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي
نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد : الحمد لله رب
العالمين قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال : أثنى عليّ عبدي ،
فإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجّدني عبدي ، فإذا قال : إياك نعبد وإياك
نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال اهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين ، قال : هذا
لعبدي ، ولعبدي ما سأل». وأخرج أبو القاسم البغوي والماوردي معا في معرفة الصحابة
والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال : كنا مع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزاة فلقي العدوّ فسمعته يقول : «يا مالك يوم الدين
إياك نعبد وإياك نستعين» قال : فلقد رأيت الرجال تصرع فتضربها الملائكة من بين
يديها ومن خلفها.
(اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) قرأه الجمهور بالصاد ، وقرئ «السراط» بالسين ، و «الزراط»
بالزاي ، والهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا ، وكقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، وقد يتعدى بإلى كقوله : (اجْتَباهُ وَهَداهُ
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ) (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقد يتعدّى باللام كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ، قال الزمخشري : أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى انتهى.
وهي الإرشاد أو التوفيق أو الإلهام أو الدلالة. وفرّق كثير من المتأخرين بين معنى
المتعدي بنفسه وغير المتعدي فقالوا : معنى الأوّل الدلالة ، والثاني
__________________
الإيصال. وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) . والصراط : قال ابن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل
جميعا على أن الصراط المستقيم : هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، وهو كذلك
في لغة جميع العرب. قال : ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم
باستقامته والمعوجّ باعوجاجه. وقد أخرج الحاكم وصحّحه وتعقبه الذهبي ، عن أبي
هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) بالصاد. وأخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد والبخاري في
تاريخه ، عن ابن عباس أنه قرأ الصراط بالسين. وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه
كان يقرأ السراط بالسين. وأخرج أيضا عن حمزة أنه كان يقرأ الزراط بالزاي. قال
الفرّاء : وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال
: (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) يقول : ألهمنا دينك الحق. وأخرج ابن جرير عنه وابن
المنذر نحوه. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصحّحه عن
جابر بن عبد الله أنه قال : هو دين الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض. وأخرج
نحوه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج نحوه أيضا عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرج
أحمد والترمذي وحسّنه ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصحّحه
، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان ، عن النّواس بن سمعان ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعلى جنبتي
الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع
يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تفرّقوا ، وداع يدعو من فوق الصراط
، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن
تفتحه تلجه فالصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم
الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله ، والداعي من فوق : واعظ الله
تعالى في قلب كل مسلم». قال ابن كثير بعد إخراجه : وهو إسناد حسن صحيح. وأخرج وكيع
وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو بكر الأنباري والحاكم وصحّحه والبيهقي في شعب
الإيمان عن ابن مسعود أنه قال «هو كتاب الله». وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر عن أبي العالية قال : هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصاحباه من بعده. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية عن
ابن عباس مثله. وروى القرطبي عن الفضيل بن عياض أنه قال : الصراط المستقيم طريق
الحج ، قال : وهذا خاص والعموم أولى انتهى. وجميع ما روي في تفسير هذه الآية ما
عدا هذا المروي عن الفضيل يصدق بعضه على بعض ، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو
النبيّ قد اتبع الحق. وقد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال والذي هو أولى بتأويل هذه
الآية عندي أن يكون معنيا به : وفقنا للثبات على ما ارتضيته ، ووفقت له من أنعمت
عليه من عبادك من قول وعمل ، وذلك هو الصراط المستقيم ، لأن من وفق إليه ممن أنعم
الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل
، والتمسك بالكتاب ، والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه ، واتباع
منهاج النبي صلىاللهعليهوسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة وكل عبد صالح ، وكل ذلك من
الصراط المستقيم. انتهى.
__________________
(صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) انتصب صراط على أنه بدل من الأوّل ، وفائدته التوكيد
لما فيه من التثنية والتكرير ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، وفائدته الإيضاح ، والذين
أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ
الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام ؛ وغير المغضوب عليهم بدل
من الذين أنعمت عليهم ، على معنى : أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله
والضلال ، أو صفة له على معنى : أنهم جمعوا بين النعمتين نعمة الإيمان والسلامة من
ذلك ، وصحّ جعله صفة للمعرفة مع كون غير لا تتعرف بالإضافة إلى المعارف لما فيها
من الإبهام ، لأنها هنا غير مبهمة لاشتهار المغايرة بين الجنسين. والغضب في اللغة
قال القرطبي : الشدة ، ورجل غضوب : أي شديد الخلق ، والغضوب : الحيّة الخبيثة
لشدتها. قال : ومعنى الغضب في صفة الله : إرادة العقوبة فهو صفة ذاته ، أو نفس
العقوبة ، ومنه الحديث «إن الصدقة لتطفئ غضب الربّ» فهو صفة فعله. قال في الكشاف :
هو إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك
إذا غضب على من تحت يده ؛ والفرق بين عليهم الأولى وعليهم الثانية ، أن الأولى في
محل نصب على المفعولية ، والثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل. و «لا» في
قوله ولا الضّالّين تأكيد النفي المفهوم من غير ؛ والضّلال في لسان العرب قال
القرطبي : هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق ، ومنه ضلّ اللبن في الماء : أي غاب
، ومنه (أَإِذا ضَلَلْنا فِي
الْأَرْضِ) أي غبنا بالموت وصرنا ترابا. وأخرج وكيع وأبو عبيد
وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ «صراط من
أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضّالّين» وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد أن
عبد الله بن الزبير قرأ كذلك. وأخرج ابن الأنباري ، عن الحسن أنه كان يقرأ «عليهمي»
بكسر الهاء والميم وإثبات الياء. وأخرج ابن الأنباري عن الأعرج أنه كان يقرأ «عليهمو»
بضم الهاء والميم وإلحاق الواو. وأخرج أيضا عن ابن كثير أنه كان يقرأ «عليهمو»
بكسر الهاء وضم الميم مع إلحاق الواو. وأخرج أيضا عن أبي إسحاق أنه قرأ «عليهم»
بضم الهاء والميم من غير إلحاق واو. وأخرج ابن أبي داود عن عكرمة والأسود أنهما
كانا يقرءان كقراءة عمر السابقة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يقول : طريق من أنعمت عليهم من الملائكة والنبيين
والصديقين والشهداء والصالحين الذين أطاعوك وعبدوك. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس
أنهم المؤمنون. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) قال : النبيون. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) قال : اليهود. (وَلَا الضَّالِّينَ) قال : النصارى. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج
أيضا عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد الرزاق وأحمد في مسنده وعبد بن حميد وابن
جرير والبغوي وابن المنذر وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق قال : «أخبرني من سمع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو بوادي القرى على فرس له ، وسأله رجل من بني القين
فقال : من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ قال : اليهود ، قال : فمن الضّالون؟ قال :
النصارى». وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذرّ
__________________
قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكره. وأخرجه وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن عبد الله
بن شقيق قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل .. إلى آخره ، ولم
يذكر فيه أخبرني من سمع النبي صلىاللهعليهوسلم كالأوّل. وأخرجه البيهقي في الشعب عن عبد الله بن شقيق
عن رجل من بني القين عن ابن عم له أنه قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكره. وأخرجه سفيان بن عيينة في تفسيره ، وسعيد بن
المنصور عن إسماعيل بن أبي خالد أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «المغضوب عليهم : اليهود ، والضّالون : النصارى».
وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسّنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن حبان في صحيحه عن عدي ابن حاتم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن المغضوب عليهم هم اليهود ، وإن الضالين : النصارى».
وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصحّحه والطبراني عن الشريد قال : «مرّ بي
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنا جالس هكذا ، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت
على ألية يدي فقال : أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!» قال ابن كثير بعد ذكره لحديث
عديّ بن حاتم : وقد روي حديث عديّ هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها.
انتهى. والمصير إلى هذا التفسير النبويّ متعين ، وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير
من السلف. قال ابن أبي حاتم : لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم
باليهود ، والضّالين بالنصارى. ويشهد لهذا التفسير النبويّ آيات من القرآن ، قال
الله تعالى في خطابه لبني إسرائيل في سورة البقرة (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) وقال في المائدة (قُلْ هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ
الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو
وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قال اليهود : إنك لن تستطيع
الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله ، فقال : أنا من غضب الله أفرّ ، وقالت
له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله ، فقال : لا
أستطيعه ، فاستمرّ على فطرته وجانب عبادة الأوثان.
[فائدة في
مشروعية التأمين بعد قراءة الفاتحة] اعلم أن السنة الصحيحة الصريحة الثابتة تواترا
، قد دلت على ذلك ، فمن ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال
: «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين. فقال : آمين.
مدّ بها صوته» ولأبي داود «رفع بها صوته» وقد حسّنه الترمذي. وأخرجه أيضا النسائي
وابن أبي شيبة وابن ماجة والحاكم وصحّحه ، وفي لفظ من حديثه أنه صلىاللهعليهوسلم قال «ربّ اغفر لي آمين» أخرجه الطبراني والبيهقي. وفي
لفظ أنه قال : «آمين ثلاث مرات» أخرجه الطبراني. وأخرج وكيع وابن أبي شيبة عن أبي
ميسرة قال : «لما أقرأ جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاتحة الكتاب فبلغ ولا الضّالّين قال : قل آمين ، فقال
آمين». وأخرج ابن ماجة عن عليّ قال : «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قال ولا الضّالّين قال آمين». وأخرج مسلم وأبو داود
والنسائيّ وابن ماجة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا قرأ» يعني الإمام «غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين
، فقولوا : آمين يحبّكم الله».
__________________
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وأحمد وابن أبي شيبة وغيرهم عن أبي هريرة
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه
تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». وأخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي بسند قال
السيوطي : صحيح عن عائشة أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السّلام
والتأمين». وأخرج ابن عديّ من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ اليهود قوم حسد ، حسدوكم على ثلاثة : إفشاء
السّلام ، وإقامة الصّف ، وآمين». وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث معاذ مثله.
وأخرج ابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس قال : «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم
على آمين ، فأكثروا من قول آمين». ووجه ضعفه : أن في إسناده طلحة بن عمرو وهو
ضعيف. وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قرأ فاتحة
الكتاب ، ثم قال آمين ، لم يبق ملك في السّماء مقرّب إلّا استغفر له». وأخرج أبو
داود عن بلال أنه قال : «يا رسول الله! لا تسبقني بآمين» ومعنى آمين : استجب. قال
القرطبي في تفسيره : معنى آمين عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب لنا ، وضع موضع
الدعاء. وقال في الصحاح معنى آمين : كذلك فليكن. وأخرج جويبر في تفسيره عن الضّحاك
عن ابن عباس قال : «قلت يا رسول الله! ما معنى آمين؟ قال : ربّ افعل». وأخرج
الكلبي عن أبي صالح عن أبي عباس مثله. وأخرج وكيع وابن أبي شيبة في المصنف عن هلال
بن يساف ومجاهد قالا : آمين اسم من أسماء الله. وأخرج ابن أبي شيبة عن حكيم بن
جبير مثله. وقال الترمذي : معناه لا تخيّب رجاءنا. وفيه لغتان ، المد على وزن
فاعيل كياسين. والقصر على وزن يمين ، قال الشاعر في المدّ :
يا ربّ لا
تسلبنّي حبّها أبدا
|
|
ويرحم الله
عبدا قال آمينا
|
وقال آخر :
آمين آمين لا
أرضى بواحدة
|
|
حتّى أبلّغها
ألفين آمينا
|
قال الجوهري :
وتشديد الميم خطأ. وروي عن الحسن وجعفر الصادق والحسين بن فضل التشديد ، من أمّ
إذا قصد : أي نحن قاصدون نحوك ، حكى ذلك القرطبي. قال الجوهري : وهو مبني على
الفتح مثل أين وكيف لاجتماع الساكنين ، وتقول منه : أمّن فلان تأمينا. وقد اختلف
أهل العلم في الجهر بها ، وفي أن الإمام يقولها أم لا؟ وذلك مبيّن في مواطنه.
سورة البقرة
ترتيبها ٢
آياتها ٢٨٦ قال القرطبي في تفسير سورة البقرة : مدنية نزلت في مدد شتى. وقيل هي
أوّل سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) فإنها آخر آية نزلت من السماء ، ونزلت يوم النحر في حجة
الوداع بمنى ، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن انتهى. وأخرج أبو
الضريس في فضائله ، وأبو جعفر النّحاس في الناسخ والمنسوخ ، وابن مردويه والبيهقي
في دلائل النبوة ، من طرق عن ابن عباس قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة. وأخرج ابن
مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ ، عن عكرمة
قال : أوّل سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة.
وقد ورد في
فضلها أحاديث ، منها : ما أخرجه مسلم والترمذي وأحمد والبخاري في تاريخه ، ومحمد
بن نصر ، عن النّواس بن سمعان قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في
الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران» قال : وضرب لهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : «كأنهما غمامتان ، أو
كأنهما غيايتان ، أو كأنهما ظلتان سوداوان ، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ ،
تحاجّان عن صاحبهما». وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي ومحمد بن نصر والحاكم
وصحّحه عن بريدة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تعلّموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا
يستطيعها البطلة» ، ثم سكت ساعة ثم قال : «تعلّموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما
الزهراوان تظلّان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان ، أو غيايتان ، أو فرقان
من طير صوافّ». قال ابن كثير : وإسناده حسن على شرط مسلم. وأخرج نحوه أبو عبيد
وأحمد وحميد بن زنجويه ومسلم وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي من حديث أبي
أمامة مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا الطبراني وأبو ذرّ الهروي بسند ضعيف عن ابن عباس
مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا البزار في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرج
مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من
البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة». وأخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعا. وأخرج ابن
عديّ في الكامل ، وابن عساكر في تاريخه ، عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه. وأخرج
الطبراني بسند ضعيف عن عبد الله بن مغفّل مرفوعا نحوه. وأخرج النسائيّ والطبراني
والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعا نحوه ، وسنده ضعيف. وأخرجه الدارمي والبيهقي والحاكم
وصحّحه من حديثه بنحوه. وأخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي عن سهل بن
سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن لكل شيء سناما ، وسنام القرآن سورة البقرة ، من
قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها في بيته ليلا لم
يدخله الشيطان ثلاث ليال». وأخرج أحمد ومحمد ابن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل
بن يسار أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها
ثمانون ملكا واستخرجت ـ الله لا إله إلّا هو الحي القيوم ـ من تحت العرش فوصلت
__________________
بها». وأخرج البغوي في معجم الصحابة وابن عساكر في تاريخه عن ربيعة الجرشي
قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أيّ القرآن أفضل؟ قال : «السورة التي يذكر فيها البقرة
، قيل فأيّ البقرة أفضل؟ قال : آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش».
وأخرج أبو عبيد وأحمد والبخاري في صحيحه تعليقا ومسلم والنسائي عن أسيد بن حضير
قال : «بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت
فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت فانصرف
إلى ابنه يحيى وكان قريبا منها فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء
فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح
حدّث رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أتدري ما ذاك؟ قال : لا يا رسول الله ، قال : تلك
الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت تنظر إليها الناس لا تتوارى منهم» ولهذا
الحديث ألفاظ. وأخرج الترمذي وحسّنه النسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصحّحه
عن أبي هريرة قال : «بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعثا فاستقرأ كل رجل منهم» يعني ما معه من القرآن «فأتى
على رجل من أحدثهم سنا فقال : ما معك يا فلان؟ قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ،
قال : أمعك سورة البقرة؟ قال : نعم ، قال : اذهب فأنت أميرهم». وأخرج البيهقي في
الدلائل عن عثمان بن أبي العاص قال : «استعملني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنا أصغر القوم الذين وفدوا عليه من ثقيف ، وذلك أني
كنت قرأت سورة البقرة». وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح ، عن الصلصال بن الدلهمس
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا»
قال : «ومن قرأ سورة البقرة في ليلة توّج بتاج في الجنة». وأخرج أبو عبيد عن عبّاد
بن عبّاد عن جرير بن حازم ، عن عمه جرير بن يزيد ؛ أن أشياخ أهل المدينة حدثوا عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم «قيل له : ألم تر إلى ثابت بن قيس بن شمّاس لم تزل داره البارحة تزهر
مصابيح ، قال : فلعلّه قرأ سورة البقرة ، قال : فسئل ثابت فقال : قرأت سورة البقرة».
قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد ، إلّا أن فيه إبهاما ثم هو مرسل.
وقد روى أئمة
الحديث في فضائلها أحاديث كثيرة وآثارا عن الصحابة واسعة ، ومن فضائلها ما هو خاص
بآية الكرسي ، وما هو خاص بخواتم هذه السورة ، وقد سبق بعض ذلك ، وما هو في فضلها
وفضل آل عمران ، وقد سبق أيضا بعض من ذلك وما هو في فضل السبع الطوال ، كما أخرج
أبو عبيد عن واثلة ابن الأسقع عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أعطيت السبع مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل
، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل» وفي إسناده سعيد بن بشير وفيه لين
، وقد رواه بسند آخر عن سعيد بن أبي هلال. وأخرج أيضا عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أخذ السبع فهو خير». وقد رواه عنها أحمد في
المسند باللفظ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير». وأخرج
أبو عبيد عن سعيد ابن جبير في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال : هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء
والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ، وبذلك قال مجاهد ومكحول وعطية بن قيس وأبو
محمد القاري شدّاد ابن عبد الله ويحيى بن الحارث الذماري.
__________________
وقد ورد ما يدل
على كراهة أن يقول القائل سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا
القرآن كله. فأخرج ابن الضريس ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه والبيهقي في
الشعب ، بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة
النساء وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة ، والسورة التي
يذكر فيها آل عمران ، وكذا القرآن كله» قال ابن كثير : هذا حديث غريب لا يصح رفعه
، وفي إسناده يحيى بن ميمون الخوّاص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به. وأخرج البيهقي
في الشعب بسند صحيح عن ابن عمر قال : «لا تقولوا سورة البقرة ، ولكن قولوا السورة
التي تذكر فيها البقرة». وقد روي عن جماعة من الصحابة خلاف هذا. فثبت في الصحيحين
عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه
ثم قال : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم
وأهل السنن والحاكم وصحّحه عن حذيفة ، قال : صلّيت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة من رمضان فافتتح البقرة ، فقلت يصلي بها في ركعة ،
ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا. الحديث. وأخرج أحمد
وابن الضريس والبيهقي عن عائشة قالت : «كنت أقوم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الليل فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء». وأخرج أبو
داود والترمذي في الشمائل والنسائي والبيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال : «قمت مع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة ، فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلّا
وقف» الحديث.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١))
(الم) قال القرطبي في تفسيره : اختلف أهل التأويل في الحروف
التي في أوائل السور ، فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : هي سرّ
الله في القرآن ، ولله في كل كتاب من كتبه سرّ ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله
بعلمه ولا نحبّ أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها ، وتمدّ كما جاءت. وروي هذا القول عن
أبي بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب. قال : وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان
وابن مسعود أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسّر. وقال أبو حاتم
: لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور ، ولا ندري ما أراد الله عزوجل. قال : وقال جمع من العلماء كثير : بل نحبّ أن نتكلم
فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك على
أقوال عديدة ، فروي عن ابن عباس وعليّ أيضا عن الحروف المقطعة في القرآن : اسم
الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفرّاء وغيرهما : هي إشارة
إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي
التي بناء كلامهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن
كلامهم. قال قطرب : كانوا ينفرون عند استماع القرآن ، فلما نزل (الم) و (المص) استنكروا هذا اللفظ ، فلما أنصتوا له صلىاللهعليهوسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم
ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم : روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة وقالوا (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ
وَالْغَوْا فِيهِ) فأنزلها استغربوها ، فيفتحون أسماعهم ،
__________________
فيسمعون بالقرآن بعدها ، فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة : هي حروف دالة على
أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها ، كقول ابن عباس وغيره : الألف من الله واللام من
جبريل والميم من محمد. وذهب إلى هذا الزجّاج فقال : أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي
عن معنى. وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله :
فقلت لها قفي ، فقالت قاف
أي : وقفت. وفي
الحديث : «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» قال شقيق : هو أن يقول في اقتل اق كما
قال صلىاللهعليهوسلم : «كفى بالسّيف شا» أي شافيا ، وفي نسخة شاهدا. وقال
زيد بن أسلم : هي أسماء للسور. وقال الكلبي : هي أقسام أقسم الله بها لشرفها
وفضلها وهي من أسمائه.
ومن أدقّ ما
أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف فإنه قال : واعلم
أنك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء ، وجدتها نصف
أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء : وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف
والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على
عدد حروف المعجم ، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس
الحروف. بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ،
ومن الجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون
، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف ، ومن الرخوة نصفها اللام والميم
والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون ، ومن المطبقة نصفها
الصاد والطاء ، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء
والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون ، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد
والطاء ، ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والتاء
والعين والسين والحاء والنون ، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء. ثم إذا
استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس
المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقّت في كل شيء حكمته ، وقد علمت أن
معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله ، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته ، فكأن
الله عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت
من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم ، وما يدل على أنه تعمّد بالذكر من حروف المعجم
أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم ، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في
معظم هذه الفواتح مكررتين ، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت
ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر انتهى. وأقول :
هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتدّ بها ، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام
الحجة والتبكيت كما قال ، فهذا متيسر بأن يقال لهم : هذا القرآن هو من الحروف التي
تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها ، فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل سامع
منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة ، فإن هذا
مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح ، هو أيضا
مما لا يفهمه أحد من السامعين ولا يتعقل شيئا منه ، فضلا عن أن يكون تبكيتا له
وإلزاما للحجة أيا كان ، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم ، مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا
، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه
بلغ
فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع
الحروف التي تركبت لغة العرب منها ، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من
الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهليّ ولا إسلاميّ ولا
مقرّ ولا منكر ولا مسلم ولا معارض ، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الربّ سبحانه
، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به. وهب أن هذه صناعة عجيبة ونكتة
غريبة ، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح
، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين
الوصفين ، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ولا مدخل لذلك فيما ذكر. وأيضا
لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك ، لأنها
تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد
بيان الألغاز والتعمية ، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر ، بل من
عكسهما وضد رسمهما ، وإذا عرفت هذا فاعلم أن من تكلّم في بيان معاني هذه الحروف
جازما بأن ذلك هو ما أراده الله عزوجل ، فقد غلط أقبح الغلط ، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط
، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسّرها به راجعا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت
، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك ، وإذا سمعه السامع منهم كان معدودا عنده من
الرطانة ، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف أو حروف من الكلمة التي يريدون
النطق بها ، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدّمه ما يدل عليه ويفيد معناه ،
بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدّم ذكره. ومن هذا القبيل ما يقع منهم من
الترخيم ، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ وإذا تقرر لك أنه لا
يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين : الأوّل
التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه ، وأهل العلم أحق الناس
بتجنبه والصدّ عنه والتنكّب عن طريقه ، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب
الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به ويضعون حماقات أنظارهم وخزعبلات أفكارهم عليه.
الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع ، وهذا هو المهيع الواضح والسبيل القويم ، بل الجادة التي ما سواها مردوم
، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم ، فمن وجد شيئا من هذا فغير ملوم أن يقول
بملء فيه ويتكلم بما وصل إليه علمه ، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري ، أو
الله أعلم بمراده ، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه مع
كونه ألفاظا عربية وتراكيب مفهومة ، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم
زيغ ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن
للفهم إليه سبيلا ، ولكلام العرب فيه مدخلا ، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير.
وانظر كيف فهم اليهود عند سماع الم فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا
أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها ، كما أخرج
ابن إسحاق والبخاري في تاريخه ، وابن جرير بسند ضعيف ، عن ابن عباس ، عن جابر بن
عبد الله قال : «مرّ أبو ياسر ابن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : (الم ـ ذلِكَ الْكِتابُ لا
__________________
فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت
محمدا يتلوا فيما أنزل عليه الم ذلك الكتاب ، فقال : أنت سمعته؟ فقال نعم ، فمشى
حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا محمد! ألم تذكر أنك تتلوا فيما أنزل عليك (الم ـ ذلِكَ الْكِتابُ) قال : بلى ، قالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال
: نعم. قالوا : لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بين لنبيّ منهم ما مدّة ملكه
وما أجل أمته غيرك ، فقال حيي بن أخطب : وأقبل على من كان معه : الألف واحد واللام
ثلاثون والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبيّ إنما مدّة
ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال : نعم ، قال : وما
ذاك؟ قال : المص ، قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون
والصاد تسعون ، فهذا إحدى وستون ومائة سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال : نعم ،
قال : وما ذلك؟ قال ـ الر ـ قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون
والراء مائتان ، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان ، فهل مع هذا غيره؟ قال نعم ـ المر
ـ قال : فهذه أثقل وأطول الألف واحدة وثلاثون والميم أربعون والراء مائتان ، فهذه
إحدى وسبعون سنة ومائتان ، ثم قال : فقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري قليلا
أعطيت أم كثيرا ثم قاموا ، فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار : ما
يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله : إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، وإحدى
وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ،
فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) » فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم
من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء ، وتأمل أيّ موضع أحق بالبيان من
رسول الله صلىاللهعليهوسلم من هذا الموضع ، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه
عند سماع (الم ـ ذلِكَ
الْكِتابُ) من ذلك العدد موجبا للتثبيط عن الإجابة له والدخول في
شريعته ، فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم ، لدفع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من
التشكيك على من معهم.
فإن قلت : هل
ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت : لا أعلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تكلم في شيء من معانيها ، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد
عدد حروفها ، فأخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي وصحّحه ، والحاكم وصحّحه ، عن
ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة
بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وله طرق عن
ابن مسعود. وأخرج ابن أبي شيبة والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه
مرفوعا. فإن قلت : هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما
تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعلي؟ قلت : قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب
الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال : الم أحرف اشتقت من حروف اسم الله. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
__________________
عن ابن عباس في قوله الم وحم ون قال : اسم مقطّع. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضا في
قوله ، الم ، والمص ، والر ، والمر ، وكهيعص ، وطه ، وطسم ، وطس ، ويس ، وص ، وحم
، وق ، ون ، قال : هو قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله. وأخرج ابن جرير عن ابن
مسعود في قوله الم قال : هي اسم الله الأعظم. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس
في قوله الم قال : ألف مفتاح اسمه الله ، ولام مفتاح اسمه لطيف ، وميم مفتاح اسمه
مجيد. وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسدي
وقتادة ومجاهد والحسن. فإن قلت : هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة قال في تفسير
شيء من هذه الفواتح قولا صحّ إسناده إليه؟ قلت : لا ، لما قدّمنا ، إلا أن يعلم
أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فإن قلت : هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه ولا مدخل للغة
العرب ، فلم لا يكون له حكم الرفع؟ قلت : تنزيل هذا منزلة المرفوع ، وإن قال به
طائفة من أهل الأصول وغيرهم ، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين ، ولا سيما إذا كان
في مثل هذا المقام وهو التفسير لكلام الله سبحانه ، فإنه دخول في أعظم الخطر بما
لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض
رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد ، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوّغا للوقوع في خطر
الوعيد الشديد. على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده
كثيرا في تفاسيرهم المنقولة عنهم ، ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه ، ثم هاهنا
مانع آخر ، وهو أن المرويّ عن الصحابة في هذا مختلف متناقض ، فإن عملنا بما قاله
أحدهم دون الآخر كان تحكّما لا وجه له ، وإن عملنا بالجميع كان عملا بما هو مختلف
متناقض ولا يجوز. ثم هاهنا مانع غير هذا المانع ، وهو : أنه لو كان شيء مما قالوه
مأخوذا عن النّبي صلىاللهعليهوسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه ، فلما
اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلىاللهعليهوسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه ، لا سيما عند
اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل
لها. والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمّة أن لا يتكلّم بشيء
من ذلك ، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزوجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا ، وإذا
انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه ، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) كلام طويل الذيول ، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام
وسليمات العقول.
(ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))
الإشارة بقوله
ذلك إلى الكتاب المذكور بعده. قال ابن جرير : قال ابن عباس (ذلِكَ الْكِتابُ) هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي
ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج ، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة. والعرب قد تستعمل
الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف :
أقول له
والرمح يأطر متنه
|
|
تأمّل خفافا
أنّني أنا ذلكا
|
__________________
أي أنا هذا ،
ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ) ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ) ـ (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) وقيل إن الإشارة إلى غائب ؛ واختلف في ذلك الغائب ،
فقيل : هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا مبدل له ، وقيل ذلك الكتاب الذي كتبه الله على
نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «لمّا قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع
عنده : إنّ رحمتي تغلب غضبي». وفي رواية «سبقت». وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة
، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل ، وقيل إشارة إلى قوله قبله الم ، ورجّحه
الزمخشري ، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي
وأرجحها ما صدّرناه ، واسم الإشارة مبتدأ ، والكتاب صفته ، والخبر لا ريب فيه ،
ومن جوّز الابتداء بالم جعل ذلك مبتدأ ثانيا ، وخبره الكتاب أو هو صفته ، والخبر
لا ريب فيه ، والجملة خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون المبتدأ مقدّرا وخبره الم وما
بعده. والريب مصدر ، وهو قلق النفس واضطرابها ، وقيل إن الريب : الشك. قال ابن أبي
حاتم : لا أعلم في هذا خلافا. وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة ، حكى ذلك
القرطبي. ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب ؛ لوضوح دلالته وضوحا
يقوم مقام البرهان المقتضى ، لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه ، والوقف
على (فِيهِ) هو المشهور. وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على (لا رَيْبَ). قال في الكشاف : ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبرا
ونظيره قوله تعالى : (قالُوا لا ضَيْرَ) وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ،
والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى. والهدى مصدر. قال الزمخشري : وهو الدلالة
الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى. ومحله الرفع على الابتداء
وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق. قال القرطبي : الهدى هديان : هدى دلالة وهو
الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم ؛ قال الله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ
هادٍ) وقال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ،
وتفرّد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه
قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) وقوله (وَلكِنَّ اللهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) انتهى. والمتقين من ثبتت لهم التقوى. قال ابن فارس : وأصلها في اللغة قلة
الكلام. وقال في الكشاف : المتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ،
والوقاية : الصيانة ، ومنه : فرس واق ، وهذه الدابة تقي من وجاها : إذا أصابها ضلع
من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في
الشريعة : الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى. وأخرج
ابن جرير والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود أن الكتاب : القرآن ، لا ريب فيه : لا شك
فيه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) قال : لا شك فيه. وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن
أبي الدرداء قال : الريب : الشك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله ، وكذا ابن جرير
عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن
__________________
ابن مسعود في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) قال : نور للمتقين وهم المؤمنون. وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من
الهدى ويرجون رحمته في التصديق مما جاء منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل
أنه قيل له : من المتقون؟ فقال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله
العبادة. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلا قال له : ما التقوى؟ قال : هل
وجدت طريقا ذا شوك؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه
أو جاوزته أو قصّرت عنه ، قال : ذاك التقوى. وأخرج أحمد في الزهد ، عن أبي الدرداء
قال : تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى
أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام. وقد روي نحو ما قاله
أبو الدرداء عن جماعة من التابعين. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه ،
والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في
الشعب ، عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتّى يدع ما لا
بأس به حذرا لما به البأس» فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ، ويكون هذا معنى
شرعيا للمتقي أخصّ من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعما أنه المعنى الشرعي.
(الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)
وهو وصف
للمتقين كاشف. والإيمان في اللغة : التصديق ، وفي الشرع ما سيأتي. والغيب في كلام
العرب : كل ما غاب عنك. قال القرطبي : واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا ، فقالت
فرقة : الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه ، وضعّفه ابن العربي. وقال آخرون :
القضاء والقدر. وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون : الغيب كل ما
أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر
والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية : وهذه الأقوال لا تتعارض بل
يقع الغيب على جميعها ، قال : وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل
حين قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «فأخبرني عن الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ، قال : صدقت» انتهى. وهذا
الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والقدر خيره
وشرّه». وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مندة وأبو نعيم كلاهما في معرفة
الصحابة ، عن تويلة بنت أسلم قالت : «صلّيت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ،
فاستقبلنا مسجد إيليا فصلّينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا بأنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد استقبل البيت ، فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء
مكان الرجال ، فصلّينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أولئك قوم آمنوا بالغيب». وأخرج البزار وأبو
يعلى والحاكم وصحّحه عن عمر بن الخطاب قال : «كنت جالسا مع النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا؟ فقالوا : يا
رسول الله! الملائكة ، قال : هم كذلك ويحقّ لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله
المنزلة التي أنزلهم بها؟ قالوا : يا رسول الله!
الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوّة ، قال : هم كذلك ويحقّ لهم ،
وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها؟ قالوا : يا رسول الله!
الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء ، قال : هم كذلك ، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله
بالشهادة؟ قالوا : فمن يا رسول الله؟! قال : أقوام في أصلاب الرّجال يأتون من بعدي
يؤمنون بي ولم يروني ويصدّقوني ولم يروني ، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه ،
فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» في إسناده محمد بن أبي حميد وفيه ضعف ، وأخرج
الحسن بن عرفة في جزئه المشهور ، والبيهقي في الدلائل ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جدّه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فذكر نحو الحديث الأول ، وفي إسناده المغيرة بن قيس
البصري وهو منكر الحديث. وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ، والإسماعيلي عن
أبي هريرة مرفوعا أيضا ، والبزّار عن أنس مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن
عوف ابن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا ليتني قد لقيت إخواني. قالوا : يا رسول الله!
ألسنا إخوانك؟ قال : بلى ، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدّقوني
تصديقكم وينصروني نصركم ، فيا ليتني قد لقيت إخواني» وأخرج نحوه ابن عساكر في
الأربعين السباعية من حديث أنس ، وفي إسناده أبو هدبة وهو كذاب ، وزاد فيه «ثم قرأ
النبي صلىاللهعليهوسلم (الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الآية». وأخرج أحمد والدارمي والباوردي وابن قانع معا
في معجم الصحابة ، والبخاري في تاريخه ، والطبراني ، والحاكم ، عن أبي جمعة
الأنصاري قال : «قلت : يا رسول الله! هل من قوم أعظم منا أجرا ، آمنّا بك
واتّبعناك؟ قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟
بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين ، فيؤمنون بي ويعملون بما فيه ،
أولئك أعظم منكم أجرا». وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي عبد الرحمن
الجهني قال : «بينما نحن عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ طلع راكبان ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كنديّان أو مذحجيّان. حتى أتيا ، فإذا رجلان من مذحج
، فدنا أحدهما ليبايعه ، فلمّا أخذ بيده قال : يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك
واتّبعك وصدّقك ، فماذا له؟ قال : طوبى له. فمسح على زنده وانصرف ، ثم جاء الآخر
حتى أخذ بيده ليبايعه فقال : يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدّقك واتّبعك ولم يرك؟
قال : طوبى له ثم طوبى له ، ثم مسح على زنده وانصرف». وأخرج الطيالسي وأحمد
والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني
، سبع مرات». وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد «أن رجلا قال : يا رسول الله! طوبى
لمن رآك وآمن بك؟ قال : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي
ولم يرني» وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه. وأخرج أحمد وأبو يعلى
والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدّم. وأخرج سفيان بن عيينة
وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده ، وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم
وصحّحه عن ابن مسعود أنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ،
ثم قرأ (الم ـ ذلِكَ
الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) . وللتابعين أقوال ، والراجح ما تقدّم من أن الإيمان
الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا.
__________________
قال ابن جرير : والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادا
وعملا. قال : وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل.
والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل. وقال ابن
كثير : إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا ، هكذا ذهب
إليه أكثر الأئمة. بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعا
أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وقد ورد فيه آيات كثيرة ، انتهى.
(الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ (٣))
هو معطوف على «يؤمنون»
والإقامة في الأصل : الدوام والثبات. يقال قام الشيء : أي دام وثبت. وليس من
القيام على الرجل ، وإنما هو من قولك قام الحق : أي ظهر وثبت ، قال الشاعر :
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال آخر :
وإذا يقال
أتيتم لم يبرحوا
|
|
حتّى تقيم
الخيل سوق طعان
|
وإقامة الصلاة
أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها. والصلاة أصلها في اللغة : الدعاء من
صلّى يصلّي إذا دعا. وقد ذكر هذا الجوهري وغيره. وقال قوم : هي مأخوذة من الصّلا ،
وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب. ومنه أخذ المصلّي في سبق الخيل ، لأنه
يأتي في الحلبة ورأسه عند صلا السابق ، فاشتقت منه الصلاة لأنها ثانية للإيمان
فشبهت بالمصلي من الخيل. وإما لأن الراكع يثنى صلويه ، والصلا مغرز الذنب من الفرس
والاثنان صلوان ، والمصلي تالي السابق لأن رأسه عند صلوه. ذكر هذا القرطبي في
تفسيره. وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف ، هذا المعنى اللغوي. وأما المعنى الشرعي
: فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار. وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة
على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعا شرعيا ابتدائيا. فقيل بالأوّل ، وإنما جاء الشرع
بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها. وقال قوم بالثاني. والرزق عند الجمهور :
ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراما خلافا للمعتزلة. فقالوا : إن الحرام ليس
برزق ، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا. والإنفاق : إخراج المال من اليد ، وفي
المجيء بمن التبعيضية هاهنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف. وقد أخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) قال : الصلوات الخمس (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : زكاة أموالهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن
إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : أنفقوا في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته
وسبيله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في
قوله : (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : هي نفقة الرجل على أهله. وأخرج ابن جرير عن
الضحاك قال : كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله عزوجل على قدر
ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هنّ الناسخات
المبيّنات. واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات ، وهو الحق من غير
فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم ، وصدقة الفرض والنفل ، وعدم التصريح بنوع من
الأنواع التي يصدق عليها مسمّى الإنفاق يشعر أتمّ إشعار بالتعميم.
(وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ (٤))
قيل هم مؤمنو
أهل الكتاب ، فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد صلىاللهعليهوسلم وما أنزله على من قبله وفيهم نزلت. وقد رجّح هذا ابن
جرير ، ونقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ، واستشهد
له ابن جرير بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْهِمْ) وبقوله تعالى : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) الآية. والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب. وقيل
الآيتان جميعا في المؤمنين على العموم. وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة
الأولى صفة للمتقين بعد صفة ، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف ، ويجوز أن تكون
معطوفة على المتقين ، فيكون التقدير : هدى للمتقين والذين يؤمنون بما أنزل إليك.
والمراد بما أنزل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم : هو القرآن ، وما أنزل من قبله : هو الكتب السالفة.
والإيقان : إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه ، قاله في الكشاف. والمراد أنهم
يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك. والآخرة تأنيث الآخر الذي هو
نقيض الأول ، وهي صفة الدار كما في قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً) وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير المذكور
إشعار بالحصر ، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل
للإيقان به والقطع بوقوعه. وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا
الكل تغليبا للموجود على ما لم يوجد ، أو تنبيها على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة
النازل قبل نزوله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي يصدقونك بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من
المرسلين ، لا يفرّقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ، (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) إيمانا بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان
: أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.
والحق أن هذه
الآية في المؤمنين كالتي قبلها ، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفا لمؤمني أهل
الكتاب ، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ، ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك. وقد
ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية. فمن ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وكقوله : (وَقُولُوا آمَنَّا
بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ
__________________
مِنْ
رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)
(أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))
هذا كلام
مستأنف استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب
والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليه الصلاة والسلام فقيل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) ويمكن أن يكون هذا خبرا عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ ،
فيكون متصلا بما قبله. قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله : (عَلى هُدىً) مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به ،
شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل. وقد
صرّحوا بذلك في قوله : جعل الغواية مركبا ، وامتطى الجهل ، واقتعد غارب الهوى ،
انتهى. وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف
في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من
القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها «الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على
ما قاله الشريف» فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ، ويجمع بين أطراف الكلام
على التمام. قال ابن جرير : إن معنى (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ) على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله
إياهم وتوفيقه لهم ، و (الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم
وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة : الشقّ
والقطع ، قاله أبو عبيد : ويقال للذي شقت شفته : أفلح ، ومنه سمي الأكّار فلّاحا
لأنه شقّ الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي
: وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضا في اللغة ، فمعنى (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالجنة والباقون. وقال في الكشاف : المفلح
الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه ، انتهى. وقد
استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود : «حتى كاد يفوتنا
الفلاح مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قلت : وما الفلاح؟ قال : السحور». فكأن معنى الحديث :
أن السحور به بقاء الصوم ، فلهذا سمي فلاحا. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن
كلا من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم ، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى
تميزا على حياله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون
غيره. وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن
ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة : أن الذين يؤمنون بالغيب : هم المؤمنون من العرب
، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما أنزل إلى من قبله : هم ، والمؤمنون من أهل الكتاب ،
ثم جمع الفريقين فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقد قدّمنا الإشارة إلى هذا وإلى ما هو أرجح منه ، كما
هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة. وأخرج ابن أبي حاتم من
حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : قيل يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو ،
ونقرأ فنكاد أن
__________________
نيأس ، أو كما قال ، فقال : «ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا :
بلى يا رسول الله! قال : (الم ذلِكَ الْكِتابُ
لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء أهل الجنة ، قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء ، ثم
قال : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) إلى قوله : (عَظِيمٌ) هؤلاء أهل النار ، قالوا : ألسنا هم يا رسول الله؟! قال
: أجل» .
وقد ورد في فضل
هذه الآيات الشريفة أحاديث ، منها : ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند
والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال : «كنت عند النبيّ صلىاللهعليهوسلم فجاء أعرابيّ فقال : يا نبيّ الله! إن لي أخا وبه وجع
فقال : وما وجعه؟ قال : به لمم ، قال : فائتني به. فوضعه بين يديه ، فعوّذه النبيّ
بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أوّل سورة البقرة ، وهاتين الآيتين : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وآية الكرسي ، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من
آل عمران (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، وآية من الأعراف (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ) ، وآخر سورة المؤمنين (فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ) ، وآية من سورة الجنّ (وَأَنَّهُ تَعالى
جَدُّ رَبِّنا) ، وعشر آيات من أوّل الصافّات ، وثلاث آيات من آخر سورة
الحشر ، وقل هو الله أحد ، والمعوّذتين ، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ». وأخرج
نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن
أبيّ مثله. وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال : من قرأ أربع آيات من
أوّل سورة البقرة ، وآية الكرسي ، وآيتين بعد آية الكرسي ، وثلاثا من آخر سورة
البقرة ، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ، ولا
تقرأ على مجنون إلا أفاق. وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال : من قرأ
عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح :
أربع من أوّلها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث خواتمها وأوّلها (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ). وأخرج سعيد ابن منصور والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن
سبيع ، وكان من أصحاب عبد الله ابن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن
عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ، وأسرعوا به إلى قبره ،
وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة ، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة». وقد ورد في ذلك
غير هذا.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى
أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))
ذكر سبحانه
فريق الشرّ بعد الفراغ من ذكر فريق الخير قاطعا لهذا الكلام عن الكلام الأوّل ،
معنونا له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم ، وأنه لا يترتب
عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان ، وأن وجود ذلك كعدمه. و (سَواءٌ) اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ، والهمزة
وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام ، وصحّ الابتداء
بالفعل والإخبار عنه بقوله : سواء ،
__________________
هجرا لجانب اللفظ إلى جانب المعنى ، كأنه قال : الإنذار وعدمه سواء ،
كقولهم : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه : أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة : الستر
والتغطية ، قال الشاعر :
في ليلة كفر النجوم غمامها
أي سترها ،
ومنه سمي الكافر كافرا لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار
: الإبلاغ والإعلام.
قال القرطبي :
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت
عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم
الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في
رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما. وقال الربيع بن أنس : نزلت
فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصحّ ، فإنّ من عيّن أحدا فإنما مثّل
بمن كشف الغيب بموته على الكفر ، انتهى. وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) خبر مبتدأ محذوف : أي هم لا يؤمنون ، وهي جملة مستأنفة
لأنها جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا
يكون منهم؟ فقيل لا يؤمنون : أي هم لا يؤمنون. وقال في الكشاف : إنها جملة مؤكدة
للجملة الأولى ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض. انتهى. والأولى ما ذكرناه ، لأن
المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم ، وأنه لا يجدي شيئا بل بمنزلة العدم ،
فهذه الجملة هي التي وقعت خبرا ل (إن) ، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا
أنه المقصود. وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي. وقال ابن كيسان : إن خبر إن :
سواء ، وما بعده يقوم مقام الصلة. وقال محمد بن يزيد المبرد : سواء رفع بالابتداء
، وخبره أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، والجملة خبر إن. والختم : مصدر ختمت الشيء ،
ومعناه : التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه ختم الكتاب
والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة : الغطاء
، ومنه غاشية السرج ، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيّان ؛ أي
لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها ، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من
الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم ، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته
وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختما حسيّا ، والمستوثق منها
استيثاقا حقيقيا ، والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلا ، وإسناد الختم إلى الله
قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة ، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب
الكشاف ، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه.
وقد اختلف في
قوله تعالى : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفا على القلوب أو في
حكم التغشية ، فقيل : إن الوقف على قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) تام ، وما بعده كلام مستقلّ ، فيكون الطبع على القلوب
والأسماع ، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة ، وقد قرئ «غشاوة» بالنصب. قال
ابن جرير : يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ويحتمل
أن يكون نصبها
على الإتباع على محلّ وعلى سمعهم ، كقوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ) وقول الشاعر :
علفتها تبنا وماء باردا
وإنما وحّد
السمع مع جمع القلوب والأبصار ، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. والعذاب : هو
ما يؤلم ، وهو مأخوذ من الحبس والمنع ، يقال في اللغة أعذبه عن كذا : حبسه ومنعه ،
ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره
الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضلّ إلا من
سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس أيضا في تفسير الآية : أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما
أخذ عليهم من الميثاق ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من
علمك (خَتَمَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي
العالية في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين
ذكرهم الله في هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر ، ولم يدخل القادة في
الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان ، والحكم ابن العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في
قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) قال : أوعظتهم أم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة
في هذه الآية قال : أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم ، فختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : الختم على قلوبهم وعلى سمعهم
والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون. وجعل على أبصارهم : يعني أعينهم غشاوة فهم لا
يبصرون. وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال :
الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) وقال : (وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) . قال ابن جرير في معنى الختم : والحق عندي في ذلك ما
صحّ نظيره عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم ذكر إسنادا متصلا بأبي هريرة ، قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه ،
فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه» فذلك الران الذي قال
الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) . وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصحّحه والنسائي. ثم
قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا
أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع ، فلا يكون إليها مسلك ولا
للكفر منها مخلص ، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى
سَمْعِهِمْ) نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية
والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلّها ، فلذلك لا يصل
الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضّ
__________________
خاتمه ، وحلّ رباطه عنها.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما
يَشْعُرُونَ (٩))
ذكر سبحانه في
أول هذه السورة المؤمنين الخلّص ، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلّص ، ثم ذكر ثالثا
المنافقين ، وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين ، بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم
وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى وفي الباطن الطائفة الثانية ، ومع ذلك فهم أهل
الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفا ، وهو من النوس وهو
الحركة ، يقال : ناس ينوس : أي تحرّك ، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على
غير لفظه ، واللام الداخلة عليه للجنس ، ومن تبعيضية : أي بعض الناس ، ومن موصوفة
: أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر : الوقت الذي لا ينقطع ، بل هو
دائم أبدا. والخداع في أصل اللغة : الفساد ، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي ، وأنشد :
أبيض اللّون
رقيق طعمه
|
|
طيّب الرّيق
إذا الرّيق خدع
|
وقيل : أصله
الإخفاء ، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء ، حكاه ابن فارس وغيره.
والمراد من
مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين ، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه
شيء لا يخدع.
وصيغة فاعل
تفيد الاشتراك في أصل الفعل ، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله
سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله ؛ أنه لما أجرى عليهم
أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء ، فكأنّه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار
الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين
لهم : هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهرا وإن كانوا
يعلمون فساد بواطنهم ، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر.
والمراد بقوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين
أنفسهم ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن
دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك ، ومن هذا قول من قال : من
خادعته فانخدع لك فقد خدعك. وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (يُخادِعُونَ) في الموضعين ، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في
الثاني (يَخْدَعُونَ). والمراد بمخادعتهم أنفسهم : أنهم يمنونها الأمانيّ
الباطلة وهي كذلك تمنيهم. (وَما يَشْعُرُونَ) قال أهل اللغة : شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف :
والشعور علم الشيء علم حس ، من الشعار. ومشاعر الإنسان : حواسه. والمعنى : أن لحوق
ضرر ذلك لهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له. والمراد بالأنفس هنا
ذواتهم ، لا
__________________
سائر المعاني التي تدخل في مسمّى النفس ، كالروح والدم والقلب.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن
كان على أمرهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : والمراد بهذه الآية
المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن
سيرين قال : لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له : ما النفاق؟ قال :
أن يتكلّم بالإسلام ولا يعمل به. وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من
الصحابة : أن قائلا من المسلمين قال : يا رسول الله! ما النجاة غدا؟ قال : لا
تخادع الله. قال : وكيف نخادع الله؟ قال : أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره
، فاتّقوا الرياء فإنه الشرك بالله ، فإن المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس
الخلائق بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا خاسر ، يا غادر ، ضلّ عملك وبطل
أجرك ، فلا خلاق لك اليوم عند الله ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع ، وقرأ
آيات من القرآن (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) الآية ، و (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ) الآية ، وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال : سألت ابن زيد
عن قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) قال : هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله ، والذين
آمنوا : أنهم مؤمنون بما أظهروه. وعن قوله : (وَما يَخْدَعُونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ). أنهم ضرّوا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) قال : يظهرون لا إله إلّا الله يريدون أن يحرزوا بذلك
دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك.
(فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ
(١٠))
المرض : كل ما
يخرج به الإنسان عن حدّ الصّحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر ، قاله ابن فارس. وقيل
: هو الألم ، فيكون على هذا مستعارا للفساد الذي في عقائدهم إما شكا ونفاقا ، أو
جحدا وتكذيبا ؛ وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها ، مبالغة في تعلّق هذا
الداء بتلك القلوب لما كانوا عليه من شدّة الحسد وفرط العداوة. والمراد بقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم من النعم ، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية.
ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق. والأليم المؤلم
: أي الموجع ، و «ما» في قوله : (بِما كانُوا
يَكْذِبُونَ) مصدرية : أي بتكذيبهم وهو قولهم : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) والقرّاء مجمعون على فتح الراء في قوله : مرض ، إلا ما
رواه الأصمعيّ عن أبي عمرو أنه قرأ بإسكان الراء ، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي (يَكْذِبُونَ) بالتخفيف ، والباقون بالتشديد.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : شكّ (فَزادَهُمُ اللهُ
مَرَضاً) قال : شكّا. وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ
__________________
مَرَضٌ)
قال : النفاق (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : نكال موجع (بِما كانُوا
يَكْذِبُونَ) قال : يبدّلون ويحرّفون. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود
مثل ما قاله ابن عباس أوّلا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كل شيء في
القرآن أليم فهو الموجع. وأخرج أيضا عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير عن
الضحّاك مثله أيضا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي ريبة وشكّ في أمر الله (فَزادَهُمُ اللهُ
مَرَضاً) ريبة وشكّا (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قال : إيّاكم والكذب فإنه باب النفاق. وأخرج ابن جرير
عن ابن زيد قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد وهم المنافقون ، والمرض :
الشك الذي دخلهم في الإسلام. وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض : الرياء.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢))
(وَإِذا) في موضع نصب على الظرف والعامل فيه قالوا المذكور بعده.
وفيه معنى الشرط. والفساد ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد
الشيء يفسد فسادا وفسودا فهو فاسد وفسيد. والمراد في الآية : لا تفسدوا في الأرض
بالنفاق وموالاة الكفرة وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن ، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك
الأبدان وخراب الديار وبطلان الذرائع ، كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع. و (إِنَّما) من أدوات القصر كما هو مبيّن في علم المعاني. والصّلاح
ضد الفساد. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة ،
ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد ، إلى الاتصاف بما هو ضدّ
لذلك وهو الصلاح ، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض ، حتى جعلوا صفة
الصلاح مختصة بهم خالصة لهم ، فردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ لما يفيده حرف التنبيه
من تحقق ما بعده ، ولما في إن من التأكيد ، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير
الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له ، وردّهم إلى
صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّا مؤكدا مبالغا فيه بزيادة على ما
تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من إنما. وأما نفي الشعور عنهم
فيحتمل أنهم لمّا كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص ، ظنوا أن
ذلك ينفق على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وينكتم عنه بطلان ما أضمروه ، ولم يشعروا بأنه عالم به
، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء ، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من
جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحا لما
استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام.
وقد أخرج ابن
جرير عن ابن مسعود أنه قال : الفساد هنا : هو الكفر والعمل بالمعصية. وأخرج ابن
إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل
الكتاب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال : إذا ركبوا معصية فقيل
لهم لا تفعلوا كذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن
أبي حاتم
عن سلمان أنه قرأ هذه الآية فقال : لم يجيء أهل هذه الآية بعد. قال ابن
جرير : يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين
كانوا في زمن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. انتهى.
ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين ، بل يحملها على مثل أهل
الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين ؛ كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده
أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))
أي : وإذا قيل
للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم من المهاجرين والأنصار أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن
الحقّ والصواب ، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاء واستخفافا ، فتسبّبوا بذلك إلى
تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول. وحصر السفاهة وهي رقّة الحلوم
وفساد البصائر وسخافة العقول فيهم ، مع كونهم لا يعملون أنهم كذلك إما حقيقة أو
مجازا ، تنزيلا لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه ، وأنهم متصفون به
؛ ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم لأنه لا يتسافه إلّا جاهل. والكاف
في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف : أي إيمانا كإيمان الناس.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) أي صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنّه نبيّ ورسول ، وأن
ما أنزل عليه حق ، (قالُوا : أَنُؤْمِنُ
كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون أصحاب محمد (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهاءُ) يقول : الجهّال (وَلكِنْ لا
يَعْلَمُونَ) يقول : لا يعقلون. وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند
واه أنه قال : آمنوا كما آمن النّاس أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ. وأخرج ابن جرير عن
ابن مسعود في قوله : (كَما آمَنَ
السُّفَهاءُ) قال : يعنون أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله. وروى الكلبيّ عن أبي
صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود : أي إذا قيل لهم ـ يعني اليهود ـ : (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) عبد الله بن سلام وأصحابه (قالُوا أَنُؤْمِنُ
كَما آمَنَ السُّفَهاءُ).
(وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))
(لَقُوا) أصله لقيوا ، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء
الساكنين. ومعنى لقيته ولاقيته : استقبلته قريبا. وقرأ محمد بن السّميقع اليماني
وأبو حنيفة : لاقوا : وأصله لاقيوا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ،
ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وخلوت بفلان وإليه : إذا انفردت به. وإنما عدّي
بإلى
وهو يتعدّى بالباء فيقال : خلوت به لا خلوت إليه ، لتضمنه معنى ذهبوا
وانصرفوا. والشياطين جمع شيطان على التكسير. وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان
فجعلها في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ، فعلى الأوّل هو من شطن أي بعد عن
الحق ، وعلى الثاني من شطّ : أي بعد. أو شاط : أي بطل ، وشاط : أي احترق ، وأشاط :
إذا هلك قال :
وقد يشيط على أرماحنا البطل
أي يهلك. وقال
آخر :
وأبيض ذي تاج
أشاطت رماحنا
|
|
لمعترك بين
الفوارس أقتما
|
أي أهلكت. وحكى
سيبويه أن العرب تقول : تشيطن فلان : إذا فعل أفعال الشياطين. ولو كان من شاط
لقالوا : تشيّط ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
أيّما شاطن
عصاه عكاه
|
|
ثم يلقى في
السّجن والأغلال
|
وقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) معناه مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه. والهزء :
السخرية واللعب. قال الراجز :
قد هزئت منّي
أمّ طيسله
|
|
قالت أراه
معدما لا مال له
|
قال في الكشاف
: وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ : مات على المكان. عن
بعض العرب : مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني ، وناقته تهزأ به : أي تسرع
وتخفّ. انتهى. وقيل : أصله الانتقام ، قال الشاعر :
قد استهزءوا
منهم بألفي مدجّج
|
|
سراتهم وسط
الصّحاصح جثّم
|
فأفاد قولهم : (إِنَّا مَعَكُمْ) أنهم ثابتون على الكفر ، وأفاد قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ردّهم للإسلام ودفعهم للحق ، وكأنه جواب سؤال مقدّر
ناشئ من قولهم إنا معكم : أي إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين
وافقتموهم؟ فقالوا : إنما نحن مستهزئون بهم في تلك الموافقة ، ولم تكن بواطننا
موافقة لهم ولا مائلة إليهم ، فردّ الله ذلك عليهم بقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم
انتصافا منهم لعباده المؤمنين ، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه
عقوبة ومكافأة مشاكلة. وقد كانت العرب إذا وضعت لفظا بإزاء لفظ جوابا وجزاء ذكرته
بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفا له في معناه. وورد ذلك في القرآن كثيرا ، ومنه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق
، ومنه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ) و (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا) (يُخادِعُونَ اللهَ
وَهُوَ خادِعُهُمْ) (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) . وهو في السنة كثير كقوله
__________________
صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا».
وإنما قال : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لأنه يفيد التجدّد وقتا بعد وقت ، وهو أشدّ عليهم ،
وأنكأ لقلوبهم ، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الاسمية
، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتا بعد وقت ، والمتجددة حينا بعد حين ،
أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ لأنه يألفه ويوطّن نفسه عليه.
والمدّ : الزيادة قال يونس بن حبيب : يقال مدّ في الشرّ وأمدّ في الخير ، ومنه : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) (وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ) . وقال الأخفش : مددت له : إذا تركته ، وأمددته : إذا
أعطيته. وقال الفرّاء واللحياني : مددت فيما كانت زيادته من مثله ، يقال : مدّ
النهر ، ومنه : (وَالْبَحْرُ
يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) وأمددت فيما كانت زيادته من غيره ، ومنه : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ
آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) والطغيان مجاوزة الحدّ والغلوّ في الكفر ومنه : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي تجاوز المقدار الذي قدّرته الخزان. وقوله في فرعون :
(إِنَّهُ طَغى) أي أسرف في الدعوى حيث قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) .
والعمه والعامة
: الحائر المتردد ، وذهبت إبله العمّهى : إذا لم يدر أين ذهبت ، والعمه في القلب
كالعمى في العين. قال في الكشاف : العمه مثل العمى. إلا أن العمى في البصر والرأي
، والعمه في الرأي خاصة. انتهى. والمراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم
كما قال : (إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) . قال ابن جرير : (فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلّالا
لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى
أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا.
وقد أخرج
الواحدي والثعلبي بسند واه ـ لأن فيه محمد بن مروان ، وهو متروك ـ عن ابن عباس قال
: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر
وعمر وعليّ رضي الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : كان رجال من
اليهود إذا لقوا أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم أو بعضهم قالوا : إنا على دينكم : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) وهم إخوانهم قالوا : (إِنَّا مَعَكُمْ) على مثل ما أنتم عليه : (إِنَّما نَحْنُ
مُسْتَهْزِؤُنَ) بأصحاب محمد : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) قال : يسخر بهم للنقمة منهم : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) قال : في كفرهم ، (يَعْمَهُونَ) قال : يتردّدون. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه
بمعناه وأطول منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل. وأخرج
ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ) قال : رؤسائهم في الكفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
مالك قال : (وَإِذا خَلَوْا) أي مضوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما
قاله ابن مسعود. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (وَيَمُدُّهُمْ) قال : يملي لهم. (فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) قال : في كفرهم يتمادون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون. وأخرج الفريابي
وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن
__________________
المنذر عن مجاهد (يَمُدُّهُمْ) يزيدهم. (فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ) قال يلعبون ويتردّدون في الضّلالة. وأخرج أحمد في
المسند عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجنّ ، فقلت : يا رسول
الله! وللإنس شياطين؟ قال : نعم».
(أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ (١٦))
قال سيبويه :
ضمّت الواو في : (اشْتَرَوُا) فرقا بينها وبين الواو الأصلية في نحو : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) . وقال الزجّاج : حرّكت بالضم كما يفعل في نحن. وقرأ
يحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السّمّال العدوي
بفتحها لخفة الفتحة. وأجاز الكسائيّ همز الواو. والشراء هنا مستعار للاستبدال : أي
استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمى عَلَى الْهُدى) فأما أن يكون معنى الشراء المعاوضة كما هو أصله حقيقة
فلا ، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعوا إيمانهم ، والعرب قد تستعمل ذلك في
كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب :
فإن تزعميني
كنت أجهل فيكم
|
|
فإنّي شريت الحلم بعدك
بالجهل
|
وأصل الضلالة
الحيرة والجور عن القصد وفقد الاهتداء ، وتطلق على النسيان ، ومنه قوله تعالى : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) ، وعلى الهلاك كقوله : (وَقالُوا أَإِذا
ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) وأصل الربح الفضل. والتجارة : صناعة التاجر ، وأسند
الربح إليها على عادة العرب في قولهم : ربح بيعك وخسرت صفقتك ، وهو من الإسناد
المجازي ، وهو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل كما هو مقرّر في علم المعاني. والمراد
: ربحوا وخسروا. والاهتداء قد سبق تحقيقه : أي وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة
؛ وقيل في سابق علم الله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
قال : (اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي الكفر بالإيمان. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال :
أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد
قال : آمنوا ثم كفروا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن
قتادة قال : استحبّوا الضلالة على الهدى ، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى
الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السّنّة إلى
البدعة.
(مثلهم كمثل الذي
استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون (١٧)
صم بكم عمي فهم لا يرجعون (١٨))
(مَثَلُهُمْ) مرتفع بالابتداء ، وخبره إما الكاف في قوله : (كَمَثَلِ) لأنها اسم : أي مثل مثل كما في
__________________
قول الأعشى :
أتنتهون ولن
ينهى ذوي شطط
|
|
كالطّعن يذهب
فيه الزيت والفتل
|
وقول امرئ
القيس :
ورحنا بكابن
الماء يجنب وسطنا
|
|
تصوّب فيه
العين طورا وترتقي
|
أراد مثل الطعن
، وبمثل ابن الماء ، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا : أي مثلهم مستنير كمثل ، فالكاف
على هذا حرف. والمثل : الشبه ، والمثلان : المتشابهان و (الَّذِي) موضوع موضع الذين : أي كمثل الذين ، أي كمثل الذين
استوقدوا ، وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر :
وإنّ الذي
حانت بفلج دماؤهم
|
|
هم القوم كلّ
القوم يا أمّ خالد
|
ومنه : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) ومنه : (وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) .
ووقود النار :
سطوعها وارتفاع لهبها ، و (اسْتَوْقَدَ) بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء
زائدتان ، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر :
وداع دعا يا
من يجيب إلى النّدى
|
|
فلم يستجبه
عند ذاك مجيب
|
أي يجبه.
والإضاءة فرط الإنارة ، وفعلها يكون لازما ومتعديا. و (ما حَوْلَهُ) قيل ما زائدة ، وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها
مفعول أضاءت ، وحوله منصوب على الظرفية ، و (ذَهَبَ) من الذهاب ، وهو زوال الشيء. و (وَتَرَكَهُمْ) أي أبقاهم (فِي ظُلُماتٍ) جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ
أشهب العقيلي بفتح اللام ، وهي عدم النور. و (صُمٌ) وما بعده خبر مبتدأ محذوف : أي هم. وقرأ ابن مسعود :
صما بكما عميا بالنصب على الذم ، ويجوز أن ينتصب بقوله تركهم. والصمم : الانسداد ،
يقال قناة صماء : إذا لم تكن مجوّفة ، وصممت القارورة : إذا سددتها ، وفلان أصمّ :
إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل
الأخرس والأبكم واحد. والعمى : ذهاب البصر. والمراد بقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي إلى الحق ، وجواب لما في قوله فلما أضاءت ، قيل هو :
(ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) وقيل : محذوف تقديره : طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني
فيكون قوله : (ذَهَبَ اللهُ
بِنُورِهِمْ) كلاما مستأنفا أو بدلا من المقدر.
ضرب الله هذا
المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النّفاق لا يثبت
لهم به أحكام الإسلام ، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت ، فإنه يعود إلى
الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة ، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر
كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل
لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم : «للباطل صولة ثم
يضمحل» وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات
المعاني ،
__________________
ورفع أستار محجبات الدقائق ، ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز ،
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه.
قال ابن جرير :
إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله
تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) . وقال ابن كثير : إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال
نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على
قلوبهم كما يفيده قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) . قال ابن جرير : وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال
: (رَأَيْتَهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ) أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى :
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً) .
وقد أخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا يعتزّون
بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم
الله العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه : (وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يقول : في عذاب : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج
ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قالوا : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة ثم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة
فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينما هو كذلك
إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك
فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشرّ ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا
يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشرّ. فهم (صُمٌّ بُكْمٌ) هم الخرس ، (فَهُمْ لا
يَرْجِعُونَ) إلى الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : ضربه الله مثلا للمنافق ، وقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما
الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن
عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم.
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي
آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ
وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))
عطف هذا المثل
على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين : أي مثلوهم بهذا أو هذا ،
وهي
__________________
وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك ،
وقيل إنها بمعنى الواو ، قاله الفراء وغيره ، وأنشد :
وقد زعمت
ليلى بأنّي فاجر
|
|
لنفسي تقاها
أو عليها فجورها
|
وقال آخر :
نال الخلافة
أو كانت له قدرا
|
|
كما أتى ربّه
موسى على قدر
|
والمراد بالصيب
: المطر ، واشتقاقه من صاب يصوب : إذا نزل. قال علقمة :
فلا تعدلي
بيني وبين مغمّر
|
|
سقتك روايا
المزن حيث تصوب
|
وأصله صيوب ،
اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعلوا في
ميت وسيد. والسماء في الأصل : كل ما علاك فأظلك. ومنه قيل لسقف البيت سماء.
والسماء أيضا : المطر سمي بها لنزوله منها ، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه
لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب ، وإطلاق السماء على
المطر واقع كثير في كلام العرب ، فمنه قول حسان :
ديار من بني
الحسحاس قفر
|
|
تعفّيها
الرّوامس والسّماء
|
وقال آخر :
إذا نزل السماء بأرض قوم
..... والظلمات قد تقدّم تفسيرها ، وإنما جمعها
إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. والرعد : اسم لصوت الملك الذي
يزجر السّحاب.
وقد أخرج
الترمذي من حديث ابن عباس قال : «سألت اليهود النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن الرعد ما هو؟ قال : ملك من الملائكة بيده مخاريق من
نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ، قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : زجره
بالسّحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالت : صدقت» الحديث بطوله ، وفي إسناده
مقال. قال القرطبي : وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. وقيل : هو اضطراب أجرام
السحاب عند نزول المطر منها ، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة وجهلة
المتكلمين ، وقيل غير ذلك ، والبرق ؛ مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب ،
وإليه ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق. وقال بعض المفسرين
تبعا للفلاسفة : إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة
المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك.
وقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلا قال : فكيف حالهم
عند ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم. وإطلاق الأصبع على بعضها مجاز
مشهور ، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع لا
كلها. والصواعق ويقال الصواقع : هي قطعة نار
تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها ، ويدلّ على
ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريبا ، وبه قال كثير من علماء الشريعة.
ومنهم من قال : إنها نار تخرج من فم الملك. وقال الخليل : هي الواقعة الشديدة من
صوت الرعد ، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد : الصاعقة
: نار تسقط من السماء في رعد شديد. وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة ومن قال
بقولهم : إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد
إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح. ونصب : (حَذَرَ الْمَوْتِ) على أنه مفعول لأجله. وقال الفرّاء : منصوب على
التمييز. والموت : ضدّ الحياة. والإحاطة : الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت
المحاط به بوجه من الوجوه. وقوله : (يَكادُ الْبَرْقُ
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) جملة مستأنفة كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟
ويكاد : يقارب. والخطف : الأخذ بسرعة ، ومنه سمي الطير خطّافا لسرعته. وقرأ مجاهد
: (يَخْطَفُ) بكسر الطاء والفتح أفصح.
وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) كلام مستأنف كأنه قيل : كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق
وسكونه ، وهو تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) بالزيادة في الرعد والبرق : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا من جملة مقدوراته سبحانه.
وقد أخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) هو المطر ضرب مثله في القرآن : (فِيهِ ظُلُماتٌ) يقول ابتلاء : (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) تخويف (يَكادُ الْبَرْقُ
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا ،
فإن أصاب الإسلام نكبة قالوا ارجعوا إلى الكفر [يقول (وَإِذا أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قامُوا)] كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية.
وأخرج ابن جرير
عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا
من رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه
رعد شديد وصواعق وبرق ، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما
من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه
وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا
فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن
إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة
، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبيّ صلىاللهعليهوسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا ، كما كان ذلك
المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه : أي
فإذا كثرت أموالهم وأولادهم وأصابوا غنيمة وفتحا مشوا فيه وقالوا : إن دين محمد صلىاللهعليهوسلم دين صدق واستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان
__________________
يمشيان إذا أضاء لهم البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا فكانوا إذا هلكت
أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد صلىاللهعليهوسلم ، وارتدوا كفارا كما قام المنافقان حين أظلم البرق
عليهما.
وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) قال : هو المطر وهو مثل للمنافق في ضوئه يتكلم بما معه
من كتاب الله مراءاة الناس ، فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على
ذلك. وأما الظلمات : فالضلالات. وأما البرق : فالإيمان ، وهم أهل الكتاب ، وإذا
أظلم عليهم : فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه. وأخرج ابن إسحاق وابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا نحو ما سلف. وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن
جماعة من التابعين.
واعلم أن
المنافقين أصناف ، فمنهم من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، ومنهم من قال فيه النبيّ صلىاللهعليهوسلم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما : «ثلاث من كنّ فيه كان
منافقا خالصا ، ومن كانت فيه واحدة منهنّ كان فيه خصلة من النّفاق حتى يدعها : من
إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وورد بلفظ أربع وزاد «وإذا خاصم
فجر». وورد بلفظ «وإذا عاهد غدر». وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين
المثلين لصنف واحد من المنافقين.
لما فرغ سبحانه
من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتا للنكتة السابقة
في الفاتحة ، ويا : حرف نداء ، والمنادى أيّ ، وهو اسم مفرد مبني على الضم ؛ وها
حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته. قال سيبويه : كأنك كرّرت : «يا» مرتين ، وصار
الاسم بينهما كما قالوا : ها هو ذا. وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس والعبادة.
وإنما خصّ نعمة الخلق وامتنّ بها عليهم ، لأن جميع النعم مترتبة عليها. وهي أصلها
الذي لا يوجد شيء منها بدونها. وأيضا فالكفار مقرّون بأن الله هو الخالق (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللهُ) فامتنّ عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه. وفي أصل معنى
الخلق وجهان : أحدهما التقدير. يقال خلقت الأديم للسقاء : إذا قدّرته قبل القطع.
قال زهير :
ولأنت تفري
ما خلقت وبع
|
|
ض القوم يخلق
ثمّ لا يفري
|
الثاني :
الإنشاء والاختراع والإبداع. ولعل : أصلها الترجّي والطمع والتوقع والإشفاق ، وذلك
مستحيل على الله سبحانه ، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كانت بمنزلة
قوله لهم : افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع ، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية
منهم سيبويه. وقيل : إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. والمعنى
هنا : لتتقوا ، وكذلك ما وقع هذا الموقع ، ومنه قول الشاعر :
__________________
وقلتم لنا
كفّوا الحروب لعلّنا
|
|
نكفّ ووثّقتم
لنا كلّ موثق
|
فلمّا كففنا
الحرب كانت عهودكم
|
|
كشبه سراب في
الملا متألّق
|
أي كفّوا عن
الحرب لنكفّ ، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق ، وبهذا قال جماعة منهم
قطرب. وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء ، كأنه قال : متعرّضين للتقوى. وجعل هنا
بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين ، ومنه قول الشاعر :
وقد جعلت أرى
الاثنين أربعة
|
|
والواحد
اثنين لمّا هدّني الكبر
|
و (فِراشاً) أي وطاء يستقرون عليها. لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه
بنعمة خلق الأرض فراشا لهم ، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من
أعظم ما تدعو إليه حاجتهم ، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم ،
والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال : (وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) . وأصل البناء : وضع لبنة على أخرى ، ثم امتنّ عليهم
بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه ، قلبت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفا
فصار ماه ، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. أخرجنا لكم
ألوانا من الثمرات وأنواعا من النبات ليكون ذلك متاعا لكم إلى حين. والأنداد جمع
ندّ ، وهو المثل والنظير. وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين. فإن قيل : كيف
وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال : (وَلكِنْ لا
يَعْلَمُونَ). (وَلكِنْ لا
يَشْعُرُونَ). (وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ). (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). فيقال : إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا
: أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد ، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا
ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية. وقد يقال : المراد وأنتم تعلمون وحدانيته
بالقوّة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك
التقليد. قال ابن فورك : المراد وتجعلون لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل
بأن الله واحد انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من
العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد.
وقد أخرج
البزّار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : ما كان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو أنزل بالمدينة ، وما كان : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو أنزل بمكة. وروي نحو ذلك عن ابن أبي شيبة وعبد بن
حميد والطبراني في الأوسط والحاكم وصحّحه ، وروى نحوه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد
بن حميد وابن المنذر من قول علقمة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه
وابن المنذر عن الضحّاك مثله. وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران. وأخرج نحوه
أيضا ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة وعكرمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قال : هي للفريقين جميعا من الكفار والمؤمنين. وأخرج
ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (لَعَلَّكُمْ) يعني كي. وأخرج ابن أبي
__________________
حاتم وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة قال : لعلّ ، من الله واجب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
فِراشاً) أي تمشون عليها وهي المهاد والقرار : (وَالسَّماءَ بِناءً) قال كهيئة القبة وهي سقف الأرض. وأخرج أبو الشيخ في
العظمة عن الحسن أنه سئل : المطر من السماء أم من السحاب؟ قال : من السماء. وأخرج
ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال : السحاب غربال المطر ، ولو لا السحاب حين
ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض والبذر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو
الشيخ عن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء
حتى يجتمع في سماء الدنيا ، فيجتمع في موضع يقال له الأبزم ، فتجيء السحاب السود
فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو
الشيخ عن عكرمة قال : ينزل الماء من السماء السابعة ، فتقع القطرة منه على السحاب
مثل البعير. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال : المطر منه من
السماء ، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق. وأخرج ابن أبي
الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال : إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف
فكان لؤلؤا. وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي الدنيا في كتاب المطر وأبو الشيخ في
العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسّماء تمطر
فيها يصرفه الله حيث يشاء». وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عبّاس قال :
ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر ، أما لو أنكم بسطتم نطعا لرأيتموه. وأخرج
ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : المطر مزاجه من الجنة ، فإذا كثر
المزاج عظمت البركة وإن قلّ المطر ، وإذا قلّ المزاج قلت البركة وإن كثر المطر.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه حيث
يشاء ، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة ، يكتبون حيث يقع ذلك المطر ، ومن
يرزقه ومن يخرج منه مع كل قطرة . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله : (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً) أي لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضرّ ولا تنفع
: (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره. وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن ابن عباس (أَنْداداً) قال : أشباها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود : (أَنْداداً) قال : أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله. وأخرج
عبد بن حميد عن قتادة (أَنْداداً) قال : شركاء. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في
الأدب المفرد والنسائي وابن ماجة وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : «قال رجل
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : ما شاء الله وشئت ، قال : جعلتني لله ندّا ما شاء
الله وحده». وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفي قالت : «جاء حبر من الأحبار إلى
النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمّد نعم القوم أنتم ، لو لا أنكم تشركون ،
قال : وكيف؟ قال : يقول أحدكم لا والكعبة ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : من حلف فليحلف بربّ الكعبة. فقال : يا محمّد نعم
القوم أنتم لو لا أنكم تجعلون لله ندّا ، قال : وكيف ذلك؟ قال : يقول أحدكم
__________________
ما شاء الله وشئت ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : فمن قال منكم ما شاء الله قال ثم شئت». وأخرج ابن أبي
شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، قولوا ما شاء
الله ثم شاء فلان». وأخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة :
أنه رأى فيما يرى النائم كأنّه مرّ برهط من اليهود فقال : أنتم نعم القوم لو لا
أنكم تزعمون أنّ عزيزا ابن الله ، فقالوا : وأنتم نعم القوم لو لا أنكم تقولون ما
شاء الله وشاء محمّد. ثم مرّ برهط من النصارى فقال : أنتم نعم القوم لو لا أنّكم
تقولون المسيح ابن الله ، قالوا : وأنتم نعم القوم لو لا أنّكم تقولون ما شاء الله
وشاء محمد. فلما أصبح أخبر النبيّ صلىاللهعليهوسلم فخطب فقال : «إن طفيلا رأى رؤيا ، وإنكم تقولون كلمة
كان يمنعني الحياء منكم فلا تقولوها ، ولكن قولوا ما شاء الله وحده لا شريك له».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على
صفا سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان وحياتي ، وتقول :
لو لا كلبه هذا لأتانا اللصوص ، ولو لا القط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل ،
ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل لو لا الله وفلان ، هذا كله شرك. وأخرج البخاري
ومسلم عن ابن مسعود قال : «قلت : يا رسول الله! أيّ الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل لله
ندّا وهو خلقك» الحديث.
(فِي رَيْبٍ) أي شك مما نزلنا على عبدنا ؛ أي القرآن أنزله على محمد صلىاللهعليهوسلم. والعبد : مأخوذ من التعبد وهو التذلل. والتنزيل :
التدريج والتنجيم. وقوله : (فَأْتُوا) الفاء جواب الشرط وهو أمر معناه التعجيز. لما احتجّ
عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الشرك عقبه بما هو الحجة على إثبات نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة ، فتحدّاهم بأن
يأتوا بسورة من سوره. والسورة : الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص ، سميت بذلك
لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها. و «من» في قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) زائدة لقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ) والضمير في مثله عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم.
وقيل عائد على التوراة والإنجيل ، لأن المعنى : فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها
تصدّق ما فيه. وقيل يعود على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والمعنى : من بشر مثل محمد : أي لا يكتب ولا يقرأ.
والشهداء : جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو المعاون ، والمراد هنا
الآلهة. ومعنى (دُونِ) : أدنى مكان من الشيء واتسع فيه حتى استعمل في تخطّي
الشيء إلى شيء آخر ، ومنه ما في هذه الآية ، وكذلك قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وله معان أخر ، منها التقصير عن الغاية والحقارة ، يقال
: هذا الشيء دون ، أي حقير ، ومنه :
إذا ما علا
المرء رام العلاء
|
|
ويقنع
بالدّون من كان دونا
|
__________________
والقرب ، يقال
: هذا دون ذاك ، أي أقرب منه ، ويكون إغراء ، تقول : دونك زيدا : أي خذه من أدنى
مكان (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلق بادعوا : أي ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله
إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، وهذا تعجيز لهم وبيان
لانقطاعهم. والصدق : خلاف الكذب ، وهو مطابقة الخبر للواقع أو للاعتقاد أو لهما ،
على الخلاف المعروف في علم المعاني. (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا) يعني فيما مضى (وَلَنْ تَفْعَلُوا) أي تطيقوا ذلك فيما يأتي وتبيّن لكم عجزكم عن المعارضة (فَاتَّقُوا النَّارَ) بالإيمان بالله وكتبه ورسله والقيام بفرائضه واجتناب
مناهيه ، وعبر عن الإتيان بالفعل لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار ،
وجملة لن تفعلوا : لا محل لها من الإعراب لأنها اعتراضية ، ولن للنفي المؤكد لما
دخلت عليه ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها ، لأنها لم تقع
المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوّة وفيما بعدها وإلى الآن. والوقود بالفتح
: الحطب ، وبالضم : التوقّد ، أي المصدر ، وقد جاء فيه الفتح. والمراد بالحجارة :
الأصنام التي كانوا يعبدونها لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا فجعلت وقودا للنار
معهم. ويدلّ على هذا قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي : حطب جهنم. وقيل المراد بها حجارة الكبريت ، وفي
هذا من التهويل ما لا يقدّر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس والحجارة ، فأوقدت
بنفس ما يراد إحراقه بها ، والمراد بقوله : (أُعِدَّتْ) جعلت عدّة لعذابهم وهيئت لذلك. وقد كرّر الله سبحانه
تحدّي الكفار بهذا في مواضع في القرآن ، منها هذا ، ومنها قوله تعالى في سورة
القصص : (قُلْ فَأْتُوا
بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) وقال في سورة سبحان : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وقال في سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وقال في سورة يونس : (وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ
يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) .
وقد وقع الخلاف
بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو كونه في الرتبة العلية من البلاغة
الخارجة عن طوق البشر ، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن
يعارضوه ، والحقّ الأول ، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه.
وقد أخرج أحمد
والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في الدلائل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من نبيّ من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه
البشر ، وإنّما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم
تابعا يوم القيامة» وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) قال : هذا قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد
صلىاللهعليهوسلم. وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي
حاتم عن قتادة في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ) قال : في شك (مِمَّا نَزَّلْنا
عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) قال : من مثل القرآن حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب.
وأخرج ابن
__________________
جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ) قال : مثل القرآن (وَادْعُوا
شُهَداءَكُمْ) قال : ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله. وأخرج
ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (شُهَداءَكُمْ) قال : أعوانكم على ما أنتم عليه (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا) فقد بين لكم الحق. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
قتادة (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) يقول : لن تقدروا على ذلك ولن تطيقوه. وأخرج عبد بن
حميد عن مجاهد أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن وقودها برفع الواو الأولى ، إلا التي
في السماء ذات البروج (النَّارِ ذاتِ
الْوَقُودِ) بنصب الواو. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن
ابن مسعود قال : إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير أيضا عن عمرو بن ميمون مثله أيضا. وأخرج
ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال : تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) وقال : أوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ، وألف عام حتّى
ابيضّت ، وألف عام حتّى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها». وأخرج ابن أبي
شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا مثله. وأخرج أحمد ومالك
والبخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من
نار جهنّم ، قالوا : يا رسول الله! إن كانت لكافية؟ قال فإنّها قد فضلت عليها
بتسعة وستين جزءا كلّهنّ مثل حرّها». وأخرج الترمذي وحسّنه ، عن أبي سعيد مرفوعا
نحوه. وأخرج ابن ماجة والحاكم وصحّحه عن أنس مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج مالك في
الموطأ ، والبيهقي في البعث ، عن أبي هريرة قال : أترونها حمراء مثل ناركم هذه
التي توقدون ، إنها لأشد سوادا من القار. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله : (أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ) قال : أي لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ
مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))
لما ذكر تعالى
جزاء الكافرين عقّب بجزاء المؤمنين ، ليجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد ،
كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز ، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين
لطاعاته ، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه. والتبشير : الإخبار بما يظهر أثره على
البشرة ، وهي الجلدة الظاهرة ، من البشر والسرور. قال القرطبي : أجمع العلماء على
أن المكلف إذا قال : من بشّرني من عبيدي فهو حرّ فبشّره واحد من عبيده فأكثر ، فإن
أوّلهم يكون حرّا دون الثاني ، واختلفوا إذا قال : من أخبرني من عبيدي بكذا فهو
حرّ ، فقال أصحاب الشافعي : يعمّ ؛ لأن كل واحد منهم مخبر ، وقال علماؤنا : لا ،
لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة ،
__________________
وذلك مختص بالأول. انتهى. والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعا ، وإن
أراد الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول ، فالخلاف لفظي. والمأمور بالتبشير قيل
هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقيل هو كل أحد كما في قوله صلىاللهعليهوسلم «بشر المشائين» وهذه الجمل وإن كانت مصدرة بالإنشاء فلا يقدح ذلك في عطفها
على ما قبلها ، لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة وصف عقاب العاصين
من دون نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبرا وإنشاء. وقيل :
إن قوله (وَبَشِّرِ) معطوف على قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) ، وليس هذا بجيد. و (الصَّالِحاتِ) الأعمال المستقيمة. والمراد هنا : الأعمال المطلوبة
منهم المفترضة عليهم ـ وفيه ردّ على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي ، فالجنّة
تنال بالإيمان والعمل الصالح. والجنات : البساتين ، وإنما سميت جنات لأنها تجنّ من
فيها : أي تستره بشجرها ، وهو اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة.
والأنهار : جمع نهر ، وهو المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر ، والمراد : الماء
الذي يجري فيها ، وأسند الجري إليها مجازا ، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله
تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهلها وكما قال الشاعر :
نبّئت أنّ
النّار بعدك أوقدت
|
|
واستبّ بعدك
يا كليب المجلس
|
والضمير في
قوله : (مِنْ تَحْتِهَا) عائد إلى الجنات لاشتمالها على الأشجار : أي من تحت
أشجارها. وقوله : (كُلَّما رُزِقُوا) وصف آخر للجنات ، أو هو جملة مستأنفة كأن سائلا قال :
كيف ثمارها؟ و (مِنْ ثَمَرَةٍ) في معنى : من أي ثمرة ، أي نوع من أنواع الثمرات.
والمراد بقوله : (هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أنه شبيهه ونظيره ، لا أنه هو ، لأن ذات الحاضر لا تكون
عين ذات الغائب لاختلافهما ، وذلك أن اللون يشبه اللون وإن كان الحجم والطعم
والرائحة والماوية متخالفة. والضمير في به عائد إلى الرزق ، وقيل : المراد أنهم
أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابها فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في
آخره ، فيقولون : هذا الذي رزقنا من قبل ، فإذا أكلوا وجدوا له طعما غير طعم
الأول. و (مُتَشابِهاً) منصوب على الحال. والمراد بتطهير الأزواج أنه لا
يصيبهنّ ما يصيب النساء من قذر الحيض والنفاس وسائر الأدناس التي لا يمتنع تعلقها
بنساء الدنيا. والخلود : البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، وقد يستعمل مجازا فيما
يطول ، والمراد هنا الأوّل. وقد أخرج ابن ماجة ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ،
والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي وابن مردويه ، عن أسامة بن زيد قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا هل مشمّر للجنّة فإن الجنّة لا خطر لها ، هي
وربّ الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتزّ ، وقصر مشيد ، ونهر مطرّد ، وثمرة نضيجة ،
وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد ، في دار سليمة ، وفاكهة خضراء»
الحديث. والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جدا ثابتة في الصحيحين وغيرهما. وأخرج ابن
أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنهار الجنّة تفجّر من تحت جبال مسك». وأخرج ابن أبي
شيبة وأبو حاتم وأبو الشيخ وابن حبان ، والبيهقي في البعث وصحّحه ، عن ابن مسعود
نحوه موقوفا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قال : يعني المساكن
تجري أسفلها أنهارها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله
: (كُلَّما رُزِقُوا
مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) قال : أتوا بالثمرة في الجنة فنظروا إليها (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ
قَبْلُ) في الدنيا (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) في اللون والمرأى ، وليس يشبه الطعم. وأخرج عبد بن حميد
عن عليّ بن زيد وقتادة نحوه. وأخرج مسدّد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن ابن عباس قال : ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء. وأخرج عبد بن
حميد عن عكرمة قال : قولهم : (من قبل) معناه : هذا مثل الذي كان بالأمس. وأخرج ابن
جرير عن يحيى بن أبي كثير نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد
قال (مُتَشابِهاً) في اللون مختلفا في الطعم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن الحسن في قوله : (مُتَشابِهاً) قال : خيار كلّه ، يشبه بعضه بعضا لا رذل فيه ، ألم
تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة
مثله. وأخرج الحاكم وصحّحه وابن مردويه ، عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم في قوله : (وَلَهُمْ فِيها
أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) قال : من الحيض والغائط والبزاق والنخامة. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : من القذر والأذى. وأخرج ابن
جرير عن ابن مسعود قال : لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخّمن. وقد روي نحو هذا عن جماعة
من التابعين. وقد ثبت عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم في صفات أهل الجنة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة
من الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوّطون. وثبت أيضا عن النبيّ
صلىاللهعليهوسلم في أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من صفات نساء أهل
الجنة ما لا يتسع المقام لبسطه ، فلينظر في دواوين الإسلام وغيرها. وأخرج ابن جرير
وابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَهُمْ فِيها
خالِدُونَ) أي خالدون أبدا ، يخبرهم أن الثواب بالخير والشرّ مقيم
على أهله أبدا لا انقطاع له. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) يعني لا يموتون. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما ، عن ابن
عمر ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار ، ثم
يقوم مؤذّن بينهم : يا أهل النّار لا موت ، ويا أهل الجنّة لا موت ، كلّ هو خالد
فيما هو فيه». وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة نحوه. وأخرج الطبراني والحاكم
وصحّحه من حديث معاذ نحوه. وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم من حديث ابن
مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو قيل لأهل النّار إنّكم ماكثون في النّار عدد كلّ
حصاة في الدنيا لفرحوا بها ، ولو قيل لأهل الجنّة إنّكم ماكثون عدد كلّ حصاة لحزنوا
، ولكن جعل لهم الأبد».
(إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))
أنزل الله هذه
الآية ردّا على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ
ناراً) وقوله (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) فقالوا : الله أجلّ وأعلى من أن يضرب الأمثال. وقال
الرازي : إنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزا أورد هاهنا شبهة أوردها
الكفار قدحا في ذلك وأجاب عنها ، وتقرير الشبهة : أنه جاء في القرآن ذكر النحل
والعنكبوت والنمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء ، فاشتمال القرآن
عليها يقدح في فصاحته فضلا عن كونه معجزا. وأجاب الله عنها بأن أصغر هذه الأشياء
لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكمة بالغة. انتهى. ولا يخفاك أن
تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا
دليل عليه ، وقد تقدّمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف ، والظاهر ما ذكرناه أوّلا ؛
لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها ، ولا يستلزم
استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحا في الفصاحة
والإعجاز. والحياء : تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم ، كذا
في الكشاف ، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب. وقال القرطبي : أصل الاستحياء الانقباض
عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله. انتهى ، وقد
اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل : ساغ ذلك لكونه واقعا في
الكلام المحكي عن الكفار ، وقيل : هو من باب المشاكلة كما تقدم ، وقيل هو جار على
سبيل التمثيل. قال في الكشاف : مثل تركه تخييب العبد وأنه لا يردّ يديه صفرا من
عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. انتهى. وقد قرأ ابن محيصن
وابن كثير في رواية عنه (يَسْتَحْيِي) بياء واحدة وهي لغة تميم وبكر بن وائل ، نقلت فيها حركة
الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت
إحداهما لالتقاء الساكنين. وضرب المثل : اعتماده وصنعه. و «ما» في قوله : (ما بَعُوضَةً) إبهامية ، أي موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعمّ
مما كان عليه وأكثر شيوعا في أفراده ، وهي في موضع نصب على البدل من قوله : (مَثَلاً) و (بَعُوضَةً) نعت لها لإبهامها ، قاله الفراء والزجاج وثعلب ، وقيل :
إنها زائدة ، وبعوضة بدل من مثل. ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر ، وقيل : إنها
منصوبة بنزع الخافض ، والتقدير : أن يضرب مثلا ما بين بعوضة ، فحذف لفظ بين. وقد
روي هذا عن الكسائي ، وقيل : إنّ يضرب بمعنى يجعل ، فتكون بعوضة المفعول الثاني.
وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج «بعوضة» بالرفع وهي لغة تميم.
قال أبو الفتح : وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة الذي ، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ
، ويحتمل أن تكون «ما» استفهامية كأنه قال تعالى : (ما بَعُوضَةً فَما
فَوْقَها) حتى لا يضرب المثل به ، بل يدان لمثل بما هو أقلّ من
ذلك بكثير ، والبعوضة فعولة من بعض : إذا قطع ، يقال : بعض وبضع بمعنى ، والبعوض :
البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها قاله الجوهري وغيره. وقوله : (فَما فَوْقَها) قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما : فما فوقها والله أعلم
ما دونها : أي أنها فوقها في الصغر كجناحها. قال الكسائي وهذا كقولك في الكلام أتراه
قصيرا فيقول القائل أو فوق ذلك أي أقصر مما ترى. ويمكن أن يراد فما زاد عليها في
الكبر. وقد قال بذلك جماعة. قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا) أما حرف فيه معنى الشرط ، وقدّره سيبويه بمهما يكن من
شيء فكذا. وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه
__________________
يعطيه فضل توكيد وجعل تقدير سيبويه دليلا على ذلك. والضمير في (أَنَّهُ) راجع إلى المثل. و (الْحَقُ) الثابت ، وهو المقابل للباطل ، والحق واحد الحقوق ،
والمراد هنا الأوّل. وقد اختلف النحاة في (ما ذا) فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى : أي شيء أراد الله ،
فتكون في موضع نصب بأراد. قال ابن كيسان : وهو الجيد. وقيل «ما» اسم تام في موضع
رفع بالابتداء ، و «ذا» بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ مع صلته ، وجوابه يكون على
الأوّل منصوبا وعلى الثاني مرفوعا. والإرادة : نقيض الكراهة ، وقد اتفق المسلمون
على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه ، و (مثلا) قال ثعلب : منصوب على
القطع ، والتقدير : أراد مثلا. وقال ابن كيسان : هو منصوب على التمييز الذي وقع
موقع الحال ، وهذا أقوى من الأوّل. وقوله : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) هو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدّرتين بأما ، فهو
خبر من الله سبحانه. وقيل : هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا : ما مراد الله
بهذا المثل الذي يفرّق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى؟ وليس هذا بصحيح ، فإن
الكافرين لا يقرّون بأن في القرآن شيئا من الهداية ، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء
من الضلالة. قال القرطبي : ولا خلاف أن قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) من كلام الله سبحانه. وقد أطال المتكلمون الخصام في
تفسير الضلال المذكور هنا وفي نسبته إلى الله سبحانه. وقد نقّح البحث الرازي في
تفسيره «مفاتيح الغيب» في هذا الموضع تنقيحا نفيسا ، وجوّده وطوّله وأوضح فروعه
وأصوله ، فليرجع إليه فإنه مفيد جدا. وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد هاهنا على عصاه
التي يتوكأ عليها في تفسيره ، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سببا ،
فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي. وحكى القرطبي عن أهل الحقّ من
المفسرين أن المراد بقوله : (يُضِلُ) يخذل. والفسق : الخروج عن الشيء ، يقال فسقت الرطبة :
إذا خرجت عن قشرها ، والفأرة من جحرها ، ذكر معنى هذا الفرّاء. وقد استشهد أبو بكر
بن الأنباري في كتاب «الزاهر» له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجّاج :
يهوين في نجد
وغورا غائرا
|
|
فواسقا عن
قصدها جوائرا
|
وقد زعم ابن
الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق ، وهذا مردود عليه ،
فقد حكى ذلك عن العرب وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة ، كابن فارس والجوهري
وابن الأنباري وغيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «خمس فواسق». الحديث. وقال في الكشاف : الفسق
الخروج عن القصد ، ثم ذكر عجز بيت رؤبة المذكور ، ثم قال : والفاسق في الشريعة :
الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة. انتهى. وقال القرطبي : والفسق في عرف
الاستعمال الشرعي : الخروج من طاعة الله عزوجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان. انتهى.
وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي ، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض. قال
الرازي في تفسيره : واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن
، وعند الخوارج أنه كافر ، وعند المعتزلة لا مؤمن ولا كافر ، واحتج المخالف
__________________
بقوله تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ) وقوله : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيانَ) وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام. انتهى. وقوله
: (الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ) في محل نصب وصفا للفاسقين. والنقض : إفساد ما أبرم من
بناء أو حبل أو عهد ، والنقاضة : ما نقض من حبل الشعر. والعهد : قيل هو الذي أخذه
الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره ، وقيل : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره
إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على
ألسن رسله ، ونقضهم ذلك : ترك العمل به ؛ وقيل : بل هو نصب الأدلة على وحدانيته
بالسموات والأرض وسائر مخلوقاته ، ونقضه : ترك النظر فيه ؛ وقيل : هو ما عهده إلى
الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس. والميثاق : العهد المؤكد باليمين ، مفعال من
الوثاقة وهي الشدّة في العقد والربط ، والجمع المواثيق والمياثيق ؛ وأنشد ابن
الأعرابي :
حمى لا يحلّ
الدهر إلا بإذننا
|
|
ولا نسأل
الأقوام عهد المياثق
|
واستعمال النقض
في إبطال العهد على سبيل الاستعارة. والقطع معروف ، والمصدر في الرحم القطيعة ،
وقطعت الحبل قطعا ، وقطعت النهر قطعا. «وما» في قوله : (ما أَمَرَ اللهُ بِهِ) في موضع نصب بيقطعون و (أَنْ يُوصَلَ) في محل نصب بأمر. ويحتمل أن يكون بدلا من ما ، أو من
الهاء في به. واختلفوا ما هو الشيء الذي أمر الله بوصله فقيل : الأرحام ؛ وقيل :
أمر أن يوصل القول بالعمل ؛ وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه فقطعوه
بتصديق بعضهم وتكذيب البعض الآخر ؛ وقيل : المراد به حفظ شرائعه وحدوده التي أمر
في كتبه المنزلة وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها فهي عامة ، وبه قال الجمهور ، وهو
الحق. والمراد بالفساد في الأرض الأفعال والأقوال المخالفة لما أمر الله به ،
كعبادة غيره والإضرار بعباده وتغيير ما أمر بحفظه ؛ وبالجملة فكل ما خالف الصلاح
شرعا أو عقلا فهو فساد. والخسران : النقصان ، والخاسر ، هو الذي نقص نفسه من
الفلاح والفوز ، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل كان عملهم فسادا
لما نقصوا أنفسهم من الفلاح والربح. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود
وناس من الصحابة قال : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ ناراً) وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّماءِ) قال المنافقون : الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه
الأمثال ؛ فأنزل الله (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) الآية. وأخرج الواحدي في تفسيره ، عن ابن عباس قال : إن
الله ذكر آلهة المشركين فقال : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبابُ شَيْئاً) وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ، فقالوا : أرأيت
حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أيّ شيء كان يصنع
بهذا؟ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي) وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن قتادة نحو قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : لما
نزلت : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ) قال المشركون : ما هذا من الأمثال فيضرب؟ فأنزل الله
هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) قال : يؤمن به المؤمن ، ويعلمون أنه الحق من
__________________
ربهم ويهديهم الله به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به. وأخرج ابن جرير عن ابن
مسعود وناس من الصحابة في قوله : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً) يعني المنافقين (وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيراً) يعني المؤمنين (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) قال : هم المنافقون. وفي قوله : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثاقِهِ) قال : هو ما عهد إليهم في القرآن فأقرّوا به ثم كفروا
فنقضوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) يقول : يعرفه الكافرون فيكفرون به. وأخرج ابن جرير عن
قتادة قال : فسقوا فأضلّهم الله بفسقهم. وأخرج البخاري وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص قال : الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان يسميهم
الفاسقين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال :
ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق ، فمن أعطى عهد الله وميثاقه
من ثمرة قلبه فليوف به الله. وقد ثبت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من
الصحابة النهي عن نقض العهد والوعيد الشديد عليه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
قتادة في قوله : (وَيَقْطَعُونَ ما
أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) قال : الرحم والقرابة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في
قوله : (وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) قال : يعملون فيها بالمعصية. وأخرج ابن المنذر عن مقاتل
في قوله : (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) يقول : هم أهل النار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام ، مثل : خاسر ، ومسرف ،
وظالم ، ومجرم ، وفاسق ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما
يعني به الذمّ.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨))
كيف مبنية على
الفتح لخفته وهي في موضع نصب بتكفرون ، ويسأل بها عن الحال ، وهذا الاستفهام هو
للإنكار عليهم والتعجيب من حالهم وهي متضمنة لهمزة الاستفهام ، والواو في (وَكُنْتُمْ) للحال وقد مقدّرة كما قال الزجاج والفراء ، وإنما صح
جعل هذا الماضي حالا لأن الحال ليس هو مجرد قوله : (كُنْتُمْ أَمْواتاً) بل هو وما بعده إلى قوله : (تُرْجَعُونَ) كما جزم به صاحب الكشاف كأنه قال : كيف تكفرون؟ وقصتكم
هذه : أي وأنتم عالمون بهذه القصة وبأوّلها وآخرها. والأموات جمع ميت ؛ واختلف
المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين ؛ فقيل : إن المراد (كُنْتُمْ أَمْواتاً) قبل أن تخلقوا ؛ أي معدومين ، لأنه يجوز إطلاق اسم
الموت على المعدوم لاجتماعهما في عدم الإحساس (فَأَحْياكُمْ) أي خلقكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة. وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة فمن
بعدهم. قال ابن عطية : وهذا القول هو المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه
، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم
__________________
كانوا معدومين ثم أحياء في الدنيا ثم أمواتا فيها لزمهم الإقرار بالحياة
الأخرى. قال غيره : والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة
الدنيا. وقيل : إن المراد كنتم أمواتا في ظهر آدم ثم أخرجكم من ظهره كالذرّ ، ثم
يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم. وقيل (كُنْتُمْ أَمْواتاً) أي نطفا في أصلاب الرجال (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) حياة الدنيا. (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بعد هذه الحياة (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبور (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) في القبر (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الحياة التي ليس بعدها موت. قال القرطبي : فعلى هذا
التأويل هي ثلاث موتات وثلاث إحياءات ، وكونهم موتى في ظهر آدم وإخراجهم من ظهره
والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال ، فعلى هذا يجيء أربع موتات وأربع
إحياءات. وقد قيل : إن الله أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم وأماتهم ، فيكون على هذا
خمس موتات وخمس إحياءات ، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم كما ورد في الحديث : «ولكن ناس أصابتهم النّار بذنوبهم
فأماتهم الله إماتة ، حتّى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ، إلى أن قال :
فينبتون نبات الحبّة في حميل السّيل» وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد. وقوله : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي إلى الله سبحانه فيجازيكم بأعمالكم. وقد قرأ يحيى بن
يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وسلام ابن يعقوب بفتح حرف المضارعة ، وقرأ الجماعة
بضمه. قال في الكشاف : عطف الأوّل بالفاء وما بعده بثم ، لأن الإحياء الأوّل قد
تعقّب الموت بغير تراخ ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء ؛ والإحياء الثاني كذلك
متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخيا ظاهرا ، وإن أريد به إحياء القبر فمنه
يكتسب العلم بتراخيه ، والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور. انتهى. ولا يخفاك
أنه إن أراد بقوله إن الإحياء الأوّل قد تعقّب الموت أنه وقع على ما هو متصف
بالموت ، فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة ، وإن أراد أنه وقع الإحياء
الأوّل عند أوّل اتصافه بالموت بخلاف الثاني فغير مسلّم ، فإنه وقع عند آخر أوقات
موته كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته ، فتأمل هذا.
وقد أخرج ابن
جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) الآية ، قال : لم تكونوا شيئا فخلقكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه أيضا. وأخرج ابن
جرير عن أبي صالح قال : يميتكم ثم يحييكم في القبر ثم يميتكم. وأخرج ابن جرير عن
أبي العالية في قوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) قال : حين لم يكونوا شيئا ، ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة
، ثم يرجعون إليه بعد الحياة. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال :
خلقهم من ظهر آدم فأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم
، ثم أحياهم يوم القيامة. والصحيح الأوّل.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))
قال ابن كيسان
: (خَلَقَ لَكُمْ) أي من أجلكم ، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء
المخلوقة الإباحة
حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها
مما ينتفع به من غير ضرر ، وفي التأكيد بقوله : (جَمِيعاً) أقوى دلالة على هذا. وقد استدل بهذه الآية على تحريم
أكل الطين ، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض. وقال الرازي في تفسيره
: إن لقائل أن يقول : إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعا
للوصفين ، ولا شك أن المعادن داخلة في تلك ، وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض
لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه. انتهى. وقد ذكر صاحب
الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال : فإن قلت : هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض
وما فيها وجه صحة؟ قلت : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر
السماء ويراد الجهات العلوية جاز ذلك ، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات
السفلية. انتهى. وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه ، وهو أيضا ضارّ فليس مما
ينتفع به أكلا ، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى ؛ وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة
الأكل ، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه ، وجميعا منصوب على
الحال. والاستواء في اللغة : الاعتدال والاستقامة ، قاله في الكشاف ، ويطلق على
الارتفاع والعلوّ على الشيء ، قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) وقال : (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ) وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية. وقد قيل : إن هذه
الآية من المشكلات. وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها وترك التعرض لتفسيرها
، وخالفهم آخرون. والضمير في قوله : (فَسَوَّاهُنَ) مبهم يفسره ما بعده كقولهم : زيد رجلا ؛ وقيل : إنه
راجع إلى السماء لأنها في معنى الجنس ، والمعنى : أنه عدل خلقهنّ فلا اعوجاج فيه. وقد
استدل بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى) على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء. وكذلك الآية
التي في حم السجدة. وقال في النازعات : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) فوصف خلقها ثم قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وكذلك قوله
تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وقد قيل : إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ودحوها
متأخر. وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم ، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه
، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو ، والآية المذكورة هنا دلت على أنه
خلق ما في الأرض قبل خلق السماء ، وهذا يقتضي بقاء الإشكال وعدم التخلص عنه بمثل
هذا الجمع. وقوله : (سَبْعَ سَماواتٍ) فيه التصريح بأن السماوات سبع ، وأما الأرض فلم يأت في
ذكر عددها إلا قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) فقيل : أي في العدد ، وقيل : أي في غلظهنّ وما بينهنّ.
وقال الداودي : إن الأرض سبع ، ولكن لم يفتق بعضها من بعض. والصحيح أنها سبع
كالسماوات. وقد ثبت في الصحيح قوله صلىاللهعليهوسلم : «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوّقه الله من سبع أرضين»
وهو ثابت من حديث عائشة وسعيد بن زيد. ومعنى قوله تعالى : (فَسَوَّاهُنَ) سوّى سطوحهن بالإملاس ؛ وقيل : جعلهنّ سواء. قال الرازي
في تفسيره : فإن قيل : فهل يدل التنصيص على سبع سماوات. أي : فقط؟ قلنا : الحق أن
تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد والله أعلم. انتهى. وفي هذا إشارة إلى
ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع. ونحن نقول : إنه لم يأتنا عن الله ولا عن
رسوله
__________________
إلا السبع فنقتصر على ذلك ، ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع
ولم يأت شيء من ذلك ، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم ، لأنه يجب أن
يكون عالما بجميع ما ثبت أنه خالقه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في
قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) قال : سخّر لكم ما في الأرض جميعا كرامة من الله ونعمة
لابن آدم وبلغة ومنفعة إلى أجل. وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة ، عن مجاهد في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) قال : سخر لكم ما في الأرض جميعا (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها
دخان فذلك قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) يقول : خلق سبع سماوات بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين
بعضهنّ فوق بعض وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء
والصفات عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ) الآية ، قالوا : إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق
شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء
فسما عليه ، فسمّاه سماء ثم انبسّ الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها سبع أرضين في
يومين : الأحد والإثنين ، فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله : (ن وَالْقَلَمِ) والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على
ظهر ملك ، والملك على صخرة والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في
السماء ولا في الأرض ، فتحرّك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال
فقرّت ، فذلك قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها ، وسخرها وما ينبغي لها
في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء وذلك قوله : (أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) إلى قوله : (وَبارَكَ فِيها) يقول : أنبت شجرها (وَقَدَّرَ فِيها
أَقْواتَها) يقول : أقوات أهلها (فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) يقول : من سأل فهكذا الأمر ، (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ
دُخانٌ) وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء
واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين في الخميس والجمعة ؛ وإنما سمى يوم
الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض (وَأَوْحى فِي كُلِّ
سَماءٍ أَمْرَها) قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي
فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها
زينة وحفظا من الشياطين ، فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش. وأخرج البيهقي
في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) يعني صعد أمره إلى السماء فسواهنّ : يعني خلق سبع
سماوات ، قال : أجرى النار على الماء فبخر البحر فصعد في الهواء فجعل السماوات
منه. وقد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال : «أخذ النبيّ صلىاللهعليهوسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها
الجبال يوم الأحد ، وخلق الشّجر يوم الإثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق
النّور يوم الأربعاء ، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة بعد
العصر». وقد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم من طرق عند أهل السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة
أحاديث في وصف السماوات ، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة
__________________
عام ، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام ، وأنها سبع سماوات ، وأن
الأرض سبع أرضين ، وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من الصحابة. وقد ذكر
السيوطي في الدرّ المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية ، وإنما تركنا ذكره هاهنا
لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص ، بل هو متعلق بما هو أعمّ منها.
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))
(إِذْ) من الظروف الموضوعة للتوقيت وهي للماضي ، وإذا للمستقبل
، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى. وقال المبرّد : هي مع المستقبل للمضيّ وإذا مع
الماضي للاستقبال. وقال أبو عبيدة : إنها هنا زائدة. وحكاه الزجاج وابن النحاس
وقالا : هي ظرف زمان ليست مما يزاد ، وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر أو بقالوا ؛
وقيل هو متعلق بخلق لكم ، وليس بظاهر ، والملائكة جمع ملك بوزن فعل ، قاله ابن
كيسان ، وقيل : جمع ملأك ، بوزن مفعل قاله أبو عبيدة ، من لأك : إذا أرسل ،
والألوكة : الرسالة. قال لبيد :
وغلام أرسلته
أمّه
|
|
بألوك فبذلنا
ما سأل
|
وقال عديّ بن
زيد :
أبلغ
النّعمان عنّي مالكا
|
|
أنه قد طال حبسي
وانتظاري
|
ويقال ألكني :
أي أرسلني. وقال النضر بن شميل : لا اشتقاق لملك عند العرب ، والهاء في الملائكة
تأكيد لتأنيث الجمع ، ومثله الصلادمة ، والصلادم : الخيل الشداد واحدها صلدم. وقيل
: هي للمبالغة كعلامة ونسابة و (جاعِلٌ) هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين. وذكر المطرزي أنه
بمعنى خالق ، وذلك يقتضي أنه متعدّ إلى مفعول واحد ، و (الْأَرْضِ) هنا : هي هذه الغبراء ، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان. وقيل
إنها مكة. والخليفة هنا معناه الخالف لمن كان قبله من الملائكة ، ويجوز أن يكون
بمعنى المخلوف : أي يخلفه غيره ؛ قيل هو آدم ؛ وقيل كل من له خلافة في الأرض ،
ويقوي الأوّل قوله خليفة دون خلائف ، واستغنى بآدم عن ذكر من بعده ، قيل : خاطب
الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ، ولكن لاستخراج ما عندهم ؛ وقيل : خاطبهم
بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب ؛ وقيل : لأجل تعليم عباده
مشروعية المشاورة لهم. وأما قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض ؛
لكونهم مظنة للإفساد في الأرض ؛ وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة
ببني آدم ، بل قبل وجود آدم فضلا عن ذريته ، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من
الوجوه لأنهم لا يعلمون الغيب ؛ قال بهذا جماعة من المفسرين. وقال بعض المفسرين :
إن في الكلام حذفا ، والتقدير : إني جاعل في الأرض
__________________
خليفة يفعل كذا وكذا ، فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وقوله : (يُفْسِدُ) قائم مقام المفعول الثاني. والفساد : ضد الصّلاح ، وسفك
الدم : صبّه ، قاله ابن فارس والجوهري. ولا يستعمل السفك إلا في الدم ، وواحد
الدماء دم ، وأصله دمي حذف لامه ، وجملة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ) حالية. والتسبيح في كلام العرب : التنزيه والتبعيد من
السوء على وجه التعظيم. قال الأعشى :
أقول لمّا
جاءني فخره
|
|
سبحان من
علقمة الفاخر
|
و (بِحَمْدِكَ) في موضع الحال : أي حامدين لك ، وقد تقدم معنى الحمد.
والتقديس : التطهير ؛ أي ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون وافتراه
الجاحدون. وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تبعيد الله من السوء
، وأنهما من سبح في الأرض والماء ، وقدّس في الأرض : إذا ذهب فيها وأبعد. وفي
القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه ، والتأسيس خير من التأكيد
خصوصا في كلام الله سبحانه. ولما كان سؤالهم واقعا على صفة تستلزم إثبات شيء من
العلم لأنفسهم. أجاب الله سبحانه عليهم بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل ، لأن من علم ما لا
يعلم المخاطب له كان حقيقا بأن يسلم له ما يصدر عنه ، وعلى من لا يعلم أن يعترف
لمن يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة
البالغة. ولم يذكر متعلق قوله (تَعْلَمُونَ) ليفيد التعميم ، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف
بالعجز ويقر بالقصور. وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس
قال : إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه ثم قرأ : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وأخرج الحاكم وصحّحه عنه أيضا نحوه وزاد : وقد كان فيها
قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان ، فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء ، فلما
أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنودا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر
البحور ، فلما قال الله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ
الدِّماءَ) كما فعل أولئك الجانّ فقال الله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو مثله. وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس أطول منه. وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة
قال : لما فرغ الله من خلق ما أحبّ استوى على العرش ، فجعل إبليس على ملك سماء
الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ ، وإنما سمّوا الجنّ لأنهم
خزّان الجنة ، وكان إبليس مع ملكه خازنا ، فوقع في صدره كبر وقال : ما أعطاني الله
هذا إلا لمزية لي ، فاطلع الله على ذلك منه فقال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالوا : ربنا! وما يكون ذلك الخليفة؟ قال : يكون له
ذرية يفسدون في الأرض ، ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضا ، قالوا : ربنا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)؟ (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ
ما لا تَعْلَمُونَ) وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال : قد علمت الملائكة وعلم الله
أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض. وأخرج ابن المنذر عن
ابن عباس قال : إيّاكم والرأي ، فإن الله ردّ الرأي على الملائكة ، وذلك أن الله
قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قالت الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ
فِيها) قال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سابط
أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «دحيت الأرض من مكّة وكانت الملائكة تطوف بالبيت»
فهي أول من طاف به وهي الأرض التي قال الله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قال ابن كثير : وهذا مرسل في سنده ضعف ، وفيه مدرج ،
وهو أن المراد بالأرض مكة ، والظاهر أن المراد بالأرض أعمّ من ذلك. انتهى. وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : التسبيح والتقديس في الآية هو
الصلاة ، وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ أوّل من لبّى الملائكة ، قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) قال : فرادّوه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ستّ سنين
يقولون : لبّيك لبّيك اعتذارا إليك ، لبّيك لبّيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك». وثبت
في الصحيح من حديث أبي ذرّ أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أحبّ الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكته :
سبحان ربّي وبحمده». وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال : نصلّي لك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :
التقديس : التطهير. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) قال : نعظمك ونكبرك. وأخرجا عن أبي صالح قال : نعظمك
ونمجدك. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله
(أَعْلَمُ ما لا
تَعْلَمُونَ) قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها. وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن قتادة في تفسيرها قال : كان في علم الله أنه سيكون من الخليفة
أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. وأخرج أحمد وعبد ابن حميد ، وابن حبان في
صحيحه ، والبيهقي في الشعب ، عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنّ آدم لمّا أهبطه الله إلى الأرض قالت
الملائكة : أي ربّ! (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) الآية ، قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم. قال الله
لملائكته : هلمّوا ملكين من الملائكة حتّى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان؟
فقالوا : ربنا! هاروت وماروت ، قال فأهبطا إلى الأرض ، فتمثلت لهما الزهرة امرأة
من أحسن البشر ...» وذكر القصة. وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق
جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطوّل بذكرها.
(وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ
لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا
آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما
تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))
(آدَمَ) أصله أأدم بهمزتين إلّا أنهم لينوا الثانية وإذا حركت
قلبت واو ، كما قالوا في الجمع أوادم ، قاله الأخفش. واختلف في اشتقاقه ؛ فقيل :
من أديم الأرض وهو وجهها ـ وقيل من الأدمة وهي السمرة. قال في الكشاف : وما آدم
إلا اسم عجميّ ، وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر وعازر وعابر وشالخ وفالغ ،
وأشباه ذلك. و (الْأَسْماءَ) هي العبارات والمراد : أسماء المسميّات ، قال بذلك أكثر
العلماء ، وهو المعنى
الحقيقي للاسم. والتأكيد بقوله (كُلَّها) يفيد أنه علّمه جميع الأسماء ولم يخرج عن هذا شيء منها
كائنا ما كان. وقال ابن جرير : إنها أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم ، ثم رجع عن
هذا وهو غير راجح. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أسماء الملائكة. واختلف أهل
العلم هل عرض على الملائكة المسميات أو الأسماء ، والظاهر الأوّل لأن عرض نفس
الأسماء غير واضح. وعرض الشيء : إظهاره ، ومنه عرض الشيء للبيع. وإنما ذكر ضمير
المعروضين تغليبا للعقلاء على غيرهم. وقرأ ابن مسعود عرضهنّ وقرأ أبيّ عرضها وإنما
رجع ضمير عرضهم إلى مسميات مع عدم تقدم ذكرها ، لأنه قد تقدّم ما يدل عليها وهو
أسماؤها. قال ابن عطية : والذي يظهر أن الله علم آدم الأسماء وعرض عليه مع ذلك
الأجناس أشخاصا ، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن أسماء مسمياتها التي قد
تعلمها آدم ، فقال لهم آدم : هذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا. قال الماوردي : فكان
الأصح توجه العرض إلى المسمّين. ثم في زمن عرضهم قولان : أحدهما أنه عرضهم بعد أن
خلقهم. الثاني أنه صوّرهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم. وأما أمره سبحانه للملائكة
بقوله : (أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فهذا منه تعالى لقصد التبكيت لهم مع علمه بأنهم يعجزون
عن ذلك. والمراد (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني ، كذا قال المبرد
، وقال أبو عبيد وابن جرير : إن بعض المفسرين قال : معنى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إذ كنتم ، قالا : وهذا خطأ. ومعنى (أَنْبِئُونِي) أخبروني. فلما قال لهم ذلك اعترفوا بالعجز والقصور ف (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا
إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) وسبحان : منصوب على المصدرية عند الخليل وسيبويه وقال
الكسائي : هو منصوب على أنه منادى مضاف وهذا ضعيف جدا. والعليم : للمبالغة
والدلالة على كثرة المعلومات. والحكيم : صيغة مبالغة في إثبات الحكمة له. ثم أمر
الله سبحانه آدم أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة فعجزوا واعترفوا
بالقصور ، ولهذا قال سبحانه (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) الآية. قال فيما تقدم : (أَعْلَمُ ما لا
تَعْلَمُونَ) ثم قال هنا : (أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تدرّجا من المجمل إلى ما هو مبيّن بعض بيان ، ومبسوط
بعض بسط. وفي اختصاصه بعلم غيب السموات والأرض ردّ لما يتكلفه كثير من العباد من
الاطلاع على شيء من علم الغيب ، كالمنجمين والكهّان وأهل الرمل والسحر والشعوذة.
والمراد بما يبدون وما يكتمون : ما يظهرون ويسرّون كما يفيده معنى ذلك عند العرب ؛
ومن فسّره بشيء خاص فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل. وقد أخرج الفريابي وابن سعد وابن
جرير وابن أبي حاتم والحاكم ، وصحّحه عن ابن عباس قال : إنما سمي آدم لأنه خلق من
أديم الأرض. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها) قال : علّمه اسم الصحفة والقدر وكل شيء. وأخرج ابن جرير
عنه نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه في تفسير الآية قال : عرض عليه
أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب ، فقيل هذا الجمل ، هذا الحمار ، هذا الفرس.
وأخرج الحاكم في تاريخه ، وابن عساكر والديلمي ، عن عطية بن بشر مرفوعا في قوله (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) قال : علّم الله آدم في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف
وقال له : قل لأولادك ولذريتك إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوها بهذه الحرف ولا
تطلبوها بالدين ،
فإن الدين لي وحدي خالصا ، ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له. وأخرج
الديلمي عن أبي رافع قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مثّلت لي أمتي في الماء والطين ، وعلّمت الأسماء
كلّها كما علّم آدم الأسماء كلّها». وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في تفسير الآية قال
: أسماء ذريته أجمعين (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) قال : أخذهم من ظهره. وأخرج عن الربيع بن أنس قال :
أسماء الملائكة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هي هذه الأسماء التي
يتعارف بها الناس (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علّمها آدم من أصناف
الخلق. (فَقالَ :
أَنْبِئُونِي) يقول : أخبروني (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة (قالُوا : سُبْحانَكَ) تنزيها لله من أن يكون يعلم الغيب أحد غيره ، تبنا إليك
(لا عِلْمَ لَنا) تبرؤوا من علم الغيب (إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) كما علّمت آدم. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : عرض
أصحاب الأسماء على الملائكة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال : العليم : الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد
كمل في حكمه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) قال : قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها
مَنْ يُفْسِدُ فِيها) و (ما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ) يعني : ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر. وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس قال (ما تُبْدُونَ) ما تظهرون (وَما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ) يقول : أعلم السّرّ كما أعلم العلانية.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ
وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))
(إِذْ) متعلق بمحذوف تقديره : واذكر إذ قلنا. وقال أبو عبيدة :
إذ زائدة وهو ضعيف. وقد تقدّم الكلام في الملائكة وآدم. السجود معناه في كلام
العرب : التذلّل والخضوع. وغايته وضع الوجه على الأرض. قال ابن فارس : سجد إذا
تطامن ، وكل ما سجد فقد ذلّ ، والإسجاد : إدامة النظر. وقال أبو عمر : وسجد إذا
طأطأ رأسه ، وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليهالسلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته. وقيل : إن السجود كان
لله ولم يكن لآدم ، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود ، ولا ملجئ لهذا فإن
السجود للبشر قد يكون جائزا في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح. وقد دلّت هذه
الآية على أن السجود لآدم وكذلك الآية الأخرى أعني قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) وقال تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم أن يكون كذلك في سائر الشرائع. ومعنى السجود هنا : هو
وضع الجبهة على الأرض ، وإليه ذهب الجمهور. وقال قوم : هو مجرد التذلل والانقياد.
وقد وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده؟ وقد
أطال البحث في ذلك البقاعيّ في تفسيره. وظاهر السياق أنه وقع التعليم وتعقبه الأمر
بالسجود ، وتعقبه إسكانه الجنة ثم إخراجه منها وإسكانه الأرض. وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ) استثناء متصل لأنه كان من الملائكة على ما قاله
الجمهور. وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين : (كانَ مِنَ الْجِنِ) الذين كانوا في الأرض.
__________________
فيكون الاستثناء على هذا منقطعا. واستدلوا على هذا بقوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) وبقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ
كانَ مِنَ الْجِنِ) والجن غير الملائكة ، وأجاب الأوّلون بأنه لا يمتنع أن
يخرج إبليس عن جملة الملائكة ، لما سبق في علم الله من شقائه عدلا منه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه
ما يدفع أنه من الملائكة ، وأيضا على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلا
تغليبا للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم.
ومعنى (أَبى) امتنع من فعل ما أمر به. والاستكبار : الاستعظام للنفس
، وقد ثبت في الصحيح عنه صلىاللهعليهوسلم «أنّ الكبر بطر الحقّ وغمط الناس» وفي رواية «غمص» بالصاد المهملة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي من جنسهم. قيل إنّ «كان» هنا بمعنى صار. وقال ابن
فورك : إنه خطأ ترده الأصول. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت السجدة
لآدم والطاعة لله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : سجدوا كرامة من الله أكرم
بها آدم. وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني قال : إن الله جعل آدم كالكعبة. وأخرج
ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس قال : كان إبليس اسمه
عزازيل ، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ، ثم أبلس بعد. وروى ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : إنما سمي إبليس لأنّ الله أبلسه من
الخير كله. أي آيسه منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن الأنباري عنه قال : كان
إبليس قبل أن يرتكب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان
من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمون
جنا. وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، عنه قال : كان إبليس من خزّان الجنة
، وكان يدبر أمر سماء الدنيا. وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله أمر آدم بالسّجود فسجد ، فقال : لك الجنّة
ولمن سجد من ولدك ؛ وأمر إبليس بالسّجود فأبى أن يسجد ، فقال : لك النّار ولمن أبى
من ولدك أن يسجد». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قال : جعله الله كافرا لا يستطيع أن يؤمن. وأخرج ابن
أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظيّ قال : ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر والضلالة ،
وعمل بعمل الملائكة فصيّره إلى ما ابتدئ إليه خلقه من الكفر ، قال الله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).
(وَقُلْنا يا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا
تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى
حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))
(اسْكُنْ) أي اتخذ الجنة مسكنا وهو محل السكون ، وأما ما قاله بعض
المفسرين من أن في قوله :
__________________
(اسْكُنْ) تنبيها على الخروج لأن السكنى لا تكون ملكا وأخذ ذلك من
قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلا منزلا له فإنه لا يملكه بذلك ، وإن له أن
يخرجه منه ، فهو معنى عرفي ، والواجب الأخذ بالمعنى العرفي إذا لم تثبت في اللفظ
حقيقة شرعية. (أَنْتَ) تأكيد للضمير المستكن في الفعل ليصح العطف عليه كما
تقرّر في علم النحو أنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المستكنّ إلا بعد تأكيده
بمنفصل. وقد يجيء العطف نادر بغير تأكيد كقول الشاعر :
قلت إذا
أقبلت وزهر تهادى
|
|
كنعاج الملا
تعسّفن رملا
|
وقوله : (وَزَوْجُكَ) أي حوّاء وهذه هي اللغة الفصيحة زوج بغير هاء ، وقد جاء
بهاء قليلا ، كما في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان مع إحدى نسائه ، فمرّ به رجل فدعاه وقال : «يا فلان
هذه زوجتي فلانة» الحديث ، ومنه قول الشاعر :
وإنّ الذي
يسعى ليفسد زوجتي
|
|
كساع إلى أسد
الشّرى يستميلها
|
و (رَغَداً) بفتح المعجمة ، وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها ، والرغد
: العيش الهنيء الذي لا عناء فيه ، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف. و (حَيْثُ) مبنية على الضم ، وفيها لغات كثيرة مذكورة في كتب
العربية. والقرب : الدنوّ. قال في الصحاح : قرب الشيء بالضم يقرب قربا : أي دنا ،
وقربته بالكسر أقربه قربانا : أي دنوت منه ، وقربت أقرب قرابة مثل أكتب كتابة :
إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة ، والاسم القرب ، قال الأصمعي : قلت لأعرابي
ما القرب؟ قال : سير الليل لورود الغد. والنهي عن القرب فيه سدّ للذريعة وقطع
للوسيلة ، ولهذا جاء به عوضا عن الأكل ، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم
النهي عن الأكل ، لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل إليه ،
فالأولى أن يقال : المنع من الأكل مستفاد من المقام. والشجر : ما كان له ساق من
نبات الأرض وواحده شجرة ، وقرئ بكسر الشين والياء المثناة من تحت مكان الجيم. وقرأ
ابن محيصن «هذي» بالياء بدل الهاء وهو الأصل. واختلف أهل العلم في تفسير هذه
الشجرة ، فقيل : هي الكرم ، وقيل : السنبلة ؛ وقيل : التين ، وقيل : الحنطة ،
وسيأتي ما روي عن الصحابة فمن بعدهم في تعيينها. وقوله : (فَتَكُونا) معطوف على (تَقْرَبا) في الكشاف ، أو نصب في جواب النهي وهو الأظهر. والظلم
أصله : وضع الشيء في غير موضعه ، والأرض المظلومة : التي لم تحفر قط ثم حفرت ،
ورجل ظليم : شديد الظلم. والمراد هنا (فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بالمعصية ، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء
واختلاف مذاهبهم في ذلك مدوّن في مواطنه ، وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره
في هذا الموضع فليرجع إليه فإنه مفيد. (فَأَزَلَّهُمَا) من الزلة وهي الخطيئة أي استزلهما وأوقعهما فيها ، وقرأ
حمزة : فأزالهما بإثبات الألف ، من الإزالة وهي التنحية : أي نحاهما ، وقرأ الباقون
بحذف الألف. قال ابن كيسان : هو من الزوال : أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة
إلى المعصية. قال القرطبي : وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى ، إلا أن قراءة الجماعة
أمكن في المعنى ؛ يقال منه : أزللته فزلّ و (عَنْها) متعلق بقوله أزلّهما على تضمينه معنى أصدر : أي أصدر
الشيطان زلتهما
عنها ، أي بسببها ، يعني الشجرة. وقيل الضمير للجنة ، وعلى هذا فالفعل مضمن
معنى أبعدهما : أي أبعدهما عن الجنة. وقوله : (فَأَخْرَجَهُما) تأكيد لمضمون الجملة الأولى : أي أزلهما إن كان معناه
زال عن المكان ، وإن لم يكن معناه كذلك فهو تأسيس ، لأن الإخراج فيه زيادة على
مجرد الصرف والإبعاد ونحوهما ، لأن الصرف عن الشجرة والإبعاد عنها قد يكون مع
البقاء في الجنة بخلاف الإخراج لهما عما كانا فيه من النعيم والكرامة أو من الجنة
، وإنما نسب ذلك إلى الشيطان لأنه الذي تولّى إغواء آدم حتى أكل من الشجرة. وقد
اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما ، فقيل : إنه كان ذلك
بمشافهة منه لهما ، وإليه ذهب الجمهور واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ
النَّاصِحِينَ) والمقاسمة ظاهرها المشافهة. وقيل لم يصدر منه إلا مجرد
الوسوسة ؛ وقيل غير ذلك مما سيأتي في المروي عن السلف ، وقوله : (اهْبِطُوا) خطاب لآدم وحواء ، وخوطبا بما يخاطب به الجمع لأن
الاثنين أقلّ الجمع عند البعض من أئمة العربية ؛ وقيل إنه خطاب لهما ولذريتهما ،
لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الإنساني جعلا بمنزلته ، ويدل على ذلك قوله (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فإن هذه الجملة الواقعة حالا مبينا للهيئة الثابتة
للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك. والعدوّ خلاف الصديق ، وهو من عدا إذا ظلم ؛ ويقال
ذئب عدوان : أي يعدو على الناس ، والعدوان : الظلم الصراح وقيل إنه مأخوذ من المجاوزة
، يقال عداه : والمعنيان متقاربان ، فإن من ظلم فقد تجاوز. وإنما أخبر عن قوله (بَعْضُكُمْ) بقوله : (عَدُوٌّ) مع كونه مفردا ، لأن لفظ بعض وإن كان معناه محتملا
للتعدد فهو مفرد ، فروعي جانب اللفظ وأخبر عنه بالمفرد ، وقد يراعى المعنى فيخبر
عنه بالمتعدد. وقد يجاب بأن (عَدُوٌّ) وإن كان مفردا فقد يقع موقع المتعدد كقوله تعالى : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) وقوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) قال ابن فارس : العدوّ اسم جامع للواحد والاثنين
والثلاثة. والمراد بالمستقرّ : موضع الاستقرار ، ومنه (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا) وقد يكون بمعنى الاستقرار ، ومنه : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) فالآية محتملة للمعنيين ، ومثلها قوله : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) والمتاع : ما يستمتع به من المأكول والمشروب والملبوس
ونحوها. واختلف المفسرون في قوله : (إِلى حِينٍ) فقيل : إلى الموت ؛ وقيل : إلى قيام الساعة. وأصل معنى
الحين في اللغة : الوقت البعيد ، ومنه : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) والحين الساعة ، ومنه : (أَوْ تَقُولَ حِينَ
تَرَى الْعَذابَ) والقطعة من الدهر ، ومنه : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى
حِينٍ) أي حتى تفنى آجالهم ، ويطلق على السنة ؛ وقيل على ستة
أشهر ، ومنه : (تُؤْتِي أُكُلَها
كُلَّ حِينٍ) ويطلق على المساء والصباح ، ومنه : (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) وقال الفراء : الحين حينان : حين لا يوقف على حده ، ثم
ذكر الحين الآخر واختلافه بحسب اختلاف المقامات كما ذكرنا. وقال ابن العربي :
الحين المجهول لا يتعلق به حكم ، والحين المعلوم سنة. ومعنى تلقي آدم للكلمات : أخذه
لها وقبوله لما فيها وعمله بها ؛ وقبل فهمه لها وفطانته لما تضمنته. وأصل معنى
التلقي الاستقبال : أي استقبل الكلمات الموحاة إليه ومن قرأ بنصب (آدَمُ) جعل معناه استقبلته الكلمات. وقيل إن معنى تلقّى :
__________________
تلقّن ، ولا وجه له في العربية. واختلف السلف في تعيين هذه الكلمات وسيأتي.
والتوبة : الرجوع ، يقال تاب العبد : إذا رجع إلى طاعة مولاه ، وعبد توّاب : كثير
الرجوع ، فمعنى تاب عليه : رجع عليه بالرحمة ، فقبل توبته ، أو وفقه للتوبة.
واقتصر على ذكر التوبة على آدم دون حواء مع اشتراكهما في الذنب ، لأن الكلام من
أوّل القصة معه استمر على ذلك ، واستغنى بالتوبة عليه عن ذكر التوبة عليها لكونها
تابعة له ، كما استغنى بنسبة الذنب إليه عن نسبته إليها في قوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) . وأما قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا) بعد قوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا) فكرره للتوكيد والتغليظ. وقيل : إنه لما تعلّق به حكم
غير الحكم الأوّل كرّره ولا تزاحم بين المقتضيات. فقد يكون التكرير للأمرين معا.
وجواب الشرط في قوله (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) هو الشرط الثاني مع جوابه قاله سيبويه. وقال الكسائي :
إن جواب الشرط الأوّل والثاني قوله : (فَلا خَوْفٌ) واختلفوا في معنى الهدى المذكور فقيل : هو كتاب الله ؛
وقيل التوفيق للهداية. والخوف : هو الذعر ، ولا يكون إلا في المستقبل. وقرأ الزهري
والحسن وعيسى بن عمار وابن أبي إسحاق ويعقوب : (فَلا خَوْفٌ) بفتح الفاء ، والحزن : ضد السرور. قال اليزيدي : حزنه :
لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم. وقد قرئ بهما. وصحبة أهل النار لها بمعنى الاقتران
والملازمة. وقد تقدّم ذكر تفسير الخلود.
وقد أخرج أبو
الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله! أرأيت آدم نبيا كان؟ قال :
«نعم ، كان نبيا رسولا ، كلّمه الله قال له : (يا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ). وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني عن أبي ذر قال : قلت :
يا رسول الله! من أوّل الأنبياء؟ قال : «آدم. قلت : نبيّ؟ قال : نعم ، قلت : ثم من؟
قال : نوح ، وبينهما عشرة آباء». وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه ، والبيهقي في
الشعب ، نحوه من حديث أبي ذر مرفوعا وزاد «كم كان المرسلون؟ قال : ثلاثمائة وخمسة
عشر جمّا غفيرا». وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصحّحه والبيهقي
، عن أبي أمامة الباهلي ، أن رجلا قال : «يا رسول الله! أنبيّ كان آدم؟ قال : نعم
، قال : كم بينه وبين نوح؟ قال : عشرة قرون. قال : كم بين نوح وبين إبراهيم؟ قال :
عشرة قرون ، قال : يا رسول الله! كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا
، قال : يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك؟ قال : ثلاثمائة وخمسة عشر جمّا غفيرا».
وأخرج أحمد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه من حديث أبي أمامة نحوه ، وصرّح :
بأن السائل أبو ذرّ. وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصحّحه عن ابن عباس قال : ما سكن
آدم الجنّة إلّا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر
وابن مردويه والبيهقي عنه قال : ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتّى أهبط من الجنة.
وأخرج الفريابي ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن قال : لبث
آدم في الجنة ساعة من نهار ، تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا. وقد روي
تقدير اللبث في الجنة عن سعيد بن جبير بمثل ما تقدّم عن ابن عباس ، كما رواه أحمد
في الزهد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس وابن
مسعود وناس من الصحابة قالوا : لما سكن آدم الجنة كان يمشي فيها وحشا ليس له زوج
يسكن إليها ، فنام نومة فاستيقظ وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها
__________________
الله من ضلعه. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «استوصوا بالنساء خيرا ، فإنّ المرأة خلقت من ضلع ،
وإنّ أعوج شيء من الضّلع رأسه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته تركته وفيه عوج»
وروى أبو الشيخ وابن عساكر عن ابن عباس قال : إنما سميت حواء لأنها أمّ كل حيّ. وأخرج
ابن عدي وابن عساكر عن النخعي قال : لمّا خلق الله آدم وخلق له زوجه بعث إليه ملكا
وأمره بالجماع ففعل ، فلما فرغ قالت له حواء : يا آدم هذا طيّب زدنا منه. وأخرج
ابن جرير وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال : الرغد : الهنيء. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الرغد : سعة المعيشة. وأخرجا عنه في
قوله (وَكُلا مِنْها
رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) قال : لا حساب عليكم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : الشجرة التي نهى الله
عنها آدم : السنبلة ، وفي لفظ : البرّ. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه قال : هي الكرم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو
الشيخ عنه قال : هي اللّوز. وأخرج ابن جرير عن بعض الصحابة قال : هي التينة. وروى
مثله أبو الشيخ عن مجاهد وابن أبي حاتم عن قتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
وهب بن منبه قال : هي البرّ. وأخرج أبو الشيخ عن أبي مالك قال : هي النخلة. وأخرج
أبو الشيخ عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال : هي الأترج. وأخرج أحمد في الزهد عن
شعيب الجبائي قال : هي تشبه البر وتسمى الدعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فَأَزَلَّهُمَا) قال : فأغواهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم بن بهدلة
قال : (فَأَزَلَّهُمَا) فنحّاهما. وأخرج أبو داود في المصاحف ، عن الأعمش قال :
قراءتنا في البقرة مكان فأزلهما : فوسوس. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
مسعود وناس من الصحابة قالوا : أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة فمنعته الخزنة ،
فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البعير وهي كأحسن الدواب ، فكلّمها أن
تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم ، فأدخلته في فمها ، فمرّت الحية على الخزنة
فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر ، فكلّمه من فمها فلم يبال بكلامه ، فخرج
إليه فقال : يا آدم! (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى؟) وحلف لهما بالله (إِنِّي لَكُما لَمِنَ
النَّاصِحِينَ) فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدّمت حواء فأكلت ، ثم قالت
: يا آدم كل ، فإنّي قد أكلت فلم يضرّني ، فلما أكلا ـ (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا
يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وقد أخرج قصة الحية ودخول إبليس معها عبد الرزاق وابن
جرير عن ابن عباس. وأخرج ابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم
وصحّحه وابن مردويه والبيهقي عن أبيّ بن كعب عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ آدم كان رجلا طوالا كأنّه نخلة سحوق ، طوله
ستون ذراعا كثير شعر الرأس ، فلما ركب الخطيئة بدت له عورته» الحديث. وأخرج ابن
منيع وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس.
قال : قال الله لآدم ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال : يا رب!
زيّنته لي حوّاء ، قال : فإني عاقبتها بأن لا تحمل إلا كرها ولا
__________________
تضع إلا كرها ، وأدميتها في كل شهر مرتين . وأخرج البخاري والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لو لا بنو إسرائيل لم يحنز اللحم ، ولو لا حوّاء
لم تخن أنثى زوجها» . وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة في
الصحيحين وغيرهما في محاجّة آدم وموسى ، وحجّ آدم موسى بقوله : أتلومني على أمر
قدّره الله عليّ قبل أن أخلق؟. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله (قُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) قال : آدم وحواء وإبليس والحية (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) قال : القبور (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) قال : الحياة. وروي نحو ذلك عن مجاهد وأبي صالح وقتادة
، كما أخرجه عن الأول والثاني أبو الشيخ ، وعن الثالث عبد بن حميد. وأخرج أبو
الشيخ عن ابن مسعود في قوله : (وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) قال : القبور (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) قال : إلى يوم القيامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر
قال : أهبط آدم بالصفا وحوّاء بالمروة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم
وصحّحه ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما أهبط الله آدم إلى أرض الهند» وفي لفظ : «بدجناء
أرض بالهند». وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه : أهبط إلى أرض بين مكة والطائف. وأخرج
ابن جرير والحاكم وصحّحه والبيهقي عنه قال : قال عليّ ابن أبي طالب : أطيب ريح
الأرض الهند ، هبط بها آدم فعلق شجرها من ريح الجنة. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن
ابن عباس قال : أهبط آدم بالهند وحواء بجدة ، فجاء في طلبها حتى أتى جمعا ،
فازدلفت إليه حواء ، فلذلك سميت المزدلفة ، واجتمعا بجمع. وأخرج الطبراني وأبو
نعيم في الحلية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنزل آدم عليهالسلام بالهند فاستوحش ، فنزل جبريل فنادى بالأذان ، فلما سمع
ذكر محمّد قال له : ومن محمّد هذا؟ قال : هذا آخر ولدك من الأنبياء». وقد روي عن
جماعة من الصحابة أن آدم أهبط إلى أرض الهند ، منهم جابر أخرجه ابن أبي الدنيا
وابن المنذر وابن عساكر ، ومنهم ابن عمر أخرجه الطبراني. وأخرج ابن عساكر عن عليّ
قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن الله لمّا خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهبا ولا فضة
، فلما أهبط آدم وحواء أنزل معهما ذهبا وفضة ، فسلكه ينابيع في الأرض منفعة
لأولادهما من بعدهما ، وجعل ذلك صداق آدم لحواء ، فلا ينبغي لأحد أن يتزوّج إلّا
بصداق». وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هبط آدم وحواء عريانين جميعا ، عليهم ورق الجنة ،
فأصابه الحرّ حتى قعد يبكي ويقول لها : يا حوّاء! قد آذاني الحر ، فجاءه جبريل
بقطن وأمرها أن تغزل وعلّمها ، وأمر آدم بالحياكة وعلّمه». وأخرج الديلمي في مسند
الفردوس عن أنس مرفوعا «أوّل من حاك آدم عليهالسلام». وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
حكايات في صفة هبوط آدم من الجنة وما أهبط معه وما صنع عند وصوله إلى الأرض ، ولا
حاجة لنا يبسط جميع ذلك. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
__________________
كَلِماتٍ)
قال : أي ربّ!
ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى ، قال : أي ربّ! ألم تنفخ في من روحك؟ قال : بلى ، قال
: أي ربّ! ألم تسبق إليّ رحمتك قبل غضبك؟ قال : بلى ، قال : أي ربّ! ألم تسكني
جنتك؟ قال : بلى ، قال أي ربّ! أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال :
نعم. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن عساكر بسند ضعيف عن عائشة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لمّا أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاء الكعبة
فصلّى ركعتين» الحديث. وقد روي نحوه بإسناد لا بأس به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة
، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدعوات ، وابن عساكر من حديث بريدة مرفوعا.
وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في قوله (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) قال : قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جرير عنه مثله. وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان ، عن محمد
بن كعب القرظي ، في قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِماتٍ) مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحّاك مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس قيل له : ما الكلمات التي تلقّى آدم من ربّه؟ قال : علّم شأن
الحج فهي الكلمات. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن زيد في قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) قال : لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت
نفسي ، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك رب عملت سوءا وظلمت
نفسي ، فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم. وأخرج نحوه البيهقي في شعب الإيمان ،
وابن عساكر عن أنس. وأخرج نحوه هنا وفي الزهد عن سعيد بن جبير. وأخرج نحوه ابن
عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. وأخرج نحوه الديلمي في مسند الفردوس
بسند ضعيف عن عليّ مرفوعا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله :
(فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) قال الهدى : الأنبياء والرسل والبيان. وأخرج ابن
الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل قال : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم فمن تبع هدى بتثقيل الياء وفتحها. وأخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير في قوله : (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ) يعني في الآخرة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) يعني لا يحزنون للموت.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً
لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي
ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ
بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢))
اعلم أن كثيرا
من المفسرين جاءوا بعلم متكلف ، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته ، واستغرقوا
أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة ، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي
المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه ، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا
المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف ،
فجاؤوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلا عن
كلام الرب
__________________
سبحانه ، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف ، وجعلوه المقصد الأهمّ من التأليف ، كما
فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدّمه حسبما ذكر في خطبته ، وإن هذا لمن أعجب ما
يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله
منذ نزول الوحي على رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أن قبضه الله عزوجل إليه ، وكل عاقل فضلا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث
المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها ، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان
حلالا ، وتحليل أمر كان حراما ، وإثبات أمر لشخص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله ،
وتارة يكون الكلام مع المسلمين ، وتارة مع الكافرين ، وتارة مع من مضى ، وتارة مع
من حضر ، وحينا في عبادة ، وحينا في معاملة ، ووقتا في ترغيب ، ووقتا في ترهيب ،
وآونة في بشارة ، وآونة في نذارة ، وطورا في أمر دنيا ، وطورا في أمر آخرة ، ومرة
في تكاليف آتية ، ومرة في أقاصيص ماضية ؛ وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا
الاختلاف ، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف ، فالقرآن النازل
فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها ، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب
والنون والماء والنار والملّاح والحادي ، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع
دائرة الريب على من في قلبه مرض ، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور ، فإنه إذا وجد
أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف ، تقرّر
عنده أن هذا أمر لا بد منه ، وأن لا يكون القرآن بليغا معجزا إلا إذا ظهر الوجه
المقتضي للمناسبة ، وتبين الأمر الموجب للارتباط ، فإن وجد الاختلاف بين الآيات
فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك ، فوجده تكلفا محضا ، وتعسفا بيّنا انقدح في
قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة ، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبا على هذا
الترتيب الكائن في المصحف ؛ فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب ، وأيسر حظ من معرفته
يعلم علما يقينا أنه لم يكن كذلك ، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل
العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول ، المطلعين على حوادث
النبوّة ، فإنه ينثلج صدره ، ويزول عنه الريب ، بالنظر في سورة من السور المتوسطة
، فضلا عن المطوّلة لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة ،
وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب ، بل يكفي المقصر
أن يعلم أن أوّل ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وبعده (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف؟
وإذا كان الأمر هكذا ، فأيّ معنى لطلب المناسب بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدّم في
ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخرا ، وتأخر ما أنزله الله متقدما ، فإن هذا عمل لا
يرجع إلى ترتيب نزول القرآن ، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك
من الصحابة ، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته ، وأحقر فائدته ، بل هو عند من يفهم
ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات ، وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على
فاعله ولا على من يقف عليه من الناس ، وأنت تعلم أنه لو تصدّى رجل من أهل العلم
للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته ، أو إلى ما قاله
شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحا وأخرى هجاء ، وحينا نسيبا وحينا
رثاء ، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة ، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب
بين فقره ومقاطعه ، ثم تكلف تكلفا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد
والخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك ، وناسب
بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك ، لعدّ هذا
المتصدي لمثل هذا مصابا في عقله ، متلاعبا بأوقاته ، عابثا بعمره الذي هو رأس ماله
؛ وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة ، وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر ، فكيف نراه
يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب ، وأبكمت فصاحته فصحاء
عدنان وقحطان. وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ ،
وأنزله بلغة العرب ، وسلك فيه مسالكهم في الكلام ، وجرى به مجاريهم في الخطاب. وقد
علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة ، وطرائق متباينة
فضلا عن المقامين ، فضلا عن المقامات ، فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا ، وكذلك
شاعرهم. ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من
المحققين ، وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني
إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليهالسلام ، فإذا قال متكلف : كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا : لا
كيف.
فدع عنك نهبا
صيح في حجراته
|
|
وهات حديثا
ما حديث الرواحل
|
قوله (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم عليهمالسلام ومعناه عبد الله ، لأن إسرا في لغتهم : هو العبد وإيل
هو الله ، قيل : إن له اسمين ، وقيل : إسرائيل لقب له ، وهو اسم عجمي غير منصرف ،
وفيه سبع لغات : إسرائيل بزنة إبراهيم ، وإسرائيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن
شنبوذ عن ورش ، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير همز ، وهي قراءة الأعمش وعيسى بن
عمر ، وقرأ الحسن من غير همز ولا مدّ وإسرائيل بهمزة مكسورة. وإسراءل بهمزة مفتوحة
، وتميم يقولون إسرائين. والذكر هو ضد الإنصات ، وجعله بعض أهل اللغة مشتركا بين
ذكر القلب واللسان. وقال الكسائي : ما كان بالقلب فهو مضموم الذال ، وما كان
باللسان فهو مكسور الذال. قال ابن الأنباري : والمعنى في الآية : اذكروا شكر نعمتي
، فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة ، وهي اسم جنس ، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء
وأنزل عليهم الكتب والمنّ والسلوى ، وأخرج لهم الماء من الحجر ، ونجّاهم من آل
فرعون وغير ذلك. والعهد قد تقدم تفسيره. واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه
الآية ما هو؟ فقيل هو المذكور في قوله تعالى : (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) وقيل : هو ما في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ
اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) وقيل هو قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وقال الزجّاج : هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع
محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : هو أداء الفرائض ، ولا مانع من حمله على جميع
ذلك. ومعنى قوله : (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي بما ضمنت لكم من الجزاء. والرهب والرهبة : الخوف ،
ويتضمن الأمر به معنى التهديد ، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار والتفسير مثل زيدا
ضربته (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) كان أوكد في إفادة الاختصاص ، ولهذا قال صاحب الكشاف :
وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد ، وسقطت الياء من قوله (فَارْهَبُونِ) لأنها رأس آية و (مُصَدِّقاً) حال من ما في قوله : (بِما أَنْزَلْتُ) أو من ضميرها المقدر بعد الفعل أي أنزلته.
__________________
وقوله (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) إنما جاء به مفردا ، لم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله
لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ ، متعدد المعنى نحو فريق أو فوج. وقال الأخفش
والفرّاء : إنه محمول على معنى الفعل ، لأن المعنى أوّل من كفر. وقد يكون من باب
قولهم : هو أظرف الفتيان وأجمله ، كما حكى ذلك سيبويه ، فيكون هذا المفرد قائما
مقام الجمع ؛ وإنما قال أوّل مع أنه تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش ، لأن المراد
أوّل كافر به من أهل الكتاب ، لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء ، وما يلزم من
التصديق ، والضمير في به عائد إلى النبي صلىاللهعليهوسلم : أي لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد
وجدتموه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ، مبشرا به في الكتب المنزلة عليكم. وقد
حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلىاللهعليهوسلم في الكتب السالفة ، وقيل إنه عائد إلى القرآن المدلول
عليه بقوله : (بِما أَنْزَلْتُ) وقيل عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله : (لِما مَعَكُمْ) وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي) أي بأوامري ونواهي (ثَمَناً قَلِيلاً) أي عيشا نزرا ورئاسة لا خطر لها. جعل ما اعتاضوه ثمنا ،
وأوقع الاشتراء عليه وإن كان الثمن هو المشترى به ، لأن الاشتراء هنا مستعار
للاستبدال : أي لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا ، وكثيرا ما يقع مثل هذا في كلامهم.
وقد قدّمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى : (اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى) ، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول
الشاعر :
إن كنت حاولت
ذنبا أو ظفرت به
|
|
فما أصبت
بترك الحجّ من ثمن
|
وهذه الآية وإن
كانت خطابا لبني إسرائيل ونهيا لهم ، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب أو
بلحنه ، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به ، أو إثبات باطل نهى
الله عنه ، أو امتنع من تعليم ما علّمه الله ، وكتم البيان الذي أخذ الله عليه
ميثاقه به ، فقد اشترى بآيات الله ثمنا قليلا. وقوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وقد تقدم قريبا. واللبس : الخلط ، يقال لبست عليه الأمر
ألبسه : إذا خلطت حقه بباطله وواضحه بمشكله ، قال الله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) قالت الخنساء :
ترى الجليس
يقول الحقّ تحسبه
|
|
رشدا وهيهات
فانظر ما به التبسا
|
صدّق مقالته
واحذر عداوته
|
|
والبس عليه
أمورا مثل ما لبسا
|
وقال العجّاج :
لمّا لبسن
الحقّ بالتجنّي
|
|
غنين
فاستبدلن زيدا منّي
|
ومنه قول عنترة
:
وكتيبة
لبّستها بكتيبة
|
|
حتّى إذا
التبست نفضت لها يدي
|
وقيل : هو
مأخوذ من التغطية : أي لا تغطّوا الحق بالباطل ، ومنه قول الجعدي :
إذا ما
الضّجيع ثنى جيدها
|
|
تثنّت عليه
فكانت لباسا
|
وقول الأخطل :
وقد لبست
لهذا الأمر أعصره
|
|
حتى تجلّل
رأسي الشيب فاشتعلا
|
والأوّل أولى.
والباطل في كلام العرب : الزائل ، ومنه قول لبيد :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
وبطل الشيء
يبطل بطولا وبطلانا ، وأبطله غيره. ويقال ذهب دمه بطلا : أي هدرا ، والباطل : الشيطان
؛ وسمي الشجاع بطلا لأنه يبطل شجاعة صاحبه ، والمراد به هنا خلاف الحق. والباء في
قوله بالباطل يحتمل أن تكون صلة وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف ، ورجّح
الرازي في تفسيره الثاني. وقوله : (وَتَكْتُمُوا) يجوز أن يكون داخلا تحت حكم النهي أو منصوبا بإضمار أن
، وعلى الأوّل يكون كل واحد من اللبس والكتم منهيا عنه ، وعلى الثاني يكون المنهي
عنه هو الجمع بين الأمرين ، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي ، وأن كل واحد
منهما لا يجوز فعله على انفراده ، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم
تبليغها وأخذ عليهم بيانها ، ومن فسرّ اللبس أو الكتمان بشيء معين ، ومعنى خاص فلم
يصب إن أراد أن ذلك هو المراد دون غيره ، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه. وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل ، وذلك
أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة ، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس والكتمان مع الجهل ،
لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه ، خصوصا في أمور الدين ،
فإن التكلم فيها والتصدّي للإصدار والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان
رأسا في العلم فردا في الفهم ، وما للجهال والدخول فيما ليس من شأنهم والقعود في
غير مقاعدهم؟! وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) قال للأحبار من اليهود : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي بلائي عندكم وعند آبائكم ، لما كان نجّاهم به من
فرعون وقومه (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) الذي أخذت في أعناقكم للنّبي صلىاللهعليهوسلم إذا جاءكم (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه بوضع ما كان
عليكم من الإصر والأغلال (وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من
النقمات (وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاءكم به
وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم ، وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عنه في قوله (أَوْفُوا بِعَهْدِي) يقول : ما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في
النبي صلىاللهعليهوسلم وغيره (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) يقول : أرض عنكم وأدخلكم الجنة. وأخرج ابن المنذر عن
ابن مسعود مثله. وأخرج ابن المنذر
__________________
عن مجاهد في قوله : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) قال : هو الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة (لَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) لآية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج عبد بن
حميد عن الحسن قال : أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم. وأخرج عبد بن
حميد وأبو الشيخ عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قوله : (إِيَّايَ فَارْهَبُونِ) قال : فاخشون. وأخرج عبد بن حميد وابن جريج عن مجاهد في
قوله : (وَآمِنُوا بِما
أَنْزَلْتُ) قال : القرآن (مُصَدِّقاً لِما
مَعَكُمْ) قال : التوراة والإنجيل. وأخرج ابن جريج عن ابن جرير في
قوله : (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) قال : بالقرآن. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية
قال : يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم ، لأنهم
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي أوّل من كفر بمحمد (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي) يقول : لا تأخذوا عليه أجرا ، قال : وهو مكتوب عندهم في
الكتاب الأوّل : يا ابن آدم علّم مجانا كما علّمت مجانا. وأخرج أبو الشيخ عنه قال
: لا تأخذ على ما علّمت أجرا ، إنما أجر العلماء والحكماء والحلماء على الله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ) قال : لا تخلطوا الصدق بالكذب (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) قال : لا تكتموا الحق وأنتم قد علمتم أن محمدا رسول
الله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَلا تَلْبِسُوا) الآية ، قال : لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) قال : كتموا محمدا وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
قال : الحق : التوراة ، والباطل : الذي كتبوه بأيديهم.
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ
إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا
رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))
قد تقدم الكلام
في تفسير إقامة الصلاة واشتقاقها ، والمراد هنا الصلاة المعهودة ، وهي صلاة
المسلمين ، على أن التعريف للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس ، ومثلها الزكاة. والإيتاء
: الإعطاء ، يقال آتيته : أي أعطيته. والزكاة مأخوذة من الزكاء ، وهو النماء ، زكا
الشيء : إذا نما وزاد ، ورجل زكي : أي زائد الخير ؛ وسمي إخراج جزء من المال زكاة
: أي زيادة مع أنه نقص منه ، لأنها تكثر بركته بذلك ، أو تكثر أجر صاحبه ؛ وقيل :
الزكاة مأخوذة من التطهير ، كما يقال : زكا فلان : أي طهر.
والظاهر أن
الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي المرادة بما
هو مذكور في الكتاب والسنة منها. وقد تكلّم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام
لبسطه. وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا ، فقيل : المراد المفروضة
لاقترانها بالصلاة ، وقيل صدقة الفطر ، والظاهر أن المراد ما هو أعمّ من ذلك.
والركوع في اللغة : الانحناء ، وكل منحن راكع ، قال لبيد :
أخبّر أخبار
القرون التي مضت
|
|
أدبّ كأنّي
كلّما قمت راكع
|
__________________
وقيل الانحناء
يعم الركوع والسجود ، ويستعار الركوع أيضا للانحطاط في المنزلة ، قال الشاعر :
لا تهين
الفقير علّك أن
|
|
تركع يوما
والدّهر قد رفعه
|
وإنما خص
الركوع بالذكر هنا ، لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم ؛ وقيل : لكونه كان ثقيلا على
أهل الجاهلية ، وقيل : إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة. والركوع الشرعي : هو
أن ينحني الرجل ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا
ذاكرا بالذكر المشروع. وقوله : (مَعَ الرَّاكِعِينَ) فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة والخروج إلى المساجد. وقد
ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف. وقد
أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم على خلاف بينهم في كون ذلك عينا أو كفاية ؛ وذهب
الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها وليس بواجب ، وهو الحق للأحاديث الصحيحة
الثابتة عن جماعة من الصحابة ، من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين
درجة أو بسبع وعشرين درجة. وثبت في الصحيح عنه صلىاللهعليهوسلم : الذي يصلّي مع الإمام أفضل من الذي يصلّي وحده ثم
ينام. والبحث طويل الذيول ، كثير النقول. والهمزة في قوله (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين ، وليس المراد توبيخهم
على نفس الأمر بالبر فانه فعل حسن مندوب اليه ، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من
قوله : (وَتَنْسَوْنَ
أَنْفُسَكُمْ) مع التطهر بتزكية النفس والقيام في مقام دعاة الخلق إلى
الحق إيهاما للناس وتلبيسا عليهم ، كما قال أبو العتاهية :
وصفت التّقى
حتّى كأنّك ذو تقى
|
|
وريح الخطايا
من ثيابك تسطع
|
والبرّ :
الطاعة والعمل الصالح ، والبر : سعة الخير والمعروف ، والبر : الصدق ، والبر : ولد
الثعلب ، والبر : سوق الغنم ، ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر :
لا همّ ربّ
إن يكونوا دونكا
|
|
يبرّك النّاس
ويفجرونكا
|
أي يطيعونك
ويعصونك. والنسيان بكسر النون هو هنا بمعنى الترك : أي وتتركون أنفسكم ، وفي الأصل
خلاف الذكر والحفظ : أي زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة والحافظة. والنفس
: الروح ، ومنه قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) يريد الأرواح. وقال أبو خراش :
نجا سالم
والنفس منه بشدقه
|
|
ولم ينج إلا
جفن سيف ومئزرا
|
والنفس أيضا :
الدم ، ومنه قولهم : سالت نفسه ، قال الشاعر :
تسيل على حدّ
السّيوف نفوسنا
|
|
وليست على
غير الظّبات تسيل
|
__________________
والنفس : الجسد
، ومنه :
نبّئت أنّ
بني سحيم أدخلوا
|
|
أبياتهم
تامور نفس المنذر
|
والتامور :
البدن.
وقوله (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع وأشد توبيخ وأبلغ
تبكيت : أي كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به وأنتم من أهل العلم العارفين
بقبح هذا الفعل وشدّة الوعيد عليه ، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه والآيات التي
تقرؤونها من التوراة. والتلاوة : القراءة ، وهي المراد هنا وأصلها الاتباع ، يقال
: تلوته : إذا تبعته ؛ وسمي القارئ تاليا والقراءة تلاوة لأنه يتبع بعض الكلام
ببعض ، على النسق الذي هو عليه. قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) استفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم ، وهو أشدّ من
الأوّل وأشدّ ، وأشد ما قرّع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ولا يفعله من
العلماء الذين هم غير عاملين بالعلم ، فاستنكر عليهم أوّلا أمرهم للناس بالبرّ مع
نسيان أنفسهم في ذلك الأمر الذي قاموا به في المجامع ونادوا به في المجالس إيهاما
للناس بأنهم مبلّغون عن الله ما تحملوه من حججه ، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه
، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم وائتمنهم عليه ، وهم أترك الناس لذلك وأبعدهم من
نفعه وأزهدهم فيه ، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى جعلها مبيّنة لحالهم وكاشفة
لعوارهم وهاتكة لأستارهم ، وهي أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة والخصلة الفظيعة على
علم منهم ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم وملازمة لتلاوته ، وهم في ذلك كما قال
المعرّى :
وإنّما حمل
التوراة قارئها
|
|
كسب الفوائد
لا حبّ التّلاوات
|
ثم انتقل معهم
من تقريع إلى تقريع ، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال : إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم
وحملة الحجة وأهل الدراسة لكتب الله ، لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلا بينكم وبين
ذلك ذائدا لكم عنه زاجرا لكم منه ، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما
يوجبه العلم. والعقل في أصل اللغة : المنع ، ومنه عقال البعير ، لأنه يمنعه عن
الحركة ، ومنه العقل في الدية لأنّه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني. والعقل نقيض
الجهل ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو أصل معنى العقل عند أهل اللغة : أي أفلا
تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية ، ويصحّ أن يكون معنى الآية : أفلا
تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم. وقوله :
(وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ) الصبر في اللغة : الحبس ، وصبرت نفسي على الشيء : حبستها.
ومنه قول عنترة :
فصبرت عارفة
لذلك حرّة
|
|
ترسو إذا نفس
الجبان تطلّع
|
والمراد هنا :
استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من
المكروهات ، وقيل : الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة. واستدل هذا القائل
بقوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) وليس في هذا الصبر الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده
الألف واللام
__________________
الداخلة على الصبر من الشمول ، كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق
عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ونافلة. واختلف المفسرون في رجوع الضمير
في قوله : (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ) فقيل إنه راجع إلى الصلاة وإن كان المتقدم هو الصبر
والصلاة فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما. كما قال تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) إذا كان أحدهما داخلا تحت الآخر بوجه من الوجوه ، ومنه
قول الشاعر :
إن شرخ
الشباب والشعر الأس
|
|
ود ما لم
يعاص كان جنونا
|
ولم يقل ما لم
يعاصا بل جعل الضمير راجعا إلى الشباب ، لأن الشعر الأسود داخل فيه ؛ وقيل إنه
عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها لأن الصبر هو عليها ، كما قيل
سابقا ؛ وقيل إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مرادا معها ، لكن لما كانت
آكد وأعم تكليفا وأكثر ثوابا كانت الكناية بالضمير عنها ، ومنه قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) كذا قيل : وقيل إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة ،
ومثل ذلك قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لمّا كانت الفضة
أعم نفعا وأكثر وجودا ، والتجارة هي الحاملة على الانقضاض ، والفرق بين هذا الوجه
وبين الوجه الأوّل أن الصبر هناك جعل داخلا تحت الصلاة ، وهنا لم يكن داخلا وإن
كان مرادا ؛ وقيل إن المراد الصبر والصلاة ، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء
به عن الآخر ، ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) أي ابن مريم آية وأمه آية. ومنه قول الشاعر :
ومن يك أمسى
بالمدينة رحله
|
|
فإنّي وقيّار
بها لغريب
|
وقال آخر :
لكلّ همّ من
الهموم سعة
|
|
والصّبح
والمسي لا فلاح معه
|
وقيل رجع
الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة ؛ وقيل رجع إلى المصدر المفهوم من قوله : (وَاسْتَعِينُوا) وهو الاستعانة ؛ وقيل رجع إلى جميع الأمور التي نهي
عنها بنو إسرائيل. والكبيرة : التي نهي عنها بنو إسرائيل. والكبيرة : التي يكبر
أمرها ويتعاظم شأنها على حاملها لما يجده عند تحملها والقيام بها من المشقة ، ومنه
(كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) والخاشع : هو المتواضع ، والخشوع : التواضع. قال في
الكشاف : والخشوع : الإخبات والتطامن ، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة وأما الخضوع
: فاللين والانقياد ، ومنه خضعت بقولها : إذا لينته. انتهى. وقال الزجاج : الخاشع
الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء ، ومكان خاشع : لا يهتدى إليه ؛ وخشعت الأصوات : أي
سكنت ، وخشع ببصره : إذا غضه ، والخشعة : قطعة من الأرض رخوة. وقال سفيان الثوري :
سألت الأعمش عن الخشوع فقال : يا ثوريّ أنت تريد أن تكون إماما للناس
__________________
ولا تعرف الخشوع؟ ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطئ الرأس ، لكن
الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء ، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك.
انتهى. وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته : إنه هيئة في النفس يظهر منها
في الجوارح سكون وتواضع ، واستثنى سبحانه الخاشعين ـ مع كونهم باعتبار استعمال
جوارحهم في الصلاة ، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة ، وإتعابهم
إتعابا عظيما في الأسباب الموجبة للحضور والخضوع ـ لأنهم لما يعلمونه من تضاعف
الأجر وتوفر الجزاء والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب ، تسهل عليهم تلك
المتاعب ، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب ، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة وراحة
عندهم محضة ، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حرّ السيوف عند تصادم الصفوف ،
وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم :
ولست أبالي
حين أقتل مسلما
|
|
على أيّ جنب
كان في الله مصرعي
|
والظن هنا عند
الجمهور بمعنى اليقين ، ومنه قوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ
أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) وقوله : (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مُواقِعُوها) ومنه قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم
ظنّوا بألفي مدجّج
|
|
سراتهم في
الفارسيّ المسرّد
|
وقيل : إن الظن
في الآية على بابه ، ويضمر في الكلام بذنوبهم ، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين ، ذكره
المهدوي والماوردي ، والأوّل أولى. وأصل الظن : الشك مع الميل إلى أحد الطرفين ،
وقد يقع موقع اليقين في مواضع ، منها هذه الآية. ومعنى قوله : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) ملاقو جزائه ، والمفاعلة هنا ليست على بابها ، ولا أرى
في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأسا. وفي هذا مع ما بعده من قوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار بالبعث وما وعد الله به في اليوم الآخر. وقد أخرج
ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَارْكَعُوا) قال : صلوا. وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن مقاتل في قوله (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) قال : أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد يقول : كونوا منهم
ومعهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ) الآية ، قال : أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس
بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب ولا ينتفعون بما فيه. وأخرج الثعلبي
والواحدي عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة ، كان الرجل منهم
يقول لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين : اثبت على الدين الذي
أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل ، يعنون محمدا صلىاللهعليهوسلم ، فإن أمره حق ، وكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ) قال : بالدخول في دين محمد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير
وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة
والعهد من التوراة ، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي؟ وأخرج
عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي عن أبي الدرداء في الآية قال : لا
يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد
مقتا. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر
وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن أنس
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار
، كلّما قرضت رجعت ، فقلت لجبريل : من هؤلاء؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك كانوا
يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون». وثبت في
الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النّار ، فتندلق به أقتابه فيدور
بها كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النّار فيقولون : يا فلان ما لك ما
أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف
ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعا عن
الخطيب وابن النجار ، وعن الوليد بن عقبة مرفوعا عند الطبراني والخطيب بسند ضعيف
وعند عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه موقوفا ، ومعناها جميعا : أنه يطلع قوم
من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم : بم دخلتم النار وإنما دخلنا
الجنة بتعليمكم؟ قالوا : إنا كنا نأمركم ولا نفعل. وأخرج الطبراني ، والخطيب في
الاقتضاء ، والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «مثل العالم الذي يعلّم النّاس الخير ولا يعمل به
كمثل السّراج يضيء للنّاس ويحرق نفسه». وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في
زوائد الزهد عنه نحوه. وأخرج الطبراني ، والخطيب في الاقتضاء ، عن أبي برزة مرفوعا
نحوه. وأخرج ابن قانع في معجمه ، والخطيب في الاقتضاء ، عن سليك مرفوعا نحوه.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال : «ويل للذي لا
يعلم مرة ولو شاء الله لعلّمه ، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات». وأخرج أحمد في
الزهد عن عبد الله بن مسعود مثله ، وما أحسن ما أخرجه ابن مردويه ، والبيهقي في
شعب الإيمان ، وابن عساكر ، عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال : يا ابن عباس إني أريد
أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، قال : أو بلغت ذلك؟ قال : أرجو ، قال : فإن لم
تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل ، قال : وما هنّ؟ قال : قوله عزوجل : (أَتَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أحكمت هذه الآية؟ قال : لا ، قال : فالحرف الثاني ، قال
: قوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ ـ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أحكمت هذه الآية؟ قال : لا ، قال : فالحرف الثالث ، قال
: قول العبد الصالح شعيب : (ما أُرِيدُ أَنْ
أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أحكمت هذه الآية؟ قال : لا ، قال : فابدأ بنفسك. وأخرج
عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) قال : إنهما معونتان من الله فاستعينوا بهما. وقد أخرج
ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر ، وأبو الشيخ في الثواب ، والديلمي في مسند الفردوس
، عن عليّ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ،
وصبر عن المعصية». وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه والجزاء
للصابرين ، ولم نذكرها هنا ، لأنها ليست بخاصة بهذه الآية ، بل هي واردة في مطلق
الصبر. وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور هاهنا منها شطرا صالحا ، وفي الكتاب
العزيز من الثناء على ذلك والترغيب فيه الكثير الطيب. وأخرج أحمد وأبو داود وابن
جرير عن حذيفة قال : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وأخرج
__________________
أحمد والنسائي وابن حبان ، عن صهيب ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «وكانوا : يعني الأنبياء ، يفزعون إذا فزعوا إلى
الصّلاة». وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن أبي الدرداء مرفوعا نحو حديث حذيفة.
وأخرج سعيد ابن منصور وابن المنذر والحاكم ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن
عباس أنه كان في مسير له ، فنعي إليه ابن له ، فنزل فصلّى ركعتين ، ثم استرجع فقال
: فعلنا كما أمرنا الله فقال (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ) وقد روى عنه نحو ذلك سعيد بن منصور وابن جرير وابن
المنذر والبيهقي لما نعي إليه أخوه قثم. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة
والتابعين. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ) قال : لثقيلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (إِلَّا عَلَى
الْخاشِعِينَ) قال : المؤمنين حقا. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في
قوله : (إِلَّا عَلَى
الْخاشِعِينَ) قال : الخائفين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عن مجاهد قال : كل ظنّ في القرآن فهو يقين. ولا يتم هذا في مثل قوله ب (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً) وقوله : (إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ) ولعله يريد الظن المتعلق بأمور الآخرة كما رواه ابن
جرير عن قتادة قال : ما كان من ظن الآخرة فهو علم. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية
في قوله (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ
راجِعُونَ) قال : يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا
يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ
يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ
رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))
قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قد تقدم تفسيره ، وإنما كرر ذلك سبحانه توكيدا للحجة
عليهم وتحذيرا لهم من ترك اتباع محمد صلىاللهعليهوسلم ، ثم قرنه بالوعيد وهو قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) وقوله : (وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ) معطوف على مفعول اذكروا : أي اذكروا نعمتي وتفضيلي لكم
على العالمين ، قيل : المراد بالعالمين عالم زمانهم ، وقيل : على جميع العالمين
بما جعل فيهم من الأنبياء. وقال في الكشاف : على الجمّ الغفير من الناس كقوله : (بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) يقال : رأيت عالما من الناس ؛ يراد الكثرة انتهى. قال
الرازي في تفسيره : وهذا ضعيف ، لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل ، وكل ما
كان دليلا على الله كان علما وكان من العالم. وهذا تحقيق قول المتكلمين : العالم
كل موجود سوى الله. وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات. انتهى.
وأقول : هذا الاعتراض ساقط ، أما أوّلا فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان عليه ،
وأما ثانيا : فلو سلّمنا صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجودا بما يتحصل معه مفهوم
الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العلم عليه ، وهو كائن في كل فرد من أفراد
المخلوقات التي يستدلّ بها على الخالق ، وغايته أن جمع العالم يستلزم أن يكونوا
مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات ؛ وأما أنهم مفضلون
__________________
على كل المحدثات في كل زمان فليس في اللفظ ما يفيد هذا ، ولا في اشتقاقه ما
يدل عليه ؛ وأما من جعل العالم أهل العصر ، فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور
لا على أهل كل عصر ، فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين فيهم نبينا صلىاللهعليهوسلم ، ولا على ما بعده من العصور ، ومثل هذا الكلام ينبغي
استحضاره عند تفسير قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ
الْعالَمِينَ) وعند قوله تعالى : (وَلَقَدِ
اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) وعند قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) فإن قيل : إن التعريف في العالمين يدل على شموله لكل
عالم. قلت : لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزما لكونهم أفضل من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات. وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) أمر معناه الوعيد ، وقد تقدم معنى التقوى. والمراد
باليوم : يوم القيامة ؛ أي عذابه. وقوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) في محل نصب صفة ليوم ، والعائد محذوف. قال البصريون في
هذا وأمثاله تقديره فيه. وقال الكسائي : هذا خطأ ، بل التقدير : لا تجزيه. لأن حذف
الظرف لا يجوز ، ويجوز حذف الضمير وحده. وقد روي عن سيبويه والأخفش والزّجّاج جواز
الأمرين. ومعنى لا تجزي : لا تكفي وتقضي ، يقال : جزى عني هذا الأمر يجزي : أي قضى
، واجتزأت بالشيء اجتزاء : أي اكتفيت ، ومنه قول الشاعر :
فإنّ الغدر
في الأقوام عار
|
|
وأنّ الحرّ
يجزي بالكراع
|
والمراد أن هذا
اليوم لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تكفي عنها ، ومعنى التنكير التحقير : أي شيئا
يسيرا حقيرا ، وهو منصوب على المفعولية أو على أنه صفة مصدر محذوف ؛ أي جزاء حقيرا
، والشفاعة مأخوذة من الشفع وهو الاثنان ، تقول استشفعته : أي سألته أن يشفع لي :
أي يضمّ جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه ليصل النفع إلى المشفوع له ، وسميت الشفعة
شفعة : لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. وقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو : تقبل بالمثناة
الفوقية لأن الشفاعة مؤنثة ، وقرأ الباقون : بالياء التحتية لأنها بمعنى الشفيع. قال
الأخفش : الأحسن التذكير. وضمير منها يرجع إلى النفس المذكورة ثانيا ؛ أي إن جاءت
بشفاعة شفيع ، ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أولا : أي إذا شفعت لم يقبل منها.
والعدل بفتح العين : الفداء ، وبكسرها : المثل. يقال عدل وعديل ، للذي ماثل في
الوزن والقدر. وحكى ابن جرير : أن في العرب من يكسر العين في معنى الفدية. والنصر
: العون ، والأنصار : الأعوان ، وانتصر الرجل : انتقم ، والضمير : أي هم يرجع إلى
النفوس المدلول عليها بالنكرة في سياق النفي ، والنفس تذكر وتؤنث. وقوله : (إِذْ نَجَّيْناكُمْ) متعلق بقوله : (اذْكُرُوا) والنجاة : النجوة من الأرض ، وهي ما ارتفع منها ، ثم
سمّى كل فائز ناجيا. وآل فرعون : قومه ، وأصل آل : أهل بدليل تصغيره على أهيل ،
وقيل : غير ذلك ، وهو يضاف إلى ذوي الخطر. قال الأخفش : إنما يقال في الرئيس
الأعظم ، نحو آل محمد. ولا يضاف إلى البلدان فلا يقال من آل
__________________
المدينة. وقال الأخفش : قد سمعناه في البلدان ، قالوا : آل المدينة.
واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا ، فمنعه قوم وسوّغه آخرون وهو الحق ، ومنه قول
عبد المطلب :
وانصر على آل
الصّلي
|
|
ب وعابديه
اليوم آلك
|
وفرعون : قيل
هو اسم ذلك الملك بعينه ، وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة ، كما يسمى من
ملك الفرس : كسرى ، ومن ملك الروم : قيصر ، ومن ملك الحبشة النجاشيّ. واسم فرعون
موسى المذكور هنا : قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب : اسمه الوليد بن مصعب بن
الريان. قال المسعودي : لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. وقال الجوهري : إن كل عات
يقال له فرعون ، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة : أي دهاء ومكر. وقال في الكشاف : تفرعن
فلان : إذا عتا وتجبر. ومعنى قوله : (يَسُومُونَكُمْ) يولونكم ، قاله أبو عبيدة ؛ وقيل يذيقونكم ويلزمونكم
إياه ، وأصل السوم : الدوام ، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي ، ويقال : سامه
خطة خسف : إذا أولاه إياها. وقال في الكشاف : أصله من سام السلعة إذا طلبها ، كأنه
بمعنى : يبغونكم سوء العذاب ويريدونكم عليه. انتهى. وسوء العذاب : أشدّه ، وهو صفة
مصدر محذوف ؛ أي يسومونكم سوما سوء العذاب ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، وهذه
الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدّر ، ويجوز أن يكون في محل نصب على
الحال : أي سائمين لكم. وقوله (يُذَبِّحُونَ) وما بعده بدل من قوله : (يَسُومُونَكُمْ) وقال الفراء : إنه تفسير لما قبله ، وقرأه الجماعة
بالتشديد ، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف. والذبح في الأصل : الشقّ ، وهو فري أوداج
المذبوح ، والمراد بقوله تعالى : (وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) يتركونهن أحياء ليستخدموهنّ ويمتهنوهنّ ؛ وإنما أمر
بذبح الأبناء واستحياء البنات لأن الكهنة أخبروه بأنه مولود يكون هلاكه على يده ،
وعبر عن البنات باسم النساء لأنه جنس يصدق على البنات. وقالت طائفة : أنه أمر بذبح
الرجال واستدلوا بقوله : (نِساءَكُمْ) والأوّل أصح بشهادة السبب ، ولا يخفى ما في قتل الأبناء
واستحياء البنات للخدمة ونحوها من إنزال الذلّ بهم وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم
لما في ذلك من العار. والإشارة بقوله : (وَفِي ذلِكُمْ) إلى جملة الأمر. والبلاء يطلق تارة على الخير ، وتارة
على الشرّ ، فإن أريد به هنا الشر كانت الإشارة بقوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ) إلى ما حلّ بهم من النقمة بالذبح ونحوه ، وإن أريد به
الخير كانت الإشارة إلى النعمة التي أنعم الله عليهم بالإنجاء وما هو مذكور قبله
من تفضيلهم على العالمين. وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة ، فرجّح
الجمهور الأوّل ، ورجح الآخرون الآخر. قال ابن جرير : وأكثر ما يقال في الشرّ
بلوته أبلوه بلاء ، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاء ، قال زهير :
جزى الله
بالإحسان ما فعلا بكم
|
|
وأبلاهما خير
البلاء الذي يبلو
|
قال : فجمع بين
اللغتين ، لأنه أراد فأنعم عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده. وقوله : (وَإِذْ فَرَقْنا) متعلق بما تقدم من قوله : (اذْكُرُوا) وفرقنا : فلقنا ؛ وأصل الفرق الفصل ، ومنه فرق الشعر ،
وقرأ الزهري : فرقنا بالتشديد. والباء في قوله : (بِكُمُ) قيل : هي بمعنى اللام : أي لكم ، وقيل : هي
الباء السببية : أي فرقناه بسببكم ، وقيل : إن الجار والمجرور في محل الحال
: أي فرقناه متلبسا بكم ، والمراد هاهنا : أن فرق البحر كان بهم ؛ أي بسبب دخولهم
فيه ، أي لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم. وأصل البحر في اللغة : الاتساع ،
أطلق على البحر الذي هو مقابل البرّ لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر والخليج
، ويطلق على الماء المالح ، ومنه أبحر الماء : إذا ملح ، قال نصيب :
وقد عاد ماء
الأرض بحرا فزادني
|
|
إلى مرضي أن
أبحر المشرب العذب
|
وقوله : (فَأَنْجَيْناكُمْ) أي أخرجناكم منه : (وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ) فيه. وقوله (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) في محل نصب على الحال : أي حال كونكم ناظرين إليهم
بأبصاركم ؛ وقيل معناه : (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) أي ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر ؛
وقيل : نظروا إلى أنفسهم ينجون وإلى آل فرعون يغرقون. والمراد بآل فرعون هنا هو
وقومه وأتباعه. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا
تلا : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال : مضى القوم ، وإنما يعني به أنتم. وأخرج ابن جرير
عن سفيان بن عيينة قال في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ) هي أيادي الله وأيامه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال
: نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل فيما سمى وفيما سوى ذلك ، فجّر لهم
الحجر ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وأنجاهم من عبودية آل فرعون. وأخرج عبد
الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال : فضلوا على العالم الذي كانوا فيه ، ولكل زمان
عالم. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي
العالية في قوله : (فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ) قال : بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على من كان في
ذلك الزمان ، فإن لكل زمان عالما. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) قال : لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئا.
وأخرج ابن جرير عن عمرو بن قيس الملائي ، عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن
الثناء عليه قال : «قيل : يا رسول الله! ما العدل؟ قال : العدل الفدية». وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي مالك والحسن
وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك. وأخرج عبد الرزاق عن عليّ في تفسير
الصرف والعدل قال : التطوّع والفريضة. قال ابن كثير : وهذا القول غريب هاهنا ،
والقول الأوّل أظهر في تفسير هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالت
الكهنة لفرعون إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكه ، فجعل فرعون على كل ألف
امرأة مائة رجل ، وعلى كل مائة عشرة ، وعلى كل عشرة رجلا ، فقال : انظروا كل امرأة
حامل في المدينة ، فإذا وضعت حملها فإن كان ذكرا فاذبحوه ، وإن كان أنثى فخلّوا
عنها ، وذلك قوله : (يُذَبِّحُونَ
أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) قال : إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة. فقالت له الكهنة :
إنه سيولد العام بمصر غلام هلاكك على يديه ، فبعث في أهل مصر نساء قوابل ، فإذا
ولدت امرأة غلاما أتى به فرعون فقتله ، ويستحيي الجواري. وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله : (بَلاءٌ مِنْ
رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) يقول : نقمة. وأخرج وكيع عن
مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) فقال : إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقا يبسا
يمشون فيه ، فأنجاهم الله وأغرق آل فرعون عدوّهم. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من
حديث ابن عباس قال : «قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال : ما
هذا اليوم؟ قالوا : هذا يوم صالح نجّى الله فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى
، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : نحن أحقّ بموسى منكم ، فصامه وأمر بصومه». وقد أخرج
الطبراني وأبو نعيم في الحلية ، عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن
أمور ، منها عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة ، فكتب معاوية إلى ابن عباس ،
فأجابه عن تلك الأمور وقال : وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار :
فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل. ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا
عند تفسير قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) .
(وَإِذْ واعَدْنا
مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))
قرأ أبو عمرو :
وعدنا بغير ألف ، ورجّحه أبو عبيدة وأنكر (واعَدْنا) قال : لأن المواعدة إنما تكون من البشر ، فأما من الله
فإنما هو التفرّد بالوعد ، على هذا ما وجدنا القرآن كقوله : (وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) وقوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) ومثله ، قال أبو حاتم ومكي : وإنما قالوا هكذا نظرا إلى
أصل المفاعلة أنها تفيد الاشتراك في أصل الفعل ، وتكون من كل واحد من المتواعدين
ونحوهما ، لكنها قد تأتي للواحد في كلام العرب كما في قولهم : داويت العليل ،
وعاقبت اللص ، وطارقت النعل ، وذلك كثير في كلامهم. وقرأه الجمهور : (واعَدْنا) قال النحاس : وهي أجود وأحسن وليس قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) من هذا في شيء ، لأن واعدنا موسى إنما هو من باب
الموافاة ، وليس هو من الوعد والوعيد في شيء ، وإنما هو من قولك : موعدك يوم
الجمعة ، وموعدك موضع كذا ؛ والفصيح في هذا أن يقال واعدته. قال الزجاج : واعدنا
بالألف هاهنا جيد ، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة ، فمن الله سبحانه وعد ،
ومن موسى قبول. قوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قال الزجاج : التقدير تمام أربعين ليلة ، وهي عند أكثر
المفسرين ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، وإنما خصّ الليالي بالذكر دون الأيام لأن
الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة. ومعنى قوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) أي جعلتم العجل إلها من بعده : أي من بعد مضي موسى إلى
الطور. وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوّا عشرين يوما وعشرين ليلة. وقالوا : قد
اختلف موعده فاتخذوا العجل ، وهذا غير بعيد منهم ، فقد كانوا يسلكون طرائق من
التعنت خارجة عن قوانين العقل مخالفة لما يخاطبون به بل ويشاهدونه بأبصارهم ، فلا
يقال كيف تعدّون الأيام والليالي على تلك الصفة ، وقد صرّح لهم في الوعد
__________________
بأنها أربعون ليلة ، وإنما سمّاهم ظالمين لأنهم أشركوا بالله وخالفوا موعد
نبيهم عليهالسلام ، والجملة في موضع نصب على الحال. وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد عبادتكم العجل ، وسمّي العجل عجلا لاستعجالهم
عبادته كذا قيل ، وليس بشيء لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر. وقد كان جعله
لهم السامريّ على صورة العجل. وقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم من العفو عن ذنبكم
العظيم الذي وقعتم فيه. وأصل الشكر في اللغة : الظهور من قولهم : دابة شكور إذا
ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. قال الجوهري : الشكر : الثناء على
المحسن بما أولاك من المعروف ، يقال شكرته وشكرت له ، وباللام أفصح ، وقد تقدّم
معناه ، والشكران خلاف الكفران. والكتاب : التوراة بالإجماع من المفسرين. واختلفوا
في الفرقان ؛ وقال الفراء وقطرب : المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا الفرقان. وقد
قيل إن هذا غلط أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن وليس كذلك ، فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ
الْفُرْقانَ) وقال الزجّاج : إن الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره تأكيدا.
وحكي نحوه عن الفرّاء ، ومنه قول عنترة :
حيّيت من طلل
تقادم عهده
|
|
أقوى وأقفر
بعد أمّ الهيثم
|
وقيل : إن
الواو صلة ، والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان ، والواو قد تزاد في النعوت كقول
الشاعر :
إلى الملك
القرم وابن الهمام
|
|
وليث الكتيبة
في المزدحم
|
وقيل المعنى :
أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتابا وفارقا بين الحق والباطل ، وهو كقوله : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً
عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) وقيل : الفرقان : الفرق بينهم وبين قوم فرعون ، أنجى
هؤلاء وأغرق هؤلاء. وقال ابن زيد : الفرقان : انفراق البحر ؛ وقيل : الفرقان :
الفرج من الكرب ؛ وقيل : إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاه الله من العصا
واليد وغيرهما ، وهذا أولى وأرجح ، ويكون العطف على بابه كأنه قال : آتينا موسى
التوراة والآيات التي أرسلناه بها معجزة له. قوله : (يا قَوْمِ) القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء ، ومنه قول زهير
:
وما أدري
وسوف إخال أدري
|
|
أقوم آل حصن
أم نساء
|
ومنه قوله
تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ
مِنْ قَوْمٍ) ، ثم قال : (وَلا نِساءٌ مِنْ
نِساءٍ) ، ومنه : (وَلُوطاً إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ) أراد الرجال ، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) والمراد هنا بالقوم عبدة العجل. والبارئ : الخالق ،
وقيل إن البارئ هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدّر الناقل من حال إلى حال ،
وفي ذكر البارئ هنا إشارة إلى عظيم جرمهم : أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم
معه غيره. والفاء في قوله : (فَتُوبُوا) للسببية : أي لتسبب التوبة عن الظلم ، وفي قوله : (فَاقْتُلُوا) للتعقيب : أي اجعلوا القتل متعقبا للتوبة. قال القرطبي
: وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده ؛ قيل :
قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا ؛ وقيل : وقف الذين عبدوا العجل ودخل الذين
__________________
لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) قيل : في الكلام حذف ؛ أي فقتلتم أنفسكم فتاب عليكم :
أي على الباقين منكم. وقيل هو جواب شرط محذوف كأنه قال : فإن فعلتم فقد تاب عليكم.
وأما ما قاله صاحب الكشاف من أنه يجوز أن يكون خطابا من الله لهم على طريقة
الالتفات فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم ، فهو بعيد
جدا كما لا يخفى. وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قال : ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وقد أخرج ابن جرير
عنه في قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) قال : من بعد ما اتخذتم العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) قال : الكتاب هو الفرقان ، فرق بين الحق والباطل. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل
والزبور والقرآن. وأخرج ابن جرير عنه قال : أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا
أنفسهم ، واختبأ الذين عكفوا على العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل
فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت
الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت
له توبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : قالوا لموسى ما توبتنا؟ قال : يقتل
بعضكم بعضا ، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه لا يبالي من قتل ،
حتى قتل منهم سبعون ألفا ، فأوحى الله إلى موسى : مرهم فليرفعوا أيديهم ، وقد غفر
لمن قتل وتيب على من بقي. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة ، وأخرج أحمد في الزهد ،
وابن جرير ، عن الزهري نحوا مما سبق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله :
(إِلى بارِئِكُمْ) قال : خالقكم.
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ
وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما
رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))
قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ) هذه الجملة معطوفة على التي قبلها ، وظاهر السياق أن
القائلين هذه المقالة هم قوم موسى ، وقيل : هم السبعون الذين اختارهم ، وذلك أنهم
لما سمعوا كلام الله قالوا له بعد ذلك هذه المقالة ، فأرسل الله عليهم نارا
فأحرقتهم ، ثم دعا موسى ربّه فأحياهم ، كما قال تعالى هنا : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ
مَوْتِكُمْ) وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله. والجهرة : المعاينة
، وأصلها الظهور ، ومنه الجهر بالقراءة والمجاهرة بالمعاصي ؛ ورأيت الأمر جهرة
وجهارا ، أي غير مستتر بشيء ، وهي مصدر واقع موقع الحال. وقرأ ابن عباس جهرة بفتح
الهاء وهي لغتان مثل زهرة وزهرة ، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر.
والصاعقة : قد تقدم تفسيرها ، وقرأ عمر وعثمان وعليّ : الصّعقة وهي قراءة ابن
محيصن ، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) في محل نصب على الحال ، والمراد من هذا النظر الكائن
منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم لا آخرها الذي ماتوا
عنده ؛ وقيل : المراد بالصاعقة
الموت ، واستدل عليه بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير ، لأن المصعوق قد يموت
كما في هذه الآية ، وقد يغشى عليه ثم يفيق كما في قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ) ومما يوجب بعد ذلك قوله : (وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ) فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه
الجملة كبير معنى ، بل قد يقال : إنه لا يصح أن ينظروا الموت النازل بهم إلا أن
يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت. والمراد بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت ، وأصل البعث : الإثارة
للشيء من محله ، يقال : بعثت الناقة : أي أثرتها ، ومنه قول امرئ القيس :
وفتيان صدق
قد بعثت بسحرة
|
|
فقاموا جميعا
بين عاث ونشوان
|
وقول عنترة :
وصحابة شمّ
الأنوف بعثتهم
|
|
ليلا وقد مال
الكرى بطلاها
|
وإنما عوقبوا
بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا. وقد ذهبت
المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة ، وذهب من عداهم إلى
جوازها في الدنيا والآخرة ووقوعها في الآخرة. وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن
العباد يرون ربّهم في الآخرة ، وهي قطعية الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في
مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا : أن العقل
قد حكم بها دعوى مبنية على شفا جرف هار ، وقواعد لا يغترّ بها إلا من لم يحظ من
العلم النافع بنصيب ، وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية ،
وكلها خارج عن محل النزاع بعيد من موضع الحجة ، وليس هذا موضع المقال في هذه
المسألة. قوله : (وَظَلَّلْنا
عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أي جعلناه كالظلة. والغمام : جمع غمامة كسحابة وسحاب ،
قاله الأخفش. وقال الفرّاء : ويجوز غمائم. وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه
بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبّارين. والمنّ : قيل : هو
الترنجبين. قال النحاس : هو بتشديد الراء وإسكان النون ، ويقال : الطرنجبين بالطاء
، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وهو طلّ ينزل من السماء على شجر أو حجر ، ويحلو وينعقد
عسلا ، ويجفّ جفاف الصمغ ، ذكر معناه في القاموس ؛ وقيل : إن المنّ العسل ؛ وقيل :
شراب حلو ؛ وقيل : خبز الرقاق ؛ وقيل : إنه مصدر يعمّ جميع ما منّ الله به على
عباده من غير تعب ولا زرع ؛ ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد
بن زيد عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «أنّ الكمأة من المنّ الذي أنزل على موسى». وقد ثبت
مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي ، ومن حديث جابر وأبي سعيد وابن عباس
عند النسائي. والسلوى : قيل هو السّمانى ، كحبارى طائر يذبحونه فيأكلونه. قال ابن
عطية : السلوى طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي فقال :
وقاسمهما
بالله جهدا لأنتما
|
|
ألذّ من
السّلوى إذا ما نشورها
|
__________________
ظنّ أن السلوى
العسل. قال القرطبي : ما ادعاه من الإجماع لا يصح. وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة
والتفسير : إنه العسل. واستدل ببيت الهذلي ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة ، وأنشد :
لو شربت السّلوى ما
سلوت
|
|
ما بي غنى
عنك وإن غنيت
|
وقال الجوهري :
والسلوى العسل. قال الأخفش : السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشرّ ، وهو
يشبه أن يكون واحده سلوى. وقال الخليل : واحده سلواة ، وأنشد :
وإني لتعروني
لذكراك سلوة
|
|
كما انتفض
السّلواة من سلكه القطر
|
وقال الكسائي :
السلوى واحدة وجمعه سلاوى. وقوله : (كُلُوا) أي قلنا لهم كلوا ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : قلنا :
كلوا فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر فظلموا أنفسهم وما ظلمونا ، فحذف هذا لدلالة
: (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) عليه ، وتقديم الأنفس هنا يفيد الاختصاص. وقد أخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) قال : علانية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال
: هم السبعون الذين اختارهم موسى (فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ) قال : ماتوا (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) قال : فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله فيه
يوم القيامة ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر وكان معهم في التيه. وأخرج عبد بن
حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَظَلَّلْنا
عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : كان هذا الغمام في البرية ، ظلّل عليهم الغمام من
الشمس ، وأطعمهم المنّ والسلوى حين برزوا إلى البرية ، فكان المنّ يسقط عليهم في
محلتهم سقوط الثلج أشدّ بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر
إلى طلوع الشمس ، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه ليومه ذلك ، فإن تعدّى ذلك فسد ما يبقى
عنده ، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه فبقي
عنده ، لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء ، وهذا كله في
البرية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : المنّ شيء أنزل الله
عليهم مثل الطّل ، والسلوى طير أكبر من العصفور. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن أبي
حاتم عن مجاهد قال : المنّ صمغة ، والسلوى طائر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
السدي قال : قالوا يا موسى! كيف لنا بما هاهنا ، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم
المنّ فكان يسقط على الشجرة الترنجبين. وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المنّ؟ قال :
خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن
أنس قال : المنّ شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه
__________________
بالماء ثم يشربونه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان
المنّ ينزل عليهم بالليل على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا ـ والسلوى
طائر يشبه السمّانى كانوا يأكلون منه ما شاؤوا. وأخرج ابن جرير عنه نحوه. وأخرج
ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في السلوى مثله. وقد روي نحو ذلك عن جماعة
من التابعين ومن بعدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما ظَلَمُونا) قال نحن أعزّ من أن نظلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله : (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قال : يضرّون.
(وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا
الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ
لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا
يَفْسُقُونَ (٥٩))
قال جمهور
المفسرين : القرية : هي بيت المقدس ؛ وقيل : إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس ؛
وقيل : من قرى الشام. وقوله : (فَكُلُوا) أمر إباحة ـ و (رَغَداً) كثيرا واسعا ، وهو نعت لمصدر محذوف : أي أكلا رغدا ،
ويجوز أن يكون في موضع الحال ، وقد تقدم تفسيره. والباب الذي أمروا بدخوله : هو
باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطّة ؛ وقيل هو باب القبة التي كان يصلّي إليها
موسى وبنو إسرائيل. والسجود : قد تقدم تفسيره وقيل : هو هنا الانحناء ؛ وقيل :
التواضع والخضوع ، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو
وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به ، لأنه لا يمكن الدخول حال السجود
الحقيقي. وقال في الكشاف : إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله
وتواضعا. واعترضه أبو حيان في النهر المادّ فقال : لم يؤمروا بالسجود ، بل هو قيد
في وقوع المأمور به وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية.
انتهى. ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد ، فمن قال اخرج مسرعا فهو آمر
بالخروج على هذه الهيئة ، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفا للأمر. ولا
ينافي هذا كون الأحوال نسبا تقييدية ، فإن اتصافها بكونها قيودا مأمورا بها هو شيء
زائد على مجرد التقييد. وقوله : (حِطَّةٌ) بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ ، قال الأخفش
: وقرئت (حِطَّةٌ) نصبا على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة ؛ وقيل : معناها
الاستغفار ، ومنه قول الشاعر :
فاز بالحطّة
التي جعل الله
|
|
بها ذنب عبده
مغفورا
|
وقال ابن فارس
في المجمل : (حِطَّةٌ) كلمة أمروا بها ولو قالوها لحطّت أوزارهم. قال الرازي
في تفسيره : أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة ، وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا
يطلع الغير عليها ، وإذا اشتهر وأخذ بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن
شاهد منه الذنب ، لأن التوبة لا تتمّ إلا به. انتهى ، وكون التوبة لا تتم إلا بذلك
لا دليل عليه ، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا ،
وربما
كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عزوجل أحبّ إلى الله وأقرب إلى مغفرته. وأما رفع ما عند الناس
من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر. وقوله : يغفر لكم قرأه نافع بالياء
التحتية المضمومة ، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة وقرأه الباقون بالنون
وهي أولى. والخطايا جمع خطيئة بالهمز ، وقد تكلّم علماء العربية في ذلك بما هو
معروف في كتب الصرف. وقوله : (وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ) أي نزيدهم إحسانا على إحسانهم المتقدم ، وهو اسم فاعل
من أحسن. وقد ثبت في الصحيح «أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن الإحسان فقال : أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن
لم تكن تراه فإنّه يراك» وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) قيل : إنهم قالوا : حنطة ؛ وقيل غير ذلك. والصواب أنهم
قالوا :
حبة في شعرة ،
كما سيأتي مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم. وقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) هو من وضع الظاهر موضع المضمر لنكتة كما تقرّر في علم
البيان ، وهي هنا تعظيم الأمر عليهم وتقبيح فعلهم ، ومنه قول عديّ بن زيد :
لا أرى الموت
يسبق الموت شيء
|
|
نغّص الموت
ذا الغنى والفقيرا
|
فكرّر الموت في
البيت ثلاثا تهويلا لأمره وتعظيما لشأنه. وقوله : (رِجْزاً) بكسر الراء في قراءة الجميع إلا ابن محيصن فإنه قرأ بضم
الراء. والرجز : العذاب. والفسق : قد تقدم تفسيره. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير
وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (ادْخُلُوا هذِهِ
الْقَرْيَةَ) قال : بيت المقدس. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : هي
أريحاء قرية من بيت المقدس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (ادْخُلُوا الْبابَ) قال : باب ضيق (سُجَّداً) قال : ركعا. وقوله : (حِطَّةٌ) قال : مغفرة ، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة
استهزاء ، قال : فذلك قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الباب هو أحد أبواب
بيت المقدس ، وهو يدعى باب حطة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم ، والطبراني في الكبير ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود قال : قيل لهم : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) فدخلوا مقنعي رؤوسهم وقالوا حنطة : حبة حمراء فيها
شعيرة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : طأطئوا رؤوسكم (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : قولوا : لا إله إلا الله. وأخرج البيهقي في
الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : (قُولُوا : حِطَّةٌ) قال : لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال :
كان الباب قبل القبلة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجّدا وقولوا
حطّة ، فبدّلوا ؛ فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبّة في شعرة». وأخرج ابن جرير
وابن المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجّدا يزحفون
على أستاههم ، وهم يقولون حنطة في شعيرة» ، والأول أرجح لكونه في الصحيحين. وقد
أخرجه معهما من أخرج هذا الحديث الآخر : أعني ابن جرير وابن المنذر. وأخرج ابن أبي
شيبة عن عليّ قال : إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكباب
حطة في بني إسرائيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كل
شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب. وأخرج مسلم وغيره من حديث أسامة بن زيد
وسعد بن مالك وخزيمة بن ثابت قالوا : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ هذا الطاعون رجز وبقيّة عذاب عذّب به أناس من
قبلكم ، فإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ، وإذا بلغكم أنه بأرض فلا
تدخلوها».
(وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا
وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها
وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ
بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))
الاستسقاء إنما
يكون عند عدم الماء وحبس المطر. ومعناه في اللغة : طلب السقيا. وفي الشرع ما ثبت
عن النبي صلىاللهعليهوسلم في صفته من الصلاة والدعاء. والحجر يحتمل أن يكون حجرا
معينا فتكون اللام للعهد ، ويحتمل أن لا يكون معينا فتكون للجنس ، وهو أظهر في
المعجزة وأقوى للحجة. وقوله : (فَانْفَجَرَتْ) الفاء مترتبة على محذوف تقديره فضرب فانفجرت ،
والانفجار : الانشقاق ، وانفجر الماء انفجارا : تفتح ، والفجرة : موضع تفتح الماء.
قال ابن عطية : ولا خلاف أنه كان حجرا مربعا يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه
موسى سالت العيون ، وإذا استغنوا عن الماء جفّت. والمشرب : موضع الشرب ؛ وقيل هو
المشروب نفسه. وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم. قيل
كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها ، والأسباط ذرية الاثني عشر
من أولاد يعقوب. وقوله : (كُلُوا) أي قلنا لهم : كلوا المنّ والسلوى واشربوا الماء
المتفجر من الحجر. وعثا يعثي عثيا ، وعثي يعثو عثوا ، وعاث يعيث عيثا ، لغات : بمعنى
أفسد. وقوله : (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة. قال في القاموس : عثى كرمى ، وسعى ورضي ،
عثيّا وعثيّا وعثيانا ، وعثا يعثو عثوا : أفسد. وقال في الكشاف : العثي أشدّ
الفساد. فقيل لهم : لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم ، لأنهم كانوا متمادين فيه.
