
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ)
(١٢٧)
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب
العالمين
والصلاة والسلام
على سيدنا رسول الله ومن والاه
وبعد فهذا تفسير
لسورة الأنفال أسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده إنه سميع
مجيب.
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
|
المؤلف
د. محمد سيد طنطاوى
|
تمهيد بين يدي تفسير السورة
١ ـ سورة الأنفال
هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف ، فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية ، ثم جاءت
بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية ، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم ، وهن
سور : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة. ثم جاءت بعد هذه السور الأربع سورتان
مكيتان ، وهما أطول السور المكية في القرآن ، سورتا : الأنعام والأعراف.
ثم جاءت سورة
الأنفال بعد ذلك ، فكانت الثامنة في ترتيب سور المصحف.
٢ ـ وعدد آياتها
خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي ، وست وسبعون في الحجازي ، وسبع وسبعون في
الشامي.
٣ ـ وقد سميت سورة
الأنفال بهذا الإسم ، لحديثها عن الأنفال أى الغنائم في أكثر من موضع.
وقد أطلق عليها
بعض الصحابة سورة بدر ، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها
فقال : تلك سورة بدر .
٤ ـ وسورة الأنفال
كلها مدنية ، وممن قال بذلك : زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وعطاء بن أبي
رباح والحسن ، وعكرمة.
قال صاحب المنار :
وقيل إنها مدنية إلا آية وهي قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن
الخطاب ، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على
القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام ، وروى عن مقاتل استثناء قوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) ... «الآية ؛ لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلىاللهعليهوسلم قبيل الهجرة ، بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع صاحبه أبى بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار ، وهذا
استنباط من المعنى ، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت
في المدينة.
وزاد بعضهم
استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
قالُوا قَدْ سَمِعْنا) .. إلى قوله : (بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) «الآيات من
__________________
٣١ ـ ٣٥» ؛ لأن
موضوعها حال كفار قريش في مكة ، وهذا لا يقتضى نزولها في مكة ، بل ذكّر الله بها
رسوله بعد الهجرة ، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني» .
والذي ترتاح إليه
النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية ، وأن ما في بعض آياتها من أوصاف لأحوال
المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعنى كون هذه الآيات مكية ؛ لأن هذه الآيات إنما هي
من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عناد ومكابرة وانحراف عن
الطريق القويم ، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر
فيها للمؤمنين.
٥ ـ وقد ذكر بعض
المفسرين ـ ومنهم الزمخشري ـ أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة ، ولعل مرادهم
بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة ، لأنه من المعروف أن سورة
البقرة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة ، ثم امتد هذا النزول
لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بمدة قصيرة.
٦ ـ قال الآلوسى :
ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...) وفي هذه ـ أى الأنفال ـ كثير من أفراد المأمور به ، وفي
الأعراف ذكر قصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مع أقوامهم ، وفي هذه ذكره صلىاللهعليهوسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه.
وقد فصل ـ سبحانه
ـ في تلك ـ قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ..).
وأشار هناك إلى
سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا لَمْ
تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها ...) وصرح بذلك هنا إذ
يقول .. (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا ...) إلى غير ذلك من المناسبات.
ثم قال الآلوسى : «والظاهر
أن وضعها هنا توقيفي ، وكذا وضع براءة بعدها ، وإلى ذلك ذهب غير واحد ...» .
والحق أنه
بمطالعتنا لما يقوله الآلوسى وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي
قبلها ، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف ، وأن كثيرا مما ذكروه من مناسبات بين
سورتين معينتين لا يختص بهما ، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما.
__________________
فالآلوسى ـ مثلا ـ
يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ). وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به ..
وهذا المعنى نراه
في كثير من السور المتتالية ، فسورة آل عمران ـ مثلا ـ من بين آياتها قوله ـ تعالى
ـ : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ ..) .
وسورة النساء ـ التي
بعدها ـ فيها ـ أيضا ـ كثير من أفراد المأمور به ؛ لأن الأمر بالمعروف من الدعائم
التي يقوم عليها المجتمع الإسلامى.
والذي تميل إليه
النفس أن ترتيب السور توقيفي ، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة
تميزها عن غيرها.
٧ ـ وسورة الأنفال
عند ما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات ، نراها تحدثنا ـ في مجموعها ـ عن غزوة بدر ،
فتعرض أحداثها الظاهرة ، كما تعرض بشارات النصر فيها ، وتكشف عن قدرة الله وتدبيره
في وقائع هذه الغزوة الحاسمة ، وتبين كثيرا من الإرشادات والتشريعات الحربية التي
يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح.
أخرج البخاري عن
ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر :
(أ) لقد افتتحت
السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أى ـ الغنائم ـ مردها إلى الله ورسوله ، وأن
على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم صلىاللهعليهوسلم ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف ، وبشرتهم بأسمى
المنازل ، وأرفع الدرجات.
قال ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ
الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ
وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ).
(ب) وبعد هذا
الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين ، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض
الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر ، لأنهم لم
يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من
بلاد الشام لكن الله ـ تعالى ـ أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره ، لا
فيما يقدرون ويريدون.
__________________
استمع إلى السورة
الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول.
(كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ
إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ،
وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ
الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ).
(ج) ثم تسوق السورة
بعد ذلك ألوانا من البشارات التي تشعر المؤمنين بأن الله ـ تعالى ـ قد أجاب لهم
دعاءهم ، وأنه ـ سبحانه ـ سيجعل النصر في هذه المعركة حليفا لهم.
ومن مظاهر هذه
البشارات أن الله ـ تعالى ـ أمدهم بألف من الملائكة مردفين ، وأمدهم بالنعاس ليكون
مصدر طمأنينة لقلوبهم ، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها ، ولتثبت الأرض من
تحتهم ، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب
ملؤها الإقدام والشجاعة.
قال ـ تعالى ـ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا
النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).
(د) ثم وجهت
السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين ، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه
خيرهم وفلاحهم.
فقد أمرتهم في
النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم ، ونهتهم عن الفرار منهم ، وهددت من يوليهم
دبره بسوء المصير ، وأخبرتهم بأن الله معهم ما داموا معتمدين عليه ، ومستجيبين لما
يدعوهم إليه.
وأمرتهم في النداء
الثاني بطاعة الله ورسوله ، وحذرتهم من المعصية ، ومن التشبه بالكافرين الذين «قالوا
سمعنا وهم لا يسمعون».
وأمرتهم في النداء
الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم ، وخوفتهم
من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم ، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا
المنكر فلم يعملوا على تغييره.
ونهتهم في النداء
الرابع عن خيانة الله ورسوله ، أى : عن ترك فرائض الله ، وعن هجر
سنة رسوله ..
وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله وعن أداء واجباته.
ثم بشرتهم في
النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته ، فإنه ـ سبحانه ـ سيرزقهم
الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه.
تدبر معى ـ أخى
القارئ ـ هذه النداءات ، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية ، حيث
يقول ـ سبحانه ـ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ) ..
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ) ..
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ) ..
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ..
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ..
(ه) ثم أخذت
السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكرا ، وفي تصوير
ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران.
فحكت ما قالوه في
شأن القرآن من كذب ومكابرة.
وحكت استهزاءهم
بالدين ، وإمعانهم في الجحود ، وتعجلهم للعذاب ..
وحكت ما كانوا
يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن ، حتى يشغلوا الناس عن سماعه ..
وحكت مسارعتهم إلى
إنفاق أموالهم ، لا في وجوه الخير ، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران
وسوء المصير.
وبعد أن حكت كل
هذه الرذائل عن الكافرين ، أمرت الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم ، فإن الله
ـ تعالى ـ سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم. أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم ،
فستدور الدائرة عليهم.
قال ـ تعالى ـ : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ، وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ
آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا ، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ، إِنْ هذا
إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا
بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ
اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
(و) وبعد أن
افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من
توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب.
بعد كل ذلك عادت
السورة إلى الحديث عن الغنائم ، ففصلت ما أجملته في مطلعها ، وذكّرت المؤمنين بنعم
أخرى منحهم الله إياها في بدر.
ومن ذلك : أنّه ـ سبحانه
ـ هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم ، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون
موعد سابق .. وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضى ـ سبحانه ـ قضاءه النافذ ..
قال ـ تعالى ـ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما
أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى ، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ).
(ز) ثم يأتى بعد
ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين ، فيأمرهم ـ سبحانه ـ فيه بالثبات عند لقائهم
لأعدائهم ، وبالإكثار من ذكره ، وبالطاعة التامة له ولرسوله ، وبالابتعاد عن التنازع
والاختلاف.
ثم ينهاهم عن
التشبه بالمرائين ، والمتكبرين ، والمغرورين ، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم
ـ ولكنه عند ما تراءى الجمعان نكص على عقبيه ـ والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في
الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات الله ، وإيثارهم الضلالة على
الهداية.
قال ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ ، فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ
، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).
(ح) ثم تمضى
السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين ، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم ، وإعداد
العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم .. ، فإن جنحوا للسلم.
ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك ـ أيها الرسول الكريم ،
واحترس من خداعهم
وغدرهم ، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد.
قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ
يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ.
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ
اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا
إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ
مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
(ط) ثم انتقلت
السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين في شأنهم ، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما
عند الله من ثواب عظيم ، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه ، فإنه حلال طيب ، وأمرت
النبي صلىاللهعليهوسلم أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق ، وأن يخبرهم بأنهم متى
آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة ..
تأمل معى ـ أخى
القارئ ـ هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى.
(ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ
مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ
اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ
خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
(ى) وإذا كانت
السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين .. الصادقين ، وعن حال الذين كرهوا
الخروج إلى القتال في بدر .. فإنها قد تحدثت في ختامها ـ أيضا ـ عن أصناف المؤمنين
.. فمدحت المهاجرين السابقين ، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا ، لأنهم قد
اشتركوا جميعا في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله .. ثم بينت ما يجب
عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، بل ظلوا في أرض الشرك. ثم مدحت
المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية ـ وإن كانوا أقل في الدرجات من
المهاجرين السابقين.
قال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ
مِنْ
شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ، وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ
النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا
تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ. وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ،
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
٨ ـ هذا عرض مجمل
لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وتشريعات حكيمة ...
ومن هذا العرض نرى
أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي :
(ا) تربية
المؤمنين على العقيدة السليمة ، وعلى الطاعة لله ولرسوله. وإصلاح ذات بينهم ،
والثبات في وجه أعدائهم ، والإكثار من التقرب إلى خالقهم ، والمداومة على مراقبته
وخشيته وشكره ، فهو الذي هداهم للإيمان ، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من
الطيبات .. بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض.
ولقد أفاضت السورة
في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا ـ في أعقاب
اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم ـ فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في
القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله ، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم
والخير الباقي ..
(ب) تذكير
المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد ، وبما كان منهم من مكر برسولهم صلىاللهعليهوسلم ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله
، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلا لاستحواذ الشيطان عليهم ...
وهذا التذكير قد
تكرر كثيرا في سورتنا هذه ، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم ، ولكي لا
تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء ، وما يبيتونه
لهم من سوء وشر.
(ج) إرشاد
المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم ، لأنه متى
ساروا عليه حالفهم النصر ، وصاحبهم التوفيق.
ففي حالة الحرب :
أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة. وأن يبذلوا
أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق .. وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام ، وأن يكثروا
من التقرب إلى الله بصالح الأقوال والأعمال ـ خصوصا في مواطن القتال ـ .. وأن
يجعلوا غايتهم في
قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل (حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ...).
وأن يؤثروا السلم
على الحرب متى وجد السبيل إليه ، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ
إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها .. أما في حالة سلمهم : فقد أمرتهم السورة
الكريمة بالتآخى والتناصر والتواد والتراحم والتصالح .. ونبذ التنازع والتخاصم
والاختلاف والبطر.
كما أمرتهم بتقوى
الله وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد.
قال ـ تعالى ـ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
وهناك موضوعات
أخرى تعرضت لها السورة :
كحديثها عن
الغنائم ، وعن الأسرى ، وعن المعاهدات ، وعن أحداث غزوة بدر ، وعن المشاعر التي
تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها.
وقد ساقت السورة
الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدى القلوب ، ويشرح الصدور ، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم
وسعادتهم.
هذا ، ونرى من
المناسب ـ أخى القارئ ـ أن نختم هذا العرض المجمل لسورة بدر ـ كما سماها ابن عباس
ـ بتلخيص لقصة هذه الغزوة لنتنسم الجو الذي نزلت فيه هذه السورة ، ولندرك مرامي
النصوص فيها .. لأننا نعتقد أن ما يعين على فهم الآيات القرآنية فهما قويما مستنيرا
، أن يكون القارئ أو المفسر لها ملما بأسباب نزولها وبالجو التاريخى الذي نزلت فيه
، وبالأحداث التي لا بست نزولها .. يجانب إلمامه بمدلولاتها اللغوية والبيانية ..
قال الإمام ابن
هشام عند حديثه عن «غزوة بدر الكبرى» .
قال ابن إسحاق :
لما سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة .. ندب
المسلمين إليها وقال : «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله
ينفلكموها» فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان ـ حين
دنا من الحجاز ـ يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان : تخوفا على أمر الناس ـ
أى : على أموالهم التي معه في القافلة حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد
استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن
__________________
عمرو الغفاري
فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد
عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
فلما وصلها أخذ
يصرخ ببطن الوادي .. ويقول يا معشر قريش : اللطيمة اللطيمة ـ أى : العير التي تحمل
الطيب والمسك والثياب .. ـ أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا
أرى أن تدركوها. الغوث الغوث.
فتجهز الناس سراعا
وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك
فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا ، وأوعبت قريش فلم يتخلف من
أشرافها أحد.
ـ خرجوا بالقيان
والدفوف يغنين في كل منهل ، وينحرون الجزر ، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا ، وقادوا
مائة فرس ، عليها مائة درع سوى درع المشاة ، وكانت إبلهم سبعمائة بعير.
قال ابن إسحاق :
وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه : واستعمل ابن أم
مكتوم على الصلاة بالناس ، واستعمل على المدينة أبا لبابة .. ودفع اللواء إلى مصعب
بن عمير.
وكان إبل المسلمين
يومئذ سبعين بعيرا ، فاعتقبوها ـ أى كانوا يركبونها بالتعاقب ـ وكانت راية الأنصار
مع سعد بن معاذ.
وسلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة ، ثم على العقيق
، ثم على ذي الحليفة .. ثم نزل قريبا من بدر .. وأتى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس
وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم
قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا
نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم أشيروا على أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك لأنهم
عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله : إنا برآء من ذمامك
حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه
أبناءنا ونساءنا.
فلما قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول
الله ؛ لقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك
عهودنا ومواثيقنا ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو
استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى
بنا عدونا غدا ، وإنا
لصبر في الحرب صدق
عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.
ففرح ـ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقول سعد ..
ثم قال : سيروا
وأبشروا ، فإن الله ـ تعالى ـ قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأنى أنظر إلى مصارع
القوم.
قال ابن إسحاق :
ثم ركب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه أبو بكر فسارا حتى وقفا على شيخ من العرب. فسأله
الرسول صلىاللهعليهوسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ لا
أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أخبرتنا أخبرناك. قال : أذاك بذاك؟ قال : نعم ، قال
الشيخ : فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي
أخبرنى ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون.
وبلغني أن قريشا
خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرنى صدقنى ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ،
للمكان الذي فيه قريش.
فلما فرغ من خبره
قال : ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم نحن من ماء ، ثم انصرف عنه.
ثم رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أصحابه فلما أمسى أرسل بعضهم إلى ماء بدر يلتمسون
الخبر له .. فأصابوا ساقيين لقريش فأتوا بهما .. فقال لهما النبي صلىاللهعليهوسلم أخبرانى عن قريش.
قالا : هم والله
وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
فقال لهما : كم
القوم؟ قالا كثير قال : ما عددهم؟ قالا لا ندري قال : كم ينحرون كل يوم؟ قالا :
يوما تسعا ويوما عشرا. فقال : القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما. فمن
فيهم من أشراف قريش؟ قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن
الأسود ، وأمية بن خلف .. فأقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الناس فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ..
قال ابن إسحاق :
ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا
عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل : والله لا نرجع
حتى نرد ماء بدر ، فنقيم عليه ثلاثة ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ،
وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا
بعدها.
وقال الأخنس بن
شريق لبنى زهرة ، يا بنى زهرة قد نجى الله لكم أموالكم فارجعوا فرجعوا فلم يشهد
غزوة بدر زهري واحد.
ومضت قريش حتى
نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي : وبعث الله السماء بالماء فأصاب المسلمون منه ما
لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن
يرتحلوا معه فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء ماء نزل به ..
فقال الحباب بن
المنذر يا رسول الله؟ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم
هو الرأى والمكيدة والحرب؟.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بل هو الرأى والمكيدة والحرب.
فقال الحباب يا
رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فنزله ،
ثم نغور ما وراءه من القلب ـ أى : ثم نغطى ما خلفه من الآبار ـ ثم نبنى عليه حوضا
فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لقد أشرت بالرأى»
ثم نهض ومعه الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب
فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء. ثم قال سعد بن معاذ يا رسول
الله ، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا
الله وأظهرنا على عدونا. كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك
فلحقت بمن وراءنا. فقد تخلف عنك أقوام ـ يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ،
ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك.
فأثنى عليه رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ودعا له بخير ، ثم بنى لرسول الله عريش فكان فيه.
ثم ارتحلت قريش
حين أصبحت ، فلما رآها رسول الله صلىاللهعليهوسلم قادمة من الكثيب إلى الوادي قال : «اللهم هذه قريش قد
أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم أحثهم
الغداة».
ثم أرسلت قريش
عمير بن وهب الجمحي فقالوا له : احزر لنا أصحاب محمد ، فاستجال بفرسه حول العسكر
ثم رجع إليهم فقال : هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا ..
ولقد رأيت ـ يا
معشر قريش ـ البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع.
قوم ليس معهم منعة
ولا ملجأ إلا سيوفهم. والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا
أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ، فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن
حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد
إنك كبير قريش
وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك إلى أن تفعل شيئا تذكر به بخير إلى آخر الدهر؟ فقال
عتبة : وما ذاك يا حكيم؟
قال : ترجع بالناس
وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ...
قال عتبة : قد
فعلت .. ثم قام عتبة خطيبا في الناس فقال :
يا معشر قريش إنكم
والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل
ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه. قتل ابن عمه أو ابن خاله .. فارجعوا وخلوا بين
محمد وبين سائر العرب ؛ فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم
تعرضوا منه ما تريدون ..
وبلغ كلام عتبة
أبا جهل فسبه .. ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال له : هذا حليفك عتبة يريد أن
يرجع بالناس ، وقد رأيت ثارك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك ـ أى : فقم فاطلب
من الناس الوفاء بالعهد والأخذ بثأر أخيك ..
فقام ابن الحضرمي
فاكتشف ثم صرخ : وا عمراه ، وا عمراه ، فحميت الحرب ، واشتد أمر الناس ، واستوثقوا
على ما هم عليه من الشر ، وأفسد أبو جهل الرأى الذي دعا عتبة الناس إليه ..
قال ابن إسحاق :
ثم خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ـ وكان شرسا سيئ الخلق ـ فقال : أعاهد الله
لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه فلما دنا منه خرج إليه حمزة بن عبد
المطلب. فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه ـ أى. أطارها ـ وهو دون الحوض
، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه. ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ،
فضربه حمزة حتى قتله في الحوض ..
ثم خرج عتبة بين
أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة .. فنادى يا محمد : أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم قم يا عبيدة وقم يا حمزة وقم يا على .. أما حمزة فلم يمهل
شيبة أن قتله ، وأما على فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما
ضربتين كلاهما أثبت صاحبه ـ أى : جرحه جرحا شديدا لا يملك معه الحركة ـ وكر حمزة
وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه ، واحتملا عبيدة فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق :
ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله الناس أن لا يحملوا حتى
يأمرهم ، وقال : «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» ...
ثم عدل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله ـ ومعه أبو بكر الصديق ..
وأخذ الرسول صلىاللهعليهوسلم يناشد ربه ويقول فيما يقول : «اللهم إن تهلك هذه
العصابة اليوم لا
تعبد ، وأبو بكر يقول : يا رسول الله بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك».
ثم خفق رسول الله صلىاللهعليهوسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال : «أبشر يا أبا بكر ،
أتاك نصر الله. هذا جبريل آخذ بعنان فرس .. يقوده على ثناياه النقع» ـ أى الغبار.
وكان قد رمى مهجع
مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل .. من المسلمين. ثم رمى حارثة بن
سراقة وهو يشرب من الحوض بسهم فقتل.
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الناس فحرضهم وقال : «والذي نفس محمد بيده. لا يقاتلهم
اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة» ...
ثم إن رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها ، ثم نفخهم بها
وأمر أصحابه فقال : «شدوا» فكانت الهزيمة فقتل الله ـ تعالى ـ من قتل من صناديد
قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم ..
فلما وضع القوم
أيديهم يأسرون ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم متوشحا السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون
عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!».
فقال سعد : أجل
والله يا رسول الله؟ كانت هذه أول موقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في
القتل أحب إلى من استبقاء الرجال ..
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه يومئذ : «إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم
قد أخرجوا كرها ، ولا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله
ومن لقى أبا البحتري فلا يقتله ..
قال ابن إسحاق : ـ
وبعد انتهاء المعركة ـ أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالقتلى من المشركين أن يطرحوا في القليب فلما طرحوا وقف
عليهم فقال : «بئس العشيرة كنتم لنبيكم ـ يا أهل القليب ـ لقد كذبتموني وصدقنى
الناس ، وأخرجتموني وآوانى الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس» ..
ثم قال : «هل
وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإنى قد وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال المسلمون : يا رسول
الله! أتنادي قوما قد جيّفوا؟
فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن
يجيبوني».
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع ، فاختلف فيه
المسلمون ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو .. : والله لو
لا نحن ما أصبتموه ..
ثم بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر
الله لهم على المشركين.
ثم فرق الرسول صلىاللهعليهوسلم الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم :
«استوصوا بالأسارى
خيرا».
قال ابن إسحاق :
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له : ما وراءك؟
فقال ، قتل عتبة ، وشيبة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف .. فلما جعل يعدد
أشراف قريش الذين قتلوا ، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر : والله إن يعقل
هذا فاسألوه عنى!! فقالوا له : ما فعل صفوان بن أمية؟ فقال : ها هو ذاك في الحجر ،
وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا ..
ولما قدم أبو
سفيان بن الحارث قال له أبو لهب : هلم إلى ، فعندك لعمري الخبر!! فجلس إليه الناس
قيام عليه فقال له أبو لهب : يا ابن أخى أخبرنى كيف كان أمر الناس؟
فقال أبو سفيان :
والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا
كيف شاءوا ..
أما بعد : فهذا
ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلى لسورة الأنفال ، وقصدنا من
ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة : أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة ـ كما
سبق أن أشرنا وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحا مستنيرا ..
لأن سورة الأنفال
هي سورة بدر كما سماها ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ وفي ختام هذا التعريف بسورة
الأنفال ، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحا مقبولا ،
بعيدا عن الانحراف. محررا من لغو القول وباطله ..
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
|
المؤلف
د. محمد سيد طنطاوى
|
التفسير
قال ـ تعالى ـ :
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا
ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(٢)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)
لعل من الخير قبل
أن نتكلم في تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التي وردت في سبب
نزولها ، فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم.
قال الإمام ابن
كثير ـ ما ملخصه ـ روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس ، فهزم الله ـ تعالى ـ العدو
، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون. وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه.
وأحدقت طائفة برسول الله صلىاللهعليهوسلم لكي لا يصيب العدو منه غرة. حتى إذا كان الليل وفاء الناس
بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها
نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو
وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم : لستم بأحق بها منا. نحن أحدقنا برسول الله صلىاللهعليهوسلم مخافة أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به ـ فنزلت :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) .. فقسمها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين المسلمين.
وروى أبو داود
والنسائي وابن جرير وابن مردويه ـ واللفظ له ـ عن ابن عباس قال : «لما كان يوم بدر
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع في ذلك شبان القوم
، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم. فقال
الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءا لكم ، لو انكشفتم لثبتم إلينا. فتنازعوا
، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ..).
وقال الثوري ، عن
الكلبي ، عن أبى صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا
وكذا» ، فجاء أبو اليسر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليك ـ أنت
وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق
لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما
قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك. فتشاجروا ، ونزل القرآن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ
الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).
وقال الإمام أحمد
: حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن
أبى أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت
حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى
الرسول صلىاللهعليهوسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء ـ أى : على السواء .
هذه بعض الروايات
التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، ومنها يتبين لنا أن نزاعا حدث بين بعض الصحابة
الذين اشتركوا في غزوة بدر ، حول الغنائم التي ظفروا بها من هذه الغزوة ، فأنزل
الله ـ تعالى ـ في هذه الآيات بيان حكمه فيها.
والضمير في قوله (يَسْئَلُونَكَ) يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وصح عود
الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأن السورة نزلت في هذه الغزوة ، ولأن
هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها ، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها.
قال الإمام الرازي
ـ ما ملخصه ـ : فإن قيل من هم الذين سألوا؟ فالجواب : إن قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) إخبار عمن لم يسبق ذكرهم ، وحسن ذلك هاهنا ، لأنه في حالة
النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوما معينا فانصرف اللفظ إليهم. ولا شك أنهم
كانوا
__________________
أقواما لهم تعلق
بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا في غزوة بدر .
والأنفال جمع نفل
ـ بفتح النون والفاء ـ كسبب وأسباب ـ وهو في أصل اللغة من النفل ـ بفتح فسكون ـ أى
: الزيادة ، ولذا قيل للتطوع نافلة ، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد
الولد نافلة ، لأنه زيادة على الولد. قال ـ تعالى ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
نافِلَةً) .
قال الآلوسى : ثم
صار النفل حقيقة في العطية ، لأنها لكونها تبرعا غير لازم كان زيادة ، ويسمى به
الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص
معين أو لغير معين ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في
الحرب كبراز وحسن إقدام ، وغيرهما.
وإطلاقه على
الغنيمة ، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله ، أو
باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة ، أو باعتبار أنها منحة من الله ـ تعالى
ـ من غير وجوب.
ثم قال : ومن
الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص. فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنما
سواء أكان بتعب أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما كان قبل الظفر ، أو
ما كان بغير قتال وهو «الفيء».
والمراد بالأنفال
هنا الغنائم كما روى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وطائفة
من الصحابة وغيرهم .
هذا ، وجمهور
العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الأنفال ـ أى الغنائم ـ إنما هو حكمها وعن المستحق لها
، فيكون المعنى :
يسألك بعض أصحابك
يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم؟ ومن المستحق لها؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها
بحكمه ـ سبحانه ـ وللرسول صلىاللهعليهوسلم فهو الذي يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها.
وفي هذه الإجابة
على سؤالهم تربية حكيمة لهم ـ وهم في أول لقاء لهم مع أعدائهم حتى يجعلوا جهادهم
من أجل إعلاء كلمة الله. أما الغنائم والأسلاب وأعراض الدنيا التي تأتيهم
__________________
من وراء جهادهم
فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم ، وأن يفوضوا الأمر فيها لله
ورسوله عن إذعان وتسليم.
وبعض العلماء يرى
أن السؤال للاستعطاء ، وأن المراد بالأنفال ما شرط للغازى زيادة على سهمه ، وأن
حرف «عن» زائد ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد
إعطاءهم الأنفال التي وعدتهم بها زيادة على سهامهم فيها. قل لهم : الأنفال لله
ولرسوله.
والذي نراه أن
الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها :
١ ـ بعض الروايات
التي وردت في أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييدا صريحا ، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه
عن عبادة بن الصامت أنه قال : «فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ،
وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا. فجعله إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء».
٢ ـ ولأن غزوة بدر
كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين ، وكانت غنائمها الضخمة
التي ظفر بها المؤمنون من المشركين ، حافزا لسؤال بعض المؤمنين رسولهم صلىاللهعليهوسلم عن حكمها وعن المستحق لها.
٣ ـ ولأن الجواب عن
السؤال بقوله ـ تعالى ـ : (قُلِ الْأَنْفالُ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها ، إذ أن
هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد
سواهما.
ولو كان السؤال
للاستعطاء لما كان هذا جوابا له ، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا
ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه ، لأنهم إنما يسألونه بموجب شرطه لهم الصادر عنه بإذن
الله ـ تعالى ـ لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور» .
٤ ـ ولأن قوله ـ تعالى
ـ بعد ذلك «فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم .. إلخ» يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال
ومصرفها بعد أن تنازعوا في شأنها ، فهو ـ سبحانه ـ ينهاهم عن هذا التنازع ،
ويأمرهم بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضب الله ... ولو كان السؤال للاستعطاء ـ بناء
على ما شرطه الرسول صلىاللهعليهوسلم لبعضهم زيادة على سهامهم ـ لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه
، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما وعدهم به وهذا لا محظور فيه.
__________________
٥ ـ ولأن الآية
الكريمة بمنطوقها الواضح ، وبتركيبها البليغ ، وبتوجيهها السامي ، تفيد أن السؤال
إنما هو عن حكم الأنفال وعن المستحق لها .. أما القول بأن السؤال سؤال استعطاء وأن
عن زائدة أو بمعنى من فهو تكلف لا ضرورة إليه.
والمعنى الواضح
الجلى للآية الكريمة ـ كما سبق أن بينا ـ : يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر
كيف تقسم ، ومن المستحق لها؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، ولرسوله
يقسمها بحسب حكم الله فيها ، فهو ـ سبحانه ـ العليم بمصالح عباده ، الحكيم في جميع
أقواله وأفعاله.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : ما وجه الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)؟
قلت : معناه أن حكمها
مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر
الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضا إلى رأى أحد ، والمراد : «أن الذي اقتضته
حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين
كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن
فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي» .
وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ
بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حض لهم على تقوى الله وامتثال أمره ، وإصلاح ذات بينهم ،
وتحذير لهم من الوقوع في المعاصي والنزاع والخلاف.
وكلمة (ذاتَ) بمعنى حقيقة الشيء ونفسه ، ولا تستعمل إلا مضافة إلى
الظاهر ، كذات الصدور ، وذات الشوكة.
وكلمة (بَيْنِكُمْ) ، من البين ، وهو مصدر بان يبين بينا ، متى بعد ، ويطلق
على الاتصال والفراق ، أى : على الضدين ، ومنه قول الشاعر :
فو الله لو لا
البين لم يكن الهوى
|
|
ولو لا الهوى ما
حس للبين آلف
|
والمراد به في
الآية الاتصال.
أى : فاتقوا الله
ـ أيها المؤمنون ـ ، وأصلحوا نفس ما بينكم وهي الحال والصفة التي بينكم والتي تربط
بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام. وإصلاحها يكون بما يقتضيه كمال الإيمان من الموادة
والمصافاة ، وترك الاختلاف والتنازع ، والتمسك بفضيلة الإيثار.
__________________
وكلمة (ذاتَ) على هذا المعنى مفعول به.
ومنهم من يرى أن
كلمة «ذات» بمعنى صاحبة ، وأنها صفة لمفعول محذوف ، فيكون المعنى : فاتقوا الله
وأصلحوا أحوالا ذات بينكم.
وإلى هذا المعنى
أشار صاحب الكشاف بقوله : «فإن قلت : ما حقيقة قوله : (ذاتَ بَيْنِكُمْ).
قلت : أحوال بينكم
، يعنى ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومودة واتفاق. كقوله : (بِذاتِ الصُّدُورِ) وهي مضمراتها.
ولما كانت أحوال
ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : اسقني ذا إنائك ، يريدون ما في
الإناء من الشراب ..» .
وقوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) معطوف على ما قبله ، وهو قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ).
أى : فاتقوا الله
ـ أيها المؤمنون ـ في كل أقوالكم وأفعالكم ، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون
أحوال ألفة ومحبة ومودة ، وأطيعوا الله ورسوله في حكمه الذي قضاه في الأنفال وفي
غيرها ، من كل أمر ونهى ، وقضاء وحكم ...
وقد كرر ـ سبحانه
ـ الاسم الجليل في هذه الآية ثلاث مرات ، لتربية المهابة في القلوب ، وتعليل الحكم
حتى تقبله النفوس بإذعان وتسليم.
وذكر ـ سبحانه ـ رسوله
معه مرتين في هذه الآية ، لتعظيم شأنه ، وإظهار شرفه ، والإيذان بأن طاعته صلىاللهعليهوسلم طاعة لله ـ تعالى ـ ، ومخالفته مخالفة لأمر الله ـ تعالى
ـ. قال ـ سبحانه ـ : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً) .
ووسط ـ سبحانه ـ الأمر
بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة ، لإظهار كمال العناية
بالإصلاح ، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) متعلق بالأوامر الثلاثة السابقة ، وهي : التقوى ، وإصلاح
ذات البين ، وطاعة الله ورسوله.
وجواب الشرط محذوف
دل عليه ما قبله ، أى : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة
السابقة.
__________________
قال الآلوسى :
قوله (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) جوابه محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه ، أو المذكور هو
الجواب على الخلاف المشهور. وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك
في إيمانهم ، وهو يكفى في التعليق بالشرط.
والمراد بالإيمان
: التصديق. ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر ، على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له
حقيقة.
وقد يراد بالإيمان
الإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر ، فالمعنى : إن كنتم كاملى الإيمان ، فإن
كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة : الاتقاء ، والإصلاح ، وإطاعة الله ـ تعالى
ـ.
ويؤيد إرادة
الكمال قوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ ...) إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر
..» .
وعلى أية حال ففي
هذا التذييل تنشيط للمخاطبين ، وحث لهم على الامتثال والطاعة ، ودعوة لهم إلى أن
يكون إيمانهم إيمانا عميقا راسخا ، متفقا مع كل ما جاءهم به رسولهم صلىاللهعليهوسلم من هدايات وإرشادات ، ومتساميا عن كل ما يخدش صفاءه ونقاءه
من متع وشهوات.
ثم وصف ـ سبحانه ـ
المؤمنين الصادقين بخمس صفات ، وبشرهم بأعلى الدرجات ، فقال في بيان صفتهم الأولى
: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ..) فالجملة الكريمة مستأنفة وهي مسوقة لبيان أحوال المؤمنين
الذين هم أهل لرضا الله وحسن ثوابه ، حتى يتأسى بهم غيرهم.
وقوله (وَجِلَتْ) من الوجل وهو استشعار الخوف. يقال : وجل يوجل وجلا فهو وجل
، إذا خاف وفزع.
والمراد بذكر الله
: ذكر صفاته الجليلة ، وقدرته النافذة ، ورحمته الواسعة ، وعقابه الشديد ، وعلمه
المحيط بكل شيء ، وما يستتبع ذلك من حساب وثواب وعقاب.
والمعنى : إنما
المؤمنون الصادقون الذين إذا ذكر اسم الله وذكرت صفاته أمامهم ، خافت قلوبهم وفزعت
، استعظاما لجلاله وتهيبا من سلطانه ، وحذرا من عقابه ، ورغبة في ثوابه ، وذلك
لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وشدة مراقبتهم لله ـ عزوجل ـ ووقوفهم عند أمره ونهيه ..
__________________
وقد جاء التعبير
عن صفاتهم بصيغة من صيغ القصر وهي «إنما» ، للإشعار بأن من هذه صفاتهم هم المؤمنون
الصادقون في إيمانهم وإخلاصهم ، أما غيرهم ممن لم تتوفر به هذه الصفات ، فأمره غير
أمرهم ، وجزاؤه غير جزائهم.
قال الفخر الرازي
: فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ قال هاهنا : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وقال في آية أخرى : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) فكيف الجمع بينهما؟
قلنا : الاطمئنان
: إنما يكون عن ثلج اليقين ، وشرح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل : إنما يكون من
خوف العقوبة. ولا منافاة بين هاتين الحالتين. بل نقول : هذان الوصفان اجتمعا في
آية واحدة وهي قوله ـ تعالى : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى
ذِكْرِ اللهِ) .
والمعنى تقشعر
الجلود من خوف عذاب الله ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله .
والصفة الثانية من
صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ
زادَتْهُمْ إِيماناً).
أى أن من صفات
هؤلاء المؤمنين أنهم إذا قرئت عليهم آيات الله أى : حججه وهي القرآن ؛ زادتهم
إيمانا ، أى : زادتهم قوة في التصديق ، وشدة في الإذعان ، ورسوخا في اليقين ،
ونشاطا في الأعمال الصالحة ، وسعة في العلم والمعرفة.
وجاء التعبير
بصيغة الفعل المبنى للمفعول في قوله : (ذُكِرَ اللهُ) و (تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) ، للإيذان بأن هؤلاء المؤمنين الصادقين إذا كانوا يخافون
عند ما يسمعون من غيرهم آيات الله .. فإنهم يكونون أشد خوفا وفزعا عند ذكرهم لله
وعند تلاوتهم لآياته بألسنتهم وقلوبهم.
فالمقصود من هذه
الصيغة : مدحهم ، والثناء عليهم ، وبيان الأثر الطيب الذي يترتب على ذكر الله وعلى
تلاوة آياته.
والصفة الثالثة من
صفاتهم قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ).
أى : أن من صفات
هؤلاء المؤمنين ـ أيضا ـ أنهم يعتمدون على ربهم الذي خلقهم
__________________
بقدرته ، ورباهم
بنعمته ، فيفوضون أمورهم كلها إليه وحده ـ سبحانه ـ لا إلى أحد سواه ، كما يدل
عليه تقديم المتعلق على عامله.
ورحم الله الإمام
ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة : أى : أنهم لا يرجون سواه ، ولا يقصدون
إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا
إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك لا شريك
له ، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. ولهذا قال سعيد بن جبير : «التوكل على الله
جماع الإيمان» .
ومن الواضح عند
ذوى العقول السليمة أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب التي شرعها ـ سبحانه
ـ بل إن الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها لبلوغ الغايات ، لدليل على قوة
الإيمان ، وعلى حسن طاعته ـ سبحانه ـ فيما شرعه وفيما أمر به.
وليس من الإيمان
ولا من العقل ولا من التوكل على الله أن ينتظر الإنسان ثمارا بدون غرس ، أو شبعا
بدون أكل ، أو نجاحا بدون جهد ، أو ثوابا بدون عمل صالح.
إنما المؤمن
العاقل المتوكل على الله ، هو الذي يباشر الأسباب التي شرعها الله لبلوغ الأهداف
مباشرة سليمة .. ثم بعد ذلك يترك النتائج له ـ سبحانه ـ يسيّرها كيف يشاء ، وحسبما
يريد ..
أما الصفتان
الرابعة والخامسة من صفات هؤلاء المؤمنين فهما قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).
والمراد بإقامة
الصلاة : أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وآدابها وخشوعها ـ من أقام
الشيء إقامة إذا قومه وأزال عوجه لأن الشأن في صلاة المؤمنين أن تكون : إحساسا
عميقا بالوقوف بين يدي الله ، وانقطاعا تاما لمناجاته ، وتمثلا حيا لجلاله
وكبريائه ، واستغراقا كاملا في دعائه.
والمراد بقوله : (يُنْفِقُونَ) يخرجون ويبذلون ، من الإنفاق وهو إخراج المال وبذله وصرفه.
والجملة الكريمة
في محل رفع صفة للموصول في الآية السابقة أو بدل منه أو بيان له.
والمعنى : أن من
صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يؤدون الصلاة في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها
وسننها وآدابها وخشوعها .. وأنهم يبذلون أموالهم للفقراء والمحتاجين بسماحة
__________________
نفس ، وسخاء يد ،
استجابة لتعاليم دينهم.
فأنت ترى أنه ـ سبحانه
ـ قد وصف هؤلاء المؤمنين بخمس صفات : الأولى والثانية والثالثة منها ترجع إلى
العبادات القلبية التي تدل على شدة خشيتهم من ربهم ، وقوة تأثرهم بآيات خالقهم ،
واعتمادهم عليه ـ سبحانه ـ وحده لا على أحد سواه.
والصفة الرابعة
ترجع إلى العبادات البدنية ، وهي إقامة الصلاة بإخلاص وخشوع.
أما الصفة الخامسة
فترجع إلى العبادات المالية ، وهي إنفاق المال في سبيل الله ولا شك أن هذه الصفات
متى تمكنت في النفس ، كان صاحبها أهلا لمحبة الله ؛ ورضوانه ، ولذا مدح ـ سبحانه ـ
أصحاب هذه الصفات ، وبين ما أعده لهم من ثواب جزيل فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ،
لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
أى : أولئك
المتصفون بتلك الصفات الكريمة هم المؤمنون إيمانا حقا (لَهُمْ دَرَجاتٌ) عالية ، ومكانة سامية (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ولهم (مَغْفِرَةٌ) شاملة لما فرط منهم من ذنوب ، ولهم (رِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة ، يجعلهم يحيون فيها حياة طيبة (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ).
وقوله (حَقًّا) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أى : أولئك هم المؤمنون
إيمانا حقا.
والتنوين في قوله (دَرَجاتٌ) للتعظيم والتهويل أى : لهم درجات رفيعة ، ومنازل عظيمة ،
وفي وصف هذه الدرجات بأنها (عِنْدَ رَبِّهِمْ) مزيد تشريف لهم ، ولطف بهم ، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن
الوقوع ، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده ـ سبحانه ـ وفي وصف الرزق الذي أعده لهم
بالكرم ، زيادة في إدخال السرور على قلوبهم ؛ لأن لفظ الكريم يصف به العرب كل شيء
حسن في بابه ، بحيث يكون لا قبح فيه ولا شكوى معه.
وبذلك نرى أن
أصحاب تلك الصفات الحميدة قد مدحهم الله ـ تعالى ـ مدحا عظيما ، وكافأهم على
إيمانهم الحق بالدرجات العالية ، والمغفرة الشاملة ، والرزق الكريم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
هذا ، وقد استنبط
العلماء من تلك الآيات جملة من الأحكام والآداب منها :
١ ـ حرص الصحابة
على سؤال النبي صلىاللهعليهوسلم عما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم. فإن قيل : كيف تأتى
لأصحابه الذين شهدوا بدرا ـ وهم من هم في عفتهم وزهدهم ـ أن يختلفوا في شأن
الغنائم.
فالجواب ، ، أن
بعض الصحابة المشتركين في هذه الغزوة هم الذين حدث بينهم الخلاف في
شأنها ؛ لأنهم لم
يكن لهم عهد سابق بكيفية تقسيمها ، أما أكثر الصحابة فإنهم لم يلتفتوا إلى هذه
الغنائم ، بل تركوا أمرها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يضعها كيف يشاء.
وأيضا فإن هؤلاء
الذين حدث بينهم الخلاف في شأن الغنائم ، كان من الدوافع التي دفعتهم إلى هذا
الخلاف ، ما فهموه من أن حيازة الغنائم تدل على حسن البلاء ، وشدة القتال في سبيل
الله ، فكان كل واحد منهم يحرص على أن يظهر بهذا المظهر المشرف وهم في أول لقاء
لهم مع أعدائهم.
وعند ما جاوز هذا
الحرص حده ، بأن غطى على ما يجب أن يسود بينهم من سماحة وصفاء ، نزل القرآن
ليربيهم بتربيته الحكيمة ، وليؤدبهم بأدبه السامي ، وليخبرهم بحكم الله في شأن هذه
الأنفال .. وبعد أن عرفوا حكم الله في شأنها ، قابلوه بالرضا والإذعان والتسليم.
٢ ـ أن القرآن في
ترتيبه للحوادث ، لا يلزم سردها على حسب زمن وقوعها ، وإنما يرتبها بأسلوبه الخاص
الذي يراعى فيه مقتضى حال المخاطب.
فلقد افتتحت
السورة التي معنا بالحديث عن الغنائم التي غنمها المسلمون في بدر ـ مع أن ذلك كان
بعد انتهاء الغزوة ـ ليشعر المخاطبين من أول الأمر أن النصر في هذه الغزوة كان
للمسلمين ، وأن الإسلام قد صرع الكفر منذ أول معركة نازله فيها.
وهذا اللون من
الافتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء ببراعة الاستهلال.
ولقد أفاض بعض
العلماء في شرح هذا المعنى فقال ما ملخصه.
وقد بدأت السورة
بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤالهم عنها ، فساقت في ذلك أربع آيات ، هن :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ ..) إلى قوله ـ (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
وقد عالجت هذه
الآيات نفوس المؤمنين ، وعملت على تطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال
والتطلع إلى المادة ، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة من أكبر أسباب
الفشل.
ولأهمّيّة هذا
الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة ، وإن كان اختلافهم في قسمة الأنفال
متأخرا في الوجود عن اختلافهم في الخروج إلى بدر ، وقتال الأعداء.
وقد عرفنا من سنة
القرآن في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها ، وذلك لأنه لا
يذكرها على أنها تاريخ يعين لها الوقت والمكان ، وإنما يذكرها لما فيها من العبر
والمواعظ ، ولما تتطلبه من الأحكام والحكم.
وقد بدأت السورة
بالحديث عن الأنفال للمسارعة من أول الأمر بنتائج النصر الذي كفله الله للمؤمنين.
وليس من تربية
النفوس أن نبدأ الكلام معها بما يدل على الاضطراب والفزع والتردد أمام وسائل العزة
والشرف ، متى وجد لهم بجانب هذا التردد ما يدل على مواقف الشرف والكرامة ..
ولا كذلك يكون
الأمر إذا بدئت ببيان تثاقلهم في الخروج إلى الغزوة ، وانظر كيف يكون وقع المطلع
إذا جاء على هذا الوجه «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين
لكارهون ... إلخ».
لا ريب أنه مطلع
شديد الوقع على النفوس ، يصور علاقة المؤمنين بنبيهم في صورة يأباها إيمانهم به
وامتثالهم لأمره. يصورهم في شقاق واختلاف مع قائدهم ورسولهم ويصورهم في ثوب
الكراهية الشديدة لمعالي الأمور وعز الحياة.
لهذا كله جاء
الأسلوب في سرد الوقائع غير مكترث بمخالفة ترتيبها في الوجود الخارجي .
٣ ـ استدل جمهور
العلماء بقوله ـ تعالى ـ (وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) على أن الإيمان يزيد وينقص ..
ومن المفسرين
الذين بسطوا القول في هذه المسألة الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه :
قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) أى : القرآن (زادَتْهُمْ إِيماناً) أى : تصديقا كما هو المتبادر ، فإن تظاهر الأدلة وتعاضد
الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك.
وهذا أحد أدلة من
ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء
والمحدثين والمتكلمين ، وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة
من غير معارض لها عقلا.
بل قد احتج عليه
بعضهم بالعقل ـ أيضا ـ وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة
بل المنهمكين في الفسق والمعاصي ، مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة ، واللازم
باطل فكذا الملزوم.
وقال النووي : إن
كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه
في بعضها ، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها.
__________________
وذهب الإمام أبو
حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، واختاره إمام الحرمين
، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان ، وذلك لا يتصور فيه زيادة
ولا نقصان فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا
، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة.
وذهب جماعة منهم
الإمام الرازي إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي ، وهو فرع
تفسير الإيمان ، فمن فسره بالتصديق قال : إنه لا يزيد ولا ينقص ، ومن فسره
بالأعمال مع التصديق قال : إنه يزيد وينقص ، وعلى هذا قول البخاري «لقيت أكثر من
ألف رجل من العلماء بالأمصار ، فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل
ويزيد وينقص ، وهو المعنى بما روى عن ابن عمر أنه قال. قلنا يا رسول الله إن
الإيمان يزيد وينقص ، قال ، نعم ، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل
صاحبه النار .
ويبدو لنا أن رأى
جمهور العلماء في هذه المسألة ، أولى بالقبول ؛ لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء
ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أرسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس ، ولأنه كلما تكاثرت
الأدلة كان الإيمان أشد رسوخا في النفس وأعمق أثرا في القلب ، فلا تزلزله الشبهات
ولا تزعزعه العوارض والفتن.
ومن أوضح الأدلة
على أن الإيمان يقوى بقوة البرهان إلى درجة الاطمئنان ، ما حكاه الله ـ تعالى ـ عن
إبراهيم في قوله : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟
قالَ : بَلى ، وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) .
فهذه الآية تدل
دلالة واضحة على أن مقام الطمأنينة في الإيمان ، يزيد على ما دونه من الإيمان
المطلق قوة وكمالا. إن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لا شك أنه كان مؤمنا عند ما سأل ربه هذا السؤال ، سأله
ذلك لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة أعلى : وهي مرتبة عين اليقين ...
هذا ، وشبيه بهذه
الآية في الدلالة على قبول الإيمان للزيادة والنقصان قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ..) .
__________________
وقوله ـ تعالى ـ :
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ ..) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا
وَهُمْ كافِرُونَ) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَصَدَقَ
اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي وردت في هذا المعنى.
٤ ـ في هذه الآيات
الكريمة تربية ربانية للمؤمنين ، وتوجيه لهم إلى ما يسعدهم ، وإرشاد لهم إلى أن
المؤمن الصادق في إيمانه ، هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة ، وسلامة الخلق ، وصلاح
العمل ، وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات ، وأحس بحلاوة
الإيمان في قلبه ..
روى الحافظ
الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصارى أنه مر برسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له : «كيف أصبحت يا حارث»؟ قال : أصبحت مؤمنا حقا ،
فقال له الرسول صلىاللهعليهوسلم : «انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك»؟
فقال الحارث : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهاري. وكأنى أنظر إلى
عرش ربي بارزا ، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأنى أنظر إلى أهل
النار يتضاغون فيها ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثا .
ثم أخذت السورة ـ بعد
هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه .. ، في الحديث عن الغزوة
التي كان من ثمارها تلك الأنفال ، فاستعرضت مجمل أحداثها ، وصورت نفوس فريق من
المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير ، استمع معى ـ أخى القارئ ـ بتدبر وتعقل
إلى قوله ـ تعالى ـ :
__________________
(كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي
الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(٨)
الكاف في قوله ـ تعالى
ـ : (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ ..) بمعنى مثل ، أى : للتشبيه وهي خبر لمبتدأ محذوف هو المشبه
، وما بعدها هو المشبه به ، ووجه الشبه مطلق الكراهة ، وما ترتب على ذلك من خير
للمؤمنين.
والمعنى : حال بعض
أهل بدر في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية ، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج
للقتال ، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة.
ونحن عند ما
نستعرض أحداث غزوة بدر ، نرى أنه قد حدث فيها أمران يدلان على عدم الرضا من فريق
من الصحابة ، ثم أعقبهما الرضا والإذعان والتسليم لحكم الله ورسوله.
أما الأمر الأول
فهو أن فريقا من الصحابة ـ وأكثرهم من الشبان ـ كانوا يرون أن قسمة الغنائم
بالسوية فيها إجحاف بحقهم ، لأنهم هم الذين قاموا بالنصيب الأوفر في القتال ، وأن
غيرهم لم يكن له بلاؤهم ـ كما سبق أن بينا في أسباب نزول قوله ـ تعالى ـ «يسألونك
عن الأنفال .. إلخ».
ولكن الرسول صلىاللهعليهوسلم قسم غنائم بدر بين الجميع بالسوية ، كما أمره الله ـ تعالى
ـ.
وكان هذا التقسيم
خيرا للمؤمنين ، إذ أصلح الله به بينهم ، وردهم إلى حالة الرضا والصفاء ..
وأما الأمر الثاني
: فهو أن جماعة منهم كرهوا قتال قريش بعد نجاة العير التي خرجوا من أجل الحصول
عليها ، وسبب كراهيتهم لذلك أنهم خرجوا بدون استعداد للقتال ، لا من حيث العدد ولا
من حيث العدد.
ولكنهم استجابوا
بعد قليل لما نصحهم به رسولهم صلىاللهعليهوسلم من وجوب قتال قريش ،.
وكان في هذه
الاستجابة نصر الإسلام ، ودحر الطغيان.
قال ابن كثير :
روى الحافظ بن مردويه ـ بسنده ـ عن أبى أيوب الأنصارى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونحن بالمدينة : «إنى أخبرت عن عير أبى سفيان بأنها مقبلة
، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمنا إياها؟ فقلنا نعم. فخرج
وخرجنا ، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا :
«ما ترون في قتال
القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم»؟ فقلنا : ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا
العير ، ثم قال : «ما ترون في قتال القوم»؟ فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك
يا رسول الله كما قال بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ..) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
وفي رواية أن أبا
بكر وعمر وسعد بن معاذ تكلموا بكلام سر له رسول الله صلىاللهعليهوسلم .
هذا ، وما قررناه
قبل ذلك من أن الكاف في قوله ـ تعالى ـ (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ ..)
بمعنى مثل ، هو ما
نرجحه من بين أقوال المفسرين التي أوصلها بعضهم إلى عشرين قولا.
قال الجمل ، قوله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ ..) فيه عشرون وجها ، أحدهما : أن الكاف نعت لمصدر محذوف
تقديره ؛ الأنفال ثابتة لله ثبوتا كما أخرجك ربك ، أى : ثبوتا بالحق كإخراجك من
بيتك ، يعنى أنه لا مرية في ذلك.
الثاني : أن
تقديره وأصلحوا ذات بينكم إصلاحا كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب
الواحد.
الثالث : تقديره :
وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك أى : كما أن إخراج الله إياك لا
مرية فيه ولا شبهة. إلخ .
والحق أن معظم
الوجوه النحوية التي ذكرها الجمل وغيره من المفسرين ـ كأبى حيان والآلوسى ـ أقول :
إن معظم هذه الوجوه يبدو عليها التكلف ومجانبة الصواب.
ورحم الله صاحب
الكشاف فقد أهمل أكثر ما ذكره المفسرون في ذلك ، واكتفى بوجهين فقال :
__________________
قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ). فيه وجهان أحدهما : أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ
محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أن حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيل
الغزوة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب.
والثاني : أن
ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدر في قوله : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ) أى : الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتا
مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون .
والوجه الأول من
الوجهين اللذين ذكرهما صاحب الكشاف هو الذي نميل إليه ، وهو الذي ذكرناه قبل ذلك
بصورة أكثر تفصيلا.
وأضاف ـ سبحانه ـ الإخراج
إلى ذاته فقال : (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ) للإشعار بأن هذا الإخراج كان بوحي منه ـ سبحانه ـ وبأنه هو
الراعي له في هذا الخروج.
والمراد بالبيت في
قوله : (مِنْ بَيْتِكَ) مسكنه صلىاللهعليهوسلم بالمدينة أو المراد المدينة نفسها ، لأنها مثواه ومستقره ،
فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه.
وقوله : (بِالْحَقِ) متعلق بقوله : (أَخْرَجَكَ) والباء للسببية ، أى : أخرجك بسبب نصرة الحق ، وإعلاء كلمة
الدين ، وإزهاق باطل المبطلين.
ويجوز أن يكون
متعلقا بمحذوف على أنه حال من مفعول أخرجك ، وتكون الباء للملابسة ، أى : أخرجك
إخراجا متلبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل.
قال الآلوسى :
وقوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) ، أى : للخروج ، إما لعدم الاستعداد للقتال ، أو للميل
للغنيمة ، أو للنفرة الطبيعية عنه ، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار ، فلا
يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة.
والجملة في موضع
الحال ، وهي حال مقدرة ؛ لأن الكراهة وقعت بعد الخروج .
والمعنى الإجمالى
للآية الكريمة : حال بعض المسلمين في بدر في كراهة قسمة الغنيمة بالسوية بينهم ،
مثل حال فريق منهم في كراهة الخروج للقتال ، مع أنه قد ثبت أن هذه القسمة وذلك
القتال ، كان فيهما الخير لهم ، إذ الخير فيما قدره الله وأراده ، لا فيما يظنون.
وقوله ـ تعالى ـ :
(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ
بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) حكاية لما حدث من هذا الفريق الكاره للقتال ، وتصوير معجز
لما استبد به من خوف وفزع.
__________________
والمراد بقوله (يُجادِلُونَكَ) مجادلتهم للنبي صلىاللهعليهوسلم في شأن القتال وقولهم له : ما كان خروجنا إلا للعير ، ولو
أخبرتنا بالقتال لأعددنا العدة له.
والضمير يعود
للفريق الذي كان كارها للقتال.
والمراد بالحق
الذي جادلوا فيه : أمر القتال الذي حضهم الرسول صلىاللهعليهوسلم على أن يعدوا أنفسهم له.
وقوله : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) متعلق : (يُجادِلُونَكَ) و (ما) مصدرية والضمير في الفعل (تَبَيَّنَ) يعود على الحق.
والمراد بتبينه :
إعلام الرسول صلىاللهعليهوسلم لهم بأنهم سينصرون على أعدائهم فقد روى أن الرسول صلىاللهعليهوسلم أخبرهم قبل نجاة العير بأن الله وعده الظفر بإحدى
الطائفتين : العير أو النفير ، فلما نجت العير علم أن الظفر الموعود به إنما هو
النفير ، أى : على المشركين الذين استنفرهم أبو سفيان للقتال لا على العير ، أى :
الإبل الحاملة لأموال المشركين.
والمعنى : يجادلك
بعض أصحابك ـ يا محمد ـ (فِي الْحَقِ) أى في أمر القتال (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أى ، بعد ما تبين لهم الحق بإخبارك إياهم بأن النصر سيكون
حليفهم ، وأنه لا مفر لهم من لقاء قريش تحقيقا لوعد الله الذي وعد بإحدى
الطائفتين.
وقوله : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ) أى : يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت ، وهو ناظر
إلى أسبابه ، ومشاهد لموجباته.
والجملة في محل
نصب على الحالية من الضمير في قوله : (لَكارِهُونَ).
وفي هذه الجملة
الكريمة تصوير معجز لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال يسبب قلة
عددهم وعددهم.
وقوله : (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) زيادة في لومهم ، لأن الجدال في الحق بعد تبينه أقبح من
الجدال فيه قبل ظهوره.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين ، مع جزع بعضهم من قتال عدوه وعدوهم ، وإيثارهم
العير على النفير فقال : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).
والمراد بإحدى
الطائفتين : العير أو النفير ، والخطاب للمؤمنين.
والمراد بغير ذات
الشوكة : العير ، والمراد بذات الشوكة : النفير.
والشوكة في الأصل
واحدة الشوك وهو النبات الذي له حد ، ثم استعيرت للشدة والحدة ، ومنه قولهم : رجل
شائك السلاح أى : شديد قوى.
والمعنى : واذكروا
ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن وعدكم الله ـ تعالى ـ على لسان رسوله ـ ـ بأن إحدى
الطائفتين : العير أو النفير هي لكم تظفرون بها ، وتتصرفون فيها تصرف المالك في
ملكه ، وأنتم مع ذلك تودون وتتمنون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهي
العير.
وعبر ـ سبحانه ـ عن
وعده لهم بصيغة المضارع (يَعِدُكُمُ) مع أن هذا الوعد كان قبل نزول الآية ، لاستحضار صورة
الموعود به في الذهن ، ولمداومة شكره ـ سبحانه ـ على ما وهبهم من نصر وفوز.
وإنما وعدهم ـ سبحانه
ـ إحدى الطائفتين على الإبهام مع أنه كان يريد إحداهما وهي النفير ، ليستدرجهم إلى
الخروج إلى لقاء العدو حتى ينتصروا عليه ، وبذلك تزول هيبة المشركين من قلوب
المؤمنين.
وقوله (إِحْدَى) مفعول ثان ليعد ، وقوله : (أَنَّها لَكُمْ) بدل اشتمال من (إِحْدَى) مبين لكيفية الوعد.
أى : يعدكم أن
إحدى الطائفتين كائنة لكم ، ومختصة لكم ، تتسلطون عليها تسلط الملاك ، وتتصرفون
فيها كيفما شئتم.
وقوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) معطوف على قوله : (يَعِدُكُمُ) أى : وعدكم ـ سبحانه ـ إحدى الطائفتين بدون تحديد لإحداهما
، وأنتم تحبون أن تكون لكم طائفة العير التي لا قتال فيها يذكر ، على طائفة النفير
التي تحتاج منكم إلى قتال شديد ، وإلى بذل للمهج والأرواح.
وفي هذه الجملة
تعريض بهم ، حيث كرهوا القتال ، وأحبوا المال ، وما هكذا يكون شأن المؤمنين
الصادقين.
ثم بين لهم ـ سبحانه
ـ أنهم وإن كانوا يريدون العير ، إلا أنه ـ سبحانه ـ يريد لهم النفير ، ليعلو الحق
، ويزهق الباطل ، فقال : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ).
أى : ويريد الله
بوعده غير ما أردتم ، (أَنْ يُحِقَّ
الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أى أن يظهر الحق ويعلمه بآياته المنزلة على رسوله ،
وبقضائه الذي لا يتخلف ، وأن يستأصل الكافرين ويذلهم ،
ويقطع دابرهم ؛ أى
آخرهم الذي يدبرهم.
والدابر : التابع
من الخلف ، يقال : دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ، إذا كان آخرهم في المجيء ،
والمراد أنه سبحانه يريد أن يستأصلهم استئصالا.
وقد هلك في غزوة
بدر عدد كبير من صناديد قريش الذين كانوا يحاربون الإسلام ، ويستهزئون بتعاليمه.
قال صاحب الكشاف
في معنى الآية الكريمة ، قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ
يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ...) يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفساف الأمور ، وأن لا تلقوا ما
يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم ، والله ـ عزوجل ـ يريد معالى الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ، ونصرة
الحق ، وعلو الكلمة والفوز في الدارين ، وشتان ما بين المرادين ولذلك اختار لكم
الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزكم وأذلهم ،
وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ، ونصرتهم عليهم فقال : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ
الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
أى : فعل ما فعل
من النصرة والظفر بالأعداء (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أى : ليثبت الدين الحق دين الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) أى : ويمحق الدين الباطل وهو ما عليه المشركون من كفر
وطغيان.
وقوله : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) بيان لنفاذ إرادته ـ سبحانه ـ ، أى : اقتضت إرادته أن يعز
الدين الحق وهو دين الإسلام ، وأن يمحق ما سواه ، ولو كره المشركون ذلك ؛ لأن
كراهيتهم لا وزن لها ، ولا تعويل عليها ..
وبهذا يتبين أنه
لا تكرار بين الآيتين السابقتين ، لأن المراد بإحقاق الحق في قوله ـ تعالى ـ (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِماتِهِ) : إعلاؤه وإظهاره ونصرته عن طريق قتال المؤمنين للمشركين.
والمراد بإحقاق
الحق في قوله بعد ذلك في الآية الثانية (لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) : تثبيت دين الإسلام وتقويته وإظهار شريعته ، ويمحق دين الكفر.
فكان ما اشتملت
عليه الآية الأولى هو الوسيلة والسبب وما اشتملت عليه الآية الثانية هو المقصد
والغاية.
__________________
وقد بسط هذا
المعنى الإمام الرازي فقال ما ملخصه : فإن قيل : أليس قوله : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِماتِهِ) ثم قوله بعد ذلك : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) تكرارا محضا ، فالجواب : ليس هاهنا تكرير ؛ لأن المراد
بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء ، والمراد بالثاني
؛ تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة ، لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر
بالكافرين ، كان سببا لعزة الدين وقوته ، ولهذا السبب قرنه بقوله (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) الذي هو الشرك ، وذلك في مقابلة (الْحَقَ) الذي هو الدين والإيمان .
وإلى هنا نرى
السورة الكريمة قد حدثتنا في الأربع الآيات الأولى منها عن حكم الله ـ تعالى ـ في
غنائم بدر بعد أن اختلف بعض المؤمنين في شأنها ، وعن صفات المؤمنين الصادقين الذين
يستحقون من الله ـ تعالى ـ أرفع الدرجات.
ثم حدثتنا في
الأربع الآيات الثانية منها عن حال بعض المؤمنين عند ما دعاهم النبي صلىاللهعليهوسلم إلى قتال أعدائهم ، وعن مجادلتهم له في ذلك ، وعن إيثارهم
المال على القتال ، وعن إرادة ما هو خير لهم في دنياهم وآخرتهم ، وفي ذلك ما فيه
من العبر والعظات لقوم يعقلون.
ثم ساق ـ سبحانه ـ
بعض مظاهر تدبيره المحكم في هذه الغزوة ، وبعض النعم التي أنعم بها على المؤمنين ،
وبعض البشارات التي تقدمت تلك الغزوة أو صاحبتها ، والتي كانت تدل دلالة واضحة على
أن النصر سيكون للمسلمين فقال ـ تعالى ـ :
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
إِذْ
يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ
ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
__________________
إِذْ
يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ
وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ)(١٤)
قال القرطبي :
قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ) الاستغاثة : طلب الغوث والنصر ، يقال : غوّث الرجل ، أى :
قال وا غوثاه ، والاسم الغوث والغواث ، واستغاثني فلان فأغثته ، والاسم الغياث .
وقوله (مُمِدُّكُمْ) من الإمداد بمعنى الزيادة والإغاثة ، وقد جرت عادة القرآن
أن يستعمل الإمداد في الخير ، وأن يستعمل المد في الشر والذم.
قال ـ تعالى ـ : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما
تَعْلَمُونَ ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) .
وقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ
نَفِيراً) .
قال ـ تعالى ـ : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) .
وقال ـ تعالى ـ : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) .
وقوله : (مُرْدِفِينَ) من الإرداف بمعنى التتابع.
قال الفخر الرازي
: قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم (مُرْدِفِينَ) ـ بفتح الدال ـ وقرأ
__________________
الباقون بكسرها ،
والمعنى على الكسر ، أى : متتابعين يأتى بعضهم في إثر البعض كالقوم الذين أردفوا
على الدواب.
والمعنى على قراءة
الفتح ، أى : فعل بهم ذلك ، ومعناه أن الله ـ تعالى ـ أردف المسلمين وأمدهم بهم أى جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم.
والمعنى : اذكروا
ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن كنتم ـ وأنتم على أبواب بدر ـ (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أى : تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم (فَاسْتَجابَ لَكُمْ) دعاءكم ، وكان من مظاهر ذلك أن أخبركم على لسان نبيكم صلىاللهعليهوسلم بأنى (مُمِدُّكُمْ) أى : معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين ، أى :
متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أو أن الله ـ تعالى ـ جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم
وتثبيتهم.
ويروى الإمام مسلم
عن ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : كان يوم بدر ، نظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ،
فاستقبل نبي الله صلىاللهعليهوسلم القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لي
ما وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام
لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه.
فأتاه أبو بكر ،
فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله!! كفاك
مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله ـ عزوجل ـ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ
رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ) الآية فأمده الله بالملائكة .
وروى البخاري عن
ابن عباس قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم يوم بدر ، اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد
، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال حسبك ، فخرج صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : «سيهزم الجمع ويولون الدبر» .
وروى سعيد بن
منصور عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله
صلىاللهعليهوسلم إلى المشركين وتكاثرهم ، وإلى المسلمين فاستقلهم ، فركع
ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو في صلاته : «اللهم لا تودع منى ، اللهم لا تخذلني ،
اللهم لا تترنى ـ أى لا تقطعني عن أهلى وأنصارى ـ أو لا تنقصني شيئا من عطائك ـ اللهم
أنشدك ما وعدتني ـ أى : أستنجزك وعدك».
__________________
وروى ابن إسحاق في
سيرته أنه صلىاللهعليهوسلم قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك
وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني .
فإن قيل : إن هذه
النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما ذا أسندها القرآن إلى المؤمنين؟
فالجواب : أن
المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه صلىاللهعليهوسلم ويتأسون به في الدعاء ، إلا أن الروايات ذكرت دعاء الرسول صلىاللهعليهوسلم ، لأنه هو قائد المؤمنين ، وهو الذي يحرص الرواة على نقل
دعائه ، أكثر من حرصهم على نقل دعاء غيره من أصحابه.
وقيل : إن الضمير
في قوله (تَسْتَغِيثُونَ) للرسول صلىاللهعليهوسلم ، وجيء به مجموعا على سبيل التعظيم ، ويعكر على هذا القيل
أن السياق بعد ذلك لا يلتئم معه ، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التي أنعم بها ـ سبحانه
ـ عليهم.
وعبر ـ سبحانه ـ بالمضارع
(تَسْتَغِيثُونَ) مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية ـ استحضارا للحال
الماضية ، حتى يستمروا على شكرهم لله ، ولذلك عطف عليه.
فاستجاب لكم ،
بصيغة الماضي مسايرة للواقع.
وكان العطف بالفاء
للإشعار بأن إجابة دعائهم كانت في أعقاب تضرعهم واستغاثتهم وهذا من فضل الله عليهم
، ورحمته بهم ، حيث أجارهم من عدوهم ، ونصرهم عليه ـ مع قلتهم عنه ـ نصرا مؤزرا.
والسين والتاء في
قوله : «تستغيثون» للطلب ، أى : تطلبون منه الغوث بالنصر.
فإن قيل : إن الله
ـ تعالى ـ ذكر هنا أنه أمدهم بألف من الملائكة ، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدهم
بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما؟.
فالجواب أن الله ـ
تعالى ـ أمد المؤمنين بألف من الملائكة في يوم بدر ، كما بين هنا في سورة الأنفال
، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف كما قال ـ تعالى ـ في سورة آل عمران : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ...) ، ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف ، قال ـ تعالى ـ (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) .
__________________
وقد صبروا واتقوا
وأتاهم المشركون من مكة فورا حين استنفرهم أبو سفيان لإنقاذ العير .. فكان المدد
خمسة آلاف ..
واختار ابن جرير
أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة في الآيات على أنهم أمدوا بما زاد على
ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا ، ولا يثبت شيء من ذلك إلا بنص.
وهذا بناء على أن
المدد الذي وعد الله به المؤمنين في آيات سورة آل عمران كان خاصا بغزوة بدر.
أما على الرأى
القائل بأن هذا المدد الذي بتلك الآيات كان خاصا بغزوة أحد فلا يكون هناك إشكال
بين ما جاء في السورتين.
وقد بسط القول في
هذه المسألة الإمام ابن كثير فقال ما ملخصه :
«اختلف المفسرون
في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين :
أحدهما : أن قوله
ـ تعالى ـ : (إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ) متعلق بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ بِبَدْرٍ).
وهذا قول الحسن
والشعبي والربيع بن أنس وغيرهم ..
، فإن قيل فكيف
الجمع بين هذه الآيات ـ التي في سورة آل عمران وبين قوله في سورة الأنفال ـ : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
فالجواب : أن
التنصيص على الألف هنا ، لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله ـ تعالى ـ (مُرْدِفِينَ) بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم.
قال الربيع بن أنس
: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف».
والقول الثاني يرى
أصحابه أن هذا الوعد ـ وهو قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ تَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ
مِنَ الْمَلائِكَةِ). متعلق بقوله ـ قبل ذلك ـ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ). وذلك يوم أحد.
وهو قول مجاهد ،
وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم.
لكن قالوا : لم
يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين يومئذ فروا.
وزاد عكرمة : ولا
بالثلاثة الآلاف لقوله ـ تعالى ـ (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا) فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا يملك واحد» .
__________________
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض مظاهر فضله عليهم ورحمته بهم في هذا الإمداد فقال : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى ،
وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ ،
إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فالآية الكريمة كلام مستأنف ساقه ـ سبحانه ـ لبيان بعض
مظاهر فضله على المؤمنين ، ولبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله وحده حتى يزدادوا ثقة
به ، وحتى لا يقنطوا من النصر عند قلة أسبابه.
أى : وما جعل الله
ـ تعالى ـ هذا الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم ـ أيها المؤمنون ـ بالنصر على
أعدائكم في هذه الغزوة الحاسمة وقوله (بُشْرى) مفعول لأجله مستثنى من أعم العلل.
وقوله : (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) معطوف عليه : أى : ولتسكن بهذا الإمداد قلوبكم ، ويزول
عنكم الخوف ، وتهاجموا أعداءكم بنفوس لا يداخلها الإحجام أو التردد ..
ـ وقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ
اللهِ) ، أى : ليس النصر بالملائكة أو غيرهم إلا كائنا من عند
الله وحده ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الخالق لكل شيء ، والقادر على كل شيء ..
وإن الوسائل مهما
عظمت ، والأسباب مهما كثرت ، لا تؤدى إلى النتيجة المطلوبة والغاية المرجوة ، إلا
إذا أيدتها إرادة الله وقدرته ورعايته.
وقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أى : غالب لا يقهره شيء ، ولا ينازعه منازع حكيم في تدبيره
وأفعاله.
فالجملة الكريمة
تذييل قصد به التعليل لما قبله ، وفيه إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور
من مقتضيات حكمته البالغة ـ سبحانه ـ.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
بعد ذلك بعض المنن الأخرى التي منحها للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم في بدر
فقال : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً
لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ، وَلِيَرْبِطَ
عَلى قُلُوبِكُمْ ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).
وقوله : (يُغَشِّيكُمُ) بتشديد الشين من التغشية بمعنى التغطية من غشاه تغشية أى :
غطاه.
والنعاس : أول
النوم قبل أن يثقل ، وفعله ـ على الراجح ـ على وزن منع.
والأمنة : مصدر
بمعنى الأمن. وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف ، يقال : أمنت من كذا أمنة وأمنا
وأمانا بمعنى.
قال الجمل : في
قوله : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعاسَ) ثلاث قراءات سبعية.
الأولى : يغشاكم
كيلقاكم ، من غشيه إذا أتاه وأصابه وفي المصباح : غشيته أغشاه من باب تعب بمعنى
أتيته ـ وهي قراءة أبى عمرو وابن كثير.
الثانية : يغشيكم
ـ بإسكان الغين وكسر الشين ـ من أغشاه. أى أنزله بكم وأوقعه عليكم ـ وهو قراءة
نافع ـ
الثالثة : يغشيكم
ـ بتشديد الشين وفتح الغين وهي قراءة الباقين ـ من غشاه تغشية بمعنى غطاه.
أى : يغشيكم الله
النعاس أى يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم.
والنعاس على
القراءة الأولى مرفوع على الفاعلية ، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية. وقوله :
«أمنة» حال أو مفعول لأجله .
وقال القرطبي :
وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان
بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم.
وقال القرطبي :
وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان
بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم.
وعن على ـ رضى
الله عنه ـ قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق ، ولقد
رأيتنا وما فينا إلا نائم سوى رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت شجرة يصلى حتى أصبح.
وفي امتنان الله
عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : ـ أحدهما : أن قواهم بالاستراحة على القتال من
الغد.
الثاني : أن أمنهم
بزوال الرعب من قلوبهم : كما يقال : الأمن منيم ، والخوف مسهر» .
وقال ابن كثير :
وجاء في الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، وهما يدعوان ، أخذت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم سنة من النوم. ثم استيقظ متبسما ، فقال : «أبشر يا أبا بكر
، هذا جبريل على ثناياه النقع». ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله ـ تعالى ـ
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) .
والمعنى : واذكروا
ـ أيها المؤمنون ـ أيضا ، وقت أن كنتم متعبين وقلقين على مصيركم في هذه المعركة ،
فألقى الله عليكم النعاس ، وغشاكم به قبل التحامكم بأعدائكم ، ليكون أمانا لقلوبكم
، وراحة لأبدانكم ، وبشارة خير لكم.
__________________
هذا ، ومن العلماء
الذين تكلموا عن نعمة النعاس التي ساقها الله للمؤمنين قبل المعركة ، الإمامان
الرازي ومحمد عبده.
أما الامام الرازي
فقد قال ما ملخصه : واعلم أن كل نوم ونعاس لا يحصل إلا من قبل الله ـ تعالى ـ فتخصيص
هذا النعاس بأنه من الله لا بد فيه من مزيد فائدة ، وذكروا في ذلك وجوها : منها :
أن الخانف إذا خاف من عدوه فإنه لا يأخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا. فصار
حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد ، يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن.
ومنها : أنهم ما
ناموا نوما غرقا يتمكن معه العدو من معافصتهم ، بل كان ذلك نعاسا يزول معه الإعياء
والكلال ، ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله ، ولقدروا على دفعه.
ومنها : أنه غشيهم
هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر
خارق للعادة. فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز .
وقال الإمام محمد
عبده : لقد مضت سنة الله في الخلق ، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ،
ومصابا عظيما ، فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه فيصبح خاملا ضعيفا. وقد كان المسلمون
يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم
غدا فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد .. ولكن الله رحمهم
بما أنزل عليهم من النعاس : غشيهم فناموا ، واثقين بالله ، مطمئنين لوعده ،
وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه .. فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت
الحرب بل قبلها» .
وبذلك نرى أن
النعاس الذي أنزله الله تعالى ـ على المؤمنين قبل لقائهم بأعدائهم في بدر كان نعمة
عظيمة ومنة جليلة.
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَيُنَزِّلُ
عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) معطوف على قوله (يُغَشِّيكُمُ) وهو ـ أى : إنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل في
طياتها نعما وسننا.