انتهى. وقوله : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى
طَعامٍ واحِدٍ) تضجّر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب والعيش
المستلذ ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش :
إنّ الشقيّ
بالشّقاء مولع
|
|
لا يملك
الرّدّ له إذا أتى
|
ويحتمل أن لا
يكون هذا منهم تشوقا إلى ما كانوا فيه ، ونظرا لما صاروا إليه من العيشة الرافهة ،
بل هو باب من تعنتهم ، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم ، وهجّيراهم في غالب ما قصّ علينا من أخبارهم
__________________
وقال الحسن البصري : إنهم كانوا أهل كرّات وأبصال وأعداس ، فنزعوا إلى
عكرهم : أي أصلهم عكر السوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) والمراد بالطعام الواحد هو : المنّ والسلوى ، وهما وإن
كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاما واحدا. وقيل :
لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما. ومن في قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ) تخرج. قال الأخفش : زائدة ، وخالفه سيبويه لكونها لا
تزاد في الكلام الموجب. قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا
ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولا ؛ والأولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سياق
الكلام ، أي : تخرج لنا مأكولا. وقوله : (مِنْ بَقْلِها) بدل من ما بإعادة الحرف ، والبقل : كل نبات ليس له ساق
، والشجر : ما له ساق. قال في الكشاف : البقل ما أنبتته الأرض من الخضر ، والمراد
به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكرّاث وأشباهها. انتهى.
والقثاء بكسر القاف وفتحها. والأولى قراءة الجمهور. والثانية قراءة يحيى بن وثاب
وطلحة بن مصرف وهو معروف. والفوم : قيل هو الثوم ، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء.
وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، وقيل : الفوم : الحنطة ، وإليه ذهب أكثر المفسرين ،
كما قال القرطبي. وقد رجّح هذا ابن النحاس. وقال الجوهري : الفوم الحنطة ، وممن
قال بهذا الزجاج والأخفش ، وأنشد :
قد كنت
أحسبني كأغنى واجد
|
|
نزل المدينة
عن زراعة فوم
|
وقال بالقول
الأوّل الكسائي والنضر بن شميل ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم
إذ ذاك ظاهرة
|
|
فيها الفراديس
والفومان والبصل
|
أي الثوم ،
وقال حسان :
وأنتم أناس
لئام الأصول
|
|
طعامكم الفوم
والحوقل
|
يعني الثوم
والبصل ؛ وقيل الفوم : السنبلة ؛ وقيل الحمص ، وقيل الفوم كل حبّ يخبز. والعدس
والبصل معروفان. والاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر و (أَدْنى) قال الزجاج : إنه مأخوذ من الدنوّ : أي القرب والمراد :
أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المنّ والسلوى اللذين هما خير منها من جهة
الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه ، والحلّ الذي لا تطرقه
الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله ، وقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) أي انزلوا ، وقد تقدّم معنى الهبوط. وظاهر هذا أن الله
أذن لهم بدخول مصر ؛ وقيل : إن الأمر للتعجيز لأنهم كانوا في التيه ، فهو مثل قوله
تعالى : (كُونُوا حِجارَةً
أَوْ حَدِيداً) ، وصرف مصر هنا مع اجتمع العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي
ساكن في الوسط ، وهو يجوز صرفه مع حصول السببين ، وبه قال الأخفش والكسائي. وقال
الخليل وسيبويه : إن ذلك لا يجوز ، وقالا : إنه لا علمية هنا لأنه أراد مصرا من
الأمصار ، ولم يرد المدينة المعروفة ؛ وهو خلاف الظاهر. وقرأ الحسن وأبان ابن تغلب
وطلحة بن مصرف بترك التنوين ، وهو كذلك في مصحف أبيّ وابن مسعود. ومعنى ضرب الذلة
__________________
والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاء مستمرا لا يفارقهم ولا ينفصل
عنهم ، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها ، ومنه قول
الفرزدق يهجو جريرا :
ضربت عليك
العنكبوت بنسجها
|
|
وقضى عليك به
الكتاب المنزل
|
وهو ضرب من
الهجاء بليغ ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة ، ومنه قول الشاعر
:
إنّ المروءة
والشّجاعة والنّدى
|
|
في قبّة ضربت
على ابن الحشرج
|
وهذا الخبر
الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أقمأهم الله أذلّ
الفرق وأشدّهم مسكنة وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رؤوسهم راية
، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصيّ في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل
عصر ، ومن تمسّك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أيّ مبلغ ، فهو متظاهر
بالفقر متردّ بأثواب المسكنة ، ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله ، إما بحق
كتوفير ما عليه من الجزية ، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجري على الله
بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه. ومعنى : (باؤُ) رجعوا ، يقال باء بكذا ، أي رجع به ، وباء إلى المباءة
: أي رجع إلى المنزل ، والبواء : الرجوع ، ويقال : هم في هذا الأمر بواء : أي سواء
: يرجعون فيه إلى معنى واحد ، وباء فلان بفلان : إذا كان حقيقا بأن يقبل به
لمساواته له ، ومنه قول الشاعر :
ألا تنتهي
عنّا ملوك وتتّقي
|
|
محارمنا لا
يبوؤ الدّم بالدّم
|
والمراد في
الآية أنهم رجعوا بغضب من الله ، أو صاروا أحقاء بغضبه ؛ وقد تقدم تفسير الغضب.
والإشارة بقوله (ذلِكَ) إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله
وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ، ولم يخرج هذا مخرج التقييد
حتى يقال : إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة ، بل
المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر. ويمكن أن يقال :
أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل ، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم
يعارضوهم في مال ولا جاه ، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا ، كما كان من شعيا
وزكريا ويحيى ، فإنهم قتلوهم وهم يعملون ويعتقدون أنهم ظالمون. وتكرير الإشارة
لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله ، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة
الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده ، وقيل يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى
الكفر والقتل ، فيكون ما بعدها سببا للسبب وهو بعيد جدا. والاعتداء : تجاوز الحدّ
في كل شيء.
وقد أخرج ابن
جرير عن ابن عباس في قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى
مُوسى لِقَوْمِهِ) قال ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيها اثنتا
عشرة عينا من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة
ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ) قال : لا تسعوا في الأرض فسادا. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية
مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعني ولا تمشوا بالمعاصي. وأخرج عبد
الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال :
لا تسيروا في الأرض مفسدين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله
: (لَنْ نَصْبِرَ عَلى
طَعامٍ واحِدٍ) قال : المنّ والسلوى استبدلوا به البقل وما حكي معه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَفُومِها) قال : الخبز ، وفي لفظ : البرّ ، وفي لفظ : الحنطة. وأخرج
ابن أبي حاتم عنه قال : الفوم : الثوم. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس مثله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ وثومها وروى ابن أبي الدنيا
عن ابن عباس أنه قال : قراءتي قراءة زيد ، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن
مسعود هذا أحدها من بقلها وقثّائها وثومها. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (الَّذِي هُوَ أَدْنى) قال : أردأ. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) قال مصرا من الأمصار. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية :
أنه مصر فرعون. وأخرج نحوه ابن أبي داود وابن الأنباري عن الأعمش. وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَضُرِبَتْ
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) قال : هم أصحاب الجزية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن
قتادة والحسن قال : ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، أي يعطون الجزية عن يد وهم
صاغرون. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : المسكنة : الفاقة. وأخرج ابن جرير عن
الضحّاك في قوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ
اللهِ) قال : استحقوا الغضب من الله. وأخرج عبد بن حميد عن
قتادة في قوله : (وَباؤُ) قال : انقلبوا. وأخرج أبو داود والطيالسي وابن أبي حاتم
عن ابن مسعود قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبيّ ثم يقيمون سوق
بقلهم في آخر النهار.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))
قيل : إن
المراد بالذين آمنوا : المنافقون ، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى
والصابئين ، أي آمنوا في الظاهر. والأولى أن يقال : إن المراد الذين صدّقوا النبي صلىاللهعليهوسلم وصاروا من جملة أتباعه ، وكأنه سبحانه أراد أن يبيّن أن
حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن
من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحقّ ما ذكره الله من الأجر ، ومن
فاته ذلك فاته الخير كله والأجر دقّه وجلّه. والمراد بالإيمان هاهنا هو ما بيّنه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال : «أن تؤمن
بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه» ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل
في الملة الإسلامية ، فمن لم يؤمن بمحمد صلىاللهعليهوسلم ولا بالقرآن فليس بمؤمن ، ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا
ولم يبق يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا. وقوله : (هادُوا) معناه صاروا يهودا ، قيل هو نسبة لهم إلى يهوذا بن يعقوب
، بالذال المعجمة فقلبتها العرب دالا مهملة ؛ وقيل : معنى هادوا : تابوا لتوبتهم
عن عبادة العجل ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ) أي تبنا ـ وقيل : إن معناه السكون والموادعة. وقال في
الكشاف : إن معناه دخل في اليهودية. والنصارى : قال سيبويه : مفردة نصران ونصرانة
كندمان وندمانة ، وأنشد شاهدا على ذلك قول
__________________
الشاعر :
تراه إذا دار
العشا متحنّفا
|
|
ويضحي لديه
وهو نصران شامس
|
وقال الآخر :
فكلتاهما
خرّت وأسجد رأسها
|
|
كما أسجدت
نصرانة لم تحنّف
|
قال : ولكن لا
يستعمل إلا بياء النسب فيقال : رجل نصرانيّ وامرأة نصرانية. وقال الخليل : واحد
النصارى نصريّ. وقال الجوهري : ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى ، ويقال
ناصرة ، وعلى هذا فالياء للنسب. وقال في الكشاف : إن الياء للمبالغة كالتي في
أحمريّ ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح. والصابئين : جمع صابئ ، وقيل : صاب. وقد
اختلف فيه القراء فهمزوه جميعا إلا نافعا ، فمن همزه جعله من صبأت النجوم : إذا
طلعت ، وصبأت ثنية الغلام : إذا خرجت. ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو : إذا مال ؛
والصابئ في اللغة : من خرج ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم
قد صبأ ، وسموا هذه الفرقة صابئة ، لأنها خرجت من دين اليهود والنصارى وعبدوا
الملائكة. وقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) في موضع نصب بدلا من الذين آمنوا وما بعده ، وقد تقدم
معنى الإيمان ، ويكون خبر إن قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ويجوز أن يكون قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) وهما جميعا خبر إن ، والعائد مقدّر في الجملة الأولى :
أي من آمن منهم ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقد تقدّم تفسير
قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال : سألت النبيّ عن
أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا) الآية. وأخرج الواحديّ عن مجاهد نحو ذلك. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن السدي في ذكر السبب بنحو ما سبق ، وحكى قصة طويلة. وأخرج
أبو داود في الناسخ والمنسوخ ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هادُوا) قال : فأنزل الله بعد هذا : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عليّ قال : إنما سميت
اليهود لأنهم قالوا : (إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : نحن أعلم من
أين سميت اليهودية؟ من كلمة موسى عليهالسلام : (إِنَّا هُدْنا
إِلَيْكَ) ولم تسمت النصارى بالنصرانية؟ من كلمة عيسى عليهالسلام : (كُونُوا أَنْصارَ
اللهِ) وأخرج أبو الشيخ نحوه عنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة :
إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن جرير عن ابن
عباس قال : إنما سميت النصارى لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة. وأخرج عبد الرزاق
وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الصابئون : فرقة بين اليهود
والنصارى ، والمجوس ليس لهم دين. وأخرج عبد الرزاق عنه قال : قال ابن عباس فذكر
نحوه. وقد روي في تفسير الصابئين غير هذا.
__________________
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ
الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً
لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))
قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا) هو في محل نصب بعامل مقدر هو اذكروا ، كما تقدم غير
مرة. وقد تقدّم تفسير الميثاق ، والمراد أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق ، بأن
يعملوا بما شرعه لهم في التوراة وبما هو أعمّ من ذلك أو أخصّ. والطور اسم الجبل
الذي كلم الله عليه موسى عليهالسلام وأنزل عليه التوراة فيه ؛ وقيل : هو اسم لكل جبل
بالسريانية. وقد ذكر كثير من المفسرين : أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله
بالألواح قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا إلا أن يكلمنا الله بها كما
كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، فأمر الله
الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله. وكذلك كان عسكرهم ، فجعل
عليهم مثل الظلة ، وأتوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل : لهم خذوها
وعليكم الميثاق أن لا تضيّعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، فسجدوا توبة لله وأخذوا
التوراة بالميثاق. قال ابن جرير عن بعض العلماء : لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم
ميثاق. قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان
، لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة. انتهى. وهذا تكلف ساقط حمله
عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره ،
وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه. ونحن نقول :
أكرههم الله على الإيمان فآمنوا مكرهين ، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان. وهو نظير
ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عن من تكلّم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزّه
حامله على رأسه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذرا عن قتله بأنه
قالها تقية ولم تكن عن قصد صحيح : «أأنت فتشت عن قلبه؟». وقال : «لم أومر أن أنقب
عن قلوب الناس» وقوله : (خُذُوا) أي وقلنا لكم : (خُذُوا ما
آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) والقوّة : الجدّ والاجتهاد. والمراد : ب (ذكر ما فيه) :
من أن يكون محفوظا عندهم ليعملوا به. قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أصل التولي الإدبار عن الشيء والإعراض بالجسم ، ثم
استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا ، والمراد هنا :
إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم ، وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد البرهان لهم ، والترهيب بأشد ما يكون وأعظم
ما تجوزه العقول وتقدره الأفهام ، وهو رفع الجبل فوق رؤوسهم كأنه ظلة عليهم. وقوله
: (فَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ) بأن تدارككم بلطفه ورحمته حتى أظهرتم التوبة لخسرتم.
والفضل : الزيادة. قال ابن فارس في المجمل : الفضل : الزيادة والخير ، والإفضال :
__________________
الإحسان. انتهى. والخسران : النقصان ، وقد تقدم تفسيره. والسبت في أصل
اللغة : القطع ، لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل ؛ وقيل : هو مأخوذ من السبوت ،
وهو الراحة والدعة. وقال في الكشاف : السبت : مصدر سبتت اليهود ، إذا عظمت يوم
السبت. انتهى. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين : ففرقة اعتدت
في السبت : أي جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه فصادوا السمك الذي نهاهم الله
عن صيده فيه ؛ والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين : ففرقة جاهرت بالنهي واعتزلت ؛
وفرقة لم توافق المعتدين ولا صادوا معهم لكنهم جالسوهم ولم يجاهروهم بالنهي ولا
اعتزلوا عنهم فمسخهم الله جميعا ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط ، وهذه من جملة
المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة وعاندوا أنبياءهم ، وما
زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم وسخف عقولهم وتعنتهم نوعا من أنواع التعسف ،
وشعبة من شعب التكلف ؛ فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله :
(إِذْ تَأْتِيهِمْ
حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ
كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) فاحتالوا لصيدها ، وحفروا الحفائر وشقوا الجداول ،
فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصيدونها يوم الأحد ، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة
الباطلة. والخاسئ : المبعد ، يقال : خسأته فخسأ وخسئ وانخسأ : أبعدته فبعد. ومنه
قوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ
الْبَصَرُ خاسِئاً) أي مبعدا. وقوله : (اخْسَؤُا فِيها) أي تباعدوا تباعد سخط ، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر.
والمراد هنا. كونوا [جامعين] بين المصير إلى أشكال القردة مع كونكم مطرودين صاغرين ،
فقردة خبر الكون. وخاسئين خبر آخر ؛ وقيل : إنه صفة لقردة والأوّل أظهر. واختلف في
مرجع الضمير في قوله : (فَجَعَلْناها) وفي قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْها
وَما خَلْفَها) فقيل : العقوبة ، وقيل : الأمة ، وقيل : القرية ، وقيل
: القردة ، وقيل : الحيتان ، والأول أظهر. والنكال : الزجر والعقاب ، والنكل :
القيد لأنه يمنع صاحبه ؛ ويقال للجام الدابة : نكل لأنه يمنعها ، والموعظة :
مأخوذة من الاتعاظ والانزجار ، والوعظ : التخويف. وقال الخليل : الوعظ التذكير
بالخير. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الطور : الجبل الذي أنزلت عليه
التوراة ، وكان بنو إسرائيل أسفل منه. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : الطور ما أنبت من الجبال
، وما لم ينبت فليس بطور. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) قال : أي بجد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي
العالية في قوله : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) قال : اقرءوا ما في التوراة واعملوا به. وأخرج ابن
إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) قال : لعلكم تنزعون عما أنتم عليه. وأخرج ابن جرير عنه
قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أي عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا) يقول : اجترءوا في السبت بصيد السمك ، فمسخهم الله قردة
بمعصيتهم ، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وأخرج
ابن المنذر عنه قال : القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا. وأخرج ابن المنذر عن
الحسن قال : انقطع ذلك النسل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : مسخت
قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله
__________________
لهم كقوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ
يَحْمِلُ أَسْفاراً) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال : أحلت
لهم الحيتان وحرّمت عليهم يوم السبت ليعلم من يطيعه ممن يعصيه فكان فيهم ثلاثة
أصناف ، وذكر نحو ما قدّمناه عن المفسرين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :
صار شباب القوم قردة ، والمشيخة صاروا خنازير. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله : (خاسِئِينَ) قال : ذليلين. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (خاسِئِينَ) قال : صاغرين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَجَعَلْناها نَكالاً
لِما بَيْنَ يَدَيْها) من القرى (وَما خَلْفَها) من القرى (وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ) الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عنه (فَجَعَلْناها) يعني الحيتان (نَكالاً لِما بَيْنَ
يَدَيْها وَما خَلْفَها) من الذنوب التي عملوا قبل وبعد. وأخرج ابن جرير عنه (فَجَعَلْناها) قال : جعلنا تلك العقوبة وهي المسخة (نَكالاً) عقوبة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) يقول : ليحذر من بعدهم عقوبتي (وَما خَلْفَها) يقول : للذين كانوا معهم (وَمَوْعِظَةً) قال : تذكرة وعبرة للمتقين.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا
هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ
لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا
فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا
ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها
بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ
شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ
تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ
جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))
قيل : إن قصة
ذبح البقرة المذكورة هنا مقدّم في التلاوة ومؤخر في المعنى على قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ويجوز أن يكون قوله : قتلتم مقدّما في النزول ، ويكون
الأمر بالذبح مؤخرا ، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله
أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه
ببعضها هذا على فرض أن الواو تقتضي الترتيب ؛ وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد
الجمع من دون ترتيب ولا معية ، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام ، والبقرة : اسم
للأنثى ، ويقال للذكر : ثور ؛ وقيل إنها تطلق عليهما ، وأصله من البقر وهو الشقّ
لأنها تشقّ الأرض بالحرث ، قال الأزهري : البقر اسم جنس ، وجمعه باقر. وقد قرأ
عكرمة ويحيى بن يعمر : إنّ الباقر تشابه علينا وقوله : (هُزُواً) الهزو هنا : اللعب والسخرية ، وقد تقدم تفسيره. وإنما
يفعل ذلك أهل الجهل لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء ، ولهذا أجابهم موسى
بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل. وقوله : (قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ) هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة ، فقد كانوا يسلكون
هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به ولو تركوا التعنت والأسئلة المتكلفة لأجزأهم
ذبح بقرة من عرض البقر ، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم كما سيأتي بيانه. والفارض
: المسنة ،
ومعناه في اللغة الواسع. قال في الكشاف : وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت
سنها : أي قطعتها وبلغت آخرها. انتهى. ويقال للشيء القديم : فارض ، ومنه قول
الراجز :
يا ربّ ذي
ضغن عليّ فارض
|
|
له قروء
كقروء الحائض
|
أي قديم ؛ وقيل
الفارض : التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها. والبكر : الصغيرة التي لم تحمل ،
وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل ، وتطلق أيضا على الأوّل
من الأولاد ، ومنه قول الراجز :
يا بكر بكرين
ويا خلب الكبد
|
|
أصبحت منّي
كذراع من عضد
|
والعوان :
المتوسطة بين سني الفارض والبكر ، وهي التي قد ولدت بطنا أو بطنين ؛ ويقال هي التي
قد ولدت مرة بعد مرة ، والإشارة بقوله : (بَيْنَ ذلِكَ) إلى الفارض والبكر ، وهما وإن كانتا مؤنثتين فقد أشير
إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور ، كأنه قال : بين ذلك المذكور وجاز دخول
بين المقتضية لشيئين [على المفرد] لأن المذكور متعدد. وقوله : (فَافْعَلُوا) تجديد للأمر ، وتأكيد له ، وزجر لهم عن التعنت ، فلم
ينفعهم ذلك ولا نجع فيهم ، بل رجعوا إلى طبيعتهم ، وعادوا إلى مكرهم واستمرّوا على
عادتهم المألوفة ، ف (قالُوا ادْعُ لَنا
رَبَّكَ). واللون : واحد الألوان ، وجمهور المفسرين على أنها
كانت جميعها صفراء. قال بعضهم : حتى قرنها وظلفها. وقال الحسن وسعيد بن جبير : إنها
كانت صفراء القرن والظلف فقط ، وهو خلاف الظاهر. والمراد بالصفرة هنا الصفرة
المعروفة. وروي عن الحسن أن صفراء معناه سوداء ، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها ،
وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو أقبح الألوان أنه يسرّ الناظرين ،
وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجري على الأسود
بوجه من الوجوه ، فإنهم يقولون في وصف الأسود : حالك وحلكوك ودجوجي وغربيب. قال
الكسائي : يقال فقع لونها يفقع فقوعا : إذا خلصت صفرته. وقال في الكشاف : الفقوع
أشدّ ما يكون من الصفرة وأنصعه. ومعنى (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجابا بها
واستحسانا للونها. قال وهب : كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، ثم لم ينزعوا عن
غوايتهم ولا ارعووا من سفههم وجهلهم ، بل عادوا إلى تعنتهم فقال : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما
هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي أن جنس البقر يتشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها
بالعوان الصفراء الفاقعة ، ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما دلّهم عليه ،
والامتثال لما أمروا به. (لا ذَلُولٌ) التي لم يذللها العمل : أي هي غير مذللة بالعمل ولا
ريّضة به. وقوله : (تُثِيرُ) في موضع رفع على الصفة لبقرة : أي هي بقرة لا ذلول
مثيرة ، وكذلك قوله : (وَلا تَسْقِي
الْحَرْثَ) في محل رفع لأنه وصف لها : أي ليست من النواضح التي
يسنى عليها لسقي الزروع ، وحرف النفي الآخر توكيد للأوّل : أي هي بقرة غير مذللة
بالحرث ولا بالنضح ، ولهذا قال الحسن : كانت البقرة
__________________
وحشية. وقال قوم : إنّ قوله : (تُثِيرُ) فعل مستأنف. والمعنى : إيجاب الحرث لها والنضح بها.
والأوّل أرجح ، لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة ، وقد نفى الله ذلك
عنها. وقوله : (مُسَلَّمَةٌ) مرتفع على أنه من أوصاف البقرة ، ويجوز أن يكون مرتفع
على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هي مسلمة. والجملة في محل رفع على أنها صفة ،
والمسلمة : هي التي لا عيب فيها ؛ وقيل مسلمة من العمل ، وهو ضعيف لأن الله سبحانه
قد نفى ذلك عنها ، والتأسيس خير من التأكيد ، والإفادة أولى من الإعادة. والشية
أصلها وشية ، حذفت الواو كما حذفت من يشي ، وأصله يوشي ، ونظيره الزنة والعدة
والصلة ، وهي مأخوذة من وشى الثوب : إذا نسج على لونين مختلفين ، وثور موشى : في
وجهه وقوائمه سواد. والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون
آخر. فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك ، ولا
تحتمل الشركة بوجه من الوجوه ، أقصروا من غوايتهم ، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا
بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم (قالُوا الْآنَ جِئْتَ
بِالْحَقِ) أي أوضحت لنا الوصف ، وبيّنت لنا الحقيقة التي يجب
الوقوف عندها ، فحصلوا على تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات (فَذَبَحُوها) وامتثلوا الأمر الذي كان يسرا فعسّروه ، وكان واسعا
فضيّقوه (وَما كادُوا
يَفْعَلُونَ) ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة
، فكان ذلك مظنة للاستبعاد ، ومحلا للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم ،
وقيل إنهم ما كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف ، وقيل لارتفاع
ثمنها ، وقيل لخوف انكشاف أمر المقتول ، والأوّل أرجح. وقد استدل جماعة من
المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل.
وليس ذلك عندي
بصحيح لوجهين : الأوّل : أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب
التقييد للمأمور به لا من باب النسخ ، وبين البابين بون بعيد كما هو مقرر في علم
الأصول. الثاني : أنا لو سلّمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه
دليل على ما قالوه ، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأوّل أن يعمدوا إلى بقرة من
عرض البقر فيذبحوها ، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفراء
، ولا دليل يدل على هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليهالسلام واقعة في لحظة واحدة ، بل الظاهر أن هذه الأسئلة
المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها ، ويديرون الرأي بينهم في أمرها ثم يوردونها ،
وأقلّ الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال.
وقد أخرج عبد
بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عبيدة
السلماني قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير ، وكان
ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدّعيه
عليهم حتى تسلّحوا ، وركب بعضهم إلى بعض ، فقال ذو الرأي منهم : علام يقتل بعضكم
بعضا ، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية ، قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ،
ولكنهم شدّدوا فشدّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند
رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله
لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا ، فأخذوها بملء جلدها ذهبا ، فذبحوها فضربوه
ببعضها ، فقام ، فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا ، لابن أخيه ، ثم مال ميتا ، فلم
يعط من ماله شيئا ، ولم يورّث قاتل بعده. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «من عاش
بعد الموت» عن ابن عباس : أن القتيل وجد بين قريتين ؛ وأن البقرة كانت لرجل كان
يبرّ أباه فاشتروها بوزنها ذهبا. وأخرج ابن جرير عنه نحوا من ذلك ، ولم يذكر ما
تقدم في البقرة. وقد روي في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة. وأخرج البزار
عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم أو
لأجزأت عنهم» وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو لا أن بني إسرائيل قالوا (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ما أعطوا أبدا ، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها
لأجزأت عنهم ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم» وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن
منصور وابن المنذر عن عكرمة يبلغ به النبي صلىاللهعليهوسلم. وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج يرفعه. وأخرجه ابن جرير
عن قتادة يرفعه أيضا ، وهذه الثلاثة مرسلة. وأخرج نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال :
الفارض : الهرمة ، والبكر : الصغيرة ، والعوان : النصف. وأخرج نحوه عن مجاهد.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) قال : بين الصغيرة والكبيرة ، وهي أقوى ما يكون وأحسنه.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ
لَوْنُها) قال : شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض. وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن عمر في قوله : (صَفْراءُ) قال : صفراء الظلف (فاقِعٌ لَوْنُها) قال : صافي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير
عن قتادة قال : (فاقِعٌ لَوْنُها) أي صاف (تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ) أي تعجب. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير
عن الحسن في قوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ
لَوْنُها) قال : سوداء شديدة السواد. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية
في قوله : (لا ذَلُولٌ) أي لم يذلها العمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) يعني ليس بذلول فتثير الأرض (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) يقول : ولا تعمل في الحرث (مُسَلَّمَةٌ) قال : من العيوب. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن
مجاهد. وقال : (لا شِيَةَ فِيها) لا بياض فيها ولا سواد. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (مُسَلَّمَةٌ) لا عوار فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة : (قالُوا : الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) قالوا : الآن بينت لنا : (فَذَبَحُوها وَما
كادُوا يَفْعَلُونَ) وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب في قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاء ثمنها.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ
آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))
قد تقدم ما
ذكرناه في قصة ذبح البقرة ، فيكون تقدير الكلام : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فقال موسى لقومه : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) إلى آخر القصة ، وبعدها : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِها) الآية. وقال الرازي في تفسيره : اعلم أن وقوع القتل لا
بد أن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن أنه
لا بدّ أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدما على الإخبار عن قصة
البقرة ، فقول من يقول هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ ،
لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في
الذكر فغير واجب لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك
، فكأنهم لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال :
وإذ قتلتم نفسا من قبل ، ونسب القتل إليهم بكون القاتل منهم ، وأصل ادّارأتم
تدارأتم ، ثم أدغمت التاء في الدال ، ولما كان الابتداء بالمدغم الساكن لا يجوز
زادوا ألف الوصل ؛ ومعنى ادّارأتم : اختلفتم وتنازعتم ، لأن المتنازعين يدرأ بعضهم
بعضا : أي يدفعه ، ومعنى (مُخْرِجٌ) مظهر : أي ما كتمتم بينكم من أمر القتل فالله مظهره
لعباده ومبينه لهم ، وهذه الجملة معترضة بين أجزاء الكلام : أي فادّارأتم فيها
فقلنا. واختلف في تعيين البعض الذي أمروا بأن يضربوا القتيل به ، ولا حاجة إلى ذلك
مع ما فيه من القول بغير علم ، ويكفينا أن نقول : أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها ،
فأيّ بعض ضربوا به فقد فعلوا ما أمروا به ، وما زاد على هذا فهو من فضول العلم إذا
لم يرد به برهان. قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ
الْمَوْتى) في الكلام حذف ، والتقدير : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) فأحياه الله (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ
الْمَوْتى) أي إحياء كمثل هذا الإحياء. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي علاماته ودلائله الدالة على كمال قدرته ، وهذا يحتمل
أن يكون خطابا لمن حضر القصة ، ويحتمل أن يكون خطابا للموجودين عند نزول القرآن.
والقسوة : الصلابة واليبس ، وهي عبارة عن خلوّها من الإنابة والإذعان لآيات الله
مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل وتكلمه وتعيينه لقاتله ،
والإشارة بقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إلى ما تقدم من الآيات الموجبة للين القلوب ورقتها. قيل
: (أَوْ) في قوله : (أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً) بمعنى الواو كما في قوله تعالى : (آثِماً أَوْ كَفُوراً) وقيل هي بمعنى بل ، وعلى أن «أو» على أصلها أو بمعنى
الواو ، فالعطف على قوله : (كَالْحِجارَةِ) أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة منها ،
فشبهوها بأيّ الأمرين شئتم فإنكم مصيبون في هذا التشبيه. وقد أجاب الرازي في
تفسيره عن وقوع «أو» هاهنا مع كونها للترديد ـ وهو لا يليق لعلام الغيوب ـ بثمانية
أوجه. وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشدّ مع كونه يصح أن يقال وأقسى من الحجارة ،
لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، كما قاله في الكشاف. وقرأ الأعمش «أو أشد» بنصب
الدال ، وكأنه عطفه على الحجارة ، فيكون أشدّ مجرورا بالفتحة. وقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) إلى آخره ، قال في الكشاف : إنه بيان لفضل قلوبهم على
الحجارة في شدّة القسوة وتقرير لقوله : (أَوْ أَشَدُّ
قَسْوَةً) انتهى. وفيه أن مجيء البيان بالواو غير معروف ولا مألوف
، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلا أو حالا. التفجر : التفتح ، وقد سبق تفسيره.
وأصل (يَشَّقَّقُ) يتشقق ، أدغمت التاء في الشين ،
__________________
وقد قرأ الأعمش يتشقّق على الأصل. وقرأ ابن مصرف ينشقّ بالنون ، والشق :
واحد الشقوق ، وهو يكون بالطول أو بالعرض ، بخلاف الانفجار ، فهو الانفتاح من موضع
واحد مع اتساع الخرق. والمراد : أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار
والانشقاق ، ومن الحجارة ما يهبط : أي ينحطّ من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه
من الخشية لله التي تداخله وتحل به ؛ وقيل : إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها ،
والتواضع الكائن فيها انقيادا لله عزوجل ، فهو مثل قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وقد حكى ابن جرير عن فرقة : أن الخشية للحجارة مستعارة
كما استعيرت الإرادة للجدار ، وكما قال الشاعر :
لما أتى خبر
الزبير تواضعت
|
|
سور المدينة
والجبال الخشّع
|
وذكر الجاحظ أن
الضمير في قوله : (وَإِنَّ مِنْها) راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة ، وهو فاسد ، فإن الغرض
من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط اليبس الموجبين
لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة ، التي هي أشدّ
الأجسام صلابة وأعظمها صلادة ، فإنها ترجع إلى نوع من اللين ، وهي تفجرها بالماء
وتشققها عنه وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك القلوب.
وفي قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى ، فإن الله عزوجل إذا كان عالما بما يعملونه مطلعا عليه غير غافل عنه كان
لمجازاتهم بالمرصاد.
وقد أخرج عبد
بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ) قال : اختلفتم فيها (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال : ما تغيبون. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب
الإيمان ، عن المسيب بن رافع قال : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله
، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها ، وتصديق ذلك في كتاب الله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ). وأخرج أحمد والحاكم وصحّحه ، عن أبي سعيد ، قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو أنّ رجلا عمل عملا في صخرة صمّاء لا باب لها ولا
كوّة خرج عمله إلى النّاس كائنا ما كان» وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من كانت له سريرة صالحة أو سيّئة أظهر الله عليه
منها رداء يعرف به» ورواه البيهقي أيضا بنحوه من قول عثمان قال : والموقوف أصحّ.
وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس مرفوعا حديثا طويلا في هذا المعنى ، ومعناه : أن
الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدّث به الناس ويزيدون ، ولو عمله في جوف بيت إلى
سبعين بيتا على كل بيت باب من حديد ، وفي إسناده ضعف. وأخرج ابن عديّ من حديث أنس
أيضا مرفوعا : «إنّ الله مرد كل امرئ رداء عمله». ولجماعة من الصحابة والتابعين
كلمات تفيد هذا المعنى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
بِبَعْضِها) قال : ضرب
__________________
بالعظم الذي يلي الغضروف. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة : أنهم ضربوه بفخذها.
وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وأخرج
ابن جرير عن السدي قال : ضرب بالبضعة التي بين الكتفين. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو
الشيخ في العظمة ، عن وهب بن منبّه قصة طويلة في ذكر البقرة وصاحبها لا حاجة إلى
التطويل بذكرها ، وقد استوفاها في الدرّ المنثور. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
قتادة في قوله : (ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) قال : من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ومن بعد ما
أراهم من أمر القتيل (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ثم عذر الله الحجارة ولم يعذر شقّي بني آدم فقال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) إلى آخر الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي
حاتم عن ابن عباس قال : أي من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إنّ الحجر ليقع
على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من النّاس ما استطاعوه ، وإنّه ليهبط من خشية الله.
(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ (٧٧))
وقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ) هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه آيسهم من إيمان
هذه الفرقة من اليهود. والخطاب لأصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أوله ولهم. و (يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أي لأجلكم ، أو على تضمين آمن معنى استجاب : أي أتطمعون
أن يستجيبوا لكم. والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه. و (كَلامَ اللهِ) أي التوراة ، وقيل : إنهم سمعوا خطاب الله لموسى حين
كلمه ، وعلى هذا فيكون الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى ، وقرأ الأعمش : «كلم
الله». والمراد من التحريف أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة ، فجعلوا حلاله
حراما أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم ، كتحريفهم صفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإسقاط الحدود عن أشرافهم ، أو سمعوا كلام الله لموسى
فزادوا فيه ونقصوا ، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر وإنكار على من طمع في
إيمانهم وحالهم هذه الحال : أي ولهم سلف حرّفوا كلام الله وغيّروا شرائعه وهم
مقتدون بهم متبعون سبيلهم. ومعنى قوله : (مِنْ بَعْدِ ما
عَقَلُوهُ) أي من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك
الذي فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من تبليغ شرائعه كما هي ، فهم وقعوا في
المعصية عالمين بها ، وذلك أشد لعقوبتهم وأبين لضلالهم. (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا (قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ) أي إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم
عاتبين عليهم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي حكم عليكم من العذاب ، وذلك أن ناسا من اليهود
أسلموا ثم نافقوا ، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذّب به آباؤهم ، وقيل :
إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد ،
وقد تقدم معنى خلا. والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، والفتّاح : القاضي
بلغة اليمن ، والفتح : النصر ، ومن ذلك قوله تعالى : (يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) ومن الأوّل (ثُمَّ يَفْتَحُ
بَيْنَنا بِالْحَقِ) (وَأَنْتَ خَيْرُ
الْفاتِحِينَ) أي الحاكمين ، ويكون الفتح بمعنى الفرق بين الشيئين ،
والمحاجّة : إبراز الحجة ، أي لا تخبروهم بما حكم الله به عليكم من العذاب فيكون
ذلك حجة لهم عليكم فيقولون : نحن أكرم على الله منكم وأحقّ بالخير منه. والحجّة ،
الكلام المستقيم ، وحاججت فلانا فحججته أي غلبته بالحجة. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما فيه الضرر عليكم من هذا التحدث الواقع منكم لهم. ثم
وبّخهم الله سبحانه : (أَوَلا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) من جميع أنواع الإسرار وأنواع الإعلان ، ومن ذلك
إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ثم قال الله لنبيه ومن معه من المؤمنين
يؤيسهم منهم (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) وليس قوله : يسمعون التوراة كلهم قد سمعها ، ولكنهم
الذين سألوا موسى رؤية ربهم ، فأخذتهم الصاعقة فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن قتادة في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ) الآية. قال : هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله
يحرّفونه من بعد ما سمعوه ووعوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) الآية ، قال : الذين يحرّفونه والذين يكتبونه هم العلماء
منهم ، والذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم هؤلاء كلهم يهود. وأخرج ابن جرير عن
ابن عباس قال : (يَسْمَعُونَ كَلامَ
اللهِ) قال : هي التوراة حرفوها. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن
ابن عباس في قوله : (وَإِذا لَقُوا
الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا) أي : بصاحبكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكنه إليكم خاصة (وَإِذا خَلا
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا فقد كنتم تستفتحون به
عليهم ، وكان منهم (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي تقرّون بأنه نبيّ وقد علمتم أنه قد أخذ عليكم
الميثاق باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبيّ الذي كان ينتظر ، ونجد في كتابنا :
اجحدوه ولا تقرّوا به. وأخرج ابن جرير عنه أن هذه الآية في المنافقين من اليهود
وقوله : (بِما فَتَحَ اللهُ
عَلَيْكُمْ) يعني بما أكرمكم به. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
السدي قال : نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا ، وكانوا يحدثون
المؤمنين من العرب بما عذبوا به فقال بعضهم لبعض : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم
من العذاب لتقولوا نحن أحبّ إلى الله منكم وأكرم على الله منكم. وقد أخرج ابن جرير
عن ابن زيد أن سبب نزول الآية : أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يدخلنّ علينا قصبة المدينة إلا مؤمن ، فكان
اليهود يظهرون الإيمان فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار ، وكان المؤمنون يقولون
لهم : أليس قد قال الله في التوراة كذا وكذا؟» فيقولون : نعم ، فإذا رجعوا إلى
قومهم (قالُوا : أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) الآية ، وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن مجاهد أن سبب نزول الآية «أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم فقال : يا إخوان القردة
والخنازير ويا عبدة الطّاغوت ، فقالوا : من أخبر هذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا
الأمر إلا منكم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ
بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ)» أي بما حكم الله ليكون
__________________
لهم حجّة عليكم. وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن السبب في نزول الآية : «أنّ
امرأة من اليهود أصابت فاحشة ، فجاؤوا إلى النّبي صلىاللهعليهوسلم يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة ، فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عالمهم وهو ابن صوريا فقال له : احكم ... قال : فجبّوه
، والتجبية : يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أبحكم الله حكمت؟ قال : لا ، ولكن نساءنا كنّ حسانا
فأسرع فيهنّ رجالنا فغيّرنا الحكم ، وفيه نزل : (وَإِذا خَلا
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) الآية» وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا
: آمَنَّا) فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) نهى بعضهم بعضا أن يحدثوا بما فتح الله عليهم وبيّن لهم
في كتابه من أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ونعته ونبوّته وقالوا : إنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا بذلك
عليكم عند ربكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) قال : ما يعلنون من أمرهم وكلامهم إذا لقوا الذين آمنوا
، وما يسرّون إذا خلا بعضهم إلى بعض من كفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم. وأخرج ابن جرير
عن أبي العالية في قوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يعني من كفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ولكذبهم ، وما يعلنون حين قالوا للمؤمنين آمنا ، وقد
قال بمثل هذا جماعة من السلف.
(وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ
يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ
لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً
وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
(٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))
قوله : (وَمِنْهُمْ) أي من اليهود. والأميّ منسوب إلى الأمة الأمية التي هي
على أصل ولادتها من أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا تحسن القراءة للمكتوب ، ومنه
حديث «إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب» وقال أبو عبيدة : إنما قيل لهم أميون لنزول
الكتاب عليهم كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب ، فكأنه قال : ومنهم أهل الكتاب ، وقيل :
هم نصارى العرب ؛ وقيل : هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ؛ وقيل
: هم المجوس ؛ وقيل غير ذلك والراجح الأوّل. ومعنى (لا يَعْلَمُونَ
الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) أنه لا علم لهم به إلا ما هم عليه من الأمانيّ التي
يتمنونها ويعلّلون بها أنفسهم. والأماني : جمع أمنية وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه
، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم لا يكتبون ولا
يقرءون المكتوب ، والاستثناء منقطع : أي لكن الأمانيّ ثابتة لهم من كونهم مغفورا
لهم بما يدّعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة ، أو بما لهم من السلف الصالح في
اعتقادهم ؛ وقيل الأمانيّ الأكاذيب كما سيأتي عن ابن عباس. ومنه قول عثمان بن
عفان : ما تمنيت منذ أسلمت : أي ما كذبت ، حكاه عنه القرطبي في تفسيره ،
وقيل : الأمانيّ : التلاوة ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته ، أي لا علم لهم إلا
مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر ، ومنه قول كعب بن مالك :
تمنّى كتاب
الله أوّل ليله
|
|
وآخره لاقى
حمام المقادر
|
وقال آخر :
تمنّى كتاب
الله آخر ليله
|
|
تمنّى داود
الزّبور على رسل
|
وقيل : الأماني
: التقدير. قال الجوهري : يقال : منّى له : أي قدّر ، ومنه قول الشاعر :
لا تأمننّ
وإن أمسيت في حرم
|
|
حتّى تلاقي
ما يمني لك الماني
|
أي يقدر لك
المقدر. قال في الكشاف : والاشتقاق من منى إذا قدّر ، لأن المتمني يقدر في نفسه
ويجوّز ما يتمناه ، وكذلك المختلق والقارئ يقدران كلمة كذا بعد كذا. انتهى. (وَإِنْ) في قوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ) نافية : أي ما هم ، والظنّ : هو التردد الراجح بين طرفي
الاعتقاد الغير الجازم ، كذا في القاموس ، أي ما هم إلا يترددون بغير جزم ولا يقين
؛ وقيل : الظن هنا بمعنى الكذب ؛ وقيل : هو مجرد الحدس. لما ذكر الله سبحانه أهل
العلم منهم بأنهم غير عاملين بل يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ،
ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلمون على الأمانيّ ويعتمدون على الظن الذي لا يقفون
من تقليدهم على غيره ولا يظفرون بسواه. والويل : الهلاك. وقال الفرّاء : الأصل في
الويل وي : أي حزن ، كما تقول : وي لفلان : أي حزن له ، فوصلته العرب باللام ، قال
الخليل : ولم نسمع على بنائه إلا ويح ، وويس ، وويه ، وويك ، وويب ، وكله متقارب
في المعنى ، وقد فرّق بينها قوم وهي مصادر لم ينطق العرب بأفعالها ، وجاز الابتداء
به وإن كان نكرة لأن فيه معنى الدعاء. والكتابة معروفة ، والمراد : أنهم يكتبون
الكتاب المحرّف ولا يبينون ولا ينكرونه على فاعله. وقوله : (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد لأن الكتابة لا تكون إلا باليد فهو مثل قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) قوله : (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ) وقال ابن السراج : هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن
ينزل عليهم. وفيه أنه قد دلّ على أنه من تلقائهم قوله : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك. والاشتراء : الاستبدال
، وقد تقدّم الكلام عليه ، ووصفه بالقلة لكونه فانيا لا ثواب فيه ، أو لكونه حراما
لا تحلّ به البركة ، فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف ولا بالكتابة لذلك المحرّف
حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله ، لينالوا بهذه المعاصي المتكرّرة هذا
الغرض النزير والعوض الحقير. وقوله : (مِمَّا يَكْسِبُونَ) قيل : من الرشا ونحوها ؛ وقيل : من المعاصي ، وكرر
الويل تغليظا عليهم وتعظيما لفعلهم وهتكا لأستارهم (وَقالُوا) أي اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ) الآية. وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي بيانه.
والمراد بقوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ
عِنْدَ اللهِ عَهْداً) الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها
لن تمسهم النار إلا أياما معدودة : أي لم يتقدّم لكم مع الله عهد بهذا ، ولا
أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه
__________________
الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك وعدم إخلاف العهد : أي إن اتخذتم عند الله
عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون. قال في الكشاف : و «أم»
إما أن تكون معادلة بمعنى أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير ، لأن العلم واقع
بكون أحدهما ، ويجوز أن تكون منقطعة. انتهى ، وهذا توبيخ لهم شديد. قال الرازي في
تفسيره : العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد ، وإنما سمّى خبره سبحانه عهدا لأن
خبره أوكد من العهود المؤكدة. وقوله : (بَلى) إثبات بعد النفي : أي بلى تمسكم لا على الوجه الذي
ذكرتم من كونه أياما معدودة. والسيئة : المراد بها الجنس هنا ، ومثله قوله تعالى :
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في
النار ، بل لا بد أن تكون سيئته محيطة به ؛ قيل هي الشرك وقيل الكبيرة. وتفسيرها
بالشرك أولى لما ثبت في السنة تواترا من خروج عصاة الموحدين من النار ، ويؤيد ذلك
كونها نازلة في اليهود وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرأ نافع
(خطيئاته) بالجمع ، وقرأ الباقون بالإفراد ، وقد تقدم تفسير الخلود.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) قال : لا يدرون ما فيه (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ) قال : وهم يجحدون نبوّتك بالظن. وأخرج ابن جرير عنه قال
: الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ، ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا
بأيديهم ، ثم قالوا لقوم سفلة جهّال هذا من عند الله. وقد أخبر أنهم يكتبون
بأيديهم ، ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله. وأخرج ابن جرير عن النخعي قال :
منهم من لا يحسن أن يكتب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله : (إِلَّا أَمانِيَ) قال : الأحاديث. وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب. وكذا
روى مثله عبد ابن حميد عن مجاهد ، وزاد (وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ) قال : إلا يكذبون. وأخرج النسائي وابن المنذر عن ابن
عباس في قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) قال : نزلت في أهل الكتاب. وأخرج أحمد والترمذي وابن
حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ، وصحّحه عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ويل : واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين
خريفا قبل أن يبلغ قعره» وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعا قال : «الويل : جبل
في النار» وأخرج البزار وابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا أنه حجر في
النار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) قال : هم أحبار اليهود ، وجدوا صفة النبي صلىاللهعليهوسلم مكتوبة في التوراة أكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه
، فلما وجدوه في التوراة محوه حسدا وبغيا ، فأتاهم نفر من قريش فقالوا : تجدون في
التوراة نبيا أميا؟ فقالوا : نعم نجده طويلا أزرق سبط الشعر ، فأنكرت قريش وقالوا
: ليس هذا منا. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (ثَمَناً قَلِيلاً) قال : عرضا من عرض الدنيا (فَوَيْلٌ لَهُمْ) قال : فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك
الكذب (وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ) يقول : مما يأكلون به ، الناس السفلة وغيرهم. وقد ذكر
صاحب الدرّ المنثور آثارا عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه
الآية ، ولا دلالة فيها على ذلك ، ثم ذكر آثارا عن جماعة منهم أنهم جوّزوا ذلك ولم
يكرهوه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والطبراني والواحدي عن ابن عباس : أن اليهود كانوا يقولون مدة
الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في
النار ، وإنما هي سبعة أيام معدودة ، ثم ينقطع العذاب ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال :
وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا : لن يعذب أهل النار
إلا قدر أربعين ، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار فساروا فيها حتى انتهوا
إلى سقر ، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة ، فقال لهم خزنة
النار : يا أعداء الله! زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياما معدودة ، فقد
انقضى العدد وبقي الأبد ، فيؤخذون في الصعود يرهقون على وجوههم. وأخرج ابن جرير
عنه أن اليهود قالوا : لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل. وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : اجتمعت يهود يوما
فخاصموا النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات أربعين
يوما. ثم يخلفنا فيها ناس ، وأشاروا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وردّ يديه على رأسه : «كذبتم بل أنتم خالدون مخلّدون
فيها ، لا نخلفكم فيها إن شاء الله أبدا. ففيهم نزلت هذه الآية (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ)» وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم مرفوعا نحوه. وأخرج
أحمد والبخاري والدارمي والنسائي من حديث أبي هريرة «أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم سأل اليهود في خيبر : من أهل النار؟ فقالوا : نكون فيها
يسيرا ، ثم تخلفونا فيها ، فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اخسئوا ، والله لا نخلقكم فيها أبدا». وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ
عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أي موثقا من الله بذلك أنه كما تقولون. وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس أنه فسّر العهد هنا بأنهم قالوا : لا إله إلا الله ، لم يشركوا به ولم
يكفروا. وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة في قوله : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى
اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) قال : قال القوم : الكذب والباطل. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً) قال : الشرك. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة
مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ) قال : أحاط به شركه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم في قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً) أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط
كفره بما له من حسنة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي من آمن بما كفرتم به وعمل بما تركتم من دينه فلهم
الجنة خالدين فيها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وأحاطت به خطيئته) قال
: هي الكبيرة الموجبة لأهلها النار. وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن أنه قال : كل
ما وعد الله عليه النار فهو الخطيئة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير
عن الربيع بن خثيم قال : هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب. وأخرج مثله ابن
جرير عن الأعمش.
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً مِنْكُمْ
وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا
تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما
جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا
بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))
قد تقدّم تفسير
الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل. وقال مكّي : إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم
هنا هو : ما أخذه الله عليهم في حياتهم على ألسن أنبيائهم ، وهو قوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) وعبادة الله : إثبات توحيده ، وتصديق رسله ، والعمل بما
أنزل في كتبه. قال سيبويه : إن قوله : (لا تَعْبُدُونَ
إِلَّا اللهَ) هو جواب قسم ، والمعنى ، استحلفناهم : والله لا تعبدون
إلا الله ، وقيل : هو إخبار في معنى الأمر ، ويدل عليه قراءة أبيّ وابن مسعود : لا
تعبدوا على النهي ويدل عليه أيضا ما عطف عليه من قوله : (وَقُولُوا وَأَقِيمُوا وَآتُوا) وقال قطرب والمبرّد : إن قوله : (لا تَعْبُدُونَ) جملة حالية : أي أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين.
قال القرطبي : وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي يعبدون بالياء
التحتية. وقال الفراء والزجاج وجماعة : إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا
الله وبأن تحسنوا بالوالدين ، وبأن لا تسفكوا الدماء : ثم حذف أن فارتفع الفعل
لزوالها. قال المبرّد : هذا خطأ ، لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا.
وقال القرطبي : ليس بخطإ بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد :
ألا أيّهذا
الزّاجريّ أحضر الوغى
|
|
وأن أشهد
اللّذات هل أنت مخلدي
|
بالنصب لقوله
أحضر وبالرفع. والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما وامتثال
أمرهما ، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق. والقربى : مصدر
كالرجعى والعقبى ، هم القرابة ـ والإحسان بهم : صلتهم والقيام بما يحتاجون إليه
بحسب الطاقة وبقدر ما تبلغ إليه القدرة. واليتامى : جمع يتيم ، واليتيم في بني آدم
: من فقد أبوه. وفي سائر الحيوانات : من فقدت أمه. وأصله الانفراد ـ يقال : صبيّ
يتيم : أي منفرد من أبيه. والمساكين : جمع مسكين ، وهو من أسكنته الحاجة وذللته ،
وهو أشد فقرا من الفقير عند أكثر أهل اللغة وكثير من أهل الفقه. وروي عن الشافعي
أن الفقير أسوأ حالا من المسكين. وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في
مواطنها. ومعنى قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً) أي قولوا لهم قولا حسنا ، فهو صفة مصدر محذوف ، وهو
مصدر كبشرى. وقرأ حمزة والكسائي : (حُسْناً) بفتح الحاء والسين. وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود. قال
الأخفش : هما بمعنى واحد ، مثل البخل والبخل ، والرّشد والرّشد وحكى الأخفش أيضا
حسنى بغير تنوين على فعلى. قال النحاس : وهذا لا يجوز في العربية ، لا يقال من هذا
شيء إلا بالألف واللام ، نحو الفضلى والكبرى والحسنى
وهذا قول سيبويه. وقرأ عيسى بن عمر حسنا بضمتين. والظاهر أن هذا القول الذي
أمرهم الله به لا يختص بنوع معين ، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعا كان من جملة ما
يصدق عليه هذا الأمر. وقد قيل : إن ذلك هو كلمة التوحيد ، وقيل : الصدق ، وقيل :
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : غير ذلك. وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) قد تقدّم تفسيره ، وهو خطاب لبني إسرائيل ، فالمراد
الصلاة التي كانوا يصلّونها ، والزكاة التي كانوا يخرجونها. قال ابن عطية :
وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يقبل ، ولا تنزل على ما لا
يقبل. وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) قيل : الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبيّ صلىاللهعليهوسلم لأنهم مثل سلفهم في ذلك ، وفيه التفات من الغيبة إلى
الخطاب. وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) منصوب على الاستثناء ، ومنهم عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقوله : (وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ) في موضع النصب على الحال ، والإعراض والتولّي بمعنى
واحد ، وقيل : التولّي بالجسم ، والإعراض بالقلب. وقوله : (لا تَسْفِكُونَ) الكلام فيه كالكلام في : لا تعبدون ، وقد سبق. وقرأ
طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء ، وهي لغة. وقرأ أبو نهيك بضم التاء
وتشديد الفاء وفتح السين. والسفك : الصبّ ، وقد تقدّم ؛ والمراد أنه لا يفعل ذلك
بعضهم ببعض. والدار : المنزل الذي فيه أبنية المقام ، بخلاف منزل الارتحال. وقال
الخليل : كل موضع حلّه قوم فهو دار لهم وإن لم يكن فيه أبنية ؛ وقيل سميت دارا
لدورها على سكانها ، كما يسمّى الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه. وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) من الإقرار : أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق
المأخوذ عليكم في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك ؛ قيل : الشهادة هنا بالقلوب وقيل :
هي بمعنى الحضور. أي أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك ، وكان الله سبحانه قد أخذ
في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه. وقوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله
عليكم في التوراة فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية ؛ وقيل : إن هؤلاء منصوب بإضمار
أعني ؛ ويمكن أن يقال : منصوب بالذم أو الاختصاص : أذمّ أو أخص. وقال القتبي : إن
التقدير يا هؤلاء. قال النحاس : هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز. وقال الزجّاج :
هؤلاء بمعنى الذين ، أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل : هؤلاء مبتدأ وأنتم : خبر
مقدّم ، وقرأ الزهري : (تقتلون) مشدّدا ، فمن جعل قوله : (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) مبتدأ وخبرا جعل قوله : (تَقْتُلُونَ) بيانا لأن معنى قوله : (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق. ومن جعل
هؤلاء منادى أو منصوبا بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده. وقوله : تظّاهرون
بالتشديد ، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج ، وهي
قراءة أهل مكة. وقرأ أهل الكوفة : (تَظاهَرُونَ) مخففا بحذف التاء الثانية ، لدلالة الأولى عليها. وأصل
المظاهرة : المعاونة ، مشتقة من الظهر لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر ، ومنه
قول الشاعر :
تظاهرتم من
كلّ أوب ووجهة
|
|
على واحد لا
زلتم قرن واحد
|
ومنه قوله
تعالى : (وَكانَ الْكافِرُ
عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) . و (أُسارى) حال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول : ما صار في
أيديهم فهو أسارى ، وما جاء مستأسرا
__________________
فهو الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو. وإنما هذا كما تقول سكارى
وسكرى. وقد قرأ حمزة أسرى. وقرأ الباقون (أُسارى) والأسرى جمع أسير كالقتلى جمع قتيل والجرحى جمع جريح.
قال أبو حاتم : ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج : يقال : أسارى كما يقال : سكارى.
وقال ابن فارس : يقال في جمع أسير أسرى وأسارى انتهى. فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر
ما ثبت في التنزيل. وقرأ به الجمهور ، والأسير مشتق من السير ، وهو القيد الذي
يشدّ به المحمل ، فسمّي أسيرا لأنه يشدّ وثاقه ، والعرب تقول : قد أسر قتبه : أي
شدّه ، ثم سمي كل أخيذ أسيرا وإن لم يؤخذ. وقوله : (تُفادُوهُمْ) جواب الشرط ، وهي قراءة حمزة ونافع والكسائي ، وقرأ
الباقون تفدوهم. والفداء : هو ما يؤخذ من الأسير ليفكّ به أسره ، يقال فداه وفاداه
: إذا أعطاه فداءه. قال الشاعر :
قفي فادي
أسيرك إنّ قومي
|
|
وقومك ما أرى
لهم اجتماعا
|
وقوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْراجُهُمْ) الضمير للشأن ، وقيل : مبهم تفسيره الجملة التي بعده ،
وزعم الفرّاء أن هذا الضمير عماد ، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أوّل
الكلام. و (إِخْراجُهُمْ) مرتفع بقوله : (مُحَرَّمٌ) سادّ مسدّ الخبر ، وقيل بل مرتفع بالابتداء ومحرّم
خبره. قال المفسرون : كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود : ترك
القتل ، وترك الإخراج ، وترك المظاهرة ، وفداء أسراهم ؛ فأعرضوا عن كل ما أمروا به
إلا الفداء ، فوبّخهم الله على ذلك بقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ). والخزي : الهوان. قال الجوهري : وخزي بالكسر يخزى خزيا
: إذا ذل وهان ، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفرا ،
فصاروا في خزي عظيم بما ألصق بهم من الذلّ والمهانة بالقتل والأسر وضرب الجزية
والجلاء ، وإنما ردّهم الله يوم القيامة إلى أشدّ العذاب لأنهم جاءوا بذنب شديد
ومعصية فظيعة. وقد قرأ الجمهور يرودن بالياء التحتية. وقرأ الحسن بالفوقية على
الخطاب. وقد تقدّم تفسير قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) وكذلك تفسير (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا) وقوله : (فَلا يُخَفَّفُ) إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب
موفر لازم لهم بالجزية والصغار والذلة والمهانة ، فلا يخفف عنهم ذلك أبدا ما داموا
، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم ، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدوّهم.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) قال : يؤنبهم ، أي ميثاقكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس
في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً) قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى البيهقي
في الشعب عن عليّ في قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْناً) قال : يعني الناس كلهم ، ومثله روى عبد بن حميد وابن
جرير عن عطاء. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) قال : أي تركتم ذلك كله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال :
معناه أعرضتم عن طاعتي إلا قليلا منكم وهم الذي اخترتهم لطاعتي. وأخرج ابن جرير عن
أبي العالية في قوله : (لا تَسْفِكُونَ
دِماءَكُمْ) لا يقتل بعضكم بعضا (وَلا تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) لا يخرج بعضكم بعضا من الديار (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بهذا الميثاق (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) وأنتم شهود.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) أن هذا حق من ميثاقي عليكم (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنْفُسَكُمْ) أي أهل الشرك حتى تسفكوا دماءكم معهم (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ
دِيارِهِمْ) قال : تخرجونهم من دياركم معهم (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ) فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت معهم بنو
قينقاع مع الخزرج ، والنضير وقريظة مع الأوس وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على
إخوانه حتى يسافكوا دماءهم ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في
التوراة (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ
أُسارى تُفادُوهُمْ) وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم (وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ) في كتابكم (إِخْراجُهُمْ ، أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أتفادونهم مؤمنين بذلك ، وتخرجونهم كفرا بذلك. وأخرج ابن جرير عن قتادة في
قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) قال : استحبّوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ
بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))
الكتاب :
التوراة ، والتقفية : الإتباع والإرداف ، مأخوذة من القفا وهو مؤخر العنق ، تقول :
استقفيته : إذا جئت من خلفه ، ومنه سميت قافية الشعر لأنها تتلو سائر الكلام.
والمراد أن الله سبحانه أرسل على أثره رسلا جعلهم تابعين له وهم أنبياء بني
إسرائيل المبعوثون من بعده. و (الْبَيِّناتِ) الأدلة التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة. والتأييد
: التقوية. وقرأ مجاهد وابن محيصن آيّدناه بالمدّ وهما لغتان. وروح القدس من إضافة
الموصوف إلى الصفة : أي الروح المقدّسة. والقدس : الطهارة ، والمقدّس : المطهر ،
وقيل : هو جبريل أيّد الله به عيسى ، ومنه قول حسان :
وجبريل أمين
الله فينا
|
|
وروح القدس
ليس به خفاء
|
قال النحاس :
وسمّي جبريل روحا وأضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة ، وقيل : القدس
هو الله عزوجل ، وروحه جبريل. وقيل : المراد بروح القدس : الاسم الذي
كان عيسى يحيي به الموتى ، وقيل : المراد به الإنجيل ؛ وقيل : المراد به الروح
المنفوخ فيه ، أيده الله به لما فيه من القوّة. وقوله : (بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) أي بما لا يوافقها ويلائمها ، وأصل الهوى : الميل إلى
الشيء. قال الجوهري : وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار. وبّخهم الله
سبحانه بهذا الكلام المعنون بهمزة التوبيخ فقال :
__________________
(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ
رَسُولٌ) منكم (بِما لا) يوافق ما تهوونه استكبرتم عن إجابته احتقارا للرسل
واستبعادا للرسالة ، والفاء في قوله : (أَفَكُلَّما) للعطف على مقدّر أي آتيناكم يا بني إسرائيل من الأنبياء
ما آتيناكم أفكلما جاءكم رسول. وفريقا منصوب بالفعل الذي بعده والفاء للتفصيل ،
ومن الفريق المكذّبين : عيسى ومحمد ، ومن الفريق المقتولين : يحيى وزكريا. والغلف
: جمع أغلف ، المراد به هنا : الذي عليه غشاوة تمنع من وصول الكلام إليه ، ومنه
غلّفت السيف : أي جعلت له غلافا. قال في الكشاف : هو مستعار من الأغلف الذي لم
يختن كقوله : (قُلُوبُنا فِي
أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) وقيل : إن الغلف جمع غلاف مثل حمار وحمر : أي قلوبنا
أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك ، وقد وعينا علما كثيرا ، فرد الله عليهم ما
قالوه فقال : (بَلْ لَعَنَهُمُ
اللهُ بِكُفْرِهِمْ) وأصل اللعن في كلام العرب : الطرد والإبعاد ، ومنه قول
الشمّاخ :
ذعرت به
القطا ونفيت عنه
|
|
مقام الذّئب
كالرّجل اللّعين
|
أي كالرجل
المطرود. والمعنى : أبعدهم الله من رحمته. و (قليلا) نعت لمصدر محذوف : أي إيمانا
قليلا (ما يُؤْمِنُونَ) و (ما) زائدة ، وصف إيمانهم بالقلة لأنهم الذين قصّ الله علينا
من عنادهم وعجرفتهم وشدّة لجاجهم ، وبعدهم عن إجابة الرسل ما قصه ، ومن جملة ذلك
أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. وقال معمر : المعنى لا يؤمنون إلا قليلا
مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، وعلى هذا يكون قليلا منصوبا بنزع الخافض. وقال
الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا. قال الكسائي : تقول العرب مررنا بأرض
قلّ ما تنبت الكراث والبصل أي لا تنبت شيئا.
وقد أخرج ابن
عساكر عن ابن عباس في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ) يعني به التوراة جملة واحدة مفصلة محكمة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) يعني رسولا يدعى أشمويل بن بابل ، ورسولا يدعى منشابيل
، ورسولا يدعى شعياء ، ورسولا يدعى حزقيل ، ورسولا يدعى أرمياء وهو الخضر ، ورسولا
يدعى داود وهو أبو سليمان ، ورسولا يدعى المسيح عيسى ابن مريم ، فهؤلاء الرسل
ابتعثهم الله وانتخبهم من الأمة بعد موسى فأخذنا عليهم ميثاقا غليظا ، أن يؤدوا
إلى أمتهم صفة محمد صلىاللهعليهوسلم وصفة أمته. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم
عنه في قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) قال : هي الآيات التي وضع على يديه من إحياء الموتى
وخلقه من الطين كهيئة الطير ، وإبراء الأسقام. والخبر بكثير من الغيوب ، وما رد
عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله
: (وَأَيَّدْناهُ) قال : قوّيناه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي
حاتم عنه قال : روح من القدس الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وأخرج ابن أبي
حاتم عن مجاهد قال : القدس : الله تعالى. وأخرج عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج عن
ابن عباس قال : القدس : الطهر. وأخرج عن السدّي قال : القدس : البركة. وأخرج عن
إسماعيل بن أبي خالد أن روح القدس : جبريل. وأخرج عن ابن مسعود مثله. وأخرج أبو
الشيخ في العظمة عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : روح القدس جبريل. وقد ثبت في الصحيح أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «اللهمّ أيّد حسان بروح
__________________
القدس». وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (فَرِيقاً) قال : طائفة. وأخرج عن ابن عباس قال : إنما سمي القلب
لتقلبه. وأخرج الطبراني في الأوسط عنه أنه كان يقرأ : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) مثقلة ، أي كيف نتعلم وقلوبنا غلف للحكمة : أي أوعية
للحكمة؟ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا
غُلْفٌ) مملوءة علما لا تحتاج إلى علم محمد ولا غيره. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (قُلُوبُنا غُلْفٌ) قال : في غطاء. وروى ابن إسحاق وابن جرير عنه أنه قال :
في أكنة. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : هي القلوب المطبوع عليها. وأخرج وكيع عن
عكرمة وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة هي التي لا
تفقه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن جرير عن حذيفة قال
: القلوب أربعة : قلب أغلف ، فذلك قلب الكافر ، وقلب مصفّح ، فذلك قلب المنافق ،
وقلب أجرد فيه مثل السراج ، فذلك قلب المؤمن ؛ وقلب فيه إيمان ونفاق ، فمثل
الإيمان ؛ كمثل شجرة يمدّها ماء طيّب ؛ ومثل المنافق كمثل قرحة يمدّها القيح
والدم. وأخرج أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهي ؛ وقلب
أغلف مربوط على غلافه ؛ وقلب منكوس ؛ وقلب مصفّح. فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن
سراجه فيه نوره ؛ وأما القلب الأغلف فقلب الكافر ؛ وأما القلب المنكوس فقلب
المنافق عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفّح فقلب فيه إيمان ونفاق ، فمثل الإيمان
فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح ،
فأيّ المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه». وأخرج ابن أبي حاتم عن سلمان الفارسي
مثله سواء ، موقوفا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) قال : لا يؤمن منهم إلا قليل.
(وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا
بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا
نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ
اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢))
(وَلَمَّا جاءَهُمْ) يعني اليهود (كِتابٌ) يعني القرآن ، و (مُصَدِّقٌ) وصف له ، وهو في مصحف أبيّ منصوب ، ونصبه على الحال وإن
كان صاحبها نكرة فقد تخصصت بوصفها بقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وتصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل أنه يخبرهم بما
فيهما ويصدقه ولا يخالفه. والاستفتاح الاستنصار : أي
كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم بالنبيّ المنعوت في آخر
الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة ؛ وقيل الاستفتاح هنا بمعنى الفتح : أي
يخبرونهم بأنه سيبعث ويعرّفونهم بذلك ، وجواب (لَمَّا) في قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ) قيل : هو قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا) وما بعده ؛ وقيل : هو محذوف : أي كذبوا أو نحوه ، كذا
قال الأخفش والزجّاج. وقال المبرّد : إن جواب (لَمَّا) الأولى هو قوله (كَفَرُوا) وأعيدت (فَلَمَّا) الثانية لطول الكلام ، واللام في الكافرين للجنس. ويجوز
أن تكون للعهد ويكون هذا من وضع الظاهر موضع المضمر ، والأوّل أظهر وما في قوله (بِئْسَمَا) موصولة أو موصوفة ؛ أي بئس الشيء أو شيئا (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) قاله سيبويه ، وقال الأخفش : ما في موضع نصب على
التمييز كقولك : بئس رجلا زيد. وقال الفرّاء : بئسما بجملته : شيء واحد ركب كحبذا.
وقال الكسائي ما و (اشْتَرَوْا) بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، والتقدير : بئس اشتراؤهم
أن يكفروا. وقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) في موضع رفع على الابتداء عند سيبويه وخبره ما قبله.
وقال الفرّاء والكسائي : إن شئت كان في موضع خفض بدلا من الهاء في به : أي اشتروا
أنفسهم بأن يكفروا. وقال في الكشاف : إن ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، بمعنى
شيئا اشتروا به أنفسهم ، والمخصوص بالذم أن يكفروا ، واشتروا بمعنى باعوا. وقوله :
(بَغْياً) أي حسدا. قال الأصمعي : البغي مأخوذ من قولهم قد بغى
الجرح : إذا فسد ، وقيل : أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغيا. وهو علة لقوله : (اشْتَرَوْا) وقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ) علة لقوله (بَغْياً) أي لأن ينزل. والمعنى : أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن
البخس حسدا ومنافسة (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن أن ينزل
بالتخفيف. (فَباؤُ) أي رجعوا وصاروا أحقاء (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) وقد تقدّم معنى باؤوا ومعنى الغضب ؛ قيل : الغضب الأول
لعبادتهم العجل ، والثاني لكفرهم بمحمد ، وقيل كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد ؛ وقيل
كفرهم بمحمد ثم البغي عليه ، وقيل غير ذلك. والمهين مأخوذ من الهوان ؛ قيل : وهو
ما اقتضى الخلود في النار. وقوله : (بِما أَنْزَلَ اللهُ) هو القرآن ؛ وقيل : كل كتاب : أي صدّقوا بالقرآن ، أو
صدّقوا بما أنزل الله من الكتب (قالُوا نُؤْمِنُ) أي نصدّق (بِما أُنْزِلَ
عَلَيْنا) أي التوراة. وقوله : (وَيَكْفُرُونَ بِما
وَراءَهُ) قال الفرّاء : بما سواه. وقال أبو عبيدة : بما بعده.
قال الجوهري : وراء بمعنى خلف ، وقد يكون بمعنى قدّام وهي من الأضداد. ومنه قوله
تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ
مَلِكٌ) أي قدّامهم ، وهذه الجملة أعني ويكفرون : في محل النصب
على الحال : أي قالوا نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه مع كون هذا
الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق. وقوله : (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة وهذه أحوال متداخلة أعني قوله : (وَيَكْفُرُونَ) وقوله : (وَهُوَ الْحَقُ) وقوله : (مُصَدِّقاً) ثم اعترض الله سبحانه عليهم لما قالوا : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) بهذه الجملة المشتملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ :
أي إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم فكيف تقتلون الأنبياء وقد نهيتم عن قتلهم فيما
أنزل عليكم؟ وهذا الخطاب وإن كان مع الحاضرين من اليهود فالمراد به أسلافهم ،
ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم
كانوا مثلهم. واللام في قوله : (وَلَقَدْ) جواب لقسم مقدّر. والبينات يجوز أن يراد بها التوراة أو
التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ويجوز أن يراد الجميع. ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك
البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم عنادا بعد قيام الحجة عليكم.
وقد أخرج عبد
بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ
كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ) قال : هو القرآن (مُصَدِّقٌ لِما
مَعَهُمْ) من التوراة والإنجيل. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن
المنذر ، وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، من طريق عاصم بن عمر بن قتادة
الأنصاري ، قال : حدّثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم منا ، لأن معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن ،
وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا : إن نبيّا ليبعث الآن قد أظلّ زمانه نتبعه
فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم اتّبعناه وكفروا به ففينا والله وفيهم أنزل الله : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وابن مسعود وناس
من الصحابة قالوا : كانت العرب تمرّ باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمدا في
التوراة فيسألون الله أن يبعثه نبيا فيقاتلون معه العرب ، فلما جاء محمد كفروا به
حين لم يكن من بني إسرائيل. وقد روي نحو هذا عن ابن عباس من غير وجه بألفاظ مختلفة
ومعانيها متقاربة. وروي عن غيره من السلف نحو ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن
قتادة في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا
بِهِ أَنْفُسَهُمْ) قال : هم اليهود كفروا بما أنزل الله وبمحمد صلىاللهعليهوسلم بغيا وحسدا للعرب (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى
غَضَبٍ) قال : غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل وبعيسى
وبكفرهم بالقرآن وبمحمد. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله : (بَغْياً أَنْ
يُنَزِّلَ اللهُ) أي أن الله جعله من غيرهم (فَباؤُ بِغَضَبٍ) بكفرهم بهذا النبي (عَلى غَضَبٍ) كان عليهم بما ضيعوه من التوراة. وأخرج ابن جرير عن
عكرمة نحوه ، وأخرج أيضا عن مجاهد معناه. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله :
(وَيَكْفُرُونَ بِما
وَراءَهُ) بما بعده. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : بما وراءه :
أي القرآن.
(وَإِذْ أَخَذْنا
مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ
خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ
(٩٦))
قد تقدّم تفسير
أخذ الميثاق ورفع الطور. والأمر بالسماع معناه : الطاعة والقبول ، وليس المراد :
الإدراك بحاسة السمع ، ومنه قولهم : «سمع الله لمن حمده» أي : قبل وأجاب ، ومنه
قول الشاعر :
__________________
دعوت الله
حتّى خفت ألّا
|
|
يكون الله
يسمع ما أقول
|
أي : يقبل ،
وقولهم في الجواب : (سَمِعْنا) هو على بابه وفيه معناه ؛ أي : سمعنا قولك بحاسة السمع
وعصيناك ؛ أي : لا نقبل ما تأمرنا به ، ويجوز أن يكونوا أرادوا بقولهم : (سَمِعْنا) ما هو معهود من تلاعبهم واستعمالهم المغالطة في مخاطبة
أنبيائهم ، وذلك بأن يحملوا قوله تعالى : (اسْمَعُوا) على معناه الحقيقي ، أي : السماع بالحاسة. ثم أجابوا
بقولهم : (سَمِعْنا) أي : أدركنا ذلك بأسماعنا عملا بموجب ما تأمر به ،
ولكنهم لما كانوا يعلمون أن هذا غير مراد الله عزوجل ، بل مراده بالأمر بالسماع : الأمر بالطاعة والقبول ،
لم يقتصروا على هذه المغالطة ، بل ضموا إلى ذلك ما هو الجواب عندهم ، فقالوا : (وَعَصَيْنا) وفي قوله : (وَأُشْرِبُوا) تشبيه بليغ ؛ أي : جعلت قلوبهم لتمكن حب العجل منها
كأنها تشربه ، ومثله قول زهير :
فصحوت عنها
بعد حبّ داخل
|
|
والحبّ تشربه
فؤادك داء
|
وإنما عبر عن
حبّ العجل بالشرب دون الأكل ، لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها
، والطعام يجاورها ولا يتغلغل فيها ، والباء في قوله : (بِكُفْرِهِمْ) سببية ؛ أي : كان ذلك بسبب كفرهم عقوبة لهم وخذلانا.
وقوله : (قُلْ بِئْسَما
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) أي : إيمانكم الذي زعمتم : أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم
، وتكفرون بما وراءه ، فإن هذا الصنع وهو قولكم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) في جواب ما أمرتم به في كتابكم ، وأخذ عليكم الميثاق به
، مناد عليكم بأبلغ نداء ، بخلاف ما زعمتم ، وكذلك ما وقع منكم من عبادة العجل
ونزول حبه من قلوبكم منزلة الشراب ، هو من أعظم ما يدل على أنكم كاذبون في قولكم :
(نُؤْمِنُ بِما
أُنْزِلَ عَلَيْنا) لا صادقون ، فإن زعمتم : أن كتابكم الذي آمنتم به أمركم
بهذا ، فبئسما يأمركم به إيمانكم بكتابكم ، وفي هذا من التهكم بهم ما لا يخفى.
وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) هو ردّ عليهم لما ادّعوا أنهم يدخلون الجنة ، ولا
يشاركهم في دخولها غيرهم ، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى ،
وأنها صادرة منهم لا عن برهان ، و (خالِصَةً) منصوب على الحال ، ويكون خبر كان هو : عند الله ، أو
يكون خبر كان هو : خالصة ، ومعنى الخلوص : أنه لا يشاركهم فيها غيرهم إذا كانت
اللام في قوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) للجنس ، أو لا يشاركهم فيها المسلمون ، إن كانت اللام
للعهد. وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى : (وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وإنما أمرهم بتمني الموت ، لأن من اعتقد أنه من أهل
الجنة ، كان الموت أحبّ إليه من الحياة ، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا ،
ولهذا قال سبحانه : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً) و «ما» في قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) موصولة ، والعائد محذوف ، أي : بما قدّمته من الذنوب
التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب ، بل غير طامع في دخول الجنة ، فضلا عن كونه
قاطعا بها ، فضلا عن كونها خالصة له مختصة به ، ـ وقيل إن الله سبحانه صرفهم عن
التمني ليجعل ذلك آية لنبيه صلىاللهعليهوسلم. والمراد بالتمني هنا : هو التلفظ بما يدل عليه ، لا
مجرد خطوره بالقلب وميل النفس إليه ، فإن ذلك لا يراد في مقام المحاجة ، ومواطن
الخصومة ، ومواقف التحدي ، وفي تركهم للتمني أو صرفهم عنه معجزة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإنهم قد كانوا يسلكون من التعجرف والتجرؤ على الله
__________________
وعلى أنبيائه بالدعاوى الباطلة في غير موطن ما قد حكاه عنهم التنزيل ، فلم
يتركوا عادتهم هنا ؛ إلا لما قد تقرّر عندهم ؛ من أنهم إذا فعلوا ذلك التمني نزل
بهم الموت ، إما لأمر قد علموه ، أو للصرفة من الله عزوجل. وقد يقال : ثبت النهي عن النبي صلىاللهعليهوسلم عن تمني الموت ، فكيف أمره الله أن يأمرهم بما هو منهي
عنه في شريعته. ويجاب بأن المراد هنا إلزامهم الحجة ، وإقامة البرهان على بطلان
دعواهم. وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ) تهديد لهم ، وتسجيل عليهم بأنهم كذلك. واللام في قوله :
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف ، وتنكير حياة : للتحقير ، أي : أنهم
أحرص الناس على أحقر حياة ، وأقل لبث في الدنيا ، فكيف بحياة كثيرة ولبث متطاول؟
وقال في الكشاف : إنه أراد بالتنكير حياة مخصوصة ، وهي الحياة المتطاولة ، وتبعه
في ذلك الرازي في تفسيره. وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) قيل : هو كلام مستأنف ، والتقدير : ومن الذين أشركوا
ناس (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) وقيل : إنه معطوف على الناس ؛ أي : أحرص الناس ، وأحرص
من الذين أشركوا ، وعلى هذا يكون قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) راجعا إلى اليهود ، بيانا لزيادة حرصهم على الحياة ،
ووجه ذكر الذين أشركوا بعد ذكر الناس مع كونهم داخلين فيهم ، الدلالة على مزيد حرص
المشركين من العرب ومن شابههم من غيرهم. فمن كان أحرص منهم وهم اليهود ، كان بالغا
في الحرص إلى غاية لا يقادر قدرها. وإنما بلغوا في الحرص إلى هذا الحدّ الفاضل على
حرص المشركين ، لأنهم يعلمون بما يحلّ بهم من العذاب في الآخرة ، بخلاف المشركين
من العرب ونحوهم فإنهم لا يقرّون بذلك ، وكان حرصهم على الحياة دون حرص اليهود. والأول
وإن كان فيه خروج من الكلام في اليهود إلى غيرهم من مشركي العرب ؛ لكنه أرجح لعدم
استلزامه للتكليف ، ولا ضير في استطراد ذكر حرص المشركين بعد ذكر حرص اليهود. وقال
الرازي : إن الثاني أرجح ، ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم ، وفي إظهار كذبهم في
قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا ، انتهى. ويجاب عنه بأن هذا الذي جعله مرجحا
قد أفاده قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ) ولا يستلزم استئناف الكلام في المشركين أن لا يكونوا من
جملة الناس ، وخص الألف بالذكر لأن العرب كانت تذكر ذلك عند إرادة المبالغة. وأصل
سنة : سنهة ، وقيل سنوة. واختلف في الضمير في قوله : (وَما هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ) فقيل هو راجع إلى أحدهم ، والتقدير : وما أحدهم بمزحزحه
من العذاب أن يعمر ، وعلى هذا يكون قوله : (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعلا لمزحزحه ، وقيل : هو لما دل عليه يعمر من مصدره ؛
أي : وما التعمير بمزحزحه ، ويكون قوله : (أَنْ يُعَمَّرَ) بدلا منه. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : هو عماد ؛
وقيل : هو ضمير الشأن ؛ وقيل : «ما» هي الحجازية ، والضمير : اسمها ، وما بعده
خبرها ، والأوّل أرجح ، وكذلك الثاني والثالث ضعيف جدا لأن العماد لا يكون إلا بين
شيئين ، ولهذا يسمونه ضمير الفصل ، والرابع فيه : أن ضمير الشأن يفسر بجملة سالمة
عن حرف جرّ كما حكاه ابن عطية عن النحاة. والزحزحة : التنحية ؛ يقال : زحزحته
فتزحزح ، أي : نحيته فتنحى وتباعد ، ومنه قول ذي الرمة :
يا قابض
الرّوح عن جسم عصى زمنا
|
|
وغافر الذّنب
زحزحني عن النّار
|
والبصير :
العالم بالشيء ، الخبير به ؛ ومنه قولهم : فلان بصير بكذا : أي : خبير به ، ومنه
قول الشاعر :
فإن تسألوني
بالنّساء فإنّني
|
|
بصير بأدواء
النّساء طبيب
|
وقد أخرج عبد
الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ) قال : أشربوا حبّه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وأخرج ابن
جرير عن أبي العالية أن اليهود لما قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) الآية ، نزل قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) الآية. وأخرج ابن جرير مثله عن قتادة. وأخرج البيهقي في
الدلائل عن ابن عباس أن قوله : (خالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ) يعني المؤمنين (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ) فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن كنتم في مقالتكم صادقين فقولوا : اللهم أمتنا ،
فو الذي نفسي بيده ؛ لا يقولها رجل منكم ؛ إلا غصّ بريقه ؛ فمات مكانه». وأخرج ابن
إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أي : ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك ،
ولو تمنوه يوم قال ذلك ؛ ما بقي على الأرض يهوديّ إلا مات. وأخرج عبد الرزاق وابن
جرير وابن المنذر وأبو نعيم عنه قال : «لو تمنّى اليهود الموت لماتوا». وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عنه نحوهن. وأخرج البخاري وغيره من حديثه مرفوعا : «لو أن
اليهود تمنّوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار». أخرج ابن أبي حاتم والحاكم
وصحّحه عنه في قوله : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) قال : اليهود (مِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) قال : وذلك أن المشركين لا يرجون بعثا بعد الموت ، فهو
يحبّ طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له من الخزي بما ضيّع ما عنده من العلم. (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) قال : بمنحيه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن
جرير وابن المنذر والحاكم عنه في قوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو قول الأعاجم إذا عطس أحدهم : «زه هزار سال»
يعني : عش ألف سنة.
(قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ
عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨))
هذه الآية قد
أجمع المفسرون على أنها نزلت في اليهود. قال ابن جرير الطبري : وأجمع أهل التأويل جميعا
أن هذه الآية نزلت جوابا على اليهود إذ زعموا أن جبريل عدو لهم ، وأن ميكائيل وليّ
لهم. ثم اختلفوا ما كان سبب قولهم ذلك؟ فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك ، من
أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أمر نبوّته ، ثم ذكر روايات في ذلك ستأتي آخر البحث
إن شاء الله. والضمير في قوله : (فَإِنَّهُ) يحتمل وجهين : الأول أن يكون لله ، ويكون الضمير في
قوله : (نَزَّلَهُ) لجبريل ، أي : فإن الله سبحانه نزل جبريل على قلبك ،
وفيه ضعف كما يفيده قوله : (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ). الثاني أنه لجبريل ، والضمير في «نزّله» للقرآن ، أي :
فإن جبريل نزّل القرآن على قلبك ، وخصّ القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم. وقوله
: (بِإِذْنِ اللهِ) أي : بعلمه وإرادته وتيسيره وتسهيله. و (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) هو التوراة كما سلف ، أو جميع الكتب المنزلة ، وفي هذا
دليل على شرف جبريل وارتفاع منزلته ، وأنه لا وجه لمعاداة اليهود له ، حيث
كان منه ما ذكر من تنزيل الكتاب على قلبك ، أو من تنزيل الله له على قلبك ،
وهذا هو وجه الربط بين الشرط والجواب ، أي : من كان معاديا لجبريل منهم فلا وجه
لمعاداته له ، فإنه لم يصدر منه إلا ما يوجب المحبّة دون العداوة ، أو من كان
معاديا له ، فإن سبب معاداته أنه وقع منه ما يكرهونه من التنزيل ، وليس ذلك بذنب
له وإن نزهوه ، فإن هذه الكراهة منهم له بهذا السبب ظلم وعدوان ، لأن هذا الكتاب
الذي نزل به هو مصدق لكتابهم ، وهدى وبشرى للمؤمنين ، ثم أتبع سبحانه هذا الكلام
بجملة مشتملة على شرط وجزاء ، يتضمن الذمّ لمن عادى جبريل بذلك السبب والوعيد
الشديد له ، فقال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ
لِلْكافِرِينَ) والعداوة من العبد : هي صدور المعاصي منه لله والبغض
لأوليائه ، والعداوة من الله للعبد : هي تعذيبه بذنبه وعدم التجاوز عنه والمغفرة
له ـ وإنما خصّ جبريل وميكائيل بالذكر بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ،
والدلالة على فضلهما ، وأنهما وإن كانا من الملائكة فقد صارا باعتبار ما لهما من
المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة
التغاير الذاتي ، كما ذكره صاحب الكشاف ، وقرّره علماء البيان. وفي جبريل عشر لغات
ذكرها ابن جرير الطبري وغيره ، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك. وفي ميكائيل ست لغات ،
وهما اسمان عجميان ، والعرب إذا نطقت بالعجمي تساهلت فيه. وحكى الزمخشري عن ابن
جني أنه قال : العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه. وقوله : (لِلْكافِرِينَ) من وضع الظاهر موضع المضمر ؛ أي : فإن الله عدوّ لهم ،
لقصد الدلالة على أن هذه العداوة موجبة لكفر من وقعت منه. وقد أخرج أحمد وعبد بن
حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس : «حضرت
عصابة من اليهود النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا أبا القاسم! حدثنا عن خلال نسألك عنهنّ لا
يعلمهنّ إلا نبيّ ، قال : سلوني عمّا شئتم ، فسألوه وأجابهم ؛ ثم قالوا : فحدثنا
من وليّك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، فقال : وليّي جبريل ، ولم يبعث
الله نبيا قط إلا وهو وليّه ؛ قالوا : فعندها نفارقك ، لو كان وليّك سواه من
الملائكة لاتّبعناك وصدّقناك ، قال : فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا : هذا عدوّنا ،
فعند ذلك أنزل الله الآية». وأخرج نحو ذلك ابن أبي شيبة ، في المصنف وابن جرير
وابن أبي حاتم عن الشعبي عن عمر بن الخطاب في قصة جرت له معهم وإسنادهم صحيح ،
ولكن الشعبي لم يدرك عمر ، وقد رواها عكرمة وقتادة والسدّي وعبد الرحمن ابن أبي
ليلى عن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وغيرهم عن
أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم وهو في أرض يخترف ، فأتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبيّ : ما
أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟
فقال : أخبرني بهنّ جبريل آنفا ، فقال : جبريل؟ قال نعم ، قال : ذاك عدوّ اليهود
من الملائكة ، فقرأ هذه الآية (مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) قال : أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق
فتحشر الناس إلى المغرب ؛ وأما أوّل ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد حوت ؛ وأما ما
ينزع الولد إلى أبيه أو أمه ، فإذا سبق ماء الرجل
__________________
ماء المرأة نزع إليه الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها ؛
قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله» وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) يقول : فإن جبريل نزل القرآن بأمر الله يشدد به فؤادك
ويربط به على قلبك (مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ) يقول : لما قبله من الكتب التي أنزلها ، والآيات والرسل
الذين بعثهم الله. وقد ذكر السيوطي في هذا الموضع من تفسيره «الدرّ المنثور»
أحاديث كثيرة واردة في جبريل وميكائيل ، وليست مما يتعلق بالتفسير حتى نذكرها.
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما
عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ
نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ
كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى
مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ
هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ
اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))
الضمير في قوله
: (إِلَيْكَ) للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أي : أنزلنا إليك علامات واضحات دالة على نبوتك.
وقوله : (إِلَّا الْفاسِقُونَ) قد تقدم تفسيره. والظاهر أن المراد جنس الفاسقين ،
ويحتمل أن يراد اليهود لأن الكلام معهم ، والواو في قوله : (أَوَكُلَّما) للعطف ، دخلت عليها همزة الاستفهام كما تدخل على الفاء
، ومن ذلك قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ) (أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ) وكما تدخل على ثم ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) وهذا قول سيبويه. وقال الأخفش : الواو زائدة. وقال
الكسائي : إنها أو حركت الواو تسهيلا. قال ابن عطية : وهذا كله متكلف ، والصحيح
قول سيبويه. والمعطوف عليه محذوف ، والتقدير : اكفروا بالآيات البينات وكلما
عاهدوا. وقوله : (نَبَذَ فَرِيقٌ) قال ابن جرير : أصل النبذ : الطرح والإلقاء ، ومنه سمي
اللقيط : منبوذا ، ومنه سمي النبيذ ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء ، قال
أبو الأسود :
نظرت إلى
عنوانه فنبذته
|
|
كنبذك نعلا
أخلقت من نعالكا
|
وقال آخر :
إنّ الذين
أمرتهم أن يعدلوا
|
|
نبذوا كتابك
واستحلّ المحرم
|
__________________
وقوله : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي : خلف ظهورهم ، وهو مثل يضرب لمن يستخفّ بالشيء فلا
يعمل به ، تقول العرب : اجعل هذا خلف ظهرك ، ودبر أذنك ، وتحت قدمك ؛ أي : اتركه
وأعرض عنه ، ومنه ما أنشده الفرّاء :
تميم بن زيد
لا تكوننّ حاجتي
|
|
بظهر فلا
يعيا عليّ جوابها
|
وقوله : (كِتابَ اللهِ) أي : التوراة ، لأنهم لما كفروا بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة
الإيمان به ، وتصديقه ، واتباعه ، وبيّن لهم صفته ، كان ذلك منهم نبذا للتوراة ،
ونقضا لها ، ورفضا لما فيها ؛ ويجوز أن يراد بالكتاب هنا القرآن ، أي : لما جاءهم
رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا
الرسول ، وهذا أظهر من الوجه الأول. وقوله : (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئا ، مع كونهم يعلمون علما
يقينا من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبيّ ، ولكنّهم لما لم يعملوا
بالعلم ، بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم ، كانوا بمنزلة من
لا يعلم. قوله : (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ) معطوف على. قوله : (نَبَذَ) أي : نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلو الشياطين من
السحر ونحوه. قال الطبري : اتبعوا بمعنى : فعلوا. ومعنى (تَتْلُوا) : تتقوّله وتقرؤه و (عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ) على عهد ملك سليمان ، قال الزجاج ؛ وقيل المعنى في ملك
سليمان : يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء : تصلح «على وفي» في هذا الموضع
، والأوّل أظهر. وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان ، وأنه يستجيزه ويقول به ،
فردّ الله ذلك عليهم وقال : (وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) ولم يتقدم أن أحدا نسب سليمان إلى الكفر ، ولكن لما
نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر ، لأن السحر يوجب ذلك ،
ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال : (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي : بتعليمهم. وقوله : (يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ) في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في محل رفع أنه
خبر بعد خبر. وقرأ ابن عامر والكوفيون سوى عاصم : (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ) بتخفيف لكن ورفع الشياطين ، والباقون بالتشديد والنصب.
والسحر : هو ما يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي تحصل بسببها للمسحور ما
يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء ، وما يظنه
راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير ، وهو مشتق من سحرت الصبيّ إذا خدعته ؛
وقيل : أصله الخفاء ، فإن الساحر يفعله خفية ؛ وقيل أصله الصرف ، لأن السحر مصروف
عن جهته ؛ وقيل : أصله الاستمالة ، لأن من سحرك فقد استمالك. وقال الجوهري : السحر
: الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودقّ فهو سحر. وقد سحره يسحره سحرا ، والساحر :
العالم ، وسحره أيضا بمعنى : خدعه. وقد اختلف هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة
وأبو حنيفة إلى أنه خدع ، لا أصل له ، ولا حقيقة. وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة
مؤثّرة. وقد صحّ أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم سحر ، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي ، حتى كان يخيل إليه
أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ، ثم شفاه الله سبحانه ، والكلام في ذلك يطول.
وقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) أي : ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين ، فهو معطوف
على السحر ؛ وقيل : هو معطوف
على قوله : (ما تَتْلُوا
الشَّياطِينُ) أي : واتبعوا ما أنزل على الملكين. وقيل إن «ما» في
قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) نافية ، والواو عاطفة على قوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : وما كفر سليمان ،
وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا ، يعلّمون الناس السحر ببابل هاروت
وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : (وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا) ذكر هذا ابن جرير وقال : فإن قال لنا قائل : وكيف وجه
تقديم ذلك؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان
وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ، ولكنّ الشياطين كفروا ، يعلّمون الناس
السحر ببابل هاروت وماروت ، فيكون معنيا بالملكين جبريل وميكائيل ، لأن سحرة
اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان
بن داود ، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه صلىاللهعليهوسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان مما
نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلّم الناس ذلك ببابل
، وأن الذين يعلّمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت
على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردّا عليهم. انتهى. وقال القرطبي في تفسيره بعد
أن حكى معنى هذا الكلام ، ورجّح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ، ما لفظه : هذا
أولى ما حملت عليه الآية وأصحّ ما قيل فيها ، ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من
استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس
النساء ، وخاصة في حال طمثهن ، قال الله (وَمِنْ شَرِّ
النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) ، ثم قال : إن قيل كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل
إنما يكون على حدّ المبدل؟ ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع ، أو
أنهما خصّا بالذكر دون غيرهما لتمردهما ، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحّاك
والحسن «الملكين» بكسر اللام ، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفه
تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنة لعباده على ألسن ملائكته. وعندي
أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر ، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده
بما شاء كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) قال ابن جرير : وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا
ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان ـ وبابل قيل :
هي العراق ؛ وقيل : نهاوند ؛ وقيل : نصيبين ؛ وقيل : المغرب. وهاروت وماروت اسمان
أعجميان لا ينصرفان. وقوله : (وَما يُعَلِّمانِ
مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) قال الزجاج : تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه
؛ قال : وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ، ومعناه : أنهما يعلّمان على النهي
، فيقولان لهم : لا تفعلوا كذا ، و «من» في قوله : (مِنْ أَحَدٍ) زائدة للتوكيد ؛ وقد قيل : إن قوله : (يُعَلِّمانِ) من الإعلام لا من التعليم ، وقد جاء في كلام العرب :
تعلّم بمعنى اعلم ، كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي ، وهو كثير في أشعارهم
كقول كعب بن مالك :
تعلّم رسول
الله أنّك مدركي
|
|
وأنّ وعيدا
منك كالأخذ باليد
|
وقال القطامي :
تعلّم أنّ
بعد الغيّ رشدا
|
|
وأنّ لذلك
الغيّ انقشاعا
|
__________________
وقوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) هو على ظاهره ، أي : إنما نحن ابتلاء واختبار من الله
لعباده ؛ وقيل : إنه استهزاء منهما ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله ،
وفي قولهما : (فَلا تَكْفُرْ) أبلغ إنذار وأعظم تحذير ، أي : أن هذا ذنب يكون من فعله
كافرا فلا تكفر ، وفيه دليل على أن تعلّم السحر كفر ، وظاهره عدم الفرق بين
المعتقد وغير المعتقد ، وبين من تعلّمه ليكون ساحرا ومن تعلّمه ليقدر على دفعه.
وقوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ) فيه ضمير يرجع إلى قوله : (مِنْ أَحَدٍ) قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال : ومثله (كُنْ فَيَكُونُ) وقيل : هو معطوف على موضع ما يعلمان ، لأنه وإن كان
منفيا فهو يتضمن الإيجاب. وقال الفرّاء : هي مردودة على قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) أي : يعلمون الناس فيتعلمون ، وقوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ) في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سببا لذلك دليل
على أن للسحر تأثيرا في القلوب بالحبّ والبغض ، والجمع والفرقة ، والقرب والبعد.
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من
التفرقة ، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر وبيّن ما هو الغاية في تعليمه ،
فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خرج مخرج الأغلب ،
وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه ؛ وقيل : ليس للسحر تأثير في نفسه أصلا
، لقوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) والحق أنه لا تنافي بين قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وبين قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه ،
ولكنه لا يؤثر ضررا إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه. وقد أجمع أهل العلم على أن له
تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة ، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم
، وقوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما
يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ، ولا
يجلب إليه منفعة ، بل هو ضرر محض ، وخسران بحت ، واللام في قوله : (وَلَقَدْ) جواب قسم محذوف ، وفي قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) للتأكيد و «من» موصولة ، وهي في محل رفع على الابتداء ،
والخبر قوله : (ما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) وقال الفرّاء : إنها شرطية للمجازاة. وقال الزجّاج :
ليس هذا بموضع شرط ، ورجّح أنها موصولة كما ذكرنا. والمراد بالشراء هنا :
الاستبدال ، أي : من استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله. والخلاق : النصيب عند
أهل اللغة ، كذا قال الزجّاج. والمراد بقوله (ما شَرَوْا بِهِ
أَنْفُسَهُمْ) أي : باعوها. وقد أثبت لهم العلم في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ونفاه عنهم في قوله : (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) واختلفوا في توجيه ذلك ، فقال قطرب والأخفش : إن المراد
بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) الشياطين ، والمراد بقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الإنس. وقال الزجّاج : إن الأول للملكين ، وإن كان
بصيغة الجمع فهو مثل قولهم : الزيدان قاموا. والثاني المراد به علماء اليهود ،
وإنما قال : (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ) لأنهم تركوا العمل بعلمهم. وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أي : بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وما جاء به من القرآن (وَاتَّقَوْا) ما وقعوا فيه من السحر والكفر ، واللام في قوله : (لَمَثُوبَةٌ) جواب لو ، والمثوبة : الثواب. وقال الأخفش : إن الجواب
محذوف ، والتقدير : ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا ، فحذف لدلالة قوله : (لَمَثُوبَةٌ) عليه ، وقوله : (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ)
هو إما للدلالة على أنه لا علم لهم ، أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة
العدم.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس «قال ابن صوريا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : يا محمد! ما جئتنا بشيء يعرف ، وما أنزل الله عليك من
آية بينة ، فأنزل الله تعالى في ذلك (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) وقال مالك بن الصيف ، حين بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وذكّرهم ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في
محمد : والله ما عهد إلينا في محمد ، ولا أخذ علينا شيئا ، فأنزل الله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) الآية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (آياتٍ بَيِّناتٍ) يقول : فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين
ذلك ، وأنت عندهم أمّي لم تقرأ الكتاب ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه ، ففي
ذلك عبرة لهم وحجة عليهم (لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ). وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (نَبَذَهُ) قال : نقضه. وأخرج أيضا عن السدي في قوله : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) قال : لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة ، واتفقت التوراة
والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ، كأنهم لا يعلمون بما
في التوراة من الأمر باتباع محمد صلىاللهعليهوسلم وتصديقه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عباس قال : إن الشياطين كانوا يسترقون السمع
من السماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة حقّ كذب معها ألف كذبة ، فأشربتها قلوب الناس ،
واتخذوها دواوين ، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود ، فأخذها فدفنها تحت الكرسي
، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز
لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا : نعم ، فأخرجوه فإذا هو سحر ، فتناسختها الأمم.
وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر فقال : (وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الآية. وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال : كان آصف
كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت
كرسيه ؛ فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا ،
وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل به ، فأكفره جهال الناس ، وسبّوه ، ووقف
علماؤهم ، فلم يزل جهالهم يسبّونه حتى أنزل الله على محمد : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) الآية ، وأخرج ابن جرير عنه قال : كان سليمان إذا أراد
أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة ـ وهي امرأته ـ خاتمه ، فلما
أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء
الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي ، فأخذه فلبسه ، فلما لبسه دانت له
الشياطين والجنّ والإنس ، فجاء سليمان فقال : هاتي خاتمي ، فقالت : كذبت لست
سليمان ، فعرف أنه بلاء ابتلي به ، فانطلقت الشياطين ، فكتبت في تلك الأيام كتبا
فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس وقالوا
: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب ، فبرئ الناس من سليمان وأكفروه ، حتى
بعث الله محمدا وأنزل عليه : (وَما كَفَرَ
سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (ما تَتْلُوا) قال : ما تتبع. وأخرج أيضا عن عطاء في قوله : (ما تَتْلُوا) قال : نراه ما تحدث. وأخرج أيضا عن ابن جريج في قوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) يقول : في ملك سليمان.
وأخرج أيضا عن السدي في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) قال : سحر آخر خاصموه به ، فإن كلام الملائكة فيما
بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) قال : لم ينزل الله السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي
قال : هما ملكان من ملائكة السماء. وأخرج نحوه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا.
وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر عن ابن عباس (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) يعني : جبريل وميكائيل (بِبابِلَ هارُوتَ
وَمارُوتَ) يعلمان الناس السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن
بن أبزى أنه كان يقرؤها : وما أنزل على الملكين داود وسليمان وأخرج ابن أبي حاتم
عن الضحّاك قال : هما علجان من أهل بابل. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث
ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أشرفت الملائكة على الدنيا ، فرأت بني آدم يعصون ،
فقالت يا ربّ! ما أجهل هؤلاء ، ما أقلّ معرفة هؤلاء بعظمتك ، فقال الله : لو كنتم في
محلّاتهم لعصيتموني ، قالوا : كيف يكون هذا ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال : فاختاروا
منكم ملكين ، فاختاروا هاروت وماروت ، ثم أهبطا إلى الأرض وركّبت فيهما شهوات بني
آدم ، ومثّلت لهما امرأة فما عصما حتّى واقعا المعصية ، فقال الله : اختارا عذاب
الدنيا أو عذاب الآخرة ، فنظر أحدهما لصاحبه قال ما تقول؟ قال : أقول إنّ عذاب
الدنيا ينقطع وإن عذاب الآخرة لا ينقطع ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما اللذان ذكر
الله في كتابه (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) الآية. وأخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عمر أنه كان يقول :
أطلعت الحمراء بعد؟ فإذا رآها قال : لا مرحبا ، ثم قال : إن ملكين من الملائكة
هاروت وماروت سألا الله أن يهبطهما إلى الأرض ، فأهبطا إلى الأرض فكانا يقضيان بين
الناس ، فإذا أمسيا تكلما بكلمات فعرجا بها إلى السماء ، فقيّض لهما امرأة من أحسن
النساء وألقيت عليهما الشهوة فجعلا يؤخرانها وألقيت في أنفسهما ، فلم يزالا يفعلان
حتى وعدتهما ميعادا ، فأتتهما للميعاد فقالت : علّماني الكلمة التي تعرجان بها ،
فعلّماها الكلمة فتكلمت بها فعرجت إلى السماء فمسخت فجعلت كما ترون ، فلما أمسيا
تكلما بالكلمة فلم يعرجا ، فبعث إليهما : إن شئتما فعذاب الآخرة وإن شئتما فعذاب
الدنيا إلى أن تقوم الساعة على أن تلقيا الله ، فإن شاء عذّبكما وإن شاء رحمكما ،
فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال : بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف ، فهما يعذّبان
إلى يوم القيامة. وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ ، وفي بعضها أنه يروي ذلك
ابن عمر عن كعب الأحبار.
كما أخرجه عبد
الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ،
والبيهقي في الشعب من طريق الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن
كعب ، قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل : لو كنتم
مكانهم لأتيتم مثل ما يأتون ، فاختاروا منكم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت ، فقال
لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا فليس بيني وبينكم رسول ، انزلا ، لا تشركا بي
شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر ، قال كعب : فو الله ما أمسيا من يومهما الذي
أهبطا فيه حتّى استعملا جميع ما نهيا عنه. قال ابن كثير : وهذا أصحّ ، يعني من
الإسنادين اللذين ذكرهما قبله. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصحّحه عن عليّ بن أبي
طالب قال : إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة ، والعجم ناهيد ، وذكر نحو الرواية
السابقة عن ابن عمر عند الحاكم. قال ابن كثير : وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب
جدا. وقد أخرج عبد بن حميد والحاكم وصحّحه عن ابن عباس قال : كانت الزهرة امرأة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه : أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت ، فهي
هذه الكوكبة الحمراء : يعني الزهرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصحّحه والبيهقي في الشعب عنه فذكر قصة طويلة ، وفيها التصريح بأن الملكين شربا
الخمر وزنيا بالمرأة وقتلاها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس هذه القصة
وقالا : إنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة وأنهما وقعا في الخطيئة. وقد روي
في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدرّ المنثور.
وذكر ابن كثير
في تفسيره بعضها ثم قال : وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين
كمجاهد والسدّي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل
بن حيّان وغيرهم وقصّها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في
تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى
الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من
غير بسط ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ،
والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى.
وقال القرطبي
بعد سياق بعض ذلك : قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصحّ منه شيء ،
فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى
رسله ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، ثم ذكر ما معناه : أن العقل
يجوّز وقوع ذلك منهم ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع ، ولم يصحّ. انتهى.
وأقول : هذا
مجرد استبعاد. وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه ، ولا وجه لإخراجه عن
ظاهره بهذه التكلفات ، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك ، فعلى فرض وجود هذه الأصول
فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ولا وجه لمنع التخصيص ، وقد كان إبليس يملك
المنزلة العظيمة وصار شرّ البرية وأكفر العالمين.
وأخرج ابن جرير
عن قتادة في قوله : (إِنَّما نَحْنُ
فِتْنَةٌ) قال : بلاء. وأخرج البزار بإسناد صحيح والحاكم وصحّحه
عن ابن مسعود قال : «من أتى كاهنا أو ساحرا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على
محمد». وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من تطيّر أو تطيّر له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر
أو سحر له ، ومن عقد عقدة ، ومن أتى كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على
محمد». وأخرج عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من تعلّم من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من
الله». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (مِنْ خَلاقٍ) قال : قوام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : (مِنْ خَلاقٍ) من نصيب ، وكذا روى ابن جرير عن مجاهد. وأخرج عبد
الرزاق
وابن جرير عن الحسن (ما لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : ليس له دين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
السدي في قوله : (وَلَبِئْسَ ما
شَرَوْا بِهِ) قال : باعوا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في
قوله : (لَمَثُوبَةٌ) قال : ثواب.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ (١٠٥))
قوله : (راعِنا) راقبنا ، واحفظنا ، وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى (راعِنا) : ارعنا ونرعاك ، واحفظنا ونحفظك ، وارقبنا ونرقبك ؛
ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك ، أي : فرغه لكلامنا ، وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ
كان بلسان اليهود سبّا ؛ قيل : إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت ؛ وقيل : غير ذلك
، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبيّ صلىاللهعليهوسلم راعنا طلبا منه أن يراعيهم من المراعاة اغتنموا الفرصة
، وكانوا يقولون للنبيّ صلىاللهعليهوسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي ، مبطنين أنهم
يقصدون السبّ الذي معنى هذا اللفظ في لغتهم ، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ
المحتملة للسبّ والنقص ، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم ، سدّا
للذريعة ودفعا للوسيلة ، وقطعا لمادة المفسدة والتطرق إليه ، ثم أمرهم الله بأن
يخاطبوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض فقال : (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي : أقبل علينا وانظر إلينا ، فهو من باب الحذف
والإيصال ، كما قال الشاعر :
ظاهرات
الجمال والحسن ينظر
|
|
ن كما ينظر
الأراك الظّباء
|
أي : إلى
الأراك ، وقيل : معناه انتظرنا وتأنّ بنا ، ومنه قول الشاعر :
فإنّكما إن
تنظراني ساعة
|
|
من الدّهر
ينفعني لدى أمّ جندب
|
وقرأ الأعمش (أنظرنا)
بقطع الهمزة وكسر الظاء بمعنى : أخّرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ، ومنه قول الشاعر :
أبا هند فلا
تعجل علينا
|
|
وأنظرنا
نخبّرك اليقينا
|
وقرأ الحسن (راعِنا) بالتنوين ، وقال : الراعن من القول : السخريّ منه.
انتهى. وأمرهم بعد هذا النهي والأمر بأمر آخر وهو قوله : (وَاسْمَعُوا) أي : اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه ، ومعناه : أطيعوا
الله في ترك خطاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم بذلك اللفظ ، وخاطبوه بما أمرتم به ، ويحتمل أن يكون
معناه : اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع ، حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب
للمراعاة ، ثم توعّد اليهود بقوله : (وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ أَلِيمٌ) ويحتمل أن يكون وعيدا شاملا لجنس الكفرة. قال ابن جرير
: والصواب من القول عندنا
في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (راعِنا) لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوا لنبيه صلىاللهعليهوسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تقولوا للعنب : الكرم ولكن قولوا :
الحبلة ، ولا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي» وما أشبه ذلك. وقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ) الآية ، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين ، حيث لا
يودّون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه ، ثم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم فقال : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ) الآية. وقوله : (أَنْ يُنَزَّلَ) في محل نصب على المفعولية ، و «من» في قوله : (مِنْ خَيْرٍ) زائدة ، قاله النحاس ، وفي الكشاف أن «من» في قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيانية ، وفي قوله : (مِنْ خَيْرٍ) مزيدة لاستغراق الخير ، وفي قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) لابتداء الغاية ، وقد قيل : بأن الخير : الوحي ؛ وقيل :
غير ذلك ، والظاهر أنهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين أيّ خير كان ، فهو لا يختص
بنوع معين ، كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي ، وتأكيد العموم بدخول «من»
المزيدة عليها ، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص.
والرحمة قيل : هي القرآن ؛ وقيل : النبوّة ؛ وقيل : جنس الرحمة من غير تعيين ، كما
يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي : صاحب الفضل العظيم ، فكيف لا تودون أن يختص برحمته
من يشاء من عباده.
وقد أخرج سعيد
بن منصور في سننه ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي
في الشعب ، عن ابن مسعود : أن رجلا أتاه فقال : اعهد إليّ فقال : إذا سمعت الله
يقول : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شرّ ينهى عنه.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : (راعِنا) بلسان اليهود : السبّ القبيح ، وكان اليهود يقولون ذلك
لرسول الله سرا ، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها ، فكانوا يقولون ذلك
ويضحكون فيما بينهم ، فأنزل الله الآية. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عنه ، أنه قال
المؤمنون بعد هذه الآية : من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه ، فانتهت اليهود بعد ذلك.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال : كان رجلان من اليهود : مالك بن الصيف ،
ورفاعة بن زيد ، إذا لقيا النبي صلىاللهعليهوسلم قالا له وهما يكلمانه : راعنا سمعك واسمع غير مسمع ،
فظنّ المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم ، فقالوا للنبيّ :
فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال : كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فقالوا :
ارعنا سمعك ، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك ، وأمرهم أن يقولوا : (انْظُرْنا) ليعزّروا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويوقّروه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن
قتادة : أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاء ، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم ،
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الرحمة : القرآن والإسلام.
(ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
(١٠٧))
النسخ في كلام
العرب على وجهين : أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر ، وعلى هذا يكون القرآن كله
منسوخا ، أعني : من اللوح المحفوظ ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ، ومنه (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي : نأمر بنسخه. الوجه الثاني : الإبطال والإزالة ،
وهو المقصود هنا. وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة : أحدهما :
إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه : نسخت الشمس الظل : إذا أذهبته وحلت
محله ، وهو معنى قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ) وفي صحيح مسلم : «لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت» أي :
تحوّلت من حال إلى حال. والثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم :
نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى (فَيَنْسَخُ اللهُ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يزيله. وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكانت تنزل عليه السورة فترفع ، فلا تتلى ولا تكتب. ومنه
ما روي عن أبيّ وعائشة أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن
فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث
غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى ، وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه ، يقال :
نسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب ، وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل
الميراث قائم ، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون. وقال ابن جرير : (ما نَنْسَخْ) ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن
نحوّل الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون
ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ؛ فأما الأخبار فلا يكون
فيها ناسخ ولا منسوخ ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة أخرى ، فكذلك
معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره ، وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي
في كلتي حالتيها منسوخة. انتهى. وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد
ذلك الفن فلا نطول بذكره ، بل نحيل من أراد الاستقصاء عليه. وقد اتفق أهل الإسلام
على ثبوته سلفا وخلفا ، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدّ بخلافه ولا يؤبه
لقوله. وقد اشتهر عن اليهود ـ أقمأهم الله ـ إنكاره ، وهم محجوجون بما في التوراة
أن الله قال لنوح عليهالسلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك
ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ، ثم قد حرّم على
موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان. وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ
من الأخت ، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليهالسلام وعلى غيره. وثبت فيها أن إبراهيم عليهالسلام أمر بذبح ابنه ، ثم قال الله له لا تذبحه ، وبأن موسى
أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، ونحو
هذا كثيرا في التوراة الموجودة بأيديهم. وقوله : أو ننسأها قرأ أبو عمرو وابن كثير
بفتح النون والسين والهمز ، وبه قرأ عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وأبي بن
كعب ، وعبيد بن عمير ، والنخعي ، وابن محيصن ، ومعنى هذه القراءة : نؤخرها عن
النسخ من قولهم : نسأت هذا الأمر إذا أخرته. قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في
أجلك ، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم : إذا تأخروا وتباعدوا ، ونسأتهم إذا
أخرتهم ؛ وقيل : معناه نؤخر نسخ لفظها ، أي : نتركه في أم الكتاب فلا يكون. وقيل :
نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر.
__________________
وقرأ الباقون (نُنْسِها) بضم النون ، من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي : نتركها
فلا نبدلها ولا ننسخها ، ومنه قوله تعالى (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) أي : تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه
القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الأزهري أن معناه : نأمر بتركها ، يقال : أنسيته
الشيء ، أي : أمرته بتركه ، ونسيته تركته ، ومنه قول الشاعر :
إنّ عليّ
عقبة أقضيها
|
|
لست بناسيها
ولا منسيها
|
أي : ولا آمر
بتركها. وقال الزجّاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال
: أنسى ، بمعنى : ترك ؛ قال : وما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (أَوْ نُنْسِها) قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح. والذي عليه أكثر أهل
اللغة والنظر أن معنى (أَوْ نُنْسِها) نبح لكم تركها ، من نسي ، إذا ترك ، ثم تعديه. ومعنى (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) نأت بما أنفع للناس منها في العاجل والآجل ، أو في
أحدهما ، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال في المنسوخ
والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخفّ ، فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل
وثوابه أكثر ، فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة. وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) يفيد أن النسخ من مقدوراته ، وإن إنكاره إنكار للقدرة
الإلهية ، وهكذا قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد والاختراع
ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته ، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من
أحكامه التي تعبدهم بها ، وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة
والأشخاص ، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه
بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن عديّ ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان مما
ينزل على النبيّ صلىاللهعليهوسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه. وأخرج الطبراني عن
ابن عمر قال : قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكانا يقرآن ذات ليلة يصلّيان فلم يقدرا منها على حرف
فأصبحا غاديين على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها» وفي إسناده
سليمان بن أرقم وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) يقول : ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي
حاتم عنه أنه قال : (نُنْسِها) نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن مسعود في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) قال : نثبت خطها ، ونبدل حكمها (أَوْ نُنْسِها) قال نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن
جرير عن قتادة في قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي.
وأخرج أبو داود في ناسخه ،
__________________
وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، وأبو ذرّ الهروي في فضائله ، عن
أبي أمامة بن سهل بن حنيف : أن رجلا كانت معه سورة ، فقام من الليل ، فقام بها ،
فلم يقدر عليها ، وقام آخر يقرأ بها ، فلم يقدر عليها ، وقام آخر ، فلم يقدر عليها
، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه ، فقال : «إنها نسخت البارحة»
وقد روى نحوه عنه من وجه آخر. وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس : أن الله أنزل في
الذين قتلوا في بئر معونة «أن بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا»
ثم نسخ ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول
والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : «لو كان لابن آدم واديان من مال
لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب» وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى
المسبحات ، أوّلها : «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ» فأنسيناها ، غير أني حفظت منها : «يا أيّها الذين آمنوا
لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة» وقد روي
مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق ، وأحمد ،
وابن حبان عن عمر.
(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (١١٠))
(أَمْ) هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل ، أي ، بل تريدون ، وفي
هذا توبيخ وتقريع ، والكاف في قوله : (كَما سُئِلَ) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، أي : سؤالا مثل ما سئل
موسى من قبل ، حيث سألوه أن يريهم الله جهرة ، وسألوا محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. وقوله : (سَواءَ) هو الوسط من كل شيء ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قوله تعالى
: (فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ) ومنه قول حسان يرثي النبيّ صلىاللهعليهوسلم :
يا ويح أصحاب
النّبيّ ورهطه
|
|
بعد المغيّب
في سواء الملحد
|
وقال الفرّاء :
السواء القصد ، أي : ذهب عن قصد الطريق وسمته ، أي : طريق طاعة الله. وقوله تعالى
: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ) فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم وردّهم عن
الإسلام ، والتشكيك عليهم في دينهم. وقوله : (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور. وقوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يحتمل أن يتعلق بقوله : (وَدَّ) أي : ودّوا ذلك من عند أنفسهم ، ويحتمل أن يتعلق بقوله
: (حَسَداً) أي حسدا ناشئا من عند أنفسهم ، وهو علة لقوله : (وَدَّ). والعفو : ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح : إزالة أثره من
النفس ، صفحت عن فلان : إذا أعرضت عن ذنبه ، وقد ضربت عنه صفحا : إذا أعرضت عنه ،
وفيه الترغيب في ذلك والإرشاد إليه ، وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال ، قاله أبو
عبيدة.
__________________
وقوله : (حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ) هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح ، أي :
افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم ، بما يختاره ويشاؤه
، وما قد قضى به في سابق علمه ، وهو قتل من قتل منهم ، وإجلاء من أجلي ، وضرب
الجزية على من ضربت عليه ، وإسلام من أسلم. وقوله : (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) حثّ من الله سبحانه لهم في الاشتغال بما ينفعهم ، ويعود
عليهم بالمصلحة ، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه
حتى يمكن الله لهم ، وينصرهم على المخالفين لهم.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أنه قال : قال رافع بن حريملة
ووهب ابن زيد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا محمد! ائتنا بكتاب ينزل علينا من السماء نقرؤه ،
أو فجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك ، فأنزل الله في ذلك : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا
رَسُولَكُمْ) إلى قوله (سَواءَ السَّبِيلِ) وكان حيي بن أخطب (وأبو ياسر بن أخطب) من أشدّ اليهود حسدا للعرب إذ خصّهم الله برسوله ،
وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية.
وأخرج ابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السدي : قال : سألت العرب محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يأتيهم بالله ، فيروه جهرة ، فنزلت هذه الآية. وأخرج
ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : قال رجل : لو كانت كفاراتنا
كفارات بني إسرائيل ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «ما أعطاكم الله خير ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب
أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفّارتها ، فإن كفرها كانت له خزايا في
الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزايا في الآخرة. وقد أعطاكم الله خيرا من ذلك ،
قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية ، والصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفارات
لما بينهن ، فأنزل الله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : نعم ، وهو لكم
كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم ، فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا
رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أن يريهم الله جهرة. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في
قوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) قال : يتبدل الشدّة بالرخاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن
السدي في قوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ
السَّبِيلِ) قال : عدل عن السبيل. وأخرج أبو داود ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك قال : كان اليهود والمشركون
من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه أشدّ الأذى ، فأمر الله بالصبر على ذلك ،
والعفو عنهم ، وأنزل الله (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ) وفي الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد قال : كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله
، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً
كَثِيراً) وقال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) الآية ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتأوّل في العفو ما أمره الله به ، حتى
__________________
أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وأخرج ابن جرير
عن الربيع بن أنس في قوله : (مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ) قال : من قبل أنفسهم (مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) يقول : إن محمدا رسول الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير ، عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا) وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ) ونحو هذا في العفو عن المشركين قال : نسخ ذلك كله بقوله
: (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية ، وقوله (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن
سعيد بن جبير في قوله : (وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) يعني : من الأعمال ، من الخير في الدنيا. وأخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (تَجِدُوهُ عِنْدَ
اللهِ) قال تجدوا ثوابه.
(وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى
عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))
قوله : (هُوداً) قال الفراء : يجوز أن يكون هودا بمعنى : يهوديا ، وأن
يكون جمع هائد. وقال الأخفش : إن الضمير المفرد في كان هو باعتبار لفظ من ، والجمع
في قوله : (هُوداً) باعتبار معنى من ؛ قيل : في هذا الكلام حذف ، وأصله :
وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة
إلّا من كان نصرانيا. هكذا قال كثير من المفسرين ، وسبقهم إلى ذلك بعض السلف.
وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود والنصارى وقع منهم هذا القول ، وأنهم يختصون
بذلك دون غيرهم ؛ ووجه القول : بأن في الكلام حذفا ، ما هو معلوم من أن كل طائفة
من هاتين الطائفتين تضلّل الأخرى ، وتنفي عنها أنها على شيء من الدين ، فضلا عن
دخول الجنة ، كما في هذا الموضع ، فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت : ليست
النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ، والأماني قد تقدّم تفسيرها
، والإشارة بقوله : تلك ، إلى ما تقدّم لهم من الأماني ، التي آخرها أنه لا يدخل
الجنة غيرهم. وقيل : إن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة ، والتقدير : أمثال تلك
الأمنية أمانيهم ، على حذف المضاف ليطابق أمانيهم ، قوله : (هاتُوا) أصله : هاتيوا ، حذفت الضمة لثقلها ، ثم حذفت الياء
لالتقاء الساكنين ، ويقال للمفرد المذكر : هات ، وللمؤنث : هاتي ، وهو صوت بمعنى
أحضر. والبرهان : الدليل الذي يحصل عنده اليقين. قال ابن جرير : طلب الدليل هنا يقتضي
إثبات النظر ، ويردّ على من ينفيه. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أي : في تلك الأمانيّ المجردة والدعاوى الباطلة ، ثم
ردّ عليهم فقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ) وهو إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، أي : ليس كما
يقولون ، بل يدخلها من أسلم وجهه لله. ومعنى أسلم : استسلم ؛ وقيل : أخلص. وخصّ
الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان ، ولأنه موضع الحواس الظاهرة ، وفيه
يظهر
__________________
العزّ والذل ، وقيل : إن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء ، وأن المعنى هنا
: الوجه وغيره ؛ وقيل : المراد بالوجه هنا : المقصد ، أي : من أخلص مقصده وقوله (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في محل نصب على الحال ، والضمير في قوله : (وَجْهَهُ) و (فَلَهُ) باعتبار لفظ من ، وفي قوله : (عَلَيْهِمْ) باعتبار معناها. وقوله : (مَنْ) إن كانت الموصولة فهي فاعل لفعل محذوف ، أي : بلى
يدخلها من أسلم. وقوله : (فَلَهُ) معطوف على (مَنْ أَسْلَمَ) وإن كانت من شرطية ، فقوله : (فَلَهُ) هو الجزاء ، ومجموع الشرط والجزاء ردّ على أهل الكتاب
وإبطال لتلك الدعوى. وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) وما بعده ، فيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى ،
ويتضمن ذلك إثباته لنفسها ، تحجرا لرحمة الله سبحانه. قال في الكشاف : إن الشيء هو
الذي يصح ويعتدّ به ، قال : وهذه مبالغة عظيمة ، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما
اسم الشيء ، وإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما
ليس بعده ، وهكذا قولهم : أقلّ من لا شيء. وقوله : (وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتابَ) أي : التوراة والإنجيل ، والجملة حالية ؛ وقيل : المراد
جنس الكتاب ، وفي هذا أعظم توبيخ وأشدّ تقريع ، لأن الوقوع في الدعاوي الباطلة ،
والتكلم بما ليس عليه برهان ، وهو وإن كان قبيحا على الإطلاق ، لكنه من أهل العلم
والدراسة لكتب الله أشدّ قبحا ، وأفظع جرما ، وأعظم ذنبا. وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) المراد بهم : كفار العرب الذين لا كتاب لهم ، قالوا :
مثل مقالة اليهود ، اقتداء بهم ، لأنهم جهلة ، لا يقدرون على غير التقليد لمن
يعتقدون أنه من أهل العلم ، وقيل : المراد بهم : طائفة من اليهود والنصارى ، وهم
الذين لا علم عندهم ، ثم أخبرنا سبحانه ، بأنه المتولي لفصل هذه الخصومة التي وقع
فيها الخلاف عند الرجوع إليه ، فيعذب من يستحق التعذيب ، وينجي من يستحق النجاة.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) الآية ، قال : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان
يهوديا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) قال : أمانيّ يتمنونها على الله بغير الحق (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) قال : حجتكم (إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) بما تقولونه أنه كما تقولون (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يقول : أخلص لله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) قال : حجتكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في
قوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ
وَجْهَهُ) قال : أخلص دينه. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتتهم أحبار اليهود ، فتنازعوا عند رسول الله ، فقال
رافع ابن حريملة : ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى والإنجيل ، فقال له رجل من أهل
نجران : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة ، قال : فأنزل الله في
ذلك : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى
شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي كلّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به. وأخرج ابن جرير
عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال : هم أمم كانت قبل
اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : هم العرب ، قالوا : ليس محمد على
شيء.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها
أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ
عَلِيمٌ (١١٥))
هذا الاستفهام
فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه ، وانه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر
أنواع الظلم ، أي : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، واسم الاستفهام في محل رفع
على الابتداء ، وأظلم خبره. وقوله : (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ) قيل : هو بدل من مساجد ، وقيل إنه مفعول له ؛ بتقدير
كراهية أن يذكر ؛ وقيل : إن التقدير : من أن يذكر ، ثم حذف حرف الجر لطول الكلام ؛
وقيل : إنه مفعول ثان لقوله (مَنَعَ) والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله منع من
يأتي إليها للصلاة ، والتلاوة ، والذكر ، وتعليمه. والمراد بالسعي في خرابها : هو
السعي في هدمها ، ورفع بنيانها ، ويجوز أن يراد بالخراب : تعطيلها عن الطاعات التي
وضعت لها ، فيكون أعم من قوله : (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ) فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد ،
كتعلم العلم وتعليمه ، والقعود للاعتكاف ، وانتظار الصلاة ؛ ويجوز أن يراد ما هو
أعم من الأمرين ، من باب عموم المجاز ، كما قيل في قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) وقوله : (ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أي : ما كان ينبغي لهم دخولها إلا حال خوفهم ، وفيه
إرشاد للعباد من الله عزوجل ؛ أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر ،
من غير فرق بين مسجد ومسجد ، وبين كافر وكافر ، كما يفيد عموم اللفظ ، ولا ينافيه
خصوص السبب ، وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف من أن يفطن
لهم أحد من المسلمين ؛ فينزلون بهم ما يوجب الإهانة والإذلال ، وليس فيه الإذن لنا
بتمكينهم من ذلك حال خوفهم ، بل هو كناية عن المنع لهم منا عن دخول مساجدنا.
والخزي : قيل : هو ضرب الجزية عليهم وإذلالهم ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدّم تفسيره.
والمشرق : موضع الشروق. والمغرب : موضع الغروب ، أي : هما ملك لله ، وما بينهما من
الجهات والمخلوقات ، فيشمل الأرض كلها. وقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أي : أيّ جهة تستقبلونها فهناك وجه الله ، أي : المكان
الذي يرتضي لكم استقباله ، وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها
بقوله سبحانه : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ) قال في الكشاف : والمعنى : أنكم إذا منعتم أن تصلوا في
المسجد الحرام ، أي : في بيت المقدس ، فقد جعلت لكم الأرض مسجدا ، فصلّوا في أيّ بقعة
شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان ، لا تختص
أماكنها في مسجد دون مسجد ، ولا في مكان دون مكان انتهى. وهذا التخصيص لا وجه له ؛
فإن اللفظ أوسع منه. وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس. وقوله : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) فيه إرشاد إلى سعة رحمته. وأنه يوسع على عباده في دينهم
، ولا يكلّفهم ما ليس في وسعهم ، وقيل : واسع ، بمعنى : أنه يسع علمه كل شيء ، كما
قال : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً) وقال الفرّاء : الواسع : الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ؛ أن قريشا منعوا النبي صلىاللهعليهوسلم الصلاة عند الكعبة
__________________
في المسجد الحرام فأنزل الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : هم النصارى ،
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : هم
الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس. وفي قوله (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) قال : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن
يضرب عنقه ، وقد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها. وفي قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قال : أما خزيهم في الدنيا ؛ فإنه إذا قام المهدي ؛
وفتحت القسطنطينية ؛ قتلهم ، فذلك الخزي. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة
: أنهم الروم. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب : أنهم النصارى ؛ لما أظهروا على بيت
المقدس حرقوه. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم قال : هم المشركون
حين صدّوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن البيت يوم الحديبية. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح
قال : ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن
قتادة في قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأخرج ابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : أوّل ما
نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة ، قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ، فاستقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فصلّى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه
الله إلى البيت العتيق ، ونسخها ، فقال (وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن أبي
شيبة ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن ابن عمر قال : كان
النبي صلىاللهعليهوسلم يصلي على راحلته تطوّعا أينما توجهت به ، ثم قرأ ابن
عمر هذه الآية (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وقال في هذا أنزلت هذه الآية. وأخرج نحوه عن ابن جرير ،
والدارقطني ، والحاكم وصحّحه. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان يصلّي على راحلته قبل المشرق ، فإذا أراد أن
يصلّي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلّى. وروي نحوه من حديث أنس مرفوعا ، أخرجه
ابن أبي شيبة وأبو داود. وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وضعّفه ، وابن ماجة ،
وابن جرير ، وغيرهم ، عن عامر بن ربيعة ، قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلا ، فجعل الرجل يأخذ
الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلّينا على غير القبلة
؛ فقلنا : يا رسول الله! لقد صلّينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ، فقال : مضت صلاتكم. وأخرج الدارقطني ، وابن
مردويه ، والبيهقي عن جابر مرفوعا نحوه ، إلّا أنه ذكر أنهم خطّوا خطوطا. وأخرج
نحوه وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا سعيد بن منصور ،
وابن المنذر عن عطاء يرفعه ، وهو مرسل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : قبلة لله أينما توجهت شرقا أو غربا. وأخرج ابن
أبي شيبة ، والترمذي ، وصحّحه ، وابن ماجة ، عن أبي هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة». وأخرج ابن أبي
شيبة ، والدارقطني ، والبيهقي عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن
عمر نحوه.
__________________
(وَقالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ
قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا
يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ (١١٨))
قوله : (وَقالُوا) هم اليهود والنصارى ـ وقيل اليهود ، أي : قالوا ـ عزير
ابن الله ـ وقيل : النصارى ، أي : قالوا : المسيح ابن الله ـ وقيل : هم كفار العرب
، أي : قالوا : الملائكة بنات الله. وقوله : (سُبْحانَهُ) قد تقدم تفسيره ، والمراد هنا : تبرؤ الله تعالى عما
نسبوه إليه من اتخاذ الولد. وقوله : (بَلْ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ردّ على القائلين بأنه اتخذ ولدا ، أي : بل هو مالك لما
في السموات والأرض ، وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه ، والولد من جنسهم لا من
جنسه ، ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد. والقانت : المطيع الخاضع ، أي : كل من
في السموات والأرض مطيعون له ، خاضعون لعظمته ، خاشعون لجلاله ، والقنوت في أصل
اللغة أصله : القيام. قال الزجّاج : فالخلق قانتون ، أي : قائمون بالعبودية ، إما
إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك ، فأثر الصنعة بيّن عليهم ؛ وقيل : أصله
الطاعة ، ومنه (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) وقيل : السكون ، ومنه قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ولهذا قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام ؛ وقيل القنوت :
الصلاة ، ومنه
قول الشاعر :
قانتا لله
يتلو كتبه
|
|
وعلى عمد من
النّاس اعتزل
|
والأولى : أن
القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة ؛ قيل هي ثلاثة عشر معنى ، وهي مبينة. وقد نظمها
بعض أهل العلم ، كما أوضحت ذلك في شرحي على المنتقى. وبديع : فعيل للمبالغة ، وهو
خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بديع سماواته وأرضه ، أبدع الشيء : أنشأه لا عن مثال ،
وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له : مبدع. وقوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً) أي : أحكمه وأتقنه. قال الأزهري : قضى في اللغة على
وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قيل : هو مشترك بين معان ، يقال : قضى ،
بمعنى : خلق ، ومنه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ) وبمعنى أعلم ، ومنه : (وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) وبمعنى : أمر ، ومنه : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وبمعنى : ألزم ، ومنه : قضى عليه القاضي ، وبمعنى :
أوفاه ، ومنه (فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ) وبمعنى : أراد ، ومنه (فَإِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والأمر : واحد الأمور. وقد ورد في القرآن على أربعة عشر
معنى : الأوّل : الدين ، ومنه : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) الثاني : بمعنى القول ، ومنه : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) . الثالث : العذاب ، ومنه : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) الرابع : عيسى ، ومنه : (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي : أوجد عيسى عليه
__________________
السلام. الخامس : القتل ، ومنه : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ
اللهِ) السادس : فتح مكة ، ومنه : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ
بِأَمْرِهِ) . السابع : قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، ومنه : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ) . الثامن : القيامة ، ومنه : (أَتى أَمْرُ اللهِ) والتاسع : القضاء ، ومنه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) العاشر : الوحي ، ومنه : (يَتَنَزَّلُ
الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) الحادي عشر : أمر الخلائق ، ومنه : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) الثاني عشر : النصر ؛ ومنه : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) . الثالث عشر : الذنب ، ومنه (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) الرابع عشر : الشأن ، ومنه : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) هكذا أورد هذه المعاني بأطول من هذا بعض المفسرين ،
وليس تحت ذلك كثير فائدة ، وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها.
وقوله : (فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الظاهر في هذا : المعنى الحقيقي ، وأنه يقول سبحانه هذا
اللفظ ، وليس في ذلك مانع ولا جاء ما يوجب تأويله ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) وقال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ومنه قول الشاعر :
إذا ما أراد
الله أمرا فإنّما
|
|
يقول له كن
قوله فيكون
|
وقد قيل : إن
ذلك مجاز ، وأنه لا قول وإنما هو قضاء يقضيه ، فعبر عنه بالقول ، ومنه قول الشاعر
، وهو عمرو بن حممة الدوسيّ :
فأصبحت مثل
النّسر طارت فراخه
|
|
إذا رام
تطيارا يقال له قع
|
وقال آخر :
قالت جناحاه
لساقيه الحقا
|
|
ونجّيا
لحمكما أن يمزّقا
|
والمراد بقوله
: (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ) اليهود ، وقيل : النصارى ، ورجّحه ابن جرير ، لأنهم المذكورون
في الآية ، وقيل : مشركو العرب ، و (لَوْ لا) حرف تحضيض ، أي : هلّا (يُكَلِّمُنَا اللهُ) بنبوّة محمد فنعلم أنه نبيّ (أَوْ تَأْتِينا) بذلك علامة على نبوّته : والمراد بقوله : (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قيل : هم اليهود والنصارى ؛ في قول من جعل الذين لا
يعلمون : كفار العرب ، أو الأمم السالفة ، في قول من جعل : الذين لا يعلمون :
اليهود والنصارى ، أو اليهود ، في قول من جعل : الذين لا يعلمون : النصارى (تَشابَهَتْ) أي في التعنت والاقتراح ، وقال الفرّاء : (تَشابَهَتْ) في اتفاقهم على الكفر (قَدْ بَيَّنَّا
الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي : يعترفون بالحق ، وينصفون في القول ، ويذعنون
لأوامر الله سبحانه ، لكونهم مصدقين له سبحانه ، مؤمنين بآياته ، متبعين لما شرعه
لهم.
وقد أخرج
البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله تعالى : كذّبني ابن آدم وشتمني ، فأمّا
تكذيبه إيّاي : فيزعم : أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إيّاي : فقوله :
لي ولد ، فسبحاني أن أتّخذ صاحبة أو ولدا». وأخرج نحوه أيضا من حديث أبي هريرة ،
وفي الباب أحاديث. وأخرج عبد
__________________
ابن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (سُبْحانَ اللهِ) قال : تنزيه الله نفسه عن السوء. وأخرج عبد الرزاق ،
وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن موسى
بن طلحة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، أنه سئل عن التسبيح ، أن يقول الإنسان : سبحان الله ،
قال : برأه الله من السوء. وأخرجه الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي من طريق
طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن جدّه طلحة بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن تفسير سبحان الله ، فقال : هو تنزيه الله من كل سوء.
وأخرجه ابن مردويه عنه من طريق أخرى مرفوعا. وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو
يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني في
الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والضياء في المختارة ، عن أبي سعيد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة».
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال : مطيعون. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي
العالية في قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) يقول : ابتدع خلقهما ولم يشركه في خلقهما أحد. وأخرج
ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا محمد! إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله :
فليكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة ، أنهم كفار
العرب. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد قال : هم النصارى والذين من قبلهم
يهود.
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ
إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))
قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) يحتمل أن يكون منصوبا على الحال ، ويحتمل أن يكون
مفعولا له ، أي : أرسلناك لأجل التبشير والإنذار. وقوله : (وَلا تُسْئَلُ) قرأه الجمهور بالرفع مبنيا للمجهول ، أي : حال كونك غير
مسؤول ، وقرئ بالرفع مبنيا للمعلوم. قال الأخفش : ويكون في موضع الحال عطفا على (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي : حال كونك غير سائل عنهم ، لأن علم الله بكفرهم بعد
إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم ، وقرأ نافع : (وَلا تُسْئَلُ) بالجزم : أي لا يصدر منك السؤال عن هؤلاء ، أو لا يصدر
منك السؤال عمن مات منهم على كفره ومعصيته تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه ، أي : أن
هذا أمر فظيع وخطب شنيع ، يتعاظم المتكلم أن يجريه على لسانه ، أو يتعاظم السامع
أن يسمعه. وقوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ
الْيَهُودُ) الآية ، أي : ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه
عليك من الآيات ، ويوردونه من التعنتات ، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون ؛ وأجبتهم
عن كل تعنت ؛ لم يرضوا عنك ، ثم أخبره ؛ بأنهم لن يرضوا عنه ؛ حتى يدخل في دينهم ،
ويتبع ملتهم. والملّة : اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه ، وهكذا
الشريعة ، ثم ردّ عليهم
سبحانه ، فأمره بأن يقول لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ
هُوَ الْهُدى) الحقيقي ، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة ،
والكتب المحرّفة ، ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إن اتبع أهواءهم ، وحاول رضاهم ، وأتعب نفسه في طلب ما
يوافقهم ، ويحتمل أن يكون تعريضا لأمته ، وتحذيرا لهم أن يواقعوا شيئا من ذلك ، أو
يدخلوا في أهوية أهل الملل ، ويطلبوا رضا أهل البدع. وفي هذه الآية من الوعيد
الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين
لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ، ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين
بمذاهب السوء ، التاركين للعمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لمحض الرأي عليهما ؛ فإن
غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا وأبان من أخلاقه لينا ؛ لا يرضيه إلا اتباع بدعته ،
والدخول في مداخله ، والوقوع في حبائله ، فإن فعل العالم ذلك ؛ بعد أن علمه الله
من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله ، لا ما هم عليه من
تلك البدع التي هي ضلالة محضة ، وجهالة بيّنة ورأي منها ، وتقليد على شفا جرف هار
، فهو إذ ذاك ماله من الله من وليّ ولا نصير ، ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة ،
وهالك بلا شك ولا شبهة. وقوله : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قيل : هم المسلمون ، والكتاب : هو القرآن ، وقيل : من
أسلم من أهل الكتاب ، والمراد بقوله : (يَتْلُونَهُ) أنهم يعملون بما فيه ، فيحلّلون حلاله ، ويحرمون حرامه
، فيكون : من تلاه ، يتلوه : إذا اتبعه ، ومنه قوله تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي : اتبعها ، كذا قيل ، ويحتمل أن يكون من التلاوة ،
أي : يقرءونه حقّ قراءته ، لا يحرفونه ولا يبدّلونه. وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) مبتدأ ، وخبره : (يَتْلُونَهُ) أو الخبر قوله : (فَأُولئِكَ) مع ما بعده.
وقد أخرج عبد
الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزل (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ
بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) فما ذكرهما حتى توفاه الله. قال السيوطي : هذا مرسل
ضعيف الإسناد. ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعا وقال : هو
معضل الإسناد ، ضعيف ، لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
مالك قال : (الْجَحِيمِ) : ما عظم من النار. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : إن
يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك
عليهم ، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم. فأنزل الله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا
النَّصارى) الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قال : هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عباس في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ) قال : يحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، ولا يحرّفونه عن
مواضعه. وأخرجوا عنه أيضا قال : يتبعونه حق اتباعه ، ثم قرءوا (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) يقول : اتبعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب في
قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ) إذا مرّ بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مرّ بذكر
الناس تعوذ بالله من النار. وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل عن ابن
عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ) «يتبعونه حق اتباعه» ، وكذا قال القرطبي في تفسيره أن في إسناده مجاهيل ؛
قال : لكن معناه صحيح.
__________________
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير من طرق عن ابن مسعود في تفسيره هذه الآية مثل
ما سبق عن ابن عباس في قوله : يحلّون حلاله إلى آخره. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد
بن أسلم قال : يتكلمون به كما أنزل ولا يكتمونه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
قتادة في هذه الآية قال : هم أصحاب محمد ، ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب. وأخرج
وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ) قال : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما
أشكل عليهم إلى عالمه.
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
(١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ (١٢٤))
قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ ـ) إلى قوله ـ (وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) قد سبق مثل هذا في صدر السورة ، وتقدم تفسيره ، ووجه
التكرار الحثّ على اتباع الرسول النبي الأمّي ، ذكر معناه ابن كثير في تفسيره.
وقال البقاعي في تفسيره : إنه لما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ؛ ثم في
بيان عوارهم ؛ وهتك أستارهم ؛ وختم ذلك بالترهيب لتضييع أديانهم بأعمالهم وأحوالهم
وأقوالهم ؛ أعاد ما صدّر به قصتهم من التذكير بالنعم ، والتحذير من حلول النقم يوم
تجمع الأمم ، ويدوم فيه الندم لمن زلّت به القدم ، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة ،
والمقصود بالذات الحثّ على انتهاز الفرصة. انتهى. وأقول : ليس هذا بشيء ، فإنه لو
كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى ؛ وأنه أعاد ما صدر به قصتهم لذلك ؛ لكان
الأولى بالتكرار ؛ والأحق بإعادة الذكر ؛ هو قوله سبحانه : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فإن هذه الآية مع كونها أوّل الكلام معهم ؛ والخطاب لهم
في هذه السورة ؛ هي أيضا أولى بأن تعاد وتكرر ؛ لما فيها من الأمر بذكر النعم ،
والوفاء بالعهد ، والرهبة لله سبحانه ، وبهذا تعرف صحة ما قدّمناه لك عند أن شرع
الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه. ثم حكى البقاعي بعد كلامه
السابق عن الحوالي أنه قال : كرّره تعالى إظهارا لمقصد التئام آخر الخطاب بأوّله ،
وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلا لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن ، حتى
كان الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك الغاية فيتلوها
، ليكون في تلاوته جامعا لطرفي الثناء ، وفي تفهيمه جامعا لمعاني طرفي المعنى. انتهى.
وأقول : لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك. وأما قوله وليتخذ
ذلك أصلا لما يرد من التكرار في سائر القرآن ؛ فمعلوم أن حصول هذا الأمر في
الأذهان ؛ وتقرره في الأفهام ؛ لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد
بها ، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما ، ولله الحكمة
البالغة التي لا تبلغها الأفهام ولا تدركها العقول ، فليس في تكليف هذه المناسبات
المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر. قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) الابتلاء : الامتحان والاختبار ، أي : ابتلاه بما أمره
به ،
__________________
و (إِبْراهِيمَ) معناه في السريانية : أب رحيم ، كذا قال الماوردي. قال
ابن عطية : ومعناه في العربية ذلك. قال السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين
السرياني والعربي. وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالا في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع
كون رتبته التأخير ، وأجاب عنه بأنه قد تقدّم لفظا فرجع إليه ، والأمر في هذا أوضح
من أن يشتغل بذكره ، أو ترد في مثله الأسئلة ، أو يسوّد وجه القرطاس بإيضاحه.
وقوله : (بِكَلِماتٍ) قد اختلف العلماء في تعيينها ، فقيل : هي شرائع الإسلام
، وقيل : ذبح ابنه ، وقيل : أداء الرسالة ، وقيل : هي خصال الفطرة ، وقيل : هي
قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) وقيل : بالطهارة ، كما سيأتي بيانه. قال الزجّاج : وهذه
الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم. انتهى. وظاهر النظم
القرآني أن الكلمات هي قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) وما بعده ، ويكون ذلك بيانا للكلمات ، وسيأتي عن بعض
السلف ما يوافق ذلك ، وعن آخرين ما يخالفه. وعلى هذا فيكون قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) مستأنفا ، كأنه : ماذا قال له؟ وقال ابن جرير ما حاصله :
إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز
الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ، ولم يصح في ذلك خبر
بنقل الواحد ؛ ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ثم قال : فلو قال قائل : إن
الذي قاله مجاهد وأبو صالح الربيع بن أنس أولى بالصواب ، يعني : أن الكلمات هي
قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى
إِبْراهِيمَ) وما بعده. ورجّح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر ،
وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح. وقوله : (فَأَتَمَّهُنَ) أي : قام بهنّ أتم قيام ، وامتثل أكمل امتثال. والإمام
: هو ما يؤتم به ، ومنه قيل للطريق : إمام ، وللبناء : إمام ، لأنه يؤتم بذلك ، أي
: يهتدي به السالك ، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون
بهديه أطلق عليه هذا اللفظ. وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم ، أي : واجعل من
ذريتي أئمة ، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته ،
أي : ومن ذريتي ماذا يكون يا ربّ؟ فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة ، وأنهم لا يصلحون
لذلك ، ولا يقومون به ، ولا ينالهم عهد الله سبحانه. والذرية : مأخوذة من الذرّ ،
لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذرّ ، وقيل مأخوذة من :
ذرأ الله الخلق يذرؤهم : إذا خلقهم. وفي الكتاب العزيز : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ
الرِّياحُ) قال في الصحاح : ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه
ذروا وذريا ، أي : نسفته ؛ وقال الخليل ، إنما سمّوا ذرية لأن الله تعالى ذرأها
على الأرض كما ذرأ الزراع البذر. واختلف في المراد بالعهد فقيل : الإمامة ؛ وقيل :
النبوّة ؛ وقيل : عهد الله : أمره. وقيل : الأمان من عذاب الآخرة ، ورجّحه الزجّاج
، والأوّل أظهر كما يفيده السياق. وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن
الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد ، لأنه إذا زاغ عن ذلك
كان ظالما. ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد ، وما تفيده الإضافة من
العموم ، فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق
، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية. وقد
اختار ابن جرير : أن هذه الآية وإن
__________________
كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ، ففيها إعلام من
الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى. ولا يخفاك أنه
لا جدوى لكلامه هذا. فالأولى أن يقال : إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا
يولّوا أمور الشرع ظالما ، وإنما قلنا إنه في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز
أن تتخلف. وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرا من الظالمين. قوله :
(وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ) : هو الكعبة ، غلب عليه كما غلب النجم على الثريا ، و (مَثابَةً) : مصدر من : ثاب ، يثوب ، مثابا ، ومثابة ، أي : مرجعا
يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه ، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة :
مثابا لأفناء
القبائل كلّها
|
|
تخبّ إليها
اليعملات الذّوامل
|
وقرأ الأعمش : «مثابات»
وقيل : المثابة : من الثواب ، أي : يثابون هنالك ، وقال مجاهد : المراد : أنهم لا
يقضون منه أوطارهم ، قال الشاعر :
جعل البيت
مثابا لهم
|
|
ليس منه
الدهر يقضون الوطر
|
قال الأخفش :
ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه ، فهي كعلامة ونسابة. وقال غيره : هي للتأنيث ؛
وليست للمبالغة. وقوله : (وَأَمْناً) هو اسم مكان ، أي : موضع أمن. وقد استدل بذلك جماعة من
أهل العلم ؛ على أنه لا يقام الحدّ على من لجأ إليه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وقيل : إن ذلك منسوخ. وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى) قرأ نافع وابن عامر : بفتح الخاء على أنه فعل ماض ، أي
: جعلنا البيت مثابة للناس ، وأمنا ، واتخذوه مصلى. وقرأ الباقون : على صيغة الأمر
؛ عطفا على اذكروا ؛ المذكور أوّل الآيات ، أو على اذكروا المقدّر عاملا في قوله :
(وَإِذْ) ويجوز أن يكون على تقدير القول ، أي : وقلنا اتخذوا :
والمقام في اللغة : موضع القيام. قال النحاس : هو من : قام ، يقوم ، يكون مصدرا
واسما للموضع ، ومقام : من : أقام ، وليس من هذا قول الشاعر :
وفيهم مقامات
حسان وجوههم
|
|
وأندية
ينتابها القول والفعل
|
لأن معناه أهل
مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ،
ويصلّون عنده ركعتي الطواف ؛ وقيل : المقام : الحج كله ، روي ذلك عن عطاء ومجاهد ؛
وقيل : عرفة والمزدلفة ، روي عن عطاء أيضا. وقال الشعبي : الحرم كله مقام إبراهيم.
وروي عن مجاهد.
وقد أخرج عبد
الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم
وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في
الجسد. في الرأس : قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق والسّواك ، وفرق الشعر ، وفي
الجسد : تقليم الأظافر ، وحلق العانة ، والختان ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط
والبول بالماء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن
أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ،
وابن مردويه ، وابن عساكر عنه قال : ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله
إلا إبراهيم. وقرأ هذه الآية ، فقيل له : ما الكلمات؟ قال : سهام الإسلام ثلاثون
سهما : عشرة في براءة (التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ) إلى آخر الآية ، وعشرة في أوّل سورة (قَدْ أَفْلَحَ) و (سَأَلَ سائِلٌ) (وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) لآيات ، وعشرة في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ) إلى آخر الآية ، (فَأَتَمَّهُنَ) كلهنّ ، فكتب له براءة ، قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، والحاكم عنه ، قال : منهنّ مناسك الحج. وأخرج ابن جرير عنه قال : الكلمات
: (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً)(وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) والآيات في شأن المناسك ، والمقام الذي جعل لإبراهيم ،
والرزق الذي رزق ساكنو البيت ، وبعث محمد في ذريتهما. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن
جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال : ابتلي بالآيات التي بعدها. وأخرجا أيضا عن الشعبي
مثله. وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الكلمات التي ابتلي
بهنّ إبراهيم فاتمهنّ : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ، ومحاجّته نمرود في
الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم ، وصبره على قذفهم
إياه في النار ليحرقوه في الله ، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمره بالخروج
عنهم ، وما أمره به من الضيافة والصبر عليهما ، وما ابتلي به من ذبح ولده ، فلما
مضى على ذلك كله (قالَ) الله (لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن
قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه ، وابتلاه بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس فرضي
عنه ، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه ، وابتلاه بالختان فرضي عنه ، وابتلاه بابنه فرضي
عنه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَأَتَمَّهُنَ) قال : فأداهنّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من فطرة إبراهيم السّواك». قلت : وهذا على تقدير أن
إسناده إلى عطاء صحيح فهو مرسل لا تقوم به الحجة ، ولا يحلّ الاعتماد على مثله في
تفسيره كلام الله سبحانه ، وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم
عن مجاهد قال : من فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم. ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة
في مصنفه عنه قال : ست من فطرة إبراهيم : قص الشارب ، والسواك ، والفرق ، وقص
الأظفار ، والاستنجاء ، وحلق العانة ، قال : ثلاثة في الرأس ، وثلاثة في الجسد.
وقد ثبت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك
العشر لهذه الأمة ، ولم يصح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنها الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم. وأحسن ما روي عنه
ما أخرجه الترمذي وحسّنه عن ابن عباس قال : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقصّ أو يأخذ من شاربه. قال : وكان خليل الرحمن إبراهيم
يفعله. ولا يخفاك أن فعل الخليل له لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلي بها ،
وإذا لم يصح شيء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات
؛ لم يبق لنا إلا أن نقول : إنها ما ذكره الله سبحانه في كتابه بقوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) إلى آخر الآيات ، ويكون ذلك بيانا للكلمات ، أو السكوت
وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه. وأما ما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة
من بعدهم في تعيينها ، فهو أوّلا أقوال صحابة لا تقوم بها الحجة فضلا عن أقوال من
بعدهم ،
__________________
وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك ؛ وأن له حكم الرفع ؛ فقد اختلفوا
في التعيين اختلافا يمتنع معه العمل ببعض ما روي عنهم دون البعض الآخر ، بل اختلفت
الروايات عن الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس ، فكيف يجوز العمل بذلك؟ ـ وبهذا
تعرف ضعف قول من قال : إنه يصار إلى العموم ، ويقال : تلك الكلمات هي جميع ما ذكر
هنا ، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف ، والمتناقض ، وما لا تقوم به
الحجة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس (قالَ : إِنِّي
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) يقتدى بدينك ، وهديك ، وسنتك (قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) إماما لغير ذريتي (قالَ : لا يَنالُ
عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أن يقتدى بدينهم ، وهديهم ، وسنتهم ـ. وأخرج الفريابي ،
وابن أبي حاتم عنه قال : قال الله لإبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فأبى أن يفعل ، ثم قال : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ). وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة
قال : هذا عند الله يوم القيامة ؛ لا ينال عهده ظالما ، فأما في الدنيا فقد نالوا
عهده ، فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم ، فلمّا كان يوم القيامة قصر الله
عهده وكرامته على أوليائه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية
أنه قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في الآية قال : يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال عهده ،
ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر
عنه أنه قال : ليس لظالم عليك عهد في معصية الله. وقد أخرج وكيع ، وابن مردويه من
حديث علي عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) قال : لا طاعة إلا في المعروف. وإسناده عند ابن مردويه
هكذا : قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعد
الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن
أبي عبد الرحمن السلمي عن عليّ ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم فذكره. وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين ، سمعت
النبيّ يقول : «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال
في تفسير الآية : ليس للظالم عهد ، وإن عاهدته فانقضه. قال ابن كثير : وروي عن
مجاهد وعطاء ومقاتل وابن حبان نحو ذلك. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله : (مَثابَةً لِلنَّاسِ
وَأَمْناً) قال : يثوبون إليه ثم يرجعون. وأخرج ابن جرير عنه أنه
قال : لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه. وأخرج عبد
الرزاق ، وعبد ابن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير ،
وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (وَأَمْناً) قال : أمنا للناس. وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن
عمر بن الخطاب قال : وافقت ربي في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول
الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقلت : يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ
والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن ، فنزلت آية الحجاب ـ واجتمع على رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساؤه في الغيرة ، فقلت لهنّ : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) فنزلت كذلك. وأخرجه مسلم وغيره مختصرا من حديث ابن عمر
عنه. وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر «أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم رمل ثلاثة أشواط
__________________
ومشى أربعا ، حتّى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين ، ثم
قرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)» وفي مقام إبراهيم عليهالسلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها ، والأحاديث
الصحيحة تدل على : أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء
الكعبة لما ارتفع الجدار ، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه ، كما في البخاري من حديث
ابن عباس ، وهو الذي كان ملصقا بجدار الكعبة. وأوّل من نقله عمر بن الخطاب ، كما
أخرجه عبد الرزاق ، والبيهقي بإسناد صحيح ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، من طرق
مختلفة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حجّ النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لمّا طاف النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال له عمر : هذا مقام إبراهيم؟ قال : نعم». وأخرج نحوه
ابن مردويه.
(وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ
فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (١٢٨))
قوله : (عَهِدْنا) معناه هنا : أمرنا أو أوجبنا. وقوله : (أَنْ طَهِّرا) في موضع نصب بنزع الخافض ، أي : بأن طهرا ، قاله
الكوفيون ؛ وقال سيبويه : هو بتقدير أي المفسرة ، أي : أن طهرا ، فلا موضع لها من
الإعراب ، والمراد بالتطهير : قيل : من الأوثان ؛ وقيل : من الآفات والريب ؛ وقيل
: من الكفار ؛ وقيل : من النجاسات ، وطواف الجنب ، والحائض ، وكل خبيث. والظاهر
أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع ، وأن كل ما يصدق عليه مسمّى التطهير فهو يتناوله
إما تناولا شموليا أو بدليا ، والإضافة في قوله : (بَيْتِيَ) للتشريف والتكريم. وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأهل
المدينة ، وهشام ، وحفص : (بَيْتِيَ) بفتح الياء ، وقرأ الآخرون بإسكانها. والطائف : الذي
يطوف به ؛ وقيل : الغريب الطارئ على مكة. والعاكف : المقيم ، وأصل العكوف في اللغة
: اللزوم والإقبال على الشيء ؛ وقيل : هو المجاور دون المقيم من أهلها. والمراد
بقوله : (الرُّكَّعِ
السُّجُودِ) المصلّون ، وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان
الصلاة. وقوله : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ) ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرّم مكة
، والأحاديث الدالة على أن الله حرّمها يوم خلق السموات والأرض ، والجمع بين هذه
الأحاديث في هذا البحث. وقوله : (بَلَداً آمِناً) أي : مكة ؛ والمراد : الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم
كقوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : راض صاحبها. وقوله : (مَنْ آمَنَ) بدل من قول أهله ، أي : ارزق من آمن من أهله دون من
كفر. وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردّ على إبراهيم حيث
طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم ، أي : وأرزق من كفر ، فأمتّعه بالرزق قليلا ، ثم
أضطره إلى عذاب النار ؛ ويحتمل أن يكون كلاما مستقلا بيانا لحال من كفر ، ويكون في
حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية ؛ أي : من كفر فإني أمتعه
__________________
في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) بعد هذا التمتيع (إِلى عَذابِ النَّارِ) فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم
في هذه الدنيا ، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شرّ محض ، وهو عذاب النار ؛ وأما على
قراءة من قرأ : (فَأُمَتِّعُهُ) بصيغة الأمر وكذلك له : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) بصيغة الأمر ، فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام
إبراهيم ، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلا ، ثم دعا
عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار. ومعنى : (أَضْطَرُّهُ) : ألزمه حتى صيّره مضطرا لذلك لا يجد عنه مخلصا ، ولا
منه متحوّلا. وقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ) هو حكاية لحال ماضية استحضارا لصورتها العجيبة. والقواعد
: الأساس ، قاله أبو عبيدة والفرّاء. وقال الكسائي : هي الجدر. والمراد برفعها :
رفع ما هو مبنيّ فوقها ، لا رفعها في نفسها ، فإنها لم ترتفع ، لكنها لما كانت متصلة
بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه ، كما يقال : ارتفع البناء ،
ولا يقال : ارتفع أعالي البناء ، ولا أسافله. وقوله : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) في محل الحال بتقدير القول ، أي : قائلين : ربنا. وقرأ
أبيّ وابن مسعود : «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل».
وقوله : (وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي : اجعلنا ثابتين عليه ، أو زدنا منه. قيل المراد
بالإسلام هنا : مجموع الإيمان والأعمال. وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) أي : واجعل من ذريتنا ، و «من» للتبعيض أو للتبيين.
وقال ابن جرير : إنه أراد بالذرية : العرب خاصة ، وكذا قال السهيلي. قال ابن عطية
: وهذا ضعيف ؛ لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به. والأمة :
الجماعة في هذا الموضع ؛ وقد تطلق على الواحد ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) وتطلق على الدين ومنه : (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) وتطلق على الزمان ، ومنه : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) وقوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) هي من الرؤية البصرية. وقرأ عمر بن عبد العزيز ، وقتادة
، وابن كثير ، وابن محيصن ، وغيرهم : «أرنا» بسكون الراء ، ومنه قول الشاعر :
أرنا إداوة
عبد الله نملؤها
|
|
من ماء زمزم
إنّ القوم قد ظمئوا
|
والمناسك : جمع
نسك ، وأصله في اللغة : الغسل ، يقال نسك ثوبه : إذا غسله. وهو في الشرع : اسم
للعبادة ؛ والمراد هنا مناسك الحج ؛ وقيل : مواضع الذبح ، وقيل : جميع المتعبدات.
وقوله : (وَتُبْ عَلَيْنا) قيل المراد بطلبهما للتوبة : التثبيت. لأنهما معصومان
لا ذنب لهما ؛ وقيل المراد : تب على الظلمة منا.
وقد أخرج ابن
جرير عن عطاء قال : (وَعَهِدْنا إِلى
إِبْراهِيمَ) أي : أمرناه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
(أَنْ طَهِّرا
بَيْتِيَ) قال : من الأوثان. وأخرج أيضا عن مجاهد ، وسعيد بن جبير
مثله ، وزادوا : الريب ، وقول الزور ، والرجس. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إذا كان قائما فهو من الطائفين
، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين ، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد
فقال : هم العاكفون. وقد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن إبراهيم حرّم مكة ، وإني حرّمت المدينة
ما بين لابتيها ، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها» كما أخرجه أحمد ، ومسلم ،
والنسائي ،
__________________
وغيرهم من حديث جابر. وقد روي هذا المعنى عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم من طريق جماعة من الصحابة ، منهم : رافع ابن خديج عند مسلم
وغيره ، ومنهم : أبو قتادة عند أحمد ، ومنهم : أنس عند الشيخين ، ومنهم : أبو
هريرة عند مسلم ، ومنهم : عليّ بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط ، ومنهم :
أسامة عن زيد عند أحمد والبخاري ، ومنهم : عائشة عند البخاري ، وثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السّموات والأرض
وهي حرام إلى يوم القيامة» وأخرجه البخاري تعليقا ، وابن ماجة من حديث صفية بنت
شيبة. وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس. وأخرجه الشيخان وأهل السنن من
حديث أبي هريرة ، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا ، ولا تعارض بين هذه الأحاديث ،
فإن إبراهيم عليهالسلام لما بلغ الناس أن الله حرّمها ، وأنها لم تزل حرما آمنا
، نسب إليه أنه حرّمها ، أي : أظهر للناس حكم الله فيها ، وإلى هذا الجمع ذهب ابن
عطية وابن كثير. وقال ابن جرير : إنها كانت حراما ؛ ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى
سأله إبراهيم ؛ فحرّمها وتعبدهم بذلك. انتهى. وكلا الجمعين حسن. وقد أخرج ابن جرير
، وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي قال : بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم
فقال : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَراتِ) نقل الله الطائف من فلسطين. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم والأزرقي
عن الزهري. وأخرج نحوه أيضا الأزرقي عن بعض ولد نافع ابن جبير بن مطعم. وقد أخرج
الأزرقي نحوه مرفوعا من طريق محمد بن المنكدر. وأخرج أيضا عن محمد بن كعب القرظي
قال : دعا إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار ولم يدع لهم بشيء ، قال الله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) الآية. وأخرج نحوه سفيان بن عيينة عن مجاهد. وأخرج ابن
أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ) قال : كأنّ إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس ،
فأنزل الله : (وَمَنْ كَفَرَ) أيضا فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين ؛ أخلق خلقا لا
أرزقهم! أمتعهم قليلا ثم اضطرهم إلى عذاب النار ، ثم قرأ ابن عباس : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية
قال : قال أبيّ بن كعب في قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) أن هذا من قول الربّ. وقال ابن عباس : هذا من قول
إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :
القواعد : أساس البيت ، وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ،
وغيرهم عن سعيد بن جبير قصة مطوّلة وآخرها في بناء البيت : قال : فعند ذلك رفع
إبراهيم القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ؛ وإبراهيم بيني ؛ حتى إذا
ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله
الحجارة ، وهما يقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. وقد أكثر
المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت ، ومن أي
أحجار الأرض بني؟ وفي أي زمان عرف؟ ومن حجّه؟ وما ورد فيه من الأدلة على فضله ، أو
فضل بعضه بالحجر الأسود. وفي الدرّ المنثور من ذلك ما لم يكن في غيره فليرجع إليه
، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك ، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقا بالتفسير لم
نذكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية :
__________________
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال : كانا مسلمين ولكن سألاه الثبات. وأخرج ابن أبي
حاتم عن عبد الكريم ، قال : مخلصين. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في
قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) قال : يعنيان العرب. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي
حاتم عن مجاهد قال : قال إبراهيم ربّ أرنا مناسكنا ، فأتاه جبريل فأتى به البيت
فقال : ارفع القواعد ، فرفع القواعد ، وأتمّ البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق
به نحو منى ، فلما كان عند العقبة فإذا إبليس قائم عند الشجرة ، فقال : كبّر ؛
وارمه ، فكبّر ؛ ورماه ، فذهب إبليس ، حتى أتى الجمرة الوسطى ففعل به إبراهيم كما
فعل في الأولى ، ثم كذلك في الجمرة الثالثة ، ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به
المشعر الحرام فقال : هذا المشعر الحرام ، ثم ذهب حتى أتى به عرفات ، قال : وقد
عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاثا ، قال : نعم ، قال : فأذّن في الناس بالحج ، قال : كيف
أؤذن؟ قال : قل يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات ، فأجاب العباد : لبيك اللهم
لبيك ، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاجّ. وأخرج ابن جرير من طريق ابن
المسيب عن عليّ قال : فرغ إبراهيم من بناء البيت قال : قد فعلت أي ربّ! ف (أَرِنا مَناسِكَنا) أبرزها لنا ، علمناها ، فبعث الله جبريل فحجّ به. وفي
الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم
المناسك ، وفي أكثرها أن الشيطان تعرّض له كما تقدّم عن مجاهد. وقد أخرج ابن خزيمة
، والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس نحو ذلك ، وكذلك
أخرج عنه أحمد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي.
(رَبَّنا وَابْعَثْ
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠)
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١)
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى
لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢))
الضمير في قوله
: (وَابْعَثْ فِيهِمْ) راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقا. وقرأ أبيّ
وابعث في آخرهم ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الذرية. وقد أجاب الله لإبراهيم عليهالسلام هذه الدعوة ، فبعث في ذريته (رَسُولاً مِنْهُمْ) وهو محمد صلىاللهعليهوسلم. وقد أخبر عن نفسه بأنه دعوة إبراهيم كما سيأتي تخريج
ذلك إن شاء الله ، ومراده هذه الدعوة. والرسول : هو المرسل. قال ابن الأنباري :
يشبه أن يكون أصله : ناقة مرسال ورسلة : إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق.
ويقال : جاء القوم أرسالا ، أي : بعضهم في أثر بعض ، والمراد بالكتاب : القرآن.
والمراد بالحكمة : المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم للشريعة. وقوله : (يُزَكِّيهِمْ) أي : يطهرهم من الشرك وسائر المعاصي. وقيل : إن المراد
بالآيات : ظاهر الألفاظ ، والكتاب : معانيها ، والحكمة : الحكم ، وهو مراد الله
بالخطاب. والعزيز : الذي لا يعجزه شيء ، قاله ابن كيسان. وقال الكسائيّ : (الْعَزِيزُ) : الغالب (وَمَنْ يَرْغَبُ) في موضع رفع على الابتداء ، والاستفهام للإنكار. وقوله
: (إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ) في موضع الخبر ، وقيل : هو بدل من فاعل يرغب ،
والتقدير : وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا من سفه نفسه. قال الزجّاج :
سفه بمعنى : جهل ، أي : جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة : المعنى :
أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد : أن سفه بكسر الفاء يتعدّى كسفه بفتح الفاء مشدّدة.
قال الأخفش : (سَفِهَ نَفْسَهُ) أي : فعل بها من السفه ما صار به سفيها ؛ وقيل : إن
نفسه منتصب بنزع الخافض ؛ وقيل : هو تمييز ، وهذان ضعيفان جدا. وأما سفه بضم الفاء
: فلا يتعدّى ، قاله المبرد وثعلب. والاصطفاء : الاختيار ، أي : اخترناه في الدنيا
وجعلناه في الآخرة من الصالحين ، فكيف يرغب عن ملته راغب؟. وقوله : (إِذْ قالَ لَهُ) يحتمل أن يكون متعلقا بقوله : (اصْطَفَيْناهُ) أي : اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام ، ويحتمل أن يتعلق
بمحذوف هو : اذكر. قال في الكشاف : كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت ، ليعلم أنه المصطفى
الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله ، والضمير في قوله : (وَوَصَّى بِها) راجع إلى الملة ، أو إلى الكلمة ، أي : أسلمت لرب
العالمين. قال القرطبي : وهو أصوب ، لأنه أقرب مذكور ، أي : قولوا أسلمنا. انتهى.
والأوّل أرجح ؛ لأن المطلوب ممن بعده هو اتباع ملته لا مجرد التكلم لكلمة الإسلام
، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم وأولى بهم. ووصّى وأوصى : بمعنى ، وقرئ بهما ، وفي
مصحف عثمان : وأوصى وهي قراءة أهل الشام والمدينة ، وفي مصحف عبد الله ابن مسعود :
(وَوَصَّى) وهي قراءة الباقين (وَيَعْقُوبُ) معطوف على إبراهيم ، أي : وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى
إبراهيم بنيه. وقرأ عمرو بن فائد الأسواري ، وإسماعيل بن عبد الله المكي بنصب
يعقوب ، فيكون داخلا فيمن أوصاه إبراهيم ، قال القشيري : وهو بعيد لأن يعقوب لم
يدرك جدّه إبراهيم ؛ وإنما ولد بعد موته. وقوله : (يا بَنِيَ) هو بتقدير : أن. وقد قرأ أبيّ ، وابن مسعود ، والضحّاك
بإثباتها. قال الفراء : ألغيت أن لأن التوصية كالقول ، وكل كلام رجع إلى القول جاز
فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها ؛ وقيل : إنه على تقدير القول ، أي : قائلا يا بنيّ.
روي ذلك عن البصريين. وقوله : (اصْطَفى لَكُمُ
الدِّينَ) أي : اختاره لكم ، والمراد : ملته التي لا يرغب عنها
إلا من سفه نفسه ، وهي الملة التي جاء بها محمد صلىاللهعليهوسلم. وقوله : (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فيه إيجاز بليغ. والمراد الزموا الإسلام ولا تفارقوه
حتى تموتوا. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ) قال : رغبت اليهود والنصارى عن ملته ، واتخذوا اليهودية
والنصرانية بدعة ليست من الله ، تركوا ملة إبراهيم الإسلام ، وبذلك بعث الله نبيه
محمدا بملة إبراهيم ، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
مالك في قوله : (وَلَقَدِ
اصْطَفَيْناهُ) قال : اخترناه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ
بَنِيهِ) قال : وصّاهم بالإسلام ، ووصّى يعقوب بنيه بمثل ذلك.
وأخرج الثعلبي عن فضيل بن عياض في قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : محسنون بربكم الظنّ.
(أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ
مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَها
ما
كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ
(١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً
وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
(١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ
وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))
قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أم هذا قيل : هي المنقطعة ؛ وقيل : هي المتصلة ، وفي
الهمزة الإنكار المفيد للتقريع والتوبيخ ، والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون
إلى إبراهيم وإلى بنيه أنهم على اليهودية والنصرانية. فردّ الله ذلك عليهم وقال
لهم : أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى به بنيه فتدّعون ذلك عن علم ، أم لم تشهدوا بل
أنتم مفترون. والشهداء : جمع شاهد ، ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث التي لتأنيث
الجماعة ، والعامل في (إِذْ) الأولى : معنى الشهادة ، وإذ الثانية : بدل من الأولى ،
والمراد بحضور الموت : حضور مقدماته ، وإنما جاء ب : ما دون من في قوله : (ما تَعْبُدُونَ) لأن المعبودات من دون الله غالبها جمادات كالأوثان
والنار والشمس والكواكب. ومعنى (مِنْ بَعْدِي) أي : من بعد موتي. وقوله : (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) عطف بيان لقوله (آبائِكَ) وإسماعيل وإن كان عمّا ليعقوب ؛ لأن العرب تسمي العمّ
أبا وقوله : (إِلهاً) بدل من إلهك ؛ وإن كان نكرة ؛ فذلك جائز ، ولا سيما بعد
تخصيصه بالصفة التي هي قوله : (واحِداً) فإنه قد حصل المطلوب من الإبدال بهذه الصفة. وقيل : إن
إلها : منصوب على الاختصاص ؛ وقيل : إنه حال. قال ابن عطية : وهو قول حسن ، لأن
الغرض الإثبات حال الوحدانية. وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر ، وأبو رجاء العطاردي :
وإله أبيك فقيل : أراد إبراهيم وحده. ويكون قوله : (وَإِسْماعِيلَ) عطفا على أبيك ، وكذلك : (إِسْحاقَ) وإن كان هو أباه حقيقة وإبراهيم جدّه ، ولكن لإبراهيم
مزيد خصوصية ؛ وقيل إن قوله أبيك : جمع ، كما روي عن سيبويه أن : أبين ، جمع سلامة
، ومثله : أبون ، ومنه قول الشاعر :
فلمّا تبيّن
أصواتنا
|
|
بكين
وفدّيننا بالأبينا
|
وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) جملة حالية ، أي : نعبده حال إسلامنا له ، وجوز
الزمخشري أن تكون اعتراضية على ما يذهب إليه من جواز وقوع الجمل الاعتراضية آخر
الكلام. والإشارة بقوله : (تِلْكَ)
إلى إبراهيم وبنيه ؛ ويعقوب وبنيه و (أُمَّةٌ) بدل منه ، وخبره (قَدْ خَلَتْ) أو أمة : خبره ، وقد خلت : نعت لأمة ، وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) بيان لحال تلك الأمة ؛ وحال المخاطبين ؛ بأن لكل من
الفريقين كسبه ، لا ينفعه كسب غيره ولا يناله منه شيء ، ولا يضرّه ذنب غيره ، وفيه
الردّ على من يتكل على عمل سلفه ، ويروّح نفسه بالأماني الباطلة ، ومنه ما ورد في
الحديث «من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه» والمراد : أنكم لا تنتفعون بحسناتهم ،
ولا تؤاخذون بسيئاتهم ، ولا تسألون عن أعمالهم ، كما لا يسألون عن أعمالكم ، ومثله
: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) . ولما ادّعت اليهود والنصارى أن الهداية بيدها ؛ والخير
مقصور عليها ؛ ردّ ذلك عليهم بقوله : (بَلْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) أي : قل يا محمد هذه المقالة ، ونصب ملة بفعل مقدر ، أي
: نتبع ؛ وقيل التقدير : نكون ملة إبراهيم ، أي : أهل ملته ؛ وقيل : بل نهتدي بملة
إبراهيم ، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا. وقرأ الأعرج ، وابن أبي عبلة : «ملة»
بالرفع : أي : بل الهدى ملة إبراهيم. والحنيف : المائل عن الأديان الباطلة إلى دين
الحق ، وهو في أصل اللغة : الذي تميل قدماه كل واحدة إلى أختها. قال الزجّاج : وهو
منصوب على الحال ، أي : نتبع ملة إبراهيم حال كونه حنيفا. وقال عليّ بن سليمان :
هو منصوب بتقدير أعني ، والحال خطأ ؛ كما لا يجوز : جاءني غلام هند مسرعة. وقال في
الكشاف : هو حال من المضاف إليه ، كقولك : رأيت وجه هند قائمة ، وقال قوم : الحنف
: الاستقامة ، فسمّي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته ، وسمّي معوج الرجلين : أحنف ،
تفاؤلا بالاستقامة ، كما قيل للديغ : سليم ، وللمهلكة : مفازة. وقد استدل من قال
بأن الحنيف في اللغة المائل لا المستقيم بقول الشاعر :
إذا حوّل
الظّل العشيّ رأيته
|
|
حنيفا وفي
قرن الضّحى يتنصّر
|
أي : أن
الحرباء تستقبل القبلة بالعشيّ ، وتستقبل المشرق بالغداة ، وهي قبلة النصارى ،
ومنه قول الشاعر :
والله لو لا
حنف في رجله
|
|
ما كان في
رجالكم من مثله
|
وقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فيه تعريض باليهود لقولهم ـ عزير ابن الله ـ وبالنصارى
لقولهم ـ المسيح ابن الله ـ أي : أن إبراهيم ما كان على هذه الحالة التي أنتم
عليها من الشرك بالله ، فكيف تدّعون عليه أنه كان على اليهودية أو النصرانية؟
وقوله : (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ) خطاب للمسلمين ، وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة ؛
وقيل : إنه خطاب للكفار ؛ بأن يقولوا ذلك حتى يكونوا على الحق ، والأول أظهر.
والأسباط :
أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر ولدا ، ولكل واحد منهم من الأولاد جماعة ، والسّبط في
بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في العرب ، وسمّوا الأسباط من السبط ؛ وهو التتابع ،
فهم جماعة متتابعون ؛ وقيل : أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر ، أي : هم في
الكثرة بمنزلة الشجر ؛ وقيل : الأسباط : حفدة يعقوب ، أي : أولاد أولاده لا أولاده
، لأن الكثرة إنما كانت فيهم دون أولاد يعقوب في نفسه ، فهم أفراد لا أسباط. وقوله
:
__________________
(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ) قال الفرّاء : معناه : لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما
فعلت اليهود والنصارى. قال في الكشاف : وأحد : في معنى الجماعة ، ولذلك صحّ دخول
بين عليه. وقوله : (فَإِنْ آمَنُوا
بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) هذا الخطاب للمسلمين أيضا ، أي : فإن آمن أهل الكتاب
وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله ؛ ولم يفرّقوا بين أحد منهم ؛ فقد
اهتدوا ، وعلى هذا : فمثل زائدة ، كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) وقول الشاعر :
فصيّروا مثل كعصف مأكول
وقيل : إن
المماثلة وقعت بين الإيمانين ، أي : فإن آمنوا بمثل إيمانكم. وقال في الكشاف : إنه
من باب التبكيت ، لأن دين الحقّ واحد لا مثل له ؛ وهو دين الإسلام ، قال : أي :
فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مساويا له في الصحة والسّداد فقد اهتدوا ؛ وقيل : إن
الباء زائدة مؤكدة ؛ وقيل : إنها للاستعانة. والشقاق أصله من الشق وهو الجانب ،
كأنّ كل واحد من الفريقين في جانب غير الجانب الذي فيه الآخر ؛ وقيل : إنه مأخوذ
من فعل ما يشقّ ويصعب ، فكل واحد من الفريقين يحرص على فعل ما يشق على صاحبه ،
ويصح حمل الآية على كل واحد من المعنيين ، وكذلك قول الشاعر :
وإلّا
فاعلموا أنّا وأنتم
|
|
بغاة ما
بقينا في شقاق
|
وقول الآخر :
إلى كم تقتل
العلماء قسرا
|
|
وتفجر
بالشّقاق وبالنّفاق
|
وقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) وعد من الله تعالى لنبيه أنه سيكفيه من عانده وخالفه من
المتولين ، وقد أنجز له وعده بما أنزله من بأسه بقريظة والنضير وبني قينقاع. وقوله
: (صِبْغَةَ اللهِ) قال الأخفش وغيره : أي : دين الله ، قال : وهي منتصبة
على البدل من ملة. وقال الكسائي : هي منصوبة على تقدير اتبعوا ، أو على الإغراء ،
أي : الزموا ، ورجّح الزجاج الانتصاب على البدل من ملة ، كما قاله الفراء. وقال في
الكشاف : إنها مصدر مؤكد منتصب عن قوله : (آمَنَّا بِاللهِ) كما انتصب ـ وعد الله ـ عما تقدّمه ؛ وهي فعلة من صبغ ،
كالجلسة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ، والمعنى : تطهير الله ، لأن
الإيمان تطهير النفوس. انتهى ، وبه قال سيبويه ، أي : كونه مصدرا مؤكدا. وقد ذكر
المفسرون : أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء ، وهو الذي
يسمّونه : المعمودية ، ويجعلون ذلك تطهيرا لهم ، فإذا فعلوا ذلك قالوا الآن صار نصرانيا
حقا ، فردّ الله عليهم بقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) أي : الإسلام ، وسمّاه صبغة : استعارة ، ومنه قول بعض
شعراء همدان :
وكلّ أناس
لهم صبغة
|
|
وصبغة همدان
خير الصّبغ
|
صبغنا على
ذاك أولادنا
|
|
فأكرم
بصبغتنا في الصّبغ
|
__________________
وقيل : إن
الصبغة : الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام بدلا من معمودية النصارى ، ذكره
الماوردي. وقال الجوهري : صبغة الله : دينه ، وهو يؤيد ما تقدم عن الفرّاء ؛ وقيل
: الصبغة : الختان. وقوله : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا
فِي اللهِ) أي : أتجادلوننا في الله ، أي : في دينه والقرب منه
والحظوة عنده ، وذلك كقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وقرأ ابن محيصن : أتحاجّونّا بالإدغام لاجتماع المثلين.
وقوله : (وَهُوَ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ) أي : نشترك نحن وأنتم في ربوبيته لنا وعبوديتنا له ،
فكيف تدّعون أنكم أولى به منا وتحاجوننا في ذلك. وقوله : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي : لنا أعمال ولكم أعمال ، فلستم بأولى بالله منا ،
وهو مثل قوله تعالى : (فَقُلْ لِي عَمَلِي
وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ) . وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ
مُخْلِصُونَ) أي : نحن أهل الإخلاص للعبادة دونكم ، وهو المعيار الذي
يكون به التفاضل والخصلة التي يكون صاحبها أولى بالله سبحانه من غيره ، فكيف
تدّعون لأنفسكم ما نحن أولى به منكم وأحق؟ وفيه توبيخ لهم وقطع لما جاءوا به من
المجادلة والمناظرة. وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ) قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص (تَقُولُونَ) بالتاء الفوقية ، وعلى هذه القراءة تكون أم هاهنا
معادلة للهمزة في قوله : (أَتُحَاجُّونَنا) أي : أتحاجوننا في الله أم تقولون إن هؤلاء الأنبياء
على دينكم ؛ وعلى قراءة الياء التحتية تكون أم : منقطعة ، أي : بل يقولون : وقوله
: (قُلْ أَأَنْتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) فيه تقريع وتوبيخ ، أي : أن الله أخبرنا بأنهم لم
يكونوا هودا ولا نصارى ، وأنتم تدّعون أنهم كانوا هودا ونصارى ، فهل أنتم أعلم أم
الله سبحانه؟ وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام ، أي : لا أحد أظلم (مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ
اللهِ) يحتمل أن يريد بذلك الذّم لأهل الكتاب بأنهم يعلمون أن
هؤلاء الأنبياء ما كانوا هودا ولا نصارى ، بل كانوا على الملة الإسلامية ، فظلموا
أنفسهم بكتمهم لهذه الشهادة ، بل بادّعائهم لما هو مخالف لها ، وهو أشدّ في الذنب
ممن اقتصر على مجرد الكتم الذي لا أحد أظلم منه ؛ ويحتمل أن المراد أن المسلمين لو
كتموا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منهم ، ويكون المراد بذلك التعريض بأهل الكتاب
؛ وقيل : المراد هنا ما كتموه من صفة محمد صلىاللهعليهوسلم. وفي قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد شديد ، وتهديد ليس عليه مزيد ، وإعلام بأن الله
سبحانه لا يترك عقوبتهم على هذا الظلم القبيح والذنب الفظيع ، وكرّر قوله سبحانه :
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ) إلى آخر الآية لتضمنها معنى التهديد والتخويف الذي هو
المقصود في هذا المقام.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (أَمْ كُنْتُمْ
شُهَداءَ) يعني : أهل الكتاب. وأخرج أيضا عن الحسن في قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) قال : يقول : لم يشهد اليهود ولا النصارى ولا أحد من
الناس يعقوب إذ أخذ على بنيه الميثاق إذ حضره الموت أن لا تعبدوا إلا الله ،
فأقرّوا بذلك وشهد عليهم أن قد أقرّوا بعبادتهم أنهم مسلمون. وأخرج عن ابن عباس
أنه كان يقول : الجدّ : أب ويتلو الآية. وأخرج أيضا عن أبي العالية في الآية قال :
سمّى العمّ أبا. وأخرج أيضا نحوه عن محمد بن كعب. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد ،
وقالت النصارى مثل هذا ، فأنزل الله فيهم : (وَقالُوا كُونُوا
__________________
هُوداً)
الآية. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (حَنِيفاً) قال : متبعا. وأخرجا أيضا عن ابن عباس في قوله : (حَنِيفاً) قال : حاجّا. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : الحنيف
: المستقيم. وأخرج أيضا خصيف قال : الحنيف : المخلص. وأخرج أيضا عن أبي قلابة قال
: الحنيف : الذي يؤمن بالرسل كلهم من أوّلهم إلى آخرهم. وأخرج أحمد عن أبي أمامة
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بعثت بالحنيفيّة السّمحة». وأخرج أحمد أيضا ،
والبخاري في الأدب المفرد ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : «قيل : يا رسول الله!
أيّ الأديان أحب إلى الله؟ قال : الحنيفية السمحة». وأخرج الحاكم في تاريخه ، وابن
عساكر من حديث أسعد بن عبد الله بن مالك الخزاعي مرفوعا مثله. وأخرج أحمد ، ومسلم
، وأبو داود ، والنسائي عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في
البقرة : (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ) كلها وفي الآخرة (آمَنَّا بِاللهِ
وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) . وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب
يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله» الآية. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس قال : الأسباط : بنو يعقوب كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد
أمة من الناس. وروى نحوه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي ، وحكاه ابن كثير في
تفسيره عن أبي العالية والربيع وقتادة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي
في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : لا تقولوا : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ،
فإن الله لا مثل له ، ولكن قولوا : فإن آمنوا بالذي آمنتم به. وأخرج ابن أبي داود
في المصاحف ، والخطيب في تاريخه عن أبي حمزة قال : كان ابن عباس يقرأ : فإن آمنوا
بالذي آمنتم به وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) قال : فراق. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (صِبْغَةَ اللهِ) قال : دين الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
مجاهد قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأخرج ابن مردويه ، والضياء في
المختارة عن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ بني إسرائيل قالوا : يا موسى! هل يصبغ ربّك؟
فقال : اتّقوا الله ، فناداه ربّه : يا موسى! سألوك هل يصبغ ربّك؟ فقل : نعم ، أنا
أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود ، والألوان كلّها في صبغتي». وأنزل الله على
نبيه : (صِبْغَةَ اللهِ
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن
عباس موقوفا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة قال : إن
اليهود تصبغ أبناءها يهودا ، والنصارى تصبغ أبناءها نصارى ، وإن صبغة الله الإسلام
، ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام ولا أطهر ، وهو دين الله الذي بعث به نوحا ومن
كان بعده من الأنبياء. وأخرج ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد عن ابن عباس في قوله :
(صِبْغَةَ اللهِ) قال : البياض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
: (أَتُحَاجُّونَنا) قال : أتخاصموننا. وأخرج ابن جرير عنه قال : أتجادلوننا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً) الآية ، قال : أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم
يعلمون أنه دين الله ، واتخذوا اليهودية والنصرانية ، وكتموا محمدا وهم يعلمون أنه
رسول الله. وأخرج عبد
__________________
ابن حميد ، وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج
ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ) قال : يعني : إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط.
(سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ
مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣))
قوله : (سَيَقُولُ) هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلىاللهعليهوسلم وللمؤمنين ؛ بأن السفهاء من اليهود والمنافقين سيقولون
هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقيل : إن (سَيَقُولُ) بمعنى قال ، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة
على استدامته واستمراره عليه ، وقيل : إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى
الكعبة ، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوينا
لصدمته ، وتخفيفا لروعته ، وكسرا لسورته. والسفهاء : جمع سفيه. وهو الكذّاب
البهّات المعتمد خلاف ما يعلم ، كذا قال بعض أهل اللغة. وقال في الكشاف : هم خفاف
الأحلام ، ومثله في القاموس. وقد تقدم في تفسير قوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) ما ينبغي الرجوع إليه ؛ ومعنى : (ما وَلَّاهُمْ) : ما صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كانُوا عَلَيْها) وهي بيت المقدس ، فردّ الله عليهم بقوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء. وفي قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي صلىاللهعليهوسلم لأهل ملته إلى الصراط المستقيم. وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ) أي : مثل ذلك الجعل جعلناكم ؛ قيل معناه : وكما أن
الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا. والوسط : الخيار أو العدل ، والآية
محتملة للأمرين ، وما يحتملهما قول زهير :
هم وسط يرضى
الأنام بحكمهم
|
|
إذا نزلت
إحدى اللّيالي بمعظم
|
ومثله قول
الآخر :
أنتم أوسط
حيّ علموا
|
|
بصغير الأمر
أو إحدى الكبر
|
وقد ثبت عن
النبي صلىاللهعليهوسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي ، فوجب الرجوع إلى
ذلك ، ومنه قول الراجز :
لا تذهبنّ في
الأمور فرطا
|
|
لا تسألنّ إن
سألت شططا
|
وكن من النّاس
جميعا وسطا ولما كان الوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا ؛ أي : هذه الأمة لم
تغل غلوّ النصارى في عيسى ،
__________________
ولا قصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم. ويقال : فلان أوسط قومه وواسطتهم ،
أي : خيارهم. وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) أي : يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم أنهم قد
بلغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم ، ويكون الرسول شهيدا على أمته بأنهم قد فعلوا
ما أمره بتبليغه إليهم ، ومثله قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ؛ قيل : إن قوله : (عَلَيْكُمْ) يعني : لكم ، أي : يشهد لهم بالإيمان ؛ وقيل : معناه :
يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قال في الكشاف : لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على
المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) انتهى. وقالت طائفة : معنى الآية : يشهد بعضكم على بعض
بعد الموت ؛ وقيل : المراد : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا
بشهادة العدول. وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله ؛ وإنما أخر لفظ
(عَلَى) في شهادة الأمة على الناس ، وقدّمها في شهادة الرسول
عليهم ، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأوّل : إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي
الآخر : اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. وقوله : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) قيل : المراد بهذه القبلة هي بيت المقدس ؛ أي : ما
جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب ، ويؤيده هذا قوله : (كُنْتَ عَلَيْها) إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة ؛
وقيل : المراد : الكعبة ، أي : ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت
إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض ، ويكون (كُنْتَ) بمعنى الحال ؛ وقيل : المراد بذلك : القبلة التي كان
عليها قبل استقبال بيت المقدس ، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة ، ثم لما هاجر توجه
إلى بيت المقدس تألفا لليهود ثم صرف إلى الكعبة. وقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قيل : المراد بالعلم هنا : الرؤية ؛ وقيل : المراد :
إلّا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك ؛ وقيل : ليعلم النبيّ ، وقيل :
المراد : لنعلم ذلك موجودا حاصلا ، وهكذا ما ورد معللا بعلم الله سبحانه لا بدّ أن
يؤول بمثل هذا ، كقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وقوله : (وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً) أي : ما كانت إلا كبيرة ، كما قال الفراء في أن وإن :
أنهما بمعنى ما وإلا. وقال البصريون : هي الثقيلة خففت ، والضمير في كانت : راجع
إلى ما يدل عليه قوله : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) من التحويلة ، أو التولية ، أو الجعلة ، أو الردّة ،
ذكر معنى ذلك الأخفش ، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة ، أي : وإن
كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان ،
فانشرحت صدورهم لتصديقك ، وقبلت ما جئت به عقولهم ، وهذا الاستثناء مفرغ ؛ لأن ما
قبله في قوّة النفي ، أي : أنها لا تخفّ ولا تسهل إلا على الذين هدى الله. وقوله :
(وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) قال القرطبي : اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو
يصلي إلى بيت المقدس ، ثم قال : فسمّى الصلاة إيمانا لاجتماعها على نية وقول وعمل
؛ وقيل : المراد : المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة ، وعدم ارتيابهم كما
ارتاب غيرهم. والأول يتعين القول به ، والمصير إليه ؛ لما سيأتي من تفسيره صلىاللهعليهوسلم للآية بذلك. والرؤوف : كثير الرأفة ، وهي أشدّ من
الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء : الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب. وقرأ أبو
جعفر بن القعقاع «لروف» بغير
__________________
همز ، وهي لغة بني أسد ، ومنه قول الوليد بن عتبة :
وشرّ
الغالبين فلا تكنه
|
|
يقاتل عمّه
الرّوف الرّحيما
|
وقد أخرج
البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان أوّل ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار.
وأنه صلّى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته
قبل البيت ، وأن أوّل صلاة صلّاها العصر ، وصلّى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلّى
معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صلّيت مع النبي صلىاللهعليهوسلم قبل الكعبة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكانت اليهود
قد أعجبهم إذ كان يصلّي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما ولّى وجهه قبل البيت
أنكروا ذلك ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال ، وقتلوا فلم
ندر ما يقول فيهم ، فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وله طرق أخر وألفاظ متقاربة. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : إن أوّل ما نسخ في القرآن
القبلة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود في ناسخه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس
: أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه ، وبعد
ما تحوّل إلى المدينة ستة عشر شهرا ، ثم صرفه إلى الكعبة. وفي الباب أحاديث كثيرة
بمضمون ما تقدّم ، وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة ، وفي
كيفية استدارة المصلين لمّا بلغهم ذلك ، وقد كانوا في الصلاة فلا نطوّل بذكرها.
وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وصحّحه ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم ، وابن حبان ، والإسماعيلي في صحيحه ، والحاكم وصحّحه ، عن أبي سعيد عن
النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال : عدلا. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج أحمد ،
والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يدعى نوح يوم القيامة ، فيقال له : هل بلّغت؟ فيقول
نعم ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، وما أتانا
من أحد ، فيقال لنوح : من يشهد لك؟ فيقول : محمد وأمته» فذلك قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال : الوسط العدل ، فتدعون ؛ فتشهدون له بالبلاغ ؛
وأشهد عليكم». وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي سعيد نحوه.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على
الخلائق ، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منّا ، وما من نبيّ كذّبه قومه إلا ونحن
نشهد أنه بلّغ رسالة ربه». وأخرج ابن جرير عن أبي سعيد في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأن الرسل قد بلغوا (وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً) بما عملتم. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال
: مرّوا بجنازة فأثني
__________________
عليها خيرا ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «وجبت ، وجبت ، وجبت ، ومروا بجنازة فأثني عليها شرا
، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : وجبت ، وجبت ، وجبت ؛ فسأله عمر فقال : من أثنيتم
عليه خيرا وجبت له الجنة ، ومن أثنيتم عليه شرّا وجبت له النار ؛ أنتم شهداء الله
في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض» زاد الحكيم
الترمذي ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) الآية. وفي الباب أحاديث منها : عن جابر مرفوعا عند ابن
المنذر والحاكم وصحّحه ، ومنها عن عمر مرفوعا عند ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري
والترمذي والنسائي ، ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعا عند أحمد وابن ماجة
والطبراني والدارقطني في الأفراد ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في السنن ؛
ومنها عن أبي هريرة مرفوعا عند ابن جرير وابن أبي حاتم ، ومنها عن سلمة بن الأكوع
مرفوعا عند ابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني. وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله
تعالى : (وَما جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) قال : يعني بيت المقدس (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قال : نبتليهم لنعلم من يسلم لأمره. وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قال : لنميز أهل اليقين من أهل الشك (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) يعني : تحويلها ، على أهل الشرك والريب. وأخرج ابن جرير
عن ابن جريج قال : بلغني أن ناسا ممن أسلم رجعوا ، فقالوا : مرة هاهنا ، ومرة
هاهنا. وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
حبان ، والطبراني ، والحاكم وصحّحه عن ابن عباس قال : لما وجّه رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى القبلة ، قالوا : يا رسول الله! فكيف بالذين ماتوا
وهم يصلّون إلى بيت المقدس فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). وقد تقدّم حديث البراء. وفي الباب أحاديث كثيرة ،
وآثار عن السلف.
(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ
بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً
لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ (١٤٧))
قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) قال القرطبي في تفسيره : قال العلماء : هذه الآية
مقدّمة في النزول على قوله : (سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ) ، ومعنى (قَدْ) : تكثير الرؤية ، كما قاله صاحب الكشاف ، ومعنى (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) : تحوّل وجهك إلى السماء ، قاله قطرب. وقال الزجّاج :
تقلب عينيك في النظر إلى السماء ، والمعنى متقارب. وقوله : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) هو إما من الولاية : أي فلنعطينك ذلك. أو من التولّي : أي
فلنجعلنك متوليا إلى جهتها ، وهذا أولى لقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). والمراد بالشطر هنا : الناحية والجهة ، وهو منتصب على
الظرفية ، ومنه قول الشاعر :
أقول لأمّ
زنباع أقيمي
|
|
صدور العيس
شطر بني تميم
|
ومنه أيضا قول
الآخر :
ألا من مبلغ
عمرا رسولا
|
|
وما تغني
الرّسالة شطر عمرو
|
وقد يراد
بالشطر النصف ، ومنه «الطّهور شطر الإيمان» ، ومنه قول عنترة :
إنّي امرؤ من
خير عبس منصبا
|
|
شطري وأحمي
سائري بالمنصل
|
قال ذلك ؛ لأن
أباه من سادات عبس وأمّه أمة ، ويرد بمعنى البعض مطلقا. ولا خلاف أن المراد بشطر
المسجد هنا : الكعبة. وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على
المعاين ، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية ، ويستدلّ على ذلك بما يمكنه
الاستدلال به ، والضمير في قوله : (أَنَّهُ الْحَقُ) راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحوّل إلى جهة الكعبة
، أو لكونهم قد علموا من كتبهم أو أنبيائهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة فيكون
ذلك موجبا عليهم الدخول في الإسلام ومتابعة النبيّ صلىاللهعليهوسلم قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا يَعْمَلُونَ) قد تقدّم معناه. وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي
تعملون : بالمثناة الفوقية ؛ على مخاطبة أهل الكتاب ، أو أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقرأ الباقون : بالياء التحتية. وقوله : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ) هذه اللام هي موطئة للقسم ، والتقدير : والله لئن أتيت
؛ وقوله : (ما تَبِعُوا) جواب القسم المقدّر ، قال الأخفش والفرّاء : أجيب لئن :
بجواب لو ، لأن المعنى : ولو أتيت ، ومثله قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ
مُصْفَرًّا لَظَلُّوا) أي : ولو أرسلنا ، وإنما قالا هكذا ؛ لأن لئن هي ضد لو
، وذلك أن الأولى تطلب في جوابها المضيّ والوقوع ، ولئن تطلب في جوابها الاستقبال.
وقال سيبويه : إن معنى لئن يخالف معنى لو فلا تدخل إحداهما على الأخرى ، فالمعنى :
ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه : ومعنى (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ
مُصْفَرًّا) : ليظللن ، انتهى. وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي
متضمنة التسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وترويح خاطره ، لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية ، ولا
يرجعون إلى الحقّ وإن جاءهم بكل برهان فضلا عن برهان واحد وذلك أنهم لم يتركوا
اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم ، حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء
به الرسول صلىاللهعليهوسلم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحقّ ، بل كان تركهم
للحقّ تمرّدا وعنادا ، مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء ، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع
بالبرهان أبدا. وقوله : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ
قِبْلَتَهُمْ) هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه
لنبيه صلىاللهعليهوسلم ، أي : لا تتبع يا محمد قبلتهم ، ويمكن أن يكون على
ظاهره دفعا لأطماع أهل الكتاب ، وقطعا لما يرجونه من رجوعه صلىاللهعليهوسلم إلى القبلة التي كان عليها. وقوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ
بَعْضٍ) فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على متابعة
الرسول صلىاللهعليهوسلم لما عندهم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص
الذي قصّه الله سبحانه على رسوله ، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته.
قال في الكشاف : وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس.
انتهى. وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْواءَهُمْ) إلى آخر الآية ، فيه
__________________
من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعرّ له الجلود وترجف منه الأفئدة ،
وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغرّاء والملة الشريفة من رسول
الله صلىاللهعليهوسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من
الظالمين ، فما ظنك بغيره من أمته ، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت
قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب ، ولم تبق إلا
دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية ، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف
المبتدعة ، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في
الناس دولة ، أو كانوا من ذوي الصولة ، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل ، بل اتباع
أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب ، كما يشبه الماء الماء ، والبيضة
البيضة ، والتمرة التمرة ؛ وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه
الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل ، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام ،
ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين ويتبعون أحسنه ، وهم على العكس من ذلك الضدّ لما
هنالك ، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة
إلى شنعة ، حتى يسلخوه من الدين ويخرجونه منه ، وهو يظنّ أنه منه في الصميم ، وأن
الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم ، هذا إن كان في عداد المقصرين ، ومن جملة
الجاهلين ؛ وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه
لأهويتهم ممن أضله الله على علم وختم على قلبه ، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة
صبها الله على المقصرين ، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق ،
ولا يتبع إلا الصواب ، فيضلون بضلاله ، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم
القيامة ، نسأل الله اللطف والسلامة والهداية وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ) قيل : الضمير لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، أي : يعرفون نبوّته. روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة
من أهل العلم ؛ وقيل : يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بالطريق التي
قدّمنا ذكرها ، وبه قال جماعة من المفسرين ، ورجح صاحب الكشاف الأوّل. وعندي أن
الراجح الآخر ، يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات. وقوله : (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَ) هو عند أهل القول الأوّل : نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وعند أهل القول الثاني : استقبال الكعبة. وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل أن يكون المراد به الحق الأول ، ويحتمل أن يراد
به جنس الحق ؛ على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ وخبره قوله : (مِنْ رَبِّكَ) أي : الحقّ : هو الذي من ربك لا من غيره. وقرأ عليّ بن
أبي طالب : الحقّ ، بالنصب على أنه بدل من الأول ، أو منصوب على الإغراء ، أي :
الزم الحق. وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ) خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والامتراء : الشك ، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه
من ربه ، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم ، وعلى الأول هو تعريض للأمة ، أي : لا
يكن أحد من أمته من الممترين ، لأنه صلىاللهعليهوسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه.
وقد أخرج ابن
ماجة عن البراء قال : صلّينا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا ، وصرفت القبلة إلى
الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا صلّى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء ،
وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة ، فصعد جبريل فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم
يتبعه بصره وهو يصعد بين السماء والأرض ينظر ما يأتيه به ، فأنزل الله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّماءِ) الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا جبريل! كيف حالنا في صلاتنا إلى بيت المقدس؟ فأنزل
الله : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ). وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصرا لكنه قال : سبعة
عشر شهرا. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصحّحه عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى :
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضاها) قال : قبلة إبراهيم نحو الميزاب. وأخرج عبد بن حميد ،
وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن البراء في قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) قال : قبله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه عن عليّ مثله. وأخرج
أبو داود في ناسخه ، وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال : (شَطْرَهُ) نحوه. وأخرج البيهقي عن مجاهد مثله. وأخرج ابن أبي شيبة
، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن أبي العالية قال : (شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) : تلقاءه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : البيت كله
قبلة ، وقبلة البيت الباب. وأخرج البيهقي في سننه عنه مرفوعا قال : البيت قبلة
لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها
ومغاربها من أمتي. وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قال : أنزل ذلك في اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُ) قال : يعني بذلك القبلة. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن
جرير عن أبي العالية نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ
بَعْضٍ) يقول : ما اليهود بتابعي قبلة النصارى ، ولا النصارى
بتابعي قبلة اليهود. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن قتادة في قوله : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قال : اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) قال : يعرفون رسول الله في كتابهم (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عنه في قوله : (يَعْرِفُونَهُ) أي : يعرفون أن البيت الحرام هو القبلة. وأخرج ابن جرير
عن الربيع مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) قال : يكتمون محمدا وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
والإنجيل. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير عن أبي العالية قال : قال الله
لنبيّه صلىاللهعليهوسلم (الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) يقول : لا تكوننّ في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك ،
وكانت قبلة الأنبياء من قبلك.