أولها : يتجلى في
هذه الجملة الكريمة ، أنه ـ سبحانه ـ أنزل على المؤمنين المطر من السماء ليطهرهم
به من الحدثين : الأصغر والأكبر ، فإن المؤمن ـ كما يقول الإمام الرازي ـ «يكاد
__________________
يستقذر نفسه إذا
كان جنبا ، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب .
وثانيها : قوله ـ تعالى
ـ : ويذهب عنكم رجز الشيطان».
وأصل الرجز : الاضطراب
ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس.
قال الراغب : أصل
الرجز الاضطراب ، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز ، وناقة رجزاء إذا تقارب
خطوها واضطرب لضعفها ..» .
والمراد برجز
الشيطان : وسوسته للمؤمنين ، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء وإلقاؤه
الظنون السيئة في قلوبهم.
أى : أنه ـ سبحانه
ـ أنزل عليكم الماء ـ أيها المؤمنون ـ ليطهركم به تطهيرا حسيا وليزيل عنكم وسوسة
الشيطان ، بتخويفه إياكم من العطش وبإلقائه في نفوسكم الظنون والأوهام .. وهذا هو
التطهير الباطني.
وثالثها قوله ـ تعالى
ـ : (وَلِيَرْبِطَ عَلى
قُلُوبِكُمْ) أى : وليقويها بالثقة في نصر الله ، وليوطنها على الصبر
والطمأنينة .. ولا شك أن وجود الماء في حوزة المحاربين يزيدهم قوة على قوتهم ،
وثباتا على ثباتهم ، أما فقده فإنه يؤدى إلى فقد الثقة والاطمئنان ، بل وإلى
الهزيمة المحققة.
وأصل الربط : الشد.
ويقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه ، أى : حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع
، ومنه قولهم : رجل رابط الجأش. أى : ثابت متمكن.
ورابع هذه النعم
التي تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين ، قبل خوضهم معركة بدر ، يتجلى
في قوله ـ تعالى ـ (وَيُثَبِّتَ بِهِ
الْأَقْدامَ).
أى : أنه ـ سبحانه
ـ أنزل عليهم المطر قبل المعركة لتطهيرهم حسيا ومعنويا ، ولتقويتهم وطمأنينتهم ،
وليثبت أقدامهم به حتى لا تسوخ في الرمال ، وحتى يسهل المشي عليها ، إذ من المعروف
أنه من العسير المشي على الرمال ، فإذا ما نزلت عليها الأمطار جمدت وسهل السير
فوقها ، وانطفأ غبارها .. فالضمير في قوله (بِهِ) يعود على الماء المنزل من السماء.
قال الزمخشري :
ويجوز أن يعود للربط ـ في قوله (وَلِيَرْبِطَ عَلى
قُلُوبِكُمْ) ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت القدم في
مواطن القتال.
هذا ، وقد وردت
آثار متعددة توضح ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من نعم جليلة ،
__________________
ومن ذلك ما جاء عن
ابن عباس أنه قال : نزل النبي صلىاللهعليهوسلم يعنى حين سار إلى بدر ـ والمسلمون بينهم وبين الماء رملة
دعصة ـ أى كثيرة مجتمعة ـ فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم
الغيظ ، فوسوس بينهم ، تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون
على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون
وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس
عليه والدواب ، فساروا إلى القوم ..» .
وعن عروة بن
الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب
قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه» .
ومن هذا القول
المنقول عن عروة ـ رضى الله عنه ـ نرى أن المطر كان خيرا للمسلمين ، وكان شرا على
الكافرين ، لأن المسلمين كانوا في مكان يصلحه المطر ، بينما كان المشركون في مكان
يؤذيهم فيه المطر.
ثم ذكرهم بنعمة
أخرى كان لها أثرها العظيم في نصرهم على المشركين فقال ـ سبحانه ـ : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ. فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ، سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ).
والبنان : ـ كما
يقول القرطبي ـ واحده بنانة. وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء .. وهو ـ أى
البنان ـ مشتق من قولهم أبّن الرجل بالمكان إذا أقام به. فالبنان يعتمل به ما يكون
للإقامة والحياة. وقيل : المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ،
وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب
القتال بخلاف سائر الأعضاء ......
وذكر بعضهم : «أنها
سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقر الإنسان ..» .
والمعنى : واذكر ـ
أيها الرسول الكريم ـ وقت أن أوحى ربك إلى الملائكة الذين أمد بهم المسلمين في بدر
(أَنِّي مَعَكُمْ) أى بعونى وتأييدى (فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آمَنُوا) أى فقووا قلوبهم ، واملئوا نفوسهم ثقة بالنصر ، وصححوا
نياتهم في القتال حتى تكون غايتهم إعلاء كلمة الله.
قال الآلوسى :
والمراد بالتثبيت : الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال.
وكان ذلك هنا ـ في قول ـ بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ، ووعدهم
__________________
إياهم النصر على
أعدائهم ، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل في صورة الرجل
يعرفه فيقول له : أبشروا فإنهم ليسوا بشيء ، والله معكم. كروا عليهم.
وقال الزجاج : كان
بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم. وللملك قوة إلقاء الخير في
القلب ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة ، .
وقوله ـ تعالى ـ :
(سَأُلْقِي فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) بشارة عظيمة للمؤمنين.
أى : سأملأ قلوب
الكافرين بالخوف والفزع منكم ـ أيها المؤمنون ـ ، وسأقذف فيها الهلع والجزع حتى
تتمكنوا منهم.
والرعب : انزعاج
النفس وخوفها من توقع مكروه ، وأصله التقطيع من قولهم : رعبت السنام ترعيبا إذا
قطعته مستطيلا ، كأن الخوف يقطع الفؤاد.
وقوله : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) الخطاب فيه للمؤمنين ، وقيل ، للملائكة.
والمراد بما فوق
الأعناق الرءوس كما روى عن عطاء وعكرمة. أو المراد بها الأعناق ذاتها فتكون فوق
بمعنى : على وهو قول أبى عبيدة.
ويرى صاحب الكشاف
أن المراد بما فوق الأعناق : أعالى الأعناق التي هي المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان
إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس.
والمراد بالبنان ـ
كما سبق أن بينا ـ الأصابع أو مطلق الأطراف.
والمعنى : لقد
أعطيتكم ـ أيها المؤمنون ـ من وسائل النصر ما أعطيتكم ، فهاجموا أعدائى وأعداءكم
بقوة وغلظة ، واضربوهم على أعناقهم ورءوسهم ومواضع الذبح فيهم. واضربوهم على كل
أطرافهم حتى تشلوا حركتهم ، فيصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم.
ثم بين سبحانه ـ السبب
في تكليفه المؤمنين بمجاهدة الكافرين والإغلاظ عليهم وقتلهم.
فقال ـ تعالى ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).
فاسم الإشارة (ذلِكَ) يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين ، وأمرهم بضرب
الكافرين .. وهو في محل رفع على الابتداء. وقوله (بِأَنَّهُمْ ...) خبره. والباء للسببية.
وقوله : (شَاقُّوا) من المشاقة بمعنى المخالفة والمعاداة مشتقة من الشق ـ أى
الجانب ـ ، فكل واحد من المتعاديين أو المتخالفين صار في شق غير شق صاحبه.
والمعنى : ذلك
الذي ذكره الله ـ تعالى ـ فيما سبق ، من تأييده للمؤمنين وأمره إياهم
__________________
بضرب الكافرين ،
سببه أن هؤلاء الكافرين (شَاقُّوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) أى : عاد وهما وخالفوا شرعهما : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بأن يسير في غير الطريق الذي أمرا به ، (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لهذا المعادى والمخالف.
قال الآلوسى :
وقوله : (فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ) إما نفس الجزاء ، وقد حذف منه العائد عند من يكتفى ولا
يلتزم بالعائد في الربط. أى : شديد العقاب له. أو قائم مقام الجزاء المحذوف أى :
يعاقبه الله ـ تعالى ـ فإن الله شديد العقاب. وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية
السابقة بطريق برهاني. كأنه قيل : ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله ـ تعالى ـ ولرسوله
صلىاللهعليهوسلم وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان ، فله بسبب ذلك
عقاب شديد ، فإن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقابا شديدا .
ثم يوجه ـ سبحانه
ـ خطابه على سبيل الالتفات لأولئك الذين شاقوا الله ورسوله ، متوعدا إياهم بسوء
المصير فيقول : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ
وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) فاسم الإشارة (ذلِكُمْ) يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين ، وخذلان
الكافرين وإنزال العقوبة بهم.
أى ذلكم الذي نزل
بكم ـ أيها الكافرون ـ من القتل والأسر في بدر ، هو العقاب المناسب لطغيانكم
وشرككم وعنادكم ، فذوقوا آلامه ، وتجرعوا غصصه ، وعيشوا في مذلته.
هذا في الدنيا ،
أما في الآخرة فلكم عذاب النار الذي هو أشد وأبقى من عذاب الدنيا. فاتركوا الكفر ،
وادخلوا في الإيمان لتنجوا من العذاب وتنالوا الثواب.
قال الجمل ما
ملخصه وقوله : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ
..) يجوز فيه وجوه من الإعراب أحدها أن يرفع بالابتداء والخبر
محذوف أى ذلكم العقاب. الثاني : أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى : العقاب
ذلكم أو الأمر ذلكم وعلى هذين الوجهين يكون قوله (فَذُوقُوهُ) لا تعلق له بما قبله من جهة الاعراب فهو مستأنف ، والوقف
يتم على قوله : (ذلِكُمْ) الثالث : أن يرتفع بالابتداء. والخبر قوله (فَذُوقُوهُ) وهذا على رأى الأخفش.
وقوله (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) معطوف على قوله (ذلِكُمْ) أو منصوب على أنه مفعول معه ، والمعنى : ذوقوا ما عجل لكم
مع ما أجل لكم في الآخرة ، ووضع الظاهر فيه موضع المضمر ـ بأن قال (فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) ولم يقل فذوقوه وأن لكم ـ للدلالة على أن الكفر سبب للعذاب
الآجل أو للجمع بينهما .
__________________
ومن هذا نرى أن تلك
الآيات الكريمة قد ذكّرت المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر بألوان من نعم الله
عليهم ، وبأنواع من البشارات التي كانت تدل على أن النصر سيكون لهم.
١ ـ ذكّرتهم بوعد
الله لهم بأن إحدى الطائفتين : العير أو النفير ستكون لهم ، وقد وفّى لهم ـ سبحانه
ـ بوعده ، حيث جعل النصر لهم ، ومن أوفى بعهده من الله؟.
٢ ـ وذكرتهم
بإجابة الله لدعائهم ، حيث أمدهم بألف من الملائكة مردفين.
٣ ـ وذكرتهم
بالنعاس الذي ألقاه ـ سبحانه ـ عليهم قبل المعركة ، ليكون أمانا لهم ، وراحة
لأبدانهم.
٤ ـ وذكرتهم بنزول
المطر عليهم من السماء ليكون طهارة ظاهرية وباطنية لهم ، وليكون طمأنينة لقلوبهم ،
وتثبيتا لأقدامهم.
٥ ـ وذكرتهم بأمر
الله لملائكته أن يثبتوهم ، بأن يغرسوا في قلوبهم الثقة في نصر الله لهم ،
والاستهانة بقوة أعدائهم.
٦ ـ وذكرتهم بما
ألقاه ـ سبحانه ـ في قلوب الكافرين من رعب وفزع وجزع ، جعلهم ينهزمون أمامهم.
٧ ـ وذكرتهم بأن
ما أصاب أعداء الله وأعداءهم من قتل وأسر وخسران كان سببه كفرهم وعنادهم وإيثارهم
سبيل الغي على سبيل الرشد ، وأنهم ـ إذا استمروا في كفرهم ـ فسيلقون في الآخرة
عذابا أشد وأبقى مما نزل بهم في الدنيا.
ولا شك أن هذا
التذكير من مقاصده الأساسية حض المؤمنين على الاستجابة لله ولرسوله : وعلى مداومة
الشكر لخالقهم ، فهو ـ سبحانه ـ الذي منحهم هذه النعم الجزيلة التي تمكنوا معها من
رقاب أعدائهم ، وهو الذي جعلهم يغنمون كل هذه الغنائم بعد أن خرجوا من ديارهم بلا
مال ولا ظهر ولا عتاد.
هذا ، ومن الخير
قبل أن ننتقل من هذه الآيات إلى غيرها ، أن نتكلم بشيء من التفصيل عن مسألة كثر
الحديث عنها.
وهذه المسألة هي :
ماذا كانت وظيفة الملائكة في بدر؟ أكانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فحسب أم أنهم
بجانب هذا التثبيت قاتلوا فعلا معهم؟ إننا بمطالعتنا لما كتبه الكاتبون عن هذه
المسألة نراهم في كتاباتهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
(أ) أما القسم
الأول منهم ، فيرى أن الملائكة في غزوة بدر لم تكن وظيفتهم التثبيت فحسب ، وإنما
هم قاتلوا مع المؤمنين فعلا ، ويستدلون على ذلك بأدلة من أهمها :
١ ـ ما جاء عن ابن
عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من
المشركين أمامه. إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول : أقدم حيزوم ،
فخر المشرك
مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه. فجاء فحدث رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة .
٢ ـ وجاء عنه أنه
قال ـ أيضا ـ : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء ، ويوم أحد عمائم خضراء ،
ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر وكانوا فيما سواه عددا ومددا .
٣ ـ وعن أبى داود
المازني قال : تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر. فوقع رأسه بين يدي قبل أن
يصل إليه سيفي.
٤ ـ وروى عن عبد
الله بن مسعود أن أبا جهل سأله يوم بدر : من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمعه ولا
نرى شخصا؟ فقال : من الملائكة ، فقال له أبو جهل : هم إذن غلبونا لا أنتم .
٥ ـ وقال القرطبي
: وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت. ومن ذلك قول أبى أسيد مالك
بن ربيعة وكان شهد بدرا : لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب ـ أى
الطريق في الجبل ـ الذي خرجت منه الملائكة. لا أشك ولا أمارى. وعن سهل بن حنيف قال
: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل
أن يصل إليه .
هذه أهم الروايات
التي استند إليها العلماء الذين يرون أن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر ،
وعلى رأس هؤلاء العلماء القرطبي ، فهو يرى أن هذا هو الصحيح وأنه رأى الجمهور.
(ب) أما القسم
الثاني من العلماء فيرى أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت
المؤمنين في المعركة ، وتقوية أرواحهم وقلوبهم ، واستدلوا على ذلك بأدلة من أهمها
:
١ ـ أنه ليس في
الآيات القرآنية التي تحدثت عن غزوة بدر آية واحدة صريحة في أن الملائكة قد قاتلت
بالفعل ، وإنما هي صريحة في أن الله ـ تعالى ـ قد أمد المؤمنين بالملائكة ، وجعل
هذا الإمداد بشارة لهم.
قال الآلوسى عند
تفسيره لقوله ـ تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلَّا بُشْرى ..) وفي الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا ، وهو مذهب
لبعضهم. ويشعر ظاهرها بأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم أخبرهم بذلك الإمداد ، وفي الأخبار ما يؤيد ذلك. بل جاء في
غير ما خبر أن
__________________
الصحابة رأوا
الملائكة ـ عليهمالسلام ـ .
٢ ـ أن بعض الآيات
القرآنية التي تحدثت عن غزوة بدر قد وضحت وظيفة الملائكة توضيحا تاما ، ومن ذلك
قوله ـ تعالى ـ : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ، سَأُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ،
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ).
قال ابن جرير في
معنى (فَثَبِّتُوا
الَّذِينَ آمَنُوا) قووا عزمهم ، وصححوا نياتهم في قتال أعدائهم من المشركين
..
وقال في معنى قوله
ـ تعالى ـ (فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ ..) : والصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله أمر المؤمنين
معلما إياهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف ، أن يضربوا فوق الأعناق منهم
والأيدى والأرجل ...» .
وقال الفخر الرازي
: قوله (فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ) فيه وجهان : الأول : أنه أمر للملائكة متصل بقوله ـ تعالى
ـ (فَثَبِّتُوا). وقيل : بل أمر للمؤمنين ، وهذا هو الأصح لما بينا أنه ـ تعالى
ـ ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة .. .
٣ ـ أن الروايات
التي استند إليها من قال بأن الملائكة قاتلت مع المؤمنين في بدر لم ترد في كتب
السنة المعتمدة ، بل لم يذكر معظمها الإمام ابن جرير مع علمنا باهتمامه بالمرويات
في تفسيره. وفضلا عن ذلك فإن أكثر هذه الروايات لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلت.
فمثلا رواية أبى
داود المازني لم تصرح بأن المشرك الذي أراد هو أن يقتله قد قتله ملك. وكذلك الحال
بالنسبة لروايتي أبى أسيد وسهيل بن حنيف وأما قول أبى جهل لابن مسعود : «هم إذن
غلبونا ـ يعنى الملائكة ـ لا أنتم ، فنرجح أنه من باب التبرير والمغالطة. فهو يريد
أن ينفى ـ حقدا منه وعنادا ـ قوة المؤمنين الذين صرعوا أمثاله من الطغاة ..
والخلاصة أن معظم
هذه الروايات ـ مع ضعفها ـ لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر.
٤ ـ استبعد كثير
من العلماء اشتراك الملائكة في القتال ، ومن هؤلاء العلماء الإمام أبو بكر الأصم
فقد قال :
«إن الملك الواحد
يكفى في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط. فإذا
__________________
حضر هو يوم بدر ـ وجميع
الروايات تذكر أنه كان على رأس الملائكة ـ فأى حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار؟
بل أى حاجة حينئذ إلى إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين
، وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم.
وأيضا لو قاتلوا
فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا .. وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول
ثلاثة آلاف وأكثر ، ولم يقل أحد بذلك .. وعلى الثاني كان يلزم جز الرءوس ، وتمزيق
البطون ، وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل ، ومثل هذا من أعظم المعجزات ، فكان
يجب أن يتواتر ويشتهر بين المسلم والكافر والموافق والمخالف ...» .
وقال صاحب المنار
: مقتضى السياق أن وحى الله للملائكة (وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلَّا بُشْرى) إلخ.
وقوله ـ تعالى ـ (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُوا الرُّعْبَ ..) إلخ بدء كلام خوطب به النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون تتمة للبشرى. فيكون الأمر بالضرب موجها إلى
المؤمنين قطعا ، وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعا
لما قبله من الآيات.
ثم قال : وفي كتب
السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا ، فهل تعارض هذه
البينات النقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين ابن جرير حرية بأن تنقل.
كفانا الله شر هذه
الروايات الباطلة التي شوهت التفسير وقلبت الحقائق ، حتى إنها خالفت نص القرآن
نفسه فالله ـ تعالى ـ يقول في إمداد الملائكة (وَما جَعَلَهُ اللهُ
إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ..) وهذه الروايات تقول بل جعله مقاتلة ، وإن هؤلاء السبعين
الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة عليهم
مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصر المتعددة.
ألا إن في هذا من
تعظيم شأن المشركين ، وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم ما لا
يصدر عن عاقل ، إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة لا يصح لها سند ، ولم يرفع
منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس ذكره الآلوسى وغيره بغير سند. وابن عباس لم يحضر
غزوة بدر لأنه كان صغيرا ، فرواياته عنها حتى في الصحيح مرسلة. .
__________________
هذه أهم الأدلة
التي استند إليها القائلون بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر ، وإنما كانت وظيفتهم
تثبيت المؤمنين ، وتقوية عزائمهم. وتصحيح نياتهم.
(ج) أما القسم
الثالث من العلماء الذين كتبوا في هذه المسألة ، فمنهم الذي اكتفى بسرد الآراء دون
أن يرجح بينها ، ومن هؤلاء صاحب الكشاف ، فقد قال :
فإن قلت : هل
قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت : اختلف فيه. فقيل : نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة
ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها على بن
أبى طالب في صورة الرجال. فقاتلت. وقيل : قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ..
وقيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ، ويثبتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد
كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم .. .
ومنهم الذي يرى أن
البحث في تفاصيل أمثال هذه المسائل ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة ، ومن
هؤلاء صاحب «في ظلال القرآن» فقد قال ما ملخصه :
«تروى روايات
كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر : عددهم وطريقة مشاركتهم في المعركة. وما
كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين ، وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين. ونحن ـ على
طريقتنا في الظلال ـ نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص
المتيقنة من قرآن أو سنة ، والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ..) فهذا عددهم (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ..) فهذا عملهم. ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه
الكفاية. وبحسبنا أن تعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ،
وهي قلة والأعداء كثرة ، وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ
الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله سبحانه في كلماته .. إننا نؤمن
بوجود خلق أسماهم الملائكة ، ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم
عنهم. فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصرة المسلمين يوم بدر إلا
بمقدار ما يقرره النص القرآنى. وقد أوحى إليهم ربهم : أنى معكم. وأمرهم أن يثبتوا
الذين آمنوا ففعلوا.
ـ لأنهم يفعلون ما
يؤمرون ـ ولكننا لا ندري كيف فعلوا.
إن البحث التفصيلي
في كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة. وطابع الحركة
الواقعية بهذه العقيدة ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق
__________________
الإسلامية ومباحث
علم الكلام في العصور المتأخرة ، وعند ما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في
هذا الدين ، وتسلط الترف العقلي على النفوس والعقول. وإن وقفة أمام الدلالة
الهائلة لمعية الله ـ سبحانه ـ للملائكة في المعركة ، واشتراك الملائكة فيها مع
العصبة المسلمة لهى أنفع وأجدى .. .
وبعد فهذه أهم
الأقوال التي قالها العلماء في مسألة وظيفة الملائكة في بدر ، بسطناها بشيء من
التفصيل لتتضح آراؤهم فيها.
والذي نراه بعد كل
ذلك : أن أقرب الأقوال إلى الصواب ، هو القول الذي ذهب أصحابه إلى أن الملائكة في
بدر لم تقاتل ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت وتقوية عزائم المؤمنين .. وذلك لما سبق
أن بيناه من أدلة وحجج ـ والله أعلم بالصواب.
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ بعض البشارات والنعم التي ساقها للمؤمنين الذين اشتركوا في بدر. وجه ـ سبحانه ـ نداء
إليهم أمرهم فيه بالثبات في وجوه أعدائهم ، وذكرهم بجانب من مننه عليهم.
فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ
فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ
اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ
__________________
وَإِنْ
تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ
عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)(١٩)
قوله ـ سبحانه ـ (زَحْفاً) : مصدر زحف وأصله للصبي ، وهو أن يزحف على استه قبل أن
يمشى. ثم أطلق على الجيش الكثيف المتوجه لعدوه لأنه لكثرته وتكاتفه يرى كأنه جسم
واحد يزحف ببطء وإن كان سريع السير.
قال الجمل : وفي
المصباح : زحف القوم زحفا وزحوفا. ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر
والجمع زحوف مثل فلس وفلوس. ونصب قوله : (زَحْفاً) على أنه حال من المفعول وهو (الَّذِينَ كَفَرُوا) أى إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين نحوكم.
والأدبار : جمع
دبر ـ بضمتين ـ وهو الخلف ، ومقابله القبل وهو الأمام ، ويطلق لفظ الدبر على الظهر
وهو المراد هنا.
والمعنى : يا أيها
الذين آمنوا بالله إيمانا حقا (إِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) زاحفين نحوكم لقتالكم (فَلا تُوَلُّوهُمُ
الْأَدْبارَ) أى. فلا تفروا منهم ، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين ، بل
قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة ، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا ، ومقبلا
غير مدبر.
فالمراد من تولية
الأدبار : الانهزام ، لأن المنهزم يولى ظهره وقفاه لمن انهزم منه.
وعدل من لفظ
الظهور إلى الأدبار ، تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا منه ، لأن القبل والدبر يكنى بهما
عن السوءتين.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين فقال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ ، وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
وقوله : (مُتَحَرِّفاً) من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد
المخادعة في القتال وهو منصوب على الحالية.
وقوله (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) من التحيز بمعنى الانضمام. تقول : حزت الشيء أحوزه إذا
ضممته إليك. وتحوزت الحية أى انطوت على نفسها.
والفئة : الجماعة
من الناس. سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد
والتناصر. من
الفيء بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة.
والمعنى : أن تولية الأدبار محرمة إلا
في حالتين :
الحالة الأولى :
أن يكون المؤمن عند توليته الأدبار مائلا عن مكانه إلى مكان آخر أصلح للقتال فيه ،
أو أن يكون منعطفا إلى قتال طائفة من الأدبار أهم من الطائفة التي أمامه ، أو أن
يوهم عدوه بأنه منهزم أمامه استدراجا له ، ثم يكر عليه فيقتله.
الحالة الثانية :
أن يكون في توليه منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على
القتال ، حيث إنها في حاجة إليه.
وهذا كله من أبواب
خدع الحرب ومكايدها.
وقد توعد ـ سبحانه
ـ الذي ينهزم أمام الأعداء في غير هاتين الحالتين بقوله : (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ
وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
أى : ومن يول
الكافرين يوم لقائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من
الله ـ تعالى ـ ومأواه الذي يأوى إليه في الآخرة جهنم وبئس المصير هي.
وقوله : (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ..) جواب الشرط لقوله ، ومن يولهم.
هذا ، ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
١ ـ وجوب مصابرة
العدو ، والثبات في وجهه عند القتال ، وتحريم الفرار منه.
قال الآلوسى : في
الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز.
أخرج الشيخان
وغيرهما عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اجتنبوا السبع الموبقات ـ أى المهلكات ـ قالوا
: يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا
بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات
الغافلات المؤمنات».
ثم قال : وجاء عد
ـ التولي يوم الزحف ـ من الكبائر في غير ما حديث .
٢ ـ أن الخطاب في
الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصا بأهل بدر. قال الفخر الرازي ما ملخصه : اختلف
المفسرون في أن هذا الحكم ـ وهو تحريم التولي أمام الزحف ـ هل هو مختص بيوم بدر أو
هو حاصل على الإطلاق؟
__________________
فنقل عن أبى سعيد
الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر. قالوا :
والسبب في اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان حاضرا يوم بدر .. وأنه ـ سبحانه ـ شدد الأمر على أهل
بدر ، لأنه كان أول الجهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم.
والقول الثاني :
أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاما في جميع الحروب بدليل أن قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) عام فيتناول جميع الصور. أقصى ما في الباب أنه نزل في
واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .
وهذا القول الثاني
هو الذي نرجحه ، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين في كل زمان ومكان ، ولأن
سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها.
٣ ـ أن الآيتين
محكمتان وليستا منسوختين. أى أن تحريم التولي يوم الزحف على غير المتحرف أو
المتحيز ثابت لم ينسخ.
وقد رجح ذلك
الإمام ابن جرير فقال ما ملخصه : «سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فقال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال بعد ذلك
وهي قوله ـ تعالى ـ : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ...) وليس لقوم أن يفروا من مثليهم.
وقال آخرون : بل
هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما.
وأولى التأويلين
بالصواب في هذه الآية عندي : قول من قال : حكمها محكم ، وأنها نزلت في أهل بدر.
وحكمها ثابت في جميع المؤمنين. وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن
يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال ، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين ، حيث
كانت من أرض الإسلام ، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما ـ بغير نية إحدى
الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما ـ فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل
عليه بعفوه.
وإنما قلنا : هي
محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا في غير موضع ، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ
وله في غير النسخ وجه ، إلا بحجة يجب التسليم لها : من خبر يقطع العذر ، أو حجة
عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ
إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ، فَقَدْ باءَ
بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) .
__________________
ثم بين لهم ـ سبحانه
ـ بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكرا له ، وطاعة لأمره فقال ـ تعالى ـ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ
قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ، وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
قال القرطبي :
قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، أى يوم بدر. روى أن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما صدروا عن بدر.
ذكر كل واحد منهم
ما فعل فقال : قتلت كذا ، وأسرت كذا ، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية
إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بكسبه
وقصده ...» .
وقال ابن كثير :
قال على بن طلحة عن ابن عباس : رفع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يديه ـ يعنى يوم بدر ـ فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة
فلن تعبد في الأرض أبدا ، فقال جبريل : «خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم»
فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه
ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
وقال السدى : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعلى يوم بدر «أعطنى حصا من الأرض» فناوله حصا عليه تراب ،
فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم
ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى ..).
وقال أبو معشر
المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال : «شاهت الوجوه»
، فدخلت في أعينهم كلهم. وأقبل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنزل الله. (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) .
وهناك روايات أخرى
ذكرت أن قوله ـ تعالى ـ (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) المقصود به رميه صلىاللهعليهوسلم لأبى بن خلف يوم أحد ، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق في
غزوة خيبر ، أو رميه المشركين في غزوة حنين.
قال ابن كثير :
وقد روى في هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت
في رمية النبي صلىاللهعليهوسلم يوم بدر ... وسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا
محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم.
__________________
والمعنى : إنكم ـ أيها
المؤمنون ـ لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم ، ولكن الله ـ تعالى ـ هو
الذي أظفركم بحوله وقوته ، بأن خذلهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وقوى قلوبكم ،
وأمدكم بالملائكة ، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر.
والفاء في قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ..) يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم
بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم (وَلكِنَّ اللهَ
قَتَلَهُمْ) لأنه هو الذي أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ،
وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع.
وقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) خطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم بطريق التلوين.
أى : (وَما رَمَيْتَ) بالرعب في قلوب الأعداء (إِذْ رَمَيْتَ) في وجوههم بالحصباء يوم بدر (وَلكِنَّ اللهَ) ـ تعالى ـ هو الذي (رَمى) بالرعب في قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم.
أو المعنى : ما
أوصلت الحصباء إلى أعينهم إذ رميتهم بها ، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها.
ورحم الله صاحب
الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : يعنى أن الرمية التي رميتها ـ يا
محمد ـ لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر
رمى البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم .. فأثبت الرمية
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذي لا
تطيقه البشر فعل الله ـ عزوجل ـ ، فكان الله ـ تعالى ـ هو فاعل الرمية على الحقيقة ،
وكأنها لم توجد من الرسول صلىاللهعليهوسلم أصلا .
وقال الآلوسى :
واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه ـ تعالى ـ وإنما لهم كسبها ومباشرتها
وقال الإمام : أثبت ـ سبحانه ـ كونه صلىاللهعليهوسلم راميا ، ونفى كونه راميا ، فوجب حمله على أنه صلىاللهعليهوسلم رمى كسبا ، والله ـ تعالى ـ رمى خلقا .
فإن قيل : لما ذا
ذكر مفعول القتل منفيا ومثبتا ولم يذكر للرمي مفعول قط؟
فالجواب ـ كما
يقول أبو السعود ـ : «أن المقصود الأصلى بيان حال الرمي نفيا وإثباتا ، إذ هو الذي
ظهر منه ما ظهر ، وهو المنشأ لتغير المرمى به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل
واحد من أولئك الأمة الجمة شيء من ذلك» .
وقوله ـ سبحانه ـ :
(وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) بيان لبعض وجوه حكمته ـ سبحانه ـ في خذلان الكافرين ، ونصر
المؤمنين.
__________________
وقوله (لِيُبْلِيَ) من البلاء بمعنى الاختبار. وهو يكون بالنعمة لإظهار الشكر
، كما يكون بالمحنة لإظهار الصبر. والمراد به هنا : الإحسان والنعمة والعطاء ،
ليزداد المؤمنون شكرا لربهم الذي وهبهم ما وهب من نعم.
واللام للتعليل
متعلقة بمحذوف مؤخر.
والمعنى ، ولكي
يحسن ـ سبحانه ـ إلى عباده المؤمنين ، وينعم عليهم بالنصر والغنائم ، ليزدادوا
شكرا له ، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم.
وقوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل قصد به الحض على طاعة الله ، والتحذير من معصيته ،
أى : إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم ، عليم بضمائركم وقلوبكم ، فاستبقوا الخيرات
لتنالوا المزيد من رعايته ونصره.
ثم يقرر ـ سبحانه
ـ سنة من سننه التي لا تتخلف ، وهي تقوية الحق وتوهين الباطل ، وليزداد المؤمنون
إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم فيقول : (ذلِكُمْ وَأَنَّ
اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ).
قال الإمام الرازي
: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (مُوهِنُ) ـ بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. من التوهين. تقول
وهنت الشيء أى ضعفته ـ ، (كَيْدِ) بالنصب على المفعولية. وقرأ حفص عن عاصم (مُوهِنُ كَيْدِ) بالإضافة. وقرأ الباقون (مُوهِنُ) بالتخفيف ، ـ من أوهننه فأنا موهنه بمعنى أضعفته ـ و (كَيْدِ) بالنصب وتوهين الله كيدهم ومكرهم يكون بأشياء منها : إطلاع
المؤمنين على عوراتهم ، وإلقاء الرعب في قلوبهم ، وتفريق كلمتهم ، .
واسم الإشارة (ذلِكُمْ) يعود إلى ما سبق من نعمة الإبلاء والقتل والرمي وغير ذلك
من النعم. وهو مبتدأ وخبره محذوف ، وقوله : (وَأَنَّ اللهَ
مُوهِنُ ....) معطوف عليه.
المعنى : ذلكم الذي
منحته إياكم من العطاء الحسن ، والقتل للمشركين ، والإمداد بالملائكة ، وإنزال
الماء عليكم. ذلكم كله نعم منى إليكم ، ويضاف إلى ذلك كله أنّه ـ سبحانه ـ مضعف
لكيد الكافرين ومفسد لمكرهم بكم.
قال ابن كثير :
وهذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما
يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنهم في تبار ودمار» وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ عباده المؤمنين بما حباهم به من
منن في غزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله .. أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى
الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر على أن يدعو الله أن يجعل
__________________
الدائرة في بدر
على أضل الفريقين فقال ـ تعالى ـ : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ
تَعُودُوا نَعُدْ ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ
، وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).
روى الإمام أحمد
والنسائي والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم ـ في بدر ـ :
اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه ـ أى فأهلكه ـ الغداة. فكان
المستفتح .
وعن السدى أن
المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا :
اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين. فقال ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) .. الآية .
قال الراغب :
وقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
...) أى : إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم الفتاح أى الحكم .. والفتح
إزالة الإغلاق والإشكال ... ويقال : فتح القضية فتاحا. أى فصل الأمر فيها وأزال
الإغلاق عنها. قال ـ تعالى ـ : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ). والاستفتاح : الاستنصار ـ أى طلب النصر ـ قال ـ تعالى ـ (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ...) .
والمعنى : إن
تطلبوا الفتح أى : القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أى : فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله
وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم
لأنكم على الباطل.
فالخطاب مسوق
للكافرين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله ـ تعالى ـ القضاء
بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله
فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على
الطريق القويم.
وقوله : (وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أى : وإن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء
خيرا لكم من الكفر ومحاربة الحق.
وقوله : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ
تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ...) تحذير لهم من التمادي في الباطل بعد ترغيبهم في الانقياد
للحق.
أى : (وَإِنْ تَعُودُوا) إلى محاربة الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين وعداوتهم (نَعُدْ)
__________________
عليكم بالهزيمة
والذلة. وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم ـ ولو كثرت ـ أن
تدفع عنكم شيئا من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا
قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده.
وقوله : (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة في
نفوسهم.
أى : وأن الله مع
المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته.
قال الجمل : «قرأ
نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح «أن» والباقون بكسرها. فالفتح من أوجه :
أحدها : أنه على
لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت.
والثاني : أن
التقدير : ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف. أى :
والأمر أن الله مع المؤمنين.
والوجه الأخير
يقرب في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف .
هذا وما جرينا
عليه من أن الخطاب في قوله ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
..) للمشركين هو رأى جمهور المفسرين.
ومنهم من يرى أن
الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ...) أى تطلبوا ـ أيها المؤمنون ـ النصر على أعدائكم (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أى : فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم.
(وَإِنْ تَنْتَهُوا) أى عن المنازعة في أمر الأنفال ، وعن التكاسل في طاعة الله
ورسوله ، (فَهُوَ) أى هذا الانتهاء (خَيْرٌ لَكُمْ).
(وَإِنْ تَعُودُوا) إلى المنازعات والتكاسل (نَعُدْ) عليكم بالإنكار وتهييج الأعداء.
(وَلَنْ تُغْنِيَ
عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أى : ولن تفيدكم كثرتكم شيئا مهما كثرت إن لم يكن الله
معكم بنصره.
وأن الله ـ تعالى
ـ مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له.
والذي يبدو لنا أن
كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين
عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أهدى الجندين .. وأن
أبا جهل قال حين التقى القوم :
__________________
اللهم أينا أقطع
للرحم .. فأحنه الغداة. قال ابن جرير : فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله في ذلك (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ
الْفَتْحُ ..) .
ولعل مما يرجح أن
الخطاب في قوله ـ تعالى ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
...) للكافرين ، أن بعض المفسرين ـ كابن جرير وابن كثير ـ ساروا
في تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه
أصلا.
أما صاحب الكشاف
فقد ذكره بصيغة «وقيل» وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال : قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ..) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا أن
ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ،
وأفكنا للعانى ...» .
وبذلك نرى هذه
الآيات الكريمة التي افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء
.. وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم .. ورغبت المشركين في
الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادي في باطلهم وطغيانهم .. وأخبرتهم
في ختامها بأن الله ـ تعالى ـ مع المؤمنين بتأييده ونصره.
ثم وجهت السورة
الكريمة نداء ثانيا إلى المؤمنين ، أمرتهم بطاعة الله ورسوله ، ونهتهم عن التشبه
بالكافرين وأمثالهم من المنافقين.
فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ
تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢)
وَلَوْ
عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ)(٢٣)
__________________
والمعنى ؛ يا أيها
الذين آمنوا حق الإيمان ، أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم ، (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أى ولا تعرضوا عنه ، فإن في إعراضكم عنه خسارة عظيمة لكم
في دنياكم وآخرتكم.
قال الآلوسى : «وأعيد
الضمير إليه صلىاللهعليهوسلم ، لأن المقصود طاعته ، وذكر طاعة الله ـ تعالى ـ توطئة
لطاعته ، وهي مستلزمة لطاعة الله ـ تعالى ـ ، لأنه مبلغ عنه ، فكان الراجع إليه صلىاللهعليهوسلم كالراجع إلى الله ـ تعالى ـ» .
وقوله : (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) جملة حالية مسوقة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقا ،
لا لتقييد النهى عنه بحال السماع.
أى أطيعوا الله
ورسوله ـ أيها المؤمنون ـ ولا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب
طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته وقوله : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) تأكيد لما قبله ، ونهى لهم عن التشبه بالضالين.