(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ
اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ
رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))
قوله : (وَلِكُلٍ) بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه ، أي : لكل أهل
دين وجهة ، والوجهة فعلة من المواجهة وفي معناها : الجهة والوجه ، والمراد :
القبلة ، أي : أنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) إما بحق وإما بباطل ، والضمير في قوله : (هُوَ مُوَلِّيها) راجع إلى لفظ كل. والهاء في قوله : (مُوَلِّيها) هي المفعول الأوّل ، والمفعول الثاني : محذوف ، أي :
موليها وجهه. والمعنى : أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه ، أو لكل
منكم يا أمة محمد! قبلة يصلّي إليها من شرق أو غرب أو جنوب أو شمال إذا كان الخطاب
للمسلمين ، ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه وإن لم يجر له ذكر ، إذ هو معلوم أن
الله فاعل ذلك ، والمعنى : أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه. وحكى الطبري أن
قوما قرءوا : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) بالإضافة ، ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني إلى ابن
عباس. قال في الكشاف : والمعنى : وكلّ وجهة الله موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول
، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى. وقرأ ابن عباس وابن عامر :
مولّاها على ما لم يسمّ فاعله. قال الزجاج : والضمير على هذه القراءة لواحد ، أي :
ولكل واحد من الناس قبلة الواحد مولاها ، أي : مصروف إليها. وقوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي : إلى الخيرات ؛ على الحذف والإيصال ، أي : بادروا
إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق ، وإن كان ظاهره
الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير ، كما يفيده العموم المستفاد من
تعريف الخيرات ؛ والمراد من الاستباق إلى الاستقبال : الاستباق إلى الصلاة في أول
وقتها. ومعنى قوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا
يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) أي : في أيّ جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم
الله للجزاء يوم القيامة ، أو يجعلكم جميعا ، ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة
كأنها إلى جهة واحدة ، وقوله : (وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ) كرّر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة ،
وللاهتمام به ، لأن موضع التحويل كان معتنى به في نفوسهم ؛ وقيل : وجه التكرير :
أن النسخ من مظانّ الفتنة ومواطن الشبهة ، فإذا سمعوه مرّة بعد أخرى ثبتوا واندفع
ما يختلج في صدورهم ؛ وقيل : إنه كرّر هذا الحكم لتعدد علله ، فإنه سبحانه ذكر
للتحويل ثلاث علل : الأولى : ابتغاء مرضاته ، والثانية : جري العادة الإلهية أن
يولي كل أهل ملة وصاحب دعوة جهة يستقلّ بها ، والثالثة : دفع حجج المخالفين فقرن
بكل علة معلولها ؛ وقيل : أراد بالأول : ولّ وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها ،
ثم قال : وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها ؛ فولوا
وجوهكم شطره ؛ ثم قال : (وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ) يعني وجوب الاستقبال في الأسفار ، فكان هذا أمرا
بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض. وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ) قيل : معناه : لئلا يكون لليهود عليكم حجة ؛ إلا
للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه ، فعلى
هذا : المراد بالذين ظلموا : المعاندون من أهل الكتاب ؛ وقيل : هم مشركو العرب ،
وحجتهم : قولهم : راجعت قبلتنا ؛ وقيل معناه : لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا
يقولوا لكم : قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها. وقال أبو عبيدة : إنّ إلا
هاهنا بمعنى الواو : أي والذين ظلموا فهو استثناء بمعنى الواو ، ومنه
قول الشاعر :
ما بالمدينة
دار غير واحدة
|
|
دار الخليفة
إلّا دار مروانا
|
كأنه قال : إلا
دار الخليفة ودار مروان ؛ وأبطل الزجاج هذا القول وقال : إنه استثناء منقطع ، أي :
لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون ، ومعناه : إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له
كما تقول : مالك عليّ حجة إلا أن تظلمني ، أي : مالك عليّ حجة البتة ولكنك تظلمني
؛ وسمّى ظلمه : حجة لأن المحتجّ بها سماه حجة وإن كانت داحضة. وقال قطرب : يجوز أن
يكون المعنى : لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا ، فالذين : بدل من
الكاف والميم في عليكم. ورجّح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل ، وقال : نفى
الله أن يكون لأحد حجة على النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة ؛ والمعنى : لا حجة لأحد
عليكم ؛ إلا الحجة الداحضة حيث قالوا : ما ولاهم ، وقالوا : إن محمدا تحيّر في
دينه. وما توجّه إلى قبلتنا إلا أنا أهدى منه. وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث
إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق. قال : والحجة : بمعنى : المحاجة التي هي
المخاصمة والمجادلة ، وسمّاها تعالى : حجة ، وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم. ورجّح
ابن عطية أن الاستثناء منقطع كما قال الزجّاج. قال القرطبي : وهذا على أن يكون
المراد بالناس : اليهود ، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال : لكن الذين ظلموا في
قولهم : رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. وقوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) يريد الناس ، أي : لا تخافوا مطاعنهم ؛ فإنها داحضة
باطلة لا تضركم. وقوله : (وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) معطوف على (لِئَلَّا يَكُونَ) أي : ولأن أتمّ ، قاله الأخفش ؛ وقيل : هو مقطوع عما
قبله في موضع رفع بالابتداء ، والخبر مضمر ، والتقدير : ولأتمّ نعمتي عليكم
عرّفتكم قبلتي ، قاله الزجّاج ؛ وقيل : معطوف على علة مقدرة ، كأنه قيل : واخشوني
لأوفقكم ، ولأتمّ نعمتي عليكم. وإتمام النعمة : الهداية إلى القبلة ؛ وقيل : دخول
الجنة. وقوله : (كَما أَرْسَلْنا) الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. والمعنى :
ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا ، قاله الفرّاء ، ورجّحه ابن عطية. وقيل :
الكاف في موضع نصب على الحال ؛ والمعنى : ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال ،
والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة. وقيل : معنى الكلام
على التقديم والتأخير ، أي : فاذكروني كما أرسلنا ، قاله الزجّاج. وقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) أمر وجوابه ، وفيه معنى المجازاة. قال سعيد بن جبير : ومعنى
الآية : اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة ، حكاه عنه القرطبي في تفسيره ،
وأخرجه عنه عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وقد روي نحوه مرفوعا كما سيأتي. وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي) قال الفرّاء : شكر لك وشكرت لك. والشكر : معرفة الإحسان
والتحدّث به ، وأصله في اللغة : الطهور. وقد تقدّم الكلام فيه. وقوله : (وَلا تَكْفُرُونِ) نهي ؛ ولذلك حذفت نون الجماعة ، وهذه الموجودة في الفعل
هي نون المتكلم ، وحذفت الياء لأنها رأس آية ، وإثباتها حسن في غير القرآن. والكفر
هنا : ستر النعمة لا التكذيب ، وقد تقدّم الكلام فيه.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها) قال : يعني
بذلك : أهل الأديان ، يقول : لكل قبلة يرضونها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه
قال في تفسير هذه الآية : صلّوا نحو بيت المقدس مرة ، ونحو الكعبة مرة أخرى. وأخرج
أبو داود في ناسخه عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) يقول : لا تغلبنّ على قبلتكم. وأخرج ابن جرير عن ابن
زيد في قوله : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) قال : الأعمال الصالحة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
العالية في قوله : (فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْراتِ) يقول : فسارعوا في الخيرات (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ
اللهُ جَمِيعاً) قال : يوم القيامة. وأخرج ابن جرير من طريق السدّي عن
ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قال : لما صرف النبيّ صلىاللهعليهوسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من
أهل مكة : تحير على محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ؛ وعلم أنكم أهدى منه سبيلا ؛
ويوشك أن يدخل في دينكم ، فأنزل الله : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ) قال : يعني بذلك أهل الكتاب ؛ حين صرف نبي الله إلى
الكعبة ، قالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير عن مجاهد قال : حجتهم : قولهم : قد أحبّ قبلتنا. وأخرج أبو داود في ناسخه ،
وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ومجاهد في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْهُمْ) قال : الذين ظلموا منهم : مشركو قريش ؛ أنهم سيحتجون
بذلك عليهم ، واحتجّوا على نبيّ الله بانصرافه إلى البيت الحرام وقالوا : سيرجع
إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا ، فأنزل الله في ذلك كله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً
مِنْكُمْ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في
قوله : (كَما أَرْسَلْنا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) يقول : كما فعلت فاذكروني. وأخرج أبو الشيخ والديلمي من
طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم (فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ) يقول : اذكروني يا معشر العباد بطاعتي ؛ أذكركم
بمغفرتي. وأخرج الديلمي وابن عساكر مثله مرفوعا من حديث أبي هند الداري وزاد : فمن
ذكرني وهو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي ، ومن ذكرني وهو لي عاص فحق عليّ أن
أذكره بمقت. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : يقول الله : ذكري لكم خير من ذكركم
لي. وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق وفضل الشكر أحاديث كثيرة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ
بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))
لما فرغ سبحانه
من إرشاد عباده إلى ذكره وشكره ، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر والصلاة ،
فإنّ من جمع بين ذكر الله وشكره ، واستعان بالصبر والصلاة على تأدية ما أمر الله
به ، ودفع ما يرد عليه من
المحن فقد هدي إلى الصواب ووفق إلى الخير ، وإن هذه المعية التي أوضحها
الله بقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ) فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما
ينوب من الخطوب. فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت كالجبال. وأموات
وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين ، أي : لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله
هم أموات بل هم أحياء ، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم بعد سلب
أرواحهم ، لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر ، بحسب ما يبلغ إليه علمكم
الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر ، وليسوا
كذلك في الواقع ، بل هم أحياء في البرزخ. وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر ،
ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك ، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة ودلت عليه
الآيات القرآنية ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) . والبلاء أصله : المحنة ، ومعنى نبلوكم : نمتحنكم
لنختبركم هل تصبرون على القضاء أم لا؟ وتنكير شيء : للتقليل ، أي : بشيء قليل من
هذه الأمور. وقرأ الضحّاك بأشياء. والمراد بالخوف : ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر
به من عدوّ أو غيره. وبالجوع : المجاعة التي تحصل عند الجذب والقحط. وبنقص الأموال
: ما يحدث فيها بسبب الجوائح وما أوجبه الله فيها من الزكاة ونحوها. وبنقص الأنفس
: الموت والقتل في الجهاد. وبنقص الثمرات : ما يصيبها من الآفات ، وهو من عطف
الخاص على العام لشمول الأموال للثمرات وغيرها ـ وقيل : المراد بنقص الثمرات : موت
الأولاد. وقوله : (وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ) أمر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أو لكل من يقدر على التبشير. وقد تقدّم معنى البشارة.
والصبر أصله الحبس ، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة ، لأن ذلك تسليم ورضا.
والمصيبة : واحدة المصائب ، وهي : النكبة التي يتأذّى بها الإنسان وإن صغرت. وقوله
: (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممتحنين
، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله ، والاعتراف بالبعث والنشور. ومعنى
الصلوات هنا : المغفرة والثناء الحسن ، قاله الزجّاج. وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد
التأكيد. وقال في الكشاف : الصلاة : الرحمة والتعطف ، فوضعت موضع الرأفة ، وجمع
بينها وبين الرحمة كقوله : رأفة ورحمة (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) والمعنى : عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة. انتهى.
وقيل المراد بالرحمة : كشف الكربة وقضاء الحاجة. و (الْمُهْتَدُونَ) قد تقدّم معناه ، وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما
فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم.
وأخرج الحاكم
والبيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : غشي على عبد الرحمن بن
عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها ، حتى قاموا من عنده وجلّلوه ثوبا ،
وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر والصلاة ،
فلبثوا ساعة وهو في غشيته ثم أفاق. وأخرج ابن مندة في المعرفة عن ابن عباس قال :
قتل عمير بن الحمام ببدر ، وفيه وفي غيره نزلت : (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : (فِي سَبِيلِ اللهِ) : في طاعة الله ، في قتال المشركين. وقد وردت أحاديث أن
أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من
__________________
ثمار الجنة. فمنها عن كعب بن مالك مرفوعا عند أحمد والترمذي وصحّحه
والنسائي وابن ماجة. وروي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض ، كما أخرجه عبد
الرزاق عن قتادة قال : بلغنا ، فذكر ذلك. وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير عنه أيضا
بنحوه ، وروي أنها على صور طيور خضر ، كما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب
الإيمان عن أبي العالية. وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث والنشور عن كعب. وأخرجه
هناد بن السري عن هذيل. وأخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد الله بن كعب بن
مالك مرفوعا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عطاء في قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) قال : هم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ،
والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس في قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) الآية ، قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء
وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر وبشرهم فقال : (وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ) وأخبر أن المؤمن إذا سلّم لأمر الله ورجع واسترجع عند
المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل
الهدى. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا
صالحا يرضاه». وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
رجاء بن حيوة في قوله : (وَنَقْصٍ مِنَ
الثَّمَراتِ) قال : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا
تمرة. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم «أعطيت أمّتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة : إنّا لله
وإنّا إليه راجعون» وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة.
(إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ
شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))
أصل (الصَّفا) في اللغة : الحجر الأملس ، وهو هنا علم لجبل من جبال
مكة معروف ، وكذلك (الْمَرْوَةَ) علم لجبل بمكة معروف ، وأصلها في اللغة : واحدة المرو ،
وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل : التي فيها صلابة ، وقيل : تعم الجميع.
قال أبو ذؤيب :
حتّى كأنّي
للحوادث مروة
|
|
بصفا المشقّر
كلّ يوم تقرع
|
وقيل : إنها
الحجارة البيض البراقة ، وقيل : إنها الحجارة السود. والشعائر جمع شعيرة ، وهي
العلامة ، أي : من أعلام مناسكه. والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله
إعلاما للناس من الموقف والسعي والمنحر ، ومنه : إشعار الهدي ، أي : إعلامه بغرز
حديدة في سنامه ، ومنه قول الكميت :
نقتّلهم جيلا
فجيلا تراهم
|
|
شعائر قربان
بهم يتقرّب
|
وحجّ البيت في
اللغة : قصده ، ومنه قول الشاعر :
فأشهد من عوف
حلولا كثيرة
|
|
يحجّون سبّ
الزّبرقان المزعفرا
|
والسب :
العمامة. وفي الشرع : الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه. والعمرة في
اللغة : الزيارة. وفي الشرع : الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة. والجناح
: أصله من الجنوح ، وهو الميل ، ومنه الجوانح لاعوجاجها. وقوله : (يَطَّوَّفَ) : أصله يتطوف ؛ فأدغم. وقرئ : (أَنْ يَطَّوَّفَ) ، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب ، وبه قال أبو حنيفة
وأصحابه والثوري. وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول : إنه واجب وليس
بركن وعلى تاركه دم. وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك
وابن سيرين. ومما يقوّي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية :
(وَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك ،
واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة : أن عروة قال لها : أرأيت قول الله
: (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فما أرى على أحد جناحا أن لا يطوّف بهما؟ فقالت عائشة :
بئس ما قلت يا ابن أختي ، إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا
يطوّف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة
الطاغية التي كانوا يعبدونها ، وكان من أهلّ لها يتحرّج أن يطوّف بالصفا والمروة
في الجاهلية ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية ، قالت عائشة : ثم قد بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم الطواف بهما ، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. وأخرج
مسلم وغيره عنها أنها قالت : لعمري ما أتمّ الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة
ولا عمرته ، لأن الله قال : (إِنَّ الصَّفا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ). وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إنّ الله كتب عليكم السّعي فاسعوا». وأخرج أحمد
في مسنده ، والشافعي ، وابن المنذر ، وابن قانع ، والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجراة
قالت : «رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه ، وهو وراءهم
يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، يدور به إزاره وهو يقول : «اسعوا فإنّ الله عزوجل كتب عليكم السّعي» وهو في مسند أحمد من طريق شيخه عبد
الله بن المؤمل عن عطاء ابن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها ، ورواه من طريق أخرى
عن عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت
شيبة أن امرأة أخبرتها فذكرته. ويؤيد ذلك حديث : «خذوا عنّي مناسككم».
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ
أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ
وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣))
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) إلى آخر الآية ، فيه الإخبار بأن الذي يكتم ذلك ملعون ،
واختلفوا
من المراد بذلك؟ فقيل : أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : كل من كتم الحق وترك بيان ما أوجب الله بيانه
، وهو الراجح ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول ،
فعلى فرض أن سبب النزول ما وقع من اليهود والنصارى من الكتم فلا ينافي ذلك تناول
هذه الآية كل من كتم الحق. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد ما لا يقادر قدره ، فإن
من لعنه الله ، ولعنه كل من يتأتى منه اللعن من عباده ، قد بلغ من الشقاوة
والخسران إلى الغاية التي لا تلحق ، ولا يدرك كنهها. وفي قوله : (مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) دليل على أنه يجوز كتم غير ذلك ، كما قال أبو هريرة : «حفظت
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعاءين : أما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع
هذا البلعوم» أخرجه البخاري. والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ) راجع إلى ما أنزلنا. والكتاب : اسم جنس ، وتعريفه يفيد
شموله لجميع الكتب ؛ وقيل : المراد به : التوراة. واللعن : الإبعاد والطرد.
والمراد بقوله : (اللَّاعِنُونَ) الملائكة والمؤمنون ، قاله الزجاج وغيره ، ورجّحه ابن
عطية ؛ وقيل : كل من يتأتى منه اللعن ، فيدخل في ذلك الجن ؛ وقيل : هم الحشرات
والبهائم. وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) إلخ ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من
أعمالهم ، والمبينين للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله. وقوله : (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) هذه الجملة حالية ، وقد استدل بذلك على أنه لا يجوز لعن
كافر معين ، لأن حاله عند الوفاة لا يعلم ، ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم من لعنه لقوم من الكفار بأعيانهم ، لأنه يعلم بالوحي ما
لا نعلم ؛ وقيل : يجوز لعنه عملا بظاهر الحال كما يجوز قتاله. وقوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) إلخ ، استدل به على جواز لعن الكفار على العموم. قال
القرطبي : ولا خلاف في ذلك. قال : وليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل
هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره سواء كان الكافر عاقلا أو مجنونا. وقال قوم من
السلف : لا فائدة في لعن من جنّ أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر. قال
: ويدل على هذا القول : أن الآية دالة على الإخبار عن الله والملائكة والناس
بلعنهم لا على الأمر به. قال ابن العربي : إن لعن العاصي المعين لا يجوز باتفاق ،
لما روي «أن النبي صلىاللهعليهوسلم أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضر : لعنه الله ما
أكثر ما يشربه ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم» والحديث في
الصحيحين. وقوله : (وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ) قيل : هذا يوم القيامة ، وأما في الدنيا ففي الناس
المسلم والكافر ، ومن يعلم بالعاصي ومعصيته ومن لا يعلم ، فلا يتأتى اللعن له من
جميع الناس ؛ وقيل : في الدنيا ، والمراد أنه يلعنه غالب الناس ، أو كل من علم
بمعصيته منهم. وقوله : (خالِدِينَ فِيها) أي : في النار ؛ وقيل : في اللعنة. والإنظار : الإمهال
، وقيل : معنى لا ينظرون : لا ينظر الله إليهم ، فهو من النظر ؛ وقيل : هو من
الانتظار ، أي : لا ينتظرون ليعتذروا ، وقد تقدّم تفسير : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ). وقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) فيه الإرشاد إلى التوحيد وقطع علائق الشرك ، والإشارة
إلى أنّ أوّل ما يجب بيانه ويحرم كتمانه هو أمر التوحيد.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل أخو بني
سلمة ، وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل ، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج
نفرا من أحبار اليهود
عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم ، فأنزل الله فيهم :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا) الآية. وقد روي عن جماعة من السلف أن الآية نزلت في أهل
الكتاب لكتمهم نبوّة نبينا صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن ماجة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
البراء بن عازب قال : كنا في جنازة مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : إنّ الكافر يضرب ضربة بين عينيه فتسمعه كلّ
دابة غير الثقلين ، فتلعنه كلّ دابّة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) يعني دوابّ الأرض. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال :
الجنّ والإنس وكل دابة. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن مجاهد قال : إذا أجدبت
البهائم دعت على فجار بني آدم. وأخرج عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم في
الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان ، قال في تفسير الآية : إن دوابّ الأرض والعقارب
والخنافس يقولون : إنما منعنا القطر بذنوبهم ، فيلعنونهم. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر قال : يلعنهم كل شيء حتى
الخنفساء. وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن كتم العلم والوعيد لفاعله. وأخرج عبد
بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا وَأَصْلَحُوا) قال : أصلحوا ما بينهم وبين الله ، وبيّنوا الذي جاءهم
من الله ، ولم يكتموه ولم يجحدوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) يعني : أتجاوز عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
أبي العالية قال : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ،
ثم يلعنه الناس أجمعون. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : يعني بالناس
أجمعين : المؤمنين. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (خالِدِينَ فِيها) يقول : خالدين في جهنم في اللعنة. وقال في قوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يقول : لا ينظرون فيعتذرون. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) قال : لا يؤخرون. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ،
والدارمي ، وأبو داود ، والترمذي وصحّحه ، وابن ماجة ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) و (الم ـ اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) . وأخرج الديلمي عن أنس أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «ليس شيء أشدّ على مردة الجنّ من هؤلاء الآيات
التي في سورة البقرة (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) الآيتين».
(إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))
لما ذكر سبحانه
التوحيد بقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) عقب ذلك بالدليل الدالّ عليه ، وهو : هذه الأمور التي
هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم ، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة
التي أثبتها الكفار أن يأتي بشيء منها ، أو يقتدر عليه ، أو على بعضه ، وهي خلق
السموات ، وخلق الأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وجري الفلك في البحر ، وإنزال
المطر من السماء ، وإحياء الأرض به ، وبثّ الدوابّ منها بسببه ،
__________________
وتصريف الرياح ؛ فإن من أمعن نظره ؛ وأعمل فكره في واحد منها ؛ انبهر له ،
وضاق ذهنه عن تصوّر حقيقته. وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه ؛ وإنما
جمع السموات لأنها أجناس مختلفة ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ، ووحد الأرض
لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب. والمراد باختلاف الليل والنهار تعاقبهما
بإقبال أحدهما وإدبار الآخر ، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر. والنهار : ما بين طلوع
الفجر إلى غروب الشمس. وقال النضر بن شميل : أوّل النهار طلوع الشمس ، ولا يعدّ ما
قبل ذلك من النهار. وكذا قال ثعلب ، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت :
والشّمس تطلع
كلّ آخر ليلة
|
|
حمراء يصبح
لونها يتورّد
|
وكذا قال
الزجاج. وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام : قسما جعله ليلا محضا ، وهو من
غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسما جعله نهارا محضا ، وهو من طلوع الشمس إلى
غروبها. وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع
الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة. وأما في
الشرع : فالكلام في ذلك معروف. والفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، وهو هذا
، ويذكر ويؤنث. قال الله تعالى : (فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) (وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) وقال : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ
فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) وقيل : واحده فلك بالتحريك ، مثل أسد وأسد. وقوله : (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) يحتمل أن تكون ما : موصولة أي : بالذي ينفعهم ، أو
مصدرية : أي بنفعهم ، والمراد بما أنزل من السماء : المطر الذي به حياة العالم
وإخراج النبات والأرزاق. والبثّ : النشر ، والظاهر أن قوله : (بَثَ) معطوف على قوله (فَأَحْيا) لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر. وقال في الكشاف :
إن الظاهر عطفه على أنزل. والمراد بتصريف الرياح : إرسالهما عقيما ، وملقحة ،
وصرّا ، ونصرا ، وهلاكا ، وحارة ، وباردة ، ولينة ، وعاصفة ، وقيل : تصريفها :
إرسالها جنوبا ، وشمالا ، ودبورا ، وصبا ، ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين
؛ وقيل : تصريفها : أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك ، ولا مانع
من حمل التصريف على جميع ما ذكر. والسحاب سمي سحابا : لانسحابه في الهواء ، وسحبت
ذيلي سحبا ، وتسحب فلان على فلان : اجترأ. والمسخر : المذلل ، وسخره : بعثه من
مكان إلى آخر ؛ وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق.
والأوّل أظهر. والآيات : الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر
بعقله.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ادع الله أن يجعل لنا الصّفا ذهبا نتقوّى به على عدوّنا
، فأوحى الله إليه : إني معطيهم فأجعل لهم الصّفا ذهبا ، ولكن إن كفروا بعد ذلك
عذّبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فقال : ربّ دعني وقومي فأدعوهم يوما
بيوم ، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير عن سعيد بن
جبير. وأخرج وكيع ، والفريابي ، وآدم بن أبي إياس ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في
__________________
شعب الإيمان ، عن أبي الضحى قال : لما نزلت : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) عجب المشركون وقالوا : إن محمدا يقول (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فليأتنا بآية إن كان من الصادقين ، فأنزل الله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
وأبو الشيخ عن عطاء نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سلمان ، قال : الليل موكل
به ملك يقال له شراهيل ، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلّاها من قبل المغرب
، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين ، وقد أمرت الشمس أن لا تغرب
حتى ترى الخرزة ، فإذا غربت جاء الليل ، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك آخر
يقال له هراهيل بخرزة بيضاء ، فيعلقها من قبل المطلع ، فإذا رآها شراهيل مدّ إليه
خرزته ، وترى الشمس الخزرة البيضاء ، فتطلع ، وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها ،
فإذا طلعت جاء النهار . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (وَالْفُلْكِ) قال : السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : (بَثَ) خلق. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
قتادة في قوله : (وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ) قال : إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب ، وبشرا بين يدي
رحمته ، وإذا شاء جعلها عذابا ريحا عقيما لا تلقح. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن
كعب قال : كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة ، وكل شيء في القرآن من الريح فهي
عذاب. وقد ورد في النهي عن سبّ الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ
(١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ
يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ
النَّارِ (١٦٧))
لما فرغ سبحانه
من الدليل على وحدانيته ، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه ،
وجليل قدرته وتفرّده بالخلق ، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندا يعبده من
الأصنام. وقد تقدّم تفسير الأنداد ، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد
الأنداد ؛ بل أحبوها حبا عظيما ، وأفرطوا في ذلك إفراطا بالغا ، حتى صار حبهم لهذه
الأوثان ونحوها متمكنا في صدورهم ؛ كتمكن حبّ المؤمنين لله سبحانه ، فالمصدر في
قوله : (كَحُبِّ اللهِ) مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف وهو المؤمنون. ويجوز
أن يكون المراد كحبهم لله ، أي : عبدة الأوثان قاله ابن كيسان والزجّاج. ويجوز أن
يكون هذا المصدر من المبني للمجهول ، أي : كما يحب الله. والأول أولى لقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا
لِلَّهِ) فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي. أي : أن
حبّ المؤمنين لله أشد من حبّ الكفار الأنداد ، ولأن المؤمنين يخصون الله سبحانه
بالعبادة والدعاء ، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك ، بل يشركون الله معهم ،
ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم
__________________
إلى الله ، ويمكن أن يجعل هذا ، أعني قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) دليلا على الثاني ، لأن المؤمنين إذا كانوا أشدّ حبا لم
يكن حبّ الكفار للأنداد كحبّ المؤمنين لله ؛ وقيل : المراد بالأنداد هنا : الرؤساء
، أي : يطيعونهم في معاصي الله ، ويقوي هذا : الضمير في قولهم : (يُحِبُّونَهُمْ) فإنه لمن يعقل ، ويقوّيه أيضا : قوله سبحانه عقب ذلك : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) الآية. وقوله : (وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) قراءة أهل مكة والكوفة وأبو عمرو بالياء التحتية ، وهو
اختيار أبي عبيد. وقراءة أهل المدينة وأهل الشام بالفوقية ، والمعنى على القراءة
الأولى : لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة ؛ لعلموا حين يرونه أن القوّة
لله جميعا ، قاله أبو عبيد. قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير.
انتهى. وعلى هذا : فالرؤية هي البصرية لا القلبية. وروي عن محمد بن يزيد المبرد
أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة ،
لأنه يقدّر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ، فكأنه يجعله مشكوكا فيه. وقد أوجبه
الله تعالى ، ولكن التقدير هو الأحسن : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله ـ ويرى
بمعنى : يعلم ، أي : لو يعلمون حقيقة قوّة الله وشدّة عذابه. قال : وجواب لو محذوف
، أي : لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
النَّارِ) (وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) ومن قرأ بالفوقية فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين
ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوّة لله جميعا. وقد كان النبيّ
صلىاللهعليهوسلم علم ذلك ولكن خوطب بهذا الخطاب ، والمراد به أمته ؛
وقيل : (أَنَ) في موضع نصب مفعول لأجله ، أي : لأن القوة لله ، كما
قال الشاعر :
وأغفر عوراء
الكريم ادّخاره
|
|
وأعرض عن شتم
اللّئيم تكرّم
|
أي : لادّخاره
؛ والمعنى : ولو ترى يا محمد! الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب ـ لأن القوّة لله
ـ لعلمت مبلغهم من النكال ، ودخلت (إذا) وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات
تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه. وقرأ ابن عامر (إِذْ يَرَوْنَ) بضم الياء ، والباقون بفتحها. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو
جعفر (أَنَّ الْقُوَّةَ) ، (وَأَنَّ اللهَ) بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف ، وعلى تقدير القول.
وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا) بدل من قوله : (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) ومعناه : أن السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على
الكفر. وقوله : (وَرَأَوُا الْعَذابَ) في محل نصب على الحال : يعني التابعين والمتبوعين ؛ قيل
: عند المعاينة في الدنيا ؛ وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة. ويمكن أن يقال
: فيهما جميعا ، إذ لا مانع من ذلك. وقوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
الْأَسْبابُ) هي جمع سبب ، وأصله في اللغة : الحبل الذي يشدّ به
الشيء ويجذب به ، ثم جعل كل ما جرّ شيئا سببا ، والمراد بها : الوصل التي كانوا
يتواصلون بها في الدنيا من الرحم وغيره ، وقيل : هي الأعمال. والكرّة : الرجعة والعودة
إلى حال قد كانت ، ولو هنا في معنى التمني ، كأنه قيل : ليت لنا كرّة ؛ ولهذا وقعت
الفاء في الجواب. والمعنى : أن الأتباع قالوا : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل
صالحا ونتبرأ منهم كما تبرّؤوا منا. والكاف في قوله : (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) في محل نصب على النعت لمصدر محذوف ؛ وقيل : في محل نصب
على الحال ، ولا أراه صحيحا. وقوله : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ
اللهُ) في موضع رفع ، أي : الأمر كذلك ، أي :
__________________
كما أراهم الله العذاب يريهم (أَعْمالَهُمْ) ، وهذه الرؤية إن كانت البصرية فقوله : (حَسَراتٍ) منتصب على الحال ، وإن كانت القلبية فهو المفعول الثالث
؛ والمعنى : أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات ، أو يريهم
الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها ، فيكون ذلك حسرة عليهم. وقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) فيه دليل على خلود الكفار في النار ، وظاهر هذا التركيب
يفيد الاختصاص ، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب ، والبحث في هذا
يطول.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) قال : مباهاة ومضاررة للحق بالأنداد (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا
لِلَّهِ) قال : من الكفار لآلهتهم. وأخرج ابن جرير عن أبي زيد في
هذه الآية قال : هؤلاء المشركون ؛ أندادهم : آلهتهم التي عبدوا مع الله ؛ يحبّونهم
كما يحبّ الذين آمنوا الله (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من حبهم لآلهتهم. وأخرج ابن جرير عن السدّي في الآية
قال : الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله ، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا
الله. وأخرج عبد ابن حميد عن عكرمة نحو ما قال ابن زيد. وأخرج ابن جرير عن الزبيري
في قوله : (وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا) قال : ولو ترى يا محمد! الذين ظلموا أنفسهم ؛ فاتخذوا
من دوني أندادا ؛ يحبونهم كحبكم إياي حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت
لهم ، لعلمتم أن القوّة كلها لي دون الأنداد ، والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئا ،
ولا تدفع عنهم عذابا أحللت بهم ، وأيقنتهم أني شديد عذابي لمن كفر بي وادّعى معي
إلها غيري. وأخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن قتادة قوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) قال : هم الجبابرة والقادة والرؤوس في الشرك (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) قال : هم الشياطين تبرّؤوا من الإنس. وأخرج عبد بن حميد
، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله :
(وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
الْأَسْبابُ) قال : المودة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال
: هي المنازل. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : هي الأرحام. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وأبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال : هي الأوصال التي كانت
بينهم في الدنيا والمودة. وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال : هي الأعمال. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع قال : هي المنازل. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير
عن قتادة في قوله : (لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً) قال : رجعة إلى الدنيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
العالية في قوله : (حَسَراتٍ) قال : صارت أعمالهم الخبيثة حسرة عليهم يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) قال : أولئك أهلها الذين هم أهلها. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ثابت بن معبد قال : ما زال أهل النار يأملون الخروج منها حتى نزلت : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ).
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما
أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا
يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا
يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))
قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قيل : إنها نزلت في ثقيف ؛ وخزاعة ؛ وبني مدلج ؛ فيما
حرّموه على أنفسهم من الأنعام. حكاه القرطبي في تفسيره. ولكن الاعتبار بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب. وقوله : (حَلالاً) مفعول أو حال ، وسمي الحلال حلالا : لانحلال عقدة الحظر
عنه. والطيب هنا : هو المستلذّ ، كما قاله الشافعي وغيره. وقال مالك وغيره : هو
الحلال ، فيكون تأكيدا لقوله : (حَلالاً). ومن في قوله : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) للتبعيض ؛ للقطع بأن في الأرض ما هو حرام و (خُطُواتِ) : جمع خطوة بالفتح والضم ، وهي بالفتح للمرة ، وبالضم
لما بين القدمين. وقرأ الفراء خطوات بفتح الخاء ، وقرأ أبو السّمّال بفتح الخاء
والطاء ؛ وقرأ عليّ وقتادة والأعرج وعمر بن ميمون والأعمش «خطؤات» بضم الخاء
والطاء والهمز على الواو. قال الأخفش : وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع خطية من
الخطأ لا من الخطو. قال الجوهري : والخطوة بالفتح : المرة الواحدة ، والجمع خطوات
وخطأ. انتهى. والمعنى على قراءة الجمهور : لا تقفوا أثر الشيطان وعمله ، وكل ما لم
يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان ؛ وقيل : هي النذور والمعاصي ، والأولى
التعميم ؛ وعدم التخصيص بفرد أو نوع. وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي : ظاهر العداوة ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) وقوله : (بِالسُّوءِ) سمي السوء سوءا : لأنه يسوء صاحبه بسوء عاقبته ، وهو
مصدر ساءه يسوؤه سوءا ومساءة إذا أحزنه. (وَالْفَحْشاءِ) : أصله سوء المنظر ، ومنه قول الشاعر :
وجيد كجيد الرّيم ليس بفاحش
ثم استعمل فيما
قبح من المعاني ، وقيل : السوء : القبيح ، والفحشاء : التجاوز للحدّ في القبح ؛
وقيل : السوء : ما لا حدّ فيه ، والفحشاء : ما فيه الحدّ ؛ وقيل : الفحشاء : الزنا
؛ وقيل : إن كل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) قال ابن جرير الطبري : يريد ما حرّموه من البحيرة
والسائبة ونحوهما مما جعلوه شرعا ؛ وقيل : هو قولهم : هذا حلال وهذا حرام بغير
علم. والظاهر أنه يصدق على كل ما قيل في الشرع بغير علم. وفي هذه الآية دليل على
أن كل ما لم يرد فيه نص أو ظاهر من الأعيان الموجودة في الأرض فأصله الحلّ حتى يرد
دليل يقتضي تحريمه ، وأوضح دلالة على ذلك من هذه الآية قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ) . والضمير في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) راجع إلى الناس ، لأن الكفار منهم وهم المقصودون هنا ؛ وقيل : كفار العرب
خاصة ، و (أَلْفَيْنا) معناه : وجدنا ، والألف في قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) للاستفهام ، وفتحت الواو لأنها واو العطف. وفي هذه
الآية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره
، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا
عَلَيْهِ آباءَنا) الآية ، وفي ذلك دليل على قبح التقليد ، والمنع منه ،
والبحث في ذلك يطول. وقد أفردته بمؤلف مستقلّ سمّيته «القول
__________________
المفيد في حكم التقليد» واستوفيت الكلام فيه في «أدب الطلب ومنتهى الأرب».
وقوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) فيه تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم ـ وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ـ بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل ؛ فلا تسمع إلّا
دعاء ونداء ، ولا تفهم ما يقول ، هكذا فسّره الزجّاج والفرّاء وسيبويه ، وبه قال
جماعة من السلف. قال سيبويه : لم يشبهوا بالناعق ، وإنما شبهوا بالمنعوق به ،
والمعنى : مثلك يا محمد! ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم
التي لا تفهم ، فحذف لدلالة المعنى عليه. وقال قطرب : المعنى مثل الذين كفروا في
دعائهم ما لا يفهم ـ يعني الأصنام ـ كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين
هي. وبه قال ابن جرير الطبري. وقال ابن زيد : المعنى : مثل الذين كفروا في دعائهم
الآلهة الجماد كمثل الصائح في جوف الليل ؛ فيجيبه الصدى ؛ فهو يصيح بما لا يسمع ،
ويجيبه ما لا حقيقة فيه. والنعق : زجر الغنم والصياح بها ، يقال : نعق الراعي
بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقانا ، أي : صاح بها وزجرها ، والعرب تضرب المثل براعي
الغنم في الجهل ؛ ويقولون : أجهل من راعي ضأن. وقوله : (صُمٌ) وما بعده أخبار لمبتدأ محذوف ، أي : هم صمّ بكم عمي.
وقد تقدّم تفسير ذلك.
وقد أخرج ابن
مردويه عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلىاللهعليهوسلم ، يعني : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله! ادع الله أن
يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال : «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدّعوة ، والذي نفس
محمّد بيده إنّ الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه فما يتقبّل منه أربعين يوما ،
وأيّما عبد نبت لحمه من السّحت والرّبا فالنّار أولى به». وأخرج ابن جرير ، وابن
أبي حاتم عنه في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ) قال : عمله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : «ما خالف
القرآن فهو من خطوات الشيطان» وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال :
خطاه. وأخرجا أيضا عن عكرمة قال : هي نزغات الشيطان. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن
جبير قال : هي تزيين الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة قال : كل
معصية لله فهي من خطوات الشيطان. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : ما كان من
يمين أو نذر في غضب فهو من خطوات الشيطان. وكفارته كفارة يمين. وأخرج عبد الرزاق ،
وسعيد بن منصور ، وعبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصحّحه عن
ابن مسعود : أنه أتي بضرع وملح فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود
: ناولوا صاحبكم : فقال : لا أريد ، فقال : أصائم أنت؟ قال : لا. قال : فما شأنك؟
قال : حرّمت على نفسي أن آكل ضرعا ، فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ،
فاطعم وكفّر عن يمينك. وأخرج عبد بن حميد عن عثمان بن غياث قال : سألت جابر بن زيد
عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب ، فقال : هي من خطوات الشيطان ؛ ولا يزال
عاصيا لله ؛ فليكفر عن يمينه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه جعل يمين من حلف أن
يحجّ حبوا من خطوات الشيطان. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال : هي
النذور في المعاصي. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) قال : المعصية (وَالْفَحْشاءِ) قال : الزنا. وأخرج ابن إسحاق ، وابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه ، وحذّرهم عذاب الله
ونقمته ، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع يا محمد! ما وجدنا عليه
آباءنا ؛ فهم كانوا أعلم وخيرا منا ، فأنزل الله في ذلك : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) وأخرج ابن جرير عن الربيع ، وقتادة في قوله : (أَلْفَيْنا) قالا : وجدنا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) الآية ، قال : كمثل البقر والحمار والشاة إن قلت لبعضهم
كلاما لم يعلم ما تقول ؛ غير أنه سمع صوتك ؛ وكذلك الكافر ؛ إن أمرته بخير أو
نهيته عن شرّ أو وعظته لم يعقل ما تقول ؛ غير أنه يسمع صوتك. وروي نحو ذلك عن
مجاهد أخرجه عبد بن حميد ، وعن عكرمة أخرجه وكيع. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال
: قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ
اللهُ مِنَ الْكِتابِ) إلى قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ) .
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(١٧٣))
قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) هذا تأكيد للأمر الأول ، أعني قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) وإنما خص المؤمنين هنا لكونهم أفضل أنواع الناس ، قيل :
والمراد بالأكل : الانتفاع ؛ وقيل : المراد به : الأكل المعتاد ، وهو الظاهر. قوله
: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) قد تقدّم أنه يقال شكره وشكر له يتعدى بنفسه وبالحرف.
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي : تخصونه بالعبادة ، كما يفيده تقدّم المفعول. قوله
: (إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) قرأ أبو جعفر : حرم على البناء للمفعول و (إِنَّما) كلمة موضوعة للحصر ؛ تثبت ما تناوله الخطاب ؛ وتنفي ما
عداه. وقد حصرت هاهنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها. وقوله : (الْمَيْتَةَ) قرأ ابن أبي عبلة بالرفع ، ووجه ذلك أنه يجعل ما في (إِنَّما) موصولة منفصلة في الخط ، والميتة وما بعدها خبر الموصول
، وقراءة الجميع بالنصب. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع الميتة : بتشديد الياء ، وقد
ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التخفيف والتشديد. والميتة : ما فارقها الروح من
غير ذكاة. وقد خصّص هذا العموم بمثل حديث : «أحلّ لنا ميتتان ودمان» أخرجه أحمد ،
وابن ماجة ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا. ومثل حديث
جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ
صَيْدُ الْبَحْرِ) فالمراد بالميتة هنا : ميتة البرّ لا ميتة البحر. وقد
ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيّها وميتها. وقال بعض أهل
العلم : إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر ، وتوقف ابن حبيب في
خنزير الماء. وقال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولا أراه حراما. وقوله : (وَالدَّمَ) قد اتفق العلماء على أن الدم حرام ، وفي الآية الأخرى (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) فيحمل المطلق
__________________
على المقيد ، لأن ما خلط باللحم غير محرم ، قال القرطبي : بالإجماع. وقد
روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم ، فيأكل ذلك
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ولا ينكره. وقوله : (وَلَحْمَ
الْخِنْزِيرِ) ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) أن المحرّم إنما هو اللحم فقط. وقد أجمعت الأمة على
تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره. وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل
تحته الشحم. وحكى القرطبي الإجماع أيضا على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه
تجوز الخرازة به. وقوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللهِ) الإهلال : رفع الصوت ، يقال : أهلّ بكذا ، أي : رفع
صوته قال الشاعر يصف فلاة :
يهلّ بالفرقد
ركبانها
|
|
كما يهلّ
الرّاكب المعتمر
|
وقال النّابغة
:
أو درّة
صدفيّة غوّاصها
|
|
بهج متى يرها
يهلّ ويسجد
|
ومنه : إهلال
الصبيّ ، واستهلاله ، وهو : صياحه عند ولادته. والمراد هنا : ما ذكر عليه اسم غير
الله كاللات والعزّى إذا كان الذباح وثنيا ، والنار إذا كان الذابح مجوسيا. ولا
خلاف في تحريم هذا وأمثاله ، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على
قبورهم ، فإنه مما أهلّ به لغير الله ، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن. قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) قريء بضم النون للإتباع ، وبكسرها على الأصل في التقاء
الساكنين ، وفيه إضمار ، أي : فمن اضطرّ إلى شيء من هذه المحرمات. وقرأ ابن محيصن
بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ أبو السمال بكسر الطاء. والمراد من صيّره الجوع
والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة. وقوله : (غَيْرَ باغٍ) نصب على الحال. قيل : المراد بالباغي : من يأكل فوق
حاجته ، والعادي : من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة ؛ وقيل : غير باغ على
المسلمين ؛ وعاد عليهم ، فيدخل في الباغي والعادي : قطاع الطريق ، والخارج على
السلطان ، وقاطع الرحم ، ونحوهم ؛ وقيل : المراد : غير باغ على مضطرّ آخر ولا عاد سدّ
الجوعة.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) قال : من الحلال. وأخرج ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز
أن المراد بما في الآية : طيب الكسب لا طيب الطعام. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك :
إنها حلال الرزق. وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ) وقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى
السّماء : يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ،
فإنّى يستجاب له». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَما أُهِلَ) قال : ذبح. وأخرج ابن جرير عنه قال : (وَما أُهِلَ) للطواغيت. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : ذبح لغير
الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية
__________________
قال : ما ذكر عليه اسم غير الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
(غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) يقول : من أكل شيئا من هذه وهو مضطرّ فلا حرج ، ومن
أكله وهو غير مضطرّ فقد بغى واعتدى. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله
: (غَيْرَ باغٍ) قال : في الميتة (وَلا عادٍ) قال : في الأكل. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ،
وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم ، فمن خرج
يقطع الرحم ، أو يقطع السبيل ، أو يفسد في الأرض ، أو مفارقا للجماعة والأئمة ، أو
خرج في معصية الله ؛ فاضطرّ إلى الميتة لم تحلّ له. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو
الشيخ عن سعيد بن جبير قال : العادي : الذي يقطع الطريق. وقوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني في أكله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) لمن أكل من الحرام رحيم به إذ أحلّ له الحرام في الاضطرار. وأخرج عبد بن
حميد عن قتادة : (فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) غير باغ في أكله ، ولا عاد يتعدّى الحلال إلى الحرام
وهو يجد عنه بلغة ومندوحة.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا
يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ
بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) قيل : المراد بهذه الآية علماء اليهود ، لأنهم كتموا ما
أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلىاللهعليهوسلم. والاشتراء هنا : الاستبدال ، وقد تقدّم تحقيقه ، وسماه
: قليلا ، لانقطاع مدّته وسوء عاقبته ، وهذا السبب وإن كان خاصا فالاعتبار بعموم
اللفظ ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله ، وأخذ عليه الرشا ، وذكر البطون دلالة
وتأكيدا أن هذا الأكل حقيقة ، إذ قد يستعمل مجازا في مثل : أكل فلان أرضي ، ونحوه.
وقال في الكشاف : إن معنى : (فِي بُطُونِهِمْ) : ملء بطونهم قال : يقول أكل فلان في بطنه ، وأكل في
بعض بطنه. انتهى. وقوله : (إِلَّا النَّارَ) أي : أنه يوجب عليهم عذاب النار ، فسمى ما أكلوه : نارا
، لأنه يؤول بهم إليها ، هكذا قال أكثر المفسرين ، وقيل : إنهم يعاقبون على
كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة ، ومثله قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ) فيه كناية عن حلول غضب الله عليهم ، وعدم الرضا عنهم ،
يقال : فلان لا يكلّم فلانا ؛ إذا غضب عليه. وقال ابن جرير الطبري : المعنى : ولا
يكلمهم بما يحبونه ولا بما يكرهونه. كقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ) . وقوله : (لا يُزَكِّيهِمْ) معناه : لا يثني عليهم خيرا. قاله الزجاج ؛ وقيل : معناه
: لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. وقوله : (اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى) قد تقدّم تحقيق معناه. وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) ذهب الجمهور ومنهم الحسن ، ومجاهد إلى أن معناه التعجب.
والمراد تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار ،
فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب
__________________
صبروا على العقوبة في نار جهنم. وحكى الزجّاج أن المعنى : ما أبقاهم على
النار ، من قولهم : ما أصبر فلانا على الحبس ، أي : ما أبقاه فيه ؛ وقيل : المعنى
: ما أقلّ جزعهم من النار ، فجعل قلة الجزع صبرا. وقال الكسائي وقطرب : أي : ما
أدومهم على عمل أهل النار ؛ وقيل : «ما» استفهامية ، ومعناه التوبيخ ، أي : أي شيء
أصبرهم على عمل النار؟ قاله ابن عباس ، والسدي ، وعطاء ، وأبو عبيدة. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِ) الإشارة باسم الإشارة إلى الأمر ، أي : ذلك الأمر وهو
العذاب. قاله الزجّاج. وقال الأخفش : إن خبر اسم الإشارة محذوف والتقدير : ذلك
معلوم. والمراد بالكتاب هنا القرآن (بِالْحَقِ) أي : بالصدق ؛ وقيل : بالحجة. وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتابِ) قيل : المراد بالكتاب هنا : التوراة ، فادّعى النّصارى
أن فيها صفة عيسى وأنكرهم اليهود ؛ وقيل : خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلىاللهعليهوسلم واختلفوا فيها ؛ وقيل : المراد : القرآن ، والذين
اختلفوا : كفار قريش ، يقول بعضهم : هو سحر ، وبعضهم يقول : هو أساطير الأوّلين ،
وبعضهم يقول غير ذلك. (لَفِي شِقاقٍ) أي : خلاف (بَعِيدٍ) عن الحق ، وقد تقدم معنى الشقاق.
وقد أخرج ابن
جرير عن عكرمة في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ) قال : نزلت في يهود. وأخرج ابن جرير عن السدي قال :
كتموا اسم محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأخذوا عليه طمعا قليلا. وأخرج ابن جرير أيضا عن أبي
العالية نحوه. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس بسندين ضعيفين أنها نزلت في اليهود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) قال : اختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) قال : ما أجرأهم على عمل النار. وأخرج سعيد ابن منصور ،
وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) قال : ما أعملهم بأعمال أهل النار. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر في قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ) قال : والله ما لهم عليها من صبر ؛ ولكن يقول : ما
أجرأهم على النار. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير أيضا عن السدي في
الآية قال : هذا على وجه الاستفهام يقول : ما الذي أصبرهم على النار؟ وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتابِ) قال : هم اليهود والنصارى (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) قال : في عداوة بعيدة.
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ
وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ (١٧٧))
قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ) قرأ حمزة وحفص بالنصب على أنه خبر ليس والاسم (أَنْ تُوَلُّوا) وقرأ الباقون بالرفع على أنه الاسم ، قيل : إن هذه
الآية نزلت للردّ على اليهود والنصارى ، لما أكثروا الكلام في شأن القبلة
عند تحويل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الكعبة ؛ وقيل : إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم سائل ، وسيأتي ذلك آخر البحث إن شاء الله. وقوله : (قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) قيل : أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى ؛
لأنهم يستقبلون مطلع الشمس ، وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود ؛ لأنهم يستقبلون
بيت المقدس ؛ وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك. وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ) : هو اسم جامع للخير ، وخبره محذوف تقديره : برّ من
آمن. قاله الفراء ، وقطرب ، والزجاج ؛ وقيل : إن التقدير : ولكن ذو البر من آمن ،
ووجه هذا التقدير : الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى ، ويجوز أن يكون
البرّ بمعنى البار ، وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيرا ، ومنه في التنزيل : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي : غائرا ، وهذا اختيار أبي عبيدة. والمراد بالكتاب
هنا : الجنس ، أو القرآن ، والضمير في قوله : (عَلى حُبِّهِ) راجع إلى المال ؛ وقيل : راجع إلى الإيتاء المدلول عليه
بقوله : (وَآتَى الْمالَ) وقيل : إنه راجع إلى الله سبحانه ، أي : على حبّ الله ،
والمعنى على الأوّل : أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به ، ومنه قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ) والمعنى على الثاني : أنه يحب إيتاء المال وتطيب به
نفسه ، والمعنى على الثالث : أنه أعطى من تضمنته الآية في حبّ الله عزوجل لا لغرض آخر ، وهو مثل قوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) ومثله قول زهير :
إنّ الكريم على علّاته هرم
وقدّم ذوي
القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء ، هكذا اليتامى الفقراء
أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى ، لعدم قدرتهم على الكسب. والمسكين :
الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئا. (وَابْنَ السَّبِيلِ) : المسافر المنقطع ، وجعل ابنا للسبيل لملازمته له.
وقوله : (وَفِي الرِّقابِ) أي : في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم ؛
وقيل : المراد شراء الرقاب وإعتاقها ؛ وقيل : المراد فك الأسارى. وقوله : (وَآتَى الزَّكاةَ) فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة الفريضة. وقوله
: (وَالْمُوفُونَ) قيل : هو معطوف على «من آمن» ، كأنه قيل : ولكن البرّ
المؤمنون والموفون. قاله الفراء والأخفش ؛ وقيل : هو مرفوع على الابتداء ، والخبر
محذوف ؛ وقيل : هو خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الموفون ؛ وقيل : إنه معطوف على
الضمير في آمن ، وأنكره أبو عليّ وقال : ليس المعنى عليه. وقوله : (وَالصَّابِرِينَ) منصوب على المدح كقوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، ومنه ما أنشده أبو عبيدة :
لا يبعدن
قومي الذين هم
|
|
سمّ العداة
وآفة الجزر
|
النّازلين
بكلّ معترك
|
|
والطّيّبون
معاقد الأزر
|
وقال الكسائي :
هو معطوف على ذوي القربى كأنه قال : وآتى الصابرين : وقال النحاس : إنه خطأ. قال
الكسائي : وفي قراءة عبد الله والموفين (وَالصَّابِرِينَ). قال النحاس : يكونان على هذه القراءة منسوقين على ذوي
القربى أو على المدح. وقرأ يعقوب والأعمش : (وَالْمُوفُونَ) والصّابرون بالرفع فيهما. (فِي الْبَأْساءِ) الشدة والفقر. (وَالضَّرَّاءِ) : المرض والزمانة (وَحِينَ الْبَأْسِ) قيل : المراد :
__________________
وقت الحرب ، والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ولا فعل لهما لأنهما
اسمان وليسا بنعت. وقوله : (صَدَقُوا) وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها وأنهم
كانوا جادّين ؛ وقيل : المراد صدقوهم القتال ، والأول أولى.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم وصححه عن أبي ذرّ أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الإيمان فتلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) حتى فرغ منها ، ثم سأله أيضا فتلاها ، ثم سأله فتلاها.
قال : وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك ، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن مردويه عن القاسم بن عبد الرحمن قال : جاء رجل إلى أبي ذر فقال : ما
الإيمان؟ فتلا عليه هذه الآية ، ثم ذكر له نحو الحديث السابق. وأخرج ابن جرير ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال : يقول ليس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا
، هذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة وأنزلت الفرائض. وأخرج عنه ابن جرير أنه قال :
هذه الآية نزلت بالمدينة ، يقول : ليس البرّ أن تصلوا ، ولكن البرّ ما ثبت في
القلب من طاعة الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة قال :
ذكر لنا أنّ رجلا سأل النبي صلىاللهعليهوسلم عن البرّ ، فأنزل الله : (لَيْسَ الْبِرَّ) الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة قال :
كانت اليهود تصلي قبل المغرب ، والنصارى قبل المشرق ، فنزلت : (لَيْسَ الْبِرَّ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية
مثله. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد ابن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ،
والبيهقي في سننه ، عن ابن مسعود في قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) قال : يعطي وهو صحيح شحيح ؛ يأمل العيش ؛ ويخاف الفقر.
وأخرج عنه مرفوعا مثله. وأخرج البيهقي في الشعب عن المطلب : أنه قيل : يا رسول
الله! ما آتى المال على حبه؟ فكلنا نحبه. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تؤتيه حين تؤتيه ونفسك تحدثك بطول العمر والفقر».
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) يعني : على حب المال. وأخرج عنه أيضا في قوله : (ذَوِي الْقُرْبى) يعني : قرابته. وقد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم
ثنتان صدقة وصلة» أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن
ماجة ، والحاكم ، والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي ، وفي الصحيحين
وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود : أنّها سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم هل تجزي عنها من الصّدقة النّفقة على زوجها وأيتام في
حجرها؟ فقال : «لك أجران : أجر الصّدقة ، وأجر القرابة». وأخرج الطبراني والحاكم
وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «أفضل الصّدقة على ذي الرّحم الكاشح». وأخرج
أحمد ، والدارمي ، والطبراني من حديث حكيم بن حزام عن النبي صلىاللهعليهوسلم نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ابن السبيل
: هو الضعيف الذي ينزل بالمسلمين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : هو الذي يمرّ بك
وهو مسافر. وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله : (وَالسَّائِلِينَ) قال : السائل الذي يسألك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد
بن جبير في قوله : (وَفِي الرِّقابِ) قال : يعني فكّ الرقاب. وأخرج أيضا عنه في
قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) يعني وأتمّ الصّلاة المكتوبة (وَآتَى الزَّكاةَ) يعني الزكاة المفروضة. وأخرج الترمذي ، وابن ماجة ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ ، والدارقطني ، وابن مردويه
عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «في المال حقّ سوى الزكاة ، ثم قرأ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ) الآية». وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية
في قوله : (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ) قال : فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه ، ومن
أعطى ذمة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ثم غدر بها فالنبيّ صلىاللهعليهوسلم خصمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا
عاهَدُوا) يعني : فيما بينهم وبين الناس. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن
مسعود في الآية قال : (الْبَأْساءِ) : الفقر (وَالضَّرَّاءِ) : السقم (وَحِينَ الْبَأْسِ) : حين القتال. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة
نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا) قال : فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية. وأخرج ابن جرير
عن الربيع في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا) قال : تكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقة العمل صدقوا
الله. قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع
القول عمل فلا شيء.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ
(١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (١٧٩))
قوله : (كُتِبَ) معناه : فرض ، وأثبت ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
كتب القتل
والقتال علينا
|
|
وعلى
الغانيات جرّ الذّيول
|
وهذا إخبار من
الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك ، وقيل : إن (كُتِبَ) هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. و (الْقِصاصُ) أصله : قصّ الأثر : أي : اتباعه ، ومنه : القاصّ ، لأنه
يتتبع الآثار ، وقصّ الشعر : اتباع أثره ، فكأن القاتل يسلك طريقا من القتل ، يقصّ
أثره فيها ، ومنه قوله تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى
آثارِهِما قَصَصاً) وقيل : إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع ، يقال :
قصصت ما بينهما : أي : قطعته. وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل
بالعبد ، وهم الجمهور. وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وابن أبي ليلى ،
وداود إلى أنه يقتل به. قال القرطبي : وروي ذلك عن عليّ ، وابن مسعود. وبه قال
سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والحكم بن عتيبة ، واستدلوا بقوله
تعالى : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ) مفسر لقوله تعالى : (النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) وقالوا أيضا : إن قوله : (وَكَتَبْنا
عَلَيْهِمْ فِيها) يفيد : أن ذلك حكاية عما شرعه لبني إسرائيل في التوراة.
ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله
__________________
صلىاللهعليهوسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ويجاب عنه بأنه مجمل والآية
مبينة ، ولكنه يقال : إن قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ ، والعبد يقتل
بالعبد ، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم ، فمن
أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه
القول به هنا ، والبحث في هذا محرر في علم الأصول. وقد استدل بهذه الآية القائلون
بأن المسلم يقتل بالكافر ، وهم الكوفيون والثوري ، لأن الحرّ يتناول الكافر كما
يتناول المسلم ، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) لأن النفس تصدق على النفس الكافرة ، كما تصدق على النفس
المسلمة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر ، واستدلوا بما ورد من
السنة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر ، وهو مبين لما يراد في الآيتين
، والبحث في هذا يطول. واستدل بهذه الآية القائلون : بأن الذكر لا يقتل بالأنثى ،
وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق ؛ إلا إذا سلّم أولياء المرأة الزيادة على
ديتها من دية الرجل. وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبو
ثور. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة ، وهو الحق. وقد بسطنا
البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) «من» هنا عبارة عن القاتل. والمراد بالأخ : المقتول ، أو الوليّ ، والشيء :
عبارة عن الدم ، والمعنى : أن القاتل أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه ،
أو الوليّ ، دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئا من الدية أو الأرش ، فليتبع المجني
عليه أو الولي من عليه الدم ؛ فيما يأخذه منه من ذلك اتباعا بالمعروف ، وليؤد
الجاني ما لزمه من الدّية أو الأرش إلى المجني عليه ، أو إلى الوليّ أداء بإحسان ؛
وقيل : إن «من» عبارة عن الوليّ ، والأخ : يراد به القاتل ، والشيء : الدية ؛
والمعنى : أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية ، فإن القاتل
مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص ، كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل
في ذلك ؛ وذهب من عداه إلى أنه لا يخير ، بل إذا رضي الأولياء بالدية ؛ فلا خيار
للقاتل ، بل يلزمه تسليمها ؛ وقيل : معنى : (عُفِيَ) بذل. أي : من بذل له شيء من الدية ، فليقبل وليتبع
بالمعروف ؛ وقيل : إن المراد بذلك : أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من
الديات ، فيكون عفي بمعنى : فضل ، وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل ،
فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية ، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة.
وقوله : (فَاتِّباعٌ) مرتفع بفعل محذوف ؛ أي : فليكن منه اتباع ، أو على أنه
: خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالأمر اتباع ، وكذا قوله : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). قوله : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ) إشارة إلى العفو والدية ، أي : أن الله شرع لهذه الأمة
العفو من غير عوض أو بعوض ، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود ، فإنه أوجب عليهم
القصاص ، ولا عفو ؛ وكما ضيق على النصارى ؛ فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية. قوله :
(فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد التخفيف ، نحو : أن يأخذ الدية ثم يقتل القاتل
، أو يعفو ثم يستقص. وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية. فقال
جماعة منهم مالك والشافعي : إنه كمن قتل ابتداء ، إن شاء الوليّ قتله وإن شاء عفا
عنه. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم ؛ عذابه أن يقتل ألبتة ، ولا يمكن الحاكم
الوليّ من العفو. وقال
الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن
عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى. قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي : لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة ، لأن
الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر ؛ كفّ عن القتل ، وانزجر عن التسرع إليه
والوقوع فيه ، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية. وهذا نوع من البلاغة
بليغ ، وجنس من الفصاحة رفيع ، فإنه جعل القصاص الذي هو مات حياة باعتبار ما يؤول
إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا ، إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم ؛
وجعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب. لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب
ويتحامون ما فيه الضرر الآجل ؛ وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة فإنه لا
ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ولا يفكر في أمر مستقبل ، كما قال
بعض فتاكهم :
سأغسل عني
العار بالسّيف جالبا
|
|
عليّ قضاء
الله ما كان جالبا
|
ثم علّل سبحانه
هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) أي : تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص ؛ فيكون ذلك
سببا للتقوى. وقرأ أبو الجوزاء : ولكم في القصص حياة قيل : أراد بالقصص القرآن ،
أي : لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة ، أي : نجاة ، وقيل : أراد حياة
القلوب ؛ وقيل : هو مصدر بمعنى القصاص ، والكل ضعيف ، والقراءة به منكرة.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام
بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ؛ ولم يأخذ بعضهم من بعض
حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألّا
يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزلت هذه
الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانوا لا يقتلون
الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد
رجالهم ونساءهم في النفس وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس
وفيما دون النفس رجالهم ونساءهم. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن أبي مالك قال :
كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل ،
فجاء النبيّ صلىاللهعليهوسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قال ابن عباس : فنسختها (النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصحّحه والبيهقي
في سننه عن ابن عباس (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) قال : هو العمد رضي أهله بالعفو. (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أمر به الطالب (وَأَداءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسانٍ) من القابل ، قال : يؤدي المطلوب بإحسان. (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ) مما كان على بني إسرائيل. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عنه
من وجه آخر. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم
تكن الدية فيهم ، فقال الله لهذه الأمة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) إلى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فالعفو : أن تقبل الدية في العمد (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ
مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) مما كتب على من كان قبلكم (فَمَنِ اعْتَدى
بَعْدَ ذلِكَ) قيل : بعد قبول الدية (فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ) وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : كان في أهل التوراة إنما
هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به ،
وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو والدية إن شاؤوا ، أحلّها لهم ولم تكن لأمة
قبلهم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن أبي
شريح الخزاعي ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث :
إمّا أن يقتصّ ، وإمّا أن يعفو ، وإمّا أن يأخذ الدّية ؛ فإن أراد الرابعة فخذوا
على يديه ، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنّم خالدا فيها أبدا». وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر عن قتادة : أنه إذا قتل بعد أخذ الدية فله عذاب عظيم قال : فعليه
القتل لا تقبل منه الدية. قال وذكر لنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» وأخرج سمويه
في فوائده ، عن سمرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فذكر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال :
يقتل. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) قال : جعل الله في القصاص حياة ، ونكالا ، وعظة ؛ إذا
ذكره الظالم المعتدي كفّ عن القتل. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به. وأخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير في قوله : (يا أُولِي
الْأَلْبابِ) قال : من كان له لبّ يذكر القصاص ؛ فيحجزه خوف القصاص
عن القتل (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) قال : لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص.
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً
أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١٨٢))
قد تقدّم معنى
: (كُتِبَ) قريبا ، وحضور الموت : حضور أسبابه ، وظهور علاماته ،
ومنه قول عنترة :
وإنّ الموت
طوع يدي إذا ما
|
|
وصلت بنانها
بالهندوان
|
وقال جرير :
أنا الموت
الذي حدّثت عنه
|
|
فليس لهارب
منّي نجاء
|
وإنما لم يؤنث
الفعل المسند إلى الوصية ، وهو (كُتِبَ) لوجود الفاصل بينهما ـ وقيل : لأنها بمعنى الإيصاء ،
وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل. وقد حكى سيبويه :
قام امرأة ، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية ، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية
بأن يترك الموصي خيرا. واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش وجهان :
أحدهما أن
التقدير : إن ترك خيرا فالوصية ، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر :
من يفعل
الحسنات الله يشكرها
|
|
والشّرّ
بالشّرّ عند الله مثلان
|
والثاني : أن
جوابه مقدّر قبله. أي : كتب الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. واختلف أهل
العلم في مقدار الخير ، فقيل : ما زاد على سبعمائة دينار ، وقيل : ألف دينار ؛
وقيل : ما زاد على خمسمائة دينار. والوصية في الأصل : عبارة عن الأمر بالشيء ،
والعهد به في الحياة وبعد الموت ، وهي هنا : عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت.
وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها. وأما
من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيرا أو غنيا ؛
وقال طائفة : إنها واجبة. ولم يبين الله سبحانه هاهنا القدر الذي كتب الوصية به
للوالدين والأقربين ؛ فقيل : الخمس ؛ وقيل : الربع ؛ وقيل : الثلث. وقد اختلف أهل
العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة ، قالوا :
وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص. والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين
الكافرين ومن هو في الرقّ ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال ابن المنذر :
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان ،
والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال كثير من أهل العلم : إنها منسوخة بآية
المواريث مع قوله صلىاللهعليهوسلم «لا وصيّة لوارث» وهو حديث صححه بعض أهل الحديث ، وروي من غير وجه. وقال
بعض أهل العلم : إنه نسخ الوجوب ونفى الندب ، وروي عن الشعبي والنخعي ومالك. قوله
: (بِالْمَعْرُوفِ) أي : العدل ، لا وكس فيه ولا شطط. وقد أذن الله للميت
بالثلث دون ما زاد عليه. قوله : (حَقًّا) مصدر معناه : الثبوت والوجوب. قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية ، وكذلك
الضمير في قوله : (سَمِعَهُ) والتبديل : التغيير ، والضمير في قوله : (فَإِنَّما إِثْمُهُ) راجع إلى التبديل المفهوم من قوله : (بَدَّلَهُ) وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحقّ التي لا جنف
فيها ولا مضارة ، وأنه يبوء بالإثم ، وليس على الموصي من ذلك شيء ، فقد تخلص مما
كان عليه بالوصية به. قال القرطبي : ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ، مثل أن
يوصي بخمر ؛ أو خنزير ؛ أو شيء من المعاصي ؛ أنه يجوز تبديله ، ولا يجوز إمضاؤه
كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث. قاله أبو عمر. انتهى. والجنف : المجاوزة ، من
جنف يجنف : إذا جاوز ، قاله النحاس ؛ وقيل : الجنف : الميل ، ومنه قول الأعشى :
تجانف عن حجر
اليمامة ناقتي
|
|
وما قصدت من
أهلها لسوائكا
|
قال في الصّحاح
: الجنف : الميل ، وكذا في الكشاف. وقال لبيد :
إنّي امرؤ
منعت أرومة عامر
|
|
ضيمي وقد
جنفت عليّ خصومي
|
وقوله : (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي : أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطراب بسبب
الوصية ؛
__________________
بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله ؛ وإثبات ما هو حق كالوصية في
قربة لغير وارث ، والضمير في قوله : (بَيْنَهُمْ) راجع إلى الورثة ، وإن لم يتقدّم لهم ذكر ، لأنه قد عرف
أنهم المرادون من السياق ؛ وقيل : راجع إلى الموصى لهم ، وهم الأبوان والقرابة.
وقد أخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) قال : مالا. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد
بن حميد عن ابن عباس قال : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا. وأخرج عبد الرزاق
، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي
في سننه عن عروة ، أن علي بن أبي طالب دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم
أو ستّمائة درهم فقال : ألا أوصي؟ قال لا؟ إنما قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال ؛ فدع مالك لورثتك. وأخرج سعيد بن
منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي عن عائشة ، أن رجلا قال لها :
أريد أو أوصي قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة ،
قالت : قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وأخرج عبد
الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي عن ابن عباس قال : إذا ترك الميت سبعمائة درهم
فلا يوصي. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن الزهري ، قال : جعل الله الوصية
حقا مما قل منه ومما كثر. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذكر حديثا وفيه : «انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا
يرثون ، فأوص لهم من مالك بالمعروف» وأخرجا أيضا عن طاوس قال : من أوصى لقوم
وسمّاهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت على قرابته. وأخرج سعيد بن
منصور ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في الناسخ ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن محمد بن بشير عن ابن عباس قال : نسخت هذه
الآية. وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
أن هذه الآية نسخها قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) الآية. وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير ، وابن أبي حاتم
؛ أنها منسوخة بآية الميراث. وأخرج عنه أبو داود في سننه ، والبيهقي مثله. وأخرج
ابن جرير عنه أنه قال : في الآية نسخ من يرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن
عمر أنه قال : هذه الآية نسختها آية الميراث. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) الآية ، قال : وقد وقع أجر الموصي على الله وبرىء من
إثمه ، وقال في قوله : (جَنَفاً) يعني : إثما (فَأَصْلَحَ
بَيْنَهُمْ) قال : إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها فليس على
الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه
لكنه فسر الجنف بالميل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
(جَنَفاً أَوْ إِثْماً) قال : خطأ أو عمدا. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في
سننه عنه قال : الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
__________________
(١٨٣)
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤))
قد تقدّم معنى (كُتِبَ) ، ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة
افترضها الله سبحانه على هذه الأمة. والصيام أصله في اللغة : الإمساك ، وترك
التنقل من حال إلى حال ، ويقال للصمت : صوم ، لأنه إمساك عن الكلام ، ومنه : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : إمساكا عن الكلام ، ومنه قول النابغة :
خيل صيام
وخيل غير صائمة
|
|
تحت العجاج
وخيل تعلك اللجما
|
أي : خيل ممسكة
عن الجري والحركة. وهو في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس. وقوله : (كَما كُتِبَ) أي : صوما كما كتب ، على أن الكاف في موضع نصب على
النعت ، أو : كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب ، على أنه في محل نصب على الحال. وقال
بعض النحاة : إن الكاف في موضع رفع نعتا للصيام ، وهو ضعيف ؛ لأن الصيام معرّف
باللام ، والضمير المستتر في قوله : (كَما كُتِبَ) راجع إلى ما. واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو؟
فقيل : هو قدر الصوم ووقته ، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيّروا
؛ وقيل : هو الوجوب ، فإن الله أوجب على الأمم الصيام ؛ وقيل : هو الصفة ، أي :
ترك الأكل والشرب ونحوهما في وقت ؛ فعلى الأوّل معناه : أن الله كتب على هذه الأمة
صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم ؛ وعلى الثاني : أن الله أوجب على هذه
الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم ؛ وعلى الثالث : أن الله سبحانه أوجب
على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بالمحافظة عليها ؛ وقيل : تتقون المعاصي بسبب هذه
العبادة ، لأنها تكسر الشهوة ؛ وتضعف دواعي المعاصي ، كما ورد في الحديث أنه جنّة
وأنه وجاء. وقوله : (أَيَّاماً) منتصب على أنه مفعول ثان لقوله : (كُتِبَ) ، قاله الفراء : وقيل : إنه منتصب على أنه ظرف ، أي :
كتب عليكم الصيام في أيام. وقوله : (مَعْدُوداتٍ) أي : معينات بعدد معلوم ، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع
ـ لكونه من جموع القلة ـ إشارة إلى تقليل الأيام. وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) قيل : للمريض حالتان : إن كان لا يطيق الصوم كان
الإفطار عزيمة ، وإن كان يطيقه مع تضرّر ومشقة كان رخصة ، وبهذا قال الجمهور ،
وقوله : (عَلى سَفَرٍ) اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار ؛ فقيل :
مسافة قصر الصلاة ، والخلاف في قدرها معروف ، وبه قال الجمهور ، وقال غيرهم
بمقادير لا دليل عليها. والحقّ أن ما صدق عليه مسمّى السفر ؛ فهو الذي يباح عنده
الفطر ، وهكذا ما صدق عليه مسمّى المرض ؛ فهو الذي يباح عنده الفطر. وقد وقع
الإجماع على الفطر في سفر الطاعة. واختلفوا في الأسفار المباحة ، والحق أن الرخصة
ثابتة فيه ، وكذا اختلفوا في سفر المعصية. وقوله : (فَعِدَّةٌ) أي : فعليه عدّة ، أو فالحكم عدّة ، أو فالواجب عدّة ؛
والعدّة : فعلة من العدد ، وهو بمعنى المعدود. وقوله : (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قال سيبويه : ولم ينصرف لأنه معدول به عن الآخر ، لأن
سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف
__________________
واللام. وقال الكسائي : هو معدول به عن آخر ؛ وقيل : إنه جمع أخرى ، وليس
في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قراءة الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله يطوقونه
نقلت الكسرة إلى الطاء ، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل
من غير إعلال. وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو ، أي : يكلّفونه. وروى
ابن الأنباري عن ابن عباس : (يُطِيقُونَهُ) بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين ، بمعنى :
يطيقونه. وروي عن عائشة وابن عباس وعمرو بن دينار وطاوس أنهم قرءوا «يطّيّقونه»
بفتح الياء وتشديد الطاء مفتوحة. وقرأ أهل المدينة والشام (فِدْيَةٌ طَعامُ) مضافا. وقرءوا أيضا مساكين وقرأ ابن عباس : (طَعامُ مِسْكِينٍ) وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. وقد اختلف
أهل العلم في هذه الآية ، هل هي محكمة أو منسوخة ؛ فقيل : إنها منسوخة ، وإنما
كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شقّ عليهم ، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينا
ترك الصوم وهو يطيقه ، ثم نسخ ذلك ، وهذا قول الجمهور. وروي عن بعض أهل العلم أنها
لم تنسخ ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة
، وهذا يناسب قراءة التشديد ، أي : يكلفونه كما مرّ. والناسخ لهذه الآية عند
الجمهور قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) . وقد اختلفوا في مقدار الفدية ؛ فقيل : كل يوم صاع من
غير البرّ ، ونصف صاع منه ؛ وقيل : مدّ فقط. وقوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ). قال ابن شهاب : معناه : من أراد الإطعام مع الصوم. وقال
مجاهد : معناه : من زاد في الإطعام على المدّ ؛ وقيل : من أطعم مع المسكين مسكينا
آخر. وقرأ عيسى ابن عمرو ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي «يطوّع» مشدّدا مع
جزم الفعل على معنى يتطوّع ، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض. وقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية ، وكان
هذا قبل النسخ ؛ وقيل : معناه : وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق.
وقد أخرج أحمد
، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي
في سننه ، عن معاذ بن جبل قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة
أحوال ، فذكر أحوال الصلاة ثم قال : وأما أحوال الصيام ، فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قدم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، وصام
عاشوراء ، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام وأنزل عليه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) إلى قوله (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فكان من شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ،
ثم إن الله أنزل الآية الأخرى (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم ، ورخّص فيه للمريض
والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، ثم ذكر تمام الحديث. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال : يعني بذلك أهل الكتاب. وأخرج البخاري في تاريخه ،
والطبراني عن دغفل بن حنظلة ، عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «كان على النّصارى صوم شهر رمضان ، فمرض ملكهم
فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدنّ عشرا ، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقال : لئن
شفاه الله ليزيدنّ سبعة ، ثم كان عليهم ملك آخر فقال : ما ندع من هذه الثلاثة
__________________
الأيام شيئا أن نتمّها ونجعل صومنا في الربيع ، ففعل فصارت خمسين يوما».
وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) قال : تتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عمر ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم». وأخرج
البخاري ومسلم عن عائشة قالت : كان عاشوراء صياما ، فلما أنزل رمضان ؛ كان من شاء
صام ومن شاء أفطر. وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال : إن قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قد نسخت. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه نحو ذلك ،
وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ) الآية. وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه. وأخرج
نحوه عنه أيضا سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن
المنذر وغيرهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال : لما
نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كان من شاء صام ، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل ، حتى
نزلت هذه الآية بعدها فنسختها (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ). وأخرج البخاري عن ابن أبي ليلى قال : حدّثنا أصحاب
محمد ، فذكر نحوه. وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر ويطعم
مكان كل يوم مسكينا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والدارقطني ، والبيهقي ،
أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاما قبل موته ، فصنع جفنة من ثريد ودعا ثلاثين
مسكينا فأطعمهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والدارقطني وصحّحه عن ابن عباس ؛
أنه قال لأم ولد له حامل أو مرضعة : أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الطعام
، لا قضاء عليك. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني عن ابن عمر ، أن
إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان وهي حامل ، قال : تفطر وتطعم كلّ يوم مسكينا.
وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قال : أطعم مسكينين. وأخرج عبد بن حميد عن طاوس في قوله
: (فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً) قال : إطعام مساكين. وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب في
قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ) أي : أن الصوم خير لكم من الفدية. وقد ورد في فضل الصوم
أحاديث كثيرة جدا.
(شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى
وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))
(رَمَضانَ) مأخوذ من : رمض الصائم يرمض : إذا احترق جوفه من شدة
العطش ، والرمضاء ممدود : شدّة الحرّ ، ومنه : الحديث الثابت في الصحيح : «صلاة
الأوّابين إذا رمضت الفصال» أي أحرقت الرمضاء أجوافها. قال الجوهري : وشهر رمضان
يجمع على رمضانات وأرمضاء ـ يقال : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور
عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام
الحرّ فسمي بذلك ، وقيل : إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال
الصالحة. وقال الماوردي : إن اسمه في الجاهلية ناتق ، وأنشد للمفضّل :
وفي ناتق
أجلت لدى حومة الوغى
|
|
وولّت على
الأدبار فرسان خثعما
|
وإنما سمّوه
بذلك ؛ لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم ، وشهر : مرتفع في قراءة الجماعة على أنه
مبتدأ خبره (الَّذِي أُنْزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ) أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : المفروض عليكم صومه
شهر رمضان ، ويجوز أن يكون بدلا من الصيام المذكور في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ). وقرأ مجاهد ، وشهر ابن حوشب : بنصب الشهر ، ورواها هارون
الأعور عن أبي عمرو ، وهو منتصب بتقدير : الزموا ، أو صوموا. قال الكسائي والفرّاء
: إنه منصوب بتقدير فعل : كتب عليكم الصيام ، وأن تصوموا. وأنكر ذلك النحاس وقال :
إنه منصوب على الإغراء. وقال الأخفش : إنه نصب على الظرف ، ومنع الصرف : للألف
والنون الزائدتين. قوله : (أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) قيل : أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم كان
جبريل ينزل به نجما نجما. وقيل : أنزل فيه أوّله ؛ وقيل : أنزل في شأنه القرآن ،
وهذه الآية أعمّ من قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) يعني ليلة القدر. والقرآن : اسم لكلام الله تعالى ، وهو
بمعنى : المقروء ، كالمشروب سمي : شرابا ، والمكتوب سمي : كتابا ؛ وقيل : هو مصدر
قرأ يقرأ ، ومنه قول الشاعر :
ضحّوا بأشمط
عنوان السّجود به
|
|
يقطّع اللّيل
تسبيحا وقرآنا
|
أي : قراءة ،
ومنه قوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي : قراءة الفجر. وقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) منتصب على الحال ، أي : هاديا لهم. وقوله : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) من عطف الخاص على العام ؛ إظهارا لشرف المعطوف بإفراده
بالذكر ، لأن القرآن يشمل محكمه ومتشابهه ، والبينات تختصّ بالمحكم منه. والفرقان
: ما فرق بين الحق والباطل ، أي : فصل ، قوله : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي : حضر ولم يكن في سفر بل كان مقيما ، والشهر منتصب
على أنه ظرف ، ولا يصح أن يكون مفعولا به. قال جماعة من السلف والخلف : إن من
أدركه شهر رمضان مقيما غير مسافر لزمه صيامه ، سافر بعد ذلك أو أقام استدلالا بهذه
الآية. وقال الجمهور : إنه إذا سافر أفطر ، لأن معنى الآية : إن حضر الشهر من
أوّله إلى آخره ، لا إذا حضر بعضه وسافر ، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره ، وهذا
هو الحقّ ، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة. وقد كان يخرج صلىاللهعليهوسلم في رمضان فيفطر. وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد تقدّم تفسيره. وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فيه أن هذا مقصد من مقاصد الربّ سبحانه ، ومراد من
مراداته في جميع أمور الدين ، ومثله قوله تعالى : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقد ثبت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان يرشد إلى التيسير ، وينهى عن التعسير ، كقوله
__________________
صلىاللهعليهوسلم : «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا» وهو في
الصحيح. واليسر السهل الذي لا عسر فيه. وقوله : (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) الظاهر أنه معطوف على قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) أي : يريد بكم اليسر ، ويريد إكمالكم للعدّة ، وتكبيركم
؛ وقيل : إنه متعلق بمحذوف تقديره : رخّص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة ، وشرع لكم
الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة. وقد ذهب إلى الأوّل البصريون قالوا : والتقدير
: يريد لأن تكملوا العدّة ، ومثله : قول كثيّر أبو صخر :
أريد لأنسى
ذكرها فكأنّما
|
|
تمثّل لي
ليلى بكلّ سبيل
|
وذهب الكوفيون
إلى الثاني ؛ وقيل : الواو مقحمة ، وقيل : إن هذه اللام لام الأمر ، والواو لعطف
الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها. وقال في الكشاف : إن قوله : (لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) علة للأمر بمراعاة العدّة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير ، والمراد بالتكبير هنا : هو قول
القائل : الله أكبر. قال الجمهور : ومعناه الحضّ على التكبير في آخر رمضان. وقد
وقع الخلاف في وقته ، فروي عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ، وقيل :
إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة ، وقيل : إلى خروج الإمام ؛ وقيل : هو
التكبير يوم الفطر. قال مالك : هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام ، وبه
قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : يكبّر في الأضحى ؛ ولا يكبّر في الفطر. وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) قد تقدّم تفسيره.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عديّ ، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة مرفوعا
وموقوفا : «لا تقولوا : رمضان ، فإنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا
شهر رمضان». وقد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من صام رمضان إيمانا واحتسابا ؛ غفر له ما
تقدّم من ذنبه». وثبت عنه أنه قال : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا ، غفر له ما
تقدّم من ذنبه». وثبت عنه أنه قال : «شهرا عيد لا ينقصان : رمضان وذو الحجّة».
وقال : «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة» وهذا كله في الصحيح. وثبت عنه في أحاديث
كثيرة غير هذه أنه كان يقول : رمضان ، بدون ذكر الشهر. وأخرج ابن مردويه ،
والأصبهاني في الترغيب عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّما سمّي رمضان ؛ لأنّ رمضان يرمض الذنوب». وأخرجا
أيضا عن عائشة مرفوعا نحوه. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر نحوه. وقد ورد
في فضل رمضان أحاديث كثيرة ، وأخرج أحمد ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن أبي
حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان ، وأنزل
الزّبور لثماني عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان».
وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه عن جابر مثله ، لكنه قال : «وأنزل الزّبور لاثني عشر»
وزاد : «وأنزلت التوراة لست خلون من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من
رمضان». وأخرج محمد بن نصر عن عائشة نحو قول جابر ، إلا أنها لم تذكر نزول القرآن.
وأخرج ابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن أبي
حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن مقسم قال
: سأل عطية بن الأسود ابن عباس فقال : إنه قد وقع في قلبي الشكّ في قول الله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ). وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) فقال ابن عباس : إنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان وفي
ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم في الشهور والأيام.
وأخرج محمد بن نصر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ،
والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : نزل القرآن جملة لأربعة وعشرين من رمضان ،
فوضع في بيت العزّة في السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ترتيلا. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : «ليلة القدر : هي
اللّيلة المباركة ، وهي في رمضان ، أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت
المعمور». وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) قال : يهتدون به (وَبَيِّناتٍ مِنَ
الْهُدى) قال : فيه الحلال والحرام والحدود. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال : هو إهلاله بالدار. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير
، وابن أبي حاتم عن عليّ قال : من أدرك رمضان وهو مقيم ثم سافر فقد لزمه الصوم لأن
الله يقول : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير
، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ) قال : اليسر : الإفطار في السفر ، والعسر : الصوم في
السفر. وأخرج ابن جرير عن الضحاك ، أنه قال : عدة ما أفطر المريض في السفر. وقد
صحّ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم
فأكملوا العدّة ثلاثين يوما». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : حقّ على الصائمين
إذا نظروا إلى شهر شوّال أن يكبّروا الله حتى يفرغوا من عيدهم ، لأن الله يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ). وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه
كان يكبّر : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ،
ولله الحمد. وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يكبّر :
الله أكبر كبيرا ، الله أكبر كبيرا ، الله أكبر وأجلّ ولله الحمد ، الله أكبر على
ما هدانا.
(وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))
قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) يحتمل أن السؤال عن : القرب والبعد ، كما يدل عليه قوله
: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ويحتمل أن السؤال عن : إجابة الدعاء ، كما يدلّ على ذلك
قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ) ويحتمل أن السؤال عما هو أعمّ من ذلك ، وهذا هو الظاهر
مع قطع النظر عن السبب الذي سيأتي بيانه. وقوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) قيل : بالإجابة ، وقيل : بالعلم ؛ وقيل : بالإنعام.
وقال في الكشاف : إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه ، وسرعة إنجاحه حاجة
من سأله ؛ بمن قرب مكانه ، فإذا دعي أسرعت تلبيته. ومعنى
__________________
الإجابة : هو معنى ما في قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) وقيل : معناه : أقبل عبادة من عبدني بالدعاء ، لما ثبت
عنه صلىاللهعليهوسلم من أن الدعاء هو العبادة ، كما أخرجه أبو داود وغيره من
حديث النعمان بن بشير ، والظاهر أن الإجابة هي باقية على معناها اللغوي ؛ وكون الدعاء
من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي القبول للدّعاء ، أي : جعله عبادة متقبلة ؛
فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة. والمراد : أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف
شاء ، فقد يحصل المطلوب قريبا ، وقد يحصل بعيدا ، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما
لا يعلمه بسبب دعائه ، وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه ، كما في قوله
سبحانه : (ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ومن الاعتداء : أن يطلب ما لا يستحقه ولا يصلح له ، كمن
يطلب منزلة في الجنة مساوية لمنزلة الأنبياء أو فوقها. وقوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي : كما أجبتهم إذا دعوني ؛ فليستجيبوا لي فيما دعوتهم
إليه من الإيمان والطاعات ، وقيل : معناه : أنهم يطلبون إجابة الله سبحانه لدعائهم
باستجابتهم له ، أي : القيام بما أمرهم به ، والترك لما نهاهم عنه. والرشد : خلاف
الغيّ ، رشد يرشد رشدا ، ورشدا. قال الهروي : الرشد والرشد والرّشاد ، الهدى
والاستقامة. قال : ومنه هذه الآية.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طريق الصلت بن حكيم عن رجل من
الأنصار عن أبيه عن جدّه ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد
فنناديه؟ فسكت النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن
الحسن قال : سأل أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم أين ربّنا؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن مردويه عن
أنس أنه سأل أعرابيّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم أين ربّنا؟ فنزلت. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تعجزوا عن الدعاء ، فإن الله أنزل عليّ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)» فقال رجل : يا رسول الله! ربنا يسمع الدعاء أم كيف ذلك؟
فأنزل الله هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن عطاء أنه بلغه لما نزلت : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) قالوا : لو نعلم أيّ ساعة ندعو ، فنزلت. وقد ثبت في
الصحيح من حديث أبي سعيد أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا
قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجّل له دعوته ، وإمّا أن
يدّخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السّوء مثلها». وثبت في الصحيح أيضا
من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل ، يقول : دعوت فلم
يستجب لي». وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس في قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي) قال : ليدعوني (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أي : أنهم إذا دعوني استجبت لهم. وأخرج ابن جرير عن
مجاهد قال : (فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي) أي : فليطيعوني. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر عن الربيع بن أنس في قوله : (لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ) قال : يهتدون.
(أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ
لَكُمْ وَكُلُوا
__________________
وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))
قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ) فيه دلالة على أن هذا الذي أحلّه الله كان حراما عليهم
، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية وسيأتي. والرفث : كناية عن الجماع. قال
الزجّاج : الرّفث : كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وكذا قال الأزهري ،
ومنه قول الشاعر :
ويرين من أنس
الحديث زوانيا
|
|
وبهنّ عن رفث
الرّجال نفار
|
وقيل : الرفث :
أصله قول الفحش ، رفث وأرفث : إذا تكلم بالقبيح ، وليس هو المراد هنا ، وعدّى
الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء ، وجعل النساء لباسا للرجال ، والرجال لباسا لهنّ
لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع ، كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه.
قال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة : لباس وفراش وإزار. وقيل : إنما جعل كلّ واحد
منهما لباسا للآخر ؛ لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس. وقوله : (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم ، يقال خان
واختان بمعنى ، وهما من الخيانة. قال القتبي : أصل الخيانة : أن يؤتمن الرجل على
شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. انتهى. وإنما سمّاهم : خائنين لأنفسهم ، لأن ضرر ذلك
عائد عليهم وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل معنيين : أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم
، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) يعني : خفف عنكم ، وكقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) يعني : تخفيفا ، وهكذا قوله : (وَعَفا عَنْكُمْ) يحتمل : العفو من الذنب ، ويحتمل : التوسعة والتسهيل.
وقوله : (وَابْتَغُوا) قيل : هو الولد ، أي : ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما
هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل ، وقيل : المراد : ابتغوا القرآن بما
أبيح لكم فيه ، قاله الزجاج وغيره ؛ وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة ؛ وقيل :
المراد : ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات ؛ وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم
القرآني ، ولا دلّ عليه دليل آخر ، وقرأ الحسن البصري : واتبعوا بالعين المهملة من
الإتباع ، وقوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) هو تشبيه بليغ ، والمراد هنا بالخيط الأبيض : هو
المعترض في الأفق ، لا الذي هو كذنب السرحان ، فإنه الفجر الكذاب الذي لا يحلّ
شيئا ولا يحرمه. والمراد بالخيط الأسود : سواد الليل ، والتبين : أن يمتاز أحدهما
عن الآخر ، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر. وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ) فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل ، فعند إقبال
الليل من المشرق ، وإدبار النهار من المغرب ، يفطر الصائم ويحلّ له الأكل والشرب
وغيرهما. وقوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) قيل : المراد بالمباشرة هنا الجماع ؛ وقيل تشمل التقبيل
واللمس إذا كان لشهوة ، لا إذا كانا لغير شهوة ، فهما جائزان كما قاله عطاء
والشافعي وابن المنذر وغيرهم ، وعلى
__________________
هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا
يقبّل ، فتكون هذا الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة ، والاعتكاف في اللغة :
الملازمة ، يقال : عكف على الشيء : إذا لازمه ، ومنه قول الشاعر :
وظلّ بنات
اللّيل حولي عكّفا
|
|
عكوف البواكي
حولهنّ صريع
|
ولما كان
المعتكف يلازم المسجد قيل له : عاكف في المسجد ، ومعتكف فيه ، لأنه يحبس نفسه لهذه
العبادة في المسجد ، والاعتكاف في الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص. وقد
وقع الإجماع على أنه ليس بواجب ، وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد ، وللاعتكاف أحكام
مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث. وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي : هذه الأحكام حدود الله ، وأصل الحدّ : المنع ،
ومنه سمي البوّاب والسجّان : حدادا ، وسميت الأوامر والنواهي : حدود الله ، لأنها
تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج عنها ما هو منها ، ومن ذلك سميت الحدود
: حدودا ؛ لأنها تمنع أصحابها من العود. ومعنى النهي عن قربانها : النهي عن
تعدّيها بالمخالفة لها ؛ وقيل : إن حدود الله هي محارمه فقط ، ومنها المباشرة من
المعتكف ، والإفطار في رمضان لغير عذر ، وغير ذلك مما سبق النهي عنه ، ومعنى النهي
عن قربانها على هذا واضح. وقوله (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ آياتِهِ) أي : كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية
إلى الحق. وقد أخرج البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وغيرهم ، عن البراء بن عازب
قال : كان أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم
يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، فكان يومه
ذلك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ،
ولكن أنطلق فأطلب لك ، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته ، فلما رأته نائما قالت :
خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ) إلى قوله (مِنَ الْفَجْرِ) ففرحوا بها فرحا شديدا. وأخرج البخاري أيضا من حديثه
قال : لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كلّه ، فكان رجال
يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الآية. وقد روي في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن
جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس
قال : كان الناس أوّل ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من
الطعام ، ثم قال : وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته ، ثم أتى رسول الله فقال : يا
رسول الله! إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي ، وذكر ما وقع منه ، فنزل قوله تعالى
: (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : إن
المسلمين كانوا في شهر رمضان ، إذا صلّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام والشراب
إلى مثلها من القابلة ، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا النساء والطعام
__________________
في رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله : (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : الرفث : الجماع. وأخرج ابن المنذر عن ابن
عمر مثله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن
ابن عباس قال : الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرّفث واللّمس والمسّ هذا
الجماع ، غير أن الله حيي كريم يكنّى بما شاء عما شاء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) قال : هنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهنّ. وأخرج ابن أبي
حاتم عن مجاهد في قوله : (تَخْتانُونَ
أَنْفُسَكُمْ) قال : تظلمون أنفسكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في
قوله : (فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَ) قال : انكحوهنّ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في
قوله : (وَابْتَغُوا ما
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : الولد. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة
والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
تعالى : (وَابْتَغُوا ما
كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : ليلة القدر. وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس
مثله. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال : (وَابْتَغُوا) الرخصة التي كتب الله لكم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن سهل بن سعد. قال : أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط
الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما ، فأنزل الله (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وفي الصحيحين وغيرهما
عن عديّ بن حاتم ، أنه جعل تحت وساده خيطين أبيض وأسود ، وجعل ينظر إليهما فلا
يتبين له الأبيض من الأسود ؛ فغدا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره ، فقال : «إنّ وسادك إذا لعريض ، إنّما ذلك بياض
النّهار من سواد اللّيل». وفي رواية في البخاري وغيره. أنه قال له : «إنك لعريض
القفا». وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم : أنه ضحك منه. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن جرير وابن المنذر عن الضحّاك قال : كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة
نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن
أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : «إذا جامع المعتكف بطل
اعتكافه ويستأنف». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) قال : يعني طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك
قال (حُدُودُ اللهِ) معصية الله : يعني المباشرة في الاعتكاف. وأخرج ابن أبي
حاتم عن مقاتل أنها الجماع. وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير في قوله : (كَذلِكَ) يعني : هكذا يبين الله.
(وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(١٨٨))
هذا يعمّ جميع
الأمة وجميع الأموال ، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه ،
فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل ، ومأكول بالحلّ لا بالإثم ، وإن كان صاحبه كارها
كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه ، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها ،
ونفقة من أوجب الشرع نفقته. والحاصل : أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه ؛ فهو
مأكول بالباطل ، وإن طابت به نفس مالكه ، كمهر البغيّ ، وحلوان الكاهن ، وثمن
الخمر. والباطل في اللغة : الذاهب الزائل. وقوله : (وَتُدْلُوا) مجزوم عطفا على تأكلوا ، فهو من جملة المنهي عنه ، يقال
: أدلى الرجل بحجته ؛ أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ؛ تشبيها بالذي يرسل الدلو في
البئر ، يقال : أدلى دلوه : أرسلها ، والمعنى : أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال
بالباطل وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة ، وفي هذه الآية دليل أن حكم
الحاكم لا يحلل الحرام ، ولا يحرم الحلال ، من غير فرق بين الأموال والفروج ، فمن
حكم له القاضي بشيء ؛ مستندا في حكمه إلى شهادة زور ؛ أو يمين فجور ؛ فلا يحلّ له
أكله ، فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل ، وهكذا إذا رشى الحاكم فحكم له بغير
الحق ؛ فإنه من أكل أموال الناس بالباطل. ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا
يحلّل الحرام ولا يحرّم الحلال. وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك ، وهو مردود ،
لكتاب الله تعالى ولسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما في حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته
من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذه فإنّما
أقطع له قطعة من النار» وهو في الصحيحين وغيرهما. وقوله : (فَرِيقاً) أي : قطعة أو جزءا أو طائفة ، فعبّر بالفريق عن ذلك ،
وأصل الفريق : القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ،
والتقدير : لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم ، وسمي الظلم والعدوان : إثما ،
باعتبار تعلقه بفاعله. وقوله : (وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) أي : حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء
، وهذا أشدّ لعقابهم وأعظم لجرمهم.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) الآية ، قال : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه
بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه. وروى سعيد بن
منصور ، وعبد بن حميد عن مجاهد قال : معناها : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وأخرج
ابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن امرأ القيس بن
عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض ، وأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فنزلت : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) الآية.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ
تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))
قوله : (يَسْئَلُونَكَ) سيأتي بيان من هم السائلون له صلىاللهعليهوسلم ، والأهلة : جمع هلال ، وجمعها : باعتبار هلال كل شهر ،
أو كل شهر ، قال الأصمعي : هو هلال حتى يستدير ـ وقيل : هو هلال حتى ينير
بضوئه السماء وذلك ليلة السابع. وإنما قيل له : هلال ، لأن الناس يرفعون
أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته ، ومنه استهلّ الصبي : إذا صاح ، واستهلّ وجهه
وتهلّل : إذا ظهر فيه السرور. قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه ، وأن ذلك
لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ؛ ومعاملاتهم بها ، كالصوم ، والفطر
، والحج ، ومدّة الحمل ، والعدّة والإجارات ، والأيمان وغير ذلك ، ومثله قوله
تعالى : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ) والمواقيت : جمع الميقات ، وهو الوقت. وقراءة الجمهور :
(وَالْحَجِ) بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن.
قال سيبويه : الحج بالفتح كالردّ والشدّ ، وبالكسر كالذكر : مصدران بمعنى ؛ وقيل :
بالفتح مصدر ، وبالكسر الاسم. وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه
إلى معرفة الوقت ، ولا يجوز فيه النسيء عن وقته ، ولعظم المشقة على من التبس عليه
وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها. وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب ،
أعني قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) من الأسلوب الحكيم ، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب ،
تنبيها على أنه الأولى بالقصد ، ووجه ذلك : أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار
زيادتها ونقصانها ، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها ، لكون
ذلك أولى بأن يقصد السائل ، وأحق بأن يتطلع لعلمه. وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت
للناس والحج : أن الأنصار كانوا إذا حجّوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع
أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه ، لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن
يحول بينه وبين السماء حائل ، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم. وقال أبو عبيدة : إن
هذا من ضرب المثل ، والمعنى : ليس البرّ أن تسألوا الجهال ، ولكن البرّ التقوى ،
واسألوا العلماء ، كما تقول : أتيت هذا الأمر من بابه ؛ وقيل : هو مثل في جماع
النساء ، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر ؛ وقيل غير ذلك. والبيوت :
جمع بيت ؛ وقرئ بضم الباء وكسرها. وقد تقدّم تفسير التقوى والفلاح ، وسبق أيضا أن
التقدير في مثل قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقى) : ولكن البرّ برّ من اتقى.
وقد أخرج ابن
عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ) قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة. وهما رجلان
من الأنصار قالا : يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ، ثم
يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان ؛ لا يكون
على حال واحد؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) في حلّ دينهم ، ولصومهم ، ولفطرهم ، وعدد نسائهم ،
والشروط التي إلى أجل. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : سألوا النبيّ
صلىاللهعليهوسلم عن الأهلة لم جعلت؟ فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية ، فجعلها لصوم المسلمين ، ولإفطارهم ، ولمناسكهم
، وحجهم ، وعدد نسائهم ، ومحل دينهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج
ابن جرير عن الربيع بن أنس نحوه ، وقد روى ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس
نحوه. وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «جعل الله الأهلّة مواقيت
__________________
للنّاس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوما».
فذكر نحو حديث ابن عمر. وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في
الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن جابر قال
: كانت قريش تدعى الحمس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار
وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر
الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله! إن قطبة بن عامر رجل فاجر ، وإنه خرج معك من
الباب ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت ، فقال
: إني رجل أحمسي ، قال : فإن ديني دينك ، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين.
(وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ
حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ
(١٩٣))
لا خلاف بين
أهل العلم أن القتال كان ممنوعا قبل الهجرة لقوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ
هَجْراً جَمِيلاً) وقوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ) وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) ونحو ذلك مما نزل بمكة ؛ فلما هاجر إلى المدينة أمره
الله سبحانه بالقتال ، ونزلت هذه الآية ؛ وقيل إن أوّل ما نزل قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) فلما نزلت الآية كان صلىاللهعليهوسلم يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله تعالى
: (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) . وقال جماعة من السلف : إن المراد بقوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم ، وجعلوا هذه
الآية محكمة غير منسوخة ، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأوّل : هو مقاتلة من
يقاتل من الطوائف الكفرية. والمراد به على القول الثاني : مجاوزة قتل من يستحق
القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدّم ذكره. قوله : (حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ) يقال : ثقف يثقف ثقفا ، ورجل ثقيف : إذا كان محكما لما
يتناوله من الأمور. قال في الكشّاف : والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه
رجل ثقف : سريع الأخذ لأقرانه. انتهى. ومنه قول حسان :
فإمّا يثقفنّ
بني لؤيّ
|
|
جذيمة إنّ
قتلهم دواء
|
قوله : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ) أي : مكة. قال ابن جرير : الخطاب للمهاجرين ، والضمير
لكفار قريش. انتهى. وقد امتثل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر ربه ، فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله
عليه. قوله : (وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي : الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم ، وهي رجوعكم
__________________
إلى الكفر أشدّ من القتل ؛ وقيل : المراد بالفتنة : المحنة التي تنزل
بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه ؛ وقيل : إن المراد بالفتنة : الشرك
الذي عليه المشركون ، لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ، فأخبرهم الله أن
الشرك الذي هم عليه أشدّ مما يستعظمونه ؛ وقيل : المراد : فتنتهم إياكم بصدّكم عن
المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم.
والظاهر أن المراد : الفتنة في الدين بأيّ سبب كان ، وعلى أيّ صورة اتفقت ، فإنها
أشدّ من القتل. قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية ، اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهبت طائفة إلى أنها
محكمة ، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلّا بعد أن يتعدّى بالقتال فيه ، فإنه يجوز
دفعه بالمقاتلة له ، وهذا هو الحق. وقالت طائفة : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى
: (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ويجاب عن هذا الاستدلال : بأن الجمع ممكن ببناء العام
على الخاص ، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم ، ومما يؤيد ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّها لم تحلّ لأحد قبلي ، وإنّما أحلّت لي ساعة من
نهار» وهو في الصحيح. وقد احتج القائلون بالنسخ : بقتله صلىاللهعليهوسلم لابن خطل ، وهو متعلّق بأستار الكعبة ، ويجاب عنه بأنه
وقع في تلك الساعة التي أحلّ الله لرسوله صلىاللهعليهوسلم قوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي : عن قتالكم ودخلوا في الإسلام. قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ) فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية ، هي : أن لا تكون
فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان
المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلّ قتاله ، قيل : المراد
بالفتنة هنا : الشرك ، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف. قوله : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ) أي : لا تعتدوا إلّا على من ظلم وهو من لم ينته عن
الفتنة ، ولم يدخل في الإسلام ، وإنما سمي جزاء الظالمين : عدوانا مشاكلة كقوله
تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) .
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) الآية ، أنها أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما
نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن كفّ عنه ، حتى نزلت سورة براءة.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في هذه الآية قال : إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من
ألقى السلام وكفّ يده ، فإن فعلتم فقد اعتديتم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد
العزيز أنه قال : إن هذه الآية في النساء والذرية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
العالية في قوله : (وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يقول : الشرك أشدّ من القتل. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير عن مجاهد في الآية قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من أن يقتل
محقّا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) قال : حتى يبدؤوا بالقتال ، ثم نسخ بعد ذلك ، فقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في
ناسخه ، عن قتادة أن قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين
__________________
جميعا في براءة قوله : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا) قال : فإن تابوا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي
في الدلائل ، من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) يقول : شرك بالله (وَيَكُونَ الدِّينُ) ويخلص التوحيد الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
مجاهد في الآية ، قال : الشرك. وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا
فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) قال : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم. وأخرج ابن جرير عن
الربيع في قوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ) يقول : حتى لا تعبدوا إلا الله. وأخرج أيضا عن عكرمة في
قوله : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا
عَلَى الظَّالِمِينَ) قال : هم من أبى أن يقول لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه.
(الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤))
قوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ) أي : إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته
قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم. (وَالْحُرُماتُ) : جمع حرمة ، كالظلمات : جمع ظلمة ؛ وإنما جمع الحرمات
لأنه أراد الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام ، والحرمة : ما منع الشرع
من انتهاكه. والقصاص : المساواة ، والمعنى : أن كل حرمة يجري فيها القصاص ، فمن
هتك حرمة عليكم فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصا ، قيل : وهذا كان في أوّل الإسلام
ثم نسخ بالقتال ؛ وقيل : إنه ثابت بين أمة محمد صلىاللهعليهوسلم لم ينسخ ، ويجوز لمن تعدّي عليه في مال أو بدن أن
يتعدّى بمثل ما تعدّي عليه ، وبهذا قال الشافعي وغيره. وقال آخرون : إن أمور
القصاص مقصورة على الحكام ، وهكذا الأموال ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك» أخرجه
الدارقطني وغيره ، وبه قال أبو حنيفة ، وجمهور المالكية ، وعطاء الخراساني ،
والقول الأوّل أرجح ، وبه قال ابن المنذر ، واختاره ابن العربي ، والقرطبي ، وحكاه
الداودي عن مالك ، ويؤيده : إذنه صلىاللهعليهوسلم لامرأة أبي سفيان ، أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها ،
وهو في الصحيح ، ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى ، أعني :
قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) وإنما المكافأة اعتداء مشاكلة ، كما تقدّم.
وقد أخرج ابن
جرير عن ابن عباس قال : لما سار رسول الله صلىاللهعليهوسلم معتمرا في سنة ستّ من الهجرة ، وحبسه المشركون عن
الدخول والوصول إلى البيت ، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة ، وهو شهر
حرام ، قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من
المسلمين ، وأقصّه الله منهم ، نزلت في ذلك هذه الآية : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ). وأخرج ابن جرير ،
__________________
وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
مجاهد نحوه أيضا. وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه.
وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في
سننه ، عن ابن عباس في قوله : (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ) الآية ، وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ) الآية ، وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ) الآية ، وقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) الآية ، قال : هذا ونحوه نزل بمكة ، والمسلمون يومئذ
قليل ، ليس لهم سلطان يقهر المشركين ، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ،
فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه ، أو يصبروا
ويعفوا ، فلما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة وأعزّ الله سلطانه ، أمر الله المسلمين أن
ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم ، ولا يعدوا بعضهم على بعض كأهل الجاهلية ، فقال : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ
جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) الآية. يقول : ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه ،
ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف ، قد عمل بحميّة الجاهلية ولم يرض بحكم
الله تعالى. انتهى. وأقول : هذه الآية ـ التي جعلها ابن عباس رضي الله عنه ناسخة ـ
مؤيدة لما تدل عليه الآيات ـ التي جعلها منسوخة ـ ومؤكدة له ، فإن الظاهر من قوله
: (فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أنه جعل السلطان له ، أي : جعل له تسلطا يتسلط به على
القاتل ، ولهذا قال : (فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ) ثم لو سلّمنا أن معنى الآية كما قاله ؛ لكان ذلك مخصصا
للقتل من عموم الآيات المذكورة ؛ لا ناسخا لها ، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على
القتل وحده. وتلك الآيات شاملة له ولغيره ، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع
في تفسير كلام الله سبحانه.
(وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))
وفي هذه الآية
الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، وهو الجهاد ، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه
من سبيل الله ، والباء في قوله : (بِأَيْدِيكُمْ) زائدة ، والتقدير : ولا تلقوا أيديكم ، ومثله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) وقال المبرد : (بِأَيْدِيكُمْ) أي : بأنفسكم ، تعبيرا بالبعض عن الكل ، كقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وقيل : هذا مثل مضروب ، يقال : فلان ألقى بيده في أمر
كذا : إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، فكذلك فعل كل عاجز
في أيّ فعل كان ، وقال قوم : التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم. والتهلكة : مصدر
من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة ؛ أي : لا تأخذوا فيما يهلككم. وللسلف في معنى
الآية أقوال سيأتي بيانها ، وبيان سبب نزول الآية. والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب ، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا ،
وبه قال ابن جرير الطبري. ومن جملة ما يدخل تحت الآية ؛ أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل
على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين ، ولا يمنع من
دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب ، فإنهم ظنوا أن الآية لا
تجاوز سببها ، وهو ظنّ تدفعه لغة العرب. وقوله : (وَأَحْسِنُوا) أي : في الإنفاق في الطاعة ، أو أحسنوا الظن بالله في
إخلافه عليكم.
__________________
وقد أخرج عبد
بن حميد ، والبخاري ، والبيهقي في سننه ، عن حذيفة في قوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) قال : نزلت في النفقة. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو ترك النفقة
في سبيل الله مخافة العيلة. وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي عن ابن عباس نحوه. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن جرير عن عكرمة نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج
عبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب ، عنه قال : هو البخل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال : كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها الرسول صلىاللهعليهوسلم بغير نفقة ، فإما يقطع لهم ، وإما كانوا عيالا ، فأمرهم
الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة. والتهلكة : أن
تهلك رجال من الجوع والعطش ومن المشي. وقال لمن بيده فضل : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ). وأخرج عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، والبغوي
في معجمه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن قانع ، والطبراني عن
الضحّاك بن أبي جبير : أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل الله ، ويتصدّقون ،
فأصابتهم سنة ، فساء ظنهم ، وأمسكوا عن ذلك ، فأنزل الله الآية. وأخرج عبد بن حميد
، وأبو داود ، والترمذي وصحّحه ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أسلم بن
عمران قال : كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام فضالة
بن عبيد ، فخرج صفّ عظيم من الروم فصففنا لهم ، فحمل رجل من المسلمين على صفّ
الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام
أبو أيوب صاحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أيّها الناس إنكم تؤوّلون الآية هذا التأويل. وإنما
أنزلت فينا هذه الآية معشر الأنصار ، إنا لما أعزّ الله دينه وكثر ناصروه ، قال
بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن أموال الناس قد ضاعت ، وإن الله قد أعزّ الإسلام
وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها؟ فأنزل الله على نبيه
يردّ علينا : (وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، فكانت التهلكة : الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك
الغزو. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصحّحه ،
والبيهقي عن البراء بن عازب ، قال في تفسير الآية : هو الرجل يذنب الذنب فيلقي
بيديه ، فيقول : لا يغفر الله لي أبدا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن
مردويه ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، عن النعمان بن بشير نحوه. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير قال في تفسير الآية : إنه القنوط. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : التهلكة : عذاب الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن
عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أنهم حاصروا دمشق ، فأسرع رجل إلى العدوّ وحده ،
فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه فردّده ، وقال
: قال الله : (وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). وأخرج ابن جرير عن رجل من الصحابة في قوله : (وَأَحْسِنُوا) قال : أدّوا الفرائض. وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق
مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عكرمة قال : أحسنوا الظنّ بالله.
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا
تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦))
قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَ) اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة
لله ، فقيل : أداؤهما ، والإتيان بهما من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور ، ولا
يخل بشرط ، ولا فرض لقوله تعالى : (فَأَتَمَّهُنَ) وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) . وقال سفيان الثوري : إتمامهما : أن تخرج لهما ، لا
لغيرهما ؛ وقيل : إتمامهما : أن تفرد كل واحد منهما من غير تمتع ، ولا قران ، وبه
قال ابن حبيب. وقال مقاتل : إتمامهما : أن لا يستحلوا فيهما ما لا ينبغي لهم ،
وقيل : إتمامهما : أن يحرم لهما من دويرة أهله ؛ وقيل : أن ينفق في سفرهما الحلال
الطيب ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وما هو مرويّ عن السلف في معنى إتمامهما.
وقد استدل بهذه الآية على وجوب العمرة ؛ لأن الأمر بإتمامهما أمر بها ، وبذلك قال
عليّ ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ،
والشعبي ، وسعيد بن جبير ، ومسروق ، وعبد الله بن شدّاد ، والشافعي ، وأحمد ،
وإسحاق ، وأبو عبيد ، وابن الجهم من المالكية. وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي ـ كما
حكاه ابن المنذر عنهم ـ : أنها سنة. وحكي عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب. ومن
القائلين بأنها سنة : ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله. ومن جملة ما استدلّ به
الأوّلون : ما ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه : «من كان معه هدي فليهلّ
بحجّ وعمرة». وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال : «دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم
القيامة». وأخرج الدارقطني ، والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الحجّ والعمرة فريضتان لا يضرّك بأيّهما بدأت».
واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الآية ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد
بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الحجّ جهاد والعمرة تطوّع». وأخرج ابن ماجة عن طلحة
بن عبيد الله مرفوعا مثله. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه عن
جابر : «أنّ رجلا سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال : لا وأن تعتمروا خير لكم»
وأجابوا عن الآية ، وعن الأحاديث المصرحة بأنها فريضة : بحمل ذلك على أنه قد وقع
الدخول فيها ، وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف ، وهذا وإن كان فيه بعد ؛ لكنه
يجب المصير إليه ، جمعا بين الأدلة ، ولا سيما بعد تصريحه صلىاللهعليهوسلم بما تقدم في حديث جابر من عدم الوجوب ، وعلى هذا يحمل
ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها ، كما أخرجه الشافعي في الأم أن في الكتاب الذي
كتبه النبي صلىاللهعليهوسلم لعمرو بن حزم : «إنّ العمرة هي الحجّ الأصغر». وكحديث
ابن عمر عند البيهقي في الشعب ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : أوصني ، فقال : «تعبد الله ولا تشرك به شيئا ،
وتقيم الصّلاة ، وتؤتي الزّكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحجّ وتعتمر ، وتسمع وتطيع ،
وعليك
__________________
بالعلانية ، وإيّاك والسّرّ». وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن
فيها بين الحجّ والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال ، وأنهما كفّارة لما بينهما ،
وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ، ونحو ذلك. قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) الحصر : الحبس. قال أبو عبيدة والكسائي والخليل : إنه
يقال : أحصر بالمرض ، وحصر بالعدو. وفي المجمل لابن فارس العكس ، يقال : أحصر
بالعدوّ ، وحصر بالمرض. ورجح الأوّل ابن العربي وقال : هو رأي أكثر أهل اللغة.
وقال الزجّاج : إنه كذلك عند جميع أهل اللغة. وقال الفرّاء : هما بمعنى واحد في
المرض والعدوّ. ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني ، فقال : حصرني الشيء وأحصرني :
أي : حبسني. وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية ،
فقالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدوّ أو غيره.
وقال الشافعية وأهل المدينة : المراد بالآية : حصر العدوّ. وقد ذهب جمهور العلماء
إلى أن المحصر بعدوّ يحلّ حيث أحصر ، وينحر هديه إن كان ثمّ هدي ، ويحلق رأسه ،
كما فعل النبيّ صلىاللهعليهوسلم هو وأصحابه في الحديبية. وقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) «ما» في موضع رفع على الابتداء أو الخبر ، أي : فالواجب أو فعليكم ، ويحتمل
أن يكون في موضع نصب ، أي : فانحروا ، أو فاهدوا ما استيسر ، أي : ما تيسّر ، يقال
: يسر الأمر واستيسر ، كما يقال : صعب واستصعب ، والهديّ والهدي لغتان ، وهما جمع
هدية ، وهي : ما يهدى إلى البيت من بدنة أو غيرها. قال الفراء : أهل الحجاز وبنو
أسد يخففون الهدي ، وتميم وسفلى قيس يثقلون. قال الشاعر :
حلفت بربّ
مكّة والمصلّى
|
|
وأعناق
الهديّ مقلّدات
|
قال : وواحد
الهدي هدية ، ويقال في جمع الهديّ أهداء. واختلف أهل العلم في المراد بقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ) فذهب الجمهور إلى أنه شاة. وقال ابن عمر ، وعائشة ،
وابن الزبير : جمل أو بقرة. وقال الحسن : أعلى الهدي بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه
شاة ، وقوله : (وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر ،
وإليه ذهب جمع من أهل العلم ـ وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة ، أي : لا
تحلّوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محلّه ، وهو
الموضع الذي يحلّ فيه ذبحه. واختلفوا في تعيينه ، فقال مالك والشافعي : هو موضع
الحصر ، اقتداء برسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث أحصر في عام الحديبية. وقال أبو حنيفة : هو الحرم ،
لقوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها
إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وأجيب عن ذلك بأن المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه
الوصول إلى البيت. وأجاب الحنفية عن نحره صلىاللهعليهوسلم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من
الحرم ، وردّ بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم. قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) الآية ، المراد بالمرض هنا : ما يصدق عليه مسمى المرض
لغة. والمراد بالأذى من الرأس : ما فيه من قمل أو جراح ونحو ذلك ، ومعنى الآية :
أن من كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه فدية. وقد بيّنت السّنة ما أطلق هنا
من الصيام والصدقة والنسك ، فثبت في الصحيح : أنّ رسول الله رأى كعب بن عجرة وهو
محرم وقمله يتساقط على وجهه ، فقال : «أيؤذيك هوامّ رأسك؟ قال : نعم ، فأمره أن
يحلق ويطعم ستّة مساكين ، أو يهدي
__________________
شاة ، أو يصوم ثلاثة أيّام». وقد ذكر ابن عبد البرّ : أنه لا خلاف بين
العلماء أن النسك هنا شاة. وحكى عن الجمهور : أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة
أيام ، والإطعام لستة مساكين. وروي عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا : الصوم في
فدية الأذى عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين. والحديث الصحيح المتقدم يردّ عليهم
ويبطل قولهم. وقد ذهب مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم ، وداود : إلى أن
الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلىاللهعليهوسلم ، أي : لكل مسكين. وقال الثوري : نصف صاع من بر ، أو
صاع من غيره. وروي ذلك عن أبي حنيفة. قال ابن المنذر : وهذا غلط لأن في بعض أخبار
كعب أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال له : تصدّق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين.
واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل ، فروي عنه مثل قول مالك والشافعي ، وروي عنه :
أنه إن أطعم برّا فمدّ لكل مسكين ، وإن أطعم تمرا فنصف صاع. واختلفوا في مكان هذه
الفدية فقال عطاء : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء. وبه
قال أصحاب الرأي. وقال طاوس ، والشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة ،
والصوم حيث شاء. وقال مالك ومجاهد : حيث شاء في الجميع ، وهو الحق لعدم الدليل على
تعيين المكان. قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي : برأتم من المرض ـ وقيل : من خوفكم من العدوّ ؛ على
الخلاف السابق ، ولكن الأمن من العدوّ أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض ،
فيكون مقوّيا لقول من قال : إن قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) المراد به : الإحصار من العدوّ ، كما أن قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يقوّي قول من قال بذلك ، لإفراد عذر المرض بالذكر. وقد
وقع الخلاف : هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة؟ على حسب ما سلف ،
والمراد بالتمتع المذكور في الآية : أن يحرم الرجل بعمرة ، ثم يقيم حلالا بمكة إلى
أن يحرم بالحج. فقد استباح بذلك ما لا يحلّ للمحرم استباحته ، وهو معنى : تمتع
واستمتع. ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع ، بل هو عندي أفضل أنواع الحج ،
كما حررته في شرحي على المنتقى. وقد تقدّم الخلاف في معنى قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ). قوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الآية ، أي : فمن لم يجد الهدي ، إما لعدم المال ؛ أو
لعدم الحيوان ، صام ثلاثة أيام في الحج ، أي : في أيام الحج ، وهي من عند شروعه في
الإحرام إلى يوم النحر ؛ وقيل : يصوم قبل يوم التروية يوما ، ويوم التروية ، ويوم
عرفة ؛ وقيل : ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة ؛ وقيل : يصومهنّ من أوّل عشر ذي
الحجة ، وقيل : ما دام بمكة ، وقيل : إنه يجوز أن يصوم الثلاث قبل أن يحرم. وقد
جوّز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي ، ومنعه آخرون. قوله : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) قرأه الجمهور بخفض سبعة ، وقرأ زيد ابن عليّ ، وابن أبي
عبلة بالنصب على أنه معمول بفعل مقدّر ، أي : وصوموا سبعة ، وقيل : على أنه معطوف
على ثلاثة ، لأنها وإن كانت مجرورة لفظا فهي في محل نصب ، كأنه قيل : فصيام ثلاثة.
والمراد بالرجوع هنا : الرجوع إلى الأوطان. قال أحمد ، وإسحاق : يجزيه الصوم في
الطريق ، ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه ، وبه قال الشافعي ، وقتادة ،
والربيع ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن وغيرهم. وقال مالك : إذ رجع من منى
فلا بأس أن يصوم ، والأوّل أرجح. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال صلىاللهعليهوسلم :
«فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ ، وسبعة إذا رجع إلى أهله» فبيّن صلىاللهعليهوسلم : أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل.
وثبت أيضا في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ «وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» وإنما
قال سبحانه : (تِلْكَ عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ) مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة عشرة ، لدفع أن
يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج والسبعة إذا رجع. قال الزجّاج.
وقال المبرد : ذكر ذلك : ليدل على انقضاء العدد ، لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقي منه
شيء بعد ذكر السبعة ، وقيل : هو توكيد ، كما تقول : كتبت بيدي. وقد كانت العرب
تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد ، كقول الشاعر :
ثلاث واثنان
فهنّ خمس
|
|
وسادسة تميل
إلى شمامي
|
وكذا قول الآخر
:
ثلاث بالغداة
وذاك حسبي
|
|
وستّ حين
يدركني العشاء
|
فذلك تسعة في
اليوم ريّي
|
|
وشرب المرء
فوق الريّ داء
|
وقوله : (كامِلَةٌ) توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية بصيامها ، وأن لا
ينقص من عددها. وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الإشارة بقوله : (ذلِكَ) قيل : هي راجعة إلى التمتع ، فتدل على أنه لا متعة
لحاضري المسجد الحرام ، كما يقوله أبو حنفية وأصحابه ، قالوا : ومن تمتع منهم كان
عليه دم ، وهو دم جناية لا يأكل منه ؛ وقيل : إنها راجعة إلى الحكم ، وهو وجوب
الهدي والصيام ، فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام ، كما يقوله
الشافعي ومن وافقه. والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : من لم يكن
ساكنا في الحرم ، أو من لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها على الخلاف في ذلك بين
الأئمة. وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : فيما فرضه عليكم من هذه الأحكام ؛ وقيل : هو أمر
بالتقوى على العموم ، وتحذير من شدّة عقاب الله سبحانه.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم ، وأبو نعيم في الدلائل ، وابن عبد البر في التمهيد ، عن يعلى بن أمية
قال : جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهو بالجعرانة وعليه جبّة وعليه أثر خلوق ، فقال : كيف
تأمرني يا رسول الله أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أين السّائل عن العمرة؟ فقال : ها أنذا ، قال : اخلع
الجبّة واغسل عنك أثر الخلوق ، ثم ما كنت صانعا في حجّك فاصنعه في عمرتك». وقد
أخرجه البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديثه ، ولكن فيهما : أنه نزل عليه صلىاللهعليهوسلم الوحي بعد السؤال ، ولم يذكر ما هو الذي أنزل عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عليّ في قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) قال : أن تحرم من دويرة أهلك. وأخرج ابن عديّ والبيهقي
مثله من حديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال
: من تمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر ، وأن
__________________
يعتمر في غير أشهر الحجّ. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال :
تمام الحجّ يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حلّ ، وتمام العمرة إذا
طاف بالبيت وبالصفا والمروة حلّ. وقد ورد في فضل الحج والعمرة أحاديث كثيرة ليس
هذا موطن ذكرها. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) يقول : من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده
أو عدوّ يحبسه ؛ فعليه ذبح ما استيسر من الهدي شاة فما فوقها ، وإن كانت حجة
الإسلام فعليه قضاؤها ، وإن كانت بعد حجة الفريضة فلا قضاء عليه. وأخرج سعيد بن
منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) يقول : الرجل إذا أهلّ بالحج فأحصر بعث بما استيسر من
الهدي ، فإن كان عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق رأسه ، أو مسّ طيبا ، أو تداوى
بدواء ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك ـ فالصيام : ثلاثة أيام ،
والصدقة : ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، والنسك شاة ـ (فَإِذا أَمِنْتُمْ) يقول : فإذا برىء فمضى من وجهه ذلك إلى البيت أحلّ من
حجته بعمرة ، وكان عليه الحجّ من قابل ، فإن هو رجع ولم يتمّ من وجهه ذلك إلى
البيت كان عليه حجة وعمرة ، فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج كان عليه ما استيسر من
الهدي شاة ، فإن هو لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. قال إبراهيم :
فذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال : هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث كله.
وأخرج مالك ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن عليّ في قوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال : شاة. وأخرج الشافعي في الأم ، وسعيد بن منصور ،
وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال : بقرة أو جزور ، قيل أو ما يكفيه شاة؟ قال : لا.
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن ابن عباس قال في تفسير (فَمَا اسْتَيْسَرَ) : ما يجد. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : إن
كان موسرا فمن الإبل ، وإلّا فمن البقر ، وإلّا فمن الغنم. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق القاسم عن عائشة وابن عمر :
أنهما كانا لا يريان (فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ) إلا من الإبل والبقر. وكان ابن عباس يقول : ما استيسر
من الهدي : شاة. وأخرج الشافعي في الأم ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لا حصر إلا حصر
العدوّ ، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء ، إنما قال الله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) فلا يكون الأمن إلا من الخوف. وأخرج ابن أبي شيبة عن
ابن عمر قال : لا إحصار إلا من عدوّ. وأخرج أيضا عن الزهري نحوه. وأخرج أيضا عن
عطاء قال : لا إحصار إلا من مرض أو عدوّ أو أمر حادث. وأخرج أيضا عروة قال : كل
شيء حبس المحرم فهو إحصار. وأخرج البخاري عن المسور : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك. وأخرج أبو داود في
ناسخه عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَحْلِقُوا
رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ثم استثنى فقال : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً) الآية. وأخرج الترمذي ، وابن جرير عن كعب بن عجرة قال :
لفيّ نزلت وإياي عني بها :
(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يعني : من اشتد مرضه. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر
عنه. قال : يعني بالمرض : أن يكون برأسه أذى أو قروح (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ
رَأْسِهِ) قال : الأذى : هو القمل ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس
قال : النسك المذكور في الآية : شاة. وروي أيضا عن علي مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) يقول : من أحرم بالعمرة في أشهر الحج. وأخرج عبد بن
حميد عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم أن ابن الزبير
كان يقول : إنما المتعة لمن أحصر ، وليست لمن خلّي سبيله. وقال ابن عباس : هي لمن
أحصر ومن خلّي سبيله. وأخرج ابن جرير عن عليّ في قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) قال : فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي.
وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ) قال : قبل التروية يوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ،
فإن فاتته صامهنّ أيام التشريق. وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن
عمر مثله إلا أنه قال : وإذا فاته صام أيام منى فإنهنّ من الحج. وأخرج ابن جرير ،
والدارقطني ، والبيهقي عن ابن عمر نحوه مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة عن علقمة
ومجاهد وسعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الصيام للمتمتع ما
بين إحرامه إلى يوم عرفة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : إذا لم يجد
المتمتع بالعمرة هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، وإن كان يوم
عرفة الثالث فقد تمّ صومه ، وسبعة إذا رجع إلى أهله. وأخرج الدارقطني عن عائشة
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيّام قبل يوم
النّحر ، ومن لم يكن صام تلك الثلاثة الأيام فليصم أيّام التشريق». وأخرج أيضا عن
عبد الله بن حذافة : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمره في رهط أن يطوفوا في منى في حجة الوداع ، فينادوا
: «إنّ هذه أيّام أكل وشرب وذكر الله ، فلا نصوم فيهنّ إلا صوما في هدي». وأخرج
ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد عن عطاء في قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : ست قريات : عرفة ، وعرنة ، والرجيع ، والنخلتان ،
ومرّ الظهران ، وضجنان ، وقال مجاهد : هم أهل الحرم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
عن ابن عباس قال : هم أهل الحرم. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر مثله.
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا
جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ
(١٩٨))
قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) فيه حذف ، والتقدير : وقت الحج أشهر ، أي : وقت عمل
الحج ؛ وقيل
التقدير : الحج في أشهر ؛ وفيه أنه يلزم النصب مع حذف حرف الجر لا الرفع.
قال الفرّاء : الأشهر رفع لأن معناه : وقت الحج أشهر معلومات ؛ وقيل التقدير :
الحج حج أشهر معلومات. وقد اختلف في الأشهر المعلومات ، فقال ابن مسعود ، وابن عمر
، وعطاء ، والربيع ، ومجاهد ، والزهري : هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة كله ؛ وبه
قال مالك. وقال ابن عباس ، والسدي ، والشعبي ، والنخعي : هي شوّال وذو القعدة وعشر
من ذي الحجة ؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وقد روي أيضا عن مالك.
ويظهر فائدة الخلاف في ما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر ، فمن قال : إن ذا
الحجة كله من الوقت ؛ لم يلزمه دم التأخير ، ومن قال : ليس إلا العشر منه ؛ قال :
يلزمه دم التأخير. وقد استدلّ بهذه الآية من قال : إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل
أشهر الحج ، وهو عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، قالوا
: فمن أحرم بالحج قبلها أحلّ بعمرة ، ولا يجزيه عن إحرام الحج ، كمن دخل في صلاة
قبل وقتها فإنها لا تجزيه. وقال أحمد وأبو حنيفة : إنه مكروه فقط. وروي نحوه عن
مالك. والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة. وروي مثله عن
أبي حنيفة. وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في
الآية. وقد قيل : إن النص عليها لزيادة فضلها. وقد روي القول بجواز الإحرام في
جميع السنة عن إسحاق بن راهويه ، وإبراهيم النخعي ، والثوري ، والليث بن سعد ،
واحتج لهم بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج ، ولم يخص الثلاثة أشهر ،
ويجاب بأن هذه الآية عامة ، وتلك خاصة ، والخاص مقدّم على العام. ومن جملة ما
احتجوا به القياس للحج على العمرة ، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة ،
كذلك يجوز للحج ، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنصّ القرآني فهو باطل ، فالحق ما
ذهب إليه الأوّلون ؛ إن كانت الأشهر المذكورة في قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) مختصة بالثلاثة المذكورة بنص أو إجماع ، فإن لم يكن
كذلك فالأشهر جمع شهر ، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة ،
والثلاثة هي المتيقنة فيجب الوقوف عندها ، ومعنى قوله : (مَعْلُوماتٌ) أن الحج في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها
، ليس كالعمرة ، أو المراد : معلومات ببيان النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، أو معلومات عند المخاطبين ، لا يجوز التقدّم عليها
ولا التأخر عنها. قوله : (فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَ) أصل الفرض في اللغة : الحزّ والقطع ، ومنه فرضة القوس
والنهر والجبل ، ففريضة الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحزّ للقوس ؛ وقيل معنى فرض
: أبان ، وهو أيضا يرجع إلى القطع ، لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره. والمعنى
في الآية : فمن ألزم نفسه فيهنّ الحج بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا ، وبالإحرام
فعلا ظاهرا ، وبالتلبية نطقا مسموعا. وقال أبو حنيفة : إن إلزامه نفسه يكون
بالتلبية ، أو بتقليد الهدي وسوقه. وقال الشافعي : تكفي النية في الإحرام بالحج.
والرّفث قال ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة ، والزهري
، ومجاهد ، ومالك : هو الجماع. وقال ابن عمر ، وطاوس ، وعطاء ، وغيرهم : الرّفث :
الإفحاش بالكلام. قال أبو عبيدة : الرّفث : اللغا من الكلام ، وأنشد :
__________________
وربّ أسراب
حجيج كظّم
|
|
عن اللّغا
ورفث التّكلّم
|
يقال : رفث
يرفث بكسر الفاء وضمها. والفسوق : الخروج عن حدود الشرع ؛ وقيل : هو الذبح للأصنام
؛ وقيل : التنابز بالألقاب ؛ وقيل : السباب. والظاهر أنه لا يختص بمعصية معينة ،
وإنما خصّصه من خصّصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق على ذلك الفرد اسم الفسوق ، كما
قال سبحانه في الذبح للأصنام : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) . وقال في التنابز (بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ) . وقال صلىاللهعليهوسلم في السّباب «سباب المسلم فسوق». ولا يخفى على عارف أن
إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به. والجدال : مشتق من
الجدل ، وهو : الفتل ، والمراد به هنا المماراة ؛ وقيل : السّباب ؛ وقيل : الفخر
بالآباء. والظاهر الأوّل. وقد قرئ بنصب الثلاثة ورفعها ، ورفع الأوّلين ، ونصب
الثالث ؛ وعكس ذلك ، ومعنى النفي لهذه الأمور النهي عنها. وقوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللهُ) حثّ على الخير بعد ذكر الشرّ ، وعلى الطاعة بعد ذكر
المعصية ، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء.
وقوله : (وَتَزَوَّدُوا) فيه الأمر باتخاذ الزاد ، لأن بعض العرب كانوا يقولون
كيف نحجّ بيت ربنا ولا يطعمنا؟ فكانوا يحجون بلا زاد ويقولون : نحن متوكلون على الله
سبحانه ؛ وقيل : المعنى : تزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) والأوّل أرجح ، كما يدل على ذلك سبب نزول الآية ،
وسيأتي. وقوله : (فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوى) إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات ، فكأنه قال :
اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خير الزاد التقوى ؛ وقيل :
المعنى : فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف.
وقوله : (وَاتَّقُونِ يا
أُولِي الْأَلْبابِ) فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حث جميع العباد
على التقوى ، لأن أرباب الألباب هم القابلون لأوامر الله ، الناهضون بها ، ولبّ كل
شيء : خالصه. قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فيه الترخيص لمن حجّ في التجارة ونحوها من الأعمال التي
يحصل بها شيء من الرزق ، وهو المراد بالفضل هنا ، ومنه قوله تعالى : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلا من ربكم مع سفركم
لتأدية ما افترضه عليكم من الحج. قوله : (فَإِذا أَفَضْتُمْ) أي : دفعتم ، يقال : فاض الإناء : إذا امتلأ ماء حتى
ينصبّ من نواحيه ؛ ورجل فيّاض : أي : متدفقة يداه بالعطاء ، ومعناه : أفضتم أنفسكم
، فترك ذكر المفعول ، كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا. و (عَرَفاتٍ) : اسم لتلك البقعة ، أي : موضع الوقوف ، وقرأه الجماعة
بالتنوين ، وليس التنوين هنا للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف ، وإنما هو بمنزلة
النون في مسلمين. قال النحّاس : هذا الجيد. وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من
عرفات ، قال : لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين. وحكى الأخفش والكوفيون فتح التاء
تشبيها بتاء فاطمة ، وأنشدوا :
تنوّرتها من
أذرعات وأهلها
|
|
بيثرب أدنى
دارها نظر عال
|
وقال في
الكشّاف : فإن قلت هلّا منعت الصرف ، وفيها السببان التعريف والتأنيث ، قلت : لا
يخلو التأنيث ، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدّرة كما في سعاد
، فالتي في لفظها ليست للتأنيث
__________________
وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، ولا يصح تقدير التاء فيها
لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها ، كما لا تقدّر تاء التأنيث
في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها.
انتهى. وسميت : عرفات ، لأن الناس يتعارفون فيها ؛ وقيل : إن آدم التقى هو وحواء
فيها فتعارفا ؛ وقيل غير ذلك. قال ابن عطية : والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء
البقاع ، واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده ،
والمراد بذكر الله عند المشعر الحرام دعاؤه ، ومنه التلبية والتكبير ؛ وسمّي
المشعر مشعرا من الشعار ، وهو العلامة ، والدعاء عنده من شعائر الحج ، ووصف
بالحرام لحرمته ؛ وقيل : المراد بالذكر : صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعا. وقد
أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاجّ بينهما فيها. والمشعر : هو جبل قزح
الذي يقف عليه الإمام ، وقيل : هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي
محسر. قوله : (وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ) الكاف نعت مصدر محذوف ، وما : مصدرية ، أو كافة ، أي :
اذكروه ذكرا حسنا ، كما هداكم هداية حسنة ، وكرّر الأمر بالذكر تأكيدا ـ وقيل :
الأول : أمر بالذكر عند المشعر الحرام ؛ والثاني : أمر بالذكر على حكم الإخلاص ـ وقيل
المراد بالثاني : تعديد النعمة عليهم ، و «إن» في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) مخففة ، كما يفيده دخول اللام في الخبر ـ وقيل : هي
بمعنى قد ، أي : قد كنتم ، والضمير في قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) عائد إلى الهدى ؛ وقيل : إلى القرآن.
وقد أخرج
الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى :
«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ»
شوّال وذو
القعدة وذو الحجة. وأخرج الطبراني في الأوسط أيضا عن ابن عمر مرفوعا مثله. وأخرج
الخطيب عن ابن عباس مرفوعا مثله أيضا. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر بن
الخطاب موقوفا مثله. وأخرج الشافعي في الأم ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ،
وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر موقوفا مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وعطاء والضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن
أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في
سننه من طرق عن ابن عمر في قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ) قال شوّال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة. وأخرجوا
إلا الحاكم عن ابن مسعود مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
والطبراني ، والبيهقي عن ابن عباس من طرق مثله. وأخرج ابن المنذر ، والدارقطني ،
والطبراني عن عبد الله بن الزبير مثله أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ومحمد
وإبراهيم مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عمر في قوله
: (فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَ) قال : من أهل فيهن بحج. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
المنذر ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : الفرض : الإحرام. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن
الزبير قال : الإهلال. وأخرج عنه ابن المنذر ، والدارقطني ، والبيهقي قال : فرض
الحج الإحرام. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : الفرض : الإهلال. وروي نحو ذلك
عن جماعة من التابعين. وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن
عباس قال : لا ينبغي
لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن خزيمة ، والحاكم وصححه ،
والبيهقي عنه نحوه. وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي شيبة ، وابن مردويه ،
والبيهقي عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا ينبغي لأحد أن يحرم أن يحرم بالحجّ إلا في
أشهر الحجّ». وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) قال : الرّفث : التعريض للنساء بالجماع ، والفسوق :
المعاصي كلها ، والجدال : جدال الرجل صاحبه». وأخرج ابن مردويه ، والأصبهاني في
الترغيب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فلا رفث : لا جماع ، ولا فسوق : المعاصي والكذب».
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ،
وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس في الآية قال : الرّفث
الجماع ، والفسوق : المعاصي ، والجدال : المراء. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه
نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال : الرّفث : غشيان
النساء ، والفسوق : السباب ، والجدال : المراء. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عنه نحوه. وروي نحو
ما تقدّم عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة. وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري ،
وأبو داود ، والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون
، ويقولون : نحن متوكلون ، ثم يقدمون فيسألون الناس ، فأنزل الله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوى). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : كان ناس
يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة ، يقولون : نحجّ بيت الله ولا يطعمنا؟ فنزلت
الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم
أزوادهم رموا بها واستأنفوا زادا آخر ، فأنزل الله : (وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزوّدوا الكعك والدقيق
والسويق. وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال : كان الناس يتوكل بعضهم على بعض في
الزاد ، فأمرهم الله أن يتزوّدوا. وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ما تقدّم عن
الصحابة. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن
جرير عن ابن عباس قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج ، ويقولون
أيام ذكر الله ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) الآية. وقد أخرج نحوه عنه البخاري وغيره. وأخرج عبد بن
حميد ، وعبد الرزاق ، وسعيد ابن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، وابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي عن أبي أمامة التميمي
قال : قلت لابن عمر : إنا أناس نكري فهل لنا من حجّ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ،
وبين الصفا والمروة ، وتأتون المعرّف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم؟ قلت بلى ،
فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل
بهذه الآية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فدعاه النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ فقرأ عليه الآية وقال : أنتم حجاج. وأخرج البخاري
وغيره عن ابن عباس أنه كان يقرأ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في مواسم الحج. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ،
وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن الزبير أنه
قرأها كما قرأها ابن عباس. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف أن ابن مسعود
قرأها كذلك. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : إنما سمي : عرفات ،
لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليهالسلام حين رأى المناسك عرفت. وأخرج مثله ابن أبي حاتم عن ابن
عمر. وأخرج مثله عبد الرزاق ، وابن جرير عن عليّ. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عمر أنه سئل عن
المشعر الحرام فسكت ، حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال : هذا المشعر
الحرام. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم
وصححه عنه أنه قال : المشعر الحرام : المزدلفة كلها. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عنه قال : هو الجبل وما حوله. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : ما
بين الجبلين الذي بجمع مشعر. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن الزبير في قوله
: (وَاذْكُرُوهُ كَما
هَداكُمْ) قال : ليس هذا بعام ، هذا لأهل البلد ؛ كانوا يفيضون من
جمع ؛ ويفيض سائر الناس من عرفات ، فأبى الله لهم ذلك ، فأنزل : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ
النَّاسُ). وأخرج عبد حميد عن سفيان في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) قال : من قبل القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في
قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) قال : لمن الجاهلين.
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ
أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما
لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١)
أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا
اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))
قيل : الخطاب
في قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا) للحمس من قريش ، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات
، بل كانوا يقفون بالمزدلفة ، وهي من الحرم ، فأمروا بذلك ـ وعلى هذا تكون ثم لعطف
جملة على جملة لا للترتيب ـ وقيل : الخطاب لجميع الأمة ، والمراد بالناس : إبراهيم
، أي : ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم ، فيحتمل أن يكون أمرا لهم بالإفاضة من عرفة
، ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة ، وعلى هذا تكون ثم على بابها ،
أي : للترتيب. وقد رجّح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري ، وإنّما أمروا
بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة ، ومواطن القبول ، ومظنات الإجابة ـ وقيل : إن
المعنى : استغفروا للذي كان مخالفا لسنة إبراهيم ، وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة.
والمراد بالمناسك : أعمال الحج ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «خذوا عنّي مناسككم» أي : فإذا فرغتم من أعمال الحجّ
فاذكروا الله ؛ وقيل : المراد بالمناسك : الذبائح ، وإنما قال سبحانه (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة
فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم ، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر ،
ويجعلونه ذكرا مثل ذكرهم لآبائهم ، أو أشدّ من ذكرهم لآبائهم. قال الزجاج : إن
قوله : (أَوْ أَشَدَّ) : في موضع خفض عطفا على ذكركم ، والمعنى : أو كأشدّ
ذكرا ؛ ويجوز أن يكون في موضع نصب ، أي : اذكروه أشدّ ذكرا. وقال في الكشاف : إنه
عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : (كَذِكْرِكُمْ) كما تقول : كذكر قريش آباءهم ، أو قوم أشدّ منهم ذكرا.
قوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ) الآية ، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره ، وكان الدعاء
نوعا من أنواع الذكر ؛ جعل من يدعوه منقسما إلى قسمين : أحدهما يطلب حظ الدنيا ولا
يلتفت إلى حظ الآخرة ، والقسم الآخر يطلب الأمرين جميعا ؛ ومفعول الفعل ، أعني
قوله : (آتِنا) محذوف ، أي : ما نريد أو ما نطلب ، والواو في قوله : (وَما لَهُ) واو الحال ، والجملة بعدها حالية. والخلاق : النصيب ،
أي : وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب ، لأن همه مقصور على الدنيا ، لا يريد
غيرها ، ولا يطلب سواها. وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا ،
والذمّ لمن جعلها غاية رغبته ، ومعظم مقصوده. وقد اختلف في تفسير الحسنتين
المذكورتين في الآية ، فقيل : هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية ، وما
لا بدّ منه من الرزق ، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا ؛ وقيل :
المراد بحسنة الدنيا : الزوجة الحسناء ، وحسنة الآخرة : الحور العين ؛ وقيل : حسنة
الدنيا : العلم والعبادة ؛ وقيل : غير ذلك. قال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل العلم
؛ أن المراد بالحسنتين نعيم الدنيا والآخرة. قال : وهذا هو الصحيح ، فإن اللفظ
يقتضي هذا كله ، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء ؛ فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات
على البدل ، وحسنة الآخرة : الجنة ، بإجماع. انتهى. قوله : (وَقِنا) أصله : أوقنا ، حذفت الواو كما حذفت في يقي لأنها بين
ياء وكسرة مثل يعد ، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون : حذفت فرقا بين اللازم
والمتعدّي. وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الثاني (لَهُمْ نَصِيبٌ) من جنس ما (كَسَبُوا) من الأعمال ، أي : من ثوابها ، ومن جملة أعمالهم الدعاء
، فما أعطاهم الله بسببه من الخير فهو مما كسبوا ؛ وقيل : إن معنى قوله : (مِمَّا كَسَبُوا) التعليل ، أي : من أجل ما كسبوا ، وهو بعيد ؛ وقيل : إن
قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريقين جميعا ، أي : للأوّلين نصيب من
الدنيا ولا نصيب لهم في الآخرة ، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا وفي الآخرة ،
وسريع : من سرع يسرع ، كعظم يعظم ، سرعا وسرعة ، والحساب : مصدر كالمحاسبة ، وأصله
العدد ، يقال : حسب يحسب حسابا ، وحسابة وحسبانا وحسبا. والمراد هنا : المحسوب ،
سمي : حسابا ، تسمية للمفعول بالمصدر ؛ والمعنى : أن حسابه لعباده في يوم القيامة
سريع مجيئه ، فبادروا ذلك بأعمال الخير ، أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على
كثرة عددهم ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن فيحاسبهم في حالة واحدة كما قال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) . قوله : (فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ) قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات
في هذه الآية : هي أيام منى ، وهي أيام التشريق ، وهي أيام رمي الجمار. وقال
الثعلبي : قال إبراهيم : الأيام المعدودات أيام العشر ، والأيام المعلومات أيام
النحر. وكذا روي عن مكي والمهدوي. قال القرطبي : ولا يصح ، لما ذكرناه من
__________________
الإجماع على ما نقله أبو عمر بن عبد البرّ وغيره. وروى الطحاوي عن أبي يوسف
: أن الأيام المعلومات : أيام النحر ، قال : لقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات :
أيام النحر الثلاثة ، يوم الأضحى ، ويومان بعده. قال الكيا الطبري : فعلى قول أبي
يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات ، لأن المعدودات المذكورة في القرآن
أيام التشريق بلا خلاف. وروي عن مالك أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات
يجمعها أربعة أيام : يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده ، فيوم النحر : معلوم غير معدود
، واليومان بعده : معلومان معدودان ، واليوم الرابع : معدود لا معلوم ، وهو مرويّ
عن ابن عمر. وقال ابن زيد : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة ، وأيام التشريق.
والمخاطب بهذا الخطاب المذكور في الآية ، أعني : قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ) هو الحاجّ وغيره ، كما ذهب إليه الجمهور ؛ وقيل : هو
خاص بالحاجّ. وقد اختلف أهل العلم في وقته ، فقيل : من صلاة الصبح يوم عرفة إلى
العصر من آخر أيام التشريق ؛ وقيل : من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر ،
وبه قال أبو حنيفة ؛ وقيل : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام
التشريق ، وبه قال مالك والشافعي. قوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ) الآية ، اليومان هما : يوم ثاني النحر ؛ ويوم ثالثه.
وقال ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والنخعي : من رمى في اليوم
الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج ، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج ؛ فمعنى الآية
كل ذلك مباح ، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا ، لأن من العرب من كان يذمّ التأخر
، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك. وقال علي ، وابن مسعود : معنى الآية : من
تعجل فقد غفر له ، ومن تأخر فقد غفر له ، والآية قد دلت على أن التعجل والتأخر
مباحان. وقوله : (لِمَنِ اتَّقى) معناه أن التخيير ورفع الإثم ثابت لمن اتقى ، لأن صاحب
التقوى يتحرّز عن كل ما يريبه ، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم. قال الأخفش :
التقدير ذلك لمن اتقى ؛ وقيل : لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي ؛
وقيل : لمن اتقى قتل الصيد ، وقيل : معناه : السلامة لمن اتقى ؛ وقيل هو متعلق
بالذكر ، أي : الذكر لمن اتقى. لأن صاحب التقوى يتحرّز عن كل ما يريبه ، فكان أحق
بتخصيصه بهذا الحكم. قال الأخفش : التقدير ذلك لمن اتقى ؛ وقيل : لمن اتقى بعد
انصرافه من الحج عن جميع المعاصي ؛ وقيل : لمن اتقى قتل الصيد ، وقيل : معناه :
السلامة لمن اتقى ؛ وقيل هو متعلق بالذكر ، أي : الذكر لمن اتقى.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة قالت : كانت قريش ومن دان بدينها يقفون
بالمزدلفة ، وكانوا يسمون : الحمس ، وكانت سائر العرب يقفون بعرفات ، فلما جاء
الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ؛ ثم يقف بها ؛ ثم يفيض منها ، فذلك قوله
تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ). وأخرجا أيضا عنها موقوفا نحوه. وقد ورد في هذا المعنى
روايات عن الصحابة والتابعين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : إذا كان يوم عرفة هبط
الله إلى سماء الدنيا في الملائكة ، فيقول لهم : عبادي آمنوا بوعدي ، وصدّقوا
برسلي ما جزاؤهم؟ فيقال : أن تغفر لهم ، فذلك قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ
حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقد وردت أحاديث كثيرة في المغفرة لأهل عرفة ، ونزول
الرحمة عليهم ، وإجابة دعائهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) قال : حجكم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في
قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ) قال : إهراق الدماء (فَاذْكُرُوا
__________________
اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) قال : تفاخر العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين
يفرغون ، فأمروا بذكر الله مكان ذلك. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال :
كان المشركون يجلسون في الحج فيذكرون أيام آبائهم ، وما يعدّون من أنسابهم يومهم
أجمع ، فأنزل الله على رسوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ
كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً). وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن عبد الله بن الزبير
نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن
جبير وعكرمة نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) يقول : كما يذكر الأبناء الآباء. وأخرج ابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا أنه قيل له في قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) إن الرجل ليأتي عليه اليوم وما يذكر أباه ، فقال : إنه
ليس بذاك ، ولكن يقول : تغضب لله إذا عصي أشدّ من غضبك إذا ذكر والدك بسوء. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون :
اللهم اجعله عام غيث ، وعام خصب ، وعام ولاد حسن ، ولا يذكرون من أمر الآخرة شيئا
، فأنزل الله فيهم : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ويجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) فأنزل الله فيهم : (أُولئِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ). وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال : كان الناس
في الجاهلية إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا فقال أحدهم : اللهم ارزقني إبلا ،
وقال الآخر : اللهمّ ارزقني غنما ، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير عن أنس أنهم
كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون : اللهم اسقنا المطر ، وأعطنا على عدوّنا الظفر ،
وردّنا صالحين إلى صالحين ، فنزلت الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا
كَسَبُوا) قال : مما عملوا من الخير. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد
في قوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) قال : سريع الإحصاء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي
الدنيا ، وابن أبي حاتم عن عليّ قال : الأيام المعدودات : ثلاثة أيام : يوم الأضحى
، ويومان بعده ، اذبح في أيها شئت ، وأفضلها أوّلها. وأخرج الفريابي ، وابن أبي
الدنيا ، وابن المنذر عن ابن عمر أنها : أيام التشريق الثلاثة. وفي لفظ : هذه
الأيام الثلاثة بعد يوم النحر. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : الأيام
المعلومات : أيام العشر ، والأيام المعدودات : أيام التشريق. وأخرج الطبراني عن
ابن الزبير قال في قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال : هنّ أيام التشريق ، يذكر فيهنّ بتسبيح وتهليل
وتكبير وتحميد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأيام المعدودات : أربعة
أيام : يوم النحر والثلاثة أيام بعده. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كان يكبر
تلك الأيام بمنى ؛ ويقول : التكبير واجب ، ويتأوّل هذه الآية : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ). وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه
كان يكبر يوم النحر ويتلو هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُوداتٍ) قال : التكبير أيام التشريق ، يقول في دبر كل صلاة :
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يكبر
ثلاثا ثلاثا وراء الصلوات ويقول : لا إله إلا الله وحده
لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. وأخرج المروزي
عن الزهري قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكبّر أيام التشريق كلّها. وأخرج مالك عن يحيى بن سعيد
أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر بمنى ؛ حين ارتفع النهار شيئا ،
فكبر ؛ وكبر الناس بتكبيره ـ ثم خرج الثانية في يومه ذلك بعد ارتفاع النهار ،
فكبّر ، وكبّر الناس بتكبيره ؛ حتى بلغ تكبيرهم البيت ؛ ثم خرج الثالثة من يومه
ذلك حين زاغت الشمس ، فكبّر ، وكبّر الناس بتكبيره. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن
عمر ؛ أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يرمي الجمار ، ويكبر مع كل حصاة. وقد روي نحو ذلك
من حديث عائشة عند الحاكم وصححه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) قال : في تعجيله (وَمَنْ تَأَخَّرَ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) قال : في تأخيره. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال :
النفر في يومين لمن اتقى. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه
قال : من غابت له الشمس في اليوم الذي قال الله فيه : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) وهو بمنى فلا ينفرنّ حتى يرمي الجمار من الغد ، وأخرج
ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لِمَنِ اتَّقى) قال : لمن اتقى الصيد وهو محرم. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأهل السنن ،
والحاكم وصحّحه عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول وهو واقف بعرفة ، وأتاه الناس من أهل مكة فقالوا :
يا رسول الله كيف الحج؟ قال : الحج عرفات ، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر
فقد أدرك أيام منى ثلاثة أيام ، (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي
يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) قال : مغفورا له ، (وَمَنْ تَأَخَّرَ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) قال مغفورا له. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (لِمَنِ اتَّقى) قال : لمن اتقى في حجه. قال قتادة : وذكر لنا أن ابن
مسعود كان يقول : من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير عن أبي العالية في قوله : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقى) قال : ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي من عمره.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ
(٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي
نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))
لما ذكر سبحانه
طائفتي المسلمين بقوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ) عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين ، وهم الذين يظهرون
الإيمان ويبطنون الكفر. وسبب النزول : الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه. قال ابن
عطية : ما ثبت قط أن الأخنس أسلم. وقيل : إنها نزلت في قوم من المنافقين ؛ وقيل :
إنها نزلت في كل من أضمر كفرا أو نفاقا أو كذبا ، وأظهر بلسانه خلافه. ومعنى قوله
: (يُعْجِبُكَ) واضح. ومعنى قوله : (وَيُشْهِدُ اللهَ
عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أنه يحلف على ذلك فيقول : يشهد الله على ما في قلبي من
محبتك أو من الإسلام ، أو يقول : الله يعلم أني أقول حقا ، وأني صادق في قولي لك.
وقرأ ابن محيصن (وَيُشْهِدُ اللهَ) بفتح حرف
__________________
المضارعة ورفع الاسم الشريف على أنه فاعل ؛ والمعنى : ويعلم الله منه خلاف
ما قال ، ومثله قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) وقراءة الجماعة أبلغ في الذمّ. وقرأ ابن عباس : والله
يشهد على ما في قلبه وقرأ أبيّ وابن مسعود : ويستشهد الله على ما في قلبه. وقوله :
(فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا) متعلق بالقول ، أو بيعجبك ؛ فعلى الأوّل : القول صادر
في الحياة ، وعلى الثاني : الإعجاب صادر فيها. والألدّ : الشديد الخصومة. يقال :
رجل ألدّ ، وامرأة لداء ، ولددته ألدّه : إذا جادلته فغلبته ، ومنه قول الشاعر :
وألدّ ذي حنق
عليّ كأنّما
|
|
تغلي عداوة
صدره في مرجل
|
والخصام : مصدر
خاصم ، قاله الخليل ؛ وقيل : جمع خصم ، قاله الزجاج ؛ ككلب وكلاب ، وصعب وصعاب ،
وضخم وضخام. والمعنى : أنه أشدّ المخاصمين خصومة ، لكثرة جداله وقوّة مراجعته ،
وإضافة الألدّ إلى الخصام بمعنى في ، أي : ألدّ في الخصام ، أو جعل الخصام ألدّ
على المبالغة. وقوله : (وَإِذا تَوَلَّى) أي : أدبر ، وذهب عنك يا محمد! وقيل : إنه بمعنى : ضلّ
وغضب ؛ وقيل : إنه بمعنى : الولاية ، أي : إذا كان واليا فعل ما يفعله ولاة السوء
من الفساد في الأرض. والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به : السعي بالقدمين إلى
ما هو فساد في الأرض ، كقطع الطريق ، وحرب المسلمين ، ويحتمل أن يكون المراد به : العمل
في الفساد ، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين ، كالتدبير على المسلمين بما يضرّهم ،
وإعمال الحيل عليهم ، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه أو حواسه يقال له : سعى ،
وهذا هو الظاهر من هذه الآية. وقوله : (وَيُهْلِكَ) عطف على قوله : (لِيُفْسِدَ) وفي قراءة أبيّ : وليهلك. وقراءة قتادة بالرفع. وروي عن
ابن كثير : (وَيُهْلِكَ) بفتح الياء ؛ وضم الكاف ؛ ورفع الحرث والنسل ، وهي
قراءة الحسن ؛ وابن محيصن. والمراد بالحرث : الزرع ، والنسل : الأولاد ؛ وقيل
الحرث : النساء. قال الزجّاج : وذلك لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ووقوع
القتال ، وفيه هلاك الخلق ؛ وقيل معناه : أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله
المطر فيهلك الحرث والنسل. وأصل الحرث في اللغة : الشق ، ومنه المحراث لما يشق به
الأرض ، والحرث : كسب المال وجمعه. وأصل النسل في اللغة : الخروج والسقوط ومنه نسل
الشعر ، ومنه أيضا : (إِلى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ) (وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ويقال لما خرج من كل أنثى : نسل ، لخروجه منها. وقوله :
(وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْفَسادَ) يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد
الدين ، وما فيه فساد الدنيا. والعزة : القوّة والغلبة ، من عزّه يعزّه : إذا غلبه
، ومنه (وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ) ؛ وقيل العزة هنا : الحمية ، ومنه قول الشاعر :
أخذته عزّة
من جهله
|
|
فتولّى مغضبا
فعل الضّجر
|
وقيل : العزة
هنا : المنعة وشدّة النفس. ومعنى : (أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) حملته العزة على الإثم ، من قولك : أخذته بكذا : إذا
حملته عليه ، وألزمته إياه ؛ وقيل : أخذته العزة بما يؤثمه ، أي : ارتكب الكفر
للعزة ، ومنه : (بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) وقيل : الباء في قوله : (بِالْإِثْمِ) بمعنى اللام ، أي : أخذته
__________________
العزّة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه ، وهو النفاق ؛ وقيل :
الباء بمعنى مع ، أي : أخذته العزّة مع الإثم. وقوله : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي : كافيه معاقبة وجزاء ، كما تقول للرجل : كفاك ما
حلّ بك ، وأنت تستعظم عليه ما حلّ به. والمهاد : جمع المهد ، وهو الموضع المهيأ
للنوم ، ومنه مهد الصبي ؛ وسميت جهنم : مهادا ، لأنها مستقرّ الكفار ؛ وقيل :
المعنى : أنها بدل لهم من المهاد كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وقول الشاعر :
تحيّة بينهم ضرب وجيع
ويشري بمعنى : يبيع ، أي : يبيع نفسه في مرضاة الله ، كالجهاد ، والأمر
بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومثله قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ) وأصله : الاستبدال ، ومنه قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ، ومنه قول الشاعر :
وشريت بردا
ليتني
|
|
من بعد برد
كنت هامة
|
ومنه قول الآخر
:
يعطى بها
ثمنا فيمنعها
|
|
ويقول صاحبها
ألا تشري
|
والمرضاة :
الرضا ، تقول : رضي يرضى ، رضا ومرضاة. ووجه ذكر الرأفة هنا : أنه أوجب عليهم ما
أوجبه ليجازيهم ويثيبهم ، فكان ذلك رأفة بهم ولطفا لهم.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما أصيبت
السرية التي فيها عاصم ومرثد قال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين
الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في أهلهم ، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم؟ فأنزل الله
: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : ما يظهر من الإسلام بلسانه ، (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أنه مخالف لما يقوله بلسانه ، (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي : ذو جدال إذا كلمك وراجعك (وَإِذا تَوَلَّى) : خرج من عندك (سَعى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيها ، وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْفَسادَ) أي : لا يحبّ عمله ولا يرضى به. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله ، والقيام
بحقه ، حتى هلكوا على ذلك : يعني هذه السرية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن السدي في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ) الآية ، قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني
زهرة ، أقبل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة وقال : جئت أريد الإسلام ، ويعلم الله أني
لصادق ، فأعجب النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك منه ، فذلك قوله : (وَيُشْهِدُ اللهَ
عَلى ما فِي قَلْبِهِ). ثم خرج من عند النبي صلىاللهعليهوسلم فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق
__________________
الزرع ، وعقر الحمر ، فأنزل الله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى
فِي الْأَرْضِ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) قال هو شديد الخصومة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في
قوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى
فِي الْأَرْضِ) قال عمل في الأرض ، (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) قال : نبات الأرض. (وَالنَّسْلَ) نسل كل شيء من الحيوان والناس والدواب. وأخرج ابن جرير
، وابن أبي حاتم عن مجاهد أيضا أنه سئل عن قوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى
فِي الْأَرْضِ) قال : يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم ، فيحبس
الله بذلك القطر من السماء ، فتهلك بحبس القطر الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد.
ثم قرأ مجاهد (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ) قال : الحرث : الزرع ، والنسل : نسل كل دابة. وأخرج ابن
المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : «إن من أكبر الذنوب
عند الله أن يقول الرجل لأخيه : اتق الله ، فيقول : عليك بنفسك أنت تأمرني؟».
وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، عن سفيان قال : قال رجل لمالك بن مغول :
اتق الله ، فسقط فوضع خدّه على الأرض تواضعا لله. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن
المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) قال : بئس المنزل. وأخرجا عن مجاهد قال : بئس ما شهدوا
لأنفسهم. وأخرج ابن مردويه عن صهيب قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك ، وتخرج
أنت ومالك ، والله لا يكون ذلك أبدا ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم ما لي
تخلّون عني؟ قالوا : نعم ، فدفعت إليهم مالي ؛ فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة
، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «ربح البيع صهيب» مرتين. وأخرج ابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج
الطبراني والحاكم ، والبيهقي في الدلائل ، عن صهيب نحوه. وأخرج ابن المنذر ،
والحاكم وصحّحه عن أنس قال : نزلت في خروج صهيب إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : هم المهاجرون والأنصار.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ
ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ
وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))
لما ذكر الله
سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف : مؤمنين ، وكافرين ، ومنافقين ، أمرهم
بعد ذلك بالكون على ملّة واحدة. وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان ، لأن
أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم وكتابهم ، والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه.
والسلم بفتح السين وكسرها قال الكسائي : ومعناهما واحد ، وكذا عند البصريين ، وهما
جميعا يقعان للإسلام والمسالمة. وقال أبو عمرو بن العلاء : إنه بالفتح
__________________
للمسالمة ، وبالكسر للإسلام. وأنكر المبرد هذه التفرقة. وقال الجوهري :
السّلم بفتح السين : الصلح ، وتكسر ويذكر ويؤنث ، وأصله من الاستسلام والانقياد.
ورجّح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام ، ومنه قول الشاعر الكندي :
دعوت عشيرتي
للسّلم لمّا
|
|
رأيتهم
تولّوا مدبرينا
|
أي : إلى
الإسلام ، وقرأ الأعمش : «السّلم» بفتح السين واللام. وقد حكى البصريون في سلّم
وسلم وسلّم أنها بمعنى واحد و (كَافَّةً) حال من السلم أو من ضمير المؤمنين ، فمعناه على الأوّل
: لا يخرج منكم أحد ، وعلى الثاني : لا يخرج من أنواع السلم شيء ، بل ادخلوا فيها
جميعا ، أي : في خصال الإسلام ، وهو مشتق من قولهم : كففت ، أي : منعت ، أي : لا
يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام ، والكفّ : المنع ، والمراد هنا : الجميع (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) أي : جميعا. وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي : لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان ، وقد
تقدّم الكلام على خطوات. قوله : (زَلَلْتُمْ) أي : تنحيتم عن طريق الاستقامة ، وأصل الزلل في القدم ،
ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك ، يقال : زلّ يزلّ زللا وزلولا ، أي :
دحضت قدمه. وقرئ : (زَلَلْتُمْ) بكسر اللام ، وهما لغتان ، والمعنى : فإن ضللتم وعرّجتم
عن الحق (مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي : الحجج الواضحة ، والبراهين الصحيحة ، أن الدخول في
الإسلام هو الحق (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه الانتقام منكم (حَكِيمٌ) لا ينتقم إلا بحق. قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي : ينتظرون ، يقال : نظرته وانتظرته بمعنى ، والمراد
: هل ينتظر التاركون للدخول في السلم ، والظلل : جمع ظلة ، وهي ما يظلك ، وقرأ
قتادة ، ويزيد بن القعقاع : (فِي ظِلالٍ) وقرأ يزيد أيضا والملائكة بالجرّ عطفا على الغمام أو
على ظلل. قال الأخفش والملائكة بالخفض بمعنى : وفي الملائكة ، قال : والرفع أجود.
وقال الزجاج : التقدير : في ظلل من الغمام ومن الملائكة. والمعنى : هل ينتظرون إلا
أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام والملائكة. قال
الأخفش : وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء ، فسمى الجزاء : إتيانا
، كما سمى التخويف والتعذيب في قصة ثمود : إتيانا ، فقال : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ
الْقَواعِدِ) وقال في قصة بني النضير : (فَأَتاهُمُ اللهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) وإنما احتمل الإتيان هذا ، لأن أصله عند أهل اللغة :
القصد إلى الشيء ؛ فمعنى الآية : هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلا من الأفعال مع
خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم ، وقيل : إن المعنى : يأتيهم أمر الله وحكمه ؛ وقيل
: إن قوله : (فِي ظُلَلٍ) بمعنى بظلل ، وقيل : المعنى : يأتيهم ببأسه في ظلل. والغمام
: السحاب الرقيق الأبيض ، سمّي بذلك لأنه يغمّ ، أي : يستر. ووجه إتيان العذاب في
الغمام ـ على تقدير أن ذلك هو المراد ـ ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة
وعظم الموقع ، لأن الغمام مظنة الرحمة ، لا مظنة العذاب. وقوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) عطف على يأتيهم ، داخل في حيز الانتظار ، وإنما عدل إلى
صيغة الماضي دلالة على تحققه ، فكأنه قد كان ، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة
على أن مضمونها واقع لا محالة ، أي : وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم. وقرأ معاذ بن
جبل (وقضاء الأمر) بالمصدر
__________________
عطفا على الملائكة. وقرأ يحيى بن يعمر : وقضى الأمور بالجمع. وقرأ ابن عامر
، وحمزة ، والكسائي : (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الباقون على البناء
للمفعول.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) قال : يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان
بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم ، يقول : ادخلوا في
شرائع دين محمد ، ولا تدعوا منه شيئا ، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها. وأخرج
ابن جرير عن عكرمة : أن هذه الآية نزلت في ثعلبة ، وعبد الله بن سلام ، وابن يامين
، وأسد وأسيد ؛ ابني كعب ، وسعيد بن عمرو ، وقيس بن زيد ، كلهم من يهود قالوا : يا
رسول الله! يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه ، وإن التوراة كتاب الله
فلنقم بها الليل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السلم الطاعة
لله ، وكافة ؛ يقول : جميعا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : السلم :
الإسلام ، والزلل : ترك الإسلام. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) قال : فإن ضللتم من بعد ما جاءكم محمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يجمع الله الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم
قياما شاخصة أبصارهم إلى السّماء ينتظرون فصل القضاء وينزل الله في ظلل من الغمام
من العرش إلى الكرسيّ». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو
الشيخ في العظمة عن ابن عمر في هذه الآية قال : يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه
سبعون ألف حجاب ، منها : النور والظلمة والماء ، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا
تنخلع له القلوب. وأخرج أبو يعلى ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في هذه الآية قال : يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب ؛ قد قطعت
طاقات. وأخرج ابن جرير ، والديلمي عنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفات
بالملائكة» وذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عكرمة : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) قال : طاقات والملائكة حوله. وأخرج ابن حاتم عن قتادة
في الآية قال : يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وتأتيهم الملائكة عند الموت. وأخرج
عن عكرمة في قوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) يقول : قامت الساعة.
(سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ
اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ
يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣))
المأمور
بالسؤال لبني إسرائيل هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين ، وهو سؤال
تقريع وتوبيخ. و (كَمْ) في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بآتى ،
ويجوز أن ينتصب بفعل مقدّر دلّ عليه المذكور ، أي : كم آتينا آتيناهم ، وقدّر
متأخرا لأن لها صدر الكلام ، وهي : إما استفهامية للتقرير ، أو خبرية للتكثير. و (مِنْ آيَةٍ) في موضع نصب على التمييز ، وهي : البراهين التي جاء بها
أنبياؤهم في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم ـ وقيل : المراد بذلك : الآيات التي جاء بها موسى ، وهي
التسع. والمراد بالنعمة هنا : ما جاءهم من الآيات. وقال ابن جرير الطبري : النعمة
هنا : الإسلام ، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائنا من
كان ، فوقع منه التبديل لها ، وعدم القيام بشكرها ـ ولا ينافي ذلك كون السياق في
بني إسرائيل ، أو كونهم السبب في النزول ، لما تقرر : من أن الاعتبار بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب ، وفي قوله : (فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ) من الترهيب والتخويف ما لا يقادر قدره. قوله : (زُيِّنَ) مبني للمجهول ، والمزيّن : هو الشيطان ، أو الأنفس
المجبولة على حبّ العاجلة. والمراد بالذين كفروا : رؤساء قريش ، أو كل كافر. وقرأ
مجاهد ، وحميد بن قيس : (زُيِّنَ) على البناء للمعلوم. قال النحاس : وهي قراءة شاذة لأنه
لم يتقدّم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة : زينت ، وإنما خص الذين كفروا بالذكر ـ مع
كون الدنيا مزينة للمسلم والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها
ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ـ لأن الكافر افتتن بهذا التزيين ، وأعرض عن الآخرة ،
والمسلم لم يفتتن به ، بل أقبل على الآخرة. قوله : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن
أولئك الكفار يسخرون من الذين آمنوا ؛ لكونهم فقراء ؛ لا حظّ لهم من الدنيا كحظ
رؤساء الكفر وأساطين الضلال ، وذلك لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من
ناله سعيدا رابحا. ومن حرمه شقيا خاسرا. وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء
لاشتغالهم بالعبادة وأمر الآخرة ، وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها. وحكى الأخفش
أنه يقال : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزأت منه وهزأت به ، والاسم
: السخرية والسخري. ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين ؛ ردّ الله
عليهم بقوله : (وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) والمراد بالفوقية هنا : العلو في الدرجة ، لأنهم في
الجنة ، والكفار في النار ـ ويحتمل أن يراد بالفوق : المكان ، لأن الجنة في السماء
، والنار في أسفل سافلين ، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا ، كما وقع ذلك من
ظهور الإسلام وسقوط الكفر ، وقتل أهله ، وأسرهم وتشريدهم ، وضرب الجزية عليهم ؛
ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لو لا التقييد بكونه في يوم القيامة. قوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ
حِسابٍ) يحتمل أن يكون فيها إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق
المستضعفين من المؤمنين ، ويوسّع عليهم ، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب ، أي
: بغير تقدير ؛ ويحتمل أن المعنى : أن الله يوسّع على بعض عباده في الرزق ، كما
وسّع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجا لهم ، وليس في التوسعة دليل على أن من
وسّع عليه فقد رضي عنه ؛ ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين ، كما قال سبحانه
: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) . قوله : (كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً) أي : كانوا على دين واحد فاختلفوا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) ويدل على هذا المحذوف ؛ أعني : قوله : فاختلفوا ، قراءة
ابن مسعود ، فإنه قرأ : (كان النّاس
__________________
أمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين). واختلف في : الناس ، المذكورين في هذه الآية من هم؟
فقيل : هم بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم ؛ وقيل : آدم وحده ، وسمّي :
ناسا ، لأنه أصل النسل ؛ وقيل : آدم وحواء ؛ وقيل : المراد القرون الأولى ؛ التي
كانت بين آدم ونوح ؛ وقيل : المراد نوح ومن في سفينته ؛ وقيل : معنى الآية : كان
الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين ؛ وقيل : المراد : الإخبار عن الناس
الذين هم الجنس كله ، أنهم كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق
، لو لا أن الله منّ عليهم بإرسال الرسل. والأمة : مأخوذة من قولهم أممت الشيء ،
أي : قصدته ، أي : مقصدهم واحد غير مختلف. قوله : (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ) قيل : جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، والرسل
منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر. وقوله : (مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ) بالنصب على الحال. قوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتابَ) أي : الجنس. وقال ابن جرير الطبري : إن الألف واللام
للعهد ، والمراد : التوراة. وقوله : (لِيَحْكُمَ) مسند إلى الكتاب في قول الجمهور ، وهو مجاز ، مثل قوله
تعالى : (هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) وقيل : إن المعنى ليحكم كل نبيّ بكتابه ؛ وقيل : ليحكم
الله ؛ والضمير في قوله : (فِيهِ) الأولى ، راجع إلى ما في قوله : (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) والضمير في قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ
فِيهِ) يحتمل أن يعود إلى الكتاب ، ويحتمل أن يعود إلى المنزل
عليه ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ، قاله الزجّاج ؛ ويحتمل أن يعود إلى الحقّ. وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي : أوتوا الكتاب ، أو أوتوا الحق ، أو أوتوا النبيّ :
أي : أعطوا علمه. وقوله : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) منتصب على أنه مفعول به ؛ أي : لم يختلفوا إلا للبغي ،
أي : الحسد والحرص على الدنيا ، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم ، والقبيح الذي
وقعوا فيه ، لأنهم جعلوا نزول الكتاب سببا في شدّة الخلاف. وقوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) أي : فهدى الله أمة محمد صلىاللهعليهوسلم إلى الحق ، وذلك بما بيّنه لهم في القرآن من اختلاف من
كان قبلهم ، وقيل : معناه فهدى الله أمة محمد للتصديق ، بجميع الكتب بخلاف من
قبلهم ، فإن بعضهم كذّب كتاب بعض ؛ وقيل : إن الله هداهم إلى الحق من القبلة ؛
وقيل : هداهم ليوم الجمعة ؛ وقيل : هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذّبته
اليهود وجعلته النصارى ربّا ؛ وقيل : المراد بالحق : الإسلام. وقال الفرّاء : إن
في الآية قلبا ، وتقديره : فهدى الله الذين آمنوا بالحقّ لما اختلفوا فيه. واختاره
ابن جرير ، وضعّفه ابن عطية. وقوله : (بِإِذْنِهِ) قال الزجّاج : معناه : بعلمه. قال النحاس : وهذا غلط ،
والمعنى : بأمره.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : (سَلْ بَنِي
إِسْرائِيلَ) قال : هم اليهود (كَمْ آتَيْناهُمْ
مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) قال : يكفرها. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال :
آتاهم الله آيات بيّنات : عصا موسى ، ويده ، وأقطعهم البحر ، وأغرق عدوّهم وهم
ينظرون ، وظلّل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) يقول : من يكفر بنعمة الله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) قال : الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) في طلبهم
__________________
الآخرة. قال ابن جريج : لا أحسبه إلا عن عكرمة. قال : قالوا لو كان محمد
نبيا لا تبعه ساداتنا وأشرافنا ، والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة ، مثل ابن مسعود
وأصحابه. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) يقولون : ما هؤلاء على شيء ، استهزاء وسخريا (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) هناكم التفاضل. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال : فوقهم
في الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء ، قال : سألت ابن عباس عن هذه الآية (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ
حِسابٍ) قال : تفسيرها : ليس على الله رقيب ولا من يحاسبه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لا يحاسب الربّ. وأخرج ابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، وأبو يعلى ، والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان الناس أمة
واحدة ، قال : على الإسلام كلهم. وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، والحاكم عنه قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على شريعة من
الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين. قال : وكذلك في قراءة عبد الله كان النّاس
أمة واحدة فاختلفوا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال : كانوا
أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ، ففطرهم الله على الإسلام وأقرّوا بالعبودية ،
وكانوا أمة واحدة مسلمين ، ثم اختلفوا من بعد آدم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
عن أبيّ أنه كان يقرؤها : كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيّين وإن
الله إنما بعث الرسل ؛ وأنزل الكتب بعد الاختلاف ، وما اختلف الذين أوتوه : يعني :
بني إسرائيل أوتوا الكتاب والعلم بغيا بينهم ، يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها
وزخرفها ؛ أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
عن ابن عباس (كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً) قال : كفارا. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله : (فَهَدَى اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا) قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «نحن الأولون والآخرون ، الأوّلون يوم القيامة ،
وأوّل الناس دخولا ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا
الله لما اختلفوا فيه من الحقّ ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ،
فالنّاس لنا فيه تبع ، فغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى» وهو في الصحيح بدون ذكر
الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : (فَهَدَى اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) قال : اختلفوا في يوم الجمعة : فأخذ اليهود يوم السبت ،
والنصارى يوم الأحد ، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة ؛ واختلفوا في القبلة :
فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس ، وهدى أمة محمد للقبلة ؛ واختلفوا
في الصلاة : فمنهم : من يركع ولا يسجد ، ومنهم : من يسجد ولا يركع ، ومنهم : من
يصلي وهو يتكلم ، ومنهم : من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ؛
واختلفوا في الصيام ، فمنهم : من يصوم النهار ، ومنهم : من يصوم من بعد الطعام ،
فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ؛ واختلفوا في إبراهيم : فقالت اليهود : كان
يهوديا ، وقالت النصارى : كان نصرانيا ، وجعله الله حنيفا مسلما ، فهدى الله أمة
محمد للحقّ من ذلك ؛ واختلفوا في عيسى ؛ فكذّبت به اليهود ، وقالوا لأمّة بهتانا
عظيما ، وجعلته النصارى إلها وولدا ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمد
للحق من ذلك.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ
قَرِيبٌ (٢١٤))
(أَمْ) هنا منقطعة بمعنى : بل. وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء
بمثابة همزة الاستفهام ؛ يبتدأ بها الكلام ، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا :
التقرير والإنكار ، أي : أحسبتم دخولكم الجنة واقعا ، ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن
به من كان قبلكم ، فتصبروا كما صبروا ، ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر
اختلاف الأمم على أنبيائهم ، تثبيتا للمؤمنين ، وتقوية لقلوبهم ، ومثل هذه الآية
قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) وقوله تعالى : (الم ـ أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وقوله : (مَسَّتْهُمُ) بيان لقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا) و (الْبَأْساءُ
وَالضَّرَّاءُ) قد تقدّم تفسيرهما ، والزلزلة : شدّة التحريك يكون في
الأشخاص وفي الأحوال ، يقال : زلزل الله الأرض زلزلة وزلزالا بالكسر ، فتزلزلت :
إذا تحركت واضطربت ؛ فمعنى زلزلوا : خوّفوا وأزعجوا إزعاجا شديدا. وقال الزجاج :
أصل الزلزلة : نقل الشيء من مكانه ، فإذا قلت : زلزلته ، فمعناه : كررت زلله من
مكانه. وقوله : (حَتَّى يَقُولَ) أي : استمرّ ذلك إلى غاية ، هي : قول الرسول ومن معه : (مَتى نَصْرُ اللهِ) والرسول هنا : قيل : هو محمد صلىاللهعليهوسلم وقيل : هو شعياء ؛ وقيل : هو كل رسول بعث إلى أمته.
وقرأ مجاهد ، والأعرج ، ونافع ، وابن محيصن : بالرفع في قوله : حتى يقول وقرأ
غيرهم : بالنصب ، فالرفع على أنه حكاية لحال ماضية ، والنصب بإضمار أن على أنه
غاية لما قبله. وقرأ الأعمش : وزلزلوا ويقول الرّسول بالواو بدل حتى ، ومعنى ذلك :
أن الرسول ومن معه بلغ بهم الضجر إلى أن قالوا هذه المقالة المقتضية ، لطلب النصر
، واستبطاء حصوله ، واستطالة تأخره ، فبشرهم الله سبحانه بقوله : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ). وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير :
حتى يقول الذين آمنوا : متى نصر الله ، ويقول الرسول صلىاللهعليهوسلم : ألا إن نصر الله قريب ، ولا ملجئ لهذا التكلف ، لأن
قول الرسول ومن معه : (مَتى نَصْرُ اللهِ) ليس فيها إلّا استعجال النصر من الله سبحانه ، وليس فيه
ما زعموه من الشكّ والارتياب ؛ حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسف.
وقد أخرج عبد
الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : أن هذه الآية نزلت في يوم الأحزاب ،
أصاب النبي صلىاللهعليهوسلم يومئذ وأصحابه بلاء وحصر. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن ابن عباس قال : أخبر الله المؤمنين : أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم
فيها ، وأخبرهم : أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم فقال : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) فالبأساء : الفتن ؛ والضرّاء : السقم ، وزلزلوا بالفتن
وأذى الناس إياهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا) قال : أصابهم هذا يوم الأحزاب حتى قال قائلهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا
غُرُوراً) ولعله يعني بقوله حتى قال قائلهم : يعني قائل المنافقين
كما يفيد ذلك قوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ
الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً.
__________________
وَإِذْ
يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) .
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (٢١٦))
السائلون هنا :
هم المؤمنون ، سألوا عن الشيء الذين ينفقونه ما هو؟ فأجيبوا ببيان المصرف الذي
يصرفون فيه ، تنبيها على أنه الأولى بالقصد ، لأن الشيء لا يعتدّ به إذا وضع في
موضعه وصادف مصرفه ؛ وقيل : إنه قد تضمن قوله : (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه وهو كل خير ؛ وقيل : إنهم إنما سألوا
عن وجوه البرّ التي ينفقون فيها ، وهو خلاف الظاهر. وقد تقدّم الكلام في الأقربين
، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل. وقوله : (كُتِبَ) أي : فرض ، وقد تقدّم بيان معناه. بين سبحانه أن هذا :
أي : فرض القتال عليهم ، من جملة ما امتحنوا به. والمراد بالقتال : قتال الكفار.
والكره بالضم : المشقة ، وبالفتح : ما أكرهت عليه ، ويجوز الضم في معنى الفتح ، فيكونان
لغتين ، يقال : كرهت الشيء كرها ، وكرها ، وكراهة ، وكراهية ، وأكرهته عليه إكراها
، وإنما كان الجهاد كرها : لأن فيه إخراج المال ، ومفارقة الأهل والوطن ، والتعرّض
لذهاب النفس ، وفي التعبير بالمصدر وهو قوله : (كُرْهٌ) مبالغة ؛ ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه ، كما في قولهم
: الدرهم ضرب الأمير. وقوله : (وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً) قيل : عسى هنا : بمعنى قد ، وروي ذلك عن الأصم. وقال
أبو عبيدة : عسى من الله إيجاب ، والمعنى : عسى أن تكرهوا الجهاد لما فيه من
المشقة وهو خير لكم ، فربما تغلبون ، وتظفرون ، وتغنمون ، وتؤجرون ، ومن مات مات
شهيدا ، وعسى أن تحبّوا الدعة وترك القتال وهو شرّ لكم ، فربما يتقوّى عليكم
العدوّ فيغلبكم ، ويقصدكم إلى عقر دياركم ، فيحلّ بكم أشدّ مما تخافونه من الجهاد
الذي كرهتم ، مع ما يفوتكم في ذلك من الفوائد العاجلة والآجلة ، (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه صلاحكم وفلاحكم (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ).
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
يُنْفِقُونَ) قال : يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وهي النفقة
ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر عن ابن جريج قال : سأل المؤمنون رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أين يضعون أموالهم؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) الآية ، فذلك النفقة في التطوّع والزكاة سواء ذلك كله.
وأخرج ابن المنذر : أن عمرو بن الجموح سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ماذا ننفق من أموالنا ، وأين نضعها؟ فنزلت. وأخرج ابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ) قال : إن الله أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بمكة بالتوحيد ، وإقام الصلاة ، وإيتاء
الزكاة ، وأن يكفوا أيديهم عن القتال ، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض ،
وأذن لهم في القتال ، فنزلت : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ) يعني : فرض عليكم ، وأذن لهم بعد ما نهاهم عنه (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) يعني : القتال : وهو مشقة عليكم (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) يعني :
__________________
الجهاد : قتال المشركين ، وهو خير لكم ، ويجعل الله عاقبته فتحا ، وغنيمة ،
وشهادة (وَعَسى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئاً) يعني : القعود عن الجهاد (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) فيجعل الله عاقبته شرّا ، فلا تصيبوا ظفرا ولا غنيمة. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : قلت لعطاء ما يقول في
قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ) أوجب الغزو على الناس من أجلها؟ قال : لا ، كتب على
أولئك حينئذ. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال : الجهاد
مكتوب على كل أحد غزا أو قعد ، فالقاعد إن استعين به أعان ، وإن استغيث به أغاث ،
وإن استنفر نفر ، وإن استغني عنه قعد. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة
في قوله : (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) قال : نسختها هذه الآية (وَقالُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا) . وأخرجه ابن جرير موصولا عن عكرمة عن ابن عباس. وأخرج
ابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، من طريق عليّ قال : عسى من الله : واجب. وأخرج
ابن المنذر عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحوه أيضا. وقد ورد في فضل
الجهاد ووجوبه أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ
يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))
قوله : (قِتالٍ فِيهِ) هو بدل اشتمال ، قاله سيبويه. ووجه أن السؤال عن الشهر
لم يكن إلّا باعتبار ما وقع فيه من القتال. قال الزجّاج : المعنى : يسألونك عن
القتال في الشهر الحرام ، وأنشد سيبويه قول الشاعر :
فما كان قيس
هلكه هلك واحد
|
|
ولكنّه بنيان
قوم تهدّما
|
فقوله : هلكه ،
بدل اشتمال من قيس. وقال الفرّاء : هو مخفوض ، يعني قوله : (قِتالٍ فِيهِ) على نية عن ، وقال أبو عبيدة : هو مخفوض على الجوار.
قال النحاس : لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ولا في شيء من الكلام
، وإنما وقع في شيء شاذّ ، وهو قولهم : هذا جحر ضب خرب. وتابع النّحاس ابن عطية في
تخطئة أبي عبيدة. قال النحّاس : ولا يجوز إضمار عن ، والقول فيه : أنه بدل. وقرأ
ابن مسعود وعكرمة : ويسئلونك عن الشّهر الحرام وعن قتال فيه. وقرأ الأعرج : قتال
فيه بالرفع. قال النحاس : وهو غامض في العربية ، والمعنى : يسألونك عن الشهر
الحرام جائز قتال فيه. وقوله : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ) مبتدأ وخبر ، أي : القتال فيه أمر كبير مستنكر ، والشهر
الحرام : المراد به الجنس. وقد كانت العرب لا تسفك فيه دما ولا تغير على عدوّ ،
والأشهر الحرم هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ،
__________________
ورجب ، ثلاثة سرد وواحد فرد. وقوله : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ) مبتدأ. وقوله : (وَكُفْرٌ بِهِ) معطوف على صدّ. وقوله : (وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) عطف على سبيل الله. وقوله : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) معطوف أيضا على صدّ. وقوله : (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) خبر صدّ وما عطف عليه ، أي : الصدّ عن سبيل الله ،
والكفر به ، والصدّ عن المسجد الحرام ، وإخراج أهل الحرم منه : (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) أي : أعظم إثما ، وأشدّ ذنبا من القتال في الشهر الحرام
، كذا قال المبرد وغيره ، والضمير في قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ) يعود إلى الله ، وقيل : يعود إلى الحج. وقال الفراء :
إن قوله : (وَصَدٌّ) عطف على كبير ، والمسجد : عطف على الضمير في قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ) فيكون الكلام منتسقا ، متصلا غير منفصل. قال ابن عطية :
وذلك خطأ ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ) أي : بالله ، عطف أيضا على كبير ، ويجيء من ذلك : أن
إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر بالله ، وهذا بين فساده. ومعنى الآية على
القول الأوّل الذي ذهب إليه الجمهور : أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في
الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن
الكفر بالله ، ومن الصدّ عن المسجد الحرام ، ومن إخراج أهل الحرم منه ، أكبر جرما
عند الله. والسبب يشهد لهذا؟؟؟ ، ويفيد أنه المراد ، كما سيأتي بيانه ، فإن السؤال
منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبيّ صلىاللهعليهوسلم. والمراد بالفتنة هنا : الكفر ، أي : كفركم أكبر من
القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلىاللهعليهوسلم وقيل : المراد بالفتنة : الإخراج لأهل الحرم منه ؛ وقيل
: المراد بالفتنة هنا : فتنتهم عن دينهم حتى يهلكوا ، أي : فتنة المستضعفين من
المؤمنين ، أو نفس الفتنة التي الكفار عليها. وهذا أرجح من الوجهين الأوّلين ، لأن
الكفر والإخراج قد سبق ذكرهما ، وأنهما مع الصدّ أكبر عند الله من القتال في الشهر
الحرام. وقوله : (وَلا يَزالُونَ) ابتداء كلام ؛ يتضمن الإخبار من الله عزوجل للمؤمنين ؛ بأن هؤلاء الكفار لا يزالون مستمرين على
قتالكم ؛ وعداوتكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك ؛ وتهيّأ لهم
منكم ، والتقيد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك ، وقدرتهم عليه ، ثم حذّر
الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار ، والدخول فيما يريدونه من ردّهم عن
دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين فقال : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ
دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) إلى آخر الآية ، والردة : الرجوع عن الإسلام إلى الكفر
، والتقييد بقوله : (فَيَمُتْ وَهُوَ
كافِرٌ) يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر. وحبط
: معناه بطل وفسد ، ومنه : الحبط ، وهو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها
للكلأ ؛ فتنتفخ أجوافها ، وربما تموت من ذلك ؛ وفي هذه الآية تهديد للمسلمين
ليثبتوا على دين الإسلام. ومعنى قوله : (فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا ، فلا يأخذ شيئا
مما يستحقه المسلمون ، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام ، ولا ينال شيئا من ثواب
الآخرة الذي يوجبه الإسلام ويستحقه أهله. وقد اختلف أهل العلم في الردّة : هل تحبط
العمل بمجردها؟ أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر ، والواجب حمل ما أطلقته الآيات
في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد. وقد تقدم الكلام في معنى
الخلود. قوله : (هاجَرُوا) الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى
موضع ، وترك الأوّل لإيثار الثاني ، والهجر : ضدّ الوصل ، والتهاجر :
التقاطع ، والمراد بها هنا : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. والمجاهدة :
استخراج الجهد ، جهد مجاهدة وجهادا ، والجهاد والتجاهد : بذل الوسع. وقوله : (يَرْجُونَ) معناه : يطمعون ، وإنما قال : يرجون بعد تلك الأوصاف
المادحة التي وصفهم بها ؛ لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ؛
ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ. والرجاء : الأمل ، يقال : رجوت فلانا ، أرجو رجاء
ورجاوة. وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي : لا تخافون عظمة الله.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في سننه ، بسند صحيح عن جندب بن عبد
الله عن النبي صلىاللهعليهوسلم : أنه بعث رهطا ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، أو
عبيدة بن الحارث ، فلما ذهب لينطلق ؛ بكى شوقا وصبابة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فجلس فبعث مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا
وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : لا تكرهنّ أحدا من
أصحابك على المسير معك ، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال : سمعا وطاعة لله ولرسوله ،
فخبّرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، ومضى بقيتهم ، فلقوا ابن
الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى ، فقال المشركون
للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرامِ) الآية ، فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس
لهم أجر ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) إلى آخر الآية. وأخرج ابن البزار عن ابن عباس أن سبب
نزول الآية هو ذلك. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : إن المشركين صدوا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وردّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام ، ففتح الله على
نبيه في شهر حرام من العام المقبل ، فعاب المشركون على رسول الله صلىاللهعليهوسلم القتال في شهر حرام. فقال الله : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من القتال فيه ، وأن محمدا صلىاللهعليهوسلم بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف
في آخر ليلة من جمادى وأوّل ليلة من رجب ، وإن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك
الليلة من جمادى ، وكانت أوّل رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم ، وأخذوا ما كان
معه ، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك ، فنزلت الآية. وأخرج ابن إسحاق عنه : أن
سبب نزول الآية مصاب عمرو بن الحضرمي. وقد ورد من طرق كثيرة في تعيين السبب مثل ما
تقدّم. وأخرج ابن أبي داود عن عطاء بن ميسرة قال : أحلّ القتال في الشهر الحرام في
براءة في قوله : (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) . وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري : أنه سئل عن هذه
الآية فقال : هذا شيء منسوخ ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام. وأخرج النحاس في
ناسخه عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) . وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) قال : الشرك. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد :
(وَلا يَزالُونَ
يُقاتِلُونَكُمْ) قال : كفار قريش ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس
في قوله : (أُولئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَتَ اللهِ) قال : هؤلاء خيار هذه الأمة ، جعلهم الله أهل رجاء ،
إنه من رجا طلب ،
__________________
ومن خاف هرب.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
(٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ
مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(٢٢٠))
السائلون في
قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ) هم المؤمنون ، كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية
، والخمر : مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه : خمار المرأة ، وكل شيء غطى شيئا فقد
خمره ، ومنه «خمّروا آنيتكم» وسمي خمرا : لأنه يخمر العقل ، أي : يغطيه ويستره ،
ومن ذلك الشجر الملتف يقال له : الخمر بفتح الميم ، لأنه يغطي ما تحته ويستره ،
يقال منه : أخمرت الأرض : كثر خمرها ، قال الشاعر :
ألا يا زيد
والضّحاك سيرا
|
|
فقد جاوزتما
خمر الطّريق
|
أي : جاوزتما
الوهد ؛ وقيل : إنما سميت الخمر خمرا : لأنها تركت حتى أدركت ، كما يقال : قد
اختمر العجين ، أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرأي : أي : ترك حتى تبين فيه الوجه ؛
وقيل : إنما سميت الخمر خمرا : لأنها تخالط العقل ، من المخامرة وهي المخالطة.
وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر ، لأنها تركت حتى أدركت ثم خالطت
العقل فخمرته ، أي : سترته ، والخمر : ماء العنب الذي غلا واشتدّ وقذف بالزبد ،
وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور. وقال أبو حنيفة ،
والثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن عكرمة ، وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيرة
من غير خمر العنب فهو حلال ، أي : ما دون المسكر فيه ، وذهب أبو حنيفة إلى حل ما
ذهب ثلثاه بالطبخ ، والخلاف في ذلك مشهور. وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي
للمنتقى فليرجع إليه. والميسر مأخوذ من اليسر ، وهو وجوب الشيء لصاحبه ، يقال يسر
لي كذا : إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا ، والياسر اللاعب بالقداح. وقد يسر ييسر.
قال الشاعر :
فأعنهم وأيسر
كما يسروا به
|
|
وإذا هم
نزلوا بضنك فانزل
|
وقال الأزهري :
الميسر : الجزور التي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسرا : لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه
موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته ، والياسر : الجازر. قال : وهذا الأصل في
الياسر ، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : يأسرون ، لأنهم
جازرون ، إذ كانوا سببا لذلك. وقال في الصحاح : ويسر القوم الجزور : إذا اجتزروها
، واقتسموا أعضاءها ؛ ثم قال : ويقال يسر القوم : إذا قامروا ، ورجل ميسر وياسر
بمعنى ، والجمع أيسار. قال النابغة :
إني أتمّم
أيساري وأمنحهم
|
|
مثنى الأيادي
وأكسو الجفنة الأدما
|
والمراد
بالميسر في الآية : قمار العرب بالأزلام. قال جماعة من السلف من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم :
كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر ، حتى لعب الصبيان
بالجوز والكعاب ، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق. وقال
مالك : الميسر ميسران : ميسر اللهو ، وميسر القمار ، فمن ميسر اللهو : النرد
والشطرنج والملاهي كلها ، وميسر القمار : ما يتخاطر الناس عليه ، وكل ما قومر به
فهو ميسر ، وسيأتي البحث مطوّلا في هذا في سورة المائدة عند وقوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ). قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ) يعني : الخمر والميسر ، فإثم الخمر : أي : إثم تعاطيها
، ينشأ من فساد عقل مستعملها ، فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة
والمشاتمة ، وقول الفحش والزور ، وتعطيل الصلوات ، وسائر ما يجب عليه. وأما إثم
الميسر : أي : إثم تعاطيه ، فما ينشأ عن ذلك من الفقر وذهاب المال في غير طائل ،
والعداوة وإيحاش الصدور. وأما منافع الخمر : فربح التجارة فيها ؛ وقيل : ما يصدر
عنها من الطرب والنشاط وقوّة القلب وثبات الجنان ، وإصلاح المعدة ، وقوّة الباءة
وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال :
فإذا شربت
فإنّني
|
|
ربّ الخورنق
والسّدير
|
وإذا صحوت
فإنّني
|
|
ربّ الشّويهة
والبعير
|
وقال آخر :
ونشربها
فتتركنا ملوكا
|
|
وأسدا ما
ينهنهنا اللّقاء
|
وقال من أشار
إلى ما فيها من المفاسد والمصالح :
رأيت الخمر
صالحة وفيها
|
|
خصال تفسد
الرّجل الحليما
|
فلا ـ والله
ـ أشربها صحيحا
|
|
ولا أشفى بها
أبدا سقيما
|
ولا أعطي بها
ثمنا حياتي
|
|
ولا أدعو لها
أبدا نديما
|
ومنافع الميسر
: مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كدّ ، وما يحصل من السرور والأريحية عند أن
يصير له منها سهم صالح. وسهام الميسر أحد عشر ، منها سبعة لها فروض على عدد ما
فيها من الحظوظ. الأول : الفذّ ، بفتح الفاء بعدها معجمة ، وفيه علامة واحدة ، وله
نصيب ، وعليه نصيب. الثاني : التّوأم ، بفتح المثناة الفوقية وسكون الواو وفتح
الهمزة ، وفيه علامتان ، وله وعليه نصيبان. الثالث : الرقيب ، وفيه ثلاث علامات ،
وله وعليه ثلاثة أنصباء. الرابع : الحلس بمهملتين ، الأولى مكسورة واللام ساكنة ،
وفيه أربع علامات ، وله وعليه أربعة أنصباء. الخامس : النّافر ، بالنون والفاء
والمهملة ، ويقال : النّافس ، بالسين المهملة مكان الراء ، وفيه خمس علامات ، وله
وعليه خمسة أنصباء. السادس : المسبل ، بضم الميم ، وسكون المهملة ، وفتح الباء
الموحدة ، وفيه ست علامات ، وله وعليه ستة أنصباء. السابع. المعلّى ، بضم الميم ،
وفتح المهملة ، وتشديد اللام المفتوحة ، وفيه سبع علامات ، وله وعليه سبعة أنصباء
، وهو أكثر السهام حظا ، وأعلاها قدرا ، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فردا. والجزور
تجعل ثمانية وعشرين جزءا ، هكذا قال الأصمعي ،
وبقي من السهام أربعة أغفالا لا فروض لها ، وهي : المنيح ، بفتح الميم ،
وكسر النون ، وسكون الياء التحتية ، وبعدها مهملة. والسّفيح ، بفتح المهملة ، وكسر
الفاء ، وسكون الياء التحتية ، بعدها مهملة. والوغد ، بفتح الواو ، وسكون المعجمة
، بعدها مهملة ، والضّعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء ، وإنما ادخلوا هذه الأربعة
التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها ويضرب بها فلا يجد
إلى الميل مع أحد سبيلا. وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب ، ويحثو على ركبتيه ،
ويخرج رأسه من الثوب ، ثم يدخل يده في الرّبابة ، بكسر المهملة ، وبعدها باء موحدة
، وبعد الألف باء موحدة أيضا ، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام ، فيخرج منها
باسم كل رجل سهما ، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه ، ومن خرج له سهم لا فرض له ،
لم يأخذ شيئا وغرم قيمة الجزور ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء. وقد قال
ابن عطية : إن الأصمعي أخطأ في قوله إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءا ، وقال
: إنما تقسم على عشرة أجزاء. قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أخبر سبحانه : بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع
فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع ، لأنه لا خير يساوي فساد العقل
الحاصل بالخمر ، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر ؛ وكذلك لا خير في
الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر ، واستجلاب العداوات
المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم. وقرأ حمزة والكسائي : كثير بالمثلثة. وقرأ
الباقون بالباء الموحدة. وقرأ أبي : وإثمهما أقرب من نفعهما. قوله : (قُلِ الْعَفْوَ) قرأه الجمهور : بالنصب. وقرأ أبو عمرة وحده : بالرفع.
واختلف فيه عن ابن كثير ، وبالرفع قرأه الحسن وقتادة ، قال النحاس : إن جعلت ذا
بمعنى : الذي ، كان الاختيار الرفع على معنى الذي ينفقون هو العفو ، وإن جعلت ما
وذا شيئا واحدا كان الاختيار النصب على المعنى : قل ينفقون العفو ، والعفو : ما
سهل وتيسر ولم يشق على القلب ؛ والمعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا فيه
أنفسكم ؛ وقيل : هو ما فضل عن نفقة العيال. وقال جمهور العلماء : هو نفقات التطوّع
؛ وقيل : إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة ؛ وقيل : هي محكمة ، وفي المال
حق سوى الزكاة. قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي : في أمر النفقة. وقوله : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) متعلق بقوله : (تَتَفَكَّرُونَ) أي : تتفكرون في أمرهما ، فتحسبون من أموالكم ما تصلحون
به معايش دنياكم ، وتنفقون الباقي في الوجوه المقرّبة إلى الآخرة ؛ وقيل : في
الكلام تقديم وتأخير ، أي : كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة ؛ لعلكم
تتفكرون في الدنيا وزوالها ، وفي الآخرة وبقائها ، فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة
؛ وقيل : يجوز أن يكون إشارة إلى قوله : (وَإِثْمُهُما
أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي : لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة ، وليس هذا بجيد.
قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى) هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) وقد كان ضاق على الأولياء الأمر كما سيأتي بيانه إن شاء
الله ، فنزلت هذه الآية. والمراد بالإصلاح هنا : مخالطتهم على وجه الإصلاح
لأموالهم ، فإن ذلك أصلح من مجانبتهم. وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال
الأيتام من الأولياء والأوصياء بالبيع ، والمضاربة ، والإجارة ، ونحو ذلك. قوله :
__________________
(وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ) اختلف في تفسير المخالطة لهم ، فقال أبو عبيدة : مخالطة
اليتامى : أن يكون لأحدهم المال ويشقّ على كافله أن يفرد طعامه عنه ، ولا يجد بدّا
من خلطه بعياله ، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري ، فيجعله مع نفقة
أهله ، وهذا قد تقع فيه الزيادة والنقصان ، فدلت هذه الآية على الرخصة ، وهي ناسخة
لما قبلها ؛ وقيل : المراد بالمخالطة : المعاشرة للأيتام ، وقيل : المراد بها :
المصاهرة لهم. والأولى : عدم قصر المخالطة على نوع خاص ، بل تشمل كل مخالطة ، كما
يستفاد من الجملة الشرطية. وقوله : (فَإِخْوانُكُمْ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فهم إخوانكم في الدين. وفي قوله
: (وَاللهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) تحذير للأولياء ، أي : لا يخفى على الله من ذلك شيء ،
فهو يجازي كل أحد بعلمه ، ومن أصلح فلنفسه ، ومن أفسد فعلى نفسه. وقوله : (لَأَعْنَتَكُمْ) أي : ولو شاء لجعل ذلك شاقا عليكم ، ومتعبا لكم ،
وأوقعكم فيما فيه الحرج والمشقة ، وقيل : العنت هنا : معناه الهلاك. قاله أبو
عبيدة ، وأصل العنت : المشقة. وقال ابن الأنباري : أصل العنت : التشديد ، ثم نقل
إلى معنى الهلاك. وقوله : (عَزِيزٌ) أي : لا يمتنع عليه شيء ، لأنه غالب لا يغالب (حَكِيمٌ) يتصرف في ملكه بما تقتضيه مشيئته وحكمته ، وليس لكم أن
تختاروا لأنفسكم.
وقد أخرج أحمد
، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة عن عمر
أنه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فإنها تذهب بالمال والعقل ، فنزلت
: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) يعني هذه الآية ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ
بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت التي في سورة النساء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فكان ينادي رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قام إلى الصلاة : أن لا يقربن الصلاة سكران ، فدعي
عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في
المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ : (فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ) قال عمر : انتهينا انتهينا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس
قال : كنا نشرب الخمر فأنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الآية ، فقلنا نشرب منها ما ينفعنا ، فنزلت في المائدة
: (إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ) الآية ، فقالوا : اللهم انتهينا. وأخرج أبو عبيد ،
والبخاري في الأدب المفرد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر
قال : الميسر : القمار. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : كان الرجل في الجاهلية
يخاطر عن أهله وماله ، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. وقوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) يعني : ما ينقص من الدين عند شربها (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) يقول : فيما يصيبون من لذتها ، وفرحها إذا شربوا (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) يقول : ما يذهب من الدين ، فالإثم فيه أكبر مما يصيبون
من لذتها وفرحها إذا شربوها ، فأنزل الله بعد ذلك : (لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الآية ، فكانوا لا يشربونها عند الصلاة ، فإذا صلوا
العشاء شربوها ، ثم إن ناسا من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضا ، وتكلموا بما لم
يرض الله من القول ، فأنزل الله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ) الآية ، فحرّم
__________________
الخمر ونهى عنها. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : منافعهما قبل
التحريم ، وإثمهما بعد ما حرّمهما. وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم عنه : أن نفرا
من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في
أموالنا ، فما ننفق منها؟ فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ ما
ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ، ولا
ما يأكل حتى يتصدّق عليه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال :
العفو : هو ما لا يتبين في أموالكم ، وكان هذا قبل أن تفرض الصدقة. وأخرج سعيد بن
منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والطبراني ،
والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال : (الْعَفْوَ) ما يفضل عن أهلك ، وفي لفظ قال : الفضل عن العيال.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (قُلِ الْعَفْوَ) قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة ثم قال : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ثم نزلت في الفرائض بعد ذلك مسماة. وقد ثبت في الصحيح
من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول».
وثبت نحوه في الصحيح مرفوعا من حديث حكيم بن حزام. وفي الباب أحاديث كثيرة. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) قال : يعني في زوال الدنيا ، وفنائها ، وإقبال الآخرة ،
وبقائها. وأخرج أبو داود والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عنه قال : لما أنزل الله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) و (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) الآية ، انطلق من كن عنده يتيم يعزل طعامه عن طعامه ،
وشرابه عن شرابه ، فجعل يفصل له الشيء من طعامه ، فيحبس له حتى يأكله ، أو يفسد
فيرمي به ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى) الآية. فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. وقد روي
نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) قال : المخالطة : أن يشرب من لبنك ، وتشرب من لبنه ،
ويأكل من قصعتك ، وتأكل من قصعته ، ويأكل من ثمرتك ، وتأكل من ثمرته (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ) قال : يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم ، ومن يتحرج منه ،
ولا يألو عن إصلاحه (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَعْنَتَكُمْ) يقول : لو شاء ما أحلّ لكم ما أعنتكم مما لا تتعمدون.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (لَأَعْنَتَكُمْ) يقول : لأحرجكم وضيق عليكم ، ولكنه وسع ويسر. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) قال : ولو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا.
(وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))
قوله : (وَلا تَنْكِحُوا) قرأه الجمهور بفتح التاء ، وقرئ في الشواذ بضمها ؛ قيل
والمعنى : كأن المتزوج لها أنكحها من نفسها. وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات
، فقيل : المراد بالمشركات الوثنيات ؛ وقيل : إنها تعم الكتابيات ؛ لأن أهل الكتاب
مشركون : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية ، فقالت طائفة : إن
الله حرم نكاح المشركات فيها والكتابيات من الجملة ، ثم جاءت آية المائدة فخصصت
الكتابيات من هذا العموم. وهذا محكي عن ابن عباس ، ومالك ، وسفيان بن سعيد ، وعبد
الرحمن بن عمر ، والأوزاعي. وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة ،
وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات ، وهذا أحد قولي الشافعي ، وبه قال جماعة من
أهل العلم. ويجاب عن قولهم : أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة : بأن سورة البقرة
من أوّل من نزل وسورة المائدة من آخر ما نزل. والقول الأوّل هو الراجح. وقد قال به
ـ مع من تقدم ـ عثمان بن عفان ، وطلحة ، وجابر ، وحذيفة ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد
بن جبير ، والحسن ، وطاوس ، وعكرمة ، والشعبي ، والضحاك ، كما حكاه النحاس ،
والقرطبي. وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين ، وزاد عمر بن الخطاب وقال : لا يصح
عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك. وقال بعض أهل العلم : إن لفظ المشرك لا يتناول
أهل الكتاب لقوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) . وقال : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) وعلى فرض أن لفظ المشركين يعمّ ، فهذا العموم مخصوص
بآية المائدة كما قدمنا. قوله : (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ) أي : ولرقيقة مؤمنة ، وقيل : المراد بالأمة : الحرة ،
لأن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه ، والأول أولى لما سيأتي ، لأنه الظاهر من اللفظ
، ولأنه أبلغ ، فإنّ تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرّة المشركة يستفاد منه
تفضيل الحرّة المؤمنة على الحرّة المشركة بالأولى. وقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) أي : ولو أعجبتكم المشركة ، من جهة كونها ذات جمال ، أو
مال ، أو شرف ، وهذه الجملة حالية. قوله : (وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ) أي : لا تزوجوهم بالمؤمنات (حَتَّى يُؤْمِنُوا) قال القرطبي : وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ
المؤمنة بوجه ، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام ، وأجمع القراء على ضم التاء من
: تنكحوا. وقوله : (وَلَعَبْدٌ) الكلام فيه كالكلام في قوله : (وَلَأَمَةٌ) والترجيح كالترجيح. قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى المشركين والمشركات (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي : إلى الأعمال الموجبة للنار ، فكان في مصاهرتهم
ومعاشرتهم ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له ، ويدخلوا
فيه (وَاللهُ يَدْعُوا
إِلَى الْجَنَّةِ) أي : إلى الأعمال الموجبة للجنة ، وقيل : المراد : أن
أولياء الله هم المؤمنون يدعون إلى الجنة. وقوله : (بِإِذْنِهِ) أي : بأمره ، قاله الزجاج ؛ وقيل : بتيسيره وتوفيقه ،
قاله صاحب الكشاف.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم ، وابن المنذر عن مقاتل بن حيان قال : نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي
، استأذن النبي صلىاللهعليهوسلم في عناق أن يتزوجها ، وكانت ذات حظ من جمال ، وهي مشركة
وأبو مرثد يومئذ مسلم ، فقال : يا رسول الله! إنها تعجبني ، فأنزل الله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ). وأخرج ابن جرير ، وابن
__________________
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) قال : استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب ، فقال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) . وقد روي هذا المعنى عنه من طرق. وأخرج ابن جرير ، وابن
أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن سعيد بن جبير في قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) يعني : أهل الأوثان. وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي عن
مجاهد نحوه ، وكذلك أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة نحوه أيضا. وأخرج عبد
بن حميد عن النخعي نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر : أنه كره
نكاح نساء أهل الكتاب ، وتأوّل (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ). وأخرج البخاري عنه قال : حرّم الله نكاح المشركات على
المسلمين ، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة : ربها عيسى ، أو عبد
من عباد الله. وأخرج الواحدي ، وابن عساكر من طريق السدّيّ عن أبي مالك عن ابن
عباس في قوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) قال : نزلت في عبد الله بن رواحة ، وكانت له أمة سوداء
، وأنه غضب عليها ، فلطمها ، ثم إنه فزع فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبره خبرها ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم له : ما هي يا عبد الله؟ قال : تصوم ، وتصلي ، وتحسن
الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فقال : يا عبد الله! هذه
مؤمنة ، فقال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ، ولأتزوجنها ، ففعل ، فطعن
عليه ناس من المسلمين ، وقالوا : نكح أمة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين
، وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله فيهم : (وَلَأَمَةٌ
مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن السدي
مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ) قال : بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة سوداء ، فأعتقها
وتزوجها حذيفة. وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال : النكاح بولي في
كتاب الله ، ثم قرأ : (وَلا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا).
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
(٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))
قوله : (الْمَحِيضِ) هو الحيض ، وهو مصدر ، يقال : حاضت المرأة حيضا ومحيضا
فهي حائض وحائضة ، كذا قال الفراء وأنشد :
كحائضة يزنى بها غير طاهر
ونساء حيّض
وحوائض ، والحيضة بالكسر : المرة الواحدة ، وقيل : الاسم ؛ وقيل : المحيض : عبارة
عن الزمان والمكان ، وهو مجاز فيهما. وقال ابن جرير الطبري : المحيض : اسم الحيض ،
ومثله قول رؤبة :
إليك أشكو شدّة المعيش
__________________
وأصل هذه
الكلمة من السيلان والانفجار يقال : حاض السيل وفاض ، وحاضت الشجرة : أي : سالت
رطوبتها ، ومنه الحيض : أي : الحوض ، لأن الماء يحوض إليه : أي : يسيل. وقوله : (قُلْ هُوَ أَذىً) أي : قل هو شيء يتأذى به ، أي : برائحته ، والأذى :
كناية عن القذر ، ويطلق على القول المكروه ، ومنه قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ
وَالْأَذى) . ومنه قوله تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ) وقوله : (فَاعْتَزِلُوا
النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) أي : فاجتنبوهنّ في زمان الحيض ؛ إن حمل المحيض على
المصدر ، أو في محل الحيض ؛ إن حمل على الاسم. والمراد من هذا الاعتزال : ترك
المجامعة ، لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز ، بل يجوز الاستمتاع منها
بما عدا الفرج ، أو بما دون الإزار ، على خلاف في ذلك ؛ وأما ما يروى عن ابن عباس
، وعبيدة السلماني : أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت فليس ذلك
بشيء ، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض ، وهو معلوم من ضرورة الدين.
قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم
في رواية حفص عنه : بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية
أبي بكر : (يَطْهُرْنَ) بتشديد الطاء وفتحها وفتح الهاء وتشديدها. وفي مصحف
أبيّ وابن مسعود ويتطهّرن والطهر : انقطاع الحيض ، والتطهر : الاغتسال. وبسبب
اختلاف القراء اختلف أهل العلم ، فذهب الجمهور : إلى أن الحائض لا يحلّ وطؤها
لزوجها حتى تتطهر بالماء. وقال محمد بن كعب القرظي ويحيى بن بكير : إذا طهرت
الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل. وقال مجاهد وعكرمة : إن انقطاع
الدم يحلها لزوجها ، ولكن تتوضأ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن انقطع دمها
بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل ، وإن كان انقطاعه قبل العشر ؛ لم
يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد.
والأولى أن يقال : إن الله سبحانه جعل للحلّ غايتين كما تقتضيه القراءتان :
إحداهما انقطاع الدم ، والأخرى التطهر منه ، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على
الغاية الأولى ، فيجب المصير إليها. وقد دلّ أن الغاية الأخرى هي المعتبرة. قوله
تعالى بعد ذلك : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر ، لا مجرد انقطاع الدم.
وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين ، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة
إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة ، كذلك يجب الجمع بين القراءتين. قوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ) أي : فجامعوهن ، وكنى عنه بالإتيان. والمراد : أنهم
يجامعونهنّ في المأتى الذي أباحه الله ، وهو القبل ، قيل : و (مِنْ حَيْثُ) بمعنى : في حيث ، كما في قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ) أي : في يوم الجمعة ، وقوله : (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي : في الأرض ؛ وقيل : إن المعنى : من الوجه الذي أذن
الله لكم فيه : أي : من غير صوم وإحرام واعتكاف ؛ وقيل : إن المعنى : من قبل الطهر
، لا من قبل الحيض ؛ وقيل : من قبل الحلال ، لا من قبل الزنا. قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) قيل : المراد : التوابون من الذنوب ، والمتطهرون من
الجنابة والأحداث ، وقيل : التوابون من إتيان النساء في أدبارهنّ ؛ وقيل : من
إتيانهن في الحيض ، والأول أظهر. قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)
__________________
لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة ، إذ هو
مزدرع الذرية ، كما أن الحرث مزدرع النبات. فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف
التي منها النسل ؛ بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات ؛ بجامع أن كل
واحد منهما مادة لما يحصل منه ، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى ، أعني : قوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ). وقوله : (أَنَّى شِئْتُمْ) أي : من أي جهة شئتم : من خلف ، وقدّام ، وباركة ،
ومستلقية ومضطجعة ، إذا كان في موضع الحرث ، وأنشد ثعلب :
إنّما
الأرحام أرضو
|
|
ن لنا
محترثات
|
فعلينا
الزّرع فيها
|
|
وعلى الله
النّبات
|
وإنما عبّر
سبحانه بقوله : (أَنَّى) لكونها أعم في اللغة من كيف ، وأين ، ومتى. وأما سيبويه
ففسرها هنا بكيف. وقد ذهب السلف ، والخلف من الصحابة ، والتابعين ، والأئمة إلى ما
ذكرناه من تفسير الآية ، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام. وروي عن سعيد بن المسيب
ونافع وابن عمرو ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك ، حكاه
عنهم القرطبي في تفسيره قال : وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى «كتاب السر» وحذاق
أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سرّ ، ووقع
هذا القول في العتبيّة. وذكر ابن العربي : أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة
كبيرة من الصحابة والتابعين ، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب : «جماع النسوان
وأحكام القرآن» وقال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال :
ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني شك في أنه حلال ، يعني : وطء المرأة في دبرها ، ثم
قرأ : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) ثم قال : فأي شيء أبين من هذا. وقد روى الحاكم ،
والدارقطني ، والخطيب البغدادي عن مالك من طرق : ما يقتضي إباحة ذلك. وفي أسانيدها
ضعف. وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول : ما
صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم في تحليله ولا تحريمه شيء ، والقياس أنه حلال. وقد روى
ذلك أبو بكر الخطيب. قال ابن الصباغ : كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو
لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك ، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب
من كتبه. قوله : (وَقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ) أي : خيرا ، كما في قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ
خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) وقيل : ابتغاء الولد ؛ وقيل : التزويج بالعفائف ، وقيل
غير ذلك. وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرّمات. وفي قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) مبالغة في التحذير. وفي قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر.
وقد أخرج مسلم
، وأهل السنن ، وغيرهم عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من
البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك ، فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ) الآية فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كلّ شيء إلا النكاح»
وأخرج النسائي ، والبزار عن جابر قال : إن اليهود قالوا : من أتى المرأة في دبرها
كان ولده
__________________
أحول ، فجاؤوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسألوه عن ذلك ، وعن إتيان الحائض ، فنزلت. وأخرج ابن
جرير عن مجاهد قال الأذى : الدم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (فَاعْتَزِلُوا
النِّساءَ) يقول : اعتزلوا نكاح فروجهن. وفي قوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) قال : من الدم. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر عن مجاهد قال : حتى ينقطع الدم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) قال : بالماء. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن
مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه أيضا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وعطاء
أنهما قالا : إذا رأت الطهر فلا بأس أن تستطيب بالماء ويأتيها قبل أن تغتسل. وأخرج
ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) قال : يعني : أن يأتيها طاهرا غير حائض. وأخرج عبد بن
حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ) قال من حيث أمركم أن تعتزلوهنّ. وأخرج ابن أبي شيبة عن
عكرمة مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس قال : من حيث
نهاكم أن تأتوهنّ وهنّ حيض ، يعني : من قبل الفرج. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن
الحنفية قال : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) من قبل التزويج. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن
عطاء في قوله : (يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ) قال : من الذنوب (وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ) قال : بالماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال :
التوبة : من الذنوب ، والتطهير : من الشرك. وأخرج البخاري ، وأهل السنن وغيرهم عن
جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد
أحول ، فنزلت : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) إن شاء مجبّية ، وإن شاء غير مجبّية ، غير أن ذلك في
صمام واحد. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن مرّة الهمداني نحوه.
وقد روي هذا عن جماعة من السلف وصرحوا أنه السبب ، ومن الراوين لذلك عبد الله ابن
عمر عند ابن عساكر ، وأم سلمة عند عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب.
وأخرجه أيضا عنها ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، وعبد بن حميد ، والترمذي
وحسنه : «أنها سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعض نساء الأنصار عن التّجبية ، فتلا عليها الآية وقال
: صماما واحدا» والصّمام : السبيل. وأخرج أحمد وعبد ابن حميد والترمذي وحسنه
والنسائي والضياء في المختارة وغيرهم عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله هلكت قال : وما أهلكك؟ قال : حوّلت
رحلي الليلة. فلم يردّ عليه شيئا ، فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) يقول : أقبل وأدبر واتّق الدّبر والحيضة. وأخرج أحمد عن
ابن عباس مرفوعا أن هذه الآية نزلت في أناس من الأنصار أتوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم فسألوه فقال : ائتها على كلّ حال إذا كان في الفرج.
وأخرج الدارمي ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ،
وصححه ، والبيهقي في سننه عنه قال ابن عمر : والله يغفر له أوهم ، إنما كان هذا
الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحيّ من اليهود وهم أهل الكتاب ، كانوا يرون
لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، فكان من أمر أهل الكتاب
لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ،
وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بفعلهم ، وكان هذا الحيّ من قريش
يشرحون النساء شرحا ، ويتلذذون منهن مقبلات ، ومدبرات ، ومستلقيات ، فلما قدم
المهاجرون المدينة ؛ تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار. فذهب يفعل بها ذلك فأنكرته
عليه ، وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، فسرى أمرهما ،
فبلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله الآية : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) يقول : مقبلات ومدبرات بعد أن يكون في الفرج ، وإن كان
من قبل دبرها في قبلها ، زاد الطبراني : قال ابن عباس ، قال ابن عمر : في دبرها
فأوهم ، والله يغفر له ، وإنما كان هذا الحديث على هذا. وأخرج سعيد بن منصور ،
وعبد بن حميد ، والدارمي ، والبيهقي عن ابن مسعود أنه قال : محاشّ النساء عليكم
حرام. وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ،
وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت : «أنّ سائلا سأل رسول الله
صلىاللهعليهوسلم عن إتيان النساء في أدبارهنّ ، فقال : حلال أو لا بأس ،
فلما ولّى دعاه فقال : كيف قلت؟ أمن دبرها في قبلها فنعم ، أما من دبرها في دبرها
فلا ، إن الله لا يستحيي من الحقّ ، لا تأتوا النساء في أدبارهنّ». وأخرج ابن عدي
، والدارقطني عن جابر بن عبد الله نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وحسنه ،
والنسائي ، وابن حبان عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في الدّبر». وأخرج
أحمد ، والبيهقي في سننه عن ابن عمرو. أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللّوطيّة الصغرى».
وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ملعون من أتى امرأته في دبرها». وأخرج عبد الرزاق ،
وابن أبي شيبة ، وعبد ابن حميد ، والنسائي ، والبيهقي عنه قال : إتيان الرجال
والنساء في أدبارهن كفر. وقد رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعا قال ابن كثير :
والموقوف أصح. وقد ورد النهي عن ذلك من طرق منها عند البزار عن عمر مرفوعا ، وعند
النسائي موقوفا ، وهو أصح. وعند ابن عدي في الكامل عن ابن مسعود مرفوعا ، وعند ابن
عدي أيضا عن عقبة بن عامر مرفوعا ، وعند أحمد عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق
مرفوعا ، وعند ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه عند علي بن طلق مرفوعا ، وقد ثبت
نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعا ، وموقوفا ، وأخرج البخاري وغيره عن
نافع قال : قرأت ذات يوم (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) فقال ابن عمر : أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت لا ،
قال نزلت في إتيان النساء في أدبارهنّ. وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قال : في الدبر. وقد روي هذا عن ابن عمر من طرق كثيرة.
وفي رواية عند الدارقطني أنه قال له نافع : من دبرها في قبلها؟ فقال : لا إلا في
دبرها. وأخرج ابن راهويه ، وأبو يعلى ، وابن جرير والطحاوي ، وابن مردويه بإسناد
حسن عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ،
فنزلت الآية. وأخرج البيهقي في سننه ، عن محمد بن علي قال : كنت عند محمد بن كعب
القرظي فجاءه رجل فقال : ما تقول في إتيان المرأة في دبرها؟ فقال : هذا شيخ من
قريش فسله ، يعني عبد الله بن علي بن السائب : فقال : قذر ولو كان حلالا. وقد روي
القول بحلّ ذلك عن محمد بن المنكدر عند ابن جرير ، وعن ابن أبي مليكة عند ابن جرير
أيضا ، وعن مالك بن أنس ،
وعند ابن جرير والخطيب وغيرهما ، وعن الشافعي عند الطحاوي والحاكم والخطيب.
وقد قدّمنا مثل هذا ، وليس في أقوال هؤلاء حجة ألبتة ، ولا يجوز لأحد أن يعمل على
أقوالهم ، فإنهم لم يأتوا بدليل يدلّ على الجواز ، فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من
الآية فقد أخطأ في فهمه. وقد فسّرها لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأكابر أصحابه بخلاف ما قاله هذا المخطئ في فهمه كائنا
من كان ، ومن زعم منهم أن سبب نزول الآية أن رجلا أتى امرأته في دبرها ، فليس في
هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك ، ومن زعم ذلك فقد أخطأ ، بل الذي تدل عليه
الآية أن ذلك حرام ، فكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله ،
فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا ، وتارة بتحريمه. وقد روي عن
ابن عباس : أنه فسر هذه الآية بغير ما تقدّم ، فقال : معناها : إن شئتم فاعزلوا
وإن شئتم فلا تعزلوا. روى ذلك عنه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، والضياء في المختارة ، وروي نحو ذلك عن ابن عمر ، أخرجه ابن أبي شيبة.
وعن سعيد ابن المسيب ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير.
(وَلا تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (٢٢٥))
العرضة :
النصبة ، قاله الجوهري. يقال جعلت فلانا عرضة لكذا ، أي : نصبة. وقيل : العرضة من
الشدة والقوّة ، ومنه قولهم للمرأة : عرضة للنكاح ، إذا صلحت له وقويت عليه ،
ولفلان عرضة ، أي : قوّة ، ومنه قول كعب بن زهير :
من كلّ
نضّاخة الذّفرى إذا عرقت
|
|
عرضتها طامس
الأعلام مجهول
|
ومثله قول أوس
بن حجر :
وأدماء مثل
الفحل يوما عرضتها
|
|
لرحلي وفيها
هزّة وتقاذف
|
ويطلق العرضة
على الهمة ، ومنه قول الشاعر :
هم الأنصار عرضتها اللّقاء
أي : همتها ،
ويقال : فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري : أن
العرضة النصبة كالقبضة والغرفة ؛ يكون ذلك اسما لما تعرضه دون الشيء ، أي : تجعله
حاجزا له ، ومانعا منه ، أي : لا تجعلوا الله حاجزا ومانعا لما حلفتم عليه ، وذلك
لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم ، أو إحسان إلى الغير ، أو إصلاح بين
الناس : بأن لا يفعل ذلك ، ثم يمتنع من فعله ، معللا لذلك الامتناع : بأنه قد حلف
أن لا يفعله ، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية ، ينهاهم الله أن
يجعلونه عرضة لأيمانهم ، أي : حاجزا لما حلفوا عليه ومانعا منه ، وسمي المحلوف
عليه : يمينا ، لتلبسه باليمين ، وعلى هذا يكون قوله : (أَنْ تَبَرُّوا) عطف بيان لأيمانكم ، أي : لا تجعلوا الله مانعا للأيمان
التي هي بركم ، وتقواكم ،
__________________
وإصلاحكم بين الناس ، ويتعلق قوله : (لِأَيْمانِكُمْ) بقوله : (لا تَجْعَلُوا) أي : لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعا وحاجزا ، ويجوز أن
يتعلق بعرضة ، أي : لا تجعلوه شيئا معترضا بينكم وبين البرّ ، وما بعده. وعلى
المعنى الثاني : وهو أن العرضة : الشدة والقوّة ، يكون معنى الآية : لا تجعلوا
اليمين بالله قوة لأنفسكم ، وعدّة في الامتناع من الخير. ولا يصح تفسير الآية على
المعنى الثالث ، وهو تفسير العرضة بالهمة ـ وأما على المعنى الرابع : وهو من قولهم
: فلان لا يزال عرضة للناس ، أي : يقعون فيه ، فيكون معنى الآية عليه : ولا تجعلوا
الله معرضا لأيمانكم ، فتبتذلونه بكثرة الحلف به ، ومنه : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) . وقد ذمّ الله المكثرين للحلف فقال : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) . وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم :
قليل الألايا
حافظ ليمينه
|
|
وإن بدرت منه الأليّة
برّت
|
وعلى هذا فيكون
قوله : (أَنْ تَبَرُّوا) علة للنهي ، أي : لا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم إرادة
أن تبروا ، وتتقوا ، وتصلحوا ، لأن من يكثر الحلف بالله يجترئ على الحنث ويفجر في
يمينه. وقد قيل في تفسير الآية : أقوال هي راجعة إلى هذه الوجوه التي ذكرناها ،
فمن ذلك قول الزجاج : معنى الآية : أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير
اعتل بالله ، فقال : علي يمين ، وهو لم يحلف ؛ وقيل : معناها : لا تحلفوا بالله
كاذبين إذا أردتم البرّ والتقوى والإصلاح ، وقيل : معناها إذا حلفتم على أن لا
تصلوا أرحامكم ولا تتصدقوا ولا تصلحوا وعلى أشباه ذلك من أبواب البر فكفروا عن
اليمين. وقد قيل : إن قوله : (أَنْ تَبَرُّوا) مبتدأ خبره محذوف ، أي : البرّ والتقوى ، والإصلاح
أولى. قاله الزجاج. وقيل : إنه منصوب ، أي : لا تمنعكم اليمين بالله البرّ والتقوى
والإصلاح ، وروي ذلك عن الزجاج أيضا ؛ وقيل : معناه : أن لا تبروا ، فحذف لا ،
كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي : لا تضلوا. قاله ابن جرير الطبري ؛ وقيل : هو في
موضع جرّ على قول الخليل والكسائي ، والتقدير : في (أَنْ تَبَرُّوا) وقوله : (سَمِيعٌ) أي : لأقوال العباد (عَلِيمٌ) بما يصدر منهم. واللغو : مصدر لغا يلغو لغوا ، ولغى
يلغي لغيا : إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام ، أو بما لا خير فيه ، وهو
الساقط الذي لا يعتدّ به ، فاللغو من اليمين : هو الساقط الذي لا يعتدّ به ، ومنه
: اللغو في الدية ، وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل ، قال جرير :
ويذهب بينها المرئيّ
لغوا
|
|
كما ألغيت في
الدّية الحوارا
|
وقال آخر :
وربّ أسراب
حجيج كظّم
|
|
عن اللّغا
ورفث التّكلّم
|
__________________
أي : لا يتكلمن
بالساقط والرفث ، ومعنى الآية : لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم ، ولكن يعاقبكم
بما كسبت قلوبكم ، أي : اقترفته بالقصد إليه : وهي اليمين المعقودة ، ومثله قوله
تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ
بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) ومثله قول الشاعر :
ولست بمأخوذ
بلغو تقوله
|
|
إذا لم تعمّد
عاقدات العزائم
|
وقد اختلف أهل
العلم في تفسير اللغو ، فذهب ابن عباس ، وعائشة ، وجمهور العلماء أيضا : أنه : قول
الرجل : لا والله ، وبلى والله في حديثه وكلامه ، غير معتقد لليمين ، ولا مريد
لها. قال المروزي : هذه معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء. وقال أبو
هريرة وجماعة من السلف : هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس
هو ما ظنه ، وإلى هذا ذهبت الحنفية ، والزيدية ، وبه قال مالك في الموطأ. وروي عن
ابن عباس أنه قال : لغو اليمين : أن تحلف وأنت غضبان ، وبه قال طاوس ومكحول. وروي
عن مالك ؛ وقيل : إن اللغو هو يمين المعصية ، قاله سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن
عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير ، وأخوه عروة ، كالذي يقسم ليشر بن الخمر ، أو
ليقطعن الرحم ؛ وقيل : لغو اليمين : هو دعاء الرجل على نفسه : كأن يقول : أعمى
الله بصره ، أذهب الله ماله ، هو يهودي ، هو مشرك. قاله زيد بن أسلم. وقال مجاهد :
لغو اليمين : أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا ، ويقول الآخر
: والله لا أشتريه بكذا. وقال الضحاك : لغو اليمين : هي المكفرة ، أي : إذا كفرت
سقطت وصارت لغوا. والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي ، ولدلالة الأدلة
عليه كما سيأتي. وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ
حَلِيمٌ) أي : حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد
وقصد. وآخذكم بما تعمدته قلوبكم ، وتكلمت به ألسنتكم ، وتلك هي اليمين المعقودة
المقصودة.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً
لِأَيْمانِكُمْ) يقول : لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ، ولكن
كفّر عن يمينك واصنع الخير. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عنه : هو أن يحلف الرجل
أن لا يكلم قرابته ، أو لا يتصدق ، ويكون بين رجلين مغاضبة فيحلف لا يصلح بينهما ،
ويقول : قد حلفت ، قال : يكفر عن يمينه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : جاء رجل
إلى عائشة فقال : إني نذرت إن كلمت فلانا فإن كل مملوك لي عتيق ، وكل مال لي ستر
للبيت ، فقالت : لا تجعل مملوكيك عتقاء ولا تجعل مالك سترا للبيت فإن الله يقول : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً
لِأَيْمانِكُمْ) فكفر عن يمينك. وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي بكر
في شأن مسطح. رواه ابن جرير عن ابن جريج ، والقصة مشهورة. وقد ثبت في الأحاديث
الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت
الذي هو خير وليكفّر عن يمينه». وثبت أيضا في الصحيحين وغيرهما : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها
خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني». وأخرج ابن ماجة ، وابن جرير عن
عائشة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من حلف على يمين قطيعة رحم أو معصية فبرّه أن يحنث
فيها ويرجع عن يمينه».
__________________
وأخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في
معصية الله ، ولا في قطيعة رحم». وأخرج أبو داود ، والحاكم ، وصححه عن عمر مرفوعا
مثله. وأخرج النسائي ، وابن ماجة عن مالك الجشمي قال : قلت يا رسول الله! يأتيني
ابن عمّي فأحلف أن لا أعطيه ولا أصله ، فقال : كفّر عن يمينك. وأخرج مالك في
الموطأ ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وغيرهم عن عائشة قالت : أنزلت
هذه الآية : (لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) في قول الرجل : لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله.
وأخرج أبو داود ، وابن جرير ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي من طريق عطاء بن
أبي رباح أنه سئل عن اللغو في اليمين فقال : قالت عائشة : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «هو كلام الرجل في بيته : كلّا والله ، وبلى
والله». وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عائشة أنها
قالت في تفسير الآية : إن اللغو هو القوم يتدارون في الأمر ، يقول هذا : لا والله
، ويقول هذا : كلا والله ، يتدارون في الأمر ، لا تعقد عليه قلوبهم. وأخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت : هو اللغو في المزاحة والهزل ، وهو قول
الرجل : لا والله ، وبلى والله. فذاك لا كفارة فيه ، وإنما الكفارة فيما عقد عليه
قلبه أن يفعله ثم لا يفعله. وأخرج ابن جرير عن الحسن : قال : «مر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوم ينتضلون ومع النبي صلىاللهعليهوسلم رجل من أصحابه ، فرمى رجل من القوم ، فقال : أصبت والله
، وأخطأت والله ، فقال الذي مع النبي صلىاللهعليهوسلم : حنث الرجل يا رسول الله!؟ فقال : كلا ، أيمان الرماة
لغو ، لا كفارة فيها ، ولا عقوبة. وقد روى أبو الشيخ عن عائشة ، وابن عباس ، وابن
عمر ، وابن عمرو : أن اللغو : لا والله ، وبلى والله. أخرجه سعيد بن منصور ، وابن
جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن ابن عباس
أنه قال : لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : لغو
اليمين : حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه فإذا هو غير ذلك. وأخرج ابن
أبي حاتم ، والبيهقي عن عائشة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس : أنها : أن يحلف الرجل على تحريم ما أحلّ الله له. وأخرج
عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : هو الرجل يحلف على المعصية.
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن النخعي : هو أن يحلف الرجل على الشيء ثم ينسى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ) يعني : إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها (حَلِيمٌ) إذ لم يجعل فيها الكفارة.
(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))
قوله : (يُؤْلُونَ) أي : يحلفون : والمصدر إيلاء وأليّة وألوة ، وقرأ ابن
عباس : الذين آلوا يقال آلى يؤالي إيلاء ويأتلي بالتاء ائتلاء ، أي : حلف ، ومنه :
(وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) ، ومنه :
__________________
قليل الألايا حافظ ليمينه البيت
وقد اختلف أهل
العلم في الإيلاء ، فقال الجمهور : إن الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر
من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن موليا وكانت عندهم يمينا
محضا ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور. وقال الثوري والكوفيون :
الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا ، وهو قول عطاء. وروي عن ابن عباس : أنه لا
يكون موليا حتى يحلف أن لا يمسها أبدا. وقالت طائفة : إذا حلف أن لا يقرب امرأته
يوما ؛ أو أقل ؛ أو أكثر ؛ ثم لم يطأ أربعة أشهر ؛ بانت منه بالإيلاء. وبه قال ابن
مسعود ، والنخعي ، وابن أبي ليلى ، والحكم ، وحماد بن أبي سليمان ، وقتادة ،
وإسحاق. قال ابن المنذر : وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. قوله : (مِنْ نِسائِهِمْ) يشمل الحرائر والإماء إذا كنّ زوجات ، وكذلك يدخل تحت
قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) العبد إذا حلف من زوجته ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ،
وأبو ثور ، قالوا : وإيلاؤه كالحر. وقال مالك والزهري وعطاء وأبو حنيفة وإسحاق :
إن أجله شهران. وقال الشعبي : إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة. والتربص : التأني ،
والتأخر ، قال الشاعر :
تربّص بها
ريب المنون لعلّها
|
|
تطلّق يوما
أو يموت حليلها
|
وقت الله
سبحانه بهذه المدة دفعا للضرار عن الزوجة. وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة ،
والسنتين ، وأكثر من ذلك ، يقصدون بذلك ضرار النساء. وقد قيل : إن الأربعة الأشهر
هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها. قوله : (فَإِنْ فاؤُ) أي : رجعوا ومنه : (حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ) أي : ترجع ، ومنه قيل للظل بعد الزوال : فيء ، لأنه رجع
عن جانب المشرق إلى جانب المغرب ، يقال : فاء يفيء فيئة وفيوءا ، وإنه لسريع
الفيئة ، أي : الرجعة ، ومنه قول الشاعر :
ففاءت ولم
تقض الذي أقبلت له
|
|
ومن حاجة
الإنسان ما ليس قاضيا
|
قال ابن المنذر
: وأجمع كل من يحفظ عنه العلم : على أن الفيء : الجماع لمن لا عذر له ، فإن كان له
عذر مرض أو سجن فهي امرأته ، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة
قد انقضت ، قاله مالك ؛ وقالت طائفة : إذا أشهد على فيئته بقلبه في حال العذر
أجزأه. وبه قال الحسن وعكرمة والنخعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل. وقد أوجب الجمهور
على المولي إذا فاء بجماع امرأته الكفارة. وقال الحسن والنخعي : لا كفارة عليه.
قوله : (وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ) العزم : العقد على الشيء ، ويقال : عزم يعزم عزما
وعزيمة وعزمانا ، واعتزم اعتزاما ، فمعنى عزموا الطلاق : عقدوا عليه قلوبهم.
والطلاق : من طلقت المرأة تطلق ، كنصر ينصر ، طلاقا فهي طالق وطالقة أيضا ، ويجوز
طلقت بضم اللام ، مثل عظم يعظم ، وأنكره الأخفش. والطلاق : حلّ عقد النكاح ، وفي
ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضيّ أربعة أشهر كما قال مالك ؛ ما لم يقع إنشاء تطليق
بعد المدة ، وأيضا فإنه قال : (سَمِيعٌ) ، وسميع يقتضي مسموعا بعد المضيّ. وقال أبو حنيفة : (سَمِيعٌ) لإيلائه (عَلِيمٌ) بعزمه الذي دل عليه مضيّ أربعة أشهر. واعلم : أن أهل كل
__________________
مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ ،
ولا دليل آخر ، ومعناها ظاهر واضح ، وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي ـ أي : يحلف
من امرأته ـ أربعة أشهر. ثم قال مخبرا لعباده بحكم هذا المولي بعد هذه المدّة : (فَإِنْ فاؤُ) رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) أي : وقع العزم منهم عليه ، والقصد له (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لذلك منهم (عَلِيمٌ) به ، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ولا شبهة ، فمن
حلف أن لا يطأ امرأته ولم يقيد بمدّة أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا
إمهاله أربعة أشهر ، فإذا مضت فهو بالخيار إما رجع إلى نكاح امرأته ، وكانت زوجته
بعد مضيّ المدة كما كانت زوجته قبلها ، أو طلقها ؛ وكان له حكم المطلق لامرأته
ابتداء ، وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر فإن أراد أن يبرّ في يمينه ؛ اعتزل امرأته
التي حلف منها حتى تنقضي المدة ، كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين آلى من نسائه شهرا ، فإنه اعتزلهنّ حتى مضى الشهر ،
وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه
ولزمته الكفارة ، وكان ممتثلا لما صح عنه صلىاللهعليهوسلم من قوله : «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت
الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه».
وقد أخرج
الشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن ابن
عباس قال : الإيلاء : أن يحلف أنه لا يجامعها أبدا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه في قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسائِهِمْ) قال : هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها ، فتتربص
أربعة أشهر فإن هو نكحها كفر عن يمينه ، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيره
السلطان ، إما : أن يفيء ، وإما : أن يعزم فيطلق ، كما قال الله سبحانه. وأخرج
سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، والبيهقي عنه قال : كان إيلاء
الجاهلية السنة والسنتين من ذلك ، فوقت الله لهم أربعة أشهر ، فإن كان إيلاؤه أقلّ
من أربعة أشهر فليس بإيلاء. وأخرج عبد بن حميد عن علي قال : الإيلاء إيلاءان :
إيلاء في الغضب ، وإيلاء في الرضا ؛ فأما الإيلاء في الغضب : فإذا مضت أربعة أشهر
فقد بانت منه ، وأما ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس
قال : لا إيلاء إلا بغضب. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن المنذر عن أبيّ بن كعب
أنه قرأ : «فإن فاءوا فيهنّ فإنّ الله غفور رحيم». وأخرج عبد بن حميد عن علي قال :
الفيء : الجماع. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن المنذر عن
ابن مسعود مثله. وأخرج ابن المنذر عن عليّ قال : الفيء : الرضا. وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن مسعود مثله. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، قال : الفيء : الإشهاد ،
وأخرج عبد الرزاق عنه قال : الفيء : الجماع ، فإن كان له عذر أجزأه أن يفيء
بلسانه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إذا حال بينه وبينها مرض ، أو سفر
، أو حبس ، أو شيء يعذر به فإشهاده فيء. وللسلف في الفيء أقوال مختلفة ، فينبغي
الرجوع إلى معنى الفيء لغة ، وقد بيناه. وأخرج ابن جرير عن عمر بن الخطاب أنه قال
في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر لا شيء عليه حتى
يوقف فيطلق أو يمسك. وأخرج الشافعي ، وابن جرير ، والبيهقي عن عثمان بن
عفان نحوه. وأخرج مالك ، والشافعي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي عن عليّ
نحوه. وأخرج البخاري ، وعبد بن حميد ، عن ابن عمر نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير ،
والبيهقي عن عائشة نحوه. وأخرج ابن جرير ، والدارقطني ، والبيهقي من طريق سهيل بن
أبي صالح عن أبيه قال : سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول : ليس عليه شيء حتى
تمضي الأربعة الأشهر فيوقف ؛ فإن فاء ؛ وإلا طلق. وأخرج البيهقي عن ثابت بن عبيدة
مولى زيد بن ثابت عن اثني عشر رجلا من الصحابة نحوه. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير
، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود
، وابن عمر ، وابن عباس قالوا : الإيلاء : تطليقة بائنة إذا مرت أربعة أشهر قبل أن
يفيء ، فهي أملك بنفسها ، وللصحابة والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة ،
والمتعين الرجوع إلى ما في الآية الكريمة ، وهو ما عرفناك فاشدد عليه يديك. وأخرج
عبد الرزاق عن عمر قال : إيلاء العبد شهران. وأخرج مالك عن ابن شهاب قال : إيلاء
العبد نحو إيلاء الحرّ.
(وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا
إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))
قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ) يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول ، ثم خصص بقوله
تعالى : (فَما لَكُمْ
عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) فوجب بناء العام على الخاص ، وخرجت من هذا العموم
المطلقة قبل الدخول ، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى : (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) والتربص : الانتظار ، قيل : هو خبرا في معنى الأمر : أي
: ليتربصن ، قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه ، وزاده تأكيدا وقوعه خبر
للمبتدأ. قال ابن العربي : وهذا باطل ، وإنما هو خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت
مطلقة لا تتربص فليس ذلك من الشرع ، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله سبحانه على
خلاف مخبره. والقروء : جمع قرء. وروي عن نافع أنه قرأ : «قرو» بتشديد الواو. وقرأه
الجمهور : بالهمز. وقرأ الحسن : بفتح القاف وسكون الراء والتنوين. قال الأصمعي : الواحد
قرء بضم القاف. وقال : أبو زيد بالفتح ، وكلاهما قال : أقرأت المرأة : حاضت ،
وأقرأت : طهرت. وقال الأخفش : أقرأت المرأة : إذا صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت
: قرأت ، بلا ألف. وقال أبو عمرو بن العلاء : من العرب من يسمي الحيض : قرءا ،
ومنهم من يسمي الطهر : قرءا. ومنهم من يجمعهما جميعا ، فيسمى الحيض مع الطهر :
قرءا. وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل : الوقت ؛ يقال : هبت الرياح لقرئها
ولقارئها ، أي : لوقتها ، ومنه قول الشاعر :
كرهت العقر
عقر بني شليل
|
|
إذا هبّت
لقارئها الرّياح
|
__________________
فيقال للحيض :
قرء ، وللطهر : قرء ، لأن كل واحد منهما له وقت معلوم. وقد أطلقته العرب تارة : على
الأطهار ، وتارة : على الحيض ، فمن إطلاقه على الأطهار قول الأعشى :
أفي كلّ عام
أنت جاشم غزوة
|
|
تشدّ لأقصاها
عزيم عزائكا
|
مورّثة مالا
وفي الحيّ رفعة
|
|
لما ضاع فيها
من قروء نسائكا
|
أي : أطهارهن ،
ومن إطلاقه على الحيض قول الشاعر :
يا رب ذي حنق
عليّ قارض
|
|
له قروّ
كقروّ الحائض
|
يعني أنه طعنه
فكان له دم كدم الحائض. وقال قوم : هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض وهو جمعه ،
ومنه : القرآن ، لاجتماع المعاني فيه. قال عمرو بن كلثوم :
ذراعي عيطل
عيطل أدماء بكر
|
|
هجان اللّون
لم تقرأ جنينا
|
أي : لم تجمعه
في بطنها. والحاصل أن القرء في لغة العرب مشترك بين الحيض والطهر ، ولأجل هذا
الاشتراك ، اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية ،
فقال أهل الكوفة : هي الحيض ، وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبي موسى ،
ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والسدي ، وأحمد بن حنبل. وقال أهل الحجاز :
هي الأطهار ، وهو قول عائشة ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، والزهري ، وأبان بن عثمان
، والشافعي ، واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت ، فصار معنى
الآية عند الجميع : والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات فهي على هذا مفسرة في
العدد ، مجملة في المعدود ، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها فأهل القول الأول
استدلوا على أن المراد في هذه الآية : الحيض ، بقوله صلىاللهعليهوسلم : «دعي الصّلاة أيام أقرائك» وبقوله صلىاللهعليهوسلم : «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان» وبأن المقصود
من العدّة استبراء الرحم ، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر. واستدل أهل القول الثاني
بقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر. ولقوله صلىاللهعليهوسلم لعمر : «مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم
تطهر ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» وذلك لأن زمن الطهر هو الذي
تطلق فيه النساء. قال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول
: بأن الأقراء هي الأطهار ، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه
ولو ساعة ولو لحظة ، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة ، فإذا رأت الدم من الحيضة
الثالثة خرجت من العدّة. انتهى. وعندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين
جميعا. أما قول الأولين : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «دعي الصّلاة أيام أقرائك» فغاية ما في هذا أن
النبي صلىاللهعليهوسلم أطلق الأقراء على الحيض ، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو
شأن اللفظ المشترك فإنه يطلق تارة على هذا ، وتارة على هذا ، وإنما النزاع في
الأقراء المذكورة في هذه الآية ، وأما قوله صلىاللهعليهوسلم في
__________________
الأمة : «وعدّتها حيضتان» فهو حديث أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة
، والدارقطني ، والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعا. وأخرجه ابن ماجة ، والبيهقي
من حديث ابن عمر مرفوعا أيضا ، ودلالته على ما قاله الأولون قوية. وأما قولهم : إن
المقصود من العدّة استبراء الرحم ، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر. فيجاب عنه بأنه
إنما يتم لو لم يكن في هذه العدّة شيء من الحيض ، على فرض تفسير الأقراء بالأطهار
، وليس كذلك ، بل هي مشتملة على الحيض ، كما هي مشتملة على الأطهار ، وأما استدلال
أهل القول الثاني بقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله : (لِعِدَّتِهِنَ) يصير ذلك محتملا ، ولا تقوم الحجة بمحتمل. وأما
استدلالهم بقوله صلىاللهعليهوسلم لعمر : «مره فليراجعها» الحديث ، فهو في الصحيح ،
ودلالته قوية على ما ذهبوا إليه ، ويمكن أن يقال : إنها تنقضي العدّة بثلاثة أطهار
أو بثلاث حيض ، ولا مانع من ذلك فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه
، وبذلك يجمع بين الأدلة ، ويرتفع الخلاف ، ويندفع النزاع. وقد استشكل الزمخشري
تمييز الثلاثة بقوله : قروء ، وهي جمع كثرة دون أقراء التي هي من جموع القلة.
وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في
الجمعية. قوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) قيل : المراد به : الحيض ؛ وقيل : كلاهما ، ووجه النهي
عن الكتمان : ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج وإذهاب حقه ؛ فإذا قالت
المرأة : حضت ، وهي لم تحض ، ذهبت بحقه من الارتجاع ؛ وإذا قالت : لم تحض ، وهي قد
حاضت ، ألزمته من النفقة ما لم يلزمه ، فأضرّت به ، وكذلك الحمل ، ربما تكتمه
لتقطع حقه من الارتجاع ، وربما تدّعيه لتوجب عليه النفقة ، ونحو ذلك من المقاصد
المستلزمة للإضرار بالزوج. وقد اختلفت الأقوال في المدّة التي تصدّق فيها المرأة
إذا ادعت انقضاء عدّتها. وقوله : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيه وعيد شديد للكاتمات ، وبيان أن من كتمت ذلك منهنّ
لم تستحق اسم الإيمان. والبعولة : جمع بعل وهو الزوج ، سمي : بعلا ، لعلوّه على
الزوجة لأنهم يطلقونه على الرب ، ومنه قوله تعالى : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي : ربا ؛ ويقال : بعول ، وبعولة ، كما يقال في جمع
الذكر : ذكور ، وذكورة ، وهذه التاء لتأنيث الجمع ، وهو شاذ لا يقاس عليه ، بل
يعتبر فيه السماع ؛ والبعولة أيضا تكون مصدرا من : بعل الرجل يبعل ، مثل : منع
يمنع ، أي : صار بعلا. وقوله : (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) أي : برجعتهنّ ، وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها
، فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) لأنه يعم المثلثات وغيرهنّ. وقوله : (فِي ذلِكَ) يعني : في مدة التربص ، فإن انقضت مدّة التربص فهي أحق
بنفسها ، ولا تحلّ له إلا بنكاح مستأنف بوليّ وشهود ومهر جديد ، ولا خلاف في ذلك ؛
والرجعة تكون باللفظ ، وتكون بالوطء ، ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا
خلاف. وقوله : (إِنْ أَرادُوا
إِصْلاحاً) أي : بالمراجعة : أي : إصلاح حاله معها وحالها معه ،
فإن قصد الإضرار بها فهي محرّمة ، لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً لِتَعْتَدُوا) قيل : وإذا قصد بالرجعة الضرار فهي صحيحة ، وإن ارتكب
بذلك محرّما وظلم نفسه ، وعلى هذا : فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج
على قصد الصلاح ، والزجر لهم عن قصد الضرار ، وليس المراد به :
__________________
جعل قصد الإصلاح شرطا لصحة الرجعة. قوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي : لهنّ من حقوق الزوجية على الرجال بمثل ما للرجال
عليهنّ ، فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم ، وهي
كذلك ، تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهنّ يفعلنه لأزواجهنّ من
طاعة ، وتزين ، وتحبب ونحو ذلك. قوله : (وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) أي : منزلة ليست لهنّ ، وهو قيامه عليها في الإنفاق ،
وكونه من أهل الجهاد والعقل والقوّة ، وله من الميراث أكثر مما لها ، وكونه يجب
عليها امتثال أمره ، والوقوف عند رضاه ، ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء
إلا كونهنّ خلقن من الرجال لما ثبت أن حوّاء خلقت من ضلع آدم.
وقد أخرج أبو
داود ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية
قالت : طلقت على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يكن للمطلقة عدّة ، فأنزل الله حين طلقت العدّة
للطلاق ، فقال : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ) الآية. وأخرج أبو داود ، والنسائي ، وابن المنذر عن ابن
عباس (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) ثم قال : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ) فنسخ وقال : (ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ
عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) . وأخرج مالك ، والشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني ، والبيهقي ، من طرق عن
عائشة أنها قالت : الأقراء : الأطهار. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر
، والبيهقي عن ابن عمر وزيد بن ثابت مثله. وأخرج المذكورون عن عمرو بن دينار قال :
الأقراء : الحيض ؛ عن أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج البيهقي ، وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) قال : ثلاث حيض. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن
المنذر عن قتادة في قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) قال : كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر ،
فنهاهنّ الله عن ذلك. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في
الآية قال : الحمل والحيض. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور عن مجاهد نحوه. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) يقول : إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي
حامل فهو أحقّ برجعتها ما لم تضع حملها ، وهو قوله : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي عن مجاهد في
قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) قال : في العدّة. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير عن قتادة مثله ، وزاد ما لم يطلقها ثلاثا. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في
قوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ
الَّذِي عَلَيْهِنَ) قال : إذا أطعن الله ، وأطعن أزواجهن ، فعليه أن يحسن
صحبتها ، ويكف عنها أذاه ، وينفق عليها من سعته. وقد أخرج أهل السنن عن عمرو بن
الأحوص أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا إنّ لكم على نسائكم حقّا ولنسائكم عليكم
حقّا ، أما حقّكم على نسائكم أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذنّ في بيوتكم لمن
تكرهون ، ألا وحقّهنّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهنّ وطعامهنّ» وصحّحه الترمذي.
وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن
__________________
جرير ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري «أنه سأل
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ما حقّ المرأة على الزوج؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ،
وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تهجر إلّا في البيت». وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَلِلرِّجالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) قال : فضل ما فضله الله به عليها من الجهاد ، وفضل
ميراثه على ميراثها ، وكل ما فضل به عليها. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن
أبي مالك في الآية قال : يطلقها وليس لها من الأمر شيء. وأخرج عن زيد بن أسلم قال
: الإمارة.
(الطَّلاقُ مَرَّتانِ
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما
حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))
المراد بالطلاق
المذكور : هو الرجعي ، بدليل ما تقدّم في الآية الأولى ، أي : الطلاق الذي تثبت
فيه الرجعة للأزواج هو مرتان ، أي : الطلقة الأولى والثانية ، إذ لا رجعة بعد
الثالثة ، وإنما قال سبحانه : (مَرَّتانِ) ولم يقل طلقتان إشارة إلى أن ينبغي أن يكون الطلاق مرة
بعد مرة ، لا طلقتان دفعة واحدة ، كذا قال جماعة من المفسرين ، ولما لم يكن بعد
الطلقة الثانية إلا أحد أمرين ، إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة ، أو
الإمساك واستدامة نكاحها ، وعدم إيقاع الثالثة عليها قال سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ) أي : فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف
، أي : بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة ، (أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسانٍ) أي : بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها ، وقيل :
المراد : (فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ) أي : برجعة بعد الطلقة الثانية (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي : بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدّتها. والأول
أظهر. وقوله : (الطَّلاقُ) مبتدأ بتقدير مضاف ، أي : عدد الطلاق الذي تثبت فيه
الرجعة مرتان. وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة : هل يقع ثلاثا ،
أو واحدة فقط. فذهب إلى الأوّل الجمهور ، وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق. وقد
قررته في مؤلفاتي تقريرا بالغا ، وأفردته برسالة مستقلة. قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) الخطاب للأزواج ، أي : لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا مما
دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئا على وجه المضارة لهنّ ، وتنكير «شيئا» للتحقير ،
أي : شيئا نزرا فضلا عن الكثير ، وخص ما دفعوه إليهنّ بعدم حلّ الأخذ منه ؛ مع
كونه لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا شيئا من أموالهنّ التي يملكنها من غير المهر ؛
لكون ذلك هو الذي تتعلق به نفس الزوج ، وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها
، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحلّ له ؛ كان ما عداه ممنوعا منه بالأولى
، وقيل : الخطاب في قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) للأئمة والحكام ليطابق قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) فإن الخطاب فيه للأئمة والحكام ، وعلى هذا : يكون إسناد
الأخذ إليهم ، لكونهم الآمرين بذلك. والأول أولى لقوله :
(مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَ) فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جدا ، لأن إيتاء
الأزواج لم يكن عن أمرهم ، وقيل : إن الثاني أولى لئلا يتشوّش النظم. قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا) أي : لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن
يخافا (أَلَّا يُقِيما
حُدُودَ اللهِ) أي : عدم إقامة حدود الله التي حدّها للزوجين ، وأوجب
عليهما الوفاء بها ، من حسن العشرة والطاعة ، فإن خافا ذلك (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ) أي : لا جناح على الرجل في الأخذ ، وعلى المرأة في
الإعطاء ، بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج ،
فيطلقها لأجله ، وهذا هو الخلع ، وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج ، وأنه يحلّ
له الأخذ مع ذلك الخوف ، وهو الذي صرّح به القرآن. وحكى ابن المنذر عن بعض أهل
العلم : أنه لا يحلّ له ما أخذ ، ولا يجبر على ردّه ، وهذا في غاية السقوط. وقرأ
حمزة : (إِلَّا أَنْ يَخافا) على البناء للمجهول ، والفاعل محذوف ، وهو الأئمة
الحكام واختاره أبو عبيد قال لقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ) فجعل الخوف لغير الزوجين. وقد احتج بذلك من جعل الخلع
إلى السلطان ، وهو سعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين. وقد ضعف النحاس اختيار أبي
عبيد المذكور. وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي : إذا خاف الأئمة والحكام ، أو المتوسطون بين
الزوجين ـ وإن لم يكونوا أئمة وحكاما ـ عدم إقامة حدود الله من الزوجين ، وهي ما
أوجبه عليهما كما سلف. وقد حكي عن بكر بن عبد الله المدني : أن هذه الآية منسوخة
بقوله تعالى في سورة النساء : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الاثنين. وقد
اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر وما
يتبعه ، ورضيت بذلك المرأة ، هل يجوز أم لا؟! وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده
بمقدار معين ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ؛ وروي مثل ذلك عن جماعة من
الصحابة والتابعين ، وقال طاوس ، وعطاء ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق : إنه لا
يجوز. وسيأتي ما ورد في ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وقوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي : أحكام النكاح والفراق المذكورة هي حدود الله التي
أمرتم بامتثالها ، فلا تعتدوها بالمخالفة لها ، فتستحقوا ما ذكره الله من التسجيل
على فاعل ذلك بأنه ظالم. قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) أي : الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله : (تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أي : فإن وقع منه ذلك فقد حرمت عليه بالتثليث (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) أي : حتى تتزوج بزوج آخر. وقد أخذ بظاهر الآية سعيد بن
المسيب ، ومن وافقه قالوا : يكفي مجرد العقد لأنه المراد بقوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وذهب الجمهور من السلف والخلف : إلى أنه لا بدّ مع
العقد من الوطء ، لما ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم من اعتبار ذلك ، وهو زيادة يتعين قبولها ، ولعله لم
يبلغ سعيد بن المسيب ومن تابعه ، وفي الآية دليل على أنه لا بد من أن يكون ذلك
نكاحا شرعيا مقصودا لذاته ، لا نكاحا غير مقصود لذاته ، بل حيلة للتحليل ، وذريعة
إلى ردها إلى الزوج الأوّل ، فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذمّ فاعله ،
وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع ، ولعن من اتخذه لذلك. قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) أي : الزوج الثاني (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) أي : الزوج الأول والمرأة (أَنْ يَتَراجَعا) أي :
__________________
يرجع كل واحد منهما لصاحبه. قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحرّ
إذا طلق زوجته ثلاثا ؛ ثم انقضت عدّتها ؛ ونكحت زوجا ؛ ودخل بها ؛ ثم فارقها ؛
وانقضت عدّتها ؛ ثم نكحها الزوج الأوّل ؛ أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات. قوله :
(إِنْ ظَنَّا أَنْ
يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي : حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر. وأما
إذا لم يحصل ظن ذلك ، بأن يعلما أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله ، أو ترددا أو
أحدهما ولم يحصل لهما الظنّ ، فلا يجوز الدخول في هذا النكاح لأنه مظنة للمعصية
لله والوقوع فيما حرّمه على الزوجين.
وقوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى الأحكام المذكورة كما سلف ، وخص الذين يعلمون
مع عموم الدعوة للعالم وغيره ، ووجوب التبليغ لكل فرد ، لأنهم المنتفعون بالبيان
المذكور. وقد أخرج مالك ، والشافعي ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه قال : كان الرجل إذا طلق
امرأته ؛ ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها ؛ كان ذلك له ؛ وإن طلقها ألف مرة ، فعمد
رجل إلى امرأته فطلقها ، حتى إذا ما دنا وقت انقضاء عدتها ارتجعها ، ثم طلقها ، ثم
قال : والله لا آويك إلي ولا تحلين أبدا ، فأنزل الله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان منهم طلق
ومن لم يطلق. وأخرج نحوه الترمذي ، وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة. وأخرج البخاري عنها : أنها أتتها امرأة فسألتها عن شيء من
الطلاق ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ). وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وأحمد ، وعبد بن
حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن
مردويه ، والبيهقي عن أبي رزين الأسدي قال : قال رجل «يا رسول الله! أرأيت قول
الله : الطّلاق مرّتان ، فأين الثالثة؟ قال : التسريح بإحسان الثالثة». وأخرج نحوه
ابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال :
قال الله للثالثة : (فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي حبيب قال : التسريح
في كتاب الله الطلاق. وأخرج البيهقي من طريق السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من
أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) قالوا : وهو الميقات الذي تكون فيه الرجعة ، فإذا طلق
واحدة أو اثنتين ، فإما أن يمسك ويراجع بمعروف ، وإما أن يسكت عنها حتى تنقضي
عدتها فتكون أحق بنفسها. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في الآية نحوه. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :
كان الرجل يأكل من مال امرأته الذي نحلها وغيره ، لا يرى أن عليه جناحا ، فأنزل
الله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) فلم يصح لهم بعد هذه الآية أخذ شيء من أموالهنّ إلا
بحقها ، ثم قال : (إِلَّا أَنْ يَخافا
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وقال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (إِلَّا أَنْ يَخافا
أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) قال : إلّا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها ،
فتدعوك إلى أن تفتدي منك فلا جناح عليك فيما افتدت به. وأخرج مالك ، والشافعي ،
وأحمد ،
__________________
وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي من طريق عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن
زرارة عن حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها كانت تحت ثابت بن قيس ، وأن رسول الله خرج
إلى الصبح فوجدها عند بابه في الغلس فقال : من هذه؟ قالت : أنا حبيبة بنت سهل ،
فقال : ما شأنك؟ قالت : لا أنا ولا ثابت ؛ فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هذه حبيبة بنت سهل ، قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر ،
فقالت حبيبة : يا رسول الله! كل ما أعطاني عندي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خذ منها ، فأخذ منها» وجلست في أهلها. وأخرج ابن
جرير عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة ، وكانت اشتكته
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تردّين عليه حديقته؟ قالت : نعم ، فدعاه فذكر ذلك له
، فقال : ويطيب لي ذلك ، قال : نعم ، قال ثابت : قد فعلت ، فنزلت : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا) الآية». وأخرج عبد الرزاق ، وأبو داود ، وابن جرير ،
والبيهقي من طريق عمرة عن عائشة نحوه. وأخرج البخاري ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن
مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس أن جميلة بنت عبد الله بن سلول امرأة ثابت ابن قيس
بن شماس «أتت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله! ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق
ولا دين ، ولكن لا أطيقه بغضا ، وأكره الكفر في الإسلام ، قال : أتردّين عليه
حديقته؟ قالت : نعم ، قال : اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة». ولفظ ابن ماجة : «فأمره
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد». وأخرج البيهقي من طريق
عطاء قال : «أتت امرأة النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقالت : إني أبغض زوجي وأحبّ فراقه ، قال : أتردّين عليه
حديقته التي أصدقك؟ قالت : نعم وزيادة ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم أما الزيادة من مالك فلا». وأخرج البيهقي عن أبي الزبير
: أن ثابت بن قيس فذكر القصة ، وفيه «أما الزيادة فلا». وأخرج ابن مردويه بإسناد
جيد عن ابن عباس ، وفيه : أنه أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم ثابتا أن يأخذ ما ساق ولا يزداد. وأخرج البيهقي عن أبي
سعيد وذكر القصة ، وفيها «فردت عليه حديقته وزادت». وأخرج ابن جرير عن عمر أنه قال
في بعض المختلعات «اخلعها ولو من قرطها». وفي لفظ أخرجه عبد الرزاق عنه أنه قال
للزوج : «خذ ولو عقاصها». قال البخاري : أجاز عثمان الخلع دون عقاصها. وأخرج عبد
بن حميد ، والبيهقي عن عطاء أن النبي صلىاللهعليهوسلم كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. وقد ورد في
ذم المختلعات أحاديث منها : عن ثوبان عند أحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، وحسنه ،
وابن ماجة ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيّما امرأة سألت زوجها الطّلاق من غير ما بأس فحرام
عليها رائحة الجنة وقال : المختلعات هنّ المنافقات». ومنها : عن ابن عباس عند ابن
ماجة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تسأل المرأة زوجها الطّلاق في غير كنهه فتجد
ريح الجنة. وإن ريحها ليوجد مسيرة أربعين عاما». ومنها : عن أبي هريرة عند أحمد ،
والنسائي عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «المختلعات والمنتزعات هنّ المنافقات» ومنها : عن
عقبة عند ابن جرير مرفوعا مثل حديث أبي هريرة.
وقد اختلف أهل
العلم في عدة المختلعة ، والراجح أنها تعتدّ بحيضة ، لما أخرجه أبو داود ،
والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتدّ
بحيضة» ولما أخرجه الترمذي عن الربيع بنت معوذ بن عفراء : «أنها اختلعت على
عهد رسول الله ؛ فأمرها النبي صلىاللهعليهوسلم أن تعتدّ بحيضة ، أو أمرت أن تعتد بحيضة». قال الترمذي
: الصحيح أنها أمرت أن تعتدّ بحيضة. وأخرج النسائي ، وابن ماجة عنها أنها قالت :
اختلعت من زوجي ، فجئت عثمان فسألته ماذا عليّ من العدّة؟ فقال : لا عدة عليك إلا
أن يكون حديث عهد بك فتمكثين حتى تحيضي حيضة ، قالت : إنما أتبع في ذلك قضاء رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في مريم المغالية ، وكانت تحت ثابت بن قيس ؛ فاختلعت
منه. وأخرج النسائي عن الربيع بنت معوذ : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم أمر امرأة ثابت بن قيس أن تتربص حيضة واحدة فتلحق
بأهلها» ولم يرد ما يعارض هذا من المرفوع ، بل ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين
: أن عدة المختلعة كعدّة الطلاق ، وبه قال الجمهور. قال الترمذي : وهو قول أكثر
أهل العلم من الصحابة وغيرهم ، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات ،
فهي داخلة تحت عموم القرآن. والحق ما ذكرناه ، لأن ما ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم يخصص عموم القرآن. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ) يقول : فإن طلّقها ثلاثا فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجا
غيره. وأخرج ابن المنذر عن عليّ نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج
الشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ،
والنسائي ، وابن ماجة ، والبيهقي عن عائشة قالت : «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : إنّي كنت عند رفاعة فطلّقني فبتّ طلاقي.
فتزوّجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب ، فتبسّم النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا ، حتّى تذوقي
عسيلته ويذوق عسيلتك». وقد روي نحو هذا عنها من طرق. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي
شيبة ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، والبيهقي عن عمر مرفوعا نحوه.
وأخرج أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي عن أنس مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا نحوه ، ولم يسمّ هؤلاء الثلاثة الصحابة صاحبة
القصة. وأخرج أحمد ، والنسائي عن ابن عباس : «أن العميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلىاللهعليهوسلم» وفي آخره : «فقال صلىاللهعليهوسلم : ليس ذلك لك حتّى يذوق عسيلتك رجل غيره». وقد ثبت لعن
المحلل في أحاديث منها : عن ابن مسعود عند أحمد ، والترمذي ، وصححه ، والنسائي ،
والبيهقي في سننه قال «لعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم المحلّل والمحلّل له» ومنها : عن علي عند أحمد ، وأبي
داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والبيهقي مرفوعا مثل حديث ابن مسعود ، ومنها : عن
جابر مرفوعا عند الترمذي مثله ، ومنها : عن ابن عباس مرفوعا عند ابن ماجة مثله ،
ومنها : عن عقبة بن عامر عند ابن ماجة ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي مرفوعا مثله ،
ومنها : عن أبي هريرة مرفوعا عند أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي مثله ، وفي
الباب أحاديث في ذم التحليل وفاعله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) يقول : إذا تزوجت بعد الأوّل ؛ فدخل بها الآخر ؛ فلا
حرج على الأوّل أن يتزوجها ؛ إذا طلقها الآخر ؛ أو مات عنها ؛ فقد حلت له. وأخرج
ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : (أَنْ يُقِيما حُدُودَ
اللهِ) قال : أمر الله وطاعته.
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))
البلوغ إلى
الشيء : معناه الحقيقي : الوصول إليه ، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا
مجازا لعلاقة مع قرينة كما هنا ، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي ، لأن المرأة
إذا قد بلغت آخر جزء من مدّة العدّة ؛ وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء ؛
فقد خرجت من العدّة ، ولم يبق للزوج عليها سبيل. قال القرطبي في تفسيره : إن معنى (فَبَلَغْنَ) هنا : قاربن ، بإجماع العلماء ، قال : ولأن المعنى يضطر
إلى ذلك ، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك ، والإمساك بمعروف : هو
القيام بحقوق الزوجية ، أي : إذا طلقتم النساء ؛ فقاربن آخر العدّة ؛ فلا تضاروهنّ
بالمراجعة من غير قصد لاستمرار الزوجية واستدامتها بل اختاروا أحد أمرين : إما
الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار ، أو التسريح بإحسان ، أي : تركها حتى تنقضي
عدّتها من غير مراجعة ضرار ، (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِراراً) كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء
عدّتها ، ثم مراجعتها لا عن حاجة ولا لمحبة ، ولكن لقصد تطويل العدّة وتوسيع مدّة
الانتظار (ضِراراً) لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم لهنّ ، (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ) لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه. قال الزجاج : يعني عرّض
نفسه للعذاب ، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) أي : لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزء ، فإنها جدّ
كلها ، فمن هزل فيها فقد لزمته ، نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل ،
فإنه كان يطلق الرجل منهم أو يعتق أو يتزوج ويقول : كنت لاعبا. قال القرطبي ولا
خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه. قوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي : النعمة التي صرتم فيها بالإسلام وشرائعه بعد أن
كنتم في جاهلية جهلاء ، وظلمات بعضها فوق بعض ، والكتاب : هو القرآن. والحكمة :
قال المفسرون : هي السنة التي سنها لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي : يخوفكم بما أنزل عليكم ، وأفرد الكتاب والحكمة
بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولا أوليا ، تنبيها على خطرهما وعظم شأنهما.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل
انقضاء عدّتها ، ثم يطلقها ، فيفعل بها ذلك يضارّها ويعطلها ، فأنزل الله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) الآية. وأخرج نحوه مالك ، وابن جرير ، وابن المنذر عن
ثور بن يزيد. وأخرج نحوه مالك ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ثور بن يزيد. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن الحسن في قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً
لِتَعْتَدُوا) قال : هو الرجل يطلق امرأته ؛ فإذا أرادت أن تنقضي
عدّتها ؛ أشهد على رجعتها ، يريد أن يطول عليها. وأخرج ابن ماجة ، وابن جرير ،
والبيهقي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله؟ يقول : قد طلّقتك ،
قد راجعتك ، قد طلّقتك ، قد راجعتك ، ليس هذا طلاق
المسلمين ، طلّقوا المرأة في قبل عدّتها ». وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبادة بن
الصامت قال : كان الرجل على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول للرجل : زوّجتك ابنتي ، ثم يقول كنت لاعبا ، ويقول
: قد أعتقت ، ويقول : كنت لاعبا ، فأنزل الله سبحانه : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث من قالهنّ لاعبا أو غير لاعب فهنّ جائزات عليه
: الطّلاق ؛ والنّكاح ، والعتاق». وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان
الرجل يطلق ثم يقول : لعبت ؛ ويعتق ثم يقول : لعبت ؛ فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من طلق أو أعتق فقال لعبت فليس قوله بشيء ، يقع عليه
فيلزمه». وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن عباس قال : طلق رجل امرأته وهو يلعب ، لا
يريد الطلاق ، فأنزل الله : (وَلا تَتَّخِذُوا
آياتِ اللهِ هُزُواً) فألزمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم الطلاق. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن الحسن مرفوعا نحو حديث عبادة. وأخرج أبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، وابن
ماجة ، والحاكم ، وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : النّكاح ، والطّلاق ،
والرّجعة».
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ
كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ
وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))
الخطاب في هذه
الآية بقوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ) وبقوله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) إما أن يكون للأزواج ، ويكون معنى العضل منهم : أن
يمنعوهن من أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ لحمية الجاهلية ، كما
يقع كثيرا من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت
غيرهم ، لأنهم لما نالوه من رئاسة الدنيا ؛ وما صاروا فيه من النخوة والكبرياء ؛
يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم ، إلا من عصمه الله منهم بالورع والتواضع ؛
وإما أن يكون الخطاب للأولياء ، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم : أنهم سبب له
لكونهم المزوّجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهنّ. وبلوغ الأجل المذكور
هنا ، المراد به : المعنى الحقيقي ، أي : نهايته لا كما سبق في الآية الأولى.
والعضل : الحبس. وحكى الخليل : دجاجة معضلة : قد احتبس بيضها ؛ وقيل : العضل :
التضييق والمنع ، وهو راجع إلى معنى الحبس ، يقال : أردت أمرا فعضلتني عنه ، أي :
منعتني وضيقت عليّ ، وأعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل. وقال الأزهري : أصل
العضل : من قولهم عضلت الناقة : إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه ، وعضلت الدجاجة :
نشب بيضها ، وكل مشكل عند العرب معضل ، ومنه قول الشافعي رحمهالله :
إذا المعضلات
تصدّين لي
|
|
كشفت خفاء
لها بالنّظر
|
__________________
ويقال : أعضل
الأمر : إذا اشتد ، وداء عضال : أي : شديد عسير البرء أعيا الأطباء ، وعضل فلان
أيّمه : أي : منعها ، يعضلها بالضم والكسر لغتان. قوله : (أَنْ يَنْكِحْنَ) أي : من أن ينكحن ، فمحله الجر عند الخليل ، والنصب عند
سيبويه والفراء ؛ وقيل : هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في قوله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ). وقوله : (أَزْواجَهُنَ) إن أريد به المطلقون لهنّ ؛ فهو مجاز باعتبار ما كان ،
وإن أريد به من يردن أن يتزوّجنه ؛ فهو مجاز باعتبار ما سيكون ، وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى ما فصل من الأحكام ، وإنما أفرد مع كون المذكور
قبله جمعا حملا على معنى الجمع بتأويله بالفريق ونحوه. وقوله : (ذلِكُمْ) محمول على لفظ الجمع ، خالف سبحانه ما بين الإشارتين
افتنانا. وقوله : (أَزْكى) أي : أنمى وأنفع (وَأَطْهَرُ) من الأدناس (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما لكم فيه الصلاح (وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) ذلك.
وقد أخرج
البخاري ، وأهل السنن ، وغيرهم عن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت فأتاني ابن عم
فأنكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة
، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقلت له : يا لكع أكرمتك بها وزوّجتكها
فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبدا ؛ وكان رجلا لا بأس به ، وكانت
المرأة تريد أن ترجع إليه ، فعلم الله حاجته إليها ، وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل
الله قوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ) الآية ، قال : ففيّ نزلت الآية ، فكفرت عن يميني ،
وأنكحتها إياه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في
الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين ، فتنقضي عدّتها ، ثم يبدو له تزويجها ، وأن
يراجعها وتريد المرأة ذلك ، فمنعها وليها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر عن السدّي قال : نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله
الأنصاري ، كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة ، وانقضت عدّتها ، فأراد مراجعتها
، فأتى جابر ، فقال : طلقت بنت عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية ، وكانت المرأة
تريد زوجها ، فأنزل الله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ) يعني : بمهر وبينة ونكاح مؤتنف . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنكحوا الأيامى ، فقال رجل : يا رسول الله! ما
العلائق بينهم؟ قال : ما تراضى عليه أهلهنّ». وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) قال : الله يعلم من حبّ كل واحد منهما لصاحبه ما لا
تعلم أنت أيها الوليّ.
(وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ
أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ
أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا
سَلَّمْتُمْ ما
__________________
آتَيْتُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (٢٣٣))
لما ذكر الله
سبحانه النكاح والطلاق ، ذكر الرضاع ، لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد ، ولهذا
قيل : إن هذا خاصّ بالمطلقات ؛ وقيل : هو عام. وقوله : (يُرْضِعْنَ) قيل : هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه ؛
وقيل : هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله : (يَتَرَبَّصْنَ) وقوله : (كامِلَيْنِ) تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي.
وقوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) أي : ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وفيه دليل على أن
إرضاع الحولين ليس حتما ، بل هو التمام ، ويجوز الاقتصار على ما دونه. وقرأ مجاهد
، وابن محيصن : «لمن أراد أن تتم» بفتح التاء ، ورفع الرضاعة ، على إسناد الفعل
إليها. وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، والجارود بن أبي سبرة : بكسر الراء من
الرضاعة وهي لغة. وروي عن مجاهد أنه قرأ : الرضعة ، وقرأ ابن عباس : «لمن أراد أن
يكمل الرضاعة». قال النحاس : لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء. وحكى
الكوفيون جواز الكسر. والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها ، وقد حمل ذلك
على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها. قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ) أي : على الأب الذي يولد له ، وآثر هذا اللفظ دون قوله
: وعلى الوالد ، للدلالة على أن الأولاد للآباء ، لا للأمهات ، ولهذا ينسبون إليهم
دونهنّ ، كأنهنّ إنما ولدن لهم فقط ، ذكر معناه في الكشاف ، والمراد بالرزق هنا :
الطعام الكافي المتعارف به بين الناس ، والمراد بالكسوة : ما يتعارفون به أيضا ؛
وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات. وهذا في المطلقات ، وأما
غير المطلقات فنفقتهنّ وكسوتهنّ واجبة على الأزواج من غير إرضاعهنّ لأولادهنّ.
وقوله : (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ
إِلَّا وُسْعَها) هو تقييد لقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) أي : هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما
يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه ، وطاقته ، لا ما يشق عليه ويعجز
عنه ؛ وقيل : المراد : لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ، ولا يكلف
الزوج ما هو إسراف ؛ بل يراعى القصد. قوله : (لا تُضَارَّ) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وجماعة ، ورواه أبان عن
عاصم : بالرفع على الخبر ؛ وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في
المشهور عنه : «تضارّ» بفتح الراء المشدّدة على النهي ، وأصله : لا تضارر ، على
البناء للفاعل أو المفعول ، أي : لا تضارر الأب بسبب الولد ، بأن تطلب منه ما لا
يقدر عليه من الرزق والكسوة ، أو : بأن تفرط في حفظ الولد ، والقيام بما يحتاج
إليه ؛ أو : لا تضارر من زوجها ، بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه أو ينتزع
ولدها منها بلا سبب ، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين ؛ وقرأ عمر بن الخطاب : «لا
تضارر» على الأصل بفتح الراء الأولى ؛ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «لا تضار»
بإسكان الراء وتخفيفها ، وروي عنه الإسكان والتشديد ؛ وقرأ الحسن وابن عباس «لا
تضارر» بكسر الراء الأولى ؛ ويجوز أن تكون الباء في قوله : بولده ، صلة لقوله
تضارّ ، على أنه بمعنى تضر ، أي : لا تضرّ والدة بولدها ، فتسيئ تربيته ، أو تقصر
في غذائه ؛ وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم ، لأن كل واحد منهما يستحق
أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف ، وهذا الجملة تفصيل للجملة التي قبلها
وتقرير لها ، أي : لا يكلف كل واحد
منهما الآخر ما لا يطيقه ، فلا تضاره بسبب ولده. قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ) هو معطوف على قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ) وما بينهما تفسير للمعروف ، أو تعليل له معترض بين
المعطوف والمعطوف عليه. واختلف أهل العلم في معنى قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) فقيل : هو وارث الصبي ، أي : إذا مات المولود له ؛ كان
على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه ، كما كان يلزم أباه ذلك ، قاله عمر بن الخطاب
، وقتادة ، والسدّي ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ،
وابن أبي ليلى على خلاف بينهم : هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيبا من الميراث؟ أو
على الذكور فقط؟ أو على كل ذي رحم له وإن لم يكن وارثا منه؟ وقيل : المراد بالوارث
: وارث الأب عليه نفقة المرضعة ، وكسوتها بالمعروف ، قاله مالك في تفسير هذه الآية
بمثل ما قاله الضحاك ، ولكنه قال : إنها منسوخة ، وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ ،
ولا ذي قرابة ، ولا ذي رحم منه ؛ وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبيّ مال ، فإن كان
له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله. وقيل : المراد بالوارث المذكور في الآية : هو
الصبي نفسه : أي : عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله ، قاله
قبيصة بن ذؤيب ، وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز. وروي عن الشافعي ؛ وقيل :
هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما ، فإذا مات الأب كان على الأم
كفاية الطفل إذا لم يكن له مال ، قاله سفيان الثوري ؛ وقيل : إن معنى قوله تعالى :
(وَعَلَى الْوارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ) أي : وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت
الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية. وقيل : إن معنى قوله تعالى : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب ، وبه
قالت طائفة من أهل العلم ، قالوا : وهذا هو الأصل ، فمن ادّعى أنه يرجع فيه العطف
إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل. قال القرطبي : وهو الصحيح ، إذ لو أراد الجميع
الذي هو الرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال : وعلى الوارث مثل هؤلاء ، فدل على أنه
معطوف على المنع من المضارّة ، وعلى ذلك تأوّله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد
الوهاب. قال ابن عطية ، وقال مالك ، وجميع أصحابه ، والشعبي ، والزهري ، والضحاك ،
وجماعة من العلماء : المراد بقوله مثل ذلك : أن لا تضارّ. وأما الرزق ، والكسوة ،
فلا يجب شيء منه. وحكى ابن القاسم عن مالك : مثل ما قدمنا عنه في تفسير هذه الآية
ودعوى النسخ. ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة ، فإن ما خصصوا به معنى
قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ) من ذلك المعنى : أي : عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده
قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها) لصدق ذلك على كل مضارّة ترد عليها من المولود له أو
غيره. وأما قول القرطبي : لو أراد الجميع لقال : مثل هؤلاء ، فلا يخفى ما فيه من
الضعف البين ، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل : المذكور أو
نحوه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الأوّل : من أن المراد بالوارث : وارث الصبيّ ،
فيقال عليه : إن لم يكن وارثا حقيقة مع وجود الصبيّ حيا ، بل هو وارث مجازا
باعتبار ما يؤول إليه. وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني : فهو وإن كان فيه حمل
الوارث على معناه الحقيقي ، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبيّ ما فيه ،
ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيرا ، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما
تقدّم من ذكر الوالدات والمولود له
والولد ، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم. قوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) الضمير للوالدين. والفصال : الفطام عن الرضاع ، أي :
التفريق بين الصبيّ والثدي ، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه. وقوله : (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) أي : صادرا عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل
الحولين (فَلا جُناحَ
عَلَيْهِما) في ذلك الفصال. سبحانه لما بين أن مدّة الرضاع حولين
كاملين قيد ذلك بقوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبيّ قبل
الحولين كان ذلك جائزا له ، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما ، فلا بدّ
من الجمع بين الأمرين بأن يقال : إن الإرادة المذكورة في قوله : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) لا بدّ أن تكون منهما ، أو يقال : إن تلك الإرادة إذا
لم يكن الأبوان للصبيّ حيين بأن كان الموجود أحدهما ، أو كانت المرضعة للصبي ظئرا
غير أمه. والتشاور : استخراج الرأي ، يقال : شرت العسل : استخرجته ، وشرت الدابة :
أجريتها لاستخراج جريها ، فلا بدّ لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي
الآخر ، ويشاوره ، حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك. قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلادَكُمْ) قال الزجاج : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير
الوالدة. وعن سيبويه أنه حذف اللام لأنه يتعدّى إلى مفعولين ، والمفعول الأول
محذوف ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم (إِذا سَلَّمْتُمْ ما
آتَيْتُمْ) بالمدّ ، أي : أعطيتم ، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير
، فإنه قرأ بالقصر ، أي : فعلتم ، ومنه قول زهير :
وما كان من
خير أتوه فإنّما
|
|
توارثه آباء
آبائهم قبل
|
والمعنى : أنه
لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتهم ؛ إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ
بحساب ما قد أرضعن لكم إلى وقت إرادة الاسترضاع ، قاله سفيان الثوري ومجاهد. وقال
قتادة ، والزهري : إن معنى الآية : إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي :
سلم كل واحد من الأبوين ، ورضي ، وكان ذلك عن اتفاق منهما ، وقصد خير ، وإرادة
معروف من الأمر ، وعلى هذا فيكون قوله : (سَلَّمْتُمْ) عاما للرجال والنساء تغليبا ، وعلى القول الأول الخطاب
للرجال فقط ؛ وقيل : المعنى : إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها ، فيكون المعنى
إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه ، أي : إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف : أي : بما
يتعارفه الناس من أجر المرضعات ، من دون مماطلة لهنّ ، أو حط بعض ما هو لهنّ من
ذلك ، فإن عدم توفير أجرهنّ يبعثهن على التساهل بأمر الصبيّ والتفريط في شأنه.
وقد أخرج عبد
الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) قال : المطلقات. (حَوْلَيْنِ) قال : سنتين. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها) يقول : لا تأبى أن ترضعه لتشق على أبيه. (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) يقول : ولا يضارّ الولد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه
ليحزنها لذلك. (وَعَلَى الْوارِثِ) قال : يعني : الوليّ من كان. (مِثْلُ ذلِكَ) قال : النفقة بالمعروف ، وكفالته ، ورضاعه ، إن لم يكن
للمولود مال ، وأن لا تضارّ أمه. (فَإِنْ أَرادا
فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) قال : غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما فلا
جناح عليهما. (وَإِنْ أَرَدْتُمْ
أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) قال : خيفة الضيعة على الصبيّ. (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا
سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : حساب ما أرضع به الصبيّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن
سعيد بن جبير في تفسيره هذه الآية أنه قال : المراد بقوله : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) هي في الرجل يطلق امرأته وله منها ولد. وقال في قوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) قال : ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها. وأخرج أبو
داود في ناسخه عن زيد بن أسلم في قوله : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) قال : إنها المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها. وأخرج سعيد
بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في
التي تضع لستة أشهر : أنها ترضع حولين كاملين ، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة
وعشرين شهرا ، لتمام ثلاثين شهرا ، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا ،
ثم تلا : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قال : على قدر الميسرة. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن
أبي حاتم عن زيد بن أسلم في قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه ، وليس له
أن يضارها فينتزع منها ولدها وهي تحب أن ترضعه (وَعَلَى الْوارِثِ) قال : هو وليّ الميت. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء ،
وإبراهيم ، والشعبي في قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ) قال : هو وارث الصبي ينفق عليه. وأخرج عبد الرزاق ،
وعبد بن حميد عن قتادة نحوه ، وزاد : إذا كان المولود لا مال له مثل الذي على
والده من أجر الرضاع. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن
حميد عن ابن سيرين نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير عن قبيصة بن ذؤيب في قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قال : هو الصبيّ. وأخرج وكيع عن عبد الله بن مغفل نحوه.
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قال : لا يضارّ. وأخرج ابن جرير عن الضحاك (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) قال : الفطام. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير عن مجاهد. قال : التشاور فيما دون الحولين ، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى ،
وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى. وأخرجوا أيضا عن عطاء في قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلادَكُمْ) قال : أمه أو غيرها. (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ) قال : إذا سلّمت لها أجرها. (ما آتَيْتُمْ) : ما أعطيتم.
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤))
لما ذكر سبحانه
عدّة الطلاق ؛ واتصل بذكرها ذكر الإرضاع ؛ عقب ذلك بذكر عدّة الوفاة ، لئلا يتوهم
أن عدّة الوفاة مثل عدّة الطلاق. قال الزجاج : ومعنى الآية : والرجال الذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا ، أي : ولهم زوجات ، فالزوجات يتربصن. وقال أبو علي الفارسي :
تقديره : والذين يتوفون منكم ويذرون
__________________
أزواجا يتربصن بعدهم ، وهو كقولك : السمن منوان بدرهم ، أي : منه. وحكى
المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون ؛ وقيل التقدير :
وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ؛ ذكره صاحب الكشاف ، وفيه أن قوله : (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) لا يلائم ذلك التقدير ، لأن الظاهر من النكرة المعادة
المغايرة. وقال بعض النحاة من الكوفيين : إن الخبر عن : الذين ، متروك ، والقصد
الإخبار عن أزواجهم بأنهنّ يتربصن. ووجه الحكمة في جعل العدّة للوفاة هذا المقدار
أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر ، والأنثى لأربعة ، فزاد الله سبحانه
على ذلك عشرا ، لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلا ولا تتأخر عن
هذا الأجل. وظاهر هذه الآية العموم ، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدّتها هذه العدّة
، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى : (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وإلى هذا ذهب الجمهور. وروي عن بعض الصحابة وجماعة من
أهل العلم : أن الحامل تعتدّ بآخر الأجلين ، جمعا بين العام والخاص ، وإعمالا لهما
، والحق ما قاله الجمهور ، والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين
اللغة ولا قواعد الشرع ، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن
حكمه مغاير لحكم العام ومخالف له. وقد صح عنه صلىاللهعليهوسلم أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوّج بعد الوضع والتربص الثاني
والتصبر عن النكاح. وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرّة والأمة
وذات الحيض والآيسة ، وأن عدتهنّ جميعا للوفاة أربعة أشهر وعشر ، وقيل إنّ عدة
الأمة نصف عدّة الحرة شهران وخمسة أيام. قال ابن العربي : إجماعا إلا ما يحكى عن
الأصم فإنه سوّى بين الحرة والأمة ، وقال الباجي : ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما
يروى عن ابن سيرين أنه قال عدّتها عدّة الحرّة ، وليس بالثابت عنه ، ووجه ما ذهب
إليه الأصمّ وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم ، ووجه ما ذهب إليه من عداهما
قياس عدّة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة بقوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى
الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) . وقد تقدم حديث : «طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان»
وهو صالح للاحتجاج به ، وليس المراد منه : إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة
، وعدّتها على النصف من عدّتها ، ولكنه لما لم يمكن أن يقال طلاقها تطليقة ونصف ،
وعدّتها حيضة ونصف ، لكون ذلك لا يعقل ، كانت عدّتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في
الحديث جبرا للكسر ، ولكن هاهنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور ، وهو
أن الحكمة في جعل عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرا هو ما قدّمنا من معرفة خلوّها من
الحمل ، ولا يعرف إلا بتلك المدّة ، ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك ، بخلاف
كون عدتها في غير الوفاة حيضتين ، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم ، ويؤيد عدم الفرق ما
سيأتي في عدّة أم الولد. واختلف أهل العلم في عدّة أم الولد لموت سيدها. فقال سعيد
بن المسيب ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، والزهري ، وعمر بن
عبد العزيز ، والأوزاعي ، وإسحاق ابن راهويه ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه : أنها
تعتدّ بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلىاللهعليهوسلم «عدّة أمّ الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر». أخرجه أحمد ، وأبو
داود ، وابن ماجة ، والحاكم ، وصححه ، وضعفه أحمد ، وأبو عبيد. قال الدارقطني :
الصواب أنه موقوف. وقال طاوس وقتادة : عدّتها
__________________
شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح : تعتدّ
بثلاث حيض ، وهو قول عليّ ، وابن مسعود ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي. وقال مالك ،
والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه : عدّتها حيضة ، وغير الحائض شهر ، وبه يقول ابن
عمر ، والشعبي ، ومكحول ، والليث ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، والجمهور. قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) المراد بالبلوغ هنا : انقضاء العدّة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَ) من التزين ، والتعرّض للخطاب (بِالْمَعْرُوفِ) الذي لا يخالف شرعا ولا عادة مستحسنة. وقد استدل بذلك :
على وجوب الإحداد على المعتدة عدة الوفاة. وقد ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما من غير
وجه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ
على ميّت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» وكذلك ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم في الصحيحين وغيرهما : النهي عن الكحل لمن هي في عدّة
الوفاة. والإحداد : ترك الزينة من الطيب ، ولبس الثياب الجيدة ، والحليّ ، وغير
ذلك ، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدّة الوفاة ، ولا خلاف في عدم وجوبه في عدّة
الرجعية ، واختلفوا في عدّة البائنة على قولين ، ومحل ذلك كتب الفروع.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته
ينفق عليها من ماله. ثم أنزل الله (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الآية ، فهذه عدة المتوفى عنها إلا أن تكون حاملا ،
فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ ..) فبين ميراث المرأة ، وترك الوصية والنفقة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
جُناحَ عَلَيْكُمْ) يقول : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت
عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرّض للتزويج ، فذلك المعروف. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي العالية قال : ضمت هذه الأيام العشر إلى
الأربعة أشهر ، لأن في العشر ينفخ فيه الروح. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله
: (فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَ) يقول : إذا انقضت عدتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
شهاب في قوله : (فَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ) يعني : أولياءها. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن ابن عباس : أنه كره للمتوفى
عنها زوجها الطيب والزينة. وأخرج مالك ، وعبد الرزاق ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي
، والحاكم عن الفريعة بنت مالك بن سنان ، وهي أخت أبي سعيد الخدري : أنها جاءت إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم تسأل أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، وأن زوجها خرج في
طلب أعبد لها أبقوا حتى إذا تطرّف القدوم لحقهم فقتلوه ، قالت : فسألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا
نفقة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم نعم ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد
فدعاني أو أمر بي فدعيت ، فقال : كيف قلت؟ قالت : فرددت إليه القصة التي ذكرت له
من شأن زوجي ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت : فاعتددت فيه
أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليّ فسألني عن ذلك
فأخبرته ، فاتبعه وقضى به.
(وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي
أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
__________________
سَتَذْكُرُونَهُنَّ
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))
الجناح : الإثم
، أي : لا إثم عليكم ؛ والتعريض : ضد التصريح ، وهو من عرض الشيء ، أي : جانبه ،
كأنه يحوم به حول الشيء ولا يظهره ؛ وقيل : هو من قولك : عرضت الرجل ، أي : أهديت
له. ومنه : أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر ثيابا بيضا ، أي : أهدوا لهما ، فالمعرض
بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه. وقال في الكشاف : الفرق بين الكناية
والتعريض ، أن الكناية : أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له. والتعريض : أن يذكر
شيئا يدل به على شيء لم يذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك
، ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم منّي تقاضيا
كأنه إمالة
الكلام إلى عرض يدل على الغرض ، ويسمى : التلويح ، لأنه يلوح منه ما يريده. انتهى.
والخطبة بالكسر : ما يفعله الطالب من الطلب ، والاستلطاف بالقول والفعل ، يقال :
خطبها يخطبها خطبة وخطبا. وأما الخطبة بضم الخاء : فهي الكلام الذي يقوم به الرجل
خاطبا. وقوله : (أَكْنَنْتُمْ) معناه : سترتم ، وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة.
والإكنان : التستر والإخفاء ، يقال : أكننته وكننته بمعنى واحد. ومنه : بيض مكنون
، ودر مكنون. ومنه أيضا : أكنّ البيت صاحبه ، أي : ستره. وقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَ) أي : علم الله أنكم لا تصبرون عن النطق لهنّ برغبتكم
فيهن ، فرخص لكم في التعريض دون التصريح. وقال في الكشاف : إن فيه طرفا من التوبيخ
كقوله : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) . وقوله : (وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) معناه : على سرّ ، فحذف الحرف لأن الفعل لا يتعدّى إلى
المفعولين. وقد اختلف العلماء في معنى السر ، فقيل : معناه : نكاحا ، أي : لا يقل
الرجل لهذه المعتدّة تزوّجيني ، بل يعرض تعريضا. وقد ذهب إلى أن معنى الآية هذا
جمهور العلماء ، وقيل السرّ : الزنا ، أي : لا يكن منكم مواعدة على الزنا في
العدّة ثم التزويج بعدها. قاله جابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والحسن ، وقتادة ،
والضحاك ، والنخعي ، واختاره ابن جرير الطبري ، ومنه قول الحطيئة :
ويحرم سرّ
جارتهم عليهم
|
|
ويأكل جارهم
أنف القصاع
|
وقيل : السرّ :
الجماع ، أي : لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع ترغيبا لهنّ في النكاح ، وإلى
هذا ذهب الشافعي في معنى الآية ، ومنه قول امرئ القيس :
ألا زعمت
بسباسة اليوم أنّني
|
|
كبرت وأن لا
يحسن السرّ أمثالي
|
ومثله قول
الأعشى :
فلن يطلبوا
سرّها للغنى
|
|
ولن يسلموها
لإزهادها
|
__________________
أراد : تطلبون
نكاحها لكثرة مالها ، ولن تسلموها لقلة مالها ، والاستدراك بقوله : (وَلكِنْ) من مقدّر محذوف دلّ عليه (سَتَذْكُرُونَهُنَ) أي : فاذكروهنّ (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ
سِرًّا). قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة
بما هو رفث : من ذكر جماع ، أو تحريض عليه ، لا يجوز. وقال أيضا : أجمعت الأمة على
كراهة المواعدة في العدّة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر وللسيد في أمته.
قوله : (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا
قَوْلاً مَعْرُوفاً) قيل : هو استثناء منقطع بمعنى : لكن ، والقول المعروف :
هو ما أبيح من التعريض. ومنه صاحب الكشاف أن يكون منقطعا وقال : هو مستثنى من قوله
: (لا تُواعِدُوهُنَ) أي : لا تواعدوهن مواعدة قط ؛ إلا مواعدة معروفة غير
منكرة ، فجعله على هذا استثناء مفرغا ، ووجه منع كونه منقطعا : أنه يؤدي إلى جعل
التعريض موعودا وليس كذلك ، لأن التعريض طريق المواعدة ، لا أنه الموعود في نفسه.
قوله : (وَلا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكاحِ) قد تقدّم الكلام في معنى العزم ، يقال : عزم الشيء ،
وعزم عليه ، والمعنى هنا : لا تعزموا على عقدة النكاح ثم حذف على. قال سيبويه :
والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه. وقال النحاس : يجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا
عقدة النكاح ، لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد ؛ وقيل : إن العزم على الفعل يتقدّمه
فيكون في هذا النهي مبالغة ، لأنه إذا نهى عن المتقدم على الشيء ، كان النهي عن
ذلك الشيء بالأولى. قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتابُ أَجَلَهُ) يريد حتى تنقضي العدّة ، والكتاب هنا : هو الحدّ ،
والقدر الذي رسم من المدّة ، سماه : كتابا ، لكونه محدودا ، ومفروضا ، كقوله تعالى
: (إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) وهذا الحكم أعني : تحريم عقد النكاح في العدّة مجمع
عليه.
وقد أخرج عبد
الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري وابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما
عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) قال : التعريض أن تقول : إني أريد التزويج ، وإني لأحب
المرأة من أمرها وأمرها ، وإن من شأني النساء ، ولوددت أن الله يسر لي امرأة
صالحة. وأخرج ابن جرير عنه أنه يقول لها : إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك ، ولوددت
أن الله قد هيأ بيني وبينك ، ونحو هذا من الكلام. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : يقول إني فيك لراغب ، ولوددت أني تزوجتك. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن في قوله : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) قال : أسررتم. وأخرج عبد الرزاق عن الضحاك مثله. وأخرج
ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن في قوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَ) قال : بالخطيئة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن
مجاهد قال : ذكره إياها في نفسه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله : (وَلكِنْ لا
تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) قال : يقول لها إني عاشق ، وعاهديني أن لا تتزوّجي غيري
، ونحو هذا (إِلَّا أَنْ
تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) وهو قوله : إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك. وأخرج ابن
جرير عنه في السرّ : أنه الزنا ، كان الرجل يدخل من أجل الزنا وهو يعرض بالنكاح.
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر في قوله : (إِلَّا أَنْ
تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال : يقول إنك لجميلة ، وإنك إليّ خير ، وإن النساء من
حاجتي. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلا تَعْزِمُوا
__________________
عُقْدَةَ
النِّكاحِ)
قال : لا
تنكحوا (حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتابُ أَجَلَهُ) قال : حتى تنقضي العدّة.
(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ
إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ
فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))
المراد بالجناح
هنا : التبعة من المهر ونحوه ، فرفعه رفع لذلك ، أي : لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه
؛ إن طلقتم النساء على الصفة المذكورة ، و «ما» في قوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) هي مصدرية ظرفية بتقدير المضاف : أي مدّة عدم مسيسكم.
ونقل أبو البقاء : أنها شرطية ؛ من باب اعتراض الشرط على الشرط ؛ ليكون الثاني
قيدا للأوّل كما في قولك : إن تأتني إن تحسن إليّ أكرمك ، أي : إن تأتني محسنا
إليّ ؛ والمعنى : إن طلقتموهن غير ماسين لهنّ. وقيل : إنها موصولة ، أي : إن طلقتم
النساء اللاتي لم تمسوهن ، وهكذا اختلفوا في قوله : (أَوْ تَفْرِضُوا) فقيل : أو : بمعنى إلا ، أي : إلا أن تفرضوا ؛ وقيل :
بمعنى : حتى ، أي : حتى تفرضوا ؛ وقيل : بمعنى : الواو ، أي : وتفرضوا. ولست أرى
لهذا التطويل وجها ، ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس ، فإن الله سبحانه رفع الجناح
عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين : أي مدّة انتفاء ذلك الأحد ، ولا ينتفي الأحد
المبهم إلا بانتفاء الأمرين معا ، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل ، وإن
وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس ، وكل واحد منها جناح ، أي : المسمى ، أو نصفه ،
أو مهر المثل. واعلم أن المطلقات أربع : مطلقة مدخول بها مفروض لها ، وهي التي
تقدّم ذكرها قبل هذه الآية ، وفيها نهي الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهنّ شيئا ،
وأن عدّتهن ثلاثة قروء. ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها ، وهي المذكورة هنا
فلا مهر لها ، بل المتعة ، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا
عدّة عليها. ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ، وهي المذكورة بقوله تعالى هنا : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) ، ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ، وهي المذكورة في
قوله تعالى : (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) والمراد بقوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) ما لم تجامعوهنّ ، وقرأ ابن مسعود : «من قبل أن
تجامعوهنّ» أخرجه عنه ابن جرير ؛ وقرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر
، وعاصم : «ما لم تمسوهنّ» وقرأه حمزة ، والكسائي : «تماسّوهنّ» من المفاعلة ،
والمراد بالفريضة هنا : تسمية المهر. قوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) أي : أعطوهن شيئا يكون متاعا لهنّ ، وظاهر الأمر الوجوب
، وبه قال علي ، وابن عمر ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وأبو قلابة ، والزهري
، وقتادة ، والضحاك. ومن أدلة الوجوب قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها
فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) وقال مالك ، وأبو عبيد ، والقاضي شريح ، وغيرهم : إن
المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) ولو كانت واجبة لأطلقها
__________________
على الخلق أجمعين ، ويجاب عنه : بأن ذلك لا ينافي الوجوب ، بل هو تأكيد له
، كما في قوله في الآية الأخرى : (حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ) أي : أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى ، كل
مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه ، وقد وقع الخلاف أيضا : هل المتعة مشروعة لغير
هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أم ليست بمشروعة إلا لها فقط؟ فقيل : إنها مشروعة
لكل مطلقة ، وإليه ذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير
، وأبو العالية ، والحسن البصري ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد ، وإسحاق ،
ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط؟
واستدلوا بقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وبقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) والآية الأولى عامة لكل مطلقة ، والثانية في أزواج
النبي صلىاللهعليهوسلم وقد كنّ مفروضا لهنّ مدخولا بهنّ. وقال سعيد بن المسيب
: إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَ) قال : هذه الآية التي في الأحزاب نسخت التي في البقرة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى : أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية ،
لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى ، أو مهر المثل ، وغير المدخولة التي قد فرض
لها زوجها فريضة ، أي : سمى لها مهرا ، وطلقها قبل الدخول ، تستحق نصف المسمى ،
ومن القائلين بهذا ابن عمر ، ومجاهد. وقد وقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول
والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة. وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أن
لها المتعة ، وقال الأوزاعي والثوري : لا متعة لها لأنها تكون لسيدها ، وهو لا
يستحق ما لا في مقابل تأذي مملوكته ، لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل
الدخول والفرض ، لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك. وقد اختلفوا في المتعة المشروعة هل
هي مقدّرة بقدر أم لا؟ فقال مالك ، والشافعي في الجديد : لا حدّ لها معروف ، بل ما
يقع عليه اسم المتعة. وقال أبو حنيفة : إنه إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب
لها نصف مهر مثلها ، ولا ينقص عن خمسة دراهم ، لأن أقل المهر عشرة دراهم. وللسلف
فيها أقوال سيأتي ذكرها إن شاء الله. وقوله : (عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج ، فالمتعة من
الغني فوق المتعة من الفقير. وقرأ الجمهور : على الموسع بسكون الواو وكسر السين ،
وهو الذي اتسعت حاله. وقرأ أبو حيوة : بفتح الواو وتشديد السين وفتحها. وقرأ نافع
، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم في رواية أبي بكر : قدره بسكون الدال فيهما. وقرأ
ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما. قال الأخفش
وغيره : هما لغتان فصيحتان ، وهكذا يقرأ في قوله تعالى : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) . وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) والمقتر : المقلّ ، ومتاعا : مصدر مؤكد لقوله : (وَمَتِّعُوهُنَ) ، والمعروف : ما عرف في الشرع ، والعادة الموافقة له.
وقوله : (حَقًّا) وصف لقوله : (مَتاعاً) أو : مصدر لفعل محذوف ، أي : حق ذلك حقا ، يقال : حققت
عليه القضاء وأحققت ، أي : أوجبت. قوله : (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) الآية ، فيه دليل على أن المتعة لا تجب لهذه المطلقة
__________________
لوقوعها في مقابلة المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة. وقوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي : فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر ، وهذا
مجمع عليه. وقرأ الجمهور : (فَنِصْفُ) بالرفع. وقرأ من عدا الجمهور : بالنصب ، أي : فادفعوا
نصف ما فرضتم ، وقرئ أيضا : بضم النون وكسرها ، وهما لغتان. وقد وقع الاتفاق أيضا
على : أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات ؛ وقد فرض لها مهرا ؛ تستحقه كاملا
بالموت ، ولها الميراث وعليها العدة. واختلفوا في الخلوة : هل تقوم مقام الدخول
وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك ،
والشافعي في القديم ، والكوفيون ، والخلفاء الراشدون ، وجمهور أهل العلم ، وتجب
عندهم أيضا العدّة. وقال الشافعي في الجديد : لا يجب إلا نصف المهر ، وهو ظاهر
الآية ، لما تقدّم من أن المسيس هو الجماع ، ولا تجب عنده العدة ، وإليه ذهب جماعة
من السلف. قوله : (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) أي : المطلقات ، ومعناه : يتركن ويصفحن ، ووزنه يفعلن ،
وهو استثناء مفرغ من أعمّ العام ، وقيل : منقطع ، ومعناه : يتركن النصف الذي يجب
لهنّ على الأزواج. ولم تسقط النون مع أن ، لأن جمع المؤنث في المضارع على حالة
واحدة في الرفع ، والنصب ، والجزم لكون النون ضميرا ، وليست بعلامة إعراب كما في
المذكر في قولك : الرجال يعفون ، وهذا عليه جمهور المفسرين. وروي عن محمد بن كعب
القرظي أنه قال : (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) يعني : الرجال وهو ضعيف لفظا. ومعنى قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكاحِ) معطوف على محل قوله : «إلا أن يعفون» لأن الأول مبني
وهذا معرب ؛ قيل هو الزوج ، وبه قال جبير بن مطعم ، وسعيد بن المسيب ، وشريح ،
وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، ونافع ، وابن سيرين ، والضحاك ،
ومحمد بن كعب القرظي ، وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والربيع بن أنس ، وإياس بن
معاوية ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وهو الجديد من قولي الشافعي ، وبه قال أبو
حنيفة وأصحابه ، والثوري ، وابن شبرمة ، والأوزاعي ، ورجحه ابن جرير. وفي هذا
القول قوّة وضعف ؛ أما قوته : فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج ، لأنه
هو الذي إليه رفعه بالطلاق ، وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول ، وما قالوا به
من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملا غير ظاهر. لأن العفو لا يطلق على
الزيادة. وقيل : المراد بقوله : (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو الولي ، وبه قال النخعي ، وعلقمة ، والحسن ، وطاوس ،
وعطاء ، وأبو الزناد ، وزيد بن أسلم ، وربيعة ، والزهري ، والأسود بن يزيد ،
والشعبي ، وقتادة ، ومالك ، والشافعي في قوله القديم ، وفيه قوّة وضعف ؛ أما قوّته
فلكون معنى العفو فيه معقولا ؛ وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده ،
ومما يزيد هذا القول ضعفا : أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه. وقد حكى
القرطبي الإجماع على أن الوليّ لا يملك شيئا من مالها ، والمهر مالها. فالراجح ما
قاله الأوّلون لوجهين ، الأوّل : أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة. الثاني
: أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن المالك مطلق التصرف بخلاف الولي ، وتسمية
الزيادة عفوا وإن كان خلاف الظاهر ، لكن لما كان الغالب أنهم يسوقون المهر كاملا
عند العقد كان العفو معقولا ، لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه ، ولا يحتاج في
هذا إلى أن يقال : إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف ، لأنه
عفو حقيقي ، أي : ترك لما يستحق المطالبة به ، إلا أن يقال : إنه مشاكلة ،
أو يطيب في توفية المهر قبل أن يسوقه الزوج. قوله : (وَأَنْ تَعْفُوا
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) قيل : هو خطاب للرجال والنساء تغليبا ؛ وقرأه الجمهور :
بالتاء الفوقية ؛ وقرأ أبو نهيك ، والشعبي : بالياء التحتية ، فيكون الخطاب مع
الرجال. وفي هذا دليل على ما رجحناه من أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ، لأن
عفو الوليّ عن شيء لا يملكه ليس هو أقرب إلى التقوى ، بل أقرب إلى الظلم والجور.
قوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ) قرأه الجمهور : بضم الواو ؛ وقرأ يحيى بن يعمر : بكسرها
، وقرأ علي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ولا تناسوا والمعنى : أن
الزوجين لا ينسيان التفضل من كل واحد منهما على الآخر ، ومن جملة ذلك : أن تتفضل
المرأة بالعفو عن النصف ، ويتفضل الرجل عليها بإكمال المهر ، وهو إرشاد للرجال
والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي على بعضهم بعضا ، والمسامحة فيما يستغرقه
أحدهما على الآخر للوصلة التي قد وقعت بينهما من إفضاء البعض إلى البعض ، وهي وصلة
لا يشبهها وصلة ، فمن رعاية حقها ومعرفتها حق معرفتها الحرص منهما على التسامح. وقوله
: (إِنَّ اللهَ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيه من ترغيب المحسن ؛ وترهيب غيره ما لا يخفى.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً) قال : المس : النكاح ، والفريضة : الصداق (وَمَتِّعُوهُنَ) قال : هو على الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا ،
ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فأمره الله أن يمتعها على قدر عسره ويسره ، فإن كان
موسرا متعها بخادم ، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك. وأخرج ابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أنه قال : متعة الطلاق : أعلاها الخادم ودون
ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن عمر قال :
أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما. وروى القرطبي في تفسيره عن الحسن بن علي :
أنه متع بعشرين ألفا ورقاق من عسل. وعن شريح : أنه متع بخمسمائة درهم. وأخرج
الدارقطني عن الحسن بن علي : أنه متع بعشرة آلاف. وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين :
أنه كان يمتع بالخادم والنفقة أو بالكسوة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَ) قال المسّ : الجماع ، فلها نصف صداقها ، وليس لها أكثر
من ذلك إلا أن يعفون. وهي المرأة الثيب والبكر يزوجها غير أبيها ، فجعل الله العفو
لهنّ إن شئن عفون بتركهن ، وإن شئن أخذن نصف الصداق (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) وهو أبو الجارية البكر ، جعل العفو إليه ليس لها معه
أمر إذا طلقت ما كانت في حجره. وأخرج الشافعي ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي عن ابن
عباس قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها : ليس لها إلا نصف
الصداق ، لأن الله يقول : (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَ) الآية. وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : لها نصف
الصداق وإن جلس بين رجليها. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط
، والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الذي بيده عقدة النّكاح : الزوج». وأخرج ابن أبي
شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني ، والبيهقي عن عليّ
مثله من قوله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن
أبي حاتم ، والبيهقي عنه قال : هو أبوها وأخوها ومن لا تنكح إلا بإذنه. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وعن مجاهد في قوله : (وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) قال : في هذا أو غيره ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي
شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وصححه ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم ،
وصححه البيهقي : أن قوما أتوا ابن مسعود فقالوا : إن رجلا تزوج منا امرأة ولم يفرض
لها صداقا ؛ ولم يجمعها إليه حتى مات. فقال : أرى أن أجعل لها صداقا كصداق نسائها
لا وكس ولا شطط ، ولها الميراث وعليها العدة أربعة أشهر وعشر ، فسمع بذلك ناس من
أشجع ، منهم : مغفل بن سنان ، فقالوا : نشهد أنك قضيت مثل الذي قضى به رسول الله صلىاللهعليهوسلم في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق. وأخرج سعيد بن
منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن علي أنه قال في المتوفى عنها زوجها ولم يفرض
لها صداقا : لها الميراث ، وعليها العدّة ، ولا صداق لها. وقال : لا يقبل قول
أعرابي من أشجع على كتاب الله. وأخرج الشافعي ، والبيهقي عن ابن عباس قال في
المرأة التي يموت عنها زوجها وقد فرض لها صداقا : لها الصداق والميراث. وأخرج مالك
، والشافعي ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن عمر ابن الخطاب : أنه قضى في المرأة
يتزوجها الرجل : أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق. وأخرج ابن أبي شيبة ،
والبيهقي ، عن عمر وعلي قال : إذا أرخى سترا ، وأغلق بابا ، فلها الصداق كاملا ،
وعليها العدّة. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن زرارة بن أوفى
قال : قضى الخلفاء الراشدون : أنه من أغلق بابا ، أو أرخى سترا ، فقد وجب الصداق
والعدّة ، وأخرج مالك ، والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه. وأخرج البيهقي عن محمد بن
ثوبان أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : من كشف امرأة فنظر إلى عورتها فقد وجب الصداق.
(حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما
عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))
المحافظة على
الشيء : المداومة والمواظبة عليه ، والوسطى : تأنيث الأوسط ، وأوسط الشيء ووسطه : خياره.
ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، ومنه قول بعض العرب يمدح النبي صلىاللهعليهوسلم :
يا أوسط
النّاس طرّا في مفاخرهم
|
|
وأكرم النّاس
أمّا برّة وأبا
|
ووسط فلان
القوم يسطهم ، أي : صار في وسطهم : وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم
الصلوات تشريفا لها. وقرأ أبو جعفر : (وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) بالنصب على الإغراء ؛ وكذلك قرأ الحلواني ؛ وقرأ قالون
عن نافع : الوصطى ، بالصاد لمجاورة الطاء ، وهما لغتان : كالسراط والصراط. وقد
اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولا أوردتها في شرحي للمنتقى ، وذكرت
ما تمسكت به كل طائفة ، وأرجح الأقوال وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر ،
لما ثبت عند البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم من حديث علي قال : كنا نراها
الفجر حتى سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصّلاة
الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا». وأخرج مسلم ،
والترمذي ، وابن ماجة ، وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعا مثله. وأخرجه أيضا ابن
جرير ، وابن المنذر ، والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا. وأخرجه البزار بإسناد
صحيح من حديث جابر مرفوعا ، وأخرجه أيضا البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعا.
وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعا. وورد في تعيين أنها العصر من
غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، منها : عن ابن عمر عند ابن مندة ، ومنها : عن سمرة
عند أحمد ، وابن جرير ، والطبراني ، ومنها : عنه أيضا عند ابن أبي شيبة ، وأحمد ،
وعبد بن حميد ، والترمذي ، وصححه ابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي. وعن أبي هريرة
عند ابن جرير ، والبيهقي ، والطحاوي. وأخرجه عنه أيضا ابن سعيد ، والبزار ، وابن
جرير ، والطبراني ، وعن ابن عباس عند البزار بأسانيد صحيحة ، وعن أبي مالك الأشعري
عند ابن جرير ، والطبراني ، فهذه أحاديث مرفوعة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم مصرحة بأنها العصر. وقد روي عن الصحابة في تعيين أنها
العصر آثار كثيرة ، وفي الثابت عن النبي صلىاللهعليهوسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره. وأما ما روي عن علي وابن
عباس أنهما قالا : إنها صلاة الصبح ، كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما ، وأخرجه ابن
جرير عن ابن عباس ، وكذلك أخرجه عنه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ،
وابن المنذر ، وكذلك أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر ، وكذلك أخرجه ابن
جرير عن جابر ، وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة ، وكل ذلك من أقوالهم ،
وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولا تقوم بمثل ذلك حجة ، لا سيما إذا عارض ما قد ثبت
عنه صلىاللهعليهوسلم ثبوتا يمكن أن يدعى فيه التواتر ، وإذا لم تقم الحجة
بأقوال الصحابة ؛ لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين ، وتابعيهم بالأولى ، وهكذا
لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس أنه قال : صلاة
الوسطى المغرب ، وهكذا لا اعتبار بما ورد من قول جماعة من الصحابة : أنها الظهر ،
أو غيرها من الصلوات ، ولكن المحتاج إلى إمعان نظر وفكر ما ورد مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر ، كما أخرجه ابن جرير عن
زيد بن ثابت مرفوعا «إنّ الصّلاة الوسطى صلاة الظهر». ولا يصح رفعه ، بل المرويّ
عن زيد بن ثابت ذلك من قوله ، واستدل على ذلك بأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يصلي بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلاة على أصحابه ؛
وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهكذا الاعتبار بما روي عن ابن عمر من قوله : إنها
الظهر. وكذلك ما روي عن عائشة ، وأبي سعيد الخدري وغيرهم. فلا حجة في قول أحد مع
قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأما ما رواه عبد الرزاق ، وابن جرير ، وغيرهما أن
حفصة قالت لأبي رافع مولاها ـ وقد أمرته أن يكتب لها مصحفا : إذا أتيت على هذا
الآية : (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) فتعال حتى أمليها عليك ، فلما بلغ ذلك أمرته أن يكتب : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) وصلاة العصر. وأخرجه أيضا عنها مالك ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، والبيهقي في سننه وزادوا : وقالت أشهد أني سمعتها من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأخرج مالك ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو
داود ، والترمذي ، والنسائي وغيرهم عن أبي يونس مولى عائشة : أنها أمرته أن يكتب
لها مصحفا
وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) قال : فلما بلغتها آذنتها فأملت عليّ : حافظوا على
الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأخرج وكيع ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر عن أم سلمة : أنها أمرت من يكتب لها مصحفا ، وقالت له كما قالت
حفصة وعائشة. فغاية ما في هذه الروايات عن أمهات المؤمنين الثلاث رضي الله عنهنّ
أنهنّ يروين هذا الحرف هكذا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وليس فيه ما يدل على تعيين الصلاة الوسطى أنها الظهر
أو غيرها ، بل غاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على صلاة الوسطى أنها غيرها ، لأن
المعطوف غير المعطوف عليه ، وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم ثبوتا لا يدفع أنها العصر كما قدمنا بيانه. فالحاصل أن
هذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين بإثبات قوله : «وصلاة العصر» معارضة بما
أخرجه ابن جرير عن عروة قال : كان في مصحف عائشة : حافظوا على الصّلوات والصّلاة
الوسطى وهي صلاة العصر. وأخرج وكيع عن حميدة قالت : قرأت في مصحف عائشة : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) صلاة العصر. وأخرج ابن أبي داود عن قبيصة بن ذؤيب مثله.
وأخرج سعيد بن منصور وأبو عبيد عن زياد بن أبي مريم أن عائشة أمرت بمصحف لها أن
يكتب وقالت : إذا بلغتم (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ) فلا تكتبوها حتى تؤذنوني ، فلما أخبروها أنهم قد بلغوا
قالت : اكتبوها صلاة الوسطى صلاة العصر. وأخرج ابن جرير ، والطحاوي ، والبيهقي عن
عمرو بن رافع : قال كان مكتوبا في مصحف حفصة : حافظوا على الصّلوات والصّلاة
الوسطى وهي صلاة العصر. وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن المنذر عن أبي ابن كعب
أنه كان يقرؤها : حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر. وأخرج أبو عبيد
وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، والطحاوي عن ابن عباس أنه كان
ليقرؤها : حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى صلاة العصر. وأخرج المحاملي عن
السائب بن يزيد : أنه تلاها كذلك فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار
التلاوة ونقل القراءة ، ويبقى ما صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم من التعيين صافيا عن شوب كدر المعارضة. على أنه قد ورد
ما يدل على نسخ القراءة التي نقلتها حفصة وعائشة وأم سلمة. وأخرج عبد بن حميد ،
ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، والبيهقي عن البراء بن عازب قال : نزلت
حافظوا على الصّلوات وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما شاء الله ثم نسخها الله ، فأنزل : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) فقيل له : هي إذن صلاة العصر؟ قال : قد حدثتك كيف نزلت
وكيف نسخها الله ، والله أعلم. وأخرج البيهقي عنه من وجه آخر نحوه. وإذا تقرر لك
هذا وعرفت ما سقناه تبين لك : أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر.
وأما حجج بقية الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به ، لأنه لم يثبت عن
النبي صلىاللهعليهوسلم في ذلك شيء ، وبعض القائلين عوّل على أمر لا يعوّل عليه
فقال : إنها صلاة كذا ، لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات وبعدها
كذا من الصلوات ، وهذا الرأي المحض والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام
الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوّة
والثبوت عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ ويا لله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة
وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها ، حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله ،
والتجرؤ على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى ، فجاؤوا بما يضحك منه تارة ويبكى
منه أخرى. قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ) القنوت : قيل : هو الطاعة ، أي : قوموا لله في صلاتكم
طائعين ، قاله جابر بن زيد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والشافعي. وقيل : هو
الخشوع ، قاله ابن عمر ومجاهد. ومنه قول الشاعر :
قانتا لله
يدعو ربّه
|
|
وعلى عمد من
النّاس اعتزل
|
وقيل : هو
الدعاء ، وبه قال ابن عباس. وفي الحديث : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان. وقال قوم : إن القنوت
طول القيام ؛ وقيل : معناه : ساكتين ، قاله السدي ، ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في
الصحيحين وغيرهما قال : كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلىاللهعليهوسلم في الحاجة في الصلاة ، حتى نزلت هذه الآية (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت. وقيل : أصل القنوت في اللغة : الدوام
على الشيء ، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه. وقد ذكر أهل العلم : أن
للقنوت ثلاثة عشر معنى ، وقد ذكرنا ذلك في شرح المنتقى ، والمتعين هاهنا حمل
القنوت على السكوت للحديث المذكور. قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) الخوف : هو الفزع ، والرجال : جمع رجل أو راجل ، من
قولهم رجل الإنسان يرجل راجلا : إذا عدم المركوب ومشى على قدميه فهو رجل وراجل.
يقول أهل الحجاز : مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا. حكاه ابن جرير الطبري وغيره.
لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات ، ذكر حالة الخوف أنهم يضيعون
فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلاة بفعلها حال الترجل وحال
الركوب ، وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان. وقد اختلف
أهل العلم في حدّ الخوف المبيح لذلك ، والبحث مستوفى في كتب الفروع. قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) أي : إذا زال خوفكم فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام
الصلاة ، مستقبلين القبلة ، قائمين بجميع شروطها وأركانها ، وهو قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ) وقيل : معنى الآية : خرجتم من دار السفر إلى دار
الإقامة ، وهو خلاف معنى الآية. وقوله : (كَما عَلَّمَكُمْ) أي : مثل ما علمكم من الشرائع (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) والكاف صفة لمصدر محذوف ، أي : ذكرا كائنا كتعليمه
إياكم ، أو : مثل تعليمه إياكم.
وقد أخرج ابن
جرير عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبّك بين أصابعه.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر : أنه سئل عن الصلاة الوسطى؟ فقال : هي
فيهن فحافظوا عليهن. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن ثابت : أنه سأله رجل عن الصلاة
الوسطى فقال : حافظ على الصلوات تدركها. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد عن
الربيع بن خيثم : أن سائلا سأله عن الصلاة الوسطى ، قال : حافظ عليهنّ فإنك إن
فعلت أصبتها ، إنما هي واحدة منهنّ. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال : سئل
شريح عن الصلاة الوسطى ، فقال : حافظوا عليها تصيبوها. وقد قدمنا
ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم في تعيينها. وأخرج الطبراني
عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ) مثل ما قدمنا عن زيد بن أرقم. وأخرج ابن جرير عن ابن
مسعود نحوه. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن محمد بن كعب نحوه أيضا. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) قال : مصلين. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل أهل
دين يقومون فيها عاصين ، وقوموا أنتم مطيعين. وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك مثله.
وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله
: (وَقُومُوا لِلَّهِ
قانِتِينَ) قال : من القنوت : الركوع والخشوع ، وطول الركوع : يعني
طول القيام ، وغض البصر ، وخفض الجناح والرهبة لله. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّ في الصّلاة لشغلا» وفي صحيح مسلم وغيره
أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس
، إنّما هو التسبيح ، والتكبير ، وقراءة القرآن». وقد اختلفت الأحاديث في القنوت
المصطلح عليه ، هل هو قبل الركوع أو بعده ، وهل هو في جميع الصلوات أو بعضها ، وهل
هو مختص بالنوازل أم لا؟ والراجح اختصاصه بالنوازل. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا
للمنتقى ، فليرجع إليه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ
رُكْباناً) قال : يصلي الراكب على دابته ، والراجل على رجليه (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) يعني : كما علمكم أن يصلي الراكب على دابته ، والراجل
على رجليه. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : إذا كانت
المسايفة فليومئ برأسه حيث كان وجهه فذلك قوله : (فَرِجالاً أَوْ
رُكْباناً). وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ
رُكْباناً) قال : ركعة ركعة. وأخرج وكيع ، وابن جرير عن مجاهد (فَإِذا أَمِنْتُمْ) قال : خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة.
(وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً
إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))
هذا عود إلى
بقية الأحكام المفصلة فيما سلف. وقد اختلف السلف ومن تبعهم من المفسرين في هذه
الآية هل محكمة أو منسوخة؟ فذهب الجمهور : إلى أنها منسوخة بالأربعة الأشهر والعشر
كما تقدم ، وأن الوصية المذكورة فيها منسوخة بما فرض الله لهنّ من الميراث. وحكى
ابن جرير عن مجاهد أن هذه الآية لا نسخ فيها ، وأن العدة أربعة أشهر وعشر ، ثم جعل
الله لهنّ وصية منه : سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في
وصيتها ، وإن شاءت خرجت. وقد حكى ابن عطية ، والقاضي عياض : أن الإجماع منعقد على
أن الحول منسوخ ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر. وقد أخرج عن مجاهد ما أخرجه ابن جرير
عنه البخاري
في صحيحه. وقوله : (وَصِيَّةً) قرأها نافع ، وابن كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر ،
والكسائي : بالرفع ، على أن ذلك مبتدأ لخبر محذوف يقدر مقدما ، أي : عليهم وصية ؛
وقيل : إن الخبر قوله : (لِأَزْواجِهِمْ) وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : وصية الذين يتوفون
وصية أو حكم الذين يتوفون وصية. وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر : بالنصب ، على
تقدير فعل محذوف ، أي : فليوصوا وصية ، أو : أوصى الله وصية ، أو : كتب الله عليهم
وصية. وقوله : (مَتاعاً) منصوب بوصية ، أو بفعل محذوف ، أي : متعوهن متاعا ، أو
جعل الله لهنّ ذلك متاعا ، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال. والمتاع هنا : نفقة
السنة. وقوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ) صفة لقوله : (مَتاعاً) وقال الأخفش : إنه مصدر ، كأنه قال لا إخراجا ؛ وقيل :
إنه حال ، أي : متعوهن غير مخرجات ، وقيل : منصوب بنزع الخافض ، أي : من غير إخراج
، والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفّون أن يوصوا قبل نزول الموت بهم لأزواجهم أن
يمتعن بعدهم حولا كاملا بالنفقة والسكنى من تركتهم ، ولا يخرجن من مساكنهنّ. وقوله
: (فَإِنْ خَرَجْنَ) يعني باختيارهنّ قبل الحول (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي : لا حرج على الوليّ والحاكم وغيرهما (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من التعرّض للخطاب والتزين لهم. وقوله : (مِنْ مَعْرُوفٍ) أي : بما هو معروف في الشرع غير منكر. وفيه دليل : على
أن النساء كنّ مخيرات في الحول وليس ذلك بحتم عليهنّ ؛ وقيل : المعنى لا جناح
عليكم في قطع النفقة عنهنّ ، وهو ضعيف ، لأن متعلق الجناح هو مذكور في الآية بقوله
: (فِيما فَعَلْنَ) وقوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ) قد اختلف المفسرون في هذه الآية ، فقيل : هي المتعة ،
وأنها واجبة لكل مطلقة ؛ وقيل : إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن ،
لأنه قد تقدّم قبل هذه الآية ذكر المتعة للّواتي لم يدخل بهنّ الأزواج. وقد قدّمنا
الكلام على هذه المتعة والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض ؛ أو
عامة للمطلقات ؛ وقيل : إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة ، وهي متعة المطلقة قبل
البناء والفرض ، وغير الواجبة وهي متعة سائر المطلقات فإنها مستحبة فقط ؛ وقيل :
المراد بالمتعة هنا : النفقة.
وقد أخرج
البخاري وغيره عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان بن عفان : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال :
يا بن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية
قال : كان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة ، فنسختها آية المواريث
، فجعل لهنّ الربع والثمن مما ترك الزوج. وأخرج ابن جرير نحوه عن عطاء. وأخرج نحوه
أيضا أبو داود ، والنسائي عن ابن عباس من وجه آخر. وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق عن
جابر بن عبد الله قال : ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة ؛ حسبها الميراث. وأخرج أبو
داود في ناسخه والنسائي عن عكرمة قال : نسختها ـ (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن زيد بن أسلم نحوه.
وأخرج أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ
فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) قال : النكاح الحلال الطيب. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد
قال : لما نزل قوله : (مَتاعاً
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
__________________
الْمُحْسِنِينَ)
قال رجل : إن
أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فأنزل الله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ
مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه
الآية بقوله : (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ
فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) . وأخرج أيضا عن عتاب بن خصيف في قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) قال : كان ذلك قبل الفرائض. وأخرج مالك ، وعبد الرزاق ،
والشافعي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عمر قال : لكل مطلقة
متعة إلا التي تطلقها ولم تدخل بها فقد فرض لها ، كفى بالنصف متاعا ، وأخرج ابن
المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : لكل مؤمنة طلقت حرة أو أمة متعة ؛ وقرأ : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ). وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : «لما طلّق
حفص بن المغيرة امرأته فاطمة أتت النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فقال لزوجها : «متّعها ، قال : لا أجد ما أمتعها ،
قال : فإنه لا بدّ من المتاع ، متّعها ولو نصف صاع من تمر». وأخرج عبد بن حميد عن
أبي العالية في الآية ، قال : لكلّ مطلقة متعة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ
لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ
وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))
الاستفهام هنا
للتقرير ، والرؤية المذكورة هي رؤية القلب لا رؤية البصر. والمعنى عند سيبويه :
تنبه إلى أمر الذين خرجوا ، ولا تحتاج هذه الرؤية إلى مفعولين كذا قيل. وحاصله :
أن الرؤية هنا التي بمعنى الإدراك مضمنة معنى التنبيه ، ويجوز أن تكون مضمنة معنى
الانتهاء ، أي : ألم ينته علمك إليهم ؛ أو معنى الوصول ، أي : ألم يصل علمك إليهم
؛ ويجوز أن تكون بمعنى الرؤية البصرية ، أي : ألم تنظر إلى الذين خرجوا. جعل الله
سبحانه قصة هؤلاء لما كانت بمكان من الشيوع والشهرة يحمل كل أحد على الإقرار بها
بمنزلة المعلومة لكل فرد ، أو المبصرة لكل مبصر ، لأن أهل الكتاب قد أخبروا بها
ودوّنوها وأشهروا أمرها ، والخطاب هنا لكل من يصلح له. والكلام جار مجرى المثل في
مقام التعجيب ، ادّعاء لظهوره وجلائه بحيث يستوي في إدراكه الشاهد والغائب. وقوله
: (وَهُمْ أُلُوفٌ) في محل نصب على الحال من ضمير خرجوا ، وألوف : من جموع
الكثرة ، فدل على أنها ألوف كثيرة. وقوله : (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له. وقوله : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ
مُوتُوا) هو أمر تكوين ، عبارة عن تعلق إرادته بموتهم دفعة ، أو
: تمثيل ، لإماتته سبحانه إياهم ميتة نفس واحدة ، كأنهم أمروا فأطاعوا. قوله : (ثُمَّ أَحْياهُمْ) هو معطوف على مقدّر يقتضيه المقام ، أي : قال الله لهم
: موتوا فماتوا ثم أحياهم ، أو : على قال ، لما كان عبارة عن الإماتة ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ) التنكير في قوله : فضل ، للتعظيم ، أي : لذو فضل عظيم
على الناس جميعا ، وأما هؤلاء الذين خرجوا ؛ فلكونه أحياهم ، ليعتبروا ، وأما
المخاطبون : فلكونه قد أرشدهم إلى الاعتبار والاستبصار بقصة هؤلاء. قوله
__________________
(وَقاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) هو معطوف على مقدّر ، كأنه قيل : اشكروا فضله بالاعتبار
بما قصّ عليكم وقاتلوا ، هذا إذا كان الخطاب بقوله : (وَقاتِلُوا) راجعا إلى المخاطبين بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا) كما قاله جمهور المفسرين ، وعلى هذا يكون إيراد هذه
القصة لتشجيع المسلمين على الجهاد ؛ وقيل إن الخطاب للذين أحيوا من بني إسرائيل
فيكون عطفا على قوله : (مُوتُوا) وفي الكلام محذوف تقديره : وقال لهم : قاتلوا. وقال ابن
جرير : لا وجه لقول من قال : إن الأمر بالقتال للذين أحيوا. وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) لما أمر سبحانه بالقتال والجهاد أمر بالإنفاق في ذلك ، و
«من» استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء ، و «ذا» خبره ، و «الذي» وصلته وصف له ،
أو بدل منه ، وإقراض الله : مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب ،
وأصل القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، يقال : أقرض فلان فلانا ، أي : أعطاه
ما يتجازاه. قال الشاعر :
وإذا جوزيت قرضا فاجزه
وقال الزجاج :
القرض في اللغة : البلاء الحسن ، والبلاء السيئ.
قال أمية :
كلّ امرئ سوف
يجزى قرضه حسنا
|
|
أو سيّئا
ومدينا مثل ما دانا
|
وقال آخر :
تجازى القروض
بأمثالها
|
|
فبالخير خيرا
وبالشرّ شرّا
|
وقال الكسائي :
القرض : ما أسلفت من عمل صالح أو سيئ ، وأصل الكلمة : القطع ، ومنه المقراض ،
واستدعاء القرض في الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه. والله هو الغني
الحميد : شبه عطاء المؤمن ما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض ، كما شبه إعطاء النفوس
والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. وقوله : (حَسَناً) أي : طيبة به نفسه من دون منّ ولا أذى. وقوله : (فَيُضاعِفَهُ) قرأ عاصم وغيره : بالألف ونصب الفاء. وقرأ نافع وأبو
عمرة وحمزة والكسائي : بإثبات الألف ورفع الفاء ، وقرأ ابن عامر ويعقوب : فيضعّفه
بإسقاط الألف مع تشديد العين ونصب الفاء. وقرأ ابن كثير وأبو جعفر : بالتشديد ورفع
الفاء. فمن نصب فعلى أنه جواب الاستفهام ، ومن رفع فعلى تقدير مبتدأ ، أي : هو
يضاعفه. وقد اختلف في تقدير هذا التضعيف على أقوال. وقيل : لا يعلمه إلا الله
وحده. وقوله : (وَاللهُ يَقْبِضُ
وَيَبْصُطُ) هذا عام في كل شيء ، فهو القابض الباسط ، والقبض :
التقتير ، والبسط : التوسيع ؛ وفيه وعيد بأن من بخل من البسط يوشك أن يبدل بالقبض
، ولهذا قال : (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أي : هو يجازيكم بما قدمتم عند الرجوع إليه ، وإذا
أنفقتم مما وسع به عليكم أحسن إليكم ، وإن بخلتم عاقبكم.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، والحاكم عن ابن عباس في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) قال : كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون ،
وقالوا : نأتي أرضا ليس بها موت ، حتى
إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال لهم الله موتوا فماتوا ، فمر عليهم نبيّ من
الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
أبي حاتم عنه : أن القرية التي خرجوا منها داوردان. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم هذه القصة مطوّلة عن أبي مالك ، وفيها : أنهم بضعة وثلاثون ألفا. وأخرج
ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز : أن ديارهم هي أذرعات. وأخرج أيضا عن أبي
صالح قال : كانوا تسعة آلاف. وأخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على أنحاء ،
ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة. وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم النهي عن الفرار من الطاعون ، وعن دخول الأرض التي هو
بها من حديث عبد الرحمن بن عوف. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، والبزار ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود
قال : «لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله! إن الله
ليريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرني يدك يا رسول الله! فناوله
يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، وله فيه ستّمائة نخلة». وقد أخرج هذه القصة
عبد الرزاق ، وابن جرير من طريق زيد بن أسلم ، زاد الطبراني عن أبيه عن عمر بن
الخطاب ، وابن مردويه عن أبي هريرة وابن إسحاق ، وابن المنذر عن ابن عباس. وأخرج
ابن جرير عن السدي في قوله : (أَضْعافاً كَثِيرَةً) قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو. وأخرج أحمد ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال : بلغني عن أبي هريرة حديث
أنه قال : «إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة» فحججت ذلك
العام ولم أكن أريد أن أحج إلا لألقاه في هذا الحديث ، فلقيت أبا هريرة فقلت له ،
فقال : ليس هذا قلت ، ولم يحفظ الذي حدثك ، إنما قلت : «إن الله ليعطي العبد
المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة» ثم قال أبو هريرة : أو ليس تجدون هذا في
كتاب الله؟ (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فالكثيرة عند الله أكثر من ألف ألف وألفي ألف ، والذي
نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة». وأخرج
ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب
الإيمان عن ابن عمر قال : «لما نزلت : (مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ) إلى آخره ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : رب زد أمتي فنزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) قال : ربّ زد أمتي فنزلت (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) . وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال : «لما نزلت (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها) قال : ربّ زد أمتي ، فنزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) قال : ربّ زد أمتي ، فنزلت : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ) قال : رب زد أمتي ، فنزلت : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ)». وفي الباب أحاديث هذه أحسنها وستأتي عند تفسير قوله
تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) فابحثها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) قال : يقبض : الصدقة ، ويبسط : قال يخلف (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قال : من التراب وإلى التراب تعودون. وأخرج ابن جرير عن
ابن زيد في الآية قال :
__________________
علم الله أن فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوّة ، وفيمن لا يقاتل في
سبيل الله من يجد غني ، فندب هؤلاء إلى القرض فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ) قال : يبسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده ، ويقبض
عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخفّ له ، فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً
قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ
وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ
طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ
مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ
غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ
هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ
وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
(٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى
الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))
قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ) الكلام فيه كالكلام في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ) وقد قدمناه ، والملأ : الأشراف من الناس ، كأنهم ملئوا
شرفا. وقال الزجاج : سموا بذلك : لأنهم ملئون بما يحتاج إليه منهم ، وهو اسم جمع
كالقوم والرهط. ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني
إسرائيل بعد القصة المتقدمة وقوله : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) من ابتدائية وعاملها مقدر ، أي : كائنين من بعد موسى :
أي : بعد وفاته. وقوله : (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) قيل : هو شمويل بن يار بن علقمة ويعرف بابن العجوز ،
ويقال فيه : شمعون ، وهو من ولد يعقوب ؛ وقيل : من نسل هارون ؛ وقيل : هو يوشع بن
نون ، وهذا ضعيف جدا لأن يوشع هو فتى موسى ، ولم يوجد داود إلا بعد ذلك بدهر طويل
؛ وقيل : اسمه
إسماعيل. وقوله : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أي : أميرا نرجع إليه ونعمل على رأيه. وقوله : (نُقاتِلْ) بالنون والجزم على جواب الأمر ، وبه قرأ الجمهور. وقرأ
الضحاك ، وابن أبي عبلة : بالياء ورفع الفعل ، على أنه صفة للملك. وقرئ : بالنون
والرفع ، على أنه حال أو كلام مستأنف. وقوله : (هَلْ عَسَيْتُمْ) بالفتح للسين وبالكسر لغتان ، وبالثانية قرأ نافع ، وبالأولى قرأ الباقون.
قال في الكشاف : وقراءة الكسر ضعيفة. وقال أبو حاتم : ليس للكسر وجه. انتهى. وقال
أبو علي : وجه الكسر قول العرب ، هو عس بذلك ، مثل حر وشج ، وقد جاء فعل وفعل في
نحو نقم ونقم ، فكذلك عسيت وعسيت ، وكذا قال مكي. وقد قرأ بالكسر أيضا الحسن وطلحة
، فلا وجه لتضعيف ذلك ، وهو من أفعال المقاربة ، أي : هل قاربتم ألا تقاتلوا ،
وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده ، والإشعار بأنه
كائن ، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به. قال الزجاج : أن لا
تقاتلوا في موضع نصب : أي : هل عسيتم مقاتلة. قال الأخفش : «أن» في قوله : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) زائدة. وقال الفراء : هو محمول على المعنى ، أي : وما
منعنا؟ كما تقول : ا لك ألا تصلي؟ وقيل : المعنى ، وأي شيء لنا في أن لا نقاتل.
قال النحاس : وهذا أجودها. وقوله : (وَقَدْ أُخْرِجْنا) تعليل ، والجملة حالية ، وإفراد الأولاد بالذكر لأنهم
الذين وقع عليهم السبي ، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة (فَلَمَّا كُتِبَ) أي : فرض ، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم
وفتور عزائمهم. واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه ، وهم الذين
اكتفوا بالغرفة. وقوله : (وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ) شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال
والأفعال. وطالوت : اسم أعجمي ، وكان سقاء ؛ وقيل : مكاريا ، ولم يكن من سبط
النبوة ، وهم بنو لاوي ، ولا من سبط الملك ، وهم بنو يهوذا ، فلذلك : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ
عَلَيْنا) أي : كيف ذلك؟ ولم يكن من بيت الملك ، ولا هو ممن أوتي
سعة من المال حتى نتبعه لشرفه أو لماله ، وهذه الجملة ، أعني قوله : (وَنَحْنُ أَحَقُ) حالية ، وكذلك الجملة المعطوفة عليها. وقوله : (اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) أي : اختاره الله هو الحجة القاطعة. ثم بين لهم مع ذلك
وجه الاصطفاء : بأن الله زاده بسطة في العلم ، الذي هو ملاك الإنسان ، ورأس
الفضائل ، وأعظم وجوه الترجيح ، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب
ونحوها ، فكان قويا في دينه وبدنه ، وذلك هو المعتبر ، لا شرف النسب. فإن فضائل
النفس مقدّمة عليه : (وَاللهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) فالملك ملكه ، والعبيد عبيده ، فما لكم والاعتراض على
شيء ليس هو لكم ولا أمره إليكم؟ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) من قول نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : هو من قول نبيهم وهو الظاهر. وقوله : (واسِعٌ) أي : واسع الفضل ، يوسع على من يشاء من عباده (عَلِيمٌ) بمن يستحق الملك ، ويصلح له. والتابوت : فعلوت من التوب
وهو الرجوع لأنهم يرجعون إليه ، أي : علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم ، أي
: رجوعه إليكم وهو صندوق التوراة. والسكينة فعيلة ، مأخوذة من السكون والوقار
والطمأنينة ، أي : فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت. قال ابن
عطية : الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت
النفوس
تسكن إلى ذلك وتأنس به وتتقوى. وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان
بعضها ، وكذلك اختلف في البقية. فقيل : هي عصا موسى ورضاض الألواح ؛ وقيل : غير
ذلك. قيل : المراد بآل موسى وهارون : هما أنفسهما ، أي : مما ترك هارون وموسى ،
ولفظ آل : مقحمة لتفخيم شأنهما ؛ وقيل : المراد : الأنبياء من بني يعقوب ، لأنهما
من ذرية يعقوب ، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما. وفصل : معناه : خرج بهم ،
فصلت الشيء فانفصل ، أي : قطعته فانقطع ، وأصله متعد ، يقال فصل نفسه ثم استعمل
استعمال اللازم كانفصل ؛ وقيل : إن فصل يستعمل لازما ومتعديا ، يقال : فصل عن
البلد فصولا ، وفصل نفسه فصلا. والابتلاء : الاختبار. والنهر : قيل هو بين الأردن
وفلسطين ، وقرأه الجمهور : بنهر بفتح الهاء. وقرأ حميد ، ومجاهد والأعرج بسكون
الهاء. والمراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم ، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما
عداه ، ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى ، ورخص لهم
في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال
، وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش ، الدافعين أنفسهم عن
الرفاهية. فالمراد بقوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) أي : كرع ولم يقتصر على الغرفة ، «ومن» ابتدائية. ومعنى
قوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي : ليس من أصحابي ، من قولهم : فلان من فلان ، كأنه
بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما ، وهذا مهيع في كلام العرب معروف ، ومنه قول الشاعر
:
إذا حاولت في
أسد فجورا
|
|
فإنّي لست
منك ولست منّي
|
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) يقال : طعمت الشيء ، أي : ذقته ، وأطعمته الماء ، أي :
أذقته ، وفيه دليل على أن الماء يقال له : طعام ، والاغتراف : الأخذ من الشيء
باليد أو بآلة ، والغرف : مثل الاغتراف ، والغرفة : المرة الواحدة. وقد قرئ بفتح
الغين وضمها ، فالفتح للمرة ، والضم اسم للشيء المغترف ؛ وقيل : بالفتح : الغرفة
بالكف الواحدة ، وبالضم : الغرفة بالكفين ؛ وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، ومنه
قول الشاعر :
لا يدلفون
إلى ماء بآنية
|
|
إلا اغترافا
من الغدران بالرّاح
|
قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) سيأتي بيان عددهم ، وقرئ : إلا قليل ولا وجه له إلا ما
قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى ، أي : لم يطعه إلا قليل ، وهو تعسف.
قوله : (فَلَمَّا جاوَزَهُ) أي : جاوز النهر طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ) وهم القليل الذين أطاعوه ، ولكنهم اختلفوا في قوّة
اليقين ، فبعضهم قال قوله : (لا طاقَةَ لَنَا) و (قالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ) أي : يتيقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا
اللهِ). والفئة : الجماعة ، والقطعة منهم ، من فأوت رأسه
بالسيف ، أي : قطعته ، وقوله : (بَرَزُوا) أي : صاروا في البراز ، وهو المتسع من الأرض. وجالوت :
أمير العمالقة. قالوا : أي : جميع من معه من المؤمنين ، والإفراغ : يفيد معنى
الكثرة. وقوله : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) هذا عبارة عن القوّة وعدم الفشل ، يقال : ثبت قدم فلان
على كذا ؛
إذا استقرّ له ولم يزل عنه ، وثبت قدمه في الحرب : إذا كان الغلب له والنصر
معه قوله : (وَانْصُرْنا عَلَى
الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) هم جالوت وجنوده. ووضع الظاهر موضع المضمر إظهارا لما
هو العلة الموجبة للنصر عليهم ، وهي كفرهم ، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام :
لكون الثاني هو غاية الأوّل. قوله : (فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللهِ) الهزم : الكسر ، ومنه سقاء منهزم ، أي : انثنى بعضه على
بعض مع الجفاف ؛ ومنه ما قيل في زمزم : إنها هزمة جبريل ، أي : هزمها برجله فخرج
الماء ، والهزم : ما يكسر من يابس الحطب ؛ وتقدير الكلام : فأنزل الله عليهم النصر
: (فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمره وإرادته. قوله : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) هو داود بن إيشا ، بكسر الهمزة ثم تحتية ساكنة بعدها
معجمة ؛ ويقال : داود بن زكريا ابن بشوى ، من سبط يهوذا بن يعقوب ، جمع الله له
بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا ، وكان أصغر إخوته ، اختاره طالوت لمقاتلة
جالوت فقتله. والمراد بالحكمة هنا : النبوّة ، وقيل : هي تعليمه صنعة الدروع ومنطق
الطير ؛ وقيل : هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها. قوله : (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) قيل : إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي ، وفاعل هذا
الفعل هو الله تعالى ؛ وقيل : داود ، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما
قضت به مشيئته ، وتعلقت به إرادته ؛ وقد قيل : إن من ذلك ما قدّمنا من تعليمه صنعة
الدروع وما بعده. قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) قرأه الجماعة : (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ) وقرأ نافع : دفاع وهما مصدران لدفع ، كذا قال سيبويه.
وقال أبو حاتم : دافع ودفع واحد مثل : طرقت نعلي وطارقته. واختار أبو عبيدة قراءة
الجمهور وأنكر قراءة دفاع ، قال : لأن الله عزوجل لا يغالبه أحد ، قال مكي : يوهم أبو عبيدة أن هذا من
باب المفاعلة وليس به ، وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل : أي : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) وبعضهم : بدل من الناس ، وهم الذين يباشرون أسباب الشرّ
والفساد ببعض آخر منهم ، وهم الذين يكفونهم عن ذلك ، ويردونهم عنه (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) لتغلب أهل الفساد عليها وإحداثهم للشرور التي تهلك
الحرث والنسل ، وتنكير فضل للتعظيم. وآيات الله : هي ما اشتملت عليه هذه القصة من
الأمور المذكورة. والمراد (بِالْحَقِ) هنا : الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب
والمطلعين على أخبار العالم. وقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه ،
تقوية لقلبه ، وتثبيتا لجنانه ، وتشييدا لأمره.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال : هذا حين رفعت النبوّة واستخرج أهل الإيمان ،
وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم (فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) وذلك حين أتاهم التابوت ، قال : وكان من إسرائيل سبطان
: سبط نبوّة ، وسبط خلافة ، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة ، ولا تكون
النبوّة إلا في سبط النبوّة ؛ (وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ، قالُوا أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) وليس من أحد السبطين لا من سبط النبوّة ولا من سبط
الخلافة (قالَ إِنَّ اللهَ
اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ) وكان موسى حين ألقى الألواح
تكسرت ورفع منها وجمع ما بقي فجعله في التابوت ، وكانت العمالقة قد سبت ذلك
التابوت ، والعمالقة : فرقة من عاد كانوا بأريحاء ، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله
بين السماء والأرض ؛ وهم ينظرون إليه ؛ حتى وضعته عند طالوت ؛ فلما رأوا ذلك قالوا
: نعم ، فسلموا له وملكوه ، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالا قدّموا التابوت بين
أيديهم ويقولون : إن آدم نزل بذلك التابوت : وبالركن ، وبعصا موسى من الجنة.
وبلغني : أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
وقد ورد هذا المعنى مختصرا ومطولا عن جماعة من السلف فلا يأتي التطويل بذكر ذلك
بفائدة يعتد بها. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : (وَزادَهُ بَسْطَةً) يقول : فضيلة (فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ) يقول : كان عظيما جسيما يفضل بني إسرائيل بعنقه. وأخرج
أيضا عن وهب بن منبه (وَزادَهُ بَسْطَةً
فِي الْعِلْمِ) قال : العلم بالحرب. وأخرج ابن المنذر عنه : أنه سئل أنبيا
كان طالوت؟ قال : لا ، لم يأته وحي. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه : أنه
سئل عن تابوت موسى ما سعته؟ قال : نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين. وأخرج ابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السكينة : الرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو
الشيخ عنه قال : السكينة : الطمأنينة. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال :
السكينة دابة قدر الهرّ لها عينان لهما شعاع ، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها
ونظرت إليهم فيهزم الجيش من الرعب. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن علي قال : السكينة
: ريح خجوج ولها رأسان. وأخرج عبد الرزاق ، وأبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن عليّ قال : السكينة لها وجه
كوجه الإنسان ، ثم هي بعد ريح هفافة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : السكينة من الله كهيئة الريح ، لها وجه
كوجه الهرّ ، وجناحان ، وذنب مثل ذنب الهرّ. وأخرج سعيد ابن منصور ، وعبد بن حميد
، وابن جرير عن ابن عباس قال : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ) قال : طست من ذهب من الجنة كان يغسل بها قلوب الأنبياء
ألقى الألواح فيها. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه
أنه قال : هي روح من الله يتكلم ، إذا اختلفوا في شيء ؛ تكلم فأخبرهم ببيان ما
يريدون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هي شيء تسكن إليه قلوبهم. وأخرج عبد
الرزاق عن قتادة قال فيه سكينة ، أي : وقار.
وأقول : هذه
التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأهم الله ،
فجاؤوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم ، وانظر
إلى جعلهم لها تارة حيوانا وتارة جمادا وتارة شيئا لا يعقل ، كقول مجاهد : كهيئة
الريح لها وجه كوجه الهرّ ، وجناحان وذنب مثل ذنب الهرّ. وهكذا كل منقول عن بني
إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب ، ولا يصح أن يكون مثل هذه
التفاسير المتناقضة مرويا عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ولا رأيا رآه قائله ، فهم أجلّ قدرا من التفسير بالرأي
وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرّر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك
إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة
، فقد جعل الله عنها سعة ، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي
صلىاللهعليهوسلم لوجب علينا المصير إليه والقول به ، ولكنه لم يثبت من
وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن كما في صحيح مسلم
عن البراء قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط ، فتغشّته سحابة فجعلت
تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها : فلما أصبح أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فذكر ذلك له ، فقال : «تلك السكينة نزلت للقرآن». وليس
في هذا إلا أن هذه التي سمّاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم سكينة سحابة دارت على ذلك القارئ فالله أعلم. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا
تَرَكَ آلُ مُوسى) قال : عصاه ورضاض الألواح. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد
بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان في التابوت عصا موسى ، وعصا هارون ،
وثياب موسى ، وثياب هارون ، ولوحان من التوراة والمنّ ، وكلمة الفرج : «لا إله إلا
الله الحليم الكريم وسبحان الله ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم والحمد لله رب
العالمين». وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قال : أقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في بيت طالوت
فأصبح في داره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) قال : علامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) يقول : بالعطش ، فلما انتهى إلى النهر ـ وهو نهر الأردن
ـ كرع فيها عامة الناس فشربوا منه ، فلم يزد من شرب منه إلا عطشا ، وأجزأ من اغترف
غرفة بيده وانقطع الظمأ عنه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً
مِنْهُمْ) قال : القليل ثلاثمائة وبضعة عشر ، عدة أهل بدر. وأخرج
ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والبيهقي عن البراء قال : كنا أصحاب محمد نتحدّث أن أصحاب بدر على عدّة
أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا مؤمن ، بضعة عشر
وثلاثمائة. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقي
جالوت». وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : كانوا ثلاثمائة
ألف وثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة عشر ، فشربوا منه كلهم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر
رجلا عدّة أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يوم بدر ، فردّهم طالوت ومضى في ثلاثمائة وثلاثة عشر. وأخرج
ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) قال : الذين يستيقنون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان طالوت أميرا على الجيش ، فبعث أبو داود مع داود
بشيء إلى إخوته ، فقال داود لطالوت : ماذا لي وأقتل جالوت؟ فقال : لك ثلث ملكي
وأنكحت ابنتي ، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات ، ثم سمى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ،
ثم أدخل يده فقال : بسم الله إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فخرج على
إبراهيم فجعله في مرجمته ، فرمى بها جالوت فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه وقتلت
ما وراءه ثلاثين ألفا. وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس والله أعلم.
وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) قال : يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي ، وبمن يحج عمن
لا يحج ، وبمن يزكي عمن لا يزكي. وأخرج ابن عدي ، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله ليدفع بالمسلم الصّالح
عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» ثم قرأ ابن عمر : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) الآية ، وفي إسناده يحيى ابن سعيد العطار الحمصي وهو
ضعيف جدا.
(تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))
قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ) قيل : هو إشارة إلى جميع الرسل ، فتكون الألف واللام
للاستغراق ، وقيل : هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة ؛ وقيل : إلى
الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم. والمراد بتفضيل بعضهم على بعض : أن الله سبحانه جعل
لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر ، فكان الأكثر مزايا فاضلا والآخر
مفضولا. وكما دلت هذه الآية على : أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، كذلك دلت الآية
الأخرى ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا
بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية
وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : «لا تفضّلوني على الأنبياء»
وفي لفظ آخر : «لا تفضّلوا بين الأنبياء» وفي لفظ : «لا تخيّروا بين الأنبياء»
فقال قوم : إن هذا القول منه صلىاللهعليهوسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وأن القرآن ناسخ للمنع
من التفضيل ؛ وقيل : إنه قال صلىاللهعليهوسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال : «لا يقل أحدكم أنا خير
من يونس بن متّى» تواضعا ، معه علمه أنه أفضل الأنبياء ، كما يدلّ عليه قوله : «أنا
سيد ولد آدم» ؛ وقيل : إنما نهى عن ذلك قطعا للجدال والخصام في الأنبياء ، فيكون
مخصوصا بمثل ذلك ، إلا إذا كان صدور ذلك مأمونا ؛ وقيل : إن النهي إنما هو من جهة
النبوة فقط ، لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، ولا نهي عن التفاضل بزيادة
الخصوصيات والكرامات ؛ وقيل : إن المراد : النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء
والعصبية. وفي جميع هذه الأقوال ضعف. وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة ، فإن
القرآن دلّ على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض ، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن
نفضل بعضهم على بعض ، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى
عليه منها خافية ؛ وليست بمعلومة عند البشر ، فقد يجهل أتباع نبيّ من الأنبياء بعض
مزاياه وخصوصياته فضلا عن مزايا غيره ، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع
الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا ، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو
بأقلها ، فإن ذلك تفضيل بالجهل ، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه
، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على
بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء ، فكيف وقد وردت
السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة
بوجه من الوجوه ، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض ،
والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه ، فمن تعرّض للجمع بينهما زاعما
أنهما
__________________
متعارضان فقد غلط غلطا بينا. قوله : (مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ) وهو موسى ، ونبينا سلام الله عليهما. وقد روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال في آدم : «إنه نبي مكلم». وقد ثبت ما يفيد ذلك
في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر. قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجاتٍ) هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله
سبحانه من الأنبياء ، ويحتمل أن يراد به نبينا صلىاللهعليهوسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله ، ويحتمل أن يراد به
إدريس ؛ لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكانا عليا ؛ وقيل : إنهم أولو العزم ؛
وقيل : إبراهيم ، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع ، فلا يجوز لنا
التعرّض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه ، أو من أنبيائه عليهم الصلاة
والسلام ، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك ، فالتعرّض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم
بمحض الرأي ، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين
الأنبياء وقد نهينا عنه ؛ وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وأطالوا في ذلك ، واستدلوا لما خصه الله به من
المعجزات ، ومزايا الكمال ، وخصال الفضل ، وهم ـ بهذا الجزم بدليل لا يدل على
المطلوب ـ قد وقعوا في خطرين ، وارتكبوا نهيين ، وهما : تفسير القرآن بالرأي ،
والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء ، وإن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا ؛ فهو ذريعة
إليه بلا شك ولا شبهة ، ، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبيّ
الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه ، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلىاللهعليهوسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل
، فإياك أن تتقرّب إليه صلىاللهعليهوسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه ، وتسيء ، وأنت
تظن أنك مطيع محسن. قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي : الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء
الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك. قوله : (وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) هو جبريل ، وقد تقدّم الكلام على هذا. قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد الرسل ؛ وقيل : من بعد موسى وعيسى ومحمد ،
لأن الثاني مذكور صريحا ، والأول والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا ، فمفعول
المشيئة محذوف على القاعدة (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استثناء من الجملة الشرطية ، أي : ولكن الاقتتال ناشئ
عن اختلافهم اختلافا عظيما ، حتى صاروا مللا مختلفة (فَمِنْهُمْ مَنْ
آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف (مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ
يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) لا رادّ لحكمه ، ولا مبدّل لقضائه ، فهو يفعل ما يشاء ،
ويحكم ما يريد.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ) قال : اتخذ الله إبراهيم خليلا ، وكلم موسى تكليما ،
وجعل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله وكلمته وروحه
، وآتى داود زبورا ، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وغفر لمحمد ما تقدم
من ذنبه وما تأخر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن
مجاهد في قوله : (مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ) قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى الناس كافة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي في
قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجاتٍ) قال : محمدا صلىاللهعليهوسلم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يقول : من بعد موسى وعيسى. وأخرج ابن عساكر عن
ابن عباس قال : كنت عند النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ وعنده أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاوية ، إذ أقبل
عليّ ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم لمعاوية : «أتحبّ عليا؟ قال : نعم قال : إنها ستكون
بينكم فتنة هنيهة ، قال معاوية : فما بعد ذلك يا رسول الله؟ قال : عفو الله
ورضوانه ، قال : رضينا بقضاء الله ، فعند ذلك نزلت هذه الآية : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا
وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)» قال السيوطي : وسنده واه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ
يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (٢٥٤))
ظاهر الأمر في
قوله : (أَنْفِقُوا) الوجوب ، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك ولما في
آخر الآية من الوعيد الشديد. وقيل : إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض والتطوّع. قال
ابن عطية : وهذا صحيح ، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال ؛ وأن الله يدفع
بالمؤمنين في صدور الكافرين ؛ يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله. قال
القرطبي : وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجبا ، ومرة ندبا ، بحسب تعين
الجهاد وعدم تعينه. قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) أي : أنفقوا ما دمتم قادرين (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ) ما لا يمكنكم الإنفاق فيه وهو (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) أي : لا يتبايع الناس فيه. والخلة : خالص المودّة ،
مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة
نافعة ولا شفاعة مؤثرة إلّا لمن أذن الله له. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لا بيع
ولا خلة ولا شفاعة ، من غير تنوين. وقرأ الباقون برفعها منوّنة ، وهما لغتان
مشهورتان للعرب ، ووجهان معروفان عند النحاة ، فمن الأوّل قول حسان :
ألا طعان ولا
فرسان عادية
|
|
إلا تجشّؤكم
حول التنانير
|
ومن الثاني قول
الراعي :
وما صرمتك
حتّى قلت معلنة
|
|
لا ناقة لي
في هذا ولا جمل
|
ويجوز في غير
القرآن : التغاير برفع البعض ، ونصب البعض ، كما هو مقرر في علم الإعراب. قوله : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه ، ومن جملة من يدخل
تحت هذا العموم مانع الزكاة منعا يوجب كفره ، لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) قال : من الزكاة والتطوّع. وأخرج ابن المنذر عن سفيان
قال : يقال نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ، ونسخ شهر رمضان كل صوم. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : قد علم الله أن ناسا
يتخاللون في الدنيا ويشفع بعضهم لبعض ؛ فأما يوم القيامة فلا خلة إلا
__________________
خلة المتقين. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عطاء قال : الحمد لله الذي
قال : (وَالْكافِرُونَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) ولم يقل والظالمون هم الكافرون.
(اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))
قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا معبود بحق إلا هو ، وهذه الجملة خبر المبتدأ.
والحيّ : الباقي ؛ وقيل : الذي لا يزول ولا يحول ؛ وقيل : المصرّف للأمور ،
والمقدّر للأشياء. قال الطبري عن قوم : إنه يقال : حيّ ، كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك
دون أن ينظر فيه ، وهو خبر ثان أو مبتدأ خبره محذوف. والقيوم : القائم على كل نفس
بما كسبت ، وقيل : القائم بذاته المقيم لغيره ؛ وقيل : القائم بتدبير الخلق وحفظه
؛ وقيل : هو الذي لا ينام ؛ وقيل : الذي لا بديل له. وأصل قيوم : قيووم اجتمعت
الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء.
وقرأ ابن مسعود ، وعلقمة ، والنخعي ، والأعمش : «الحي القيام» بالألف ، وروي ذلك
عن عمر ، ولا خلاف بين أهل اللغة أن : القيوم ، أعرف عند العرب وأصح بناء ، وأثبت
علة. والسّنة : النعاس في قول الجمهور ، والنعاس : ما يتقدّم النوم من الفتور
وانطباق العينين ، فإذا صار في القلب صار نوما. وفرّق المفضل بين السنة والنعاس
والنوم فقال : السنة من الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب. انتهى. والذي
ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم أن السنة لا يفقد معها العقل ،
بخلاف النوم فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل ، بل
وجميع الإدراكات بسائر المشاعر ؛ والمراد : أنه لا يعتريه سبحانه شيء منهما ،
وقدّم السنة على النوم ، لكونها تتقدّمه في الوجود. قال الرازي في تفسيره : إن
السنة ما تتقدم النوم ، فإذا كانت عبارة عن مقدّمة النوم ، فإذا قيل لا تأخذه سنة
دلّ على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى ، فكان ذكر النوم تكرارا ، قلنا : تقدير
الآية لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم ، والله أعلم بمراده. انتهى. وأقول : إن
هذه الأولوية التي ذكرها غير مسلمة ، فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من
النعاس. وإذا ورد على القلب والعين دفعة واحدة فإنه يقال له : نوم ، ولا يقال له :
سنة ، فلا يستلزم نفي السنة نفي النوم. وقد ورد عن العرب نفيهما جميعا ، ومنه قول
زهير :
ولا سنة طوال
الدّهر تأخذه
|
|
ولا ينام وما
في أمره فند
|
فلم يكتف بنفي
السنة ، وأيضا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة ، ولا يقدر على أن يدفع
عن نفسه النوم ، فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السنة ؛ فلو وقع الاقتصار في النظم
القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم ، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي
النوم لم يفد نفي السنة ، فكم من ذي سنة غير نائم ؛ وكرّر حرف النفي للتنصيص على
شمول النفي لكل واحد منهما. قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من
عباده يقدر على أن ينفع أحدا منهم بشفاعة
أو غيرها ، والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه ، وفيه من الدفع في صدور
عبّاد القبور ، والصدّ في وجوههم ، والفت في أعضادهم ، ما لا يقادر قدره ، ولا
يبلغ مداه ، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) وقوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) بدرجات كثيرة. وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في
دواوين الإسلام صفة الشفاعة ، ولمن هي؟ ومن يقوم بها؟. قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ) الضميران لما في السموات والأرض بتغليب العقلاء على
غيرهم ، وما بين أيديهم وما خلفهم : عبارة عن المتقدّم عليهم والمتأخر عنهم ، أو
عن الدنيا والآخرة وما فيهما. قوله : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) قد تقدّم معنى الإحاطة ، والعلم هنا : بمعنى المعلوم ،
أي : لا يحيطون بشيء من معلوماته. قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) الكرسي : الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته ،
كما سيأتي بيان ذلك. وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة ؛ وأخطئوا في ذلك خطأ بينا ،
وغلطوا غلطا فاحشا. وقال بعض السلف : إن الكرسي هنا : عبارة عن العلم. قالوا :
ومنه قيل للعلماء : الكراسي ، ومنه : الكراسة التي يجمع فيها العلم ، ومنه قول
الشاعر :
يحفّ بهم بيض
الوجوه وعصبة
|
|
كراسيّ
بالأحداث حين تنوب
|
ورجّح هذا
القول ابن جرير الطبري ؛ وقيل : كرسيه : قدرته التي يمسك بها السموات والأرض ، كما
يقال : اجعل لهذا الحائط كرسيا ، أي : ما يعمده ؛ وقيل : إن الكرسيّ هو العرش ،
وقيل : هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له ، وقيل : هو عبارة عن الملك. والحق القول
الأوّل ، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلّا مجرد خيالات تسببت عن جهالات
وضلالات ، والمراد بكونه وسع السموات والأرض أنها صارت فيه ، وأنه وسعها ، ولم يضق
عنها ؛ لكونه بسيطا واسعا. وقوله : (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما) معناه : لا يثقله ، يقال : آدني الشيء ، بمعنى : أثقلني
وتحملت منه مشقة. وقال الزجاج : يجوز أن يكون الضمير في قوله : (يَؤُدُهُ) لله سبحانه ، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله و (الْعَلِيُ) يراد به : علوّ القدرة والمنزلة. وحكى الطبري عن قوم
أنهم قالوا : هو العليّ عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية : وهذه
أقوال جهلة مجسمين ، وكان الواجب أن لا تحكى. انتهى. والخلاف في إثبات الجهة معروف
في السلف والخلف ، والنزاع فيه كائن بينهم ، والأدلة من الكتاب والسنة معروفة ،
ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجا عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها
، والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل ، ويتبين به الصحيح من
الفاسد : (وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في
قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلا فِي الْأَرْضِ) وقال الشاعر :
فلمّا علونا
واستوينا عليهم
|
|
تركناهم صرعى
لنسر وكاسر
|
والعظيم :
بمعنى : عظم شأنه وخطره. قال في الكشاف : إن الجملة الأولى : بيان لقيامه بتدبير
الخلق
__________________
وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه. والثانية : بيان لكونه مالكا لما يدبره.
والجملة الثالثة : بيان لكبرياء شأنه. والجملة الرابعة : بيان لإحاطته بأحوال
الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى. والجملة الخامسة : بيان
لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله وعظم قدره.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم في قوله : (الْحَيُ) أي : حيّ لا يموت و (الْقَيُّومُ) القائم الذي لا بديل له. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن مجاهد في قوله : (الْقَيُّومُ) قال : القائم على كل شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن
قال : القيوم الذي لا زوال له. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ) قال : السنّة : النعاس ، والنوم : هو النوم. وأخرجوا
إلا البيهقي عن السدّي قال : السنة : ريح النوم الذي تأخذه في الوجه فينعس
الإنسان. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ) قال : ما مضى من الدنيا (وَما خَلْفَهُمْ) من الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : ما قدّموا من أعمالهم (وَما خَلْفَهُمْ) : ما أضاعوا من أعمالهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله
: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) قال : علمه ، ألا ترى إلى قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما). وأخرج الدارقطني في الصفات ، والخطيب في تاريخه عنه
قال : «سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قول الله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) قال : كرسيه موضع قدمه ، والعرش لا يقدّر قدره إلا الله
عزوجل». وأخرجه الحاكم وصححه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن
بعضهنّ إلى بعض ما كنّ في سعته : يعني : الكرسي ، إلا بمنزلة الحلقة في المفازة.
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي ذرّ
الغفاري : أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الكرسي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده ما السّموات السبع عند الكرسيّ إلا
كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإنّ فضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على تلك الحلقة».
وأخرج عبد بن حميد ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني
والضياء المقدسي في المختارة عن عمر قال : «أتت امرأة إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم وقالت : ادع الله أن يدخلني الجنّة ، فعظّم الرّبّ
سبحانه وقال : إنّ كرسيّه وسع السموات والأرض ، وإنّ له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله» وفي إسناده عبد الله بن خليفة ،
وليس بالمشهور. وفي سماعه من عمر نظر ، ومنهم من يرويه عن عمر موقوفا. وأخرج ابن
مردويه عن أبي هريرة مرفوعا : أنه موضع القدمين. وفي إسناده الحكم بن ظهير الفزاري
الكوفي وهو متروك. وقد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم في وصف الكرسي
آثار لا حاجة في بسطها. وقد روى أبو داود في كتاب السنة من سننه من حديث جبير بن
مطعم حديثا في صفته ، وكذلك أورد ابن مردويه عن
__________________
بريدة وجابر وغيرهما. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما) قال : لا يثقل عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه : (وَلا يَؤُدُهُ) قال : ولا يكثره : وأخرج ابن جرير عنه قال : العظيم
الذي قد كمل في عظمته.
واعلم أنه قد
ورد في فضل هذه الآية أحاديث. وأخرج أحمد ، ومسلم واللفظ عن أبيّ بن كعب : «أنّ
النبيّ صلىاللهعليهوسلم سأله : أي آية من كتاب الله أعظم؟ قال : آية الكرسي ،
قال : ليهنك العلم أبا المنذر». وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، وأبو
الشيخ في العظمة ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن أبيّ بن كعب : أنه كان له جرن فيه
تمر ، فكان يتعاهده ، فوجده ينقص ، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبه الغلام
المحتلم ، قال : فسلمت فردّ السلام ، فقلت : ما أنت ، جنّي أم إنسي؟ قال : جنّي ،
قلت : ناولني يدك ، فناولني فإذا يده يد كلب وشعره شعر كلب ، فقلت : هكذا خلق
الجنّ؟ قال : لقد علمت الجن أن ما فيهم من هو أشدّ مني ، قلت : ما حملك على ما
صنعت؟ قال : بلغني أنك رجل تحبّ الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك ، فقال له أبيّ :
فما الذي يجيرنا منكم؟ قال : هذه الآية ، آية الكرسي التي في سورة البقرة ، من
قالها حين يمسي أجير منّا حتى يصبح ، ومن قالها حين يصبح أجير منّا حتى يمسي ،
فلما أصبح أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره فقال : «صدق الخبيث». وأخرج البخاري في تاريخه ،
والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري «أن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم جاءهم في صفة المهاجرين ، فسأله إنسان أيّ آية في
القرآن أعظم؟ فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) حتى انقضت الآية». وأخرج أحمد من حديث أبي ذرّ مرفوعا
نحوه. وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج الدارمي عن
أيفع بن عبد الله الكلاعي نحوه. وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : «وكلني
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو وذكر قصة ، وفي
آخرها أنه قال له : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت : ما هي؟ قال : إذا
أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك
شيطان حتى تصبح. فأخبر أبو هريرة بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أما إنه صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب يا أبا
هريرة؟ قال : لا ، قال : «ذلك شيطان كذا». وأخرج نحو ذلك أحمد عن أبي أيوب. وأخرج
الطبراني ، والحاكم ، وأبو نعيم والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه. وأخرج ابن
مردويه عن ابن مسعود أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أعظم آية في كتاب الله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ). وأخرج نحوه أحمد ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في
الشعب عن أبي ذرّ مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا أحمد ، والطبراني من حديث أبي أمامة
مرفوعا. وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن ، لا تقرأ
في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي». قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم
يخرجاه. وأخرج الحاكم من حديث زائدة مرفوعا : «لكل شيء سنام ، وسنام القرآن البقرة
، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي» ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث
حكيم بن جبير. وقد تكلم فيه شعبة
وضعفه ، وكذا ضعفه أحمد ، ويحيى بن معين ، وغير واحد ، وتركه ابن مهدي ،
وكذبه السعدي. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن
قالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في هاتين الآيتين : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و (الم اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) «إن فيهما اسم الله الأعظم». وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه ، وورد أيضا
في فضل قراءتها دبر الصلوات وفي غير ذلك ، وورد أيضا في فضلها مع مشاركة غيرها لها
أحاديث ، وورد عن السلف في ذلك شيء كثير.
(لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها
وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))
قد اختلف أهل
العلم في قوله : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) على أقوال : الأوّل : أنها منسوخة لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أكره العرب على دين الإسلام ، وقاتلهم ولم يرض منهم
إلا بالإسلام ، والناسخ لها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) وقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وقال : (سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين. القول الثاني :
أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإسلام
إذا أدّوا الجزية ، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام
أو السيف ، وإلى هذا ذهب الشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك. القول الثالث : أن
هذه الآية في الأنصار خاصة ، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع : أن معناها
: لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف : إنه مكره ، فلا إكراه في الدين. القول الخامس :
أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام. وقال ابن كثير
في تفسيره : أي : لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيّن واضح ، جلّي
دلائله ، وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله
للإسلام ؛ وشرح صدره ؛ ونوّر بصيرته ؛ دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه ؛
وختم على سمعه وبصره ؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا ، وهذا يصلح أن
يكون قولا سادسا. وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية : أي : لم يجر الله أمر
الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والاختيار ، ونحوه قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكن لم يفعل ، وبنى
الأمر على الاختيار ، وهذا يصلح أن يكون قولا سابعا. والذي ينبغي اعتماده ويتعين
الوقوف عنده : أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة ، وهو : أن المرأة
من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن
تهوّده ، فلما أجليت يهود بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع
أبناءنا. فنزلت. أخرجه أبو داود ، والنسائي ،
__________________
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ،
والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة عن ابن عباس. وقد وردت هذه القصة من وجوه
، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا إنما جعلناهم على
دينهم ، أي : دين اليهود ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء
بالإسلام فلنكرهنهم ؛ فلما نزلت خيّر الأبناء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يكرههم على الإسلام. وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا
يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدّوا الجزية. وأما أهل الحرب
فالآية وإن كانت تعمهم ، لأن النكرة في سياق النفي وتعريف الدين يفيدان ذلك ،
والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في
إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام. قوله : (قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) الرشد هنا : الإيمان ، والغيّ : الكفر ، أي : قد تميز
أحدهما من الآخر. وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله. والطاغوت فعلوت من طغى
يطغى ويطغو : إذا جاوز الحدّ. قال سيبويه : هو اسم مذكر مفرد ، أي : اسم جنس يشمل
القليل والكثير ؛ وقال أبو علي الفارسي : إنه مصدر ، كرهبوت ، وجبروت ، يوصف به
الواحد والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه إلى موضع اللام كجبذ وجذب ، ثم
تقلب الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها ، فقيل : طاغوت ، واختار هذا القول النحاس
؛ وقيل : أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما
قيل : لآلئ من اللؤلؤ. وقال المبرد : هو جمع. قال ابن عطية : وذلك مردود. قال
الجوهري : والطاغوت : الكاهن ، والشيطان ، وكل رأس في الضلال ، وقد يكون واحدا.
قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) وقد يكون جمعا. قال الله تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) والجمع الطواغيت ، أي : فمن يكفر بالشيطان ؛ أو الأصنام
؛ أو أهل الكهانة ؛ ورؤوس الضلالة ، أو الجميع (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) عزوجل بعد ما تميز له الرشد من الغيّ ، فقد فاز وتمسك بالحبل
الوثيق ، أي : المحكم. والوثقى : فعلى من الوثاقة ، وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل.
وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه
والتمثيل لما هو معلوم بالدليل ، بما هو مدرك بالحاسة ؛ فقيل : المراد بالعروة :
الإيمان ، وقيل : الإسلام ، وقيل : لا إله إلا الله ، ولا مانع من الحمل على
الجميع. والانفصام : الانكسار من غير بينونة. قال الجوهري : فصم الشيء : كسره من
غير أن يبين. وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة ، وفسر صاحب الكشاف
الانفصام بالانقطاع. قوله : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا) الولي : فعيل بمعنى فاعل ، وهو الناصر. وقوله : (يُخْرِجُهُمْ) تفسير للولاية ، أو حال من الضمير في وليّ ، وهذا يدل
على أن المراد بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) الذين أرادوا الإيمان ، لأن من قد وقع منه الإيمان قد
خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج : إخراجهم من الشبه التي تعرض
للمؤمنين فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة ، والمراد بالنور في قوله : (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ) ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين ، فإن ذلك
نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر ، أي : قررهم أولياؤهم على ما هم
عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء. وقيل : المراد
بالذين كفروا هنا : الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم ؛ يخرجهم أولياؤهم من
__________________
الشياطين ورؤوس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها
إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج.
وقد أخرج سعيد
بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر والبيهقي عن سعيد بن جبير نحو
ما تقدّم عن ابن عباس من ذكر سبب نزول قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) وزاد أن النبي صلىاللهعليهوسلم خير الأبناء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر عن الشعبي نحوه أيضا ، وقال : فلحق بهم : أي : ببني الأبناء. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الشعبي نحوه أيضا ، وقال : فلحق بهم ، أي :
ببني النضير من لم يسلم وبقي من أسلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين
في بني قريظة فثبتوا على دينهم ، فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على
الإسلام فنزلت. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن ابن
عباس في قوله : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال
له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلما ، فقال للنبي صلىاللهعليهوسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فنزلت.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن عبيدة نحوه. وكذلك أخرج أبو داود في ناسخه ،
وابن جرير ، وابن المنذر عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ،
وابن جرير عن قتادة قال : كانت العرب ليس لها دين ، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال
: ولا تكرهوا اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية. وأخرج سعيد بن منصور
عن الحسن نحوه. وأخرج البخاري عن أسلم : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية :
أسلمي تسلمي ، فأبت ، فقال : اللهم اشهد ، ثم تلا : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ). وروى عنه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم أنه قال لزنبق الرومي غلامه : لو أسلمت استعنت بك على أمانة
المسلمين ، فأبى ، فقال : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ). وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى
في قوله : (لا إِكْراهَ فِي
الدِّينِ) قال : نسختها (جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ) . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
عمر بن الخطاب قال : الطاغوت : الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال :
الطاغوت : الكاهن. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : الطاغوت : الساحر. وأخرج
ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس قال : الطاغوت : ما يعبد من دون الله. وأخرج ابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العروة الوثقى : لا إله إلا
الله. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك : أنها القرآن. وأخرج
عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : أنها الإيمان.
وعن سفيان : أنها كلمة الإخلاص. وقد ثبت في الصحيحين تفسير العروة الوثقى في غير
هذه الآية بالإسلام مرفوعا في تعبيره صلىاللهعليهوسلم لرؤيا عبد الله ابن سلام. وأخرج ابن عساكر عن أبي
الدرداء قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنّهما حبل
الله الممدود ، فمن تمسّك بهما فقد تمسّك بعروة الله الوثقى التي لا انفصام لها». وأخرج
ابن المنذر عن ابن عباس قال : إذا وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى. وأخرج
ابن المنذر ،
__________________
وابن أبي حاتم عن معاذ أنه سئل عن قوله : (لَا انْفِصامَ لَها) قال : لا انقطاع لها دون دخول الجنة. وأخرج ابن المنذر
، والطبراني عن ابن عباس في قوله : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، قال : هم قوم كانوا كفروا بعيسى فآمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم (الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) الآية ، قال : هم قوم آمنوا بعيسى فلما بعث محمد كفروا
به. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : الظلمات الكفر. والنور : الإيمان. وأخرج أبو
الشيخ عن السدي مثله.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ
إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(٢٥٨))
في هذه الآية
استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت ، وهمزة الاستفهام لإنكار
النفي والتقرير المنفي ، أي : ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه
المحاجة؟ قال الفراء : ألم تر بمعنى : هل رأيت ، أي : هل رأيت الذي حاجّ إبراهيم؟
وهو : النمروذ بن كوس بن كنعان بن سلم ابن نوح ، وقيل : إنه النمروذ بن فالخ بن
عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. وقوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ
الْمُلْكَ) أي : لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله ، على
معنى : أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو ، فحاج لذلك ، أو على أنه وضع
المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر ، كما يقال : عاديتني
لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك. وقوله : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) هو ظرف لحاج ؛ وقيل : بدل من قوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) على الوجه الأخير وهو بعيد. قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بفتح ياء ربي ، وقرئ بحذفها. قوله : (أَنَا أُحْيِي) قرأ جمهور القراء : أنا أحيي بطرح الألف التي بعد النون
من أنا في الوصل وأثبتها نافع وابن أبي أويس كما في قول الشاعر :
أنا شيخ
العشيرة فاعرفوني
|
|
حميدا قد
تذرّيت السّناما
|
أراد إبراهيم عليهالسلام : أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد ،
وأراد الكافر : أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء ، وعلى أن يقتل فيكون
ذلك إماتة ، فكان هذا جوابا أحمق ، لا يصح نصبه في مقابلة حجّة إبراهيم ، لأنه
أراد غير ما أراد الكافر ، فلو قال له : ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد
فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أوّل وهلة ، ولكنه انتقل معه إلى
حجة أخرى تنفيسا لخناقه ، وإرسالا لعنان المناظرة فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ، ولا يتيسر
للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة. قوله : (فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ) بهت الرجل وبهت وبهت : إذا انقطع وسكت متحيرا. قال ابن
جرير : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى : بهت بفتح الباء والهاء. قال ابن جني :
قرأ أبو حيوة : فبهت بفتح الباء وضم الهاء ، وهي لغة في بهت بكسر الهاء ؛ قال :
وقرأ ابن السميقع : فبهت بفتح الباء والهاء ، على معنى : فبهت إبراهيم الذي
كفر ، فالذي في موضع نصب ؛ قال : وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت.
وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة : (فَبُهِتَ) بكسر الهاء ، قال : والأكثر بالفتح في الهاء. قال ابن
عطية : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فبهت بفتحهما أنه بمعنى : سب وقذف ، وأن
النمروذ هو الذي سبّ حين انقطع ولم يكن له حيلة. انتهى. وقال سبحانه : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ولم يقل فبهت الذي حاجّ ، إشعارا بأن تلك المحاجة كفر.
وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن الذي حاج إبراهيم في ربه هو : نمروذ بن كنعان.
وأخرجه ابن جرير عن مجاهد ، وقتادة والربيع والسدي. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم : أن أول
جبار كان في الأرض نمروذ ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام ، فخرج
إبراهيم عليهالسلام يمتار مع من يمتار ، فإذا مرّ به ناس قال : من ربكم؟ قالوا
: أنت ؛ حتى مرّ به إبراهيم ، فقال : من ربك؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا
أحيي وأميت ، قال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي
كفر ، فردّه بغير طعام. فرجع إبراهيم إلى أهله فمرّ على كثيب من رمل أصفر فقال : ألا
آخذ من هذا فآتي به أهلي ، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ، فأخذ منه فأتى أهله فوضع
متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ. فصنعت
له منه فقربته إليه ، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا؟
قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه فحمد الله. ثم بعث الله إلى
الجبار ملكا أن آمن وأتركك على ملكك. قال : فهل ربّ غيري؟ فجاءه الثانية فقال له
ذلك ، فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال
له الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح
عليه بابا من البعوض وطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم ، فأكلت
شحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء
، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ،
وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه
الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء فأتى
الله بنيانه من القواعد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية ، قال : هو نمروذ
بن كنعان ، يزعمون أنه أوّل من ملك في الأرض ، أتى برجلين ، قتل أحدهما وترك الآخر
، فقال : (أَنَا أُحْيِي
وَأُمِيتُ). وأخرج أبو الشيخ عن السدي : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) قال : إلى الإيمان.
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ
بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ
قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ
فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها
ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))
قوله : (أَوْ كَالَّذِي) أو : للعطف حملا على المعنى ، والتقدير : هل رأيت كالذي
حاجّ ، أو كالذي مرّ على قرية ، قاله الكسائي والفراء. وقال المبرد : إن المعنى :
ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه؟ ألم تر من هو كالذي مرّ على قرية؟ فحذف قوله
: من هو. وقد اختار جماعة أن الكاف زائدة ، واختار آخرون أنها اسمية. والمشهور أن
القرية هي : بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها ؛ وقيل : المراد بالقرية : أهلها.
وقوله : (خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) أي : ساقطة على عروشها ، أي : سقط السقف ، ثم سقطت
الحيطان عليه ، قاله السدي واختاره ابن جرير ؛ وقيل : معناه : خالية من الناس
والبيوت قائمة ؛ وأصل الخواء : الخلوّ ، يقال : خوت الدار ، وخويت ، تخوى خواء
ممدود ، وخيّا وخويّا : أقفرت ، والخواء أيضا : الجوع لخلوّ البطن عن الغذاء.
والظاهر : القول الأوّل بدلالة قوله : (عَلى عُرُوشِها) من خوى البيت : إذا سقط ، أو من خوت الأرض : إذا تهدمت
، وهذه الجملة حالية ، أي : من حال كونها كذلك. وقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) أي : متى يحيي؟ أو كيف يحيي؟ وهو استبعاد لإحيائها وهي
على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباينة لحالة الأحياء ، وتقديم المفعول :
لكون الاستبعاد ناشئا من جهته ، لا من جهة الفاعل. فلمّا قال المارّ هذه المقالة
مستبعدا لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها ، والسكون فيها ، ضرب الله له المثل
في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه (فَأَماتَهُ اللهُ
مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في
قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية : ليس يدخل شكّ
في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها ، وإنما يتصور الشك إذا
كان سؤاله عن إحياء موتاها. وقوله : (مِائَةَ عامٍ) منصوب على الظرفية. والعام : السنة ، أصله مصدر كالعوم
، سمي به هذا القدر من الزمان. وقوله : (بَعَثَهُ) معناه أحياه. قوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) هو استئناف كأنّ سائلا سأله ماذا قال له بعد بعثه؟
واختلف في فاعل قال ؛ فقيل : هو الله عزوجل ؛ وقيل : ناداه بذلك ملك من السماء ؛ قيل : هو جبريل ؛
وقيل : غيره ؛ وقيل : إنه نبيّ من الأنبياء ؛ قيل : رجل من المؤمنين من قومه شاهده
عند أن أماته الله وعمر إلى عند بعثه. والأولى أولى لقوله فيما بعد : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ
نُنْشِزُها) وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلّا عاصما : كم لبتّ بإدغام
الثاء في التاء لتقاربهما في المخرج. وقرأ غيرهم : بالإظهار ، وهو أحسن ، لبعد
مخرج الثاء من مخرج التاء. و (كَمْ) في موضع نصب على الظرفية ، وإنما قال : (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على ما عنده ، وفي ظنه ، فلا يكون كاذبا ، ومثله :
قول أصحاب الكهف : (قالُوا لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ومثله : قوله صلىاللهعليهوسلم في قصة ذي اليدين : «لم تقصر ولم أنس» وهذا مما يؤيد
قول من قال : إن الصدق : ما طابق الاعتقاد ، والكذب : ما خالفه. وقوله : (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) هو استئناف أيضا كما سلف ، أي : ما لبثت يوما أو بعض
يوم بل لبثت مائة عام. وقوله : (فَانْظُرْ إِلى
طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أمره سبحانه أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار
القدرة ، وهو عدم تغير طعامه وشرابه مع طول تلك المدة. وقرأ ابن مسعود : «وهذا
طعامك وشرابك لم يتسنّه» وقرأ طلحة بن مصرف : «وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة».
وروي عن طلحة أيضا أنه قرأ : «لم يسن» بإدغام التاء في السين وحذف
الهاء. وقرأه الجمهور : بإثبات الهاء في الوصل ، والتسنه : مأخوذ من السنة
، أي : لم تغيره السنون ، وأصلها : سنهة ، أو سنوة ، من سنهت النخلة وتسنهت : إذا
أتت عليها السنون ، ونخلة سنّاء : أي تحمل سنة ولا تحمل أخرى ، وأسنهت عند بني
فلان : أقمت عندهم ، وأصله : يتسنا سقطت الألف للجزم والهاء للسكت ، وقيل : هو من
أسن الماء : إذا تغير ، وكان يجب على هذا أن يقال يتأسن من قوله : (حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قاله أبو عمرو الشيباني. وقال الزجاج : ليس كذلك ، لأن
قوله : (مَسْنُونٍ) ليس معناه متغير ، وإنما معناه مصبوب على سنة الأرض.
وقوله : (وَانْظُرْ إِلى
حِمارِكَ) اختلف المفسرون في معناه ؛ فذهب الأكثر إلى أن معناه
انظر إليه كيف تفرّقت أجزاؤه ، ونخرت عظامه؟ ثم أحياه الله ، وعاد كما كان. وقال
الضحاك ووهب ابن منبه : انظر إلى حمارك قائما في مربطه ، لم يصبه شيء بعد أن مضت
عليه مائة عام ، ويؤيد القول الأول : قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) ويؤيد القول الثاني : مناسبته لقوله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ) وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه وشرابه بعد إخباره أنه
لبث مائة عام ، مع أن عدم تغير ذلك الطعام والشراب لا يصلح أن يكون دليلا على تلك
المدة الطويلة ، بل على ما قاله من لبثه يوما أو بعض يوم ، لزيادة استعظام ذلك
الذي أماته الله تلك المدة ، فإنه إذا رأى طعامه وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظنّ
أنه لم يلبث إلّا يوما أو بعض يوم زادت الحيرة وقويت عليه الشبهة ، فإذا نظر إلى
حماره عظاما نخرة تقرّر لديه أن ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول ،
فإن الطعام والشراب سريع التغير. وقد بقي هذه المدّة الطويلة غير متغير ، والحمار
يعيش المدة الطويلة. وقد صار كذلك : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). قوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً
لِلنَّاسِ) قال الفراء : إنه أدخل الواو في قوله : (وَلِنَجْعَلَكَ) دلالة على أنها شرط لفعل بعدها ؛ معناه : ولنجعلك آية
للناس ، ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جعلت الواو مقحمة زائدة.
قال الأعمش : موضع كونه آية : هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات ، فوجد الأبناء
والحفدة شيوخا. قوله : (وَانْظُرْ إِلَى
الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) قرأ الكوفيون ، وابن عامر : بالزاي ، والباقون :
بالراء. وروى أبان عن عاصم : «ننشرها» بفتح النون الأولى وسكون الثانية وضم الشين
والراء. وقد أخرج الحاكم وصحّحه عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ «كيف ننشزها» بالزاي ، فمعنى القراءة بالزاي :
نرفعها ، ومنه النشز : وهو المرتفع من الأرض ، أي : يرفع بعضها إلى بعض. وأما معنى
القراءة بالراء المهملة فواضحة من أنشر الله الموتى ، أي : أحياهم وقوله : (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) أي : نسترها به كما نستر الجسد باللباس ، فاستعار
اللباس لذلك ، كما استعاره النابغة للإسلام فقال :
الحمد لله إذ
لم يأتني أجلي
|
|
حتّى اكتسيت
من الإسلام سربالا
|
قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي : ما تقدّم ذكره من الآيات ، التي أراه الله سبحانه
، وأمره بالنظر إليها والتفكير فيها قال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يستعصي عليه شيء من الأشياء. قال ابن جرير : المعنى
في قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ) أي : لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله
عنده قبل عيانه (قالَ أَعْلَمُ) وقال أبو علي الفارسي : معناه : أعلم أن هذا الضرب من
العلم الذي لم أكن علمته. وقرأ حمزة
__________________
والكسائي : (قالَ أَعْلَمُ) على لفظ الأمر خطابا لنفسه على طريق التجريد.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصحّحه ، عن علي في قوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) قال : خرج عزير نبيّ الله من مدينته وهو شاب ، فمرّ على
قرية خربة وهي خاوية على عروشها ، فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ
اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) فأوّل ما خلق الله عيناه ، فجعل ينظر إلى عظامه ينضم
بعضها إلى بعض ، ثم كسيت لحما ، ثم نفخ فيه الروح ، فقيل له : (كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) فأتى مدينته. وقد ترك جارا له إسكافا شابا فجاء وهو شيخ
كبير. وقد ورد عن جماعة من السلف أن الذي أماته الله عزير ، منهم : ابن عباس عند
ابن جرير وابن عساكر ، ومنهم : عبد الله بن سلام ، عند الخطيب وابن عساكر ، ومنهم
: عكرمة ، وقتادة ، وبريدة ، والضحاك ، والسدّيّ عند ابن جرير ، وورد عن جماعة
آخرين : أن الذي أماته الله هو نبيّ اسمه : أرمياء ، فمنهم : عبد الله بن عبيد بن
عمير عند عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، ومنهم : وهب ابن منبه ، عند
عبد الرزاق ، وابن جرير ، وأبي الشيخ. وأخرج ابن إسحاق عنه أيضا : أنه الخضر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن رجل من أهل الشام : أنه حزقيل. وروى ابن كثير عن مجاهد :
أنه رجل من بني إسرائيل. والمشهور القول الأوّل. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن
ابن عباس في قوله : (خاوِيَةٌ) قال : خراب. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : (خاوِيَةٌ) ليس فيها أحد. وأخرج أيضا عن الضحاك قال : (عَلى عُرُوشِها) سقوفها. وأخرج ابن جرير عن السدّيّ قال : ساقطة على
سقوفها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : (لَبِثْتُ يَوْماً) ثم التفت فرأى الشمس فقال : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). وأخرج عنه أيضا قال : كان طعامه الذي معه سلة من تين ،
وشرابه زقّ من عصير. وأخرج أيضا عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) قال : لم يتغير. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير قال : (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم ينتن. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) مثل ما تقدّم عن الأعمش ، وكذلك أخرج مثله أيضا عن
عكرمة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (كَيْفَ نُنْشِزُها) قال : نخرجها. وأخرج ابن جرير عن زيد ابن ثابت قال :
نحييها.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ
بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))
قوله : (وَإِذْ) ظرف منصوب بفعل محذوف ، أي : اذكر وقت قول إبراهيم ،
وإنما كان الأمر بالذكر موجها إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد
المبالغة ، لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى ، وهكذا يقال في سائر المواضع
الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف. وقوله : (رَبِ) آثره
على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء. وقوله
: (أَرِنِي) قال الأخفش : لم يرد رؤية القلب ، وإنما أراد رؤية العين
وكذا قال غيره ، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا ، لأن مقصود إبراهيم : أن
يشاهد الإحياء ، لتحصل له الطمأنينة ، والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى
المفعول الثاني وهو الجملة ، أعني قوله : (كَيْفَ تُحْيِ
الْمَوْتى) وكيف في محل نصب على التشبيه بالظرف ، أو بالحال ،
والعامل فيها الفعل الذي بعدها. وقوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) عطف على مقدر ، أي : ألم تعلم ، ولم تؤمن بأني قادر على
الإحياء حتى تسألني إراءته (قالَ : بَلى) علمت وآمنت بأنك قادر على ذلك ، ولكن سألت ليطمئن قلبي
باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان. وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن
شاكا في إحياء الموتى قط ، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من
رؤية ما أخبرت عنه ، ولهذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ليس الخبر كالمعاينة». وحكى ابن جرير عن طائفة من
أهل العلم أنه سأل ذلك لأنه شك في قدرة الله. واستدلوا بما صح عنه صلىاللهعليهوسلم في الصحيحين وغيرهما من قوله : «نحن أحقّ بالشّكّ من
إبراهيم» وبما روي عن ابن عباس أنه قال : «ما في القرآن عندي آية أرجى منها».
وأخرجه عنه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه
، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له. قال ابن عطية : وهو عندي مردود ، يعني : قول
هذه الطائفة ، ثم قال : وأما قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم» فمعناه : أنه لو كان
شاكا لكنا نحن أحق به ، ونحن لا نشك ، فإبراهيم أحرى أن لا يشك. فالحديث مبني على
نفي الشك عن إبراهيم. وأما قول ابن عباس : هي أرجى آية ، فمن حيث أن فيها الإدلال
على الله وسؤال الإحياء في الدنيا ، وليست مظنة ذلك. ويجوز أن نقول : هي أرجى آية
لقوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي : أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث ، قال
: فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط ، فكيف بمرتبة النبوة والخلة؟
والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا ، وإذا تأملت
سؤاله عليهالسلام وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكا ، وذلك أن الاستفهام
بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول ، نحو قولك
: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا ، ومتى قلت : كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما
السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون كيف خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف نحو
قولك : كيف شئت فكن ، ونحو قول البخاري : كيف كان بدء الوحي؟ وهي في هذه الآية
استفهام عن هيئة الإحياء ، والإحياء متقرّر ، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود
شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح ، فيلزم
من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح ، مثال ذلك أن يقول مدع : أنا أرفع هذا الجبل ، فيقول
المكذب له : أرني كيف ترفعه. فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم جدل ، كأنه
يقول : افرض أنك ترفعه. فلمّا كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله
له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟
قالَ : بَلى) فكمل الأمر وتخلص من كل شيء ، ثم علّل عليهالسلام سؤاله بالطمأنينة. قال القرطبي : هذا ما ذكره ابن عطية
وهو بالغ ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر ،
والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث.
وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل ، فقال :
(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) . وقال اللعين : (إِلَّا عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم ، وإنما سأل أن
يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، واتصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها ،
فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين ، فقوله : (أَرِنِي كَيْفَ) طلب مشاهدة الكيفية. قال الماوردي : وليست الألف في
قوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ألف الاستفهام ، وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال
جرير :
ألستم خير من
ركب المطايا
|
|
وأندى
العالمين بطون راح
|
والواو واو
الحال ، و «تؤمن» : معناه : إيمانا مطلقا دخل فيه فضل إحياء الموتى ، والطمأنينة :
اعتدال وسكون ، وقال ابن جرير : معنى (لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي) : ليوقن. قوله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً
مِنَ الطَّيْرِ) الفاء جواب شرط محذوف ، أي : إن أردت ذلك فخذ ، والطير
: اسم جمع لطائر ، كركب : لراكب ، أو جمع ، أو مصدر ، وخص الطير بذلك ، قيل : لأنه
أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان ؛ وقيل : إن الطير همته الطيران في السماء ،
والخليل كانت همته العلوّ ؛ وقيل : غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير. وكل
هذه لا تسمن ولا تغني من جوع ، وليست إلّا خواطر أفهام وبوادر أذهان لا ينبغي أن
تجعل وجوها لكلام الله ، وعللا لما يرد في كلامه ، وهكذا قيل : ما وجه تخصيص هذا
العدد فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد؟ فقيل : إن الخليل إنما سأل واحدا على عدد
العبودية ، فأعطي أربعا على قدر الربوبية ؛ وقيل : إن الطيور الأربعة إشارة إلى
الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان ، ونحو ذلك من الهذيان. قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) قرئ بضم الصاد وكسرها ، أي : اضممهنّ إليك ، وأملهن ،
واجمعهن ؛ يقال رجل أصور : إذا كان مائل العنق ؛ ويقال صار الشيء يصوره : أماله.
قال الشاعر :
الله يعلم
أنّا في تلفّتنا
|
|
يوم الفراق
إلى جيراننا صور
|
وقيل : معناه :
قطعهنّ ، يقال : صار الشيء يصوره : أي : قطعه ، ومنه قول توبة بن الحميّر :
فأدنت لي
الأسباب حتّى بلغتها
|
|
بنهضي وقد
كان ارتقائي يصورها
|
أي : يقطعها ،
وعلى هذا يكون قوله : (إِلَيْكَ) متعلقا بقوله : (فَخُذْ). وقوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى
كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) فيه الأمر بالتجزئة ، لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم
تقدّم التجزئة. قال الزجاج : المعنى : ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا ،
والجزء النصيب. وقوله : (يَأْتِينَكَ) في محل جزم على أنه جواب الأمر ، ولكنه بني لأجل نون
الجمع المؤنث. وقوله : (سَعْياً) المراد به : الإسراع في الطيران أو المشي.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : إن إبراهيم مرّ برجل ميت زعموا
أنه حبشي على ساحل البحر ، فرأى دواب البحر تخرج فتأكل منه ، وسباع الأرض تأتيه
فتأكل منه ، والطير يقع عليه فيأكل منه ، فقال إبراهيم عند ذلك : ربّ ، هذه دواب
البحر تأكل من هذا ، وسباع الأرض والطير ،
__________________
ثم تميت هذه فتبلى ثم تحييها ، فأرني كيف تحيي الموتى : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) يا إبراهيم أني أحيي الموتى؟ (قالَ : بَلى) يا ربّ ، (وَلكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يقول : لأرى من آياتك وأعلم أنك قد أجبتني فقال الله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) الآية. فصنع ما صنع ، والطير الذي أخذ : وز ، ورأل ، وديك ، وطاوس ، وأخذ نصفين مختلفين : ثم أتى أربعة
أجبل ، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين وهو قوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى
كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) ثم تنحى ورؤوسها تحت قدميه ، فدعا باسم الله الأعظم ،
فرجع كل نصف إلى نصفه ، وكل ريش إلى طائره ، ثم أقبلت تطير بغير رؤوس إلى قدميه ،
تريد رؤوسها بأعناقها ، فرفع قدميه ، فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه ، فعادت كما
كانت. وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج أيضا عبد بن حميد ،
وابن المنذر عن الحسن نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها كانت جيفة حمار.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يقول : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً
مِنَ الطَّيْرِ) قال : الغرنوق ، والطاوس ، والديك ، والحمامة. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ، قال الأربعة من الطير : الديك ،
والطاوس ، والغراب ، والحمام. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس (فَصُرْهُنَ) قال : قطعهنّ. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال
: هي بالنبطية : شققهن. وأخرجا عنه أنه قال : (فَصُرْهُنَ) أوثقهنّ ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : وضعهن على سبعة
أجبل ، وأخذ الرؤوس بيده ، فجعل ينظر إلى القطرة تلقى القطرة ، والريشة تلقى
الريشة ، حتى صرن أحياء ليس لهنّ رؤوس ، فجئن إلى رؤوسهن فدخلن فيها.
(مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ
وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ
مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ
حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ
بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ
فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ
جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))
__________________
قوله : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) لا يصح جعل هذا خبرا عن قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) لاختلافهما ، فلا بدّ من تقدير محذوف إما في الأول ، أي
: مثل نفقة الذين ينفقون ، أو في الثاني ، أي : كمثل زارع حبة ، والمراد بالسبع
السنابل : هي التي تخرج في ساق واحد ، يتشعب منه سبع شعب ، في كل شعبة سنبلة ،
والحبة : اسم لكل ما يزدرعه ابن آدم ، ومنه قول المتلمّس :
آليت حبّ
العراق الدّهر أطعمه
|
|
والحبّ يأكله
في القرية السّوس
|
قيل : المراد
بالسنابل هنا : سنابل الدخن ، فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد. وقال
القرطبي : إن سنبل الدخن يجيء في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر على
ما شاهدنا. قال ابن عطية : وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة ، وأما في سائر
الحبوب فأكثر ، ولكن المثال وقع بهذا القدر. وقال الطبري : إن قوله : (فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) معناه إن وجد ذلك وإلّا فعلى أن تفرضه. قوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) يحتمل أن يكون المراد : يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء ،
أو يضاعف هذا العدد ، فيزيد عليه أضعافه لمن يشاء ، وهذا هو الراجح لما سيأتي. وقد
ورد القرآن : بأن الحسنة بعشر أمثالها ، واقتضت هذه الآية : بأن نفقة الجهاد
حسنتها بسبعمائة ضعف ، فيبنى العام على الخاص ، وهذا بناء على أن سبيل الله هو
الجهاد فقط ، وأما إذا كان المراد به : وجوه الخير ، فيخص هذا التضعيف إلى سبعمائة
بثواب النفقات وتكون العشرة الأمثال فيما عدا ذلك. قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) هذه الجملة متضمنة لبيان كيفية الإنفاق الذي تقدّم ، أي
: هو إنفاق الذين ينفقون (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ
ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) والمنّ : هو ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع
بها ؛ وقيل : المنّ : التحدث بما أعطى ، حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه ، والمن من
الكبائر ، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره : أنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم
ولا يزكيهم ولهم عذاب عظيم. والأذى : السب والتطاول والتشكي. قال في الكشاف :
ومعنى «ثم» إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى ، وإنّ تركهما خير من نفس
الإنفاق ، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) انتهى. وقدم المنّ على الأذى لكثرة وقوعه ، ووسط كلمة (لا) للدلالة على شمول النفي. وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فيه تأكيد وتشريف. وقوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) ظاهره نفي الخوف عنهم في الدارين ، لما تفيده النكرة
الواقعة في سياق النفي من الشمول ، وكذلك (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) يفيد دوام انتفاء الحزن عنهم. قوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) قيل : الخبر محذوف ، أي : أولى وأمثل ، ذكره النحاس.
قال : ويجوز أن يكون خبرا عن مبتدأ محذوف ، أي : الذي أمرتم به قول معروف. وقوله :
(وَمَغْفِرَةٌ) مبتدأ أيضا وخبره قوله : (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ) وقيل : إن قوله : (خَيْرٌ) خبر عن قوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) وعن قوله : (وَمَغْفِرَةٌ) وجاز الابتداء بالنكرتين لأن الأولى تخصصت بالوصف ،
والثانية بالعطف ، والمعنى : أن القول المعروف من المسؤول للسائل وهو التأنيس
والترجية بما عند الله ، والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى. وقد ثبت في
صحيح مسلم عنه صلىاللهعليهوسلم : «الكلمة الطيبة صدقة ، وإن من المعروف أن تلقى أخاك
بوجه طلق» وما أحسن ما قاله ابن دريد :
لا تدخلنّك
ضجرة من سائل
|
|
فلخير دهرك
أن ترى مسؤولا
|
لا تجبهنّ
بالرّدّ وجه مؤمّل
|
|
فبقاء عزّك
أن ترى مأمولا
|
والمراد
بالمغفرة : الستر للخلة ، وسوء حالة المحتاج ، والعفو عن السائل إذا صدر منه من
الإلحاح ما يكدر صدر المسؤول ؛ وقيل : المراد : أن العفو من جهة السائل ، لأنه إذا
رده ردا جميلا عذره ؛ وقيل : المراد : فعل يؤدّي إلى المغفرة خير من صدقة ، أي :
غفران الله خير من صدقتكم. وهذه الجملة مستأنفة مقررة لترك اتباع المنّ والأذى
للصدقة. قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) الإبطال للصدقات : إذهاب أثرها وإفساد منفعتها ، أي :
لا تبطلوها بالمنّ والأذى أو بأحدهما. قوله : (كَالَّذِي) أي : إبطالا كالإبطال الذي ، على أنه نعت لمصدر محذوف ،
ويجوز أن يكون حالا ، أي : لا تبطلوا مشابهين للذي ينفق ماله رئاء الناس ، وانتصاب
رئاء : على أنه علة لقوله : (يُنْفِقُ) أي : لأجل الرياء ، أو حال ، أي : ينفق مرائيا لا يقصد
بذلك وجه الله وثواب الآخرة ، بل يفعل ذلك رياء للناس ، استجلابا لثنائهم عليه ،
ومدحهم له ؛ قيل : والمراد به المنافق بدليل قوله : (وَلا يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). قوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوانٍ) الصفوان : الحجر الكبير الأملس. وقال الأخفش : صفوان
جمع صفوانة. وقال الكسائي : صفوان : واحد ، وجمعه : صفي ، وصفي ، وأنكره المبرد.
وقال النحاس : يجوز أن يكون جمعا ، ويجوز أن يكون واحدا ، وهو أولى لقوله : (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) والوابل : المطر الشديد ، مثل الله سبحانه هذا المنفق
بصفوان عليه التراب يظنه الظانّ أرضا منبتة طيبة ، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب
عنه التراب وبقي صلدا ، أي : أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه ، فكذلك هذا
المرائي ، فإن نفقته لا تنفعه ، كما لا ينفع المطر الواقع على الصفوان الذي عليه
تراب ، قوله : (لا يَقْدِرُونَ عَلى
شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أي : لا ينتفعون بما فعلوه رياء ، ولا يجدون له ثوابا ،
والجملة مستأنفة ، كأنه قيل : ماذا يكون حالهم حينئذ؟ فقيل : لا يقدرون ، إلخ ،
والضميران للموصول ، أي : كالذي ، باعتبار المعنى ، كما في قوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي : الجنس ، أو الجمع ، أو الفريق. قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قيل : إن قوله : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللهِ) مفعول له ، وتثبيتا : معطوف عليه ، وهو أيضا مفعول له ،
أي : الإنفاق لأجل الابتغاء ، والتثبيت ، كذا قال مكي في المشكل. قال ابن عطية :
وهو مردود ، لا يصح في تثبيتا أنه مفعول من أجله ، لأن الإنفاق ليس من أجل
التثبيت. قال : وابتغاء ، نصب على المصدر في موضع الحال ، وكان يتوجه فيه النصب
على المفعول من أجله ، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو
تثبيتا عليه ، وابتغاء معناه : طلب ، ومرضاة : مصدر رضي ، يرضى ، وتثبيتا : معناه
: أنهم يثبتون من أنفسهم ببذل أموالهم على الإيمان وسائر العبادات رياضة لها
وتدريبا وتمرينا ، أو يكون التثبيت بمعنى التصديق ، أي : تصديقا للإسلام ناشئا من
جهة أنفسهم. وقد اختلف السلف في معنى هذا الحرف ، فقال الحسن ومجاهد : معناه أنهم
يتثبتون أن يضعوا صدقاتهم ، وقيل : معناه : تصديقا ويقينا ، روي ذلك عن ابن عباس ؛
وقيل : معناه : احتسابا من أنفسهم ، قاله قتادة ؛ وقيل : معناه : أن
__________________
أنفسهم لها بصائر ، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تثبيتا. قاله
الشعبي ، والسديّ ، وابن زيد ، وأبو صالح ، وهذا أرجح مما قبله. يقال : ثبت فلانا
في هذا الأمر أثبته تثبيتا ، أي : صححت عزمه ، قوله : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها
وابِلٌ) الجنة : البستان ، وهي : أرض تنبت فيها الأشجار حتى
تغطيها ، مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارها. والربوة : المكان المرتفع ارتفاعا
يسيرا ، وهي : مثلثة الراء ، وبها قرئ ؛ وإنما خصّ الربوة : لأن نباتها يكون أحسن
من غيره ، مع كونه لا يصطلمه البرد في الغالب للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة
له ، قال الطبري : وهي : رياض الحزن التي تستكثر العرب من ذكرها ، واعترضه ابن
عطية فقال : إن رياض الحزن منسوبة إلى نجد ، لأنها خير من رياض تهامة ، ونبات نجد
أعطر ، ونسيمه أبرد وأرق ، ونجد يقال لها : حزن ، وليست هذه المذكورة هنا من ذاك ،
ولفظ الربوة مأخوذ من : ربا ، يربو ، إذا زاد. وقال الخليل : الربوة : أرض مرتفعة
طيبة. والوابل : المطر الشديد كما تقدم ، يقال : وبلت السماء ، تبل ، والأرض
موبولة. قال الأخفش : ومنه قوله تعالى : (أَخْذاً وَبِيلاً) أي : شديدا ، وضرب وبيل ، وعذاب وبيل (فَآتَتْ أُكُلَها) بضم الهمزة : الثمر الذي يؤكل ، كقوله تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص ، كسرج الفرس ، وباب
الدار ، قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو : أكلها ، بضم الهمزة وسكون الكاف
تخفيفا. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : بتحريك الكاف بالضم. وقوله : (ضِعْفَيْنِ) أي : مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. فالمراد بالضعف :
المثل ؛ وقيل أربعة أمثال ، ونصبه على الحال من أكلها ، أي : مضاعفا. قوله : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) أي : فإن الطلّ يكفيها : وهو المطر الضعيف المستدقّ
القطر. قال المبرد وغيره : وتقديره : فطل يكفيها. وقال الزجاج : تقديره : فالذي
يصيبها طلّ ، والمراد : أن الطل ينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين. وقال قوم
: الطل : الندى. وفي الصحاح الطل : أضعف المطر ، والجمع أطلال. قال الماوردي :
وزرع الطل أضعف من زرع المطر. والمعنى : أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله لا تضيع
بحال وإن كانت متفاوتة ، ويجوز أن يعتبر التمثيل ما بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم
من النفقة الكثيرة والقليلة ، وبين الجنة المعهودة باعتبار ما أصابها من المطر
الكثير والقليل ، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها ، فكذلك نفقتهم جلت أو
قلت بعد أن يطلب بها وجه الله زاكية زائدة في أجورهم. وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). قرأ الزهري : بالتاء التحتية ، وقرأ الجمهور : بالفوقية
، وفي هذا ترغيب لهم في الإخلاص مع ترهيب من الرياء ونحوه ، فهو : وعد ، ووعيد.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم في قوله : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) عن الربيع قال : «كان من بايع النبي صلىاللهعليهوسلم على الهجرة ورابط معه بالمدينة ولم يذهب وجها إلّا
بإذنه كانت له الحسنة بسبعمائة ضعف ، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر
أمثالها». وأخرج مسلم ، وأحمد ، والنسائي ، والحاكم ، والبيهقي عن ابن مسعود أن
رجلا تصدّق بناقة مخطومة في سبيل الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلّها مخطومة».
وأخرج أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححه ،
والبيهقي في الشعب عن خريم بن فاتك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أنفق نفقة
__________________
في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف». وأخرجه البخاري في تاريخه من حديث أنس.
وأخرجه أحمد من حديث أبي عبيدة وزاد «ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضا
فالحسنة بعشر أمثالها». وأخرج نحوه النسائي في الصوم. وأخرج ابن ماجة ، وابن أبي
حاتم من حديث عمران بن حصين ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، وأبي أمامة ،
وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، كلهم يحدث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله
بكلّ درهم يوم القيامة سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه
ذلك فله بكلّ درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ، ثم تلا هذه الآية : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ). وأخرجه أيضا ابن ماجة من حديث الحسن بن علي ، وأخرج
أحمد من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ عمل ابن آدم يضاعف ، الحسنة بعشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف ، إلى ما شاء الله ، يقول الله : إلّا الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به»
وأخرجه أيضا مسلم. وأخرج الطبراني من حديث معاذ ابن جبل أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «طوبى لمن أكثر في الجهاد في سبيل الله من ذكر
الله ، فإنّ له بكلّ كلمة سبعين ألف حسنة ، كلّ حسنة منها عشرة أضعاف» وقد تقدّم
ذكر طرف من أحاديث التضعيف للحسنات عند قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) . وقد وردت الأحاديث الصحيحة في أجر من جهز غازيا. وأخرج
أبو داود ، والحاكم ، وصححه ، عن سهل بن معاذ عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الصّلاة والصّوم والذّكر تضاعف على النفقة في
سبيل الله سبعمائة ضعف». وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في سننه عن
بريدة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «النفقة في الحجّ كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال في تفسير قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا
مَنًّا وَلا أَذىً) إن أقواما يبعثون الرجل منهم في سبيل الله ، أو ينفق
على الرجل ، أو يعطيه النفقة ، ثم يمنّ عليه ويؤذيه ، يعني : أن هذا سبب النزول.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه. وقد وردت الأحاديث الصحيحة : في
النهي عن المنّ والأذى ، وفي فضل الإنفاق في سبيل الله ، وعلى الأقارب ، وفي وجوه
الخير ، ولا حاجة إلى التطويل بذكرها ، فهي معروفة في مواطنها. وأخرج ابن أبي حاتم
عن عمرو بن دينار قال : بلغنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من صدقة أحبّ إلى الله من قول الحقّ ، ألم
تسمع قول الله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً)». وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) قال : ردّ جميل ، تقول : يرحمك الله ، يرزقك الله ، ولا
تنهره ، ولا تغلظ له القول. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «لا يدخل الجنة
منّان ، وذلك في كتاب الله : (لا تُبْطِلُوا
صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى)». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (صَفْوانٍ) يقول : الحجر (فَتَرَكَهُ صَلْداً) يقول : ليس عليه شيء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي
حاتم عن عكرمة قال : الوابل : المطر. وأخرجا عن قتادة قال : الوابل : المطر الشديد
؛ قال : وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة ، (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا
كَسَبُوا) يومئذ ، كما ترك هذا المطر هذا الحجر ليس عليه شيء ،
أنقى مما كان. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَتَرَكَهُ صَلْداً) قال :
__________________
يابسا ، جافا ، لا ينبت شيئا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) قال : هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير عن الشعبي في قوله : (وَتَثْبِيتاً مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) قال : تصديقا ويقينا. وأخرج ابن جرير عن أبي صالح نحوه.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم. وأخرجا عن الحسن
قال : كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبت ، فإن كان لله أمضاه ، وإن خالطه شيء من الرياء
أمسك. وأخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله : (تَثْبِيتاً) قال : النية. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال :
الربوة : النشز من الأرض. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : الربوة : الأرض المستوية
المرتفعة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : هي المكان المرتفع الذي
لا تجري فيه الأنهار. وأخرج ابن جرير عنه في قوله تعالى : (فَطَلٌ) قال : الندى. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن الضحاك.
قال : الطل : الرذاذ من المطر. يعني اللين منه. وأخرجا عن قتادة قال : هذا مثل
ضربه الله لعمل المؤمن يقول : ليس لخيره خلف ، كما ليس لخير هذه الجنة خلف ، على
أيّ حال كان ، إن أصابها وابل وإن أصابها طل.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ
ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))
الودّ : الحب
للشيء مع تمنيه ، والهمزة الداخلة على الفعل لإنكار الوقوع ، والجنة : تطلق على
الشجر الملتف ، وعلى الأرض التي فيها الشجر. والأول أولى هنا لقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بإرجاع الضمير إلى الشجر من دون حاجة إلى مضاف محذوف
وأما على الوجه الثاني فلا بدّ من تقديره ، أي : من تحت أشجارها وهكذا قوله : (فَاحْتَرَقَتْ) لا يحتاج إلى تقدير مضاف على الوجه الأول ، وأما على الثاني
فيحتاج إلى تقديره ، أي : فاحترقت أشجارها ، وخص النخيل والأعناب بالذكر مع قوله :
(لَهُ فِيها مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) لكونهما أكرم الشجر ، وهذه الجمل صفات للجنة ، والواو
في قوله : (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) قيل : عاطفة على قوله : (تَكُونَ) ماض على مستقبل ؛ وقيل : على قوله : (يَوَدُّ) وقيل : إنه محمول على المعنى إذ تكون في معنى : كانت ،
وقيل : إنها واو الحال ، أي : وقد أصابه الكبر وهذا أرجح. وكبر السنّ : هو مظنة
شدّة الحاجة ، لما يلحق صاحبه من العجز عن تعاطي الأسباب. وقوله : (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) حال من الضمير في أصابه ، أي : والحال أن له ذرية ضعفاء
، فإن من جمع بين كبر السنّ وضعف الذرية كان تحسره على تلك الجنة في غاية الشدة.
والإعصار : الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود ، وهي التي يقال
لها : الزوبعة ، قاله الزجاج. قال الجوهري : الزوبعة : رئيس من رؤساء الجنّ ، ومنه
سمي الإعصار زوبعة ، ويقال : أمّ زوبعة : وهي ريح تثير الغبار ويرتفع إلى السماء
كأنه عمود ؛ وقيل : هي ريح تثير سحابا ذات رعد وبرق. وقوله : (فَاحْتَرَقَتْ) عطف على قوله : (فَأَصابَها) ، وهذه الآية تمثيل من يعمل
خيرا ويضم إليه ما يحبطه ؛ فيجده يوم القيامة عند شدّة حاجته إليه لا يسمن
ولا يغني من جوع ؛ بحال من له هذه الجنة الموصوفة وهو متصف بتلك الصفة.
وقد أخرج
البخاري وغيره عن ابن عباس قال : قال عمر يوما لأصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم فيم ترون هذه الآية نزلت؟ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) قالوا : الله أعلم ، قال : قولوا نعلم أو لا نعلم ،
فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا
تحقر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل ، قال عمر : أي عمل؟ قال ابن عباس :
لرجل عنى يعمل لطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل في
المعاصي حتى أغرق عمله. وأخرج ابن جرير عن عمر قال : هذا مثل ضرب لإنسان يعمل عملا
صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه ؛ عمل عمل السوء. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله :
(إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ) قال : ريح فيها سموم شديدة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
(٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي
الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩) وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ
عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))
قوله : (مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أي : من جيد ما كسبتم ، ومختاره ، كذا قال الجمهور.
وقال جماعة : إن معنى الطيبات هنا : الحلال ، ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعا ،
لأن جيد الكسب ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع ، وإن أطلقه أهل اللغة
على ما هو جيد في نفسه حلالا كان أو حراما ، فالحقيقة الشرعية مقدّمة على اللغوية.
وقوله : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض ، وحذف لدلالة
ما قبله عليه ، وهي النباتات والمعادن والركاز. قوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) أي : لا تقصدوا المال الرديء ، وقرأه الجمهور : بفتح
حرف المضارعة وتخفيف الياء ، وقرأ ابن كثير : بتشديدها. وقرأ ابن مسعود : «ولا
تأمّموا» وهي لغة. وقرأ أبو مسلم بن خباب : بضم الفوقية وكسر الميم. وحكى أبو عمرو
: أن ابن مسعود قرأ : «تؤمّموا» بهمزة بعد المضمومة ، وفي الآية الأمر بإنفاق
الطيب ، والنهي عن إنفاق الخبيث. وقد ذهب جماعة من السلف : إلى أن الآية في الصدقة
المفروضة ، وذهب آخرون إلى أنها تعم صدقة الفرض والتطوّع ، وهو الظاهر ، وسيأتي من
الأدلة ما يؤيد هذا ، وتقديم الظرف
__________________
في قوله : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) يفيد التخصيص ، أي : لا تخصوا الخبيث بالإنفاق ،
والجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به ،
قاصرين له عليه. قوله : (وَلَسْتُمْ
بِآخِذِيهِ) أي : والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من
الأوقات ، هكذا بين معناه الجمهور ، وقيل : معناه : ولستم بآخذيه لو وجدتموه في
السوق يباع. وقوله : (إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ) هو من أغمض الرجل في أمر كذا : إذا تساهل ورضي ببعض حقه
وتجاوز وغض بصره عنه ، ومنه قول الشاعر :
إلى كم وكم
أشياء منك تريبني
|
|
أغمّض عنها
لست عنها بذي عمى
|
وقرأ الزهري :
بفتح التاء وكسر الميم مخففا. وروي عنه : أنه قرأ بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم
مشدّدة ، وكذلك قرأ قتادة ، والمعنى على القراءة الأولى من هاتين القراءتين : إلا
أن تهضموا سومها من البائع منكم ، وعلى الثانية : إلا أن تأخذوا بنقصان. قال ابن
عطية : وقراءة الجمهور تخرّج على التجاوز أو على تغميض العين ، لأن أغمض بمنزلة
غمّض ، وعلى أنها بمعنى حتى ، أي : حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك.
قوله : (الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) قد تقدّم معنى الشيطان واشتقاقه. ويعدكم : معناه
يخوّفكم الفقر ، أي : بالفقر لئلا تنفقوا ، فهذه الآية متصلة بما قبلها. وقرئ «الفقر»
: بضم الفاء وهي لغة. قال الجوهري : والفقر : لغة في الفقر ، مثل الضعف ، والضعف.
والفحشاء : الخصلة الفحشاء ، وهي المعاصي ، والإنفاق فيها ، والبخل عن الإنفاق في
الطاعات. قال في الكشاف : والفاحش عند العرب : البخيل. انتهى. ومنه قول طرفة بن
العبد :
أرى الموت
يعتام الكرام ويصطفي
|
|
عقيلة مال
الفاحش المتشدّد
|
ولكن العرب وإن
أطلقته على البخيل فذلك لا ينافي إطلاقهم له على غيره من المعاصي ، وقد وقع كثيرا
في كلامهم. وقوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ
مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) الوعد في كلام العرب : إذا أطلق فهو في الخير ، وإذا
قيد : فقد يقيد تارة بالخير وتارة بالشرّ. ومنه قوله تعالى : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) ومنه أيضا ما في هذه الآية من تقييد وعد الشيطان بالفقر
، وتقييد وعد الله سبحانه بالمغفرة ، والفضل. والمغفرة : الستر على عباده في
الدنيا والآخرة لذنوبهم وكفارتها ، والفضل : أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا ،
فيوسع لهم في أرزاقهم ، وينعم عليهم في الآخرة بما هو أفضل وأكثر وأجل وأجمل. قوله
: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) هي العلم ؛ وقيل : الفهم ، وقيل : الإصابة في القول ،
ولا مانع من الحمل على الجميع شمولا أو بدلا ؛ وقيل : إنها النبوة ؛ وقيل : العقل
؛ وقيل : الخشية ؛ وقيل : الورع ، وأصل الحكمة : ما يمنع من السفه ، وهو كل قبيح.
والمعنى : أن من أعطاه الله الحكمة فقد أعطاه خيرا كثيرا ، أي : عظيما قدره ،
جليلا خطره. وقرأ الزهري ويعقوب : «ومن يؤت الحكمة» على البناء للفاعل ، وقرأه
الجمهور : على البناء للمفعول ، والألباب : العقول ، واحدها لبّ ، وقد تقدّم
الكلام فيه ، قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ) ما : شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة ، والعائد محذوف ،
أي : الذي أنفقتموه ، وهذا بيان لحكم عام يشمل كل صدقة
__________________
مقبولة وغير مقبولة ، وكل نذر مقبول أو غير مقبول. وقوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) فيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول ،
والوعيد لمن جاء بعكس ذلك. ووحد الضمير مع كون مرجعه شيئين ، هما : النفقة والنذر
، لأن التقدير : وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلمها ، أو نذرتم من نذر فإن الله
يعلمه ، ثم حذف أحدهما استغناء بالآخر ، قاله النحاس ؛ وقيل : إن ما كان العطف فيه
بكلمة «أو» كما في قولك : زيد أو عمرو ، فإنه يقال : أكرمته ولا يقال أكرمتها ،
والأولى أن يقال إن العطف بأو يجوز فيه الأمران : توحيد الضمير كما في هذه الآية ،
وفي قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) . وقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ
خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) ، وتثنيته ، كما في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً
فَاللهُ أَوْلى بِهِما) ومن الأوّل في العطف بالواو قول امرئ القيس :
فتوضح
فالمقراة لم يعف رسمها
|
|
لما نسجتها
من جنوب وشمأل
|
ومنه قول
الشاعر :
نحن بما
عندنا وأنت بما
|
|
عندك راض
والرأي مختلف
|
ومنه : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) وقيل : إنه إذا وحد الضمير بعد ذكر شيئين أو أشياء فهو
بتأويل المذكور ، أي : فإن الله يعلم المذكور ، وبه جزم ابن عطية ورجحه القرطبي ،
وذكر معناه كثير من النحاة في مؤلفاتهم. قوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ أَنْصارٍ) أي : ما للظالمين أنفسهم ـ بما وقعوا فيه من الإثم
لمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير ـ من أنصار ينصرونهم ويمنعونهم
من عقاب الله ، بما ظلموا به أنفسهم ، والأولى الحمل على العموم من غير تخصيص لما
يفيده السياق : أي : ما للظالمين بأيّ مظلمة كانت من أنصار. قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا
هِيَ) قرئ : بفتح النون وكسر العين ، وبكسرهما وبكسر النون
وسكون العين ، وبكسر النون وإخفاء حركة العين. وقد حكى النحويون في «نعمّ» : أربع
لغات ، وهي هذه التي قرئ بها ، وفي هذا نوع تفصيل لما أجمل في الشرطية المتقدمة ،
أي : إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إظهارها ، وإن تخفوها وتصيبوا بها مصارفها من
الفقراء فالإخفاء خير لكم. وقد ذهب جمهور المفسرين : إلى أن هذه الآية في صدقة
التطوّع ، لا في صدقة الفرض ، فلا فضيلة للإخفاء فيها ، بل قد قيل : إن الإظهار
فيها أفضل ، وقالت طائفة : إن الإخفاء أفضل في الفرض والتطوّع. قوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئاتِكُمْ) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر ،
وقتادة ، وابن إسحاق : نكفر بالنون والرفع. وقرأ ابن عامر ، وعاصم في رواية حفص :
بالياء والرفع. وقرأ الأعمش ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : بالنون والجزم. وقرأ ابن
عباس : بالتاء الفوقية وفتح الفاء والجزم. وقرأ الحسين ابن علي الجعفي بالنون ونصب
الراء. فمن قرأ بالرفع فهو معطوف على محل الجملة الواقعة جوابا بعد الفاء ، أو على
أنه خبر مبتدأ محذوف. ومن يقرأ بالجزم فهو معطوف على الفاء وما بعدها. ومن قرأ
بالنصب فعلى تقدير : أن. قال سيبويه : والرفع هاهنا الوجه الجيد ، وأجاز الجزم
بتأويل : وإن تخفوها يكن الإخفاء خيرا
__________________
لكم ويكفر ، وبمثل قول سيبويه قال الخليل. ومن في قوله : (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) للتبعيض ، أي : شيئا من سيئاتكم. وحكى الطبري عن فرقة
أنها زائدة ، وذلك على رأي الأخفش. قال ابن عطية : وذلك منهم خطأ.
وقد أخرج ابن
جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) قال : من الذهب والفضة (وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني : من الحبّ والثمر وكل شيء عليه زكاة. وأخرج سعيد
بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في
سننه عن مجاهد في قوله : (أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) قال : من التجارة (وَمِمَّا أَخْرَجْنا
لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) قال : من الثمار. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ،
والترمذي ، وصححه ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن
مردويه ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن البراء ابن عازب في قوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ) قال : نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا أصحاب نخل وكان
الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته ، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه
في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه
بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل ، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل
بالقنو فيه الشيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ) قال : لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا
على إغماض وحياء ، قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده. وأخرج عبد بن
حميد عن قتادة قال : ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان فينظر إلى أردئهما
تمرا فيتصدق به ويخلط به الحشف فنزلت الآية ، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه.
وأخرج عبد بن حميد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : لما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بصدقة الفطر فجاء رجل بتمر رديء فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم الذي يخرص النخل أن لا يجيز. فأنزل الله تعالى الآية
هذه. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن سهل بن حنيف
قال : أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالصدقة ، فجاء رجل بكبائس من هذه السخل : يعني : الشيص
، فوضعه ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : من جاء بهذا؟ وكان كل من جاء بشيء نسب إليه ،
فنزلت (وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ) الآية. ونهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن لونين من التمر أن يوجدا في الصدقة : الجعرور ولون
الحبيق . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في
المختارة ، عن ابن عباس قال : كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وأخرج ابن جرير عن عبيدة السلماني قال : سألت
علي بن أبي طالب عن قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا) الآية ، فقال : نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة ،
كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية ، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه
من الرديء. وأخرج ابن جرير ،
__________________
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، محكمه ومتشابهه
، ومقدّمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله. وأخرج ابن مردويه عنه : أنها القرآن
، يعني : تفسيره. وأخرج ابن المنذر عنه : أنها النبوّة. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر عنه قال : إنها الفقه في القرآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال : قراءة القرآن والفكرة فيه. وأخرج ابن جرير عن أبي
العالية قال : هي : الكتاب والفهم به. وأخرج أيضا عن النخعي نحوه. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير عن مجاهد قال : هي : الكتاب ، يؤتي إصابته من يشاء. وأخرج عبد بن
حميد عنه قال : هي الإصابة في القول. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : هي
الخشية لله. وأخرج أيضا عن مطر الوراق مثله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير
مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) قال : يحصيه. وقد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم في نذر الطاعة والمعصية في الصحيح وغيره ما هو معروف
كقوله صلىاللهعليهوسلم : «لا نذر في معصية الله» وقوله : «من نذر أن يطيع الله
فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» وقوله : «النذر ما ابتغي به وجه الله» وثبت
عنه في كفارة النذر ما هو معروف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله : (إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) الآية ، قال : فجعل السرّ في التطوّع يفضل علانيتها
سبعين ضعفا ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا. وكذلك
جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
(إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ) الآية ، قال : كان هذا يعمل قبل أن تنزل براءة ، فلما
نزلت براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها انتهت الصدقات إليها. وأخرج ابن المنذر عن ابن
عباس في قوله : (إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ) الآية ، قال : هذا منسوخ. وقوله : (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) قال : منسوخ ، نسخ كل صدقة في القرآن الآية التي في
سورة التوبة : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ) وقد ورد في فضل صدقة السرّ أحاديث صحيحة مرفوعة.
(لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا
يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ
عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا
وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))
قوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) أي : ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين ، قابلين لما
أمروا به ونهوا عنه (وَلكِنَّ اللهَ
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هداية توصله إلى المطلوب ، وهذه الجملة معترضة ، وفيها
الالتفات ، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله ، والمراد بقوله : (مِنْ خَيْرٍ) كل ما يصدق عليه اسم الخير كائنا
__________________
ما كان ، وهو متعلق بمحذوف ، أي : أيّ شيء تنفقون كائنا من خير ، ثم بين أن
النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه : أي :
لابتغاء وجه الله. وقوله : (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي : أجره وثوابه على الوجه الذي تقدّم ذكره من
التضعيف. قوله : (لِلْفُقَراءِ) متعلق بقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ) أو بمحذوف : أي : اجعلوا ذلك للفقراء ، أو خبر مبتدأ
محذوف ، أي : إنفاقكم للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بالغزو أو الجهاد ؛ وقيل
: منعوا عن التكسب لما هم فيه من الضعف : الذين (لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) للتكسب بالتجارة والزراعة ، ونحو ذلك بسبب ضعفهم ، قيل
: هم فقراء الصفة ؛ وقيل : كل من يتصف بالفقر وما ذكر معه. ثم ذكر سبحانه من أحوال
أولئك الفقراء ما يوجب الحنوّ عليهم والشفقة بهم ، وهو كونهم متعففين عن المسألة
وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. والتعفف : تفعل ، وهو بناء مبالغة ،
من عف عن الشيء : إذا أمسك عنه وتنزّه عن طلبه ، وفي «يحسبهم» لغتان : فتح السين ،
وكسرها. قال أبو عليّ الفارسيّ : والفتح أقيس. لأن العين من الماضي مكسورة ،
فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة. فالقراءة بالكسر على هذا حسنة وإن كانت شاذة. و
«من» في قوله : (مِنَ التَّعَفُّفِ) لابتداء الغاية ؛ وقيل لبيان الجنس. قوله : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي : برثاثة ثيابهم ، وضعف أبدانهم ، وكل ما يشعر
بالفقر والحاجة. والخطاب إما لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أو لكل من يصلح للمخاطبة ، والسيما مقصورة : العلامة
، وقد تمد. والإلحاف : الإلحاح في المسألة ، وهو مشتق من اللحاف ، سمي بذلك :
لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف على التغطية. ومعنى قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) أنهم لا يسألونهم البتة ، لا سؤال إلحاح ، ولا سؤال غير
إلحاح. وبه قال الطبري والزجاج ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ووجهه : أن التعفف
صفة ثابتة لهم لا تفارقهم ، ومجرد السؤال ينافيها ؛ وقيل : المراد أنهم إذا سألوا
بتلطف ولا يلحفون في سؤالهم ، وهذا وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون
المقيد ، لكن صفة التعفف تنافيه ، وأيضا كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا
مع عدم السؤال البتة. وقوله : (بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ) يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق وشدّة حرصهم عليه ، حتى
أنهم لا يتركون ذلك ليلا ولا نهارا ، ويفعلونه سرّا وجهرا عند أن تنزل بهم حاجة
المحتاجين ، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال. ودخول
الفاء في خبر الموصول أعني قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها ؛ وقيل : هي للعطف
، والخبر للموصول محذوف ، أي : ومنهم الذين ينفقون.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة عن ابن
عباس ، قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فنزلت هذه الآية : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إلى قوله : (وَأَنْتُمْ لا
تُظْلَمُونَ) فرخص لهم. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء
عنه قال إن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يأمرنا أن لا نتصدّق إلا على أهل الإسلام ، حتى
نزلت هذه الآية ، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الحنفية نحوه. وأخرج
ابن جرير
عن ابن عباس قال : كان أناس من الأنصار لهم نسب وقرابة من قريظة والنضير ،
وكان يتقون أن لا يتصدّقوا عليهم ويريدوهم أن يسلموا ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن عمرو الهلالي قال : سئل
النبي صلىاللهعليهوسلم أنتصدّق على فقراء أهل الكتاب؟ فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني قال في
قوله : (وَما تُنْفِقُونَ
إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) قال : إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله. وأخرج
ابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ) قال : هم أصحاب الصفة. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب
القرظي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
مجاهد قال : هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلىاللهعليهوسلم أمروا بالصدقة عليهم ، وأخرج ابن جرير عن الربيع في
قوله : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ) قال : حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو فلا يستطيعون
تجارة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : هم
قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله فصاروا زمنى. فجعل لهم في أموال المسلمين حقا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) قال : لا يستطيعون تجارة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن السدّي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ) قال : دلّ الله المؤمنين عليهم ، وجعل نفقاتهم لهم ،
وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم ، ورضي عنهم. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (تَعْرِفُهُمْ
بِسِيماهُمْ) قال : التخشع. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
الربيع أن معناه : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) قال : رثاثة ثيابهم. وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان ، واللّقمة
واللّقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفّف ، واقرءوا إن شئتم : لا يسألون النّاس إلحافا»
وقد ورد في تحريم المسألة أحاديث كثيرة إلا لذي سلطان أو في أمر لا يجد منه بدّا.
وأخرج ابن سعد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ ، والطبراني ، وأبو
الشيخ عن يزيد بن عبد الله بن غريب المليكي عن أبيه عن جدّه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أنزلت هذه الآية (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في أصحاب الخيل». وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي نحوه قال : فيمن لا يربطها خيلاء ولا رياء ولا
سمعة. وأخرج ابن جرير عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن حنش الصنعاني : أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية : هم الذين
يعلفون الخيل في سبيل الله. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه
عن ابن عباس في هذه الآية ؛ قال : نزلت في عليّ بن أبي طالب ، كانت له أربعة دراهم
، فأنفق بالليل درهما ، وبالنهار درهما ، ودرهما سرّا ، ودرهما علانية. وعبد
الوهاب ضعيف ، ولكن قد رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد
، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في هذه الآية قال : هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل
الله
الذي افترض عليهم في غير سرف ولا إملاق ، ولا تبذير ولا فساد. وأخرج ابن
المنذر عن سعيد بن المسيب قال : نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان ، في
نفقتهم في جيش العسرة.
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ
مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (٢٧٧))
الربا في اللغة
: الزيادة مطلقا ، يقال : ربا الشيء يربو : إذا زاد ، وفي الشرع يطلق على شيئين ،
على ربا الفضل ، وربا النسيئة حسبما هو مفصل في كتب الفروع ، وغالب ما كانت تفعله
الجاهلية أنه إذا حلّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه : أتقضي أم تربي؟ فإذا
لم يقض زاد مقدارا في المال الذي عليه وأخر له الأجل إلى حين. وهذا حرام بالاتفاق
، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوّله. وقد كتبوه في المصحف بالواو. قال في
الكشاف : على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة ، وزيدت الألف بعدها تشبيها
بواو الجمع. انتهى. قلت : وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه ، فإن هذه النقوش
الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف
الذي كان في أصل الكلمة ونحوه كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف ، وعلى كل
حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى ، فما كان
في النطق ألفا كالصلاة والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك ، وكون
أصل الألف واوا أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف ، وهذه النقوش ليست إلا لفهم
اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا
مما لا يجري به النطق ، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه
النقوش ، ويلزمون به أنفسهم ، ويعيبون من خالفه ، فإن ذلك من المشاحّة في الأمور
الاصطلاحية التي لا تلزم أحدا أن يتقيد بها ، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما
يلفظ به اللافظ عند قراءتها ، فإنه الأمر المطلوب من وضعها والتواضع عليها ، وليس
الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما
لا يجري في لفظه الآن ، فلا تغترّ بما يروى عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا
بالواو ، لأنه يقول في تثنيته ربوان. وقال الكوفيون : يكتب بالياء ، وتثنيته
ربيان. قال الزجاج : ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع ، لا يكفيهم الخطأ في الخط
حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرءون : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ
رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا) وليس المراد بقوله هنا : (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا) اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله ، بل هو عام لكل من يعامل
بالربا فيأخذه ويعطيه ، وإنما خص الآكل لزيادة التشنيع على فاعله ، ولكونه هو
الغرض الأهمّ فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل ، قوله : (لا يَقُومُونَ) أي : يوم القيامة ، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود : (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه
الشّيطان من المسّ يوم
__________________
القيامة). وأخرجه عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وبهذا فسره
جمهور المفسرين قالوا : إنه يبعث كالمجنون عقوبة له وتمقيتا عند أهل المحشر ؛ وقيل
: إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون ، لأن
الحرص والطمع والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيها في حركته بالمجنون ، كما
يقال لمن يسرع في مشيه ويضطرب في حركاته : إنه قد جنّ ، ومنه قول الأعشى في ناقته
:
وتصبح من غبّ
السّرى وكأنّما
|
|
ألمّ بها من
طائف الجنّ أولق
|
فجعلها بسرعة
مشيها ونشاطها كالمجنون. قوله : (إِلَّا كَما يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) أي : إلا قياما كقيام الذي يتخبطه ، والخبط : الضرب
بغير استواء كخبط العشواء وهو المصروع. والمسّ : الجنون ، والأمس : المجنون ،
وكذلك الأولق وهو متعلق بقوله : (يَقُومُونَ) أي لا يقومون من المسّ الذي بهم (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) أو متعلق بيقوم. وفي الآية دليل على فساد قول من قال : إن
الصرع لا يكون من جهة الجنّ ، وزعم أنه من فعل الطبائع ، وقال : إن الآية خارجة
على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان ، وليس بصحيح ، وإن الشيطان
لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مسّ. وقد استعاذ النبي صلىاللهعليهوسلم من أن يتخبطه الشيطان ، كما أخرجه النسائي وغيره. قوله
: (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من حالهم وعقوبتهم بسبب قولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي : أنهم جعلوا البيع والربا شيئا واحدا ، وإنما شبهوا
البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلا والبيع فرعا ، أي : إنما البيع بلا زيادة
عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند حلوله ، فإن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك ،
فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أي أن الله أحلّ البيع وحرّم نوعا من أنواعه ، وهو
البيع المشتمل على الربا. والبيع مصدر باع يبيع : أي دفع عوضا وأخذ معوّضا ،
والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب. قوله : (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي تشتمل
عليها الأوامر والنواهي ، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا (فَانْتَهى) أي : فامتثل النهي الذي جاءه وانزجر عن المنهي عنه ،
وهو معطوف : أي قوله : (فَانْتَهى) على قوله : (جاءَهُ). وقوله : (مِنْ رَبِّهِ) متعلق بقوله : (جاءَهُ) أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ، أي : كائنة (مِنْ رَبِّهِ فَلَهُ ما سَلَفَ) أي : ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به ، لأنه فعله
قبل أن يبلغه تحريم الربا ، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا. وقوله : (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) قيل : الضمير عائد إلى الربا : أي : وأمر الربا إلى
الله في تحريمه على عباده واستمرار ذلك التحريم ؛ وقيل الضمير عائد إلى ما سلف ،
أي : أمره إلى الله في العفو عنه وإسقاط التبعة فيه ؛ وقيل : الضمير يرجع إلى
المربي ، أي : أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الانتهاء أو الرجوع إلى
المعصية (وَمَنْ عادَ) إلى أكل الربا والمعاملة به (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) والإشارة إلى من عاد ، وجمع أصحاب باعتبار معنى من ؛
وقيل : إن معنى : من عاد : هو أن يعود إلى القول ب (إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا) ، وأنه يكفر بذلك ، فيستحق الخلود ؛ وعلى التقدير
الأوّل يكون الخلود مستعارا على معنى المبالغة ، كما تقول العرب : ملك خالد : أي :
طويل البقاء ، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج
الموحدين من النار.
قوله : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) أي : يذهب بركته في الدنيا وإن كان كثيرا فلا يبقى بيد
صاحبه ؛ وقيل : يمحق بركته في الآخرة. قوله : (وَيُرْبِي
الصَّدَقاتِ) أي : يزيد في المال الذي أخرجت صدقته ؛ وقيل : يبارك في
ثواب الصدقة ويضاعفه ويزيد في أجر المتصدّق ، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين
جميعا. قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) أي : لا يرضى ، لأن الحبّ مختص بالتّوابين ، وفيه تشديد
وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر ، ووصفه بأثيم للمبالغة ؛ وقيل :
لإزالة الاشتراك ، إذ قد يقع على الزراع ، ويحتمل أن المراد بقوله : (كُلَّ كَفَّارٍ) من صدرت منه خصلة توجب الكفر ، ووجه التصاقه بالمقام أن
الذين قالوا : إنما البيع مثل الرّبا كفار. وقد تقدم تفسير قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) إلى آخر الآية.
وقد أخرج أبو
يعلى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا
يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) قال : يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام إلا
كما يقوم المتخبط المنخنق (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) وكذبوا على الله (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وَمَنْ عادَ) فأكل الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في
الآية قال : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضا في قوله : (لا يَقُومُونَ) قال : ذلك حين يبعث من قبره. وأخرج الأصبهاني في ترغيبه
عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يأتي آكل الرّبا يوم القيامة مختبلا يجرّ شفتيه ، ثم
قرأ : (لا يَقُومُونَ إِلَّا
كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)» وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا ، منها : من
حديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم ، وصححه ، والبيهقي عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الرّبا ثلاثة وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح
الرّجل أمّه ، وإنّ أربى الرّبا عرض الرّجل المسلم » ومن حديث أبي هريرة مرفوعا عند ابن ماجة والبيهقي بلفظ
«سبعون بابا» وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سلام وكعب وابن عباس
وأنس. وأخرج ابن جرير عن الربيع في الآية قال : يبعثون يوم القيامة وبهم خبل من
الشيطان وهي في بعض القراءات : «لا يقومون يوم القيامة». يعني قراءة ابن مسعود
المتقدم ذكرها. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت : لما نزلت الآيات من آخر
سورة البقرة في الربا : «خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المسجد فقرأهنّ على النّاس ، ثم حرّم التجارة في
الخمر». وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال : إن من آخر
القرآن نزولا آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم. وأخرج
البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال : آخر آية أنزلها على رسوله آية الربا. وأخرج
البيهقي في الدلائل عن عمر مثله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في الربا الذي نهى الله
عنه قال : كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول : لك كذا وكذا وتؤخر
عني فيؤخر عنه. وأخرج أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن
__________________
جبير نحوه أيضا وزاد في قوله : (فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قال : يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا
فانتهى عنه : (فَلَهُ ما سَلَفَ) يعني : فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يعني : بعد التحريم ، وبعد تركه ، إن شاء عصمه منه ،
وإن شاء لم يفعل (وَمَنْ عادَ) يعني : في الربا بعد التحريم فاستحله بقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) يعني : لا يموتون. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر من
طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا) قال : ينقص الربا (وَيُرْبِي
الصَّدَقاتِ) قال : يزيد فيها ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث
أبي هريرة مرفوعا «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلا طيّبا ، فإنّ
الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل».
وأخرج البزار وابن جرير وابن حبان والطبراني من حديث عائشة نحوه. وأخرج الحكيم
الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر مرفوعا نحوه أيضا. وفي حديث عائشة وابن عمر أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ بعد أن ساق الحديث : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ). وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ العبد ليتصدّق بالكسرة تربو عند الله حتّى تكون
مثل أحد» وهذه الأحاديث تبين معنى الآية.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٢٨١))
قوله : (اتَّقُوا اللهَ) أي : قوا أنفسكم من عقابه ، واتركوا البقايا التي بقيت
لكم من الربا ، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : هو شرط مجازي على جهة المبالغة ؛ وقيل : إنّ «إن»
في هذه الآية بمعنى إذ. قال ابن عطية : وهو مردود لا يعرف في اللغة ، والظاهر أن
المعنى : إن كنتم مؤمنين على الحقيقة ، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه.
قوله : (فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا) يعني : ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ) أي : فاعلموا بها ، من أذن بالشيء : إذا علم به ؛ قيل :
هو من الإذن بالشيء : وهو الاستماع ، لأنه من طرق العلم. وقرأ أبو بكر عن عاصم ،
وحمزة : «فأذنوا» على معنى : فأعلموا غيركم أنكم على حربهم ، وقد دلت هذه : على أن
أكل الربا والعمل به من الكبائر ، ولا خلاف في ذلك ، وتنكير الحرب : للتعظيم ،
وزادها تعظيما نسبتها إلى اسم الله الأعظم ، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته. قوله
: (وَإِنْ تُبْتُمْ) أي : من الربا (فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ) تأخذونها (لا تَظْلِمُونَ) غرماءكم بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) أنتم من قبلهم بالمطل والنقص ، والجملة حالية أو
استئنافية. وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة
ونحوهم ممن ينوب عنهم. قوله : (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ) لمّا حكم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند
الواجدين للمال ؛ حكم في ذوي العسرة بالنّظرة إلى يسار ، والعسرة : ضيق
الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة. والنظرة : التأخير ، والميسرة : مصدر
بمعنى اليسر ، وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد ، وهذا قول سيبويه وأبي عليّ
الفارسي وغيرهما. وأنشد سيبويه :
فدى لبني ذهل
بن شيبان ناقتي
|
|
إذا كان يوم
ذو كواكب أشهب
|
وفي مصحف أبيّ
وإن كان ذا عسرة على معنى : وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا».
قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب. وروى المعتمر عن
حجاج الوراق قال في مصحف عثمان : وإن كان ذا عسرة قال النحاس ومكي والنقاش : وعلى
هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ : ذو ، فهي عامة في جميع من عليه دين
، وإليه ذهب الجمهور. وقرأ الجماعة (فَنَظِرَةٌ) بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن بسكونها وهي
لغة تميم. وقرأ نافع وحده : ميسرة بضم السين ، والجمهور بفتحها ، وهي اليسار. قوله
: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد : أي : وأن
تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم ، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس
أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك. قال
الطبري : وقال آخرون : معنى الآية : وأن تصدقوا على الغنيّ والفقير خير لكم.
والصحيح الأوّل ، وليس في الآية مدخل للغنيّ. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) جوابه محذوف ، أي : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم
به. قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) هو يوم القيامة ، وتنكيره للتهويل ، وهو منصوب على أنه
مفعول به لا ظرف. وقوله : (تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللهِ) وصف له. وقرأ أبو عمرو : بفتح التاء وكسر الجيم ،
والباقون : بضم التاء وفتح الجيم ، وذهب قوم : إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم
الموت. وذهب الجمهور : إلى أنه يوم القيامة كما تقدّم. وقوله : (إِلَى اللهِ) فيه مضاف محذوف ، تقديره : إلى حكم الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس المكلفة (ما كَسَبَتْ) أي : جزاء ما عملت من خير أو شر ، وجملة : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) حالية ، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء ، كما أن
الإفراد أنسب بحال الكسب ، وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بني
المغيرة ، كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف ، فجاء الإسلام
ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج
قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلىاللهعليهوسلم على أن ما لهم من ربا على الناس ، وما كان للناس عليهم
من ربا فهو موضوع ؛ فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وكانت بنو عمرو
بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ،
فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير ، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبى بنو
المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا
ما
بَقِيَ مِنَ الرِّبا) فكتب بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عتاب وقال : إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب. وأخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع منه فحق على إمام
المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وأخرجوا أيضا عنه في قوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) قال : استيقنوا بحرب. وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمر بن
الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس
أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأوّل ربا موضوع ربا العبّاس». وأخرج ابن مندة عن
ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ). وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله : (وَإِنْ كانَ ذُو
عُسْرَةٍ) قال : نزلت في الربا. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن
منصور ، وعبد بن حميد عن شريح نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن الضحاك في
الآية قال : وكذلك كل دين على مسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وقد
وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره.
وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني
، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلىاللهعليهوسلم : (وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وأخرج ابن أبي شيبة عن السدي ، وعطية العوفي مثله.
وأخرج ابن الأنباري عن أبي صالح ، وسعيد بن جبير مثله أيضا. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن المنذر ، والبيهقي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت
، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلىاللهعليهوسلم إحدى وثمانون يوما. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير
أنه عاش النبي صلىاللهعليهوسلم بعد نزولها تسع ليال ثم مات.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ
كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ
فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا
يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً
أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ
لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها
وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ
تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ
تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا
تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))
هذا شروع في
بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا ، أي : إذا داين بعضكم
بعضا وعامله بذلك ، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل
قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) وقيل : إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله : (فَاكْتُبُوهُ) ولو قال : فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في
قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ) والدين : عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا
، والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان
غائبا ، قال الشاعر :
وعدتنا
بدرهمينا طلاء
|
|
وشواء معجّلا
غير دين
|
وقال الآخر :
إذا ما
أوقدوا حطبا ونارا
|
|
فذاك الموت
نقدا غير دين
|
وقد بين الله
سبحانه هذا المعنى بقوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصا أجل
السّلم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم»
وقد قال بذلك الجمهور ، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين ، قالوا :
ولا يجوز إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع القافلة ، أو نحو ذلك وجوّزه مالك.
قوله : (فَاكْتُبُوهُ) أي : الدين بأجله ، لأنه أدفع للنزاع ، وأقطع للخلاف.
قوله : (وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها ، وظاهر الأمر
الوجوب ، وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما ، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه
ذلك ، ولم يوجد كاتب سواه ؛ وقيل الأمر للندب. وقوله : (بِالْعَدْلِ) متعلق بمحذوف صفة لكاتب ، أي : كاتب كائن بالعدل ، أي :
يكتب بالسوية ، لا يزيد ولا ينقص ، ولا يميل إلى أحد الجانبين ، وهو أمر
للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة ، لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة
لأحدهما على الآخر ، بل يتحرّى الحق بينهم والمعدلة فيهم. قوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم ، أي : لا يمتنع
أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين كما علمه الله ، أي : على الطريقة التي علمه
الله من الكتابة ، أو كما علمه الله بقوله : (بِالْعَدْلِ). قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُ) الإملال والإملاء لغتان : الأولى : لغة أهل الحجاز ،
وبني أسد. والثانية : لغة بني تميم. فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى ، وجاء على
اللغة الثانية قوله تعالى : (فَهِيَ تُمْلى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) و (الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُ) هو من عليه الدين ، أمره الله تعالى بالإملاء ، لأن
الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته ، وأمره الله بالتقوى فيما
يمليه على الكاتب ، بالغ في ذلك بالجمع بين الاسم والوصف في قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ونهاه عن البخس وهو : النقص ؛ وقيل : إنه نهي للكاتب.
والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ، ولو كان نهيا للكاتب لم
يقتصره في نهيه على النقص ، لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص. والسفيه
: هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء ، شبه بالثوب
السفيه ، وهو : الخفيف النسج ، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة ، وعلى ضعف
البدن أخرى ، فمن الأوّل قول الشاعر :
__________________
نخاف أن تسفه
أحلامنا
|
|
ونجهل الدهر
مع الجاهل
|
ومن الثاني قول
ذي الرمة :
مشين كما
اهتزّت رماح تسفّهت
|
|
أعاليها مرّ
الرّياح النّواسم
|
أي : استضعفها
واستلانها بحركتها ، وبالجملة فالسفيه : هو المبذر إما لجهله بالصرف ، أو لتلاعبه
بالمال عبثا ، مع كونه لا يجهل الصواب. والضعيف : هو الشيخ الكبير ، أو الصبي. قال
أهل اللغة : الضعف بضم الضاد في البدن ، وبفتحها في الرأي. والذي لا يستطيع أن
يملّ هو : الأخرس ، أو العييّ الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي ؛ وقيل : إن
الضعيف هو المذهول العقل ، الناقص الفطنة ، العاجز عن الإملاء ، والذي لا يستطيع
أن يملّ هو الصغير. قوله : (فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيملّ عن السفيه وليه
المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله ، ويملّ عن الصبي وصيه أو وليه ، وكذلك
يملّ عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه ، لأنه في حكم الصبيّ أو المنصوب
عنه من الإمام أو القاضي ، ويملّ عن الذي لا يستطيع وكيله ، إذا كان صحيح العقل ،
وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض ، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي.
وقال الطبري : إن الضمير في قوله : (وَلِيُّهُ) يعود إلى الحق ، وهو ضعيف جدا. قال القرطبي في تفسيره :
وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعا ، مفسوخ أبدا ، لا يوجب حكما ،
ولا يؤثر شيئا ، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف. انتهى. قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ) الاستشهاد : طلب الشهادة ، وسماهما شهيدين قبل الشهادة
من مجاز الأول ، أي : باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة ، و (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق بقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا) أو بمحذوف هو : صفة لشهيدين ، أي : كائنين من رجالكم ،
أي : من المسلمين ، فيخرج الكفار ، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية ؛ فهم إذا
كانوا مسلمين من رجال المسلمين ، وبه قال شريح ، وعثمان البتي ، وأحمد بن حنبل ،
وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور. وقال ابو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وجمهور العلماء
: لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق. وقال الشعبي والنخعي : يصح في الشيء
اليسير دون الكثير. واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد : بأن الخطاب في هذه
الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة ، والعبيد لا يملكون شيئا تجري فيه المعاملة.
ويجاب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأيضا : العبد تصح منه
المداينة ، وسائر المعاملات ؛ إذا أذن له مالكه بذلك. وقد اختلف الناس هل الإشهاد
واجب أو مندوب؟ فقال أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وسعيد بن المسيب ،
وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وداود بن علي الظاهري وابنه : إنه واجب ، ورجحه ابن جرير
الطبري ؛ وذهب الشعبي ، والحسن ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : إلى
أنه مندوب ، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع. واستدل الموجبون
بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا
تَبايَعْتُمْ) ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا) فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا
بوجوبه في المداينة. قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي : الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتانِ) أي : فليشهد رجل وامرأتان ، أو فرجل وامرأتان
يكفون. وقوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَداءِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان ، أي : كائنون ممن
ترضون ، حال كونهم من الشهداء. والمراد : ممن ترضون دينهم وعدالتهم ، وفيه : أن
المرأتين في الشهادة برجل ، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهنّ ،
إلا فيما لا يطلع عليه غيرهنّ للضرورة. واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع
يمين المدّعى كما جاز الحكم برجل مع يمين المدّعى؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه
يجوز ذلك ، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية. وذهب أبو حنيفة
وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك ، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين
المدّعى ، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه ، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب
العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا ،
ومعلوم عند كل من يفهم : أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالشاهد واليمين ، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على
شفا جرف هار هي قولهم : إن الزيادة على النص نسخ ، وهذه دعوى باطلة ، بل الزيادة
على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها ، وأيضا كان يلزمهم
أن لا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب. وقد حكموا بهما. والجواب
الجواب. قوله : (أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) قال أبو عبيد : معنى تضل : تنسى. والضلال عن الشهادة : إنما
هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة : «إن تضلّ» بكسر الهمزة. وقوله : (فَتُذَكِّرَ) جوابه على هذه القراءة ، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب
بالعطف على تضلّ ، ومن رفعه فعلى الاستئناف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فتذكر»
بتخفيف الذال والكاف ، ومعناه : تزيدها ذكرا. وقراءة الجماعة : بالتشديد ، أي :
تنبهها إذا غفلت ونسيت ، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء ، أي : فليشهد
رجل وتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر ، لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت ،
وعلى هذا فيكون في الكلام حذف ، وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضا عن
الرجل الواحد ، فقيل : وجهه أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، والعلة في
الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته ، وأبهم الفاعل في
تضلّ وتذكر ، لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان ؛ فالمعنى : إن ضلت هذه ذكرتها هذه
، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه ، لا على التعيين ، أي : إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها
المرأة الأخرى ، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف
الرجال. وقد يكون الوجه في الإبهام : أن ذلك ، يعني : الضلال والتذكر يقع بينهما
متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر ، فذكرت كل واحدة منهما
صاحبتها. وقال سفيان بن عيينة : معنى قوله : (فَتُذَكِّرَ
إِحْداهُمَا الْأُخْرى) تصيرها ذكرا ، يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة
الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء ، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه
شرع ولا لغة ولا عقل. قوله : (وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي : لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل ؛ وقيل :
إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم ، وحملها الحسن على
المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام. قوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) معنى تسأموا : تملوا. قال الأخفش : يقال سئمت أسأم سآمة
وسآما ، ومنه قول الشاعر :
سئمت تكاليف
الحياة ومن يعش
|
|
ثمانين حولا
لا أبا لك يسأم
|
أي : لا تملوا
أن تكتبوه ، أي : الدين الذي تداينتم به ؛ وقيل : الحق ؛ وقيل : الشاهد ؛ وقيل :
الكتاب ، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا ،
ثم بالغ في ذلك فقال : (صَغِيراً أَوْ
كَبِيراً) أي : حال كون ذلك المكتوب صغيرا أو كبيرا ، أي : لا
تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيرا أو قليلا ؛ وقيل : إنه كنى بالسآمة
عن الكسل. والأول أولى. وقدّم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن
يقال إن هذا مال صغير ، أي : قليل لا احتياج إلى كتبه ، والإشارة في قوله : (ذلِكُمْ) إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله : (أَنْ تَكْتُبُوهُ) و (أَقْسَطُ) معناه : أعدل ، أي : أصح وأحفظ (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي : أعون على إقامة الشهادة ، وأثبت لها ، وهو مبني من
: أقام ، وكذلك أقسط مبني من فعله ، أي : أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي ، أي :
بنى أفعل التفضيل. ومعنى قوله : (وَأَدْنى أَلَّا
تَرْتابُوا) أقرب لنفي الريب في معاملاتكم ، أي : الشك ، ولذلك إن
الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائنا ما كان. قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً
تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) أن في موضع نصب على الاستثناء قاله الأخفش ، وكان تامة
: أي إلا أن تقع أو توجد تجارة ، والاستثناء منقطع ، أي : لكن وقت تبايعكم
وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين ، (تُدِيرُونَها
بَيْنَكُمْ) تتعاطونها يدا بيد ، فالإدارة : التعاطي والتقابض ،
فالمراد : التبايع الناجز يدا بيد ، فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته. وقرئ : بنصب
تجارة ، على أن كل ناقصة ، أي : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) قيل معناه : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور
هنا ، وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي ؛ وقيل : معناه : إذا تبايعتم
أيّ تبايع كان حاضرا أو كالئا ، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار. وقد
تقدّم قريبا ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجبا أو مندوبا. قوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، أو للمفعول ؛ فعلى الأوّل
معناه : لا يضارر كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما ، إما بعدم الإجابة ، أو
بالتحريف ، والتبديل ، والزيادة والنقصان في كتابته ؛ ويدل على هذا قراءة عمر بن
الخطاب ، وابن عباس ، وابن أبي إسحاق : «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى ؛ وعلى
الثاني : لا يضارر كاتب ولا شهيد ، بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهمّ لهما ،
ويضيق عليهما في الإجابة ، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي ، أو يطلب منهما الحضور من
مكان بعيد ، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود : «ولا يضارر» بفتح الراء الأولى ،
وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا. وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله. قوله : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) أي : ما نهيتم عنه من المضارة (فَإِنَّهُ) أي : فعلكم هذا (فُسُوقٌ بِكُمْ) أي : خروج عن الطاعة إلى المعصية ،
__________________
ملتبس بكم (وَاتَّقُوا اللهَ) في فعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه ، (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما تحتاجون إليه من العلم ، وفيه الوعد لمن اتقاه أن
يعلمه ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) . قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى
سَفَرٍ) لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال
ودفع الريب ، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ، ونص على حالة السفر ،
فإنها من جملة أحوال العذر ، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر ، وجعل الرهان
المقبوضة قائمة مقام الكتابة ، أي : فإن كنتم مسافرين (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) في سفركم (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) قال أهل العلم : الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل ، وفي
الحضر بفعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما ثبت في الصحيحين «أنه صلىاللهعليهوسلم رهن درعا له من يهوديّ». وقرأ الجمهور «كاتبا» أي رجلا يكتب لكم. وقرأ ابن
عباس ، وأبيّ ، ومجاهد ، والضحاك ، وعكرمة وأبو العالية : «كتابا» قال ابن
الأنباري : فسره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مدادا : يعني في الأسفار. وقرأ
أبو عمرو ، وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء. وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان ،
قاله الفراء ، والزجاج ، وابن جرير الطبري. وقرأ عاصم بن أبي النجود «فرهن» بفتح
الراء وإسكان الهاء. وقراءة الجمهور : «رهان». قال الزجاج : يقال في الرهن : رهنت
وأرهنت ، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش. وقال أبو علي الفارسي : يقال : أرهنت في
المعاملات ، وأما في القرض والبيع : فرهنت ، وقال ثعلب : الرواة كلهم في قول
الشاعر :
فلمّا خشيت
أظافيرهم
|
|
نجوت
وأرهنتهم مالكا
|
على أرهنتهم ،
على أنه يجوز : رهنته وأرهنته ، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم على أنه عطف لفعل
مستقبل على فعل ماض ، وشبهه بقوله : قمت وأصك وجهه. وقال ابن السكيت : أرهنت فيهما
: بمعنى أسلفت ، والمرتهن الذي يأخذ الرهن ، والشيء مرهون ورهين ، وراهنت فلانا
على كذا مراهنة : خاطرته. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض كما صرح به القرآن ،
وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض. قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أي : إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق ، لحسن
ظنه به ، وأمانته لديه ، واستغنى بأمانته عن الارتهان (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المديون (أَمانَتَهُ) أي : الدين الذي عليه ، والأمانة : مصدر سمى به الذي في
الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة ، وقرئ «أيتمن» بقلب
الهمزة ياء ، وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ ، لأن المنقلبة من الهمزة لا
تدغم لأنها في حكمها (وَلْيَتَّقِ اللهَ
رَبَّهُ) في أن لا يكتم من الحق شيئا. قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة ، وهو في
حكم التفسير لقوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) أي : لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين
المتقدّمين. قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله ، ولكونه رئيس
الأعضاء ، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد كله ، وارتفاع
القلب : على أنه فاعل أو مبتدأ ، وآثم : خبره على ما تقرر في علم النحو ؛ ويجوز أن
يكون قلبه : بدلا من آثم ، بدل البعض من الكل ، ويجوز أن يكون
__________________
أيضا : بدلا من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من ، وقرئ «قلبه» بالنصب كما
في قوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ) .
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) قال : نزلت في السّلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم.
وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وغيرهم عنه قال : أشهد :
أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحلّه ، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية. قال : أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا
يدخل في ذلك جحود ولا نسيان ، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) يعني : من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة ، أو
كانت عنده شهادة ، فلا يحلّ له أن يأبى إذا ما دعي ، ثم قال بعد هذا : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) والضرار : أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنيّ إن الله قد
أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره ، فنهاه الله عن ذلك. وقال
: (وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) يعني : معصية. قال : ومن الكبائر كتمان الشهادة ، لأن
الله تعالى يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم في قوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) قال : واجب على الكاتب أن يكتب. وأخرج ابن جرير عن
الضحاك قال : كانت الكتابة عزيمة فنسخها (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد. قال : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
سَفِيهاً) قال : هو الجاهل (أَوْ ضَعِيفاً) قال : هو الأحمق. وأخرج ابن جرير عن الضحاك والسدي في
قوله : (سَفِيهاً) قالا : هو الصبيّ الصغير. وأخرج ابن جرير من طريق عطية
العوفي عن ابن عباس : (فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ) قال : صاحب الدين. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم
عن الحسن قال : ولي اليتيم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : وليّ السفيه أو
الضعيف. وأخرج سعيد ابن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن
المنذر ، والبيهقي عن مجاهد في قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) قال : من الأحرار. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) قال : عدول. وأخرج الشافعي ، والبيهقي عن مجاهد قال :
عدلان حران مسلمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير في قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) يقول : أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) يعني : تذكرها التي حبطت شهادتها. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ) قال : إذا كانت عندهم شهادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن الربيع قال : كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون فلا يتبعه أحد
منهم ، فأنزل الله : (وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج
ابن المنذر عن عائشة في قوله : (أَقْسَطُ عِنْدَ
اللهِ) قالت : أعدل. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ
وَلا شَهِيدٌ) قال : يأتي الرجل الرجلين فيدعوهما إلى الكتابة
والشهادة فيقولان إنا على حاجة ، فيقول إنكما قد أمرتما أن تحبيبا ، فليس له أن
يضارّهما. وأخرج ابن جرير عن طاوس (لا يُضَارَّ كاتِبٌ) ، فيكتب ما
__________________
لم يملّ عليه (وَلا شَهِيدٌ) فيشهد بما لم يستشهد. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله
: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى
سَفَرٍ) الآية ، قال : من كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم
يجد كاتبا فرخص له في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لا يكون الرهن إلا في السفر. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لا يكون الرهن إلا
مقبوضا. وأخرج البخاري في تاريخه ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، وابن ماجة ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه
الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) حتى بلغ (فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً) قال : هذه نسخت ما قبلها. وأقول : رضي الله عن هذا
الصحابي الجليل ، ليس هذا من باب النسخ ، فهذا مقيد بالائتمان ، وما قبله ثابت
محكم لم ينسخ وهو مع عدم الائتمان. وأخرج ابن جرير عن السديّ في قوله : (آثِمٌ قَلْبُهُ) قال : فاجر قلبه. وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد
بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وأخرج أبو عبيد في فضائله
عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين.
(لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))
قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) قد تقدّم تفسيره. قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما
فِي أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر الآية ، ظاهره : أن الله يحاسب العباد على ما
أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها ، فيغفر لمن يشاء منهم ما
يغفره منها ، ويعذب من يشاء منهم بما أسرّ أو أظهر منها ، هذا معنى الآية على
مقتضى اللغة العربية. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال : الأول : أنها
وإن كانت عامة ، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة ، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه
سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر. وقد روي هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ،
والشعبي ومجاهد ، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ ، ولا يصلح ما تقدم قبل
هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به. والقول الثاني : أن ما في
الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين ، قاله مجاهد
، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص. والقول الثالث : أنها محكمة عامة ، ولكن العذاب على ما
في النفس يختص بالكفار والمنافقين. حكاه الطبري عن قوم ، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص
، فإن قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لا يختص ببعض معين إلا بدليل. والقول الرابع : أن هذه
الآية منسوخة ، قاله ابن مسعود ، وعائشة ، وأبو هريرة ، والشعبي ، وعطاء ، ومحمد
بن سيرين ، ومحمد بن كعب ، وموسى بن عبيدة ، وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة من
الصحابة والتابعين ، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها ، ولما ثبت عن
النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله غفر لهذه الأمّة ما حدّثت به أنفسها». قوله
: (يُحاسِبْكُمْ بِهِ
اللهُ) قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به ،
وقدم الإبداء على الإخفاء ، لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال
البادية ،
وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا
ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على
السوية ، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشاءُ) مستأنفة : أي فهو يغفر ، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في
قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ
اللهُ) وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم. وأما على قراءة ابن
كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بجزم الراء والباء ، فالفاء عاطفة
لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو جواب الشرط : أعني قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو العالية ، وعاصم
الجحدري : بنصب الراء والباء في قوله : (فَيَغْفِرُ
وَيُعَذِّبُ) على إضمار أن عطفا على المعنى. وقرأ طلحة بن مصرف : يغفر
بغير فاء على البدل ، وبه قرأ الجعفي ، وخلاد.
وقد أخرج أحمد
ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي
هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية ، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله! كلفنا من
الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية
ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم :
سمعنا وعصينا ، بل قولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا
غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في
أثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) إلى آخرها. وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ،
وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا
نحوه ، وزاد فأنزل الله : (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال : قد فعلت (وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) الآية ، قال : قد فعلت. وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس
من طرق. وأخرج البخاري ، والبيهقي ، عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أحسبه ابن عمر (إِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال : نسختها الآية التي بعدها. وأخرج عبد بن حميد ،
والترمذي عن علي نحوه ، وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والطبراني عن ابن مسعود
نحوه. وأخرج ابن جرير عن عائشة نحوه أيضا.
وبمجموع ما
تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت
كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة. وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ
والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها ، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع
من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم
تتكلّم أو تعمل به». وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت : كل عبد همّ بسوء ومعصية وحدّث
نفسه به حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزن ، ويشتدّ همه ، لا يناله من ذلك شيء
كما
__________________
هم بالسوء ولم يعمل منه بشيء. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير عنها نحوه ،
والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن
الله يقول يوم القيامة : إن كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأما
ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذب من شئت ، وهو
مدفوع بما تقدم.
(آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا
وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا
وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))
قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي : بجميع ما أنزل الله. (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرسول ، وقوله : (كُلٌ) أي من الرسول والمؤمنين (آمَنَ بِاللهِ) ويجوز أن يكون قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) مبتدأ. وقوله : (كُلٌ) مبتدأ ثان. وقوله : (آمَنَ بِاللهِ) خبر المبتدأ الثاني ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأوّل ،
وأفرد الضمير في قوله : (آمَنَ بِاللهِ) مع رجوعه إلى كل المؤمنين ، لما أن المراد بيان إيمان
كل فرد منهم ، من غير الاجتماع كما اعتبر ذلك في قوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) . قال الزجاج لمّا ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض
الصلاة ، والزكاة ، وبين أحكام الحج ، وحكم الحيض ، والطلاق والإيلاء ، وأقاصيص
الأنبياء ، وبين حكم الربا ، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) ثم ذكر تصديق نبيه صلىاللهعليهوسلم ، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي : صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها ،
وكذلك المؤمنون ، كلهم صدّقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ؛ وقيل سبب نزولها :
الآية التي قبلها. وقد تقدّم بيان ذلك. قوله : (وَمَلائِكَتِهِ) أي : من حيث كونهم عباده المكرّمين ، المتوسطين بينه
وبين أنبيائه في إنزال كتبه ، وقوله : (وَكُتُبِهِ) لأنها المشتملة على الشرائع التي تعبد بها عباده. وقوله
: (وَرُسُلِهِ) لأنهم المبلغون لعباده ما نزل إليهم. وقرأ نافع ، وابن
كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر : وكتبه ، بالجمع. وقرءوا في التحريم :
وكتابه. وقرأ ابن عباس هنا : وكتابه ، وكذلك قرأ حمزة والكسائي ، وروي عنه أنه قال
: الكتاب أكثر من الكتب. وبينه صاحب الكشاف فقال : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس
والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته
إلا ما فيه الجنسية من الجموع. انتهى. ومن أراد تحقيق المقام فليرجع إلى شرح
التلخيص المطوّل عند قول صاحب التلخيص «واستغراق المفرد أشمل». وقرأ الجمهور :
ورسله ، بضم السين. وقرأ أبو عمرو : بتخفيف السين. وقرأ الجمهور : «لا نفرّق» بالنون.
والمعنى : يقولون : لا نفرق. وقرأ سعيد ابن جبير ، ويحيى بن يعمر ، وأبو زرعة ،
وابن عمر ، وابن جرير ، ويعقوب : «لا يفرق» بالياء التحتية.
__________________
وقوله : (بَيْنَ أَحَدٍ) ولم يقل بين آحاد ، لأن الأحد يتناول الواحد ، والجمع ،
كما في قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) فوصفه بقوله : (حاجِزِينَ) لكونه في معنى الجمع ، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل
نصب على الحال ، وأن تكون خبرا آخر لقوله : (كُلٌ). وقوله : (مِنْ رُسُلِهِ) أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة
في الحكم ، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم. وقوله : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) هو معطوف على قوله : (آمَنَ) وهو وإن كان للمفرد وهذا للجماعة فهو جائز نظرا إلى
جانب المعنى ، أي : أدركناه بأسماعنا ، وفهمناه ، وأطعنا ما فيه ؛ وقيل : معنى
سمعنا : أجبنا دعوتك. قوله : (غُفْرانَكَ) مصدر منصوب بفعل مقدّر ، أي : اغفر غفرانك. قاله الزجاج
وغيره ، وقدّم السمع والطاعة على طلب المغفرة لكون الوسيلة تتقدّم على المتوسل
إليه. قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) التكليف : هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة ، والوسع :
الطاقة ، والوسع : ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله
سبحانه : (وَإِنْ تُبْدُوا ما
فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية ، لكشف كربة المسلمين ، ودفع المشقة عليهم في
التكليف بما في الأنفس ، وهي كقوله : سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . قوله : (لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فيه ترغيب وترهيب ، أي : لها ثواب ما كسبت من الخير ،
وعليها وزر ما اكتسبت من الشرّ ، وتقدّم «لها وعليها» على الفعلين ليفيد أن ذلك
لها لا لغيرها ، وعليها لا على غيرها ، وهذا مبنيّ على أن : كسب ، للخير فقط ،
واكتسب : للشرّ فقط ، كما قاله صاحب الكشاف وغيره ؛ وقيل : كل واحد من الفعلين
يصدق على الأمرين ، وإنما كرّر الفعل وخالف بين التصريفين تحسينا للنظم كما في
قوله تعالى : (فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) . قوله : (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي : لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين. وقد
استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين : إن الخطأ والنسيان مغفوران
غير مؤاخذ بهما ، فما معنى الدعاء بذلك ، فإنه من تحصيل الحاصل. وأجيب عن ذلك :
بأن المراد : طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان
والخطأ من التفريط وعدم المبالاة ، لا من نفس النسيان والخطأ ، فإنه لا مؤاخذة
بهما كما يفيد ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وسيأتي مخرّجه ؛ وقيل :
إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته ؛ وقيل :
إنه وإن ثبت شرعا أنه لا مؤاخذة بهما ، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا ؛ وقيل :
لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمدا ، وإنما يصدر
عنهم خطأ أو نسيانا ، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون
به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به ، فما منهم سبب مؤاخذة إلا
الخطأ والنسيان. قال القرطبي : وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع ، وإنما اختلف
فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شيء ، أو يلزم أحكام ذلك
كله؟ اختلف فيه ، والصحيح : أن ذلك يختلف بحسب الوقائع ، فقسم لا يسقط باتفاق
كالغرامات والدّيات والصلوات المفروضات ، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة
الكفر ، وقسم ثالث مختلف فيه : كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا ، وما كان
مثله مما يقع
__________________
خطأ ونسيانا ، ويعرف ذلك في الفروع. انتهى. قوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) عطف على الجملة التي قبله ، وتكرير النداء للإيذان
بمزيد التضرّع واللجأ إلى الله سبحانه. والإصر : العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه ،
أي : يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله. والمراد به هنا التكليف الشاق ، والأمر
الغليظ الصعب ؛ وقيل الإصر : شدّة العمل وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس
وقطع موضع النجاسة ، ومنه قول النابغة :
يا مانع
الضّيم أن تغشى سراتهم
|
|
والحامل
الإصر عنهم بعد ما غرقوا
|
وقيل : الإصر :
المسخ قردة وخنازير ؛ وقيل : العهد ، ومنه قوله تعالى : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من
قبلنا ، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب ، فإنه ما تقدّم ذكره بلا نزاع ، والإصار
: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، يقال : أصر يأصر إصرا : حبس ، والإصر بكسر
الهمزة من ذلك. قال الجوهري : والموضع : مأصر ، والجمع : مأصر ، والعامة تقول
معاصر. ومعنى الآية : أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقل التكاليف ما
حمل الأمم قبلهم. وقوله : (كَما حَمَلْتَهُ) صفة مصدر محذوف : أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا ،
أو صفة لإصرا ، أي : إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا. قوله : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ
لَنا بِهِ) هو أيضا عطف على ما قبله ، وتكرير النداء للنكتة
المذكورة قبل هذا. والمعنى : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ؛ وقيل : عبارة عن
إنزال العقوبات ، كأنه قال : لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك
التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا ؛ وقيل : المراد به الشاق الذي لا يكاد
يستطاع من التكاليف. قال في الكشاف : وهذا تقرير لقوله : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً). قوله : (وَاعْفُ عَنَّا) أي : عن ذنوبنا ، يقال : عفوت عن ذنبه : إذا تركته ولم
تعاقبه عليه (وَاغْفِرْ لَنا) أي : استر على ذنوبنا ، والغفر : الستر (وَارْحَمْنا) أي : تفضل برحمة منك علينا (أَنْتَ مَوْلانا) أي : ولينا وناصرنا ، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون
؛ وقيل معناه : أنت سيدنا ونحن عبيدك (فَانْصُرْنا عَلَى
الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فإن من حق المولى أن ينصر عبيده ، والمراد : عامة
الكفرة ، وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله. وقد قدّمنا في شرح
الآية التي قبل هذه أعني قوله : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي
أَنْفُسِكُمْ) إلخ ، أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات قد فعلت
، فكان ذلك دليلا على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ والنسيان ، ولا حمل
عليهم شيئا من الإصر الذي حمله على من قبلهم ، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به ، وعفا
عنهم ، وغفر لهم ، ورحمهم ، ونصرهم على القوم الكافرين ، والحمد لله رب العالمين.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن مقاتل بن حبان (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) لا نكفر بما جاءت به الرسل ، ولا نفرّق بين أحد منهم ،
ولا نكذب به (وَقالُوا سَمِعْنا) للقرآن الذي جاء من الله (وَأَطَعْنا) ، أقرّوا لله أن يطيعوه في أمره ونهيه. وأخرج ابن أبي
حاتم ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) قال : قد غفرت لكم (وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ) قال : إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب. وأخرج سعيد
ابن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر قال : لما نزلت (آمَنَ الرَّسُولُ) الآية ، قال جبريل للنبي صلىاللهعليهوسلم : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه ،
فقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) حتى ختم السورة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قال : هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم فقال : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ) . وقال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . وقال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا
اكْتَسَبَتْ) قال : من العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في
قوله : (إِلَّا وُسْعَها) قال : إلا طاقتها. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك نحوه.
وقد أخرج ابن ماجة ، وابن المنذر ، وابن حبان في صحيحه ، والطبراني ، والدارقطني ،
والحاكم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه» وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي ذرّ مرفوعا ، والطبراني من حديث ثوبان
، ومن حديث ابن عمر ، ومن حديث عقبة بن عامر ، وأخرجه البيهقي أيضا من حديثه.
وأخرجه ابن عديّ في الكامل ، وأبو نعيم من حديث أبي بكرة ، وأخرجه ابن أبي حاتم من
حديث أمّ الدرداء. وأخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد من حديث الحسن مرسلا ،
وأخرجه عبد بن حميد من حديث الشعبي مرسلا. وفي أسانيد هذه الأحاديث مقال ولكنها
يقوّي بعضها بعضا فلا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد تقدّم حديث : «إنّ الله قال
قد فعلت» وهو في الصحيح وهو يشهد لهذه الأحاديث. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِصْراً) قال : عهدا. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج
ابن جرير عن ابن جريج مثله. وأخرج أيضا عن عطاء بن أبي رباح في قوله : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) قال : لا تمسخنا قردة وخنازير. وأخرج ابن جرير عن ابن
زيد في الآية أن الإصر : الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. وأخرج ابن أبي حاتم
عن الفضيل في الآية قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب قيل له توبتك أن تقتل
نفسك فيقتل نفسه ، فوضعت الآصار عن هذه الأمة. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال :
لما نزلت هذه الآيات : (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا) إلخ ، كما قالها جبريل للنبي صلىاللهعليهوسلم قال النبيّ آمين رب العالمين. وأخرج أبو عبيد عن ميسرة
أن جبريل لقن النبي صلىاللهعليهوسلم خاتمة البقرة آمين. وأخرج أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ،
وابن جرير ، وابن المنذر عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال
: آمين. وأخرج أبو عبيد عن جبير بن نفير أنه كان يقول : آمين آمين. وأخرج عبد بن
حميد عن أبي ذرّ قال : هي للنبي صلىاللهعليهوسلم خاصة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال :
سألها نبيّ الله ربه فأعطاه إياها ، فكانت للنبيّ صلىاللهعليهوسلم خاصة. وقد ثبت عند الشيخين ، وأهل السنن ، وغيرهم عن
ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة
كفتاه». وأخرج أبو عبيد ، والدارمي ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم
وصححه ، والبيهقي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الله كتب كتابا قبل أن يخلق السّموات والأرض
بألفي عام ، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا
__________________
يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان». وأخرج أحمد ، والنسائي ، والطبراني
، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من
كنز تحت العرش لم يعطها نبيّ قبلي». وأخرج أحمد ، والبيهقي عن أبي ذرّ مرفوعا
نحوه. وأخرج أبو عبيد ، وأحمد ، ومحمد بن نصر عن عقبة بن عامر سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اقرءوا هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى خاتمتها ، فإنّ الله اصطفى بها محمّدا» وإسناده
حسن. وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وأعطي ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس
، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات . وأخرج الحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذرّ
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من
كنزه الذي تحت العرش ، فتعلموهما وعلّموهما نساءكم وأبناءكم فإنّهما صلاة وقرآن
ودعاء». وأخرج الديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اثنان هما قرآن وهما يشفيان ، وهما ممّا يحبّهما
الله الآيتان من آخر البقرة». وأخرج الطبراني بسند جيد عن شدّاد بن أوس قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض
بألفي عام ، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرآن في دار ثلاث ليال
فيقربها شيطان». وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة ، كتبهما الرحمن
بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة ، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام
اللّيل». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة ، أو آية الكرسي ، ضحك وقال :
إنهما من كنز تحت العرش. وأخرج ابن مردويه عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أعطيت فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة من تحت
العرش». وأخرج مسلم ، والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم «وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فرفع جبريل بصره فقال : هذا باب قد فتح من
السّماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك فأتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك :
فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته». فهذه ثلاثة
عشر حديثا في فضل هاتين الآيتين مرفوعة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم. وقد روي في فضلهما من غير المرفوع عن عمر ، وعليّ ،
وابن مسعود ، وأبي مسعود وكعب الأحبار والحسن وأبي قلابة ، وفي قول النبيّ صلىاللهعليهوسلم ما يغني عن غيره.
* * *
__________________
سورة آل عمران
هي مدنية ، قال
القرطبي : بالإجماع ، ومما يدل على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزل في وفد
نجران ، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة. وقد أخرج البيهقي في الدلائل من طرق عن
ابن عباس قال : نزلت سورة آل عمران بالمدينة. وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما هو
مشترك بينها وبين هذه السورة من الأحاديث الدالة على فضلهما ، وكذلك تقدّم ما ورد
في السبع الطوال. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة
صلّى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس». وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب
عن عمر بن الخطاب قال : من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء.
وأخرج الديلمي ، ومحمد بن نصر ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : من قرأ آل عمران
فهو غنيّ. وأخرج الدارمي ، وعبد بن حميد ، والبيهقي عنه قال : نعم كنز الصعلوك آل
عمران ، يقوم بها الرجل من آخر الليل. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عطاف قال : اسم
آل عمران في التوراة طيبة. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير قال : قرأ رجل
البقرة وآل عمران ، فقال كعب : قد قرأ السورتين إن فيهما الاسم الذي إذا دعي به
أجاب.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الم (١) اللهُ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ
(٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ
اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ
الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))
قرأ الحسن ،
وعمرو بن عبيد ، وعاصم بن أبي النجود ، وأبو جعفر الرواسي : (الم اللهُ) بقطع ألف الوصل على تقدير الوقف على (الم) كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد نحو واحد اثنان ثلاثة
أربعة مع وصلهم. قال الأخفش : ويجوز (الم اللهُ) بكسر الهمزة لالتقاء الساكنين. قال الزجاج : هذا خطأ ،
ولا تقوله العرب لثقله. وقد ذكر سيبويه في الكتاب : أن فواتح السور التي لم تكن
موازنة لمفرد طريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف ، سواء جعلت
أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب
الوقف ، فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها ، ثم يبدأ بما بعدها ، كما فعله الحسن ومن
معه في قراءتهم المحكية سابقا. وأما فتح الميم على القراءة المشهورة ، فوجهه : ما
روي عن سيبويه : أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين. وقال الكسائي : حروف التهجي إذا
لقيتها ألف وصل ، فحذفت الألف وحركت
الميم بحركة الألف ، وكذا قال الفراء. وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط
التعديد ، فلا محل لها من الإعراب ، وإن جعلت أسماء للسورة فمحلها إما الرفع على
أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها ، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر
، أو اقرأ ، أو نحوهما ، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما يغني عن الإعادة. وقوله
: (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، والجملة مستأنفة ، أي : هو المستحق
للعبودية. والحيّ القيوم : خبران آخران للاسم الشريف ، أو خبران لمبتدأ محذوف ، أي
: هو الحي القيوم ، وقيل : إنهما صفتان للمبتدأ الأول ، أو بدلان منه ، أو من
الخبر ، وقد تقدّم تفسير الحيّ والقيوم. وقرأ جماعة من الصحابة : القيام ؛ عمر ،
وأبي بن كعب ، وابن مسعود. قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ
الْكِتابَ) أي : القرآن ، وقدم الظرف على المفعول به للاعتناء
بالمنزل عليه صلىاللهعليهوسلم ، وهي : إما جملة مستأنفة ، أو خبر آخر للمبتدأ الأوّل.
قوله : (بِالْحَقِ) أي : بالصدق ، وقيل : بالحجة الغالبة البالغة ، وهو في
محل نصب على الحال. وقوله : (مُصَدِّقاً) حال آخر من الكتاب مؤكدة ، لأنه لا يكون إلّا مصدقا ،
فلا تكون الحال منتقلة أصلا ، وبهذا قال الجمهور ، وجوّز بعضهم الانتقال على معنى
أنه مصدق لنفسه ولغيره. وقوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : من الكتب المنزلة ، وهو متعلق بقوله : مصدقا ،
واللام للتقوية. قوله : (وَأَنْزَلَ
التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) هذه الجملة في حكم البيان لقوله : لما بين يديه. وإنما
قال هنا أنزل وفيما تقدّم نزّل : لأن القرآن نزل منجما ، والكتابان نزلا دفعة
واحدة ، ولم يذكر في الكتابين من أنزلا عليه ، وذكر فيما تقدّم : أن الكتاب نزل
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأن القصد هنا ليس إلّا إلى ذكر الكتابين لا ذكر من
نزلا عليه. وقوله : (مِنْ قَبْلُ) أي : أنزل التوراة والإنجيل من قبل تنزيل الكتاب. وقوله
: (هُدىً لِلنَّاسِ) إما : حال من الكتابين ، أو علة للإنزال. والمراد
بالناس : أهل الكتابين ، أو ما هو أعمّ ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من
الشرائع. قال ابن فورك : هدى للناس المتقين ، كما قال في البقرة هدى للمتقين ،
قوله : (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ) أي : الفارق بين الحق والباطل وهو القرآن ، وكرر ذكره
تشريفا له مع ما يشتمل عليه هذا الذكر الآخر من الوصف له بأنه يفرق بين الحق
والباطل ، وذكر التنزيل أولا والإنزال ثانيا لكونه جامعا بين الوصفين ، فإنه أنزل
إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نزل منها إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم مفرّقا منجما على حسب الحوادث كما سبق ، وقيل : أراد
بالفرقان جميع الكتب المنزلة من الله تعالى على رسله ؛ وقيل : أراد الزبور
لاشتماله على المواعظ الحسنة ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي : بما يصدق عليه أنه آية من الكتب المنزلة وغيرها ،
أو بما في الكتب المنزلة المذكورة ، على وضع آيات الله موضع الضمير العائد إليها ،
وفيه بيان الأمر الذي استحقوا به الكفر (لَهُمْ) بسبب هذا الكفر (عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : عظيم (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالبه مغالب (ذُو انْتِقامٍ) عظيم ، والنقمة : السطوة ، يقال انتقم منه : إذا عاقبه
بسبب ذنب قد تقدّم منه. قوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه وإحاطته
بالمعلومات ، وعبر عن معلوماته بما في الأرض والسماء مع كونها أوسع من ذلك : لقصور
عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته وسائر معلوماته ، ومن جملة ما لا
يخفى عليه : إيمان من آمن من خلقه وكفر من كفر. قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ)
أصل اشتقاق الصورة من : صاره إلى كذا ، أي : أماله إليه ، فالصورة مائلة
إلى شبه وهيئة ، وأصل الرحم من : الرحمة لأنه مما يتراحم به ، وهذه الجملة مستأنفة
، مشتملة على بيان إحاطة علمه ، وأن من جملة معلوماته ما لا يدخل تحت الوجود ، وهو
: تصوير عباده في أرحام أمهاتهم من نطف آبائهم كيف يشاء ، من حسن ، وقبيح ، وأسود
، وأبيض ، وطويل ، وقصير. وكيف : معمول يشاء ، والجملة : حالية.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن جعفر بن محمد بن الزبير قال : «قدم على رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وفد نجران ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم
، فكلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم منهم أبو حارثة ابن علقمة ، والعاقب ، وعبد المسيح ،
والسيد ، وهو : الأيهم ، ثم ذكروا القصة في الكلام الذي دار بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأن الله أنزل في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع
وثمانين آية منها. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع ، فذكر وفد نجران
ومخاصمتهم للنبي صلىاللهعليهوسلم في عيسى عليهالسلام ، وأن الله أنزل : (الم اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قال : لما قبله من كتاب أو رسول. وأخرج ابن أبي حاتم عن
الحسن نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه ، وقال في قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) هو القرآن ، فرق بين الحق والباطل ، فأحل فيه حلاله ،
وحرّم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحدّ فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضه ، وبين فيه
بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته. وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير
في قوله : (وَأَنْزَلَ
الْفُرْقانَ) أي : الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من
أمر عيسى وغيره ، وفي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي : إن الله ينتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها
ومعرفته بما جاء منه فيها. وفي قوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي : قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في
عيسى إذ جعلوه ربا وإلها ، وعندهم من علمه غير ذلك غرّة بالله وكفرا به (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قد كان عيسى ممن صور في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا
ينكرونه كما صوّر غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل. وأخرج
ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قال : ذكورا وإناثا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ، وابن
مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين
يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن يخلق ؛
بعث الله ملكا يصوّرها ، فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه فيخلط منه المضغة ، ثم
يعجنه بها ثم يصوّر كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ، أشقيّ أم سعيد ، وما رزقه ،
وما عمره ، وما أثره ، وما مصائبه؟ فيقول الله ويكتب الملك ، فإذا مات ذلك الجسد
دفن حيث أخذ ذلك التراب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ
يَشاءُ) قال : من ذكر وأنثى ، وأحمر وأسود ، وتامّ الخلق وغير
تام الخلق.
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا
الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا
مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ
النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))
الكتاب : هو
القرآن ، فاللام للعهد ، وقدم الظرف وهو «عليك» لما يفيده من الاختصاص. وقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبرا مقدّما ،
والأولى بالمعنى : أن يكون مبتدأ تقديره من الكتاب آيات بينات على نحو ما تقدم في
قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ) وإنما كان أولى ، لأن المقصود انقسام الكتاب إلى
القسمين المذكورين ، لا مجرّد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب ، والجملة : حالية
في محل نصب ، أو مستأنفة لا محل لها. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات
والمتشابهات على أقوال ، فقيل : إن المحكم : ما عرف تأويله ، وفهم معناه ،
وتفسيره. والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل. ومن القائلين بهذا جابر بن
عبد الله ، والشعبي ، وسفيان الثوري ، قالوا : وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل
السور ؛ وقيل : المحكم : ما لا يحتمل إلّا وجها واحدا ، والمتشابه : ما يحتمل وجوها
، فإذا ردّت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما ؛ وقيل : إن المحكم :
ناسخه ، وحرامه ، وحلاله ، وفرائضه ، وما نؤمن به ونعمل عليه ، والمتشابه : منسوخه
، وأمثاله ، وأقسامه ، وما نؤمن به ولا نعمل به. روي هذا عن ابن عباس ، وقيل :
المحكم : الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له ، والمتشابه : ما فيه تصريف ،
وتحريف ، وتأويل. قاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال ؛ وقيل
: المحكم : ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره ، والمتشابه :
ما يرجع فيه إلى غيره. قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات.
قال القرطبي : ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان
، ذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام ، الإتقان ، ولا شك في أن ما كان
واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردّد ، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان
تركيبها ، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. وقال ابن خويز منداد :
للمتشابه وجوه ، ما اختلف فيه العلماء اي الآيتين نسخت الأخرى؟ كما في الحامل
المتوفى عنها زوجها ، فإن من الصحابة من قال : إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة
الأشهر والعشر ، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث ، وكتعارض
الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه ، وكتعارض الأخبار
، وتعارض الأقيسة ، هذا معنى كلامه.
والأولى أن
يقال : إن المحكم : هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة ، إما باعتبار نفسه أو
باعتبار غيره ؛ والمتشابه : ما لا يتضح معناه ، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه
ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا ؛ عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما
ينبغي ، وذلك لأن أهل كل قوم عرفوا المحكم ببعض صفاته ، وعرفوا
المتشابه بما يقابلها. وبيان ذلك : أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد
إلى علمه سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه ، ولا شك أن مفهوم المحكم
والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه ، فإن مجرد الخفاء ، أو عدم الظهور ، أو الاحتمال
، أو التردّد يوجب التشابه ؛ وأهل القول الثاني : خضوا المحكم بما ليس فيه احتمال
، والمتشابه بما فيه احتمال ، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم والمتشابه ، لا كلها
؛ وهكذا أهل القول الثالث : فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعيّنة
دون غيرها ؛ وأهل القول الرابع : خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل
القول الثالث ، والأمر أوسع مما قالوه جميعا ؛ وأهل القول الخامس : خصوا المحكم
بوصف عدم التصريف والتحريف ، وجعلوا المتشابه مقابله ، وأهملوا ما هو أهمّ من ذلك
مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة ، وأهل القول
السادس : خصوا المحكم : بما يقوم بنفسه ، والمتشابه : بما لا يقوم بها ، وأن هذا
هو بعض أوصافهما ، وصاحب القول السابع وهو ابن خويز منداد ، عمد إلى صورة الوفاق
فجعلها محكما ، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابها ، فأهمل ما هو أخص أوصاف
كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم. قوله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصله الذي يعتمد عليه ، ويردّ ما خالفه إليه ،
وهذه الجملة صفة لما قبلها. قوله : (وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ) وصف لمحذوف مقدر ، أي : وآيات أخر متشابهات وهي جمع
أخرى ، وإنما لم ينصرف لأنه عدل بها عن الآخر ، لأن أصلها أن يكون كذلك. وقال أبو
عبيد : لم ينصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة ، وأنكر ذلك المبرّد. وقال
الكسائي : لم تنصرف لأنها صفة ، وأنكره أيضا المبرّد. وقال سيبويه : لا يجوز أن
يكون أخر : معدولة عن الألف واللام ، لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة ، ألا
ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة. قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ) الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ؛
ويقال : زاغ يزيغ زيغا ، إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق.
وسبب النزول : نصارى نجران كما تقدّم ، وسيأتي. قوله : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي : يتعلقون بالمتشابه من الكتاب ، فيشككون به على
المؤمنين ، ويجعلونه دليلا على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق ، كما تجده في
كل طائفة من طوائف البدعة ، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعبا شديدا ، ويوردون منه
لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. قوله : (ابْتِغاءَ
الْفِتْنَةِ) أي : طلبا منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبيس عليهم
وإفساد ذات بينهم (وَابْتِغاءَ
تَأْوِيلِهِ) أي : طلبا لتأويله على الوجه الذي يريدونه ويوافق
مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج : معنى ابتغائهم تأويله : أنهم طلبوا تأويل بعثهم
وإحيائهم ، فأعلم الله عزوجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال : والدليل
على ذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا
تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي : يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) أي : تركوه (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ
رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) التأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولهم : تأويل هذه
الكلمة على كذا ، أي : تفسيرها ، ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه ، واشتقاقه من :
آل الأمر
__________________
إلى كذا ، يؤول إليه ، أي : صار ، وأوّلته تأويلا ، أي : صيرته ، وهذه
الجملة حالية ، أي : يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله ، والحال أن ما يعلم تأويله
إلّا الله. وقد اختلف أهل العلم في قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله؟ فتكون
الواو للجمع ، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله ، وأن الكلام تمّ عند قوله : (إِلَّا اللهُ) هذا قول ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن
الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي الشعثاء ، وأبي نهيك ، وغيرهم ، وهو مذهب
الكسائي ، والفراء ، والأخفش ، وأبي عبيد ، وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك ،
واختاره ، وحكاه الخطابي عن ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، قال : وإنّما روي عن مجاهد
أنه نسق الراسخين على ما قبله ، وزعم أنهم يعلمونه ، قال : واحتج له بعض أهل اللغة
، فقال : معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين : (آمَنَّا بِهِ) وزعم أن موضع (يَقُولُونَ) : نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه
، لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ، ولا تذكر حالا إلّا مع ظهور الفعل ،
فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالا ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكبا ، يعني
أقبل عبد الله راكبا ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله : عبد الله يتكلم يصلح
بين الناس ، فكان يصلح حالا كقول الشاعر : أنشدنيه أبو عمرو. قال : أنشدنا أبو
العباس ثعلب :
أرسلت فيها
رجلا لكالكا
|
|
يقصر يمشي
ويطول باركا
|
فكان قول عامة
العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضا فإنه لا يجوز
أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ، فيكون له في ذلك شريك ، ألا ترى
قوله عزوجل : (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ، وقوله : (لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه
غيره ، وكذلك قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ولو كانت الواو في قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) للنسق لم يكن لقوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا) فائدة. انتهى. قال القرطبي : ما حكاه الخطابي من أنه لم
يقل بقول مجاهد غيره. فقد روي عن ابن عباس : أن الراسخين معطوف على اسم الله عزوجل ، وأنهم داخلون في علم المتشابه ، وأنهم مع علمهم به
يقولون آمنا به. وقاله الربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد ،
وغيرهم. و (يَقُولُونَ) على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال :
الرّيح تبكي
شجوها
|
|
والبرق يلمع
في الغمامه
|
وهذا البيت
يحتمل المعنيين ، فيجوز أن يكون : والبرق : مبتدأ ، والخبر : يلمع ، على التأويل
الأوّل فيكون مقطوعا مما قبله ، ويجوز أن يكون معطوفا على الريح ، ويلمع : في موضع
الحال على التأويل الثاني ، أي : لامعا. انتهى. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في
وجه امتناع كون قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ) حالا : من
__________________
أن العرب لا تذكر حالا إلّا مع ظهور الفعل ، إلى آخر كلامه ، لا يتم إلّا
على فرض أنه لا فعل هنا ، وليس الأمر كذلك ، فالفعل مذكور ، وهو قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) ولكنه جاء الحال من المعطوف ، وهو قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) دون المعطوف عليه ، وهو قوله : (إِلَّا اللهُ) وذلك جائز في اللغة العربية. وقد جاء مثله في الكتاب
العزيز. ومنه قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) إلى قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) الآية ، وكقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي : وجاءت الملائكة صفا صفا ، ولكن هاهنا مانع آخر من
جعل ذلك حالا ، وهو : أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح
، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال
من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة ، فاقتضى هذا أن جعل قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالا ، غير صحيح ، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم
بأن قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) مبتدأ ، خبره : (يَقُولُونَ) ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف : أن الله سبحانه
مدحهم بالرسوخ مدحهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن
هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلا هو من
رسوخهم ، لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه ، وأن الذين يتبعونه هم الذين
في قلوبهم زيغ ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب : الثبوت في الشيء
، وكل ثابت راسخ ، وأصله في الأجرام : أن ترسخ الخيل ، أو الشجر في الأرض ، ومنه
قول الشاعر :
لقد رسخت في
الصّدر منّي موّدة
|
|
لليلى أبت
آياتها أن تغيّرا
|
فهؤلاء ثبتوا
في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه ، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه.
ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان
: أحدهما : التأويل بمعنى : حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ، ومنه قوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد
بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلّا الله عزوجل ، ويكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) مبتدأ ، و (يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ) خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير
والبيان والتعبير عن الشيء كقوله : (نَبِّئْنا
بِتَأْوِيلِهِ) أي : بتفسيره ، فالوقف على : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن
لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالا منهم ، ورجح ابن فورك : أن الراسخين يعلمون تأويله
، وأطنب في ذلك ، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي : قال
شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو الصحيح ، فإن تسميتهم : راسخين ، تقضي بأنهم
يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء
هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلّا ما يعلم الجميع ، لكن المتشابه يتنوع ؛ فمنه ما لا
يعلم ألبتة ، كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد
؛ فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا
النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في
__________________
اللغة ، فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم.
انتهى.
واعلم أن هذا
الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى
المحكم والمتشابه ، وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما ، ونزيدك هاهنا إيضاحا
وبيانا ، فنقول : إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح
السور ، فإنها غير متضحة المعنى ، ولا ظاهرة الدلالة ، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه
لا يدري من يعلم بلغة العرب ، ويعرف عرف الشرع ما معنى الم ، المر ، حم ، طس ، طسم
ونحوها ، لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع ، فهي غير
متضحة المعنى ، لا باعتبارها نفسها ، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها ، ومثل
ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم ، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب
ولا في عرف الشرع ما يوضحها ، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى الآخر الآية ، ونحو ذلك وهكذا ما كانت دلالته غير
ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره ، كورود الشيء محتملا لأمرين احتمالا لا
يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك في نفسه ، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود
ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة ، وكذلك ورود دليلين
متعارضين تعارضا كليا بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لا باعتبار نفسه ولا
باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه ، بأن يكون معروفا
في لغة العرب ، أو في عرف الشرع ، أو باعتبار غيره ، وذلك كالأمور المجملة التي
ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة ، أو الأمور التي
تعارضت دلالتها ، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو
السنة ، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة ، عند أهل الإنصاف ،
فلا شك ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ومن زعم أنها من المتشابه فقد
اشتبه عليه الصواب ، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس
في هذا المقام ، حتى صارت كل طائفة تسمي ما دل لما ذهب إليه : محكما وما دل على ما
يذهب إليه من يخالفها : متشابها : سيما أهل علم الكلام ، ومن أنكر هذا فعليه
بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد
ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في
هذه الآية ، بل بمعنى آخر ، ومن ذلك قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ) وقوله : (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ) والمراد بالمحكم بهذا المعنى : أنه صحيح الألفاظ ، قويم
المعاني ، فائق في البلاغة ، والفصاحة على كل كلام. وورد أيضا ما يدل على أنه
جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، بل
بمعنى آخر ، ومنه قوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) والمراد بالتشابه بهذا المعنى : أنه يشبه بعضه بعضا في
الصحة ، والفصاحة ، والحسن ، والبلاغة. وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في
القرآن فوائد ، منها : أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة
ومشقة ، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون ، وقد ذكر
الزمخشري والرازي وغيرهما وجوها هذا أحسنها ، وبقيتها لا تستحق الذكر هاهنا. قوله
: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنا) فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه ، أي :
كله ، أو المحذوف
__________________
غير ضمير ، أي : كل واحد منهما ، وهذا من تمام المقول المذكور قبله. وقوله
: (وَما يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : العقول الخالصة ، وهم الراسخون في العلم ،
الواقفون عند متشابهه ، العالمون بمحكمه ، العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه
الآية. وقوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ) إلخ ، من تمام ما يقوله الراسخون ، أي : يقولون : آمنا
به كل من عند ربنا ، ويقولون : (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا) قال ابن كيسان : سألوا ألا يزيغوا فتزيغ قلوبهم ، نحو
قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) كأنهم لما سمعوا قوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قالوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا) باتباع المتشابه (بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنا) إلى الحق ، بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات ،
والظرف : وهو قوله : (بَعْدَ) منتصب بقوله : (لا تُزِغْ). قوله : (وَهَبْ لَنا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : كائنة من عندك ، ومن : لابتداء الغاية ولدن : بفتح
اللام وضم الدال وسكون النون ؛ وفيه لغات أخر ، هذه أفصحها ، وهو ظرف مكان ، وقد
يضاف إلى الزمان ، وتنكير : رحمة ، للتعظيم ، أي : رحمة عظيمة واسعة. وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) تعليل للسؤال ، أو لإعطاء المسؤول. وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) أي : باعثهم ومحييهم بعد تفرّقهم (لِيَوْمٍ) هو يوم القيامة ، أي : لحساب يوم ، أو لجزاء يوم ، على
تقدير حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه. قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : في وقوعه ، ووقوع ما فيه من الحساب والجزاء ، وقد
تقدم تفسير الريب ، وجملة قوله : (إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) للتعليل لمضمون ما قبلها ، أي : أن الوفاء بالوعد شأن
الإله سبحانه وخلفه يخالف الألوهية ، كما أنها تنافيه ، وتباينه.
وقد أخرج ابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المحكمات : ناسخه ، وحلاله ،
وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما نؤمن به ونعمل به ، والمتشابهات : منسوخه ،
ومقدّمه ، ومؤخره ، وأمثاله ، وأقسامه ، وما نؤمن به ولا نعمل به. وأخرج سعيد بن
منصور ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال في قوله :
(مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ) قال : الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات (قُلْ تَعالَوْا) والآيتان بعدها. وفي رواية عنه أخرجها عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : (آياتٌ مُحْكَماتٌ) قال : من هنا (قُلْ تَعالَوْا) إلى ثلاث آيات ، ومن هنا (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إلى ثلاث آيات بعدها. وأقول : رحم الله ابن عباس ما أقل
جدوى هذا الكلام المنقول عنه. فإن تعيين ثلاث آيات أو عشر أو مائة من جميع آيات
القرآن ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء ، فالمحكمات : هي أكثر القرآن
على جميع الأقوال ، حتى على قوله المنقول عنه قريبا من أن المحكمات ناسخه وحلاله
إلخ ، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام؟ وأخرج عبد بن حميد عنه قال
: المحكمات : الحلال والحرام ، وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدّمناه في
أوّل هذا البحث. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ) يعني : أهل الشك ، فيحملون المحكم على المتشابه ،
والمتشابه على المحكم ، ويلبسون فلبس الله عليهم (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) قال : تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلّا الله. وأخرج
ابن جرير عن ابن مسعود
__________________
(زَيْغٌ) قال : شك. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت : «تلا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) إلى قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) إلى قوله : (أُولُوا الْأَلْبابِ) قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله
فاحذروهم». وفي لفظ : «فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى
الله فاحذروهم» هذا لفظ البخاري. ولفظ ابن جرير وغيره : «فإذا رأيتم الذين يتبعون
ما تشابه منه ، والذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم» وأخرج عبد
بن حميد ، وعبد الرزاق ، وأحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن
مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبي أمامة عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) قال : هم الخوارج. وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، وصححه عن
ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف
واحد ونزل القرآن على سبعة أحرف : زاجر ، وآمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه
، وأمثال ؛ فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عمّا نهيتم
عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنّا به كل
من عند ربنا» وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفا. وأخرج الطبراني عن عمر بن
أبي سلمة : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لعبد الله ابن مسعود ، فذكر نحوه. وأخرج البخاري في
التاريخ عن علي مرفوعا بإسناد ضعيف نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
داود في المصاحف عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير ، وأبو يعلى عن أبي هريرة أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «نزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن
كفر ، ما عرفتم فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه» وإسناده صحيح. وأخرج
البيهقي في الشعب عن أبي هريرة مرفوعا ، وفيه : «واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه».
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه ،
عن طاوس قال : كان ابن عباس يقرؤها وما يعلم تأويله إلّا الله ، ويقول الراسخون في
العلم آمنّا به وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال في قراءة عبد الله :
وإن حقيقة تأويله إلّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن أبي الشعثاء وأبي نهيك قال : إنكم تصلون هذه الآية وهي
مقطوعة (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا. وأخرج ابن جرير عن
عروة. قال : الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يقولون آمنا به كلّ من
عند ربنا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عمر بن عبد العزيز نحوه. وأخرج ابن
أبي شيبة في المصنف عن أبيّ قال : كتاب الله ما استبان فاعمل به ، وما اشتبه عليك
فآمن به وكله إلى عالمه. وأخرج أيضا عن ابن مسعود قال : إن للقرآن منارا كمنار الطريق
، فما عرفتم فتمسكوا به ، وما اشتبه عليكم فذروه. وأخرج أيضا عن معاذ نحوه. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : تفسير القرآن على أربعة وجوه : تفسير
يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام ، وتفسير تعرفه
العرب بلغتها ، وتفسير لا يعلم تأويله إلّا الله ، من ادعى علمه فهو كذاب.
وأخرج ابن جرير
عنه قال : أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام ، لا يعذر أحد بالجهالة به ،
وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلّا الله ، ومن
ادّعى علمه سوى الله فهو كاذب. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : أنا ممن
يعلم تأويله. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عنه في قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) نؤمن بالمحكم ، وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ، ولا ندين
به وهو من عند الله كله. وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان
بن يسار : أن رجلا يقال له : ضبيع ، قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن.
فأرسل إليه عمر وقد أعدّ له عراجين النخل ، فقال : من أنت؟ فقال : أنا عبد الله
ضبيع ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمى
رأسه ، فقال : يا أمير المؤمنين! حسبك ، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. وأخرجه
الدارمي أيضا من وجه آخر ، وفيه : أنه ضربه ثلاث مرات ، يتركه في كل مرة حتى يبرأ
، ثم يضربه. وأخرج أصل القصة ابن عساكر في تاريخه عن أنس. وأخرج الدارمي ، وابن
عساكر : أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا ضبيعا ، وقد أخرج هذه القصة
جماعة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن أنس وأبي أمامة ، وواثلة بن
الأسقع ، وأبي الدرداء : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن الرّاسخين في العلم؟ فقال : من برّت يمينه ،
وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن عفّ بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم»
وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي عن أنس مرفوعا نحوه. وأخرج أبو
داود ، والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الجدال في القرآن كفر». وأخرج نصر المقدسي في الحجة
عن ابن عمر قال : «خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن ، فخرج محمرّة
وجنتاه كأنّما يقطران دما فقال : يا قوم! لا تجادلوا بالقرآن فإنّما ضلّ من كان
قبلكم بجدالهم ، إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ، ولكن نزل ليصدق بعضه بعضا ،
فما كان من محكمه فاعملوا به ، وما كان من متشابهه فآمنوا به».
وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن أم سلمة : أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ، ثم
قرأ : (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الآية». وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وابن
جرير ، والطبراني وابن مردويه عنه مرفوعا نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وأحمد ، وابن مردويه عن عائشة مرفوعا نحوه. وقد ورد نحوه من طرق أخر. وأخرج ابن
النجار في تاريخه في قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ
جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) الآية. عن جعفر بن محمد الخلدي قال : روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم «أن من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه ردّه الله عليه ، ويقول بعد قراءتها
: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه ؛ اجمع بيني وبين مالي ، إنك على كل شيء قدير».
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى
جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))
المراد بالذين
كفروا : جنس الكفرة ، وقيل : وفد نجران ، وقيل : قريظة ؛ وقيل : النضير ؛ وقيل : مشركو
العرب. وقرأ السلمي : لن يغني بالتحتية ، وقرأ الحسن : بسكون الياء الآخرة تخفيفا.
قوله : (مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : من عذابه شيئا من الإغناء ؛ وقيل : إن كلمة : من ،
بمعنى عند ، أي : لا تغني عند الله شيئا ، قاله أبو عبيد ؛ وقيل : هي بمعنى بدل.
والمعنى : بدل رحمة الله ، وهو بعيد. قوله : (وَأُولئِكَ هُمْ
وَقُودُ النَّارِ) الوقود : اسم للحطب وقد تقدم الكلام عليه في سورة
البقرة. أي : هم حطب جهنم الذي تسعر به ، وهم : مبتدأ ، ووقود : خبره ، والجملة :
خبر أولئك ، أو هم : ضمير فصل ، وعلى التقديرين : فالجملة مستأنفة ، مقرّرة لقوله
: (لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) الآية. وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وطلحة بن مصرف وقود بضم
الواو وهو مصدر ، وكذلك الوقود بفتح الواو في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون اسما
للحطب كما تقدم ، فلا يحتاج إلى تقدير ، ويحتمل أن يكون مصدرا ، لأنه من المصادر
التي تأتي على وزن الفعول فتحتاج إلى تقدير : أي هم أهل وقود النار. قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب : الاجتهاد ، يقال : دأب الرجل في عمله ، يدأب ،
دأبا ، ودؤوبا : إذا جدّ واجتهد ، والدائبان : الليل والنهار ، والدأب : العادة
والشأن ، ومنه قول امرئ القيس :
كدأبك من أمّ
الحويرث قبلها
|
|
وجارتها أمّ
الرّباب بمأسل
|
والمراد هنا :
كعادة آل فرعون وشأنهم وحالهم ، واختلفوا في الكاف ، فقيل : هي في موضع رفع ،
تقديره : دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى. وقال الفراء : إن المعنى : كفرت العرب ككفر
آل فرعون. قال النحاس : لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا ، لأن كفروا داخلة في
الصلة ؛ وقيل : هي متعلقة بأخذهم الله ، أي : أخذهم أخذة كما أخذ آل فرعون ؛ وقيل
: هي متعلقة بلن تغني ، أي : لم تغن عنهم غناء ، كما لم تغن عن آل فرعون ، وقيل :
إن العامل فعل مقدر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الإحراق. قالوا : ويؤيده
قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) . (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ، والقول الأوّل : هو الذي قاله جمهور المحققين ، ومنهم
الأزهري. قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) أي : من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة ، أي : وكدأب
الذين من قبلهم. قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا
فَأَخَذَهُمُ اللهُ) يحتمل : أن يريد الآيات المتلوّة ، ويحتمل : أن يريد
الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية ، ويصح إرادة الجميع. والجملة : بيان تفسير
لدأبهم ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من آل فرعون والذين من قبلهم ، على
إضمار قد ، أي : دأب هؤلاء كدأب أولئك قد كذبوا إلخ. وقوله : (بِذُنُوبِهِمْ) أي : بسائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم. قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قيل : هم اليهود ؛ وقيل : هم مشركو مكة ،
__________________
وسيأتي بيان سبب نزول الآية. وقوله : (سَتُغْلَبُونَ) قرئ : بالفوقية ، والتحتية ، وكذلك : (تُحْشَرُونَ). وقد صدق الله وعده بقتل بني قريظة ، وإجلاء بني النضير
، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على سائر اليهود ، ولله الحمد. قوله : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) يحتمل : أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه
نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يقوله لهم ، ويحتمل : أن تكون الجملة مستأنفة تهويلا
وتفظيعا. قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ) أي : علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم ، وهذه
الجملة : جواب قسم محذوف ، وهي من تمام القول المأمور به لتقرير مضمون ما قبله ،
ولم يقل : كانت ، لأن التأنيث غير حقيقي. وقال الفراء : إنه ذكر الفعل لأجل الفصل
بينه وبين الاسم بقوله : (لَكُمْ). والمراد بالفئتين : المسلمون ، والمشركون لما التقوا
يوم بدر. قوله : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ) قراءة الجمهور : برفع فئة. وقرأ الحسن ، ومجاهد : «فئة»
و «كافرة» بالخفض ، فالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، أي : إحداهما فئة. وقوله : (تُقاتِلُ) في محل رفع على الصفة ، والجرّ على البدل من قوله : (فِئَتَيْنِ). وقوله : (وَأُخْرى) أي : وفئة أخرى كافرة. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما.
قال ثعلب : هو على الحال ، أي : التقتا مختلفتين ، مؤمنة وكافرة. وقال الزجاج :
النصب بتقدير أعني ؛ وسميت الجماعة من الناس : فئة ، لأنه يفاء إليها ؛ أي : يرجع
في وقت الشدة. وقال الزجاج : الفئة : الفرقة ، مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف ، إذا
قطعته ، ولا خلاف أن المراد بالفئتين هما المقتتلتان في يوم بدر ، وإنما وقع
الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب ؛ فقيل : المخاطب بها المؤمنون ؛ وقيل : اليهود.
وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت نفوسهم وتشجيعها ، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس
الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين. قوله : (يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ) قال أبو علي الفارسي : الرؤية في هذه الآية رؤية العين
، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد ، ويدل عليه قوله : (رَأْيَ الْعَيْنِ) والمراد : أنه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين
، أو مثلي عدد المسلمين ، وهذا على قراءة الجمهور : بالياء التحتية ، وقرأ نافع :
بالفوقية. وقوله : (مِثْلَيْهِمْ) منتصب على الحال. وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل ترون هم
: المؤمنون ، والمفعول هم : الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين ،
أي : ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد ، وفيه بعد أن يكثر
الله المشركين في أعين المؤمنين. وقد أخبرنا : أنه قللهم في أعين المؤمنين ، فيكون
المعنى : ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ،
فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم. وقد
كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار ، ويحتمل أن يكون الضمير في
مثليهم للمسلمين ، أي : ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد
لتقوى بذلك أنفسكم ، وقد قال من ذهب إلى التفسير الأوّل : أعني : أن فاعل الرؤية
المشركون ، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم ؛ أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال
من قوله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ) بل قللوا أوّلا في أعينهم ليلاقوهم ويجترئوا عليهم ،
فلمّا لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. قوله : (رَأْيَ الْعَيْنِ) مصدر مؤكد لقوله : (تَرَوْنَهُمْ) أي : رؤية ظاهرة مكشوفة ، لا لبس فيها (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ
يَشاءُ) أي : يقوّي من يشاء أن يقويه ، ومن جملة ذلك تأييد أهل
بدر بتلك الرؤية ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : في
__________________
رؤية القليل كثيرا (لَعِبْرَةً) فعلة من العبور ، كالجلسة من الجلوس. والمراد الاتعاظ ،
والتنكير للتعظيم ، أي : عبرة عظيمة ، وموعظة جسيمة.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ) قال : كصنيع آل فرعون. وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ
عنه قال : كفعل. وأخرج مثله أبو الشيخ عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن الربيع قال :
كسنتهم. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس : أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة جمع
اليهود في سوق بني قينقاع قال : يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب
قريشا ، قالوا : يا محمد! لا يغرنّك من نفسك أن قتلت نفرا كانوا غمارا لا يعرفون
القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل
الله : (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) إلى قوله : (لِأُولِي الْأَبْصارِ) . وأخرج ابن جرير ، وابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن
عاصم بن عمر عن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة قال : قال
فنحاص اليهودي ، وذكر نحوه. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) : عبرة وتفكر. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببدر (وَأُخْرى كافِرَةٌ) فئة قريش الكفار. وأخرج عبد الرزاق أن هذه الآية نزلت
في أهل بدر. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) يقول : قد كان لكم في هؤلاء عبرة وتفكر ، أيدهم الله ،
ونصرهم على عدوهم يوم بدر ، كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلا ، وكان أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود
في الآية قال : هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا
إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في الآية : قال : أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ
ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، وكان المشركون مثليهم ستّمائة وستة وعشرين فأيّد الله
المؤمنين.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
(١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ
رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا
عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))
قوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) إلخ : كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه
الدار ، والمزين : قيل : هو الله سبحانه ، وبه قال عمر ، كما حكاه عنه البخاري
وغيره ، ويؤيده قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما
__________________
عَلَى
الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ) . وقيل : المزين : هو الشيطان ، وبه قال الحسن ، حكاه
عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه. وقرأ الضحاك (زُيِّنَ) على البناء للفاعل. وقرأه الجمهور على البناء للمفعول.
والمراد بالناس : الجنس. والشهوات : جمع شهوة ؛ وهي : نزوع النفس إلى ما تريده.
والمراد هنا المشتهيات ، عبر عنها بالشهوات مبالغة في كونها مرغوبا فيها ، أو
تحقيرا لها لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية ، ووجه تزيين الله
سبحانه لها ابتلاء عباده كما صرح به في الآية الأخرى. وقوله : (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) في محل الحال ، أي : زين للناس حب الشهوات حال كونها من
النساء والبنين إلخ. وبدأ بالنساء لكثرة تشوق النفوس إليهنّ لأنهن حبائل الشيطان ،
وخص البنين دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن. والقناطير : جمع قنطار ، وهو : اسم
للكثير من المال. قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه : تقول العرب :
قنطرت الشيء : إذا أحكمته ، ومنه سميت : القنطرة ، لإحكامها. وقد اختلف في تقديره
على أقوال للسلف ، ستأتي إن شاء الله. واختلفوا في معنى : المقنطرة ، فقال ابن
جرير الطبري : معناها المضعفة ، وقال القناطير : ثلاثة ، والمقنطرة تسعة. وقال
الفراء : القناطير : جمع القنطار ، والمقنطرة : جمع الجمع ، فتكون تسع قناطير وقيل
: المقنطرة : المضروبة ؛ وقيل : المكملة ، كما يقال : بدرة مبدرة ، وألوف مؤلفة ،
وبه قال مكي وحكاه الهروي. وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقلّ من سبع قناطير.
وقوله : (مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ) بيان للقناطير ، أو حال (وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ) قيل هي المرعية في المروج والمسارح ، يقال سامت الدابة
والشاة : إذا سرحت ؛ وقيل هي المعدّة للجهاد وقيل : هي الحسان ؛ وقيل : المعلمة ،
من السومة ، وهي : العلامة ، أي : التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها. وقال
ابن فارس في المجمل : المسومة : المرسلة وعليها ركبانها. وقال ابن كيسان : البلق.
والأنعام : هي الإبل والبقر والغنم ، فإذا قلت نعم فهي الإبل خاصة قاله الفراء
وابن كيسان ، ومنه قول حسان :
وكانت لا
يزال بها أنيس
|
|
خلال مروجها
نعم وشاء
|
والحرث : اسم
لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به المحروث ، يقول : حرث الرجل حرثا : إذا أثار الأرض
، فيقع على الأرض والزرع. قال ابن الأعرابي الحرث : التفتيش. قوله : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : ذلك المذكور ما يتمتع به ثم يذهب ولا يبقى ، وفيه
تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة. والمآب : المرجع آب يؤوب إيابا : إذا رجع ،
ومنه قول امرئ القيس :
وقد طوّفت في
الآفاق حتّى
|
|
رضيت من
الغنيمة بالإياب
|
قوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ
ذلِكُمْ) أي : هل أخبركم بما هو خير لكم من تلك المستلذات ،
وإبهام الخير للتفخيم ، ثم بينه بقوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) وعند : في محل نصب على الحال من جنات ، وهي مبتدأ ،
وخبرها : للذين اتقوا ، ويجوز أن تتعلق اللام بخير. وجنات : خبر مبتدأ مقدّر ، أي
: هو جنات ، وخص المتقين لأنهم المنتفعون بذلك. وقد تقدّم تفسير قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وما بعده. قوله :
__________________
(الَّذِينَ يَقُولُونَ) بدل من قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ، أو منصوب على
المدح ، والصابرين وما بعده : نعت للموصول على تقدير كونه بدلا ، أو منصوبا على
المدح ، وعلى تقدير كونه خبرا يكون الصابرين وما بعده : منصوبة على المدح ، وقد
تقدّم تفسير الصبر والصدق والقنوت. قوله : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحارِ) هم السائلون للمغفرة بالأسحار ، وقيل : المصلون.
والأسحار : جمع سحر بفتح الحاء وسكونها. قال الزجاج : هو من حين يدبر الليل إلى أن
يطلع الفجر ، وخص الأسحار لأنها من أوقات الإجابة.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب ، لما نزلت : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ) قال : الآن يا ربّ حين زينتها لنا ، فنزلت : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ) ، وأخرجه ابن المنذر عنه بلفظ خير. انتهى إلى قوله : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ) فبكى وقال : بعد ماذا ، بعد ماذا ، بعد ما زينتها؟.
وأخرج أحمد ، وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «القنطار اثنا عشر ألف أوقيّة». رواه أحمد من حديث
عبد الصمد بن عبد الوراث عن حماد عن عاصم عن أبي صالح عنه. ورواه ابن ماجة عن أبي
بكر بن أبي بكر ابن أبي شيبة عن عبد الصمد به. وقد رواه ابن جرير موقوفا على أبي
هريرة. قال ابن كثير : وهذا أصح. وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن القناطير المقنطرة فقال : «القنطار ألف أوقيّة».
ورواه ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه مرفوعا بلفظ ألف دينار. وأخرج ابن جرير عن أبي
بن كعب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، «القنطار ألف أوقيّة ومائتا أوقيّة». وأخرجه عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي من قول معاذ بن جبل ، وأخرجه ابن
جرير من قول معاذ بن جبل ، وأخرجه ابن جرير من قول ابن عمر ، وأخرجه عبد بن حميد ،
وابن جرير والبيهقي من قول أبي هريرة ، وأخرجه ابن جرير والبيهقي من قول ابن عباس.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : القنطار
ملء مسك (جلد) الثور ذهبا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه قال :
القنطار سبعون ألفا ، وأخرجه عبد بن حميد عن مجاهد. وأخرج أيضا عن سعيد بن المسيب
قال : القنطار ثمانون ألفا. وأخرج أيضا عن أبي صالح قال : القنطار مائة رطل.
وأخرجه أيضا عن قتادة ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال : القنطار خمسة عشر
ألف مثقال ، والمثال أربعة وعشرون قيراطا. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : هو
المال الكثير من الذهب والفضة. وأخرجه أيضا عن الربيع. وأخرج عن السدي أن المقنطرة
: المضروبة. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) قال : الراعية. وأخرج ابن المنذر عنه من طريق مجاهد.
وأخرج ابن جرير عنه قال : هي الراعية والمطهمة الحسان. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير عن مجاهد قال : هي المطهمة الحسان. وأخرجا عن عكرمة قال : تسويمها : حسنها.
وأخرج ابن أبي حاتم قال : (الْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ) الغرّة والتحجيل. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله :
(الصَّابِرِينَ) قال : قوم صبروا على طاعة الله وصبروا عن محارمه ، (وَالصَّادِقِينَ) : قوم صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، وصدقوا
في السرّ والعلانية ، (وَالْقانِتِينَ) هم المطيعون (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ
بِالْأَسْحارِ) أهل الصلاة. وأخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة قال : هم الذين يشهدون صلاة
الصبح. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن أنس قال : أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة. وأخرج ابن جرير ، وأحمد
في الزهد عن سعيد الجريري قال : بلغنا أن داود عليهالسلام سأل جبريل فقال : يا جبريل! أي الليل أفضل؟ قال : يا
داود! ما أدري إلا أن العرش يهتز في السحر. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة
من الصحابة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ينزل الله تبارك وتعالى في كلّ ليلة إلى سماء
الدنيا حتّى يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب
له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟».
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ
اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ
لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))
قوله : (شَهِدَ اللهُ) أي : بين وأعلم. قال الزجاج : الشاهد : هو الذين يعلم
الشيء ويبينه ، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين ؛ وقال أبو عبيدة : شهد
الله بمعنى : قضى ، أي : أعلم. قال ابن عطية : وهذا مردود من جهات ، وقيل : إنها
شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله ، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة. وقوله :
أنه ، بفتح الهمزة. قال المبرد : أي : بأنه ، ثم حذفت الباء ، كما في : أمرتك
الخير ، أي : بالخير. وقرأ ابن عباس : «إنه» بكسر الهمزة ، بتضمين شهد معنى قال.
وقرأ أبو المهلب : (شُهَداءَ لِلَّهِ) بالنصب على أنه حال من الصابرين وما بعده ، أو على
المدح (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على الاسم الشريف ، وشهادتهم : إقرارهم بأنه لا إله
إلا الله. وقوله : (وَأُولُوا الْعِلْمِ) معطوف أيضا على ما قبله ، وشهادتهم : بمعنى الإيمان
منهم ، وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم ، وعلى هذا لا بدّ من حمل الشهادة على
معنى يشمل شهادة الله ، وشهادة الملائكة ، وأولي العلم. وقد اختلف في : أولي العلم
هؤلاء ، من هم؟ فقيل : هم الأنبياء ؛ وقيل : المهاجرون والأنصار ، قاله ابن كيسان
؛ وقيل : مؤمنو أهل الكتاب ، قاله مقاتل ؛ وقيل : المؤمنون كلهم ، قاله السدي
والكلبي ، وهو الحق ، إذ لا وجه للتخصيص. وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة ، ومنقبة
نبيلة لقرنهم باسمه واسم ملائكته ، والمراد بأولي العلم هنا : علماء الكتاب والسنة
، وما يتوصل به إلى معرفتهما ، إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل
عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة. وقوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) : أي العدل ، أي : قائما بالعدل في جميع أموره أو مقيما
له ، وانتصاب قائما : على الحال من الاسم الشريف. قال في الكشاف : إنها حال مؤكدة
كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقاً) وجاز إفراده سبحانه بذلك دون ما هو معطوف عليه من
الملائكة وأولي العلم لعدم اللبس ؛ وقيل : إنه منصوب على
__________________
المدح ؛ وقيل : إنه صفة لقوله : (إِلهَ) أي : لا إله قائما بالقسط إلا هو ، أو هو حال من قوله :
(إِلَّا هُوَ) والعامل فيه معنى الجملة. وقال الفراء : هو منصوب على
القطع ، لأن أصله الألف واللام ، فلما قطعت نصب كقوله : (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) ويدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود : القائم بالقسط.
وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تكرير لقصد التأكيد ؛ وقيل : إن قوله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) كالدعوى ، والأخيرة كالحكم. وقال جعفر الصادق : الأولى
: وصف وتوحيد ، والثانية : رسم وتعليم. وقوله : (الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) مرتفعان على البدلية من الضمير ، أو الوصفية لفاعل شهد
، لتقرير معنى الوحدانية. قوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ). قرأه الجمهور : بكسر إن ، على أن الجملة مستأنفة مؤكدة
للجملة الأولى ، وقرئ : بفتح أن ، قال الكسائي : أنصبهما جميعا يعني قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ) وقوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) بمعنى شهد الله أنه كذا وأن الدين عند الله الإسلام.
قال ابن كيسان : إن الثانية بدل من الأولى. وقد ذهب الجمهور : إلى أن الإسلام هنا
بمعنى الإيمان وإن كانا في الأصل متغايرين ، كما في حديث جبريل الذي بين فيه النبي
صلىاللهعليهوسلم معنى الإسلام ، ومعنى الإيمان ، وصدقه جبريل ، وهو في
الصحيحين وغيرهما ، ولكنه قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر ، وقد ورد ذلك في
الكتاب والسنة. قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً
بَيْنَهُمْ) فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود والنصارى كان لمجرد
البغي ؛ بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام ؛ بما تضمنته كتبهم
المنزلة إليهم. قال الأخفش : وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : ما اختلف الذين
أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلّا من بعد ما جاءهم العلم. والمراد بهذا الخلاف الواقع
بينهم : هو خلافهم في كون نبينا صلىاللهعليهوسلم نبيا أم لا؟ وقيل : اختلافهم في نبوّة عيسى ؛ وقيل : اختلافهم
في ذات بينهم ، حتى قالت اليهود : ليس النصارى على شيء ، وقالت النصارى : ليس
اليهود على شيء. قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِآياتِ اللهِ) أي : بالآيات الدالة على أن الدين عند الله الإسلام (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيجازيه ، ويعاقبه على كفره بآياته ، والإظهار في قوله
: فإن الله ، مع كونه مقام الإضمار : للتهويل عليهم والتهديد لهم. قوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) أي : جادلوك بالشبه الباطلة والأقوال المحرّفة ، (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) أي : أخلصت ذاتي لله ، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه
أشرف أعضاء الإنسان ، وأجمعها للحواس ، وقيل : الوجه هنا : بمعنى القصد. وقوله : (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على فاعل أسلمت ، وجاز للفصل ، وأثبت نافع ، وأبو
عمرو ، ويعقوب الياء في : اتبعن ، على الأصل وحذفها الآخرون اتباعا لرسم المصحف ،
ويجوز أن تكون الواو بمعنى : مع ، والمراد بالأميين هنا : مشركو العرب. وقوله : (أَأَسْلَمْتُمْ) استفهام تقرير يتضمن الأمر ، أي : أسلموا ، كذا قاله
ابن جرير وغيره. وقال الزجاج : (أَأَسْلَمْتُمْ) تهديد ، والمعنى : أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب
الإسلام ، فهل عملتم بموجب ذلك أم لا؟ تبكيتا لهم وتصغيرا لشأنهم في الإنصاف وقبول
الحق. وقوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) أي : ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر ، وفازوا بخير
الدنيا والآخرة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن قبول الحجة ولم يعملوا بموجبها : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي : فإنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك ، ولست عليهم
بمسيطر ، فلا
__________________
تذهب نفسك عليهم حسرات ، والبلاغ : مصدر. وقوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيه وعد ووعيد ، لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن الحسن في قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) قال : بالعدل. وأخرج أيضا عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) قال : الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار
بما جاء به من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ، ودلّ عليه
أولياءه ، لا يقبل غيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : لم يبعث الله رسولا
إلا بالإسلام. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : كان حول
البيت ستون وثلاثمائة صنم ، لكل قبيلة من قبائل العرب صنم أو صنمان ، فأنزل الله :
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية ، فأصبحت الأصنام كلها قد خرّت سجدا للكعبة.
وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة ، وأبو منصور الشحامي في الأربعين عن علي
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، والآيتين من آل
عمران : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ـ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلامُ) و (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) إلى قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) هن معلقات بالعرش ما بينهن وبين الله حجاب ، يقلن يا
ربّ تهبطنا إلى أرضك وإلى من يعصيك؟ قال الله : إني حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي
دبر كلّ صلاة إلا جعلت الجنّة مأواه على ما كان منه ، وإلا أسكنته حظيرة القدس ،
وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة كلّ يوم سبعين نظرة ، وإلا قضيت له كلّ يوم سبعين
حاجة أدناها المغفرة ، وإلا أعذته من كلّ عدوّ ونصرته منه» وأخرج الديلمي في مسند
الفردوس عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا نحوه ، وفيه : «لا يتلو كنّ عبد دبر كل صلاة
مكتوبة إلا غفرت له ما كان منه ، وأسكنته جنة الفردوس ، ونظرت إليه كلّ يوم سبعين
مرة ، وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة». وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ،
والطبراني ، وابن السني عن الزبير بن العوام قال : «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فقال : وأنا على ذلك من الشاهدين» ولفظ الطبراني : «وأنا
أشهد أن لا إله إلا أنت العزيز الحكيم». وأخرج ابن عدي ، والطبراني في الأوسط ،
والبيهقي في شعب الإيمان ، وضعفه ، والخطيب في تاريخه ، وابن النجار عن غالب
القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش ، فلما كان ليلة أردت أن
أنحدر قام فتهجد من الليل فمرّ بهذه الآية (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إلى قوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) فقال : وأنا أشهد بما شهد به الله ، وأستودع الله هذه
الشهادة ؛ وهي لي وديعة عند الله ، قالها مرارا ، فقلت : لقد سمع فيها شيئا فسألته
فقال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
__________________
«يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : عبدي عهد إليّ وأنا أحقّ من وفّى
بالعهد أدخلوا عبدي الجنّة». وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) قال : بنو إسرائيل. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في
قوله : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها ، فقتل
بعضهم بعضا على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن
في قوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ) قال : إن حاجك اليهود والنصارى. وأخرج ابن المنذر عن
ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) قال : اليهود والنصارى (وَالْأُمِّيِّينَ) قال : هم الذين لا يكتبون.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ
وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ
لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٢٥))
قوله : (بِآياتِ اللهِ) ظاهره : عدم الفرق بين آية وآية (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ
حَقٍ) يعني : اليهود قتلوا الأنبياء (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) أي : بالعدل. وهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر. قال المبرد : كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون ، فدعوهم إلى الله ،
فقتلوهم ، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام ، فقتلوهم. ففيهم نزلت
الآية. وقوله : (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ) إلخ ، ودخلته الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ، وذهب
بعض أهل النحو : إلى أن الخبر قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وقالوا إن الفاء لا تدخل في خبر إن وإن تضمن اسمها معنى
الشرط ، لأنه قد نسخ بدخول إن عليه ، ومنهم سيبويه ، والأخفش وذهب غيرهما : إلى أن
ما يتضمنه المبتدأ من معنى الشرط لا ينسخ بدخول إن عليه ، ومثل المكسورة المفتوحة
، ومنه قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) . وقوله : (حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ) قد تقدم تفسير الإحباط ، ومعنى كونها حبطت في الدنيا
والآخرة : أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا ، حتى يعاملوا فيها معاملة أهل
الحسنات ، بل عوملوا معاملة أهل السيئات ، فلعنوا ، وحل بهم الخزي والصغار ، ولهم
في الآخرة عذاب النار. قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) فيه تعجيب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء ، وهم : أحبار
اليهود. والكتاب : التوراة ، وتنكير النصيب للتعظيم ، أي : نصيبا عظيما ، كما
يفيده مقام المبالغة ، ومن قال : إن التنكير للتحقير فلم يصب. فلم ينتفعوا بذلك ،
وذلك بأنهم (يُدْعَوْنَ
__________________
إِلى
كِتابِ اللهِ) الذي أوتوا نصيبا منه وهو التوراة (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) والحال معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به
واعترافهم بوجوب الإجابة إليه ، و (ذلِكَ) إشارة إلى ما مر من التولّي والإعراض بسبب (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وهي مقدار عبادتهم العجل. وقد تقدم تفسير ذلك : (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ) من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول. قوله : (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا
رَيْبَ فِيهِ) هو رد عليهم وإبطال لما غرهم من الأكاذيب ، أي : فكيف
يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في
وقوعه؟ ، فإنهم يقعون لا محالة ، ويعجزون عن دفعه بالحيل والأكاذيب (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي : جزاء ما كسبت ، على حذف المضاف (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بزيادة ولا نقص. والمراد : كل الناس المدلول عليهم بكل
نفس قال الكسائي : اللام في قوله : (لِيَوْمٍ) بمعنى : في ، وقال البصريون : المعنى : لحساب يوم ،
وقال ابن جرير الطبري : المعنى : لما يحدث في يوم.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح «قلت : يا رسول الله! أيّ الناس أشدّ
عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيا ، أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ،
ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (الَّذِينَ
يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ
بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) إلى قوله : (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا أبا عبيدة! قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا
أوّل النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عبّاد بني إسرائيل
فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ، فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك
اليوم ، فهم الذين ذكر الله». وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصحّحه عن ابن
عباس : قال : بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلا من الحواريين يعلمون الناس
، فكان ينهى عن نكاح بنت الأخ ، وكان ملك له بنت أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها
كل يوم حاجة ، فقالت لها أمها : إذا سألك عن حاجة فقولي حاجتي أن تقتل يحيى بن
زكريا ، فقال : سلي غير هذا ، فقالت : لا أسألك غير هذا ، فلما أبت أمر به فذبح في
طست ، فبدرت قطرة من دمه فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر ، فدلت عجوز عليه ،
فألقي في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم ، فقتل في يوم واحد من ضرب واحد
وسن واحد سبعين ألفا فسكن. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن معقل
ابن أبي مسكين في الآية قال : كان الوحي يأتي بني إسرائيل فيذكرون قومهم ولم يكن
يأتيهم كتاب ، فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكرون قومهم ، فيقتلون ، فهم الذين
يأمرون بالقسط من الناس. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه ، وأخرج ابن عساكر عن ابن
عباس قال : الذين يأمرون بالقسط من الناس : ولاة العدل. وأخرج ابن إسحاق ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ،
فقال له النعمان بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أتيت يا محمد؟ قال : «على
ملّة إبراهيم ودينه» قال : فإن إبراهيم كان يهوديا. قال لهما النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه ،
فأنزل الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
مِنَ
الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (نَصِيباً) قال : حظا (مِنَ الْكِتابِ) قال : التوراة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله : (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) قال : يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَغَرَّهُمْ فِي
دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه. وأخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير في قوله : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ) يعني توفّى كل نفس برّ أو فاجر (ما كَسَبَتْ) ما عملت من خير أو شرّ (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) يعني : من أعمالهم.
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ
الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ
فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))
قوله : (قُلِ اللهُمَ). قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين : إن أصل اللهم يا
الله ، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو «يا» ؛ جعلوا بدله هذه الميم
المشددة ، فجاؤوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف ؛ والضمة
في الهاء : هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفراء والكوفيون : إلى أن الأصل في
اللهم يا الله أمنا بخير ، فحذف وخلط الكلمتين ؛ والضمة التي في الهاء : هي الضمة
التي كانت في أمنا ، لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس : هذا عند
الكوفيين من الخطأ العظيم ، والقول في هذا : ما قاله الخليل وسيبويه. وقال
الكوفيون : وقد يدخل حرف النداء على اللهمّ ، وأنشدوا في ذلك قول الراجز :
غفرت أو عذّبت يا اللهمّا
وقول الآخر :
وما عليك أن
تقولي كلّما
|
|
سبّحت أو
هلّلت يا اللهمّ ما
|
وقول الآخر :
إنّي إذا ما
حدث ألمّا
|
|
أقول يا
اللهمّ يا اللهمّا
|
قالوا : ولو
كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا. قال الزجاج : هذا شاذ لا يعرف قائله.
قال النضر بن شميل : من قال : اللهم ، فقد دعا الله بجميع أسمائه. قوله : (مالِكَ الْمُلْكِ) أي : مالك جنس الملك على الإطلاق ، ومالك : منصوب عند
سيبويه على أنه نداء ثان ، أي : يا مالك الملك ، ولا يجوز عنده أن يكون وصفا لقوله
: (اللهُمَ) لأن الميم عنده تمنع الوصفية. وقال محمد بن يزيد المبرد
، وإبراهيم بن السري الزجاج : إنه صفة لاسم الله تعالى ، وكذلك قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) . قال أبو علي الفارسي : وهو مذهب المبرد ، وما قاله
سيبويه أصوب وأبين ، وذلك لأنه اسم مفرد ضم إليه
__________________
صوت ، والأصوات لا توصف ، نحو : غاق وما أشبهه. قال الزجاج : والمعنى مالك
العباد وما ملكوا ؛ وقيل : المعنى مالك الدنيا والآخرة ؛ وقيل : الملك هنا :
النبوة ؛ وقيل : الغلبة ؛ وقيل : المال والعبيد. والظاهر شموله لما يصدق عليه اسم
الملك من غير تخصيص : (تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشاءُ) أي : من تشاء إيتاءه إياه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ
مِمَّنْ تَشاءُ) نزعه منه. والمراد بما يؤتيه من الملك وينزعه : هو نوع
من أنواع ذلك الملك العام. قوله : (وَتُعِزُّ مَنْ
تَشاءُ) أي : في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ، يقال : عزّ
، إذا غلب ، ومنه : (وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ) وقوله : (وَتُذِلُّ مَنْ
تَشاءُ) أي : في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ، يقال : ذلّ
ذلا ، إذا غلب وقهر. قوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تقديم الخبر للتخصيص ، أي : بيدك الخير لا بيد غيرك ،
وذكر الخير دون الشرّ : لأن الخير بفضل محض ، بخلاف الشرّ فإنه يكون جزاء لعمل وصل
إليه. وقيل : لأن كل شرّ من حيث كونه من قضائه سبحانه هو متضمن للخير ، فأفعاله
كلها خير ، وقيل : إنّه حذف كما حذف في قوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ) وأصله : بيدك الخير والشرّ ؛ وقيل : خص الخير لأن
المقام مقام دعاء. قوله : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) : تعليل لما سبق وتحقيق له. قوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي : تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر ؛ وقيل : المعنى :
تعاقب بينهما ، ويكون زوال أحدهما ولوجا في الآخر. قوله : (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) قيل : المراد إخراج الحيوان وهو حيّ من النطفة وهي ميتة ، وإخراج النطفة
وهي ميتة من الحيوان وهو حيّ ؛ وقيل : المراد إخراج الطائر وهو حي من البيضة وهي
ميتة ، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ؛ وقيل : المراد إخراج المؤمن
من الكافر والكافر من المؤمن. قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : بغير تضييق ولا تقتير ، كما تقول : فلان يعطي بغير
حساب ، والباء : متعلقة بمحذوف وقع حالا.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فنزلت
الآية. وأخرج الطبراني ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اسم الله الأعظم : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) إلى قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ). وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني عن معاذ : «أنه شكا
إلى النبي صلىاللهعليهوسلم دينا عليه ، فعلمه أن يتلو هذه الآية ، ثم يقول : رحمن
الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء ، ارحمني رحمة تغنيني
بها عن رحمة من سواك ، اللهمّ أغنني من الفقر واقض عني الدّين». وأخرجه الطبراني
في الصغير من حديث أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمعاذ : «ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل
أحد دينا لأداه الله عنك» فذكره ، وإسناده جيد وقد تقدم عند تفسير قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ) بعض فضائل هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشاءُ) قال : النبوة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية ، قال : تأخذ الصيف من الشتاء ، وتأخذ الشتاء من
الصيف (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) تخرج الرجل الحيّ من النطفة الميتة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) تخرج النطفة الميتة من الرجل الحيّ. وأخرج عبد بن حميد
، وابن
__________________
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ) قال : ما نقص من النهار تجعله في الليل ، وما نقص من
الليل تجعله في النهار. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد
بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك نحوه أيضا. وأخرج ابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (تُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ) قال : تخرج النطفة الميتة من الحي ، ثم تخرج من النطفة
بشرا حيا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد
نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة : (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) قال : هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة ، ثم يخرج منها
الحيّ. وأخرج ابن جرير عنه قال : النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والحبة
من السنبلة ، والسنبلة من الحبة. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أبي مالك
مثله. وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن الحسن قال : المؤمن من الكافر ، والكافر من
المؤمن. والمؤمن عبد حيّ الفؤاد ، والكافر عبد ميت الفؤاد. وأخرج سعيد بن منصور ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن سلمان الفارسي نحوه. وأخرج
ابن مردويه عنه مرفوعا نحوه. وأخرجه أيضا عنه ، أو عن ابن مسعود مرفوعا. وأخرج عبد
الرزاق ، وابن سعد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عبيد الله بن عبد
الله : «أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : من هذه؟ قيل : خالدة بنت الأسود ، قال : سبحان
الذي يخرج الحيّ من الميت» وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافرا. وأخرج ابن سعد
عن عائشة مثله.
(لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ
تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ
تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ
تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ
نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))
قوله : (لا يَتَّخِذِ) فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب ،
ومثله قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا
بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الآية ، وقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) وقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية ، وقوله : (لا تَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) . وقوله : (مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ) في محل الحال ، أي : متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين
استقلالا أو اشتراكا ، والإشارة بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) إلى الاتخاذ المدلول عليه بقوله : (لا يَتَّخِذِ) ومعنى قوله : (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ
فِي شَيْءٍ) أي : من ولايته في شيء من الأشياء ، بل هو منسلخ عنه
بكل حال. قوله : (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) على صيغة الخطاب بطريق الالتفات ، أي : إلا أن تخافوا
منهم أمرا يجب اتقاؤه ، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال. وتقاة : مصدر واقع موقع
المفعول ، وأصلها : وقية ، على وزن فعلة ، قلبت الواو تاء والياء ألفا ، وقرأ رجاء
، وقتادة تقية. وفي ذلك دليل على
__________________
جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ، ولكنها تكون ظاهرا لا باطنا. وخالف في
ذلك قوم من السلف ، فقالوا : لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام. قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي : ذاته المقدسة ، وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في
المشاكلة كقوله : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) وفي غيرها. وذهب بعض المتأخرين. إلى منع ذلك إلا
مشاكلة. وقال الزجاج : معناه : ويحذركم الله إياه ، ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار
المستعمل. قال : وأما قوله : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) فمعناه : تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك
ولا ما في حقيقتك. وقال بعض أهل العلم : معناه : ويحذركم الله عقابه مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فجعلت النفس في موضع الإضمار ، وفي هذه الآية تهديد
شديد ، وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه. قوله : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) الآية ، فيه أن كل ما يضمره العبد ويخفيه ، أو يظهره
ويبديه ، فهو معلوم لله سبحانه ، لا يخفى عليه منه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها ، فلا
يخفى عليه ما هو أخص من ذلك. قوله : (يَوْمَ تَجِدُ) منصوب بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ
اللهُ نَفْسَهُ) وقيل : بمحذوف ، أي : اذكر ، و (مُحْضَراً) حال ، وقوله : (وَما عَمِلَتْ مِنْ
سُوءٍ) معطوف على ما الأولى ، أي : وتجد ما عملت من سوء محضرا
تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا. فحذف محضرا لدلالة الأول عليه ، وهذا إذا كان (تَجِدُ) من وجدان الضالة ، وأما إذا كان من : وجد ، بمعنى : علم
، كان محضرا هو المفعول الثاني ، ويجوز أن يكون قوله : (وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) جملة مستأنفة ، ويكون (ما) في : ما عملت ، مبتدأ ، ويودّ خبره. والأمد : الغاية ،
وجمعه آماد ، أي : تودّ لو أن بينها وبين ما عملت من السوء أمدا بعيدا ؛ وقيل : إن
قوله : (يَوْمَ تَجِدُ) منصوب بقوله : (تَوَدُّ) والضمير في قوله : (وَبَيْنَهُ) لليوم ، وفيه بعد ، وكرر قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) للتأكيد وللاستحضار ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر
منهم ، وفي قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ
بِالْعِبادِ) دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه
سبحانه بعباده لطفا بهم. وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له : إنك تموت
وتبعث وترجع إلى الله فقال : أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب
بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن
دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خثمة لأولئك النفر :
اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك
النفر ، فأنزل الله فيهم : (لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ) إلى قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق
عنه قال : نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين ؛
إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم اللطف ويخالفونهم في الدين ، وذلك
قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ
تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ
اللهِ فِي شَيْءٍ) فقد برىء الله منه. وأخرج
__________________
ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال : التقية باللسان : من حمل على أمر يتكلم به ، وهو
معصية لله فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضره ، إنما
التقية باللسان. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه ،
والبيهقي في سننه عنه في الآية قال : التقاة : التكلم باللسان ، والقلب مطمئن
بالإيمان ، ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن أبي العالية في الآية قال : التقية باللسان ، وليس بالعمل. وأخرج عبد
الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال إلا أن يكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك. وأخرج
عبد بن حميد ، والبخاري عن الحسن قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة. وحكى
البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : إنا نبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم. ويدل على
جواز التقية. قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ومن القائلين بجواز التقية باللسان : أبو الشعثاء ،
والضحاك ، والربيع بن أنس. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا) الآية قال : أخبرهم : أنه يعلم ما أسروا وما أعلنوا.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : محضرا : يقول : موفرا. وأخرج
ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك
أبدا ، يكون ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها. وأخرجا أيضا عن
السدي : (أَمَداً بَعِيداً) قال : مكانا بعيدا. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أمدا
قال : أجلا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ
رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) قال : من رأفته بهم حذرهم نفسه.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ
اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))
الحب والمحبة :
ميل النفس إلى الشيء ، يقال : أحبّه فهو محبّ ، وحبّه يحبّه بالكسر ، فهو محبوب.
قال الجوهري : وهذا شاذ ، لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر. قال ابن الدهان :
في حبّ لغتان : حبّ ، وأحبّ ، وأصل حبّ في هذه الباب : حبب ، كطرق ، وقد فسرت
المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته. قال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله : طاعته
لهما واتباعه أمرهما ، ومحبة الله للعباد : إنعامه عليهم بالغفران. وقرأ أبو رجاء
العطاردي : (فَاتَّبِعُونِي) بفتح الباء ، وروي عن أبي عمرة بن العلاء أنه أدغم
الراء من يغفر في اللام. قال النحاس : لا يجيز الخليل وسيبويه إدغام الراء في
اللام ، وأبو عمرة أجلّ من أن يغلط في هذا ، ولعله كان يخفي الحركة كما يفعل في
أشياء كثيرة. قوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ) حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، أي : في جميع الأوامر
والنواهي. قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يحتمل أن يكون من تمام مقول القول ،
__________________
فيكون مضارعا حذفت فيه إحدى التاءين : أي تتولوا ، ويحتمل أن يكون من كلام
الله تعالى ، فيكون ماضيا. وقوله : (فَإِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْكافِرِينَ) نفي المحبة كناية عن البغض والسخط. ووجه الإظهار في
قوله : (فَإِنَّ اللهَ) مع كون المقام مقام إضمار لقصد التعظيم أو التعميم.
قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ) إلخ. لما فرغ سبحانه من بيان أن الدين المرضي هو
الإسلام ، وأن محمدا صلىاللهعليهوسلم هو الرسول الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه ،
وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو لمجرد البغي عليه والحسد له ، شرع في تقرير
رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم وبين أنه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة. والاصطفاء :
الاختيار. قال الزجاج : اختارهم بالنبوة على عالمي زمانهم ؛ وقيل : إن الكلام على
تقدير مضاف ، أي : اصطفى دين آدم ، إلخ ، وقد تقدم الكلام على تفسير العالمين ،
وتخصيص آدم بالذكر لأنه أبو البشر ، وكذلك نوح ، فإنه آدم الثاني ، وأما آل
إبراهيم ، فلكون النبي صلىاللهعليهوسلم منهم مع كثرة الأنبياء منهم. وأما آل عمران ، فهم وإن
كانوا من آل إبراهيم ، فلما كان عيسى عليهالسلام منهم كان لتخصيصهم بالذكر وجه. وقيل : المراد بآل
إبراهيم : إبراهيم نفسه ، وبآل عمران : عمران نفسه. قوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) نصب ذرية على البدلية مما قبله ، قاله الزجاج : أو على
الحالية ، قاله الأخفش ، وقد تقدم تفسير الذرية ، وبعضها من بعض في محل نصب على
صفة الذرية ، ومعناه : متناسلة متشعبة ، أو متناصرة متعاضدة في الدين.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن من طرق قال : قال أقوام على عهد رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : والله يا محمد! إنا لنحب ربنا. فأنزل الله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) الآية. وأخرج الحكيم الترمذي عن يحيى بن كثير نحوه.
وأخرج أيضا ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير عن محمد بن
جعفر بن الزبير في قوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ) أي : إن كان هذا من قولكم في عيسى حبا لله وتعظيما له (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي : ما مضى من كفركم (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ). وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء في قوله : (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) قال : هم المؤمنون من آل إبراهيم ، وآل عمران ، وآل
ياسين ، وآل محمد. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في
قوله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها
مِنْ بَعْضٍ) قال في النية والعمل ، والإخلاص والتوحيد.
(إِذْ قالَتِ
امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا
وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها
بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها
بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما
دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))
قوله : (إِذْ قالَتِ) قال أبو عمرو : (إِذْ) زائدة. وقال محمد بن يزيد : إنه متعلق بمحذوف ، تقديره
: اذكر إذ قالت. وقال الزجاج : هو متعلق بقوله : (اصْطَفى) وقيل : متعلق بقوله : (سَمِيعٌ
عَلِيمٌ)
وامرأة عمران
اسمها : حنة ، بالحاء المهملة والنون ، بنت فاقود بن قبيل أم مريم ، فهي جدة عيسى.
وعمران : هو ابن ماثان جد عيسى. قوله : (رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) تقديم الجار والمجرور لكمال العناية ، وهذا النذر كان
جائزا في شريعتهم. ومعنى : (لَكَ) أي : لعبادتك. ومحررا : منصوب على الحال ، أي : عتيقا
خالصا لله خادما للكنيسة. والمراد هنا : الحرية التي هي ضد العبودية. وقيل :
المراد بالمحرر هنا : الخالص لله سبحانه ، الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا. ورجح
هذا بأنه لا خلاف أن عمران وامرأته حران. قوله : (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) التقبل : أخذ الشيء على وجه الرضا ، أي : تقبل مني نذري
بما في بطني. قوله : (فَلَمَّا وَضَعَتْها) التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها
أنثى ، أو لكونه أنثى في علم الله ، أو بتأويل ما في بطنها بالنفس أو النسمة أو
نحو ذلك. قوله : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي
وَضَعْتُها أُنْثى) إنما قالت هذه المقالة لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا
الذكر دون الأنثى ، فكأنها تحسرت وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه وتقدره
، وأنثى : حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه. قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما وَضَعَتْ) قرأ أبو بكر ، وابن عامر ، بضم التاء فيكون من جملة
كلامها ويكون متصلا بما قبله ، وفيه معنى : التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن
يخفى عليه شيء. وقرأ الجمهور : وضعت ، فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم
لما وضعته ، والتفخيم لشأنه ، والتجليل لها ، حيث وقع منها التحسر والتحزن ، مع أن
هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين وعبرة للمعتبرين ،
ويختصها بما لم يختص به أحدا. وقرأ ابن عباس (بِما وَضَعَتْ) بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها ، أي : إنك
لا تعلمين قدر هذا الموهوب ، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام
، وتتضافر عندها العقول. قوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى) أي : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت ، فإن
غاية ما أرادت من كونه ذكرا أن يكون نذرا خادما للكنيسة ، وأمر هذه الأنثى عظيم
وشأنها فخيم. وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع
ورفع شأنه وعلوّ منزلته ، واللام في : الذكر والأنثى للعهد ، هذا على قراءة
الجمهور ، وعلى قراءة ابن عباس ، وأما على قراءة أبي بكر ، وابن عامر ، فيكون قوله
: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ
كَالْأُنْثى) من جملة كلامها ومن تمام تحسرها وتحزنها ، أي : ليس
الذكر الذي أردت أن يكون خادما ، ويصلح للنذر ، كالأنثى التي لا تصلح لذلك ،
وكأنها أعذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت. قوله : (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) عطف على (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) ومقصودها من هذا الإخبار بالتسمية : التقرّب إلى الله
سبحانه ، وأن يكون فعلها مطابقا لمعنى اسمها ، فإن معنى مريم خادم الربّ بلغتهم ،
فهي وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات. قوله : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) عطف على قوله : (إِنِّي سَمَّيْتُها
مَرْيَمَ) ، والرجيم المطرود ، وأصله المرمي بالحجارة ، طلبت
الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وأعوانه. قوله : (فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي : رضي بها في النذر ، وسلك بها مسلك السعداء. وقال
قوم : معنى التقبل التكفل والتربية والقيام بشأنها ، والقبول : مصدر مؤكد للفعل
السابق ، والباء زائدة ، والأصل : تقبلا ، وكذلك قوله : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) وأصله : إنباتا ،
فحذف الحرف الزائد ، وقيل : هو مصدر لفعل محذوف ، أي : فنبتت نباتا حسنا. والمعنى
: أنه سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان ؛ قيل ، إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت
المولود في عام ؛ وقيل هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في
جميع أحوالها ، قوله : (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا) أي : ضمها إليه. وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها. وقرأ
الكوفيون (وَكَفَّلَها) بالتشديد ، أي : جعله الله كافلا لها وملتزما بمصالحها
، وفي معناه : ما في مصحف أبيّ وأكفلها ، وقرأ الباقون : بالتخفيف على إسناد الفعل
إلى زكريا ، ومعناه : ما تقدّم من كونه ضمها إليه وضمن القيام بها. وروى عمرو بن
موسى عن عبد الله بن كثير ، وأبي عبد الله الزمني : وكفلها بكسر الفاء. قال الأخفش
: لم أسمع كفل. وقرأ مجاهد فتقبلها بإسكان اللام ، على المسألة والطلب ، ونصب ربها
على أنه منادى مضاف. وقرأ أيضا وأنبتها بإسكان التاء وكفلها بتشديد الفاء المكسورة
وإسكان اللام ونصب زكرياء مع المدّ. وقرأ حفص وحمزة والكسائي : (زَكَرِيَّا) بغير مد ، ومده الباقون. وقال الفراء : أهل الحجاز
يمدون زكريا ويقصرونه. قال الأخفش : فيه لغات : المد والقصر ، وزكريّا : بتشديد
الياء ، وهو ممتنع على جميع التقادير للعجمة والتعريف مع ألف التأنيث. قوله : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا
الْمِحْرابَ) قدّم الظرف للاهتمام به ، وكلمة : كل : ظرف ، والزمان
محذوف ، وما : مصدرية ، أو نكرة موصوفة ، والعامل في ذلك قوله : (وَجَدَ) أي : كل زمان دخوله عليها وجد عندها رزقا ، أي : نوعا
من أنواع الرزق. والمحراب في اللغة : أكرم موضع في المجلس ، قاله القرطبي ، وهو
منصوب على التوسع ؛ قيل : إن زكريا جعل لها محرابا : لا يرتقى إليه إلا بسلم ،
وكان يغلق عليها حتى كبرت ، وكان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف
وفاكهة الصيف في الشتاء ، فقال : (يا مَرْيَمُ أَنَّى
لَكِ هذا) أي : من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق
الدنيا؟ (قالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) فليس ذلك بعجيب ولا مستنكر ، وجملة قوله : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ) تعليلية لما قبلها ، وهو من تمام كلامها ، ومن قال إنه
كلام زكريا فتكون الجملة مستأنفة.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ
ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) قال : كانت نذرت أن تجعله في الكنيسة يتعبد بها ، وكانت
ترجو أن يكون ذكرا. وأخرج ابن المنذر عنه قال : نذرت أن تجعله محررا للعبادة.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (مُحَرَّراً) قال : خادما للبيعة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
عنه قال : محررا خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدنيا. وأخرج البخاري ، ومسلم ،
وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسّه حين يولد
فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا
إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُها
بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)». وللحديث ألفاظ عن أبي هريرة هذا أحدها ، وروي من حديث
غيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال :
كفلها زكريا ، فدخل عليها المحراب ، فوجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه ، فقال :
أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله ، قال : إن الذي يرزقك العنب في غير حينه لقادر
أن يرزقني من العاقر الكبير العقيم ولدا (هُنالِكَ
دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : كانت
مريم ابنة سيدهم وإمامهم ، فتشاحّ عليها أحبارهم فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم
يكفلها ، وكان زكريا زوج أختها ، فكفلها ، وكانت عنده وحضنها. وأخرج البيهقي في
سننه عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصحابة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس : (وَكَفَّلَها
زَكَرِيَّا) قال : جعلها معه في محرابه.
(هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي
فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ
كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ
أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ
كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ
يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ
الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))
قوله : (هُنالِكَ) ظرف يستعمل للزمان والمكان ، وأصله للمكان ؛ وقيل : إنه
للزمان خاصة ، وهناك للمكان ، وقيل : يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر ،
واللام للدلالة على البعد ، والكاف للخطاب. والمعنى : أنه دعا في ذلك المكان الذي
هو قائم فيه عند مريم ، أو في ذلك الزمان : أن يهب الله له ذرية طيبة ، والذي بعثه
على ذلك : ما رآه من ولادة حنة لمريم وقد كانت عاقرا ، فحصل له رجاء الولد ، وإن
كان كبيرا ، وامرأته عاقرا ، أو بعثه على ذلك : ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف
والصيف في الشتاء عند مريم ، لأن من أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من
العاقر ، وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما
من الارتباط. والذرية : النسل ، يكون للواحد ويكون للجمع ، ويدل على أنها هنا للواحد
، قوله : (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا) ولم يقل أولياء ، وتأنيث طيبة : لكون لفظ الذرية مؤنثا.
قوله : (فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ) ؛ قرأ حمزة والكسائي : فناده ، وبذلك قرأ ابن عباس ،
وابن مسعود. وقرأ الباقون : (فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ) ؛ قيل المراد هنا جبريل ، والتعبير بلفظ الجمع عن
الواحد جائز في العربية ، ومنه : (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ) ؛ وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الظاهر من إسناد
الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدّم ، فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة. قوله : (وَهُوَ قائِمٌ) جملة حالية ، و (يُصَلِّي فِي
الْمِحْرابِ) صفة لقوله : (قائِمٌ) أو خبر ثان لقوله : (وَهُوَ). قوله : (أَنَّ اللهَ
يُبَشِّرُكَ) قرئ : بفتح أنّ ، والتقدير بأن الله ، وقرئ : بكسرها ،
على تقدير القول. وقرأ أهل المدينة : يبشرك بالتشديد. وقرأ حمزة : بالتخفيف. وقرأ
حميد بن قيس المكي بكسر الشين وضم حرف المضارعة. قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى
واحد ، والقراءة الأولى هي التي وردت كثيرا في القرآن ، ومنه : (فَبَشِّرْ عِبادِ) (فَبَشِّرْهُ
بِمَغْفِرَةٍ) (فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ) (قالُوا بَشَّرْناكَ
بِالْحَقِ) وهي قراءة الجمهور.
__________________
والثانية : لغة أهل تهامة ، وبها قرأ أيضا عبد الله بن مسعود. والثالثة :
من أبشر يبشر إبشارا. ويحيى : ممتنع ، إما لكونه أعجميا ، أو لكون فيه وزن الفعل ،
كيعمر مع العلمية. قال القرطبي حاكيا عن النقاش : كان اسمه في الكتاب الأول حنا.
انتهى. والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه : يوحنا ؛ قيل سمي بذلك : لأن الله
أحياه بالإيمان والنبوّة ، وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى. والمراد هنا :
التبشير بولادته ، أي : يبشرك بولادة يحيى. وقوله : (مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : بعيسى عليهالسلام ، وسمي : كلمة الله ، لأنه كان بقوله سبحانه : كن ؛
وقيل : سمي كلمة الله : لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله. وقال أبو عبيد
: معنى (بِكَلِمَةٍ مِنَ
اللهِ) : بكتاب من الله ، قال : والعرب تقول : أنشدني كلمته ،
أي : قصيدته ، كما روي : أن الحويدرة ذكر لحسان فقال : لعن الله كلمته ، يعني :
قصيدته. انتهى. ويحيي أوّل من آمن بعيسى وصدّق ، وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين ،
وقيل : بستة أشهر. والسيد : الذي يسود قومه قال الزجاج : السيد : الذي يفوق أقرانه
في كل شيء من الخير. والحصور : أصله من الحصر ، وهو الحبس ، يقال : حصرني الشيء
وأحصرني ، إذا حبسني ، ومنه قول الشاعر :
وما هجر ليلى
أن تكون تباعدت
|
|
عليك ولا أن
أحصرتك شغول
|
والحصور : الذي
لا يأتي النساء ، كأنه يحجم عنهن ، كما يقال : رجل حصور ، وحصير : إذا حبس رفده
ولم يخرجه ، فيحيى عليهالسلام كان حصورا عن إتيان النساء : أي : محصورا لا يأتيهنّ
كغيره من الرجال ؛ إما لعدم القدرة على ذلك ، أو لكونه يكف عنهنّ منعا لنفسه عن
الشهوة مع القدرة. وقد رجح الثاني بأن المقام مقام مدح ، وهو لا يكون إلا على أمر
مكتسب يقدر فاعله على خلافه ، لا على ما كان من أصل الخلقة وفي نفس الجبلة. وقوله
: (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : ناشئا من الصالحين ، لكونه من نسل الأنبياء ، أو
كائنا من جملة الصالحين ، كما في قوله : (وَإِنَّهُ فِي
الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) قال الزجاج : الصالح : الذي يؤدي لله ما افترض عليه ،
وإلى الناس حقوقهم. قوله : (قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ) ظاهر هذا أن الخطاب منه لله سبحانه ، وإن كان الخطاب
الواصل إليه هو بواسطة الملائكة ، وذلك لمزيد التضرّع والجدّ في طلب الجواب عن
سؤاله ؛ وقيل : إنه أراد بالربّ جبريل ، أي : يا سيدي ؛ قيل : وفي معنى هذا
الاستفهام وجهان ، أحدهما : أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر أو من
غيرها؟ وقيل : معناه بأيّ سبب استوجب هذا ، وأنا وامرأتي على هذه الحال؟. والحاصل
: أنه استبعد حدوث الولد منهما مع كون العادة قاضية بأنه لا يحدث من مثلهما ؛ لأنه
كان يوم التبشير كبيرا ؛ قيل : في تسعين سنة ، وقيل : ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت
امرأته في ثمان وتسعين سنة ، ولذلك قال : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ
الْكِبَرُ) أي : والحال ذلك ، جعل الكبر كالطالب له لكونه طليعة من
طلائع الموت فأسند الفعل إليه. والعاقر : التي لا تلد ؛ أي ذات عقر على النسب ولو
كان على الفعل لقال عقيرة ؛ أي : بها عقر يمنعها من الولد ، وإنما وقع منه هذا
الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طيبة ، ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في
مريم استعظاما لقدرة الله سبحانه لا لمحض الاستبعاد ، وقيل : إنه قد مرّ بعد دعائه
إلى وقت يشاء ربه أربعون سنة ؛ وقيل : عشرون سنة فكان
الاستبعاد من هذه الحيثية. قوله : (كَذلِكَ اللهُ
يَفْعَلُ ما يَشاءُ) أي : يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك
الفعل ، وهو إيجاد الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر ، والكاف : في محل نصب
نعتا لمصدر محذوف ، والإشارة إلى مصدر يفعل أو الكاف : في محل رفع على أنها خبر ،
أي : على هذا الشأن العجيب شأن الله ، ويكون قوله : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيانا له ، أو الكاف : في محل نصب على الحال ، أي :
يفعل الله الفعل كائنا مثل ذلك. قوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً) أي : علامة أعرف بها صحة الحبل ، فأتلقى هذه النعمة
بالشكر (قالَ آيَتُكَ أَلَّا
تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) أي : علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام ،
لا عن غيره من الأذكار ، ووجه جعل الآية هذا : لتخلص تلك الأيام لذكر الله سبحانه
شكرا على ما أنعم به عليه ؛ وقيل : بأن ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله
الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين. والرمز في اللغة
: الإيماء بالشفتين ، أو العينين ، أو الحاجبين ، أو اليدين ، وأصله : الحركة ،
وهو استثناء منقطع ، لكون الرمز من غير جنس الكلام ، وقيل : هو متصل على معنى أن
الكلام ما حصل به الإفهام من لفظ أو إشارة أو كتابة ، وهو بعيد. والصواب الأوّل ،
وبه قال الأخفش والكسائي. قوله : (وَسَبِّحْ) أي : سبحه (بِالْعَشِيِ) وهو جمع عشية ؛ وقيل : هو واحد ، وهو من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ؛ وقيل
: من العصر إلى ذهاب صدر الليل ، وهو ضعيف جدا (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر إلى وقت الضحى ، وقيل : المراد بالتسبيح
: الصلاة. قوله : (إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) الظرف متعلق بمحذوف ، كالظرف الأول (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) اختارك (وَطَهَّرَكِ) من الكفر أو من الأدناس على عمومها (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) قيل : هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأوّل ،
فالأوّل هو حيث تقبلها بقبول حسن ، والآخر لولادة عيسى. والمراد بالعالمين هنا :
قيل : نساء عالم زمانها وهو الحق ؛ وقيل : نساء جميع العالم إلى يوم القيامة ،
واختاره الزجاج ؛ وقيل الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول ، والمراد بهما جميعا
: واحد. قوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ) أي : أطيلي القيام في الصلاة ، أو أديميها ، وقد تقدّم
الكلام على معاني القنوت ، وقدّم السجود على الركوع لكونه أفضل ، أو لكون صلاتهم
لا ترتيب فيها ، مع كون الواو لمجرد الجمع بلا ترتيب ، وقوله : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ظاهره : أن ركوعها يكون مع ركوعهم ، فيدل على مشروعية
صلاة الجماعة ؛ وقيل : المعنى أنها تفعل مثل فعلهم وإن لم تصلّ معهم ، والإشارة
بقوله : (ذلِكَ) إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها. والوحي في
اللغة : الإعلام في خفاء ، يقال : وحى وأوحى بمعنى : قال ابن فارس : الوحي :
الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه. قوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي : تحضرنهم ، يعني : المتنازعين في تربية مريم ،
وإنما نفى حضوره عندهم مع كونه معلوما لأنهم أنكروا الوحي ، كان ذلك الإنكار صحيحا
لم يبق طريق للعلم له إلا المشاهدة والحضور ، وهم لا يدّعون ذلك فثبت كونه وحيا
تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة ولا ممن يلابس أهلها. والأقلام : جمع قلم ، من
قلمه : إذا قطعه ، أي : أقلامهم يكتبون بها ؛ وقيل : قداحهم (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي : يحضنها ، أي : يلقون أقلامهم ليعلموا أيهم يكفلها
، وذلك
عند اختصامهم في كفالتها ، فقال زكريا : هو أحق بها ، لكون خالتها عنده ،
وهي : أشيع أخت حنة أمّ مريم ، وقال بنو إسرائيل : نحن أحق بها ، لكونها بنت
عالمنا ، فاقترعوا ، وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري ، على أن من وقف قلمه ولم يجر
مع الماء فهو صاحبها ، فجرت أقلامهم ووقف قلم زكريا ، وقد استدل بهذا من أثبت
القرعة ، والخلاف في ذلك معروف ، وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها.
وقد أخرج ابن
جرير عن ابن عباس قال : لما رأى زكريا ذلك ، يعني : فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة
الشتاء في الصيف عند مريم قال : إن الذي أتى بهذا مريم في غير زمانه قادر أن
يرزقني ولدا ، فذلك حين دعا ربه. وأخرج ابن عساكر عن الحسن نحوه ، وأخرج ابن أبي
حاتم عن السدي (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) يقول : مباركة. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن أبي
حماد قال : في قراءة ابن مسعود : فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب. وروى ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : (فَنادَتْهُ
الْمَلائِكَةُ) أي : جبريل. وأخرج ابن المنذر عن السدي قال : المحراب :
المصلى. وقد أخرج الطبراني ، والبيهقي عن ابن عمر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «اتّقوا هذه المذابح» يعني المحاريب. وأخرج ابن
أبي شيبة في المصنف عن موسى الجهني قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تزال أمتي بخير ما لم يتّخذوا في مساجدهم مذابح
كمذابح النّصارى» وقد رويت كراهة ذلك عن جماعة من الصحابة. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : إنما سمي : يحيى ، لأن
الله أحياه بالإيمان. وأخرجوا عن ابن عباس قال : (مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) قال : عيسى ابن مريم ، هو الكلمة. وأخرج ابن جرير من
طريق ابن جريج عنه قال : كان يحيى وعيسى ابني الخالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم :
إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، فذلك تصديقه بعيسى سجوده في بطن أمه ،
وهو أوّل من صدق بعيسى. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (وَسَيِّداً) قال : حليما تقيا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
مجاهد قال : السيد : الكريم على الله. وأخرج ابن جرير عن ابن المسيب قال : السيد :
الفقيه العالم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله : (وَسَيِّداً
وَحَصُوراً) قال : السيد : الحليم ، والحصور : الذي لا يأتي النساء.
وأخرج أحمد في الزهد عن سعيد بن جبير في الحصور مثله. وأخرج أحمد في الزهد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الحصور : الذي لا ينزل
الماء. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كان ذكره مثل هدبة الثوب» وأخرجه ابن أبي شيبة ،
وأحمد في الزهد من وجه آخر عن ابن عمرو موقوفا ، وهو أقوى. وأخرج ابن جرير ، وابن
أبي حاتم عن شعيب الجبائي قال : اسم أم يحيى : أشيع. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج
في قوله : (اجْعَلْ لِي آيَةً) قال : بالحمل به. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) قال : إنما عوقب بذلك لأن الملائكة شافهته بذلك مشافهة
فبشرته بيحيى ، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه ، فأخذ عليه بلسانه. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا رَمْزاً) قال : الرمز : بالشفتين. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن
جبير قال : الرمز : الإشارة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَسَبِّحْ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) قال : العشي : ميل الشمس إلى أن تغيب ، والإبكار : أوّل
الفجر. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث علي قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة
بنت خويلد ». وأخرج ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة
فرعون» وأخرج ابن مردويه عن أنس مرفوعا نحوه. وأخرج نحوه أحمد ، والترمذي ، وصححه
، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم من حديثه مرفوعا ، وفي الصحيحين وغيرهما من
حديث أبي موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كمل من الرّجال كثير ولم يكمل من النّساء إلا مريم
بنت عمران وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطّعام»
وفي المعنى أحاديث كثيرة ، وكلها تفيد أن مريم عليهاالسلام سيدة نساء عالمها ، لا نساء جميع العالم. ويؤيده ما
أخرجه ابن عساكر عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «أربع نسوة سادات نساء عالمهن : مريم بنت عمران ،
وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وأفضلهنّ عالما فاطمة».
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَبِّكِ) قال : أطيلي الركوع يعني القيام. وأخرج ابن جرير عن
سعيد بن جبير : (اقْنُتِي لِرَبِّكِ) قال : أخلصي. وأخرج عن قتادة قال : أطيعي ربك. وأخرج
ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلامَهُمْ) قال : إن مريم لما وضعت في المسجد اقترع عليها أهل
المصلى ، وهم يكتبون الوحي ، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها. قال الله لمحمد : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة قال :
ألقوا أقلامهم في الماء فذهبت مع الجرية ، وصعد قلم زكريا ، فكفلها زكريا. وأخرج
ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد ، وكذلك أخرج ابن أبي حاتم
عن ابن جريج أن الأقلام هي التي يكتبون بها التوراة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي
حاتم عن عطاء أنها القداح.
(إِذْ قالَتِ
الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ
الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
__________________
(٤٩)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ (٥١))
قوله : (إِذْ قالَتِ) بدل من قوله : (وَإِذْ قالَتِ) المذكور قبله ، وما بينهما اعتراض ، وقيل : بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) وقيل : منصوب بفعل مقدر ؛ وقيل : بقوله : (يَخْتَصِمُونَ) وقيل : بقوله : (وَما كُنْتَ
لَدَيْهِمْ).
والمسيح اختلف
فيه ممّا ذا أخذ؟ فقيل : من المسح ، لأنه : مسح الأرض ، أي : ذهب فيها فلم يستكن
بكن ؛ وقيل : إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء ، فسمي مسيحا ، فهو على هذين :
فعيل ، بمعنى : فاعل ؛ وقيل : لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به ؛
وقيل : لأنه كان ممسوح الأخمصين ؛ وقيل : لأن الجمال مسحه ؛ وقيل : لأنه مسح
بالتطهير من الذنوب ، وهو على هذه الأربعة الأقوال : فعيل ، بمعنى : مفعول. وقال
أبو الهيثم : المسيح ضد المسيخ بالخاء المعجمة. وقال ابن الأعرابي : المسيح :
الصديق. وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية : مشيخا ، بالمعجمتين ، فعرّب كما عرّب
موشى بموسى. وأما الدجال فسمي مسيحا : لأنه ممسوح إحدى العينين ؛ وقيل : لأنه يمسح
الأرض ، أي : يطوف بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس. وقوله : (عِيسَى) عطف بيان ، أو بدل ، وهو اسم أعجمي ؛ وقيل : هو عربي
مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه. قال في الكشاف : هو معرّب من أيشوع. انتهى. والذي
رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة ، وإنما قيل : ابن مريم ، مع
كون الخطاب معها ، تنبيها على أنه يولد من غير أب فنسب إلى أمه. والوجيه : ذو
الوجاهة ، وهي : القوّة والمنعة ، ووجاهته في الدنيا النبوّة ، وفي الآخرة الشفاعة
وعلو الدرجة ، وهو منتصب على الحال من : كلمة ، وإن كانت نكرة فهي موصوفة ، وكذلك
قوله : (وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) في محل نصب على الحال. قال الأخفش : هو معطوف على
وجيها. والمهد : مضجع الصبي في رضاعه ، ومهدت الأمر : هيأته ووطأته. والكهل : هو
من كان بين سن الشباب والشيخوخة ، أي : يكلم الناس حال كونه رضيعا في المهد وحال
كونه كهلا بالوحي والرسالة ، قاله الزجاج. وقال الأخفش والفراء : إن كهلا معطوف
على وجيها. قال الأخفش : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على وجيها ، أي : هو من العباد الصالحين. قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) أي : كيف يكون؟ على طريقة الاستبعاد العادي (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) جملة حالية ، أي : والحال أنه على حالة منافية للحالة
المعتادة من كون له أب (قالَ كَذلِكِ اللهُ
يَخْلُقُ ما يَشاءُ) هو من كلام الله سبحانه. وأصل القضاء : الإحكام ، وقد
تقدّم ، وهو هنا الإرادة : أي إذا أراد أمرا من الأمور (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير عمل ولا مزاولة ، وهو تمثيل لكمال قدرته. قوله :
(وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتابَ) قيل : هو معطوف على (يُبَشِّرُكَ) ، أي : إن الله يبشرك ؛ وإنّ الله يعلمه ؛ وقيل : على (يَخْلُقُ) : أي : وكذلك يعلمه الله ، أو كلام مبتدأ سيق تطييبا
لقلبها. والكتاب : الكتابة. والحكمة : العلم ؛ وقيل : تهذيب الأخلاق ، وانتصاب :
رسولا ، على تقدير : ويجعله
رسولا ، أو ويكلمهم رسولا ، أو وأرسلت رسولا ؛ وقيل : هو معطوف على قوله : (وَجِيهاً) فيكون حالا ، لأن فيه معنى النطق ، أي : وناطقا ، قال
الأخفش : وإن شئت جعلت الواو في قوله : ورسولا ، مقحمة ، والرسول : حالا. وقوله : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) معمول لرسول ، لأن فيه معنى النطق كما مر ؛ وقيل : أصله
: بأني قد جئتكم ، فحذف الجار ، وقيل : منصوب بمضمر ، أي : تقول : أني قد جئتكم ؛
وقيل : معطوف على الأحوال السابقة. وقوله : (بِآيَةٍ) في محل نصب على الحال ، أي : متلبسا بعلامة كائنة (مِنْ رَبِّكُمْ). وقوله : (أَنِّي أَخْلُقُ) أي : أصوّر ، وأقدّر (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى ، وهي : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) أو بدل من آية ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي أني ،
وقرئ : بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر : كهيئة الطير
بالتشديد ، والكاف في قوله : (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) : نعت مصدر محذوف ، أي : أخلق لكم خلقا أو شيئا مثل
هيئة الطير. وقوله : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي : في ذلك الخلق ، أو ذلك الشيء ، فالضمير راجع إلى
الكاف في قوله كهيئة الطير ؛ وقيل : الضمير راجع إلى الطير ، أي : الواحد منه ؛
وقيل : إلى الطين ، وقرئ : فيكون طائرا وطيرا ، مثل تاجر وتجر. وقيل : إنه لم يخلق
غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة ، فإن له ثديا وأسنانا وأذنا ويحيض ويطهر ؛
وقيل : إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة ، ولكونه يطير بغير ريش
، ويلد كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير ، ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور
، ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب
الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة ، وهو يضحك كما يضحك الإنسان ؛ وقيل : إن
سؤالهم له كان على وجه التعنت ، قيل : كان يطير ما دام الناس ينظرونه ، فإذا غاب
عن أعينهم سقط ميتا ، ليتميز فعل الله من فعل غيره وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) فيه دليل : على أنه لو لا الإذن من الله عزوجل لم يقدر على ذلك ، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه ،
أجراه على يد عيسى عليهالسلام ؛ قيل : كانت تسوية الطين والنفخ من عيسى ، والخلق من
الله عزوجل. قوله : (وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ) الأكمه : الذي يولد أعمى ، كذا قال أبو عبيدة. وقال ابن
فارس : الكمه : العمى يولد به الإنسان وقد يعرض ، يقال : كمه ، يكمه ، كمها : إذا
عمي ، وكمهت عينه : إذا أعميتها ؛ وقيل : الأكمه : الذي يبصر بالنهار ولا يبصر
بالليل ؛ وقيل : هو الممسوح العين. والبرص معروف ، وهو : بياض يظهر في الجلد. وقد
كان عيسى عليهالسلام يبرئ من أمراض عدّة كما اشتمل عليه الإنجيل ، وإنما خص
الله سبحانه هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرءان في الغالب بالمداواة ، وكذلك
إحياء الموتى ، قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك. قوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) أي : أخبركم بالذي تأكلونه ، وبالذي تدّخرونه. قوله : (وَمُصَدِّقاً) عطف على قوله : (وَرَسُولاً) وقيل : المعنى وجئتكم مصدّقا. قوله : (وَلِأُحِلَ) أي : ولأجل أن أحلّ ، أي : جئتكم بآية من ربكم ، وجئتكم
لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم من الأطعمة في التوراة ، كالشحوم ، وكل ذي ظفر ،
وقيل : إنما أحلّ لهم ما حرّمته عليهم الأحبار ولم تحرّمه التوراة. وقال أبو عبيدة
: يجوز أن يكون بعض ، بمعنى : كلّ ، وأنشد :
ترّاك أمكنة
إذا لم أرضها
|
|
أو يرتبط بعض
النفوس حمامها
|
قال القرطبي :
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة ، لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى
الكل ، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرّمته عليهم التوراة ، فإنه لم يحلل القتل
ولا السرقة ولا الفاحشة وغير ذلك من المحرّمات الثابتة في الإنجيل ، مع كونها
ثابتة في التوراة ، وهي كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين ، ولكنه قد يقع البعض
موضع الكل مع القرينة كقول الشاعر :
أبا منذر
أفنيت فاستبق بعضنا
|
|
حنانيك بعض
الشّرّ أهون من بعض
|
أي : بعض الشرّ
أهون من كله. قوله : (بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ) هي قوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ) وإنما كان ذلك آية ، لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون
ذلك ، فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوته. ويحتمل أن تكون هذه الآية
هي الآية المتقدّمة فتكون تكريرا لقوله : (أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) الآية.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (بِكَلِمَةٍ) قال : عيسى هو الكلمة من الله. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المهد : مضجع الصبيّ في رضاعه. وقد ثبت
في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ، وكان في بني إسرائيل رجل يقال
له جريج كان يصلي ، فجاءته أمه فدعته فقال : أجيبها أو أصلي؟ فقالت : اللهم لا
تمته حتى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعة فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى ،
فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقالت : من جريج ، فأتوه فكسروا صومعته
وأنزلوه وسبوه ، فتوضأ وصلّى ثم أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام؟ قال : الراعي
، قالوا : نبني صومعتك من ذهب؟ قال : لا إلا من طين ، وكانت امرأة من بني إسرائيل
ترضع ابنا لها ، فمرّ بها رجل راكب ذو شارة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثله ، فترك
ثديها وأقبل على الراكب فقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم أقبل على ثديها يمصه ،
ثم مرّ بأمة تجرر ويلعب بها فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه ، فترك ثديها فقال
: اللهمّ اجعلني مثلها ، فقالت : لم ذاك؟ فقال : الراكب جبار من الجبابرة ، وهذه
الأمة يقولون لها : زنيت ، وتقول : حسبي الله ونعم الوكيل. ويقولون : سرقت ، وتقول
: حسبي الله. وأخرج أبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «لم يتكلّم في المهد إلا عيسى ، وشاهد يوسف ، وصاحب
جريج ، وابن ماشطة فرعون». وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً) قال : يكلمهم صغيرا وكبيرا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس قال : الكهل : هو من في سن الكهولة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الكهل : الحليم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتابَ) قال : الخط بالقلم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : إنما خلق عيسى طائرا واحدا وهو الخفاش. وأخرج
ابن جريج ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق
الضحاك عن ابن عباس قال : الأكمه : الذي يولد أعمى. وأخرج ابن جريج ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : الأكمه : الذي يولد
أعمى. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الأكمه : الأعمى الممسوح العينين. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الأكمه : الذي
يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. وأخرجوا عن عكرمة قالوا : الأكمه : الأعمش. وأخرج
أحمد في الزهد عن خالد الحذاء قال : كان عيسى ابن مريم إذا سرح رسله يحيون الموتى
يقول لهم قولوا : كذا ، فإذا وجدتم قشعريرة ودمعة فادعوا عند ذلك. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) قال : بما أكلتم البارحة من طعام وما خبأتم منه. وأخرج
عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر قال : (أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) من المائدة (وَما تَدَّخِرُونَ) منها ، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا
ولا يدخروا ، فأكلوا ، وادّخروا ، وخانوا ، فجعلوا قردة وخنازير. وأخرج ابن جرير
عن وهب : أن عيسى كان على شريعة موسى ، وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس ، وقال لبني
إسرائيل : إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحلّ لكم بعض الذي حرّم
عليكم وأضع عنكم من الآصار. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع في الآية :
قال كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى ، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به
موسى لحوم الإبل والثروب ، فأحلها لهم على لسان عيسى ، وحرّم عليهم الشحوم فأحلت
لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير ، وفي أشياء أخر
حرّمها عليهم وشدّد عليهم فيها ، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ) قال : ما بين لهم من الأشياء كلها وما أعطاه ربه.
(فَلَمَّا أَحَسَّ
عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ
نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))
قوله : (فَلَمَّا أَحَسَ) أي : علم ووجد : قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة : معنى :
أحسّ : عرف ، وأصل ذلك : وجود الشيء بالحاسة ، والإحساس : قال الله تعالى : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) . والمراد بالإحساس هنا : الإدراك القويّ الجاري مجرى
المشاهدة. وبالكفر : إصرارهم عليه ؛ وقيل : سمع منهم كلمة الكفر. وقال الفراء :
أرادوا قتله. وعلى هذا فمعنى الآية : فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر
__________________
قال : من أنصاري إلى الله. الأنصار : جمع نصير. وقوله : (إِلَى اللهِ) متعلق بمحذوف وقع حالا ، أي : متوجها إلى الله ، أو
ملتجئا إليه ، أو ذاهبا إليه ، وقيل : إلى : بمعنى مع ، كقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ) وقيل المعنى : من أنصاري في السبيل إلى الله ؛ وقيل
المعنى : من يضم نصرته إلى نصرة الله. والحواريون : جمع حواري ، وحواريّ الرجل :
صفوته وخلاصته ، وهو مأخوذ من الحور وهو البياض عند أهل اللغة ، حوّرت الثياب
بيضتها. والحواري من الطعام : ما حوّر : أي بيض ، والحواري أيضا : الناصر ، ومنه
قوله صلىاللهعليهوسلم : «لكل نبيّ حواريّ وحواريي الزبير» وهو في البخاري
وغيره. وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك ، فقيل : لبياض ثيابهم ؛ وقيل : لخلوص
نياتهم ؛ وقيل : لأنهم خاصة الأنبياء ، وكانوا اثني عشر رجلا ، ومعنى أنصار الله :
أنصار دينه ورسله. وقوله : (آمَنَّا بِاللهِ) استئناف جار مجرى العلة لما قبله ، فإن الإيمان يبعث
على النصرة ، قوله : (وَاشْهَدْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ) أي : اشهد لنا يوم القيامة بأنا مخلصون لإيماننا
منقادون لما تريد منا. ومعنى (بِما أَنْزَلْتَ) : ما أنزله الله سبحانه في كتبه. والرسول : عيسى ، وحذف
المتعلق مشعر بالتعميم ، أي : اتبعناه في كل ما يأتي به ، فاكتبنا مع الشاهدين لك
بالوحدانية ، ولرسولك بالرسالة. أو : اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم ،
وقيل مع أمة محمد صلىاللهعليهوسلم. قوله : (وَمَكَرُوا) أي : الذين أحسّ عيسى منهم الكفر ، وهم كفار بني
إسرائيل. ومكر الله : استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون. قاله الفراء وغيره. وقال
الزجاج : مكر الله : مجازاتهم على مكرهم ، فسمى الجزاء باسم الابتداء ، كقوله
تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ) (وَهُوَ خادِعُهُمْ) وأصل المكر في اللغة : الاغتيال والخدع : حكاه ابن فارس
، وعلى هذا فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة ؛ وقيل : مكر الله هنا
: إلقاء شبه عيسى على غيره ، ورفع عيسى إليه (وَاللهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ) أي : أقواهم مكرا ، وأنفذهم كيدا ، وأقواهم على إيصال
الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب ، قوله : (إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسى) العامل في إذ : مكروا ، أو : قوله : (خَيْرُ الْماكِرِينَ) أو : فعل مضمر تقديره : وقع ذلك. وقال الفراء : إن في
الكلام تقديما وتأخيرا تقديره : إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد
إنزالك من السماء. وقال أبو زيد : متوفيك : قابضك. وقال في الكشاف : مستوفي أجلك ،
ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك
حتف أنفك لا قتلا بأيديهم. وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر ، لأن
الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة ، كما رجحه كثير من المفسرين ،
واختاره ابن جرير الطبري ، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النّبي صلىاللهعليهوسلم نزوله وقتله الدجال ، وقيل : إن الله سبحانه توفاه ثلاث
ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء ، وفيه ضعف ، وقيل : المراد بالوفاة هنا : النوم
، ومثله : (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) أي : ينيمكم ، وبه قال كثيرون. قوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : من خبث جوارهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم. قوله
: (وَجاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : الذي اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم
يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلها ، ومنهم المسلمون ، فإنهم اتبعوا ما
جاء به عيسى عليهالسلام ، ووصفوه بما يستحقه من دون
__________________
غلوّ ، فلم يفرّطوا في وصفه ، كما فرطت اليهود ، ولا أفرطوا كما أفرطت
النصارى. وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم. وقيل : المراد بالآية : أن النصارى
الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود ، غالبين لهم ، قاهرين لمن وجد
منهم ، فيكون المراد بالذين كفروا : هم اليهود خاصة ، وقيل : هم الروم لا يزالون
ظاهرين على من خالفهم من الكافرين ؛ وقيل : هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من
كفر بالمسيح ، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا
ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين كما تفيده الآيات الكثيرة ، بأن هذه
الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل ، قاهرة لها مستعلية عليها. وقد أفردت هذه
الآية بمؤلف سميته : [وبل الغمامة في تفسير ـ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا
إلى يوم القيامة] فمن رام استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك. والفوقية هنا : هي
أعم من أن تكون بالسيف أو بالحجة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن عيسى عليهالسلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ،
ويضع الجزية ، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية ، ويكون المسلمون أنصاره
وأتباعه إذ ذاك ، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحال. قوله : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي : رجوعكم ، وتقديم الظرف للقصر (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) يومئذ (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ) من أمور الدين. وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا) إلى قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) : تفسير للحكم. قوله : (فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ) متعلق بقوله : فأعذبهم ، أما تعذيبهم في الدنيا :
فبالقتل والسبي والجزية والصغار ، وأما في الآخرة : فبعذاب النار. قوله : (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي : نعطيهم إياها كاملة موفرة ، قرئ : بالتحتية
وبالنون. وقوله : (لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) كناية عن بغضهم ، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها.
قوله : (ذلِكَ) إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى وغيره ، وهو مبتدأ ، خبره
ما بعده ، و (مِنَ الْآياتِ) حال ، أو خبر بعد خبر. والحكيم : المشتمل على الحكم ،
أو المحكم الذي لا خلل فيه.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ
الْكُفْرَ) قال : كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
(فَاكْتُبْنا مَعَ
الشَّاهِدِينَ) قال : مع محمد وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ ، وشهدوا
للرسل أنهم قد بلغوا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح
عنه قال : (مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : إن بني إسرائيل حصروا
عيسى وتسعة عشر رجلا من الحواريين في بيت ؛ فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي
فيقتل وله الجنة ، فأخذها رجل منهم ، وصعد بعيسى إلى السماء ، فذلك قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ
خَيْرُ الْماكِرِينَ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) يقول : مميتك. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن الحسن قال : متوفيك من الأرض. وأخرج الآخران عنه قال : وفاة المنام. وأخرج
ابن أبي حاتم عن قتادة قال : هذا من المقدّم والمؤخر : أي : رافعك إليّ ومتوفيك.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مطر الوراق قال : متوفيك من الدنيا وليس
بوفاة موت. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن وهب قال : توفّى الله عيسى
ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه ، وأخرج ابن عساكر عنه قال : أماته ثلاثة أيام
ثم بعثه ورفعه. وأخرج الحاكم عنه قال : توفى الله عيسى سبع ساعات. وأخرج ابن سعد ،
وأحمد في الزهد والحاكم عن سعيد بن المسيب قال : رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين
سنة. وأخرج ابن عساكر عن وهب مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن في
قوله تعالى : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : هم أهل الإسلام الذين اتّبعوه على فطرته وملته
وسنته. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن النعمان بن بشير سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا
يبالون بمن خالفهم حتّى يأتي أمر الله» قال النعمان : من قال إني أقول على رسول
الله ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله ، قال الله : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) الآية. وأخرج ابن عساكر عن معاوية مرفوعا نحوه ، ثم قرأ
معاوية الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : النصارى فوق اليهود إلى يوم
القيامة ، وليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق ولا غرب ، هم في
البلدان كلّها مستذلّون.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))
تشبيه عيسى
بآدم في كونه مخلوقا من غير أب كآدم ، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على
زيادة وهو كونه لا أمّ له : كما أنه لا أب له ، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد
بالتشبيه ، وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه ، وأعظم عجبا ، وأغرب أسلوبا.
وقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة مفسرة لما أبهم في المثل ، أي : أن آدم لم يكن له
أب ولا أم ، بل خلقه الله من تراب. وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب
مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم. قوله : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ) أي : كن بشرا فكان بشرا. وقوله : (فَيَكُونُ) حكاية حال ماضية ، وقد تقدّم تفسير هذا. وقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) قال الفرّاء : هو مرفوع بإضمار هو. وقال أبو عبيدة : هو
استئناف كلام ، وخبره قوله : (مِنْ رَبِّكَ) وقيل : هو فاعل فعل محذوف : أي : جاءك الحقّ من ربك.
قوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ) الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس ، أي : لا يكن أحد
منكم ممتريا ، أو للرسول صلىاللهعليهوسلم ، ويكون النهي له لزيادة التثبيت ، لأنه لا يكون منه شك
في ذلك ، قوله : (فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ) هذا وإن كان عاما فالمراد به : الخاص ، وهم النصارى
الذين وفدوا إليه صلىاللهعليهوسلم من نجران كما سيأتي بيانه ، ويمكن أن يقال : هو على
عمومه
وإن كان السبب خاصا ، فيدل على جواز المباهلة منه صلىاللهعليهوسلم لكل من حاجة في عيسى عليهالسلام ، وأمته أسوته ، وضمير فيه : لعيسى ، والمراد بمجيء
العلم هنا : مجيء سببه ، وهو الآيات البينات ، والمحاجة : المخاصمة والمجادلة.
وقوله : (تَعالَوْا) أي : هلمّوا ، وأقبلوا ، وأصله : الطلب لإقبال الذوات ،
ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضرا ، كما تقول لمن هو حاضر عندك : تعال ننظر
في هذا الأمر. قوله : (نَدْعُ أَبْناءَنا) إلخ ، اكتفى بذكر البنين عن البنات ، إما لدخولهن في
النساء ، أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن ؛ ومعنى الآية : ليدع كل منا
ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة ، وفيه دليل : على أن أبناء البنات يسمون
: أبناء ، لكونه صلىاللهعليهوسلم أراد بالأبناء الحسنين كما سيأتي. قوله : (نَبْتَهِلْ) أصل الابتهال : الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره ، يقال
: بهله الله : أي لعنه ، والبهل : اللعن. قال أبو عبيد ، والكسائي : نبتهل : نلتعن
، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك ، ومنه قول لبيد :
في كهول سادة
من قومه
|
|
نظر الدّهر
إليهم فابتهل
|
أي : فاجتهد في
هلاكهم. قال في الكشاف : ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا. قوله
: (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) عطف على نبتهل مبين لمعناه. قوله : (إِنَّ هذا) أي : الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى (لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) القصص : التتابع ، يقال : فلان يقص أثر فلان : أي يتبعه
، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضا ، وضمير الفصل للحصر ، ودخول اللام عليه
لزيادة تأكيده ، ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره ، وزيادة : من ، في قوله : (مِنْ إِلهٍ) لتأكيد العموم ، وهو ردّ على من قال بالتثليث من
النصارى.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث حذيفة : أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأراد أن يلاعنهما ، فقال أحدهما لصاحبه : لا نلاعنه ،
فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا نحن ولا عقبنا من بعدنا ، فقالوا له :
نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا ، فقال : قم يا أبا عبيدة ، فلما قام قال :
هذا أمين هذه الأمة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس :
أن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلىاللهعليهوسلم وكان فيهم السيد والعاقب ، فقالوا : ما شأنك تذكر
صاحبنا؟ قال : من هو؟ قالوا : عيسى ، تزعم : أنه عبد الله ، قالوا : فهل رأيت مثل
عيسى وأنبئت به ، ثم خرجوا من عنده ، فجاء جبريل فقال : قل لهم إذا أتوك : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ) إلى آخر الآية. وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة
من التابعين. وأخرج الحاكم ، وصحّحه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن جابر
قال : قدم على النبيّ صلىاللهعليهوسلم العاقب والسيد ، فدعاهما إلى الإسلام ، فقالا : أسلمنا
يا محمد ، فقال : كذبتما إن شئتما أخبرتكم ما يمنعكما من الإسلام ، قالا : فهات.