أى أطيعوا الله
ورسوله في كل أحوالكم عن إخلاص وإذعان ، ولا تقصروا في ذلك في وقت من الأوقات ،
وإياكم أن تتشبهوا بأولئك الكافرين والمنافقين الذين ادعوا السماع فقالوا سمعنا ،
والحال أنهم لم يسمعوا سماع تدبر واتعاظ ، لأنهم لم يصدقوا ما سمعوه ، ولم يتأثروا
به. بل نبذوه وراء ظهورهم.
فالمنفى في قوله ـ
تعالى ـ (وَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ) سماع خاص ، وهو سماع التدبر والاتعاظ ، لكنه جيء به على
سبيل الإطلاق ، للإشعار بأنهم قد نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا ، بجعل سماعهم
بمنزلة العدم ، حيث إنه سماع لا وزن له ، ولا فائدة لهم من ورائه ، مع أنهم لو
فتحوا آذانهم وقلوبهم للحق لاستفادوا ، ولكنهم آثروا الغي على الرشد.
ثم وصف ـ سبحانه ـ
الكفار والمنافقين وأشباههم وصفا يحمل العقلاء على النفور منهم ، فقال ـ تعالى ـ :
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ..).
والدواب : جمع
دابة وهي كل ما يدب على الأرض. قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ..) .
قال الجمل : «وإطلاق
الدابة على الإنسان لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا ،
وفي المصباح : الدابة كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز» .
وقد روى أن هذه
الآية نزلت في نفر من بنى عبد الدار ، كانوا يقولون : نحن صم بكم عما
__________________
جاء به محمد ،
فقتلوا جميعا يوم بدر.
وهذا لا يمنع أن
الآية الكريمة يشمل حكمها جميع المشركين والمنافقين ، إذ العبرة بعموم اللفظ ، لا
بخصوص السبب.
والمعنى : إن شر
ما يدب على الأرض (عِنْدَ اللهِ) أى : في حكمه وقضائه ، هم أولئك (الصُّمُ) عن سماع الحق (الْبُكْمُ) عن النطق به (الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ) أى لا يعقلون التمييز بينه وبين الباطل.
ووصفهم ـ سبحانه ـ
بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون ، لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس ، بل استعملوها فيما
يضر ويؤذى ، فكان وجودها فيهم كعدمها.
وقدم الصمم على
البكم ، لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من
فروع عدم سماعهم له ، كما أن النطق به من فروع سماعه.
وقوله (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) تحقيق لكمال سوء حالهم ، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل
ربما فهم بعض الأمور .. أما إذا كان بجانب صممه وبكمه فاقد العقل ، فإنه في هذه
الحالة يكون قد بلغ الغاية في سوء الحال ..
قال صاحب المنار :
وقوله : (الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ) أى : فقدوا فضيلة العقل الذي يميز بين الحق والباطل والخير
والشر ، إذ لو عقلوا لطلبوا ، ولو طلبوا لسمعوا وميزوا ، ولو سمعوا لنطقوا وبينوا
، وتذكروا وذكروا .. فهم لفقدهم منفعة العقل والسمع والنطق صاروا كالفاقدين لهذه
المشاعر والقوى .. بل هم شر من ذلك لأنهم أعطيت لهم المشاعر والقوى فأفسدوها على
أنفسهم لعدم استعمالها فيما خلقها الله لأجله ، فهم كما قال الشاعر :
خلقوا ، وما
خلقوا لمكرمة
|
|
فكأنهم خلقوا
وما خلقوا
|
رزقوا وما رزقوا
سماح يد
|
|
فكأنهم رزقوا
وما رزقوا
|
ولم يصفهم هنا
بالعمى كما وصفهم في آية الأعراف وآيتي البقرة ، لأن المقام هنا مقام تعريض بالذين
ردوا دعوة الإسلام ، ولم يهتدوا بسماع آيات القرآن» .
وقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ ...) بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغي على الرشد ، والضلالة
على الهداية.
أى : ولو علم الله
ـ تعالى ـ في هؤلاء الصم البكم (خَيْراً) أى : استعدادا للإيمان ورغبة فيما يصلح نفوسهم وقلوبهم (لَأَسْمَعَهُمْ) سماع تفهم وتدبر ، أى : لجعلهم سامعين للحق ، ومستجيبين له
، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يعلم فيهم شيئا من ذلك ، فحجب خيره عنهم بسبب سوء
استعدادهم.
__________________
ولذا قال ـ تعالى
ـ بعد ذلك : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أى : ولو أسمعهم سماع تفهم وتدبر ، وهم على هذه الحالة
العارية من كل خير لتولوا عما سمعوه من الحق (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن قبوله جحودا وعنادا.
قال الفخر الرازي
: قوله ـ تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) أى : أن كل ما كان حاصلا ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فعدم
علم الله بوجوده من لوازم عدمه ، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم
الله بوجوده ، وتقرير الكلام : لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع
تعليم وتفهم ، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا به ، ولتولوا وهم
معرضون» .
ثم وجه ـ سبحانه ـ
إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه ، وحذرهم من الأقوال
والأعمال التي تكون سببا في عذابهم ، وذكّرهم بجانب من مننه عليهم ، فقال ـ تعالى
ـ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٢٦)
قال القرطبي :
قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ..) هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، والاستجابة :
__________________
الإجابة .. قال
الشاعر :
وداع دعا يا من
يجيب إلى الندى
|
|
فلم يستجبه عند
ذاك مجيب
|
أى : فلم يجبه عند
ذاك مجيب.
وكان الإمام
القرطبي يرى أن السين والتاء في قوله : «استجيبوا» زائدتان.
ولعل الأحسن من
ذلك أن تكون السين والتاء للطلب ، لأن الاستجابة هي الإجابة بنشاط وحسن استعداد.
وقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) أى لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة ، التي توصلكم
متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا ، وإلى السعادة التي ليس
بعدها سعادة في الآخرة.
وهذا المعنى الذي
ذكرناه لقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن ، أو
الجهاد ، أو العلم ... إلخ.
وذلك ، لأن أعمال
البر والخير والطاعة تشمل كل هذا.
والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله حق الإيمان ، (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ) عن طواعية واختيار ، ونشاط وحسن استعداد (إِذا دَعاكُمْ) الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (لِما يُحْيِيكُمْ) أى : إلى ما يصلح أحوالكم ، ويرفع درجاتكم ، من الأقوال
النافعة ، والأعمال الحسنة ، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة : وتظفرون
بالسعادتين : الدنيوية والأخروية.
والضمير في قوله (دَعاكُمْ) يعود إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله ، ولأن في الاستجابة له استجابة
لله ـ تعالى ـ قال ـ سبحانه ـ : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ
حَفِيظاً) .
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله ، وبعث لهم على مواصلة
الطاعة له ـ سبحانه ـ.
وقوله : (يَحُولُ) من الحول بين الشيء والشيء ، بمعنى الحجز والفصل بينهما.
قال الراغب : أصل
الحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول حولا
واستحال تهيأ لأن يحول : وباعتبار الانفصال قيل حال بيني وبينك كذا ... أى فصل ..»
.
__________________
هذا ، وللمفسرين
في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان :
أما القول الأول
فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه ـ كما يقول ابن جرير ـ : أنه ـ سبحانه ـ أملك
لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك
شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعي به شيئا ، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك
أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز ـ جل ثناؤه ـ بين عبد
وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه
إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر
، وبين الكافر والإيمان.
وقول من قال :
يحول بينه وبين عقله. وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن
ولا يكفر إلا بإذنه .. فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له ، .
وقد رجح ابن جرير
هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى.
وقال ابن كثير ـ بعد
أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير ـ : وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب
واحد ، يصرفها كيف شاء ، ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك).
وروى : الإمام
أحمد والنسائي وابن ماجة عن النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب
العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» .
أما القول الثاني
فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه ـ كما يقول الزمخشري ـ «أنه ـ سبحانه ـ يميت
المرء فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه
وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة
الله ورسوله ، .
أو ـ كما يقول
الفخر الرازي ـ بعبارة أوضح : «أن المراد أنه ـ تعالى ـ يحول بين المرء وبين ما
يتمناه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل. فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال
الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق
به ،
__________________
وإنما حسن إطلاق
لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب ، لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم
: سال الوادي ، .
والذي نراه أن
القول الثاني أولى بالقبول ، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة
للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلىاللهعليهوسلم والذي باتباعه يحيون حياة طيبة ، وتذكيرهم بيوم الحساب وما
فيه من ثواب وعقاب ، كما قال ـ تعالى ـ في ختامها (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ).
وليست مسوقة
لإثبات قدرة الله ، وأنه أملك لقلوب عباده منهم : وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء.
فالمعنى الذي ذكره
ابن جرير ـ وتابعه عليه ابن كثير وغيره ، معنى وجيه في ذاته ، إذ لا ينكر أحد أن
الله مقلب القلوب ومالكها .. ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره
الزمخشري والرازي ، لأن الآية التي معنا والتي بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى
الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت ، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين
منهم خاصة.
والمعنى الإجمالى
للآية الكريمة (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) بعزيمة صادقة ، وسرعة فائقة ، (إِذا دَعاكُمْ) الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (لِما يُحْيِيكُمْ) أى لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة (وَاعْلَمُوا) علما يقينا (أَنَّ اللهَ يَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أى يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا
ومتعها : فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا ، وسيجمع كذا في المستقبل ، وسيحصل
على كذا قريبا .. ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه .. فبادروا إلى
اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت.
وقوله : (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تذبيل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة. والضمير في قوله
(وَأَنَّهُ) يعود إلى الله تعالى ـ أو هو ضمير الشأن. أى : وأنه ـ سبحانه
ـ إليه وحده ترجعون لا إلى غيره ، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم ، ويجازى كل
إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
فأنت ترى أن الآية
الكريمة قد جمعت بين الترغيب. في العمل الصالح بسرعة ونشاط ، وبين الترهيب من
التكاسل والغفلة عن طاعة الله.
ثم يؤكد ـ سبحانه
ـ بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخي في تغيير المنكر فيقول : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ).
__________________
والفتنة : من
الفتن. وأصله ـ كما يقول الراغب ـ : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ،
واستعمل في إدخال الإنسان النار.
كما في قوله ـ تعالى
ـ (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أى : عذابكم. وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل
فيه نحو قوله ـ تعالى ـ : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا). وتارة في الاختيار نحو قوله ـ تعالى ـ (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) .
والمراد بالفتنة
هنا العذاب الدنيوي ، كالأمراض ، والقحط ، واضطراب الأحوال ، وتسلط الظلمة ، وعدم
الأمان .. وغير ذلك من المحن والمصائب والآلام التي تنزل بالناس بسبب غشيانهم
الذنوب ، وإقرارهم للمنكرات ، والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
والخطاب لجميع
المؤمنين في كل زمان ومكان.
فالمعنى : داوموا
أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط ، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند
نزوله الأخيار والفجار والمحسنين والمسيئين.
وقوله ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ) المراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله ـ تعالى
ـ.
أى : واعلموا أن
الله شديد العقاب لمن خالف أمره ، وانتهك حرماته.
قال صاحب الكشاف :
وقوله (لا تُصِيبَنَ) لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بعد أمر ، أو
صفة لفتنة.
فإذا كان جوابا
فالمعنى : إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ... وإذا كانت نهيا
بعد أمر فكأنه قيل : واحذروا ذنبا أو عقابا ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظلم فيصيب
العقاب أو أثر الذنب ووباله الجميع وليس من ظلم منكم خاصة.
فإن قلت : كيف جاز
دخول النون المؤكدة في جواب الأمر؟
قلت : لأن فيه
معنى النهى ـ ومتى كان كذلك جاز إدخال النون المؤكدة ـ كما إذا قلت : انزل عن
الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) .
وقوله (خَاصَّةً) منصوب على الحال من الفاعل المستكن في قوله (لا تُصِيبَنَ). ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف. والتقدير : إصابة خاصة.
__________________
هذا ، وقد دلت
الآية الكريمة على وجوب الإقلاع عن المعاصي ، ووجوب محاربة مرتكبيها ، فإن الأمة
التي تشيع فيها المعاصي والمظالم والمنكرات .. ثم لا تجد من يحاربها ويعمل على
إزالتها ، تستحق العقوبة جزاء سكوتها واستخذائها وجبنها.
وقد ذكر بعض
المفسرين أن هذه الآية الكريمة نزلت في حق بعض الصحابة الذين اشتركوا في واقعة
الجمل فيما بعد.
ولكن هذا القول
غير صحيح ؛ لأن الآية الكريمة تخاطب المؤمنين جميعا في كل زمان ومكان ، وتأمرهم
بالبعد عن المعاصي والمنكرات التي تفضى بهم إلى العذاب الدنيوي قبل الأخروى. وليست
خاصة بفريق دون فريق.
لذا قال ابن كثير
: والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم هو الصحيح ، ويدل عليه الأحاديث
الواردة في التحذير من الفتن.
ومن ذلك ما رواه
الإمام أحمد عن عدى بن عميرة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله ـ تعالى ـ لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى
يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك
عذب الله الخاصة والعامة».
وروى الإمام أحمد
أيضا عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أعز وأكثر ممن
يعملون ، ثم لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب» .
وقال الإمام
القرطبي : قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.
ففي صحيح مسلم عن
زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : «نعم
إذا كثر الخبث».
وفي صحيح الترمذي
: «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه ، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من
عنده».
وفي صحيح البخاري
والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم
استهموا ـ أى اقترعوا ـ على سفينة فأصاب بعضهم أغلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في
أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا
خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على
أيديهم نجوا ونجوا جميعا».
__________________
ففي هذا الحديث
تعذيب العامة بذنوب الخاصة.
قال علماؤنا :
فالفتنة إذا عمت هلك الكل وذلك عند ظهور المعاصي ، وانتشار المنكر وعدم التغيير.
وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب
منها.
روى ابن وهب عن
مالك قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا ولا يستقر فيها.
واحتج بصنيع أبى
الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالربا ، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من
وزنها.
فإن قيل : فقد قال
الله ـ تعالى ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) وقال : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). وهذا يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد ، وإنما تتعلق العقوبة
بصاحب الذنب؟
فالجواب أن الناس
إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره ، فإذا سكت عليه فكلهم عاص
؛ هذا بفعله وهذا برضاه ، وقد جعل الله في حكمه الراضي بمنزلة العامل ؛ فانتظم في
العقوبة .
وقال بعض العلماء
: وذكر القسطلاني «أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين
بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له ، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في
الدين ، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده. فكل من لم يكن بهذه الحالة ، فهو راض
بالمنكر ، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار .
وبعد أن أمر ـ سبحانه
ـ المؤمنين بالاستجابة له ونهاهم عن الوقوع في المعاصي .. أخذ في تذكيرهم بجانب من
فضله عليهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ ...).
أى : (اذْكُرُوا) يا معشر المؤمنين (إِذْ أَنْتُمْ
قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) أى : وقت أن كنتم قلة مستضعفة في أرض مكة تحت أيدى كفار
قريش. أو في أرض الجزيرة العربية حيث كانت الدولة لغيركم من الفرس والروم.
وقوله : (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أى : تخافون أن يأخذكم أعداؤكم أخذا سريعا. لقوتهم وضعفكم.
يقال خطفه ـ من باب تعب ـ أى : استلبه بسرعة.
__________________
والمراد بالتذكر
في قوله : (اذْكُرُوا) أن يتنبهوا بعقولهم وقلوبهم إلى نعم الله ، وأن يداوموا
على شكرها حتى يزيدهم ـ سبحانه ـ من فضله.
و (إِذْ) ظرف بمعنى وقت. و (أَنْتُمْ) مبتدأ ، أخبر عنه بثلاثة أخبار بعده وهي (قَلِيلٌ) و (مُسْتَضْعَفُونَ) و (تَخافُونَ).
والمراد بالناس :
كفار قريش ، أوهم وغيرهم من كفار العرب والفرس والروم.
وقوله : (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بيان لما من به عليهم من نعم بعد أن كانوا محرومين منها.
أى : اذكروا وقت
أن كنتم قلة ضعيفة مستضعفة تخشى ـ أن يأخذها أعداؤها أخذا سريعا ، فرفع الله عنكم
بفضله هذه الحال ، وأبدلكم خيرا منها ، بأن آواكم إلى المدينة ، وألف بين قلوبكم
يا معشر المهاجرين والأنصار (وَأَيَّدَكُمْ
بِنَصْرِهِ) في غزوة بدر ، وقذف في قلوب أعدائكم الرعب منكم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أى : ورزقكم من الغنائم التي أحلها لكم بعد أن كانت محرمة
على الذين من قبلكم ، كما رزقكم ـ أيضا بكثير من المطاعم والمشارب الطيبة التي لم
تكن متوفرة لكم قبل ذلك.
وقوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تذييل قصد به حضهم على مداومة الشكر والطاعة لله ـ عزوجل ـ أى : نقلكم الله ـ تعالى ـ من الشدة إلى الرخاء ، ومن
القلة إلى الكثرة ، ومن الضعف إلى القوة ، ومن الخوف إلى الأمن ، ومن الفقر إلى
الغنى .. حتى تستمروا على طاعة الله وشكره ، ولا يشغلكم عن ذلك أى شاغل.
قال ابن جرير :
قال قتادة في قوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ..) :
«كان هذا الحي من
العرب أذل الناس ذلا ، وأشقاه عيشا وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا ،
من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردى في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما
نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منهم منزلا ، حتى جاء الله بالإسلام
، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس.
فبالاسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر
، وأهل الشكر في مزيد من الله ـ تعالى ـ» .
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الثلاثة قد جمعت بين الترغيب والترهيب والتذكير ... الترغيب
__________________
كما في قوله ـ تعالى
ـ : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...).
والترهيب كما في
قوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً
لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ...).
والتذكير كما في
قوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ...).
وبالترغيب في
الطاعات ، وبالترهيب من المعاصي ، وبالتذكير بالنعم ، ينجح الدعاة في دعوتهم إلى
الله.
ثم وجه ـ سبحانه ـ
بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين فقال :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)
وَاعْلَمُوا
أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا
اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)
روى المفسرون في
سبب نزول قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا) روايات منها :
ما جاء عن ابن
عباس من أنها نزلت في أبى لبابة حين بعثه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى بنى قريظة فقالوا له : يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل
على حكم سعد بن معاذ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه. أى أن حكم سعد فيكم سيكون
الذبح فلا تنزلوا.
قال أبو لبابة :
والله ما زالت قدماي ـ عن مكانهما ـ حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله.
ومنها ما جاء عن
جابر بن عبد الله من أنها نزلت في منافق كتب إلى أبى سفيان يطلعه على سر من أسرار
المسلمين.
ومنها ما جاء عن
السدى من أنها نزلت في قوم كانوا يسمعون الشيء عن النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ ثم
يحدثون به المشركين .. .
قال ابن كثير :
والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب خاص ؛ فإن الأخذ بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب هو المعتمد عند الجماهير من العلماء.
وقوله (لا تَخُونُوا) من الخون بمعنى النقص. يقال خونه تخوينا أى : نسبه إلى
الخيانة ونقصه.
قال صاحب الكشاف :
معنى الخون : النقص ، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخونه إذا تنقصه ، ثم
استعمل في ضد الأمانة والوفاء ؛ لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان
فيه. وقد استعير فقيل : خان الدلو الكرب ـ والكرب حبل يشد في رأس الدلو ـ وخان
المشتار السبب. والمشتار مجتنى العسل والسبب الحبل ـ لأنه إذا انقطع به فكأنه لم
يف له» .
والمقصود بخيانة
الله : ترك فرائضه وأوامره التي كلف العباد بها ، وانتهاك حرماته التي نهى عن
الاقتراب منها.
والمقصود بخيانة
الرسول صلىاللهعليهوسلم : إهمال سننه التي جاء بها وأمرنا بالتقيد بتعاليمها.
والمقصود
بالأمانات : الأسرار والعهود والودائع وغير ذلك من الشئون التي تكون بينهم وبين
غيرهم مما يجب أن يصان ويحفظ.
والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَخُونُوا اللهَ) بأن تهملوا فرائضه ، وتتعدوا حدوده ، ولا تخونوا (الرَّسُولَ) صلىاللهعليهوسلم ، بأن تتركوا سنته وتنصرفوا إلى غيرها ، وتخالفوا ما أمركم
به وتجترحوا ما نهاكم عنه ، ولا تخونوا (أَماناتِكُمْ) بأن تفشوا الأسرار التي بينكم ، وتنقضوا العهود التي
تعاهدتم على الوفاء بها ، وتنكروا الودائع التي أودعها لديكم غيركم ، وتستبيحوا ما
يجب حفظه من سائر الحقوق المادية والمعنوية ، فقوله : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) معطوف على قوله (لا تَخُونُوا).
وأعاد النهى
للإشعار بأن كل واحد من المنهي عنه مقصود بذاته اهتماما به.
وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الواو للحال ، والمفعول محذوف. أى. والحال أنكم تعلمون سوء
عاقبة الخائن لله ولرسوله وللأمانات التي اؤتمن عليها ، فعليكم أن تتجنبوا الخيانة
في جميع صورها ؛ لتنالوا رضى الله ومثوبته.
__________________
ولما كان حب
الأموال والأولاد والاشتغال بهم من أهم دواعي الإقدام على الخيانة ، نبه ـ سبحانه
ـ إلى ذلك فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ، وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
أى : واعلموا ـ أيها
المؤمنون ـ أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، أى امتحان واختبار لكم من الله ـ تعالى ـ
ليتبين قوى الإيمان من ضعيفه.
أما قوى الإيمان
فلا يشغله ماله وولده عن طاعة الله ، وأما ضعيف الإيمان فيشغله ذلك عن طاعة الله ،
ويجعله يعيش حياته عبدا لأمواله ، ومطيعا لمطالب أولاده حتى ولو كانت هذه الطاعة
متنافية مع تعاليم دينه وآدابه.
وقال صاحب المنار
: الفتنة هي الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه ، أو قبوله أو
إنكاره.
وأموال الإنسان
عليها مدار حياته ، وتحصيل رغائبه وشهواته ، ودفع كثير من المكاره عنه ، فهو يتكلف
في طلبها المشاق ، ويركب الصعاب ، ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام
، ويرغبه في القصد والاعتدال في إنفاقها.
وأما الأولاد
فحبهم ـ كما يقول الأستاذ الامام ـ ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب
الأمهات والآباء ، فيحملهم على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم.
روى أبو ليلى من
حديث أبى سعيد الخدري مرفوعا «الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة». فحب
الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام ، وعلى الجبن ، وعلى البخل ، وعلى
الحزن.
فالواجب على
المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى يكسب المال من وجوهه الحلال ، وإنفاقه في وجوهه
المشروعة .. واتقاء خطر الفتنة الثانية باتباع ما أوجبه الله على الآباء من حسن
تربية الأولاد على الدين والفضائل ، وتجنبهم أسباب المعاصي والرذائل» .
وقوله (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) تذييل قصد به ترغيب المؤمنين في طاعة الله ، بعد أن حذرهم
من فتنة المال والولد.
أى : واعلموا أن
الله عنده أجر عظيم لمن آثر طاعته ورضاه على جمع المال وحب الأولاد ، فكونوا ـ أيها
المؤمنون ـ من حزب المؤثرين لحب الله على حب الأموال والأولاد لتنالوا السعادة في
الدنيا والآخرة.
__________________
ثم ختم سبحانه ـ نداءاته
للمؤمنين بهذا النداء الذي يهديهم إلى سبل الخير والفلاح فقال ـ سبحانه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
والفرقان في كلام
العرب ـ كما يقول ابن جرير ـ مصدر من قولهم فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما
فرقا وفرقانا ـ أى أفرق وأفصل بينهما.
وقد اختلف أهل
التأويل في العبارة عند تأويل قوله (يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً) فقال بعضهم : يجعل لكم مخرجا. وقال بعضهم نجاة ، وقال
بعضهم فصلا وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم .. وكل ذلك متقارب
المعنى ، وإن اختلفت العبارة ..» .
وقال الآلوسى : (فُرْقاناً) أى : هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل ـ كما
روى عن ابن جريج وابن زيد ـ أو نصرا يفرق به بين الحق والباطل بإعزاز المؤمنين
وإذلال الكافرين ـ كما قال الفراء ـ أو نجاة في الدارين ـ كما هو كلام السدى ـ أو
مخرجا من الشبهات ـ كما جاء عن مقاتل ـ أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم ـ كما
يشعر به كلام محمد بن إسحاق ـ من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أى الصبح. وكل
المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين. وجوز البعض من المحققين الجمع بينها» .
ونحن مع هذا البعض
من المحققين في جواز الجمع بين هذه المعاني فيكون المعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللهَ) بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وتطيعوه في السر
والعلن (يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً) أى هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ونصرا
تعلو به كلمتكم على كلمة أعدائكم ، ومخرجا من الشبهات التي تقلق النفوس ، ونجاة
مما تخافون ، .. وفضلا عن كل ذلك فإنه ـ سبحانه ـ يكفر عنكم سيئاتكم ، أى يسترها
عليكم في الدنيا ، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أى : ويغفر لكم يوم القيامة ما فرط منكم من ذنوب بلطفه
وإحسانه وقوله : (وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل قصد به التعليل لما قبله ، والتنبيه على أن ما وعد
به ـ سبحانه ـ المؤمنين على تقواهم إنما هو تفضل منه لهم ، فهو ـ سبحانه ـ صاحب
العطاء الجزيل ، والخير العميم. لمن أطاعه واتقاه ، وصان نفسه عما يسخطه ويغضبه.
فأنت ترى أنه ـ سبحانه
ـ قد رتب على تقواه وعلى الخوف منه نعما عظمى ، ومننا كبرى ، وأى نعم يتطلع إليها
المؤمنون أفضل من هداية القلوب وتكفير الخطايا والذنوب؟.
اللهم لا تحرمنا
من هذه النعم والمنن بفضلك وإحسانك ، فأنت وحدك صاحب العطاء العميم ، وأنت وحدك ذو
الفضل العظيم ، وأنت وحدك على كل شيء قدير.
__________________
وبعد : فنحن ـ أخى
القارئ ـ لو استعرضنا سورة الأنفال من مطلعها إلى هنا ، لرأيناها تحدثنا ـ على
سبيل الإجمال ـ عن :
(أ) أحكام الأنفال
، وأن مرد الحكم فيها إلى الله ورسوله ..
(ب) وعن الصفات
الكريمة التي يجب أن يتحلى بها المؤمنون لينالوا مغفرة الله ورضوانه.
(ج) وعن أحوال بعض
المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكانوا يفضلون العير على النفير. ولكن ـ الله
تعالى ـ بين لهم أن الخير فيما قدره لا فيما يفضلون.
(د) وعن النعم
والبشارات وأسباب النصر التي أمد الله بها المؤمنين في بدر والتي كان من آثارها
ارتفاع شأنهم ، واندحار شأن أعدائهم.
(ه) وعن التوجيهات
الحكيمة التي أعقبت تلك النداءات الخمسة التي نادى الله بها المؤمنين ، فقد أمرهم
ـ سبحانه ـ بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالطاعة التامة له ولرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبالاستجابة السريعة للحق الذي جاءهم به الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ .. ونهتهم عن التولي يوم الزحف ؛ وعن التشبه بمن قالوا
سمعنا وهم لا يسمعون ، وعن إقرار المنكرات والبدع والرضا بها ، وعن خيانة الله
والرسول ، وعن خيانة الأمانات التي تجب صيانتها والمحافظة عليها.
ووعدهم ـ سبحانه ـ
بهداية القلوب ، وتكفير الخطايا والذنوب ، متى اتقوه ووقفوا عند حدوده.
(و) والآن ، وبعد
هذا التوجيه الحكيم ، والتأديب القويم ، والتعليم النافع والتذكير بالنعم ،
والتحذير من النقم .. ما ذا نرى؟
نرى السورة
الكريمة تأخذ في تذكير المؤمنين بجوانب من جرائم أعدائهم فتقص عليهم ما كان من
هؤلاء الأعداء من تآمر على حياة رسولهم صلىاللهعليهوسلم ومن تهكم بالقرآن الكريم وادعاء أنهم في استطاعتهم أن
يأتوا بمثله لو شاءوا ، ومن استهزاء بتعاليم الإسلام ، وسخرية بشعائره وعباداته ،
ومن إنفاق لأموالهم ليصدوا الناس عن الطريق للحق ، ومن إصرار على العناد والجحود
جعلهم يستعجلون العذاب.
ومع كل هذا
فالسورة الكريمة تفتح الباب في وجوه هؤلاء الجاحدين المعاندين ، وتأمر المؤمنين أن
ينصحوهم بالدخول في دين الله .. فإذا لم يستجيبوا لنصحهم فعليهم أن يقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
استمع ـ أخى
القارئ ـ بتدبر إلى الآيات التي تحكى كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ
هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا
اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ
صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ
فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
(٣٦)
لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى
بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا
إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٤٠)
قال ابن كثير : عن
ابن عباس في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أنه قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ـ في شأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر ، وأن غيرهم قد آمن به ـ
فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم بل
أخرجوه. ثم اتفقوا أخيرا على قتله ـ ، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك ، وأمره أن
لا يبيت في مضجعه ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبي صلىاللهعليهوسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي
صلىاللهعليهوسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليا قالوا له أين
صاحبك؟ قال : لا أدرى. فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في
الجبل فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج
العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال.
وقد ذكر ابن كثير
وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية ، إلا أننا نكتفي بهذه الرواية ، لإفادتها
بالمطلوب في موضوعنا ، ولأن غيرها قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين ، كما
أنكرها ابن كثير نفسه .
وقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ ..) تذكير من الله ـ تعالى ـ لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم
، حيث نجى نبيه صلىاللهعليهوسلم من مكر المشركين حين تآمروا على قتله وهو بينهم بمكة.
قال ابن جرير :
أنزل الله على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بعد قدومه المدينة سورة الأنفال ، يذكره نعمه عليه ـ ومن
ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا ..)
الآية .
وقوله (يَمْكُرُ) من المكر ، وهو ـ كما يقول الراغب ـ صرف الغير عما يقصده
بحيلة
__________________
وذلك ضربان : مكر
محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ). ومكر مذموم ، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا ، ومنه قوله
ـ تعالى ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا ..) وقال ـ سبحانه وتعالى ـ في الأمرين : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) .
وقوله : «ليثبتوك»
أى ليحبسوك. يقال أثبته إذا حبسته.
والمعنى : واذكر ـ
يا محمد ـ وقت أن نجيتك من مكر أعدائك ، حين تآمروا عليك وأنت بين أظهرهم في مكة ،
لكي (لِيُثْبِتُوكَ) أى : يحبسوك في دارك ، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن دعوتهم
إلى الدين الحق (أَوْ يَقْتُلُوكَ) بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم في النسب ،
حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة .. (أَوْ يُخْرِجُوكَ) أى : من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك.
وقوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ
خَيْرُ الْماكِرِينَ) بيان لموضع النعمة والمنة ، أى : والحال أن هؤلاء المشركين
يمكرون بك وبأتباعك المكر السيئ ، والله ـ تعالى ـ يرد مكرهم في نحورهم ، ويحبط
كيدهم ، ويخيب سعيهم ، ويعاقب عليه عقابا شديدا ، ويدبر أمرك وأمر أتباعك ،
ويحفظكم من شرورهم ، فهو ـ سبحانه ـ أقوى الماكرين. وأعظمهم تأثيرا ، وأعلمهم بما
يضر منه وما ينفع.
قال الآلوسى :
قوله (وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللهُ) أى : برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم ، أو يجازيهم عليه أو
يعاملهم معاملة الماكرين ، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين في أعينهم حتى
حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد.
(وَاللهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ) إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره ـ سبحانه ـ. وإطلاق هذا المركب
الإضافى عليه ـ تعالى ـ إن كان باعتبار أن مكره ـ سبحانه ـ أنفذ وأبلغ تأثيرا
فالإضافة للتفضيل ، لأن لمكر الغير ـ أيضا ـ نفوذا أو تأثيرا في الجملة .. وإن كان
باعتبار أنه ـ سبحانه ـ لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به ، فلا
شركة لمكر الغير فيه ، وتكون الإضافة حينئذ للاختصاص ، لانتفاء المشاركة ..» .
هذا والصورة التي
يرسمها قوله ـ تعالى ـ : (وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللهُ) صورة عميقة التأثير ، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش ،
وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون ، والله من روائهم محيط ، ويمكر بهم ويبطل
كيدهم وهم لا يشعرون.
__________________
إنها صورة ساخرة ،
وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة .. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل ، من تلك القدرة
القادرة .. قدرة الله الجبار ، القاهر فوق عباده ، الغالب على أمره ، وهو بكل شيء
محيط؟
والتعبير القرآنى
يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ، فيهز بها القلوب ، ويحرك بها
أعماق الشعور» .
ثم حكى القرآن بعد
ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال ـ تعالى ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ، إِنْ هذا إِلَّا
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).
وقد ذكر كثير من
المفسرين أن القائل لهذا القول : النضر بن الحارث ؛ فإنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس
فأحضر منها قصصا عن ملوكهم .. ولما قدم مكة ووجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتلو القرآن قال للمشركين : لو شئت لقلت مثل هذا ، وكان صلىاللهعليهوسلم إذا قام من مجلس ، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين
بأخبار ملوك الفرس والروم ، وغيرهم ثم قال : أينا أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ وقد
أمكن الله منه يوم بدر ، فقد أسره المقداد بن عمرو ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بضرب عنقه وقال فيه : «إنه كان يقول في كتاب الله ـ عزوجل ـ ما يقول» .
وأسند ـ سبحانه ـ قول
النضر إلى جميع المشركين ، لأنهم كانوا راضين بقوله ، ولأنه كان من زعمائهم الذين
يقودونهم إلى طريق الغواية.
والأساطير ـ كما
يقول ابن جرير ـ : جمع أسطر ، وهو جمع الجمع ، لأن واحد الأسطر سطر. ثم يجمع السطر
: أسطر وسطور ، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر. وقد كان بعض أهل العربية يقول :
واحد الأساطير : أسطورة ـ كأحاديث وأحدوثة .
والمراد بها : تلك
القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى ، والتي يغلب عليها طابع الخرافة
والتخيلات التي لا حقيقة لها.
والمعنى : أن
هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادي في الطغيان ، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم
آيات الله (قالُوا) بصفاقة ووقاحة : (قَدْ سَمِعْنا) أى : قد سمعنا ما قرأته علينا ـ يا محمد ـ ووعيناه (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أى لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي تتلوه علينا يا محمد
وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التي سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله ـ تعالى
ـ
__________________
ولا شك أن قولهم
هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن ـ الذي زعموا أنهم
لو شاءوا لقالوا مثله ـ قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا
وانقلبوا خاسرين.
والذي نعتقده أن
قولهم هذا ، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كانوا يشنونها على الدعوة
الإسلامية ، بقصد تضليل البسطاء ، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب ،
ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين.
ولكنهم لم يفلحوا.
فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة ، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصارا حتى من
أعدائه ، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة في وصف القرآن الكريم : «إن
له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر .. وما يقول هذا
بشر».
ورحم الله صاحب
الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا ..) : نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة ، فإنهم لم يتوانوا في
مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة ، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة
من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه ، مع فرط أنفتهم ،
واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة ...» .
ثم تمضى السورة في
حديثها عن رذائل مشركي قريش ، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم ، وجحودهم للحق.
فتقول : (وَإِذْ قالُوا
اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ..
وقائل هذا القول :
النضر بن الحارث صاحب القول السالف (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا ..) ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير.
وأخرج البخاري عن
أنس بن مالك أن قائل ذلك : أبو جهل بن هشام. وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد
بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمدا صلىاللهعليهوسلم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا
حجارة من السماء .
والمعنى : أن
هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند
الله ، وأن محمدا قد جاءهم بالحق .. بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا
الذي
__________________
جاءنا به محمد من
قرآن وغيره هو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل
علينا حجارة من السماء تهلكنا. أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا.
قال الجمل : قوله
: (هُوَ الْحَقَ) قرأ العامة «الحق» بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ (هُوَ) للفصل. وقرأ الأعمش وزيد بن على «الحق» بالرفع ووجهها ظاهر
برفع لفظ «هو» على الابتداء ، والحق خبره ، والجملة خبر الكون .
وفي إطلاقهم (الْحَقَ) على ما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وجعله من عند الله ؛ تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا
القائل ـ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ أو المؤمنين.
وأل فيه للعهد :
أى الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله.
وقوله : (مِنَ السَّماءِ) متعلق بمحذوف صفة لقوله (حِجارَةً). وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة
مخصوصة لتعذيب الظالمين.
قال صاحب الكشاف :
وهذا أسلوب من الجحود بليغ. يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره
بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر. ومرادهم نفى كونه حقا ، وإذا انتفى
كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا ، مع اعتقاد أنه
ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من
السماء.
فإن قلت : ما
فائدة قوله (مِنَ السَّماءِ) والأمطار لا تكون إلا منها؟
قلت : كأنهم
يريدون أن يقولوا : فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع حجارة
من السماء موضع السجيل.
وعن معاوية أنه
قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ، فقال الرجل : أجهل من
قومي قومك ، فقد قالوا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حين دعاهم إلى الحق : (إِنْ كانَ هذا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
ولقد كان هذا
الرجل حكيما في رده على معاوية ، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم
إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه .. ولكن العناد الجامح الذي
استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على
اتباع محمد صلىاللهعليهوسلم الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده .. وهكذا النفوس عند ما
تنغمس في الأحقاد وتتمادى في الجحود. وتنقاد للأهواء والشهوات ، وتأخذها العزة
بالإثم. ترى الباطل
__________________
حقا ، والحق باطلا
، وتؤثر العذاب وهي سادرة في باطلها ، على الخضوع للحق والمنطق والصواب.
ثم تعقب السورة
على هذا الدعاء الغريب الذي حكته عن مشركي مكة ، فتبين الموجب لإمهالهم وعدم إجابة
دعائهم فتقول : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ).
أى : وما كان الله
مريدا لتعذيب هؤلاء الذين دعوا بهذا الدعاء الغريب تعذيب استئصال وإهلاك ، وأنت
مقيم فيهم ـ يا محمد ـ بمكة ، فقد جرت سنته ـ سبحانه ـ ألا يهلك قرية مكذبة وفيها
نبيها والمؤمنون به حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين.
واللام في قوله (لِيُعَذِّبَهُمْ) لتأكيد النفي ، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول صلىاللهعليهوسلم بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة.
والمراد
بالاستغفار في قوله : (وَما كانَ اللهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين الذين لم
يستطيعوا مغادرة مكة بعد أن هاجر منها النبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون.