قال : حبّ الصليب ، وشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير. قال جابر : فدعاهما إلى
الملاعنة فواعداه على الغد ، فغدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما
فأبيا أن يجيباه وأقرّا له ، فقال : والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي
عليهما نارا. قال جابر : فيهم نزلت : (تَعالَوْا نَدْعُ
أَبْناءَنا) الآية. قال جابر : (أَنْفُسَنا
وَأَنْفُسَكُمْ)
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعليّ ، وأبناءنا الحسن والحسين ، ونساءنا فاطمة. ورواه
أيضا الحاكم من وجه آخر عن جابر وصححه ، وفيه : أنهم قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : هل لك أن نلاعنك؟. وأخرج مسلم ، والترمذي. وابن
المنذر ، والحاكم ، والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص : قال لما نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا) دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه (تَعالَوْا نَدْعُ
أَبْناءَنا) الآية ، قال : فجاء بأبي بكر وولده ، وبعمر وولده ،
وبعثمان وولده ، وبعليّ وولده. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج
عن ابن عباس : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) نجتهد. وأخرج الحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن
عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : هذا الإخلاص ، يشير بإصبعه التي تلي الإبهام ،
وهذا الدعاء ، فرفع يديه حذو منكبيه ، وهذا الابتهال فرفع يديه مدّا.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ (٦٤))
قيل : الخطاب
لأهل نجران ، بدليل ما تقدم قبل هذه الآية ؛ وقيل : ليهود المدينة ؛ وقيل : لليهود
والنصارى جميعا ، وهو ظاهر النظم القرآني ، ولا وجه لتخصيصه بالبعض ، لأن هذه دعوة
عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. والسواء : العدل. قال الفراء : يقال في معنى العدل سوى
وسوى ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا ضممت أو كسرت قصرت. قال زهير :
أروني خطّة
لا ضيم فيها
|
|
يسوّي بيننا
فيها السّواء
|
وفي قراءة ابن
مسعود : «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم» فالمعنى : أقبلوا إلى ما دعيتم إليه ، وهي :
الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق ، وقد فسرها بقوله : (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) وهو في موضع خفض على البدل من : كلمة ، أو رفع إلى
إضمار مبتدأ ، أي : هي أن لا نعبد ، ويجوز أن تكون : أن ، مفسرة لا موضع للجملة
التي دخلت عليها ، وفي قوله : (وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً) تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير ، وإشارة إلى أن
هؤلاء من جنس البشر وبعض منهم ، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما
حللوه له ، وحرم ما حرموه عليه ، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده ربا ، ومنه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) وقد جوّز الكسائي والفراء الجزم في : (وَلا نُشْرِكَ وَلا يَتَّخِذَ) على التوهم. قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عما دعوا إليه (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ) أي : منقادون لأحكامه ، مرتضون به ، معترفون بما أنعم
الله به علينا من هذا الدين القويم.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، والنسائي عن ابن عباس قال : حدّثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأه فإذا فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد
رسول الله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتّبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك
بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن تولّيت فإنّ عليك إثم
الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، إلى قوله :
__________________
بأنّا مسلمون». وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الكفار (تَعالَوْا إِلى
كَلِمَةٍ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال
: بلغني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية فأبوا عليه ،
فجاهدهم حتى أقرّوا بالجزية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : ذكر
لنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء. وأخرج ابن
جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ) قال : عدل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع
مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً
أَرْباباً) قال : لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، ويقال : إن
تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم. وأخرج
ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (وَلا يَتَّخِذَ
بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً) قال : سجود بعضهم لبعض.
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ
إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ
فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا
وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا
النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))
لما ادّعت كل
واحدة من طائفتي اليهود والنصارى أن إبراهيم عليهالسلام كان على دينهم ؛ ردّ الله سبحانه ذلك عليهم ، وأبان
بأنّ الملة اليهودية والملة النصرانية إنما كانتا من بعده. قال الزجاج : هذه الآية
أبين حجة على اليهود والنصارى أن التوراة والإنجيل نزلا من بعده ، وليس فيهما اسم
لواحد من الأديان واسم الإسلام في كل كتاب. انتهى ، وفيه نظر ، فإن الإنجيل مشحون
بالآيات من التوراة ، وذكر شريعة موسى والاحتجاج بها على اليهود ، وكذلك الزبور
فيه في مواضع ذكر شريعة موسى ، وفي أوائله التبشير بعيسى ، ثم في التوراة ذكر كثير
من الشرائع المتقدّمة ، يعرف هذا كل من عرف هذه الكتب المنزلة. وقد اختلف في قدر
المدّة التي بين إبراهيم وموسى ، والمدّة التي بين موسى وعيسى. قال القرطبي : يقال
: كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبين موسى وعيسى ألفا سنة. وكذا في الكشاف.
قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : تتفكرون في دحوض حجتكم وبطلان قولكم. قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) الأصل في ها أنتم : أأنتم ، أبدلت الهمزة الأولى هاء ،
لأنها أختها ، كذا قال أبو عمرو بن العلاء ، والأخفش. قال النحاس : وهذا قول حسن.
وقرأ قنبل : هأنتم وقيل : الهاء للتنبيه دخلت على الجملة التي بعدها ، أي : ها
أنتم هؤلاء الرجال الحمقى حاججتم ، وفي هؤلاء لغتان : المدّ والقصر. والمراد بما
لهم به علم : هو ما كان في التوراة وإن خالفوا مقتضاه وجادلوا فيه بالباطل ، والذي
لا علم لهم به هو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم لجهلهم بالزمن الذي كان فيه. وفي
الآية دليل على منع الجدال بالباطل ، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحقّ كما
في حديث «من ترك المراء ولو محقّا فأنا ضمينه على الله ببيت في ربض الجنّة». وقد
ورد تسويغ الجدال بالتي هي
أحسن لقوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) ونحو ذلك ، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون
المصلحة في فعله أكثر من المفسدة ، أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة
لا بالمخاشنة. قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ) أي : كل شيء فيدخل في ذلك ما حاججوا به. وقد تقدّم
تفسير الحنيف. قوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) أي : أحقهم به وأخصهم للذين اتبعوا ملته واقتدوا بدينه (وَهذَا النَّبِيُ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم ، أفرده بالذكر تعظيما وتشريفا ، وأولويته صلىاللهعليهوسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته ، ومن جهة موافقته لدينه
في كثير من الشريعة المحمدية (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران ،
وأحبار يهود عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا
يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فنزل فيهم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ) الآية. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن
أبي حاتم عن أبي العالية : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) يقول : فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ) يقول : فيما لم تشهدوا ولم تروا ولم تعاينوا. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ
في الآية قال : أما الذي لهم به علم فما حرّم عليهم وما أمروا به ، وأما الذي ليس
لهم به علم فشأن إبراهيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : يعذر من حاجّ بعلم
ولا يعذر من حاجّ بالجهل. وأخرج ابن جرير عنه عن الشعبي في قوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ) قال : أكذبهم الله وأدحض حجتهم. وأخرج أيضا عن الربيع
مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان نحوه. وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر
بن حوشب : حدّثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى النجاشي ، فذكر قصتهم معه ، وما قالوه له لما قال
له عمرو بن العاص : إنهم يشتمون عيسى ، وهي قصة مشهورة ؛ ثم قال : فأنزلت ذلك
اليوم خصومتهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو بالمدينة (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية. وأخرج سعيد ابن منصور ، وعبد بن حميد ، والترمذي
، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن مسعود أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليّي منهم
أبي خليل ربي ثم قرأ : (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ) الآية». وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يا معشر قريش إنّ أولى النّاس بالنبيّ المتقون ،
فكونوا أنتم سبيل ذلك ، فانظروا أن لا يلقاني النّاس يحملون الأعمال ، وتلقوني
بالدنيا تحملونها ، فأصدّ عنكم بوجهي ، ثم قرأ عليهم : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : كل
مؤمن وليّ إبراهيم ؛ ممن مضى ، وممن بقي.
(وَدَّتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ
وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ
بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ
طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ
وَاكْفُرُوا
آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما
أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))
الطائفة من أهل
الكتاب هم : يهود بني النضير ، وقريظة ، وبني قينقاع ، حين دعوا جماعة من المسلمين
إلى دينهم وسيأتي ، وقيل : هم جميع أهل الكتاب ، فتكون : من ، لبيان الجنس. وقوله
: (وَما يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) جملة حالية ، للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان
، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه. والمراد بآيات الله : ما في كتبهم من
دلائل نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) ما في كتبكم من ذلك ، أو تشهدون بمثلها من آيات
الأنبياء الذين تقرّون بنبوّتهم ، أو المراد ، كتم كل الآيات عنادا وأنتم تعلمون
أنها حق. ولبّس الحق بالباطل : خلطه بما يعتمدونه من التحريف (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية. قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم رؤساؤهم وأشرافهم ، قالوا للسفلة من قومهم هذه
المقالة. ووجه النهار : أوّله ، وسمي : وجها ، لأنه أحسنه ، قال :
وتضيء في وجه
النّهار منيرة
|
|
كجمانة
البحريّ سلّ نظامها
|
وهو منصوب على
الظرف ، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين ، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب
لديهم علم ، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم ، واعتراه الشك ، وهم لا
يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ، ومكن أقدامهم ، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء
الله ، ولا تحركهم ريح المعاندين. قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض ، أي : قال ذلك الرؤساء
للسفلة : لا تصدقوا تصديقا صحيحا إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها
، وأما غيرهم ممن قد أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعا (وَجْهَ النَّهارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) ليفتتنوا ، ويكون قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) على هذا : متعلقا بمحذوف ، أي : فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم ، يعني : أن ما بكم من الحسد والبغي ؛ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من
فضل العلم والكتاب ؛ دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم. وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) معطوف على : أن يؤتى ، أي : لا تؤمنوا إيمانا صحيحا ،
وتقروا بما في صدوركم إقرارا صادقا لغير من تبع دينكم ، إن فعلتم ذلك ودبرتموه فإن
المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق. وقوله : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) جملة اعتراضية. وقال الأخفش : المعنى : ولا تؤمنوا إلا
لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم ،
فذهب إلى أنه معطوف ؛ وقيل : المراد : لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن
تبع دينكم ، أي : لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه ، لأن إسلام من
كان منهم هو الذي قتلهم غيظا وأماتهم حسرة وأسفا ، ويكون قوله : (أَنْ يُؤْتى) على هذا : متعلقا بمحذوف كالأوّل ؛ وقيل : إن قوله : (أَنْ يُؤْتى) متعلق بقوله : (لا تُؤْمِنُوا) أي : لا تظهروا إيمانكم ب (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) أي : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله
مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم ؛
وقيل : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم
، بالمدّ على الاستفهام ، تأكيدا للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه
، فتكون على هذا : أن وما بعدها : في محل رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره
تصدّقون بذلك ، ويجوز أن تكون : في محل نصب على إضمار فعل تقديره : تقرون أن يؤتى
، وقد قرأ «آن يؤتى» بالمدّ ابن كثير وابن محيصن ، وحميد. وقال الخليل : أن في
موضع خفض ، والخافض محذوف. وقال ابن جريج : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم
كراهية أن يؤتى ؛ وقيل : المعنى : لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلىاللهعليهوسلم إلا من تبع دينكم ، لئلا يكون ذلك سببا لإيمان غيرهم
بمحمد صلىاللهعليهوسلم. وقال الفراء : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند
قوله : (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ
دِينَكُمْ) ثم قال الله لمحمد صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللهِ) أي : إن البيان الحق بيان الله ، بين أن لا يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم ، على تقدير : لا ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي : لئلا تضلوا ، و «أو» في قوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) بمعنى : حتى ، وكذلك قال الكسائي ، وهي عند الأخفش :
عاطفة ، كما تقدم. وقيل : إن هدى الله بدل من الهدى ، وأن يؤتى خبر إن ، على معنى
: قل : إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقد قيل : إن هذه الآية أعظم آي
هذه السورة إشكالا وذلك صحيح. وقرأ الحسن : يؤتي ، بكسر التاء الفوقية. وقرأ سعيد
بن جبير : إن يؤتى ، بكسر الهمزة على أنها النافية. وقوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قيل : هي النبوّة ؛ وقيل : أعم منها ، وهو ردّ عليهم
ودفع لما قالوه ودبروه.
وقد أخرج ابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن سفيان قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو
في النصارى ، ويدفع هذا : أن كثيرا من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة
لا يصحّ حملها على النصارى ألبتة ، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها ،
فإن الطائفة التي ودّت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة القائلة : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) وهي من اليهود خاصة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر عن قتادة في قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) قال : تشهدون أن نعت نبيّ الله محمد في كتابكم ، ثم
تكفرون به ، وتنكرونه ، ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة
والإنجيل : النبيّ الأمّي. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع مثله. وأخرجا
أيضا عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن ابن جريج : (وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ) على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره.
وأخرجا عن الربيع في قوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ) يقول : لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد
علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره : الإسلام (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) يقول : تكتمون شأن محمد ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في
التوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن إسحاق
، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن
الصيف ، وعديّ ابن زيد ، والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على
محمد وأصحابه غدوة ، ونكفر به عشية ، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع
، فيرجعون عن دينهم ، فأنزل الله فيهم :
(يا أَهْلَ الْكِتابِ
__________________
لِمَ
تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) إلى قوله : (وَاللهُ واسِعٌ
عَلِيمٌ) وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس
في قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ) الآية ، قال : كانوا يكونون معهم أول النهار ،
ويجالسونهم ، ويكلمونهم ، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه. وأخرج ابن
جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) قال : هذا قول بعضهم لبعض. وأخرج ابن جرير عن الربيع
مثله. وأخرج أيضا عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم
عن مجاهد : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادة أن
يتابعوا على دينهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك
وسعيد بن جبير : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ
مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) قال : أمة محمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي قال الله
لمحمد صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّ الْهُدى هُدَى
اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يا أمة محمد (أَوْ يُحاجُّوكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ) يقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة ، حتى
أنزل علينا المنّ والسلوى ، فإن الذي أعطيتكم أفضل فقولوا : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة
: (قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يقول : لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم ، وبعث نبيا
كنبيكم حسدتموه على ذلك (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن
جريج (قُلْ إِنَّ الْهُدى
هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يقول : هذا الأمر الذي أنتم عليه (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ
عِنْدَ رَبِّكُمْ) قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في
كتابه (لِيُحَاجُّوكُمْ) قال : ليخاصموكم (بِهِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ) فتكون لهم حجة عليكم (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ) قال : الإسلام (يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال : القرآن والإسلام. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (يَخْتَصُّ
بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال : النبوة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : رحمته
الإسلام يختص بها من يشاء.
(وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))
هذا شروع في
بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين ، والجار والمجرور في قوله
: (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) : في محل رفع على الابتداء ، على ما مرّ في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) وقد تقدم تفسير القنطار. وقوله : (تَأْمَنْهُ) هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن وثاب ، والأشهب العقيلي : (تيمنه) بكسر
__________________
التاء الفوقية على لغة بكر وتميم ، ومثله : قراءة من قرأ : نستعين بكسر
النون. وقرأ نافع والكسائي : (يُؤَدِّهِ) بكسر الهاء في الدرج. قال أبو عبيد : واتفق أبو عمرو ،
والأعمش ، وحمزة ، وعاصم في رواية أبي بكر : على إسكان الهاء. قال النحاس : إسكان
الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين ، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ، ويرى أنه
غلط من قرأ به ، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه شيء
من هذا ، والصحيح عنه : أنه كان يكسر الهاء. وقال الفراء : مذهب بعض العرب يسكنون
الهاء إذا تحرك ما قبلها ، فيقولون : ضربته ضربا شديدا ، كما يسكنون ميم أنتم
وقمتم ، وأنشد :
لمّا رأى أن
لا دعه ولا شبع
|
|
مال إلى أرطاة
حقف فاضطجع
|
وقرأ أبو
المنذر سلام ، والزهري : يؤده بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد : يؤدّ
هو بواو في الإدراج ، ومعنى الآية : أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته
وإن كانت كثيرة ، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة ، ومن كان
أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى ، ومن كان خائنا في القليل فهو في
الكثير خائن بالأولى. وقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) استثناء مفرغ ، أي : لا يؤده إليك في حال من الأحوال
إلا ما دمت عليه قائما مطالبا له ، مضيقا عليه ، متقاضيا لردّه ، والإشارة بقوله :
ذلك ، إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله : (لا يُؤَدِّهِ). والأميون : هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب ، أي : ليس
علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا ، وادّعوا ـ لعنهم الله ـ أن ذلك في
كتابهم ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (وَيَقُولُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ـ بَلى) أي : بلى عليهم سبيل لكذبهم ، واستحلالهم أموال العرب ،
فقوله : (بَلى) إثبات لما نفوه من السبيل. قال الزجاج : تمّ الكلام
بقوله : (بَلى) ثم قال : (مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) وهذه جملة مستأنفة : أي : من أوفى بعهده واتقى فليس من
الكاذبين. أو فإن الله يحبه ، والضمير في قوله : (بِعَهْدِهِ) راجع إلى : من ، أو إلى : الله تعالى ، وعموم المتقين
قائم مقام العائد إلى : من ، أي : فإن الله يحبه. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللهِ) أي : يستبدلون ، كما تقدّم تحقيقه غير مرة. وعهد الله :
هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والأيمان : هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به
وينصرونه ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية : (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفة (لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي : لا نصيب (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ) بشيء أصلا ، كما يفيده حذف المتعلق من التعميم ، أو لا
يكلمهم بما يسرهم (وَلا يَنْظُرُ
إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) نظر رحمة ، بل يسخط عليهم ، ويعذبهم بذنوبهم ، كما
يفيده قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ).
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة في قوله : (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) قال : هذا من النصارى (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) قال : هذا من اليهود (إِلَّا ما دُمْتَ
عَلَيْهِ قائِماً) قال : إلا ما طلبته واتبعته. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير عن قتادة في قوله : (ذلِكَ
__________________
بِأَنَّهُمْ
قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال : قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب
سبيل. وأخرج ابن جرير عن السدّي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو
تحت قدميّ هاتين ، إلا الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر». وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن صعصعة : أنه سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في
الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال :
نقول ليس علينا في ذلك من بأس ، قال : هذا كما قال أهل الكتاب : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ) إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم إلا بطيب نفوسهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (بَلى مَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) يقول : اتقى الشرك (فَإِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يقول : الذين يتقون الشرك. وأخرج البخاري ، ومسلم ،
وأهل السنن ، وغيرهم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ
مسلم لقي الله وهو عليه غضبان». فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله كان ذلك ، كان
بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني ، فقدّمته إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألك بينة؟ قلت لا ، قال لليهودي : احلف ، فقلت : يا
رسول الله! إذن يحلف فيذهب مالي ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى آخر الآية». وقد روي : أن سبب نزول الآية : أن رجلا
كان يحلف بالسوق : لقد أعطي بسلعته ما لم يعط بها. وأخرجه البخاري وغيره. وروي أن
سبب نزولها : مخاصمة كانت بين الأشعث وامرئ القيس ورجل من حضرموت. وأخرجه النسائي
وغيره.
(وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))
أي : طائفة من
اليهود يلوون ، أي : يحرّفون ويعدلون به عن القصد ، وأصل الليّ : الميل ، يقول لوى
برأسه : إذا أماله. وقرئ : يلوّون بالتشديد ، ويلون بقلب الواو همزة ، ثم تخفيفها
بالحذف ، والضمير في قوله : (لِتَحْسَبُوهُ) يعود إلى ما دل عليه (يَلْوُونَ) وهو المحرف الذي جاءوا به. قوله : (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) جملة حالية ، وكذلك قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وكذلك قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي : أنهم كاذبون مفترون.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ) قال : هم اليهود ، كانوا يزيدون في الكتاب ما لم ينزل
الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال
: يحرّفونه.
(ما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ
لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا
يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ
أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))
أي : ما كان
ينبغي ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة. وفيه بيان من
الله سبحانه لعباده : أن النصارى افتروا على عيسى عليهالسلام ما لم يصح عنه ، ولا ينبغي أن يقوله. والحكم : الفهم
والعلم. قوله : (وَلكِنْ كُونُوا) أي : ولكن يقول النبي : كونوا ربانيين ، والرباني :
منسوب إلى الرب ، بزيادة الألف والنون للمبالغة ، كما يقال لعظيم اللحية : لحياني
، ولعظيم الجمة : جماني ، ولغليظ الرقبة : رقباني. قيل : الرباني : الذي يربي
الناس بصغار العلم قبل كباره ، فكأنه يقتدي بالربّ سبحانه في تيسير الأمور. وقال
المبرد : الربانيون : أرباب العلم ، واحدهم رباني ، من قوله : ربه ، يربه ، فهو
ربان : إذا دبره وأصلحه ، والياء للنسب ، فمعنى الرباني : العالم بدين الربّ ،
القويّ التمسك بطاعة الله ؛ وقيل : العالم الحكيم. قوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) أي : بسبب كونكم عالمين ، أي : كونوا ربانيين بهذا
السبب ، فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم
للعلم ، وقوة التمسك بطاعة الله. وقرأ ابن عباس وأهل الكوفة : «بما كنتم تعلّمون»
بالتشديد. وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف ، واختار القراءة بالتخفيف ،
واختار القراءة الأولى أبو عبيد. قال : لأنها لجمع المعنيين. قال مكي : التشديد
أبلغ لأن العالم قد يكون عالما غير معلم ، فالتشديد يدل على العلم والتعليم ،
والتخفيف إنما يدل على العلم فقط. واختار القراءة الثانية أبو حاتم. قال أبو عمرو
: وتصديقها : تدرسون بالتخفيف دون التشديد. انتهى. والحاصل : أن من قرأ بالتشديد
لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم ، وهو أن يكون مع ذلك مخلصا
أو حكيما أو حليما حتى تظهر السببية ؛ ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني
على العالم الذي يعلم الناس ، فيكون المعنى : كونوا معلمين بسبب كونكم علماء ،
وبسبب كونكم تدرسون العلم. وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم أن يعمل ، وإن من أعظم
العمل بالعلم تعليمه ، والإخلاص لله سبحانه. قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) بالنصب عطفا على (ثُمَّ يَقُولَ وَلا) مزيدة لتأكيد النفي ، أي : ليس له أن يأمر بعبادة نفسه
، ولا يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، بل ينتهي عنه ، ويجوز عطفه على أن
يؤتيه ، أي : ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ؛
وبالنصب قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وقرأ الباقون : بالرفع على الاستئناف
والقطع من الكلام الأوّل ، أي : ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة والنبيين
أربابا ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود : ولن يأمركم. والهمز في قوله : (أَيَأْمُرُكُمْ) لإنكار ما نفي عن البشر. وقوله : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) استدل به من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن
النبي صلىاللهعليهوسلم من المسلمين في أن يسجدوا له.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن
عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل
نجران عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد! أن نعبدك كما تعبد
النصارى عيسى؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ،
ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ، فأنزل الله في ذلك :
(ما كانَ لِبَشَرٍ) الآية». وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : بلغني أن
رجلا قال : يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : «لا
، ولكن أكرموا نبيّكم ، واعرفوا الحقّ لأهله ، فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون
الله ، فأنزل الله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) الآية». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله : (رَبَّانِيِّينَ) قال : فقهاء ، علماء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال :
حكماء ، علماء ، حلماء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : علماء ، فقهاء. وأخرج
ابن المنذر عن ابن مسعود قال : حكماء ، علماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي رزين في
قوله : (وَبِما كُنْتُمْ
تَدْرُسُونَ) قال : مذاكرة الفقه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن
ابن جريج في قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتَّخِذُوا) قال : ولا يأمرهم النبيّ.
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ (٨٢))
قد اختلف في
تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) فقال سعيد بن جبير ، وقتادة ، وطاوس ، والحسن ، والسدّي
: إنه أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدّق بعضهم بعضا بالإيمان ، ويأمر بعضهم بعضا
بذلك ، فهذا معنى النصرة له والإيمان به ، وهو ظاهر الآية ، فحاصله : أن الله أخذ
ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر وينصره ، وقال الكسائي : يجوز
أن يكون معنى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) بمعنى : وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين ، ويؤيده
قراءة ابن مسعود : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وقيل : في الكلام حذف. والمعنى : وإذ أخذ الله ميثاق
النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة ، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا ،
ودلّ على هذا الحذف قوله : (وَأَخَذْتُمْ عَلى
ذلِكُمْ إِصْرِي) وما في قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ) بمعنى الذي. قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) فقال ما بمعني الذي. قال النحاس : التقدير في قول
الخليل : الذي آتيتكموه ، ثم حذفت الهاء لطول الاسم ، واللام لام الابتداء ، بهذا
قال الأخفش ، وتكون : ما ، في محل رفع على الابتداء ، وخبرها : من كتاب وحكمة.
وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) وما بعده جملة معطوفة على الصلة ، والعائد محذوف ، أي :
مصدّق به. وقال المبرد والزجاج والكسائي : ما شرطية دخلت عليها لام التحقيق ، كما
تدخل على إن ، و (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق ، إذ هو بمنزلة
الاستحلاف كما تقول : أخذت ميثاقك لتفعلنّ كذا ، وهو سادّ مسدّ الجزاء. وقال
الكسائي : إن الجزاء قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى). وقال في الكشاف : إن اللام في قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ) لام التوطئة واللام في قوله : (لَتُؤْمِنُنَ) جواب القسم ، وما : يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط
، ولتؤمنن سادّ جواب القسم والشرط جميعا ، وأن تكون موصولة بمعنى : للذي آتيتكموه
لتؤمنن به. انتهى وقرأ حمزة : (لَما آتَيْتُكُمْ)
بكسر اللام ، وما بمعنى الذي ، وهي معلقة بأخذ. وقرأ أهل المدينة : آتيناكم
على التعظيم. وقرأ الباقون : (آتَيْتُكُمْ) على التوحيد ؛ وقيل : إن ما في قراءة من قرأ بكسر اللام
: مصدرية. ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول الله
مصدق لما معكم ، واللام لام التعليل : أي لأجل ذلك أخذ الله ميثاق الذين أوتوا
الكتاب لتؤمنن به. قوله : (أَقْرَرْتُمْ) هو من الإقرار. والإصر في اللغة : الثقل ، سمّي العهد
إصرا لما فيه من التشديد. والمعنى : وأخذتم على ذلك عهدي. قوله : (قالُوا أَقْرَرْنا) جملة استئنافية كأنه قيل : ماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل :
قالوا : أقررنا ، وإنما لم يذكر أحدهم الإصر اكتفاء بذلك. قوله : (قالَ فَاشْهَدُوا) أي : قال الله سبحانه فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضهم على بعض (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي : وأنا على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض من
الشاهدين. قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى) أي : أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : الخارجون عن الطاعة.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن
أصحاب عبد الله يقرءون : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم من
كتاب وحكمة ونحن نقرأ : ميثاق النبيين ، فقال ابن عباس : إنما أخذ الله ميثاق
النبيين على قومهم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عن طاوس في الآية ، قال : (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ) أن يصدق بعضهم بعضا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) قال : هي خطأ من الكتّاب ، وهي في قراءة ابن مسعود (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وأخرج ابن جرير عن عليّ قال : لم يبعث الله نبيا آدم
فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد : لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنه ،
ويأمره فيأخذ العهد على قومه ، ثم تلا : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في
الآية نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير من
طريق العوفي عنه في قوله : (إِصْرِي) قال : عهدي. وأخرج ابن جرير عن عليّ في قوله : (قالَ فَاشْهَدُوا) يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عليكم وعليهم (فَمَنْ تَوَلَّى) عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) هم العاصون في الكفر.
(أَفَغَيْرَ دِينِ
اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً
وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ (٨٥))
قوله : (أَفَغَيْرَ) عطف على مقدّر ، أي : أتتولون فتبغون غير دين الله ، وتقديم
المفعول : لأنه المقصود بالإنكار. وقرأ أبو عمرو وحده (يَبْغُونَ) بالتحتية وترجعون بالفوقية ، قال : لأن الأوّل خاص
والثاني عام ، ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى. وقرأ حفص بالتحتية في الموضعين.
وقرأ الباقون : بالفوقية
فيهما ، وانتصب : طوعا وكرها ، على الحال ، أي : طائعين ومكرهين. والطوع :
الانقياد والاتباع بسهولة ، والكره : ما فيه مشقة ، وهو من أسلم مخافة القتل ،
وإسلامه استسلام منه. قوله : (آمَنَّا) إخبار منه صلىاللهعليهوسلم عن نفسه وعن أمته (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْهُمْ) كما فرّقت اليهود والنصارى ، فآمنوا ببعض ، وكفروا
ببعض. وقد تقدّم تفسير هذه الآية. (وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ) أي : منقادون مخلصون. قوله : (دِيناً) مفعول للفعل ، أي : يبتغ دينا حال كونه غير الإسلام ،
ويجوز أن ينتصب : غير الإسلام ، على أنه مفعول الفعل ، ودينا : إما تمييز ، أو حال
، إذا أوّل بالمشتق ، أو بدل من : غير. قوله : (وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) إما في محل نصب على الحال ، أو جملة مستأنفة ، أي : من
الواقعين في الخسران يوم القيامة.
وقد أخرج
الطبراني بسند ضعيف عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : أما من في السموات : فالملائكة ، وأما من في
الأرض : فمن ولد على الإسلام ، وأما كرها : فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل
والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون. وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الآية : «الملائكة أطاعوه في السّماء ، والأنصار ،
وعبد القيس أطاعوه في الأرض». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية : (أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) حين أخذ عليهم الميثاق. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله
: (وَلَهُ أَسْلَمَ) قال : المعرفة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : أما المؤمن : فأسلم طائعا ، فنفعه ذلك وقبل منه
، وأما الكافر : فأسلم حين رأى بأس الله ، فلم ينفعه ذلك ، ولم يقبل منه (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ
لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا). وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من ساء خلقه من الرقيق والدوابّ والصبيان فاقرؤوا في
أذنه : (أَفَغَيْرَ دِينِ
اللهِ يَبْغُونَ)». وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة عن يونس بن
عبيد قال : ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقرأ في أذنها : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) الآية ، إلا ذلت بإذن الله عزوجل. وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصّلاة فتقول : يا
ربّ! أنا الصّلاة ، فيقول : إنك على خير ، وتجيء الصّدقة فتقول : يا ربّ! أنا
الصدقة ، فيقول : إنك على خير ، ويجيء الصّيام فيقول : أنا الصيام ، فيقول : إنّك
على خير ، ثم تجيء الأعمال ، كل ذلك يقول الله : إنك على خير ، ثم يجيء الإسلام
فيقول : يا ربّ! أنت السّلام وأنا الإسلام ، فيقول : إنك على خير ، بك اليوم آخذ
وبك أعطي ، قال الله تعالى في كتابه : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ)».
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ
وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ
ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ
(٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ
أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))
قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) هذا الاستفهام معناه : الجحد ، أي : لا يهدي الله ،
ونظيره : قوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ) أي : لا عهد لهم ، ومثله قول الشاعر :
كيف نومي على
الفراش ولمّا
|
|
تشمل الشّام غارة شعواء
|
أي : لا نوم
لي. ومعنى الآية : لا يهدي الله قوما إلى الحق كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا
أن الرسول حق ، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) جملة حالية ، أي : كيف يهدي المرتدّين ، والحال أنه لا
يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم ، ومنهم الباقون على الكفر؟ ولا ريب أن ذنب
المرتدّ أشدّ من ذنب من هو باق على الكفر ، لأن المرتدّ قد عرف الحق ثم أعرض عنادا
وتمرّدا. قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة ، وهو :
مبتدأ ، خبره : الجملة التي بعده. وقد تقدّم تفسير اللعن. وقوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) معناه : يؤخرون ويمهلون. ثم استثنى التائبين ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ) ، أي : من بعد الارتداد (وَأَصْلَحُوا) بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردّة. وفيه دليل
: على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام ، مخلصا ، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ.
قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً). قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن : نزلت في اليهود
والنصارى ، كفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) بإقامتهم على كفرهم ؛ وقيل : ازدادوا كفرا بالذنوب التي
اكتسبوها ، ورجحه ابن جرير الطبري ، وجعلها في اليهود خاصة. وقد استشكل جماعة من
المفسرين قوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ) مع كون التوبة مقبولة في الآية الأولى وكما في قوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) غير ذلك ؛ فقيل : المعنى : لن تقبل توبتهم عند الموت.
قال النحاس : وهذا قول حسن ، كما قال تعالى : (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) وبه قال الحسن ، وقتادة ، وعطاء ، ومنه الحديث : «إن
الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ؛ وقيل : المعنى : لن تقبل توبتهم التي كانوا
عليها قبل أن يكفروا ، لأن الكفر أحبطها ، وقيل : لن تقبل توبتهم إذا تابوا من
كفرهم إلى كفر آخر ، والأولى : أن يحمل عدم قبول توبتهم في هذه الآية على من مات
كافرا غير تائب ، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة ، وتكون الآية
المذكورة بعد هذه الآية ، وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) في حكم البيان لها. قوله : (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) الملء بالكسر : مقدار ما يملأ الشيء ، والملء بالفتح :
مصدر ملأت الشيء ، وذهبا : تمييز ، قاله الفراء وغيره. وقال الكسائي : نصب
__________________
على إضمار : من ذهب. كقوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ
صِياماً) أي : من صيام. وقرأ الأعمش : ذهب بالرفع على أنه بدل من
: ملء ، والواو في قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) قيل : هي مقحمة زائدة ، والمعنى : لو افتدى به ؛ وقيل :
فيه حمل على الغنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ؛
وقيل : هو عطف على مقدر ؛ أي : لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تصدق به في
الدنيا ، ولو افتدى به من العذاب ، أي : بمثله.
وقد أخرج
النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في
سننه عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين ، ثم ندم
فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم هل لي من توبة؟ فنزلت : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأرسل إليه قومه فأسلم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ،
وابن المنذر عن مجاهد نحوه ، وقال : هو الحارث بن سويد. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير عن السدي نحوه ، وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه أيضا. وقد
روي عن جماعة نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن
عباس في قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ
قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) قال : هم أهل الكتاب من اليهود ، عرفوا محمدا ، ثم
كفروا به. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الحسن قال : هم أهل
الكتاب من اليهود والنصارى ، وذكر نحو ما تقدّم عنه. وأخرج البزار عن ابن عباس :
أن قوما أسلموا ، ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال السيوطي : هذا خطأ من البزار. وأخرج ابن جرير عن
الحسن في الآية قال : اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هم اليهود كفروا
بالإنجيل وعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عن أبي العالية في الآية قال : إنما نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بعد إيمانهم
، ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم ، ولو
كانوا على الهدى قبلت توبتهم ، ولكنهم على الضلالة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير
عن مجاهد في قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) قال : نموا على كفرهم. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله
: (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) قال : ماتوا وهم كفار (لَنْ تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ) قال : إذا تاب عند موته لم تقبل توبته. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) قال : تابوا من الذنوب ؛ ولم يتوبوا من الأصل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن الحسن في قوله : (وَماتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ) قال : هو كل كافر. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن
أنس ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان
ملء الأرض ذهبا ، أكنت مفتديا به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : لقد سئلت ما هو أيسر
من ذلك ، فذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) الآية.
__________________
(لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))
هذا كلام
مستأنف ، خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار. قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) يقال : نالني من فلان معروف ينالني ، أي : وصل إليّ ،
والنوال : العطاء ، من قولك : نولته تنويلا ، أعطيته. والبرّ : العمل الصالح ،
وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمر بن ميمون ، والسدّي : هو
الجنة ، فمعنى الآية : لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة ، أي : تصلوا إلى ذلك ،
وتبلغوا إليه حتى تنفقوا مما تحبون ، أي : حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي
تحبونها ، ومن تبعيضية ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : حتّى تنفقوا بعض ما تحبّون وقيل
: بيانية وما موصولة ، أو موصوفة ، والمراد : النفقة في سبيل الخير ، من صدقة ، أو
غيرها من الطاعات ؛ وقيل المراد : الزكاة المفروضة. وقوله : (مِنْ شَيْءٍ) بيان لقوله : (ما تُنْفِقُوا) أي : ما تنفقوا من أي شيء سواء كان طيبا أو خبيثا (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) وما : شرطية جازمة. وقوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) تعليل لجواب الشرط واقع موقعه.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس «أنّ أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله! إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ،
وإنها صدقة» الحديث. وقد روي بألفاظ. وأخرج عبد بن حميد ، والبزار عن ابن عمر قال
: حضرتني هذه الآية : (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئا أحبّ إلي من
مرجانة ، جارية لي رومية ، فقلت : هي حرّة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته
لله لنكحتها ، فأنكحتها نافعا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عمر بن الخطاب
أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء ، فدعا بها عمر
فقال : إن الله يقول : (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فأعتقها عمر. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد ابن حميد ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم : إنها لما نزلت الآية ، جاء زيد بن حارثة بفرس له
يقال لها : سبل ، لم يكن له مال أحبّ إليه منها ، فقال : هي صدقة. وأخرج ابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ) قال : الجنة. وأخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون والسدي
مثله. وأخرج ابن المنذر عن مسروق مثله.
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ
حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))
قوله : (كُلُّ الطَّعامِ) أي : المطعوم ، والحلّ : مصدر يستوي فيه المفرد والجمع
والمذكر والمؤنث ، وهو الحلال ، وإسرائيل : هو يعقوب ، كما تقدم تحقيقه. ومعنى
الآية : أن كل المطعومات كانت حلالا لبني يعقوب ، لم يحرّم عليهم شيء منها إلا ما
حرم إسرائيل على نفسه. وسيأتي بيان ما هو الذي حرمه على نفسه ،
وهذا الاستثناء متصل من اسم كان. وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) متعلق بقوله : (كانَ حِلًّا) أي : أن كل المطعومات كانت حلالا (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : كان ما عدا المستثنى حلالا لهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم ، وفيه ردّ على
اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلىاللهعليهوسلم ، من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم وبغيهم ، كما
في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) . الآية. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) إلى قوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ
بِبَغْيِهِمْ) وقالوا : إنها محرّمة على من قبلهم من الأنبياء ،
يريدون بذلك تكذيب ما قصة الله على نبينا صلىاللهعليهوسلم في كتابه العزيز ، ثم أمره سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم ،
ويجعل بينه وبينهم حكما ما أنزله عليهم ، لا ما أنزل عليه فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حتى تعلموا صدق ما قصه الله في القرآن ، من أنه لم
يحرّم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه. وفي
هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، ثم قال : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد إحضار التوراة وتلاوتها (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : المفرطون في الظلم المتبالغون فيه ، فإنه لا أظلم
ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعا صحيحا ، ثم جادل من بعد ذلك مفتريا على الله
الكذب ؛ ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلا
مدفوعا ، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدقته التوراة صحيحا صادقا ، وكان
ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه ، أمر الله سبحانه نبيه صلىاللهعليهوسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب ، فقال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) أي : ملة الإسلام التي أنا عليها ، وقد تقدم بيان معنى
الحنيف ، وكأنه قال لهم : إذا تبين لكم صدقي ، وصدق ما جئت به ، فادخلوا في ديني ،
فإن من جملة ما أنزله الله عليّ : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) .
وقد أخرج
الترمذي وحسنه عن ابن عباس «أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : فأخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال : كان يسكن
البدو ، فاشتكى عرق النّسا ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها ،
فلذلك حرّمها ، قالوا : صدقت» وذكر الحديث. وأخرجه أيضا أحمد ، والنسائي. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن
عباس في الآية قال : العرق أجده عرق النساء ، فكان يبيت له زق ، يعني : صياح ،
فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحما فيه عرق ، فحرمته اليهود. وأخرج البخاري في
تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قوله : ما أخرجه الترمذي
سابقا عنه مرفوعا. وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة
عن ابن عباس أنه كان يقول : الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد ، والكليتان ،
والشحم ، إلا ما كان على الظهر. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه
قال : قالت اليهود للنبي صلىاللهعليهوسلم نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل ، فقال الله
لمحمد صلىاللهعليهوسلم (قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وكذبوا ليس في التوراة.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ
آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ
__________________
وَمَنْ
دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))
هذا شروع في
بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن بيت المقدس
أفضل وأعظم من الكعبة ، لكونه : مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة. فرد الله ذلك
عليهم بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ) الآية ، فقوله : (وُضِعَ) صفة لبيت ، وخبر إن : قوله : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) فنبه تعالى بكونه : أول متعبد على أنه أفضل من غيره ،
وقد اختلف في الباني في الابتداء : فقيل : الملائكة ، وقيل : آدم ، وقيل : إبراهيم
، ويجمع بين ذلك : بأول من بناه الملائكة ، جدده آدم ، ثم إبراهيم. وبكة : علم
للبلد الحرام ، وكذا مكة ، وهما لغتان ، وقيل : إن بكة : اسم لموضع البيت ، ومكة :
اسم للبلد الحرام ؛ وقيل : بكة : للمسجد ، ومكة : للحرم كله ؛ قيل : سميت بكة
لازدحام الناس في الطواف ، يقال : بك القوم : ازدحموا ؛ وقيل : البك : دق العنق ،
سميت بذلك لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة. وأما تسميتها : بمكة ، فقيل : سميت بذلك
: لقلة ما بها ؛ وقيل : لأنها تمك المخ من العظم ، بما ينال ساكنها من المشقة ،
ومنه مككت العظم : إذا أخرجت ما فيه ، وأمكته : إذا امتصه ، وقيل : سميت بذلك :
لأنها تمك من ظلم فيها ، أي : تهلكه. قوله : (مُبارَكاً) حال من الضمير في وضع ، أو من متعلق الظرف ، لأن
التقدير : للذي استقر ببكة مباركا ، والبركة : كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو
يقصده ، أي : الثواب المتضاعف. والآيات البينات : الواضحات ، منها : الصفا والمروة
، ومنها : أثر القدم في الصخرة الصماء ، ومنها : أن الغيث إذا كان بناحية الركن
اليماني كان الخصب في اليمن ، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عمّ
البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها : انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في
جميع الأزمان ، ومنها : هلاك من يقصده من الجبابرة وغير ذلك. وقوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) بدل من آيات ، قاله محمد بن يزيد المبرد. وقال في
الكشاف : إنه عطف بيان. وقال الأخفش : إنه مبتدأ ، وخبره : محذوف ، والتقدير :
منها مقام إبراهيم ؛ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي مقام إبراهيم ، وقد
استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات ـ وهي جمع ـ : بالمقام ـ وهو فرد ـ وأجاب : بأن
المقام جعل وحده بمنزلة آيات ، لقوّة شأنه ، أو : بأنه مشتمل على آيات. قال :
ويجوز أن يراد (فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ) مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأن الاثنين نوع من
الجمع. قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) جملة مستأنفة ، لبيان حكم من أحكام الحرم ، وهو : أن من
دخله كان آمنا. وبه استدل من قال : إن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حدّ من
الحدود فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه ،
وخالفه الجمهور ، فقالوا : تقام عليه الحدود في الحرم. وقد قال جماعة : إن الآية
خبر في معنى الأمر ، أي : ومن دخله فأمنوه كقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا
فُسُوقَ وَلا جِدالَ) أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا. قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ) اللام في قوله : (لِلَّهِ) هي التي يقال لها : لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا
المعنى تأكيدا حرف (عَلَى) ، فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب
__________________
عند العرب ، كما إذا قال القائل : لفلان عليّ كذا ، فذكر الله سبحانه الحج
بأبلغ ما يدل على الوجوب ، تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته ، وهذا الخطاب شامل لجميع
الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل ، كالصبي والعبد. وقوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس. وبه قال أكثر
النحويين. وأجاز الكسائي : أن يكون في موضع رفع بحج. والتقدير : أن يحج البيت من
استطاع إليه سبيلا ؛ وقيل : إن : من ، حرف شرط ، والجزاء محذوف ، أي : من استطاع
إليه سبيلا فعليه الحج ، وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل : الزاد
والراحلة ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم ، وهو
الحق. قال مالك : إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج ، وإن لم يكن له زاد وراحلة ،
إذا كان يقدر على التكسب ، وبه قال عبد الله بن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة. وقال
الضحاك : إن كان شابا قويا صحيحا وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ،
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولا أوليا : أن تكون الطريق إلى الحج آمنة ، بحيث
يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زادا غيره ، أما لو كانت غير آمنة فلا
استطاعة ، لأن الله سبحانه يقول : (مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلا بلا
شك ولا شبهة. وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض
الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج ؛ فقال الشافعي : لا يعطي حبة ، ويسقط عنه فرض
الحج ، ووافقه جماعة ، وخالفه آخرون. والظاهر : أن من تمكن من الزاد والراحلة ،
وكانت الطريق آمنة ، بحيث يتمكن من مرورها ، ولو بمصانعة بعض الظلمة لدفع شيء من
المال ، يتمكن منه الحاج ، ولا ينقص من زاده ولا يجحف به ، فالحج غير ساقط عنه ،
بل واجب عليه ، لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال ، ولكنه يكون هذا المال
المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة ، فلو وجد الرجل زادا وراحلة ولم
يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلا
، وهذا لا بد منه ، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر
المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون ،
ولعل وجه قول الشافعي إنه سقط الحج : أن أخذ هذا المكس منكر ، فلا يجب على الحاج
أن يدخل في منكر ، وأنه بذلك غير مستطيع. ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة : أن يكون
الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب ، فلو كان زمنا بحيث لا يقدر على المشي ،
ولا على الركوب ، فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطيع السبيل. قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعالَمِينَ) قيل : إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج ، تأكيدا لوجوبه
، وتشديدا على تاركه ؛ وقيل : المعنى : ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا ، وقيل :
إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر ، وفي قوله : (فَإِنَّ اللهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة ، وخذلانه ،
وبعده من الله سبحانه ، ما يتعاظمه سامعه ، ويرجف له قلبه ، فإن الله سبحانه إنما
شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم ، وهو تعالى شأنه ، وتقدس سلطانه ، غني لا
تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.
وقد أخرج ابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) الآية ، قال :
كانت البيوت قبله ، ولكنه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله. وأخرج البخاري ،
ومسلم ، وغيرهما عن أبي ذر قال : «قلت يا رسول الله! أيّ مسجد وضع أوّل؟ قال :
المسجد الحرام ، قلت : ثم أيّ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما؟ قال :
أربعون سنة». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن
ابن عمر ، قال : «خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، وكان إذ كان عرشه على
الماء زبدة بيضاء ، وكانت الأرض تحته كأنّها حشفة دحيت الأرض من تحته». وأخرج نحوه
ابن المنذر عن أبي هريرة. وأخرج ابن المنذر ، والأزرقي عن ابن جريج قال : بلغنا أن
اليهود قالت : بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ، ولأنه في الأرض المقدسة
، فقال المسلمون : بل الكعبة أعظم ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فنزلت : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) الآية إلى قوله : (فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) وليس ذلك في بيت المقدس (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) وليس ذلك في بيت المقدس (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وليس ذلك في بيت المقدس. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن
جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال : إنما سميت : بكة ، لأن الناس
يجيئون إليها من كل جانب حجاجا. وروى سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والبيهقي عن
مجاهد : إنما سميت : بكة ، لأن الناس يتباكون فيها ، أي : يزدحمون. وأخرج ابن أبي
حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله : (مُبارَكاً) قال : جعل فيه الخير والبركة : (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) يعني : بالهدى قبلتهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
من طريق العوفي عن ابن عباس : (فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ) فمنهن : مقام إبراهيم والمشعر. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير عن الحسن في قوله : (فِيهِ آياتٌ
بَيِّناتٌ) قال : مقام إبراهيم (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وأخرج الأزرقي عن زيد بن أسلم نحوه. وأخرج عبد بن حميد
، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال : كان هذا في الجاهلية ، كان الرجل لو جر كل جريرة
على نفسه ، ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب ، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع
من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحدّ ، ومن قتل فيه قتل.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والأزرقي عن عمر بن الخطاب قال : لو وجدت فيه
قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ
آمِناً) قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ، ولا
يطعم ، ولا يسقى ، فإذا خرج أخذ بذنبه. وقد روي عنه هذا المعنى من طرق. وأخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير عنه قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أعرض له. وأخرج ابن
جرير عن ابن عمر قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته. وأخرج الشيخان ،
وغيرهما عن أبي شريح العدوي قال : قام النبي صلىاللهعليهوسلم الغد من يوم الفتح فقال : «إن مكة حرّمها الله ولم
يحرّمها الناس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد
بها شجرة ، فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقولوا : إنّ الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنّما
أذن لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كحرمتها أمس». وأخرج الدارقطني ، والحاكم ،
وصححه عن أنس «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) فقيل : ما السبيل؟ قال : الزّاد والرّاحلة».
وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي ،
وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن مردويه ،
والبيهقي في سننه عن ابن عمر مرفوعا : أنه قام رجل فقال : ما السبيل؟ فقال : الزاد
والراحلة. وأخرج الدارقطني ، والبيهقي في سننهما من طريق الحسن عن أمه عن عائشة
قالت : «سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما السّبيل إلى الحجّ؟ قال : الزّاد والرّاحلة». وأخرج
الدارقطني في سننه عن ابن مسعود مرفوعا مثله. وأخرج الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جدّه مرفوعا مثله. وأخرج الدارقطني عن جابر مرفوعا مثله. وقد روي هذا
الحديث من طرق أقلّ أحواله أن يكون حسنا لغيره ، فلا يضره ما وقع من الكلام على
بعض طرقه كما هو معروف. وأخرج الدارقطني عن علي مرفوعا في الآية : «أنه سئل النبيّ
صلىاللهعليهوسلم فقال : تجد ظهر بعير». وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير
عن عمر بن الخطاب في قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال : الزاد والراحلة. وأخرجا عن ابن عباس مثله. وأخرجه
عنه مرفوعا ابن ماجة ، والطبراني ، وابن مردويه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ،
والبيهقي عنه قال : السبيل : أن يصح بدن العبد ، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير
أن يجحف به. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد عنه قال : (سَبِيلاً) من وجد إليه سعة ، ولم يحل بينه وبينه. وأخرج ابن أبي
شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال :
الاستطاعة : القوّة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن النخعي قال : إن
المحرم للمرأة من السبيل الذي قال الله. وقد ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم : النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي محرم. واختلفت
الأحاديث في قدر المدة ؛ ففي لفظ ثلاثة أيام ، وفي لفظ يوم وليلة ، وفي لفظ بريد.
وقد وردت
أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زادا وراحلة ولم يحج. فأخرج الترمذي ، وابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من ملك زادا وراحلة تبلّغه إلى بيت الله ولم يحجّ
بيت الله فلا عليه بأن يموت يهوديا أو نصرانيا» وذلك بأن الله يقول : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). وفي إسناده هلال الخراساني ، أو هاشم. قال البخاري :
منكر الحديث. وقيل مجهول. وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ ، وفي إسناده أيضا
الحارث الأعور وفيه ضعف. وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد في كتاب الإيمان ، وأبو يعلى
، والبيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من مات ولم يحجّ حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو
سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أيّ حال شاء يهوديا أو نصرانيا». وأخرج ابن
أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط مرفوعا مرسلا مثله. وأخرج سعيد بن منصور ، قال
السيوطي : بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه
الأمصار ، فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين
ما هم بمسلمين. وأخرج الإسماعيلي عنه يقول : «من أطاق الحجّ ، فسواء عليه يهوديا
مات أو نصرانيا» قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده : وهذا إسناد صحيح. وأخرج سعيد بن
منصور ، وابن أبي شيبة عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي
حاتم عن ابن عمر : «من مات وهو موسر ، ولم يحجّ ، جاء يوم القيامة وبين عينيه
مكتوب كافر».
وأخرج سعيد بن منصور عنه «من وجد إلى الحجّ سبيلا سنة ثم سنة ثم سنة ، ثم
مات ولم يحجّ ، لم يصلّ عليه ولا يدرى مات يهوديا أو نصرانيا». وأخرج سعيد بن
منصور عن عمر بن الخطاب قال : لو ترك النّاس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على
الصّلاة والزكاة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) قال : من زعم أنه ليس بفرض عليه. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال : من كفر
بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن عكرمة قال : لما نزلت (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً) قالت اليهود : فنحن مسلمون ، فقال لهم النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله فرض على المسلمين حجّ البيت ، فقالوا : لم
يكتب علينا ، وأبوا أن يحجّوا ، قال الله (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج
سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك قال : «لمّا
نزلت آية الحج (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية ، جمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس
والصابئين فقال : إن الله فرض عليكم الحج فحجوا البيت ، فلم يقبله إلا المسلمون ،
وكفرت به خمس ملل ، قالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلّي إليه ، ولا نستقبله ، فأنزل
الله : (وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). وأخرج عبد ابن حميد ، والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن أبي داود نفيع قال : «قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية فقام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله! من تركه
كفر؟ فقال : من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حجّ لا يرجو ثوابه فهو ذاك». وأخرج ابن
جرير عن عطاء بن أبي رباح في الآية قال : من كفر بالبيت. وأخرج ابن جرير ، وابن
أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قول الله : (مَنْ كَفَرَ) قال : من كفر بالله واليوم الآخر. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير عن مجاهد مثله من قوله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه سئل عن ذلك ،
فقرأ : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ) إلى قوله : (سَبِيلاً) ثم قال : (وَمَنْ كَفَرَ) بهذه الآيات. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في الآية
قال : (وَمَنْ كَفَرَ) فلم يؤمن به : فهو الكافر.
(قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ
(٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ
تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ
تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ
يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ
عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))
قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى ، والاستفهام في قوله : (لِمَ تَكْفُرُونَ) : للإنكار والتوبيخ. وقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) جملة حالية ، مؤكدة للتوبيخ والإنكار ، وهكذا المجيء
بصيغة المبالغة في : شهيد ، يفيد مزيد التشديد والتهويل ، والاستفهام في قوله : (لِمَ تَصُدُّونَ) يفيد ما أفاده الاستفهام الأول. وقرأ الحسن : تصدون من
أصد ، وهما لغتان : مثل : صد اللحم ، وأصد : إذا تغير وأنتن ، وسبيل الله : دينه
الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، والعوج : الميل والزيغ ، يقال : عوج
بالكسر : إذا كان في الدين والقول والعمل ، وبالفتح : في الأجسام كالجدار ونحوه ،
روي ذلك عن أبي عبيدة ، وغيره ، ومحل قوله : (تَبْغُونَها عِوَجاً) النصب على الحال. والمعنى : تطلبون لها اعوجاجا ، وميلا
عن القصد والاستقامة ، بإبهامكم على الناس بأنها كذلك ، تثقيفا لتحريفكم ، وتقويما
لدعاويكم الباطلة : وقوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) جملة حالية ، أي : كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها
دين الله الذي لا يقبل غيره كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم؟ قيل :
إن في التوراة : أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام ، وأن فيه نعت محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : المراد (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي : عقلاء ؛ وقيل : المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم
، مقبولون عندهم ، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟ ثم
توعدهم سبحانه بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذرا لهم عن طاعة اليهود
والنصارى ، مبينا لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين ،
وسيأتي بيان سبب نزول الآية. والاستفهام في قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) للإنكار ، أي : من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه
ويقطع أثره ، وهو تلاوة آيات الله عليكم وكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أظهركم؟ ومحل قوله : (وَأَنْتُمْ) وما بعده : النصب على الحال. ثم أرشدهم إلى الاعتصام
بالله ، ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي هو الإسلام ، وفي وصف
الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادعوه من العوج. قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا
الخطاب لأصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم خاصة ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان فيهم وهم يشاهدونه ، ويجوز أن يكون هذا الخطاب
لجميع الأمة ، لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا ، فكأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فينا وإن لم نشاهد. انتهى. ومعنى الاعتصام بالله :
التمسك بدينه وطاعته ، وقيل : بالقرآن ، يقال : اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك :
إذا امتنع به من غيره ، وعصمه الطعام : منع الجوع منه. قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي : التقوى التي تحق له ، وهي : أن لا يترك العبد شيئا
مما يلزمه فعله ، ولا يفعل شيئا مما يلزمه تركه ، ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه. قال
القرطبي : ذكر المفسرون : أنها لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله! من يقوى
على هذا؟ وشق عليهم ذلك ، فأنزل الله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت هذه الآية. روي ذلك عن قتادة ، والربيع ، وابن
زيد. قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا. وقيل : إنّ قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) مبين بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) والمعنى : اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم. قال : وهذا
أصوب ، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع ، والجمع ممكن ، فهو أولى. قوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) أي : لا تكونن على حال
__________________
سوى حال الإسلام ، فالاستثناء مفرغ ، ومحل الجملة : أعني قوله : (وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : النصب على الحال ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية.
قوله : (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) الحبل لفظ مشترك ، وأصله في اللغة : السبب الذي يتوصل
به إلى البغية ، وهو إما تمثيل ، أو استعارة. أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك
بدين الإسلام أو بالقرآن ، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين ، ثم
أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم ، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو
أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا ، فأصبحوا بسبب هذه
النعمة إخوانا ، وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر ، فأنقذهم
الله من هذه الحفرة بالإسلام. ومعنى قوله : (فَأَصْبَحْتُمْ) صرتم ، وليس المراد به : معناه الأصلي ، وهو : الدخول
في وقت الصباح ، وشفا كل شيء : حرفه ، وكذلك شفيره ، وأشفى على الشيء : أشرف عليه
، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية. وقوله : (كَذلِكَ) إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده ، أي : مثل ذلك البيان
البليغ يبين الله لكم. وقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى والازدياد منه.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال
: مر شاس بن قيس ـ وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ،
شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الأوس والخزرج في مجلس ، قد جمعهم يتحدثون فيه.
فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان
بينهم من العداوة في الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها
من قرار ، فأمر فتى شابا معه من يهود ، فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم ذكرهم
يوم بعاث ، وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار ، وكان
يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، ففعل
، فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على
الركب : أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من
الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة ،
وغضب الفريقان جميعا وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة ،
والظاهرة : الحرة ، فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى
بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى
جاءهم فقال : يا معشر المسلمين! الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد
إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستقذكم
به من الكفر ، وألّف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ، فعرف القوم أنها
نزغة من
__________________
الشيطان ، وكيد من عدوّهم لهم ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا ، وعانق
الرجال بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ،
وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) إلى قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ
عَمَّا تَعْمَلُونَ) وأنزل في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ، ومن كان معهما
من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلى قوله : (وَأُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة من طرق. وأخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) قال : كانوا إذا سألهم أحد تجدون محمدا؟ قالوا : لا ،
قال : فصدوا الناس عنه ، وبغوا محمدا ، عوجا : هلاكا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير عن قتادة : لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله من آمن بالله وأنتم شهداء فيما
تقرؤون من كتاب الله أن محمدا رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره
ولا يجزى إلا به يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل؟ وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ
بِاللهِ) قال : يؤمن به. وأخرجوا عن أبي العالية قال : الاعتصام
: الثقة بالله. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه عن ابن
مسعود في قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ) قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا
يكفر. وقد رواه الحاكم ، وصححه ، وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا بدون قوله :
ويشكر فلا يكفر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ
تُقاتِهِ) : أن يطاع فلا يعصى ، فلم يستطيعوا ، فأنزل الله بعد
ذلك : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن
سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) قال : لم تنسخ ولكن حق تقاته : أن يجاهدوا في الله حق
جهاده ، ولا يأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم
وأبنائهم. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
والطبراني ، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) قال : حبل الله : القرآن. وقد وردت أحاديث أن كتاب الله
هو حبل الله الممدود. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال :
واعتصموا بحبل الله : بالإخلاص لله وحده. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال :
بطاعته. وأخرج أيضا عن قتادة قال : بعهده وأمره. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : بالإسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) قال : ما كان بين الأوس والخزرج في شأن عائشة. وأخرج
ابن إسحاق قال : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام
فأطفأ الله ذلك وألف بينهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) يقول : كنتم على طرف النار ، من مات منكم وقع في النار
، فبعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة.
__________________
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا
الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
(١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))
قوله : (وَلْتَكُنْ) قرأه الجمهور : بإسكان اللام ، وقرئ : بكسر اللام ، على
الأصل ، ومن في قوله : (مِنْكُمْ) للتبعيض ، وقيل : لبيان الجنس. ورجح الأوّل : بأن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ، يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون
ما يأمرون به : معروفا ، وينهون عنه : منكرا. قال القرطبي : الأوّل أصح ، فإنه يدل
على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية ، وقد عينهم الله سبحانه
بقوله : (الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) الآية. وقرأ ابن الزبير : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ) ويستعينون بالله على ما أصابهم. قال أبو بكر بن الأنباري
: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه ، غلط فيه بعض الناقلين ،
فألحقه بألفاظ القرآن. وقد روي : أن عثمان قرأها كذلك ، ولكن لم يكتبها في مصحفه ،
فدل على أنها ليست بقرآن. وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل
عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها. وقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) من باب عطف الخاص على العام ، إظهارا لشرفهما ، وأنهما
الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه ، كما قيل في عطف
جبريل وميكائيل على الملائكة ، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة : أي : يدعون ، ويأمرون
، وينهون : لقصد التعميم ، أي : كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك ، والإشارة في قوله :
(وَأُولئِكَ) ترجع إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : المختصون بالفلاح ، وتعريف المفلحين : للعهد ، أو
: للحقيقة التي يعرفها كل أحد. قوله : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين ؛ وقيل : هم
المبتدعة من هذه الأمة ، وقيل : الحرورية ، والظاهر الأول. والبينات : الآيات
الواضحة ، المبينة للحق ، الموجبة لعدم الاختلاف. قيل : وهذا النهي عن التفرق
والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية ؛ وأما المسائل الفروعية الاجتهادية فالاختلاف
فيها جائز ، وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين في أحكام
الحوادث ، وفيه نظر ، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجودا ، وتخصيص
بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب ، فالمسائل
الشرعية متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع. وقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) منتصب بفعل مضمر ، أي : اذكر ؛ وقيل : بما يدل عليه
قوله : (لَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ) فإن تقديره : استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه ، أي :
يوم القيامة ، حين يبعثون
__________________
من قبورهم ، تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال : إن
ذلك عند قراءة الكتاب ، إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته فاستبشر وابيضّ وجهه ،
وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته فحزن واسودّ وجهه ، والتنكير في وجوه : للتكثير
، أي : وجوه كثيرة. وقرأ يحيى بن وثّاب : تبيض وتسود : بكسر التاءين. وقرأ الزهري
: تبياض وتسواد. قوله : (أَكَفَرْتُمْ) أي : فيقال لهم : أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجب من
حالهم ، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال ، وقدم بيان حال الكافرين لكون
المقام مقام تحذير وترهيب ؛ قيل : هم أهل الكتاب ؛ وقيل : المرتدون ؛ وقيل :
المنافقون ؛ وقيل : المبتدعون. قوله : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) أي : في جنته ودار كرامته ، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة
إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة ، بل لا بد من الرحمة ، ومنه حديث : «لن
يدخل أحد الجنة بعمله» وهو في الصحيح. وقوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) جملة استئنافية ، جواب سؤال مقدر. وتلك : إشارة إلى ما
تقدم من تعذيب الكافرين ، وتنعيم المؤمنين. وقوله : (نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِ) جملة حالية ، وبالحق متعلق بمحذوف ، أي : متلبسة بالحق
وهو العدل. وقوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها ، وفي توجه النفي
إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فردا من أفراد الظلم
الواقعة على فرد من أفراد العالم. والمراد بما في السموات وما في الأرض : مخلوقاته
سبحانه ، أي : له ذلك ، يتصرف فيه كيف يشاء ، وعلى ما يريد ، وعبر بما تغليبا لغير
العقلاء لكثرتهم ، أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم. قال المهدوي : وجه اتصال هذا
بما قبله : أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ، وأنه لا يريد ظلما للعالمين ،
وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم ، لكون ما في السموات وما في الأرض في قبضته
وقيل : هو ابتداء كلام يتضمن البيان بأن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى
يسألوه ويعبدوه ، ولا يعبدوا غيره. وقوله : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي : لا إلى غيره ، لا شركة ولا استقلالا.
وقد أخرج ابن
مردويه عن أبي جعفر الباقر قال : «قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) قال : الخير : اتّباع القرآن وسنّتي». وأخرج ابن أبي
حاتم عن أبي العالية قال : كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف : فهو
الإسلام ، والنهى عن المنكر : فهو عبادة الأوثان والشيطان. انتهى. وهو تخصيص بغير
مخصص ، فليس في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن
مقاتل بن حيان قال : (يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ) أي : الإسلام (وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) : بطاعة ربهم (وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) : عن معصية ربهم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن
الضحاك في الآية قال : هم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم خاصة وهم الرواة. انتهى. ولا أدري ما وجه هذا التخصيص ،
فالخطاب في هذه الآية كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده وكلفهم بها.
وأخرج أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وصححه عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرّقت
النّصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة». وأخرج أحمد
، وأبو داود ، والحاكم عن معاوية مرفوعا نحوه ، وزاد : «كلّها في النار إلا واحدة
وهي الجماعة». وأخرج الحاكم
عن عبد الله بن عمر مرفوعا نحوه أيضا ، وزاد «كلّها في النار إلا ملّة
واحدة ، فقيل له : ما الواحدة؟ قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي». وأخرج ابن ماجة
عن عوف بن مالك مرفوعا نحوه ، فيه : «فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ،
قيل : يا رسول الله! من هم؟ قال : الجماعة» وأخرجه أحمد من حديث أنس ، وفيه : «قيل
يا رسول الله! من تلك الفرقة؟ قال : الجماعة». وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الأمر بالكون في الجماعة والنهي عن الفرقة.
وأخرج ابن أبي حاتم ، والخطيب عن ابن عباس في قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ) قال : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل
البدع والضلالة. وأخرجه الخطيب ، والديلمي عن ابن عمر مرفوعا ، وأخرجه أيضا مرفوعا
أبو نصر السجزي في الإبانة عن أبي سعيد. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن أبي كعب في الآية قال : صاروا فرقتين يوم القيامة ، يقال لمن اسود وجهه :
أكفرتم بعد إيمانكم؟ فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم حيث كانوا أمة واحدة ، وأما
الذين ابيضت وجوههم : فهم الذين استقاموا على إيمانهم ، وأخلصوا له الدين ، فبيض
الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته. وقد روي غير ذلك.
(كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ
يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ
لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ
بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ
بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا
وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))
قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) هذا كلام مستأنف ، يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل
على غيرها من الأمم ، وكان ، قيل : هي التامة ، أي : وجدتم وخلقتم خير أمة ، ومثله
ما أنشده سيبويه :
وجيران لنا
كانوا كرام
ومنه قوله
تعالى : (كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ
كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) . وقال الأخفش : يريد : أهل أمة ، أي : خير أهل دين ،
وأنشد :
حلفت فلم
أترك لنفسك ريبة
|
|
وهل يأثمن ذو
أمّة وهو طائع
|
وقيل : معناه :
كنتم في اللوح المحفوظ ، وقيل : كنتم منذ آمنتم ، وفيه دليل على أن هذه الأمة
الإسلامية خير الأمم على الإطلاق ، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة
وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم ، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها. كما ورد في
فضل الصحابة على غيرهم. قوله : (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أي : أظهرت لهم ، وقوله : (تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) إلخ ، كلام مستأنف ، يتضمن بيان كونهم خير أمة ؛ مع ما
يشتمل عليه ؛ من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به ، فإذا تركوا الأمر
بالمعروف ، والنهي عن المنكر ،
__________________
زال عنهم ذلك ، ولهذا قال مجاهد : إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في
الآية ، وهذا يقتضي ، أن يكون : تأمرون وما بعده ، في محل نصب على الحال ، أي :
كنتم خير أمة حال كونكم آمرين ، ناهين ، مؤمنين بالله ، وبما يجب عليكم الإيمان به
من كتابه ورسوله وما شرعه لعباده ، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان
بهذه الأمور. قوله : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ
الْكِتابِ) أي : اليهود ، إيمانا كإيمان المسلمين بالله ورسله
وكتبه (لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ) ولكنهم لم يفعلوا ذلك ، بل قالوا : نؤمن ببعض الكتاب
ونكفر ببعض ، ثم بين حال أهل الكتاب بقوله : (مِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ) وهم الذين آمنوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم منهم ، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل من قبله (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) أي : الخارجون عن طريق الحق ، المتمردون في باطلهم ،
المكذبون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولما جاء به ، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاما مستأنفا
، جوابا عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله؟ قوله : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) أي : لن يضروكم بنوع من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى ،
وهو الكذب ، والتحريف ، والبهت ، لا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة
بالحرب والنهب ونحوهما ، فالاستثناء مفرغ ، وهذا وعد من الله لرسوله وللمؤمنين أن
أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم ؛ وقيل : الاستثناء منقطع. والمعنى :
لن يضروكم ألبتة ، لكن يؤذونكم ، ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) أي : ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلا عن أن
يضروكم. وقوله : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف على الجملة الشرطية ، أي : ثم لا يوجد لهم نصر ولا
يثبت لهم غلب في حال من الأحوال ، بل شأنهم الخذلان ما داموا. وقد وجدنا ما وعدنا
سبحانه حقا ، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر ، ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول
هذه الآية ، فهي من معجزات النبوة . قوله : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب. والمعنى : صارت
الذلة محيطة بهم في كل حال ، وعلى كل تقدير (أَيْنَما ثُقِفُوا) في أي مكان وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ
اللهِ) أي : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، قاله الفراء : أي :
بذمة الله أو بكتابه (وَحَبْلٍ مِنَ
النَّاسِ) أي : بذمة من الناس ، وهم المسلمون ؛ وقيل : المراد
بالناس : النبي صلىاللهعليهوسلم (وَباؤُ) أي : رجعوا (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) وقيل : احتملوا ، وأصل معناه في اللغة : اللزوم
والاستحقاق ، أي : لزمهم غضب من الله هم مستحقون له. ومعنى ضرب المسكنة : إحاطتها
بهم من جميع الجوانب ، وهكذا حال اليهود ، فإنهم تحت الفقر المدقع ، والمسكنة
الشديدة إلا النادر الشاذ منهم. والإشارة بقوله : ذلك ، إلى ما تقدم من ضرب الذلة
والمسكنة والغضب ، أي : وقع عليهم ذلك بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ،
ويقتلون الأنبياء بغير حق ، والإشارة بقوله : ذلك ، إلى الكفر وقتل الأنبياء ،
بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده. ومعنى الآية : أن الله ضرب عليهم الذلة
والمسكنة والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته ، وقتلوا أنبياءه ، بسبب عصيانهم
واعتدائهم.
__________________
وقد أخرج عبد
الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس في قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال
: قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال : أنتم ، فكنا كلنا ، ولكن قال : كنتم ،
في خاصة أصحاب محمد ومن صنع مثل صنعهم ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، وفي لفظ عنه
أنه قال : يكون لأولنا ، ولا يكون لآخرنا. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا
أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك
الأمة فليؤد شرط الله منها. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة في الآية قال :
نزلت في ابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ
بن جبل. وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة في الآية قال : خير الناس للناس يأتون
بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن
حميد ، وأحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه عن معاوية بن حيدة أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقول في الآية : إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها
وأكرمها. وروي من حديث معاذ ، وأبي سعيد نحوه. وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين
وغيرهما أنه يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب ، وهذا من
فوائد كونها خير الأمم. وأخرج ابن جرير عن الحسن : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ
إِلَّا أَذىً) قال : تسمعون منهم كذبا على الله ، يدعونكم إلى
الضلالة. وأخرج أيضا عن ابن جريج قال : إشراكهم في عزير وعيسى والصليب. وأخرج ابن
أبي حاتم عن الحسن وقتادة : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) قالا : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وروى ابن المنذر
عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ
مِنَ النَّاسِ) قال : بعهد من الله وعهد من الناس.
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ
وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ
يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (١١٧))
قوله : (لَيْسُوا سَواءً) أي : أهل الكتاب غير مستوين ، بل مختلفين ، والجملة
مستأنفة ، سيقت لبيان التفاوت بين أهل الكتاب. وقوله : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) هو استئناف أيضا ، يتضمن بيان الجهة التي تفاوتوا فيها
، من كون بعضهم أمة قائمة إلى قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) قال الأخفش : التقدير : من أهل الكتاب ذو أمة ،
أي : ذو طريقة حسنة ، وأنشد :
وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع
وقيل : في
الكلام حذف ، والتقدير : من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة ، فترك الأخرى
اكتفاء بالأولى ، كقول أبي ذؤيب :
عصيت إليها القلب
إنّي لأمرها
|
|
مطيع فما
أدري أرشد طلابها؟
|
أراد أرشد أم
غيّ؟ قال الفراء : أمة : رفع بسواء ، والتقدير : ليس يستوي أمة من أهل الكتاب
قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة. قال النحاس : وهذا القول خطأ من جهات : أحدها :
أنه يرفع أمة بسواء فلا يعود على اسم ليس شيء ، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ،
ويضمر ما لا يحتاج إليه لأنه قد تقدم ذكر الكافرة ، فليس لإضمار هذا وجه. وقال أبو
عبيدة : هذا مثل قولهم أكلوني البراغيث ، وذهبوا أصحابك. قال النحاس : وهذا غلط ،
لأنه قد تقدم ذكرهم ، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر. انتهى.
وعندي : أن ما
قاله الفراء قويّ قويم ، وحاصله : أن معنى الآية : لا يستوي أمة من أهل الكتاب
شأنها كذا ؛ وأمة أخرى شأنها كذا ، وليس تقدير هذا المحذوف من باب تقدير ما لا
حاجة إليه كما قال النحاس ، فإن تقدّم ذكر الكافرة لا يفيد مفاد تقدير ذكرها هنا ،
وأما قوله : إنه لا يعود على اسم ليس شيء ، فيردّه : أن تقدير العائد شائع مشتهر
عند أهل الفن ، وأما قوله : ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ، فغير مسلم. والقائمة
: المستقيمة العادلة ، من قولهم : أقمت العود فقام ، أي : استقام. وقوله : (يَتْلُونَ) : في محل رفع أنه صفة ثانية لأمة ، ويجوز أن يكون في
محل نصب على الحال (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته ، وهو منصوب على الظرفية. وقوله : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ظاهره : أن التلاوة كائنة منهم في حال السجود ، ولا يصح
ذلك إذا كان المراد بهذه الأمة الموصوفة في الآية : هم من قد أسلم من أهل الكتاب ،
لأنه قد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم النهي عن قراءة القرآن في السجود ، فلا بدّ من تأويل
هذا الظاهر بأن المراد بقوله : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) : وهم يصلون ، كما قاله الفراء والزجاج ، وإنما عبر
بالسجود عن مجموع الصلاة ، لما فيه من الخضوع والتذلل. وظاهر هذا : أنهم يتلون
آيات الله في صلاتهم من غير تخصيص لتلك الصلاة بصلاة معينة ؛ وقيل : المراد بها : الصلاة
بين العشاءين ؛ وقيل : صلاة الليل مطلقا. وقوله : (وَتُؤْمِنُونَ
بِاللهِ) صفة أخرى لأمة ، أي : يؤمنون بالله وكتبه ورسله ، ورأس
ذلك الإيمان بما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم وقوله : (تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) صفتان أيضا لأمة ، أي : أن هذا من شأنهم وصفتهم. وظاهره
يفيد : أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على العموم ؛ وقيل : المراد بالأمر
بالمعروف هنا : أمرهم باتباع النبي صلىاللهعليهوسلم ، وبالنهي عن المنكر : نهيهم عن مخالفته. وقوله : (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) : من جملة الصفات أيضا ، أي : يبادرون
__________________
بها غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها. وقوله : (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : من جملتهم ؛ وقيل : من : بمعنى : مع ، أي : مع
الصالحين ، وهم الصحابة رضي الله عنهم ، والظاهر أن المراد كل صالح ، والإشارة
بقوله : (أُولئِكَ) إلى الأمة الموصوفة بتلك الصفات. قوله : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) أي خير كان (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي : لن تعدموا ثوابه ، وعداه إلى المفعولين وهو لا
يتعدّى إلا إلى واحد لأنه ضمنه معنى الحرمان ، كأنه قيل : فلن تحرموه ، كما قاله
صاحب الكشاف. قرأ الأعمش ، وابن وثاب ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : بالياء
التحتية في الفعلين ، وهي قراءة ابن عباس ، واختارها أبو عبيد. وقرأ الباقون : بالمثناة
من فوق ، فيهما ، وكان أبو عمرة يرى القراءتين جميعا. والمراد بالمتقين : كل من
ثبتت له صفة التقوى ؛ وقيل : المراد : من تقدّم ذكره ، وهم الأمة الموصوفة بتلك
الصفة ، ووضع الظاهر موضع المضمر مدحا لهم ، ورفعا من شأنهم. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قيل : هم بنو قريظة والنضير. قال مقاتل : لما ذكر تعالى
مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية. والظاهر أن المراد بذلك : كل من كفر
بما يجب الإيمان به. ومعنى : (لَنْ تُغْنِيَ) : لن تدفع ، وخص الأولاد أنهم أحبّ القرابة وأرجاهم
لدفع ما ينوبه. وقوله : (مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ) بيان لعدم إغناء أموالهم التي كانوا يعوّلون عليها.
والصرّ : البرد الشديد ، أصله : من الصرير الذي هو : الصوت ، فهو صوت الريح الشديد
، وقال الزجاج : صوت لهب النار التي في تلك الريح. ومعنى الآية : مثل نفقة
الكافرين في بطلانها ، وذهابها ، وعدم منفعتها ، كمثل زرع أصابه ريح باردة ، أو
نار ، فأحرقته ، أو أهلكته ، فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من
نفعه وفائدته. وعلى هذا فلا بدّ من تقدير في جانب المشبه به ، فيقال : كمثل زرع
أصابته ريح فيها صرّ ، أو : مثل إهلاك ما ينفقون ؛ كمثل إهلاك ريح فيها صرّ ؛
أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ) أي : المنفقين من الكافرين (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها ، وتقديم
المفعول : لرعاية الفواصل لا للتخصيص ، لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل
، لا بالمفعول.
وقد أخرج ابن
إسحاق وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مندة ، وأبو
نعيم في المعرفة ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : لما أسلم
عبد الله بن سلام ، وثعلبة ، وأسيد ابن سعيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا ،
وصدقوا ، ورغبوا في الإسلام. قالت أحبار يهود ، وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد
وتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فأنزل
الله : (لَيْسُوا سَواءً) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) يقول : مهتدية ، قائمة على أمر الله ، لم تنزع عنه ،
ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. وخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم
قال : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) عادلة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (آناءَ اللَّيْلِ) قال : جوف الليل. وأخرج ابن جرير عن الربيع قال : ساعات
الليل. وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : (لَيْسُوا سَواءً) قال : لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلىاللهعليهوسلم (يَتْلُونَ آياتِ
اللهِ آناءَ اللَّيْلِ)
قال : صلاة العتمة هم يصلونها ، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلونها. وأخرج
أحمد ، والنسائي ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
، والطبراني. قال السيوطي بسند حسن عن ابن مسعود قال : «أخّر رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلاة العشاء ليلة ، ثمّ خرج إلى المسجد فإذا النّاس
ينتظرون الصّلاة ، فقال : أما إنّه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه
السّاعة غيركم» ولفظ ابن جرير والطبراني فقال : إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل
الكتاب. قال : وأنزلت هذه الآية : (لَيْسُوا سَواءً) وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن ابن منصور. قال : بلغني أنها نزلت هذه الآية : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ) فيما بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن قتادة : (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) قال : لن يضل عنكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن : (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) قال : لن تظلموه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
السدي في الآية يقول : (مَثَلُ ما
يُنْفِقُونَ) أي : المشركون ، ولا يتقبل منهم ، كمثل هذا الزرع إذا
زرعه القوم الظالمون فأصابه ريح فيها صرّ فأهلكته ، فكذلك أنفقوا فأهلكهم شركهم.
وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
ابن عباس : (فِيها صِرٌّ) قال : برد شديد.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا
خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ
وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))
البطانة : مصدر
، يسمى به الواحد والجمع ، وبطانة الرجل : خاصته الذين يستبطنون أمره ، وأصله : البطن
الذي هو خلاف الظهر ، وبطن فلان بفلان ، يبطن بطونا وبطانة : إذا كان خاصا به ،
ومنه قول الشاعر :
وهم خلصائي كلّهم
وبطانتي
|
|
وهم عيبتي من
دون كلّ قريب
|
قوله : (مِنْ دُونِكُمْ) أي : من سواكم ، قاله الفراء ، أي : من دون المسلمين ،
وهم الكفار ، أي : بطانة كائنة من دونكم ، ويجوز أن يتعلق بقوله : (لا تَتَّخِذُوا) وقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ
خَبالاً) : في محل نصب صفة لبطانة ، يقال : لا آلوك جهدا : أي لا
أقصر. قال امرؤ القيس :
وما المرء ما
دامت حشاشة نفسه
|
|
بمدرك أطراف
الخطوب ولا آل
|
__________________
والمراد : لا
يقصرون فيما فيه الفساد عليكم ، وإنما عدّي إلى مفعولين : لكونه مضمنا معنى المنع
، أي : لا يمنعونكم خبالا ، والخبال والخبل : الفساد في الأفعال والأبدان والعقول.
قال أوس :
أبني لبينى
لستم بيد
|
|
إلا يدا
مخبولة العضد
|
أي : فاسدة
العضد. قوله : (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) ما : مصدرية ، أي : ودّوا عنتكم ، والعنت : المشقة وشدة
الضرر ، والجملة مستأنفة ، مؤكدة للنهي. قوله : (قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضاءُ) هي شدة البغض ، كالضراء : لشدة الضر. والأفواه : جمع
فم. والمعنى : أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم ، لأنهم لما خامرهم من شدة البغض
والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم ، فتركوا التقية ، وصرحوا بالتكذيب. أما اليهود
: فالأمر في ذلك واضح. وأما المنافقون : فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن
خبث طويتهم. وهذه الجملة لبيان حالهم : (وَما تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأن فلتات اللسان أقل مما تكنه الصدور ، بل تلك الفلتات
بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جدا. ثم إنه سبحانه امتن عليهم ببيان الآيات
الدالة على وجوب الإخلاص ، إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان. قوله : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ) جملة مصدرة بحرف التنبيه ، أي : أنتم أولاء الخاطئون في
موالاتهم ، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية. فقال : (تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) ، وقيل : إن قوله : (تُحِبُّونَهُمْ) خبر ثان لقوله : أنتم ؛ وقيل : إن أولاء : موصول ،
وتحبونهم : صلته ، أي : تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان ، أو لما بينكم وبينهم من
القرابة (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد. قوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي : بجنس الكتاب جميعا ، ومحل الجملة : النصب على الحال
، أي : لا يحبونكم ، والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم ،
فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم. وفيه توبيخ لهم شديد ، لأن من بيده الحق
أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل (وَإِذا لَقُوكُمْ
قالُوا آمَنَّا) نفاقا وتقية. (وَإِذا خَلَوْا
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) تأسفا وتحسرا ، حيث عجزوا عن الانتقام منكم ، والعرب
تصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان ، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم ،
فقال : (قُلْ مُوتُوا
بِغَيْظِكُمْ) وهو يتضمن استمرار غيظهم ماداموا في الحياة حتى يأتيهم
الموت وهم عليه ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) فهو يعلم ما في صدوركم وصدورهم ، والمراد بذات الصدور :
الخواطر القائمة بها ، وهو كلام داخل تحت قوله : (قُلْ) فهو من جملة المقول. قوله : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم ، وحسنة وسيئة
: يعمان كل ما يحسن وما يسوء. وعبر بالمس في الحسنة ، وبالإصابة في السيئة ،
للدلالة : على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة ، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة
؛ وقيل : إن المسّ مستعار لمعنى الإصابة. ومعنى الآية : أن من كانت هذه حالته لم
يكن أهلا لأن يتخذ بطانة (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم أو على التكاليف الشاقة (وَتَتَّقُوا) موالاتهم ، أو ما حرّمه الله عليكم و (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) ، يقال : ضارّه يضوره ويضيره ضيرا وضيورا ، بمعنى :
ضرّه يضره ، وبه قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو. وقرأ الكوفيون ، وابن عامر :
لا يضركم بضم الراء وتشديدها من ضرّ يضر ، فهو على القراءة
الأولى : مجزوم على أنه جواب الشرط ، وعلى القراءة الثانية : مرفوع على
تقدير إضمار الفاء كما في قول الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
قاله الكسائي
والفراء ؛ وقال سيبويه : إنه مرفوع على نية التقديم ، أي : لا يضركم أن تصبروا.
وحكى أبو زيد عن المفضل عن عاصم : (لا يَضُرُّكُمْ) بفتح الراء ، وشيئا : صفة مصدر محذوف.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان رجال من
المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية ،
فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا بِطانَةً) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : هم
المنافقون. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن
أبي أمامة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : هم الخوارج. قال السيوطي : وسنده جيد. وأخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) أي : بكتابكم وبكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم
يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل :
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ) يعني : النصر على العدوّ ، والرزق ، والخير (تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) يعني : القتل ، والهزيمة ، والجهد.
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ
آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى
لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ
اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))
العامل في «إذ»
فعل محذوف ، أي : واذكر إذ غدوت من منزل أهلك ، أي : من المنزل الذي فيه أهلك. وقد
ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد. وقال الحسن : في يوم بدر. وقال مجاهد
، ومقاتل ، والكلبي : في غزوة الخندق. قوله : (تُبَوِّئُ) أي : تتخذ لهم مقاعد للقتال ، وأصل التبوّء : اتخاذ
المنزل ، يقال : بوّأته منزلا : إذا أسكنته إياه ، والفعل : في محل نصب على الحال
، ومعنى الآية : واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال ، أي :
أماكن يقعدون فيها ، وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو الخروج غدوة ، مع كونه صلىاللهعليهوسلم خرج بعد صلاة الجمعة كما سيأتي ، لأنه قد يعبر بالغدوّ
والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما ، كما يقال : أضحى ، وإن لم
يكن في وقت الضحى. قوله :
(إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) هو بدل من إذ غدوت ، أو متعلق بقوله : تبوّئ ، أو بقوله
: سميع عليم ؛ والطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا
جناحي العسكر يوم أحد ؛ والفشل : الجبن ؛ والهمّ من الطائفتين كان بعد الخروج ،
لما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه من المنافقين ، فحفظ الله قلوب المؤمنين ، فلم
يرجعوا ، وذلك قوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما). قوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ) جملة مستأنفة ، سيقت لتصبيرهم ، بتذكير ما يترتب على
الصبر من النصر. وبدر : اسم لماء كان في موضع الوقعة ؛ وقيل : هو اسم الموضع نفسه
، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله. وأذلة : جمع قلة ، ومعناه : أنهم
كانوا بسبب قلتهم أذلة ، وهو : جمع ذليل ، استعير للقلة ، إذ لم يكونوا في أنفسهم
أذلة ، بل كانوا أعزة ، والنصر : العون. وقد شرح أهل التواريخ والسير غزوة بدر
وأحد بأتم شرح فلا حاجة لنا في سياق ذلك هاهنا. قوله : (إِذْ تَقُولُ) متعلق بقوله : (نَصَرَكُمُ) والهمزة في قوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) للإنكار منه صلىاللهعليهوسلم عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة ، ومعنى
الكفاية : سدّ الخلة والقيام بالأمر ؛ والإمداد في الأصل : إعطاء الشيء حالا بعد
حال ، والمجيء بلن : لتأكيد النفي ، وأصل الفور : القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجدّ
، وهو من قولهم : فارت القدر ، تفور فورا وفورانا ، إذا غلت ، والفور : الغليان ،
وفار غضبه : إذا جاش ، وفعله من فوره : أي قبل أن يسكن ، والفوّارة ما يفور من
القدر ، استعير للسرعة ، أي : إن يأتوكم من ساعتهم هذه يمددكم ربكم بالملائكة في
حال إتيانهم ، لا يتأخر عن ذلك. قوله : (مُسَوِّمِينَ) بفتح الواو اسم مفعول ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة
والكسائي ونافع ، أي : معلمين بعلامات ، وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وعاصم : (مُسَوِّمِينَ) بكسر الواو اسم فاعل ، أي : معلمين أنفسهم بعلامة. ورجح
ابن جرير هذه القراءة ، والتسويم : إظهار سيما الشيء. قال كثير من المفسرين : (مُسَوِّمِينَ) أي : مرسلين خيلهم في الغارة ؛ وقيل : إن الملائكة
اعتمت بعمائم بيض ؛ وقيل : حمر ، وقيل : خضر ؛ وقيل : صفر ، فهذه العلامة التي
علموا بها أنفسهم ، حكي ذلك عن الزجاج ؛ وقيل : كانوا على خيل بلق ؛ وقيل : غير
ذلك. قوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) كلام مبتدأ غير داخل في مقول القول ، والضمير في قوله :
(جَعَلَهُ) للإمداد المدلول عليه بالفعل ، أو للتسويم ، أو للإنزال
، ورجح الأوّل الزجاج ، وصاحب الكشاف. وقوله : (إِلَّا بُشْرى) استثناء مفرّغ من أعم العام ، والبشرى : اسم من البشارة
، أي : إلا لتبشروا بأنكم تنصرون ، ولتطمئن قلوبكم به ، أي : بالإمداد ، واللام
لام كي ، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر وطمأنينة للقلوب ، وفي قصر الإمداد
عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من عند غيره ، فلا تنفع كثرة المقاتلة ووجود العدة.
قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) متعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ) وقيل : متعلق بقوله : (وَمَا النَّصْرُ
إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وقيل : متعلق بقوله : (يُمْدِدْكُمْ) والطرف : الطائفة ، والمعنى : نصركم الله ببدر ليقطع
طائفة من الكفار ، وهم الذين قتلوا يوم بدر ؛ أو : وما النصر إلا من عند الله
ليقطع تلك الطائفة ، أو يمددكم ليقطع. ومعنى يكبتهم : يحزنهم ، والمكبوت :
المحزون. وقال بعض أهل اللغة : معناه : يكبدهم ،
أي : يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم ، وهو غير صحيح ، فإن معنى كبت :
أحزن وأغاظ وأذل ، ومعنى كبد أصاب الكبد (فَيَنْقَلِبُوا
خائِبِينَ) أي : غير ظافرين بمطلبهم. قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه ، أي : أن
الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك ، أو الهزيمة ، أو التوبة إن أسلموا
، أو العذاب ، فقوله : (أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) عطف على قوله أو يكبتهم ، وقال الفراء : إنّ : أو :
بمعنى : إلا أن ، بمعنى : ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم ، فتفرح بذلك ،
أو يعذبهم ، فتشفى بهم. قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف لبيان سعة ملكه (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يغفر له (وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشاءُ) أن يعذبه ، يفعل في ملكه ما يشاء ، ويحكم ما يريد (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ) وفي قوله : (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) : إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه ، وتبشير لعباده بأنه
المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة ، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبه
إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل!.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن شهاب وعاصم بن عمر بن قتادة ، ومحمد بن يحيى
بن حبان ، والحصين بن عبد الرحمن بن أسعد بن معاذ قالوا : كان يوم أحد يوم بلاء
وتمحيص ، اختبر الله به المؤمنين ومحق به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه
وهو مستخف بالكفر ، ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.
وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران ، فيها صفة ما كان في
يومه ذلك ، ومعاتبة من عاتب منهم ؛ يقول الله لنبيه : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي
عن ابن عباس (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ) الآية قال : يوم أحد. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن
جبير في قوله : (تُبَوِّئُ
الْمُؤْمِنِينَ) قال : توطن. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن
أن الآية في يوم الأحزاب. وقد ورد في كتب السير والتاريخ كيفية الاختلاف في
المشورة على النبي صلىاللهعليهوسلم في يوم أحد ، فمن قائل نخرج إليهم ، ومن قائل نبقى في
المدينة ، فخرج وكان من جملة المشيرين عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين ،
كان رأيه البقاء في المدينة والمقاتلة فيها ، ثم لما خولف في رأيه انخزل بمن معه
من المنافقين ، وهم الثلث من القوم الذين خرج بهم النبي صلىاللهعليهوسلم. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر قال : فينا
نزلت في بني حارثة وبني سلمة : (إِذْ هَمَّتْ
طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وما يسرني أنها لم تنزل لقوله : (وَاللهُ وَلِيُّهُما). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ) قال : ذلك يوم أحد. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال :
هم بنو حارثة ، وبنو سلمة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) إلى (بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) في قصة بدر. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن
في قوله : (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) يقول : وأنتم قليل ، وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة.
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الشعبي : أن
المسلمين بلغهم يوم بدر : أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين ، فشقّ ذلك عليهم
، فأنزل الله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ
أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ) إلى قوله : (مُسَوِّمِينَ) قال : فبلغت كرزا
__________________
فلم يمد المشركين ، ولم يمدّ المسلمين بالخمسة. وأخرج ابن جرير عن الشعبي :
لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) يعني : كرزا وأصحابه : (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) فبلغ كرزا وأصحابه الهزيمة ، فلم يمدهم ، ولم ينزل
الخمسة ، وأمدّوا بعد ذلك بألف فهم أربعة آلاف. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر عن قتادة في الآية قال : أمدّوا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم
صاروا خمسة آلاف ، وذلك يوم بدر. وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) الآية ، قال : هذا يوم أحد ، فلم يصبروا ، ولم يتقوا ،
فلم يمدّوا يوم أحد ، ولو أمدّوا لم ينهزموا يومئذ. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم. عن ابن عباس في
قوله : (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ
فَوْرِهِمْ هذا) يقول : من سفرهم هذا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
عكرمة من فورهم قال : من وجههم. وأخرج ابن جرير عن الحسن والربيع وقتادة والسدّي
مثله ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد من فورهم قال : من غضبهم. وأخرجا عن
أبي صالح مولى أم هانئ مثله. وأخرج الطبراني ، وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس.
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله : (مُسَوِّمِينَ) قال : معلمين ، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم
سوداء ، ويوم أحد عمائم حمراء. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير كان عليه يوم بدر
عمامة صفراء معتجرا بها ، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر. وأخرج ابن إسحاق ،
والطبراني عن ابن عباس قال : كانت سيما الملائكة يوم بدر : عمائم بيضاء ، قد
أرسلوها في ظهورهم ، ويوم حنين : عمائم حمراء ، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم
بدر ، وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون. وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير
لا يتعلق به كثير فائدة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن قتادة في قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : قطع الله يوم بدر طرفا من الكفار ، وقتل صناديدهم
ورؤوسهم وقادتهم في الشرّ. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم في قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) قال : هذا يوم بدر ، قطع الله طائفة منهم ، وبقيت
طائفة. وأخرج ابن جرير عن السدّي قال : ذكر الله قتلى المشركين بأحد ، وكانوا
ثمانية عشر رجلا فقال : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ثم ذكر الله الشهداء فقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) قال : يحزنهم. وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع مثله.
وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أنس : أن النبي صلىاللهعليهوسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في وجهه حتى سال الدم ،
فقال : كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم؟ فأنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية. وقد روي هذا المعنى في روايات كثيرة. وأخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أحد : «اللهمّ العن أبا سفيان ، اللهمّ العن الحارث
بن هشام ، اللهمّ العن سهيل بن عمرو ، اللهمّ العن صفوان بن أمية ، فنزلت هذه
الآية : (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ)». وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما أيضا من حديث أبي
هريرة : أن رسول الله
__________________
صلىاللهعليهوسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد ، أو يدعو لأحد ، قنت بعد
الركوع : اللهمّ أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعيّاش بن أبي ربيعة ،
والمستضعفين من المؤمنين ، اللهمّ اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ
يوسف. يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : «اللهمّ العن فلانا
وفلانا» لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ) وفي لفظ : «اللهمّ العن لحيان ورعلا وذكوان وعصيّة ،
عصت الله ورسوله» ثم بلغنا أنه ترك ذلك لمّا نزل قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ
(١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا
إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦))
قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قيل : هو كلام مبتدأ للترهيب والترغيب فيما ذكر ؛ وقيل
: هو اعتراض بين أثناء قصة أحد. وقوله : أضعافا مضاعفة ليس لتقييد النهي لما هو
معلوم من تحريم الربا على كل حال ، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة
التي يعتادونها في الربا ، فإنهم كانوا يربون إلى أجل ، فإذا حل الأجل زادوا في
المال مقدارا يتراضون عليه ، ثم يزيدون في أجل الدّين ، فكانوا يفعلون ذلك مرّة
بعد مرّة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء وأضعافا : حال ،
ومضاعفة : نعت له ، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاما بعد عام ، والمبالغة في هذه
العبارة تفيد تأكيد التوبيخ. قوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم.
قال كثير من المفسرين : وفيه أنه يكفر من استحلّ الربا ؛ وقيل : معناه : اتقوا
الربا الذي ينزع منكم الإيمان ، فتستوجبون النار. وإنما خصّ الربا في هذه الآية :
لأنه الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله. وقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، أي : في كل أمر ونهي (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : راجين الرحمة من الله عزوجل. وقوله : (وَسارِعُوا) عطف على أطيعوا ، وقرأ نافع ، وابن عامر : (سارِعُوا) بغير واو ، وكذلك في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام ،
وقرأ الباقون : بالواو ، قال أبو علي : كلا الأمرين سائغ مستقيم ، والمسارعة : المبادرة
، وفي الآية حذف ، أي : سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات. وقوله : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي : عرضها كعرض السموات والأرض ، ومثله الآية الأخرى :
(عَرْضُها كَعَرْضِ
السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) وقد اختلف في معنى ذلك ؛ فذهب الجمهور : إلى أنها تقرن
السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة ،
ونبه بالعرض على الطول لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض ، وقيل : إن هذا
الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة ، وذلك أنها لمّا كانت
الجنة من الاتساع والانفساح في غاية قصوى ، حسن التعبير عنها بعرض السموات والأرض
مبالغة ، لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده ، ولم يقصد بذلك
التحديد. والسراء : اليسر ، والضراء : العسر. وقد تقدّم تفسيرهما. وقيل : السراء :
الرخاء ، والضراء : الشدّة ، وهو مثل الأول ؛ وقيل : السراء في الحياة ، والضراء
بعد الموت. قوله : (وَالْكاظِمِينَ
الْغَيْظَ) يقال : كظم غيظه : أي : سكت عليه ولم يظهره ، ومنه كظمت
السقاء : أي : ملأته. والكظامة : ما يسد به مجرى الماء ، وكظم البعير جرّته : إذا ردّها في جوفه. وهو عطف على الموصول الذي قبله.
قوله : (وَالْعافِينَ عَنِ
النَّاسِ) أي : التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة ،
وذلك من أجلّ ضروب الخير. وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا.
وقال الزجاج وغيره : المراد بهم : المماليك. واللام في المحسنين يجوز أن تكون
للجنس ، فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم ، ويجوز أن تكون للعهد ، فيختص بهؤلاء.
والأول أولى اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السياق ، فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى
الإحسان ، أيّ إحسان كان. قوله : (وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً) هذا مبتدأ ، وخبره : (أُولئِكَ) وقيل : معطوف على المتقين. والأوّل أولى ، وهؤلاء هم
صنف دون الصنف الأوّل ملحقين بهم ، وهم التوّابون ، وسيأتي ذكر سبب نزولها ،
والفاحشة : وصف لموصوف محذوف ، أي : فعلة فاحشة ، وهي تطلق على كل معصية ، وقد كثر
اختصاصها بالزنا. وقوله : (أَوْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) أي : باقتراف ذنب من الذنوب ؛ وقيل : أو : بمعنى الواو.
والمراد ما ذكر ، وقيل : الفاحشة : الكبيرة ، وظلم النفس : الصغيرة ؛ وقيل غير
ذلك. قوله : (ذَكَرُوا اللهَ) أي : بألسنتهم ، أو أخطروه في قلوبهم ، أو ذكروا وعده
ووعيده (فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ) أي : طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه ، وتفسيره :
بالتوبة ، خلاف معناه لغة ، وفي الاستفهام بقوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلَّا اللهُ) من الإنكار ـ مع ما يتضمنه من الدلالة ـ على أنه المختص
بذلك سبحانه دون غيره ، أي : لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله ، وفيه ترغيب لطلب
المغفرة منه سبحانه ، وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل ، وهذه
الجملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه. وقوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا
عَلى ما فَعَلُوا) عطف على : فاستغفروا ، أي : لم يقيموا على قبيح فعلهم ،
وقد تقدّم تفسير الإصرار. والمراد به هنا : العزم على معاودة الذنب ، وعدم الإقلاع
عنه بالتوبة منه. وقوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية ، أي : لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه.
قوله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) الإشارة إلى المذكورين بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً). وقوله : (جَزاؤُهُمْ) بدل اشتمال من اسم الإشارة. وقوله : (مَغْفِرَةٌ) خبر و (مِنْ رَبِّهِمْ) متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة ، أي : كائنة من ربهم.
وقوله : (وَنِعْمَ أَجْرُ
الْعامِلِينَ) المخصوص
__________________
بالمدح محذوف ، أي : أجرهم ، أو ذلك المذكور. وقد تقدّم تفسير الجنات
وكيفية جري الأنهار من تحتها.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : قال : كانوا يتبايعون إلى الأجل
، فإذا جاء الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عطاء قال : كانت ثقيف
تدين بني المغيرة لأجل في الجاهلية وذكر نحوه. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عن معاوية بن قرّة قال : كان الناس يتأوّلون هذه الآية (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ) اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها
للكافرين. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عطاء بن أبي رباح قال :
قال المسلمون : يا رسول الله! أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا
أذنب أحدهم ذنبا أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك اجدع أذنك افعل
كذا وكذا ، فسكت النبي صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت : (وَسارِعُوا) الآية. وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك في تفسير (وَسارِعُوا) قال : التكبيرة الأولى. وأخرج ابن جرير من طريق السدّي
عن ابن عباس في قوله : (عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) مثل ما ذكرناه سابقا عن الجمهور. وأخرج نحوه عنه سعيد
بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق كريب. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله : (الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) يقول : في اليسر والعسر (وَالْكاظِمِينَ
الْغَيْظَ) يقول : كاظمين على الغيظ. وقد وردت أحاديث كثيرة : في
ثواب من كظم الغيظ. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن النخعي في
الآية قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن
أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، والبيهقي
عن ابن مسعود قال : إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنبا فقرأهما فاستغفر الله
إلا غفر له : (وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً) الآية. وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن
ثابت البناني قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) الآية. وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال :
بلغني أنه لما نزل قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) صاح إبليس بجنوده ، وحثا على رأسه التراب ، ودعا بالويل
والثبور ، حتى جاءته جنوده من كل برّ وبحر ، فقالوا : مالك يا سيدنا؟ قال : آية
نزلت في كتاب الله لا يضرّ بعدها أحدا من بني آدم ذنب ، قالوا : وما هي؟ فأخبرهم ،
قالوا : نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ، ولا يستغفرون ، ولا يرون إلا أنهم على
الحق ، فرضي منهم بذلك. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والحميدي ، وعبد بن حميد
وأهل السنن الأربع ، وحسنه النسائي ، وابن حبان ، والدارقطني في الأفراد ، والبزار
، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن السني ، والبيهقي في
الشعب ، والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ما من رجل يذنب ذنبا ، ثم يقوم عند ذكر ذنبه
فيتطهّر ، ثم يصلّي ركعتين ، ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك ، إلا غفر الله له ، ثم
قرأ هذه الآية : (وَالَّذِينَ إِذا
فَعَلُوا فاحِشَةً) الآية». وأخرج البيهقي في الشعب عن الحسن مرفوعا نحوه ،
ولكنه قال : ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى. وأخرج
__________________
عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم ، والبيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة».
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا) فيسكتون ولا يستغفرون. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) قال : أجر العاملين بطاعة الله الجنة.
(قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
(١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ
مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
(١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ
جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ
يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ
كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ
ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
(١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا
وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ
الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ
وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))
قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) هذا رجوع إلى وصف باقي القصة. والمراد بالسنن : ما سنّه
الله في الأمم من وقائعه ، أي : قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنّها الله في الأمم
المكذبة ، وأصل السنن : جمع سنة ، وهي : الطريقة المستقيمة ، ومنه قول الهذلي :
فلا تجزعن من
سنّة أنت سرتها
|
|
فأوّل راض
سنّة من يسيرها
|
والسنة :
الإمام المتبع المؤتمّ به ، ومنه قول لبيد :
من معشر سنّت
لهم آباؤهم
|
|
ولكلّ قوم
سنّة وإمامها
|
والسنة : الأمة
، والسنن : الأمم ، قاله المفضل الضبي. وقال الزجاج : المعنى في الآية : أهل سنن ،
فحذف المضاف ، والفاء في قوله : (فَسِيرُوا) سببية ؛ وقيل : شرطية ، أي : إن شككتم فسيروا. والعاقبة
: آخر الأمر. والمعنى : سيروا فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، فإنهم خالفوا
رسلهم بالحرص على الدنيا ، ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر. هذا قول
أكثر المفسرين. والمطلوب من هذا السير
المأمور به : هو حصول المعرفة بذلك ، فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصود ، وإن
كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها ، والإشارة بقوله : (هذا) إلى قوله : (قَدْ خَلَتْ) وقال الحسن : إلى القرآن (بَيانٌ لِلنَّاسِ) أي : تبيين لهم ، وتعريف الناس للعهد ، وهم : المكذبون
، أو للجنس ، أي : للمكذبين وغيرهم. وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما
انتهى إليه أمرهم. قوله : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ) أي : هذا النظر مع كونه بيانا فيه هدى وموعظة للمتقين
من المؤمنين ، فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار
المتعلق ، وبيانه : أن اللام في الناس إن كانت للعهد : فالبيان للمكذبين والهدى
والموعظة للمؤمنين ، وإن كانت للجنس : فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم والهدى
والموعظة للمتقين وحدهم. قوله : (وَلا تَهِنُوا وَلا
تَحْزَنُوا) عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح ،
وحثهم على قتال عدوهم ، ونهاهم عن العجز والفشل ، ثم بين لهم أنهم الأعلون على
عدوّهم بالنصر والظفر ، وهي جملة حالية ، أي : والحال أنكم الأعلون عليهم وعلى
غيرهم بعد هذه الوقعة. وقد صدق الله وعده فإن النبيّ صلىاللهعليهوسلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوّه في جميع وقعاته ؛ وقيل :
المعنى : وأنتم الأعلون عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر فإنه أكثر مما أصابوا
منكم اليوم. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) متعلق بقوله : (وَلا تَهِنُوا) وما بعده ، أو بقوله : (وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ) أي : إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا ، أو : إن
كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون. والقرح : بالضم والفتح : الجرح ، وهما لغتان فيه ،
قاله الكسائي والأخفش. وقال الفراء : هو بالفتح : الجرح ، وبالضم : ألمه. وقرأ
محمد بن السميقع «قرح» بفتح القاف والراء : على المصدر. والمعنى في الآية : إن
نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم ،
فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم ، وأنتم أولى بالصبر منهم ؛ وقيل : إن
المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم ، فإن المسلمين انتصروا عليهم في
الابتداء فأصابوا منهم جماعة ، ثم انتصر الكفار عليهم فأصابوا منهم. والأوّل أولى
، لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه.
وقوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) أي : الكائنة بين الأمم في حروبها ، والآتية فيما بعد ،
كالأيام الكائنة في زمن النبوّة ؛ تارة تغلب هذه الطائفة ، وتارة تغلب الأخرى ،
كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد ، وهو معنى قوله : (نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) فقوله : (تِلْكَ) مبتدأ ، والأيام : صفته ، والخبر : نداولها ، وأصل
المداولة : المعاورة ، داولته بينهم : عاورته. والدولة : الكرة ، ويجوز أن تكون :
الأيام : خبرا ونداولها : حالا ، والأوّل أولى. وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) معطوف على علة مقدّرة كأنه قال : نداولها بين الناس
ليظهر أمركم وليعلم ، أو يكون المعلل محذوفا ، أي : ليعلم الله الذين اتقوا ،
فعلنا ذلك ، وهو من باب التمثيل : أي : فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم
يزل عالما ، أو : ليعلم الله الذين آمنوا بصبره علما يقع عليه الجزاء ، كما علمه
أزليا (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ) أي : يكرمهم بالشهادة. والشهداء : جمع شهيد ، سمي بذلك
: لكونه مشهودا له بالجنة ، أو جمع شاهد : لكونه كالمشاهد للجنة ، ومن : للتبعيض ،
وهم شهداء أحد. وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، لتقرير مضمون
ما قبله. وقوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ
آمَنُوا)
من جملة العلل
، معطوف على ما قبله. والتمحيص : الاختبار ؛ وقيل : التطهير ، على حذف مضاف ، أي :
ليمحص ذنوب الذين آمنوا ، قاله الفراء ؛ وقيل : يمحص : يخلص ، قاله الخليل والزجاج
، أي : ليخلص المؤمنين من ذنوبهم. وقوله : (وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم بالهلاك ، وأصل التمحيق : محو الآثار ،
والمحق : نقصها. قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز ، وأم هي المنقطعة
، والهمزة للإنكار ، أي : بل أحسبتم ، والواو في قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) واو الحال. والجملة حالية ، وفيه تمثيل كالأوّل ، أو
علم يقع عليه الجزاء. وقوله : (وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ) منصوب بإضمار أن ، كما قال الخليل وغيره على أن الواو
للجمع. وقال الزجاج : الواو بمعنى : حتى ، وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر : «ويعلم
الصّابرين» بالجزم ، عطفا على : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) وقرئ بالرفع ، على القطع ؛ وقيل : إن قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) كناية عن نفي المعلوم ، وهو الجهاد. والمعنى : أم حسبتم
أن تدخلوا الجنة ، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر ، أي : الجمع بينهما ،
ومعنى : (لَمَّا) معنى : «لم» عند الجمهور ، وفرّق سيبويه بينهما فجعل لم
: لنفي الماضي ، ولما : لنفي الماضي والمتوقع. قوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ
الْمَوْتَ) هو خطاب لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله
ممن لم يحضر يوم بدر ، فإنهم كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال ، فلما كان يوم أحد
انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالخروج ، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير ، مثل أنس بن
النضر عمّ أنس بن مالك. وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَلْقَوْهُ) أي : القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت. وقرأ الأعمش
«من قبل أن تلاقوه» وقد ورد النهي عن تمني الموت ، فلا بد من حمله هنا على
الشهادة. قال القرطبي : وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية
على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم ، لأنه معصية وكفر ، ولا يجوز
إرادة المعصية ، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة ، فيسألون
الصبر على الجهاد وإن أدّى إلى القتل. قوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي : القتال أو ما هو سبب للموت ، ومحل قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) النصب على الحال ، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما
: للمبالغة ، أي : قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم. قال الأخفش : إن
التكرير بمعنى التأكيد ، مثل قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ) وقيل : معناه : بصراء ليس في أعينكم علل ؛ وقيل : معناه
: وأنتم تنظرون إلى محمد صلىاللهعليهوسلم. وقوله : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). سبب نزول هذه ما سيأتي : من أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما أصيب في يوم أحد صاح الشيطان قائلا : قد قتل محمد ،
ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل : قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم ،
وقال آخر : لو كان رسولا ما قتل ، فردّ الله عليهم ذلك وأخبرهم : بأنه رسول قد خلت
من قبله الرسل وسيخلو كما خلوا ، فجملة قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ
الرُّسُلُ) صفة لرسول. والقصر قصر إفراد ، كأنهم استبعدوا هلاكه
فأثبتوا له صفتين : الرسالة ، وكونه لا يهلك ؛ فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا
يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك ؛ وقيل : هو قصر قلب. وقرأ ابن عباس : «قد خلت من
قبل رسل» ثم أنكر الله عليهم بقوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي : كيف ترتدّون وتتركون دينه إذا مات أو قتل مع علمكم
أن الرسل تخلو ،
__________________
ويتمسك أتباعهم بدينهم ، وإن فقدوا بموت أو قتل. وقيل : الإنكار لجعلهم
خلوّ الرسل قبله سببا لانقلابهم بموته أو قتله. وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه
أنه لا يقتل : لكونه مجوّزا عند المخاطبين. قوله : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلى عَقِبَيْهِ) أي : بإدباره عن القتال ، أو بارتداده عن الإسلام (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) من الضرر ، وإنما يضرّ نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي : الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا ، لأنهم بذلك شكروا
نعمة الله عليهم بالإسلام. ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها
عليه. قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) هذا كلام مستأنف ، يتضمّن الحثّ على الجهاد ، والإعلام
بأن الموت لا بدّ منه. ومعنى : (بِإِذْنِ اللهِ) : بقضاء الله وقدره ، وقيل : إن هذه الجملة متضمنة
للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلىاللهعليهوسلم ، فبين لهم : أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله
، وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له : للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم
عليه إلّا بإذن الله. وقوله : (كِتاباً) مصدر مؤكد لما قبله ، لأن معناه : كتب الله الموت كتابا
، والمؤجل : المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر. قوله : (وَمَنْ يُرِدْ) أي : بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا) كالغنيمة ونحوها ، واللفظ يعمّ كل ما يسمى ثواب الدنيا
، وإن كان السبب خاصا (نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من ثوابها ، على حذف المضاف (وَمَنْ يُرِدْ) بعمله (ثَوابَ الْآخِرَةِ) وهو الجنة ، نؤته من ثوابها ، ونضاعف له الحسنات أضعافا
كثيرة (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) بامتثال ما أمرناهم به كالقتال ، ونهيناهم عنه كالفرار
وقبول الإرجاف. وقوله : (وَكَأَيِّنْ) قال الخليل وسيبويه : هي : أي ، دخلت عليها كاف التشبيه
، وثبتت معها ، فصارت بعد التركيب بمعنى : كم ، وصوّرت في المصحف نونا ، لأنها
كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغيير معناها ، ثم كثر استعمالها فتصرّفت فيها
العرب بالقلب والحذف ، فصار فيها أربع لغات قرئ بها : أحدها : كائن ، مثل : كاعن ،
وبها قرأ ابن كثير ، ومثله قول الشاعر :
وكائن
بالأباطح من صديق
|
|
يراني لو
أصبت هو المصابا
|
وقال آخر :
وكائن رددنا
عنكم من مدجّج
|
|
يجيء أمام
الرّكب يردى مقنّعا
|
وقال زهير :
وكائن ترى من
معجب لك شخصه
|
|
زيادته أو
نقصه في التّكلّم
|
وكأين :
بالتشديد ، مثل : كعين ، وبه قرأ الباقون ، وهو الأصل. والثالثة : كأين ، مثل :
كعين مخففا. والرابعة : كيئن ، بياء بعدها همزة مكسورة ، ووقف أبو عمرو بغير نون ،
فقال : كأي ، لأنه تنوين ، ووقف
__________________
الباقون بالنون. والمعنى : كثير من الأنبياء قتل معه ربيون. قرأ نافع ، وابن
كثير وأبو عمرو ، ويعقوب ، قتل على البناء للمجهول وهي قراءة ابن عباس ، واختارها
أبو حاتم ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون في قتل ضمير يعود إلى النبيّ ، وحينئذ
يكون قوله : (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) : جملة حالية ، كما يقال : قتل الأمير معه جيش ، أي :
ومعه جيش ، والوجه الثاني : أن يكون القتل واقعا على ربيون ، فلا يكون في قتل ضمير
، والمعنى : قتل بعض أصحابه ، وهم الربيون. وقرأ الكوفيون وابن عامر : «قاتل» ،
وهي قراءة ابن مسعود ، واختارها أبو عبيد ، وقال : إن الله إذا حمد من قاتل كان من
قتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل ، فقاتل أعمّ وأمدح
، ويرجح هذه القراءة الأخرى. والوجه الثاني من القراءة الأولى : ما قتل نبيّ في
حرب قط ، وكذا قال سعيد بن جبير. والربيون : بكسر الراء ، قراءة الجمهور ، وقرأ
عليّ : بضمها ، وابن عباس : بفتحها ، وواحده : ربي بالفتح منسوب إلى الرب ، والربي
: بضم الراء وكسرها ، منسوب إلى الربة ، بكسر الراء وضمها وهي الجماعة ، ولهذا
فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة ؛ وقيل هم الأتباع ؛ وقيل : هم العلماء.
قال الخليل : الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا
إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية. وقال الزجاج : الربيون بالضم الجماعات. قوله
: (فَما وَهَنُوا) عطف على قاتل ، أو قتل. والوهن انكسار الجدّ بالخوف.
وقرأ الحسن : «وهنوا» بكسر الهاء وضمها. قال أبو زيد : لغتان ، وهن الشيء يهن وهنا
: ضعف ، أي : ما وهنوا لقتل نبيهم أو لقتل من قتل منهم (وَما ضَعُفُوا) أي : عن عدوّهم (وَمَا اسْتَكانُوا) لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة : الذلة والخضوع وقرئ
: «وما وهنوا وما ضعفوا» بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي : ضعفوا ، بفتح العين
، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أحد ، وذلّ واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع
من الشيطان ، ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل. قوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) أي : قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول
، وقولهم : منصوب على أنه خبر كان. وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية عنهما : برفع
قولهم. وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء مفرغ ، أي : ما كان قولهم عند أن قتل منهم
ربانيون ، أو قتل نبيهم (إِلَّا أَنْ قالُوا
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) قيل : هي الصغائر. وقوله : (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) قيل : هي الكبائر ، والظاهر : أن الذنوب تعم كل ما يسمى
ذنبا من صغيرة أو كبيرة. والإسراف : ما فيه مجاوزة للحدّ ، فهو من عطف الخاص على
العام ، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين : هضما لأنفسهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مواطن القتال (فَآتاهُمُ اللهُ) بسبب ذلك (ثَوابَ الدُّنْيا) من النصر والغنيمة والعزة ونحوها (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : ثواب الآخرة الحسن ،
وهو نعيم الجنة ، جعلنا الله من أهلها.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) قال : تداول من الكفار والمؤمنين في الخير والشرّ.
وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال : أوّل ما نزل من آل
عمران : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) ثم أنزل بقيتها يوم أحد. وأخرج
ابن جرير عن الحسن في قوله : (هذا بَيانٌ) يعني القرآن. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة
نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد
أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اللهمّ لا يعلون علينا» فأنزل الله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عن ابن جريج قال : انهزم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الشعب يوم أحد ، فسألوا : ما فعل النبي صلىاللهعليهوسلم وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض ، وتحدّثوا أن النبي صلىاللهعليهوسلم قد قتل ، فكانوا في همّ وحزن ، فبينما هم كذلك ، علا
خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل. وكانوا على أحد مجنبتي المشركين ،
وهم أسفل من الشعب ، فلما رأوا النبي صلىاللهعليهوسلم فرحوا ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اللهم لا قوّة لنا إلّا بك ، وليس أحد يعبدك بهذا
البلد غير هؤلاء النّفر فلا تهلكهم» وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل
المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) قال : وأنتم الغالبون. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ) قال : جراح وقتل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
الحسن في قوله : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) قال : إن يقتل منكم يوم أحد فقد قتل منهم يوم بدر. وأخرج
ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ
النَّاسِ) قال : كان يوم أحد بيوم بدر. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) الآية ، قال : أدال المشركين على النبي صلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم
أحد بضعة وسبعين رجلا عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين ، وكان عدد
الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلا. وأخرج ابن جريج ، وابن المنذر عن ابن عباس في
قوله : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ) قال : إن المسلمين كانوا يسألون ربهم : اللهمّ ربنا
أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيرا ، ونلتمس فيه الشهادة ،
فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء. وأخرجا عنه في قوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال : يبتليهم (وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ) قال : ينقصهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه :
أن رجالا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم كانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد ،
أو ليت لنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ، ونبلي فيه خيرا ، ونلتمس الشهادة
والجنة والحياة والرزق ، فأشهدهم الله أحدا ، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم. فقال
الله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن كليب قال : خطبنا عمر بن
الخطاب ، فكان يقرأ على المنبر : آل عمران ، ويقول : إنها أحدية ، ثم قال : تفرقنا
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد ،
فقلت : لا أسمع أحدا يقول قتل محمد إلا ضربت عنقه ، فنظرت فإذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم والناس يتراجعون إليه ، فنزلت هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد :
ألا إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى دينكم الأوّل ، فأنزل الله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ). أخرج أيضا عن مجاهد نحوه. وأخرج أيضا عن
عليّ في قوله : (وَسَيَجْزِي اللهُ
الشَّاكِرِينَ) قال : الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه ، فكان عليّ
يقول : كان أبو بكر أمير الشاكرين. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني
، والحاكم عنه : أنه كان يقول في حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إن الله يقول : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله
لئن مات ، أو قتل ، لأقاتلنّ على ما قتل عليه حتى أموت. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : (رِبِّيُّونَ) قال : ألوف. وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال : الربة
الواحدة ألف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (رِبِّيُّونَ) قال : جموع. وأخرج ابن جرير عنه قال : علماء كثير.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَمَا اسْتَكانُوا) قال : تخشعوا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في
قوله : (وَإِسْرافَنا فِي
أَمْرِنا) قال : خطايانا.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما
أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ
وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا
وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ
تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ
فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما
أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))
لما أمر الله
سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار ، وهم مشركوا
العرب ؛ وقيل : اليهود والنصارى ؛ وقيل : المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة
ارجعوا إلى دين آبائكم. وقوله : (يَرُدُّوكُمْ عَلى
أَعْقابِكُمْ) أي : يخرجونكم من دين الإسلام إلى الكفر (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي : ترجعوا مغبونين. وقوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) إضراب عن مفهوم الجملة الأولى ، أي : إن تطيعوا
الكافرين يخذلوكم ، ولا ينصروكم ، بل الله ناصركم ، لا غيره ؛ وقرئ : «بل الله»
بالنصب ، على تقدير : بل أطيعوا الله. قوله : (سَنُلْقِي) قرأ السختياني : بالياء التحتية ، وقرأ الباقون :
بالنون. وقرأ ابن عامر والكسائي : (الرُّعْبَ) بضم العين. وقرأ الباقون بالسكون وهما لغتان ، يقال :
رعبته رعبا ورعبا فهو مرعوب ، ويجوز أن يكون مصدرا ، والرعب بالضم : الاسم ، وأصله
: الملء ، يقال : سيل راعب ، أي : يملأ الوادي ، ورعبت الحوض : ملأته ، فالمعنى :
سنملأ قلوب الكافرين رعبا ، أي : خوفا وفزعا ، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ،
ومجازا في غيرها كهذه الآية ، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا
استأصلوا المسلمين ، وقالوا : بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد
تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ،
فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب ، حتى رجعوا عما هموا به (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) متعلق بقوله : (سَنُلْقِي) وما : مصدرية ، أي : بسبب إشراكهم (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : ما لم ينزل الله بجعله شريكا له حجة وبيانا
وبرهانا ، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد ، أي : لا حجة ولا إنزال ، والمعنى : أن
الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل. والمثوى : المكان الذي يقام فيه ، يقال :
ثوى ، يثوي ، ثواء. قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ) نزلت لما قال بعض المسلمين : من أين أصابنا هذا وقد
وعدنا الله النصر؟ وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء ، حتى قتلوا صاحب لواء
المشركين وتسعة نفر بعده ؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة ؛ وترك الرماة مركزهم طلبا
للغنيمة ؛ كان ذلك سبب الهزيمة. والحسّ : الاستئصال بالقتل ، قاله أبو عبيد. يقال
: جراد محسوس : إذا قتله البرد ، وسنة حسوس ، أي : جدبة تأكل كل شيء. قيل : وأصله
من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه : أذهب حسه بالقتل ، وتحسونهم :
تقتلونهم وتستأصلونهم ، قال الشاعر :
حسسناهم
بالسيف حسّا فأصبحت
|
|
بقيّتهم قد
شرّدوا وتبدّدوا
|
وقال جرير :
تحسّهم
السّيوف كما تسامى
|
|
حريق النّار
في الأجم الحصيد
|
(بِإِذْنِهِ) أي : بعلمه ، أو بقضائه (حَتَّى إِذا
فَشِلْتُمْ) أي : جبنتم وضعفتم ، قيل : جواب حتى محذوف ، تقديره :
امتحنتم ، وقال الفراء : جواب حتى : قوله : (وَتَنازَعْتُمْ) والواو مقحمة زائدة ، كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) وقال أبو علي : يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم ؛ وقيل
: فيه تقديم وتأخير ، أي : حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم ؛ وقيل : إن الجواب :
عصيتم ، والواو مقحمة. وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ) ؛ وقيل : حتى : بمعنى إلى ، وحينئذ لا جواب لها ،
والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم : نلحق الغنائم ، وقال بعضهم
: نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ومعنى قوله : (مِنْ بَعْدِ ما
أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد ، كما
تقدّم ، (مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني : الغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالا لأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم (ثُمَّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي : ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم
ليمتحنكم (وَلَقَدْ عَفا
عَنْكُمْ) لما علم من ندمكم ، فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة
، والخطاب لجميع المنهزمين ، وقيل : للرماة فقط. قوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلق بقوله : (صَرَفَكُمْ) أو بقوله : (وَلَقَدْ عَفا
عَنْكُمْ) أو بقوله : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) وقرأه الجمهور : بضمّ التاء وكسر العين ، وقرأ أبو رجاء
العطاردي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة : بفتح التاء والعين. وقرأ
ابن محيصن وقنبل : «يصعدون» بالتحتية. قال أبو حاتم : أصعدت : إذا مضيت حيال وجهك
، وصعدت : إذا ارتقيت في جبل ، فالإصعاد : السير في مستوى الأرض وبطون الأودية ،
والصعود : الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج ، فيحتمل أن يكون صعودهم
في الجبل
__________________
بعد إصعادهم في الوادي ، فيصح المعنى على القراءتين. وقال القتبي : أصعد :
إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه ، ومنه قول الشاعر :
ألا أيّهذا
السّائلي أين أصعدت
|
|
فإنّ لها من
بطن يثرب موعدا
|
وقال الفراء :
الإصعاد : الابتداء في السفر ، والانحدار : الرجوع منه ، يقال : أصعدنا من بغداد
إلى مكة ، وإلى خراسان ، وأشباه ذلك : إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر ، وانحدرنا
: إذا رجعنا. وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد. ومعنى : (تَلْوُونَ) : تعرجون وتقيمون ، أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا ،
فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته (عَلى أَحَدٍ) أي : على أحد ممن معكم ؛ وقيل : على رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقرأ الحسن : «تلون» بواو واحدة ، وقرأ عاصم في رواية
عنه : بضم التاء ، وهي لغة. قوله : (وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي : في الطائفة المتأخرة منكم ، يقال : جاء فلان في
آخر الناس ، وآخرة الناس ، وأخرى الناس ، وأخريات الناس. وكان دعاء النبي صلىاللهعليهوسلم : «أي عباد الله ارجعوا». قوله : (فَأَثابَكُمْ) عطف على صرفكم ، أي : فجازاكم الله غما حين صرفكم عنه
بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعصيانكم ، أو غما موصولا بغمّ بسبب ذلك الإرجاف والجرح
والقتل وظفر المشركين ، والغمّ في الأصل : التغطية ، غميت الشيء : غطيته ، ويوم
غمّ ، وليلة غمة : إذا كانا مظلمين ، ومنه : غمّ الهلال ؛ وقيل : الغمّ الأول :
الهزيمة ، والثاني : إشراف أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم في الجبل. قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) اللام متعلقة بقوله : (فَأَثابَكُمْ) أي : هذا الغمّ بعد الغمّ ، لكيلا تحزنوا على ما فات من
الغنيمة ، ولا ما أصابكم من الهزيمة ، تمرينا لكم على المصائب ، وتدريبا لاحتمال
الشدائد. وقال المفضل : معنى (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) لكي تحزنوا ، ولا زائدة كقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي : أن تسجد ، وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ) أي : ليعلم.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ، ولا
تصدقوهم بشيء في دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي يقول : إن تطيعوا أبا سفيان
بن حرب يردّكم كفارا. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (سَنُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) نحو ما قدّمناه في سبب نزول الآية. وأخرج البيهقي في
الدلائل عن عروة في قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ
اللهُ وَعْدَهُ) قال : كان الله وعدهم على الصبر والتقوى : أن يمدّهم
بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا
يبرحوا منازلهم ، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة. وقصة أحد مستوفاة في
السير والتواريخ فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن
عبد الرحمن بن عوف في قوله : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) قال : الحسّ : القتل. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس
مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه. قال : الفشل : الجبن. وأخرج ابن المنذر
عن البراء بن عازب في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما
أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) قال : الغنائم وهزيمة القوم. وأخرج ابن جرير عن الحسن
في قوله :
(وَلَقَدْ عَفا
عَنْكُمْ) قال : يقول الله قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم.
وأخرج أيضا عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس (إِذْ تُصْعِدُونَ) قال : أصعدوا في أحد فرارا والرسول يدعوهم في أخراهم : «إليّ
عباد الله ارجعوا ، إليّ عباد الله ارجعوا». وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن ابن
عوف : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا
بِغَمٍ) قال : الغمّ الأوّل : بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل
: قتل محمد ، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (غَمًّا بِغَمٍ) قال : فرّة بعد الفرّة ، الأولى : حين سمعوا الصوت أن
محمدا قد قتل. [والثانية حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين حتى قتلوا منهم سبعين رجلا]
. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم قال : الغم الأوّل :
الجراح والقتل ، والغم الآخر : حين سمعوا أن النبي صلىاللهعليهوسلم قد قتل. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله.
(ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ
قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ
الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ
الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ
يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ
كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى
مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي
قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا
مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ
بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
(١٥٥))
الأمنة والأمن
سواء ، وقيل : الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف ، والأمن مع عدمه ، وهي : منصوبة
بأنزل. ونعاسا : بدل منها ، أو عطف بيان ، أو مفعول له ؛ وأما ما قيل من أن أمنة :
حال من نعاسا مقدّمة عليه ، أو حال من المخاطبين ، أو مفعول له ، فبعيد. وقرأ ابن
محيصن : «أمنة» بسكون الميم. قوله : (يَغْشى) قرئ : بالتحتية ، على أن الضمير للنعاس ، وبالفوقية ،
على أن الضمير لأمنة ، والطائفة : تطلق على الواحد والجماعة ، والطائفة الأولى :
هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلبا للأجر ، والطائفة الأخرى : هم معتب بن قشير
وأصحابه ، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة ، وجعلوا يناشدون على الحضور ، ويقولون
الأقاويل. ومعنى : (أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) حملتهم على الهمّ ، أهمني الأمر : اقلقني ، والواو في
قوله : (وَطائِفَةٌ) للحال ، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال
، وقيل : إن معنى (أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ) صارت همهم ، لا همّ لهم غيرها (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : يظنون بالله
غير الحق الذي يجب أن يظن به ، وظنّ الجاهلية : بدل منه. وهو الظنّ المختص بملة
الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية ، وهو ظنهم : أن أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم باطل ، وأنه لا ينصر ولا يتمّ ما دعا إليه من دين الحق.
__________________
وقوله : (يَقُولُونَ) بدل من «يظنون» ، أي : يقولون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : (هَلْ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي : هل لنا من أمر الله نصيب ، وهذا الاستفهام معناه :
الجحد ، أي : ما لنا شيء من الأمر. وهو النصر والاستظهار على العدوّ ؛ وقيل : هو
الخروج ، أي : إنما خرجنا مكرهين ، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) وليس لكم ولا لعدوّكم منه شيء ، فالنصر بيده والظفر منه.
وقوله : (يُخْفُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ) أي : يضمرون في أنفسهم النفاق ولا يبدون لك ذلك ، بل
يسألونك سؤال المسترشدين. وقوله : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ
لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) استئناف ، كأنه قيل : ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟
فقيل : يقولون فيما بينهم ، أو في أنفسهم (لَوْ كانَ لَنا مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي : ما قتل من قتل منا في هذه المعركة ، فردّ الله
سبحانه ذلك عليهم بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ
فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي : لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بدّ من خروج من
كتب عليه القتل إلى هذه المصارع الي صرعوا فيها ، فإن قضاء الله لا يردّ. وقوله : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي
صُدُورِكُمْ) علة لفعل مقدّر قبلها ، معطوفة على علل له أخرى مطوية
للإيذان بكثرتها ، كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة (وَلِيَبْتَلِيَ) إلخ ؛ وقيل : إنه معطوف على علة مطوية لبرز ، والمعنى :
ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص ، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي : انهزموا يوم أحد ، وقيل المعنى : إن الذين تولوا
المشركين يوم أحد (إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها
مخالفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ
عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم.
وقد أخرج ابن
جرير عن ابن عباس في الآية قال : أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم ، وإنما ينعس من
يأمن. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال : غشينا ونحن في مصافنا يوم
أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي ، وآخذه ويسقط ، وآخذه فذلك قوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ
الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) الآية. وأخرج الترمذي ، وصححه ، وابن جرير ، وأبو الشيخ
، والبيهقي في الدلائل عن الزبير بن العوّام قال : رفعت رأسي يوم أحد ، فجعلت أنظر
، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس ، وتلا هذه الآية. وأخرج ابن
جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج قال : إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبيّ ،
وكان سيد المنافقين : قتل اليوم بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر شيء ، أما
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. وأخرج ابن جرير عن قتادة
والربيع في قوله : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) قال : ظنّ أهل الشرك. وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم
عن ابن عباس قال : معتب هو الذي قال يوم أحد : لو كان لنا من الأمر شيء. وأخرج ابن
أبي حاتم عن الحسن أن الذي قال ذلك : عبد الله بن أبيّ. وأخرج ابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) قال : هم ثلاثة واحد من المهاجرين ، واثنان من الأنصار.
وأخرج ابن مندة ، وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في عثمان ورافع بن
المعلى وخارجة ابن زيد. وقد روي في تعيين «من» في الآية روايات كثيرة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ
إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا
وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ
(١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ
وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ
باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ
دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))
قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم المنافقون الذين قالوا : لو كان لنا من الأمر شيء ما
قتلنا هاهنا. قوله : (وَقالُوا
لِإِخْوانِهِمْ) في النفاق أو في النسب ، أي : قالوا لأجلهم (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) إذا ساروا فيها للتجارة أو نحوها ؛ قيل : إن إذا هنا
المفيدة لمعنى الاستقبال : بمعنى إذ المفيدة لمعنى المضيّ ؛ وقيل : هي على معناها
، والمراد هنا حكاية الحال الماضية. وقال الزجاج : إذا هنا تنوب عن ما مضى من
الزمان وما يستقبل (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز ، كراكع وركع ، وغائب وغيب ، قال الشاعر :
قل للقوافل والغزيّ إذا غزوا
(لِيَجْعَلَ اللهُ
ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) اللام متعلقة بقوله : (قالُوا) أي : قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم. والمراد
: أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا حسرة ، أو متعلقة بقوله : (لا تَكُونُوا) أي : لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك ، ليجعله الله حسرة
في قلوبهم فقط دون قلوبكم ؛ وقيل : المعنى : لا تلتفتوا إليهم ليجعل الله عدم
التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم ؛ وقيل : المراد : حسرة في قلوبهم يوم القيامة لما
فيه من الخزي والندامة (وَاللهُ يُحْيِي
وَيُمِيتُ) فيه ردّ على قولهم ، أي : ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما
يشاء ويحكم ما يريد ، فيحيي من يريد ، ويميت من يريد من غير أن يكون للسفر أو
الغزو أثر في ذلك ، واللام في قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) موطئة. وقوله : (لَمَغْفِرَةٌ) جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، والمعنى : أن السفر
والغزو ليسا مما يجلب الموت ، ولئن وقع ذلك فبأمر الله سبحانه (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي : الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدّة أعمارهم ،
على قراءة من قرأ : بالياء التحتية ، أو خير
__________________
مما تجمعون أيها المسلمون من الدنيا ومنافعها ، على قراءة من قرأ :
بالفوقية. والمقصود في الآية : بيان مزية القتل أو الموت في سبيل الله ، وزيادة
تأثيرهما في استجلاب المغفرة والرحمة. قوله : (وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ) على أيّ وجه ، حسب تعلق الإرادة الإلهية (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) هو جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة ، سادّ مسدّ
جواب الشرط ، كما تقدم في الجملة الأولى : أي : إلى الربّ الواسع المغفرة تحشرون ،
لا إلى غيره ، كما يفيده تقديم الظرف على الفعل ، مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه
بالذكر من الدلالة على كمال اللطف والقهر. وما في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) مزيدة للتأكيد ، قال سيبويه وغيره ؛ وقال ابن كيسان :
إنها نكرة في موضع جرّ بالباء ، ورحمة : بدل منها ، والأوّل أولى بقواعد العربية ،
ومثله : قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ) والجار والمجرور متعلق بقوله : (لِنْتَ لَهُمْ) وقدّم عليه لإفادة القصر ، وتنوين رحمة للتعظيم ؛
والمعنى : أنّ لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه ؛ وقيل : إن : ما ،
استفهامية ، والمعنى : فبأيّ رحمة من الله لنت لهم؟ وفيه معنى التعجيب وهو بعيد ،
ولو كان كذلك لحذف الألف من ما ؛ وقيل : فبم رحمة من الله. والفظّ : الغليظ
الجافي. وقال الراغب : الفظّ هو الكريه الخلق ، وأصله : فظظ ، كحذر. وغلظ القلب :
قساوته ، وقلة إشفاقه ، وعدم انفعاله للخير. والانفضاض : التفرّق ، يقال : فضضتهم
فانفضوا ، أي : فرّقتهم فتفرّقوا ، والمعنى : لو كنت فظا غليظ القلب لا ترفق بهم
لتفرّقوا من حولك ، هيبة لك ، واحتشاما منك ، بسبب ما كان من توليهم ، وإذا كان
الأمر كما ذكر (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بك من الحقوق (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي : الذي يرد عليك ، أيّ أمر كان مما يشاور في مثله ،
أو في أمر الحرب خاصة ، كما يفيده السياق ، لما في ذلك من تطييب خواطرهم واستجلاب
مودّتهم ، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك ، حتى لا يأنف منه أحد بعدك. والمراد هنا :
المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها. قال أهل اللغة : الاستشارة مأخوذة من
قول العرب : شرت الدابة وشورتها : إذا علمت خبرها ؛ وقيل : من قولهم : شرت العسل :
إذا أخذته من موضعه. قال ابن خويز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا
يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ، ومشاورة وجوه الجيش ، فيما يتعلق بالحرب
، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق
بمصالح البلاد وعمارتها. وحكى القرطبي عن ابن عطية : أنه لا خلاف في وجوب عزل من
لا يستشير أهل العلم والدين. قوله : (فَإِذا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : إذا عزمت عقب المشاورة على شيء ، واطمأنت به نفسك
، فتوكل على الله في فعل ذلك ، أي : اعتمد عليه وفوّض إليه ؛ وقيل : إن المعنى :
فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه ، فتوكل على الله لا على المشاورة. والعزم في الأصل
: قصد الإمضاء أي : فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله. وقرأ جعفر الصادق ، وجابر
بن زيد : «فإذا عزمت» : بضم التاء ، بنسبة العزم إلى الله تعالى ، أي : فإذا عزمت
لك على شيء ، وأرشدتك إليه ، فتوكل على الله. وقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ
لَكُمْ) جملة مستأنفة ، لتأكيد التوكل ، والحثّ عليه. والخذلان
: ترك العون ، أي : وإن يترك الله عونكم (فَمَنْ ذَا الَّذِي
يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) وهذا الاستفهام :
إنكاري. والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أو إلى الله ، ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه
، وأن من نصره الله لا غالب له ، ومن خذله لا ناصر له ، فوّض أموره إليه ، وتوكل
عليه ، ولم يشتغل بغيره ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) : لإفادة قصره عليه. قوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي ما صح له ذلك لتنافي الغلول والنبوّة. قال أبو عبيد
: الغلول : من المغنم خاصة ، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد ، ومما يبين ذلك
أنه يقال من الخيانة : أغلّ يغلّ ، ومن الحقد : غلّ يغلّ بالكسر ، ومن الغلول :
غلّ يغلّ بالضم ؛ يقال : غلّ المغنم غلولا ، أي : خان بأن يأخذ لنفسه شيئا يستره
على أصحابه ؛ فمعنى الآية على القراءة بالبناء للفاعل : ما صح لنبيّ أن يخون شيئا
من المغنم ، فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه. وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول.
ومعناها على القراءة بالبناء للمفعول : ما صحّ لنبيّ أن يغله أحد من أصحابه ، أي :
يخونه في الغنيمة ، وهو على هذه القراءة الأخرى : نهي للناس عن الغلول في المغانم
؛ وإنما خص خيانة الأنبياء مع كون خيانة غيرهم من الأئمة والسلاطين والأمراء حراما
، لأن خيانة الأنبياء أشدّ ذنبا وأعظم وزرا (وَمَنْ يَغْلُلْ
يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يأت به حاملا له على ظهره ، كما صح ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فيفضحه بين الخلائق ، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم
الغلول ، والتنفير منه ، بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد ، يطلع
عليها أهل المحشر ، وهي مجيئه يوم القيامة بما غله حاملا له ، قبل أن يحاسب عليه
يعاقب عليه. قوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي : تعطي جزاء ما كسبت وافيا من خير وشرّ ، وهذه الآية
تعمّ كل من كسب خيرا أو شرا ، ويدخل تحتها الغالّ دخولا أوليا ، لكون السياق فيه.
قوله : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) الاستفهام للإنكار ، أي : ليس من اتبع رضوان الله في
أوامره ونواهيه فعمل بأمره واجتنب نهيه كمن باء ، أي : رجع بسخط عظيم كائن من الله
، بسبب مخالفته لما أمر به ونهي عنه ، ويدخل تحت ذلك ، من اتبع رضوان الله بترك
الغلول واجتنابه ، ومن باء بسخط من الله بسبب إقدامه على الغلول. ثم أوضح ما بين
الطائفتين من التفاوت فقال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ) أي : متفاوتون في الدرجات ؛ والمعنى : هم ذوو درجات ،
أو : لهم درجات ، فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدرجات من باء بسخط من الله ،
فإن الأوّلين في أرفع الدرجات. والآخرين في أسفلها. قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ) جواب قسم محذوف ، وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين
ببعثته. ومعنى : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أنه عربيّ مثلهم ؛ وقيل : بشر مثلهم ، ووجه المنة على
الأوّل : أنهم يفقهون عنه ، ويفهمون كلامه ، ولا يحتاجون إلى ترجمان. ومعناها على
الثاني : أنهم يأنسون به بجامع البشرية ، ولو كان ملكا لم يحصل كمال الأنس به
لاختلاف الجنسية ، وقرئ : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بفتح الفاء ، أي : من أشرفهم لأنه من بني هاشم ، وبنو
هاشم أفضل قريش ، وقريش أفضل العرب ، والعرب أفضل من غيرهم ، ولعلّ وجه الامتنان
على هذه القراءة : أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له وأقرب إلى تصديقه ، ولا بد
من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأوّل ، وأما على الوجه الثاني
: فلا حاجة إلى هذا التخصيص ،
وكذا على قراءة من قرأ : بفتح الفاء ، لا حاجة إلى التخصيص ، لأن بني هاشم
هم أنفس العرب والعجم في شرف الأصل وكرم النجاد ورفاعة المحتد. ويدل على الوجه
الأوّل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) وقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ). قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آياتِهِ) هذه منة ثانية ، أي : يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا
أهل جاهلية ، لا يعرفون شيئا من الشرائع (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : يطهرهم من نجاسة الكفر ، وهذه الجملة معطوفة على
الجملة الأولى ، وهما : في محل نصب على الحال ، أو صفة لرسول ، وهكذا قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) ، والمراد بالكتاب هنا : القرآن. والحكمة : السنة. وقد
تقدّم في البقرة تفسير ذلك : (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلُ) أي : من قبل محمد ، أو : من قبل بعثته (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : واضح لا ريب فيه ، واللام للفرق بين إن المخففة من
الثقيلة ، وبين النافية ، فهي تدخل في خبر المخففة لا النافية ، واسمها ضمير الشأن
، أي : وإن الشأن والحديث ؛ وقيل : إنها النافية ، واللام بمعنى : إلا ، أي : وما
كانوا من قبل إلا في ضلال مبين ، وبه قال الكوفيون ، والجملة على التقديرين : في
محل نصب على الحال.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا
فِي الْأَرْضِ) الآية ، قال : هذا قول عبد الله بن أبيّ ابن سلول
والمنافقين. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي
قُلُوبِهِمْ) قال : يحزنهم قولهم ولا ينفعهم شيئا. وأخرجوا عن قتادة
في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ) يقول : فبرحمة من الله (لِنْتَ لَهُمْ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) قال : لانصرفوا عنك. وأخرج ابن عديّ ، والبيهقي في
الشعب ، قال السيوطي بسند حسن عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ، ولكنّ الله
جعلها رحمة لأمّتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ، ومن تركها لم يعدم غيّا».
وأخرج الحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). قال : أبو بكر وعمر. وأخرج ابن مردويه عن عليّ قال :
سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن العزم ، فقال : «مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم».
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال : نزلت هذه الآية (وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَ) في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعلّ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخذها فنزلت. وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، والطبراني
عن ابن عباس : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَغُلَ) قال : ما كان لنبيّ أن يتهمه أصحابه. وقد ورد في تحريم
الغلول أحاديث كثيرة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس
: (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ) يقول : بأعمالهم. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة في قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، قالت : هذه للعرب خاصة.
(أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ
(١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا
قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً
لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ
يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما
يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما
قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(١٦٨))
قوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الألف للاستفهام بقصد التقريع ، والواو للعطف. والمصيبة
: الغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد ، (قَدْ أَصَبْتُمْ
مِثْلَيْها) يوم بدر ، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد
سبعون. وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، فكان مجموع
القتلى والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد ؛ والمعنى : أحين أصابكم
من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا؟ وقد وعدنا
بالنصر. وقوله : (أَنَّى هذا) أي : من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في
سبيل الله ومعنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ وقد وعدنا الله بالنصر عليهم وقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أمر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب ، أي : هذا الذي سألتم
عنه ، وهو من عند أنفسكم ، بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به النبي صلىاللهعليهوسلم ، من لزوم المكان الذي عينه لهم ، وعدم مفارقتهم له على
كل حال وقيل : إن المراد بقوله : (هُوَ مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ) خروجهم من المدينة. ويردّه أن الوعد بالنصر إنما كان
بعد ذلك ؛ وقيل : هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل ، و (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) يوم أحد ؛ أي : ما أصابكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة
(فَبِإِذْنِ اللهِ) فبعلمه ، وقيل : بقضائه وقدره ؛ وقيل بتخليته بينكم
وبينهم ، والفاء : دخلت في جواب الموصول لكونه يشبه الشرط كما قال سيبويه. وقوله :
(وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ) عطف على قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) عطف سبب على سبب. وقوله : (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ نافَقُوا) عطف على ما قبله ، قيل : أعاد الفعل لقصد تشريف
المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم وإلى المنافقين واحدا ، والمراد بالعلم
هنا : التمييز والإظهار ، لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك ؛ والمراد بالمنافقين هنا :
عبد الله بن أبيّ وأصحابه. قوله : (وَقِيلَ لَهُمْ) هو معطوف على قوله : (نافَقُوا) أي : ليعلم الله الذين نافقوا والذين قيل لهم ؛ وقيل :
هو كلام مبتدأ ، أي : قيل لعبد الله بن أبيّ وأصحابه : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر (أَوِ ادْفَعُوا) عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر ،
فأبوا جميع ذلك وقالوا : لو نعلم أنه سيكون قتالا لاتبعناكم وقاتلنا معكم ، ولكنه
لا قتال هنالك ؛ وقيل المعنى : لو كنا نقدر على القتال ونحسنه لاتبعناكم ، ولكنا
لا نقدر على ذلك ولا نحسنه. وعبر عن نفي القدر على القتال : بنفي العلم به ،
لكونها مستلزمة له ، وفيه بعد لا ملجئ إليه ، وقيل : معناه : لو نعلم ما يصح أن
يسمى قتالا لاتبعناكم ، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال ، ولكنه إلقاء بالنفس إلى
التهلكة ، لعدم القدرة منا ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم ، والخروج
من المدينة ، وهذا أيضا فيه بعد دون ما قبله ؛ وقيل : معنى الدفع هنا :
تكثير سواد المسلمين ؛ وقيل : معناه : رابطوا ، والقائل للمنافقين هذه
المقالة التي حكاها الله سبحانه هو : عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري والد جابر
بن عبد الله. قوله : (هُمْ لِلْكُفْرِ
يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي : هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى
الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون ، لأنهم قد بينوا حالهم ،
وهتكوا أستارهم ، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك ؛ وقيل : المعنى : أنهم لأهل الكفر
يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان. قوله : (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) جملة مستأنفة ، مقررة لمضمون ما تقدّمها ، أي : أنهم
أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، وذكر الأفواه للتأكيد ، مثل قوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) . قوله : (الَّذِينَ قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ) إلخ ، أي : هم الذين قالوا لإخوانهم ، على أنه خبر
مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون بدلا من : واو يكتمون ، أو منصوبا على الذمّ ، أو وصف
للذين نافقوا. وقد تقدم معنى (قالُوا
لِإِخْوانِهِمْ) أي : قالوا لهم ذلك ، والحال أن هؤلاء القائلين قد
قعدوا عن القتال (لَوْ أَطاعُونا) بترك الخروج من المدينة ما قتلوا ، فردّ الله ذلك عليهم
بقوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ
أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) والدرء : الدفع ، أي : لا ينفع الحذر من القدر ، فإن
المقتول يقتل بأجله.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية. يقول : إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي
ما أصابوا منكم يوم أحد ، وقد بين هذا عكرمة. فأخرج ابن جرير عنه قال : قتل
المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل المشركون يوم أحد من
المسلمين سبعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : لما رأوا من قتل منهم
يوم أحد قالوا من أين هذا؟ ما كان للكفار أن يقتلوا منا ، فلما رأى الله ما قالوا
من ذلك ، قال الله : هم بالأسرى الذين أخذتم يوم بدر. فردّهم الله بذلك ، وعجل لهم
عقوبة ذلك في الدنيا ليسلموا منها في الآخرة ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة ،
والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه عن عليّ قال : جاء جبريل
إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد! إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم
الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن
يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم ، فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله! عشائرنا
وإخواننا ، لا ، بل نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدوّنا ويستشهد منا عدتهم ،
فليس في ذلك ما نكره ، فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر. وهذا
الحديث في سنن الترمذي ، والنسائي هو من طريق أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن
أبي زائدة ، عن سفيان بن سعيد ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة عن
عليّ : قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة.
وروى أبو أسامة عن هشام نحوه. وروي عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم مرسلا ، وإسناد ابن جرير لهذا الحديث هكذا : حدثنا
القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون قال سنيد : وهو حسين ،
وحدثني حجاج عن جرير ، عن محمد ، عن عبيدة ، عن علي فذكره. وأخرج ابن أبي حاتم من
طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا قراد ابن نوح ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا
سماك الحنفي أبو زميل ، حدثني ابن عباس عن عمر بن الخطاب
__________________
قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم
الفداء ، فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم عنه ، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم
على وجهه ، فأنزل الله عزوجل : (أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية. وأخرج الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن غزوان
وهو قراد بن نوح ، به ، ولكن بأطول منه ، ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق : ما
نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) وما روي من بكائه صلىاللهعليهوسلم هو وأبو بكر ندما على أخذ الفداء ، ولو كان أخذ ذلك بعد
التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه ، ولا حصل ما حصل من النبي صلىاللهعليهوسلم ومن معه من الندم والحزن ، ولا صوب النبي صلىاللهعليهوسلم رأي عمر رضي الله عنه ، حيث أشار بقتل الأسرى وقال ما
معناه : لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر ، والجميع في كتب الحديث والسير. وأخرج
ابن المنذر عن ابن عباس : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله وهؤلاء مشركون. فقال : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلىاللهعليهوسلم حين قال : لا تتبعوهم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (أَوِ ادْفَعُوا) قال : كثروا بأنفسكم وإن لم تقاتلوا ، وأخرج أيضا عن
الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عون الأنصاري في قوله : (أَوِ ادْفَعُوا) قال : رابطوا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن
شهاب وغيره قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط
بين أحد والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني
، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا هاهنا؟ فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل
الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم! أذكركم الله
أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضرهم عدوهم ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما
أسلمناكم ، ولا نرى أن يكون قتال. وأخرجه ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم بن
شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحسن بن عبد
الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، فذكره ، وزاد : أنهم لما
استعصوا عليه وأبو إلا الانصراف قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) قال : لو نعلم أنا واجدون معكم مكان قتال لاتبعناكم.
(وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ
وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا
حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ
وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ
وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ
__________________
مُؤْمِنِينَ
(١٧٥))
لما بيّن الله
سبحانه : أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحانا ليتميز المؤمن من المنافق ،
والكاذب من الصادق ، بين هاهنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة ، وأن
مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون ، لا مما يخاف ويحذر ، كما قالوا من حكى الله
عنهم : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا
ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) وقالوا : (لَوْ أَطاعُونا ما
قُتِلُوا) فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى ، والخطاب لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، أو لكل أحد ، وقرئ : بالياء التحتية ؛ أي : لا يحسبن
حاسب.
وقد اختلف أهل
العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل : في شهداء أحد ، وقيل : في
شهداء بدر ، وقيل : في شهداء بئر معونة. وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومعنى الآية عند الجمهور : أنهم أحياء حياة محققة. ثم
اختلفوا ؛ فمنهم من يقول أنها تردّ إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون. وقال مجاهد
: يرزقون من ثمر الجنة ، أي : يجدون ريحها وليسوا فيها ، وذهب من عدا الجمهور :
إلى أنها حياة مجازية ، والمعنى : أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة ،
والصحيح الأوّل ، ولا موجب للمصير إلى المجاز. وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم
في أجواف طيور خضر ، وأنهم في الجنة يرزقون ، ويأكلون ، ويتمتعون ، وقوله : (الَّذِينَ قُتِلُوا) هو المفعول الأوّل. والحاسب هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، أو كل أحد كما سبق ؛ وقيل : يجوز أن يكون الموصول هو
فاعل الفعل ، والمفعول الأوّل محذوف ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا ،
وهذا تكلف لا حاجة إليه ، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء. وقوله : (بَلْ أَحْياءٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : بل هم أحياء. وقرئ بالنصب على
تقدير الفعل ، أي : بل احسبهم أحياء. وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) إما خبر ثان ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على الحال
؛ وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : عند كرامة ربهم. قال سيبويه : هذه عندية
الكرامة ، لا عندية القرب. وقوله : (يُرْزَقُونَ) يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) والمراد بالرزق هنا : هو الرزق المعروف في العادات على
ما ذهب إليه الجمهور كما سلف ، وعند من عدا الجمهور المراد : الثناء الجميل ، ولا
وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة ، لا
لسبب يقتضي ذلك. وقوله : (فَرِحِينَ) حال من الضمير في يرزقون ، وبما آتاهم الله من فضله :
متعلق به. وقرأ ابن السميقع : «فارحين» وهما لغتان ، كالفره والفاره ، والحذر
والحاذر. والمراد : (بِما آتاهُمُ اللهُ) ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة ، وما صاروا
فيه من الحياة ، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه. (وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) من إخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا إذ ذاك. فالمراد
باللحوق هنا : أنهم لم يلحقوا بهم في القتل والشهادة ، بل سيلحقون بهم من بعد ،
وقيل : المراد : يلحقوا بهم في الفضل وإن كانوا أهل فضل في الجملة ، والواو : في (وَيَسْتَبْشِرُونَ) ، عاطفة على (يُرْزَقُونَ) أي : يرزقون ويستبشرون ؛ وقيل : المراد بإخوانهم هنا :
جميع المسلمين الشهداء وغيرهم ، لأنهم عاينوا ثواب الله ؛ وحصل لهم اليقين بحقية دين
الإسلام ؛ استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين
هم أحياء لم يموتوا ، وهذا أقوى ، لأن معناه أوسع ، وفائدته أكثر ، واللفظ
يحتمله ، بل هو الظاهر ، وبه قال الزجاج وابن فورك. وقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) بدل من : الّذين ، أي يستبشرون بهذه الحالة الحاصلة
لإخوانهم من أنه لا خوف عليهم ولا حزن ، وأن : هي المخففة من الثقيلة ، واسمها :
ضمير الشأن المحذوف ، وكرر قوله : (يَسْتَبْشِرُونَ) لتأكيد الأوّل ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف
والحزن ، بل به وبنعمة الله وفضله. والنعمة : ما ينعم الله به على عباده. والفضل :
ما يتفضل به عليهم ، وقيل : النعمة : الثواب. والفضل : الزائد ؛ وقيل : النعمة :
الجنة ، والفضل داخل في النعمة ، ذكر بعدها لتأكيدها ؛ وقيل : إن الاستبشار الأوّل
: متعلق بحال إخوانهم ، والاستبشار الثاني : بحال أنفسهم. قوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُؤْمِنِينَ) قرأ الكسائي : بكسر الهمزة من : أن ، وقرأ الباقون :
بفتحها ، فعلى القراءة الأولى : هو مستأنف اعتراض. وفيه دلالة : على أن الله لا
يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : والله لا يضيع أجر
المؤمنين. وعلى القراءة الثانية : الجملة عطف على فضل ، داخلة في جملة ما يستبشرون
به. وقوله : (الَّذِينَ
اسْتَجابُوا) صفة للمؤمنين ، أو بدل منهم ، أو : من الذين لم يلحقوا
بهم ، أو : هو مبتدأ ، خبره : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) بجملته ، أو : منصوب على المدح ، وقد تقدم تفسير القرح.
قوله : (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ) المراد بالناس هنا : نعيم بن مسعود كما سيأتي بيانه ،
وجاز إطلاق لفظ الناس عليه : لكونه من جنسهم ؛ وقيل : المراد بالناس : ركب عبد
القيس الذين مروا بأبي سفيان ؛ وقيل : هم المنافقون. والمراد بقوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) أبو سفيان وأصحابه ، والضمير في قوله : (فَزادَهُمْ) راجع إلى القول المدلول عليه ، بقال ، أو إلى المقول ،
وهو (إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أو إلى القائل ؛ والمعنى : أنهم لم يفشلوا لما سمعوا
ذلك ولا التفتوا إليه ، بل أخلصوا لله ، وازدادوا طمأنينة ويقينا. وفيه دليل : على
أن الإيمان يزيد وينقص. قوله : (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حسب : مصدر حسبه ، أي : كفاه ، وهو بمعنى الفاعل ، أي :
محسب : بمعنى كافي. قال في الكشاف : والدليل على أنه بمعنى المحسب : أنك تقول :
هذا رجل حسبك ، فتصف به النكرة ، لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية.
انتهى. والوكيل : هو من توكل إليه الأمور ، أي : نعم الموكول إليه أمرنا ، أو
الكافي ، أو الكافل والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : نعم الوكيل الله سبحانه. قوله : (فَانْقَلَبُوا) هو معطوف على محذوف ، أي : فخرجوا إليهم فانقلبوا بنعمة
، هو متعلق بمحذوف وقع حالا. والتنوين للتعظيم ، أي : رجعوا متلبسين (بِنِعْمَةٍ) عظيمة وهي السلامة من عدوهم وعافية (وَفَضْلٍ) أي : أجر تفضل الله به عليهم ؛ وقيل : ربح في التجارة ؛
وقيل : النعمة خاصة بمنافع الدنيا ، والفضل بمنافع الآخرة ، وقد تقدّم تفسيرهما
قريبا بما يناسب ذلك المقام ، لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين قد صاروا في الدار
الآخرة ، والكلام هنا مع الأحياء. قوله : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ) في محل نصب على الحال ، أي : سالمين عن سوء ، لم يصبهم
قتل ، ولا جرح ، ولا ما يخافونه (وَاتَّبَعُوا
رِضْوانَ اللهِ) في ما يأتون ويذرون ، ومن ذلك : خروجهم لهذه الغزوة (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه ، ومن تفضله عليهم :
تثبيتهم ، وخروجهم للقاء عدوهم ، وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي
هي جالبة لكل خير ، ودافعة لكل شرّ. قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ) أي : المثبط لكم أيها المؤمنون (الشَّيْطانُ) هو خبر اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم
الإشارة ، والخبر قوله : (يُخَوِّفُ
أَوْلِياءَهُ) ؛ فعلى الأول يكون قوله : (يُخَوِّفُ
أَوْلِياءَهُ) جملة مستأنفة ، أو حالية ، والظاهر أن المراد هنا :
الشيطان نفسه ، باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط ؛ وقيل : المراد
به : نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة ؛ وقيل : أبو سفيان لما صدر منه
الوعيد لهم ؛ والمعنى : أن الشيطان يخوف المؤمنين أولياءه ، وهم الكافرون ؛ وقيل :
إن قوله : (أَوْلِياءَهُ) منصوب بنزع الخافض ، أي : يخوفكم بأوليائه أو من
أوليائه ، قاله الفراء ، والزجاج ، وأبو علي الفارسي. ورده ابن الأنباري : بأن
التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. وعلى قول
الفراء ومن معه : يكون مفعول يخوف محذوفا ، أي : يخوفكم. وعلى الأول : يكون
المفعول الأوّل محذوفا ، والثاني مذكورا ، ويجوز أن يكون المراد : أن الشيطان يخوف
أولياءه ، وهم القاعدون من المنافقين ، فلا حذف. قوله : (فَلا تَخافُوهُمْ) أي : أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان ، أو : فلا
تخافوا الناس المذكورين في قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ) نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم ، فيجبنوا عن اللقاء ،
ويفشلوا عن الخروج ، وأمرهم بأن يخافوه سبحانه فقال : (وَخافُونِ) فافعلوا ما آمركم به ، واتركوا ما أنهاكم عنه ، لأني
الحقيق بالخوف مني ، والمراقبة لأمري ونهيي ، لكون الخير والشرّ بيدي ، وقيده
بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان يقتضي ذلك.
وقد أخرج
الحاكم ، وصححه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) في حمزة وأصحابه. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد
عن أبي الضحى : أنها نزلت في قتلى أحد وحمزة منهم. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود
، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف
طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة
في ظلّ العرش ، فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت
إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا» ، وفي لفظ : «قالوا من يبلّغ إخواننا أنّا أحياء
في الجنّة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله : أنا
أبلّغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات (وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا) الآية وما بعدها». وأخرج الترمذي ، وحسنه ، وابن ماجة ،
وابن خزيمة ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن
جابر بن عبد الله : أن أباه سأل الله سبحانه أن يبلغ من وراءه ما هو فيه ، فنزلت
هذه الآية ، وهو من قتلى أحد. وقد روي من وجوه كثيرة : أن سبب نزول الآية قتلى
أحد. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن أنس : أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة
، وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد ، وقد ثبت في أحاديث
كثيرة في الصحيح وغيره : أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ، وثبت في فضل
الشهداء ما يطول تعداده ، ويكثر إيراده ، مما هو معروف في كتب الحديث. وأخرج
النسائي ، وابن
ماجة ، وابن أبي حاتم ، والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما رجع
المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئس ما صنعتم ،
ارجعوا ، فسمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فندب المسلمين ، فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد ،
أو بئر أبي عتبة ، شكّ سفيان ، فقال المشركون : يرجع من قابل ، فرجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكانت تعدّ غزوة ، فأنزل الله سبحانه : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ) الآية. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن عائشة في
قوله تعالى : (الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآية ، أنها قالت لعروة بن الزبير : يا ابن أختي! كان
أبواك منهم ، الزبير وأبو بكر ، لما أصاب نبي الله صلىاللهعليهوسلم ما أصاب يوم أحد ؛ انصرف عنه المشركون ؛ خاف أن يرجعوا
، فقال : من يرجع في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر والزبير. وأخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو
بن حزم قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم لحمراء الأسد ، وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه وقالوا : رجعنا قبل أن نستأصلهم ، لنكرّن على
بقيتهم ، فبلغه أن النبي صلىاللهعليهوسلم خرج في أصحابه يطلبهم ، فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه ،
ومر ركب من عبد القيس ، فقال لهم أبو سفيان : بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة
على أصحابه لنستأصلهم ؛ فلما مرّ الركب برسول الله صلىاللهعليهوسلم بحمراء الأسد ؛ أخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون معه : «حسبنا الله ونعم الوكيل» ، فأنزل الله
في ذلك : (الَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآيات. وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والبيهقي في
الدلائل عن ابن شهاب قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا. فاحتمل الشيطان
أولياءه من الناس ، فمشوا في الناس يخوفونهم ، وقالوا : إنا قد أخبرنا : أن قد
جمعوا لكم من الناس مثل الليل ، يرجون أن يواقعوكم. والروايات في هذا الباب كثيرة
، قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال :
القرح : الجراحات. وأخرج ابن جرير عن السدي : أن أبا سفيان وأصحابه لقوا أعرابيا ،
فجعلوا له جعلا على أن يخبر النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه أنهم قد جمعوا لهم ، فأخبر النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فقال هو والصحابة : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله فيهم وفي
الأعرابي (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ) الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي رافع : أن هذا الأعرابي
من خزاعة.
وقد ورد في فضل
هذه الكلمة أعني : (حَسْبُنَا اللهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، أحاديث منها : ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم
الوكيل» قال ابن كثير بعد إخراجه : هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج أبو نعيم عن
شداد بن أوس قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «حسبي الله ونعم الوكيل ، أمان كلّ خائف». وأخرج ابن
أبي الدنيا في الذكر عن عائشة : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا اشتدّ غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته ، ثم
تنفّس الصعداء ، وقال : حسبي الله ونعم الوكيل». وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس
قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد
حين قالوا : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ). وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي عن عوف بن مالك أنه
حدثهم «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قضى بين رجلين ، فقال المقضيّ عليه لما أدبر :
حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ردوا عليّ الرجل ، فقال : ما قلت؟ قال : قلت : حسبي
الله ونعم الوكيل ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا
غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل». وأخرج أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته
يسمع متى يؤمر فينفخ؟ ثم أمر الصحابة أن يقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على
الله توكلنا» وهو حديث جيد. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ
وَفَضْلٍ) قال : النعمة : أنهم سلموا ، والفضل : أن عيرا مرّت ،
وكان في أيام الموسم ، فاشتراها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فربح مالا ، فقسمه بين أصحابه. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : الفضل : ما أصابوا من التجارة
والأجر. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : أما النعمة : فهي العافية ، وأما الفضل :
فالتجارة ، والسوء : القتل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن
عباس في قوله : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ) قال : لم يؤذهم أحد (وَاتَّبَعُوا
رِضْوانَ اللهِ) قال : أطاعوا الله ورسوله. وأخرج ابن جرير من طريق
العوفي عنه في قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ
الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) قال : يقول : الشيطان يخوّف بأوليائه. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعظم أولياءه في أعينكم. وأخرج ابن المنذر
عن عكرمة مثل قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن : إنما كان ذلك تخويف
الشيطان ، ولا يخاف الشيطان إلا وليّ الشيطان.
(وَلا يَحْزُنْكَ
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً
يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ
عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا
اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ
شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ
مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))
قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) : قرأ نافع : بضم الياء وكسر الزاي ، وقرأ ابن محيصن
بضم الياء والزاي ، وقرأ الباقون : بفتح الياء وضم الزاي ، وهما لغتان ،
يقال : حزنني الأمر وأحزنني ، والأول أفصح. وقرأ طلحة : (يُسارِعُونَ) قيل : هم قوم ارتدّوا ، فاغتم النبي صلىاللهعليهوسلم لذلك ، فسلاه الله سبحانه ، ونهاه عن الحزن ، وعلل ذلك
: بأنهم لن يضروا الله شيئا ، وإنما ضروا أنفسهم ، بأن لاحظ لهم في الآخرة ، ولهم
عذاب عظيم ؛ وقيل : هم كفار قريش ، وقيل : هم المنافقون ؛ وقيل : هو عام في جميع
الكفار. قال
__________________
القشيري : والحزن على كفر الكافر طاعة ، ولكن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يفرط في الحزن ، فنهي عن ذلك ، كما قال الله تعالى
: (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) وعدى يسارعون بفي دون إلى ، للدلالة : على أنهم مستقرون
فيه مديمون لملابسته ، ومثله : يسارعون في الخيرات. وقوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تعليل للنهي ؛ والمعنى : أن كفرهم لا ينقص من ملك الله
سبحانه شيئا ؛ وقيل : المراد لن يضروا أولياءه ، ويحتمل أن يراد : لن يضروا دينه
الذي شرعه لعباده ، وشيئا : منصوب على المصدرية ، أي : شيئا من الضرر ؛ وقيل :
منصوب بنزع الخافض ، أي : بشيء. والحظ : النصيب. قال أبو زيد : يقال : رجل حظيظ ،
إذا كان ذا حظّ من الرزق ؛ والمعنى : أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيبا في الجنة
، أو نصيبا من الثواب ، وصيغة الاستقبال : للدالة على دوام الإرادة واستمرارها (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بسبب مسارعتهم في الكفر ، فكان ضرر كفرهم عائدا عليهم ،
جالبا لهم عدم الحظ في الآخرة ، ومصيرهم في العذاب العظيم. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ
بِالْإِيْمانِ) أي : استبدلوا الكفر بالإيمان ، وقد تقدم تحقيق هذه
الاستعارة (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ
شَيْئاً) معناه : كالأول ، وهو للتأكيد لما تقدمه ؛ وقيل : إن
الأول : خاص بالمنافقين ، والثاني يعم جميع الكفار ، والأول أولى. قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وغيرهما : (يَحْسَبَنَ) : بالياء التحتية ، وقرأ حمزة : بالفوقية ، والمعنى على
الأولى : لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر ورغد العيش ، أو بما أصابوا
من الظفر يوم أحد (خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ) فليس الأمر كذلك ، بل : (إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). وعلى القراءة الثانية : لا تحسبن يا محمد! أن الإملاء
للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم ، بل هو شرّ واقع عليهم ، ونازل بهم ، وهو أن
الإملاء الذي نمليه لهم ليزدادوا إثما. فالموصول على القراءة الأولى : فاعل الفعل
، وأنما نملي وما بعده : ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه ، أو سادّ مسد أحدهما
، والآخر محذوف عند الأخفش. وأما على القراءة الثانية : فقال الزجاج : إن الموصول
هو المفعول الأول ، وأنما وما بعدها : بدل من الموصول ، ساد مسد المفعولين ، ولا
يصح أن يكون أنما وما بعده هو المفعول الثاني ، لأن المفعول الثاني في هذا الباب
هو الأوّل في المعنى. وقال أبو علي الفارسي : لو صح هذا لكان : خيرا ، بالنصب ،
لأنه يصير بدلا من الذين كفروا ، فكأنه قال : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا.
وقال الكسائي والفراء : إنه يقدر تكرير الفعل ، كأنه قال : ولا تحسبنّ الذين كفروا
، ولا تحسبن أنما نملي لهم ، فسدّت مسدّ المفعولين. وقال في الكشاف : فإن قلت كيف
صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على
مفعول واحد؟ قلت : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى
، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك. انتهى. وقرأ
يحيى بن وثاب : (أَنَّما نُمْلِي) بكسر إن فيهما ، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية.
وقوله : (إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) جملة مستأنفة ، مبينة لوجه الإملاء للكافرين. وقد احتج
الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة : لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل
أعمار
__________________
الكفار ، ويجعل عيشهم رغدا ليزدادوا إثما. قال أبو حاتم : وسمعت الأخفش
يذكر كسر (أَنَّما نُمْلِي) الأولى وفتح الثانية ، ويحتج بذلك لأهل القدر لأنه منهم
، ويجعله على هذا التقدير : ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما
إنما نملي لهم خير لأنفسهم. وقال في الكشاف : إن ازدياد الإثم علة ، وما كل علة
بعرض ، ألا ترك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ
، وليس شيء يعرض لك ، وإنما هي علل وأسباب. قوله : (ما كانَ اللهُ
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) كلام مستأنف. والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار
والمنافقين ، أي : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ) وقيل : الخطاب للمؤمنين والمنافقين ، أي : ما كان الله
ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض ؛ وقيل :
الخطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين : من في الأصلاب والأرحام ، أي : ما كان الله
ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ،
أي : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين! على ما أنتم عليه من الاختلاط
بالمنافقين حتى يميز بينكم ، وعلى هذا الوجه ، والوجه الثاني يكون في الكلام
التفات. وقرئ يميز بالتشديد للمخفف ، من : ماز الشيء ، يميزه ، ميزا : إذا فرق بين شيئين ، فإن كانت أشياء قيل : ميزه
تمييزا (وَما كانَ اللهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) حتى تميزوا بين الطيب والخبيث ، فإنه المستأثر بعلم
الغيب ، لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول من رسله ، يجتبيه فيطلعه على
شيء من غيبه ، فيميز بينكم ، كما وقع من نبينا صلىاللهعليهوسلم من تعيين كثير من المنافقين ، فإن ذلك كان بتعليم الله
له ، لا بكونه يعلم الغيب ، وقيل : المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من
يستحق النبوة ، حتى يكون الوحي باختياركم (وَلكِنَّ اللهَ
يَجْتَبِي) أي : يختار (مِنْ رُسُلِهِ مَنْ
يَشاءُ). قوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ) أي : افعلوا الإيمان المطلوب منكم ، ودعوا الاشتغال بما
ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه ، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بما ذكر (وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ) عوضا عن ذلك (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يعرف قدره ، ولا يبلغ كنهه. قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) الموصول : في محل رفع على أنه فاعل الفعل ، على قراءة
من قرأ بالياء التحتية ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا يحسبنّ الباخلون البخل
خيرا لهم. قاله الخليل وسيبويه والفراء. قالوا : وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه ،
ومن ذلك قول الشاعر :
إذا نهي
السّفيه جرى إليه
|
|
وخالف
والسّفيه إلى خلاف
|
أي : جرى إلى
السفه ، فالسفيه دلّ على السفه. وأما على قراءة من قرأ بالفوقية : فالفعل مسند إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا تحسبنّ يا محمد! بخل
الذين يبخلون خيرا لهم. قال الزجاج : هو مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، والضمير المذكور : هو ضمير الفصل. قال المبرد :
والسين في قوله : (سَيُطَوَّقُونَ ما
بَخِلُوا بِهِ) سين الوعيد ، وهذه الجملة مبينة لمعنى قوله : (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) قيل : ومعنى
__________________
التطويق هنا : أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقا من نار في أعناقهم ؛
وقيل : معناه : أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة وليس من التطويق ؛
وقيل : المعنى : أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق ، يقال : طوق فلان عمله
طوق الحمامة ، أي : ألزم جزاء عمله ؛ وقيل : إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له
شجاعا أقرع ، حتى يطوّق به في عنقه. كما ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم. قال القرطبي : والبخل في اللغة : أن يمنع الإنسان
الحقّ الواجب ، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل. قوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي : له وحده لا لغيره ، كما يفيده التقديم. والمعنى :
أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله
سبحانه لا لهم وإنما كان عندهم عارية مستردة ومثل هذه الآية : قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْها) وقوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا
جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) ، والميراث في الأصل : هو ما يخرج من مالك إلى آخر ،
ولم يكن مملوكا لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث ، ومعلوم : أن الله سبحانه
هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (إِنَّ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) قال : هم المنافقون. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة
، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن
مسعود قال : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة إن كان برا ،
فقد قال الله : (وَما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) وإن كان فاجرا ، فقد قال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير
، وابن المنذر عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج سعيد ابن منصور ، وابن المنذر عن محمد
بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي برزة أيضا نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن السدي قال : قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن به منا ومن يكفر
، فأنزل الله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يميز أهل
السعادة من أهل الشقاوة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن قتادة قال : يميز بينهم في الجهاد والهجرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن
في قوله : (وَما كانَ اللهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) قال : ولا يطلع على الغيب إلا رسول. وأخرج عبد بن حميد
، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) قال : يختص. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك قال : يستخلص.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) قال : هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس. وأخرج ابن
جرير عن مجاهد قال : هم يهود. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : بخلوا أن ينفقوها في
سبيل الله : لم يؤدوا زكاتها. وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «من
آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه
يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني : شدقيه ـ فيقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم
تلا هذه الآية» وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها.
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما
قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ
__________________
بِغَيْرِ
حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ
وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))
قال أهل
التفسير : لما أنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال قوم من اليهود : [إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض
منا ، وإنما قالوا] هذه المقالة تمويها على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك ،
لأنهم أهل الكتاب ، بل أرادوا : أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان
محمد فهو فقير ، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام. وقوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) سنكتبه في صحف الملائكة ، أو سنحفظه ، أو سنجازيهم
عليه. والمراد : الوعيد لهم ، وأن ذلك لا يفوت على الله ، بل هو معدّ لهم ليوم
الجزاء. وجملة سنكتب على هذا : مستأنفة ، جوابا لسؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا صنع
الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع؟ فقال : قال لهم : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا). وقرأ الأعمش ، وحمزة : «سيكتب» بالمثناة التحتية ،
مبني للمفعول. وقرأ : برفع اللام من «قتلهم» ، «ويقول» : بالياء المثناة تحت. قوله
: (وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِياءَ) عطف على ما قالوا ، أي : ونكتب قتلهم الأنبياء : أي :
قتل أسلافهم للأنبياء ، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به ، جعل ذلك القول قرينا
لقتل الأنبياء ، تنبيها : على أنه من العظم والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء.
قوله : (وَنَقُولُ) معطوف على (سَنَكْتُبُ) أي : ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم
في النار ، أو عند الموت ، أو عند الحساب. والحريق : اسم للنار الملتهبة ، وإطلاق
الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة. وقرأ ابن مسعود : ويقال ذوقوا والإشارة
بقوله : (ذلِكَ) إلى العذاب المذكور قبله ، وأشار إلى القريب بالصيغة
التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة ، وذكر الأيدي لكونها
المباشرة لغالب المعاصي. وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) معطوف على (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ) ووجه : أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب ، وجازاهم
على فعلهم ، فلم يكن ذلك ظلما ، أو بمعنى : أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء
، وليس بظالم لمن عذبه بذنبه ، وقيل : إن وجهه : أن نفي الظلم مستلزم للعدل
المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء ، ورد : بأن ترك التعذيب مع وجود سببه ، ليس
بظلم عقلا ولا شرعا ؛ وقيل : إن جملة قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : والأمر أن
الله ليس بظلام للعبيد ، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس
بظلم عند أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا : لبيان تنزهه عن ذلك ، ونفي ظلام
المشعر بالكثرة : يفيد ثبوت أصل الظلم. وأجيب عن ذلك : بأن الذي توعد بأن
__________________
يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما ، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتا. قوله
: (الَّذِينَ قالُوا) هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين قالوا : وقيل : نعت
للعبيد ، وقيل : منصوب على الذم ؛ وقيل : هو في محل جر بدل من (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ
قالُوا) ، وهو ضعيف ، لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه ،
وليس الأمر كذلك هنا ، والقائلون هؤلاء : هم جماعة من اليهود كما سيأتي ، وهذا
المقول : وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان ، هو من
جملة دعاويهم الباطلة. وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان ، فيقوم
النبي فيدعو ، فتنزل نار من السماء فتحرقه ، ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه ، ولا
جعله دليلا على صدق دعوى النبوة ، ولهذا رد الله عليهم فقال : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي
بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان (فَلِمَ
قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كيحيى بن زكريا ، وشعياء ، وسائر من قتلوا من الأنبياء.
والقربان : ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح ، وهو فعلان من القربة.
ثم سلى الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بقوله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ) بمثل ما جئت به من البينات. والزبر : جمع زبور ، وهو
الكتاب ، وقد تقدم تفسيره (وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ) : الواضح الجلي المضيء ، يقال : نار الشيء ، وأنار ،
ونوره ، واستناره ، بمعنى.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر
بيت المدارس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فنحاص ، وكان من علمائهم
وأحبارهم ، فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن
محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر!
ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا
عنه لأغنياء ، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا
ويعطينا ، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا ؛ فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربة
شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده : لو لا العهد الذي بيننا وبينكم ، لضربت عنقك يا
عدو الله! فذهب فنحاص إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد! انظر ما صنع صاحبك بي ، فقال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله!
قال قولا عظيما ، يزعم : أن الله فقير ، وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك ، غضبت
لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله فيما قال
فنحاص تصديقا لأبي بكر : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) الآية ، ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) الآية. وقد أخرج هذه القصة ابن جرير ، وابن المنذر عن
عكرمة ، وأخرجها ابن جرير عن السدي بأخصر من ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن
مردويه ، والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود
محمدا صلىاللهعليهوسلم حين أنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فقالوا : يا محمد! أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل
الله الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : أن القائل لهذه المقالة حيي
بن أخطب وأنها نزلت فيه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن العلاء بن بدر أنه سئل
عن قوله : (وَقَتْلَهُمُ
الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) وهم لم يدركوا
__________________
ذلك ، قال : بموالاتهم من قتل الأنبياء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) قال : ما أنا بمعذب من لم يجترم. وأخرج ابن أبي حاتم من
طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى يَأْتِيَنا
بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قال : يتصدّق الرجل منا ، فإذا تقبل منه أنزلت عليه
النار من السماء فأكلته. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ
إِلَيْنا) قال : كذبوا على الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في
قوله : (بِالْبَيِّناتِ) قال الحلال والحرام (وَالزُّبُرِ) قال : كتب الأنبياء (وَالْكِتابِ
الْمُنِيرِ) قال : هو القرآن.
(كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ
وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما
يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ
بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))
قوله : (ذائِقَةُ) من الذوق ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
من لم يمت
عبطة يمت هرما
|
|
الموت كأس
والمرء ذائقها
|
وهذه الآية
تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ
أَغْنِياءُ). وقرأ الأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وابن أبي إسحاق : (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بالتنوين ونصب الموت. وقرأ الجهور بالإضافة. قوله : (إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) أجر المؤمن : الثواب ، وأجر الكافر : العقاب ، أي : أن
توفية الأجور وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم ، وما يقع من الأجور في الدنيا أو
في البرزخ فإنما هو بعض الأجور. والزحزحة : التنحية ، والإبعاد : تكرير الزح وهو
الجذب بعجلة ، قاله في الكشاف ، وقد سبق الكلام عليه ، أي : فمن بعد عن النار
يومئذ ونحي فقد فاز ، أي ظفر بما يريد ونجا مما يخاف ، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي
لا فوز يقاربه ، فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة
إليها. اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ، ولا عيش إلا عيشها ، ولا نعيم إلا نعيمها ،
فاغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، وارض عنا رضا لا سخط بعده ، واجمع لنا بين الرضا
منك علينا والجنة. والمتاع : ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى ،
كذا قال أكثر المفسرين. الغرور : الشيطان يغرّ الناس بالأماني الباطلة
__________________
والمواعيد الكاذبة ، شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده
، وله ظاهر محبوب وباطن مكروه. قوله : (لَتُبْلَوُنَّ فِي
أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) هذا الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة والفسقة ،
ليوطنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره. والابتلاء : الامتحان والاختبار ،
والمعنى : لتمتحننّ ، ولتختبرنّ في أموالكم بالمصائب ، والإنفاقات الواجبة ، وسائر
التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال. والابتلاء في الأنفس : بالموت والأمراض ،
وفقد الأحباب ، والقتل في سبيل الله وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، دلت عليه اللام
الموطئة (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب (أَذىً كَثِيراً) من الطعن في دينكم وأعراضكم ، والإشارة بقوله : (فَإِنَّ ذلِكَ) إلى الصبر والتقوى المدلول عليها بالفعلين. وعزم الأمور
: معزوماتها ، أي : مما يجب عليكم أن تعزموا عليه ، لكونه عزمة من عزمات الله التي
أوجب عليهم القيام بها ، يقال : عزم الأمر : أي شدّه وأصلحه. قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، أو
اليهود فقط ، على الخلاف في ذلك ـ والظاهر : أن المراد بأهل الكتاب : كل من آتاه
الله علم شيء من الكتاب ، أيّ كتاب كان ، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب. قال
الحسن وقتادة : إن الآية عامة لكل عالم ، وكذا قال محمد بن كعب ، ويدل على ذلك قول
أبي هريرة : لو لا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ، ثم تلا هذه الآية
، والضمير في قوله : (لَتُبَيِّنُنَّهُ) راجع إلى الكتاب ؛ وقيل : راجع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وإن لم يتقدّم له ذكر ، لأن الله أخذ على اليهود
والنصارى أن يبينوا نبوته للناس ولا يكتموها (فَنَبَذُوهُ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ). وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل المدينة : «ليبيننه»
بالياء التحتية ، وقرأ الباقون : بالمثناة الفوقية. وقرأ ابن عباس : وإذ أخذ الله
ميثاق النبيّين ليبيّننّه ويشكل على هذه القراءة قوله : (فَنَبَذُوهُ) فلا بد من أن يكون فاعله الناس. وفي قراءة ابن مسعود : «لتبينونه».
والنبذ : الطرح ، وقد تقدّم في البقرة. وقوله : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مبالغة في النبذ والطرح ، وقد تقدّم أيضا معنى قوله : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن
كتمانه. وقوله : (ثَمَناً قَلِيلاً) أي : حقيرا يسيرا من حطام الدنيا وأعراضها ، قوله : (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ما : نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، ويشترون : صفة ،
والمخصوص بالذم : محذوف ، أي : بئس شيئا يشترونه بذلك الثمن. قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) قرأ الكوفيون : بالتاء الفوقية ، والخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أو لكل من يصلح له. وقوله : (بِما أَتَوْا) أي : بما فعلوا. وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي
، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملا بعموم اللفظ ، وهو المعتبر دون
خصوص السبب ، فمن فرح بما فعل ، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل ، فلا تحسبنه
بمفازة من العذاب. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : «لا يحسبن»
بالياء التحتية ، أي : لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب ، فالمفعول
الأوّل محذوف ، وهو فرحهم ، والمفعول الثاني : بمفازة من العذاب ، وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للفعل الأوّل على القراءتين ،
والمفازة : المنجاة ، مفعلة ، من : فاز ، يفوز ، إذا نجا ، أي : ليسوا
بفائزين ، سمي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل ، قاله الأصمعي. وقيل : لأنها
موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوز الرجل : إذا مات. قال ثعلب : حكيت لابن
الأعرابي قول الأصمعي فقال : أخطأ. قال لي أبو المكارم : إنما سميت مفازة لأن من
قطعها فاز. وقال ابن الأعرابي : بل لأنه مستسلم لما أصابه. وقيل : المعنى : لا
تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب ، لأن الفوز التباعد عن المكروه. وقرأ مروان بن
الحكم ، والأعمش ، وإبراهيم النخعي : «آتوا» بالمد ، أي : يفرحون بما أعطوا. وقرأ
جمهور القراء السبعة وغيرهم : «أتوا» بالقصر.
وقد أخرج ابن
أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وصححه ، وابن حبان ، وابن جرير ،
وابن أبي حاتم والحاكم ، وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ موضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها ،
اقرءوا إن شئتم : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
مَتاعُ الْغُرُورِ)». وأخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد مرفوعا نحوه. وأخرج
ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الزهري في قوله : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرّض المشركين على رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه في شعره. وأخرج ابن المنذر من طريق الزهري عن
عبد الرحمن بن كعب بن مالك مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
ابن جريج في الآية قال : يعني : اليهود والنصارى ، فكان المسلمون يسمعون من اليهود
قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ، ومن النصارى قولهم : (الْمَسِيحُ ابْنُ
اللهِ) (وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) قال : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به. وأخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) قال : فنحاص ، وأشيع ، وأشباههما من الأحبار. وأخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) قال : كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأميّ. وأخرج
ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : في التوراة والإنجيل أن الإسلام
دين الله الذي افترضه على عباده. وأن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة والإنجيل فنبذوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد
بن جبير في الآية قال : هم اليهود (لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ) قال : محمدا صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير عن السدّي مثله. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هذا ميثاق أخذه
الله على أهل العلم ، فمن علم علما فليعلمه الناس ، وإياكم وكتمان العلم ، فإن
كتمان العلم هلكة. وأخرج ابن سعد عن الحسن قال : لو لا الميثاق الذي أخذه الله على
أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما : أن
مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما
أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبنّ أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم
ولهذه الآية ، إنما أنزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية ، قال ابن عباس : سألهم النبي صلىاللهعليهوسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن
قد أخبروه بما سألهم عنه
__________________
واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه. وفي البخاري
، ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إلى الغزو ، وتخلفوا عنه ؛ وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فإذا قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الغزو اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما
لم يفعلوا ، فنزلت. وقد روي : أنها نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما. وروي : أنها
نزلت في اليهود. وأخرج مالك ، وابن سعد ، والطبراني ، والبيهقي في الدلائل عن محمد
بن ثابت أن ثابت بن قيس قال : «يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال : لم؟
قال : قد نهانا الله أن نحبّ أن نحمد بما لم نفعل ، وأجدني أحبّ الحمد ، ونهانا عن
الخيلاء ، وأجدني أحبّ الجمال ، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وأنا رجل جهير
الصوت ، فقال : يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟» فعاش
حميدا ، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب. وأخرج ابن المنذر عن الضحّاك في قوله : (بِمَفازَةٍ) قال : بمنجاة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ
(١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا
باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا
إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا
وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ
وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))
قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها.
والمراد : ذات السموات والأرض وصفاتهما (وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما ، وكون كل واحد منهما يخلف الآخر ، وكون
زيادة أحدهما في نقصان الآخر ، وتفاوتهما طولا وقصرا ، وحرا وبردا ، وغير ذلك (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحة ، وبراهين بينة ، تدل على الخالق
سبحانه. وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة. والمراد باولي الألباب : أهل
العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص ، فإن مجرد التفكر فيما قصه الله في هذه
الآية يكفي العاقل ، ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه ، ولا تدفعه
التشكيكات. قوله : (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الموصول : نعت لأولي الألباب ـ وقيل : هو مفصول عنه ،
خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب على المدح ، والمراد بالذكر هنا : ذكره سبحانه في هذه
الأحوال ، من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها ، وذهب جماعة من المفسرين : إلى أن
الذكر هنا عبارة عن الصلاة ، أي : لا يضيعونها في حال من الأحوال ، فيصلونها قياما
مع عدم العذر ، وقعودا وعلى جنوبهم مع العذر. قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معطوف على قوله : (يَذْكُرُونَ) وقيل : إنه معطوف على الحال ، أعني : (قِياماً وَقُعُوداً) وقيل : إنه منقطع عن الأوّل ، والمعنى : أنهم يتفكرون
في بديع صنعهما ، واتقانهما ، مع عظم أجرامهما ، فإن هذا الفكر إذا كان صادقا
أوصلهم إلى الإيمان
بالله سبحانه. قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ
هذا باطِلاً) هو على تقدير القول ، أي : يقولون ما خلقت هذا عبثا
ولهوا ، بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك. والباطل : الزائل الذاهب ، ومنه قول
لبيد :
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل
وهو منصوب على
أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : خلقا باطلا ؛ وقيل : منصوب بنزع الخافض ؛ وقيل : هو
مفعول ثان ، وخلق : بمعنى جعل ، أو : منصوب على الحال ، والإشارة بقوله : (هذا) إلى السموات والأرض ، أو إلى الخلق على أنه بمعنى
المخلوق. قوله : (سُبْحانَكَ) أي : تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من
جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلا. وقوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الفاء لترتيب هذا الدعاء على ما قبله. وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه
سبحانه ، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار ، وهو أن من
أدخله النار فقد أخزاه ، أي : أذله وأهانه. وقال المفضل : معنى أخزيته : أهلكته ،
وأنشد :
أخزى الإله
بني الصّليب عنيزة
|
|
واللّابسين
ملابس الرّهبان
|
وقيل : معناه :
فضحته وأبعدته ، يقال : أخزاه الله : أبعده ومقته ، والاسم : الخزي. قال ابن
السكيت : خزي ، يخزى ، خزيا : إذا وقع في بلية. قوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً
يُنادِي لِلْإِيمانِ) المنادي عند أكثر المفسرين : هو النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : هو القرآن ، وأوقع السماع على المنادي مع كون
المسموع هو النداء : لأنه قد وصف المنادي بما يسمع ، وهو قوله : (يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا). وقال أبو علي الفارسي : إن «ينادي» هو المفعول الثاني
، وذكر ينادي مع أنه قد فهم من قوله : (مُنادِياً) لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به ، واللام في
قوله : (لِلْإِيمانِ) : بمعنى إلى ؛ وقيل : إن ينادي يتعدّى باللام وبإلى ،
يقال ينادي لكذا وينادي إلى كذا ، وقيل : اللام للعلة ، أي : لأجل الإيمان. قوله :
(أَنْ آمِنُوا) هي : إما تفسيرية ، أو مصدرية ، وأصلها : بأن آمنوا ،
فحذف حرف الجرّ. قوله : (فَآمَنَّا) أي : امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان فآمنا
، وتكرير النداء في قوله : (رَبَّنا) لإظهار التضرع والخضوع ؛ قيل : المراد بالذنوب هنا :
الكبائر ، وبالسيئات : الصغائر. والظاهر : عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين ،
والآخر بالآخر ، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحدا ، والتكرير للمبالغة
والتأكيد ، كما أن معنى الغفر والكفر : الستر. والأبرار : جمع بارّ أو برّ ، وأصله
من الاتساع ، فكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته ، قيل : هم الأنبياء ،
ومعنى اللفظ أوسع من ذلك. قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) هذا دعاء آخر والنكتة في تكرير النداء ما تقدّم ، والموعود
به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به
__________________
أهل طاعته ، ففي الكلام حذف ، وهو لفظ الألسن ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وقيل : المحذوف التصديق ، أي : ما وعدتنا على تصديق
رسلك ؛ وقيل : ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا على رسلك ، والأول أولى.
وصدور هذا الدعاء منهم ـ مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا
محالة ـ ، إما لقصد التعجيل ، أو : للخضوع بالدعاء ، لكونه مخ العبادة ، وفي قولهم
: (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد ، وأن الحامل لهم
على الدعاء هو ما ذكرنا.
وقد أخرج ابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : أتت قريش
اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات؟ قالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين ،
وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه ، والأبرص ،
ويحيي الموتى ، فأتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه ،
فنزلت : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس
قال : بتّ عند خالتي ميمونة ، فنام رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، ثم
استيقظ ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل
عمران حتى ختم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والطبراني ، والحاكم في
الكنى ، والبغوي في معجم الصحابة عن صفوان بن المعطل قال : كنت مع النبيّ صلىاللهعليهوسلم في سفر فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني من
طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في قوله : (الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية ، قال : إنما هذه في الصلاة ، إذا لم يستطع قائما
فقاعدا ، وإن لم يستطع قاعدا فعلى جنبه. وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين
قال : «كانت بي بواسير ، فسألت النبي صلىاللهعليهوسلم عن الصلاة فقال : صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم
تستطع فعلى جنب». وثبت فيه عنه قال : «سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد قال : من صلّى قائما فهو أفضل ،
ومن صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم ، ومن صلّى نائما فله نصف أجر القاعد». وأخرج
عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال :
هذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، اذكر الله وأنت قائم ، فإن لم تستطع فاذكره جالسا ،
فإن لم تستطع فاذكره وأنت على جنبك ، يسر من الله وتخفيف.
وأقول : هذا
التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له ، لا من الآية ولا من
غيرها ، فإنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من
قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام ، ولا يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من
قعود. وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا الصلاة ، كما سبق عن ابن
مسعود. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه عن
عائشة مرفوعا : ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها. وأخرج ابن أبي الدنيا في
التفكر عن سفيان رفعه : «من قرأ آخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله ، فعدّ
أصابعه عشرا». قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهنّ؟ قال : يقرؤهنّ وهو يعقلهنّ.
وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقا. وأخرج ابن جرير ، وابن
أبي حاتم عن أنس في قوله : (مَنْ تُدْخِلِ
النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) قال : من
__________________
تخلد. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سعيد
بن المسيب في الآية قال : هذه خاصة بمن لا يخرج منها. وأخرج ابن جرير ، والحاكم عن
عمرو بن دينار قال : قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة ، فانتهيت إليه أنا وعطاء
فقلت : (وَما هُمْ
بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) قال : أخبرني رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنهم الكفار ، قلت لجابر : فقوله : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ
أَخْزَيْتَهُ) قال : وما أخزاه حين أحرقه بالنار ، وإن دون ذلك خزيا.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) قال : هو محمد صلىاللهعليهوسلم وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : هو القرآن ،
ليس كل أحد سمع النبي صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
جريج في قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) قال : يستجزون موعد الله على رسله. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ
الْقِيامَةِ) قال : لا تفضحنا.
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))
قوله : (فَاسْتَجابَ) الاستجابة بمعنى الإجابة ؛ وقيل : الإجابة عامة ،
والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول ، وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام ، يقال :
استجابه ، واستجاب له ، والفاء للعطف ؛ وقيل : على مقدّر ، أي : دعوا بهذه الأدعية
فاستجاب لهم ؛ وقيل : على قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ) وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم
من الأوصاف الحسنة : لأنها منه ، إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته. قوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ
مِنْكُمْ) أي : بأني ، وقرأ عيسى بن عمرو : بكسر الهمزة ، على
تقدير القول ، وقرأ أبيّ : بثبوت الباء ، وهي للسببية ، أي : فاستجاب لهم ربهم
بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم. والمراد بالإضاعة : ترك الإثابة. قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) من : بيانية ، ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في
سياق النفي من العموم. قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) أي : رجالكم مثل نسائكم في الطاعة ، ونساؤكم مثل رجالكم
فيها ، والجملة معترضة ، لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل
واحد. قوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) الآية ، هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ) أي : فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ (وَأُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ) في طاعة الله عزوجل ؛ (وَقاتَلُوا) أعداء الله ؛ (وَقُتِلُوا) في سبيل الله. وقرأ ابن كثير وابن عامر : (وَقُتِلُوا) على التكثير ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : وقتلوا
وقاتلوا وهو مثل قول الشاعر :
تصابى وأمسى علاه الكبر
أي : قد علاه
الكبر ، وأصل الواو : لمطلق الجمع بلا ترتيب ، كما قال به الجمهور. والمراد هنا :
أنهم
قاتلوا وقتل بعضهم ، كما قال امرؤ القيس :
فإن تقتلونا نقتّلكم
وقرأ عمر بن
عبد العزيز : وقتلوا وقتلوا. ومعنى قوله : (وَأُوذُوا فِي
سَبِيلِي) أي : بسببه ، والسبيل : الدين الحق. والمراد هنا : ما
نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله ، وعملهم بما شرعه الله لعباده.
وقوله : (لَأُكَفِّرَنَ) جواب قسم محذوف. وقوله : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) مصدر مؤكد عند البصريين ، لأن معنى قوله : (لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) لأثيبنّهم ثوابا ، أي : إثابة أو تثويبا كائنا من عند
الله. وقال الكسائي : إنه منتصب على الحال. وقال الفراء على التفسير : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي : حسن الجزاء ، وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله
، من : ثاب ، يثوب : إذا رجع.
وقد أخرج سعيد
بن منصور ، وعبد الرزاق ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والطبراني والحاكم ، وصححه عن أم سلمة قالت : يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر
النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) إلى آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : «ما
من عبد يقول يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ! ثلاث مرات ، إلّا نظر الله إليه» فذكر للحسن
فقال : أما تقرأ القرآن؟ (رَبَّنا إِنَّنا
سَمِعْنا مُنادِياً) إلى قوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ). وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه
الآية : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ) إلى آخرها. وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة.
(لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا
وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))
قوله : (لا يَغُرَّنَّكَ) خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم. والمراد : تثبيته على ما هو عليه ، [والمراد الأمة] كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) أو : خطاب لكل أحد ، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار
بعد ذكر حسن حال المؤمنين ؛ والمعنى : لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد
بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم ، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه
الدار ثم مصيرهم إلى جهنم ، فقوله : (مَتاعٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو متاع قليل لا اعتداد به
بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه : (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي : ما يأوون إليه. والتقلب في البلاد : الاضطراب في
الأسفار إلى الأمكنة ، ومثله قوله تعالى : (فَلا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) والمتاع : ما يعجل
__________________
الانتفاع به ، وسماه : قليلا ، لأنه فان ، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل.
وقوله : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم ، أو : ما مهد الله
لهم من النار ، فالمخصوص بالذم محذوف : وهو هذا المقدّر. قوله : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) هو استدراك مما تقدّمه ، لأن معناه النفي ، كأنه قال :
ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع : (لكِنِ الَّذِينَ
اتَّقَوْا) لهم الانتفاع الكثير ، والخلد الدائم. وقرأ يزيد ابن
القعقاع : لكنّ ، بتشديد النون. قوله : (نُزُلاً) مصدر مؤكد عن البصريين كما تقدّم في (ثَواباً) وعند الكسائي والفراء مثل ما قالا في : ثوابا ، والنزل
: ما يهيأ للنزيل ، والجمع أنزال ، قال الهروي : (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ
اللهِ) أي : ثوابا من عند الله (وَما عِنْدَ اللهِ) مما أعدّه لمن أطاعه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار ، فإنه متاع قليل
، عن قريب يزول. قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظّ من
الدين ، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق ، وفيما سيأتي ،
فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزل الله على نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم : (خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ) أي : يستبدلون (بِآياتِ اللهِ
ثَمَناً قَلِيلاً) بالتحريف والتبديل ، كما يفعله سائرهم ، بل يحكون كتب
الله سبحانه كما هي ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب ، من حيث
اتصافهم بهذه الصفات الحميدة (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) الذي وعد الله سبحانه به بقوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ
مَرَّتَيْنِ) وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم. وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في محل نصب على الحال. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا) إلخ. هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي
جمعت خير الدنيا والآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات والشهوات ، والصبر : الحبس ،
وقد تقدم تحقيق معناه. والمصابرة مصابرة الأعداء ، قاله الجمهور ، أي : غالبوهم في
الصبر على شدائد الحرب ، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر : لكونها أشدّ منه
وأشقّ. وقيل : المعنى صابروا على الصلوات ، وقيل : صابروا الأنفس عن شهواتها ؛
وقيل : صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا ، والقول الأول هو المعنى العربي ،
ومنه قول عنترة :
فلم أر حيّا
صابروا مثل صبرنا
|
|
ولا كافحوا
مثل الذين نكافح
|
أي : صابروا
العدوّ في الحرب. قوله : (وَرابِطُوا) أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها ، كما يربطها
أعداؤكم ، هذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية في
انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلىاللهعليهوسلم غزو يرابط فيه ، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا ، والرباط
اللغوي هو الأوّل ، ولا ينافيه تسميته صلىاللهعليهوسلم لغيره رباطا كما سيأتي. ويمكن إطلاق الرباط على المعنى
الأول ، وعلى انتظار الصلاة. قال الخليل : الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة ،
هكذا قال : وهو من أئمة اللغة. وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال : يقال : ماء
مترابط : دائم لا يبرح ، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور.
قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا ما شرعه لكم (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) أي :
تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب ، وهم المفلحون.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة في قوله : (لا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم ، قال
عكرمة : قال ابن عباس : وبئس المهاد : أي : بئس المنزل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن السدي في قوله : (تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) قال : ضربهم في البلاد. وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري
في الأدب المفرد ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) قال : إنما سماهم الله أبرارا : لأنهم بروا الآباء
والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حقا. وأخرج ابن مردويه عنه
مرفوعا والأول أصح قاله السيوطي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد : (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) لمن يطيع الله. وأخرج النسائي ، والبزار ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال : لما مات النجاشي قال صلىاللهعليهوسلم : صلوا عليه ، قالوا يا رسول الله! نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل
الله (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ) الآية. وأخرج ابن جرير عن جابر مرفوعا : أن المنافقين
قالوا : انظروا إلى هذا ، يعني : النبي صلىاللهعليهوسلم يصلي على علج نصراني ، فنزلت. وأخرج الحاكم ، وصححه عن
عبد الله بن الزبير : أنها نزلت في النجاشي. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
مجاهد قال : هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن
قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد والذين اتبعوا محمدا صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدّمنا ذكره.
وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال : أما إنه لم يكن في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ،
يصلون الصلوات في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها. وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول
النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به
الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصّلاة
بعد الصّلاة ، فذلكم الرّباط ، فذلكم الرّباط ، فذلكم الرباط». وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : اصبروا على دينكم ،
وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي وعدوكم. وقد روي من تفاسير السلف غير
هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات ، والمصابرة على نوع آخر ، ولا تقوم
بذلك حجة ، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي ، وقد قدّمناه. وقد وردت أحاديث
كثيرة في فضل الرباط ، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله ، وهو يرد ما قاله
أبو سلمة بن عبد الرحمن ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد فيحمل ما في
الآية عليه ، وقد ورد عنه صلىاللهعليهوسلم أنه سمى حراسة جيش المسلمين رباطا ، وأخرج الطبراني في
الأوسط بسند جيد عن أنس قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أجر المرابط فقال : «من رابط ليلة حارسا من وراء
المسلمين كان له أجر من خلفه ممّن صام وصلّى».
وقد ورد في فضل
هذه العشر الآيات التي في آخر السورة مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ما أخرجه ابن السني ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن أبي
هريرة : «أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل
عمران كلّ ليلة». وفي إسناده مظاهر بن أسلم ، وهو ضعيف. وقد تقدم من حديث
ابن عباس في الصحيحين : أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه العشر الآيات لمّا استيقظ. وكذلك تقدم في غير
الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال : «من قرأ آخر آل
عمران في ليلة كتب له قيام ليلة».
* * *
سورة النّساء
هي مدنية كلها.
قال القرطبي : إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح : في عثمان بن طلحة الحجبيّ ،
وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) على ما سيأتي إن شاء الله ، قال النقاش : وقيل : نزلت
عند هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم من مكة إلى المدينة ، وعلى ما تقدّم عن بعض أهل العلم
أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) حيثما وقع ، فإنه مكي يلزم أن يكون صدر هذه السورة مكيا
، وبه قال علقمة وغيره. وقال النحاس : هذه الآية مكية. قال القرطبي : والصحيح
الأوّل ، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا
عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يعني : قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلىاللهعليهوسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة ، ومن تبين أحكامها علم أنها
مدنية لا شك فيها. قال. وأما من قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مكي حيث وقع فليس بصحيح ، فإن البقرة مدنية وفيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في موضعين. وقد أخرج ابن الضريس في فضائله والنحاس في
ناسخه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة النساء
بالمدينة ، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف ، وكذا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله ابن
الزبير ، وزيد بن ثابت ، وأخرجه ابن المنذر عن قتادة.
وقد ورد في فضل
هذه السورة : ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود قال : إن في سورة
النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ) الآية ، و (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية. ثم قال : هذا إسناد صحيح ؛ إن كان عبد الرحمن بن
عبد الله بن مسعود سمع من أبيه ، وقد اختلف في ذلك. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن
رجل عن ابن مسعود قال : خمس آيات من النساء هن أحب إليّ من الدنيا جميعا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضاعِفْها) الآية ، (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية. ورواه ابن جرير. ثم روى من طريق صالح المري عن
قتادة عن ابن عباس قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء هنّ خير لهذه الأمة مما
طلعت عليه الشمس وغربت ، وذكر ما ذكره ابن مسعود ، وزاد : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) الآية ، (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) الآية ، (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) الآية. وأخرج أحمد وابن الضريس ، ومحمد بن نصر ،
والحاكم ، وصححه ، والبيهقي عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أخذ السّبع فهو حبر». وأخرج البيهقي في الشعب
عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أعطيت مكان التوراة السبع ، وأعطيت مكان الزبور
المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل» . وأخرج أبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ،
__________________
وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : «وجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات ليلة شيئا فلمّا أصبح قيل : يا رسول الله! إنّ أثر
الوجع عليك لبيّن ، قال : أما إنّي على ما ترون بحمد الله قد قرأت السّبع الطّوال».
وأخرج أحمد عن حذيفة قال : «قمت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقرأ السّبع الطّوال في سبع ركعات». وأخرج عبد الرزاق
عن بعض أهل النبي صلىاللهعليهوسلم : «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قرأ بالسبع الطّوال في ركعة واحدة». وأخرج الحاكم عن
ابن عباس أنه قال : «سلوني عن سورة النساء ؛ فإنّي قرأت القرآن وأنا صغير» قال
الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عنه قال
: «من قرأ سورة النّساء ؛ فعلم ما يحجب ممّا لا يحجب ؛ علم الفرائض».
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا
الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ
النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا
النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))
المراد بالناس
: الموجودون عند الخطاب من بني آدم ، ويدخل من سيوجد ، بدليل خارجي ، وهو الإجماع
على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون ، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد ، كما
غلب الذكور على الإناث في قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) لاختصاص ذلك بجمع المذكر. والمراد بالنفس الواحدة هنا :
آدم. وقرأ ابن أبي عبلة : واحد ، بغير هاء ، على مراعاة المعنى ، فالتأنيث :
باعتبار اللفظ ، والتذكير : باعتبار المعنى. قوله : (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) قيل : هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام ، أي : خلقكم
من نفس واحدة خلقها أولا ، وخلق منها زوجها ؛ وقيل : على : خلقكم ، فيكون الفعل
الثاني داخلا مع الأوّل في حيز الصلة. والمعنى : وخلق من تلك النفس التي هي عبارة
عن آدم زوجها ، وهي حواء. وقد تقدم في البقرة معنى : التقوى ، والربّ ، والزوج ،
والبث ، والضمير في قوله : (مِنْها) راجع إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس والزوج. وقوله
: (كَثِيراً) وصف مؤكد ، تفيده صيغة الجمع ، لكونها من جموع الكثرة ،
وقيل : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : بثا كثيرا. وقوله : (وَنِساءً) أي : كثيرة ، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأوّل.
قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) : قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية ، وأصله تتساءلون
، تخفيفا لاجتماع المثلين. وقرأ أهل المدينة ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر
، بإدغام التاء في
السين ؛ والمعنى : يسأل بعضكم بعضا بالله والرحم ، فإنهم كانوا يقرنون
بينهما في السؤال والمناشدة ، فيقولون : أسألك بالله والرحم ، وأنشدك الله والرحم
، وقرأ النخعي ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة : (وَالْأَرْحامَ) بالجر. وقرأ الباقون بالنصب.
وقد اختلف أئمة
النحو في توجيه قراءة الجر ، فأما البصريون فقالوا : هي لحن لا تجوز القراءة بها.
وأما الكوفيون فقالوا : هي قراءة قبيحة. قال سيبويه في توجيه هذا القبح : إن
المضمر المجرور بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه. وقال الزجاج وجماعة :
بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر ، وأنشد :
فاليوم قرّبت
تهجونا وتمدحنا
|
|
فاذهب فما بك
والأيّام من عجب
|
ومثله قول
الآخر :
نعلّق في مثل
السّواري سيوفنا
|
|
وما بينها
والكعب مهوى نفانف
|
بعطف الكعب على
الضمير في بينها. وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ
بِهِ وَالْأَرْحامَ) بالجر ، لأخذت نعلي ومضيت. وقد ردّ الإمام أبو نصر
القشيري ما قاله القادحون في قراءة الجرّ فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة
الدين ، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلىاللهعليهوسلم تواترا ، ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة يعرف ذلك
من يعرف الأسانيد التي رووها بها ، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار
العرب كما تقدم ، وكما في قول بعضهم :
فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد
وقول الآخر :
وقد رام آفاق
السّماء فلم يجد
|
|
له مصعدا
فيها ولا الأرض مقعدا
|
وقول الآخر :
ما إن بها والأمور من تلف
وقول الآخر :
أكرّ على
الكتيبة لست أدري
|
|
أحتفي كان
فيها أم سواها
|
فسواها : في
موضع جرّ عطفا على الضمير في فيها ، ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ
وَمَنْ
__________________
لَسْتُمْ
لَهُ بِرازِقِينَ) . وأما قراءة النصب فمعناها واضح جليّ ، لأنه عطف الرحم
على الاسم الشريف ، أي : اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فإنهما مما أمر
الله به أن يوصل ؛ وقيل : إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله : (بِهِ) كقولك مررت بزيد وعمرا ، أي : اتقوا الله الذي تساءلون
به وتتساءلون بالأرحام. والأوّل أولى. وقرأ عبد الله بن يزيد : والأرحام بالرفع
على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي : والأرحام صلوها ، أو : والأرحام أهل أن توصل ،
وقيل : إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به ، ومنه قول الشاعر :
إنّ قوما
منهم عمير وأشبا
|
|
ه عمير ومنهم
السّفّاح
|
لجديرون
باللّقاء إذا قا
|
|
ل أخو
النّجدة : السّلاح السّلاح
|
والأرحام : اسم
لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره ، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع ، ولا
بين أهل اللغة. وقد خصص أبو حنيفة وبعض الزيدية الرحم بالمحرم في منع الرجوع في
الهبة ؛ مع موافقتهم على أن معناها أعم ، ولا وجه لهذا التخصيص. قال القرطبي :
اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة ، وأن قطيعتها محرّمة. انتهى. وقد وردت بذلك
الأحاديث الكثيرة الصحيحة. والرقيب : المراقب ، وهي صيغة مبالغة ، يقال : رقبت ،
أرقب ، رقبة ورقبانا : إذا انتظرت. قوله : (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) خطاب للأولياء والأوصياء. والإيتاء : الإعطاء. واليتيم
: من لا أب له. وقد خصصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم. وقد تقدم تفسير معناه في البقرة
مستوفى ، وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم ـ مع أنهم لا يعطونها إلا
بعد ارتفاع اسم اليتيم بالبلوغ ـ مجازا ؛ باعتبار ما كانوا عليه ؛ ويجوز أن يراد :
باليتامى ؛ المعنى الحقيقي ، وبالإيتاء : ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من
النفقة والكسوة ، لا دفعها جميعا ، وهذا الآية مقيدة بالآية الأخرى وهي قوله تعالى
: (فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) فلا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مسوغا لدفع أموالهم
إليهم ، حتى يؤنس منهم الرشد. قوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا
الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى ،
فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوضونه بالرديء من أموالهم ، ولا
يرون بذلك بأسا ، وقيل : المعنى : لا تأكلوا أموال اليتامى ـ وهي محرّمة خبيثة ـ وتدعوا
الطيب من أموالكم ، وقيل : المراد : لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم ، وتدعوا
انتظار الرزق الحلال من عند الله. والأوّل أولى ؛ فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة
: أخذه مكانه ، وكذلك استبداله ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) وقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) . وأما التبديل : فقد يستعمل كذلك ، كما في قوله : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ
جَنَّتَيْنِ) ، واخرى بالعكس ، كما في قولك : بدّلت الحلقة بالخاتم :
إذا أذبتها وجعلتها خاتما ، نص عليه الأزهري. قوله : (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) ذهب جماعة من المفسرين : إلى أن المنهي عنه في هذه
الآية : هو الخلط ، فيكون الفعل مضمنا معنى الضم ، أي : لا تأكلوا أموالهم مضمومة
إلى أموالكم ، ثم نسخ هذا بقوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ) وقيل : إن : إلى ، بمعنى : مع ، كقوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) . والأوّل أولى. والحوب : الإثم ، يقال : حاب الرجل ،
يحوب ، حوبا : إذا أثم ، وأصله : الزجر للإبل ،
__________________
فسمى الإثم : حوبا ، لأنه يزجر عنه. والحوبة : الحاجة. والحوب أيضا :
الوحشة ، وفيه ثلاث لغات : ضم الحاء ، وهي قراءة الجمهور. وفتح الحاء ، وهي قراءة
الحسن ، قال الأخفش : وهي لغة تميم. والثالثة : الحاب ، وقرأ أبيّ بن كعب : حابا ،
على المصدر ، كقال قالا. والتحوب : التحزن ، ومنه قول طفيل :
فذوقوا كما
ذقنا غداة محجّر
|
|
من الغيظ في
أكبادنا والتّحوّب
|
وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتامى فَانْكِحُوا) وجه ارتباط الجزاء بالشرط : أن الرجل كان يكفل اليتيمة
لكونه وليا لها ويريد أن يتزوجها فلا يقسط لها في مهرها ، أي : يعدل فيه ، ويعطيها
ما يعطيها غيره من الأزواج ، فنهاهم الله أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ ، ويبلغوا
بهنّ أعلى ما هو لهنّ من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهنّ من النّساء سواهنّ
، فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي ، فهو نهي يخص هذه الصورة. وقال جماعة من السلف :
إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أوّل الإسلام ، من أن للرجل أن يتزوج
من الحرائر ما شاء ، فقصرهم بهذه الآية على أربع ، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط
أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء ، لأنهم
كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء ، والخوف من الأضداد ، فإن المخوف
قد يكون معلوما ، وقد يكون مظنونا ، ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية ، فقال
أبو عبيدة (خِفْتُمْ) : بمعنى : أيقنتم. وقال آخرون : (خِفْتُمْ) : بمعنى : ظننتم. قال ابن عطية : وهو الذي اختاره
الحذاق ، وأنه على بابه من الظن ، لا من اليقين ؛ والمعنى : من غلب على ظنه
التقصير في العدل لليتيمة فليتركها وينكح غيرها. وقرأ النخعي ، وابن وثاب : تقسطوا
بفتح التاء ، من : قسط : إذا جار ، فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة لا ، كأنه
قال : وإن خفتم أن لا تقسطوا. وحكى الزجاج : أن أقسط ، يستعمل استعمال قسط ،
والمعروف عند أهل اللغة : أن أقسط بمعنى : عدل ، وقسط : بمعنى جار ، و «ما» في
قوله : (ما طابَ) موصولة ، وجاء بها مكان من لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل
واحد منهما مكان الآخر كما في قوله : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها) (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) . وقال البصريون : إن «ما» تقع للنعوت كما تقع لما لا
يعقل ، يقال ما عندك ، فيقال : ظريف وكريم ، فالمعنى : فانكحوا الطيب من النساء ،
أي : الحلال ، وما حرّمه الله فليس بطيب ، وقيل : إن «ما» هنا : مدّية ، أي : ما
دمتم مستحسنين للنكاح ، وضعفه ابن عطية. وقال الفراء : إن «ما» ها هنا : مصدرية.
قال النحاس : وهذا بعيد جدا. وقرأ ابن أبي عبلة فانكحوا من طاب. وقد اتفق أهل
العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن
يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة ، و «من» في قوله : (مِنَ النِّساءِ) إما : بيانية ، أو : تبعيضية ، لأن المراد غير اليتائم.
قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ
وَرُباعَ) في محل نصب على البدل من (ما) كما قاله أبو علي الفارسي ؛ وقيل : على الحال ، وهذه
الألفاظ لا تنصرف للعدل والوصفية كما هو مبين في علم النحو والأصل : انكحوا ما طاب
__________________
لكم من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا.
وقد استدل
بالآية : على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك : بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن
كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال
وهو ألف درهم ، أو : هذا المال الذي في البدرة : درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ،
وأربعة أربعة. وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه ، أما : لو
كان مطلقا ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد به : ما كسبوه ، فليس المعنى
هكذا. والآية من الباب الآخر لا من الباب الأوّل. على أن من قال لقوم يقتسمون مالا
معينا كثيرا : اقتسموه مثنى ، وثلاث ، ورباع ، فقسموا بعضه بينهم : درهمين درهمين
، وبعضه : ثلاثة ثلاثة ، وبعضه : أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربيّ ، ومعلوم
أنه إذا قال القائل : جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف ، كان المعنى : أنهم جاءوه
اثنين اثنين ، وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع ، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل
فرد فرد ، كما في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) (أَقِيمُوا الصَّلاةَ*
آتُوا الزَّكاةَ) ونحوها ؛ فقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين
اثنتين ، وثلاثا وثلاثا ، وأربعا أربعا ، هذا ما تقتضيه لغة العرب. فالآية تدلّ
على خلاف ما استدلوا بها عليه ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَواحِدَةً) فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد
فرد. فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن.
وأما استدلال
من استدلّ بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة ، فكأنه قال : انكحوا
مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربي ، ولو قال : انكحوا ثنتين
وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ، وإنما جاء
سبحانه بالواو الجامعة دون أو : لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلّا أحد الأعداد
المذكورة دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني. وقرأ النخعي ، ويحيى بن
وثاب : ثلث وربع بغير ألف. قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) : فانكحوا واحدة ، كما يدل على ذلك قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ) وقيل : التقدير : فألزموا أو فاختاروا واحدة. والأول
أولى ؛ والمعنى : فإن خفتم ألّا تعدلوا بين الزوجات في القسم ونحوه فانكحوا واحدة
، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك. وقريء : بالرفع ، على أنه مبتدأ
، والخبر محذوف. قال الكسائي : أي : فواحدة تقنع ؛ وقيل : التقدير : فواحدة فيها
كفاية ، ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالمقنع
واحدة. قوله : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) معطوف على واحدة ، أي : فانكحوا واحدة أو انكحوا ما
ملكت أيمانكم من السراري ؛ وإن كثر عددهنّ كما يفيده الموصول. والمراد : نكاحهن
بطريق الملك ، لا بطريق النكاح ، وفيه دليل ، على أنه لا حق للمملوكات في القسم ،
كما يدل على ذلك جعله قسيما للواحدة في الأمن من عدم العدل. وإسناد الملك إلى
اليمين : لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها ، ولسائر الأمور التي تنسب إلى
الشخص في الغالب ، ومنه :
إذا ما راية
نصبت لمجد
|
|
تلقّاها
عرابة باليمين
|
__________________
قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) أي : ذلك أقرب إلى ألا تعولوا ، أي : تجوروا ، من : عال
الرجل ، يعول : إذا مال وجار ، ومنه قولهم : عال السهم عن الهدف : مال عنه ، وعال
الميزان : إذا مال ، ومنه :
قالوا
اتّبعنا رسول الله واطّرحوا
|
|
قول الرّسول
وعالوا في الموازين
|
ومنه قول أبي
طالب :
بميزان صدق
لا يغلّ شعيرة
|
|
له شاهد من
نفسه غير عائل
|
ومنه أيضا :
فنحن ثلاثة
وثلاث ذود
|
|
لقد عال
الزّمان على عيال
|
والمعنى : إن
خفتم عدم العدل بين الزوجات ؛ فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور ، ويقال :
عال الرجل ، يعيل : إذا افتقر وصار عالة ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) ، ومنه قول الشاعر :
وما يدري
الفقير متى غناه
|
|
وما يدري
الغنيّ متى يعيل
|
وقال الشافعي :
(أَلَّا تَعُولُوا) ألا تكثر عيالكم. قال الثعلبي : وما قال هذا غيره ،
وإنما يقال : أعال يعيل : إذا كثر عياله. وذكر ابن العربي : أن : عال ؛ تأتي لسبعة
معان : الأوّل : عال : مال. الثاني : زاد. الثالث : جار. الرابع : افتقر. الخامس :
أثقل. السادس : قام بمئونة العيال ، ومنه : قوله صلىاللهعليهوسلم : «وابدأ بمن تعول». السابع : عال : غلب ، ومنه : عيل
صبري ، قال : ويقال : أعال الرجل : كثر عياله. وأما : عال ، بمعنى كثر عياله ، فلا
يصح ، ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي ، وكذلك إنكار ابن العربي لذلك :
بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم ، وجابر بن زيد ، وهم إمامان من
أئمة المسلمين ، لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية.
وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه. وقد حكاه القرطبي عن الكسائي ، وأبي عمر
الدوري ، وابن الأعرابي ، وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ،
ولعله لغة. وقال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري
عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع ، فقال : هي لغة حمير ، وأنشد :
وإنّ الموت
يأخذ كلّ حيّ
|
|
بلا شكّ وإن
أمشى وعالا
|
أي : وإن كثرت
ماشيته وعياله. وقرأ طلحة بن مصرف : أن لا تعيلوا قال ابن عطية : وقدح الزجاج في
تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال
، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا. وهذا القدح غير صحيح ، لأن السراري إنما هي
مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما
__________________
العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة. وقد حكى ابن الأعرابي : أن العرب تقول
: عال الرجل : إذا كثر عياله ، وكفى بهذا.
وقد ورد عال
لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي ، منها : عال : اشتدّ وتفاقم ، حكاه
الجوهري ، وعال الرجل في الأرض : إذا ضرب فيها ، حكاه الهروي ، وعال : إذا أعجز ،
حكاه الأحمر ، فهذه ثلاثة معان غير السبعة ؛ والرابع : عال : كثر عياله ، فجملة
معاني عال : أحد عشر معنى. قوله : (وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) الخطاب للأزواج ، وقيل : للأولياء. والصدقات : بضم
الدال ، جمع صدقة ، كثمرة ، قال الأخفش : وبنو تميم يقولون : صدقة ، والجمع صدقات
، وإن شئت فتحت ، وإن شئت أسكنت. والنّحلة بكسر النون ؛ وضمها ؛ لغتان ، وأصلها :
العطاء ، نحلت فلانا : أعطيته ، وعلى هذا فهي منصوبة على المصدرية ، لأن الإيتاء
بمعنى الإعطاء ؛ وقيل : النحلة : التدين ، فمعنى : نحلة : تدينا ، قاله الزجاج ،
وعلى هذا فهي منصوبة على المفعول له. وقال قتادة : النحلة : الفريضة ، وعلى هذا
فهي منصوبة على الحال ؛ وقيل : النحلة : طيبة النفس ، قال أبو عبيد : ولا تكون
النحلة إلّا عن طيبة نفس. ومعنى الآية ـ على كون الخطاب للأزواج ـ : أعطوا النساء
اللاتي نكحتموهنّ مهورهنّ التي لهن عليكم عطية ، أو ديانة منكم ، أو فريضة عليكم ،
أو طيبة من أنفسكم. ومعناها ـ على كون الخطاب للأولياء ـ : أعطوا النساء ـ من
قراباتكم التي قبضتم مهورهنّ من أزواجهنّ ـ تلك المهور. وقد كان الولي يأخذ مهر
قريبته في الجاهلية ولا يعطيها شيئا ، حكى ذلك عن أبي صالح والكلبي. والأوّل أولى
، لأن الضمائر من أوّل السياق للأزواج. وفي الآية دليل : على أن الصداق واجب على
الأزواج للنساء ، وهو مجمع عليه كما قال القرطبي ، قال : وأجمع العلماء أنه لا حدّ
لكثيرة ، واختلفوا في قليلة. وقرأ قتادة : «صدقاتهنّ» بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ
النخعي وابن وثاب : بضمهما. وقرأ الجمهور : بفتح الصاد وضم الدال. قوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) الضمير في : منه ، راجع إلى الصداق الذي هو واحد
الصدقات ، أو إلى المذكور ، وهو الصدقات ، أو هو بمنزلة اسم الإشارة ، كأنه قال من
ذلك. ونفسا : تمييز. وقال أصحاب سيبويه : منصوب بإضمار فعل ، لا تمييز ، أي : أعني
نفسا. والأوّل أولى ، وبه قال الجمهور. والمعنى : فإن طبن ، أي : النساء لكم أيها
الأزواج أو الأولياء عن شيء من المهر (فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً) وفي قوله : (طِبْنَ) دليل : على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو
طيبة النفس ، لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس ،
فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحلّ للزوج ولا للوليّ ، وإن كانت قد
تلفظت بالهبة أو النذر أو نحوهما. وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما
يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها ، لنقصان عقولهنّ ، وضعف
إدراكهنّ ، وسرعة انخذاعهن ، وانجذابهنّ إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب ،
وقوله : (هَنِيئاً مَرِيئاً) منصوبان على أنهما صفتان لمصدر محذوف ، أي : أكلا هنيئا
مريئا ، أو قائمان مقام المصدر ، أو على الحال ، يقال : هناه الطعام والشراب ،
يهنئه ، ومرأه ، وأمرأه ، من الهنيء والمريء ، والفعل : هنأ ومرأ ، أي : أتى من
غير مشقة ولا غيظ ؛ وقيل :
هو الطيب الذي لا تنغيص فيه ؛ وقيل : المحمود العاقبة ، الطيب الهضم ؛ وقيل
: ما لا إثم فيه ، والمقصود هنا : أنه حلال لهم خالص عن الشوائب ، وخص الأكل لأنه
معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الانتفاعات به جائزة كالأكل.
وقد أخرج ابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) قال آدم : (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) قال : حواء من قصيرى آدم ، أي : قصيرى أضلاعه. وأخرج
أبو الشيخ عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر : خلقت حواء من خلف
آدم الأيسر. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : من ضلع الخلف وهو من أسفل
الأضلاع. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : (وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) قال : تعاطون به. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم عن الربيع قال : تعاقدون وتعاهدون. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن مجاهد قال : يقول : أسألك بالله والرحم. وأخرج ابن جرير عن الحسن
ونحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اتقوا الله الذي تساءلون
به واتقوا الأرحام وصلوها. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) قال : حفيظا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال :
إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له ؛ فلمّا بلغ اليتيم ؛ طلب ماله ،
فمنعه عمه ، فخاصمه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت : (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) يعني الأوصياء ، يقول : أعطوا اليتامى أموالهم (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ) يقول : لا تستبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من
أموالكم ، يقول : لا تذروا أموالكم الحلال ، وتأكلوا أموالهم الحرام. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن
مجاهد قال : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدّر لك (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى
أَمْوالِكُمْ) قال : مع أموالكم ، تخلطونها ، فتأكلونها جميعا (إِنَّهُ كانَ حُوباً) إثما. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : كان
أهل الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا يورثون الصغار ، يأخذه الأكبر ، فنصيبه من
الميراث طيب ، وهذا الذي يأخذه خبيث. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة
قال : مع أموالكم. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية في أموال
اليتامى كرهوا أن يخالطوهم ، وجعل وليّ اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله ، فشكوا
ذلك إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) قال : فخالطوهم. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما : أن
عروة سأل عائشة عن قول الله عزوجل : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) قالت : يا ابن أختي! هذه اليتيمة تكون في حجر وليها
تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في
صداقها ؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ،
ويبلغوا بهنّ أعلى سننهنّ في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء
سواهنّ ، وأن الناس قد استفتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال ،
فنهوا أن
__________________
ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من باقي النساء إلّا بالقسط من أجل رغبتهم
عنهنّ إذا كن قليلات المال والجمال. وأخرج البخاري عن عائشة : أن رجلا كانت له
يتيمة فنكحها ، وكان لها عذق فكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء ، فنزلت
: (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. وقد
روي هذا المعنى من طرق. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال :
كان الرجل يتزوج بمال اليتيم ما شاء الله تعالى ، فنهى الله عن ذلك. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : قصر الرجال على أربع نسوة من أجل أموال
اليتامى. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن سعيد
بن جبير في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) قال : كان الرجل يتزوج ما شاء فقال : كما تخافون ألا
تعدلوا في اليتامى فخافوا ألا تعدلوا فيهن ، فقصرهم على الأربع. وأخرج ابن جرير ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من
النساء الأيامى ، وكانوا يعظمون شأن اليتيم ، فتفقدوا من دينهم شأن اليتامى وتركوا
ما كانوا ينكحون في الجاهلية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال :
كما خفتم ألا تعدلوا في اليتامى فخافوا ألا تعدلوا في النساء إذا جمعتموهنّ عندكم.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن أبي موسى الأشعري عنه قال : فإن خفتم الزنا
فانكحوهنّ ، يقول : كما خفتم في أموال اليتامى ألا تقسطوا فيها فكذلك فخافوا على
أنفسكم ما لم تنكحوا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن أبي مالك : (ما طابَ لَكُمْ) قال : ما أحلّ لكم. وأخرج ابن جرير عن الحسن وسعيد بن
جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن عائشة نحوه. وأخرج الشافعي ، وابن
أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، والنحاس في ناسخه ، والدارقطني ،
والبيهقي عن ابن عمر : «أنّ غيلان بن سلمة الثّقفيّ أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له
النبي صلىاللهعليهوسلم : اختر منهنّ» وفي لفظ : «أمسك منهنّ أربعا وفارق
سائرهنّ» هذا الحديث أخرجه هؤلاء ـ المذكورين ـ من طرق عن إسماعيل بن علية ، وغندر
، وزيد بن زريع ، وسعيد بن أبي عروبة ، وسفيان الثوري ، وعيسى بن يونس ، وعبد
الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى ، وغيرهم من الحفاظ عن معمر ، عن الزهري
، عن سالم عن أبيه ، فذكره. وقد علل البخاري هذا الحديث ، فحكى عنه الترمذي أنه
قال : هذا حديث غير محفوظ. والصحيح ما روي عن شعيب وغيره عن الزهري : حدثت عن محمد
بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة ، فذكره ، وأما حديث الزهري عن أبيه : أن رجلا من
ثقيف طلق نساءه فقال له عمر : لأرجمنّ قبرك كما رجم قبر أبي رغال. وقد رواه معمر
عن الزهري مرسلا ، وهكذا رواه مالك عن الزهري مرسلا. قال أبو زرعة : وهو أصح.
ورواه عقيل عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد قال أبو حاتم : وهذا
وهم ، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد. وقد سامه أحمد برجال الصحيح فقال :
حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا معمر عن الزهري قال أبو جعفر في حديثه :
أخبرنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه : أن غيلان ، فذكره ، وقد روي من غير طريق معمر
والزهري ، فأخرجه
البيهقي عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان ، فذكره. وأخرج أبو
داود ، وابن ماجة في سننهما عن عمير الأسدي قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة ، فذكرت
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : اختر منهنّ أربعا. قال ابن كثير : إن إسناده
حسن. وأخرج الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلمي قال : أسلمت وعندي خمس
نسوة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أمسك أربعا وفارق الأخرى». وأخرج ابن ماجة ، والنحاس
في ناسخه عن قيس بن الحارث الأسدي قال : «أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة ، فأتيت النبي
صلىاللهعليهوسلم فأخبرته ، فقال : «اختر منهنّ أربعا وخلّ سائرهنّ ،
ففعلت» وهذه شواهد للحديث الأوّل كما قال البيهقي. وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي
في سننه عن الحكم قال : أجمع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم : على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية يقول : إن خفت ألا
تعدل في أربع فثلاث ، وإلّا فثنتين ، وإلّا فواحدة ، فإن خفت ألا تعدل في واحدة
فما ملكت يمينك. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج أيضا عن الضحاك : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) قال : في المجامعة والحبّ. وأخرج ابن جرير وابن أبي
حاتم عن السدي : (أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) قال : السراري. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا
تَعُولُوا) قال : ألا تجوروا. قال ابن أبي حاتم قال أبي : هذا حديث
خطأ ، والصحيح عن عائشة موقوف. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة في المصنف ،
وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في
قوله : (أَلَّا تَعُولُوا) قال : ألا تميلوا. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد
، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : ألا تميلوا ، ثم قال :
أما سمعت قول أبي طالب :
بميزان قسط
لا يخيس شعيرة
|
|
ووازن صدق
وزنه غير عائل
|
وأخرج ابن أبي
شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد : قال : ألا تميلوا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي رزين ، وأبي مالك ، والضحاك مثله. وأخرج ابن أبي حاتم
عن زيد بن أسلم في الآية ، قال : ذلك أدنى ألا يكثر من تعولوا. وأخرج ابن أبي حاتم
عن سفيان بن عيينة : قال : ألا تفتقروا. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوّج
أيمة أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ونزلت : (وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :
(نِحْلَةً) قال : يعني بالنحلة : المهر. وأخرج ابن أبي حاتم عن
عائشة : (نِحْلَةً) قالت : واجبة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن ابن جريج (وَآتُوا النِّساءَ
صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) قال : فريضة مسماة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن
قتادة مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد
بن جبير (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) قال :
__________________
هي للأزواج. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ) قال : من الصداق. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن
أبي حاتم من طريق عليّ عن ابن عباس : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) يقول : إذا كان من غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء ،
كما قال الله :
(وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ
فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ
يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))
هذا رجوع إلى
بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى. وقد تقدّم الأمر بدفع أموالهم إليهم في
قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى
أَمْوالَهُمْ) فبين سبحانه هاهنا أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع
ماله إليه. وقد تقدّم في البقرة : معنى السفيه لغة.
واختلف أهل
العلم في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال سعيد بن جبير : هم اليتامى ، لا تؤتوهم
أموالكم. قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وقال مالك : هم الأولاد
الصغار ، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها ، وتبقوا بلا شيء. وقال مجاهد : هم النساء. قال
النحاس وغيره : وهذا القول لا يصح ، إنما تقول العرب : سفائه أو سفيهات. واختلفوا
في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء ، فقيل : أضافها إليهم : لأنها
بأيديهم وهم الناظرون فيها ، كقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى
أَنْفُسِكُمْ) ، وقوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : ليسلم بعضكم على بعض ، وليقتل بعضكم بعضا ؛ وقيل :
أضافها إليهم : لأنها من جنس أموالهم ، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في
الأصل ؛ وقيل : المراد : أموال المخاطبين حقيقة ، وبه قال أبو موسى الأشعري ، وابن
عباس ، والحسن ، وقتادة. والمراد : النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها ،
كالنساء والصبيان ، ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال
، ولا يتجنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به. قوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ
لَكُمْ قِياماً) المفعول الأوّل محذوف ، والتقدير : التي جعلها الله لكم
، و «قيما» : قراءة أهل المدينة وأبي عامر ، وقرأ غيرهم : «قياما» ، وقرأ عبد الله
ابن عمر : «قواما» والقيام ، والقوام : ما يقيمك ، يقال : فلان قيام أهله ، وقوام
بيته ، وهو الذي يقيم شأنه ، أي : يصلحه ، ولما انكسرت القاف في قوام ؛ أبدلوا
الواو ياء. قال الكسائي والفراء : قيما ، وقواما : بمعنى قياما ، وهو منصوب على
المصدر ، أي : لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فتقومون بها قياما ،
وقال الأخفش : المعنى : قائمة بأموركم ، فذهب إلى أنها جمع. وقال البصريون : قيما
: جمع قيمة ، كديمة وديم ، أي : جعلها الله قيمة للأشياء. وخطأ أبو علي الفارسي
هذا القول وقال : هي مصدر ، كقيام وقوام. والمعنى : أنها صلاح للحال وثبات له ،
فأما على قول من قال : إن المراد : أموالهم على ما يقتضيه
__________________
ظاهر الإضافة ، فالمعنى واضح. وأما على قول من قال : إنها أموال اليتامى ،
فالمعنى : أنها من جنس ما تقوم به معايشكم ، ويصلح به حالكم من الأموال. وقرأ
الحسن والنخعي : «اللاتي جعل» قال الفراء : الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي ،
والأموال التي ، وكذلك غير الأموال ، ذكره النحاس. قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) أي : اجعلوا لهم فيها رزقا أو افرضوا لهم ، وهذا فيمن
تلزم نفقته وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم. وأما على قول من قال : إن الأموال
هي أموال اليتامى ، فالمعنى : اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوا عليهم من الأرباح ،
أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقا ينفقونه على أنفسهم ويكتسون به. وقد استدل بهذه
الآية : على جواز الحجر على السفهاء ، وبه قال الجمهور. وقال أبو حنيفة : لا يحجر
على من بلغ عاقلا ، واستدل بها أيضا : على وجوب نفقة القرابة. والخلاف في ذلك
معروف في مواطنه. قوله : (وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) قيل : ادعوا لهم : بارك الله فيكم ، وح ، وصنع لكم ؛
وقيل : معناه : عدوهم وعدا حسنا ، قولوا لهم : إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم ؛
ويقول الأب لابنه : مالي سيصير إليك ، وأنت إن شاء الله صاحبه ، ونحو ذلك. والظاهر
من الآية من يصدق عليه مسمى القول الجميل ، ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل
والأولاد ، أو مع الأيتام المكفولين. وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم فيما صحّ عنه : «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي».
قوله : (وَابْتَلُوا
الْيَتامى) الابتلاء : الاختبار. وقد تقدّم تحقيقه. وقد اختلفوا في
معنى الاختبار ، فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ؛ ليعلم بنجابته وحسن تصرفه
؛ فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد ؛ وقيل : معنى الاختبار : أن
يدفع إليه شيئا من ماله ؛ ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله. وقيل : معنى
الاختبار : أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره ، وإن كانت جارية
ردّ إليها ما يردّ إلى ربة البيت من تدبير بيتها. والمراد ببلوغ النكاح : بلوغ
الحلم ، لقوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) ومن علامات البلوغ : الإنبات ، وبلوغ خمس عشرة سنة.
وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلّا بعد مضي سبع
عشرة سنة ، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى ، وتختص الأنثى : بالحبل والحيض. قوله
: (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي : أبصرتم ورأيتم ، ومنه قوله : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) . قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا ،
معناه : تبصر ؛ وقيل : هو هنا بمعنى : وجد وعلم ، أي : فإن وجدتم وعلمتم منهم
رشدا. وقراءة الجمهور : «رشدا» بضم الراء وسكون الشين. وقرأ ابن مسعود ، والسلمي ،
وعيسى الثقفي : بفتح الراء والشين ، قيل : هما لغتان ؛ وقيل : هو بالضم مصدر رشد ،
وبالفتح مصدر رشد.
واختلف أهل
العلم في معنى الرشد هاهنا ، فقيل : الصلاح في العقل والدين ؛ وقيل : في العقل
خاصة. قال سعيد بن جبير والشعبي : إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده
وإن كان شيخا. قال الضحاك : وإن بلغ مائة سنة. وجمهور العلماء على أن الرشد لا
يكون إلّا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر.
وقال أبو حنيفة : لا يحجر على الحرّ البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا ،
وبه قال النخعي ، وزفر ، وظاهر النظم القرآني : أنه لا تدفع إليهم أموالهم إلّا
بعد بلوغ غاية ، هي : بلوغ
__________________
النكاح ، مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد ، فلا بد من مجموع الأمرين ، فلا
تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ ، وإن كانوا معروفين بالرشد ، ولا بعد البلوغ
إلّا بعد إيناس الرشد منهم. والمراد بالرشد : نوعه ، وهو المتعلق بحسن التصرف في
أمواله ، وعدم التبذير بها ، ووضعها في مواضعها. قوله : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً
أَنْ يَكْبَرُوا) الإسراف في اللغة : الإفراط ومجاوزة الحدّ. وقال النضر
بن شميل : السرف والتبذير ، والبدار : المبادرة و (أَنْ يَكْبَرُوا) في موضع نصب بقوله : (بِداراً) أي : لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة
لكبرهم ، أو : لا تأكلوا لأجل السرف ، ولأجل المبادرة ، أو : لا تأكلوها مسرفين
ومبادرين لكبرهم ، وتقولوا : ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا
فينتزعوها من أيدينا. قوله : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى ، فأمر الغنيّ
بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه ، وعدم تناوله منه ، وسوّغ للفقير أن يأكل بالمعروف.
واختلف أهل
العلم في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم : هو القرض إذا احتاج إليه ويقضي متى
أيسر الله عليه ، وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني ، وابن
جبير ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والأوزاعي ، وقال النخعي ، وعطاء والحسن
وقتادة : لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف ، وبه قال جمهور الفقهاء. وهذا
بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض. والمراد
بالمعروف : المتعارف به بين الناس ، فلا يترفه بأموال اليتامى ، ويبالغ في التنعم
بالمأكول ، والمشروب ، والملبوس ، ولا يدع نفسه عن سدّ الفاقة وستر العورة.
والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم ، كالأب والجدّ
ووصيهما. وقال بعض أهل العلم : المراد بالآية : اليتيم إن كان غنيا : وسع عليه
وعفّ من ماله ، وإن كان فقيرا : كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له ، وهذا القول في
غاية السقوط. قوله : (فَإِذا دَفَعْتُمْ
إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أي : إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم ،
فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم ، لتندفع عنكم التهم ، وتأمنوا عاقبة الدعاوى
الصادرة منهم. وقيل : إن الإشهاد المشروع : هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم
؛ وقيل : هو على ردّ ما استقرضه إلى أموالهم ، وظاهر النظم القرآني : مشروعية
الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم ، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد ، والدفع
للجميع إليهم بعد الرشد (وَكَفى بِاللهِ
حَسِيباً) أي : حاسبا لأعمالكم ، شاهدا عليكم في كل شيء تعملونه ،
ومن جملة ذلك : معاملتكم لليتامى في أموالهم ، وفيه وعيد عظيم ، والباء : زائدة ،
أي : كفى الله.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) يقول : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة
، فتعطيه امرأتك أو بنتك ، ثم تضطر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك ، وأصلحه ،
وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم. قال : وقوله : (قِياماً) يعني : قوامكم من معايشكم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عنه من طريق العوفي في الآية يقول : لا تسلط السفيه من ولدك على مالك ، وأمره
أن يرزقه منه ويكسوه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : هم بنوك والنساء. وأخرج ابن
أبي حاتم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ
النّساء السّفهاء إلّا التي أطاعت قيّمها». وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي
هريرة قال : هم الخدم ، وهم شياطين الإنس. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن
مسعود قال : هم النساء والصبيان. وأخرج ابن جرير عن حضرمي : أن رجلا عمد فدفع ماله
إلى امرأته فوضعته في غير الحق ، فقال الله : (وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن سعيد بن جبير قال :
هم اليتامى والنساء. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة قال : هو مال
اليتيم يكون عندك ، يقول : لا تؤته إياه ، وأنفق عليه حتى يبلغ. وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَارْزُقُوهُمْ) يقول : أنفقوا عليهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
عن مجاهد : (وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال : أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البرّ
والصلة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج : (وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً) قال : عدة تعدونهم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَابْتَلُوا
الْيَتامى) يعني : اختبروا اليتامى عند الحلم (فَإِنْ آنَسْتُمْ) عرفتم (مِنْهُمْ رُشْداً) في حالهم ، والإصلاح في أموالهم (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ
وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً) يعني : تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ فتحول بينه
وبين ماله. وأخرج البخاري وغيره عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في وليّ اليتيم (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) بقدر قيامه عليه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، عن ابن عباس : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ) قال : بغناه (وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال : يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال
اليتيم. وأخرج ابن جرير عنه قال : هو القرض. وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي عن ابن
عباس قال : إن كان فقيرا أخذ من فضل اللبن ، وأخذ من فضل القوت ، ولا يجاوزه ، وما
يستر عورته من الثياب ، فإن أيسر قضاه ، وإن أعسر فهو في حل. وأخرج عبد الرزاق ، وابن
سعد ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة
وليّ اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف ، فإذا أيسرت
قضيت. وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر
: «أنّ رجلا سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير
مسرف ولا مبذّر ولا متأثّل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله». وأخرج أبو داود ،
والنحاس كلاهما في الناسخ ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ) قال : نسختها : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) الآية.
(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ
الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
__________________
وَقُولُوا
لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً
إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))
لما ذكر سبحانه
حكم أموال اليتامى وصله بأحكام المواريث ، وكيفية قسمتها بين الورثة. وأفرد سبحانه
ذكر النساء بعد ذكر الرجال ، ولم يقل : للرجال والنساء نصيب ، للإيذان بأصالتهنّ
في هذا الحكم ، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء ، وفي ذكر القرابة
بيان لعلة الميراث ، مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص. وقوله :
(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ
أَوْ كَثُرَ) بدل من قوله : (مِمَّا تَرَكَ) بإعادة الجار ، والضمير في قوله : (مِنْهُ) راجع إلى المبدل منه. وقوله : (نَصِيباً) منتصب على الحال ، أو على المصدرية ، أو على الاختصاص ،
وسيأتي ذكر السبب في نزول هذه الآية إن شاء الله ، وقد أجمل الله سبحانه في هذه
المواضع قدر النصيب المفروض ، ثم أنزل قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) فبين ميراث كل فرد. قوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا
الْقُرْبى) المراد بالقرابة هنا : غير الوارثين ، وكذا اليتامى
والمساكين ، شرع الله سبحانه : أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم رزق ، فيرضخ لهم المتقاسمون شيئا منها. وقد ذهب قوم إلى أن الآية
محكمة ، وأن الأمر للندب. وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) والأول أرجح ، لأن المذكور في الآية للقرابة غير
الوارثين ، ليس هو من جملة الميراث ، حتى يقال : إنها منسوخة بآية المواريث ، إلّا
أن يقولوا : إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون ؛ كان للنسخ وجه. وقالت
طائفة : إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة
، وهو معنى الأمر الحقيقي ، فلا يصار إلى الندب إلّا لقرينة ، والضمير في قوله : (مِنْهُ) راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة ، وقيل :
راجع إلى ما ترك. والقول المعروف : هو القول الجميل الذي ليس فيه منّ بما صار
إليهم من الرضخ ، ولا أذى. قوله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا) هم الأوصياء ، كما ذهب إليه طائفة من المفسرين ، وفيه
وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذين في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم
؛ وقالت طائفة : المراد : جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام ، وأولاد الناس
، وإن لم يكونوا في حجورهم ؛ وقال آخرون : إن المراد بهم : من يحضر الميت عند موته
، أمروا بتقوى الله ، وبأن يقولوا للمحتضر قولا سديدا ، من إرشاده إلى التخلص عن
حقوق الله ، وحقوق بني آدم ، وإلى الوصية بالقرب المقرّبة إلى الله سبحانه ، وإلى
ترك التبذير بماله ، وإحرام ورثته ، كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم فقراء
عالة يتكففون الناس ؛ وقال ابن عطية : الناس صنفان ، يصلح لأحدهما أن يقال له عند
موته ما لا يصلح للآخر ،
__________________
وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء ، حسن أن يندب إلى
الوصية ، ويحمل على أن يقدّم لنفسه ، وإذا ترك ورثته ضعفاء مفلسين ، حسن أن يندب
إلى الترك لهم والاحتياط ، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين. قال القرطبي :
وهذا التفصيل صحيح. قوله : (لَوْ تَرَكُوا) صلة الموصول ، والفاء في قوله : (فَلْيَتَّقُوا) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ؛ والمعنى : وليخش الذين
صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافا ، وذلك عند احتضارهم ،
خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم ، ثم أمرهم بتقوى الله ، والقول
السديد للمحتضرين ، أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى) استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء
والأوصياء. وانتصاب قوله : (ظُلْماً) على المصدرية ، أي : أكل ظلم ، أو على الحالية ، أي :
ظالمين لهم. وقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ ناراً) أي : ما يكون سببا للنار ، تعبيرا بالمسبب عن السبب ،
وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية. وقوله : (وَسَيَصْلَوْنَ) قراءة عاصم وابن عامر : بضم الياء ، على ما لم يسم
فاعله. وقرأ أبو حيوة : بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام ، من التصلية ، بكثرة
الفعل مرة بعد أخرى. وقرأ الباقون : بفتح الياء ، من : صلى النار ، يصلاها ،
والصلي : هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد :
لم أكن من
جناتها علم اللّ
|
|
ه وإنّي
لحرّها اليوم صالي
|
والسعير :
الجمر المشتعل.
وقد أخرج أبو
الشيخ عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار حتى يدركوا
، فمات رجل من الأنصار يقال له : أوس بن ثابت ، وترك ابنتين وابنا صغيرا ، فجاء
ابنا عمه وهما عصبته إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخذا ميراثه كله ، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت الآية ، فأرسل إليهما رسول الله فقال : لا
تحركا من الميراث شيئا ، فإنه قد أنزل عليّ شيء احترت فيه ، إن للذكر والأنثى
نصيبا ، ثم نزل بعد ذلك : (وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ) ، ثم نزل : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) فدعا بالميراث ، فأعطى المرأة الثمن ، وقسّم ما بقي :
للذكر مثل حظ الأنثيين. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة في
الآية قال : نزلت في أم كلثوم وابنة أم كحلة ، أو أم كجّة ، وثعلبة بن أوس ، وسويد
، وهم من الأنصار ، كان أحدهم زوجا والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول الله! توفي
زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله ، فقال عمّ ولدها : يا رسول الله! لا تركب
فرسا ، ولا تنكي عدوا ، ويكسب عليها ولا تكتسب ، فنزلت. وأخرج البخاري وغيره عن
ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ) قال : هي محكمة وليست بمنسوخة. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن خطاب بن عبد الله في
هذه الآية قال : قضى بها أبو موسى. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبو
داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : هي واجبة على
أهل الميراث ما طابت به أنفسهم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة عن الحسن
والزهري ، قالا : هي محكمة ما طابت
به أنفسهم. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، والحاكم ، وصححه عن ابن
عباس قال : يرضخ لهم ، فإن كان في ماله تقصير ، اعتذر إليهم ، فهو : قولا معروفا.
وأخرج ابن المنذر عن عائشة أنها لم تنسخ. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ،
وابن أبي حاتم : أن هذه الآية منسوخة بآية الميراث. وأخرج أبو داود في ناسخه ،
وعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيب قال :
هي منسوخة. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : إن كانوا كبارا يرضخوا ، وإن
كانوا صغارا اعتذروا إليهم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والبيهقي في سننه في قوله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا) قال : هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته ، فيسمعه يوصي
وصية تضرّ بورثته ، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب ،
ولينظر لورثته كما يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة. وقد روي نحو هذا من
طرق. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو يعلى ، والطبراني ، وابن حبان في صحيحه ، وابن أبي
حاتم عن أبي برزة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم ، تأجّج أفواههم
نارا ، فقيل : يا رسول الله! من هم؟ قال : ألم تر أن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)». وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الخدري
قال : حدثنا النبي صلىاللهعليهوسلم عن ليلة أسري به قال : «نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر
كمشافر الإبل ، وقد وكلّ بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار ،
فيقذف في فيّ أحدهم حتى يخرج من أسافلهم ، ولهم جؤار وصراخ ، فقلت : يا جبريل! من
هؤلاء؟ قال : هؤلاء (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)». وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : هذه الآية لأهل
الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم.
(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ
وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ
نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ
نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ
لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي
الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ
وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ
يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً
فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤))
وهذا تفصيل لما
أجمل في قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) الآية ، وقد استدل لذلك على جواز تأخير البيان عن وقت
الحاجة ، وهذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأم من أمهات
الآيات ، لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض ، وقد كان هذا العلم من أجلّ علوم
الصحابة ، وأكثر مناظراتهم فيه ، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله
من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله. قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أي : في بيان ميراثهم. وقد اختلفوا : هل يدخل أولاد
الأولاد أم لا ، فقالت الشافعية : إنهم يدخلون مجازا لا حقيقة ، وقالت الحنفية :
إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب ، ولا خلاف أن بني البنين
كالبنين في الميراث مع عدمهم ، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم
مع عدمهم ، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافرا ، ويخرج بالسنة ، وكذلك يدخل
القاتل عمدا ، ويخرج أيضا بالسنة والإجماع ، ويدخل فيه الخنثى. قال القرطبي :
وأجمع العلماء : أنه يورث من حيث يبول ، فإن بال منهما : فمن حيث سبق ، فإن خرج
البول منهما من غير سبق أحدهما : فله نصف نصيب الذكر ونصف نصيب الأنثى ، وقيل :
يعطى أقلّ النصيبين ، وهو نصيب الأنثى ، قاله يحيى بن آدم ، وهو قول الشافعي. وهذه
الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة ، وقد
أجمع العلماء : على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه ، وكان ما بقي من
المال للذكر مثل حظ الأنثيين ، للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ : «ألحقوا
الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر» إلّا إذا كان ساقطا معهم ،
كالأخوة لأم. وقوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) جملة مستأنفة ، لبيان الوصية في الأولاد ، فلا بدّ من
تقدير ضمير يرجع إليهم : ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم حظ الأنثيين. والمراد
: حال اجتماع الذكور والإناث ، وأما حال الانفراد : فللذكر جميع الميراث ، وللأنثى
النصف ، وللاثنتين فصاعدا الثلثان. قوله : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) أي : فإن كنّ الأولاد ، والتأنيث باعتبار الخبر ، أو
البنات ، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين. أي : زائدات على اثنتين ،
على أن : فوق ، صفة لنساء ، أو يكون خبرا ثانيا لكان (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما
تَرَكَ) الميت ، المدلول عليه بقرينة المقام. وظاهر النظم
القرآني : أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعدا ، ولم يسم للاثنتين فريضة ،
ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما ، فذهب الجمهور : إلى أن لهما إذا انفردتا عن
البنين الثلثين ، وذهب ابن عباس : إلى أن فريضتهما النصف ، احتج الجمهور بالقياس
على الأختين ، فإن الله سبحانه قال في شأنهما (فَإِنْ كانَتَا
اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين ، كما
ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين ؛ وقيل : في
الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث
كانا للابنتين إذا انفردتا
الثلثان ، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد. قال النحاس :
وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ، لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين
، وأيضا للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف ، فهذا دليل على أن
هذا فرضهما ، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور : بأن الله سبحانه لما فرض للبنت
الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ
واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة ، وأوجب
القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين. وقيل : إن : فوق ، زائدة ،
والمعنى : وإن كنّ نساء اثنتين كقوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ) أي : الأعناق ، ورد هذا النحاس ، وابن عطية فقالا : هو
خطأ ، لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن
عطية : ولأن قوله : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) هو الفصيح ، وليست فوق زائدة ، بل هي محكمة المعنى ،
لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، كما قال دريد
بن الصمة : اخفض عن الدماغ ، وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال.
انتهى. وأيضا : لو كان لفظ فوق زائدا كما قالوا : لقال : فلهما ثلثا ما ترك ، ولم
يقل : فلهن ثلثا ما ترك ، وأوضح ما يحتج به للجمهور : ما أخرجه ابن أبي شيبة ،
وأحمد وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان
، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل
أبوهما معك في أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالا ، ولا تنكحان
إلّا ولهما مال ، فقال : يقضي الله في ذلك ، فنزلت آية الميراث : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عمهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن
وما بقي فهو لك ، أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي
: ولا يعرف إلّا من حديثه. قوله : (وَإِنْ كانَتْ
واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) قرأ نافع ، وأهل المدينة : «واحدة» بالرفع ، على أن :
كان ، تامة بمعنى : فإن وجدت واحدة أو حدثت واحدة. وقرأ الباقون : بالنصب ، قال
النحاس : وهذه قراءة حسنة ، أي : وإن كانت المتروكة أو المولودة واحدة. قوله : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ) أي : لأبوي الميت ، وهو كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك
لدلالة الكلام عليه و (فَلِكُلِّ واحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ) بدل من قوله : (وَلِأَبَوَيْهِ) بتكرير العامل للتأكيد والتفصيل. وقرأ الحسن ، ونعيم بن
ميسرة «السدس» بسكون الدال ، وكذلك قرءا : الثلث ، والربع إلى العشر : بالسكون ،
وهي لغة بني تميم وربيعة ، وقرأ الجمهور : بالتحريك ضما ، وهي لغة أهل الحجاز وبني
أسد في جميعها. والمراد بالأبوين : الأب والأم ، والتثنية على لفظ الأب : للتغليب.
وقد اختلف
العلماء في الجد : هل هو بمنزلة الأب فتسقط به الأخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر الصديق
إلى أنه بمنزلة الأب ، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته ، واختلفوا في ذلك
بعد وفاته ، فقال بقول أبي بكر ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعائشة ، ومعاذ
بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن
وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، وإسحاق ، واحتجوا بمثل قوله تعالى :
(مِلَّةَ
__________________
أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ) وقوله : (يا بَنِي آدَمَ) وقوله صلىاللهعليهوسلم : «ارموا يا بني إسماعيل». وذهب علي بن أبي طالب ، وزيد
بن ثابت ، وابن مسعود : إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو لأب ، ولا ينقص معهم
من الثلث ، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ، ومالك ، والأوزاعي ،
وأبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي. وقيل : يشرك بين الإخوة والجد إلى السدس ، ولا
ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم ، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة ، وذهب
الجمهور : إلى أن الجد يسقط بني الإخوة ، وروى الشعبي عن علي : أنه أجرى بني
الإخوة في القاسمة مجرى الإخوة. وأجمع العلماء : على أن الجد لا يرث مع الأب شيئا
، وأجمع العلماء : على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وأجمعوا : على أنها
ساقطة مع وجود الأم ، وأجمعوا : على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ.
واختلفوا في
توريث الجدة وابنها حيّ ، فروي عن زيد بن ثابت ، وعثمان ، وعلي : أنها لا ترث
وابنها حيّ ، وبه قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي. وروي
عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي موسى : أنها ترث معه ، وروي أيضا : عن عليّ ، وعثمان ،
وبه قال شريح ، وجابر بن زيد ، وعبيد الله ابن الحسن ، وشريك ، وأحمد ، وإسحاق ،
وابن المنذر. قوله : (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) الولد : يقع على الذكر والأنثى ، لكنه إذا كان الموجود
من الذكر من الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم : فليس للجد إلّا السدس ، وإن كان
الموجود أنثى : كان للجد السدس بالفرض ، وهو عصبة فيما عدا السدس ، وأولاد ابن
الميت كأولاد الميت. قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلَدٌ) أي : ولا ولد ابن ، لما تقدّم من الإجماع (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) منفردين عن سائر الورثة ، كما ذهب إليه الجمهور من أن
الأم لا تأخذ ثلث التركة إلّا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين ، أما لو كان
معهما أحد الزوجين : فليس للأم إلّا ثلث الباقي بعد الموجودين من الزوجين. وروي عن
ابن عباس : أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين ، وهو يستلزم تفضيل الأمّ على الأب
في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين.
قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) إطلاق الإخوة يدل : على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين
أو لأحدهما.
وقد أجمع أهل
العلم : على أن الاثنين من الإخوة يقومان مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأم إلى
السدس ، إلّا ما يروى عن ابن عباس : أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب.
وأجمعوا أيضا : على أن الأختين فصاعدا كالأخوين في حجب الأم. قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم : «يوصى» بفتح الصاد.
وقرأ الباقون : بكسرها ، واختار الكسر أبو عبيد ، وأبو حاتم لأنه جرى ذكر الميت
قبل هذا. قال الأخفش : وتصديق ذلك قوله : (يُوصِينَ) و (تُوصُونَ).
واختلف في وجه
تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدما عليها بالإجماع ، فقيل : المقصود تقديم
الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما ـ وقيل : لما كانت الوصية أقل
لزوما من الدين قدّمت اهتماما بها ؛ وقيل : قدّمت لكثرة وقوعها ، فصارت كالأمر
اللازم لكل ميت ؛ وقيل : قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء ، وأخر الدين لكونه حظ
غريم يطلبه بقوة وسلطان ؛ وقيل : لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت
__________________
قدمت ، بخلاف الدين فإنه ثابت مؤدى ذكر أو لم يذكر ؛ وقيل : قدّمت لكونها
تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، فربما يشق على الورثة إخراجها ، بخلاف
الدين ؛ فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه ، وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ) كما سيأتي إن شاء الله. قوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قيل : خبر قوله : (آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ) مقدر ، أي : هم المقسوم عليهم ، وقيل : إن الخبر قوله :
(لا تَدْرُونَ) وما بعده ، (أَقْرَبُ) خبر قوله : (أَيُّهُمْ) و (نَفْعاً) تمييز ، أي : لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء
لكم ، والصدقة عنكم ، كما في الحديث الصحيح «أو ولد صالح يدعو له». وقال ابن عباس
والحسن : قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه. وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان
أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه ، وإذا كان الأب أرفع
درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه. وقيل : المراد النفع في الدنيا والآخرة
، قاله ابن زيد. وقيل : المعنى : إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم ،
أمن أوصى منهم ، فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته ، فهو أقرب لكم نفعا ، أو من
ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب الكشاف ، قال : لأن الجملة
اعتراضية ، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ، ويناسبه قوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) نصب على المصدر المؤكد ، إذ معنى : (يُوصِيكُمُ) يفرض عليكم. وقال مكي وغيره : هي حال مؤكدة ، والعالم
يوصيكم. والأوّل أولى. (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً) بقسمة المواريث (حَكِيماً) حكم بقسمتها وبينها لأهلها. وقال الزجاج : (عَلِيماً) بالأشياء قبل خلقها (حَكِيماً) فيما يقدّره ويمضيه منها. قوله : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) الخطاب هنا للرجال. والمراد بالولد : ولد الصلب ، أو
ولد الولد ، لما قدمنا من الإجماع. (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) ، وهذا مجمع عليه ، لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع
عدم الولد النصف ، ومع وجوده وإن سفل الربع. وقوله : (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ) إلخ ، الكلام فيه كما تقدم. قوله : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ) هذا النصيب مع الولد ، والنصيب مع عدمه تنفرد به
الواحدة من الزوجات ، ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك ، والكلام في
الوصية والدين كما تقدّم. قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً) المراد بالرجل : الميت و (يُورَثُ) على البناء للمفعول ، من ورث لا من لا من أورث ، وهو
خبر كان و (كَلالَةً) حال من ضمير (يُورَثُ) أي : يورث حال كونه ذا كلالة ، أو على أن الخبر كلالة
ويورث صفة لرجل ؛ أي : إن كان رجل يورث ذا كلالة ليس له ولد ولا والد ، وقرئ : (يُورَثُ) مخففا ومشددا ، فيكون كلالة : مفعولا ، أو : حالا
والمفعول محذوف ، أي : يورث وأريد حال كونه ذا كلالة ، أو يكون مفعولا له : أي
لأجل الكلالة. والكلالة : مصدر من تكلله النسب ، أي : أحاط به ، وبه سمي الإكليل
لإحاطته بالرأس. وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد. هذا قول أبي بكر الصديق ،
وعمر ، وعليّ ، وجمهور أهل العلم ؛ وبه قال صاحب كتاب العين ، وأبي منصور اللغوي ،
وابن عرفة والقتبي ، وأبو عبيد ، وابن الأنباري. وقد قيل : إنه إجماع. قال ابن
كثير : وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة ، وهو قول الفقهاء السبعة ،
والأئمة الأربعة ، وجمهور الخلف والسلف ، بل جميعهم. وقد حكى الإجماع غير
واحد ، وورد في حديث مرفوع. انتهى. وروى أبو حاتم ، والأثرم عن أبي عبيدة أنه قال
: الكلالة : كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة. قال أبو عمرو بن
عبد البر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط ، لا وجه له
، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره ، وما يروي عن أبي بكر وعمر : من أن الكلالة من
لا ولد له خاصة فقد رجعا عنه. وقال ابن زيد : الكلالة : الحيّ والميت جميعا ،
وإنما سموا القرابة : كلالة ، لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو
منهم ، بخلاف الابن والأب فإنهما طرفان له ، فإذا ذهبا تكلله النسب ؛ وقيل : إن
الكلالة مأخوذة من الكلال ، وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد
وإعياء. وقال ابن الأعرابي : إن الكلالة بنو العم الأباعد. وبالجملة فمن قرأ يورّث
كلالة بكسر الراء مشددة ، وهو بعض الكوفيين ، أو مخففة ، وهو الحسن وأيوب ، وجعل
الكلالة : القرابة ، ومن قرأ : (يُورَثُ) بفتح الراء ، وهم الجمهور ، احتمل أن يكون الكلالة
الميت ، واحتمل أن يكون القرابة. وقد روي عن علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ،
وابن عباس ، والشعبي : أن الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة. قال الطبري
: الصواب : أن الكلالة : هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده ، لصحة خبر جابر
: «فقلت : يا رسول الله! إنما يرثني كلالة ، أفأوصي بمالي كله؟ قال : لا». انتهى.
وروي عن عطاء أنه قال : الكلالة : المال. قال ابن العربي : وهذا قول ضعيف لا وجه
له. وقال صاحب الكشاف : إن الكلالة تطلق على ثلاثة : على من لم يخلف ولدا ولا
والدا ، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين ، وعلى القرابة من غير جهة الولد
والوالد : انتهى. قوله : (أَوِ امْرَأَةٌ) معطوف على رجل ، مقيد بما قيد به ، أي : أو امرأة تورث
كلالة. قوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ
أُخْتٌ) قرأ سعد بن أبي وقاص : من أمّ ، وسيأتي ذكر من أخرج ذلك
عنه ، قال القرطبي : أجمع العلماء : أن الإخوة هاهنا هم الإخوة لأم قال : ولا خلاف
بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا ، فدل إجماعهم على
أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) هم الإخوة لأبوين أو لأب ، وأفرد الضمير في قوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) لأن المراد : كل واحد منهما ، كما جرت بذلك عادة العرب
؛ إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم ؛ فإنه قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفردا
، كما في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) وقوله : (يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) . وقد يذكرونه مثنى ، كما في قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً
فَاللهُ أَوْلى بِهِما). وقد قدمنا في هذا كلاما أطول من المذكور هنا. قوله : (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ
فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) الإشارة بقوله : (مِنْ ذلِكَ) إلى قوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ
أُخْتٌ) أي : أكثر من الأخ المنفرد أو الأخت المنفردة بواحد ،
وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعدا ، ذكرين أو انثيين ، أو ذكرا وأنثى. وقد استدل
بذلك : على أن الذكر كالأنثى من الإخوة لأم ، لأن الله شرّك بينهم في الثلث ، ولم
يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والإخوة لأبوين أو لأب. قال القرطبي
: وهذا إجماع. ودلت الآية : على أن الإخوة لأمّ إذا استكملت بهم
__________________
المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب ، وذلك في المسألة المسماة
بالحمارية ، وهي : إذا تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأمّ وإخوة لأبوين ، فإن
للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للإخوة لأبوين. ووجه ذلك أنه
قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة ، ويؤيد هذا حديث «ألحقوا
الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر» وهو في الصحيحين وغيرهما ، وقد قررنا
دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها «المباحث الدرية في المسألة
الحمارية». وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف. قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ
دَيْنٍ) الكلام فيه كما تقدم. قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ) أي : يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه
الضرار ، كأن يقرّ بشيء ليس عليه ، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار
بالورثة. أو يوصي لوارث مطلقا ، أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة ، وهذا
القيد ، أي قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ) راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما ، فما
صدر من الإقرارات بالديون عنه أو الوصايا المنهي عنها ، أو التي لا مقصد لصاحبها
إلّا المضارة لورثته ؛ فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء ، لا الثلث ولا دونه. قال
القرطبي : وأجمع العلماء : على أن الوصية للوارث لا تجوز. انتهى. وهذا القيد ،
أعني : عدم الضرار ، هو قيد لجميع ما تقدّم من الوصية والدين. قال أبو السعود في
تفسيره : وتخصيص القيد بهذا المقام : لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم. قوله
: (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) نصب على المصدر ، أي : يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله
: (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) قال ابن عطية : ويصح أن يعمل فيها : مضار. والمعنى : أن
يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا ، فتكون : وصية ، على هذا مفعولا بها ،
لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال ، أو لكونه منفيا معنى ، وقرأ الحسن : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) : بالجرّ ، على إضافة اسم الفاعل إليها ، كقوله : يا
سارق الليلة أهل الدار. وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل : على أنه قد وصى
عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض ، وأن كل وصية من عباده تخالفها ؛ فهي
مسبوقة بوصية الله ، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض ، أو
المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ) إلى الأحكام المتقدمة ، وسماها حدودا : لكونها لا تجوز
مجاوزتها ، ولا يحلّ تعديها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية ، كما
يفيده عموم اللفظ (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهكذا قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) قرأ نافع ، وابن عامر : ندخله بالنون. وقرأ الباقون :
بالياء التحتية. قوله : (وَلَهُ عَذابٌ
مُهِينٌ) أي : وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر قال : عادني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله! فنزلت
[(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)] . وقد قدّمنا أن سبب النزول : سؤال امرأة سعد بن الربيع.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي
__________________
قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ، لا يرث
الرجل من ولده إلّا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة
يقال لها : أم كجّة ، وترك خمس جوار ، فأخذ الورثة ماله ، فشكت ذلك أمّ كجّة إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله هذه الآية : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ثم قال في أمّ كجّة : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ
مِمَّا تَرَكْتُمْ). وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم ، والبيهقي عن ابن
مسعود قال : كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقا فاتبعناه وجدناه سهلا ، وأنه سئل
عن امرأة وأبوين فقال للمرأة الربع ، وللأم ثلث ما بقي ، وما بقي فللأب. وأخرج عبد
الرزاق ، والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه. وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، وصححه ،
والبيهقي في سننه عن ابن عباس : أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان
الأمّ عن الثلث. قال الله : (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ) والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة ، فقال عثمان : لا
أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار ، وتوارث به الناس. وأخرج الحاكم ،
والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه قال : إن العرب تسمي الأخوين : إخوة. وأخرج
ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن الجارود ، والدارقطني ، والبيهقي في سننه
عن علي قال : إنكم تقرؤون هذه الآية : (مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) وإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وأن أعيان بني الأمّ يتوارثون
دون بني العلات. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله : (آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) يقول : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة ،
لأن الله سبحانه شفع المؤمنين بعضهم في بعض. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر عن مجاهد في قوله : (أَقْرَبُ لَكُمْ
نَفْعاً) قال : في الدنيا. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ،
والدارمي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن سعد بن
أبي وقاص أنه كان يقرأ : وله أخ أو أخت من أمّ. وأخرج البيهقي عن الشعبي قال : ما
ورث أحد من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم الإخوة من الأمّ مع الجدّ شيئا قط. وأخرج ابن أبي حاتم عن
ابن شهاب قال : قضى عمر أن ميراث الإخوة لأمّ بينهم للذكر مثل الأنثى ، قال : ولا
أرى عمر قضى بذلك حتى علمه من رسول الله ، ولهذه الآية التي قال الله : (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ
فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ،
والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس قال :
الإضرار في الوصية من الكبائر ، ثم قرأ : (غَيْرَ مُضَارٍّ). وقد رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه
مرفوعا. وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي. قال أبو القاسم بن عساكر :
ويعرف بمفتي المساكين ، وروى عنه غير واحد من الأئمة ، قال فيه أبو حاتم الرازي :
هو شيخ. قال : وعلي بن المديني هو مجهول لا أعرفه. قال ابن جرير : والصحيح
الموقوف. انتهى. ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح ، فإن النسائي رواه في سننه
عن علي بن حجر ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عنه. وأخرج
أحمد ، وعبد ابن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجة ، واللفظ له ،
والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا
أوصى حاف في وصيّته فيختم له بشرّ عمله فيدخل النّار ، وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل
الشرّ سبعين سنة ، فيعدل في وصيّته ، فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنّة» ثم يقول
أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إلى قوله : (عَذابٌ مُهِينٌ) وفي إسناده شهر ابن حوشب ، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن
ماجة عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنّة يوم
القيامة». وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه ابن أبي شيبة
، وسعيد بن منصور ، عن سليمان بن موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فذكره نحوه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد
بن أبي وقاص «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم أتاه يعوده في مرضه فقال : إنّ لي مالا كثيرا وليس
يرثني إلّا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين؟ فقال : لا ، قال : فالشّطر؟ قال : لا ، قال
: فالثلث؟ قال : الثلث ، والثلث كثير ، إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم
عالة يتكفّفون النّاس». وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : إن الله تصدق
عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم ، يعني : الوصية. وفي الصحيحين عن ابن عباس
قال : وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «الثّلث كثير». وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر
قال : ذكر عند عمر الثلث في الوصية فقال : الثلث وسط لا بخس ولا شطط. وأخرج ابن
أبي شيبة عن علي قال : لأن أوصى بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي
بالربع أحبّ إليّ من أن أوصي بالثلث ، ومن أوصى بالثلث لم يترك.
[فائدة] ورد في
الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها : ما أخرجه الحاكم ، والبيهقي في سننه عن ابن
مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تعلّموا الفرائض وعلّموه الناس ، فإني امرؤ مقبوض ،
وإنّ العلم سيقبض ، وتظهر الفتن ، حتى يختلف الاثنان في الفريضة ، لا يجدان من
يقضي بها». وأخرجاه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تعلّموا الفرائض وعلّموه ، فإنّه نصف العلم ، وإنّه
ينسى ، وهو أوّل ما ينزع من أمتي». وقد روي عن عمر ، وابن مسعود ، وأنس آثار في
الترغيب في الفرائض ، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
(وَاللاَّتِي
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ
كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ
يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))
لما ذكر سبحانه
في هذه السورة الإحسان إلى النساء ، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ ، وميراثهنّ مع الرجال
،
ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة ، لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ
ترك التعفف (وَاللَّاتِي) جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ ، وفيه لغات : اللاتي
بإثبات التاء والياء ، واللات بحذف الياء وإبقاء الكسرة لتدل عليها ، واللائي
بالهمزة والياء ، واللاء بكسر الهمزة وحذف الياء ، ويقال في جمع الجمع : اللواتي ،
واللوائي ، واللوات ، واللواء. والفاحشة : الفعلة القبيحة ، وهي مصدر ، كالعافية ،
والعاقبة ، وقرأ ابن مسعود : (بالفاحشة). والمراد بها هنا : الزنا خاصة ، وإتيانها
: فعلها ، ومباشرتها. والمراد بقوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) المسلمات ، وكذا (مِنْكُمْ) المراد به المسلمون. قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) كان هذا في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور وكذلك الأذى
باقيان مع الجلد ، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن. قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلىاللهعليهوسلم : «خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا ، البكر بالبكر جلد
مائة وتغريب عام» الحديث. قوله : (وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) اللذان : تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان ،
كرحيان. قال سيبويه : حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة وبين الأسماء المبهمة.
وقال أبو علي : حذفت الياء تخفيفا. وقرأ ابن كثير : (اللّذانّ) بتشديد النون وهي
لغة قريش ، وفيه لغة أخرى وهي : (اللّذا) بحذف النون. وقرأ الباقون : بتخفيف
النون. قال سيبويه : المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها ، أي : الفاحشة منكم
، ودخلت الفاء في الجواب : لأن في الكلام معنى الشرط. والمراد باللذان هنا :
الزاني والزانية تغليبا ؛ وقيل : الآية الأولى : في النساء خاصة محصنات وغير
محصنات ، والثانية ، في الرجال خاصة ، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال ، من أحصن
ومن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، واختار هذا النحاس ،
ورواه عن ابن عباس ، ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره ، واستحسنه. وقال السدي ،
وقتادة ، وغيرهما : الآية الأولى في النساء المحصنات ، ويدخل معهنّ الرجال
المحصنون ، والآية الثانية : في الرجل والمرأة البكرين ، ورجحه الطبري ، وضعفه
النحاس ، وقال : تغليب المؤنث على المذكر بعيد. وقال ابن عطية : إن معنى هذا القول
تام إلّا أن لفظ الآية يقلق عنه ، وقيل : كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل ،
فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ، ثم جمعا في الإيذاء ، قال قتادة : كانت المرأة
تحبس ويؤذيان جميعا. واختلف المفسرون في تفسير الأذى ، فقيل : التوبيخ والتعبير ؛
وقيل : السبّ والجفاء من دون تعيير ؛ وقيل : النيل باللسان والضرب بالنعال ، وقد
ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس ؛ وقيل : ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس. قوله
: (فَإِنْ تابا) أي : من الفاحشة (وَأَصْلَحا) العمل فيما بعد (فَأَعْرِضُوا
عَنْهُما) أي : اتركوهما ، وكفوا عنهما الأذى ، وهذا كان قبل نزول
الحدود على ما تقدّم من الخلاف. قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللهِ) استئناف لبيان : أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق ،
كما ينبئ عنه قوله : (تَوَّاباً رَحِيماً) بل إنما تقبل من البعض دون البعض ، كما بينه النظم
القرآني هاهنا ، فقوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) مبتدأ خبره قوله : (لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ). وقوله : (عَلَى اللهِ) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو متعلق
بمحذوف وقع حالا عند من يجوز تقديم الحال التي
__________________
هي ظرف على عاملها المعنوي ؛ وقيل : المعنى : إنما التوبة على فضل الله
ورحمته بعباده ؛ وقيل : المعنى : إنما التوبة واجبة على الله ، وهذا على مذهب
المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عزوجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين ؛ وقيل : على ،
هنا : بمعنى عند ؛ وقيل : بمعنى من.
وقد اتفقت
الأمة : على أن التوبة فرض على المؤمنين ، لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) وذهب الجمهور ؛ إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافا
للمعتزلة ؛ وقيل : إن قوله : (عَلَى اللهِ) هو الخبر. وقوله : (لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ) متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف وقع حالا. والسوء
هنا : العمل السيئ. وقوله : (بِجَهالَةٍ) متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالا. أي : يعملونها متصفين
بالجهالة ، أو جاهلين. وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال : أجمع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم : على أن كل معصية فهي بجهالة عمدا كانت أو جهلا. وحكي
عن الضحاك ومجاهد : أن الجهالة هنا العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ،
ومنه قوله تعالى : (إِنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) وقال الزجاج : معناه : بجهالة اختيارهم اللذة الفانية
على اللذة الباقية ؛ وقيل : معناه : أنهم لا يعلمون كنه العقوبة ، ذكره ابن فورك ،
وضعفه ابن عطية. قوله : (ثُمَّ يَتُوبُونَ
مِنْ قَرِيبٍ) معناه : قبل أن يحضرهم الموت ، كما يدل عليه قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ) وبه قال أبو مجلز ، والضحاك ، وعكرمة ، وغيرهم ،
والمراد : قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه ، و «من» في قوله : (مِنْ قَرِيبٍ) للتبعيض ، أي : يتوبون بعد زمان قريب ، وهو ما عدا وقت
حضور الموت ؛ وقيل : معناه : قبل المرض ، وهو ضعيف ، بل باطل لما قدمنا ، ولما
أخرجه أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجة ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب
عن ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وقيل :
معناه : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. قوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم ، بعد بيانه : أن
التوبة لهم مقصورة عليهم. وقوله : (وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء
بجهالة ثم تاب من قريب قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) حتى : حرف ابتداء ، والجملة المذكورة بعدها : غاية لما
قبلها ، وحضور الموت : حضور علاماته ، وبلوغ المريض إلى حالة السياق ، ومصيرة
مغلوبا على نفسه ، مشغولا بخروجها من بدنه ، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث
السابق ، وهي بلوغ روحه حلقومه ، قاله الهروي. وقوله : (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي : وقت حضور الموت. قوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ
كُفَّارٌ) معطوف على الموصول في قوله : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : ليست التوبة لأولئك ولا للذين يموتون وهم كفار ،
مع أنه لا توبة لهم رأسا ، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم
الموت ، وأن وجودها كعدمها.
وقد أخرج
البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عباس في قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
__________________
الْفاحِشَةَ)
قال كانت
المرأة إذا فجرت حبست في البيوت ، فإن ماتت ماتت ، وإن عاشت عاشت ، حتى نزلت الآية
في سورة النور (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) فجعل الله لهنّ سبيلا. فمن عمل شيئا جلد وأرسل ، وقد
روي هذا عنه من وجوه. وأخرج أبو داود في سننه عنه والبيهقي في قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ
نِسائِكُمْ) إلى قوله : (سَبِيلاً) ثم جمعهما جميعا ، فقال : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها
مِنْكُمْ فَآذُوهُما) ثم نسخ ذلك بآية الجلد ، وقد قال بالنسخ جماعة من
التابعين ، أخرجه أبو داود ، والبيهقي عن مجاهد. وأخرجه عبد بن حميد ، وأبو داود
في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، وأخرجه البيهقي في سننه عن الحسن ،
وأخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، وأخرجه ابن جرير عن السدي. وأخرج ابن جرير
، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) قال : كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير وضرب بالنعال ،
فأنزل الله بعد هذه الآية : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن مجاهد (وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) قال : الرجلان الفاعلان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن
جبير (وَالَّذانِ
يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) يعني : البكرين. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : الرجل
والمرأة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله
: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللهِ). الآية. قال : هذه للمؤمنين وفي قوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) قال : هذه لأهل النفاق (وَلَا الَّذِينَ
يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) قال : هذه لأهل الشرك. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله.
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وأخرج ابن
جرير من طريق الكلبي عن صالح ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) الآية ، قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل
السوء. (ثُمَّ يَتُوبُونَ
مِنْ قَرِيبٍ) قال : في الحياة والصحة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عنه قال : القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب ، له
التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس
له ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : القريب : ما لم يغرغر. وقد وردت أحاديث
كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ، ذكرها ابن كثير في تفسيره ، ومنها الحديث
الذي قدّمنا ذكره.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا
تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ
قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً
مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ
__________________
أَفْضى
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا
تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ
كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢))
هذا متصل بما
تقدّم من ذكر الزوجات ، والمقصود نفي الظلم عنهن ، والخطاب للأولياء ، ومعنى الآية
يتضح بمعرفة سبب نزولها ، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ،
إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من
أهلها ، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية : كان الرجل يرث امرأة ذي
قرابته ، فيعضلها حتى تموت ، أو تردّ إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير وابن أبي
حاتم عنه : فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وقد
روي هذا السبب بألفاظ ، فمعنى قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي : لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث ، فتزعمون أنكم
أحق بهن من غيركم ، وتحبسونهن لأنفسكم (وَلا) يحل لكم أن (تَعْضُلُوهُنَ) عن أن يتزوجن غيركم ، لتأخذوا ميراثهن إذا متن ، أو
ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري وأبو مجلز : كان من
عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة
، فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق
الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء
عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها ، فنزلت الآية. وقيل : الخطاب
لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعا في إرثهنّ ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ
، واختاره ابن عطية. قال : ودليل ذلك قوله : (إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) إذا أتت بفاحشة فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها ،
إجماعا من الأمة ، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن : إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة ،
وتنفى ، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا
بأس أن يضارّها ويشقّ عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
وقال قوم : الفاحشة : البذاءة باللسان ، وسوء العشرة قولا وفعلا. وقال مالك وجماعة
من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. هذا كله على أن الخطاب في
قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) للأزواج ، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب
في قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) لمن خوطب بقوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فيكون المعنى : ولا يحلّ لكم أن تمنعوهنّ من الزواج (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما
آتَيْتُمُوهُنَ) أي : ما آتاهنّ من ترثونه (إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج ، ولا يخفى ما في هذا من
التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعفّ من الزنا ، وكما أن جعل
قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) خطابا للأولياء فيه هذا التعسف ، كذلك جعل قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّساءَ كَرْهاً) خطابا للأولياء فيه هذا التعسف ، كذلك جعل قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّساءَ كَرْهاً) خطابا للأزواج فيه تعسف ظاهر ، مع مخالفته لسبب نزول
الآية الذي ذكرناه ، والأولى أن يقال : إن الخطاب في قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ) للمسلمين ، أي : لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا
النساء كرها كما كانت تفعله الجاهلية ، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين
أن تعضلوا أزواجكم : أي تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهنّ ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر
، يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم ، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهنّ. قوله : (مُبَيِّنَةٍ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص وحمزة ،
والكسائي : بكسر الياء. وقرأ الباقون : بفتحها. وقرأ ابن عباس : (مُبَيِّنَةٍ) بكسر الباء وسكون الياء ، من أبان الشيء فهو مبين. قوله
: (وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) أي : بما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن
المعاشرة ، وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم ، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى
، والفقر ، والرفاعة ، والوضاعة (فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَ) لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز (فَعَسى) أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها
بالمحبة ، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد ، فيكون الجزاء
على هذا محذوفا مدلولا عليه بعلته ، أي : فإن كرهتموهنّ فاصبروا (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً
وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) . قوله : (وَآتَيْتُمْ
إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) قد تقدم بيانه في آل عمران ، والمراد به هنا : المال
الكثير ، فلا تأخذوا منه شيئا. قيل : هي محكمة ؛ وقيل : هي منسوخة بقوله تعالى في
سورة البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا
يُقِيما حُدُودَ اللهِ) والأولى : أن الكل محكم ، والمراد هنا : غير المختلعة
لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئا. قوله : (أَتَأْخُذُونَهُ
بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الاستفهام للإنكار والتقريع. والجملة مقررة للجملة
الأولى المشتملة على النهي. وقوله : (وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ) إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ
: وهي الإفضاء. قال الهروي : وهو إذا كانا في لحاف واحد ، جامع أو لم يجامع ، وقال
الفراء : الإفضاء : أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد
والسدي : الإفضاء في هذه الآية : الجماع ، وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة ، يقال
للشيء المختلط : فضاء ، ويقال : القوم فوضى وفضاء ، أي : مختلطون لا أمير عليهم.
قوله : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) معطوف على الجملة التي قبله ، أي : والحال أن قد أفضى
بعضكم إلى بعض ، وقد أخذن منكم ميثاقا غليظا وهو عقد النكاح ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ
بكلمة الله» وقيل : هو قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقيل : هو الأولاد. قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ) نهي عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا
ماتوا ، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه
النهي عنه فقال : (إِنَّهُ كانَ
فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) هذه الصفات الثلاث تدل : على أنه من أشدّ المحرمات
وأقبحها ، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب : سألت ابن الأعرابي عن
نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها ، أو مات عنها ، ويقال
لهذا : الضيزن ، وأصل
__________________
المقت : البغض ، من : مقته ، يمقته ، مقتا ، فهو : ممقوت ، ومقيت. قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) هو استثناء منقطع ، أي : لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه
؛ وقيل : إلا : بمعنى بعد ، أي : بعد ما سلف ؛ وقيل : المعنى : ولا ما سلف ؛ وقيل
: هو استثناء متصل من قوله : (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) يفيد المبالغة في التحريم ، بإخراج الكلام مخرج التعلق
بالمحال ، يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا ، فلا يحلّ لكم غيره.
قوله : (وَساءَ سَبِيلاً) هي جارية مجرى بئس في الذم والعمل ، والمخصوص بالذم
محذوف ، أي : ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح ؛ وقيل : إنها جارية مجرى سائر الأفعال ،
وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها.
وقد أخرج
النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي أمامة بن حنيف قال : لما توفي أبو قيس
بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله
: (لا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة قال : نزلت هذه
الآية : في كبيشة بنت معمر بن عاصم من الأوس ، كانت عند أبي قيس بن الأسلت ، فتوفي
عنها ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقالت : لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح ، فنزلت
هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الرحمن بن
البيلماني في قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ) قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ،
والأخرى في أمر الإسلام. قال ابن المبارك : (أَنْ تَرِثُوا
النِّساءَ كَرْهاً) في الجاهلية ، (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) في الإسلام. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن أبي
مالك في قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) قال : لا تضر بامرأتك لتفتدي منك. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير عن مجاهد : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) يعني : أن ينكحن أزواجهن ، كالعضل في سورة البقرة.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كان العضل في قريش بمكة : ينكح الرجل المرأة
الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب
ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها ، وقد
قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) قال : البغض والنشوز ، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها
الفدية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك نحوه أيضا.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : الفاحشة هنا : الزنا. وأخرج ابن جرير عن الضحاك
نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قال : خالطوهنّ. قال ابن جرير : صحفه بعض الرواة وإنما
هو خالقوهنّ. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال. حقها عليك الصحبة الحسنة ، والكسوة ،
والرزق المعروف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل : (وَعاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) يعني : صحبتهن بالمعروف (فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) فيطلقها ، فتتزوج من بعده رجلا ، فيجعل الله له منها
ولدا ، ويجعل الله في تزويجها خيرا كثيرا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس قال : الخير الكثير : أن يعطف عليها ، فترزق ولدها ، ويجعل الله في ولدها
خيرا كثيرا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد ابن حميد عن
الحسن نحو ما قال مقاتل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ
زَوْجٍ) الآية ، قال : إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها ؛ فطلقت هذه
وتزوجت تلك ؛ فأعط هذه مهرها ؛ وإن كان قنطارا. وأخرج سعيد بن منصور ، وأبو يعلى.
قال السيوطي بسند جيد : أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على
أربعمائة درهم ، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت : أما سمعت ما أنزل الله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ، فركب المنبر
فقال : يا أيها الناس! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة
درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ. قال أبو يعلى : فمن طابت نفسه فليفعل.
قال ابن كثير : إسناده جيد قوي ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة ، هذا أحدها.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الإفضاء : هو
الجماع ، ولكن الله يكني. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) قال : الغليظ : إمساك بمعروف ؛ أو تسريح بإحسان. وأخرج
عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه وقال : وقد كان ذلك يؤخذ عند
عقد النكاح : آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحنّ بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وابن المنذر عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر كان إذا نكح قال : أنكحتك على ما أمر
الله به ، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد في قوله
: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ
مِيثاقاً غَلِيظاً) قال : أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة
الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو قول الرجل : ملكت. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كلمة النكاح التي تستحلّ بها
فروجهنّ. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والبيهقي في سننه في قوله
تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس بن الأسلت أن يتزوج
امرأة أبيه بعد موته. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك : (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) إلا ما كان في الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي
شيبة ، وأحمد ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن البراء قال : لقيت خالي
ومعه الراية قلت : أين تريد؟ قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، فأمرني أن أضرب عنقه
وآخذ ماله.
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ
الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي
فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ
مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ
إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ
ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً
أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ
فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦)
وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ
عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))
قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) أي : نكاحهنّ ، وقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية ما
يحلّ وما يحرم من النساء فحرّم سبعا من النسب ، وستا من الرضاع والصهر ، وألحقت
السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، ووقع عليه
الإجماع. فالسبع المحرمات من النسب : الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ،
والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت. والمحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من
الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء ، والربائب ، وحلائل الأبناء ،
والجمع بين الأختين ، فهؤلاء ست ، والسابعة : منكوحات الآباء ، والثامنة : الجمع
بين المرأة وعمتها. قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح
واحدة منهنّ بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ ، فإن جمهور
السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول
بالأم. وقال بعض السلف : الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول
بالأخرى. قالوا : ومعنى قوله : (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ) أي : اللاتي دخلتم بهن ، وزعموا : أن قيد الدخول راجع
إلى الأمهات والربائب جميعا ، رواه خلاس عن عليّ بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس ،
وجابر ، وزيد بن ثابت ، وابن الزبير ، ومجاهد. قال القرطبي : ورواية خلاس عن عليّ
لا تقوم بها حجة ، ولا تصح روايته عند أهل الحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة.
وقد أجيب عن قولهم : إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب : بأن ذلك لا يجوز
من جهة الإعراب ، وبيانه : أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا ،
فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد الظريفات ، على أن يكون
الظريفات نعتا للجميع ، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتا
لهما جميعا ، لأن الخبرين مختلفان. قال ابن المنذر : والصحيح : قول الجمهور :
لدخول جميع أمهات النساء في قوله : (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ). ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور : ما أخرجه عبد
الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طريقين : عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحلّ له أن يتزوّج
أمّها دخل بالابنة أو لم يدخل ، وإذا تزوّج الأمّ فلم يدخل بها ثم طلّقها ، فإن شاء
تزوّج الابنة» قال ابن
كثير في تفسيره مستدلا للجمهور : وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظرا
، فذكر هذا الحديث ثم قال : وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن إجماع
الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره ، قال في الكشاف : وقد
اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام
الله تعالى. انتهى. ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم. واعلم : أنه يدخل في لفظ
الأمهات : أمهاتهنّ ، وجداتهنّ ، وأمّ الأب ، وجدّاته ، وإن علون ، لأن كلهن أمهات
لمن ولده من ولدته وإن سفل. ويدخل في لفظ البنات : بنات الأولاد وإن سفلن ،
والأخوات ؛ تصدق على الأخت لأبوين ، أو لأحدهما ، والعمة : اسم لكل أنثى شاركت
أباك أو جدّك في أصليه أو أحدهما. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأمّ.
والخالة : اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما ، وقد تكون الخالة من
جهة الأب وهي أخت أم أبيك ، وبنت الأخ : اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة
ومباشرة وإن بعدت ، وكذلك بنت الأخت. قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة : من كون الرضاع في
الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر النظم القرآني : أنه
يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعا ، ولكنه قد ورد تقييده بخمس
رضعات في أحاديث صحيحة ، والبحث عن تقرير ذلك وتحقيقه يطول ، وقد استوفيناه في
مصنفاتنا ، وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع. قوله : (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) الأخت من الرضاع : هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء
أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات ، والأخت من الأم : هي التي
أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. قوله : (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ) قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول وعدمه. والمحرمات
بالمصاهرة أربع : أمّ المرأة ، وابنتها ، وزوجة الأب ، وزوجة الابن. قوله : (وَرَبائِبُكُمُ) الربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ؛ سميت بذلك لأنه
يربيها في حجره ، فهي مربوبة ، فعيلة : بمعنى مفعولة. قال القرطبي : واتفق الفقهاء
على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة في حجره ،
وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر ، فقالوا : لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر
المتزوج ، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها ، وقد روي ذلك عن
عليّ. قال ابن المنذر ، والطحاوي : لم يثبت ذلك عن عليّ ، لأن راويه إبراهيم بن
عبيد عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عليّ ، وإبراهيم هذا لا يعرف. وقال ابن كثير في
تفسيره بعد إخراج هذا عن علي : وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط
مسلم. والحجور : جمع حجر : والمراد : أنهنّ في حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن
كما هو الغالب ـ وقيل : المراد بالحجور : البيوت ، أي : في بيوتكم ، حكاه الأثرم
عن أبي عبيدة. قوله : (فَإِنْ لَمْ
تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي : في نكاح الربائب ، وهو تصريح بما دلّ عليه مفهوم
ما قبله.
وقد اختلف أهل
العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب : فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول
: الجماع ، وهو قول طاوس ، وعمرو بن دينار ، وغيرهما. وقال مالك ، والثوري ، وأبو
حنيفة ، والأوزاعي ، والليث ، والزيدية : إن الزوج إذا لمس الأمّ لشهوة حرّمت عليه
ابنتها ، وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن
جرير الطبري : وفي إجماع الجميع : أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها
عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها ، أو قبل النظر إلى فرجها ؛ لشهوة : ما يدل
على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع. انتهى. وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال
: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها
حلّ له نكاح ابنتها. واختلفوا في النظر ، فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها
أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون : إذا نظر إلى
فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة ، وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة. وقال
ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ، وهو قول الشافعي. والذي ينبغي التعويل
عليه في مثل هذا الخلاف : هو النظر في معنى : الدخول ، شرعا أو لغة ، فإن كان خاصا
بالجماع ؛ فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما ، وإن كان معناه أوسع
من الجماع ؛ بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع ؛ كان مناط التحريم هو ذلك.
وأما الربيبة في ملك اليمين : فقد روي عن عمر بن الخطاب : أنه كره ذلك. وقال ابن
عباس : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، ولم أكن لأفعله. وقال ابن عبد البر : لا خلاف
بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين ، لأن الله حرّم
ذلك في النكاح قال : (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن
عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. انتهى. قوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) الحلائل : جمع حليلة وهي الزوجة ؛ سميت بذلك : لأنها
تحلّ مع الزوج حيث حلّ ، فهي : فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم : إلى أنها من
لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل : لأن كل واحد منهما يحلّ إزار صاحبه.
وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه
الأبناء على الآباء ، سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن ، لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ) وقوله : (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ).
واختلف الفقهاء
في العقد إذا كان فاسدا : هل يقتضي التحريم أم لا؟ كما هو مبين في كتب الفروع. قال
ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار : أن الرجل إذا وطئ
امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده. وأجمع العلماء : على أن
عقد الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه ، فإذا اشترى جارية فلمس ، أو
قبل ، حرمت على أبيه وابنه ، لا أعلمهم يختلفون فيه ، فوجب تحريم ذلك تسليما لهم.
ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال : ولا يصح عن
أحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم خلاف ما قلناه. قوله : (الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ) وصف للأبناء ، أي : دون من تبنيتم من أولاد غيركم كما
كانوا يفعلونه في الجاهلية ، ومنه قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي
أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) ومنه قوله تعالى : (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ومنه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) وأما زوجة الابن من الرضاع ، فقد ذهب الجمهور : إلى
أنها تحرم على أبيه ، وقد قيل : إنه إجماع ، مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد
الصلب. ووجهه ما صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم من قوله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ولا خلاف
أن أولاد
__________________
الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.
وقد اختلف أهل
العلم في وطء الزنا : هل يقتضي التحريم أو لا؟ فقال أكثر أهل العلم : إذا أصاب رجل
امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها
أو بابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحدّ ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم من
زنى بها وبابنتها. وقالت طائفة من أهل العلم : إن الزنا يقتضي التحريم. حكي ذلك عن
عمران بن حصين ، والشعبي ، وعطاء ، والحسن ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ،
وأصحاب الرأي ، وحكي ذلك عن مالك ، والصحيح عنه : كقول الجمهور. احتج الجمهور
بقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ) وبقوله : (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ) والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ، ولا
من حلائل أبنائهم.
وقد أخرج
الدارقطني عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوّجها أو ابنتها ، فقال
: «لا يحرّم الحرام الحلال». واحتج المحرّمون : بما روي في قصة جريج الثابتة في
الصحيح أنه قال : يا غلام من أبوك؟ فقال : فلان الراعي ، فنسب الابن نفسه إلى أبيه
من الزنا ، وهذا احتجاج ساقط ، واحتجوا أيضا بقوله صلىاللهعليهوسلم : «لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها»
ولم يفصل بين الحلال والحرام. ويجاب عنه بأن هذا مطلق ؛ مقيد بما ورد من الأدلة
الدالة : على أن الحرام لا يحرّم الحلال.
واختلفوا في
اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري : إذا لاط بالصبيّ حرمت عليه أمه ،
وهو قول أحمد بن حنبل قال : إذا تلوّط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه
امرأته. وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت ؛ لم يجز للفاجر أن
يتزوجها ؛ لأنها بنت من قد دخل به. ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط
النازل عن قول القائلين : بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات ، لعدم صلاحية ما
تمسك به أولئك من الشبه ، على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم. قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي : وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين ، فهو في محل
رفع عطفا على المحرمات السابقة ، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك
اليمين. وقيل : إن الآية خاصة بالجمع في النكاح ، لا في ملك اليمين ، وأما في
الوطء بالملك فلا حق بالنكاح ، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح.
واختلفوا في
الأختين بملك اليمين : فذهب كافة العلماء : إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء
بالملك ، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط. وقد توقف بعض السلف في
الجمع بين الأختين في الوطء بالملك ، وسيأتي بيان ذلك. واختلفوا في جواز عقد
النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك : فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك
اليمين لم يجز له أن يتزوّج أختها. وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت.
وقد ذهبت الظاهرية : إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما يجوز
الجمع بينهما في الملك. قال ابن عبد البرّ بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من
جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من
السلف منهم ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ، ولم يلتفت
إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ، ولا بالعراق ، ولا ما وراءها من
المشرق ، ولا بالشام ، ولا المغرب ، إلا من شذّ عن جماعتهم باتباع الظاهر ، ونفي
القياس. وقد ترك من تعمد ذلك. وجماعة الفقهاء متفقون : على أنه لا يحلّ الجمع بين
الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحلّ ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على
أن معنى قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخر الآية ، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ
سواء ، فكذلك يجب أن يكون قياسا ونظرا الجمع بين الأختين ، وأمهات النساء ،
والربائب ، وكذا هو عند جمهورهم ، وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها ،
والله المحمود. انتهى.
وأقول : هاهنا
إشكال ، وهو : أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط ، وعلى الوطء فقط ،
والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازا ، أو كونهما حقيقتين معروف ، فإن حملنا
هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) إلى آخرها ، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم يكن
في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك
، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخره ، يستوي فيه الحرائر والإماء ، والعقد والملك
لا يستلزم أن يكون محل الخلاف ، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل
محل الإجماع ، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من
النقوض ، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط ؛ لم يصح ذلك للإجماع
على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها ، فلم يبق إلا
حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح ، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين
الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور ، فالحق لا يعرف
بالرجال ، فإن جاء به خالصا عن شوب الكدر فبها ونعمت ، وإلا كان الأصل الحل ، ولا
يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعا أعني العقد والوطء ، لأنه من باب الجمع
بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع ، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك ، وفيه الخلاف
المعروف في الأصول ، فتدبر هذا.
وقد اختلف أهل
العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك ، فقال عليّ
وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية
حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوّجها. قال ابن
المنذر : وفيه قول ثان لقتادة : وهو أن ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها
، ثم يمسك عنهما حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث : وهو أنه لا
يقرب واحدة منهما ، هكذا قال الحكم وحماد. وروي معنى ذلك عن النخعي. وقال مالك : إذا
كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته ،
فإن أراد وطء الأخرى ؛ فيلزمه أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله ، من إخراج
عن الملك ، أو تزويج ، أو بيع ، أو عتق ، أو كتابة ، أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ
إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرّم الأولى ؛ وقف عنهما ، ولم يجز له قرب
إحداهما ؛ حتى يحرّم الأخرى ، ولم يوكل ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم. قال القرطبي :
وقد أجمع العلماء : على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن
ينكح أختها حتى تنقضي
عدّة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ؛ فقالت طائفة :
ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدّة التي طلق. روي ذلك عن عليّ ، وزيد
بن ثابت ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة : له أن ينكح أختها ؛ وينكح الرابعة ؛ لمن كان تحته أربع وطلق واحدة
منهنّ طلاقا بائنا. روي ذلك عن سعيد بن المسيب ، والحسن ، والقاسم ، وعروة بن
الزبير ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأبي عبيد. قال ابن المنذر : ولا
أحسبه إلا قول مالك. وهو أيضا إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء. قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدّم من قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ويحتمل معنى آخر ، وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى
الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين. والصواب
الاحتمال الأوّل. قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) عطف على المحرّمات المذكورات. وأصل التحصن : التمنع ،
ومنه قوله تعالى : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ) أي : لتمنعكم ، ومنه : الحصان ، بكسر الحاء للفرس ،
لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء : المرأة العفيفة لمنعها نفسها ،
ومنه قول حسان :
حصان رزان ما
تزنّ بريبة
|
|
وتصبح غرثى
من لحوم الغوافل
|
والمصدر :
الحصانة بفتح الحاء. والمراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج. وقد ورد الإحصان في
القرآن لمعان ، هذا أحدها. والثاني : يراد به الحرّة ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) . والثالث : يراد به العفيفة ، ومنه قوله تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) ، (مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) . والرابع : المسلمة ، ومنه قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) .
وقد اختلف أهل
العلم في تفسير هذه الآية ، أعني قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فقال ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو قلابة ،
ومكحول ، والزهري : المراد بالمحصنات هنا : المسبيات ذوات الأزواج خاصة ، أي : هنّ
محرّمات عليكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب ، فإن تلك حلال وإن كان
لها زوج ، وهو قول الشافعي ، أي : أن السباء يقطع العصمة ، وبه قال ابن وهب ، وابن
عبد الحكم ، وروياه عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ،
وأبو ثور. واختلفوا في استبرائها بما ذا يكون؟ كما هو مدوّن في كتب الفروع. وقالت
طائفة : المحصنات في هذه الآية : العفائف ، وبه قال أبو العالية ، وعبيدة السلماني
، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ورواه عبيدة عن عمر. ومعنى الآية عندهم : كل
النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم ، أي : تملكون عصمتهنّ بالنكاح ، وتملكون الرقبة
__________________
بالشراء. وحكى ابن جرير الطبري : أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن
عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال : كان ابن عباس لا يعلمها.
وروى ابن جرير أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه
أكباد الإبل. انتهى. ومعنى الآية والله أعلم واضح لا سترة به ، أي : وحرّمت عليكم
المحصنات من النساء ، أي : المزوجات ، أعمّ من أن يكنّ مسلمات أو كافرات ، إلا ما
ملكت أيمانكم منهنّ ، إما بسبي : فإنها تحلّ ولو كانت ذات زوج ، أو بشراء : فإنها
تحلّ ولو كانت مزوّجة ، وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي
زوّجها ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب. وقد قرئ : «المحصنات» بفتح الصاد وكسرها ، فالفتح : على أن الأزواج أحصنوهنّ
؛ والكسر : على أنهنّ أحصنّ فروجهن عن غير أزواجهنّ ، أو أحصنّ أزواجهنّ. قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) منصوب على المصدرية ، أي : كتب الله ذلك عليكم كتابا.
وقال الزجاج والكوفيون : إنه منصوب على الإغراء ، أي : الزموا كتاب الله ، أو
عليكم كتاب الله ، واعترضه أبو عليّ الفارسي : بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم
المنصوب ، وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال : إنه منصوب بعليكم المذكور في
الآية ، وروي عن عبيدة السلماني أنه قال : إن قوله : (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) إشارة إلى قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وهو بعيد ، بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآية. قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص : وأحلّ ،
على البناء للمجهول ، وقرأ الباقون : على البناء للمعلوم ، عطفا على الفعل المقدّر
في قوله : (كِتابَ اللهِ
عَلَيْكُمْ) وقيل : على قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين ، وفيه دلالة : على أنه
يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات ، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة
وخالتها. وقد أبعد من قال : إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه ،
لأنه حرّم الجمع بين الأختين ، فيكون ما في معناه في حكمه ، وهو الجمع بين المرأة
وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة كما
سيأتي ، فإنه يخصص هذا العموم. قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ) في محل نصب على العلة ؛ أي : حرّم عليكم ما حرّم ،
وأحلّ لكم ما أحلّ لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء اللاتي أحلهنّ الله لكم ، ولا
تبتغوا بها الحرام ، فتذهب حال كونكم (مُحْصِنِينَ) أي : متعففين عن الزنا (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : غير زانين. والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من : سفح
الماء : أي : صبه وسيلانه ، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على
وجه النكاح ، لا على وجه السفاح ؛ وقيل : إن قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا
بِأَمْوالِكُمْ) بدل من «ما» في قوله : (ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي : وأحلّ لكم الابتغاء بأموالكم. والأوّل أولى ،
وأراد سبحانه بالأموال المذكورة : ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء. قوله
: (فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) «ما» موصولة فيها معنى الشرط ، والفاء في قوله : (فَآتُوهُنَ) لتضمن الموصول معنى الشرط ، والعائد محذوف ، أي : فآتوهنّ
أجورهنّ عليه.
__________________
وقد اختلف أهل
العلم في معنى الآية : فقال الحسن ومجاهد وغيرهما : المعنى : فما انتفعتم وتلذذتم
بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي (فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ. وقال الجمهور : إن المراد بهذه الآية : نكاح
المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، ويؤيد ذلك قراءة أبيّ بن كعب ، وابن عباس ،
وسعيد بن جبير : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنّ أجورهنّ ثم نهى عنها
النبي صلىاللهعليهوسلم ، كما صح ذلك من حديث عليّ قال : نهى النبي صلىاللهعليهوسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وهو
في الصحيحين وغيرهما. وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال يوم فتح مكة : «يا أيّها النّاس إني كنت أذنت
لكم في الاستمتاع من النساء ، والله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده
منهنّ شيء فليخلّ سبيلها ، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا». وفي لفظ لمسلم : أن
ذلك كان في حجة الوداع ، فهذا هو الناسخ. وقال سعيد بن جبير : نسخها آيات الميراث ،
إذ المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة ، والقاسم بن محمد : تحريمها ونسخها في
القرآن ، وذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ـ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ، ولا مما ملكت
أيمانهم ، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث ، وليست المستمتع بها كذلك. وقد روي عن
ابن عباس أنه قال : بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ. وروي عنه : أنه رجع عن ذلك
عند أن بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ، ولا اعتبار بأقوالهم. وقد
أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة ، وتقوية ما قاله
المجوّزون لها ، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه.
وقد طوّلنا
البحث ؛ ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوّزون لها ؛ في شرحنا للمنتقى
فليرجع إليه. قوله : (فَرِيضَةً) منتصب على المصدرية المؤكدة أو على الحال ، أي :
مفروضة. قوله : (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي : من زيادة أو نقصان في المهر ، فإن ذلك سائغ عند
التراضي ، هذا عند من قال : بأن الآية في النكاح الشرعي ؛ وأما عند الجمهور
القائلين : بأنها في المتعة ، فالمعنى : التراضي في زيادة المتعة أو نقصانها ، أو
في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه. قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) الطول : الغنى والسعة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد
بن جبير ، والسدّي ، وابن زيد ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ،
وجمهور أهل العلم. ومعنى الآية : فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على
نكاح المحصنات المؤمنات فلينكح من فتياتكم المؤمنات ، يقال : طال ، يطول ، طولا :
في الإفضال والقدرة ، وفلان ذو طول : أي : ذو قدرة في ماله. والطول بالضم : ضدّ
القصر. وقال قتادة ، والنخعي ، وعطاء ، والثوري : إن الطول : الصبر. ومعنى الآية
عندهم : أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن
يتزوجها ؛ إذا لم يملك نفسه ؛ وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح
حرة. وقال أبو حنيفة وهو مرويّ عن مالك : إن الطول المرأة الحرّة ، فمن كان تحته
حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان
غنيا ، وبه قال أبو يوسف ، واختاره ابن جرير واحتج له. والقول الأوّل هو المطابق
__________________
لمعنى الآية ، ولا يخلو ما عداه عن تكلف ، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة
إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة ، لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من
مهر وغيره. وقد استدل بقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ
الْمُؤْمِناتِ) : على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال أهل
الحجاز وجوّزه أهل العراق ، ودخلت الفاء في قوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) في محل نصب على الحال ، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل
الحرّ أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرّة. والشرط الثاني : ما
سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) فلا يحلّ للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى
على نفسه العنت. والمراد هنا : الأمة المملوكة للغير ، وأما أمة الإنسان نفسه فقد
وقع الإجماع على أنه لا يجوز أن يتزوجها ، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها.
والفتيات : جمع فتاة ، والعرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة. وفي الحديث
الصحيح : «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ، ولكن ليقل فتاي وفتاتي» قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان
المذكوران ، أي : كلكم بنو آدم ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، فلا تستنكفوا من
الزواج بالإماء عند الضرورة ، فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض
الحرائر. والجملة اعتراضية. وقوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ومعناه : أنهم متصلون في الأنساب لأنهم
جميعا بنو آدم ، أو متصلون في الدين لأنهم جميعا أهل ملة واحدة ، وكتابهم واحد ،
ونبيهم واحد. والمراد بهذا : توطئة نفوس العرب ، لأنهم كانوا يستهجنون أولاد
الإماء ، ويستصغرونهم ، ويغضون منهم (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) أي : بإذن المالكين لهنّ ، ولأن منافعهنّ لهم لا يجوز
لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له. قوله : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ) أي : أدّوا مهورهنّ بما هو بالمعروف في الشرع ، وقد
استدل بهذا من قال : إن الأمة أحق بمهرها من سيدها ، وإليه ذهب مالك ، وذهب
الجمهور : إلى أن المهر للسيد ، وإنما أضافها إليهنّ : لأن التأدية إليهنّ تأدية
إلى سيدهن لكونهنّ ماله. قوله : (مُحْصَناتٍ) أي : عفائف. وقرأ الكسائي : محصنات بكسر الصاد في جميع
القرآن إلا في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) وقرأ الباقون : بالفتح في جميع القرآن. قوله : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أي : غير معلنات بالزنا. والأخدان : الأخلاء ، والخدن ،
والخدين : المخادن ، أي : المصاحب ـ وقيل : ذات الخدن : هي التي تزني سرّا ، فهو
مقابل للمسافحة ، وهي التي تجاهر بالزنا ، وقيل : المسافحة : المبذولة ، وذات
الخدن : التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ، ولا تعيب اتخاذ
الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، قال الله : (وَلا تَقْرَبُوا
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) قوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : بفتح الهمزة. وقرأ
الباقون : بضمها ، والمراد بالإحصان هنا : الإسلام. روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن
عمرو ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزرّ بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم
النخعي ، والشعبي ، والسدّي ، وروي عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع ، وهو الذي نص
عليه الشافعي ، وبه قال الجمهور. وقال ابن عباس ، وأبو الدرداء ، ومجاهد ، وعكرمة
، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم : إنه التزويج. وروي عن
__________________
الشافعي. فعلى القول الأوّل : لا حدّ على الأمة الكافرة. وعلى القول الثاني
: لا حدّ على الأمة التي لم تتزوج. وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها
وعفافها. وقال ابن جرير : إن معنى القراءتين مختلف ، فمن قرأ : أحصنّ ، بضم الهمزة
، فمعناه : التزويج. ومن قرأ : بفتح الهمزة ، فمعناه : الإسلام. وقال قوم : إن
الإحصان المذكور في الآية هو التزوج ، ولكن الحدّ واجب على الأمة المسلمة إذا زنت
قبل أن تتزوّج بالسنة ، وبه قال الزهري. قال ابن عبد البر : ظاهر قول الله عزوجل يقتضي أنه لا حدّ على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد
التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن ، وكان ذلك زيادة بيان. قال القرطبي :
ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف لو لا ما جاء في صحيح
السنة من الجلد. قال ابن كثير في تفسيره : والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان
هنا : التزويج ، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً) إلى قوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ
الْعَذابِ) فالسياق كله في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد
بقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) أي : تزوجنّ ، كما فسره به ابن عباس ومن تبعه ، قال :
وعلى كلّ من القولين إشكال على مذهب الجمهور ، لأنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت
فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة ، أو كافرة ، مزوجة ، أو بكرا ، مع أن مفهوم
الآية يقتضي : أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء. وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك ،
ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور : بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم ،
ومنهم من عمل على مفهوم الآية ، وقال : إذا زنت ولم تحصن فلا حدّ عليها وإنما تضرب
تأديبا. قال : وهو المحكي عن ابن عباس ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو
عبيد ، وداود الظاهري في رواية عنه ، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم ،
وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما : «أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال : إن زنت فاجلدوها
، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير» بأن المراد
بالجلد هنا : التأديب ، وهو تعسف ، وأيضا قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة
قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يثرّب
عليها. ثم إن زنت فليجلدها الحدّ». ولمسلم من حديث علي قال : «يا أيّها الناس
أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن ومن لم يحصن ، فإنّ أمة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم زنت فأمرني أن أجلدها». وأما ما أخرجه سعيد بن منصور ،
وابن خزيمة ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس على الأمة حدّ حتّى تحصن بزوج ، فإذا أحصنت بزوج
فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب» فقد قال ابن خزيمة والبيهقي : إن رفعه خطأ
، والصواب وقفه. قوله : (فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفاحِشَةٍ) الفاحشة هنا : الزنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أي : الحرائر الأبكار ، لأن الثيب عليها الرجم ، وهو لا
يتبعض ؛ وقيل : المراد بالمحصنات هنا : المزوّجات ، لأن عليهنّ الجلد والرجم ،
والرجم لا يتبعض ، فصار عليهنّ نصف ما عليهنّ من الجلد. والمراد بالعذاب هنا :
الجلد ، وإنما نقص حدّ الإماء عن حدّ الحرائر لأنهنّ أضعف ؛ وقيل : لأنهنّ لا يصلن
إلى مرادهنّ كما تصل الحرائر ؛ وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ، كما في
قوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهَا
الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ) ولم يذكر الله سبحانه في هذا الآية العبيد ، وهم لاحقون
بالإماء بطريق القياس ، وكما يكون على الإماء والعبيد الحدّ في الزنا ، كذلك يكون
عليهم نصف الحدّ في القذف والشرب ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) إلى نكاح الإماء. والعنت : الوقوع في الإثم ، وأصله في
اللغة : انكسار العظم بعد الجبر ، ثم استعير لكل مشقة (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء (خَيْرٌ لَكُمْ) من نكاحهنّ ، أي : صبركم خير لكم ، لأن نكاحهنّ يفضي
إلى إرقاق الولد والغض من النفس. قوله : (يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) اللام هنا هي لام كي التي تعاقب «أن». قال الفراء :
العرب تعاقب بين لام كي وأن ، فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت
وأمرت ، فيقولون : أردت أن تفعل وأردت لتفعل ، ومنه : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ) (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (وَأُمِرْنا
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) ومنه :
أريد لأنسى
ذكرها فكأنّما
|
|
تمثّل لي
ليلى بكلّ سبيل
|
وحكى الزجّاج
هذا القول وقال : لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لأم أخرى كما تقول : جئت كي
تكرمني ، ثم تقول : جئت لكي تكرمني ، وأنشد :
أردت لكيما
يعلم النّاس أنّها
|
|
سراويل قيس
والوفود شهود
|
وقيل : اللام
زائدة لتأكيد معنى الاستقبال ، أو لتأكيد إرادة التبيين ، ومفعول يبين : محذوف ،
أي : ليبين لكم ما خفي عليكم من الخير ؛ وقيل : مفعول يريد : محذوف ، أي : يريد
الله هذا ليبين لكم ، وبه قال البصريون وهو مرويّ عن سيبويه ؛ وقيل : اللام بنفسها
ناصبة للفعل من غير إضمار أن ، وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدّم ، وهو مثل قول
الفراء السابق ، وقال بعض البصريين : إن قوله : (يُرِيدُ) مؤول بالمصدر ، مرفوع بالابتداء ، مثل : تسمع بالمعيدي
خير من أن تراه. ومعنى الآية : يريد الله ليبين لكم مصالح دينكم ، وما يحلّ لكم ،
وما يحرم عليكم (وَيَهْدِيَكُمْ
سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : طرقهم ، وهم الأنبياء وأتباعهم ، لتقتدوا بهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أي : ويريد أن يتوب عليكم ، فتوبوا إليه ، وتلاقوا ما
فرط منكم بالتوبة ، يغفر لكم ذنوبكم (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) هذا تأكيد لما قد فهم من قوله : (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) المتقدّم ؛ وقيل : الأوّل : معناه للإرشاد إلى الطاعات.
والثاني : فعل أسبابها ؛ وقيل : إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه ، وكمال
ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات ، وليس المراد به مجرد إرادة التوبة حتى يكون
من باب التكرير للتأكيد. قيل : هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع ؛ وقيل
: في نكاح الأمة فقط.
واختلف في
تعيين المتبعين للشهوات ، فقيل : هم الزناة ، وقيل : اليهود والنصارى ، وقيل :
اليهود خاصة ، وقيل : هم المجوس لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات
من الأب. والأوّل أولى. والميل : العدول عن طريق الاستواء. والمراد بالشهوات هنا
ما حرّمه الشرع دون ما أحله ، ووصف الميل بالعظم
__________________
بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادرا. قوله : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) بما مرّ من الترخيص لكم ، أو بكل ما فيه تخفيف عليكم (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) عاجزا غير قادر على ملك نفسه ودفعها عن شهواتها وفاء
بحق التكليف فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف ، فلهذا أراد الله سبحانه
التخفيف عنه.
وقد أخرج
البخاري وغيره عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله : (وَبَناتُ الْأُخْتِ) هذا من النسب ، وباقي الآية من الصهر ، والسابعة : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ،
والبيهقي عن عمران بن حصين في قوله : (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ) قال : هي مبهمة. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال : هي
مبهمة ؛ إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحلّ له أمها. وأخرج
هؤلاء إلا البيهقي عن علي : في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها ، أو ماتت قبل أن
يدخل بها هل تحل له أمها؟ قال : هي بمنزلة الربيبة. وأخرج هؤلاء عن زيد بن ثابت
أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإذا طلقها قبل
أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وأخرج عبد الرزاق ، وابن شيبة ، وابن جرير ،
وابن المنذر عن مجاهد قال : في قوله : (وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) أريد بهما الدخول جميعا. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن
حميد ، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء لا بأس بهما
إذا لم يدخل بالمرأة. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس
بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت ، وقد ولدت لي فوجدت عليها ، فلقيني عليّ
بن أبي طالب فقال : مالك؟ فقلت : توفيت المرأة ، فقال عليّ : لها ابنة؟ قلت : نعم
وهي بالطائف ، قال : كانت في حجرك؟ قلت لا : قال : فانكحها ، قلت : فأين قول الله
: (وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)؟ قال : إنها لم تكن في حجرك.
وقد قدّمنا قول
من قال : إنه إسناد ثابت على شرط مسلم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : الدخول : الجماع. وأخرج عبد الرزاق في
المصنف ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عطاء قال : كنا نتحدث : أن
محمدا صلىاللهعليهوسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك ، فأنزل
الله : (وَحَلائِلُ
أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) ونزلت : (وَما جَعَلَ
أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ونزلت : (ما كانَ مُحَمَّدٌ
أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) قال يعني في النكاح. وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية
قال : ذلك في الحرائر ، فأما المماليك فلا بأس. وأخرج ابن المنذر عنه نحوه من طريق
أخرى. وأخرج مالك ، والشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن
أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن عثمان بن عفان : أن رجلا سأله عن الأختين في ملك
اليمين هل يجمع بينهما؟ قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك ،
فخرج من عنده ، فلقي رجلا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أراه علي بن أبي طالب ، فسأله عن ذلك ، فقال :
__________________
لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. وأخرج ابن أبي
شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي عن علي : أنه سئل عن رجل له أمتان أختان ، وطأ
إحداهما وأراد أن يطأ الأخرى ، فقال : لا حتى يخرجها من ملكه ؛ وقيل : فإن زوجها
عبده؟ قال : لا حتى يخرجها من ملكه. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن
حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود : أنه سئل عن الرجل يجمع بين
الأختين الأمتين ، فكرهه ، فقيل : يقول الله : (إِلَّا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) فقال : وبعيرك أيضا مما ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي شيبة
، والبيهقي من طريق أبي صالح عن عليّ بن أبي طالب : قال في الأختين المملوكتين :
أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولا آمر ولا أنهى ، ولا أحلّ ولا أحرّم ، ولا أفعل أنا
وأهل بيتي. وأخرج أحمد عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على المرأة
وابنتها مملوكتين له؟ فقال : أحلتهما آية وحرّمتهما آية ، ولم أكن لأفعله. وأخرج
عبد الرزاق ، والبيهقي عنه : في الأختين من ملك اليمين : أحلتهما آية وحرّمتهما
آية. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبيهقي عن ابن عمر قال : إذا كان
للرجل جاريتان أختان ؛ فغشي إحداهما ؛ فلا يقرب الأخرى ؛ حتى يخرج التي غشي من
ملكه. وأخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان قال : إنما قال الله في نساء الآباء : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء ، ثم حرم النسب
والصهر فلم يقل إلا ما قد سلف ، لأن العرب كانت لا تنكح النسب والصهر. وقال في
الأختين : (إِلَّا ما قَدْ
سَلَفَ) لأنهم كانوا يجمعون بينهما فحرم جمعهما جميعا ، إلا ما
قد سلف قبل التحريم (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) لما كان من جماع الأختين قبل التحريم. وأخرج أحمد ،
ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري : أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس ، فلقوا عدوا فقاتلوهم ،
فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا ، فكأن ناسا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهنّ من المشركين ، فأنزل
الله في ذلك : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يقول : إلا ما أفاء الله عليكم. وأخرج الطبراني عن ابن
عباس أن ذلك سبب نزول الآية. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج ابن
أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي
عن ابن عباس في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) قال : كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت. وأخرج
الفريابي ، وابن أبي شيبة ، والطبراني عن عليّ وابن مسعود في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال : على المشركات إذا سبين حلت له. وقال ابن مسعود :
المشركات والمسلمات. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج
فسيدها أحق ببضعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) قال : ذوات الأزواج. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر
عن أنس بن مالك مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مثله. وأخرج سعيد بن منصور
، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ) قال : العفيفة العاقلة من مسلمة أو من أهل الكتاب. وأخرج
عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه في الآية قال : لا يحل له أن يتزوج فوق الأربع ،
فما زاد فهو عليه حرام كأمه وأخته. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن أبي العالية
في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ)
قال : يقول انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، ثم حرّم ما
حرّم من النسب والصهر ، ثم قال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
النِّساءِ) فرجع إلى أول السورة فقال : هنّ حرام أيضا ، إلا لمن
نكح بصداق وسنة وشهود. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير عن عبيدة قال
: أحلّ الله لك أربعا في أوّل السورة ، وحرّم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما
ملكت يمينك. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «الإحصان إحصانان : إحصان نكاح ، وإحصان عفاف» فمن
قرأها : والمحصنات بكسر الصاد ، فهن العفائف ، ومن قرأها : والمحصنات بالفتح ،
فهنّ المتزوجات. قال ابن أبي حاتم : قال أبي : هذا حديث منكر. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) قال : ما وراء هذا النسب. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن السدّيّ قال : ما دون الأربع. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : ما وراء ذات
القرابة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) قال : ما ملكت أيمانكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيدة
السلماني نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن
مجاهد في قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسافِحِينَ) قال : غير زانين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يقول : إذا تزوج الرجل منكم المرأة ثم نكحها مرة واحدة
فقد وجب صداقها كله ، والاستمتاع : هو النكاح ، وهو قوله : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ). وأخرج الطبراني ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال :
كانت المتعة في أوّل الإسلام ، وكانوا يقرءون هذه الآية (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) إلى أجل مسمّى الآية ، فكان الرجل يقدم البلدة ليس له
بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته ، ليحفظ متاعه ويصلح شأنه. حتى
نزلت هذه الآية : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) فنسخت الأولى ، فحرّمت المتعة ، وتصديقها من القرآن : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) وما سوى هذا الفرج فهو حرام.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم ، وصححه. أنّ ابن عباس
قرأ : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن أبي
بن كعب أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد ، أن هذه الآية في
نكاح المتعة ، وكذلك أخرج ابن جرير عن السدي. والأحاديث في تحليل المتعة ثم
تحريمها ، وهل كان نسخها مرة أو مرتين؟ مذكورة في كتب الحديث. وقد أخرج ابن جرير
في تهذيبه ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن
عباس : ماذا صنعت؟ ذهبت الركاب بفتياك ، وقالت فيها الشعراء ، قال : وما قالوا؟
قلت : قالوا :
أقول للشيخ
لمّا طال مجلسه
|
|
يا صاح هل لك
في فتيا ابن عبّاس
|
هل لك في
رخصة الأعطاف آنسة
|
|
تكون مثواك
حتّى مصدر النّاس
|
__________________
فقال : إنا لله
وإنا إليه راجعون ، لا والله ما بهذا أفتيت ، ولا هذا أردت ، ولا أحللتها إلا
للمضطر ، وفي لفظ : ولا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة والدم ولحم الخنزير.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي : أن رجالا كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن تدرك أحدهم
العسرة ، فقال الله : (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله : (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) قال : التراضي أن يوفي لها صداقها ثم يخيرها. وأخرج ابن
جرير عن ابن زيد في الآية قال : إن وضعت لك منه شيئا فهو سائغ ، وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً) يقول : من لم يكن له سعة (أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَناتِ) يقول : الحرائر (فَمِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) فلينكح من إماء المؤمنين (مُحْصَناتٍ غَيْرَ
مُسافِحاتٍ) يعني : عفائف ، غير زوان في سرّ ولا علانية (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) يعني : أخلاء (فَإِذا أُحْصِنَ) ثم إذا تزوجت حرا ثم زنت (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) قال : من الجلد (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
الْعَنَتَ مِنْكُمْ) هو الزنا ، فليس لأحد من الأحرار أن ينكح أمة إلا أن لا
يقدر على حرة وهو يخشى العنت (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء (خَيْرٌ لَكُمْ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
والبيهقي عن مجاهد : (وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) يعني : من لا يجد منكم غنى (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) يعني : الحرائر ، فلينكح الأمة المؤمنة (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء (خَيْرٌ لَكُمْ) وهو حلال. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عنه قال :
مما وسع الله به على هذه الأمة نكاح الأمة النصرانية واليهودية وإن كان موسرا.
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد ابن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عنه قال : لا يصلح
نكاح إماء أهل الكتاب ، لأن الله يقول : (مِنْ فَتَياتِكُمُ
الْمُؤْمِناتِ). وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة عن الحسن «أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم نهى أن تنكح الأمة على الحرّة والحرّة على الأمة ، ومن
وجد طولا لحرّة فلا ينكح أمة». وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي عن ابن عباس قال :
لا يتزوج الحرّ من الإماء إلا واحدة. وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة نحوه. وأخرج ابن
أبي حاتم عن مقاتل في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) يقول : أنتم إخوة بعضكم من بعض. وأخرج ابن المنذر عن
السدّي : (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) قال : بإذن مواليهن (وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) قال : مهورهنّ. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال :
المسافحات : المعلنات بالزنا ، والمتخذات أخدان : ذات الخليل الواحد. قال : كان
أهل الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي ، فأنزل الله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ
مِنْها وَما بَطَنَ) . وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (فَإِذا أُحْصِنَ) قال : إحصانها إسلامها. وقال عليّ : اجلدوهنّ. قال ابن
أبي حاتم : حديث منكر.
__________________
وقال ابن كثير : في إسناده ضعيف ومبهم لم يسم ، ومثله لا تقوم به حجة.
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : حدّ العبد يفتري على الحرّ
أربعون. وأخرج ابن جرير عنه قال : العنت : الزنا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
عن السدّي : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) قال : هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن المنذر عن ابن
عباس : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) قال : الزنا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) يقول : في نكاح الأمة وفي كل شيء فيه يسر. وأخرج ابن
جرير عن ابن زيد : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) قال : رخص لكم في نكاح الإماء (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) قال : لو لم يرخص له فيها. وأخرج ابن جرير ، والبيهقي
في الشعب عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هنّ خير لهذه الأمة
مما طلعت عليه الشمس وغربت ، أوّلهنّ : (يُرِيدُ اللهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) والثانية : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا
مَيْلاً عَظِيماً) والثالثة : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ، والرابعة : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً) ، والخامسة : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الآية ، والسادسة : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) الآية ، والسابعة : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، والثامنة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ) للذين عملوا من الذنوب (غَفُوراً رَحِيماً).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ
كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ
نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))
الباطل : ما
ليس بحق ، ووجوه ذلك كثيرة ، ومن الباطل : البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة
في اللغة : عبارة عن المعاوضة ، وهذا الاستثناء منقطع ، أي : لكن تجارة عن تراض
منكم جائزة بينكم ، أو : لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالا لكم. وقوله : (عَنْ تَراضٍ) صفة لتجارة ، أي : كائنة عن تراض ، وإنما نص الله
سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها ، وتطلق
التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) . وقوله : (يَرْجُونَ تِجارَةً
لَنْ تَبُورَ) .
واختلف العلماء
في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع ؛ أو بأن
يقول أحدهما لصاحبه : اختر ، كما في الحديث الصحيح : «البيعان بالخيار ما لم
يتفرّقا أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر». وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ،
وبه قال الشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث ،
__________________
وابن عيينة ، وإسحاق ، وغيرهم. وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع : هو أن
يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار. وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد
قرئ : تجارة بالرفع : على أن كان تامة ، وتجارة بالنصب : على أنها ناقصة قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضا إلا بسبب أثبته
الشرع ، أو : لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي. أو المراد : النهي عن أن يقتل
الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على
ذلك : احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء حين أجنب في غزاة ذات السلاسل
، فقرّر النبي صلىاللهعليهوسلم احتجاجه ، وهو في مسند أحمد ، وسنن أبي داود ، وغيرهما.
وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) أي : القتل خاصة ، أو أكل أموال الناس ظلما ، والقتل
عدوانا وظلما ؛ وقيل : هو إشارة إلى كل ما نهي عنه في هذه السورة ، وقال ابن جرير
: إنه عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد ، إلا من
قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ) فإنه لا وعيد بعده ، إلا قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) والعدوان : تجاوز الحدّ. والظلم : وضع الشيء في غير
موضعه ؛ وقيل : إن معنى العدوان والظلم واحد ، وتكريره لقصد التأكيد كما في قول
الشاعر :
وألفى قولها كذبا ومينا
وخرج بقيد
العدوان والظلم ما كان من القتل بحق ، كالقصاص ، وقتل المرتد ، وسائر الحدود الشرعية
، وكذلك قتل الخطأ. قوله : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ) جواب الشرط ، أي : ندخله نارا عظيمة (وَكانَ ذلِكَ) أي : إصلاؤه النار (عَلَى اللهِ يَسِيراً) لأنه لا يعجزه بشيء. وقرئ : (نُصْلِيهِ) بفتح النون ، روي ذلك عن الأعمش ، والنخعي ، وهو على
هذه القراءة منقول من : صلي ، ومنه : شاة مصلية. قوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : ذنوبكم التي هي صغائر ، وحمل السيئات على الصغائر
هنا متعين لذكر الكبائر قبلها ، وجعل اجتنابها شرطا لتكفير السيئات.
وقد اختلف أهل
الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها ، فأما في تحقيقها فقيل : إن الذنوب
كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها : صغيرة ، بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، يقال :
الزنا صغيرة ، بالإضافة إلى الكفر ، والقبلة المحرّمة صغيرة ، بالإضافة إلى الزنا
، وقد روي نحو هذا عن الإسفرايني والجويني ، والقشيري ، وغيرهم ، قالوا : والمراد
بالكبائر التي يكون اجتنابها سببا لتكفير السيئات : هي الشرك ، واستدلوا على ذلك :
بقراءة من قرأ
: إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه وعلى قراءة الجمع ، فالمراد : أجناس الكفر ،
واستدلوا على ما قالوه : بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قالوا : فهذه
__________________
الآية مقيدة لقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) وقال ابن عباس : الكبيرة : كل ذنب ختمه الله بنار ، أو
غضب ، أو لعنة ، أو عذاب. وقال ابن مسعود : الكبائر : ما نهى الله عنه في هذه
السورة إلى ثلاث وثلاثين آية. وقال سعيد بن جبير : كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو
كبيرة. وقال جماعة من أهل الأصول : الكبائر : كل ذنب رتب الله عليه الحدّ ، أو صرح
بالوعيد فيه. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره. وأما الاختلاف في عددها
فقيل : إنها سبع ، وقيل : سبعون ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : غير منحصرة ، ولكن
بعضها أكبر من بعض ، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله. قوله : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً) أي : مكان دخول ، وهو الجنة (كَرِيماً) أي : حسنا مرضيا ، وقد قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن
عامر ، والكوفيون : (مُدْخَلاً) بضم الميم. وقرأ أهل المدينة : بفتح الميم ، وكلاهما :
اسم مكان ، ويجوز أن يكون مصدرا.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم ، والطبراني ، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود ، في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) قال : إنها محكمة ، ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم
القيامة. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن في الآية قال : كان الرجل يتحرج أن يأكل
عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ، فنسخ ذلك الآية التي في النور : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا
مِنْ بُيُوتِكُمْ) الآية. وأخرج ابن ماجة وابن المنذر عن أبي سعيد قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّما البيع عن تراض» وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن أبي صالح وعكرمة في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) قالا : نهاهم عن قتل بعضهم بعضا. وأخرج ابن المنذر عن
مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر عن السدي : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) قال : أهل دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير
في قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) يعني : متعمدا اعتداء بغير حق (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) يقول : كان عذابه على الله هينا. وأخرج ابن المنذر عن
ابن جريح قال : قلت لعطاء : أرأيت قوله : تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) في كل ذلك أم في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ)؟ قال : بل في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ). وأخرج عبد بن حميد عن أنس بن مالك قال : هان ما سألكم
ربكم (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) وأخرج عبد بن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ،
والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ، وقد ذكرت
الطرفة ، يعني : النظرة. وأخرج ابن جرير عنه قال : كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وأخرج ابن جرير ،
والبيهقي في الشعب عنه قال : الكبائر : كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة
، أو عذاب. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ما قدّمنا عنه. وأخرج عبد الرزاق ،
وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن
ابن عباس : أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ قال : هي إلى السبعين أقرب. وأخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه : أن رجلا سأله كم الكبائر أسبع هي؟ قال :
هي إلى
__________________
سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع
إصرار. وأخرج البيهقي في الشعب عنه : كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة ، وليس بكبيرة
ما تاب عنه العبد. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «اجتنبوا السّبع الموبقات ، قالوا : وما هي يا رسول
الله؟ قال : الشّرك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، والسّحر ، وأكل
الرّبا ، وأكل مال اليتيم ، والتّولي يوم الزّحف ، وقذف المحصنات الغافلات
المؤمنات». وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله!
قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متّكئا فجلس فقال : ألا وقول الزّور
، وشهادة الزور ، فما زال يكرّرها حتى قلنا : ليته سكت». وأخرج البخاري وغيره عن
ابن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، أو
قتل النّفس ـ شكّ شعبة ـ واليمين الغموس». وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن
عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قالوا : وكيف
يلعن الرجل والديه؟ قال : يسبّ أبا الرجل فيسب أباه ويسبّ أمه فيسبّ أمه».
والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها كثيرة جدا ، فمن رام الوقوف على ما ورد في
ذلك ، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر ، فإنه قد جمع فأوعى.
واعلم أنه لا
بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه
النسائي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححه ،
والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد : أن النبي صلىاللهعليهوسلم جلس على المنبر ثم قال : «والذي نفسي بيده ما من عبد
يصلّي الصّلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع ، إلّا فتحت
له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتّى إنّها لتصفّق ، ثم تلا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ). وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن ابن
مسعود قال : إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا وما فيها ،
ولقد علمت أن العلماء إذا مرّوا بها يعرفونها ، قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الآية ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية ، وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية.
(وَلا تَتَمَنَّوْا ما
فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا
تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ
بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ
__________________
فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا
تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤))
قوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا) التمني : نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل ، كالتلهف :
نوع منها يتعلق بالماضي ، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من
الناس عليه ، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على
مقتضى إرادته وحكمته البالغة ، وفيه أيضا نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة
زوال تلك النعمة عن الغير.
وقد اختلف
العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي : أن يتمنى أن يكون به حال مثل حال صاحبه ،
من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه. فذهب الجمهور : إلى جواز ذلك ، واستدلوا
بالحديث الصحيح : «لا حسد إلّا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء
اللّيل وآناء النّهار ، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» ،
وقد بوّب عليه البخاري : «باب الاغتباط في العلم والحكم». وعموم لفظ الآية يقتضي :
تحريم تمني ما وقع به التفضيل ؛ سواء كان مصحوبا بما يصير به من جنس الحسد أم لا ،
وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصا لهذا العموم ، وسيأتي ذكر
سبب نزول الآية ، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) إلخ ، فيه تخصيص بعد التعميم ، ورجوع إلى ما يتضمنه سبب
نزول الآية : من أن أمّ سلمة قالت : يا رسول الله! يغزو الرجال ولا نغزو ولا نقاتل
فنستشهد ، وإنما لنا نصف الميراث ، فنزلت. أخرجه عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ،
وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ،
والبيهقي ، وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة. والمعنى في الآية : أن
الله جعل لكل من الفريقين نصيبا على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته ، وعبر عن ذلك
المجعول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الاستعارة
التبعية ، شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه. قال قتادة : للرجال نصيب
مما اكتسبوا من الثواب والعقاب ، وللنساء كذلك. وقال ابن عباس : المراد بذلك :
الميراث ، والاكتساب على هذا القول بمعنى ما ذكرنا. قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) عطف على قوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا) وتوسيط التعليل بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) إلخ. بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير ما تضمنه النهي
، وهذا الأمر يدل : على وجوب سؤال الله سبحانه من فضله ، كما قاله جماعة من أهل
العلم. قوله : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي : جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه ، فلكل :
مفعول ثان قدّم على الفعل لتأكيد الشمول ، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها ، أي
: ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث ، ولا يتمنّ ما فضل الله به غيره عليه.
وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله بعدها : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) وقيل العكس ، كما روى ذلك ابن جرير. وذهب الجمهور : إلى
أن الناسخ لقوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) قوله تعالى : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) والموالي : جمع مولى ، وهو يطلق
__________________
على المعتق ، والناصر ، وابن العم ، والجار. قيل : والمراد هنا العصبة ، أي
: ولكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض. قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) المراد بهم موالي الموالاة : كان الرجل من أهل الجاهلية
يعاقد الرجل : أي يحالفه فيستحق من ميراثه نصيبا ، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه
الآية ، ثم نسخ بقوله : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) وقراءة الجمهور : وعاقدت وروي عن حمزة أنه قرأ : «عقّدت»
بتشديد القاف على التكثير ، أي : والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف ، أو عقدت عهودهم
أيمانكم ، والتقدير على قراءة الجمهور : والذين عاقدتهم أيمانكم فآتوهم نصيبهم :
أي ما جعلتموه لهم بعقد الحلف. قوله : (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) هذه الجملة مستأنفة ، مشتملة على بيان العلة التي استحق
بها الرجال الزيادة ، كأنه قيل : كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه
النساء؟ فقال : (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ) إلخ ، والمراد : أنهم يقومون بالذبّ عنهنّ ، كما تقوم
الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية ، وهم أيضا : يقومون بما يحتجن إليه من النفقة ،
والكسوة ، والمسكن. وجاء بصيغة المبالغة في قوله : (قَوَّامُونَ) ليدلّ : على أصالتهم في هذا الأمر ، والباء في قوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ) للسببية ، والضمير في قوله : (بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) للرجال والنساء ، أي : إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل
الله للرجال على النساء ، بما فضلهم به من كون فيهم : الخلفاء ، والسلاطين ،
والحكام ، والأمراء ، والغزاة ، وغير ذلك من الأمور. قوله : (وَبِما أَنْفَقُوا) أي : وبسبب ما أنفقوا من أموالهم ، وما : مصدرية ، أو
موصولة ، وكذلك هي في قوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ) ومن : تبعيضية ، والمراد ما أنفقوه : في الإنفاق على
النساء ، وبما دفعوه في مهورهنّ من أموالهم ، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد ، وما
يلزمهم في العقل .
وقد استدل
جماعة من العلماء بهذه الآية : على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته
وكسوتها ، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما. (فَالصَّالِحاتُ) أي : من النساء (قانِتاتٌ) أي : مطيعات لله ، قائمات بما يجب عليهنّ من حقوق الله
، وحقوق أزواجهنّ. (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي : لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهنّ عنهنّ : من حفظ
نفوسهنّ ، وحفظ أموالهم ، «وما» : في قوله : (بِما حَفِظَ اللهُ) مصدرية ، أي : بحفظ الله. والمعنى : أنهنّ حافظات لغيب
أزواجهنّ بحفظ الله لهنّ ، ومعونته ، وتسديده ، أو : حافظات له لما استحفظهنّ من
أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به ، أو : حافظات له بحفظ الله
لهنّ بما أوصى به الأزواج في شأنهنّ من حسن العشرة ، ويجوز أن تكون «ما» : موصولة
، والعائد محذوف. وقرأ أبو جعفر : (بِما حَفِظَ اللهُ) بنصب الاسم الشريف. والمعنى : بما حفظن الله ، أي : حفظن
أمره ، أو حفظن دينه ، فحذف الضمير الراجع إليهنّ للعلم به ، و «ما» على هذه
القراءة : مصدرية ، أو موصولة ، كالقراءة الأولى ، أي : بحفظهن الله ، أو : بالذي
حفظن الله به. قوله : (وَاللَّاتِي
تَخافُونَ
__________________
نُشُوزَهُنَ)
هذا خطاب
للأزواج ، قيل : الخوف هنا على بابه ، وهو : حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر
مكروه ، أو : عند ظنّ حدوثه ؛ وقيل : المراد بالخوف هنا : العلم. والنشوز :
العصيان. وقد تقدّم بيان أصل معناه في اللغة. قال ابن فارس : يقال نشزت المرأة :
استعصت على بعلها ، ونشز بعلها عليها : إذا ضربها وجفاها. (فَعِظُوهُنَ) أي : ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن
العشرة ، ورغبوهنّ ، ورهبوهنّ (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضاجِعِ) يقال : هجره ، أي : تباعد منه. والمضاجع : جمع مضجع ،
وهو محل الاضطجاع ، أي : تباعدوا عن مضاجعتهنّ ، ولا تدخلوهنّ تحت ما تجعلونه
عليكم حال الاضطجاع من الثياب ؛ وقيل : هو : أن يوليها ظهره عند الاضطجاع ؛ وقيل :
هو كناية عن ترك جماعها ؛ وقيل : لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه (وَاضْرِبُوهُنَ) أي : ضربا غير مبرح. وظاهر النظم القرآني أنه يجوز
للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز ، وقيل : إنه لا يهجرها إلا بعد
عدم تأثير الوعظ ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر ، وإن كفاه الهجر لم ينتقل
إلى الضرب. (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ) كما يجب وتركن النشوز (فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي : لا تتعرضوا لهنّ بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل
، وقيل : المعنى : لا تكلفوهنّ الحبّ لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهنّ. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ، أي : وإن
كنتم تقدرون عليهنّ فاذكروا قدرة الله عليكم ، فإنها فوق كل قدرة ، والله بالمرصاد
لكم.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ
بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) يقول : لا يتمنى الرجل ؛ فيقول : ليت أن لي مال فلان
وأهله ، فنهى الله سبحانه عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا) يعني : مما ترك الوالدان والأقربون ، للذكر مثل حظ
الأنثيين. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة : أن سبب نزول الآية : أن
النساء قلن : لو جعل أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال؟ وقال الرجال : إنا لنرجو
أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهنّ في الميراث. وقد تقدم ذكر
سبب النزول. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) قال : ليس بعرض الدنيا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير : (وَسْئَلُوا اللهَ
مِنْ فَضْلِهِ) قال : العبادة ليس من أمر الدنيا. وأخرج الترمذي عن ابن
مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سلوا الله من فضله ، فإنّ الله يحبّ أن يسأل». قال
الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد ؛ وليس بالحافظ ، ورواه أبو نعيم عن إسرائيل عن
حكيم بن جبير عن رجل عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح ، وكذا رواه ابن جرير
، وابن مردويه ، ورواه أيضا ابن مردويه : من حديث ابن عباس. وأخرج البخاري ، وأبو
داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي
في سننه عن ابن عباس : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ) قال : ورثة (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) قال : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري
الأنصاري دون ذوي رحمه ، للأخوّة التي آخى النبي صلىاللهعليهوسلم بينهم ، فلما نزلت : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا
مَوالِيَ) نسخت ، ثم قال :
(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ويوصى
له. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) قال : عصبة (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمانُكُمْ) قال : كان الرجلان أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله :
(وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية ، فهو
لهم جائز من ثلث مال الميت ، وهو المعروف. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه
في الآية قال : كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك ، وكان
الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلّ حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام فلا
يزيده الإسلام إلا شدّة ، ولا عقد ولا حلف في الإسلام» فنسختها هذه الآية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ) . وأخرج أبو داود ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي
عنه في الآية قال : كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بينهما نسب ، فيرث أحدهما الآخر ،
فنسخ ذلك في الأنفال : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن الحسن : أن رجلا من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص ، فجعل
النبي صلىاللهعليهوسلم بينهما القصاص ، فنزل : (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) فسكت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونزل القرآن (الرِّجالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أردنا أمرا وأراد الله غيره». وأخرج ابن مردويه عن
عليّ نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) يعني أمراء عليهنّ أن تطيعه فيما أمرها الله به من
طاعته ، وطاعته : أن تكون محسنة إلى أهله ، حافظة لماله (بِما فَضَّلَ اللهُ) فضله عليها نفقته وسعيه (فَالصَّالِحاتُ
قانِتاتٌ) قال : مطيعات (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) يعني : إذا كن كذا فأحسنوا إليهنّ. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) قال : حافظات للغيب بما استودعهنّ الله من حقه ،
وحافظات لغيب أزواجهنّ. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) للأزواج. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : تحفظ على زوجها
ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : (وَاللَّاتِي
تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) قال : تلك المرأة تنشز وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره
، فأمره الله أن يعظها ، ويذكرها بالله ، ويعظم حقه عليها ، فإن قبلت ، وإلا هجرها
في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها ، وذلك عليها تشديد ، فإن رجعت ، وإلا
ضربها ضربا غير مبرح ، ولا يكسر لها عظما ، ولا يجرح بها جرحا (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) يقول : إذا أطاعتك فلا تتجنى عليها العلل. وأخرج ابن
جرير عن ابن عباس : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضاجِعِ) قال : لا يجامعها. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عنه
قال يهجرها بلسانه ، ويلغظ لها بالقول ، ولا يدع الجماع. وأخرج عبد الرزاق ، وابن
أبي شيبة ، وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير عن عطاء : أنه سأل ابن عباس
عن الضرب غير المبرح ، فقال : بالسواك ونحوه. وقد أخرج الترمذي ، وصححه ، والنسائي
، وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص : أنه شهد خطبة الوداع مع رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوسلم وفيها أنه قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألا واستوصوا بالنّساء خيرا ، فإنّما هنّ عوان عندكم ، ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك ، إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة ، فإن فعلن ، فاهجروهنّ في المضاجع ، واضربوهنّ ضربا غير مبرح (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً)». وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهم عن عبد الله ابن زمعة
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد؟ ثم يجامعها في
آخر اليوم».
(وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً
(٣٥))
قد تقدّم معنى
الشقاق في البقرة ، وأصله : أن كل واحد منهم يأخذ شقا غير شق صاحبه ، أي : ناحية
غير ناحيته ، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به ، كقوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وقوله :
يا سارق
اللّيلة أهل الدّار
والخطاب
للأمراء والحكام ، والضمير في قوله : (بَيْنِهِما) للزوجين ، لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما ، وهو ذكر
الرجال والنساء (فَابْعَثُوا) إلى الزوجين (حَكَماً) يحكم بينهما ممن يصلح لذلك ، عقلا ، ودينا ، وإنصافا ،
وإنما نص الله سبحانه : على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين ، لأنهما أقعد
بمعرفة أحوالهما ، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما ؛ كان
الحكمان من غيرهم ، وهذا إذا أشكل أمرهما ، ولم يتبين من هو المسيء منهما ؛ فأما
إذا عرف المسيء ؛ فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه ، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات
البين جهدهما ، فإن قدرا على ذلك عملا عليه ، وإن أعياهما إصلاح حالهما ؛ ورأيا
التفريق بينهما ؛ جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ، ولا توكيل بالفرقة
من الزوجين. وبه قال مالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وهو مرويّ عن عثمان ، وعليّ ،
وابن عباس ، والشعبي ، والنخعي ، والشافعي ، وحكاه ابن كثير عن الجمهور ، قالوا :
لأن الله قال : (فَابْعَثُوا حَكَماً
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) وهذا نص من الله سبحانه أنهما قاضيان ، لا وكيلان ، ولا
شاهدان. وقال الكوفيون ، وعطاء ، وابن زيد ، والحسن ، وهو أحد قولي الشافعي : إن
التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد ، لا إليهما ، ما لم يوكلهما الزوجان ،
أو يأمرهما الإمام والحاكم ، لأنهما رسولان شاهدان ، فليس إليهما التفريق ، ويرشد
إلى هذا قوله : (إِنْ يُرِيدا) أي : الحكمان (إِصْلاحاً) بين الزوجين (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق. ومعنى : (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما) أي : يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة
وحسن العشرة. ومعنى الإرادة : خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين ، وقيل : إن
الضمير في قوله : (يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما) للحكمين كما في قوله : (إِنْ يُرِيدا
إِصْلاحاً) أي :
__________________
يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما ؛ وقيل : كلا الضميرين
للزوجين ، أي : إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله بينهما الألفة
والوفاق ، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ، ولا يلزم قبول قولهما ، بلا خلاف.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) قال : هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما ؛ أمر
الله أن تبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ؛ ورجلا مثله من أهل المرأة ؛ فينظران
أيهما المسيئ ، فإن كان الرجل هو المسيئ حجبوا امرأته عنه وقسروه على النفقة ، وإن
كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة ، فإن اجتمع رأيهما على
أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر
ذلك ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ، ولا يرث الكاره الراضي (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) قال : هما الحكمان (يُوَفِّقِ اللهُ
بَيْنَهُما) وكذلك كل مصلح يوفقه للحق والصواب. وأخرج الشافعي في
الأم ، وعبد الرزاق في المصنف ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عبيدة السلماني في هذه الآية قال
: جاء رجل وامرأة إلى علي ومعهما فئام من الناس ، فأمرهم عليّ فبعثوا حكما من أهله
وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا
أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما
عليّ فيه ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال : كذبت والله حتى تقرّ مثل
الذي أقرّت به. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن
عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، فقيل لنا : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن
رأيتما أن تفرقا فرقتما ، والذي بعثهما عثمان. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ،
وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن الحسن قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا
ويشهدا على الظالم بظلمه ، فأما الفرقة فليست بأيديهما. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة نحوه. وأخرج البيهقي عن عليّ قال : إذا حكم أحد
الحكمين ولم يحكم الآخر فليس حكمه بشيء حتى يجتمعا.
(وَاعْبُدُوا اللهَ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ
اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦))
قد تقدّم بيان
معنى العبادة. وشيئا إما مفعول به ، أي : لا تشركوا به شيئا من الأشياء ، من غير
فرق بين حي وميت ، وجماد وحيوان ، وإما مصدر ، أي : لا تشركوا به شيئا من الإشراك
من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر ، والواضح والخفي. وقوله : (إِحْساناً) مصدر لفعل محذوف ، أي : أحسنوا بالوالدين إحسانا. وقرأ
ابن أبي عبلة : بالرفع ، وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة الله
والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما ، ومثله : (أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ) فأمر سبحانه بأن يشكرا معه. قوله : (وَبِذِي
__________________
الْقُرْبى)
أي : صاحب
القرابة ، وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه ، وإن كان بعيدا. (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) : قد تقدّم تفسيرهم ، والمعنى : وأحسنوا بذي القربى إلى
آخر ما هو مذكور في هذه الآية (وَالْجارِ ذِي
الْقُرْبى) أي : القريب جواره ؛ وقيل : هو من له مع الجوار في
الدار قرب في النسب (وَالْجارِ الْجُنُبِ) : المجانب ، وهو مقابل للجار ذي القربى ، والمراد : من
يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة ، وفي ذلك دليل على تعميم الجيران
بالإحسان إليهم ، سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة ، وعلى أن الجوار حرمة
مرعية مأمور بها. وفيه ردّ على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه
حائل ، أو مختص بالقريب دون البعيد ؛ وقيل : إن المراد بالجار الجنب هنا : هو
الغريب ؛ وقيل : هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له. وقرأ الأعمش ،
والمفضل : (وَالْجارِ الْجُنُبِ) بفتح الجيم وسكون النون ، أي : ذي الجنب ، وهو الناحية
، وأنشد الأخفش :
النّاس جنب والأمير جنب
وقيل : المراد
بالجار ذي القربى : المسلم ، وبالجار الجنب : اليهودي والنصراني.
وقد اختلف أهل
العلم في المقدار الذي يصدق عليه مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق ، فروي عن
الأوزاعي والحسن : أنه إلى حدّ أربعين دارا من كل ناحية ، وروي عن الزهري نحوه ؛
وقيل : من سمع إقامة الصلاة ؛ وقيل : إذا جمعتهما محلة ؛ وقيل : من سمع النداء.
والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع ، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون
جارا إلى حد كذا من الدور ، أو من مسافة الأرض ، كان العمل عليه متعينا ، وإن لم
يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفا. ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه
وبين جاره مقدار كذا ، ولا ورد في لغة العرب أيضا ما يفيد ذلك ، بل المراد بالجار
في اللغة : المجاور ، ويطلق على معان. قال في القاموس : والجار : المجاور ، والذي
أجرته من أن يظلم ، والمجير ، والمستجير ، والشريك في التجارة ، وزوج المرأة ، وهي
جارته ، وفرج المرأة ، وما قرب من المنازل ، والاست ، كالجارة ، والقاسم ، والحليف
، والناصر. انتهى. قال القرطبي في تفسيره : وروي «أن رجلا جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّي نزلت محلة قوم ، وإن أقربهم إليّ جوارا
أشدّهم لي أذى ، فبعث النبيّ صلىاللهعليهوسلم أبا بكر ، وعمر ، وعليا يصيحون على أبواب المساجد : ألا
إن أربعين دارا جار ، ولا يدخل الجنّة من لا يأمن جاره بوائقه». انتهى. ولو ثبت
هذا لكان مغنيا عن غيره ، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث
المعروفة ، وهو وإن كان إماما في علم الرواية ، فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند
مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور ، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيرا ، كما يفعل في
تذكرته ، وقد ورد في القرآن : ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة ، قال الله
تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
الْمُنافِقُونَ) إلى قوله : (ثُمَّ لا
يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) فجعل اجتماعهم
__________________
في المدينة جوارا. وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها ،
ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة. قوله : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) قيل : هو الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن
جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك. وقال علي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن أبي
ليلى : هو الزوجة. وقال ابن جريج : هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. ولا يبعد أن
تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها ، وهو كل من صدق عليه أنه
صاحب بالجنب ، أي : بجنبك ، كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة
تجارة أو نحو ذلك. قوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) قال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارا ، والسبيل : الطريق
، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه ، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر ،
فإن على المقيم أن يحسن إليه ؛ وقيل : هو المنقطع به ؛ وقيل : هو الضعيف. قوله : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : وأحسنوا إلى ما ملكت أيمانكم إحسانا ، وهم العبيد
والإماء ، وقد أمر النبي صلىاللهعليهوسلم : بأنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ، ويلبسون مما يلبس.
والمختال : ذو الخيلاء ، وهو الكبر والتيه ، أي : لا يحب من كان متكبرا تائها على
الناس مفتخرا عليهم. والفخر : المدح للنفس ، والتطاول ، وتعديد المناقب ، وخص
هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن عباس
في قوله : (وَالْجارِ ذِي
الْقُرْبى) يعني : الذي بينك وبينه قرابة (وَالْجارِ الْجُنُبِ) يعني : الذي ليس بينك وبينه قرابة. وأخرج ابن جرير ،
وابن أبي حاتم عن نوف البكالي قال : الجار ذي القربى : المسلم ، والجار الجنب :
اليهودي والنصراني. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في
شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : (وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ) قال : الرفيق في السفر. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير
ومجاهد مثله. وأخرج الحكيم ، والترمذي في نوادر الأصول ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن زيد بن أسلم (وَالصَّاحِبِ
بِالْجَنْبِ) قال : هو جليسك في الحضر ، ورفيقك في السفر ، وامرأتك
التي تضاجعك. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
عليّ قال : هو المرأة. وأخرج هؤلاء ، والطبراني عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله
: (وَما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) قال : مما خوّلك الله فأحسن صحبته ؛ كل هذا أوصى به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه ، وقد ورد مرفوعا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في برّ الوالدين ، وفي صلة القرابة ، وفي الإحسان إلى
اليتامى ، وفي الإحسان إلى الجار ، وفي القيام بما يحتاجه المماليك ، أحاديث كثيرة
قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا ، وهكذا ورد في ذم الكبر
والاختيال والفخر ما هو معروف.
(الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا
عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا
رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ
عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا
الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢))
قوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) هم في محل نصب بدلا من قوله : (مَنْ كانَ مُخْتالاً) أو على الذمّ ، أو في محل رفع على الابتداء ، والخبر
مقدّر ، أي : لهم كذا وكذا من العذاب ، ويجوز أن يكون مرفوعا بدلا من الضمير
المستتر في قوله : (مُخْتالاً فَخُوراً) ويجوز أن يكون منصوبا على تقدير : أعني ، أو مرفوعا على
الخبر ، والمبتدأ مقدّر ، أي : هم الذين يبخلون ، والجملة في محل نصب على البدل.
والبخل المذموم في الشرع : هو الامتناع من أداء ما أوجب الله ، وهؤلاء المذكورون
في هذه الآية ، ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشرّ خصال الشرّ ما هو
أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله ، وبلوغه في الرذالة إلى غايتها ، وهو أنهم مع
بخلهم بأموالهم وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله (يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجا ومضاضة
، فلا كثّر في عباده من أمثالكم ، هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها
بإخراج بعضها في مواضعه ، فما بالكم بخلتم بأموال غيركم؟ مع أنه لا يلحقكم في ذلك
ضرر ، وهل هذا إلا غاية اللؤم ، ونهاية الحمق والرقاعة ، وقبح الطباع ، وسوء الاختيار.
وقد تقدم اختلاف القراءات في البخل. وقد قيل : إن المراد بهذه الآية : اليهود ،
فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله في التوراة ؛
وقيل : المراد بها : المنافقون ، ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك ، وأكثر شمولا ،
وأعمّ فائدة ، قوله : (وَالَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) عطف على قوله : (الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ) ووجه ذلك : أن الأوّلين قد فرطوا بالبخل ، وبأمر الناس
به ، وبكتم ما آتاهم الله من فضله ، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها ،
لمجرد الرياء والسمعة ، كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم ، ويتطاول
على غيره بذلك ، ويشمخ بأنفه عليه ، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه
بالضرر من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر. قوله : (وَمَنْ يَكُنِ
الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً) في الكلام إضمار ، والتقدير : ولا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر فقرينهم الشيطان (وَمَنْ يَكُنِ
الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) والقرين : المقارن ، وهو الصاحب والخليل. والمعنى : من
قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها ، أو فهو قرينه في النار ، فساء الشيطان
قرينا (وَما ذا عَلَيْهِمْ) أي : على هذه الطوائف (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) ابتغاء لوجهه ، وامتثالا لأمره ، أي : وماذا يكون عليهم
من ضرر لو فعلوا ذلك. قوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) المثقال : مفعال من الثقل ، كالمقدار من القدر ، وهو
منتصب على أنه نعت لمفعول محذوف ، أي : لا يظلم شيئا مثقال ذرة. والذرّة : واحدة
الذرّ. وهي النمل الصغار ؛ وقيل : رأس النملة ، وقيل : الذرّة : الخردلة ؛ وقيل :
كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوة أو غيرها ذرة. والأوّل
هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه. والمراد من الكلام أن الله لا يظلم
كثيرا ولا قليلا ، أي : لا
يبخسهم من ثواب أعمالهم ، ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرّة فضلا عما
فوقها. قوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً
يُضاعِفْها) قرأ أهل الحجاز : حسنة بالرفع. وقرأ من عداهم : بالنصب
؛ والمعنى على القراءة الأولى : إن توجد حسنة ، على أنّ كان هي التامة لا الناقصة
؛ وعلى القراءة الثانية : إن تك فعلته حسنة يضاعفها ؛ وقيل : إن التقدير : إن تك
مثقال الذرّة حسنة ، وأنت ضمير المثقال لكونه مضافا إلى المؤنث ، والأوّل أولى. وقرأ
الحسن : نضاعفها بالنون ، وقرأ الباقون : بالياء ، وهي الأرجح لقوله : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً
عَظِيماً) وقد تقدّم الكلام في المضاعفة ، والمراد : مضاعفة ثواب
الحسنة ، قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) كيف : منصوبة بفعل مضمر ، كما هو رأي سيبويه ، أو محلها
: رفع على الابتداء ، كما هو رأي غيره ، والإشارة بقوله : (هؤُلاءِ) إلى الكفار ، وقيل : إلى كفار قريش خاصة. والمعنى :
فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على
هؤلاء شهيدا؟ وهذا الاستفهام معناه : التوبيخ والتقريع (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) قرأ نافع وابن عامر : (تُسَوَّى) بفتح التاء وتشديد السين ، وقرأ حمزة والكسائي : بفتح
التاء وتخفيف السين ، وقرأ الباقون : بضم التاء وتخفيف السين. والمعنى على القراءة
الأولى والثانية : أن الأرض هي التي تسوّى بهم ، أي : أنهم تمنوا لو انفتحت لهم
الأرض فساخوا فيها ؛ وقيل : الباء في قوله : (بِهِمُ) بمعنى على ، أي : تسوّى عليهم الأرض. وعلى القراءة
الثالثة : الفعل مبنيّ للمفعول ، أي : لو سوّى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء
حتى لا يبعثوا. قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثاً) عطف على (يَوَدُّ) أي : يومئذ يودّ الذين كفروا ، ويومئذ لا يكتمون الله
حديثا ، ولا يقدرون على ذلك. قال الزجاج : قال بعضهم (لا يَكْتُمُونَ اللهَ
حَدِيثاً) مستأنف ، لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على
كتمانه. وقال بعضهم : هو معطوف. والمعنى : يودّون أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم
يكتموا الله حديثا لأنه ظهر كذبهم.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان كردم بن
يزيد حليف كعب بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ،
وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار ينتصحون لهم
فيقولون : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا
النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون؟ فأنزل الله فيهم : (الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) إلى قوله : (وَكانَ اللهُ بِهِمْ
عَلِيماً). وقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنها نزلت في اليهود.
وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد. وأخرجه
ابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن
قتادة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) قال : رأس نملة حمراء. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن
جبير في قوله : (إِنْ تَكُ حَسَنَةً) وزن ذرة ، زادت على سيئاته (يُضاعِفْها) فأما المشرك فيخفف به عنه العذاب ولا يخرج من النار
أبدا.
وأخرج البخاري
وغيره عن ابن مسعود قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقرأ عليّ قلت : يا رسول الله!
أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال : نعم ، إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري ، فقرأت
سورة النساء حتّى أتيت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) قال : حسبك الآن فإذا عيناه تذرقان». وأخرجه الحاكم ،
وصححه من حديث عمرو بن حريث. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن
ابن عباس في قوله : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ) يعني : أن تسوّى الأرض بالجبال عليهم ، وأخرج عبد بن
حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية : يقول : ودّوا لو انخرقت
بهم الأرض فساخوا فيها. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) قال : بجوارحهم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ
كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣))
قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين ، لأنهم كانوا يقربون الصلاة
حال السكر ، وأما الكفار : فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى. قوله : (لا تَقْرَبُوا) قال أهل اللغة : إذا قيل لا تقرب بفتح الراء معناه : لا
تدن منه. والمراد هنا : النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها. وبه قال جماعة من
المفسرين ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، وقال آخرون : المراد مواضع الصلاة ، وبه قال
الشافعي. وعلى هذا فلا بدّ من تقدير مضاف ، ويقوي هذا قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) وقالت طائفة : المراد : الصلاة ومواضعها معا ، لأنهم
كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ، ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا
متلازمين. قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) الجملة في محل نصب على الحال ، وسكارى : جمع سكران ،
مثل : كسالى جمع كسلان. وقرأ النخعي : سكارى بفتح السين ، وهو تكسير سكران : وقرأ
الأعمش : (سُكارى) كحبلى ، صفة مفردة. وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد
بالسكر هنا : سكر الخمر ، إلا الضحاك فإنه قال : المراد : سكر النوم. وسيأتي بيان
سبب نزول الآية ، وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال. قوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر ، أي :
حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه ، فإن السكران لا يعلم ما يقوله ، وقد
تمسك بهذا من قال : إن طلاق السكران لا يقع ، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى
القصد. وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم ، وربيعة ،
وهو قول الليث بن سعد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، والمزني. واختاره الطحاوي وقال : أجمع
العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس. وأجازت طائفة
وقوع طلاقه ، وهو محكي عن عمر بن الخطاب ، ومعاوية ، وجماعة من التابعين ، وهو قول
أبي حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي. واختلف قول الشافعي في ذلك. وقال مالك : يلزمه
الطلاق ، والقود في الجراح ، والقتل ،
ولا يلزمه النكاح ، والبيع. قوله : (وَلا جُنُباً) عطف على محل الجملة الحالية ، وهي قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) والجنب : لا يؤنث ، ولا يثنى ، ولا يجمع ، لأنه ملحق
بالمصدر ، كالبعد والقرب. قال الفراء : يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة ؛ وقيل :
يجمع الجنب في لغة على أجناب ، مثل : عنق وأعناق ، وطنب وأطناب. وقوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) استثناء مفرّغ ، أي : لا تقربوها في حال من الأحوال إلا
في حال عبور السبيل. والمراد به هنا السفر ، ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ
النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية ، وهي قوله : (وَلا جُنُباً) لا بالحال الأولى ، وهي قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) فيصير المعنى : لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا
حال السفر ، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس ، وابن
جبير ، ومجاهد ، والحكم ، وغيرهم ، قالوا : لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب
إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في
الحضر ، فإن الغالب أنه لا يعدم. وقال ابن مسعود ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن
دينار ، ومالك ، والشافعي : عابر السبيل : هو المجتاز في المسجد ، وهو مرويّ عن
ابن عباس ، فيكون معنى الآية على هذا : لا تقربوا مواضع الصلاة : وهي المساجد في
حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب ، وفي القول الأول قوّة
من جهة كون الصلاة فيه باقية عند عدم الماء بالتيمم ، فإن هذا الحكم يكون في
الحاضر إذا عدم الماء ، كما يكون في المسافر ، وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم
التكلف في معنى قوله : (إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ) وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها ، وبالجملة فالحال
الأولى ، أعني قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير
مضاف ، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك. وقوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يقوّي تقدير المضاف : أي لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن
أن يقال : إن بعض قيود النهي أعني : (لا تَقْرَبُوا) وهو قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود
النهي وهو قوله : (إِلَّا عابِرِي
سَبِيلٍ) يدل على أن المراد : مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار
كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه ، ويكون ذلك عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين
مقيد كل واحد منهما بقيد ، وهما : لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان
وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد
من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا : أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ،
وهو جائز بتأويل مشهور. وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين : والأولى قول من قال : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا
عدم الماء ، وهو جنب في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ
لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فكان معلوما بذلك ، أي : أن قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ
حَتَّى تَغْتَسِلُوا) لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى
سَفَرٍ) معنى مفهوم. وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك ، فإذا كان ذلك
كذلك فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها
وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري
__________________
سبيل. قال : والعابر السبيل : المجتاز مرّا وقطعا ، يقال منه : عبرت هذا
الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا ، ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ؛
ومنه قيل للناقة القوية : هي عبر أسفار ، لقوّتها على قطع الأسفار. قال ابن كثير :
وهذا الذي نصره ، يعني : ابن جرير ، هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية. انتهى.
قوله : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة.
والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل. قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) المرض : عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال والاعتياد
إلى الاعوجاج والشذوذ ، وهو على ضربين كثير ويسير. والمراد هنا : أن يخاف على نفسه
التلف أو الضرر باستعمال الماء ، أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى
موضع الماء. وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات ، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ) وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ) قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر ، والخلاف
مبسوط في كتب الفقه ، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر ، وقال
قوم : لا بد من ذلك ، وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر. واختلفوا في
الحاضر ، فذهب مالك ، وأصحابه ، وأبو حنيفة ، ومحمد : إلى أنه يجوز في الحضر
والسفر. وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. قوله :
(أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) هو المكان المنخفض ، والمجيء منه : كناية عن الحدث ،
والجمع : الغيطان والأغواط ، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة
تسترا عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا ، ويدخل في
الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء. قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) قرأ نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : (لامَسْتُمُ) وقرأ حمزة ، والكسائي : لمستم قيل : المراد بها بما في
القراءتين : الجماع ؛ وقيل : المراد به : مطلق المباشرة ؛ وقيل : إنه يجمع الأمرين
جميعا. وقال محمد بن يزيد المبرد : الأولى في اللغة أن يكون (لامَسْتُمُ) بمعنى قبلتم ونحوه ، ولمستم بمعنى غشيتم.
واختلف العلماء
في معنى ذلك على أقوال ، فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع ،
قالوا : والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقد
روي هذا عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود. قال ابن عبد البر : لم يقل بقولهما في هذه
المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي ، وحملة الآثار. انتهى. وأيضا :
الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله ، كحديث عمار ، وعمران بن حصين ، وأبي ذرّ في تيمم
الجنب. وقال طائفة : هو الجماع كما في قوله : (ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ، وقوله : (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) وهو مرويّ عن عليّ ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد
، وطاوس ، والحسن ، وعبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، ومقاتل بن
حبان ، وأبي حنيفة. وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا
التذّ ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء ، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي : إذا
أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو غيرها من أعضاء الجسد
انتقضت به الطهارة وإلا فلا. وحكاه القرطبي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ،
__________________
وربيعة. وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير
اليد لم ينقضه لقوله تعالى : (فَلَمَسُوهُ
بِأَيْدِيهِمْ) وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن
الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه ، وليس الأمر كذلك. فقد اختلفت
الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية ، وعلى فرض أنها ظاهرة في
الجماع ، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا
شك ولا شبهة ، ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل. وهذا الحكم تعمّ به البلوى
ويثبت به التكليف العامّ ، فلا يحل إثباته بمحتمل قط ، وقد وقع النزاع في مفهومه.
وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء ،
فكان الجنب داخلا في الآية بهذا الدليل ، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك.
وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول
به استدلالا بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال. وأما ما استدلوا به : من أنه صلىاللهعليهوسلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي
امرأة لا يعرفها؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم
يجامعها ، فأنزل الله (أَقِمِ الصَّلاةَ
طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ). وأخرجه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من حديث معاذ ،
قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها ، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا
الحديث على محمل النزاع ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله
سبحانه في هذه الآية ، إذ لا صلاة إلا بوضوء. وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية
ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه ، وإذا عرفت هذا ، فالأصل : البراءة عن هذا الحكم ،
فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة. وأيضا قد ثبت عن
عائشة من طرق أنها قالت : «كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يتوضأ ثم يقبّل ، ثم يصلّي ولا يتوضأ». وقد روي هذه
الحديث بألفاظ مختلفة ، ورواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن
ماجة ، وما قيل : من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة ، عن عائشة ولم يسمع
من عروة ، فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، ورواه
ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة ، ورواه أحمد أيضا ، وأبو داود ، والنسائي
من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ، ورواه أيضا ابن جرير من
حديث أم سلمة ، ورواه أيضا من حديث زينب السهمية. ولفظ حديث أم سلمة : «أنّ النبيّ
صلىاللهعليهوسلم كان يقبّل ثم يصلّي ولا يتوضأ». ورواه أحمد عن زينب
السهمية عن عائشة. قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور
بعد الشرط ، وهو المرض ، والسفر ، والمجيء من الغائط ، وملامسة النساء ، كان فيه
دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوّغان التيمم ، بل لا بد مع وجود أحد
السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولا يجوز
للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا
لم يجد الماء تيمم ، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، فلا بد من
فائدة في التنصيص على المرض والسفر ؛ فقيل : وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة
للعجز عن الوصول إلى الماء ، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب ، وإن كان راجعا
إلى الصورتين الأخيرتين ، أعني : قوله :
(أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال ، وهو أن من صدق
عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم ، وإن كان واجدا للماء قادرا على
استعماله ، وقد قيل : إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأوّلين
لندرة وقوعه فيهما. وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد. وقال مالك ومن تابعه
: ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف
الحاضر ، فإن الغالب وجوده ، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه. انتهى. والظاهر أن
المرض بمجرّده مسوّغ للتيمم ، وإن كان الماء موجودا إذا كان يتضرّر باستعماله في
الحال أو في المآل ، ولا تعتبر خشية التلف ، فالله سبحانه يقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) ويقول : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، والنبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «الدين يسر» ويقول : «يسّروا ولا تعسّروا» وقال
: «قتلوه قتلهم الله» ويقول : «أمرت بالشريعة السّمحة» فإذا قلنا : إن قيد عدم
وجود الماء راجع إلى الجميع ، كان وجه التنصيص على المرض : هو أنه يجوز له التيمم
والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه ، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا
كان استعماله لا يضرّه ، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون
مظنة لعجزه عن الطلب ، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف. وأما وجه التنصيص على المسافر
فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض. قوله : (فَتَيَمَّمُوا) التيمم لغة : القصد ، يقال : تيممت الشيء : قصدته ،
وتيممت الصعيد : تعمدته ، وتيممته بسهمي ورمحي : قصدته دون من سواه ، وأنشد الخليل
:
يمّمته
الرّمح شزرا ثمّ قلت له
|
|
هذي البسالة
لا لعب الزّحاليق
|
وقال امرؤ
القيس :
تيمّمتها من
أذرعات وأهلها
|
|
بيثرب أدنى
دارها نظر عالي
|
وقال :
تيمّمت العين
التي عند ضارج
|
|
يفيء عليها
الظّلّ عرمضها طامي
|
قال ابن السكيت
: قوله : (فَتَيَمَّمُوا) أي : اقصدوا ، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار
التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل :
معناه : قد مسح التراب على وجهه ، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي ،
فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين ، وإنما هو معنى شرعي فقط ،
وظاهر الأمر الوجوب ، وهو مجمع على ذلك. والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وتفاصيل
التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة ، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه ،
قوله : (صَعِيداً) الصعيد : وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن ،
قاله الخليل ، وابن الأعرابي ، والزجاج. قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل
اللغة ، قال الله تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً
__________________
جُرُزاً) أي : أرضا غليظة لا تنبت شيئا ، وقال تعالى : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) وقال ذو الرمة :
كأنّه
بالضّحى تزمي الصّعيد به
|
|
دبّابة في
عظام الرّأس خرطوم
|
وإنما سمى
صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد : صعدات.
وقد اختلف أهل
العلم فيما يجزئ التيمم به ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والطبري : إنه
يجزئ بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة ، وحملوا قوله : (طَيِّباً) على الطاهر الذي ليس بنجس. وقال الشافعي ، وأحمد ،
وأصحابهما : إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : (صَعِيداً زَلَقاً) أي : ترابا أملس طيبا ، وكذلك استدلوا بقوله : (طَيِّباً) قالوا : والطيب : التراب الذي ينبت. وقد تنوزع في معنى
الطيب ، فقيل : الطاهر كما تقدم ؛ وقيل : المنبت كما هنا ؛ وقيل : الحلال.
والمحتمل لا تقوم به حجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب
العزيز ، لكان الحق ما قاله الأوّلون ، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن
اليمان قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضلنا الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ،
وجعلت لنا الأرض كلّها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» وفي لفظ
: «وجعل ترابها لنا طهورا» فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية ، أو مخصص
لعمومه ، أو مقيد لإطلاقه ، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل : تيمم
بالصعيد ، أي : أخذ من غباره. انتهى ، والحجر الصلد لا غبار له. قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ
وَأَيْدِيكُمْ) هذا المسح مطلق ، يتناول المسح بضربة أو ضربتين ،
ويتناول المسح إلى المرفقين ، أو إلى الرسغين ، وقد بينته السنة بيانا شافيا ، وقد
جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين ، وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى
المرفقين ، في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا غَفُوراً) أي : عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ، ورحمكم بالترخيص لكم
والتوسعة عليكم.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، والضياء في المختارة عن عليّ بن أبي طالب قال :
صنع لنا عبد الرحمن ابن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا ،
وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما
تعبدون ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا
ما تَقُولُونَ) وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه : أن الذي صلّى به
عبد الرحمن. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أبي بكر ، وعمر ،
وعليّ ، وعبد الرحمن بن ابن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا ،
وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت :
__________________
الكافرون حتى ختمها فقال : ليس لي دين وليس لكم دين ، فنزلت. وأخرج عبد بن
حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في هذه الآية قال : نسختها
(إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ) الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر ، إنما عنى بها سكر
النوم. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : (وَأَنْتُمْ سُكارى) قال : النعاس. وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة في
المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن
عليّ. قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا
عابِرِي سَبِيلٍ) قال : نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي. وفي
لفظ قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء ،
فيتيمم ، ويصلي حتى يجد الماء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس في
الآية يقول : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء
فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : لا يمرّ الجنب ولا الحائض
في المسجد ، إنما أنزلت : (وَلا جُنُباً إِلَّا
عابِرِي سَبِيلٍ) للمسافر يتيمم ثم يصلي. وأخرج الدارقطني ، والطبراني ،
وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة عن
الأسلع ابن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقته وأنا جنب ، وخشيت أن
أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت
أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، فقال : يا أسلع! ما لي أرى راحلتك تغيرت؟ قلت
: يا رسول الله! لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : ولم؟ قلت : إني أصابتني
جنابة فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء
فاغتسلت به ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا
عابِرِي سَبِيلٍ). وأخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني
، والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال : كنت أخدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم وأرحل له ، فقال لي ذات ليلة : يا أسلع! قم فأرحل لي»
قلت : يا رسول الله! أصابتني جنابة ، فسكت عنّي ساعة ، حتّى جاء جبريل بآية
الصّعيد ، فقال : «قم يا أسلع فتيمّم» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء
الخراساني عن ابن عباس (لا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ) قال : المساجد. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي من طريق عطاء الخراساني عنه : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال
: تمر به مرّا ولا تجلس. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج عبد الرزاق ،
والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه ، ثم قرأ
قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا
عابِرِي سَبِيلٍ). وأخرج البيهقي عن أنس نحوه. وأخرج سعيد بن منصور ،
وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي عن جابر قال : كان أحدنا يمرّ في المسجد وهو
جنب مجتازا. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن
يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكر ذلك له فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة
، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن
__________________
أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى) قال : هو الرجل المجدور ، أو به الجراح ، أو القرح ،
يجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فيتيمم. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : نال
أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم جراح ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت : (وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضى) الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي
من طرق عن ابن مسعود في قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) قال : اللمس : ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيه
الوضوء. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن ابن عمر : أنه كان يتوضأ من قبلة
المرأة ، ويقول هي اللماس. وأخرج الدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن عمر قال : إن
القبلة من اللمس فتوضأ منها. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر عن علي قال : اللمس هو الجماع ولكن الله كنى عنه. وأخرج سعيد بن منصور
، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال :
كنا في حجرة ابن عباس ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي وعبيد بن عمير ونفر
من العرب فتذاكرنا اللمس ، فقلت أنا وعطاء والموالي : اللمس باليد ، وقال عبيد بن
عمير والعرب : هو الجماع ، فدخلت على ابن عباس فأخبرته فقال : غلبت الموالي وأصابت
العرب ، ثم قال : إن اللمس والمسّ والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. وأخرج سعيد بن منصور
، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه
، عن ابن عباس قال : إن أطيب الصعيد أرض الحرث.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ
أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ
قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا
مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى
أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ
اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما
دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً
عَظِيماً (٤٨))
قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كلام مستأنف ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين.
والنصيب : الحظّ ، والمراد : اليهود أوتوا نصيبا من التوراة. وقوله : (يَشْتَرُونَ) جملة حالية ، والمراد بالاشتراء : الاستبدال ، وقد تقدم
تحقيق معناه. والمعنى : أن اليهود استبدلوا الضلالة ، وهي البقاء على اليهودية بعد
وضوح الحجة على صحة نبوّة نبينا صلىاللهعليهوسلم قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ
تَضِلُّوا السَّبِيلَ)
__________________
عطف على قوله : (يَشْتَرُونَ) مشارك له في بيان سوء صنيعهم ، وضعف اختيارهم ، أي : لم
يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى ، بل أرادوا مع ضلالهم : أن
يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو
سبيل الحق ، (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِأَعْدائِكُمْ) أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال ، والجملة
اعتراضية ، (وَكَفى بِاللهِ
وَلِيًّا) لكم (وَكَفى بِاللهِ
نَصِيراً) ينصركم في مواطن الحرب ، فاكتفوا بولايته ونصره ، ولا
تتولوا غيره ؛ ولا تستنصروه ، والباء في قوله : (بِاللهِ) في الموضعين : زائدة. قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قال الزجاج : إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله
: (نَصِيراً) وإن جعلت منقطعة ، فيجوز الوقف على نصيرا ، والتقدير :
من الذين هادوا قوم يحرّفون ، ثم حذف ، وهذا مذهب سيبويه ، ومثله قول الشاعر :
لو قلت ما في
قومها لم أيثم
|
|
يفضلها في
حسب وميسم
|
قالوا : المعنى
: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ، ثم حذف. وقال الفراء : المحذوف لفظ من ، أي : من
الذين هادوا من يحرّفون الكلم كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي من له ، ومنه قول ذي الرمة :
فظلّوا ومنهم
دمعه سابق له
|
|
وآخر يذري
عبرة العين بالهمل
|
أي : من دمعه ،
وأنكره المبرّد والزجاج ، لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة ؛ وقيل : إن قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بيان لقوله : (الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ). والتحريف : الإمالة والإزالة ، أي : يميلونه ،
ويزيلونه عن مواضعه ، ويجعلون مكانه غيره ؛ أو المراد : أنهم يتأوّلونه على غير
تأويله ، وذمهم الله عزوجل بذلك ، لأنهم يفعلونه عنادا وبغيا ، وتأثيرا لغرض
الدنيا. قوله : (وَيَقُولُونَ
سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي : اسمع حال كونك غير مسمع. وهو يحتمل أن يكون دعاء
على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ؛ والمعنى : اسمع لا سمعت ، ويحتمل أن يكون المعنى :
اسمع غير مسمع مكروها ، أو اسمع غير مسمع جوابا. وقد تقدم الكلام في راعنا. ومعنى
: (لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ) : أنهم يلوونها عن الحق ، أي : يميلونها إلى ما في
قلوبهم ، وأصل اللّي : القتل ، وهو منتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا
لأجله. قوله : (وَطَعْناً فِي
الدِّينِ) معطوف على ليا ، أي : يطعنون في الدين بقولهم : لو كان
نبيا لعلم أنا نسبه ، فأطلع الله سبحانه نبيه صلىاللهعليهوسلم على ذلك (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا
سَمِعْنا) قولك : (وَأَطَعْنا) أمرك (وَاسْمَعْ) ما نقول (وَانْظُرْنا) أي : لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما قالوه ، (وَأَقْوَمَ) أي : أعدل وأولى من قولهم الأوّل ، وهو قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ وَراعِنا) لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب ، واحتمال الذم في
راعنا ، (وَلكِنْ) لم يسلكوا المسلك الحسن ، ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم
، ولهذا : (لَعَنَهُمُ اللهُ
بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إلا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض
، وببعض الرسل دون بعض. قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ذكر
__________________
سبحانه أوّلا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب.
والمراد : أنهم أوتوا نصيبا منه ، لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه ، بل حرّفوا
وبدّلوا. وقوله : (مُصَدِّقاً) منتصب على الحال. والطمس : استئصال أثر الشيء ، ومنه (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) يقال : نطمس بكسر الميم وضمها : لغتان في المستقبل ،
ويقال : طمس الأثر ، أي : محاه كله ، ومنه (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ) أي : أهلكها ويقال : هو مطموس البصر ، ومنه (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى
أَعْيُنِهِمْ) أي : أعميناهم.
واختلف العلماء
في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم
والحاجب والعين ؛ أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى
الأوّل طائفة ، وذهب إلى الآخر آخرون ، وعلى الأوّل فالمراد بقوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) نجعلها قفا ، أي : نذهب بآثار الوجه ، وتخطيطه ، حتى
يصير على هيئة القفا ؛ وقيل : إنه بعد الطمس يردّها إلى موضع القفا ، والقفا إلى
مواضعها ، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله : (فَنَرُدَّها عَلى
أَدْبارِها) فإن قيل : كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا
ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين.
وقال المبرد : الوعيد باق منتظر ، وقال : لا بدّ من طمس في اليهود ، ومسخ قبل يوم
القيامة. قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ
كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه ، قيل : المراد باللعن
هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت ، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة
وخنازير ؛ وقيل : المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان. والمراد وقوع أحد
الأمرين : إما الطمس ، أو اللعن. وقد وقع اللعن ، ولكنه يقوّي الأوّل تشبيه هذا
اللعن بلعن أهل السبت. قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) أي : كائنا موجودا لا محالة ، أو يراد بالأمر المأمور.
والمعنى : أنه متى أراده كان ، كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . قوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم
، ولا يختص بكفار أهل الحرب ، لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى :
المسيح ابن الله ، وقالوا : ثالث ثلاثة. لا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات
على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما
تقتضيه مشيئته ؛ وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة ، يغفر
لمن يشاء ويعذب من يشاء. قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في
مشيئة الله عزوجل ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ، ما لم تكن كبيرته شركا
بالله عزوجل. وظاهره : أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته
مشيئته تفضلا منه ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة
بالتوبة. وقد تقدّم قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) وهي تدل : على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب
الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته.
وقد أخرج ابن
إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن
عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، إذا كلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم لوى لسانه وقال : أرعنا
__________________
سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) يعني : يحرفون حدود الله في التوراة. وأخرج عبد بن حميد
، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) قال : تبديل اليهود التوراة (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) قالوا : سمعنا ما تقول ولا نطيعك (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) قال : غير مقبول ما تقول (لَيًّا
بِأَلْسِنَتِهِمْ) قال : خلافا يلوون به ألسنتهم (وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) قال : أفهمنا لا تعجل علينا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم ، والطبراني عن ابن عباس في قوله : (وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ) قال : يقولون اسمع لا سمعت. وأخرج ابن إسحاق ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كلم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم رؤساء من أحبار اليهود ، منهم : عبد الله بن صوريا ،
وكعب بن أسد ، فقال لهم : يا معشر اليهود! اتقوا الله وأسلموا ، فو الله إنكم
لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق. فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد! وأنزل الله فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق
العوفي عن ابن عباس في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَطْمِسَ وُجُوهاً) قال : طمسها أن تعمى (فَنَرُدَّها عَلى
أَدْبارِها) يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ،
ونجعل لأحدهم عينين في قفاه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَطْمِسَ وُجُوهاً) يقول : عن صراط الحق (فَنَرُدَّها عَلى
أَدْبارِها) قال : في الضلالة. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال
: جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : وما
دينه؟ قال : يصلي ويوحد الله ، قال : استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه ، فطلب
الرجل منه ذلك فأبى عليه ، فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا على دينه ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) الآية. وأخرج ابن الضريس ، وأبو المنذر ، وابن عديّ
بسند صحيح عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من
نبينا صلىاللهعليهوسلم (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وقال : «إنّي ادّخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من
أمّتي ، فأمسكنا عن كثير ممّا كان في أنفسنا». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن
ابن عرم قال : لما نزلت (يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)
الآية قام رجل فقال : والشرك يا نبيّ الله؟ فكره ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل
هو سبب نزول : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس
قال في هذه الآية : إن الله حرّم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد
إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة. وأخرج الترمذي ، وحسنه عن علي قال : أحبّ آية
إليّ في القرآن (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا
يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ
وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ
__________________
وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً
(٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ
النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ
مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ
وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))
قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ) تعجيب من حالهم. وقد اتفق المفسرون على أن المراد : اليهود.
واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ، فقال الحسن وقتادة : هو قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وقال الضحاك : هو قولهم : لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال ؛
وقيل : قولهم : إن آباءهم يشفعون لهم ؛ وقيل : ثناء بعضهم على بعض. ومعنى التزكية
: التطهير والتنزيه ، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها ، واللفظ
يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم ، ويدخل في هذا التلقب
بالألقاب المتضمنة للتزكية : كمحيي الدين ، وعز الدين ، ونحوهما. قوله : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي : ذلك إليه سبحانه ، فهو العالم بمن يستحق التزكية
من عباده ومن لا يستحقها ، فليدع العباد تزكية أنفسهم ، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله
سبحانه ، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة ، تحمل عليها محبة النفس ، وطلب
العلوّ ، والترفع والتفاخر ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) . قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ) أي : هؤلاء المزكون لأنفسهم (فَتِيلاً) وهو الخيط الذي في نواة التمر ، وقيل : القشرة التي حول
النواة ؛ وقيل : هو ما يخرج بين إصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ، فهو فتيل
بمعنى مفتول ، والمراد هنا : الكناية عن الشيء الحقير ، ومثله : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) وهو النكتة التي في ظهر النواة. والمعنى : أن هؤلاء
الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب ، ولا يظلمون
بالزيادة على ما يستحقون ، ويجوز أن يعود الضمير إلى (مَنْ يَشاءُ) أي : لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلا مما
يستحقونه من الثواب ، ثم عجب النبي صلىاللهعليهوسلم من تزكيتهم لأنفسهم فقال : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ) في قولهم ذلك. والافتراء : الاختلاق ، ومنه : افترى
فلان على فلان ، أي : رماه بما ليس فيه ، وفريت الشيء : قطعته ، وفي قوله : (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى. قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل وهم اليهود.
واختلف
المفسرون في معنى الجبت : فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية : الجبت : الساحر
بلسان الحبشة. والطاغوت : الكاهن. وروي عن عمر بن الخطاب : أن الجبت : السحر ،
والطاغوت : الشيطان. وروي عن ابن مسعود : أن الجبت والطاغوت هاهنا : كعب بن الأشرف.
وقال قتادة : الجبت : الشيطان ، والطاغوت الكاهن. وروي عن مالك : أن الطاغوت : ما
عبد من دون الله ، والجبت : الشيطان ؛ وقيل :
__________________
هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله. وأصل الجبت : الجبس ، وهو الذي لا خير فيه ، فأبدلت التاء من السين قاله
قطرب ؛ وقيل : الجبت : إبليس ، والطاغوت : أولياؤه. قوله : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل ، وهم اليهود ،
أي : يقول اليهود لكفار قريش : أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلا ، أي : أقوم
دينا ، وأرشد طريقا. وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى القائلين (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
اللهُ) أي : طردهم وأبعدهم من رحمته (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيراً) يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه. قوله : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أم : منقطعة ، والاستفهام للإنكار ، يعني : ليس لهم
نصيب من الملك (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ
النَّاسَ نَقِيراً) والفاء : للسببية الجزائية لشرط محذوف ، أي : إن جعل
لهم نصيب من الملك فإذن لا يعطون الناس نقيرا منه لشدّة بخلهم وقوّة حسدهم ؛ وقيل
: المعنى : بل لهم نصيب من الملك ، على أن معنى أم : الإضراب عن الأوّل والاستئناف
للثاني ؛ وقيل : هي عاطفة على محذوف ، والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته ،
أم لهم نصيب من الملك ، فإذن لا يؤتون الناس نقيرا؟ والنقير : النقرة في ظهر
النواة ؛ وقيل : ما نقر الرجل بإصبعه كما ينقر الأرض. والنقير أيضا : خشبة تنقر
وينبذ فيها. وقد نهى النبي صلىاللهعليهوسلم عن النقير ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، والنقير :
الأصل ، يقال : فلان كريم النقير ، أي : كريم الأصل. والمراد هنا : المعنى الأوّل
، والمقصود به المبالغة في الحقارة ، كالقطمير والفتيل. وإذن هنا : ملغاة غير
عاملة ، لدخول فاء العطف عليها ، ولو نصب لجاز. قال سيبويه : إذن : في عوامل
الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها ،
فإن كانت في أوّل الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت. قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما
آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أم : منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى
توبيخهم بآخر : أي : بل يحسدون الناس ، يعني : اليهود يحسدون النبي صلىاللهعليهوسلم فقط ، أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله
من النبوّة والنصر وقهر الأعداء. قوله : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ) هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه ، أي :
ليس ما آتينا محمدا وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك ، فهم يعلمون
بما آتينا آل إبراهيم ، وهم أسلاف محمد صلىاللهعليهوسلم. وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة. والملك العظيم : قيل
: هو ملك سليمان ، واختاره ابن جرير (فَمِنْهُمْ) أي : اليهود (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي : بالنبي صلىاللهعليهوسلم (وَمِنْهُمْ مَنْ
صَدَّ عَنْهُ) أي : أعرض عنه ؛ وقيل : الضمير في به : راجع إلى ما ذكر
من حديث آل إبراهيم ؛ وقيل : الضمير راجع إلى إبراهيم. والمعنى : فمن آل إبراهيم
من آمن بإبراهيم ، ومنهم من صدّ عنه ؛ وقيل : الضمير يرجع إلى الكتاب ، والأوّل
أولى (وَكَفى بِجَهَنَّمَ
سَعِيراً) أي : نارا مسعرة.
وقد أخرج ابن
جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : إن اليهود قالوا : إن آباءنا قد توفوا وهم
لنا
__________________
قربة عند الله ، وسيشفعون لنا ويزكوننا ، فقال الله لمحمد صلىاللهعليهوسلم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ). وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كانت اليهود يقدّمون
صبيانهم يصلون بهم ، ويقرّبون قربانهم ، ويزعمون : أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ،
وكذبوا. قال الله : إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ، ثم أنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ
أَنْفُسَهُمْ). وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
الحسن : أن التزكية : قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (وَقالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) قال : الفتيل : ما خرج من بين الإصبعين. وفي لفظ آخر
عنه : هو أن تدلك بين إصبعيك ، فما خرج منهما فهو ذلك. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد
بن حميد ، وابن المنذر عنه قال : النقير : النقرة تكون في النواة التي نبتت منها
النخلة. والفتيل : الذي يكون على شق النواة. والقطمير : القشر الذي يكون على
النواة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : قال : الفتيل : الذي في الشق الذي
في بطن النواة. وأخرج الطبراني ، والبيهقي في الدلائل عنه قال : قدم حييّ بن أخطب
، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب
فأخبرونا عنا وعن محمد ، قالوا : ما أنتم وما محمد؟ قالوا : ننحر الكوماء ، ونسقي
اللبن على الماء ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ونصل الأرحام ، قالوا : فما محمد؟
قالوا : صنبور ، أي : فرد ضعيف ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار ؛
فقالوا : لا بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) الآية. وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن عكرمة مرسلا. وقد روي عن ابن عباس ، وعن عكرمة بلفظ آخر. وأخرج نحوه عبد
بن حميد ، وابن جرير عن السدّي عن أبي مالك. وأخرج نحوه أيضا البيهقي في الدلائل ،
وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن عكرمة
قال : الجبت والطاغوت صنمان. وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عمر في تفسير الجبت والطاغوت ما
قدّمناه عنه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت حيي بن أخطب
، والطاغوت : كعب بن الأشرف. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :
الجبت : الأصنام ، والطاغوت : الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا
الناس. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت : اسم الشيطان
بالحبشية ، والطاغوت : كهان العرب. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في
قوله : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ) قال : فليس لهم نصيب ، ولو كان لهن نصيب لم يؤتوا الناس
نقيرا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال :
النقير : النقطة التي في ظهر النواة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق
العوفي عن ابن عباس قال : قال أهل الكتاب : زعم محمد : أنه أوتي ما أوتي في تواضع
وله تسع نسوة وليس له همة إلا النكاح ، فأيّ ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله هذه
الآية (أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ) إلى قوله : (مُلْكاً عَظِيماً) يعني : ملك سليمان. وأخرج عبد بن حميد ،
__________________
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الناس في هذا
الموضع : النبي خاصة. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : هم هذا الحيّ من العرب.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً
حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ
فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))
قوله : (بِآياتِنا) الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض ، و (سَوْفَ) كلمة تذكر للتهديد قال سيبويه : وينوب عنها السين. وقد
تقدّم معنى : نصلي ، في أوّل السورة. والمراد : سوف ندخلهم نارا عظيمة. وقرأ حميد
بن قيس : (نُصْلِيهِمْ) بفتح النون. قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ) يقال : نضج الشيء نضجا ونضاجا ، ونضج اللحم ، وفلان نضج
الرأي : أي : محكمه. والمعنى : أنها كلما احترقت جلودهم بدّلهم الله جلودا غيرها ،
أي : أعطاهم مكان كل جلد محترق جلدا آخر غير محترق ، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص
، لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد
المحترق ، وقيل : المراد بالجلود : السرابيل التي ذكرها في قوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) ولا موجب لترك المعنى الحقيقي هاهنا ، وإن جاز إطلاق
الجلود على السرابيل مجازا كما في قول الشاعر :
كسا اللّوم
تيما خضرة في جلودها
|
|
فويل لتيم من
سرابيلها الخضر
|
وقيل المعنى :
أعدنا الجلد الأوّل جديدا ، ويأبى ذلك معنى التبديل. قوله : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي : ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل ، وقيل :
معناه : ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع ، ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين.
وقد تقدّم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار. قوله : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي : من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا. والظل
الظليل : الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ والسموم ونحو ذلك ؛
وقيل : هو مجموع ظلّ الأشجار والقصور ؛ وقيل : الظلّ الظليل : هو الدائم الذي لا
يزول ، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف : للمبالغة ، كما يقال : ليل أليل.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ) قال : إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلودا بيضاء أمثال
القراطيس. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عنه بسند ضعيف قال : قرئ عند عمر (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) الآية ، فقال معاذ : عندي تفسيرها : تبدّل في ساعة مائة
مرة ، فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأخرجه أبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه : أن القائل
كعب ، وأنه قال : تبدّل في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. وأخرج ابن أبي شيبة عن
ابن مسعود : أن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع
بن أنس في قوله : (ظِلًّا ظَلِيلاً) قال : هو ظل العرش الذي لا يزول.
__________________
(إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))
هذه الآية من
أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع ، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع
الناس في جميع الأمانات ، وقد روي عن علي ، وزيد بن أسلم ، وشهر بن حوشب : أنها
خطاب لولاة المسلمين ، والأوّل أظهر ، وورودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها
من العموم ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما تقرر في الأصول ؛ وتدخل
الولاة في هذا الخطاب دخولا أوّليا ، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ،
وردّ الظلامات ، وتحري العدل في أحكامهم ، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب ، فيجب
عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات ، والتحري في الشهادات والأخبار. وممن قال بعموم
هذا الخطاب : البراء بن عازب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، واختاره
جمهور المفسرين ، ومنهم ابن جرير ، وأجمعوا : على أن الأمانات مردودة إلى أربابها
: الأبرار منهم والفجار ، كما قال ابن المنذر. والأمانات : جمع أمانة ، وهي مصدر
بمعنى المفعول. قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ
بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي : وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
بالعدل. والعدل : هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، لا الحكم بالرأي المجرد ، فإن ذلك ليس من الحق في شيء
، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، فلا بأس
باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه ، وبما هو أقرب إلى الحق عند
عدم وجود النص ، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ، ولا بما هو أقرب
إليهما ، فهو لا يدري ما هو العدل ، لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته ، فضلا عن أن
يحكم بها بين عباد الله. قوله : (نِعِمَّا) ما موصوفة أو موصولة ، وقد قدّمنا البحث في مثل ذلك.
وقد أخرج ابن
مردويه عن ابن عباس : أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما فتح مكة ، وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ،
نزل جبريل عليهالسلام بردّ المفتاح ، فدعا النبي صلىاللهعليهوسلم عثمان بن طلحة وردّه إليه ، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن عساكر عن ابن جريج : أن هذه الآية نزلت في عثمان بن
طلحة لما قبض منه صلىاللهعليهوسلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه. وأخرج سعيد بن منصور ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن أبي شيبة عن علي قال : حق على
الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس
أن يسمعوا له ، وأن يطيعوا ، وأن يجيبوا إذا دعوا. وأخرج أبو داود ، والترمذي ،
والحاكم ، والبيهقي عن أبي هريرة : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك». وقد
ثبت في الصحيح : أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً (٥٩))
لما أمر سبحانه
القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق ، أمر الناس بطاعتهم هاهنا ،
وطاعة الله عزوجل هي : امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله صلىاللهعليهوسلم هي : فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر : هم الأئمة ،
والسلاطين ، والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد
طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية
الله ، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : إن أولي الأمر : هم
أهل القرآن والعلم ، وبه قال مالك والضحاك ، وروي عن مجاهد : أنهم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن كيسان : هم أهل العقل والرأي ، والراجح :
القول الأوّل. قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) المنازعة : المجاذبة ، والنزع : الجذب ، كأن كل واحد
ينتزع حجة الآخر ويجذبها ، والمراد : الاختلاف والمجادلة ، وظاهر قوله : (فِي شَيْءٍ) يتناول أمور الدين والدنيا ، ولكنه لما قال : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون
أمور الدنيا ، والردّ إلى الله : هو الردّ إلى كتابه العزيز ، والردّ إلى الرسول :
هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته ، وأما في حياته فالردّ إليه : سؤاله ، هذا
معنى الرد إليهما ؛ وقيل : معنى الردّ : أن يقولوا : الله أعلم ، وهو قول ساقط ،
وتفسير بارد ، وليس الردّ في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) قوله : (إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيه دليل : على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين ،
وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الردّ المأمور به (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) أي : مرجعا ، من الأوّل : آل ، يؤول إلى كذا ، أي : صار
إليه ؛ والمعنى : أن ذلك الردّ خير لكم وأحسن مرجعا ترجعون إليه. ويجوز أن يكون
المعنى : أن الردّ أحسن تأويلا من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدّي ، إذ
بعثه النبي صلىاللهعليهوسلم في سرية ، وقصته معروفة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير
، وابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال : طاعة الله والرسول : اتباع الكتاب والسنة (وَأُولِي الْأَمْرِ) قال : أولي الفقه والعلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن
أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة.
قال : (وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) هم الأمراء ، وفي لفظ : هم أمراء السرايا. وأخرج ابن
أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والحاكم ، وصححه عن جابر بن عبد الله في قوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : أهل العلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن أبي
العالية نحوه أيضا. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) قال : إلى كتاب الله وسنة رسوله. ثم قرأ : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ميمون بن مهران في
الآية قال : الردّ
__________________
إلى الله : الردّ إلى كتابه ، والردّ إلى رسوله ما دام حيا ، فإذا قبض فإلى
سنته. وأخرج ابن جرير عن قتادة والسدي مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن
قتادة في قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) يقول : ذلك أحسن ثوابا وخير عاقبة. وأخرج عبد بن حميد ،
وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) قال : وأحسن جزاء. وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة
الأمراء ، ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف ، وأنه لا
طاعة في معصية الله.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً
(٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا
أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ
فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ
لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ
تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))
قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ) فيه تعجيب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين
الإيمان بما أنزل على رسول الله ـ وهو القرآن ـ وما أنزل على من قبله من الأنبياء
، فجاؤوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ، ويبطلها من أصلها ، ويوضح أنهم ليسوا على
شيء من ذلك أصلا ، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ، وقد أمروا فيما أنزل على
رسول الله ، وعلى من قبله ، أن يكفروا به ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يتضح
معناها. وقد تقدّم تفسير الطاغوت ، والاختلاف في معناه. قوله : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ) معطوف على قوله : (يُرِيدُونَ) والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب ، كأنه قيل : ما ذا
يفعلون؟ فقيل : يريدون كذا ، ويريد الشيطان كذا. وقوله : (ضَلالاً) مصدر لفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَباتاً) أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور ، والتقدير
: ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالا. والصدود : اسم للمصدر ، وهو الصدّ عند
الخليل ، وعند الكوفيين : أنهما مصدران ، أي : يعرضون عنك إعراضا. قوله : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بيان لعاقبة أمرهم وما صار إليه حالهم ، أي : كيف يكون
حالهم (إِذا أَصابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ)؟ أي : وقت إصابتهم ، فإنهم يعجزون عند ذلك ، ولا يقدرون
على الدفع. والمراد : (بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها : التحاكم إلى
الطاغوت ، (ثُمَّ جاؤُكَ) يعتذرون عن فعلهم ، وهو عطف على (أَصابَتْهُمْ) وقوله : (يَحْلِفُونَ) حال : أي : جاءوك حال كونهم حالفين (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا
__________________
إِحْساناً
وَتَوْفِيقاً)
أي : ما أردنا
بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة ، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك.
وقال ابن كيسان : معناه : ما أردنا إلا عدلا وحقا ، مثل قوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا
الْحُسْنى) فكذبهم الله بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق والعداوة للحق. قال الزجاج : معناه : قد علم
الله أنهم منافقون (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : عن عقابهم ، وقيل : عن قبول اعتذارهم (وَعِظْهُمْ) أي : خوفهم من النفاق (وَقُلْ لَهُمْ فِي
أَنْفُسِهِمْ) أي : في حق أنفسهم. وقيل : معناه : قل لهم خاليا بهم
ليس معهم غيرهم (قَوْلاً بَلِيغاً) أي : بالغا في وعظهم إلى المقصود ، مؤثرا فيهم ، وذلك
بأن توعدهم بسفك دمائهم ، وسبي نسائهم ، وسلب أموالهم. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ مِنْ) زائدة للتوكيد (إِلَّا لِيُطاعَ) فيما أمر به ونهى عنه (بِإِذْنِ اللهِ) بعلمه ، وقيل : بتوفيقه ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك (جاؤُكَ) متوسلين إليك ، متنصلين عن جناياتهم ومخالفتهم (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) لذنوبهم ، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعا لهم فاستغفرت لهم
، وإنما قال : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ) على طريقة الالتفات ، لقصد التفخيم لشأن الرسول صلىاللهعليهوسلم (لَوَجَدُوا اللهَ
تَوَّاباً رَحِيماً) أي : كثير التوبة عليهم ، والرحمة لهم. قوله : (فَلا وَرَبِّكَ) قال ابن جرير : (فَلا) رد على ما تقدم ذكره ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون
أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، ثم استأنف القسم بقوله : (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) وقيل : إنه قدّم «لا» على القسم اهتماما بالنفي ،
وإظهارا لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيدا ؛ وقيل : لا : مزيدة لتأكيد معنى القسم
لا لتأكيد معنى النفي ، والتقدير : فوربك لا يؤمنون ، كما في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي : يجعلوك حكما بينهم في جميع أمورهم ، لا يحكمون
أحدا غيرك ؛ وقيل : معناه : يتحاكمون إليك ، ولا ملجئ لذلك (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي : اختلف بينهم واختلط ، ومنه : الشجر لاختلاف أغصانه
، ومنه قول طرفة :
وهم الحكّام
أرباب الهدى
|
|
وسعاة النّاس
في الأمر الشّجر
|
أي : المختلف ،
ومنه : تشاجر الرماح ، أي : اختلافها (ثُمَّ لا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) قيل : هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام ، أي :
فتقضي بينهم ثم لا يجدوا. والحرج : الضيق : وقيل : الشك ، ومنه قيل للشجر الملتفّ
: حرج ، وحرجة ، وجمعها : حراج ؛ وقيل : الحرج : الإثم ، أي : لا يجدون في أنفسهم
إثما بإنكارهم ما قضيت (وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً) أي : ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء.
قال الزجاج : (تَسْلِيماً) مصدر مؤكد ، أي : ويسلمون لحكمك تسليما لا يدخلون على
أنفسهم شكا ولا شبهة فيه. والظاهر : أن هذا شامل لكل فرد من كل حكم ، كما يؤيد ذلك
قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) فلا يختص بالمقصودين بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ) وهذا في حياته صلىاللهعليهوسلم ، وأما بعد موته : فتحكيم الكتاب والسنة. وتحكيم الحاكم
بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في
الكتاب والسنة ، أو في أحدهما ، وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة ،
بأن يكون عالما باللغة العربية ، وما يتعلق بها : من نحو ، وتصريف ،
__________________
ومعاني ، وبيان ، عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيرا بالسنة
المطهرة ، مميزا بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفا غير متعصب
لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل. ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه ، فمن كان
هكذا فهو قائم في مقام النبوّة ، مترجم عنها ، حاكم بأحكامها ، وفي هذا الوعيد
الشديد : ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة. فإنه أوّلا أقسم سبحانه بنفسه ،
مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون ، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال
صالحي عباد الله ، حتى تحصل لهم غاية ، هي : تحكيم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) فضم إلى التحكيم أمرا آخر ، هو عدم وجود حرج ، أيّ حرج
، في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن
رضا ، واطمئنان ، وانثلاج قلب ، وطيب نفس ، ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضمّ إليه
قوله : (وَيُسَلِّمُوا) أي : يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ، ثم لم يكتف بذلك ،
بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال : (تَسْلِيماً) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ، ولا
يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ، ويسلم لحكم الله وشرعه ، تسليما لا يخالطه ردّ
ولا تشوبه مخالفة.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم ، والطبراني بسند ، قال السيوطي : صحيح عن ابن عباس ، قال : كان أبو برزة
الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ،
فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية ، وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عنه قال : كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ، ومعقب بن قشير ، ورافع بن زيد ، كانوا
يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فدعوهم إلى الكهان ، حكام الجاهلية ، فنزلت الآية
المذكورة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى
الطَّاغُوتِ) قال : الطاغوت : رجل من اليهود كان يقال له كعب بن
الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل
نحاكمكم إلى كعب ، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج البخاري ،
ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير خاصم رجلا من
الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلىاللهعليهوسلم ، إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في شراج من الحرّة ، وكانا يسقيان به كلاهما النخل.
فقال الأنصاري سرح الماء يمرّ ، فأبى عليه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب
الأنصاري وقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر
، ثم أرسل الماء إلى جارك ، واستوعى رسول الله صلىاللهعليهوسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له
وللأنصاري ، فلما أحفظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، استوعى للزبير حقه في صريح الحكم ، فقال الزبير : ما
أحسب هذه الآية نزلت إلّا في ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ). وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن
__________________
مردويه من طريق ابن لهيعة عن الأسود : أن سبب نزول الآية : أنه اختصم إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجلان فقضى بينهما ، فقال المقضيّ عليه : ردنا إلى عمر
، فردهما ، فقتل عمر الذي قال ردّنا ، ونزلت الآية ، فأهدر النبي صلىاللهعليهوسلم دم المقتول. وأخرجه الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول
فذكر نحوه ، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقا ، وهما مرسلان ، والقصة غريبة ،
وابن لهيعة فيه ضعف.
(وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ
ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ
بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ
لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ
يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))
(لَوْ) : حرف امتناع ، وأن : مصدرية ، أو تفسيرية ، لأن (كَتَبْنا) في معنى : أمرنا. والمعنى : أن الله سبحانه لو كتب
القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلّا القليل منهم
، أو : لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلّا القليل منهم ، والضمير في قوله : (فَعَلُوهُ) راجع إلى المكتوب الذي دلّ عليه كتبنا ، أو إلى القتل
والخروج المدلول عليهما بالفعلين ، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدّمنا وجهه. قوله
: (إِلَّا قَلِيلٌ) قرأه الجمهور : بالرفع على البدل. وقرأ عبد الله بن
عامر ، وعيسى بن عمر : إلا قليلا : بالنصب على الاستثناء ، وكذا هو في مصاحف أهل
الشام ، والرفع أجود عند النحاة. قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم (لَكانَ) ذلك (خَيْراً لَهُمْ) في الدنيا والآخرة ، (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لأقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم (وَإِذاً) أي : وقت فعلهم لما يوعظون به (لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً
عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) لا عوج فيه ، ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما
أمر به ، وانقاد لمن يدعوه إلى الحق. قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ) كلام مستأنف ، لبيان فضل طاعة الله والرسول ، والإشارة
بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى المطيعين ، كما تفيده من (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ
عَلَيْهِمْ) بدخول الجنة ، والوصول إلى ما أعدّ الله لهم. والصدّيق
: المبالغ في الصدق ، كما تفيده الصيغة ؛ وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء.
والشهداء : من ثبتت لهم الشهادة ، والصالحين : أهل الأعمال الصالحة. والرفيق :
مأخوذ من الرفق ، وهو لين الجانب ، والمراد به المصاحب ، لارتفاقك بصحبته ، ومنه :
الرفقة ، لارتفاق بعضهم ببعض ، وهو منتصب على التمييز أو الحال ، كما قال الأخفش.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ
اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هم يهود ، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سفيان : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي نحوه. وقد روي من طرق : أن جماعة من
الصحابة قالوا لما نزلت الآية : لو فعل ربنا لفعلنا. أخرجه ابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن. وأخرجه ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله
بن الزبير. وأخرجه أيضا عن شريح بن عبيد. وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، وأبو
نعيم في الحلية ، والضياء المقدسي في صفة الجنة ، وحسنه ، عن عائشة قالت : جاء رجل
إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله! إنك لأحب إليّ من نفسي ، وإنك
لأحب إليّ من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك ،
وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإني إذا دخلت
الجنة خشيت أن لا أراك ، فلم يردّ عليه النبيّ صلىاللهعليهوسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) الآية. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً
(٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ
قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ
أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
(٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا
بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها
وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً
(٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ
كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))
قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا خطاب لخلص المؤمنين ، وأمر لهم بجهاد الكفار ،
والخروج في سبيل الله ، والحذر والحذر لغتان ، كالمثل والمثل. قال الفراء : أكثر
الكلام الحذر ، والحذر مسموع أيضا. يقال : خذ حذرك ، أي : احذر ؛ وقيل : معنى
الآية : الأمر لهم بأخذ السلاح حذرا ، لأن به الحذر. قوله : (فَانْفِرُوا) نفر ، ينفر ، بكسر الفاء ، نفيرا ، ونفرت الدابة ، تنفر
، بضم الفاء ، نفورا. والمعنى : انهضوا لقتال العدوّ. أو النفير : اسم للقوم الذين
ينفرون ، وأصله : من النفار والنفور ، وهو الفزع ، ومنه قوله تعالى : (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) أي : نافرين. قوله : (ثُباتٍ) جمع ثبة : أي جماعة ، والمعنى : انفروا جماعات متفرقات.
قوله : (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي : مجتمعين جيشا واحدا. ومعنى الآية : الأمر لهم بأن
ينفروا على أحد الوصفين ، ليكون ذلك أشدّ على عدوّهم ، وليأمنوا من أن يتخطفهم
الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده ، أو نحو ذلك ؛ وقيل : إن هذه الآية منسوخة
بقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً) وبقوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ) والصّحيح : أن الآيتين جميعا محكمتان : إحداهما : في
الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع ، والأخرى : عند الاكتفاء بنفور البعض دون
البعض. قوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) التبطئة والإبطاء : التأخر ، والمراد : المنافقون كانوا
يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم. والمعنى : أن من دخلائكم وجنسكم ، ومن أظهر
إيمانه لكم نفاقا ، من يبطئ المؤمنين ويثبطهم. واللام في قوله : (لَمَنْ)
__________________
لام توكيد. وفي قوله : (لَيُبَطِّئَنَ) لام جواب القسم ، و «من» في موضع نصب ، وصلتها :
الجملة. وقرأ مجاهد ، والنخعي ، والكلبي (لَيُبَطِّئَنَ) بالتخفيف (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةٌ) من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال. قال هذا المنافق : قد
أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ
فَضْلٌ مِنَ اللهِ) غنيمة أو فتح (لَيَقُولَنَ) هذا المنافق قول نادم حاسد : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ
فَوْزاً عَظِيماً). قوله : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جملة معترضة بين الفعل الذي هو ليقولن وبين مفعوله ،
وهو : (يا لَيْتَنِي) وقيل : إن في الكلام تقديما وتأخيرا ـ وقيل : المعنى :
ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة ، أي : كأن لم يعاقدكم على الجهاد ؛ وقيل :
هو في موضع نصب على الحال. وقرأ الحسن : (لَيَقُولَنَ) بضم اللام على معنى من. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم : (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ) : بالتاء ، على لفظ المودّة. قوله : (فَأَفُوزَ) بالنصب ، على جواب التمني. وقرأ الحسن : (فَأَفُوزَ) بالرفع. قوله : (فَلْيُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) هذا أمر للمؤمنين ، وقدّم الظرف على الفاعل للاهتمام به
، و (الَّذِينَ يَشْرُونَ) معناه : يبيعون ، وهم المؤمنون ، والفاء في قوله : (فَلْيُقاتِلْ) جواب الشرط مقدّر ، أي : إن لم يقاتل هؤلاء المذكورون
سابقا الموصوفون بأن منهم لمن ليبطئن ، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم ،
البائعون للحياة الدنيا بالآخرة. ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجرا
عظيما لا يقادر قدره ، وذلك أنه : إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور
، وإن غلب وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلوّ في
الدنيا والغنيمة ، وظاهر هذا : يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما ،
وربما يقال : إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم ، ولا يلزم أن يكون
أجرهما مستويا ، فإن كون الشيء عظيما هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيما
بالنسبة إلى ما هو دونه ، وحقيرا بالنسبة إلى ما هو فوقه. قوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللهِ) خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات. قوله
: (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) مجرور عطفا على الاسم الشريف ، أي : ما لكم لا تقاتلون
في سبيل الله وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر ، وتريحوهم مما هم فيه من
الجهد. ويجوز أن يكون منصوبا على الاختصاص ، أي : وأخص المستضعفين فإنهم من أعظم
ما يصدق عليه سبيل الله ، واختار الأوّل الزجاج والأزهري. قال محمد بن يزيد :
أختار أن يكون المعنى : وفي المستضعفين ، فيكون عطفا على السبيل ، والمراد
بالمستضعفين هنا : من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار ، وهم الذين كان يدعو
لهم النبي صلىاللهعليهوسلم فيقول : «اللهمّ أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام
وعيّاش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين» كما في الصحيح. ولا يبعد أن يقال :
إن لفظ الآية أوسع ، والاعتبار بعموم اللفظ لو لا تقييده بقوله : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا
أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) فإنه يشعر : باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة ،
لأنه قد أجمع المفسرون : على أن المراد بالقرية الظالم أهلها : مكة. وقوله : (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ
وَالْوِلْدانِ) بيان للمستضعفين قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا ترغيب للمؤمنين ، وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا
المقصد لا لغيره (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) أي : سبيل الشيطان ، أو الكهان ،
أو الأصنام ، وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى ، لقوله : (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ
إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) أي : مكره ومكر من اتبعه من الكفار.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) قال : عصبا ، يعني سرايا متفرقين (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) يعني : كلكم. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه ، قال في سورة النساء : (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ
أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) نسختها (وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : (ثُباتٍ) أي : فرقا قليلا. وأخرج عن قتادة في قوله : (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) أي : إذا نفر نبيّ الله صلىاللهعليهوسلم فليس لأحد أن يتخلف عنه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن مجاهد في قوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) إلى قوله : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً) ما بين ذلك في المنافقين. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي
حاتم عن مقاتل ابن حيان في الآية قال : هو فيما بلغنا عبد الله بن أبيّ ابن سلول
رأس المنافقين. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير : (فَلْيُقاتِلْ) يعني : يقاتل المشركين (فِي سَبِيلِ اللهِ) : في طاعة الله (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) يعني : يقتله العدوّ (أَوْ يَغْلِبْ) يعني يغلب العدوّ من المشركين (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) يعني : جزاء وافرا في الجنة ، فجعل القاتل والمقتول من
المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر.
وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس في قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) قال : وفي المستضعفين. وأخرج ابن جرير عن الزهري قال :
وسبيل المستضعفين وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه من طريق العوفي قال :
المستضعفون : أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها. وأخرج البخاري
عنه قال : «أنا وأمي من المستضعفين». وأخرج ابن جرير عنه قال : القرية الظالم
أهلها : مكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه واحملوا عليه (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً). قال مجاهد : كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة ، فكنت
أذكر قول ابن عباس ، فأحمل عليه ، فيذهب عني.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ
الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
(٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ
فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ
__________________
طاعَةٌ
فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ
وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))
قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) الآية ، قيل : هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال
في مكة بعد أن تسرعوا إليه. فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك
في الدين ، بل خوفا من الموت ، وفرقا من هول القتل ؛ وقيل : إنها نزلت في اليهود ؛
وقيل : في المنافقين ، أسلموا قبل فرض القتال ، فلما فرض كرهوه ، وهذا أشبه بالسياق
لقوله : (وَقالُوا رَبَّنا
لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ) الآية ، ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة. قوله : (كَخَشْيَةِ اللهِ) صفة مصدر محذوف ، أي : خشية كخشية الله ، أو حال ، أي :
تخشونهم مشبهين أهل خشية الله ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، أي : كخشيتهم الله.
وقوله : (أَوْ أَشَدَّ
خَشْيَةً) معطوف على كخشية الله ، في محل جر ، أو معطوف على الجار
والمجرور جميعا ، فيكون : في محل الحال ، كالمعطوف عليه ، وأو : للتنويع ، على
معنى : أن خشية بعضهم كخشية الله ، وخشية بعضهم أشد منها. قوله : (وَقالُوا) عطف على ما يدل عليه قوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي : فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس (وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا) أي : هلا أخرتنا ، يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من
الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال ، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم فقال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) : سريع الفناء لا يدوم لصاحبه ، وثواب الآخرة خير لكم
من المتاع القليل (لِمَنِ اتَّقى) منكم ، ورغب في الثواب الدائم (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي : شيئا حقيرا يسيرا ، وقد تقدّم تفسير الفتيل قريبا
، وإذا كنتم توفرون أجوركم ولا تنقصون شيئا منها ، فكيف ترغبون عن ذلك وتشغلون
بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه؟ وقوله : (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) كلام مبتدأ ، وفيه حثّ لمن قعد عن القتال خشية الموت.
وبيان لفساد ما خالطه من الجبن ، وخامره من الخشية ، فإن الموت إذا كان كائنا لا
محالة ، والبروج : جمع برج : وهو البناء المرتفع ، والمشيدة : المرفعة ، من شاد
القصر : إذا رفعه وطلاه بالشيد وهو الجصّ. وجواب لو لا : محذوف لدلالة ما قبله
عليه :
فمن لم يمت بالسّيف مات بغيره
وقد اختلف في
هذه البروج ما هي؟ فقيل : الحصون التي في الأرض. وقيل : هي القصور. قال الزجاج
والقتبي : ومعنى مشيدة : مطوّلة ؛ وقيل : معناه : مطلية بالشيد وهو الجص ؛ وقيل :
المراد بالبروج : بروج في سماء الدنيا مبنية ، حكاه مكّي عن مالك ، وقال : ألا ترى
إلى قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ)
(جَعَلَ
__________________
فِي
السَّماءِ بُرُوجاً) (وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً) وقيل : إن المراد بالبروج المشيدة هنا : قصور من حديد.
وقرأ طلحة بن سليمان : (يُدْرِكْكُمُ
الْمَوْتُ) : بالرفع على تقدير الفاء كما في قوله :
وقال رائدهم أرسوا نزاولها
قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) هذا وما بعده مختص بالمنافقين ، أي : إن تصبهم نعمة
نسبوها إلى الله تعالى ، وإن تصبهم بلية ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فردّ الله ذلك عليهم بقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ليس كما تزعمون ، ثم نسبهم إلى الجهل وعدم الفهم فقال :
(فَما لِهؤُلاءِ
الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي : ما بالهم هكذا. قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس ، أو لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم تعريضا لأمته ، أي : ما أصابك من خصب ورخاء وصحة وسلامة
فمن الله ، بفضله ورحمته ، وما أصابك من جهد وبلاء وشدّة فمن نفسك ، بذنب أتيته
فعوقبت عليه ؛ وقيل : إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثا ، أي : فيقولون ما
أصابك من حسنة فمن الله ، وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ، أي : أفمن نفسك؟ ومثله
قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ
تَمُنُّها عَلَيَ) والمعنى : أو تلك نعمة؟ ومثله قوله : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ
هذا رَبِّي) أي : أهذا ربي ، ومنه قول أبي خراش الهذلي :
رموني وقالوا
يا خويلد لم ترع
|
|
فقلت وأنكرت
الوجوه هم هم
|
أي : أهم أهم؟
وهذا خلاف الظاهر ، وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية ، كقوله تعالى
: (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، وقوله : (أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) . وقد يظن أن قوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) مناف لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) ولقوله : (وَما أَصابَكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) ، وقوله : (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) وقوله : (وَإِذا أَرادَ اللهُ
بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) وليس الأمر كذلك ، فالجمع ممكن كما هو مقرّر في مواطنه.
قوله : (وَأَرْسَلْناكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً) فيه البيان لعموم رسالته صلىاللهعليهوسلم إلى الجميع ، كما يفيده التأكيد بالمصدر ، والعموم في
الناس ، ومثله قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) ، وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) على ذلك. قوله : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) فيه : أن طاعة الرسول طاعة لله ، وفي هذا من النداء
بشرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلوّ شأنه وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ
مداه ، ووجهه : أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به ، ولا ينهى إلا عما نهى
الله عنه. (وَمَنْ تَوَلَّى) أي : أعرض (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً) أي : حافظا لأعمالهم ، إنما عليك البلاغ ، وقد نسخ هذا
بآية السيف (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) بالرفع ، على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : أمرنا طاعة ،
أو شأننا طاعة. وقرأ الحسن ، والجحدري ، ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر : أي :
نطيع طاعة ، وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين ، أي : يقولون إذا كانوا عندك
طاعة (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ
عِنْدِكَ) أي : خرجوا من عندك (بَيَّتَ
__________________
طائِفَةٌ
مِنْهُمْ) أي : زوّرت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم
أنت وتأمرهم به ، أو : غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك ؛ وقيل : معناه : غيروا
وبدّلوا وحرّفوا قولك فيما عهدت إليهم ، والتبييت : التبديل ، ومنه قول الشاعر :
أتوني فلم
أرض ما بيّتوا
|
|
وكانوا أتوني
بأمر نكر
|
يقال : بيت
الرجل الأمر : إذا دبره ليلا ، ومنه قوله تعالى : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما
لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ)(وَاللهُ يَكْتُبُ ما
يُبَيِّتُونَ) أي : يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه. وقال
الزجاج : المعنى : ينزله عليك في الكتاب ، قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : دعهم وشأنهم ، حتى يمكن الانتقام منهم ؛ وقيل :
معناه : لا تخبر بأسمائهم ؛ وقيل : معناه : لا تعاقبهم. ثم أمره بالتوكل عليه ،
والثقة به في النصر على عدوه ، قيل : وهذا منسوخ بآية السيف.
وقد أخرج
النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن
عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : يا نبي الله! كنا في عزة ونحن مشركون فلما
آمنا صرنا أذلة؟ فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوّله الله إلى
المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن
قتادة في تفسير الآية نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن مجاهد : أنها نزلت في اليهود. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق
العوفي عن ابن عباس في قوله : (فَلَمَّا كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ) الآية ، قال : نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) قال : هو الموت. وأخرجا نحوه عن ابن جريج. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : (فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ) قال : في قصور محصنة. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : هي قصور في
السماء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن سفيان نحوه ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن
المنذر عن قتادة في قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ) يقول : نعمة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ) قال : مصيبة (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) قال : النعم والمصائب. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم
عن أبي العالية في قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ) قال : هذه في السّراء والضرّاء ، وفي قوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) قال : هذه في الحسنات والسيئات. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) يقول : الحسنة والسيئة من عند الله ، أما الحسنة :
فأنعم بها عليك ، وأما السيئة : فابتلاك بها ، وفي قوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) قال : ما أصابه يوم أحد : أن شجّ وجهه وكسرت رباعيته. وأخرج
ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه في قوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) قال : هذا يوم أحد ، يقول : ما كانت من نكبة فبذنبك ،
وأنا قدّرت ذلك. وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن ابن عباس كان يقرأ : وما أصابك
من سيّئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك قال مجاهد : وكذلك قراءة أبيّ وابن
__________________
مسعود. وأخرج نحو قول مجاهد هذا ابن الأنباري في المصاحف. وأخرج ابن جرير ،
وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَيَقُولُونَ طاعَةٌ) قال : هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم : آمنّا بالله ورسوله ، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم (فَإِذا بَرَزُوا) من عند رسول الله (بَيَّتَ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ) يقول : خالفوا إلى غير ما قالوا عنده فعابهم الله.
وأخرج ابن جرير عنه قال : غيّر أولئك ما قاله النبي صلىاللهعليهوسلم.
(أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣))
الهمزة في قوله
: (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ) للإنكار ، والفاء : للعطف على مقدّر ، أي : أيعرضون عن
القرآن فلا يتدبرونه؟ يقال : تدبرت الشيء. تفكرت في عاقبته وتأملته ، ثم استعمل في
كل تأمل ، والتدبير : أن يدبر الإنسان أمره ، كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته ،
ودلت هذه الآية ، وقوله تعالى : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه. والمعنى : أنهم لو
تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفا غير مختلف ، صحيح المعاني ، قوي المباني ، بالغا في
البلاغة إلى أعلى درجاتها (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) أي : تفاوتا وتناقضا ، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير
الآيات والسور ، لأن المراد : اختلاف التناقض ، والتفاوت ، وعدم المطابقة للواقع ،
وهذا شأن كلام البشر ، لا سيما إذا طال وتعرّض قائله للإخبار بالغيب ، فإنه لا
يوجد منه صحيحا مطابقا للواقع إلّا القليل النادر. قوله : أذاع الشيء وأذاع به :
إذا أفشاه وأظهره ، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئا من أمر
المسلمين فيه أمن ـ نحو ظفر المسلمين وقتل عدوّهم ، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين
وقتلهم ـ أفشوه ، وهم يظنون : أنه لا شيء عليهم في ذلك. قوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في
أمورهم ، أو هم الولاة عليهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي : يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم. والمعنى : أنهم
لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلىاللهعليهوسلم هو الذي يذيعها ، أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين
يتولون ذلك ، لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى وما ينبغي أن يكتم. والاستنباط :
مأخوذ من استنبطت الماء : إذا استخرجته. والنبط : الماء المستنبط أوّل ما يخرج من ماء
البئر عند حفرها ؛ وقيل : إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على
المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة. قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : لو لا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله ،
وإنزال كتابه ، لا تبعتم الشيطان فبقيتم على كفركم إلا قليلا منكم ، أو : إلا
اتباعا قليلا منكم ؛ وقيل : المعنى : أذاعوا به إلا قليلا منهم ، فإنه لم يذع ولم
يفش ، قاله الكسائي ، والأخفش ، والفراء ، وأبو عبيدة ، وأبو حاتم ، وابن جرير ،
وقيل : المعنى : لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا منهم ، قاله الزجاج.
__________________
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) يقول : إن قول الله لا يختلف ، وهو حق ليس فيه باطل ،
وإن قول الناس يختلف. وأخرج عبد بن حميد ، ومسلم ، وابن أبي حاتم من طريق ابن عباس
عن عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل النبي صلىاللهعليهوسلم نساءه دخلت المسجد ، فوجدت الناس ينكتون بالحصى ويقولون
: طلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه ، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم
يطلق نساءه ، ونزلت هذه الآية : (وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر عن ابن عباس في الآية ، قال : هذا في الإخبار ؛ إذا غزت سرية من المسلمين
أخبر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا ، وأصاب العدو من
المسلمين كذا وكذا. فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلىاللهعليهوسلم هو يخبرهم به. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك : (وَإِذا جاءَهُمْ) قال : هم أهل النفاق. وأخرج ابن جرير عن أبي معاذ مثله.
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) قال : فانقطع الكلام. وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فهو في أوّل الآية يخبر عن المنافقين. قال : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) و (إِلَّا قَلِيلاً) يعني بالقليل المؤمنين.
(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ
يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً
(٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ
رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ
هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ
مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧))
الفاء في قوله
: (فَقاتِلْ) قيل : هي متعلقة بقوله : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ) إلخ ، أي : من أجل هذا فقاتل ؛ وقيل : متعلقة بقوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللهِ) فقاتل ؛ وقيل : هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق ،
تقديره : إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل ، أو إذا أفردوك
وتركوك فقاتل. قال الزجاج : أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ، لأنه قد ضمن له النصر. قال ابن
عطية : هذا ظاهر اللفظ ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة
، فالمعنى والله أعلم : أنه خطاب له في اللفظ ، وفي المعنى له ولأمته ، أي : أنت
يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) أي : لا تكلف غير نفسك ولا تلزم فعل غيرك ، وهو استئناف
مقرّر لما قبله ، لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده ،
وقرئ : (لا تُكَلَّفُ) بالجزم على النهي ، وقرئ : بالنون. قوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : حضهم على القتال والجهاد ، يقال : حرّضت فلانا على
كذا : إذا أمرته به ، وحارض فلان على الأمر ، وأكبّ عليه ، وواظب عليه ، بمعنى
واحد. قوله :
(عَسَى اللهُ أَنْ
يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيه إطماع للمؤمنين بكفّ بأس الذين كفروا عنهم ،
والإطماع من الله عزوجل واجب ، فهو وعد منه سبحانه ، ووعده كائن لا محالة (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) أي : أشدّ صولة ، وأعظم سلطانا (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي : عقوبة ، يقال : نكلت بالرجل تنكيلا : من النكال ،
وهو العذاب. والمنكل : الشيء الذي ينكل بالإنسان (مَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما : من الشفع ، وهو الزوج ،
ومنه : الشفيع ، لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا ، ومنه ناقة شفوع : إذا جمعت بين
محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شفيع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها. والشفع : ضمّ
واحد إلى واحد. والشفعة : ضم ملك الشريك إلى ملكك ، فالشفاعة : ضم غيرك إلى جاهك
ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع ، واتصال منفعة إلى
المشفوع له. والشفاعة الحسنة : هي في البرّ والطاعة. والشفاعة السيئة : في المعاصي
، فمن شفع في الخير لينفع فله نصيب منها : أي من أجرها ، ومن شفع في الشر ـ كمن يسعى
بالنميمة والغيبة ـ كان له كفل منها ، أي : نصيب من وزرها. والكفل : الوزر والإثم
، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط ؛ يقال :
اكتفلت البعير : إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه ، لأنه لم يستعمل الظهر كله ،
بل استعمل نصيبا منه ، ويستعمل في النصيب من الخير والشرّ. ومن استعماله في الخير
قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) . (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي : مقتدرا ، قاله الكسائي. وقال الفراء : المقيت :
الذي يعطي كل إنسان قوته ، يقال : قتّه ، أقوته ، قوتا ، وأقتّه ، أقيته ، إقاتة ،
فأنا قائت ، ومقيت ، وحكى الكسائي : أقات يقيت. وقال أبو عبيدة : المقيت : الحافظ.
قال النحاس : وقول أبي عبيدة أولى ، لأنه مشتق من القوت ، والقوت معناه : مقدار ما
يحفظ الإنسان. وقال ابن فارس في المجمل : المقيت : المقتدر. والمقيت : الحافظ
والشاهد. وأما قول الشاعر :
ألي الفضل أم
عليّ إذا حو
|
|
سبت إنّي على
الحساب مقيت
|
فقال ابن جرير
الطبري : إنه من غير هذا المعنى. قوله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) التحية : تفعلة من حييت ، والأصل تحيية ، مثل : ترضية
وتسمية ، فأدغموا الياء في الياء ، وأصلها : الدعاء بالحياة. والتحية : السلام ،
وهذا المعنى هو المراد هنا ، ومثله قوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين ، وروي عن مالك : أن المراد
بالتحية هنا : تشميت العاطس. وقال أصحاب أبي حنيفة ، التحية هنا : الهدية ، لقوله
: (أَوْ رُدُّوها) ولا يمكن ردّ السلام بعينه ، وهذا فاسد لا ينبغي
الالتفات إليه. والمراد بقوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ
مِنْها) : أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدئ بالتحية ،
فإذا قال المبتدئ : السلام عليكم ، قال المجيب : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا
زاد المبتدئ لفظا ، زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدئ لفظا أو ألفاظا نحو :
وبركاته ومرضاته وتحياته.
قال القرطبي :
أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ، وردّه فريضة ، لقوله : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ
رُدُّوها) واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أولا؟ فذهب
مالك والشافعي إلى
__________________
الإجزاء ، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزئ عن غيره ، ويردّ عليهم حديث عليّ
عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يجزئ عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ،
ويجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم» أخرجه أبو داود ، وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي
المدني وليس به بأس ، وقد ضعفه بعضهم. وقد حسن الحديث ابن عبد البرّ. ومعنى قوله :
(أَوْ رُدُّوها) الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدئ ، فإذا قال
: السلام عليكم ، قال المجيب : وعليك السلام. وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين
من يبتدئ بالسلام ، ومن يستحق التحية ، ومن لا يستحقها : ما يغني عن البسط هاهنا.
قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) يحاسبكم على كل شيء ؛ وقيل : معناه : حفيظا ؛ وقيل :
كافيا ، من قولهم : أحسبني كذا ، أي : كفاني ، ومثله : «حسبك الله». قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، واللام في قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) جواب قسم محذوف ، أي : والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى
يوم القيامة ، أي : إلى حساب يوم القيامة ؛ وقيل : إلى : بمعنى في ؛ وقيل : إنها
زائدة. والمعنى : ليجمعنكم يوم القيامة ، و (يَوْمِ الْقِيامَةِ) : يوم القيام من القبور (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : في يوم القيامة ، أو : في الجمع ، أي : جمعا لا
ريب فيه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ حَدِيثاً) إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه. وقرأ حمزة ،
والكسائي : ومن «أزدق» بالزاي. وقرأ الباقون : بالصاد ، والصاد الأصل. وقد تبدّل
زايا لقرب مخرجها منها.
وقد أخرج ابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي سنان في قوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) قال : عظهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (مَنْ يَشْفَعْ
شَفاعَةً حَسَنَةً) الآية ، قال : شفاعة الناس بعضهم لبعض. وأخرج عبد بن
حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) قال : حظ منها. وقوله : (كِفْلٌ مِنْها) قال : الكفل : هو الإثم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن السدي قال : الكفل : الحظ. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) قال : حفيظا. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عبد
الله بن رواحة : أنه سأله رجل عن قول الله : (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) قال : يقيت كل إنسان بقدر عمله. وفي إسناده رجل مجهول.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (مُقِيتاً) قال : شهيدا. وأخرج ابن جرير عنه : (مُقِيتاً) قال : شهيدا حسيبا حفيظا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد
بن جبير في قوله : (مُقِيتاً) قال : قادرا. وأخرج ابن جرير عن السدّي قال : المقيت :
القدير. وأخرج أيضا عن ابن زيد مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : المقيت :
الرزاق. وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ، وإن كان
يهوديا ، أو نصرانيا ، أو مجوسيا ، ذلك بأن الله يقول : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) الآية. وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه قال السيوطي بسند حسن عن سلمان الفارسي
قال : «جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله! فقال : وعليك ورحمة
الله ، ثم أتى
آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، فقال : وعليك ورحمة الله
وبركاته ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال له : وعليك ،
فقال له الرجل : يا نبي الله! بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت
عليهما أكثر مما رددت علي؟ فقال : إنك لم تدع لنا شيئا ، قال الله : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) فرددناها عليك». وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي
هريرة : «أنّ رجلا مرّ على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو في مجلس فقال : سلام عليكم ؛ فقال : عشر حسنات ،
فمرّ رجل آخر فقال : السّلام عليكم ورحمة الله ، فقال : عشرون حسنة ، فمرّ رجل آخر
فقال : السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فقال : ثلاثون حسنة». وأخرج البيهقي في
شعب الإيمان عن ابن عمر مرفوعا نحوه. وأخرج البيهقي عن سهل بن حنيف مرفوعا نحوه
أيضا. وأخرج أحمد ، والدارمي ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ،
والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعا نحوه أيضا ، وزاد بعد كل مرّة أن النبي صلىاللهعليهوسلم ردّ عليه ، ثم قال : عشر إلى آخره. وأخرج أبو داود ،
والبيهقي عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعا نحوه ، وزاد بعد قوله : وبركاته : ومغفرته
: فقال : أربعون ، يعني : حسنة.
(فَما لَكُمْ فِي
الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
(٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ
عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ
كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ
وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سُلْطاناً مُبِيناً (٩١))
الاستفهام في
قوله : (فَما لَكُمْ) للإنكار ، واسم الاستفهام : مبتدأ ، وما بعده : خبره.
والمعنى : أي شيء كائن لكم (فِي الْمُنافِقِينَ)؟ أي : في أمرهم ، وشأنهم حال كونكم (فِئَتَيْنِ) في ذلك. وحاصله : الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم
شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين ، وقد اختلف النحويون في انتصاب فئتين ، فقال
الأخفش والبصريون : على الحال كقولك : مالك قائما. وقال الكوفيون : انتصابه على
أنه خبر لكان ، وهي مضمرة ، والتقدير : فما لكم في المنافقين كنتم فئتين. وسبب
نزول الآية ما سيأتي ، وبه يتضح المعنى. وقوله : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) معناه : ردّهم إلى الكفر (بِما كَسَبُوا) وحكى الفراء ، والنضر بن شميل ، والكسائي : أركسهم وركسهم
، أي : ردّهم إلى الكفر ونكسهم ، فالركس والنكس : قلب الشيء على رأسه ، أو ردّ
أوله إلى آخره ، والمنكوس : المركوس ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وأبيّ : (والله
ركسهم)
ومنه قول عبد
الله بن رواحة :
أركسوا في
فتنة مظلمة
|
|
كسواد اللّيل
يتلوها فتن
|
والباء في قوله
: (بِما كَسَبُوا) : سببية ، أي : أركسهم بسبب كسبهم ، وهو لحوقهم بدار
الكفر ، والاستفهام في قوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) للتقريع والتوبيخ ، وفيه دليل : على أن من أضله الله لا
تنجع فيه هداية البشر (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) . قوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي : طريقا إلى الهداية. قوله : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَواءً) هذا كلام مستأنف ، يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين ، وإيضاح
أنهم يودّون أن يكفر المؤمنون كما كفروا ، ويتمنوا ذلك عنادا وغلوّا في الكفر ،
وتماديا في الضلال ، فالكاف في قوله : (كَما) : نعت مصدر محذوف ، أي : كفرا مثل كفرهم. أو حال ، كما
روي عن سيبويه. قوله : (فَتَكُونُونَ سَواءً) عطف على قوله : (تَكْفُرُونَ) داخل في حكمه ، أي : ودّوا كفركم ككفرهم ، وودّوا
مساواتكم لهم. قوله : (فَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) جواب شرط محذوف ، أي : إذا كان حالهم ما ذكر ؛ فلا
تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا ؛ ويحققوا إيمانهم بالهجرة ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن ذلك (فَخُذُوهُمْ) إذا قدرتم عليهم (وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الحلّ والحرم (وَلا تَتَّخِذُوا
مِنْهُمْ وَلِيًّا) توالونه (وَلا نَصِيراً) تستنصرون به. قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) هو مستثنى من (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) أي : إلا الذين يتصلون ويداخلون في قوم بينكم وبينهم
ميثاق بالجوار والحلف ؛ فلا تقتلوهم لما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد وميثاق ؛
فإن العهد يشملهم ، هذا أصلح ما قيل في الآية. وقيل : الاتصال هنا هو اتصال النسب
، والمعنى : إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق. قاله أبو عبيدة ، وقد
أنكر ذلك أهل العلم عليه ، لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع ، فقد كان بين
المسلمين وبين المشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال. وقد اختلف في هؤلاء القوم
الذين كان بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم ميثاق ، فقيل : هم قريش ، كان بينهم وبين النبي صلىاللهعليهوسلم ميثاق (الَّذِينَ يَصِلُونَ) إلى قريش هم بنو مدلج ؛ وقيل : نزلت في هلال بن عويمر ،
وسراقة بن جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، كان بينهم وبين النبي صلىاللهعليهوسلم عهد ؛ وقيل : خزاعة ؛ وقيل : بنو بكر بن زيد. قوله : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) عطف على قوله : (يَصِلُونَ) داخل في حكم الاستثناء ، أي : إلا الذين يصلون والذين
جاءوكم ، ويجوز أن يكون عطفا على صفة قوم ، أي : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم
وبينهم ميثاق ، والذين يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت صدورهم ، أي : ضاقت صدورهم عن
القتال فأمسكوا عنه ، والحصر : الضيق والانقباض. قال الفراء : وهو أي : حصرت
صدورهم ، حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول : جاء فلان ذهب عقله ، أي : قد
ذهب عقله. وقال الزجاج : هو خبر بعد خبر ، أي : جاءوكم ، ثم أخبر فقال : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) فعلى هذا : يكون حصرت : بدلا من جاءوكم ؛ وقيل : حصرت
في موضع خفض على النعت لقوم ؛ وقيل : التقدير : أو جاءوكم أو قوم حصرت صدورهم.
وقرأ الحسن : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَة
__________________
صُدُورُهُمْ)
نصبا على
الحال. وقرئ : حصرات وحاصرات ، وقال محمد بن يزيد المبرّد : حصرت صدورهم : هو دعاء
عليهم ، كما تقول : لعن الله الكافر ، وضعفه بعض المفسرين ؛ وقيل : أو : بمعنى
الواو. وقوله : (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ
أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) هو متعلق بقوله : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي : حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم لقومهم ،
فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين ، وكرهوا ذلك (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ) ابتلاء منه لكم ، واختبارا ، كما قال سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) . أو تمحيصا لكم ، أو عقوبة بذنوبكم ، ولكنه سبحانه لم
يشأ ذلك ، واللام في قوله : (فَلَقاتَلُوكُمْ) جواب لو ، على تكرير الجواب ، أي : لو شاء الله لسلطهم
ولقاتلوكم ، والفاء للتعقيب (فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ) ولم يتعرضوا لقتالكم (وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي : استسلموا لكم وانقادوا (فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ
سَبِيلاً) أي : طريقا ، فلا يحلّ لكم قتلهم ، ولا أسرهم ، ولا نهب
أموالهم ، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرّمه (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) فيظهرون لكم الإسلام ، ويظهرون لقومهم الكفر ، ليأمنوا
من كلا الطائفتين ، وهم قوم من أهل تهامة ، طلبوا الأمان من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ليأمنوا عنده وعند قومهم ، وقيل : هي في قوم من أهل
مكة ، وقيل : في نعيم بن مسعود فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين : وقيل في قوم من
المنافقين ؛ وقيل : في أسد وغطفان (كُلَّما رُدُّوا
إِلَى الْفِتْنَةِ) أي : دعاهم قومهم إليها وطلبوا منهم قتال المسلمين (أُرْكِسُوا فِيها) أي : قلبوا فيها ، فرجعوا إلى قومهم ، وقاتلوا المسلمين
، ومعنى الارتكاس : الانتكاس (فَإِنْ لَمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ) يعني : هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم (وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) أي : يستسلمون لكم ويدخلون في عهدكم وصلحكم وينسلخون عن
قومهم (وَيَكُفُّوا
أَيْدِيَهُمْ) عن قتالكم (فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي : حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم (وَأُولئِكُمْ) الموصوفون بتلك الصفات (جَعَلْنا لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجة واضحة ، تتسلطون بها عليهم ، وتقهرونهم بها ،
بسبب ما في قلوبهم من المرض ، وما في صدورهم من الدغل ، وارتكاسهم في الفتنة بأيسر
عمل وأقلّ سعي.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث زيد بن ثابت : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا ،
فأنزل الله : (فَما لَكُمْ فِي
الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) الآية كلها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنها طيبة ، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث
الفضة». هذا أصح ما روي في سبب نزول الآية ، وقد رويت أسباب غير ذلك. وأخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) يقول : أوقعهم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال :
ردهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) قال : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن مالك المدلجي ،
وفي خزيمة بن عامر بن عبد مناف. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي
حاتم ، والنحاس ، والبيهقي في سننه عنه في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
يَصِلُونَ) الآية ، قال : نسختها براءة (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
__________________
الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
السدي : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) يقول : ضاقت صدورهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن
الربيع : (وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) قال : الصلح. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (فَإِنِ
اعْتَزَلُوكُمْ) الآية ، قال : نسختها (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وأخرج ابن جرير عن الحسن وعكرمة في هذه الآية قال :
نسختها براءة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
مجاهد في قوله : (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) الآية ، قال : ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلىاللهعليهوسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قومهم فيرتكسون في
الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا
ويصالحوا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة
: أنهم ناس كانوا بتهامة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي : أنها نزلت
في نعيم بن مسعود.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ
يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ
جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ
عَذاباً عَظِيماً (٩٣))
قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم ، كقوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللهِ) ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبرا ، وهو يستلزم
صدقه ، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمنا قط ؛ وقيل : المعنى ما كان له ذلك في عهد الله ،
وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف ، كما ليس له الآن ذلك بوجه ، ثم استثنى منه
استثناء منقطعا فقال : إلّا خطأ ، أي : ما كان له أن يقتله ألبتة ، لكن إن قتله
خطأ فعليه كذا ، هذا قول سيبويه والزجاج ؛ وقيل : هو استثناء متصل ؛ والمعنى : وما
تبت ، ولا وجد ، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلّا خطأ ؛ إذ هو مغلوب حينئذ ؛ وقيل
المعنى : ولا خطأ. قال النحاس : ولا يعرف ذلك في كلام العرب ، ولا يصح في المعنى ،
لأن الخطأ لا يحظر ؛ وقيل : إن المعنى : ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلّا
للخطأ وحده ، فيكون قوله : خطأ ، منتصبا بأنه مفعول له. ويجوز أن ينتصب على الحال
، والتقدير : لا يقتله في حال من الأحوال إلّا في حال الخطأ ، ويجوز أن يكون صفة
لمصدر محذوف ، أي : إلّا قتلا خطأ ، ووجوه الخطأ كثيرة ، ويضبطها عدم القصد ،
والخطأ : الاسم من أخطأ خطأ : إذا لم يتعمد. قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) أي : فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ
، وعبر بالرقبة عن جميع الذات.
__________________
واختلف العلماء
في تفسير الرقبة المؤمنة ، فقيل : هي التي صلّت وعقلت الإيمان ، فلا تجزئ الصغيرة
، وبه قال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وغيرهم. وقال عطاء بن
أبي رباح : إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين مسلمين. وقال جماعة منهم مالك والشافعي
: يجزئ كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات ، ولا يجزئ في قول جمهور العلماء
أعمى ، ولا مقعد ، ولا أشلّ ، ويجزئ عند الأكثر الأعرج والأعور. قال مالك : إلّا
أن يكون عرجا شديدا. ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون ، وفي المقام تفاصيل طويلة
مذكورة في علم الفروع. قوله : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ) الدية : ما تعطى عوضا عن دم المقتول إلى ورثته ،
والمسلّمة : المدفوعة المؤداة ، والأهل : المراد بهم الورثة. وأجناس الدية
وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة. قوله : (إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا) أي : إلّا أن يتصدّق أهل المقتول على القاتل بالدية ،
سمى العفو عنها : صدقة ، ترغيبا فيه. وقرأ أبيّ : إلّا أن يتصدقوا ، وهذه الجملة
المستثناة متعلقة بقوله : (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) أي : فعليه دية مسلمة إلّا أن يقع العفو من الورثة
عنها. قوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) أي : فإن كان المقتول من قوم عدوّ لكم ، وهم الكفار
الحربيون ، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم
، ثم أسلم ولم يهاجر ، وهم يظنون أنه لم يسلم ، وأنه باق على دين قومه ، فلا دية
على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة. واختلفوا في وجه سقوط الدية ، فقيل : وجهه :
أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدّية ؛ وقيل : وجهه : أن هذا الذي آمن ولم
يهاجر حرمته قليلة ، لقول الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وقال بعض أهل العلم : إن ديته واجبة لبيت المال. قوله :
(وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي : مؤقت أو مؤبد. وقرأ الحسن : وهو مؤمن فدية مسلّمة
إلى أهله أي : فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام ، وهم ورثته (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كما تقدم (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أي : الرقبة ، ولا اتسع ماله لشرائها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) أي : فعليه صيام شهرين متتابعين ، لم يفصل بين يومين من
أيام صومهما إفطار في نهار ، فلو أفطر استأنف ، هذا قول الجمهور ، وأما الإفطار
لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف. واختلف في الإفطار لعرض المرض. قوله :
(تَوْبَةً مِنَ اللهِ) منصوب على أنه مفعول له ، أي : شرع ذلك لكم توبة ، أي :
قبولا لتوبتكم ، أو منصوب على المصدرية ، أي : تاب عليكم توبة ، وقيل : منصوب على
الحال ، أي : حال كونه ذا توبة كائنة من الله. قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) لما بيّن سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمدا.
وقد اختلف
العلماء في معنى العمد ؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو القتل بحديدة ، كالسيف ،
والخنجر ، وسنان الرمح ، ونحو ذلك من المحدّد ، أو بما يعلم أن فيه الموت ، من
ثقال الحجارة ونحوهما. وقال الجمهور : إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل ، بحديدة ،
أو بحجر ، أو بعصا ، أو بغير ذلك ، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في
العادة. وقد ذهب بعض أهل العلم : إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : عمد ، وشبه
عمد ، وخطأ. واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها. وذهب آخرون : إلى أنه
ينقسم إلى قسمين : عمد وخطأ ولا ثالث لهما. واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلّا
القسمان. ويجاب عن ذلك :
بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك
في السنة. وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمدا ، فجمع الله له فيها بين
كون جهنم جزاء له ، أي : يستحقها بسبب هذا الذنب ، وبين كونه خالدا فيها ، وبين
غضب الله عليه ، ولعنته له ، وإعداده له عذابا عظيما. وليس وراء هذا التشديد تشديد
، ولا مثل هذا الوعيد وعيد. وانتصاب خالدا : على الحال. وقوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) معطوف على مقدّر ، يدل عليه السياق ، أي : جعل جزاءه
جهنم ، أو حكم عليه ، أو جازاه ، وغضب عليه ، وأعدّ له.
وقد اختلف
العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال
: اختلف فيها علماء أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت
هذه الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء ، وقد روى النسائي عنه
نحو هذا. وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه ، وممن ذهب : إلى أنه لا توبة له من
السلف أبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو سلمة ، وعبيد بن عمير ، والحسن ،
وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور : إلى أن
التوبة منه مقبولة ، واستدلوا بمثل قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) وقوله : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) . وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ، قالوا أيضا : والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية
الفرقان ، فيكون معناهما : فجزاؤه جهنم إلّا من تاب ، لا سيما وقد اتحد السبب ـ وهو
القتل ـ والموجب ، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا : بالحديث المذكور في
الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا
تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ ، ثم قال : فمن أصاب من ذلك
شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه» وبحديث أبي هريرة
الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره : في الذي قتل مائة نفس ، وذهب جماعة منهم أبو
حنيفة وأصحابه والشافعي : إلى أن القاتل عمدا داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. وقد
أوضحت في شرحي على المنتقى متمسّك كلّ فريق.
والحق : أن باب
التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان
الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدّها تمحوه التوبة إلى الله ، ويقبل من صاحبه الخروج منه
، والدخول في باب التوبة ، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟
لكن لا بدّ في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل ، وتسليم نفسه للقصاص إن كان
واجبا ، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا ، وكان القاتل غنيا متمكنا من
تسليمها أو بعضها ، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا ، وعزمه على أن لا يعود إلى
قتل أحد ، من دون اعتراف ، ولا تسليم نفس ، فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم
الراحمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
__________________
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ
مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) يقول : ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله
الذي عهد إليه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
مجاهد في قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ) الآية ، قال : إن عياش ابن أبي ربيعة قتل رجلا مؤمنا
كان يعذبه هو وأبو جهل ـ وهو أخوه لأمه ـ في اتباع النبي صلىاللهعليهوسلم وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر. وأوضح من هذا السياق ما
أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال : كان الحارث ابن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش
بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، يعني : الحارث ، فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف وهو
يحسب أنه كافر ، ثم جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبره ، فنزلت (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) الآية ، فقرأها النبي صلىاللهعليهوسلم عليه ثم قال له : قم فحرّر. وأخرجه ابن جرير ، وابن
المنذر عن السدّيّ بأطول من هذا. وقد روي من طرق غير هذه. وأخرج ابن جرير عن ابن
زيد قال : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية ، فعدل أبو الدرداء إلى شعب
يريد حاجة له ، فوجد رجلا من القوم في غنم فحمل عليه بالسيف فقال : لا إله إلّا
الله ، فضربه. وأخرج ابن مندة ، وأبو نعيم نحو ذلك ، ولكن فيه : أن الذي قتل
المتعوّذ بكلمة الشهادة هو بكر بن حارثة الجهني. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) قال : يعني بالمؤمنة : من قد عقل الإيمان وصلّى ، وكل
رقبة في القرآن لم تسمّ مؤمنة ، فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة ،
وفي قوله : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) قال : عليه الدية مسلمة إلّا أن يتصدّق بها عليه. وأخرج
عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة قال : في حرف أبيّ «فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزئ
فيها صبي». وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والبيهقي عن أبي هريرة : «أنّ رجلا
أتى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بجارية سوداء فقال : يا رسول الله! إن عليّ عتق رقبة
مؤمنة ، فقال لها : أين الله؟ فأشارت إلى السّماء بإصبعها ، فقال لها : فمن أنا؟
فأشارت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإلى السّماء. أي : أنت رسول الله ، فقال : أعتقها
فإنّها مؤمنة». وقد روي من طرق ، وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم
السلمي. وقد وردت أحاديث في تقدير الدية ، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد
، ودية المسلم ودية الكافر ، وهي معروفة ، فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضع.
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن إبراهيم النخعي
في قوله : (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلى أَهْلِهِ) قال : هذا المسلم الذي ورثته مسلمون (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قال : هذا الرجل المسلم وقومه مشركون ، وليس بينهم وبين
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عقد (وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) قال : هذا الرجل المسلم وقومه المشركون ، وبينهم وبين
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عقد ، فيقتل ، فيكون ميراثه للمسلمين ، وتكون ديته
لقومه ، لأنهم يعقلون عنه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ) يقول : فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن ، فقتله خطأ ،
فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة ، أو صيام شهرين متتابعين ولا دية عليه ،
وفي قوله : (وَإِنْ كانَ مِنْ
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) يقول : إذا كان كافرا في ذمتكم فقتل ،
فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن جرير ، وابن المنذر من طريق عطاء ابن السائب عن أبي عياض قال : كان
الرجل يجيء فيسلم ، ثم يأتي قومه وهم مشركون فيقيم فيهم ، فتغزوهم جيوش النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فيقتل الرجل فيمن يقتل ، فأنزل الله هذه الآية : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وليست له دية. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن
السائب عن أبي يحيى ، عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في
قوله : (تَوْبَةً مِنَ اللهِ) يعني : تجاوزا من الله لهذه الأمة ، حيث جعل في قتل
الخطأ الكفارة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة : أن رجلا من الأنصار قتل
أخا مقيس ابن صبابة ، فأعطاه النبي صلىاللهعليهوسلم الدية ، فقبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه ، وفيه نزلت
الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه ، وفيه : أن مقيس بن صبابة لحق
بمكة بعد ذلك وارتدّ عن الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية
: (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) بعد التي في سورة الفرقان بثمان سنين وهي قوله : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ) إلى قوله : (غَفُوراً رَحِيماً) . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن زيد بن ثابت أن قوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) نزلت بعد قوله : (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) بستة أشهر. وأخرج ابن المنذر عنه قال : نزلت هذه الآية
التي في النساء بعد قوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) بأربعة أشهر ، والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جدّا ،
والحق ما عرّفناك.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤))
هذا متصل بذكر
الجهاد والقتال ، والضرب : السير في الأرض ، تقول العرب : ضربت في الأرض : إذا سرت
لتجارة أو غزو أو غيرهما ، وتقول : ضربت الأرض ، بدون في : إذا قصدت قضاء حاجة
الإنسان ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يخرج رجلان يضربان الغائط». قوله : (فَتَبَيَّنُوا) من التبين ، وهو التأمل ، وهي قراءة الجماعة إلّا حمزة
، فإنه قرأ : «فثبتوا» من التثبت. واختار القراءة الأولى أبو عبيدة ، وأبو حاتم
قالا : لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت ، وإنما خصّ السفر بالأمر بالتبين ، مع
أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضرا وسفرا بلا خلاف ، لأن الحادثة التي هي
سبب نزول الآية كانت في السفر كما سيأتي. قوله : (ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السّلم) وقريء السَّلامَ ، ومعناهما واحد. واختار أبو عبيدة السلام. وخالفه أهل النظر
فقالوا : السلم هنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم. والمراد هنا : لا تقولوا
لمن ألقى بيده إليكم واستسلم : لست مؤمنا ، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام
؛ وقيل : هما بمعنى الإسلام ، أي : لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ـ أي : كلمته
، وهي الشهادة ـ : لست مؤمنا ؛ وقيل : هما بمعنى التسليم ، الذي هو تحية
__________________
أهل الإسلام ، أي : لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم ـ فقال : السلام
عليكم ـ : لست مؤمنا. والمراد : نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما
يستدل به على إسلامه ، ويقولوا : إنه إنما جاء بذلك تعوذا وتقية ، وقرأ أبو جعفر :
(لَسْتَ مُؤْمِناً) من آمنته : إذا أجرته فهو مؤمن.
وقد استدلّ
بهذه الآية : على أن من قتل كافرا بعد أن قال : لا إله إلّا الله ، قتل به ، لأنه
قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله ، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن
النبي صلىاللهعليهوسلم لأنهم تأوّلوا ، وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا
يكون مسلما ، ولا يصير بها دمه معصوما ، وأنه لا بدّ من أن يقول هذه الكلمة وهو
مطمئن غير خائف ، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام : إظهار الانقياد ، بأن يقول : أنا
مسلم ، أو : أنا على دينكم ، لما عرفت من أن معنى الآية : الاستسلام والانقياد ،
وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام ، من قول أو فعل ، ومن جملة ذلك : كلمة الشهادة ،
وكلمة التسليم ، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأوّل. قوله : (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا تقولوا تلك
المقالة طالبين الغنيمة ، على أن يكون النهي راجعا إلى القيد والمقيد ، لا إلى
القيد فقط ، وسمي متاع الدنيا عرضا : لأنه عارض زائل غير ثابت. قال أبو عبيدة : يقال
جميع متاع الدنيا : عرض ، بفتح الراء ، وأما العرض بسكون الراء : فهو ما سوى
الدنانير والدراهم ، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح ، وليس كل عرض بالفتح عرضا
بالسكون. وفي كتاب العين : العرض ما نيل من الدنيا ، ومنه قوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) وجمعه عروض. وفي المجمل لابن فارس : والعرض : ما يعترض
للإنسان من مرض ونحوه ، وعرض الدنيا : ما كان فيها من مال قلّ أو كثر ، والعرض من
الأثاث : ما كان غير نقد. قوله : (فَعِنْدَ اللهِ
مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) هو تعليل للنهي ، أي : عند الله مما هو حلال لكم من دون
ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها ، وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد ،
واغتنام ماله. (كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ) أي : كنتم كفارا ، فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة
الشهادة ، أو كذلك كنتم من قبل ، تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا على أنفسكم حتى منّ
الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به ، وكرّر الأمر بالتبين للتأكيد
عليهم ، لكونه واجبا لا فسحة فيه ولا رخصة.
وقد أخرج
البخاري وغيره عن ابن عباس قال : لحق ناس من المسلمين رجلا معه غنيمة له ، فقال :
السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ،
والترمذي ، وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ،
والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو يسوق غنما له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلّم
علينا إلّا ليتعوّذ منا ، فعمدوا إليه ، فقتلوه ، وأتوا بغنمه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن عبد الله ابن أبي حدرد
الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة
الحارث بن ربعي ، ومحلّم بن جثّامة بن قيس الليثي ، فخرجنا حتى إذا كنا
ببطن إضم ، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له ، معه متيع ووطب من لبن ، فلمّا مرّ بنا سلّم علينا بتحية الإسلام ، فأمسكنا
عنه ، وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه ، فقتله ، وأخذ بعيره ومتيعه ،
فلمّا قدمنا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) الآية. وفي لفظ عند ابن إسحاق ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من حديث أبي حدرد هذا : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لمحلم : أقتلته بعد ما قال آمنت بالله؟ فنزل
القرآن. وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر : أن محلما جلس بين يدي النبي صلىاللهعليهوسلم ليستغفر له ، فقال : لا غفر الله لك ، فقام وهو يتلقى
دموعه ببرديه ، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض ، فجاؤوا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فذكروا ذلك له ، فقال : إن الأرض تقبل من هو شرّ من
صاحبكم ، ولكن الله أراد أن يعظكم ، ثم طرحوه في جبل وألقوا عليه الحجارة ، فنزلت
: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ) الآية. وأخرج البزار ، والدارقطني في الأفراد ،
والطبراني ، والضياء في المختارة عن ابن عباس : أن سبب نزول الآية : أن المقداد بن
الأسود قتل رجلا بعد ما قال : لا إله إلّا الله. وفي سبب النزول روايات كثيرة ،
وهذا الذي ذكرناه أحسنها. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) قال : تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه
، يعني : الذي قتلوه بعد أن ألقى إليهم السلام. وفي لفظ : تكتمون إيمانكم من
المشركين (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْكُمْ) فأظهر الإسلام فأعلنتم إيمانكم (فَتَبَيَّنُوا) قال : وعيد من الله ثان. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في
قوله : (كَذلِكَ كُنْتُمْ
مِنْ قَبْلُ) قال : كنتم كفارا حتى منّ الله عليكم بالإسلام وهداكم
له.
(لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
(٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً
(٩٦))
التفاوت بين
درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر ، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه وإن
كان معلوما ، لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار : تنشيط المجاهدين ليرغبوا ، وتبكيت
القاعدين ليأنفوا. قوله : (غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ) قرأ أهل الكوفة ، وأبو عمرو : بالرفع ، على أنه وصف
للقاعدين كما قال الأخفش ، لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم ، فصاروا كالنكرة ،
فجاز وصفهم بغير. وقرأ أبو حيوة : بكسر الراء ، على أنه وصف للمؤمنين. وقرأ أهل
الحرمين : بفتح الراء ، على الاستثناء من القاعدين ، أو من المؤمنين ،
__________________
أي : إلّا أولي الضرر ، فإنهم يستوون مع المجاهدين. ويجوز أن يكون : منتصبا
، على الحال من القاعدين ، أي : لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم ، وجازت
الحال منهم : لأن لفظهم لفظ المعرفة. قال العلماء : أهل الضرر : هم أهل الأعذار ،
لأنها أضرّت بهم حتى منعتهم عن الجهاد ، وظاهر النظم القرآني : أن صاحب العذر يعطى
مثل أجر المجاهد ـ وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف ، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل
المباشرة. قال القرطبي : والأوّل أصحّ إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك : «إن
بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلّا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم
العذر». قال : وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر : «إذا مرض العبد قال الله تعالى
اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ». قوله : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر
عدم الاستواء إجمالا ، والمراد هنا : غير أولي الضرر ، حملا للمطلق على المقيد ،
وقال هنا : (دَرَجَةً) ، وقال فيما بعد : (دَرَجاتٍ) فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة
وبيان وتأكيد. وقال آخرون : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة
واحدة وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات ، قاله ابن جريج
، والسديّ ، وغيرهما ؛ وقيل : إن معنى درجة : علوّا ، أي : أعلى ذكرهم ، ورفعهم
بالثناء والمدح. ودرجة : منتصبة على التمييز أو المصدرية ، لوقوعها موقع المرة من
التفضيل ، أي : فضل الله تفضيله ، أو على نزع الخافض ، أو على الحالية من
المجاهدين ، أي : ذوي درجة. قوله : (وَكُلًّا) مفعول أوّل لقوله : (وَعَدَ اللهُ) قدّم عليه لإفادته القصر ، أي : كل واحد من المجاهدين
والقاعدين وعده الله الحسنى ، أي : المثوبة ، وهي الجنة. قوله : (أَجْراً) هو منتصب على التمييز ؛ وقيل : على المصدرية ، لأن فضل
، بمعنى : آجر ، فالتقدير : آجرهم أجرا ؛ وقيل : مفعول ثان لفضل ، لتضمنه معنى
الإعطاء ؛ وقيل : منصوب بنزع الخافض ؛ وقيل : على الحال من درجات مقدّم عليها ،
وأما انتصاب درجات ومغفرة ورحمة : فهي بدل من أجرا ؛ وقيل : إن مغفرة ورحمة
ناصبهما أفعال مقدّرة ، أي : غفر لهم مغفرة ، ورحمهم رحمة.
وقد أخرج
البخاري ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن زيد بن ثابت : أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أملى عليه (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ فقال : يا رسول الله
صلىاللهعليهوسلم! لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى ، فأنزل الله على
رسوله صلىاللهعليهوسلم وفخذه على فخذي : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ). وقد أخرج هذا المعنى عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن
جرير ، وابن أبي حاتم من حديث البراء. وأخرجه أيضا سعيد بن منصور ، وأحمد ، وأبو
داود ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه من حديث خارجة بن زيد بن ثابت
عن أبيه. وأخرج الترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي
في سننه عن ابن عباس قال : (لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) عن بدر والخارجون إلى بدر. وأخرجه عنه أيضا عبد الرزاق
، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر. وأخرج عبد بن حميد ،
والطبراني ، والبيهقي عنه قال : نزلت في قوم كانت تشغلهم
أمراض وأوجاع ، فأنزل الله عذرهم من السماء. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن
حميد عن أنس بن مالك قال : نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم ، ولقد رأيته في بعض
مشاهد المسلمين معه اللواء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله :
(فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) قال : على أهل الضرر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) قال : الجنة. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كان
يقال : الإسلام درجة ، والهجرة درجة في الإسلام ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل
في الجهاد درجة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن
ابن محيريز في قوله : (دَرَجاتٍ) قال : الدرجات سبعون درجة ، ما بين الدرجتين عدو الفرس
الجواد المضمر سبعين سنة. وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف عن أبي مجلز. وأخرج
البخاري ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين
في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السّماء والأرض ، فإذا سألتم الله فسلوه
الفردوس ، فإنّه أوسط الجنّة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجّر أنهار
الجنة».
(إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧)
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا
يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ
أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ
مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠))
قوله : (تَوَفَّاهُمُ) يحتمل أن يكون فعلا ماضيا وحذفت منه علامة التأنيث ،
لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي ، ويحتمل أن يكون مستقبلا ، والأصل تتوفاهم ، فحذفت
إحدى التاءين. وحكى ابن فورك عن الحسن : أن المعنى : تحشرهم إلى النار ، وقيل :
تقبض أرواحهم ، وهو الأظهر. والمراد بالملائكة : ملائكة الموت ، لقوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ
الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) . وقوله : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال ، أي : في حال ظلمهم أنفسهم ، وقول الملائكة : (فِيمَ كُنْتُمْ) سؤال توبيخ ، أي : في أيّ شيء كنتم من أمور دينكم؟ وقيل
: المعنى : أكنتم في أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أم كنتم مشركين ؛ وقيل : إن معنى السؤال : التقريع لهم
بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين. وقولهم : (كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) يعني مكة ، لأن سبب النزول : من أسلم بها ولم يهاجر ،
كما سيأتي ، ثم أوقفتهم الملائكة على دينهم ، وألزمتهم الحجة ، وقطعت معذرتهم ،
فقالوا : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) قيل : المراد بهذه الأرض : المدينة ، والأولى : العموم
اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو الحق ، فيراد بالأرض : كل بقعة من
بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها ، ويراد بالأرض الأولى : كل أرض ينبغي الهجرة منها.
قوله : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) هذه الجملة خبر لأولئك ، والجملة خبر إن في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ) ودخول الفاء لتضمن
__________________
اسم إن معنى الشرط (وَساءَتْ) أي : جهنم (مَصِيراً) أي : مكانا يصيرون إليه. قوله : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) هو استثناء من الضمير في مأواهم ، وقيل : استثناء منقطع
، لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره. وقوله : (مِنَ الرِّجالِ
وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) متعلق بمحذوف ، أي : كائنين منهم ، والمراد بالمستضعفين
من الرجال : الزمنى ونحوهم ، والولدان : كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام ؛ وإنما
ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة ، وإيهام أنها تجب لو
استطاعها غير المكلف ، فكيف من كان مكلفا ؛ وقيل : أراد بالولدان : المراهقين
والمماليك. قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً) صفة للمستضعفين ، أو : للرجال والنساء والولدان ، أو :
حال من الضمير في المستضعفين ، وقيل : الحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص ، أي
: لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى ذلك ، وقيل : السبيل : سبيل المدينة (فَأُولئِكَ) إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة ، حتى يظن أن
تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنبا يجب طلب العفو عنه. قوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ
يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) هذه الجملة متضمنة للترغيب في الهجرة والتنشيط إليها.
وقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) فيه دليل : على أن الهجرة لا بدّ أن تكون بقصد صحيح ،
ونية خالصة غير مشوبة بشيء من أمور الدنيا ، ومنه الحديث الصحيح : «فمن كانت هجرته
إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو
امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وقد اختلف في
معنى قوله سبحانه (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُراغَماً) : فقال ابن عباس ، وجماعة من التابعين ، ومن بعدهم :
المراغم : التحوّل والمذهب. وقال مجاهد : المراغم : المتزحزح. وقال ابن زيد :
المراغم المهاجر ، وبه قال أبو عبيدة. قال النحاس : فهذه الأقوال متفقة المعاني ،
فالمراغم : المذهب والمتحول ، وهو الموضع الذي يراغم فيه ، وهو مشتق من الرغام وهو
التراب ، ورغم أنف فلان ، أي : لصق بالتراب ، وراغمت فلانا : هجرته وعاديته ولم
أبال أن رغم أنفه ، وقيل : إنما سمي مهاجرا ومراغما : لأن الرجل كان إذا أسلم عادى
قومه وهجرهم ، فسمى خروجه مراغما ، وسمي مسيره إلى النبي صلىاللهعليهوسلم هجرة. والحاصل في معنى الآية : أن المهاجر يجد في الأرض
مكانا يسكن فيه على رغم أنف قومه الذين جاورهم ، أي : على ذلهم وهوانهم. قوله : (وَسَعَةً) أي : في البلاد ؛ وقيل : في الرزق ، ولا مانع من حمل
السعة على ما هو أعمّ من ذلك. قوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) قرئ : يدركه بالجزم ، على أنه معطوف على فعل الشرط ،
وبالرفع ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وبالنصب على إضمار أن. والمعنى : أن من أدركه
الموت قبل أن يصل إلى مطلوبه ، وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه ، أو الأمر الذي
قصد الهجرة له (فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : ثبت ذلك عنده ثبوتا لا يتخلف (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) أي : كثير المغفرة (رَحِيماً) أي : كثير الرحمة. وقد استدلّ بهذه الآية : على أن
الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك ، أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهارا ،
إذا كان قادرا على الهجرة ولم يكن من المستضعفين ، لما في هذه الآية الكريمة من
العموم ، وإن كان السبب خاصا كما تقدّم. وظاهرها : عدم الفرق
بين مكان ومكان وزمان وزمان. وقد ورد في الهجرة أحاديث ، وورد ما يدلّ على
أنه لا هجرة بعد الفتح. وقد أوضحنا ما هو الحقّ في شرحنا على المنتقى فليرجع إليه.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس
قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم
يوم بدر ، فأصيب بعضهم وقتل البعض ، فقال المسلمون : قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين
وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت بهم هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية ،
وأنه لا عذر لهم ، فخرجوا ، فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا
وأيسوا من كل خير ، فنزلت فيهم : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فكتبوا إليهم بذلك : أن الله قد جعل لكم مخرجا فاخرجوا
، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل. وقد أخرجه
البخاري وغيره عنه مقتصرا على أوله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي
حاتم عن عكرمة في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) إلى قوله : (وَساءَتْ مَصِيراً) قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن
ربيعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج ،
وعلي بن أمية بن خلف ، قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن
حرب وعير قريش من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة ، خرجوا
معهم بشباب كارهين ، كانوا قد أسلموا ، واجتمعوا ببدر على غير موعد ، فقتلوا ببدر
كفارا ، ورجعوا عن الإسلام ، وهم هؤلاء الذين سميناهم. وقد أخرج نحوه عبد بن حميد
، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن إسحاق. وقد روي نحو هذا من طرق. وقد أخرج
البخاري وغيره عن ابن عباس أنه تلا هذا الآية : (إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) فقال : كنت أنا وأمي من المستضعفين ، أنا من الولدان
وأمي من النساء. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) قال : قوّة. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) قال : نهوضا إلى المدينة (وَلا يَهْتَدُونَ
سَبِيلاً) قال : طريقا إلى المدينة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
قوله : (مُراغَماً كَثِيراً
وَسَعَةً) قال : المراغم : المتحوّل من أرض إلى أرض. والسعة :
الرزق. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (مُراغَماً) قال : متزحزحا عما يكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في
قوله : (وَسَعَةً) قال : ورخاء. وأخرج أيضا عن مالك قال : سعة البلاد.
وأخرج أبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، قال السيوطي بسند رجاله ثقات : عن
ابن عباس قال :
__________________
خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا ، فقال لقومه : احملوني فأخرجوني من أرض
الشرك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فنزل الوحي : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
من وجه آخر عنه نحوه. وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والحاكم ، وصححه عن عبد الله بن
عتيك قال : سمعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول : «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله ، وأين
المجاهدون في سبيل الله؟ فخرّ عن دابّته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته
دابّة فمات فقد وقع أجره على الله ، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله» ـ يعني
بحتف أنفه : على فراشه ، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ـ «ومن قتل قعصا فقد استوجب الجنّة». وأخرج أبو يعلى ، والبيهقي في شعب
الإيمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من خرج حاجّا فمات كتب له أجر الحاجّ إلى يوم
القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج
غازيا في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة». قال ابن كثير : وهذا
حديث غريب من هذا الوجه.
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ
خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا
سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ
بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢))
قوله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ) قد تقدّم تفسير الضرب في الأرض قريبا. قوله : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) فيه دليل : على أن القصر ليس بواجب ، وإليه ذهب
الجمهور. وذهب الأقلون : إلى أنه واجب ، ومنهم : عمر بن عبد العزيز ، والكوفيون ،
والقاضي إسماعيل ، وحماد بن أبي سليمان ، وهو مرويّ عن مالك. واستدلوا بحديث عائشة
الثابت في الصحيح : «فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرّت في السّفر».
ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت ، فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومثله : حديث يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب
، قلت : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) وقد أمن الناس ، فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فقال : «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا
صدقته» أخرجه أحمد ، ومسلم ، وأهل السنن. وظاهر قوله : «فاقبلوا صدقته» : أن القصر
واجب. قوله : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلّا مع خوف
الفتنة من الكافرين لا مع الأمن ، ولكنه قد تقرّر بالسنة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قصر مع الأمن كما عرفت ، فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب
، والقصر مع الأمن ثابت
__________________
بالسنة ، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلىاللهعليهوسلم من القصر مع الأمن. وقد قيل : إن هذا الشرط خرّج مخرج
الغالب ، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار ، ولهذا قال يعلى
ابن أمية لعمر ما قال كما تقدّم. وفي قراءة أبيّ : أن تقصروا من الصّلاة أن يفتنكم
الذين كفروا بسقوط (إِنْ خِفْتُمْ) والمعنى على هذه القراءة : كراهة أن يفتنكم الذين
كفروا. وذهب جماعة من أهل العلم : إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر
للخائف من العدوّ ، فمن كان آمنا فلا قصر له. وذهب آخرون إلى أن قوله : (إِنْ خِفْتُمْ) ليس متصلا بما قبله وأن الكلام تمّ عند قوله : (مِنَ الصَّلاةِ) ثم افتتح فقال : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف. وقوله : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِيناً) معترض ، ذكر معنى هذا الجرجاني ، والمهدوي ، وغيرهما.
ورده القشيري ، والقاضي أبو بكر بن العربي. وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما
ذكره الجرجاني ومن معه ، ومما يرد هذا ويدفعه : الواو في قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) وقد تكلف بعض المفسرين فقال : إن الواو زائدة ، وإن
الجواب للشرط المذكور ، أعني قوله : (إِنْ خِفْتُمْ) هو قوله : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ) وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة ، وهي : حديث
عمر الذي قدّمنا ذكره ، وما ورد في معناه. قوله : (أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) قال الفراء : أهل الحجاز يقولون : فتنت الرجل ، وربيعة
وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون : أفتنت الرجل ، وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا
: فتنته : جعلت فيه فتنة مثل كحلته ، وأفتنته : جعلته مفتنا ، وزعم الأصمعي أنه لا
يعرف أفتنته. والمراد بالفتنة : القتال والتعرّض بما يكره. قوله : (عَدُوًّا) أي أعداء. قوله : (وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) هذا خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولمن بعده من أهل الأمر ، حكمه كما هو معروف في الأصول
، ومثله قوله تعالى : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ونحوه ، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء ، وشذ أبو يوسف ،
وإسماعيل بن علية فقالا : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قالا : ولا يلحق غيره به لما له صلىاللهعليهوسلم من المزية العظمى ، وهذا مدفوع ، فقد أمرنا الله باتباع
رسوله والتأسي به ، وقد قال صلىاللهعليهوسلم «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن ،
وقد صلوها بعد موته في غير مرّة كما ذلك معروف. ومعنى : (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) أردت الإقامة ، كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) قوله : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ) يعني : بعد أن تجعلهم طائفتين ؛ طائفة تقف بإزاء العدوّ
، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة (وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ) أي : الطائفة التي تصلي معه ؛ وقيل : الضمير راجع إلى
الطائفة التي بإزاء العدوّ ، والأوّل أظهر ، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدوّ لا
بدّ أن تكون قائمة بأسلحتها ، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة ، لأنه
يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة فأمره الله بأن يكون آخذا لسلاحه ، أي : غير واضع
له. وليس المراد الأخذ باليد ، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من
قرب إذا احتاجوا إليه ، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوّهم من إمكان فرصته فيهم. وقد
قال بإرجاع الضمير من قوله : (وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ) إلى الطائفة القائمة بإزاء العدوّ ابن عباس ، قال : لأن
المصلية لا تحارب ،
__________________
وقال غيره : إن الضمير راجع إلى المصلية ، وجوّز الزجاج ، والنحاس أن يكون
ذلك أمرا للطائفتين جميعا ، لأنه أرهب للعدوّ. وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة
أهل الظاهر حملا للأمر على الوجوب. وذهب أبو حنيفة : إلى أن المصلين لا يحملون
السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة ، وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث
الصحيحة. قوله : (فَإِذا سَجَدُوا) أي : القائمون في الصلاة (فَلْيَكُونُوا) أي : الطائفة القائمة بإزاء العدوّ (مِنْ وَرائِكُمْ) أي : من وراء المصلين. ويحتمل أن يكون المعنى : فإذا
سجد المصلون معه ، أي : أتموا الركعة ، تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة ، أو عن
جميع الصلاة (فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرائِكُمْ) أي : فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدوّ للحراسة (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى) وهي القائمة في مقابلة العدو التي لم تصلّ (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى (وَلْيَأْخُذُوا) أي : هذه الطائفة الأخرى (حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ) زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ
السلاح. قيل : وجهه : أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع
النبي صلىاللهعليهوسلم في شغل شاغل ، وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم
قائمين للحرب ، وقيل : لأن العدوّ لا يؤخر قصده عن هذا الوقت ، لأنه آخر الصلاة ،
والسلاح : ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب ، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي
كل طائفة من الطائفتين؟ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة ،
وصفات متعددة ، وكلها صحيحة مجزئة ، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به ، ومن
ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب ، وقد أوضحنا هذا في
شرحنا للمنتقى ، وفي سائر مؤلفاتنا. قوله : (وَدَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ
عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر
وأخذ السلاح ، أي : ودّوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم ،
وينالوا فرصتهم ، فيشدّون عليكم شدّة واحدة ، والأمتعة : ما يتمتع به في الحرب ،
ومنه : الزاد والراحلة. قوله : (وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ
تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر
وفي حال المرض ، لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح ، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا
يأتيهم العدو على غرّة وهم غافلون.
وقد أخرج ابن
أبي شيبة ، وعبد بن حميد عن أبي حنظلة قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان
، قلت : فأين قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ونحن آمنون؟ قال : سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن حبان
، والبيهقي عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر : أرأيت قصر
الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله ، إنما نجد ذكر صلاة الخوف ، فقال ابن
عمر : يا ابن أخي! إن الله أرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم ولا نعلم شيئا ، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يفعل ، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وفي الصحيحين وغيرهما عن حارثة بن وهب الخزاعي قال :
صليت مع النبي صلىاللهعليهوسلم الظهر والعصر بمنى ـ أكثر ما كان الناس وآمنه ـ ركعتين.
وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وصححه ، والنسائي عن ابن عباس قال : صلينا مع
رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين.
وأخرج ابن جرير عن عليّ قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا رسول الله! إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟
فأنزل الله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبيّ صلىاللهعليهوسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : قد أمنكم محمد وأصحابه من
ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل الله
بين الصلاتين : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا
مُبِيناً. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) فنزلت صلاة الخوف. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ،
وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم عن أبي عياش الزرقي
قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد ،
وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلىاللهعليهوسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم ،
ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، فنزل جبريل
بهذه الآيات : (وَإِذا كُنْتَ
فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) ثم ذكر صفة الصلاة التي صلوها مع النبي صلىاللهعليهوسلم. والأحاديث في صفة صلاة الخوف كثيرة ، وهي مستوفاة في
مواطنها ، فلا نطول بذكرها هاهنا. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله : (إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ
أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) قال : نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، كان جريحا.
(فَإِذا قَضَيْتُمُ
الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ
مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤))
(قَضَيْتُمُ) بمعنى : فرغتم من صلاة الخوف ، وهو أحد معاني القضاء ،
ومثله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ
مَناسِكَكُمْ) (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ
قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) أي : في جميع الأحوال ، حتى في حال القتال. وقد ذهب
جمهور العلماء : إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف ، أي : إذا
فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال ؛ وقيل : معنى قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) : إذا صليتم فصلوا قياما وقعودا أو على جنوبكم ، حسبما
يقتضيه الحال عند ملاحمة القتال ، فهي مثل قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) . قوله : (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) أي : أمنتم وسكنت قلوبكم ، والطمأنينة : سكون النفس من
الخوف (فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) أي : فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة
من الأذكار والأركان ، ولا تغفلوا ما أمكن ، فإن ذلك إنما هو في حال الخوف. وقيل :
المعنى في الآية : أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة ، لأنها حالة قلق وانزعاج
وتقصير في الأذكار والأركان ، وهو مرويّ عن الشافعيّ ، والأوّل أرجح. (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) أي : محدودا معينا ، يقال : وقته فهو موقوت ووقّته فهو
مؤقّت. والمعنى : إن الله افترض على عباده الصلوات ،
__________________
وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة ، لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك
الوقت إلا لعذر شرعي ، من نوم أو سهو أو نحوهما. قوله : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) أي : لا تضعفوا في طلبهم ، وأظهروا القوّة والجلد. قوله
: (إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) تعليل للنهي المذكور قبله ، أي : ليس ما تجدونه من ألم
الجراح ومزاولة القتال مختصا بكم ، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم ، فليسوا بأولى
منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب ، ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم ،
وهي : أنكم ترجون من الله من الأجر وعظيم الجزاء ما لا يرجونه لكفرهم وجحودهم ، فأنتم
أحقّ بالصبر منهم ، وأولى بعدم الضعف منهم ، فإن أنفسكم قوية ، لأنها ترى الموت
مغنما ، وهم يرونه مغرما. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ
الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) وقيل : إن الرجاء هنا بمعنى الخوف ، لأن من رجا شيئا
فهو غير قاطع بحصوله ، فلا يخلو من خوف ما يرجو. وقال الفراء والزجاج : لا يطلق
الرجاء بمعنى الخوف إلّا مع النفي ، كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي : لا تخافون له عظمة. وقرأ عبد الرحمن الأعرج : (إِنْ تَكُونُوا) بفتح الهمزة ، أي : لأن تكونوا ، وقرأ منصور بن المعتمر
: تئلمون ، بكسر التاء ، ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً
وَعَلى جُنُوبِكُمْ) قال : بالليل والنهار ، في البرّ والبحر ، وفي السفر
والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسرّ والعلانية ، وعلى كل حال. وأخرج
ابن أبي شيبة عن ابن مسعود : أنه بلغه أن قوما يذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم ، فقال : إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائما صلى قاعدا. وأخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد (فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ) قال : إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) قال : أتموها. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه أيضا. وأخرج
ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ
كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) يعني مفروضا. وأخرج ابن جرير عنه قال : الموقوت الواجب.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلا تَهِنُوا) قال : ولا تضعفوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في
قوله : (تَأْلَمُونَ) قال : توجعون (وَتَرْجُونَ مِنَ
اللهِ ما لا يَرْجُونَ) قال : ترجون الخير.
(إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا
تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا
يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ
هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ
عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩))
قوله : (بِما أَراكَ اللهُ) إما بوحي ، أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى الله به ،
وليس المراد هنا
__________________
رؤية العين ، لأن الحكم لا يرى ، بل المراد : بما عرّفه الله به وأرشده
إليه. قوله : (وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ) أي : لأجل الخائنين ، خصيما : أي : مخاصما عنهم ،
مجادلا للمحقين بسببهم. وفيه دليل ، على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد
أن يعلم أنه محق. قوله : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أمر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بالاستغفار. قال ابن جرير : إن المعنى : استغفر الله من
ذنبك في خصامك للخائنين. وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية ، وبه يتضح
المراد. وقيل : المعنى : واستغفر الله للمذنبين من أمتك ، والمخاصمين بالباطل.
قوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ
الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) أي : لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم ، والمجادلة :
مأخوذة من الجدل ، وهو الفتل ؛ وقيل : مأخوذة من الجدالة ، وهي وجه الأرض ، لأن كل
واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها ، وسمي ذلك : خيانة لأنفسهم ، لأن ضرر
معصيتهم راجع إليهم. والخوّان : كثير الخيانة ، والأثيم : كثير الإثم ، وعدم
المحبة : كناية عن البغض. قوله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ
النَّاسِ) أي : يستترون منهم ، كقوله : (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي : مستتر ؛ وقيل : يستخفون من الناس ولا يستخفون من
الله : أي لا يستترون منه ، أو لا يستحيون منه والحال أنه معهم في جميع أحوالهم ،
عالم بما هم فيه ، فكيف يستخفون منه؟ (إِذْ يُبَيِّتُونَ) أي : يديرون الرأي بينهم ، وسماه : تبييتا ؛ لأن الغالب
أن تكون إدارة الرأي بالليل (ما لا يَرْضى مِنَ
الْقَوْلِ) أي : من الرأي الذي أداروه بينهم ، وسماه : قولا ، لأنه
لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم. قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) يعني : القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق كما سيأتي
، والجملة مبتدأ وخبر. قال الزجاج : أولاء بمعنى الذين و (جادَلْتُمْ) بمعنى حاججتم (فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، أي : فمن يخاصم ويجادل
الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم؟ (أَمْ مَنْ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي : مجادلا ومخاصما ، والوكيل في الأصل : القائم
بتدبير الأمور. والمعنى : من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه.
وقد أخرج
الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ،
وصححه عن قتادة بن النعمان قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق بشر وبشير
ومبشر ، وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر ، يهجو به أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان : كذا وكذا
، قال فلان : كذا وكذا ؛ فإذا سمع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا
الخبيث ، فقال :
أو كلّما قال
الرّجال قصيدة
|
|
أصمّوا
فقالوا ابن الأبيرق قالها
|
قال : وكانوا
أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر
والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة ، أي : حمولة من الشام من الدرمك ؛ ابتاع الرجل منها
__________________
فخصّ بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضافطة من
الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن رافع جملا من الدرمك ، فجعله في مشربة ، وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما ،
فعدي عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني
عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي! تعلم أن قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا
، فذهب بطعامنا وسلاحنا ، قال : فتحسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا
بني أبيرق استوقدوا نارا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم ،
وكان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل
رجلا منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق وقال :
أنا أسرق؟ فو الله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا
أيها الرجل! فو الله ما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ،
فقال لي عمي : يا ابن أخي أو أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكرت ذلك له ؛ قال قتادة : فأتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله! إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا
إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردّوا علينا
سلاحنا ، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : سأنظر في ذلك ؛ فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا
منهم يقال له : أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار ،
فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا رسول الله! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا
إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت ، قال قتادة
: فأتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فكلمته فقال : عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح
ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت؟ قال قتادة : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض
مالي ولم أكلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال لي : يا بن أخي! ما
صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ
لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) بني أبيرق (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) أي : مما قلت لقتادة (إِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) إلى قوله : (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) أي : لو استغفروا لهم (وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْماً) إلى قوله : (فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) قولهم للبيد. (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) يعني : أسير بن عروة ، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة ؛ قال قتادة : فلما أتيت عمي
بالسلاح وكان شيخا قد غشي في الجاهلية ، أي : كبر ، وكنت أرى إسلامه مدخولا ، فلما
أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي! هو في سبيل الله ، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ،
فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى) إلى قوله : (ضَلالاً بَعِيداً) فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر ،
فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ، ثم قالت : أهديت لي شعر
حسان؟ ما كنت تأتيني بخير. قال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا
__________________
نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. ورواه يونس بن بكير وغير واحد
عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا ، لم يذكر فيه عن أبيه عن جدّه.
ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة به ببعضه. ورواه
ابن المنذر في تفسيره قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، يعني : الصانع ، حدّثنا أحمد
بن أبي شعيب الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة ، فذكره بطوله. ورواه أبو الشيخ
الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب ، والحسن بن يعقوب ، كلاهما عن
الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به ، ثم قال في آخره : قال
محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيي بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن أبي
إسرائيل. وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد ابن عبد
الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه ، ثم قال :
هذا صحيح على شرط مسلم. وقد أخرجه ابن سعد عن محمود بن لبيد قال : غدا بشير ،
فذكره مختصرا ، وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطوّلة عن جماعة من التابعين.
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً
(١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ
بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ
اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣))
هذا من تمام
القصة السابقة ، والمراد بالسوء : القبيح الذي يسوء به (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بفعل معصية من المعاصي ، أو ذنب من الذنوب التي لا
تتعدى إلى غيره (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللهَ) يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً) لذنبه (رَحِيماً) به ، وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن
يتوب إلى الله ويستغفره ، وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به. وقال الضحاك : إن هذه
الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة ، أشرك بالله وقتل حمزة ، ثم جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وقال : هل لي من توبة؟ فنزلت. وعلى كل حال فالاعتبار
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنبا ثم استغفره الله
سبحانه. قوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ
إِثْماً) من الآثام بذنب يذنبه (فَإِنَّما يَكْسِبُهُ
عَلى نَفْسِهِ) أي : عاقبته عائدة عليه ، والكسب : ما يجر به الإنسان
إلى نفسه نفعا أو يدفع به ضررا ، ولهذا لا يسمى فعل الربّ كسبا ، قال القرطبي. (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) قيل : هما بمعنى واحد ، كرر للتأكيد. وقال الطبري : إن
الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد ، وقيل : الخطيئة :
الصغيرة ، والإثم : الكبيرة. قوله : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
بَرِيئاً) توحيد الضمير لكون العطف بأو ، أو لتغليب الإثم على
الخطيئة ، وقيل : إنه يرجع إلى الكسب. قوله : (فَقَدِ احْتَمَلَ
بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل ،
ومثله : (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) . والبهتان : مأخوذ من
__________________
البهت ، وهو الكذب على البريء بما ينبهت له ويتحير منه ، يقال : بهته بهتا
وبهتانا : إذا قال عليه ما لم يقل ، ويقال : بهت الرجل بالكسر : إذا دهش وتحير ،
وبهت بالضم ، ومنه : (فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ) ، والإثم المبين : الواضح. قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ) خطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمراد بهذا الفضل والرحمة لرسول الله : أنه نبهه
على الحق في قصة بني أبيرق. وقيل : المراد بهما : النبوّة والعصمة (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي : من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق كما تقدّم (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن الحق (وَما يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأن وبال ذلك عائد عليهم (وَما يَضُرُّونَكَ
مِنْ شَيْءٍ) لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس ، ولأنك عملت
بالظاهر ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي ، والجار والمجرور : في محل نصب
على المصدرية ، أي : وما يضرونك شيئا من الضرر. قوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) قيل : هذا ابتداء كلام ، وقيل : الواو : للحال ، أي :
وما يضرّونك من شيء حال إنزال الله عليك الكتاب والحكمة ، أو مع إنزال الله ذلك
عليك. قوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ) معطوف على أنزل ، أي : علمك بالوحي ما لم تكن تعلم من
قبل (وَكانَ فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكَ عَظِيماً) إذ لا فضل أعظم من النبوّة ونزول الوحي.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية. قال : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة
رحمته ومغفرته ، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا ؛ ثم استغفر الله ؛ يجد الله
غفورا رحيما ؛ ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. وأخرج عبد ابن حميد
عن ابن مسعود قال : من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ؛ ثم استغفر الله ؛ غفر
له (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً
رَحِيماً)(وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) قال : علمه الله بيان الدنيا والآخرة ، بين حلاله
وحرامه ليحتج بذلك على خلقه. وأخرج أيضا عن الضحاك قال : علمه الخير والشر ، وقد
ورد في قبول الاستغفار ، وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدوّنة في كتب السنة.
(لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ
إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥))
النجوى : السرّ
بين الاثنين أو الجماعة ، تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون ،
ونجوت فلانا أنجوه نجوى ، أي : ناجيته ، فنجوى : مشتقة من نجوت الشيء أنجوه ، أي :
خلصته وأفردته. والنجوة من الأرض : المرتفع ، لانفراده بارتفاعه عما حوله ،
فالنجوى : المسارّة ، مصدر. وقد تسمى به الجماعة كما يقال قوم عدل ، قال الله
تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) فعلى الأوّل يكون الاستثناء منقطعا ، أي : لكن من أمر
بصدقة ، أو متصلا ، على تقدير : إلا نجوى من أمر بصدقة ، وعلى الثاني يكون
الاستثناء متصلا في موضع خفض على البدل من كثير. أي : لا خير في كثير إلا فيمن أمر
بصدقة. وقد قال جماعة من المفسرين :
__________________
إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين سواء كان ذلك سرّا أو جهرا ،
وبه قال الزجاج. قوله :
(بِصَدَقَةٍ) الظاهر أنها صدقة التطوّع ، وقيل : إنها صدقة الفرض.
والمعروف : صدقة التطوّع ، والأوّل أولى. والمعروف : لفظ عام يشمل جميع أنواع
البرّ. وقال مقاتل : المعروف هنا : القرض. والأوّل أولى ، ومنه قول الحطيئة :
من يفعل
الخير لا يعدم جوازيه
|
|
لا يذهب
العرف بين الله والنّاس
|
ومنه الحديث : «كلّ
معروف صدقة ، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» ، وقيل : المعروف : إغاثة
الملهوف. والإصلاح بين الناس عامّ في الدماء والأعراض والأموال ، وفي كل شيء يقع
التداعي فيه. قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) إشارة إلى الأمور المذكورة ، جعل مجرّد الأمر بها خيرا
، ثم رغب في فعلها بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرّد الأمر بها ، إذ خيرية
الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها. قوله : (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ
اللهِ) علة للفعل ، لأن من فعلها لغير ذلك فهو غير مستحق لهذا
المدح والجزاء ، بل قد يكون غير ناج من الوزر ، والأعمال بالنيات (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) المشاققة : المعاداة والمخالفة. وتبين الهدى : ظهوره ،
بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاققة (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي : غير طريقهم ، وهو ما هم عليه من دين الإسلام ،
والتمسك بأحكامه (نُوَلِّهِ ما
تَوَلَّى) أي : نجعله واليا لما توالاه من الضلال (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) قرأ عاصم ، وحمزة ، وأبو عمرو : نولّه ونصله بسكون
الهاء في الموضعين. وقرأ الباقون : بكسر هما ، وهما لغتان ، وقرئ : ونصله بفتح
النون من صلاه ، وقد تقدّم بيان ذلك. وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على
حجية الإجماع لقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) ولا حجة في ذلك عندي ، لأن المراد بغير سبيل المؤمنين
هنا : هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره ، كما يفيده اللفظ ، ويشهد به السبب ،
فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية ؛ اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام
؛ فأدّاه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين ، فإنه إنما رام السلوك في
سبيل المؤمنين ، وهو الدين القويم والملة الحنيفية ولم يتبع غير سبيلهم.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وغيرهم عن أمّ حبيبة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلام ابن آدم كلّه عليه لا له ، إلا أمرا بمعروف ،
أو نهيا عن منكر ، أو ذكرا لله عزوجل». قال سفيان الثوري : هذا في كتاب الله (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) الآية ، وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ
وَقالَ صَواباً) ، وقوله : (وَالْعَصْرِ ـ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ـ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) . وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت والتحذير من آفات
اللسان والترغيب في حفظه ، وفي الحثّ على الإصلاح بين الناس. وأخرج ابن أبي حاتم
عن مقاتل بن حيان في قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس. وأخرج أبو نصر السجزي
في الإبانة عن أنس قال : «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن الله
__________________
أنزل عليّ في القرآن يا أعرابيّ (لا خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) إلى قوله : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً) يا أعرابيّ! الأجر العظيم : الجنة ؛ قال الأعرابي :
الحمد لله الذي هدانا للإسلام». وأخرج الترمذي ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن
ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يجمع الله بين هذه الأمة على الضّلالة أبدا ، ويد
الله على الجماعة ، فمن شذّ شذّ في النّار». وأخرجه الترمذي ، والبيهقي أيضا عن
ابن عباس مرفوعا.
(إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧)
لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ
الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ
الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً (١٢٢))
قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) قد تقدّم تفسير هذه الآية ، وتكريرها بلفظ للتأكيد ؛
وقيل : كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق ؛ وقيل : إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني
أبيرق. وهو ما رواه الثعلبي ، والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك : أن شيخا من
الأعراب جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله! إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا
إلّا أني لم أشرك بالله شيئا مذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع
المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ، وإني لنادم وتائب ومستغفر ، فما حالي عند
الله؟ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَقَدْ ضَلَ) عن الحق (ضَلالاً بَعِيداً) لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِناثاً) أي : ما يدعون من دون الله إلّا أصناما لها أسماء مؤنثة
كاللات والعزى ومناة ؛ وقيل : المراد بالإناث : الموات التي لا روح لها ، كالخشبة
والحجر ؛ وقيل : المراد بالإناث : الملائكة ، لقولهم : الملائكة بنات الله. وقرئ «وثنا»
بضم الواو والثاء جمع وثن ، روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة. وقرأ ابن عباس
: «إلّا أثنا» جمع وثن أيضا ، وأصله : وثن ، فأبدلت الواو همزة ، وقرأ الحسن :
إلّا أنثا ، بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة ، جمع أنيث ، كغدير وغدر. وحكى الطبري
: أنه جمع إناث ، كثمار وثمر. وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : وقرأ بها ابن عباس ، والحسن وأبو حيوة. وعلى جميع
هذه القراءات فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين ، والإزراء عليهم ، والتضعيف
لعقولهم ، لكونهم عبدوا من دون الله نوعا ضعيفا (وَإِنْ يَدْعُونَ
إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي : وما يدعون من دون الله إلّا شيطانا مريدا ، وهو
إبليس لعنه الله ، لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل فقد عبدوه. وقد تقدّم اشتقاق لفظ
الشيطان. والمريد : المتمرّد العاتي ، من مرد :
إذا عتا. قال الأزهري : المريد : الخارج عن الطاعة. وقد مرد الرجل مرودا :
إذا عتا وخرج عن الطاعة ، فهو مارد ومريد ومتمرّد. وقال ابن عرفة : هو الذي ظهر
شرّه ، يقال : شجرة مرداء : إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها ، ومنه قيل للرجل :
أمرد ، أي : ظاهر مكان الشعر من عارضيه. قوله : (لَعَنَهُ اللهُ) أصل اللعن : الطرد والإبعاد. وقد تقدّم وهو في العرف :
إبعاد مقترن بسخط. قوله : (وَقالَ
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) معطوف على قوله : (لَعَنَهُ اللهُ) ، والجملتان صفة لشيطان ، أي : شيطانا مريدا جامعا بين
لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع. والنصيب المفروض : هو المقطوع المقدّر ؛ أي :
لأجعلنّ قطعة مقدّرة من عباد الله تحت غوايتي ، وفي جانب إضلالي ، حتى أخرجهم من
عبادة الله إلى الكفر به. قوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) اللام : جواب قسم محذوف. والإضلال : الصرف عن طريق
الهداية إلى طريق الغواية ، وهكذا اللام في قوله : (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
وَلَآمُرَنَّهُمْ) والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان : هي الأماني
الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته. قوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) أي : ولآمرنهم ببتك آذان الأنعام ، أي : تقطيعها
فليبتكنها بموجب أمري. والبتك : القطع ، ومنه سيف باتك ، يقال : بتكه وبتكه مخففا
ومشدّدا ، ومنه قول زهير :
طارت وفي كفّه من ريشها بتك
أي : قطع. وقد
فعل الكفار ذلك امتثالا لأمر الشيطان واتباعا لرسمه ، فشقوا آذان البحائر والسوائب
، كما ذلك معروف. قوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) أي : ولآمرنهم بتغيير خلق الله ، فليغيرنه بموجب أمري
لهم. واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو؟ فقالت طائفة : هو الخصاء ، وفقء الأعين
، وقطع الآذان. وقال آخرون : إن المراد بهذا التغيير : هو أن الله سبحانه خلق
الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له ، فغيرها الكفار
بأن جعلوها آلهة معبودة ، وبه قال الزجاج. وقيل : المراد بهذا التغيير : تغيير
الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولا مانع من حملى الآية على جميع هذه الأمور
حملا شموليا أو بدليا.
وقد رخص طائفة
من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره ، وكره
ذلك آخرون ، وأما خصاء بني آدم فحرام ، وقد كره قوم شراء الخصي. قال القرطبي : ولم
يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز ، وأنه مثلة ، وتغيير لخلق الله ، وكذلك
قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود ، قاله أبو عمر ابن عبد البر. (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا
مِنْ دُونِ اللهِ) باتباعه وامتثال ما يأمر به ، من دون اتباع لما أمر
الله به ولا امتثال له (فَقَدْ خَسِرَ
خُسْراناً مُبِيناً) أي : واضحا ظاهرا (يَعِدُهُمْ) المواعيد الباطلة (وَيُمَنِّيهِمْ) الأماني العاطلة (وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي : وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من
الوساوس الفارغة (إِلَّا غُرُوراً) يغرّهم به ، ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض ،
__________________
وانتصاب غرورا : على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : وعدا غرورا ، أو على أنه
مفعول ثان ، أو مصدر على غير لفظه. قال ابن عرفة : الغرور : ما رأيت له ظاهرا تحبه
وله باطن مكروه. وهذه الجملة اعتراضية. قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى أولياء الشيطان ، وهذا مبتدأ ، وخبره الجملة
، وهي قوله : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ). قوله : (مَحِيصاً) أي : معدلا ، من حاص يحيص ؛ وقيل : ملجأ ومخلصا ؛
والمحيص : اسم مكان ، وقيل : مصدر. قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلخ ، جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترنا بالوعيد
المتقدّم للكافرين. قوله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) قال في الكشاف مصدران : الأوّل مؤكد لنفسه ، والثاني
مؤكد لغيره ، ووجهه ، أن الأوّل مؤكد لمضمون الجملة الاسمية ومضمونها وعد ،
والثاني مؤكد لغيره. أي : حق ذلك حقا. قوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
اللهِ قِيلاً) هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، والقيل : مصدر قال كالقول
، أي : لا أجد أصدق قولا من الله عزوجل ؛ وقيل : إن قيلا : اسم لا مصدر ، وإنه منتصب على
التمييز.
وقد أخرج
الترمذي من حديث عليّ أنه قال : ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه الآية (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قال الترمذي : حسن غريب. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير
، وابن المنذر عن أبي مالك في قوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) قال : اللات والعزى ومناة ، كلها مؤنثة. وأخرج عبد الله
بن أحمد في زوائد المسند ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والضياء في المختارة عن
أبيّ بن كعب في الآية قال : مع كل صنم جنية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن
أبي حاتم ، عن ابن عباس : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) قال : موتى. وأخرج مثله عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن. وأخرج مثله أيضا عبد بن حميد ، وابن جرير عن
قتادة. وأخرج سعيد ابن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الحسن. قال : كان لكل
حيّ من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها : أنثى بني فلان ، فأنزل الله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِناثاً). وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك : قال
المشركون : إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال :
اتخذوهنّ أربابا ، وصوروهنّ صور الجواري ، فحلوا وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يشبهن
بنات الله الذي نعبده : يعنون : الملائكة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في
قوله : (وَقالَ
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ) إلخ ، قال : هذا إبليس يقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة
وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. وأخرج ابن المنذر عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج
عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) قال : التبتيك في البحيرة والسائبة ، يبتكون آذانها
لطواغيتهم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر عن أنس : أنه كره الإخصاء وقال : فيه نزلت : (وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن
عباس مثله. وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن خصاء البهائم والخيل. وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي
عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن صبر الروح وإخصاء البهائم. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللهِ)
قال : دين الله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج سعيد بن منصور ،
وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله أيضا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن قال : الوشم.
(لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً
مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))
قرأ أبو جعفر :
بتخفيف الياء من أماني في الموضعين ، واسم ليس محذوف ، أي : ليس دخول الجنة أو
الفضل أو القرب من الله بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب ، كما يدل على ذلك سبب
نزول الآية الآتي ، وقيل : ضمير يعود إلى وعد الله ، وهو بعيد ، ومن أمانيّ أهل
الكتاب قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ
اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) . قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) قيل : المراد بالسوء : الشرك ، وظاهر الآية أعمّ من ذلك
، فكل من عمل سوءا أيّ سوء كان ؛ فهو مجزيّ به ، من غير فرق بين المسلم والكافر.
وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد ، وقد كان لها في صدور
المسلمين عند نزولها موقع عظيم ، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ،
قال : لما نزلت : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) بلغت من المسلمين مبلغا شديدا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قاربوا وسدّدوا ، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة
حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها». قوله : (وَلا يَجِدْ لَهُ) قرأه الجماعة : بالجزم ، عطفا على الجزاء ، وروى ابن
بكار عن ابن عامر : (وَلا يَجِدْ) بالرفع استئنافا ؛ أي : ليس لمن يعمل السوء من دون الله
وليا يواليه ، ولا نصيرا ينصره. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ) أي : بعضها حال كونه (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى) وحال كونه مؤمنا ، والحال الأولى : لبيان من يعمل ،
والحال الأخرى : لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح (فَأُولئِكَ) إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) قرأ أبو عمرو ، وابن كثير : (يَدْخُلُونَ) بضم حرف المضارعة على البناء المجهول. وقرأ الباقون :
بفتحها على البناء للمعلوم (وَلا يُظْلَمُونَ
نَقِيراً) أي : لا ينقصون شيئا حقيرا ، وقد تقدّم تفسير النقير : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي : أخلص نفسه له حال كونه محسنا ، أي : عاملا للحسنات
(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ) أي : دينه حال كون المتبع (حَنِيفاً) أي : مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الحق ، وهو
الإسلام (وَاتَّخَذَ اللهُ
إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) أي : جعله صفوة له وخصه بكراماته ، قال ثعلب : إنما سمي
الخليل خليلا : لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلّا ملأته ، وأنشد قول
بشار :
قد تخلّلت
مسلك الرّوح منّي
|
|
وبه سمّي
الخليل خليلا
|
__________________
وخليل : فعيل
بمعنى فاعل ، كالعليم بمعنى العالم ، وقيل : هو بمعنى المفعول ، كالحبيب بمعنى
المحبوب ، وقد كان إبراهيم عليهالسلام محبوبا لله ومحبا له ؛ وقيل : الخليل من الاختصاص ،
فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها ، واختار هذا النحاس.
وقال الزجاج : معنى الخليل : الذي ليس في محبته خلل (وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلا لطاعته ،
لا لحاجته ، ولا للتكثر به والاعتضاد بمخاللته (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطاً) هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها ، أي : أحاط
علمه بكل شيء (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) .
وقد أخرج سعيد
بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال
: قالت العرب : لا نبعث ولا نحاسب ، وقالت اليهود والنصارى : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ
كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) وقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا
النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) فأنزل الله : (لَيْسَ
بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ). وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر عن
مسروق قال : احتج المسلمون وأهل الكتاب ، فقال المسلمون : نحن أهدى منكم ، وقال
أهل الكتاب : نحن أهدى منكم ، فنزلت ، ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم
عن مسروق قال : تفاخر النصارى وأهل الإسلام ، فقال هؤلاء : نحن أفضل منكم ، وقال
هؤلاء : نحن أفضل منكم ، فنزلت. وقد ورد معنى هذه الروايات من طرق كثيرة مختصرة
ومطوّلة. وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن المنذر عن أبي بكر الصديق : أن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال له لما نزلت هذه الآية : «أما أنت وأصحابك يا أبا
بكر فتجزون بذلك في الدّنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم
ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة». وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة
وأبي سعيد : أنهما سمعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن
حتّى الهمّ يهمّه إلّا كفّر الله به من سيئاته». وقد ورد في هذا المعنى أحاديث
كثيرة. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن ابن عمر لقيه فسأله عن
هذه الآية : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ) قال : الفرائض. وأخرج الحاكم ، وصححه عن جندب : أنه سمع
النبي صلىاللهعليهوسلم يقول قبل أن يتوفى : «إنّ الله اتّخذني خليلا كما اتّخذ
إبراهيم خليلا». وأخرج الحاكم أيضا وصححه عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة
لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلىاللهعليهوسلم؟
(وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ
وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِهِ عَلِيماً (١٢٧))
سبب نزول هذه
الآية : سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره ، فأمر الله
نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم : (اللهُ يُفْتِيكُمْ) أي : يبين لكم حكم ما سألتم عنه ، وهذه الآية رجوع إلى
ما
__________________
افتتحت به السورة من أمر النساء ، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها ،
فسألوا ، فقيل لهم : (اللهُ يُفْتِيكُمْ). قوله : (وَما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) معطوف على قوله : (اللهُ يُفْتِيكُمْ) والمعنى : والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن.
والمتلوّ في الكتاب في معنى اليتامى : قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ويجوز أن يكون قوله : (وَما يُتْلى) معطوفا على الضمير في قوله : (يُفْتِيكُمْ) الراجع إلى المبتدأ ، لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف
عليه بالمفعول والجار والمجرور ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وفي الكتاب : خبره ، على
أن المراد به : اللوح المحفوظ ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا ، ولم نذكره
لضعفه. وقوله : (فِي يَتامَى
النِّساءِ) على الوجه الأوّل والثاني : صلة لقوله : (يُتْلى) وعلى الوجه الثالث : بدل من قوله : (فِيهِنَ). (اللَّاتِي لا
تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أي : ما فرض لهنّ من الميراث وغيره (وَتَرْغَبُونَ) معطوف على قوله : (لا تُؤْتُونَهُنَ) عطف جملة مثبتة على جملة منفية. وقيل : حال من فاعل (تُؤْتُونَهُنَ). وقوله : (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) يحتمل أن يكون التقدير : في أن تنكحوهن ، أي : ترغبون
في أن تنكحوهنّ لجمالهن ، ويحتمل أن يكون التقدير : وترغبون عن أن تنكحوهنّ لعدم
جمالهنّ. قوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ
مِنَ الْوِلْدانِ) معطوف على يتامى النساء ، أي : وما يتلى عليكم في يتامى
النساء ، وفي المستضعفين من الولدان ، وهو قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ومن كان مستضعفا
من الولدان كما سلف ، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور. قوله : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى
بِالْقِسْطِ) معطوف على قوله : (فِي يَتامَى
النِّساءِ) كالمستضعفين ، أي : وما يتلى عليكم في يتامى النساء وفي
المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط ، أي : العدل ، ويجوز أن يكون في محل نصب
، أي : ويأمركم أن تقوموا. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ) في حقوق المذكورين (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِهِ عَلِيماً) يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس في قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) الآية ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى
يكبر ، ولا يورثون المرأة ، فلما كان الإسلام قال : (وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ) في أوّل السورة في الفرائض. وأخرج عبد بن حميد ، وابن
جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء
ولا الصبيان شيئا ، كانوا يقولون : لا يغزون ، ولا يغنمون خيرا. ففرض الله لهنّ
الميراث حقا واجبا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه بأطول منه.
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن إبراهيم في الآية قال : كانوا إذا كانت الجارية
يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها ، فأنزل الله
هذا. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة في قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قوله : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَ) قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد
شركته في ماله حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ، ويكره أن يزوّجها رجلا فتشركه في
ماله بما شركته ، فيعضلها ،
__________________
فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن وابن سيرين في
هذه الآية : قال أحدهما : ترغبون فيهنّ ، وقال الآخر : ترغبون عنهن.
(وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ
يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً
(١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ
فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا
يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))
امرأة : مرفوعة
بفعل مقدّر يفسره ما بعده ، أي : وإن خافت امرأة ، وخافت : بمعنى : توقعت ما تخاف
من زوجها ، وقيل : معناه : تيقنت ، وهو خطأ. قال الزجاج : المعنى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) دوام النشوز. قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض :
أن النشوز التباعد ، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها ، وظاهر الآية أنها تجوز
المصالحة عند مخافة أيّ نشوز أو أيّ إعراض ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
الذي سيأتي ، وظاهرها : أنه يجوز التصالح بأيّ نوع من أنواعه ، إما بإسقاط النوبة
أو بعضها ، أو بعض النفقة ، أو بعض المهر. قوله : أن يصّالحا هكذا قرأه الجمهور ،
وقرأ الكوفيون : (أَنْ يُصْلِحا) وقراءة الجمهور أولى ، لأن قاعدة العرب : أن الفعل إذا
كان بين اثنين فصاعدا قيل : تصالح الرجلان أو القوم ، لا أصلح. وقوله : (صُلْحاً) : منصوب على أنه اسم مصدر ، أو على أنه مصدر محذوف
الزوائد ، أو منصوب بفعل محذوف ، أي : فيصلح حالهما صلحا ؛ وقيل : هو منصوب على
المفعولية. وقوله : (بَيْنَهُما) ظرف للفعل ، أو في محل نصب على الحال. قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لفظ عام يقتضي : أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ويزول
به الخلاف خير على الإطلاق ، أو خير من الفرقة أو من الخصومة ، وهذه جملة
اعتراضية. قوله : (وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَ) إخبار منه سبحانه : بأن الشح في كل واحد منهما ؛ بل في
كل الأنفس الإنسانية كائن ، وأنه جعل كأنه حاضر لها ؛ لا يغيب عنها بحال من
الأحوال ؛ وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة ، فالرجل يشحّ بما يلزمه للمرأة من حسن
العشرة وحسن النفقة ونحوها ، والمرأة تشحّ على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج ، فلا
تترك له شيئا منها. وشحّ الأنفس : بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله بوجه من الوجوه ،
ومنه : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . قوله : (وَإِنْ تُحْسِنُوا
وَتَتَّقُوا) أي : تحسنوا عشرة النساء وتتقوا ما لا يجوز من النشوز
والإعراض (فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه. قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ) أخبر سبحانه : بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على
الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة ؛ لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه
دون هذه ، وزيادة في المحبة ونقصان هذه ، وذلك بحكم الخلقة ، بحيث لا يملكون
قلوبهم ، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية ، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلىاللهعليهوسلم : «اللهم
__________________
هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» ولما كانوا لا يستطيعون ذلك
ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عزوجل عن أن يميلوا كل الميل ، لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل
الجور في وسعهم ، وداخل تحت طاقتهم ، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهنّ إلى
الأخرى كل الميل ، حتى يذروا الأخرى كالمعلقة التي ليست ذات زوج ولا مطلقة ،
تشبيها بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء ، وفي قراءة أبيّ : «فتذروها
كالمسجونة» قوله : (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أي : ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها
من عشرة النساء والعدل بينهنّ (وَتَتَّقُوا) كل الميل الذي نهيتم عنه (فَإِنَّ اللهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) لا يؤاخذكم بما فرط منكم. قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي : لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما ، أي : يجعله مستغنيا عن الآخر ، بأن يهيء للرجل
امرأة توافقه وتقرّ بها عينه ، وللمرأة رجلا تغتبط بصحبته ، ويرزقهما (مِنْ سَعَتِهِ) رزقا يغنيهما به عن الحاجة (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) واسع الفضل ، صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان.
وقد أخرج
الترمذي ، وحسنه ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي عن ابن عباس قال : خشيت
سودة أن يطلقها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله! لا تطلقني ، واجعل يومي لعائشة ،
ففعل ، ونزلت هذه الآية : (وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) الآية ، قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو
جائز. وأخرج أبو داود ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي عن عائشة : أن سبب نزول الآية
هو قصة سودة المذكورة. وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت : الرجل تكون عنده
المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حلّ ، فنزلت
هذه الآية. وأخرج الشافعي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن سعيد بن
المسيب : أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج ، فكره منها أمرا ، إما كبرا
أو غيره ، فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك ، فاصطلحا ، وجرت
السنة بذلك ، ونزل القرآن : (وَإِنِ امْرَأَةٌ
خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) الآية. وأخرج أبو داود الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وابن
راهويه ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن عليّ : أنه سئل عن
هذه الآية فقال : هو رجل عنده امرأتان ، فتكون إحداهما قد عجزت ، أو تكون دميمة ،
فيريد فراقها ، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة ، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها ،
فما طابت به نفسها فلا بأس به ، فإن رجعت سوّى بينهما. وقد ورد عن جماعة من
الصحابة نحو هذا ، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت : «لمّا كبرت سودة بنت
زمعة وهبت يومها لعائشة ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقسم لها بيوم سودة». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ،
وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَأُحْضِرَتِ
الْأَنْفُسُ الشُّحَ) قال : هواه في الشيء يحرص عليه ، وفي قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا
بَيْنَ النِّساءِ) قال : في الحبّ والجماع ، وفي قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) قال : لا هي أيمة ولا ذات زوج. وأخرج ابن أبي شيبة ،
وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن المنذر عن عائشة قالت
: «كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهمّ هذا قسمي فيما
أملك فلا تلمني فيما
تملك ولا أملك» وإسناده صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ،
وأهل السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم
القيامة وأحد شقيه ساقط». قال الترمذي : إنما أسنده همام. ورواه هشام الدستوائي عن
قتادة قال : كان يقال ، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام. وأخرج ابن
المنذر عن ابن مسعود في قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) قال : الجماع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال :
الحبّ.
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً
(١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً
(١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ
اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ
اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))
قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه ؛ وشمول
قدرته (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب ، واللام في
الكتاب : للجنس (وَإِيَّاكُمْ) عطف على الموصول (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وهو في موضع نصب بقوله
: (وَصَّيْنَا) أو منصوب بنزع الخافض. قال الأخفش : أي : بأن اتقوا
الله ، ويجوز أن تكون أن : مفسرة ، لأن التوصية في معنى القول. قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معطوف على قوله : (أَنِ اتَّقُوا) أي : وصيناهم وإياكم بالتقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن
تكفروا ، وفائدة هذا التكرير : ليتنبه العباد على سعة ملكه ، وينظروا في ذلك ،
ويعلموا أنه غنيّ عن خلقه (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ) أي : يفنكم (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي : بقوم آخرين غيركم ، وهو كقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) . (مَنْ كانَ يُرِيدُ
ثَوابَ الدُّنْيا) هو من يطلب بعمله شيئا من أمور الدنيا ، كالمجاهد يطلب
الغنيمة دون الأجر (فَعِنْدَ اللهِ
ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فما باله يقتصر على أدنى الثوابين وأحقر الأجرين ، وهلا
طلب بعمله ما عند الله سبحانه ، وهو ثواب الدنيا والآخرة ، فيحرزهما جميعا ، ويفوز
بهما ، وظاهر الآية العموم. وقال ابن جرير الطبري : إنها خاصة بالمشركين
والمنافقين (وَكانَ اللهُ
سَمِيعاً بَصِيراً) يسمع ما يقولونه ، ويبصر ما يفعلونه.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَكانَ اللهُ
غَنِيًّا) عن خلقه (حَمِيداً) قال : مستحمدا إليهم. وأخرجا أيضا عن علي مثله. وأخرج
ابن جرير عن قتادة في قوله : (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) قال : حفيظا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر عنه في قوله : (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) قال : قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء
، ويأتي بآخرين من بعدهم.
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ
تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))
قوله : (قَوَّامِينَ) صيغة مبالغة ، أي : ليتكرر منكم القيام بالقسط ، وهو
العدل في شهادتكم على أنفسكم ، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق ، وأما شهادته على
والديه : فبأن يشهد عليهما بحق للغير ، وكذلك الشهادة على الأقربين ، وذكر الأبوين
لوجوب برّهما وكونهما أحبّ الخلق إليه ، ثم ذكر الأقربين ، لأنهم مظنة المودّة
والتعصب ، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه.
وقد قيل : إن معنى الشهادة على النفس : أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على
نفسه وهو بعيد. وقوله : (شُهَداءَ لِلَّهِ) خبر بعد خبر لكان ، أو حال ، ولم ينصرف لأن فيه ألف
التأنيث. وقال ابن عطية : الحال فيه ضعيفة في المعنى ، لأنها تخصص القيام بالقسط
إلى معنى الشهادة فقط. وقوله : (لِلَّهِ) أي : لمرضاته وثوابه. وقوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلق بشهداء ، هذا المعنى الظاهر من الآية ؛ وقيل :
معنى (شُهَداءَ لِلَّهِ) : بالوحدانية ، فيتعلق قوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) بقوّامين ، والأوّل أولى. قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) اسم كان مقدّر ، أي : إن يكن المشهود عليه غنيا فلا
يراعى لأجل غناه ، استجلابا لنفعه ، أو استدفاعا لضره ، فيترك الشهادة عليه ، أو
فقيرا فلا يراعى لأجل فقره رحمة له ، وإشفاقا عليه ، فيترك الشهادة عليه ، وإنما
قال : (فَاللهُ أَوْلى
بِهِما) ولم يقل : به ، مع أن التخيير إنما يدل على الحصول
لواحد ، لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما. وقال الأخفش : تكون أو بمعنى الواو
؛ وقيل : إنه يجوز ذلك مع تقدّم ذكرهما كما في قوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ
واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) . وقد تقدّم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا. وقرأ أبيّ :
فالله أولى بهم. وقرأ ابن مسعود : إن يكن غنيّ أو فقير على أن : كان ، تامة (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) نهاهم عن اتباع الهوى. وقوله : (أَنْ تَعْدِلُوا) في موضع نصب ، وهو إما من العدل ، كأنه قال : فلا
تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس ؛ أو من العدول ، كأنه قال : فلا تتبعوا
الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق ، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق. قوله : (وَإِنْ تَلْوُوا) من الليّ ، يقال : لويت فلانا حقه : إذا دفعته عنه.
والمراد ليّ الشهادة ميلا إلى المشهود عليه. وقرأ ابن عامر والكوفيون : (وَإِنْ تَلْوُوا) من الولاية ، أي : وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب
عليكم من تأديتها على وجه الحق. وقد قيل : إن هذه قراءة تفيد معنيين : الولاية ،
والإعراض. والقراءة الأولى تفيد معنى واحدا وهو الإعراض. وزعم بعض النحويين أن
القراءة الثانية غلط ولحن ، لأنه لا معنى للولاية هاهنا ، قال النحاس وغيره : وليس
يلزم هذا ، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا ، وذلك أن أصله تلووا فاستثقلت الضمة على
الواو بعدها واو أخرى فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء
الساكنين. وذكر الزجاج نحوه. قوله :
(أَوْ
__________________
تُعْرِضُوا) أي : عن تأدية الشهادة من الأصل (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً) أي : لما تعملون من الليّ والإعراض أو من كل عمل ، وفي
هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه ، وقد روي أن هذه الآية تعمّ
القاضي والشهود ، أما الشهود فظاهر ، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو
يلوي عن الكلام معه ؛ وقيل : هي خاصة بالشهود. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه ، والخطاب هنا
للمؤمنين جميعا (وَالْكِتابِ الَّذِي
نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) هو القرآن ، واللام للعهد (وَالْكِتابِ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) هو كل كتاب ، واللام للجنس. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو
وابن عامر : نزل وأنزل بالضم. وقرأ الباقون : بالفتح فيهما. وقيل : إن الآية نزلت
في المنافقين. والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل : نزلت
في المشركين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله ، وهما
ضعيفان. قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي : بشيء من ذلك (فَقَدْ ضَلَ) عن القصد (ضَلالاً بَعِيداً) وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه ،
وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة ، فناسبه ذكر الرسل جملة ، وتقديم الملائكة على
الرسل : لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا
قَوَّامِينَ) الآية ، قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو
على أنفسهم ، أو آبائهم ، أو أبنائهم ، لا يحابون غنيا لغناه ، ولا يرحمون مسكينا
لمسكنته ، وفي قوله : (فَلا تَتَّبِعُوا
الْهَوى) فتذروا الحق فتجوروا (وَإِنْ تَلْوُوا) يعني : بألسنتكم بالشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) عنها. وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال : الرجلان
يجلسان عند القاضي ، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر. وأخرج ابن
المنذر عنه أيضا قال : لما قدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة ؛ كانت البقرة أوّل سورة نزلت ؛ ثم أردفها سورة
النساء ، قال : فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه ، أو ذوي رحمه ، فيلوي
بها لسانه ، أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر ، فيقضي حين يوسر ، فنزلت : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) الآية. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) يقول : تلوي لسانك بغير الحق ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم
الشهادة على وجهها. والإعراض : الترك. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس : «أنّ عبد الله
بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما ابن أخت عبد الله بن سلام
وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا رسول الله! إنّا نؤمن بك وبكتابك وموسى
والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن ، وبكلّ
كتاب كان قبله. فقالوا : لا نفعل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) الآية». وينبغي النظر في صحة هذا ، فالثعلبي رحمهالله ليس من رجال الرواية ، ولا يفرّق بين الصحيح والموضوع.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في هذه الآية قال : يعني بذلك : أهل الكتاب ، كان الله
قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل ، وأقرّوا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ،
فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن ، وذكرهم الذي أخذ
عليهم من الميثاق ، فمنهم من صدّق النبيّ صلىاللهعليهوسلم واتبعه ، ومنهم من كفر.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ
الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ
الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ
بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ
جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ
اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ
نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))
أخبر الله
سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ، ثم آمنت ثم كفرت ، ثم ازدادت كفرا بعد
ذلك كله : أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم ، ولا ليهديهم سبيلا يتوصلون
به إلى الحق ، ويسلكونه إلى الخير ، لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ،
ويؤمنوا إيمانا صحيحا ، فإن هذا الاضطراب منهم ـ تارة يدّعون أنهم مؤمنون وتارة
يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمرّ والجحود
الدائم ـ يدلّ أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ، ليست لهم نية صحيحة ، ولا
قصد خالص. قيل : المراد بهؤلاء : اليهود ، فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير ، ثم
آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل : آمنوا بموسى ، ثم كفروا به بعبادتهم العجل ،
ثم آمنوا به عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، والمراد بالآية : أنهم ازدادوا كفرا ، واستمروا على
ذلك ، كما هو الظاهر من حالهم ، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر
فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة ، والإسلام يجبّ ما قبله ، ولكن لما كان هذا
مستبعدا منهم جدا ؛ كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعدا. قوله : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) إطلاق البشارة على ما هو شرّ خالص لهم تهكم بهم ، وقد
مرّ تحقيقه. وقوله : (الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) وصف للمنافقين ، أو منصوب على الذم ، أي : يجعلون
الكفار أولياء لهم ، يوالونهم على كفرهم ، ويمالئونهم على ضلالهم. وقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في محل نصب على الحال ، أي : يوالون الكافرين متجاوزين
ولاية المؤمنين (أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والجملة معترضة. قوله
: (فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) هذه الجملة تعليل لما تقدّم من توبيخهم بابتغاء العزّة
عند الكافرين ، وجميع أنواع العزّة وأفرادها مختص بالله سبحانه ، وما كان منها مع
غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) والعزة : الغلبة ، يقال : عزّة يعزّه عزّا : إذا غلبه (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتابِ) الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق ،
__________________
لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله ؛ وقيل : إنه خطاب
للمنافقين فقط ، كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم ويعقوب : (نَزَّلَ) بفتح النون والزاي وتشديدها ، وفاعله ضمير راجع إلى اسم
الله تعالى في قوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً). وقرأ حميد : بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون ، وقرأ
الباقون : بضم النون مع كسر الزاي مشدّدة على البناء للمجهول. وقوله : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل ، وفي
محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل ، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسمّ
فاعله على القراءة الثالثة. وأن هي المخففة من الثقيلة ، والتقدير أنه إذا سمعتم
آيات الله. (فِي الْكِتابِ) : هو القرآن. وقوله : (يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها) حالان ، أي : إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله ،
فأوقع السماع على الآيات. والمراد : سماع الكفر والاستهزاء. وقوله : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي : أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع
والاستهزاء بآيات الله لا تعقدوا معهم ما داموا كذلك ، حتى يخوضوا في حديث غير
حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع
المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به ، فنهوا عن ذلك.
وفي هذه الآية
ـ باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب ـ دليل على اجتناب كل موقف
يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية ، كما يقع كثيرا من
أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى
: قال إمام مذهبنا كذا ، وقال فلان من أتباعه : بكذا ، وإذا سمعوا من يستدلّ على
تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا ،
ولا بالوا به بالة ، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع ، وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامهم
الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل ، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل ، مقدّما على
الله وعلى كتابه وعلى رسوله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما صنعت هذه المذاهب
بأهلها ، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم ، فإنهم قد
صرّحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب [القول
المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا المسمى ب [أدب الطلب ومنتهى الأرب] اللهم انفعنا
بما علمتنا ، واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة ، وباعد بيننا وبين آراء الرجال
المبنية على شفا جرف هار ، يا مجيب السائلين!
قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) تعليل للنهي ، أي : إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم
مثلهم في الكفر. قيل : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم
الظاهر كما في قول القائل :
وكلّ قرين بالمقارن يقتدي
__________________
وهذه الآية
محكمة عند جميع أهل العلم ، إلا ما يروى عن الكلبي ، فإنه قال : هي منسوخة بقوله
تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ
يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وهو مردود ، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين
يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها. قوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ
الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ، قيل : وهم القاعدون
والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجها إلى المنافقين. قوله : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي : ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شرّ ،
والموصول : في محل نصب على أنه صفة للمنافقين ، أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن
التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم
، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم ، أي : إن
حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار (قالُوا) لكم : (أَلَمْ نَكُنْ
مَعَكُمْ) في الاتصاف بظاهر الإسلام ، والتزام أحكامه ، والمظاهرة
والتسويد وتكثير العدد؟ (وَإِنْ كانَ
لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) من الغلب لكم والظفر بكم (قالُوا) للكافرين : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ) أي : ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم؟
وقيل المعنى : إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين : ألم نستحوذ عليكم حتى
هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأوّل أولى ، فإن معنى الاستحواذ : الغلب ، يقال
: استحوذ على كذا ، أي : غلب عليه ، ومنه قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) ولا يصح أن يقال : ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون؟ ولكن
المعنى : ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ، ونتمكن منكم ، فتركناكم وأبقينا عليكم حتى
حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين؟ (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم ، حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم
، وعجزوا عن الانتصاف منكم ؛ والمراد : أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من
الطائفتين ، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة ، وهذا شأن
المنافقين أبعدهم الله ، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة
بأنه معها على الأخرى ، والميل إلى من معه الحظ في الدنيا في مال أو جاه ، فيلقاه
بالتملق والتودد والخضوع والذلة ، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدّة والغلظة
وسوء الخلق ، ويزدري به ويكافحه بكل مكروه ، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها.
قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله ،
ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق ، وتظهر الضمائر ، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم ،
وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقا (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر
والغلب ، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة. قال ابن عطية : قال جميع أهل
التأويل : إن المراد بذلك : يوم القيامة. قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة
الخبر فيه ، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله ، يعني قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ) وذلك يسقط فائدته ، إذ يكون تكرارا ، هذا معنى كلامه ،
وقيل : المعنى : إن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين يمحو به دولتهم ،
ويذهب آثارهم ، ويستبيح ببضتهم ، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح : «وأن لا
أسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ،
حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي
__________________
بعضهم بعضا» وقيل : إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما
داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى :
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا ؛ وقيل : إن الله لا
يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا ، فإن وجد فبخلاف الشرع. هذا خلاصة ما قاله
أهل العلم في هذه الآية ، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) الآية ، قال : هم اليهود والنصارى ، آمنت اليهود
بالتوراة ثم كفرت ، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن
حميد ، وابن جرير عنه في الآية قال : هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا ، ثم
ذكر النصارى فقال : (ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ
كَفَرُوا) يقول : آمنوا بالإنجيل ثم كفروا ، (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء
المنافقون آمنوا مرتين ، ثم كفروا مرتين ، ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك. وأخرج ابن أبي
حاتم عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا
كُفْراً) قال : تموا على كفرهم حتى ماتوا. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر عن أبي وائل قال : إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب ليضحك بها
جلساءه فيسخط الله عليهم جميعا ، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو
وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله؟ (فَلا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : أنزل في سورة الأنعام
: (حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ثم نزل التشديد في سورة النساء : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ). وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير : أن الله جامع
المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزءوا بالقرآن في
جهنم جميعا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) قال : هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) إن أصاب المسلمين من عدوّهم غنيمة قال المنافقون : (أَلَمْ نَكُنْ) قد كنا (مَعَكُمْ) فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه ، قد كنا نثبطهم عنكم. وأخرج ابن جرير
عن السدّي : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ
عَلَيْكُمْ) قال : نغلب عليكم. وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد
بن حميد ، وابن جرير ، ابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، والحاكم ، وصححه عن عليّ
أنه قيل له : أرأيت هذه الآية (وَلَنْ يَجْعَلَ
اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ، فقال : ادنه ادنه ، ثم
قال : (فَاللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : في الآخرة. وأخرج
ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن
المنذر عن أبي مالك نحوه أيضا ـ وأخرج ابن جرير عن السدّيّ (سَبِيلاً) قال : حجة.
(إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ
بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ
تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
__________________
(١٤٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما
يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً
عَلِيماً (١٤٧))
قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين
وفضائحهم ، وقد تقدّم معنى الخدع في البقرة ، ومخادعتهم لله هي : أنهم يفعلون فعل
المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر ، ومعنى كون الله خادعهم : أنه صنع بهم صنع
من يخادع من خادعه ، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا
، فعصم به أموالهم ودماءهم ، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة ، فجازاهم على خداعهم
بالدرك الأسفل من النار. قال في الكشاف : والخادع اسم فاعل من : خادعته فخدعته ،
إذا غلبته وكنت أخدع منه. والكسالى بضم الكاف : جمع كسلان ، وقرئ بفتحها ، والمراد
: أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون ، لا يرجون ثوابا ، ولا يخافون عقابا. والرياء
: إظهار الجميل ليراه الناس ، لا لاتباع أمر الله ، وقد تقدّم بيانه ، والمراءاة
المفاعلة. قوله : (وَلا يَذْكُرُونَ
اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) معطوف على يراءون ، أي : لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا
قليلا ، أو لا يصلون إلا صلاة قليلة ، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص ، أو لكونه
غير مقبول ، أو لكونه قليلا في نفسه ، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء ، إنما
يفعلها في المجامع ولا يفعلها خاليا كالمخلص. قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ) المذبذب : المتردد بين أمرين ، والذبذبة الاضطراب ،
يقال : ذبذبه فتذبذب ، ومنه قول النابغة :
ألم تر أنّ
الله أعطاك سورة
|
|
ترى كلّ ملك
دونها يتذبذب
|
قال ابن جني :
المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال ، فهؤلاء المنافقون متردّدون بين المؤمنين
والمشركين ، لا مخلصين الإيمان ولا مصرّحين بالكفر. قال في الكشاف : وحقيقة
المذبذب : الذي يذبّ عن كلا الجانبين ، أي : يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد ،
كما يقال : فلان يرمي به الرحوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذبّ ؛ كأن
المعنى : كلما مال إلى جانب ذبّ عنه. انتهى. وقرأ الجمهور : بضم الميم وفتح
الذالين. وقرأ ابن عباس : بكسر الذال الثانية ، وفي حرف أبي : «متذبذبين» ، وقرأ
الحسن : بفتح الميم والذالين ، وانتصاب مذبذبين : إما على الحال ، أو على الذمّ ،
والإشارة بقوله : بين ذلك : إلى الإيمان والكفر. قوله : (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي : لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، ومحل
الجملة : النصب على الحال ، أو على البدل من مذبذبين ، أو على التفسير له (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : يخذله ، ويسلبه التوفيق (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي : طريقا يوصله إلى الحق. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : لا تجعلوهم خاصة لكم ، وبطانة توالونهم من دون
إخوانكم من المؤمنين ، كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ
عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي : أتريدون أن تجعلوا
لله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة
الكافرين؟ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قرأ الكوفيون : الدرك بسكون الراء ، وقرأ غيرهم : بتحريكها.
قال أبو علي : هما لغتان ، والجمع : أدراك ؛ وقيل : جمع المحرك : أدراك ، مثل :
جمل وأجمال ، وجمع الساكن : أدرك ، مثل : فلس وأفلس. قال النحاس : والتحريك أفصح.
والدرك : الطبقة. والنار دركات سبع ، فالمنافق في الدرك الأسفل منها ، وهي الهاوية
، لغلظ كفره وكثرة غوائله ، وأعلى الدركات : جهنم ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم
سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا ، أعاذنا الله
من عذابها (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيراً) يخلصهم من ذلك الدرك ، والخطاب لكل من يصلح له ، أو
للنبيّ صلىاللهعليهوسلم (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) استثناء من المنافقين ، أي : إلا الذين تابوا عن النفاق
(وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم (وَأَخْلَصُوا
دِينَهُمْ لِلَّهِ) أي : جعلوه خالصا له غير مشوب بطاعة غيره. والاعتصام
بالله : التمسك به والوثوق بوعده ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة. قوله : (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) قال الفراء : أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم
نفاق أصلا. قال القتبي : حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل : هم المؤمنون. انتهى. والظاهر أن معنى : مع ،
معتبر هنا ، أي : فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة. ثم بين ما
أعدّ الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال : (وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ :
لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله : (يَوْمَ يَدْعُ
الدَّاعِ) و (سَنَدْعُ
الزَّبانِيَةَ) و (يَوْمَ يُنادِ
الْمُنادِ) ونحوها ، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين. قوله :
(ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) هذه الجملة متضمنة لبيان : أنه لا غرض له سبحانه في
التعذيب إلا مجرّد المجازاة للعصاة. والمعنى : أيّ منفعة له في عذابكم إن شكرتم
وآمنتم؟ فإن ذلك لا يزيد في ملكه ، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) أي : يشكر عباده على طاعته ، فيثيبهم عليها ، ويتقبلها
منهم. والشكر في اللغة : الظهور ، يقال دابة شكور : إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى
من العلف.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر عن الحسن في قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ) الآية ، قال : يلقى على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم
القيامة ، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، ومضى المؤمنون بنورهم ،
فتلك خديعة الله إياهم. وأخرج ابن جرير عن السدّي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد
وسعيد بن جبير نحوه أيضا ، ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير ، فإن مثله لا
ينقل إلا عن النبي صلىاللهعليهوسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال : نزلت في
عبد الله بن أبيّ وأبي عامر بن النعمان. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة
المنافق ، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر
الله فيها إلا قليلا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) قال : هم المنافقون (لا إِلى هؤُلاءِ) يقول : لا إلى أصحاب محمد (وَلا إِلى هؤُلاءِ) اليهود ، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «إنّ مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرّة ، فلا تدري
__________________
أيّهما تتبع؟». وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن جرير ، وابن المنذر
عن قتادة في قوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ
تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) قال : إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول : عذرا
مبينا. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : «كل سلطان في القرآن فهو حجة»
والله سبحانه أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر
، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال : في توابيت من حديد مقفلة عليهم ، وفي لفظ : مبهمة
عليهم ، أي : مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن
أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود نحوه أيضا. وأخرج عبد بن حميد
، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ
بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) الآية ، قال : إن الله لا يعذّب شاكرا ولا مؤمنا.
(لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً
عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ
فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))
نفي الحبّ
كناية عن البغض ، وقراءة الجمهور : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للمجهول. وقرأ زيد بن أسلم ، وابن أبي إسحاق
، والضحاك ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعطاء بن السائب : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للمعلوم ، وهو على القراءة الأولى : استثناء
متصل ، بتقدير مضاف محذوف ، أي : إلا جهر من ظلم ؛ وقيل : إنه على القراءة الأولى
أيضا منقطع ، أي : لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. واختلف أهل العلم : في
كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم ، فقيل : هو أن يدعو على من ظلمه ؛ وقيل :
لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول : فلان ظلمني ، أو هو ظالم ،
أو نحو ذلك ؛ وقيل : معناه : إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو
نحوه ، فهو مباح له ، والآية على هذا في الإكراه ، وكذا قال قطرب ، قال : ويجوز أن
يكون على البدل ، كأنه قال لا يحبّ الله إلا من ظلم : أي لا يحبّ الظالم بل يحبّ
المظلوم. والظاهر من الآية : أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء
في جانب من ظلمه ، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ : «ليّ الواجد ظلم يحلّ
عرضه وعقوبته» ، وأما على القراءة الثانية : فالاستثناء منقطع ، أي : إلا من ظلم
في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله ، والتوبيخ له.
وقال قوم : معنى الكلام : لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسوء من القول ، لكن من ظلم
فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك ، وهذا شأن كثير من الظلمة ، فإنهم
مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه. وقال الزجاج : يجوز أن
يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءا ، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ، ويكون
استثناء ليس من الأوّل. (وَكانَ اللهُ
سَمِيعاً عَلِيماً) هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به ،
ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل فقال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ
أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) تصابون به (فَإِنَّ اللهَ كانَ
عَفُوًّا) عن عباده (قَدِيراً) على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم ، فاقتدوا به سبحانه
، فإنه يعفو مع القدرة.
وقد أخرج ابن
جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ) قال : لا يحبّ الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون
مظلوما ، فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه ، وإن يصبر فهو خير له. وأخرج عبد
الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : نزلت في رجل ضاف رجلا
بفلاة من الأرض فلم يضفه ، ثم ذكر أنه لم يضفه ، لم يزد على ذلك. وأخرج ابن المنذر
عن إسماعيل : (لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) قال : كان الضحاك ابن مزاحم يقول : هذا على التقديم
والتأخير ، يقول الله : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم ، وكان
يقرؤها كذلك ، ثم قال : (لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أي : على كل حال ، هكذا قال ، وهو قريب من التحريف
لمعنى الآية. وقد أخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من دعا على من ظلمه فقد انتصر». وروى نحوه أبو
داود عنها من وجه آخر. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «المستبّان ما قالا ، فعلى البادئ منهما ما لم
يعتد المظلوم».
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ
وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ
يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))
لما فرغ من ذكر
المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، لأنهم
كفروا بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة ، والكفر
بذلك كفر بالله ، وينبغي حمل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل ، لا أنهم
كفروا بالله ورسله جميعا ، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله ، لكنهم
لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل. ومعنى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللهِ وَرُسُلِهِ) أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله ،
فكان ذلك تفريقا بين الله وبين رسله (وَيَقُولُونَ
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد ، وكذلك
النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد (وَيُرِيدُونَ أَنْ
يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي : يتخذوا بين الإيمان والكفر دينا متوسطا بينهما ،
فالإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى قوله نؤمن ونكفر (أُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ) أي : الكاملون في الكفر. وقوله : (حَقًّا) مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي : حق ذلك حقا ، أو هو صفة
الكافرين ، أي : كفرا حقا. قوله : (وَلَمْ يُفَرِّقُوا
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بأن يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، ودخول بين على أحد
لكونه عاما في المفرد مذكرا ومؤنثا ومثناهما وجمعهما. وقد تقدّم تحقيقه. والإشارة
بقوله : (أُولئِكَ) إلى الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في الآية ، قال : (أُولئِكَ) أعداء الله اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة
وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى ، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن ومحمد
، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام ، وهو دين
الله الذي بعث به رسله. وأخرج ابن جرير عن السدّي وابن جريج نحوه.
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ
ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا
اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا
الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ
ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا (١٥٣) وَرَفَعْنَا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا
(١٥٤) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّـهِ
وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا
(١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا
عَظِيمًا (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّـهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن
شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ
ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ
يَقِينًا (١٥٧) بَل رَّفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ
بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩))
قوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) هم اليهود ، سألوه صلىاللهعليهوسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه ، فينزل عليهم كتابا
مكتوبا فيما يدّعيه ، يدل على صدقه دفعة واحدة ، كما أتى موسى التوراة ، تعنتا
منهم ، أبعدهم الله ، فأخبره الله عزوجل بأنهم قد سألوا موسى سؤالا أكبر من هذا السؤال ، فقالوا
: (أَرِنَا اللهَ
جَهْرَةً) أي : عيانا ، وقد تقدّم معناه في البقرة ، وجهرة : نعت
لمصدر محذوف ، أي : رؤية جهرة. وقوله : (فَقَدْ سَأَلُوا) جواب شرط مقدر ، أي : إن استكبرت هذا السؤال منهم لك
فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ) هي : النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم ،
والباء في قوله : (بِظُلْمِهِمْ) للسببية ، أي : بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل ، لامتناع
الرؤية عيانا في هذه الحالة ، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة ، فقد جاءت
بذلك الأحاديث المتواترة. ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد
غلط غلطا بينا ؛ ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما
رأوا المعجزات ، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه ، وهو عبادة العجل. وفي الكلام حذف
والتقدير : فأحييناهم فاتخذوا العجل. والبينات : البراهين والدلائل ، والمعجزات من
اليد والعصا وفلق البحر وغيرها (فَعَفَوْنا عَنْ
ذلِكَ) أي : عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجة بينة ، وهي : الآيات التي جاء بها ، وسميت :
سلطانا ، لأن من جاء بها قهر خصمه ، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل
أنفسهم توبة عن معصيتهم ، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
بِمِيثاقِهِمْ) أي : بسبب ميثاقهم ليعطوه ، لأنه روي أنهم امتنعوا من
قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها ؛
وقيل : إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم ، وهو العمل بما في
التوراة ، وقد تقدّم رفع الجبل في البقرة ، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجدا (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي
السَّبْتِ) فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان ، وقد تقدّم
تفسير ذلك ، وقرئ : لا تعتدوا ، وتعدّوا ، بفتح العين وتشديد الدال (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) مؤكدا ، وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة ؛ وقيل :
إنه عهد مؤكد باليمين ، فسمي غليظا لذلك. قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ) ما : مزيدة للتوكيد ، أو نكرة ، ونقضهم : بدل منها ،
والباء : متعلقة بمحذوف ، والتقدير : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. وقال الكسائي : هو
متعلق بما قبله ، والمعنى : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قال : ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده
من نقضهم ميثاقهم وقتلهم الأنبياء وما بعده. وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره ،
لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى ، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم
بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان ، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برمتهم بالبهتان.
قال المهدوي وغيره : وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم ، والمراد آباؤهم ، وقال
الزجاج : المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، لأن هذه القصة
ممتدة إلى قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) ونقضهم الميثاق : أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ وقيل المعنى : فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله
على قلوبهم ؛ وقيل المعنى : فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا ، والفاء في قوله : (فَلا يُؤْمِنُونَ) مقحمة. قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ
اللهِ) معطوف على ما قبله ، وكذا قوله : (وَقَتْلِهِمُ) ، والمراد بآيات الله : كتبهم التي حرّفوها ، والمراد
بالأنبياء الذين قتلوهم : يحيى وزكرياء. وغلف : جمع أغلف ، وهو المغطى بالغلاف ، أي
: قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول. وقيل : إن غلف : جمع غلاف ، والمعنى : أن
قلوبهم أوعية للعلم ، فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم ، وهو كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) وغرضهم بهذا ردّ حجة الرسل. قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) هذه الجملة اعتراضية ؛ أي : ليس عدم قبولهم للحق بسبب
كونها غلفا بحسب مقصدهم الذي يريدونه ، بل بحسب الطبع من الله عليها. والطبع :
الختم ، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة ، وقوله : (فَلا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلاً) أي : هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم فلا يؤمنون إلا
إيمانا قليلا ، أو إلا قليلا منهم : كعبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم ، وقوله
: (وَبِكُفْرِهِمْ) معطوف على قولهم ، وإعادة الجار : لوقوع الفصل بين
المعطوف والمعطوف عليه ، وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفرا بعد كفر ؛ وقيل : إن
المراد بهذا الكفر : كفرهم بالمسيح ، فحذف لدلالة ما بعده عليه. قوله : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً
عَظِيماً) هو رميها بيوسف النجار ، وكان من الصالحين. والبهتان :
الكذب المفرط الذي يتعجب منه. قوله : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا
قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) معطوف على ما قبله ، وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم ،
لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه ، وافتخروا بقتله ، وذكروه بالرسالة استهزاء ، لأنهم
ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبيّ ، وما ادّعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان
صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل ، وما فيه هو من تحريف النصارى ، أبعدهم الله ، فقد
كذبوا ، وصدق الله القائل في كتابه العزيز : (وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ) والجملة
__________________
حالية : أي : قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي : ألقي شبهه على غيره ؛ وقيل : لم يكونوا يعرفون
شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه (وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : في شأن عيسى ، فقال بعضهم : قتلناه ، وقال من عاين
رفعه إلى السماء : ما قتلناه ؛ وقيل : إن الاختلاف بينهم هو : أن النسطورية من
النصارى قالوا : صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته ، وقالت الملكانية : وقع
القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته ، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام
طويل لا أصل له ، ولهذا قال الله : (وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي : في تردّد لا يخرج إلى حيز الصحة ، ولا إلى حيز
البطلان في اعتقادهم ، بل هم مترددون مرتابون في شكهم يعمهون ، وفي جهلهم يتحيرون
، و (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) من : زائدة لتوكيد نفي العلم ، والاستثناء منقطع ، أي :
لكنهم يتبعون الظن ؛ وقيل : هو بدل مما قبله. والأوّل أولى. لا يقال : إن اتباع
الظنّ ينافي الشكّ الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه ، لأن المراد هنا بالشك : التردد
، كما قدمنا ، والظنّ نوع منه ، وليس المراد به هنا : ترجح أحد الجانبين. قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي : قتلا يقينا ، على أنه صفة مصدر محذوف ، أو متيقنين
، على أنه حال ، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى ؛ وقيل : إنه يعود إلى الظن ،
والمعنى : ما قتلوا ظنهم يقينا ، كقولك : قتلته علما ، إذا علمته علما تاما. قال
أبو عبيدة : ولو كان المعنى : وما قتلوا عيسى يقينا ، لقال : وما قتلوه فقط ؛ وقيل
: المعنى : وما قتلوا الذي شبه لهم ؛ وقيل : المعنى : بل رفعه إليه يقينا ، وهو
خطأ ، لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها. وأجاز ابن الأنباري : نصب يقينا بفعل
مضمر هو جواب قسم ، ويكون (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ) كلاما مستأنفا ، ولا وجه لهذه الأقوال ، والضمائر قبل
قتلوه وبعده لعيسى ، وذكر اليقين هنا : لقصد التهكم بهم ، لإشعاره بعلمهم في
الجملة. قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ) ردّ عليهم وإثبات لما هو الصحيح ، وقد تقدم ذكر رفعه عليهالسلام في آل عمران. قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) المراد بأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، والمعنى : وما
من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمننّ به قبل موته ، والضمير في به : راجع إلى عيسى
، والضمير في موته : راجع إلى ما دلّ عليه الكلام ، وهو لفظ أحد المقدّر ، أو
الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب ، وفيه دليل : على أنه لا يموت يهوديّ أو
نصرانيّ إلا وقد آمن بالمسيح ؛ وقيل : كلا الضميرين لعيسى ، والمعنى : أنه لا يموت
عيسى حتى يؤمن به كل كتابيّ في عصره ؛ وقيل : الضمير الأوّل لله ؛ وقيل : إلى محمد
، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير ، وقال به جماعة من السلف ، وهو الظاهر ،
والمراد : الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان ، كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ) عيسى على أهل الكتاب (شَهِيداً) يشهد على اليهود بالتكذيب له ، وعلى النصارى بالغلوّ
فيه حتى قالوا هو ابن الله.
وقد أخرج ابن
جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا
بالألواح من عند الله حتى نصدقك ، فأنزل الله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) إلى (وَقَوْلِهِمْ عَلى
مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً). وأخرج ابن جرير ،
وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلىاللهعليهوسلم : لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من
عند الله إلى فلان أنك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإلى فلان أنك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في
قوله : (أَرِنَا اللهَ
جَهْرَةً) قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، وإنما قالوا : جهرة
أرنا الله قال : هو مقدم ومؤخر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله
: (وَرَفَعْنا
فَوْقَهُمُ الطُّورَ) قال : جبل كانوا في أصله فرفعه الله ، فجعله فوقهم كأنه
ظلة ، فقال : لتأخذن أمري أو لأرمينكم به ، فقالوا : نأخذه ، فأمسكه الله عنهم.
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً
عَظِيماً) قال : رموها بالزنا. وأخرج سعيد بن منصور والنسائي وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء ؛
خرج إلى أصحابه ؛ وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين ، فخرج عليهم من عين في
البيت ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ،
ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي ؛ فيقتل مكاني ؛ ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من
أحدثهم سنا فقال له : اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ؛ فقال : أجلس ، ثم أعاد
عليهم ، فقام الشاب ؛ فقال : أنا ، فقال : أنت ذاك ، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع
عيسى من روزنة في البيت إلى السماء ؛ قال : وجاء الطلب من اليهود ،
فأخذوا الشبه ، فقتلوه ، ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به
وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء ،
فهؤلاء اليعقوبية ؛ وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه ،
وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ، وهؤلاء المسلمون ،
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله
محمدا ، فأنزل الله عليه : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ
مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني : الطائفة التي آمنت في زمن عيسى (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) يعني : التي كفرت في زمن عيسى (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين. قال
ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال : حدثنا أحمد بن سنان ،
حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس
فذكره ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، وصدق ابن كثير ، فهؤلاء كلهم من رجال
الصحيح. وأخرجه النسائي من حديث أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وقد رويت قصته عليهالسلام من طرق بألفاظ مختلفة ، وساقها عبد بن حميد ، وابن جرير
عن وهب بن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل ، وكذلك ساقها ابن المنذر عنه. وأخرج
ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً) قال : لم يقتلوا ظنهم يقينا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد
مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن جويبر والسدّي مثله أيضا. وأخرج الفريابي ، وعبد بن
حميد ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) قال : خروج عيسى ابن مريم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي
حاتم من طرق عنه في الآية قال : قبل موت عيسى. وأخرجا عنه أيضا قال : قبل موت
اليهودي. وأخرج ابن جرير عنه قال : إنه سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث
سيؤمنون به. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن
__________________
جرير ، وابن المنذر عنه قال : «ليس يهوديّ يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى ؛ قيل
لابن عباس : أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال يتكلم به في الهواء ؛ فقيل أرأيت إن ضرب
عنق أحدهم؟ قال : يتلجلج بها لسانه». وقد روي نحو هذا عنه من طرق ، وقال به جماعة
من التابعين ، وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد : قبل موت عيسى كما
روي عن ابن عباس قبل هذا ، وقيده كثير منهم : بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى
الأرض. وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما أوضحنا ذلك في مؤلف مستقل يتضمن ذكر
ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح.
(فَبِظُلْمٍ مِنَ
الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ
وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ
عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا
داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥))
الباء في قوله
: (فَبِظُلْمٍ) للسببية ، والتنكير والتنوين للتعظيم ، أي : فبسبب ظلم
عظيم حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، لا بسبب شي آخر ، كما زعموا أنها كانت محرّمة
على من قبلهم. وقال الزجاج : هذا بدل من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ). والطيبات المذكورة : هي ما نصه الله سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآية (وَبِصَدِّهِمْ) أنفسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهو اتباع محمد صلىاللهعليهوسلم ، وتحريفهم ، وقتلهم الأنبياء ، وما صدر منهم من الذنوب
المعروفة. وقوله : (كَثِيراً) مفعول للفعل المذكور ، أي : بصدّهم ناسا كثيرا ، أو صفة
مصدر محذوف ، أي : صدّا كثيرا (وَأَخْذِهِمُ
الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي : معاملتهم فيما بينهم بالربا وأكلهم له وهو محرّم
عليهم (وَأَكْلِهِمْ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه. قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ) استدراك من قوله : (وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أو (مِنَ الَّذِينَ
هادُوا) وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت
حراما في الأصل وأنت تحلها ، فنزل : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) والراسخ : هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ،
والرسوخ : الثبوت. وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران. والمراد : عبد الله بن سلام
، وكعب الأحبار ، ونحوهما. والراسخون : مبتدأ ، ويؤمنون : خبره ، والمؤمنون :
معطوف على الراسخون. والمراد بالمؤمنين : إما من آمن من أهل الكتاب ، أو من
المهاجرين والأنصار ، أو من الجميع. قوله : (وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ)
__________________
قرأ الحسن ، ومالك بن دينار ، وجماعة : والمقيمون الصّلاة على العطف على ما
قبله ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على
أقوال : الأوّل : قول سيبويه : أنه نصب على المدح ، أي : وأعني المقيمين. قال
سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ، ومن ذلك : (وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ) وأنشد :
وكلّ قوم
أطاعوا أمر سيّدهم
|
|
إلا نميرا
أطاعت أمر غاويها
|
الظّاعنين
ولمّا يظعنوا أحدا
|
|
والقائلون
لمن دار نخلّيها
|
وأنشد :
لا يبعدنّ
قومي الذين هم
|
|
سمّ العداة
وآفة الجزر
|
النّازلين
بكلّ معترك
|
|
والطّيّبون
معاقد الأزر
|
قال النحاس :
وهذا أصح ما قيل في المقيمين. وقال الكسائي والخليل : هو معطوف على قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قال الأخفش : وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا : ويؤمنون
بالمقيمين. ووجهه محمد بن يزيد المبرد : أن المقيمين هنا هم الملائكة ، فيكون
المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالملائكة ، واختار هذا. وحكى :
أن النصب على المدح بعيد ، لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الرّاسخون
هو قوله : (أُولئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) وقيل : إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله : (مِنْهُمْ) وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض. وحكي عن
عائشة : أنها سئلت عن المقيمين في هذه الآية وعن قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) وعن قوله : (وَالصَّابِئُونَ) في المائدة؟ فقالت : يا ابن أخي! الكتاب أخطئوا. أخرجه
عنها أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن
المنذر. وقال أبان بن عثمان : كان الكاتب يملي عليه فيكتب فكتب : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ) ثم قال ما أكتب؟ فقيل له اكتب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) فمن ثم وقع هذا. وأخرج عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ،
وابن المنذر. قال القشيري : وهذا باطل لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة
فلا يظن بهم ذلك. ويجاب عن القشيري : بأنه قد روي عن عثمان بن عفان أنه فرغ من
المصحف وأتي به إليه قال : أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنها. أخرجه عنه ابن
أبي داود من طرق. وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير ، ورجح قول
الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال ، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة
بين المبتدأ والخبر على قول من قال : إن خبر «الرّاسخون» هو قوله : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا خبر «الرّاسخون»
هو يؤمنون ، وجعلنا قوله : (وَالْمُؤْتُونَ
الزَّكاةَ) عطفا على المؤمنون ، لا على قول سيبويه : أن المؤتون
الزكاة مرفوع على الابتداء أو على تقدير مبتدأ محذوف ، أي : هم المؤتون الزكاة.
قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هم مؤمنو أهل الكتاب ، وصفوا أوّلا بالرسوخ في العلم ،
ثم بالإيمان بكتب الله ، وأنهم : يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بالله
واليوم
__________________
الآخر ، وقيل : المراد بهم : المؤمنون من المهاجرين والأنصار كما سلف ،
وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ
سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) إلى الرّاسخون وما عطف عليه. قوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما
أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) هذا متصل بقوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ) والمعنى : أن أمر محمد صلىاللهعليهوسلم كأمر من تقدّمه من الأنبياء ، فما بالكم تطلبون منه ما
لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل؟ والوحي : إعلام في خفاء ، يقال : وحى إليه
بالكلام وحيا ، وأوحى يوحي إيحاء ، وخصّ نوحا لكونه أوّل نبيّ شرعت على لسانه
الشرائع ، وقيل : غير ذلك ، والكافر في قوله : (كَما) نعت مصدر محذوف ، أي : إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح ، أو
حال ، أي : أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا إلى نوح. قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) معطوف على (أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب كما تقدّم (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ
وَسُلَيْمانَ) خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفا لهم
كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) ، وقدّم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل
زمانه ، ردا على اليهود الذين كفروا به ، وأيضا فالواو ليست إلا لمطلق الجمع. قوله
: (وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) معطوف على أوحينا. والزبور : كتاب داود. قال القرطبي :
وهو مائة وخمسون سورة ، ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ.
انتهى. قلت : هو مائة وخمسون مزمورا. والمزمور : فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث
بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره ، وتارة يأتي بمواعظ ، وكان يقول ذلك في
الغالب في الكنيسة ، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئا من الآلات التي لها نغمات حسنة ،
كما هو مصرّح بذلك في كثير من تلك المزمورات. والزبر : الكتابة. والزبور بمعنى
المزبور ، وقرأ حمزة : (زَبُوراً) بضم الزاي ، جمع زبر كفلس وفلوس ، والزبر بمعنى المزبور
، والأصل في الكلمة : التوثيق ، يقال : بئر مزبورة ، أي : مطوية بالحجارة ،
والكتاب سمي زبورا : لقوّة الوثيقة به. قوله : (وَرُسُلاً) منصوب بفعل مضمر يدل عليه (أَوْحَيْنا) أي : وأرسلنا رسلا (قَدْ قَصَصْناهُمْ
عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وقيل : هو منصوب بفعل دلّ عليه (قَصَصْناهُمْ) أي : وقصصنا رسلا ، ومثله ما أنشده سيبويه :
أصبحت لا
أحمل السّلاح ولا
|
|
أملك رأس
البعير إن نفرا
|
والذّئب
أخشاه إن مررت به
|
|
وحدي وأخشى
الرّياح والمطرا
|
أي : وأخشى
الذئب. وقرأ أبيّ : رسل بالرفع على تقدير : ومنهم رسل. ومعنى : (مِنْ قَبْلُ) أنه قصهم عليه من قبل هذه السورة ، أو من قبل هذا
اليوم. قيل : إنه لما قصّ الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض
قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى ، فنزل : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) وقراءة الجمهور : برفع الاسم الشريف ، على أن الله هو
الذي كلم موسى. وقرأ النخعي ، ويحيى بن وثاب : بنصب الاسم الشريف ، على أن موسى هو
الذي كلم الله سبحانه و (تَكْلِيماً) مصدر مؤكد. وفائدة التأكيد : دفع توهم كون التكليم
مجازا ، كما قال الفراء : إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأيّ
__________________
طريق ؛ وقيل : ما لم يؤكد بالمصدر ، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. قال
النحاس : وأجمع النحويون : على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا. قوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) بدل من رسلا الأوّل ، أو منصوب بفعل مقدّر ، أي :
وأرسلنا ، أو على الحال بأن يكون رسلا موطئا لما بعده ، أو على المدح : أي مبشرين لأهل
الطاعات ومنذرين لأهل المعاصي. قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) أي : معذرة يعتذرون بها ، كما في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ) وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على
الله حجة : تنبيها على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلا منه ورحمة. ومعنى قوله : (بَعْدَ الرُّسُلِ) بعد إرسال الرسل (وَكانَ اللهُ
عَزِيزاً) لا يغالبه مغالب (حَكِيماً) في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل.
وقد أخرج عبد
بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد : (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) قال : أنفسهم وغيرهم عن الحق. وأخرج ابن إسحاق في
الدلائل عن ابن عباس في قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) قال : نزلت في عبد الله بن سلام ، وأسيد بن شعبة ،
وثعلبة بن شعبة ، حين فارقوا اليهود وأسلموا. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن
المنذر ، والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال : يا محمد! ما نعلم الله أنزل
على بشر من شيء بعد موسى ، فأنزل الله : (إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ) الآية. وأخرج عبد بن حميد ، والحكيم الترمذي في نوادر
الأصول ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم ، وابن عساكر عن أبي ذر قال : «قلت : يا رسول
الله! كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. قلت : كم الرسل منهم؟ قال
: ثلاثمائة وثلاثة عشر ، جمّ غفير». وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعا
إلا أنه قال : «والرّسل ثلاثمائة وخمسة عشر». وأخرج أبو يعلى والحاكم بسند ضعيف عن
أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف
نبيّ ، ثم كان عيسى ، ثم كنت أنا بعده». وأخرج الحاكم عن أنس بسند ضعيف نحوه.
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما
ظهر منها وما بطن ؛ ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ؛ ولا
أحد أحبّ إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث الله النبيّين مبشرين ومنذرين».
(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ
بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى
بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ
قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ
يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ
طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً
(١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ
فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا
__________________
ثَلاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ
لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً
(١٧١))
قوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) الاسم الشريف مبتدأ والفعل خبره ، ومع تشديد النون هو
منصوب على أنه اسم لكنّ ، والاستدراك من محذوف مقدّر ، كأنهم قالوا : ما نشهد لك
يا محمد بهذا ، أي : الوحي والنبوّة ، فنزل : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ). وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
يَشْهَدُونَ) جملة معطوفة على الجملة الأولى أو جملة حالية ، وكذلك
قوله : (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) جملة حالية ، أي : متلبسا بعلمه الذي لا يعلمه غيره ،
من كونك أهلا لما اصطفاك الله له من النبوّة ، وأنزله عليك من القرآن (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي : كفى الله شاهدا ، والباء زائدة ، وشهادة الله
سبحانه : هي ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة ، فإن وجود هذه المعجزات
شهادة للنبيّ صلىاللهعليهوسلم بصدق ما أخبر به من هذا وغيره (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بكل ما يجب الإيمان به ، أو بهذا الأمر الخاص ، وهو ما
في هذا المقام : (وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وبقولهم : ما نجد صفته في كتابنا ، وإنما النبوّة في
ولد هارون وداود ، وبقولهم : إن شرع موسى لا ينسخ (قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً
بَعِيداً) عن الحقّ بما فعلوا ، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن
الحق (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) بجحدهم (وَظَلَمُوا) غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمدا بكتمانهم نبوّته
أو ظلموا أنفسهم بكفرهم ، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا
طَرِيقَ جَهَنَّمَ) لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم ، وفرط
شقائهم ، وجحدوا الواضح ، وعاندوا البين (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) أي : يدخلهم جهنم خالدين فيها ، وهي حال مقدّرة. وقوله
: (أَبَداً) منصوب على الظرفية ، وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا
يراد به المكث الطويل (وَكانَ ذلِكَ) أي : تخليدهم في جهنم ، أو ترك المغفرة لهم والهداية مع
الخلود في جهنم (عَلَى اللهِ يَسِيراً) لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (فَآمِنُوا خَيْراً
لَكُمْ) اختلف أئمة النحو في انتصاب خيرا على ماذا؟ فقال سيبويه
والخليل : بفعل مقدر ، أي : واقصدوا أو ائتوا خيرا لكم ، وقال الفراء : هو نعت
لمصدر محذوف ، أي : فآمنوا إيمانا خيرا لكم ، وذهب أبو عبيدة ، والكسائي : إلى أنه
خبر لكان مقدّرة ، أي : فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم ، وأقوى هذه الأقوال الثالث ،
ثم الأوّل ، ثم الثاني على ضعف فيه (وَإِنْ تَكْفُرُوا) أي : وإن تستمروا على كفركم (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) من مخلوقاته ، وأنتم من جملتهم ، ومن كان خالقا لكم
ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم ، ففي هذه الجملة وعيد لهم ، مع إيضاح
وجه البرهان ، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان. لأنهم
يعترفون بأن الله خالقهم (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) الغلو : هو التجاوز في الحدّ ، ومنه : غلا السعر يغلو
غلاء ، وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها : إذا أسرعت الشباب
فجاوزت لداتها. والمراد بالآية : النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى ، فمن
الإفراط : غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ، ومن
__________________
التفريط : غلو اليهود فيه عليهالسلام حتى جعلوه لغير رشدة ؛ وما أحسن قول الشاعر :
ولا تغل في
شيء من الأمر واقتصد
|
|
كلا طرفي
الأمور ذميم
|
(وَلا
تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، ولا تقولوا :
الباطل ، كقول اليهود : عزير ابن الله ، وقول النصارى : المسيح ابن الله (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) المسيح : مبتدأ ، وعيسى : بدل منه ، وابن مريم : صفة
لعيسى ، ورسول الله : الخبر ، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان ، والجملة
تعليل للنهي ، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران. قوله : (وَكَلِمَتُهُ) عطف على رسول الله ، و (أَلْقاها إِلى
مَرْيَمَ) حال ، أي : كوّنه بقوله : كن ؛ فكان بشرا من غير أب ،
وقيل : (وَكَلِمَتُهُ) بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ
إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) وقيل : الكلمة هاهنا بمعنى الآية ، ومنه : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) ، وقوله : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ
اللهِ) . قوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) أي : أرسل جبريل ؛ فنفخ في درع مريم ؛ فحملت بإذن الله
؛ وهذه الإضافة للتفضيل ، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى ؛ وقيل : قد يسمى من
تظهر منه الأشياء العجيبة : روحا ويضاف إلى الله فيقال : هذا روح من الله ، أي :
من خلقه ، كما يقال في النعمة : إنها من الله ، وقيل : (رُوحٌ مِنْهُ) أي : من خلقه ، كما قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) . أي من خلقه ، وقيل : (رُوحٌ مِنْهُ) أي : رحمة منه ، وقيل : (رُوحٌ مِنْهُ) أي : برهان منه ، وكان عيسى برهانا وحجة على قومه.
وقوله : (مِنْهُ) متعلق بمحذوف وقع صفة لروح ، أي : كائنة منه ، وجعلت
الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل : لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : بأنه سبحانه إله واحد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن
له كفوا أحد ، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه ، ولا تكذبوهم
ولا تغلوا فيهم ، فتجعلوا بعضهم آلهة. قوله : (وَلا تَقُولُوا
ثَلاثَةٌ) ارتفاع ثلاثة : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، قال الزجاج :
أي : لا تقولوا : آلهتنا ثلاثة ، وقال الفراء وأبو عبيد : أي : لا تقولوا هم ثلاثة
كقوله : (سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ) وقال أبو علي الفارسي : لا تقولوا هو ثالث ثلاثة ، فحذف
المبتدأ والمضاف ، والنصارى مع تفرّق مذاهبهم متفقون على التثليث ، ويعنون
بالثلاثة : الثلاثة أقانيم فيجعلونه سبحانه جوهرا واحدا وله ثلاثة أقانيم ، ويعنون
بالأقانيم : أقنوم الوجود ، وأقنوم الحياة ، وأقنوم العلم ، وربما يعبرون عن
الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ، فيعنون بالأب الوجود ، وبالروح الحياة ،
وبالابن المسيح. وقيل : المراد بالآلهة الثلاثة : الله سبحانه وتعالى ، ومريم ،
والمسيح. وقد اختبط النصارى في هذا اختباطا طويلا.
ووقفنا في
الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى :
فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان ، وتارة يوصف بأنه ابن الله ، وتارة يوصف بأنه ابن
الربّ ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب
__________________
بالدين. والحق ما أخبرنا الله به في القرآن ، وما خالفه في التوراة أو
الإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرّفين ، وتلاعب المتلاعبين. ومن أعجب ما
رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليهالسلام.
وحاصل ما فيها
جميعا : أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن
رفعه إليه ، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم ، فاختلفت
ألفاظهم ، واتفقت معانيها ، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط ،
وذكر ما قاله عيسى وما قيل له ، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ، ولا أنزل على
عيسى من عنده كتابا ، بل كان عيسى عليهالسلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما
يخالفها ، وهكذا الزبور فإنه من أوّله إلى آخره من كلام داود عليهالسلام. وكلام الله أصدق ، وكتابه أحق ، وقد أخبرنا : أن الإنجيل
كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله
عليه.
قوله : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) أي : انتهوا عن التثليث ، وانتصاب (خَيْراً) هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ). و (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ
واحِدٌ) لا شريك له ، صاحبة ولا ولدا (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي : أسبحه تسبيحا عن أن يكون له ولد (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) وما جعلتموه له شريكا أو ولدا هو من جملة ذلك ،
والمملوك المخلوق لا يكون شريكا ولا ولدا (وَكَفى بِاللهِ
وَكِيلاً) فكلّ الخلق أمورهم إليه ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا
نفعا.
وقد أخرج إسحاق
، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : دخل جماعة من
اليهود على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لهم : «إنّي والله أعلم أنّكم تعلمون أنّي رسول
الله ، قالوا : ما نعلم ذلك. فأنزل الله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) الآية». وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم ، وصححه ،
والبيهقي في الدلائل ، عن أبي موسى : أن النجاشي قال لجعفر : ما يقول صاحبك في ابن
مريم؟ قال : يقول فيه : قول الله ، هو روح الله وكلمته ، أخرجه من البتول العذراء
، لم يقربها بشر. فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين والرهبان!
ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه. وأخرجه البيهقي في الدلائل
عن ابن مسعود بأطول من هذا. وأخرج البخاري عن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى ابن مريم فإنّما
أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله».
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ
اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي
رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))
أصل يستنكف :
نكف ، وباقي الحروف زائدة ، يقال : نكفت من الشيء ، واستنكفت منه ، وأنكفته ، أي :
نزهته عما يستنكف منه. قال الزجاج : استنكف ، أي : أنف ، مأخوذ من نكفت الدمع :
إذا نحيته بإصبعك عن خديك ؛ وقيل : هو من النكف ، وهو العيب ، يقال : ما عليه في
هذا الأمر نكف ولا وكف. أي : عيب. ومعنى الأوّل : لم يأنف عن العبودية ولن يتنزه
عنها. ومعنى الثاني : لن يعيب العبودية ولن ينقطع عنها. (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) : عطف على المسيح ، أي : ولن يستنكف الملائكة المقرّبون
عن أن يكونوا عبادا الله.
وقد استدل بهذا
: القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء ، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا
يسمن ولا يغني من جوع ، وادعى أن الذوق قاض بذلك ، ونعم ، الذوق العربي إذا خالطه
محبة المذهب ، وشابه شوائب الجمود ، كان هذا ، وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من
قال : لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم ، أو لا كبير ولا صغير ، أو لا جليل
ولا حقير ، ثم يدل هذا : على أن المعطوف أعظم شأنا من المعطوف عليه ، وعلى كل حال
فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة ، وما أقل فائدتها ، وما أبعدها عن أن تكون مركزا
من المراكز الشرعية الدينية وجسرا من الجسور (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ
عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ) أي : يأنف تكبرا ويعد نفسه كبيرا عن العبادة (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) المستنكف وغيره ، فيجازي كلا بعمله. وترك ذكر غير
المستنكف هنا لدلالة أول الكلام عليه ، ولكون الحشر لكلا الطائفتين (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) من غير أن يفوتهم منها شيء (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بسبب استنكافهم واستكبارهم (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
وَلِيًّا) يواليهم (وَلا نَصِيراً) ينصرهم. قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) بما أنزله عليكم من كتبه ، وبمن أرسله إليكم من رسله ،
وما نصبه لهم من المعجزات. والبرهان : ما يبرهن به على المطلوب (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً
مُبِيناً) وهو القرآن ، وسماه نورا : لأنه يهتدى به من ظلمة
الضلال (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) أي : بالله ، وقيل : بالنور المذكور (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) يرحمهم بها (وَفَضْلٍ) يتفضل به عليهم (وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ) أي : إلى امتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، أو
إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله (صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : طريقا يسلكونه إليه مستقيما لا عوج فيه ، وهو
التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان ، قال أبو علي الفارسي : الهاء في قوله
: (إِلَيْهِ) راجعة إلى ما تقدم من اسم الله ، وقيل : راجعة إلى
القرآن ؛ وقيل : إلى الفضل ؛ وقيل : إلى الرحمة والفضل ، لأنهما بمعنى الثواب ،
وانتصاب صراطا : على أنه مفعول ثان للفعل المذكور ؛ وقيل : على الحال.
وقد أخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ) لن يستكبر. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ،
والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف
عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله : (فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قال : أجورهم : يدخلهم الجنة ، ويزيدهم من فضله :
الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا. وقد
ساقه ابن كثير في تفسيره فقال : وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن
إسماعيل بن عبد الله الكندي ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن ابن مسعود فذكره وقال :
هذا إسناد لا يثبت ، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفا فهو جيد. وأخرج ابن جرير ، وابن
المنذر عن قتادة : (قَدْ جاءَكُمْ
بُرْهانٌ) أي : بينة (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) قال : هذا القرآن. وأخرجا أيضا عن مجاهد قال : برهان :
حجة. وأخرجا أيضا عن ابن جريج في قوله : (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) قال : القرآن.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا
إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))
قد تقدّم
الكلام في الكلالة في أوّل هذه السورة ، وسيأتي ذكر المستفتي المقصود بقوله : (يَسْتَفْتُونَكَ). قوله : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أي : إن هلك امرؤ هلك كما تقدم في قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) . وقوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) إما صفة ل : امرؤ ، أو حال ، ولا وجه للمنع من كونه
حالا ، والولد : يطلق على الذكر والأنثى ، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم
الوالد معتبر في الكلالة : اتكالا على ظهور ذلك ؛ قيل : والمراد بالولد هنا الابن
، وهو أحد معنى المشترك ، لأن البنت لا تسقط الأخت. وقوله : (وَلَهُ أُخْتٌ) عطف على قوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ). والمراد بالأخت هنا : هي الأخت لأبوين ، أو لأب ، لا
لأم ، فإن فرضها السدس كما ذكر سابقا. وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم : إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهم أخ. وذهب
ابن عباس : إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات ، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة ،
وقالوا : إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت ، واحتجوا بظاهر هذه الآية ،
فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيدا في ميراث الأخت ، وهذا استدلال
صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت ، وهو ما ثبت في
الصحيح : أن معاذا قضى على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بنت وأخت فجعل للبنت النصف وللأخت النصف. وثبت في
الصحيح أيضا : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت : فجعل للبنت النصف ، ولبنت
الابن السدس ، وللأخت الباقي» فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون
البنت. قوله : (وَهُوَ يَرِثُها) أي : المرء يرثها ، أي : يرث الأخت (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ذكر إن كان المراد بإرثه لها : حيازته لجميع ما تركته ،
وإن كان المراد : ثبوت ميراثه لها في الجملة أعمّ من أن يكون كلا أو بعضا ، صح تفسير
الولد بما يتناول الذكر والأنثى. واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد ـ مع
كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر ـ : لأن المراد بيان حقوق الأخ مع الولد
فقط هنا ، وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة ، كما ثبت في الصحيح من قوله صلىاللهعليهوسلم : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر»
والأب أولى من الأخ
__________________
(فَإِنْ كانَتَا
اثْنَتَيْنِ) أي : فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين ، والعطف على
الشرطية السابقة ، والتأنيث والتثنية ؛ وكذلك الجمع في قوله : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً) باعتبار الخبر (فَلَهُمَا
الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) المرء إن لم يكن له ولد كما سلف ، وما فوق الاثنتين من
الأخوات يكون لهنّ الثلثان بالأولى (وَإِنْ كانُوا) أي : من يرث بالأخوّة (إِخْوَةً رِجالاً
وَنِساءً) أي : مختلطين ذكورا وإناثا (فَلِلذَّكَرِ) منهم (مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ) تعصيبا (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي : يبين لكم حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة أن
تضلوا ، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين. وقال الكسائي : المعنى لئلا تضلوا ،
ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها (عَلِيمٌ) أي : كثير العلم.
وقد أخرج
البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال : «دخل عليّ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ ثم صبّ عليّ فعقلت ، فقلت :
إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض» وأخرجه عنه ابن سعد ،
وابن أبي حاتم بلفظ : أنزلت في (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). وأخرج ابن راهويه ، وابن مردويه عن عمر أنه سأل رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : كيف تورث الكلالة : فأنزل الله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ) الآية. وأخرج مالك ، ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر
قال : ما سألت النبي صلىاللهعليهوسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بإصبعه في
صدري وقال : «ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء». وأخرج أحمد ، وأبو داود ،
والترمذي ، والبيهقي عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فسأله عن الكلالة؟ فقال : «تكفيك آية الصيف». وأخرج
البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان عهد إلينا فيهنّ عهدا ننتهي إليه : الجدّ ،
والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن البراء ابن
عازب قال : آخر سورة نزلت كاملة : براءة ، وآخر آية نزلت : خاتمة سورة النساء : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ). وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن
سيرين قال : كان عمر ابن الخطاب إذا قرأ : (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) قال : اللهمّ من بيّنت له الكلالة فلم تتبين لي.
وقد أوضحنا
الكلام خلافا واستدلالا وترجيحا في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده.
إلى هنا انتهى
الجزء الأوّل من التفسير المبارك : المسمى «فتح القدير» الجامع بين فني الرواية
والدراية من علم التفسير بقلم مؤلفه الراجي من ربه سبحانه أن يعينه على تمامه ،
وينفع به من شاء من عباده ، ويجعله ذخيرة له عند وفوده إلى دار الآخرة «محمد بن
علي بن محمد الشوكاني» غفر الله لهما.
وكان الانتهاء
إلى هذا الموضع في يوم العيد الأكبر ، يوم النحر المبارك من سنة أربع وعشرين بعد
مائتين
__________________
وألف من الهجرة النبوية ، حامدا لله ومصلّيا ومسلّما على رسوله وحبيبه محمد
بن عبد الله وعلى آله وصحبه.
الحمد له : كمل
سماعا والحمد لله في شهر ذي القعدة من عام سنة ١٢٣٢ ه.
يحيى بن علي الشوكاني
* * *
فهرس الجزء الأول
الآيات
|
الصفحة
|
|
الآيات
|
الصفحة
|
التعريف بالمؤلف
|
٥
|
|
تفسير الآيات (٣١ ـ ٣٣)
|
٧٦
|
التعريف بالكتاب
|
١١
|
|
تفسير الآية (٣٤)
|
٧٨
|
مقدمة المؤلف
|
١٣
|
|
تفسير الآيات (٣٥ ـ ٣٩)
|
٧٩
|
سورة الفاتحة (١)
|
|
|
تفسير الآيات (٤٠ ـ ٤٢)
|
٨٥
|
تفسير الآية (١)
|
٢٠
|
|
تفسير الآيات (٤٣ ـ ٤٦)
|
٩٠
|
تفسير الآيات (٢ ـ ٧)
|
٢٣
|
|
تفسير الآيات (٤٧ ـ ٥٠)
|
٩٦
|
سورة البقرة (٢)
|
|
|
تفسير الآيات (٥١ ـ ٥٤)
|
١٠٠
|
تفسير الآية (١)
|
٣٤
|
|
تفسير الآيات (٥٥ ـ ٥٧)
|
١٠٢
|
تفسير الآية (٢)
|
٣٨
|
|
تفسير الآيتين (٥٨ ـ
٥٩)
|
١٠٥
|
تفسير الآية (٣)
|
٣٩
|
|
تفسير الآيتين (٦٠ ـ
٦١)
|
١٠٧
|
تفسير الآية (٤)
|
٤٣
|
|
تفسير الآية (٦٢)
|
١١٠
|
تفسير الآية (٥)
|
٤٤
|
|
تفسير الآيات (٦٣ ـ ٦٦)
|
١١٢
|
تفسير الآيتين (٦ ـ ٧)
|
٤٥
|
|
تفسير الآيات (٦٧ ـ ٧١)
|
١١٤
|
تفسير الآيتين (٨ ـ ٩)
|
٤٨
|
|
تفسير الآيات (٧٢ ـ ٧٤)
|
١١٧
|
تفسير الآية (١٠)
|
٤٩
|
|
تفسير الآيات (٧٥ ـ ٧٧)
|
١٢٠
|
تفسير الآيتين (١١ ـ
١٢)
|
٥٠
|
|
تفسير الآيات (٧٨ ـ ٨٢)
|
١٢٢
|
تفسير الآيات (١٣ ـ ١٥)
|
٥١
|
|
تفسير الآيات (٨٣ ـ ٨٦)
|
١٢٦
|
تفسير الآيتين (١٤ ـ
١٥)
|
٥٢
|
|
تفسير الآيتين (٨٧ ـ
٨٨)
|
١٢٩
|
تفسير الآية (١٦)
|
٥٤
|
|
تفسير الآيات (٨٩ ـ ٩٢)
|
١٣١
|
تفسير الآيتين (١٧ ـ
١٨)
|
٥٥
|
|
تفسير الآيات (٩٣ ـ ٩٦)
|
١٣٣
|
تفسير الآيتين (١٩ ـ
٢٠)
|
٥٦
|
|
تفسير الآيتين (٩٧ ـ
٩٨)
|
١٣٦
|
تفسير الآيتين (٢١ ـ
٢٢)
|
٥٩
|
|
تفسير الآيات (٩٩ ـ ١٠٣)
|
١٣٨
|
تفسير الآيتين (٢٣ ـ
٢٤)
|
٦٢
|
|
تفسير الآيتين (١٠٤
ـ ١٠٥)
|
١٤٥
|
تفسير الآية (٢٥)
|
٦٤
|
|
تفسير الآيتين (١٠٦
ـ ١٠٧)
|
١٤٦
|
تفسير الآيتين (٢٦ ـ
٢٧)
|
٦٦
|
|
تفسير الآيات (١٠٨ ـ
١١٠)
|
١٤٩
|
تفسير الآية (٢٨)
|
٧٠
|
|
تفسير الآيتين (١١١
ـ ١١٣)
|
١٥١
|
تفسير الآية (٢٩)
|
٧١
|
|
تفسير الآيتين (١١٤
ـ ١١٥)
|
١٥٣
|
تفسير الآية (٣٠)
|
٧٤
|
|
تفسير الآيات (١١٦ ـ
١١٨)
|
١٥٥
|
|
|
|
تفسير الآيات (١١٩ ـ
١٢١)
|
١٥٧
|
الآيات
|
الصفحة
|
|
الآيات
|
الصفحة
|
تفسير الآيات (١٢٢ ـ
١٢٤)
|
١٥٩
|
|
تفسير الآية (٢١٤)
|
٢٤٧
|
تفسير الآيات (١٢٥ ـ
١٢٨)
|
١٦٤
|
|
تفسير الآيتين (٢١٥
ـ ٢١٦)
|
٢٤٨
|
تفسير الآيات (١٢٩ ـ
١٣٢)
|
١٦٧
|
|
تفسير الآيتين (٢١٧
ـ ٢١٨)
|
٢٤٩
|
تفسير الآيات (١٣٣ ـ
١٤١)
|
١٦٩
|
|
تفسير الآيتين (٢١٩
ـ ٢٢٠)
|
٢٥٢
|
تفسير الآيتين (١٤٢
ـ ١٤٣)
|
١٧٤
|
|
تفسير الآية (٢٢١)
|
٢٥٧
|
تفسير الآيات (١٤٤ ـ
١٤٧)
|
١٧٧
|
|
تفسير الآيتين (٢٢٢
ـ ٢٢٣)
|
٢٥٨
|
تفسير الآيات (١٤٨ ـ
١٥٢)
|
١٨١
|
|
تفسير الآيتين (٢٢٤
ـ ٢٢٥)
|
٢٦٣
|
تفسير الآيات (١٥٣ ـ
١٥٧)
|
١٨٣
|
|
تفسير الآيتين (٢٢٦
ـ ٢٢٧)
|
٢٦٦
|
تفسير الآية (١٥٨)
|
١٨٥
|
|
تفسير الآية (٢٢٨)
|
٢٦٩
|
تفسير الآيات (١٥٩ ـ
١٦٣)
|
١٨٦
|
|
تفسير الآيتين (٢٢٩
ـ ٢٣٠)
|
٢٧٣
|
تفسير الآية (١٦٤)
|
١٨٨
|
|
تفسير الآية (٢٣١)
|
٢٧٨
|
تفسير الآيات (١٦٥ ـ
١٦٧)
|
١٩٠
|
|
تفسير الآية (٢٣٢)
|
٢٧٩
|
تفسير الآيات (١٦٨ ـ
١٧١)
|
١٩٣
|
|
تفسير الآية (٢٣٣)
|
٢٨١
|
تفسير الآيتين (١٧٢
ـ ١٧٣)
|
١٩٥
|
|
تفسير الآية (٢٣٤)
|
٢٨٤
|
تفسير الآيات (١٧٤ ـ
١٧٦)
|
١٩٧
|
|
تفسير الآية (٢٣٥)
|
٢٨٧
|
تفسير الآية (١٧٧)
|
١٩٨
|
|
تفسير الآيتين (٢٣٦
ـ ٢٣٧)
|
٢٨٩
|
تفسير الآيتين (١٧٨
ـ ١٧٩)
|
٢٠١
|
|
تفسير الآيتين (٢٣٨
ـ ٢٣٩)
|
٢٩٣
|
تفسير الآيات (١٨٠ ـ
١٨٢)
|
٢٠٤
|
|
تفسير الآيات (٢٤٠ ـ
٢٤٢)
|
٢٩٧
|
تفسير الآيات (١٨٣ ـ
١٨٤)
|
٢٠٧
|
|
تفسير الآيات (٢٤٣ ـ
٢٤٥)
|
٢٩٩
|
تفسير الآية (١٨٥)
|
٢٠٩
|
|
تفسير الآيات (٢٤٦ ـ
٢٥٢)
|
٣٠٢
|
تفسير الآية (١٨٦)
|
٢١٢
|
|
تفسير الآية (٢٥٣)
|
٣٠٨
|
تفسير الآية (١٨٧)
|
٢١٤
|
|
تفسير الآية (٢٥٤)
|
٣١٠
|
تفسير الآية (١٨٨)
|
٢١٦
|
|
تفسير الآية (٢٥٥)
|
٣١١
|
تفسير الآية (١٨٩)
|
٢١٧
|
|
تفسير الآيتين (٢٥٦
ـ ٢٥٧)
|
٣١٥
|
تفسير الآيات (١٩٠ ـ
١٩٣)
|
٢١٩
|
|
تفسير الآية (٢٥٨)
|
٣١٨
|
تفسير الآية (١٩٤)
|
٢٢١
|
|
تفسير الآية : (٢٥٩)
|
٣١٩
|
تفسير الآية (١٩٥)
|
٢٢٢
|
|
تفسير الآية (٢٦٠)
|
٣٢٢
|
تفسير الآية (١٩٦)
|
٢٢٤
|
|
تفسير الآيات (٢٦١ ـ
٢٦٥)
|
٣٢٥
|
تفسير الآيتين (١٩٧
ـ ١٩٨)
|
٢٢٩
|
|
تفسير الآية (٢٦٦)
|
٣٣٠
|
تفسير الآيات (١٩٩ ـ
٢٠٣)
|
٢٣٤
|
|
تفسير الآيات (٢٦٧ ـ
٢٧١)
|
٣٣١
|
تفسير الآيات (٢٠٤ ـ
٢٠٧)
|
٢٣٨
|
|
تفسير الآيات (٢٧٢ ـ
٢٧٤)
|
٣٣٥
|
تفسير الآيات (٢٠٨ ـ
٢١٠)
|
٢٤١
|
|
تفسير الآيات (٢٧٥ ـ
٢٧٧)
|
٣٣٨
|
تفسير الآيات (٢١١ ـ
٢١٣)
|
٢٤٣
|
|
تفسير الآيات (٢٧٨ ـ
٢٨١)
|
٢٤١
|
الآيات
|
الصفحة
|
|
الآيات
|
الصفحة
|
تفسير الآيتين (٢٨٢
ـ ٢٨٣)
|
٢٤٣
|
|
تفسير الآيات (١١٨ ـ
١٢٠)
|
٤٣٠
|
تفسير الآية (٢٨٤)
|
٣٥٠
|
|
تفسير الآيات (١٢١ ـ
١٢٩)
|
٤٣٢
|
تفسير الآيتين (٢٨٥
ـ ٢٨٦)
|
٣٥٢
|
|
تفسير الآيات (١٣٠ ـ
١٣٦)
|
٤٣٦
|
سورة آل عمران (٣)
|
|
|
تفسير الآيات (١٣٧ ـ
١٤٨)
|
٤٣٩
|
تفسير الآيات (١ ـ ٦)
|
٣٥٧
|
|
تفسير الآيات (١٤٩ ـ
١٥٣)
|
٤٤٥
|
تفسير الآيات (٧ ـ ٩)
|
٣٦٠
|
|
تفسير الآيتين (١٥٤
ـ ١٥٥)
|
٤٤٨
|
تفسير الآيات (١٠ ـ ١٣)
|
٣٦٧
|
|
تفسير الآيات (١٥٦ ـ
١٦٤)
|
٤٥٠
|
تفسير الآيات (١٤ ـ ١٧)
|
٣٧٠
|
|
تفسير الآيات (١٦٥ ـ
١٦٨)
|
٤٥٤
|
تفسير الآيات (١٨ ـ ٢٠)
|
٣٧٣
|
|
تفسير الآيات (١٦٩ ـ
١٧٥)
|
٤٥٦
|
تفسير الآيات (٢١ ـ ٢٥)
|
٣٧٦
|
|
تفسير الآيات (١٧٦ ـ
١٨٠)
|
٤٦١
|
تفسير الآيتين (٢٦ ـ
٢٧)
|
٣٧٨
|
|
تفسير الآيات (١٨١ ـ
١٨٤)
|
٤٦٥
|
تفسير الآيات (٢٨ ـ ٣٠)
|
٣٨٠
|
|
تفسير الآيات (١٨٥ ـ
١٨٩)
|
٤٦٧
|
تفسير الآيات (٣١ ـ ٣٤)
|
٣٨٢
|
|
تفسير الآيات (١٩٠ ـ
١٩٤)
|
٤٧٠
|
تفسير الآيات (٣٥ ـ ٣٧)
|
٣٨٣
|
|
تفسير الآية (١٩٥)
|
٤٧٣
|
تفسير الآيات (٣٨ ـ ٤٤)
|
٣٨٦
|
|
تفسير الآيات (١٩٦ ـ
٢٠٠)
|
٤٧٤
|
تفسير الآيات (٤٥ ـ ٥١)
|
٣٩٠
|
|
سورة النساء (٤)
|
|
تفسير الآيات (٥٢ ـ ٥٨)
|
٣٩٤
|
|
تفسير الآيات (١ ـ ٤)
|
٤٧٩
|
تفسير الآيات (٥٩ ـ ٦٣)
|
٣٩٧
|
|
تفسير الآيتين (٥ ـ ٦)
|
٤٨٩
|
تفسير الآية (٦٤)
|
٣٩٩
|
|
تفسير الآيات (٧ ـ ١٠)
|
٤٩٢
|
تفسير الآيات (٦٥ ـ ٦٨)
|
٤٠٠
|
|
تفسير الآيات (١١ ـ ١٤)
|
٤٩٥
|
تفسير الآيات (٦٩ ـ ٧٤)
|
٤٠١
|
|
تفسير الآيات (١٥ ـ ١٨)
|
٥٠٣
|
تفسير الآيات (٧٥ ـ ٧٧)
|
٤٠٤
|
|
تفسير الآيات (١٩ ـ ٢٢)
|
٥٠٦
|
تفسير الآية (٧٨)
|
٤٠٦
|
|
تفسير الآيات (٢٣ ـ ٢٨)
|
٥١٠
|
تفسير الآيات (٧٩ ـ ٨٠)
|
٤٠٧
|
|
تفسير الآيات (٢٩ ـ ٣١)
|
٥٢٦
|
تفسير الآيتين (٨١ ـ
٨٢)
|
٤٠٨
|
|
تفسير الآيات (٣٢ ـ ٣٤)
|
٥٢٩
|
تفسير الآيات (٨٦ ـ ٩١)
|
٤١٠
|
|
تفسير الآيات (٣٢ ـ ٣٤)
|
٥٢٩
|
تفسير الآيات (٨٦ ـ ٩١)
|
٤١٠
|
|
تفسير الآية (٣٥)
|
٥٣٤
|
تفسير الآيات (٩٢ ـ ٩٥)
|
٤١٣
|
|
تفسير الآية (٣٦)
|
٥٣٥
|
تفسير الآيتين (٩٦ ـ
٩٧)
|
٤١٥
|
|
تفسير الآيات (٣٧ ـ ٤٢)
|
٥٣٧
|
تفسير الآيات (٩٨ ـ ١٠٣)
|
٤١٩
|
|
تفسير الآية (٤٣)
|
٥٤٠
|
تفسير الآيات (١٠٤ ـ
١٠٩)
|
٤٢٣
|
|
تفسير الآيات (٤٤ ـ ٤٨)
|
٥٤٧
|
تفسير الآيات (١١٠ ـ
١١٢)
|
٤٢٥
|
|
تفسير الآيات (٤٩ ـ ٥٥)
|
٥٥٠
|
تفسير الآيات (١١٣ ـ
١١٧)
|
٤٢٧
|
|
تفسير الآيتين (٥٦ ـ ٥٧)
|
٥٥٤
|
|
|
|
تفسير الآيتين (٥٨ ـ
٥٩) ٥٥٥
|
|
|
|
|
تفسير الآيات (١١٨ ـ
١٢٠)
|
٤٣٠
|
الآيات
|
الصفحة
|
|
الآيات
|
الصفحة
|
تفسير الآيات (٦٠ ـ ٦٥)
|
٥٥٧
|
|
تفسير الآيات (١١٦ ـ
١٢٢)
|
٥٩٥
|
تفسير الآيات (٦٦ ـ ٧٠)
|
٥٦٠
|
|
تفسير الآيات (١٢٣ ـ
١٢٦)
|
٥٩٨
|
تفسير الآيات (٧١ ـ ٧٦)
|
٥٦١
|
|
تفسير الآية (١٢٧)
|
٥٩٩
|
تفسير الآيات (٧٧ ـ ٨١)
|
٥٦٣
|
|
تفسير الآيات (٩٧ ـ ١٠٠)
|
٥٨٢
|
تفسير الآيتين (٨٢ ـ
٨٣)
|
٥٦٧
|
|
تفسير الآية (١٢٧)
|
٥٩٩
|
تفسير الآيات (٨٤ ـ ٨٧)
|
٥٦٨
|
|
تفسير الآيات (١٢٨ ـ
١٣٠)
|
٦٠١
|
تفسير الآيات (٨٨ ـ ٩١)
|
٥٧١
|
|
تفسير الآيات (١٣١ ـ
١٣٤)
|
٦٠٣
|
تفسير الآيتين (٩٢ ـ
٩٣)
|
٥٧٤
|
|
تفسير الآيتين (١٣٥
ـ ١٣٦)
|
٦٠٤
|
تفسير الآية (٩٤)
|
٥٧٨
|
|
تفسير الآيات (١٣٧ ـ
١٤١)
|
٦٠٦
|
تفسير الآيتين (٩٥ ـ
٩٦)
|
٥٨٠
|
|
تفسير الآيات (١٤٢ ـ
١٤٧)
|
٦٠٩
|
تفسير الآيات (٩٧ ـ ١٠٠)
|
٥٨٢
|
|
تفسير الآيتين (١٤٨
ـ ١٤٩)
|
٦١٢
|
تفسير الآيتين (١٠١
ـ ١٠٢)
|
٥٨٥
|
|
تفسير الآيات (١٥٠ ـ
١٥٢)
|
٦١٣
|
تفسير الآيتين (١٠٣
ـ ١٠٤)
|
٥٨٨
|
|
تفسير الآيات (١٥٣ ـ
١٥٩)
|
٦١٤
|
تفسير الآيات (١٠٥ ـ
١٠٩)
|
٥٨٩
|
|
تفسير الآيات (١٦٠ ـ
١٦٥)
|
٦١٨
|
تفسير الآيات (١١٠ ـ
١١٣)
|
٥٩٢
|
|
تفسير الآيات (١٦٦ ـ
١٧١)
|
٦٢١
|
تفسير الآيتين (١١٤
ـ ١١٥)
|
٥٩٣
|
|
تفسير الآيات (١٧٢ ـ
١٧٥)
|
٦٢٤
|
|
|
|
تفسير الآية (١٧٦)
|
٦٢٦
|
|