أى : ما كان الله
مريدا لتعذيبهم وأنت فيهم ـ يا محمد ـ وما كان ـ أيضا ـ مريدا تعذيبهم وبين أظهرهم
بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله ، وهم الذين لم يستطيعوا مغادرتها
واللحاق بك في المدينة.
قالوا : ويؤيد أن
هذا هو المراد بالاستغفار قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أى : لو تميز المؤمنون عن الكافرين لعذبنا الذين كفروا
عذابا أليما.
وأسند ـ سبحانه ـ الاستغفار
إلى ضمير الجميع ، لوقوعه فيما بينهم ، ولتنزيل ما صدر عن البعض منزلة ما صدر عن
الكل. كما يقال : قتل أهل بلدة كذا فلانا والمراد بعضهم.
ويرى بعضهم أن
المراد بالاستغفار المذكور : استغفار الكفرة أنفسهم كقولهم : غفرانك. في طوافهم
بالبيت ، أو ما يشبه ذلك من معاني الاستغفار وكأن هذا البعض يرى أن مجرد طلب
المغفرة منه ـ سبحانه ـ يكون مانعا من عذابه ولو كان هذا الطلب صادرا من الكفرة.
ويرجح ابن جرير أن
المراد بقوله : (وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) نفى الاستغفار عنهم فقد قال بعد أن ذكر بضعة آراء : وأولى
هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : تأويله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا
محمد ، وبين أظهرهم مقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم ، لأنى لا أهلك قرية وفيها
نبيها ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم ، ولكنهم
__________________
لا يستغفرون من
ذلك بل هم مصرون عليه ، فهم للعذاب مستحقون ...» .
قال بعض المحققين
: والقول الأول أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال
هؤلاء الكفرة.
ثم قال : روى
الترمذي عن أبى موسى الأشعرى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنزل الله على أمانين لأمتى (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ ...) الآية. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة».
قال ابن كثير :
ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبى سعيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بنى
آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال الله ـ تعالى ـ فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما
استغفرونى» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض الجرائم التي ارتكبها المشركون ، والتي تجعلهم مستحقين لعذاب الله ، فقال ـ تعالى
ـ : (وَما لَهُمْ أَلَّا
يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا
يَعْلَمُونَ).
والمعنى : وأى شيء
يمنع من عذاب مشركي قريش بعد خروجك ـ يا محمد ـ وخروج المؤمنين المستضعفين من بين
أظهرهم؟ إنه لا مانع أبدا من وقع العذاب عليهم وقد وجد مقتضية منهم ، حيث اجترحوا
من المنكرات والسيئات ما يجعلهم مستحقين للعقاب الشديد.
فالاستفهام في
قوله (وَما لَهُمْ ..) إنكارى بمعنى النفي. أى : لا مانع من تعذيب الله لهم وقوله
(وَهُمْ يَصُدُّونَ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) جملة حالية مبينة لجريمة من جرائمهم الشنيعة ، أى : لا
مانع يمنع من تعذيبهم : وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يمنعون المؤمنين عن الطواف
بالمسجد الحرام ، ومن زيارته. ومن مباشرة عباداتهم عنده ..؟ إنهم لا بد أن يعذبوا
على هذه الجرائم.
ولقد أوقع الله
بهم عذابه في الدنيا : ومن ذلك ما حدث لهم يوم بدر من قتل صناديدهم ومن أسر
وجهائهم.
وأما عذابهم في
الآخرة فهو أشد وأبقى من عذابهم في الدنيا.
وقوله : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) رد على ما كانوا يقولونه بالباطل : نحن ولاة البيت الحرام
، فلنا أن نصد من نشاء عن دخوله ، ولنا أن نبيح لمن نشاء دخوله.
أى : إن هؤلاء
المشركين ما كانوا في يوم من الأيام أهلا لولاية البيت الحرام بسبب شركهم وعداوتهم
ـ لله تعالى ـ رب هذا البيت.
__________________
وقوله (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بيان للمستحقين لولاية البيت الحرام ، بعد نفيها عن
المشركين.
أى : إن هؤلاء
المشركين ليسوا أهلا لولاية البيت الحرام ، وليسوا أهلا لأن يكونوا أولياء لله ـ تعالى
ـ بسبب كفرهم وجحودهم ، وإنما المستحقون لذلك هم المتقون الذين صانوا أنفسهم عن
الكفر وعن الشرك وعن كل ما يغضب الله ، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك
بسبب جهلهم وتماديهم في الجحود والضلال.
وقد جاءت جملة (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) مؤكدة بأقوى ألوان التأكيد ، لنفى كل ولاية على البيت
الحرام سوى ولايتهم هم.
ونفى ـ سبحانه ـ العلم
عن أكثر المشركين ، لأن قلة منهم كانت تعلم أنه لا ولاية لها على المسجد الحرام
ولكنها كانت تجحد ذلك عنادا وغرورا. أو أن المراد بالأكثر الكل ، لأن للأكثر حكم
الكل في كثير من الأحكام ، كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
لونا آخر من ألوان ضلال هؤلاء المشركين وجحودهم فقال : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً ، فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
قال القرطبي ما
ملخصه : قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، يصفقون ويصفرون ، فكان ذلك
عبادة في ظنهم.
والمكاء : الصفير.
يقال مكا يمكو مكوا ومكاء إذا صفر.
والتصدية : التصفيق.
يقال : صدى يصدى تصدية إذا صفق.
قال قتادة :
المكاء : ضرب بالأيدى ، والتصدية : الصياح. والمعنى : أن هؤلاء المشركين لم تكن صلاتهم عند البيت
الحرام إلا تصفيقا وتصفيرا ، وهرجا ومرجا لا وقار فيه ، ولا استشعار لحرمة البيت ،
ولا خشوع لجلالة الله ـ تعالى ـ ، وذلك لجهلهم بما يجب عليهم نحو خالقهم ، ولحرصهم
على أن يسيئوا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يقرأ القرآن ، أو وهو يطوف بالبيت ، أو وهو يؤدى شيئا
من شعائر الإسلام وعباداته. فقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن
رفعوا أصواتهم بالصياح والغناء ليمنعوا الناس من سماعه. قال ـ تعالى ـ : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) .
وروى ابن جرير أن
ابن عمر حكى فعلهم ، فصفر ، وأمال خده وصفق بيديه.
وقال مجاهد إنهم
كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلىاللهعليهوسلم صلاته.
__________________
وعن سعيد بن جبير
: كانت قريش يعارضون النبي صلىاللهعليهوسلم في الطواف يستهزئون به ، يصفرون ويصفقون .
وقال الفخر الرازي
: فإن قيل المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف جاز استثناؤهما من الصلاة؟
قلنا : فيه وجوه :
الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة فخرج هذا الاستثناء
على حسب ، معتقدهم.
الثاني : أن هذا
كقولك : وددت الأمير فجعل جفائى صلتي. أى : أقام الجفاء مقام الصلة فكذا هنا.
الثالث : الغرض
منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له. كما تقول العرب :
ما لفلان عيب إلا
السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له .
وقوله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ) وعيد لهم على كفرهم وجحودهم ، واستهزائهم بشعائر الله.
أى : فذوقوا ـ أيها
الضالون ـ العذاب الشديد بسبب كفركم وعنادكم واستهزائكم بالحق الذي جاءكم به محمد صلىاللهعليهوسلم من عند الله ، ثم حكى ـ سبحانه ـ ما كانوا يفعلونه من
إنفاق أموالهم لا في الخير ولكن في الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير
فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ،
فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ،
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ..).
روى المفسرون في
سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا :
لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلّهم ـ أى جيشهم المهزوم ـ إلى مكة ورجع أبو سفيان
بعيره ، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من
قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم في بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت
له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل
خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا. ففعلوا.
قال : ففيهم ـ كما ذكر عن ابن عباس ـ أنزل الله ـ تعالى ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ..) الآية .
وروى ابن جرير عن
سعيد بن جبير قال : نزلت في أبى سفيان بن حرب ، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من
الأحابيش من بنى كنانة ، فقاتل بهم النبي صلىاللهعليهوسلم :
__________________
وروى عن الكلبي
والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش ..
كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر .
قال ابن كثير :
وعلى كل تقدير فهي عامة وإن كان سبب نزولها خاصا.
أى : أن الآية
الكريمة تتناول بوعيدها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله ، وفي تأييد
الباطل ومعارضة الحق.
المعنى : إن الذين
كفروا بالحق لما جاءهم (يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ) لا في وجوه الخير ، وإنما ينفقونها (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى : ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول في الدين الذي
يوصلهم إلى رضا الله وإلى طريقه القويم.
واللام في قوله : (لِيَصُدُّوا) لام الصيرورة ، ويصح أن تكون للتعليل ؛ لأن غرضهم منع
الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم ، والذي يرونه دينا مخالفا لما كان عليه الآباء والأجداد
فيجب محاربته في زعمهم.
وقوله : (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ...) بيان لما سيؤول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة
والندامة.
أى : فسينفقون هذه
الأموال في الشرور والعدوان ، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم ، لأنهم لم
يصلوا ـ ولن يصلوا ـ من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون. وفضلا عن كل هذا
فستكون نهايتهم الهزيمة والإذلال في الدنيا ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر
في النهاية لأتباع الحق لا لأتباع الباطل.
وقوله : (فَسَيُنْفِقُونَها) خبر إن في قوله (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا ..) واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى
الشرط ، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى.
وفي تكرير الإنفاق
في شبه الشرط والجزاء ، إشعار بكمال سوء إنفاقهم ، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم في
خير أو ما يشبه الخير ، وإنما أنفقوها في الشرور المحضة.
وجاء العطف بحرف (ثُمَ) للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما
آل ويئول إليه أمرهم. فهم قد قصدوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق والانتصار على المؤمنين
.. ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح ، فقد ذهبت أموالهم سدى ، وغلبوا المرة بعد
المرة ، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين.
وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ
يُحْشَرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في
الدنيا.
__________________
أى : أن هؤلاء
الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا ، أما في الآخرة
فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها.
وقوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ ، وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً
فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ...) بيان لحكمته ـ سبحانه ـ في هزيمة الكافرين وحشرهم إلى
جهنم.
وقوله : (فَيَرْكُمَهُ) أى : فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض يقال : ركم الشيء يركمه ،
إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه. وارتكم الشيء وتراكم أى : اجتمع.
والمعنى : أنه ـ سبحانه
ـ فعل ما فعل من خذلان الكافرين وحشرهم إلى جهنم ، ومن تأييد المؤمنين وفوزهم
برضوانه ، ليتميز الفريق الخبيث وهو فريق الكافرين ، من الفريق الطيب وهو فريق
المؤمنين ، فإذا ما تمايزوا جعل ـ سبحانه ـ الفريق الخبيث منضما بعضه على بعض ،
فيلقى به في جهنم جزاء خبثه وكفره. واللام في قوله (لِيَمِيزَ) متعلقة بقوله (يُغْلَبُونَ) أو بقوله (يُحْشَرُونَ) ويجوز أن يكون المراد بالخبيث ما أنفقه الكافرون من أموال
للصد عن سبيل الله ، وبالطيب ما أنفقه المؤمنون من أموال لإعلاء كلمة الله.
وعليه تكون اللام
في قوله (لِيَمِيزَ) متعلقة بقوله : (ثُمَّ تَكُونُ
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أى : أنه ـ سبحانه ـ يميز هذه الأموال بعضها من بعض ، ثم
يضم الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض ، فيلقى بها وبأصحابها في جهنم.
والتعبير بقوله ـ سبحانه
ـ (فَيَرْكُمَهُ
جَمِيعاً) تعبير مؤثر بليغ ، لأنه يصور الفريق الخبيث كأنه لشدة
تزاحمه وانضمام بعضه إلى بعض شيء متراكم مهمل ، يقذف به في النار بدون اهتمام أو
اعتبار.
واسم الإشارة في
قوله : (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) يعود إلى هذا الفريق الخبيث ، أى : أولئك الكافرون الذين
أنفقوا أموالهم في الصد عن سبيل الله هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم.
وبعد كل هذا
التهديد والوعيد للكافرين .. يوجه ـ سبحانه ـ خطابه إلى نبيه صلىاللهعليهوسلم يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم ،
كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا ، فيقول ـ سبحانه ـ :
(قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا
فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ
نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
أى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم ، من أهل مكة
وغيرهم ، قل لهم : (إِنْ يَنْتَهُوا) عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين (يُغْفَرْ لَهُمْ ما
قَدْ سَلَفَ) من كفرهم ومعاصيهم (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى قتالك ويستمروا في ضلالهم وكفرهم وطغيانهم ، انتقمنا
منهم ،
ونصرنا المؤمنين
عليهم (فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) على ذلك.
أى : فقد مضت سنة
الله ـ تعالى ـ في الأولين ، وسنته لا تتخلف في أنه ـ سبحانه ـ يعذب المكذبين بعد
إنذارهم وتبليغهم دعوته ، وينصر عباده المؤمنين وينجيهم ويمكن لهم في الأرض. وقد
رأى هؤلاء المشركون كيف كانت عاقبة أمرهم في بدر ، وكيف أهلك ـ سبحانه ـ الكافرين
من الأمم قبلهم.
وجواب الشرط لقوله
(وَإِنْ يَعُودُوا) محذوف والتقدير : وإن يعودوا ننتقم منهم.
وقوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) تعليل للجواب المحذوف.
قال الآلوسى :
قوله (فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أى عادة الله الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء ، من
نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة
الظاهرة. ونظير ذلك قوله ـ سبحانه ـ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنا) فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته لقوله ـ سبحانه ـ (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) باعتبار جريانها على أيديهم. ويدخل في الأولين الذين حاق
بهم مكرهم يوم بدر.
والآية حث على
الإيمان وترغيب فيه .. واستدل بها على أن الإسلام يجب ما قبله ، وأن الكافر إذا
أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس. وأجرى
المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية ...» .
وقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ..) أمر من الله ـ تعالى ـ للمؤمنين بقتال الكافرين إذا ما
استمروا في كفرهم وطغيانهم.
والمعنى : عليكم ـ
أيها المؤمنون ـ إذا ما استمر أولئك الكافرون في كفرهم وعدوانهم ، أن تقاتلوهم
بشدة وغلظة ، وأن تستمروا في قتالهم حتى تزول صولة الشرك ، وحتى تعيشوا أحرارا في
مباشرة تعاليم دينكم ، دون أن يجرأ أحد على محاولة فتنتكم في عقيدتكم أو عبادتكم
.. وحتى تصير كلمة الذين كفروا هي السفلى.
قال الجمل : وقوله
: (وَقاتِلُوهُمْ ..) معطوف على قوله (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا). ولكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبي
وحده جاء بالإفراد. ولما كان الغرض من الثاني تحريض المؤمنين على القتال جاء
بالجمع فخوطبوا جميعا» .
وقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أى : فإن انتهوا عن كفرهم وعن معاداتكم ، فكفوا أيديكم
عنهم ، فإن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، وسيجازيهم عليها بما
يستحقون من ثواب أو عقاب.
__________________
وقوله (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) بشارة منه ـ سبحانه ـ للمؤمنين بالنصر والتأييد.
أى : وإن أعرضوا
عن الإيمان ولم ينتهوا عن الكفر والطغيان (فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَوْلاكُمْ) أى : ناصركم ومعينكم عليهم ، فثقوا بولايته ونصرته ، فهو ـ
سبحانه ـ (نِعْمَ الْمَوْلى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لأنه لا يضيع من تولاه ، ولا يهزم من نصره.
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الكريمة قد فتحت الباب للكافرين حتى يفيئوا إلى رشدهم ، وينتهوا عن كفرهم ،
وبشرتهم بأنهم إذا فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم .. أما إذا استمروا في
كفرهم ومعاداتهم للحق ، فقد أمر الله عباده المؤمنين بقتالهم حتى لا تكون فتنة
ويكون الدين كله لله ..
أى أن القتال في
الإسلام شرعه الله ـ تعالى ـ من أجل إعلاء كلمته ومن أجل رفع الأذى والفتنة
والعدوان عمن يعتنقون دينه وشريعته.
هذا ، وقد ساق ابن
كثير عند تفسيره الآيات جملة من الأحاديث التي تشهد بأن القتال في الإسلام إنما
شرعه الله ـ تعالى ـ لإعلاء كلمته ، وليس لأجل الغنيمة أو السيطرة على الغير ..
وأنه لا يجوز لمسلم أن يقتل إنسانا بعد نطقه بالشهادتين. فقال ـ رحمهالله ـ : وقوله ـ تعالى ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ..).
روى البخاري عن
ابن عمر أن رجلا جاءه ـ في فتنة ابن الزبير ـ فقال له يا أبا عبد الرحمن ، ألا
تصنع ما ذكره الله في كتابه (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...)
الآية . فما يمنعك من القتال؟ فقال يا ابن أخى لأن أعير بهذه
الآية ولا أقاتل ، أحب إلى من أن أعير بالآية التي تقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ..)
الآية .
فقال الرجل : فإن
الله يقول : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فقال ابن عمر : «قد فعلنا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ كان الإسلام قليلا ، فكان الرجل يفتن في دينه : إما أن
يقتلوه ، وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ..
وعن سعيد بن جبير
قال : خرج إلينا ابن عمر فقال له قائل : كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال له ابن عمر
وهل تدرى ما الفتنة؟ كان محمد صلىاللهعليهوسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس بقتالكم
على الملك.
وفي رواية أنه قال
: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون
فتنة ، ويكون الدين لغير الله.
__________________
ثم قال ابن كثير :
وقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) أى : بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنهم وإن لم
تعلموا بواطنهم (فَإِنَّ اللهَ بِما
يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ..
وفي الصحيح أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال الرجل لا إله
إلا الله ، فضربه فقتله فذكر ذلك للرسول صلىاللهعليهوسلم فقال لأسامة : أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ فكيف
تصنع «بلا إله إلا الله» يوم القيامة؟ فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوذا فقال.
هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يقول ويكرر عليه من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ، قال
أسامة : حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت إلا يومئذ .
وبعد هذا الحديث
المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة ، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا
في طغيانهم وعدوانهم .. بعد كل ذلك بين ـ سبحانه ـ للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم
التي كثيرا ما تترتب على قتال أعدائهم ، فقال ـ تعالى ـ :
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤١)
وقوله : (غَنِمْتُمْ) من الغنم بمعنى الفوز والربح يقال : غنم غنما وغنيمة إذا
ظفر بالشيء قال القرطبي ما ملخصه : الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة
بسعي ، ومن ذلك قول الشاعر :
وقد طوفت في
الآفاق حتى
|
|
رضيت من الغنيمة
بالإياب
|
واعلم أن الاتفاق
حاصل على أن المراد بقوله ـ تعالى ـ : (غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ) مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر.
وسمى الشرع الواصل
من الكفار إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا.
فالشيء الذي يناله
المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة. ولزم هذا الاسم هذا
المعنى حتى صار عرفا.
__________________
والفيء مأخوذ من
فاء يفيء إذا رجع ، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف. كخراج
الأرضين ، وجزية الجماجم .
والمعنى الإجمالي
للآية الكريمة : (وَاعْلَمُوا) ـ أيها المسلمون ـ (أَنَّما غَنِمْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ) أى : ما أخذتموه من الكفار قهرا (فَأَنَّ لِلَّهِ) الذي منه ـ سبحانه ـ النصر المتفرع عليه الغنيمة (خُمُسَهُ) أى خمس ما غنمتموه شكرا له على هذه النعمة (وَلِلرَّسُولِ) الذي هو سبب في هدايتكم (وَلِذِي الْقُرْبى) أى : ولأصحاب القرابة من رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمراد بهم على الراجح بنو هاشم وبنو المطلب.
(وَالْيَتامى) وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا.
(وَالْمَساكِينِ) وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر الذي نفد ماله وهو في الطريق قبل أن يصل إلى
بلده.
وقوله (وَاعْلَمُوا) معطوف على قوله قبل ذلك (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ..) إلخ وما في قوله : (أَنَّما غَنِمْتُمْ) موصولة والعائد محذوف.
وقوله : (مِنْ شَيْءٍ) بيان الموصول محله النصب على أنه حال من العائد المقدر.
أى : أن ما
غنمتموه من شيء سواء أكان هذا الشيء قليلا أم كثيرا (فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ).
وقوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) خبر مبتدأ محذوف والتقدير : فحكمه أن لله خمسه والجار
والمجرور خبر أن مقدم ، وخمسه اسمها مؤخر. والتقدير : فأن خمسه كائن لله وللرسول
ولذي القربى ... إلخ.
وأعيدت اللام في
قوله (وَلِذِي الْقُرْبى) دون غيرهم من الأصناف التالية لدفع توهم اشتراكهم في سهم
النبي صلىاللهعليهوسلم لمزيد اتصالهم به.
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ ..) شرط جزاؤه محذوف.
أى : إن كنتم
آمنتم بالله حق الإيمان ، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد صلىاللهعليهوسلم (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أى يوم بدر (يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ) أى : جمع المؤمنين وجمع الكافرين .. إن كنتم آمنتم بكل ذلك
، فاعملوا بما علمتم ، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم وحسن قبول.
وما أنزله الله
على نبيه صلىاللهعليهوسلم يوم بدر. يتناول ما نزل من آيات قرآنية ، كما يتناول نزول
الملائكة لتثبيت المؤمنين ، وتبشيرهم بالنصر كما يتناول غير ذلك مما أيدهم الله به
في بدر.
__________________
وسمى يوم بدر بيوم
الفرقان ، لأنه اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وقوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غنيمة
ونصر إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شيء فعليهم أن يداوموا على طاعته وشكره
ليزيدهم من عطائه وفضله.
هذا ، وقد ذكر
العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية جملة من المسائل والأحكام من أهمها ما يأتى :
١ ـ أن هذه الآية
وضحت أن غنائم الحرب تخمس فيجعل الخمس الأول منها لله وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنها تقسم
على الجيش : للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان.
قال ابن كثير :
ويؤيد هذا ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وهو بوادي القرى ، وهو معترض فرسا فقلت : يا رسول الله ،
ما تقول في الغنيمة ، فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ، قلت : فما أحد أولى
به من أحد ، قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك
المسلم .
وقال بعض العلماء
: أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله ـ تعالى
ـ وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له
وسهمان لفرسه. هكذا قسم النبي صلىاللهعليهوسلم الغنائم عام خيبر.
ومن الفقهاء من
يقول : للفارس سهمان. والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج
إلى مؤنة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين.
ويجب قسمتها بينهم
بالعدل ، فلا يحابى أحدا ، لا لرئاسته ولا لنسبه ولا لفضله وفي صحيح البخاري أن
سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «هل تنصرون
وترزقون إلا بضعفائكم»؟ .
ذهب جمهور العلماء
إلى أن المقصود بإيتاء لفظ الجلالة في قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ) : التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى
الامتثال والطاعة له ـ سبحانه ـ.
وليس المقصود أن
يقسم الخمس على ستة منها الله ـ تعالى ـ ، فإنه ـ سبحانه ـ له الدنيا والآخرة ،
وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما.
__________________
وعليه يكون خمس
الغنيمة مقسما على خمسة أقسام : للرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ،
وابن السبيل.
ويرى أبو العالية
والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام ، عملا بظاهر الآية ، وأن سهم
الله ـ تعالى ـ يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة.
وقد رجح ابن جرير
رأى الجمهور فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال : قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) افتتاح كلام ، وذلك لاجتماع الحجة على أن الخمس غير جائز
قسمه على ستة أسهم. ولو كان لله فيه سهم ـ كما قال أبو العالية ـ لوجب أن يكون خمس
الغنيمة مقسوما على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها.
فأما على أكثر من
ذلك فلا نعلم قائلا قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبى العالية. وفي إجماع من
ذكرت ـ الدلالة الواضحة على ما اخترناه .
وسهم النبي صلىاللهعليهوسلم الذي جعله الله ـ تعالى ـ له في قوله (وَلِلرَّسُولِ) كان مفوضا إليه في حياته ، يتصرف فيه كما شاء ، ويضعه حيث
يشاء.
روى الإمام أحمد
أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ، ما كلمات رسول صلىاللهعليهوسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة : إن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم. فلما سلم قام رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فتناول وبرة فقال : إن هذه من غنائمكم ، وأنه ليس لي فيها
إلا نصيبي معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك
وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا
الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ،
وأقيموا الحدود في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب
الجنة. ينجى الله به من الغم والهم ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم.
وروى أبو داود
والنسائي عن عمرو بن عبسة ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب
البعير ثم قال : ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم .
هذا بالنسبة لسهمه
صلىاللهعليهوسلم في حياته ، أما بعد وفاته ، فمنهم من يرى : أن سهمه صلىاللهعليهوسلم يكون لمن يلي الأمر من بعده. روى هذا عن أبى بكر وعلى
وقتادة وجماعة .. ومنهم من يرى أن سهمه صلىاللهعليهوسلم يصرف في مصالح المسلمين. روى ابن جرير عن
__________________
الأعمش عن إبراهيم
قال : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلىاللهعليهوسلم في الكراع والسلاح.
ومنهم من يرى صرفه
لبقية الأصناف : ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وقد رجح ابن جرير
هذا الرأى فقال : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن سهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما روى
عن ابن عباس : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ،
لأن الله ـ تعالى ـ أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس
الآخرين. وقد اجمعوا أن حق أهل الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل
الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم ..».
٤ ـ المراد بذي
القربى ـ كما سبق أن أشرنا ـ بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح. وعليه فإن السهم
المخصص لذي القربى لا يصرف إلا لهم.
قال القرطبي ما
ملخصه : اختلف العلماء في ذوى القربى على ثلاثة أقوال :
أولها : أن المراد
بهم قريش كلها : قاله بعض السلف ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم لما صعد الصفا جعل يهتف يا بنى فلان يا بنى عبد مناف ..
أنقذوا أنفسكم من النار.
ثانيها : أن
المراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب. قاله الشافعى وأحمد وأبو ثور ومجاهد .. لأن
النبي صلىاللهعليهوسلم لما قسم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب قال : «إنهم
لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين
أصابعه. أخرجه البخاري والنسائي.
ثالثها : أن
المراد بهم بنو هاشم خاصة. قاله مجاهد وعلى بن الحسين. وهو قول مالك والثوري
والأوزاعى وغيرهم .
وقال الآلوسى :
وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم على خمسة أسهم سهم له صلىاللهعليهوسلم وسهم للمذكورين من ذوى القربى ، وثلاثة أسهم للأصناف
الثلاثة الباقية.
وأما بعد وفاته صلىاللهعليهوسلم فسقط سهمه .. وكذا سقط سهم ذوى القربى ، وإنما يعطون
بالفقر ، ويقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ، ولا حق لأغنيائهم ، لأن الخلفاء الأربعة
قسموا الخمس كذلك وكفى بهم قدوة ...
__________________
ثم قال : ومذهب
المالكية أن الخمس لا يلزم تخميسه ، وأنه مفوض إلى رأى الإمام.
ـ أى انهم يرون أن
خمس الغنيمة يجعل في بيت المال فينفق منه على من ذكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه
الإمام من مصلحة المسلمين ، وكأنهم يرون أن هذه الأصناف إنما ذكرت على سبيل المثال
، وأنها من باب الخاص الذي قصد به العام ، بينما يرى غيرهم أن هذه الأصناف من باب
الخاص الذي قصد به الخاص.
ثم قال : ومذهب
الإمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم كما ذهب أبو بالعالية ، إلا أنهم قالوا : إن سهم
الله ـ تعالى ـ ، وسهم رسوله صلىاللهعليهوسلم وسهم ذوى القربى الكل للإمام القائم مقام الرسول صلىاللهعليهوسلم أما الأسهم الثلاثة الباقية فهم لليتامى من آل محمد صلىاللهعليهوسلم ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك
غيرهم. رووا ذلك عن زين العابدين ، ومحمد بن على الباقر ..
ثم قال : والظاهر
أن الأسهم الثلاثة الأولى التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب ، إذ القائم مقام
الرسول صلىاللهعليهوسلم قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته ..» .
هذا ، ومن كل ما
سبق نرى أن أكثر العلماء يرون أن خمس الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام ، ومنهم من يرى
أنه يقسم الى ستة أقسام ، ومنهم من يرى أنه لا يلزم تقسيمه إلى خمسة أقسام أو إلى
ستة ، وإنما هو موكول إلى نظر الإمام واجتهاده .. ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل
فريق أدلته المبسوطة في كتب الفروع.
٥ ـ ذكرنا عند
تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ في مطلع السورة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ ...) أن المراد بالأنفال : الغنائم وعليه تكون الآية التي معنا
وهي قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ ..) مفصلة لما أجملته الآية التي في مطلع السورة.
أى أن الآية التي
في مطلع السورة بينت أن الأمر في قسمة الأنفال مفوض إلى الله ورسوله ، ثم جاءت
الآية التي معنا ففصلت كيفية قسمة الغنائم حتى لا يتطلع أحد إلى ما ليس من حقه.
وهذا أولى من قول
بعضهم : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي في مطلع السورة : لأن النسخ لا يصار
إليه إلا عند التعارض وهنا لا تعارض بين الآيتين.
٦ ـ الآية الكريمة
أرشدت المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يخلصوا في طاعتهم لله ـ تعالى ـ ولرسوله
صلىاللهعليهوسلم وأن يجعلوا غايتهم من جهادهم إعلاء كلمة الله ، لكي يكونوا
مؤمنين حقا.
__________________
ويشعر بهذا
الإرشاد تصديره ـ سبحانه ـ الآية بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ..) كما يشعر به قوله ـ تعالى ـ (إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ ..) ، فإن كل ذلك فيه معنى الحض على إخلاص النية لله ـ تعالى ـ
والامتثال لحكمه ، والمداومة على شكره ، حيث منحهم ـ سبحانه ـ هذه النعم بفضله
وإحسانه.
وإلى هذا المعنى
أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : بم تعلق قوله (إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللهِ) : قلت بمحذوف يدل عليه قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ ..) والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من
الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة. وليس
المراد بالعلم المجرد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله ـ تعالى ـ ،
لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر .
هذه بعض المسائل
والأحكام التي استنبطناها من الآية الكريمة ، وهناك مسائل وأحكام أخرى تتعلق بها
ذكرها بعض المفسرين فارجع إليها إن شئت .
ثم حكى ـ سبحانه ـ
بعض مظاهر فضله وحكمه في غزوة بدر ، فبين الأماكن التي نزل فيها كل فريق ، كما بين
الحكمة في لقاء المؤمنين والكافرين على غير ميعاد ، والحكمة في تقليل كل فريق
منهما في عين الآخر ... فقال تعالى :
(إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ
اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى
مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ
__________________
يُرِيكُمُوهُمْ
إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ
لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٤٤)
قوله : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا
..) بدل من قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ ..) أو معمول لفعل محذوف. والتقدير : اذكروا.
والعدوة ـ مثلثة
العين ـ جانب الوادي وحافته. وهي من العدو بمعنى التجاوز سميت بذلك لأنها عدت .. ـ
أى منعت ـ ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها.
والدنيا : تأنيث
الأدنى بمعنى الأقرب. والقصوى : تأنيث الأقصى بمعنى الأبعد. والركب : اسم جمع
لراكب ، وهم العشرة فصاعدا من راكبي الإبل.
قال القرطبي : ولا
تقول العرب : ركب إلا للجماعة الراكبى الإبل ..
والمراد بهذا
الركب : أبو سفيان ومن معه من رجال قريش الذين كانوا قادمين بتجارتهم من بلاد
الشام ومتجهين بها إلى مكة ، فلما بلغ النبي صلىاللهعليهوسلم أمرها ، أشار على أصحابه بالخروج لملاقاته ، كما سبق أن
بينا عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ (كَما أَخْرَجَكَ
رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ..).
والمعنى : اذكروا
ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن خرجتم إلى بدر ، فسرتم إلى أن كنتم (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) أى : بجانب الوادي وحافته الأقرب إلى المدينة ، وكان
أعداؤكم الذين قدموا لنجدة العير (بِالْعُدْوَةِ
الْقُصْوى) أى : بالجانب الآخر الأبعد من المدينة ، وكان أبو سفيان
ومن معه من حراس العير (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أى : في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه ، بالقرب من
ساحل البحر الأحمر ، على بعد ثلاثة أميال منكم.
قال الجمل : قوله (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الأحسن في هذه الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على (هُمْ) أن تكون عاطفة ما بعدها على (أَنْتُمْ) لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم ويجوز أن يكونا واو
حال ، وأسفل منصوب على الظرف النائب عن الخبر ، وهو في الحقيقة صفة لظرف مكان
محذوف. أى : والركب في مكان أسفل من مكانكم وكان الركب على ثلاثة أميال من بدر ..»
.
__________________
وقال الإمام
الزمخشري ـ رحمهالله ـ فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين ،
وأن العير كانت أسفل منهم؟.
قلت : الفائدة فيه
الإخبار عن الحال الدالة على قوة الشأن للعدو ، وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة
له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في هذه الحال ليس إلا صنعا
من الله ـ سبحانه ـ ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته.
وذلك أن العدوة
القصوى التي أناخ بها المشركون ، كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها. ولا ماء
بالعدوة الدنيا ، وهي خبار ـ أى أرض لينة رخوة ـ تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها
إلا بتعب ومشقة.
وكانت العير وراء
ظهور العدو ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في
المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ،
ليبعثهم الذب عن الحريم على بذل جهودهم في القتال.
وفيه تصوير ما دبر
ـ سبحانه ـ من أمر غزوة بدر (لِيَقْضِيَ اللهُ
أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ومن إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى
الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج ، وأقلق
قريشا ما بلغهم من تعرض المسلمين لأموالهم ، فنفروا ليمنعوا عيرهم ، وسبب الأسباب
حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون
عليها ، حتى قامت الحرب في ساق ، وكان ما كان» .
وقوله : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ
فِي الْمِيعادِ ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) بيان لتدبير الله الحكيم ، وإرادته النافذة.
أى : ولو تواعدتم
وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم ، لأن كل
فريق منكم كان سيتهيب الإقدام على صاحبه ، ولكن الله ـ تعالى ـ بتدبيره الخفى شاء
أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد ، ليقضى ـ سبحانه ـ أمرا كان مفعولا ، أى : ثابتا
في علمه وحكمته ، وهو : إعزاز الإسلام وأهله ، وخذلان الشرك وحزبه.
روى ابن جرير من
حديث كعب بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال : إنما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين
عدوهم على غير ميعاد. وروى ـ أيضا ـ عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في
الكرب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء
بهؤلاء ، حتى التقى السقاة قال : ونظر الناس بعضهم إلى بعض» .
__________________
وقوله (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ
وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل من قوله (لِيَقْضِيَ) بإعادة الحروف ، أو هو متعلق بقوله (مَفْعُولاً).
والمراد بالهلاك
والحياة هنا ما يشمل الحسى والمعنوي منهما.
والمراد بالبينة
الحجة الظاهرة الدالة على حقية الإسلام وبطلان الكفر.
قال الآلوسى : أى
: ليموت من يموت عن حجة عاينها ، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، فلا يبقى محل
للتعلل بالأعذار ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجّلة.
ويجوز أن يراد
بالحياة : الإيمان ، وبالموت : الكفر على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل بأن
يراد بالبينة : إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة.
أى : ليصدر كفر من
كفر وإيمان من آمن عن وضوح وبينة وإلى هذا ذهب قتادة وابن إسحاق. والظاهر أن (عَنْ) هنا بمعنى بعد كقوله ـ تعالى ـ (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ).
وقرأ نافع وابن
كثير وأبو بكر ويعقوب حيي على وزن تعب ـ بفك الإدغام. وقرأ الباقون بإدغام الياء
الأولى في الثانية على وزن شد ومد .
وقوله (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل قصد به الترغيب في الإيمان ـ والترهيب من الكفر ، أى
: وإن الله لسميع لأقوال أهل الإيمان والكفر عليم بما تنطوى عليه قلوبهم وضمائرهم
، وسيجازى ـ سبحانه ـ كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب على حساب ما يعلم وما
يسمع منه.
ثم يبين ـ سبحانه
ـ بعض وجوه نعمه على المؤمنين ، وتدبيره الخفى لنصرهم وفوزهم فيقول : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ
قَلِيلاً ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ ، وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).
أى : اذكر يا محمد
فضل الله عليك وعلى أصحابك ، حيث أراك في منامك الكافرين قليلا عددهم ، ضئيلا
وزنهم فأخبرت بذلك أتباعك فازدادوا ثباتا واطمئنانا وجرأة على عدوهم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) أى : ولو أراك الأعداء عددا كثيرا (لَفَشِلْتُمْ) أى : لتهيبتم الإقدام عليهم ، لكثرة عددهم ، من الفشل وهو
ضعف مع جبن (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي
الْأَمْرِ) أى : في أمر الإقدام عليهم والإحجام عنهم. فمنكم من يرى
هذا ومنكم من يرى ذلك.
__________________
وقوله (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) بيان لمحل النعمة. أى : ولكن الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه
أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع وتفرق الآراء في شأن القتال : حيث ربط على
قلوبكم ، ورزقكم الجرأة على أعدائكم وعدم المبالاة بهم بسبب رؤيا نبيكم.
وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تذييل يدل على شمول علمه ـ سبحانه ـ.
أى : إنه ـ سبحانه
ـ عليم بكل ما يحصل في القلوب وما يخطر بها من شجاعة وجبن. ومن صبر وجزع ولذلك دير
ما دبر.
قال الفخر الرازي
، قال مجاهد : أرى الله النبي صلىاللهعليهوسلم كفار قريش في منامه قليلا ، فأخبر بذلك أصحابه فقالوا :
رؤيا النبي حق. القوم قليل ، فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم.
فإن قيل : رؤية
الكثير قليلا غلط ، فكيف يجوز من الله ـ تعالى ـ أن يفعل ذلك؟
قلنا : ذهبنا أنه
ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريده وأيضا لعله ـ سبحانه ـ أراه البعض دون
البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون .
ونستطيع أن نضيف
إلى ما أجاب به الفخر الرازي أنه يجوز أن يكون المراد بالقلة : الضعف وهوان الشأن
..
أى : أن المشركين
وإن كانوا في حقيقتهم يقاربون الألف ـ أى أكثر من ثلاثة أمثال المؤمنين ـ إلا أنهم
لا قوة لهم ولا وزن ، فهم كثير عددهم ولكن قليل غناؤهم ، قليل وزنهم في المعركة.
لأنهم ينقصهم الإيمان الصحيح الذي يقوى القلوب ، ويدفع النفوس إلى الإقدام لنصرة
الحق لكي تفوز برضا الله وحسن مثوبته.
وإلى هذا المعنى
أشار صاحب المنار بقوله : وقد تقدم أن النبي صلىاللهعليهوسلم قدر عدد المشركين بألف وأخبر أصحابه بذلك ، ولكنه أخبرهم
مع هذا أنه رآهم في منامه قليلا ، لا أنهم قليل في الواقع ، فالظاهر أنهم أولوا
الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا ، وأن كيدهم يكون ضعيفا ، فتجرءوا وقويت قلوبهم .
هذا ، ونسب الى
الحسن أنه ذكر أن هذه الآراء كانت في اليقظة ، وأن المراد من المنام العين التي هي
موضع النوم. قال الزمخشري. وهذا تفسير فيه تعسف. وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن
الحسن.
وقال الآلوسى :
وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين ، لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة
__________________
المنامة لأنها
ينام فيها ، فلم يكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية ، وإليه ذهب البلخي. ولا
يخفى ما فيه ، لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمى. ففي الحمل على خلاف ذلك
تعقيد ولا نكتة فيه .. على أن الروايات الجمة برؤيته صلىاللهعليهوسلم إياهم مناما ، وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون
العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر .. ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة ، فإنه
الفصيح العالم بكلام العرب .
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ ...)
معطوف على ما قبله
وهو قوله (إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ....) وذلك لتأكيد الرؤيا المنامية بالرؤية في اليقظة.
والمعنى : واذكروا
ـ أيها المؤمنون ـ وقت أن التقيتم مع أعدائكم وجها لوجه في بدر ، فكان من فضل الله
عليكم قبل أن تلتحموا معهم أن جعل عددهم قليلا في أعينكم وجعل عددكم قليلا في
أعينهم ، وذلك لإغرائهم على خوض المعركة.
أما أنتم
فتخوضونها بدون مبالاة بهم لقلتهم في أعينكم ، ولثقتكم بنصر الله إياكم ..
وأما هم فيخوضونها
معتمدين على غرورهم وبطرهم وقلتكم في أعينهم ، فيترتب على ذلك أن يتركوا الاستعداد
اللازم لقتالكم ، فتكون الدائرة عليهم ..
قال ابن مسعود ـ وهو
ممن حضر بدرا ـ : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال
: أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفا .
وقال أبو جهل ـ في
ذلك اليوم وقبل الالتحام ـ : إن محمدا وأصحابه أكلة جزور ـ أى هم قليل يشبعهم لحم
ناقة واحدة ـ خذوهم أخذا أو اربطوهم بالحبال ..
وقد أجاد صاحب
الكشاف عند تفسيره لهذه الآية حيث يقول : قوله (وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ) الضميران مفعولان يعنى : وإذ يبصركم إياهم. و (قَلِيلاً) حال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا ..
فإن قلت : الغرض من تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض من تقليل
المؤمنين في أعينهم؟
قلت : قد قللهم في
أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ، ليجترؤوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم
تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، وتقل شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم
__________________
وتقديرهم ، وذلك
قوله (قَدْ كانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى
كافِرَةٌ ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم فاستيضاح الآية
البينة من قلتهم أولا ، وكثرتهم آخرا.
ثم قال : فإن قلت
: بأى طريق يبصرون الكثير قليلا؟
قلت : بأن يستر
الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في
أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين.
قيل لبعضهم : إن
الأحوال يرى الواحد اثنين ـ وكان بين يديه ديك واحد ـ فقال : ما لي لا أرى هذين الديكين
أربعة .
وقوله ـ سبحانه ـ (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ
مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) بيان لحكمة تدبيره ، ونفاذ قدرته ، وشمول إرادته.
أى فعل ـ سبحانه ـ
ما فعل من تقليل كل فريق في عين الآخر ، ليقضى أمرا كان مفعولا ، أى : ثابتا في علمه
وحكمته ، وهو نشوب القتال المفضى إلى انتصار المؤمنين ، واندحار الكافرين وإلى
الله وحده ترجع الأمور لا إلى أحد سواه ، فإن كل شيء عنده بمقدار ، ولأن كل شيء في
هذا الكون بقضائه وقدره ، وما من شيء إلا مصيره ومرده إليه.
قال بعض العلماء :
ولا يقال إن قوله ـ تعالى ـ : (لِيَقْضِيَ اللهُ
أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) مكرر مع ما سبق ، لأننا نقول : إن المقصود من ذكره أولا ـ في
قوله : إذ أنتم بالعدوة الدنيا .. هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين
على الكافرين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدق النبي صلىاللهعليهوسلم والمقصود منه هنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين
المشركين ثم تكثيرهم للحكم المتقدمة .
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الكريمة حكت لنا جانبا من أحداث غزوة بدر بأسلوب تصويري بديع في استحضار
لمشاهدها ومواقفها ، وكشفت لنا عن جوانب من مظاهر قدرة الله ، ومن تدبيره المحكم
الذي كان فوق تدبير البشر ، ومن تهيئة الأسباب الظاهرة والخفية التي أدت إلى نصر
المؤمنين وخذلان الكافرين.
وبعد هذا التذكير
النافع ، والتصوير المؤثر لأحداث غزوة بدر ، وجه ـ سبحانه ـ في هذه السورة إلى
المؤمنين النداء السادس والأخير ، حيث أمرهم بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالمداومة
على ذكره وطاعته .. ، ونهاهم عن التنازع والاختلاف فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٤٦)
وقوله : (لَقِيتُمْ) من اللقاء بمعنى المقابلة والمواجهة ، ويغلب استعماله في
لقاء القتال وهو المراد هنا.
وقوله : (فِئَةً) أى : جماعة. مشتقة من الفيء بمعنى الرجوع ، لأن بعضهم يرجع
إلى بعض.
والمراد بها هنا :
جماعة المقاتلين من الكافرين وأشباههم.
والمتتبع لاستعمال
القرآن لهذه الكلمة ، يراه يستعملها ـ في الأعم الأغلب ـ في الجماعة المقاتلة أو
الناصرة أو ما يشبه ذلك.
قال ـ تعالى ـ : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ...) .
وقال ـ تعالى ـ : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ ...) .
وقال ـ تعالى ـ : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) .
والمعنى : يا أيها
الذين آمنوا بالله حق الإيمان ، (إِذا لَقِيتُمْ
فِئَةً) أى : حاربتم جماعة من أعدائكم ، فاثبتوا لقتالهم وأغلظوا
عليهم في النزال ، ولا تولوهم الأدبار ، (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً) لا سيما في مواطن الحرب ، فإن ذكر الله عن طريق القلب
واللسان من أعظم وسائل النصر : لأن المؤمن متى استحضر عظمة الله في قلبه لا تهوله
قوة عدوه ، ولا تخفيه كثرته ..
وقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى : لعلكم تظفرون بمرادكم من النصر وحسن الثواب ، متى
فعلتم ذلك عن إخلاص.
وقوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) معطوف على ما قبله ، أى : اثبتوا عند لقاء الأعداء ،
وأكثروا من ذكر الله ، وأطيعوا الله ورسوله في كل أقوالكم وأعمالكم ، وفي سركم
وجهركم ،
__________________
وفي كل ما تأتون
وما تذرون.
وقوله (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) نهى لهم عن الاختلاف المؤدى إلى الفشل وضياع القوة بعد
أمرهم بالثبات والمداومة على ذكر الله وطاعته.
وقوله (تَنازَعُوا) من النزع بمعنى الجذب وأخذ الشيء .. والتنازع والمنازعة
المجاذبة كأن كل واحد من المتنازعين يريد أن ينزع ما عند الآخر ويلقى به.
والمراد بالتنازع
هنا : الخصام والجدال والاختلاف المفضى إلى الفشل أى : الضعف.
قال الآلوسى :
وقوله : (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ، قال الأخفش : الريح مستعارة للدولة. لشبهها بها في نفوذ
أمرها وتمشيه ، ومن كلامهم هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة وجرى أمره على ما
يريد. وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره. قال الشاعر :
إذا هبت رياحك
فاغتنمها
|
|
فإن لكل خافقة
سكون
|
ولا تغفل عن
الإحسان فيها
|
|
فما تدرى السكون
متى يكون .
|
والمعنى : كونوا ـ
أيها المؤمنون ـ ثابتين ومستمرين على ذكر الله وطاعته عند لقاء الأعداء ، ولا
تنازعوا وتختصموا وتختلفوا ، فإن ذلك يؤدى بكم إلى الفشل أى الضعف ، وإلى ذهاب
دولتكم ، وهوان كلمتكم ، وظهور عدوكم عليكم.
(وَاصْبِرُوا) على شدائد الحرب ، وعلى مخالفة أهوائكم التي تحملكم على
التنازع ، (إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ) بتأييده ومعونته ونصره.
هذا والمتأمل في
هاتين الآيتين يراهما قد رسمتا للمؤمنين في كل زمان ومكان الطريق التي توصلهم إلى
الفلاح والظفر.
إنهما يأمران
بالثبات ، والثبات من أعظم وسائل النجاح ، لأنه يعنى ترك اليأس والتراجع وأقرب
الفريقين إلى النصر أكثرهما ثباتا.
ويأمران بمداومة
ذكر الله ، لأن ذكر الله هو الصلة التي تربط الإنسان بخالقه الذي بيده كل شيء ،
ومتى حسنت صلة الإنسان بخالقه ، صغرت في عينه قوة أعدائه مهما كبرت.
ويأمران بطاعة
الله ورسوله ، حتى يدخل المؤمنون المعركة بقلوب نقية ، وبنفوس صافية ... لا مكان
فيها للتنازع والاختلاف المؤدى إلى الفشل ، وذهاب القوة .. ويأمران بالصبر ، أى
بتوطين النفس على ما يرضى الله ، واحتمال المكاره والمشاق في جلد. وهذه
__________________
الصفة لا بد منها
لمن يريد أن يصل إلى آماله وغاياته.
ورحم الله الإمام
ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين الكريمتين : «هذا تعليم من الله ـ تعالى
ـ لعباده المؤمنين آداب اللقاء ، وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء».
وقد ثبت في
الصحيحين عن عبد الله بن أبى أوفى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم انتظر في بعض أيامه التي لقى فيها العدو حتى إذا مالت
الشمس قام فيهم فقال : يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ،
فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قام وقال : اللهم
منزل الكتاب ، ومجرى السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم».
وفي الحديث الآخر
المرفوع يقول الله ـ تعالى ـ «إن عبدى كل عبدى الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أى :
لا يشغله ذلك الحال عن ذكرى ودعائي واستعانتى.
وعن قتادة في هذه
الآية : «افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون. الضرب بالسيوف».
ثم قال : «وقد كان
للصحابة ـ رضى الله عنهم ـ في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله ،
وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد
من بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلىاللهعليهوسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا ،
في المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس
... قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك
الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فرضي الله عنهم وأرضاهم
أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب» .
وبعد هذه
التوجيهات السامية التي رسمت للمؤمنين طريق النصر ، نهاهم ـ سبحانه ـ عن التشبه
بالكافرين الذين صدهم الشيطان عن السبيل الحق ، فقال تعالى :
(وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ
__________________
النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ
وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
إِذْ
يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ
دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٩)
قال الفخر الرازي
عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا ....)
المراد قريش حين
خرجوا من مكة لحفظ العير. خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف ، فلما وردوا الجحفة ،
بعث خفاف الكناني ـ وكان صديقا لأبى جهل ـ بهدايا إليه مع ابن له ، فلما أتاه قال
: إن أبى ينعمك صباحا ويقول لك : إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك ، وإن شئت أن أزحف
إليك بمن معى من قرابتي فعلت.
فقال أبو جهل : قل
لأبيك جزاك الله والرحم خيرا. إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا
بالله طاقة. وإن كنا إنما نقاتل الناس ، فو الله إن بنا على الناس لقوة.
والله ما نرجع عن
قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور ، وتعزف فيها القيان ، فإن بدرا موسم من
مواسم العرب ، وسوق من أسواقهم. وحتى تسمع العرب ـ بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد ـ.
قال المفسرون :
فوردوا بدرا ، وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان .
وقوله (بَطَراً) مصدر بطر ـ كفرح ـ ومعناه كما يقول الراغب : دهش يعترى
الإنسان من سوء احتمال النعمة ، وقلة القيام بحقها ، وصرفها إلى غير وجهها .
أى أن البطر ضرب
من التكبر والغرور واتخاذ نعم الله ـ تعالى ـ وسيلة إلى مالا يرضيه وهو مفعول
لأجله ، أو حال ، أى : حال كونهم بطرين.
وقوله (وَرِئاءَ) مصدر رأى ومعناه : القول أو الفعل الذي لا يقصد معه
الإخلاص ، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء.
__________________
والمعنى : كونوا
أيها المؤمنون ـ ثابتين عند لقاء الأعداء ، ومكثرين من ذكر الله وطاعته ، وصابرين
في كل المواطن .. واحذروا أن تتشبهوا بأولئك المشركين الذين خرجوا من مكة (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) أى خرجوا غرورا وفخرا وتظاهرا بالشجاعة والحمية ... حتى
ينالوا الثناء منهم ..
وقوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) معطوف على (بَطَراً) والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة. والمراد بسبيل الله :
دينه. لأنه يوصل الناس إلى الخير والفلاح.
أى : خرجوا بطريق
بما أوتوا من نعم ومرائين بها الناس ، وصادين إياهم عن دين الإسلام الذي باتباعه
يصلون إلى السعادة والنجاح.
وعبر عن بطرهم
وريائهم بصيغة الاسم الدال على التمكن والثبوت ، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على
التجدد والحدوث ، للإشعار بأنهم كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والرياء ، وأن
هذه الصفات دأبهم وديدنهم ، أما الصد عن سبيل الله فلم يحصل منهم إلا بعد أن دعا
الرسول صلىاللهعليهوسلم الناس إلى الإسلام.
وقوله : (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تذييل قصد به التحذير من الاتصاف بهذه الصفات الذميمة ،
لأنه ـ سبحانه ـ محيط بكل صغيرة وكبيرة وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى
الذين أحسنوا بالحسنى. فعلى المؤمنين أن يخلصوا لله ـ تعالى ـ أعمالهم.
وقوله : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ
أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ
لَكُمْ ..) تذكير للمؤمنين بما خدع به الشيطان الكافرين من وعود كاذبة
، وأمانى باطلة.
والمراد بهذا
التذكير : حضهم على المداومة على طاعة الله وشكره ، حيث إنه ـ سبحانه ـ لم يجعلهم
كأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان.
والمعنى : احذروا
ـ أيها المؤمنون ـ أن تتشبهوا بأولئك الذين خرجوا من ديارهم بطرا ومفاخرة ..
واذكروا وقت أن (زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) في معاداتكم ، بأن وسوس لهم بأنهم على الحق وأنتم على
الباطل ، وحسن لهم ما جبلوا عليه من غرور ومراءاة ، وأوهمهم بأن النصر سيكون لهم
عند لقائكم ، بأن قال لهم (لا غالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أى : لن يغلبكم أحد من الناس ، لا محمد صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، ولا غيرهم من قبائل العرب ، وإنى مجير ومعين
وناصر لكم ، إذ المراد بالجار هنا : الذي يجير غيره. أى : يؤمنه مما يخاف ويخشى.
قال الآلوسى : أى
: ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم ، وعددهم ، وأوهمهم أن
اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات ـ تجعله مجيرا لهم ، وحافظا إياهم عن السوء
حتى قالوا : اللهم
انصر أهدى الفئتين ، وأفضل الدينين.
فالقول مجاز عن
الوسوسة. والإسناد في قوله (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي. و (لَكُمُ) خبر (لا) أو صفة (غالِبَ) والخبر محذوف. أى : لا غالب كائنا لكم موجود. و (الْيَوْمَ) معمول الخبر. و (مِنَ النَّاسِ) حال من ضمير الخبر ...» .
وقوله : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ
عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ،
إِنِّي أَخافُ اللهَ ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) بيان لما فعله الشيطان وقاله بعد أن رأى ما رأى من قوة لا
طاقة له بها ..
وقوله (تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أى : تقاربتا بحيث صارت كل فئة ترى الأخرى رؤية واضحة.
ومنهم من جعل (تَراءَتِ) بمعنى التقت وقوله (نَكَصَ عَلى
عَقِبَيْهِ) أى : ولى هاربا ورجع القهقرى. وأبطل كيده وذهب ما مناهم به
من النصرة والعون يقال : نكص عن الأمر نكوصا ونكصا أى : تراجع عنه وأحجم. والعقب :
مؤخر القدم.
والمعنى : لقد حرض
الشيطان جنوده من الكافرين على حربكم ـ أيها المؤمنون ـ ، ومناهم بالنصر عليكم ...
ولكنه حينما تراءت الفئتان : فئتكم وفئته ، ورأى ما أمدكم الله به من الملائكة ،
ولى مدبرا وقال للكافرين : (إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكُمْ) أى : من عهدكم وجواركم ونصرتكم ، (إِنِّي أَرى) من الملائكة النازلة لتأييد المؤمنين مالا ترونه أنتم (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يعذبني قبل يوم القيامة ، أو إنى أخاف الله أن يصيبني
بمكروه من قبل ملائكته.
وقوله (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يحتمل أنه من كلام إبليس الذي حكاه الله ـ تعالى ـ عنه ،
ويحتمل أنه جملة مستأنفة من كلامه عزوجل.
أى : والله شديد
العقاب لمن عصاه وخالف أمره.
هذا ، وهناك قولان
في كيفية تزيين الشيطان للمشركين :
أحدهما : أن هذا
التزيين لم يكن حسيا ، وإنما كان معنويا عن طريق الوسوسة دون أن يتحول الشيطان إلى
صورة إنسان.
وعليه يكون قوله (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ...) مجازا عن الوسوسة. وقوله (نَكَصَ عَلى
عَقِبَيْهِ) استعارة لبطلان كيده ، شبه بطلان كيده بعد وسوسته بمن رجع
القهقرى عما يخافه.
__________________
وثانيهما : أن هذا
التزيين كان حسيا بمعنى أن الشيطان تمثل لهم في صورة إنسان ، وقال لهم ما قال مما
حكاه الله ـ تعالى ـ عنه.
وقد ذكر صاحب
الكشاف هذين الوجهين في تفسير الآية فقال : واذكر (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي عملوها في معاداة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن
اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم ، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ
منهم ، أى : بطل كيده حين نزلت جنود الله.
وكذا عن الحسن ـ رحمهالله ـ قال : كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم.
وقيل : لما اجتمعت
قريش على السير ـ لحرب المسلمين في بدر ـ ذكرت الذي بينها وبين كنانة من الحرب ،
فكاد ذلك يثنيهم عن حرب المسلمين ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة ابن مالك بن
جعشم الشاعر الكناني ـ وكان من أشرفهم ـ في جند من الشياطين معه راية وقال : لا
غالب لكم اليوم وإنى مجيركم من بنى كنانة. فلما رأى الملائكة تنزل ، نكص.
وقيل : كانت يده
في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟
فقال : إنى أرى ما لا ترون ، ودفع صدر الحارث وانطلق وانهزموا.
فلما بلغوا مكة
قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى
بلغتني هزيمتكم. فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.
وفي الحديث ـ الذي
أخرجه مالك في الموطأ ـ : «وما رئي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم
عرفة لما يرى من نزول الرحمة. إلا ما رئي يوم بدر» .
وقد ذكر ابن جرير
وابن كثير روايات أخرى تتفق في جملتها مع ما ذكره صاحب الكشاف ، وإن كانت تختلف
عنها في التفصيل ، ومن ذلك قول ابن جرير :
«وكان تزيينه ذلك
لهم كما حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية عن على
بن أبى طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته في
صورة رجل من بنى مدلج ، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين :
لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما اصطف الناس ، أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا
الأدبار.
__________________
وأقبل جبريل إلى
إبليس ، فلما رآه ـ وكانت يده في يد رجل من المشركين ـ انتزع إبليس يده فولى مدبرا
هو وشيعته.
فقال الرجل : يا
سراقة تزعم أنك لنا جار؟ قال : (إِنِّي أَرى ما لا
تَرَوْنَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) وذلك حين رأى الملائكة.
ثم قال : وحدثنا
أحمد بن الفرج ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ، قال : حدثنا مالك
، عن إبراهيم بن أبى عبلة ، عن طلحة بن عبد بن عبيد الله بن كريز : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيظ
ولا أدحر من يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب ، إلا ما رأى
يوم بدر» قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر؟ قال : أما إنه رأى جبريل يزع
الملائكة أى : يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب» .
وقد سار ـ ابن
جرير وابن كثير ـ في تفسيرهما للآية على أن التزيين من الشيطان كان حسيا.
فابن جرير يقول.
بعد أن ذكر بضع روايات في تفسير الآية : فتأويل : وإن الله لسميع عليم في هذه
الأحوال ، وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم. أيها المؤمنون لحربكم وقتالكم ،
وحسن ذلك لهم ، وحثهم عليكم وقال لا غالب لكم اليوم ، من بنى آدم ، فاطمئنوا
وأبشروا وإنى جار لكم من كنانة أن تأتيكم من ورائكم ... واجعلوا جدكم وبأسكم على
محمد وأصحابه (فَلَمَّا تَراءَتِ
الْفِئَتانِ) يقول : فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين ، وجنود الشيطان
من الكافرين ، ونظر بعضهم إلى بعض (نَكَصَ عَلى
عَقِبَيْهِ) أى : رجع القهقرى على قفاه هاربا .. وقال للمشركين (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يعنى أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددا للمؤمنين ،
والمشركون لا يرونهم .
وابن كثير يقول :
وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ...) الآية.
أى : حسن لهم ـ لعنه
الله ـ ما جاءوا له ، وما هموا به. وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن
جعشم سيد بنى مدلج .. ثم قال : فلما رأى إبليس الملائكة (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) وقال إنى برىء منكم إنى أرى ما لا ترون ، وهو في صورة
سراقة ، وأقبل أبو جهل يحض أصحابه ويقول لهم : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ،
فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه ..» .
ومن هذا يتضح أن
هذين الإمامين الجليلين يسيران في تفسيرهما للآية الكريمة ، على أن
__________________
التزيين كان حسيا
، ويهملان القول بغير ذلك وممن تابعهما في هذا الإمام القرطبي ، فقد ذكر بعض
الروايات التي وردت في معنى الآية ، والتي صرحت بأن الشيطان قد تمثل للمشركين في
صورة إنسان ، وبنى تفسيره للآية على ذلك .. .
وقد خالف صاحب
المنار هؤلاء الأئمة ، فرجح القول الأول وهو أن التزيين لم يكن حسيا ، أى أن ما
قاله الشيطان لهم من قبيل الوسوسة ، وأنه لم يتمثل لهم في صورة إنسان.
فقد قال ـ رحمهالله ـ قوله : (وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
...) أى : واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء
المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم لا غالب لكم اليوم من
الناس.
(فَلَمَّا تَراءَتِ
الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أى : فلما قرب كل من الفريقين من الآخر. نكص ، أى : رجع
القهقرى .. والمراد أنه كف عن تزيينه لهم ، وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج
التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ، وتركها بحال من ينكص عنه
ويوليه دبره ، ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم ، وتركه إياهم وشأنهم ، وهو (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي
أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أى : تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد
الله المسلمين بالملائكة.
ثم قال ـ بعد أن
ضعف الروايات التي أوردها ابن جرير وابن كثير ـ والمختار عندنا في تفسير الآية أن
الشيطان ألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبهم .. .
والخلاصة : أننا
بمراجعتنا لأقوال المفسرين في كيفية تزيين الشيطان للمشركين ، تراهم ينقسمون إلى
ثلاثة أقسام :
(أ) قسم منهم ذكر
القولين السابقين في كيفية التزيين دون أن يرجح أحدهما على الآخر ، وممن فعل ذلك
الزمخشري ، والفخر الرازي والآلوسى.
(ب) وقسم منهم سار
في تفسيره على أن التزيين كان حسيا ، بمعنى أن الشيطان تمثل للمشركين في صورة
إنسان وقال لهم ما قال ، وأهمل القول بأن التزيين لم يكن حسيا ، وممن فعل ذلك ابن
جرير ، وابن كثير ، والقرطبي.
(ج) وقسم منهم رجح
أن التزيين لم يكن حسيا ، بل كان عن طريق الوسوسة ، وأن الشيطان ما تمثل للمشركين
في صورة إنسان ، وقد سار في هذا الاتجاه صاحب المنار مشككا في صحة ما سواه.
__________________
والذي نراه بعد
هذا العرض لأقوال المفسرين : أن الآية الكريمة صريحة في أن الشيطان قد زين
للمشركين أعمالهم ، وأنه قد قال لهم ـ ما حكاه القرآن عنه : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ
النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) وأنه حين تراءى الجمعان كذب فعله قوله ، فقد (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) وقال للمشركين الذين وعدهم ومناهم بالنصر (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما
لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).
ومن العسير علينا
بعد ذلك أن نحدد تحديدا قاطعا كيفية هذا التزيين والقول والنكوص : أهو حسى أم غير
حسى ؛ لأن التحديد القاطع لا بد أن يستند إلى نص صريح في دلالته على المعنى المراد
، وصحيح في نسبته إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وهذا النص غير
موجود ، لأن الحديث الذي أخرجه الإمام مالك في موطئه ـ والذي سبق أن ذكرناه ـ قال
عنه ابن كثير وابن حجر إنه حديث مرسل ، وزيادة على ذلك ففي بعض رجاله من هو ضعيف
الحديث كابن الماجشون ، ولأن الروايات التي رويت في تمثيل الشيطان بصورة سراقة قد
جاء معظمها عن ابن عباس ، وابن عباس ـ كما يقول صاحب المنار ـ كان سنه يوم بدر خمس
سنين. فروايته لأخبارها منقطعة.
إذا فنحن نؤمن بما
أثبته القرآن من أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم ، وأنه قد قال لهم ما قاله ـ مما
حكاه القرآن عنه ـ ، وأنه قد نكص على عقبيه .. إلا أننا لا نستطيع أن نحدد كيفية
ذلك.
ويعجبني في هذا
المقام قول بعض الكاتبين عند تفسيره لهذه الآية : «وفي هذا الحادث نص قرآنى يثبت
منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم ، وشجعهم على الخروج ... وأنه بعد ذلك «نكص على
عقبيه ..» فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم.
ولكننا لا نعلم
الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم والتي قال لهم بها : لا غالب لكم اليوم من الناس
... والتي نكص بها كذلك.
الكيفية فقط هي
التي لا نجزم بها. ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ، ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء من
أمره إلا بنص قرآنى أو حديث نبوي صحيح ، والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت
الحادث.
فإلى هنا ينتهى
اجتهادنا ، ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في محاولة تأويل
كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفى الحركة الحسية عن هذه العوالم ، وذلك
كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية.
(وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ...) واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان
لهؤلاء المشركين
أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم : لا غالب لكم اليوم من الناس ...
إلخ ما ذكره الشيخ رشيد في تفسير الآية .
هذا ، وقوله ـ تعالى
ـ بعد ذلك : (إِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ..) بيان لصنفين آخرين من أعداء المسلمين بعد بيان العدو
الرئيسى وهم المشركون الذين خرجوا بطرا ورئاء الناس لمحاربة الإسلام وقد شجعهم
الشيطان على ذلك.
قال الفخر الرازي
: أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج ـ كانوا يظهرون الإسلام ويخفون الكفر
ولم يخرج منهم أحد إلى بدر سوى عبد الله بن أبى ـ وأما الذين في قلوبهم مرض فهم
قوم من قريش أسلموا ولم يهاجروا.
ثم إن قريشا لما
خرجوا لحرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال أولئك : نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا
إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا ..
وعامل الإعراب في «إذ»
فيه وجهان : الأول : التقدير ، والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون» ..
والثاني : اذكروا
إذ يقول المنافقون ..» .
وقوله : (غَرَّ) أى : خدع ، من الغرور وهو كل ما يغر الإنسان من مال وجاه
وشهرة وشيطان.
أى : اذكروا ـ أيها
المؤمنون ـ وقت أن قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم : أى
خدعهم ، لأنكم أقدمتم على قتال قوم يفوقونكم عدة وعددا ، وهذا القتال ـ في زعمهم ـ
لون من إلقاء النفس إلى التهلكة ، لأنهم قوم لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب
الهزيمة ، فهم لخراب بواطنهم من العقيدة السليمة ، لا يعرفون أثرها في الإقدام من
أجل نصرة الحق ولا يقدرون ما عليه أصحابها من صلة طيبة بالله ـ عزوجل ـ الذي بيده النصر والهزيمة ..
وماداموا قد فقدوا
تلك المعرفة ، وهذا التقدير ، فلا تستبعدوا منهم ـ أيها المؤمنون ـ أن يقولوا هذا
القول عنكم ، فذلك مبلغهم من العلم ، وتلك موازينهم في قياس الأمور ...
والحق ، أن
الإنسان عند ما يتدبر ما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض في حق المؤمنين عند
ما أقدموا على حرب أعدائهم في بدر ...
__________________
أقول : عند ما
يتدبر ذلك ليرى أن هذا القول دأب كل المنافقين والذين في قلوبهم مرض في كل زمان
ومكان.
إننا في عصرنا
الحاضر رأينا كثيرين من أصحاب العقيدة السليمة ، والنفوس النقية ، والقلوب المضحية
بكل شيء في سبيل نصرة الحق .. رأينا هؤلاء يبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحدا
سواه ويهاجمون الطغاة والمبطلين والفجار ، ليمكنوا لدين الله في الأرض ، حتى ولو
أدت بهم هذه المهاجمة إلى بذل أرواحهم.
ورأينا في مقابل
هؤلاء الصادقين أقواما ـ ممن آثروا شهوات الدنيا على كل شيء ـ لا يكتفون بالصمت
وهم يشاهدون أصحاب العقيدة السليمة يصارعون الطغاة.
بل هم ـ بسبب خلو
نفوسهم من المثل العليا ـ يلقون باللوم على هؤلاء المؤمنين ، ويقولون ما حكاه
القرآن من أقوال في أشباههم السابقين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض : غر
هؤلاء دينهم.
إنهم لا يدركون
الأمور ببصيرة المؤمن ، ولا يزنونها بميزان الإيمان.
إن المؤمن يرى
التضحية في سبيل الحق مؤدية إلى إحدى الحسنين النصر أو الشهادة.
أما هؤلاء
المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، فلا يرون الحياة إلا متعة وشهوة وغنيمة (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ
لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) .
وقوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) حض للمؤمنين على التمسك بما يدعوهم إليه إيمانهم من
استقامة وقوة ..
أى : ومن يكل أمره
إلى الله ، ويثق به ـ ينصره ـ سبحانه ـ على أعدائه ، فإنه ـ عزوجل ـ عزيز لا يغلبه شيء ، حكيم فيما يدبر من أمر خلقه.
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الكريمة ، قد صورت تصويرا بديعا ما عليه الكافرون وأشباههم من بطر ومفاخرة
وصد عن سبيل الله .. ومن طاعة للشيطان أوردتهم المهالك.
وحكت ما قالوه من
أقوال تدل على جبنهم وجهلهم وانطماس بصيرتهم.
ونهت المؤمنين عن
التشبه بهم ، لأن البطر والمفاخرة والبغي ، واتباع الشيطان : كل ذلك يؤدى إلى خزي
الدنيا وعذاب الآخرة.
ولقد كان أبو جهل
قمة في البغي والبطر والمراءاة عند ما قال ـ بعد أن نصحه الناصحون
__________________
بالرجوع عن الحرب
فقد نجت العير : «لا لن نرجع حتى نرد بدرا ، فنقيم ثلاثا ، ننحر الجزر ، ونشرب
الخمر ، وتعزف القيان علينا ، فلن تزال العرب تهابنا أبدا».
وعند ما بلغت
مقالة أبى جهل أبا سفيان قال : «وا قوماه!! هذا عمل عمرو بن هشام «يعنى أبا جهل»
كره أن يرجع ؛ لأنه ترأس على الناس فبغى ، والبغي منقصة وشؤم. إن أصاب محمد النفير
ذللنا».
وصدقت فراسة أبى
سفيان ، فقد أصاب محمد صلىاللهعليهوسلم النفير وتسر بل المشركون بالذل والهوان في بدر بسبب بطرهم
وريائهم وصدهم عن سبيل الله ، واتباعهم لخطوات الشيطان.
فاللهم نسألك أن
توفقنا إلى ما يرضيك ، وأن تجنبنا البطر والرياء وسوء الأخلاق.
وبعد هذا البيان
لأحوال الكافرين في حياتهم ؛ انتقل القرآن لبيان أحوالهم عند مماتهم.
فقال ـ تعالى ـ :
(وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٥١)
والخطاب في قوله ـ
تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى ..) للنبي صلىاللهعليهوسلم أو لكل من يصلح للخطاب و (لَوْ) شرطية ، وجوابها محذوف لتفظيع الأمر وتهويله.
والمراد بالذين
كفروا : كل كافر ، وقيل المراد بهم قتلى غزوة بدر من المشركين.
قال ابن كثير :
وهذا السياق وإن كان سببه غزوة بدر ، ولكنه علم في حق كل كافر. ولهذا لم يخصصه
الله بأهل بدر بل قال ـ سبحانه ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ ...) .
والفعل المضارع
هنا وهو (تَرى) بمعنى الماضي ، لأن لو الامتناعية ترد المضارع ماضيا.
والفعل (يَتَوَفَّى) فاعله محذوف للعلم به وهو الله ـ عزوجل ـ وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول وعليه يكون : (الْمَلائِكَةُ) مبتدأ ، وجملة (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ ...)
خبر.
__________________
والمعنى ولو عاينت
وشاهدت أيها العاقل حال الذين كفروا حين يتوفى الله أرواحهم ، لعاينت وشاهدت منظرا
مخيفا ، وأمرا فظيعا تقشعر من هوله الأبدان.
ثم فصل الله ـ سبحانه
ـ هذا المنظر المخيف بجملة مستأنفة فقال : (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) والمراد بوجوههم : ما أقبل منهم وبأدبارهم : ما أدبر وهو
كل الظهر.
أى : الملائكة عند
ما يتوفى الله ـ تعالى ـ هؤلاء الكفرة يضربون ما أقبل منهم وما أدبر ، لإعراضهم عن
الحق ، وإيثارهم الغي على الرشد.
ومنهم من يرى أن
الفعل (يَتَوَفَّى) فاعله (الْمَلائِكَةُ) وأن قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول وقدم على الفاعل للاهتمام به.
وعليه تكون جملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ..) حال من الفاعل وهو الملائكة.
فيكون المعنى :
ولو رأيت ـ أيها العاقل ـ حال الكافرين عند ما تتوفى الملائكة أرواحهم فتضرب منهم
الوجوه والأدبار ، لرأيت عندئذ ما يؤلم النفس ، ويخيف الفؤاد.
ويبدو لنا أن
التفسير الأول أبلغ ، لأن توضيح وتفصيل الرؤية بالجملة الاسمية المستأنفة خير منه
بجملة الحال ، ولأن إسناد التوفي إلى الله أكثر مناسبة هنا ، إذ أن الله ـ تعالى ـ
قد بين وظيفة الملائكة هنا فقال : (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ).
وخص ـ سبحانه ـ الضرب
للوجوه والأدبار بالذكر ، لأن الوجوه أكرم الأعضاء ، ولأن الأدبار هي الأماكن التي
يكره الناس التحدث عنها فضلا عن الضرب عليها. أو لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد
وأعظم.
وقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) معطوف على قوله (يَضْرِبُونَ) بتقدير القول. أى يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم :
ذوقوا عذاب تلك النار المحرقة التي كنتم تكذبون بها في الدنيا.
والذوق حقيقة
إدراك المطعومات. والأصل فيه أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه.
والتعبير به هنا
عن ذوق العذاب هو لون من التهكم عليهم ، والاستهزاء بهم ، كما في قوله ـ تعالى ـ :
(فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وهو أيضا يشعر بأن ما وقع عليهم من عذاب إنما هو بمنزلة
المقدمة لما هو أشد منه ، كما أن الذوق عادة يكون كالمقدمة للمطعوم أو الشيء المذاق.
وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ
وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) بيان للأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ. وأنهم هم
الذين جنوا على أنفسهم بشؤم صنيعهم ، وانقيادهم للهوى والشيطان.
أى : ذلك الذي نزل
بكم ـ أيها الكافرون ـ من الضرب وعذاب النار ، سببه ما قدمته أيديكم من عمل سىء ،
وفعل قبيح ، وقول منكر ، وجحود للحق. وأن الله ـ تعالى ـ ليس بذي ظلم لكم ولا
لغيركم ، لأن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت ألا يعذب أحدا إلا بسبب ذنب ارتكبه ، وجرم
اقترفه.
فاسم الإشارة «ذلك»
يعود إلى الضرب وعذاب الحريق ، وهو مبتدأ ، وخبره قوله (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).
والمراد بالأيدى :
الأنفس والذوات. والتعبير بالأيدى عن ذلك من قبيل التعبير بالجزء عن الكل.
وخصت الأيدى
بالذكر ، للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته ، وأن أكثر الأفعال يكون عن طريق
البطش بالأيدى. ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به ، والاتصال بذاته.
وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما
قبله.
أى : ذلك الذي نزل
بكم سببه ما قدمته أيديكم ، والأمر أن الله ـ تعالى ـ ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب
جنوه.
ويجوز أن يكون
معطوفا على (ما) المجرورة بالباء. أى : ذلك بسبب ما قدمته أيديكم وأن الله ليس
بظلام للعبيد.
قال بعض العلماء :
فإن قيل ما سر التعبير بقوله (بِظَلَّامٍ) بالمبالغة ، مع أن نفى نفس الظلم أبلغ من نفى كثرته ، ونفى
الكثرة لا ينفى أصله ، بل ربما يشعر بوجوده ، وبرجوع النفي للقيد؟.
وأجيب بأجوبة :
منها : أنه نفى
لأصل الظلم وكثرته ، باعتبار آحاد من ظلم ، كأنه قيل ظالم لفلان ولفلان وهلم جرا ،
فلما جمع هؤلاء عدل إلى (بِظَلَّامٍ) لذلك ، أى : لكثرة الكمية فيه.
ومنها : أنه إذا
انتفى الظلم الكثير ، انتفى الظلم القليل ، لأن من يظلم للانتفاع بالظلم ، فإذا
ترك كثيره ، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة
نفعه أكثر تركا.
ومنها : أن «ظلاما»
للنسب كعطار ، أى : لا ينسب إليه الظلم أصلا.
ومنها : أن كل صفة
له ـ تعالى ـ في أكمل المراتب ، فلو كان ـ سبحانه ـ ظالما ، كان ظلاما ، فنفى
اللازم نفى للملزوم.
ومنها : أن نفى
الظلام لنفى الظالم ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله ، فجعل نفى المبالغة
كناية عن نفى أصله ، انتقالا من اللازم إلى الملزوم.
ومنها : أن العذاب
من العظم بحيث لو لا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه ،
فالمراد تنزيهه ـ تعالى ـ وهو جدير بالمبالغة.
وفي صحيح مسلم عن
أبى ذر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن الله ـ تعالى ـ يقول : «يا عبادي إنى حرمت الظلم على
نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا» .
وبذلك نرى أن
هاتين الآيتين قد بينتا حالة المشركين عند قبض أرواحهم بيانا يحمل النفوس على
الإيمان والطاعة لله ـ تعالى ـ فقد رسم القرآن صورة مفزعة لهم ، صورة الملائكة وهي
تضرب وجوههم وأدبارهم بأمر من الله ـ تعالى ـ الذي ما ظلمهم ، ولكنهم هم الذين
أحلوا بأنفسهم هذا المصير المؤلم المهين ، حيث كفروا بالحق ، وحاربوا أتباعه ،
واستحبوا العمى على الهدى ثم بين سبحانه ـ أن هؤلاء الكافرين عادتهم في كفرهم
وطغيانهم كعادة من سبقهم من الأمم الظالمة وإن من سنة الله تعالى ـ في خلقه ألا
يعاقب إلا بذنب ، وألا يغير النعمة إلا لسبب. فقال ـ تعالى :
(كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ
اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)
كَدَأْبِ
آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ
فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا
ظالِمِينَ)(٥٤)
__________________
والكاف في قوله : (كَدَأْبِ) ، للتشبيه ، والجار والمجرور في موضع رفع خبر لمبتدأ
محذوف.
والدأب : أصله
الدوام والاستمرار ، يقال : دأب فلان على كذا يدأب دأبا ـ بفتح الهمزة ـ ودأبا ـ بسكونها
ـ ودؤوبا ، إذا داوم عليه وجد فيه ، ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة ،
لأن الذي يستمر في عمل أمدا طويلا يصير هذا العمل عادة من عاداته ، وحالا من
أحواله ، فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
والآل ـ كما يقول
الراغب ـ مقلوب عن الأهل ، ويصغر على أهيل ، إلا أنه خص بالإضافة إلى أعلام
الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال : آل فلان ، ولا يقال : آل رجل ،
ولا يقال : آل الحجام .. بل يضاف إلى الأشرف والأفضل يقال : آل الله ، وآل السلطان
، والأهل يضاف إلى الكل ، فيقال : أهل الله ، وأهل الحجام ، وأهل زمان كذا .. .
والمقصود بآل
فرعون : هو وأعوانه وبطانته ، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاصا
بالمضاف إليه.
والمعنى : شأن
هؤلاء الكافرين الذين حاربوك يا محمد ، والذين هلك منهم من هلك في بدر ، شأنهم
وحالهم وعادتهم فيما اقترفوه من الكفر والعصيان وفيما فعل بهم من عذاب وخذلان ،
كشأن آل فرعون الذين استحبوا العمى على الهدى ، والذين زينوا له الكفر والطغيان
حتى صار عادة له ولهم ، وقد أخذهم ـ سبحانه ـ أخذ عزيز مقتدر ، بسبب كفرهم
وفجورهم.
وقد خص ـ سبحانه ـ
فرعون وآله بالذكر من بين الأمم الكافرة ، لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانا ،
وأكثرهم غرورا وبطرا ، وأكثرهم في الاستهانة بقومه وفي الاحتقار لعقولهم وكيانهم.
ألم يقل لهم ـ كما
حكى القرآن عنه ـ (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى) .
وألم يبلغ به
غروره أن يقول لهم : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) ؟.
أما آله وبطانته
وأعوانه ، فهم الذين زينوا له السوء ، وحرضوه على البطش بموسى لأنه
__________________
جاءهم بالحق ،
ولقد حكى الله عنهم نفاقهم وضلالهم وانغماسهم في الآثام في آيات كثيرة ، ومن ذلك
قوله ـ تعالى ـ : (وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) .
ولقد وصف الله ـ تعالى
ـ قوم فرعون بهوان الشخصية ، وتفاهة العقل ، والخروج عن كل مكرمة فقال : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) وذلك لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته يعيثون في الأرض
فسادا ، لا تستحق الحياة ، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران.
وقوله (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) تفسير لصنيعهم الباطل ، ودأبهم على الفساد والضلال.
والمراد بآيات
الله : ما يعم المتلوة في كتب الله ـ تعالى ـ ، والبراهين والمعجزات الدالة على
صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم.
وفي إضافتها إلى
الله : تعظيم لها وتشريف ، وتنبيه إلى قوة دلالتها على الحق والخير.
وقوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) معطوف على قوله (كَفَرُوا بِآياتِ
اللهِ) لبيان ما ترتب على كفرهم من عقوبات أليمة.
وفي التعبير
بالأخذ إشارة إلى شدة العذاب ، فهو ـ سبحانه ـ قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذي لا
يستطيع الفكاك من آسره.
والباء في قوله : (بِذُنُوبِهِمْ) للسببية أى كفروا بآيات الله فعاقبهم ـ سبحانه ـ بسبب
كفرهم وفسوقهم عن أمره.
ويجوز أن تكون
للملابسة ، أى : أخذهم وهم ملتبسون بذنوبهم دون أن يثوبوا منها ، أو يقلعوا عنها.
وعلى الوجهين
فالجملة الكريمة تدل على كمال عدل الله ـ تعالى ـ لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم
استحقوا العقاب.
والمراد بذنوبهم :
كفرهم وما ترتب عليه من فسوق وعصيان ، وأصل الذنب : الأخذ بذنب الشيء أى بمؤخرته ،
ثم أطلق على الجريمة ، لأن مرتكبها يعاقب بعدها.
وقوله : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ الشديد ، بسبب الكفر
والمعاصي.
__________________
أى : إن الله ـ تعالى
ـ قوى لا يغلبه غالب ، ولا يدفع قضاءه دافع ، شديد عقابه لمن كفر بآياته ، وفسق عن
أمره.
وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ
...)
بيان لسنة من سننه
ـ تعالى ـ في خلقه ، وتعليل لتعذيب أولئك الكفار ، ولسلب نعمه عنهم وعن أشباههم من
العصاة والجاحدين واسم الإشارة : (ذلِكَ) يعود إلى تعذيب الكفرة المعبر عنه بقوله ـ تعالى ـ (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ).
وهو ، أى : اسم
الإشارة مبتدأ ، وخبره قوله ـ سبحانه ـ (بِأَنَّ اللهَ لَمْ
يَكُ مُغَيِّراً ..)
إلخ.
والمعنى : ذلك
الذي نزل بهؤلاء الكفرة من التعذيب والخذلان عدل إلهى ، فقد جرت سنته ـ سبحانه ـ في
خلقه ، واقتضت حكمته في حكمه ألا يبدل نعمه بنقم إلا بسبب ارتكاب الذنوب ، واجتراح
السيئات ، فإذا لم يتلق الناس نعمه ـ عزوجل ـ بالشكر والطاعة ، وقابلوها بالكفر والعصيان ، بدل نعمتهم
بنقم جزاء وفاقا.
وشبيه بهذا قوله ـ
تعالى ـ في آية أخرى : (إِنَّ اللهَ لا
يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) .
قال الفخر الرازي
: قال القاضي : معنى الآية أنه ـ تعالى ـ أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة
الموانع وتسهيل السبل ، والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ، ويعدلوا عن الكفر ،
فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر ، فقد غيروا نعمة الله ـ تعالى ـ على
أنفسهم ، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن.
قال : وهذا من
أوكد ما يدل على أنه ـ تعالى ـ لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة .
وقال صاحب الكشاف
: «فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم ،
ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة؟.
قلت : كما تغير
الحال المرضية إلى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأولئك كانوا قبل
بعثة الرسول صلىاللهعليهوسلم إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات البينات
فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت ،
فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب .
__________________
وقوله : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) معطوف على قوله : (بِأَنَّ اللهَ لَمْ
يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً ..)
إلخ.
أى : ذلك التعذيب
بسبب جحودهم للنعم ، وبسبب أنه ـ سبحانه ـ سميع لما نطقوا به من سوء ، وعليم بما
ارتكبوه من قبائح ومنكرات ، وقد عاقبهم على ذلك بما يستحقون من عذاب : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
ما عليه المشركون من جحود وغرور وعناد على سبيل التأكيد والتوبيخ فقال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ،
وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ ، وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ).
أى : أن شأن هؤلاء
المشركين الذين حاربوك يا محمد ، كشأن آل فرعون ومن تقدمهم من الأقوام السابقة ،
كقوم نوح وقوم هود .. ، كذب أولئك جميعا بآيات ربهم التي أوجدها ـ سبحانه ـ لهدايتهم
وسعادتهم .. فكانت نتيجة ذلك أن أهلكهم ـ سبحانه ـ بسبب ما ارتكبوه من ذنوب ،
وبسبب استعمالهم النعم في غير ما خلقت له.
(وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ) الذين زينوا له الكفر والبطر والطغيان.
(وَكُلٌّ كانُوا
ظالِمِينَ) أى : وكل من الأقوام المذكورين ومن على شاكلتهم في الكفر
والضلال ، كانوا ظالمين لأنفسهم بكفرهم ، ولأنبيائهم بسبب محاربتهم لهم ، وإعراضهم
عنهم مع أن الأنبياء ما جاءوا إلا لهدايتهم.
وجمع الضمير في (كانُوا) و (ظالِمِينَ) مراعاة لمعنى (كُلٌ) لأنها متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاة لفظها تارة ،
ومراعاة معناها أخرى ، واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل.
قال الجمل : فإن
قلت : ما الفائدة من تكرير هذه الآية مرة ثانية؟.
قلت : فيها فوائد
منها : أن الكلام الثاني يجرى مجرى التفصيل للكلام الأول ، لأن الآية الأولى فيها
ذكر أخذهم ، والثانية ذكر إغراقهم فذلك تفسير للأول.
ومنها : أنه ذكر
في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ،
ففي الآية إشارة إلى أنهم كفروا بآيات الله وجحدوها ، وفي الثانية إشارة إلى أنهم
كذبوا بها مع جحودهم لها ، وكفرهم بها.
ومنها : أن تكرير
هذه القصة للتأكيد .
__________________
وبعد ، فإن
المتدبر في هذه الآيات الكريمة ، يراها تصور تصويرا واضحا سنة من سنن الله في خلقه
، وهي أنه ـ سبحانه ـ لا يسلب نعمه عن قوم إلا بسبب ذنوب اقترفوها ، وأنه ـ تعالى
ـ لا ينزل عقوباته بهم إلا بعد لجاجهم في طغيانهم ، وإدبارهم عن نصح الناصحين.
ورحم الله الأستاذ
الإمام محمد عبده فقد كتب مقالا جيدا صدره بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ
..).
ومما جاء في هذا
المقال قوله : تلك آيات الكتاب الحكيم ، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
أرشدنا ـ سبحانه ـ
إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها ، ولا بادت ومحى اسمها من لوح الوجود إلا بعد
نكوبها عن تلك السنن التي سنها ـ سبحانه ـ على أساس الحكمة البالغة ، إن الله لا
يغير ما بقوم من عز وسلطان ، ورفاعة وخفض عيش ، وأمن وراحة حتى يغير أولئك ما
بأنفسهم من نور العقل ، وصحة الفكر ، وإشراق البصيرة ، والاعتبار بأفعال الله في
الأمم السابقة ، والتدبر في أحوال الذين حادوا عن صراط الله فهلكوا ، أو حل بهم
الدمار. ثم لعدولهم عن سنة العدل ، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة ، حادوا عن
الاستقامة في الرأى ، والصدق في القول ، والسلامة في الصدر ، والعفة عن الشهوات ،
والحمية على الحق ، والقيام بنصرته والتعاون على حمايته .. خذلوا العدل ولم يجمعوا
همهم على إعلاء كلمته ، واتبعوا الأهواء الباطلة ، وانكبوا على الشهوات الفانية ..
فأخذهم بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله
بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها.
سنة ثابتة لا
تختلف باختلاف الأمم ، ولا تتبدل بتبدل الأجيال ، كسنته ـ سبحانه ـ في الخلق
والإيجاد ، وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال ..» .
وبعد أن شرح ـ سبحانه
ـ أحوال المهلكين من شرار الكفرة ، شرع في بيان أحوال الباقين منهم ، وتفصيل
أحكامها ، فقال ـ تعالى :
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ
مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ
__________________
وَهُمْ
لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)(٥٩)
قال الفخر الرازي
: اعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف كل الكفار بقوله : (وَكُلٌّ كانُوا
ظالِمِينَ) أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أى : في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :
الأولى : الكافر
الذي يكون مستمرا على كفره مصرا عليه ...
الثانية : أن يكون
ناقضا للعهد على الدوام ...
قال ابن عباس : هم
بنو قريظة ، فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ، ثم قالوا :
أخطأنا ، فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضا يوم الخندق ... .
والدواب : جمع
دابة. وهي كل ما يدب على الأرض قال ـ تعالى ـ (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ ..) .
قال الجمل :
وإطلاق الدابة على الإنسان إطلاق حقيقى ، لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على
كل حيوان ولو آدميا. وفي المصباح : «الدابة كل حيوان في الأرض مميزا وغير مميز» .
والمعنى : إن شر ،
ما يدب على الأرض (عِنْدَ اللهِ) أى : في حكمه وقضائه (الَّذِينَ كَفَرُوا) أى : الذين أصروا على الكفر ولجوا فيه.
وقد وصفهم ـ سبحانه
ـ بأنهم شر الدواب لا شر الناس ، للإشعار بأنهم بمعزل عما يتحلى
__________________
به الناس من تعقل
وتدبر للأمور ، لأن لفظ الدواب وإن كان يطلق على الناس ، إلا أنه عند إطلاقه عليهم
يلقى ظلا خاصا يجعل العقول تتجه إلى أن هؤلاء الذين أطلق عليهم اللفظ هم إلى
الدواب التي لا تعقل أقرب منهم إلى الآدميين العقلاء ، وفي وصفه ـ سبحانه ـ لهم
بأنهم شر الدواب زيادة توبيخ لهم ، لأنهم ليسوا دواب فحسب بل هم شرها وأخسها.
وقوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) تذييل جيء به على وجه الاعتراض بالبيان أى : أنهم ـ بسبب
إصرارهم على الكفر ـ صار الإيمان بعيدا عنهم ، وأنهم سواء أنذروا أو لم ينذروا
مستمرون في الضلال والعناد.
وقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ..) بدل من الموصول الأول وهو قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أو عطف بيان له.
أى : إن شر الدواب
عند الله الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه ، الذين (عاهَدْتَ مِنْهُمْ) أى : أخذت منهم عهدهم ، ثم ينقضون عهدهم في كل مرة دون أن
يفوا بعهودهم ولو مرة واحدة من المرات المتعددة.
فقوله : (عاهَدْتَ) مضمن معنى الأخذ ، ولذا عدى بمن.
قال الآلوسى :
قوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ
مِنْهُمْ ..) بدل من الموصول الأول ، أو عطف بيان ، أو نعت ، أو خبر
مبتدأ محذوف ، أو نصب على الذم ، وعائد الموصول قيل : ضمير الجمع المجرور ،
والمراد : عاهدتهم ، ومن للإيذان بأن المعاهدة ـ التي هي عبارة عن إعطاء العهد
وأخذه من الجانبين ـ معتبرة هنا من حيث أخذه صلىاللهعليهوسلم ، إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض ، لا إعطاؤه ـ عليه
الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل : الذين أخذت منهم عهدهم ، وقال أبو حيان :
تبعيضية ، لأن المباشر بعضهم لا كلهم ..» .
وقوله : (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ
مَرَّةٍ) معطوف على الصلة.
وكان العطف «بثم»
المفيدة للتراخي ، للإيذان بالتفاوت الشديد بين ما أخذ عليهم من عهود ، وبين ما تردوا
فيه من نقض لها ، واستهانة بها.
وجيء بصيغة
المضارع (يَنْقُضُونَ) المفيدة للحال والاستقبال ، للدلالة على تعدد النقض وتجدده
، وأنهم على نيته في كل مرة يعاهدون فيها غيرهم.
وقوله : (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) في موضع الحال من فاعل (يَنْقُضُونَ).
أى : أن هؤلاء القوم
دأبهم نقض العهود والمواثيق في كل وقت ، ومع ذلك فحالهم وشأنهم
__________________
أنهم لا يشعرون
خلال نقضهم للعهود بأى تحرج أو خجل ، بل يرتكبون ما يرتكبون من المنكرات دون أن
يتقوا عارها ، أو يخشوا سوء عاقبتها.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء الناقضين لعهودهم في كل مرة بدون حياء أو تدبر
للعواقب فقال : (فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) فالفاء في قوله (فَإِمَّا) لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
وقوله : (تَثْقَفَنَّهُمْ) من الثقف بمعنى الحذق في إدراك الشيء وفعله.
قال الراغب : يقال
ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ، ثم يتجوز فيه فيستعمل في الإدراك وإن
لم تكن معه ثقافته.
قال ـ تعالى ـ (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) .
وقوله : (فَشَرِّدْ بِهِمْ) التشريد وهو عبارة عن التفريق مع الاضطراب ، يقال شردت بنى
فلان ، أى : قلعتهم عن مواطنهم وطردتهم عنها حتى فارقوها قال الشاعر :
أطوف في الأباطح
كل يوم
|
|
مخافة أن يشرد
بي حكيم
|
أى : مخافة أن
يسمع بي ويطردنى حكيم ، وحكيم رجل من بنى سليم كانت قريش قد ولته الأخذ على أيدى
السفهاء.
والمعنى : إنك يا
محمد إذا ما أدركت في الحرب هؤلاء الكافرين الناقضين لعهودهم وظفرت بهم ـ وهم بنو
قريظة ومن لف لفهم ـ .. فافعل بهم فعلا من القتل والتنكيل يتفرق معه جمع كل ناقض
للعهد ، ويفزع منه كل من كان على شاكلتهم في الكفر ونقض العهود ، ويعتبر به كل من
سمعه من أهل مكة وغيرهم.
فالباء في قوله (فَشَرِّدْ بِهِمْ) للسببية ، وقوله (مَنْ خَلْفَهُمْ) مفعول شرد.
والمراد بمن خلفهم
: كفار مكة وغيرهم من الضالين ، أى : افعل ببني قريظة ما يشرد غيرهم خوفا وفزعا.
وقوله (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أى : لعل أولئك المشردين يتعظون بهذا القتل والتنكيل الذي
نزل بهؤلاء الناقضين لعهودهم في كل مرة ، فيمنعهم ذلك عن نقض العهد.
هذا ، وإن تلك
الآية الكريمة لمن أحكم الآيات التي ترشد المؤمنين إلى وجوب أخذ المستمرين على
كفرهم وعنادهم ونقضهم العهود أخذا شديدا رادعا .. حتى يبقى للمجتمع الإسلامى أمانه
واستقراره وهيبته أمام أعدائه.
__________________
إن الآية الكريمة
ترسم صورة بديعة للأخذ المفزع ، والهول المرعب ، الذي يكفى السماع به للهرب
والشرود ، فما بال من يحل به هذا الأخذ الشديد؟
إنها الضربة
المروعة ، يأمر الله ـ تعالى ـ رسوله أن ينزلها على رأس كل مستحق لها بسبب كفره
وتلاعبه بالعهود .. وبذلك تبقى لدين الله هيبته وسطوته.
هذا هو حكم
المصرين على كفرهم الناقضين لعهودهم .. أما الذين تخشى منهم الخيانة فقد بين ـ سبحانه
ـ حكمهم بقوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْخائِنِينَ).
وقوله : (تَخافَنَ) من الخوف والمراد به هنا العلم.
وقوله : (فَانْبِذْ) من النبذ بمعنى الطرح ، وهو مجاز عن إعلامهم بأنهم لا عهد
لهم بعد اليوم ، فشبه ـ سبحانه ـ العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه ، وثبت
النبذ له على سبيل التخييل ، ومفعول «فانبذ» محذوف أى : فانبذ إليهم عهودهم.
قال الجمل : وقوله
: (عَلى سَواءٍ) حال من الفاعل والمفعول معا ، أى : فاعل الفعل وهو ضمير
النبي صلىاللهعليهوسلم ومفعوله وهو المجرور بإلى.
أى : حال كونكم
مستوين في العلم بطرح العهد. فعلمك أنت به لأنه فعل نفسك ، وعلمهم به بإعلامك
إياهم ، فكأنه قيل في الآية : فانبذ عهدهم وأعلمهم بنبذه ، ولا تقاتلهم بغتة لئلا
يتهموك بالغدر وليس هذا من شأنك ولا من صفاتك» .
والمعنى : وإما
تعلمن ـ يا محمد ـ من قوم بينك وبينهم عهد أنهم على وشك نقضه منهم ، بأمارات تلوح
لك تدل على غدرهم ، فاطرح إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر : بأن تعلمهم بنبذك
عهدهم قبل أن تحاربهم ، حتى تكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد سواء ، لأن الله ـ تعالى
ـ لا يحب الخائنين وإن من مظاهر الخيانة التي يبغضها الله ـ تعالى ـ أن يحارب أحد
المتعاهد معه دون أن بعلمه بإنهاء عهده.
قال ابن كثير :
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن أبى الفيض عن سليم بن
عامر قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب منها ،
حتى إذا انقضى العهد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر الله أكبر ، وفاء
لا غدرا : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ، ولا
يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء».
__________________
قال : فبلغ ذلك
معاوية فرجع ، فإذا بالشيخ عمرو بن عيسة.
ثم قال ابن كثير ،
وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة ، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي
وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة به ، وقال الترمذي حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد
عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما
رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منكم فهداني الله إلى
الإسلام ؛ فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا
الجزية وأنتم صاغرون فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين ،
يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون
الله» .
وقال الفخر الرازي
: قال أهل العلم : آثار نقض العهد إذا ظهرت ، فإما أن تظهر ظهورا محتملا ، أو
ظهورا مقطوعا به.
فإن كان الأول :
وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية ، وذلك لأن بنى قريظة عاهدوا النبي صلىاللهعليهوسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على
رسول الله ، فحصل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خوف الغدر منهم به وأصحابه ، فهنا يجب على الإمام أن ينبذ
إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب.
أما إذا ظهر نقض
العهد ظهورا مقطوعا به ، فهنا لا حاجة إلى نبذ العهد ، وذلك كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأهل مكة ، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة
النبي صلىاللهعليهوسلم وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران ، وذلك على أربعة
فراسخ من مكة .
أى : أنهم لم
يعلموا بجيش رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي جاء لمحاربتهم إلا بعد وصوله إلى هذا المكان.
وبذلك ترى أن
تعاليم الإسلام ترتفع بالبشرية إلى أسمى آفاق الوفاء والشرف والأمان .. وتحقر من
شأن الخيانة والخائنين ، وتتوعدهم بالطرد من رحمة الله ، وبالبعد عن رضوانه
ومحبته.
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه ، وبشر المؤمنين بالنصر فقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ).
__________________
وقوله (يَحْسَبَنَ) من الحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة «يحسبن»
بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء.
وقوله : (يُعْجِزُونَ) من العجز ، وأصله ـ كما يقول الراغب ـ : التأخر عن الشيء
.. ثم صار في التعارف اسما للقصور عن فعل الشيء ، وهو ضد القدرة ... والعجوز سميت
بذلك لعجزها في كثير من الأمور ..» .
والمعنى ـ على
القراءة بالياء ـ : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من
عقابه ، وخلصوا من عذابه .. كلا إن حسبانهم هذا باطل ـ لأنهم لا يعجزون الله ، بل
هو ـ سبحانه ـ قادر على إهلاكهم وتعذيبهم في كل وقت ...
وأن نجاتهم من
القتل أو الأسر في الدنيا لن تنفعهم شيئا من العذاب المهين في الآخرة.
وعلى هذه القراءة
يكون فاعل (يَحْسَبَنَ) قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى : ولا يحسبن الذين
كفروا أنفسهم ، والمفعول الثاني جملة (سَبَقُوا).
وأما على القراءة
الثانية ولا تحسبن فيكون قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) هو المفعول الأول. وجملة (سَبَقُوا) هي المفعول الثاني.
أى : ولا تحسبن ـ أيها
الرسول الكريم ـ أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا بخيانتهم لك ، أو أفلتوا من عقابنا
وصاروا في مأمن منا ... كلا ، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم في
أى وقت نريده فنحن لا يعجزنا شيء ..
وعلى كلتا
القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين في النجاة ، وإقناطهم من
الخلاص ، فكأنه ـ سبحانه ـ يقول لهم : إن من لم يصبه عذاب الدنيا ، فسوف يصيبه
عذاب الآخرة ، ولا مفر له من ذلك مادام قد استحب الكفر على الإيمان ، أما المؤمنون
فلهم من الله ـ تعالى ـ التأييد والنصر وحسن العاقبة.
ثم أمر ـ سبحانه ـ
المؤمنين باعداد وسائل القوة التي بها يصلون إلى النصر ، وإلى بعث الرعب في قلوب
أعدائهم .. فقال ـ عزوجل ـ :
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ
__________________
لا
تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)(٦٠)
وقوله : (وَأَعِدُّوا ..) معطوف على ما قبله ، وهو من الإعداد بمعنى تهيئة الشيء
للمستقبل ، والخطاب لكافة المؤمنين.
والرباط في الأصل
مصدر ربط ، أى شد ، ويطلق ، بمعنى المربوط مطلقا ، وكثر استعماله في الخيل التي
تربط في سبيل الله. فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلى ، أو بملاحظة كون
الرباط مشتركا بين معان أخر كملازمة الثغور ، والمواظبة على الأمر ، فإضافته لأحد
معانيه للبيان.
قال صاحب الكشاف :
والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو
بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ـ يقال نعم الربيط هذا ، لما
يرتبط من الخيل .
والمعنى : عليكم ـ
أيها المؤمنون ـ أن تعدوا لقتال أعدائكم ما تستطيعون إعداده من وسائل القوة على
اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها.
وجاء ـ سبحانه ـ بلفظ
(قُوَّةٍ) منكرا ، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان.
قال الجمل : وقوله
(مِنْ قُوَّةٍ) في محل نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان : أحدهما أنه
الموصول. والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقدير ما استطعتموه حال كونه بعض القوة
، ويجوز أن تكون (مِنْ) لبيان الجنس .
وقوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) معطوف على ما قبله من عطف الخاص على العام.
أى : أعدوا لقتال
أعدائكم ، ما أمكنكم من كل ما يتقوى به عليهم في الحرب ، من نحو : حصون وقلاع
وسلاح. ومن رباط الخيل للغزو والجهاد في سبيل الله.
وخص رباط الخيل
بالذكر من بين ما يتقوى به ، لمزيد فضلها وغنائها في الحرب ، ولأن الخيل كانت
الأداة الرئيسية في القتال في العهد النبوي ، وقوله : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ
وَعَدُوَّكُمْ) بيان للمقصود من الأمر بإعداد ما يمكنهم إعداده من قوة.
__________________
وقوله : (تُرْهِبُونَ) من الرهبة وهي مخافة مع تحرز واضطراب.
والضمير المجرور ـ
وهو قوله (بِهِ) ـ يعود إلى الإعداد المأخوذ من قوله (وَأَعِدُّوا).
أى : أعدوا ما
استطعتم من قوة ، حالة كونكم مرهبين بهذا الإعداد عدو الله وعدوكم ، من كل كافر
ومشرك ومنحرف عن طريق الحق ، وعلى رأس هؤلاء جميعا. كفار مكة الذين أخرجوكم من
دياركم بغير حق ، ويهود المدينة الذين لم يتركوا وسيلة للإضرار بكم إلا فعلوها.
وقوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا
تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) معطوف على ما قبله.
أى : ترهبون بهذا
الإعداد أعداء معروفين لكم ـ كمشركي مكة ويهود المدينة ، وترهبون به أيضا أعداء
آخرين غيرهم أنتم لا تعرفونهم لأنهم يخفون عداوتهم لكم ، ولكن الله ـ تعالى ـ الذي
لا يخفى عليه شيء يعلمهم ، وسيحبط أعمالهم.
وقد اختلف
المفسرون في المراد بهؤلاء الأعداء الذين عبر الله عنهم بقوله لا تعلمونهم الله
يعلمهم ، فمنهم من قال : المراد بهم بنو قريظة ومنهم من قال : المراد بهم أهل فارس
والروم.
ورجح ابن جرير أن
المراد بهم : كفار الجن .. لأن المؤمنين كانوا عالمين بمداراة بنى قريظة وفارس
والروم لهم ... والمعنى ترهبون بذلك الإعداد عدو الله وعدوكم من بنى آدم الذين
علمتم عداوتهم ، وترهبون به جنسا آخر من غير بنى آدم لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم ،
الله يعلمهم دونكم ، لأن بنى آدم لا يرونهم» .
ورجح الفخر الرازي
أن المراد بهم المنافقون ، قال : لأن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ،
ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق بين المسلمين ـ بطرق قد لا تعرف ، فإذا شاهد كون
المسلمين في غاية القوة خافهم وترك الأفعال المذمومة» .
ولعل ما رجحه
الفخر الرازي هو الأقرب إلى الصواب ، لأن عداوة المنافقين للمؤمنين كثيرا ما تكون
خافية ، ويشهد لهذا قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) .
ثم ختم ـ سبحانه ـ
الآية الكريمة بالدعوة إلى الإنفاق في سبيله ، وبشر المنفقين بحسن الجزاء فقال : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي
سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
__________________
أى : (وَما تُنْفِقُوا) ـ أيها المؤمنون ـ (مِنْ شَيْءٍ) قل أو كثر هذا المنفق (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى في وجوه الخيرات التي من أجلّها الجهاد لإعلاء كلمة
الدين (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أى : يصل إليكم عوضه في الدنيا وأجره في الآخرة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أى : لا تنقصون شيئا من العوض أو الأجر.
قالوا : والتعبير
بالظلم ـ مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلما ـ لبيان
كمال نزاهته ـ سبحانه ـ عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه ـ تعالى ـ من
القبائح ، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه ـ تعالى ـ» .
هذا ، ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
١ ـ وجوب إعداد
القوة الحربية للدفاع عن الدين وعن الوطن وعن كل ما يجب الدفاع عنه ، لأن أعداء
الإسلام إذا ما علموا أن أتباعه أقوياء هابوهم ، وخافوا بأسهم ، ولم يجرؤوا على
مهاجمتهم.
قال القرطبي :
وقوله ـ تعالى ـ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ). أمر الله المؤمنين بإعداد القوة للأعداء ، بعد أن أكد
تقدمة التقوى. فإن الله ـ تعالى ـ لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم ،
وبحفنة من تراب ، كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولكن أراد أن يبتلى بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه
النافذ ...» .
وقال بعض العلماء
: دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية ، اتقاء بأس العدو وهجومه ، ولما
عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية أيام حضارة الإسلام ، كان الإسلام عزيزا ، عظيما ،
أبى الضيم ، قوى القنا ، جليل الجاه ، وفير السنا ، إذ نشر لواء سلطته على منبسط
الأرض ، فقبض على ناصية الأقطار والأمصار.
أما اليوم فقد ترك
المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة ، ومالوا إلى النعيم والترف ، فأهملوا فرضا من
فروض الكفاية ، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ، ولذا تعانى اليوم من غصته
ما تعانى.
وكيف لا يطمع
العدو في بلاد الإسلام ، وهو لا يرى فيها معامل للأسلحة ، وذخائر الحرب ، بل كلها
مما يشترى من بلاد العدو؟
أما آن لها أن
تتنبه من غفلتها ، فتعد العدة التي أمر الله بها لأعدائها ، وتتلافى ما فرطت قبل
أن يداهم العدو ما بقي منها بخيله ورجله ..؟
__________________
إن القوة التي طلب
الله من المؤمنين إعدادها لإرهاب الأعداء ، تتناول كل ما من شأنه أن يجعل المؤمنين
أقوياء. كإعداد الجيوش المدربة ، والأسلحة المتنوعة التي تختلف بحسب الأزمنة
والأمكنة.
وما روى من تفسير
القوة ـ التي وردت في الآية ـ بالرمي ، فإنما هو على سبيل المثال ، ولأن الرمي كان
في ذلك الوقت أقوى ما يتقوى به .
قال الفخر الرازي
عند تفسيره للآية ، والمراد بالقوة هنا ما يكون سببا لحصول القوة ، وذكروا فيه
وجوها :
الأول : المراد من
القوة أنواع الأسلحة.
الثاني : روى أنه صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية على المنبر وقال : «ألا إن القوة الرمي»
قالها ثلاثا.
الثالث : قال
بعضهم : القوة هي الحصون.
الرابع : قال
أصحاب المعاني : الأولى أن يقال : هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو ، وكل
ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : «القوة هي الرمي» لا ينفى كون غير الرمي معتبرا. كما أن
قوله صلىاللهعليهوسلم «الحج عرفة» «والندم
توبة» لا ينفى اعتبار غيره. بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا
هنا.
وهذه الآية تدل
على أن الاستعداد للجهاد بالنبل ، والسلاح ، وتعليم الفروسية ، والرمي فريضة إلا
أنه من فروض الكفايات .
إن رباط الخيل
للجهاد في سبيل الله فضله عظيم ، وثوابه كبير ، فقد كانت الخيل هي خير ما عرف
العرب من وسائل الانتقال في الحرب وأسرعها ، وما زالت الخيل لها قيمتها في بعض
أنواع الحروب.
قال القرطبي ، فإن
قيل : إن قوله (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) كان يكفى ، فلما ذا خص الخيل بالذكر؟.
قيل له : إن الخيل
لما كانت أصل الحرب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها ، وهي
__________________
أقوى القوة ، وأشد
العدة ، وحصون الفرسان ، وبها يجال في الميدان ، لما كانت كذلك خصها بالذكر تشريفا
، وأقسم بغبارها تكريما ، فقال : «والعاديات ضبحا» .
وقال الإمام ابن
العربي : وأما رباط الخيل فهو فضل عظيم ومنزلة شريفة.
روى الأئمة عن أبى
هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «الخيل ثلاثة ، لرجل ستر ، ولرجل أجر ، وعلى رجل
وزر. فأما الذي هي عليه وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء لأهل الإسلام ـ أى :
مناوأة ومعاداة ـ فهي عليه وزر.
وأما الذي هي عليه
ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في ظهورها فهي عليه ستر.
وأما الذي هي له
أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أكلت من ذلك المرج
أو الروضة من شيء إلا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات ..».
وروى البخاري
ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يلوى ناصية فرس بإصبعيه وهو يقول : «الخير معقود في نواصي
الخيل إلى يوم القيامة» .
٤ ـ أن المقصود من
إعداد العدة في الإسلام إنما هو إرهاب الأعداء حتى لا يفكروا في الاعتداء على
المسلمين ، وحتى يعيش أتباع هذا الدين آمنين مطمئنين في ديارهم ، وحتى يستطيعوا أن
يبلغوا رسالة الله إلى خلقه من الناس دون أن يخشوا أحدا سواه ـ عزوجل ..
وليس المقصود
بإعداد العدة إرهاب المسالمين ، أو العدوان على الآمنين ، أو القهر والإذلال للناس
واستغلالهم فيما يغضب الله ـ تعالى ـ ..
ولذلك وجدنا الآية
صريحة في بيان المقصود من هذا الإعداد ، وهو ـ كما عبرت عنه (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ
وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ
...).
وهناك آيات أخرى
صريحة في بيان سبب مشروعية القتال في الإسلام ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ
يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا
عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) .
__________________
والخلاصة : أن من
تتبع آيات القرآن الواردة في القتال يجدها جميعها تقرر أن سبب القتال في الإسلام
ينحصر في رد العدوان ، وحماية الدعوة الإسلامية من التطاول عليها وتثبيت حرية
العقيدة ، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان.
٥ ـ وجوب الإنفاق
في سبيل الله ، ومن أشرف وجوه الإنفاق في سبيل الله أن يبذل المسلم ما يستطيع بذله
في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام ، والذي ما تركه قوم إلا ذلوا ... وألقوا
بأنفسهم في التهلكة.
ولقد بشرت الآية
الكريمة المنفقين في سبيل الله ، بأنه ـ سبحانه ـ سيجازيهم على إنفاقهم جزاء وافيا
لا نقص معه ولا ظلم.
قال ـ تعالى ـ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي
سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) وفي الحديث الشريف الذي رواه الترمذي عن أبى يحيى قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف» .
ثم أمر ـ تعالى ـ رسوله
صلىاللهعليهوسلم بقبول السلم والمصالحة ، إذا ما رغب أعداؤه في ذلك ، وكانت
ظواهرهم وأفعالهم تدل على صدق نواياهم فقال ـ تعالى ـ :
(وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٣)
وقوله (جَنَحُوا) من الجنوح بمعنى الميل ، يقال : جنح فلان للشيء وإليه ـ يجنح
ـ مثلث النون ـ جنوحا. أى : مال إليه.
__________________
قال القرطبي :
والجنوح : الميل. وجنح الرجل إلى الآخر : مال إليه. ومنه قيل للأضلاع جوانح ،
لأنها مالت على الحشوة ـ بضم الحاء وكسرها ـ أى : الأمعاء.
وجنحت الإبل : إذا
مالت أعناقها في السير قال ذو الرمة :
إذا مات فوق
الرحل أحييت روحه
|
|
بذكراك والعيس
المراسيل جنح
|
وقرأ الأعمش وأبو
بكر وابن محيص «للسلم» ـ بكسر السين ـ وقرأ الباقون بالفتح. وإنما قال (لَها) لأن السلم مؤنثة ـ تأنيث نقيضها وهي الحرب .. ويجوز أن
يكون التأنيث للفعلة .
والمعنى : عليك ـ أيها
الرسول الكريم ـ أن تنكل في الحرب بأولئك الكافرين الناقضين لعهودهم في كل مرة ،
وأن تهيئ ما استطعت من قوة لإرهابهم فإن مالوا بعد ذلك إلى السلم أى : المسالمة
والمصالحة فوافقهم ومل إليها ما دامت المصلحة في هذه المسألة.
وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) معطوف على (فَاجْنَحْ لَها) لقصد التثبيت وبعث الطمأنينة في قلبه.
أى : اقبل
المسالمة ما دام فيها مصلحتك ، وفوض أمرك إلى الله ـ تعالى ـ ولا تخش مكرهم وكيدهم
وغدرهم ، إنه ـ سبحانه ـ (هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بأحوالهم ، فيجازيهم بما يستحقون ، ويرد كيدهم في نحورهم.
وعبر ـ سبحانه ـ عن
جنوحهم إلى السلم بحرف (إِنْ) الذي يعبر به عن الشيء المشكوك في وقوعه ، للإشارة إلى
أنهم ليسوا أهلا لاختيار المسالمة أو المصالحة لذاتها ، وإنما هم جنحوا إليها
لحاجة في نفوسهم ، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائما على حذر منهم ، وألا يأمنوا
مكرهم.
هذا وقد اختلف
العلماء فيمن عنى بهذه الآية. فمنهم من يرى أن المعنى بها أهل الكتاب ، ومنهم من
يرى أن الآية عامة ، أى تشمل أهل الكتاب والمشركين. ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها
منسوخة أولا؟
وقد حكى ابن جرير
معظم هذه الخلافات ورجح أن المقصود بهذه الآية جماعة من أهل الكتاب ، وأن الآية
ليست منسوخة فقال ما ملخصه :
عن قتادة أن قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَها ..) منسوخة بقوله في سورة براءة
__________________
(فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . وبقوله (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) .
فقد كانت هذه ـ أى
الآية التي معنا وهي قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ ...) ـ قبل براءة. كان النبي صلىاللهعليهوسلم يوادع القوم إلى أجل ، فإما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلهم ،
ثم نسخ ذلك بعد في براءة فقال : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
وعن عكرمة والحسن
البصري قالا : (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ ...) نسختها الآية التي في براءة وهي قوله ـ تعالى ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ...) الآية .
ثم قال ابن جرير :
فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه
من كتاب ولا ثم قال ابن جرير : فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه
الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.
لأن قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَها ..) إنما عنى به بنو قريظة ـ كما قال مجاهد ـ وكانوا يهودا أهل
كتاب وقد أذن الله ـ جل ثناؤه ـ للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ، ومتاركتهم الحرب ، على
أخذ الجزية منهم ، وأما قوله : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ..) فإنما عنى به مشركو العرب من عبدة الأوثان ، الذين لا يجوز
قبول الجزية منهم ، فليس في إحدى الآيتين نفى حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما
محكمة فيما أنزلت فيه .. .
هذا ما يراه ابن
جرير. أما ابن كثير فقد وافقه على أن الآية ليست منسوخة ، وخالفه في أن المقصود
بها بنو قريظة ، فهو يرى أن الآية عامة فقد قال ـ رحمهالله ـ :
قوله : (وَإِنْ جَنَحُوا) أى : مالوا (لِلسَّلْمِ) أى المسالمة والمصالحة والمهادنة (فَاجْنَحْ لَها) أى : فمل إليها واقبل منهم ذلك. ولهذا لما طلب المشركون
عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر ...
وقال مجاهد : نزلت
في بنى قريظة ، وهذا فيه نظر ، لأن السياق كله في موقعة بدر ، وذكرها مكتنف لها
كله.
وقال ابن عباس
ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة : إن الآية منسوخة بآية
السيف في براءة ، وهي قوله ـ تعالى ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ).
__________________
وفيه نظر أيضا ،
لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفا فإنه
يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة (وَإِنْ جَنَحُوا ...) وكما فعل النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية. فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ..» .
ويبدو لنا أن ما
ذهب إليه ابن كثير أرجح ، لأن الآية الكريمة تقرر مبدأ عاما في معاملة الأعداء ،
وهو أنه من الجائز مهادنتهم ومسالمتهم ما دام ذلك في مصلحة المسلمين.
ولعل هذا هو ما
قصده صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية ـ : «والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى
فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم. وليس يحتم أن يقاتلوا أبدا. أو
يجابوا إلى الهدنة أبدا» .
ثم أمن الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم من خداع أعدائه ، إن هم أرادوا خيانته ، وبيتوا له الغدر
من وراء الجنوح إلى السلم فقال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ).
أى : وإن يرد
هؤلاء الأعداء الذين جنحوا إلى السلم في الظاهر أن يخدعوك ـ يا محمد ـ لتكف عنهم
حتى يستعدوا لمقاتلتك فلا تبال بخداعهم ، بل صالحهم مع ذلك إذا كان في الصلح مصلحة
للإسلام وأهله ، ولا تخف منهم ، فإن الله كافيك بنصره ومعونته ، فهو ـ سبحانه ـ الذي
أمدك بما أمدك به من وسائل النصر الظاهرة والخافية ، وهو ـ سبحانه ـ الذي أيدك
بالمؤمنين الذين هانت عليهم أنفسهم وأموالهم في سبيل إعزاز هذا الدين ، وإعلاء
كلمته ..
فالآية الكريمة
تشجيع للنبي صلىاللهعليهوسلم على السير في طريق الصلح ما دام فيه مصلحة للإسلام وأهله ،
وتبشير له بأن النصر سيكون له حتى ولو أراد الأعداء بإظهار الميل إلى السلم
المخادعة والمراوغة. وقوله : (حَسْبَكَ) صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل. أى. بحسبك وكافيك.
قال الفخر الرازي
: فإن قيل : أليس قد قال ـ تعالى ـ (وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ...) أى : أظهر نقض ذلك العهد ، وهذا يناقض ما ذكره في هذه
الآية؟
قلنا : قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً) محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها
، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير ، إلا أنه لم تظهر
أمارات على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة ، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات
على المسالمة وترك المنازعة ..
__________________
فإن قيل : لما قال
: (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) فأى حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال (وَبِالْمُؤْمِنِينَ)؟
قلنا : التأييد
ليس إلا من الله لكنه على قسمين : أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة
معتادة والثاني ما يحصل بواسطة أسباب معلومة.
فالأول هو المراد
من قوله (أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) والثاني هو المراد من قوله : (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) .
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض مظاهر فضله في كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين فقال ـ تعالى ـ : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ
اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ).
أى : أن من مظاهر
فضل الله عليك يا محمد أن أيدك ـ سبحانه ـ بنصره وأن أيدك بالمؤمنين ، بأن حبب
إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، وجعل منهم قوة موحدة ، فصاروا بفضله ـ تعالى ـ كالنفس
الواحدة ، بعد أن كانوا متنازعين متفرقين وأنت يا محمد (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) من الذهب والفضة وغيرهما ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم
المتنافرة المتنازعة (وَلكِنَّ اللهَ) بفضله وقدرته هو وحده الذي (أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فصاروا إخوانا متحابين متصافين (إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (عَزِيزٌ) أى : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن (حَكِيمٌ) في كل أفعاله وأحكامه ..
وهذه الآية
الكريمة يؤيدها التاريخ ، ويشهد بصدقها أحداثه ، فنحن نعلم أن العرب ـ وخصوصا
الأوس والخزرج ـ كانوا قبل الإسلام في حالة شديدة من التفرق والتخاصم والتنازع
والتحارب .. فلما دخلوا في الإسلام تحول بغضهم إلى حب ، وتخاصمهم إلى مودة ،
وتفرقهم إلى اتحاد ... وصاروا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، إلى مستوى لم يعرفه
التاريخ من قبل ...
ولقد أجاد صاحب
الكشاف ـ رحمهالله ـ في تصويره لهذه المعاني حيث قال : «التأليف بين قلوب من
بعث إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الآيات الباهرة ، لأن العرب ـ لما فيهم من الحمية
والعصبية ، والانطواء على الضغينة .. ـ لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت
قلوبهم على اتباع رسول الله صلىاللهعليهوسلم واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله
من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من
التباغض
__________________
والتماقت ، وكلفهم
من الحب ، في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو
يقلبها كيف يشاء ، ويصنع فيها ما يريد.
قيل : هم الأوس
والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم.
ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى. وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد
والتنافس. وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها ،
وتكرهه وتنفر منه.
فأنساهم الله ـ تعالى
ـ ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصارا ، وعادوا أعوانا ، وما
ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته» . هذا ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم «حنين» قال لهم : يا معشر
الأنصار!! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؛ وعالة فأغناكم الله بي؟ وكنتم متفرقين
فألفكم الله بي؟ فكانوا يقولون كلما قال شيئا : الله ورسوله أمن» .
وروى الحاكم أن
ابن عباس كان يقول : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتنكر ، وإن الله إذا قارب بين
القلوب لم يزحزحها شيء. ثم يقرأ قوله ـ تعالى ـ : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ ...) .
ثم مضت السورة
الكريمة في تثبيت الطمأنينة في قلب النبي صلىاللهعليهوسلم وفي قلوب أصحابه ، فبينت لهم أن الله كافيهم وناصرهم ، وأن
القلة منهم تغلب الكثرة من أعداء الله وأعدائهم فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ
__________________
الَّذِينَ
كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ
اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٦٦)
قال الفخر الرازي
: اعلم أنه ـ تعالى ـ لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنصر والظفر في
هذه الآية مطلقا على جميع التقديرات ، وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار ؛ لأن
المعنى في الآية الأولى : إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم.
والمعنى في هذه
الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا.
وهذه الآية نزلت
بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ...» .
وقوله : (حَسْبُكَ) صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل ، والكاف في محل جر.
والواو في قوله (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) بمعنى مع ، و (مَنِ) في محل نصب عطفا على الموضع ، فإن قوله (حَسْبُكَ) بمعنى كافيك في جميع أمورك.
والمعنى : يا أيها
النبي كافيك الله وكافى متبعيك من المؤمنين فهو ـ سبحانه ـ ناصركم ومؤيدكم على
أعدائكم وإن كثر عددهم وقل عددكم ، وما دام الأمر كذلك ، فاعتمدوا عليه وحده ،
وأطيعوه في السر والعلن ؛ لكي يديم عليكم عونه وتأييده ونصره.
قال بعض العلماء :
قال ابن القيم عند تفسيره لهذه الآية : أى : الله وحده كافيك وكافى أتباعك فلا
يحتاجون معه إلى أحد. ثم قال : وهاهنا تقديران :
أحدهما : أن تكون
الواو عاطفة للفظ «من» على الكاف المجرورة ..
والثاني : أن تكون
الواو بمعنى «مع» وتكون «من» في محل نصب عطفا على الموضع ، فإن «حسبك» في معنى
كافيك أى : الله يكفيك ويكفى من اتبعك ، كما يقول العرب : حسبك وزيدا درهم ، قال
الشاعر :
وإذا كانت الهيجاء
وانشقت العصا
|
|
فحسبك والضحاك
سيف مهند
|
__________________
وهذا أصح
التقديرين. وفيها تقدير ثالث ؛ أن تكون «من» في موضع رفع بالابتداء : أى ومن اتبعك
من المؤمنين فحسبهم الله.
وفيها تقدير رابع
وهو خطأ من جهة المعنى ، وهو أن يكون «من» في موضع رفع عطفا على اسم الله. ويكون
المعنى : حسبك الله وأتباعك.
هذا وإن قال به
بعض الناس فهو خطأ محض ، لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده ،
كالتوكل والتقوى والعبادة ...» .
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم بتحريض المؤمنين على القتال من أجل إعلاء كلمة الحق ، فقال
ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ...).
وقوله : (حَرِّضِ) من التحريض بمعنى الحث على الشيء بكثرة التزيين له ،
وتسهيل الأمر فيه حتى تقدم عليه النفس برغبة وحماس.
قال الراغب :
الحرض ما لا يعتد به ولا خير فيه ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك حرض. قال ـ تعالى
ـ (حَتَّى تَكُونَ
حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) ..
والتحريض : الحث
على الشيء .. فكأنه في الأصل إزالة الحرض نحو حرضته وقذيته أى : أزلت عنه الحرض
والقذى ..» .
والمعنى : يا أيها
النبي بالغ في حث المؤمنين وإحمائهم على القتال بصبر وجلد ، من أجل إحقاق الحق
وإبطال الباطل.
ولهذا كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يحرض أصحابه على القتال عند صفهم ومواجهة الأعداء كما قال
لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : «قوموا إلى جنة عرضها
السموات والأرض». فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله :
نعم. فقال عمير : بخ بخ ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما يحملك على قولك بخ بخ»؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها
، قال صلىاللهعليهوسلم «فإنك من أهلها»
فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن» ثم ألقى بقيتهن من يده
وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن ، إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل ـ رضى
الله عنه ـ .
وقوله :
(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً
__________________
مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) بشارة من الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ووعد لهم بالظفر على
أعدائهم.
أى : قابلوا ـ أيها
المؤمنون أعداءكم بقوة وإقدام ، فإنكم إن يوجد منكم عشرون رجلا صابرون يغلبوا ـ بسبب
إيمانهم وصبرهم ـ مائتين من الكافرين ، وإن يوجد منكم مائة يغلبوا ألفا منهم ،
وذلك بسبب أن هؤلاء الكافرين قوم جهلة بحقوق الله ـ تعالى ـ وبما يجب عليهم نحوه.
فهم ـ كما يقول
صاحب الكشاف ـ : «يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم» فيقل ثباتهم.
ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ، ويستحقون الخذلان. بخلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما
يستوجب به النصر والإظهار من الله ـ تعالى ـ» .
وقال صاحب المنار
: والآية تدل على أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين وأفقه منهم بكل
علم وفن يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم. وأن حرمان الكفار من هذا العلم هو السبب
في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين ...
وهكذا كان المؤمنون
في قرونهم الأولى .. أما الآن فقد أصبح المسلمون غافلين عن هذه المعاني الجليلة ،
فزال مجدهم .. .
ثم حكى ـ سبحانه ـ
بعض مظاهر فضله على المؤمنين ورحمته بهم فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا
أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ..).
وقوله (ضَعْفاً) قرأه بعضهم بفتح الضاد ، وقرأه آخرون بضمها ، وهما بمعنى
واحد عند الجمهور ، والمراد به الضعف في البدن.
وقيل الضعف ـ بالفتح
ـ يكون في الرأى والعقل ، وبالضم يكون في البدن.
والمعنى : لقد
فرضنا عليكم ـ أيها المؤمنون ـ أول الأمر أن يثبت الواحد منكم أمام عشرة من
الكافرين .. والآن وبعد أن شق عليكم الاستمرار على ذلك ، ولم تبق هناك ضرورة لدوام
هذا الحكم لكثرة عددكم .. شرعنا لكم التخفيف رحمة بكم ، ورعاية لأحوالكم ، فأوجبنا
عليكم أن يثبت الواحد منكم أمام اثنين من أعدائكم بدلا من عشرة ، وبشرناكم بأنه إن
يوجد منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من أعدائكم ، وإن يوجد منكم ألف يغلبوا ألفين
منهم بإذن الله وتيسيره وتأييده.
__________________
وقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
أى : والله ـ تعالى
ـ مع الصابرين بتأييده ورعايته ونصره ، فاحرصوا على أن تكونوا من المؤمنين
الصادقين لتنالوا منه ـ سبحانه ـ ما يسعدكم في دنياكم وآخرتكم.
هذا ، ومن العلماء
من يرى أن هذه الآية قد نسخت الآية السابقة عليها ، ومنهم من يرى غير ذلك.
قال الآلوسى :
قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ ..) شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة ، والوعد بأنهم
إن صبروا غلبوا ـ بعون الله وتأييده ـ فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى.
والمعنى : ليصبرن
الواحد لعشرة ؛ وليست بخبر محض ...
وقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ..) أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال :
لما نزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ ..) شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة
فجاء التخفيف وهل يعد ذلك نسخا أولا؟ قولان : اختار بعضهم الثاني منهما وقال : إن
الآية مخففة ، ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر.
وذهب الجمهور إلى
الأول ، وقالوا : إن الآية الثانية ناسخة للأولى . وقال بعض العلماء : فرض الله على المؤمنين أول الأمر ألا
يفر الواحد من المؤمنين من العشرة من الكفار ، وكان ذلك في وسعهم ، فأعز الله بهم
الدين على قلتهم ، وخذل بأيديهم المشركين على كثرتهم ، وكانت السرايا تهزم من
المشركين أكثر من عشر أمثالها تأييدا من الله لدينه.
ولما شق على
المؤمنين الاستمرار على ذلك ، وضعفوا عن تحمله ، ولم تبق ضرورة لدوام هذا الحكم
لكثرة عدد المسلمين ممن دخلوا في دين الله أفواجا نزل التخفيف ، ففرض على الواحد
الثبات للاثنين من الكفار ، ورخص له في الفرار إذا كان العدو أكثر من اثنين.
وهو رخصة كالفطر
للمسافر ، وذهب الجمهور إلى أنه نسخ» .
وقال الشيخ
القاسمى : إن قيل : إن كفاية عشرين لمائتين تغنى عن كفاية مائة لألف. وكفاية مائة
لمائتين تغنى عن كفاية ألف لألفين ، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في
الأولى ، وثبات الواحد للاثنين في الثانية فما سر هذا التكرير؟
أجيب : بأن سره كون
كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التقرير المفيد لزيادة
__________________
الاطمئنان ،
والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ، فإن العشرين قد لا تغلب
المائتين ، وتغلب المائة الألف ، وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر
على الترتيب الطبيعي.
وقيل في سر ذلك :
إنه بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددهم العشرات والمئات إلى الألوف.
ثم قال : وقال في
البحر : انظر إلى فصاحة هذا الكلام ، حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر ، وحذف
نظيره من الثانية ، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة ، وحذفه من الأولى ،
ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أولى جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة
السابقة عليه ، ثم ختمت بقوله : (وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ) مبالغة في شدة المطلوبية ، وإشارة إلى تأييدهم ، وأنهم
منصورون حتما ، لأن من كان الله معه لا يغلب ...» .
وبعد هذا الحديث
المستفيض عن القتال في سبيل الله .. عقب ـ سبحانه ـ ذلك بالحديث عن بعض الأحكام
التي تتعلق بالأسرى بمناسبة ما فعله الرسول صلىاللهعليهوسلم مع أسرى غزوة بدر من الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ :
(ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٦٩)
ذكر المفسرون في
سبب نزول هذه الآيات روايات منها ، ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال :
حدثني عمر بن الخطاب : أنه لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ،
فاستقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني.
__________________
فقتل المسلمون من
المشركين يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
قال ابن عباس :
فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبى بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر :
يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على
الكفار فعسى أن يهديهم الله إلى الإسلام.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال : قلت لا والله يا رسول الله ،
ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل
فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان ـ نسيب لعمر ـ فأضرب
عنقه ، ـ حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين : فإن هؤلاء أئمة الكفر
وصناديده. فهوى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت :
فلما كان من الغد
جئت ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان ، فقلت : يا رسول الله. أخبرنى من أى شيء
تبكى أنت وصاحبك. فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أبكى على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابهم
أدنى من هذه الشجرة؟؟؟ لشجرة قريبة منه صلىاللهعليهوسلم وأنزل الله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ...) إلخ الآيات .
وروى الإمام أحمد
والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما تقولون في
هؤلاء الأسارى»؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله! قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل
الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر : يا
رسول الله! كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن
رواحة : يا رسول الله ، أنت بواد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم نارا ثم ألقهم
فيه.
قال : فسكت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فلم يرد شيئا. ثم قال فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبى بكر.
وقال ناس : يأخذ بقول عمر. وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة.
ثم خرج عليهم رسول
الله فقال : «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللين ؛ ويشدد قلوب
رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل
__________________
إبراهيم إذ قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي
وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وكمثل عيسى إذ قال : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) .
وإن مثلك يا عمر
كمثل نوح إذ قال : (رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ، وكمثل موسى إذ قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) .
ثم قال صلىاللهعليهوسلم : «أنتم عالة فلا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضربة عنق».
قال ابن مسعود :
فقلت يا رسول ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله ثم قال : «إلا
سهيل بن بيضاء». وأنزل الله ـ عزوجل ـ (ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ...) إلى آخر الآية .
وقال ابن إسحاق ـ وهو
يحكى أخبار غزوة بدر ـ : فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم متوشحا السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ،
يخافون عليه الكرة. ورأى رسول الله ـ فيما ذكر لي ـ في وجه سعد الكراهية لما يصنع
الناس ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «والله لكأنك يا
سعد تكره ما يصنع القوم»؟ فقال : أجل والله يا رسول الله : كانت هذه أول وقعة
أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال .
قوله : (أَسْرى) : جمع أسير كقتلى جمع قتيل. وهو مأخوذ من الأسر بمعنى الشد
بالإسار أى : القيد الذي يقيد به حتى لا يهرب ، ثم صار لفظ الأسير يطلق على كل من
يؤخذ من فئته في الحرب ولو لم يشد بالإسار.
وقوله (يُثْخِنَ) من الثخانة وهي في الأصل الغلظ والصلابة. يقال : ثخن الشيء
يثخن ثخونة وثخانة وثخنا ، أى : غلظ وصلب فهو ثخين ، ثم استعمل في الكناية
والمبالغة في قتل العدو فقيل : أثخن فلان في عدوه. أى : بالغ في قتله وإنزال
الجراحة الشديدة به ، لأنه بذلك يمنعه من الحركة فيصير كالثخين الذي لا يسيل ولا
يتحرك.
__________________
والمراد بالنبي في
قوله (ما كانَ لِنَبِيٍ) : نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم وإنما جيء باللفظ منكرا تلطفا به صلىاللهعليهوسلم حتى لا يواجه بالعتاب.
والمعنى : ما صح
وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى) من أعدائه الذين يريدون به وبدعوته شرا (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أى : حتى يبالغ في قتلهم ، وإنزاله الضربات الشديدة عليهم
إذلالا للكفر وإعزازا لدين الله.
وقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ) استئناف مسوق للعتاب.
والعرض ؛ ما لا
ثبات له ولا دوام من الأشياء ، فكأنها تعرض ثم تزول ، والمراد بعرض الدنيا هنا :
الفداء الذي أخذوه من أسرى غزوة بدر حتى يطلقوا سراحهم.
تريدون ـ أيها
المؤمنون ـ بأخذكم الفداء من أعدائكم الأسرى عرض الدنيا ومتاعها الزائل ، وحطامها
الذي لا ثبات له ، والله ـ تعالى ـ يريد لكم ثواب الآخرة.
فالكلام في قوله :
(وَاللهُ يُرِيدُ
الْآخِرَةَ) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والإرادة هنا
بمعنى الرضا أى : والله ـ تعالى ـ يرضى لكم العمل الذي يجعلكم تظفرون بثوابه في
الآخرة ، وهو تفضيل إذلال الشرك على أخذ الفداء من أهله.
وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ (عَزِيزٌ) لا يغالب بل هو الغالب على أمره (حَكِيمٌ) في كل ما يأمر به أو ينهى عنه.
فالآية الكريمة
تعتب على المؤمنين ، لأنهم آثروا الفداء على القتل والإثخان في الأرض ، وذلك لأن
غزوة بدر كانت أول معركة حاسمة بين الشرك والإيمان ، وكان المسلمون فيها قلة
والمشركون كثرة ، فلو أن المسلمين آثروا المبالغة في إذلال أعدائهم عن طريق القتل
لكان ذلك أدعى لكسر شوكة الشرك وأهله ، وأظهر في إذلال قريش وحلفائها ، وأصرح في
بيان أن العمل على إعلاء كلمة الله كان عند المؤمنين فوق متع الدنيا وأعراضها ،
وأنهم لا يوادون من حارب الله ورسوله مهما بلغت درجة قرابته ، وهذا ما عبر عنه عمر
ـ رضى الله عنه ـ بقوله : «وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين».
والخلاصة أن غزوة
بدر ـ بظروفها وملابساتها التي سبق أن أشرنا إليها ـ كان الأولى بالمسلمين فيها أن
يبالغوا في قتل أعدائهم لا أن يقبلوا منهم فداء حتى يذلوهم ويعجزوهم عن معاودة
الكرة.
ورضى الله ـ تعالى
ـ عن «سعد بن معاذ» فقد ظهرت الكراهية على وجهه بسبب أخذ الفداء من الأسرى ، وقال
ـ كما سبق أن بينا ـ : «.. كانت غزوة بدر ـ أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك ،
فكان الإثخان في القتل أحب إلىّ من استبقاء الرجال».
قال الفخر الرازي
: قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر ، لأن المسلمين كانوا قليلين ، فلما
كثروا وقوى سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى (حَتَّى إِذا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) .
ثم قال الرازي :
وأقول : إن هذا الكلام يوهم أن قوله (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها : وليس الأمر كذلك
، لأن الآيتين متوافقتان ، فإن كلتيهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم
بعده أخذ الفداء» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعد ذلك بعض مظاهر رحمته بالمؤمنين : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).
والمراد بالكتاب
هنا : الحكم ، وأطلق عليه كتاب لأن هذا الحكم مكتوب في اللوح المحفوظ.
وللمفسرين أقوال
في تفسير هذا الحكم السابق في علم الله ـ تعالى ـ :
فمنهم من يرى أن
المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب المخطئ في اجتهاده.
وقد صدر صاحب
الكشاف تفسيره لهذه الآية بهذا الرأى فقال قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ). أى : لو لا حكم منه سبق إثباته في اللوح المحفوظ ، وهو
أنه ـ سبحانه ـ لا يعاقب أحدا بخطإ ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد ، لأنهم نظروا في
أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في
سبيل الله ، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، وأفل لشوكتهم ..»
.
ومنهم من يرى أن
المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذب قوما إلا بعد تقديم النهى عن الفعل ولم يتقدم
نهى عن أخذ الفداء.
ومنهم من يرى أن
المراد به أنه ـ سبحانه ـ لا يعذبهم ما دام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينهم.
أو أنه ـ سبحانه ـ
لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا.
وقد ساق الإمام
الرازي هذه الأقوال وناقشها ثم اختار أن المراد بالكتاب الذي سبق : هو حكمه ـ سبحانه
ـ في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة ، وسبقت رحمته غضبه.
__________________
أما الإمام ابن
جرير فهو يرى : أن الآية خبر عام غير محصور على معنى دون معنى ، وأنه لا وجه لأن
يخص من ذلك معنى دون معنى .. فقال : يقول الله ـ تعالى ـ لأهل بدر الذين أخذوا من
الأسرى الفداء (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ ..).
أى : لو لا قضاء
من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله يحل لكم الغنيمة ، وأن الله
قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، وأنه لا يعذب أحدا شهد
هذا المشهد الذي شهدتموه ببدر .. لو لا كل ذلك لنالكم من الله بأخذكم الفداء عذاب
عظيم» .
ويبدو لنا أن ما
ذهب إليه ابن جرير ـ من أن الآية خبر عام يشمل كل هذه المعاني ـ أولى بالقبول ،
لأنه لم يوجد نص صحيح عن النبي صلىاللهعليهوسلم يحدد تفسير المراد من هذا الكتاب السابق في علمه ـ تعالى
ـ.
ولعل الحكمة في
هذا الإبهام لتذهب الأفهام فيه إلى كل ما يحتمله اللفظ ، ويدل عليه المقام ، ولكي
يعرفوا أن أخذهم الفداء كان ذنبا يستحقون العقوبة عليه لو لا أن الله ـ تعالى ـ قدر
في الأزل العفو عنهم بسبب وجود النبي صلىاللهعليهوسلم فيهم ، ولأنهم قد أخطئوا في اجتهادهم ، ولأنهم لم يتقدم
لهم نهى عن ذلك ، ولأنهم قد شهدوا هذه الغزوة التي قال الرسول في شأن من حضرها على
لسان ربه ـ عزوجل ـ : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
فقد روى الشيخان
وغيرهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لعمر في قصة حاطب بن أبى بلتعة عند ما أخبر المشركين
بأن الرسول سيغزوهم قبل فتح مكة وكان حاطب قد شهد بدرا : «وما يدريك لعل الله ـ تعالى
ـ اطلع على أهل بدر وقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .
والمعنى الإجمالى
للآية الكريمة : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ) أى : لو لا حكم من الله ـ تعالى ـ سبق منه في الأزل ألا
يعذب المخطئ على اجتهاده أو ألا يعذب قوما قبل تقديم البيان إليهم .. ولو لا كل
ذلك (لَمَسَّكُمْ) أى لأصابكم (فِيما أَخَذْتُمْ) أى بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره في شدته وألمه.
قال ابن جرير :
قال ابن زيد : لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب
، جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال : يا رسول الله مالنا
__________________
وللغنائم؟ نحن قوم
نجاهد في دين الله حتى يعبد الله فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك» ..
وقال ابن إسحاق :
لما نزلت (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ ...) الآية. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لو نزل عذاب من
السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله : يا نبي الله ، كان الإثخان في القتل
أحب إلى من استبقاء الرجال» .
وقال بعض العلماء
: قال القاضي ، وفي الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون ،
وأنه قد يكون خطأ ، ولكن لا يقرون عليه .
ثم زاد ـ سبحانه ـ
المؤمنين فضلا ومنه فقال : (فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قال الآلوسى روى
أنه لما نزلت الآية الأولى (ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ..) كف الصحابة أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية.
فالمراد بقوله (مِمَّا غَنِمْتُمْ) إما الفدية وإما مطلق الغنائم ، والمراد بيان حكم ما اندرج
فيها من الفدية ، وإلا فحل الغنيمة مما عداها علم سابقا من قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) ..
وقيل المراد بقوله
: (مِمَّا غَنِمْتُمْ) الغنائم من غير اندراج الفدية فيها ، لأن القوم لما نزلت
الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهدا منهم ، لا ظنا لحرمتها ..
والفاء للعطف على سبب مقدر ، أى قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم .
والمعنى : لقد
عفوت عنكم ـ أيها المؤمنون ـ فيما وقعتم فيه من تفضيلكم أخذ الفداء من الأسرى على
قتلهم ، وأبحت لكم الانتفاع بالغنائم فكلوا مما غنمتم من أعدائكم حلالا طيبا ، أى
لذيذا هنيئا لا شبهة في أكله ولا ضرر (وَاتَّقُوا اللهَ) في كل أحوالكم بأن تخشوه وتراقبوه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولذا غفر لكم ما فرط منكم وأباح لكم ما أخذتموه من فداء.
فسبحانه من إله واسع الرحمة والمغفرة ، لمن اتقاه وتاب إليه توبة صادقة.
وقوله (حَلالاً) حال من «ما» الموصولة في قوله : (مِمَّا غَنِمْتُمْ) أو صفة لمصدر محذوف ، أى : أكلا حلالا.
ووصف هذا المأمور
بأكله بأنه حلال طيب ، تأكيدا للإباحة حتى يقبلوا على الأكل منه بدون
__________________
تحرج أو تردد ،
فإن معاتبتهم على أخذ الفداء قبل ذلك جعلتهم يترددون في الانتفاع به وبما غنموه من
أعدائهم.
ثم أمرت السورة
النبي صلىاللهعليهوسلم أن يخبر الأسرى بأنهم إذا ما فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا
له ، ـ سبحانه ـ سيعوضهم عما فقدوه خيرا منه ، أما إذا استمروا في كفرهم وعنادهم
فإن الدائرة ستدور عليهم. استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور هذا المعنى بأسلوبها
البليغ فتقول :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ)(٧١)
قال : ابن كثير :
عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا : بعثت قريش إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا.
وقال العباس : يا
رسول الله! قد كنت مسلما! فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول ، فإن الله
يجزيك. وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ، وعقيل
بن أبى طالب ، وحليفك عتبة بن عمرو أخى بنى الحارث بن فهر».
قال العباس : ما
ذاك عندي يا رسول الله ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فأين المال الذي
دفنته أنت وأم الفضل ، فقلت لها : إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته
لبنىّ : الفضل ، وعبد الله ، وقثم»؟
قال : والله يا
رسول الله إنى لأعلم أنك رسول الله. إن هذا الشيء ما علمه أحد غيرى وغير أم الفضل
، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم منى : ـ عشرين أوقية من مال كان معى ـ.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك».
ففدى نفسه وابني
أخويه وحليفه. فأنزل الله ـ تعالى ـ فيه (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ...) الآية.
قال العباس :
فأعطانى الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام ، عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب
به. مع ما أرجو من مغفرة الله ـ تعالى ـ .
وفي صحيح البخاري
عن أنس : أن رجالا من الأنصار قالوا : يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا
عباس فداءه.
فقال صلىاللهعليهوسلم : «لا والله! لا تذرون منه درهما». هذا ، والآية الكريمة
وإن كانت قد نزلت في العباس إلا أنها عامة في جميع الأسرى ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب ، ولأن الخطاب فيها موجه إلى سائر الأسرى لا إلى فرد منهم دون آخر.
والمعنى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ) أى : قل للذين تحت تصرف أيديكم (مِنَ الْأَسْرى) أى : من أسرى المشركين في بدر الذين أخذتم منهم الفداء
لتطلقوا سراحهم.
قل لهم ـ أيها
النبي الكريم ـ (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ
فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أى : إيمانا وتصديقا وعزما على اتباع الحق ونبذ الكفر
والعناد .. إن يعلم الله ـ تعالى ـ منكم ذلك (يُؤْتِكُمْ خَيْراً
مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من فداء ، بأن يخلفه عليكم في الدنيا ، ويمنحكم الثواب
الجزيل في الآخرة.
ولقد صدق الله ـ تعالى
ـ وعده مع من آمن وعمل صالحا من هؤلاء الأسرى ، فأعطاهم الكثير من نعمه كما قال
العباس ـ رضى الله عنه ـ وقوله : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) زيادة في حضهم على الدخول في الإيمان.
وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الوعد بالخير والمغفرة.
أى : والله ـ تعالى
ـ واسع المغفرة ، والرحمة لمن استجاب للحق ، وقدم العمل الصالح.
والتعبير ، بقوله
: (لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ) للإشعار بأن هؤلاء الأسرى المشركين قد صاروا في قبضة
المؤمنين وتحت تصرفهم ، حتى لكأن أيديهم قابضة عليهم.
وأسند وجود الخير
في قلوبهم إلى علم الله ـ تعالى ـ للإشارة إلى أن ادعاء الإيمان باللسان فقط لا
يكفل لهم الحصول على الخير الذي فقدوه ولا يوصلهم إلى مغفرة الله ـ تعالى ـ فعليهم
أن يخلصوا لله في إيمانهم حتى ينالوا فضله وثوابه ، فهو ـ سبحانه ـ عليم بذات
الصدور.
وقوله : (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ
خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ). إنذار لهم بسوء المصير إذا ما لجوا في عنادهم وغدرهم ،
وبشارة من الله ـ تعالى ـ لرسوله والمؤمنين بأن العاقبة ستكون لهم.
__________________
أى : وإن يرد
هؤلاء الأسرى نقض عهودهم معك ـ يا محمد ـ والاستمرار في محاربتك ومعاداتك .. فلا
تهتم بهم ، ولا تجزع من خيانتهم فهم قد خانوا الله ـ تعالى ـ من قبل هذه الغزوة
بكفرهم وجحودهم لنعمه فكانت نتيجة ذلك أن أمكنك منهم ، وأظفرك بهم ، وسينصرك عليهم
بعد ذلك كما نصرك عليهم في بدر ، والله ـ تعالى ـ عليم بما يسرونه وما يعلنونه ،
حكيم في تدبيره وصنعه.
فالآية الكريمة
إنذار للأسرى إذا ما استحبوا العمى على الهدى ، وتبشير للرسول صلىاللهعليهوسلم بأن خيانتهم ستكون وبالها عليهم.
قال الفخر الرازي
: وقوله (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) قال الأزهرى : يقال أمكننى الأمر يمكنني فهو ممكن ومفعول
الإمكان محذوف.
والمعنى : فأمكن
المؤمنين منهم ، أى : أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر.
فأمكن الله منهم قتلا وأسرا ، وذلك نهاية الإمكان والظفر. فنبه الله بذلك على أنهم
قد ذاقوا وبال ما فعلوه ، فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتا حاصلا ، وفيه بشارة
للرسول صلىاللهعليهوسلم أنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده» .
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي حدثت عن أسرى غزوة بدر ما يأتى :
١ ـ أن على
المؤمنين في كل زمان ومكان أن يجعلوا جهادهم خالصا لوجه الله ومن أجل إعلاء كلمته
ونصرة دينه ، وذلك بأن يبالغوا في قتال أعدائه وأعدائهم إذلالا للكفر وإعزازا للحق
، وأن يؤثروا كل ذلك على أعراض الدنيا ومتعها.
٢ ـ أن أخذ الفداء
من الأسرى لا شيء فيه في ذاته ، وإنما عاتب الله المؤمنين على أخذه من أسرى بدر ،
لأن هذه الغزوة كانت المعركة الأولى بين المؤمنين والمشركين ، وكان إذلال المشركين
فيها عن طريق المبالغة في قتلهم أهم من أخذ الفداء منهم ، وأظهر في كسر شوكتهم ،
وعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين.
قال ابن كثير. وقد
استقر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم ، إن شاء قتل ـ كما
فعل ببني قريظة ـ وإن شاء فادى بمال ـ كما فعل بأسرى بدر ـ أو بمن أسر من المسلمين
، كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبى سلمة بن
الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين ، وإن
شاء استرق من أسر.
__________________
هذا مذهب الإمام
الشافعى وطائفة من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه» .
٣ ـ أن الذين
شهدوا بدرا من المسلمين كانت لهم مكانتهم السامية ، ومنزلتهم العالية ، عند الله ـ
تعالى ـ.
ومما يدل على ذلك
أنه ـ سبحانه ـ عفا عن خطئهم في أخذ الفداء من الأسرى ثم زادهم فضلا ومنة فجعل
غنائم الحرب حلالا لهم ، بعد أن كانت محرمة على أتباع الرسل السابقين.
ففي البخاري عن
جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أعطيت خمسا لم
يعطهن أحد من الأنبياء قبلي. نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ،
وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» .
٤ ـ أن الإسلام لا
يستبقى الأسرى لديه للإذلال والقهر والاستغلال ، وإنما يستبقيهم ليوقظ في فطرتهم
نور الحق الذي باتباعه يعوضهم الله عما أخذ منهم في الدنيا ، ويمنحهم ثوابه
ومغفرته في الآخرة.
أما إذا استمروا
في عداوتهم للحق ، فإن الدائرة ستدور عليهم.
٥ ـ أن الإيمان لا
يكون صحيحا إلا إذا صاحبه التصديق والإذعان.
قال ابن العربي :
لما أسر من أسر من المشركين في بدر ، تكلم قوم منهم بالإسلام ، ولم يمضوا فيه
عزيمة ، ولا اعترفوا به اعترافا جازما ، ويشبه أنهم أرادوا أن يتقربوا من المسلمين
ولا يبعدوا عن المشركين فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ..)
الآية.
قال علماؤنا : إن
تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا ، وإذا وجد
مثل ذلك من المؤمن كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر المرء على دفعها
، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها.
وقد بين الله
لرسوله صلىاللهعليهوسلم الحقيقة فقال : (وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيانَتَكَ) أى إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك ، فأمكنك منهم. وإن كان هذا
القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل ذلك منهم ، ويعوضهم خيرا مما
__________________
أخذ منهم ، ويغفر
لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم .
ثم ختم الله ـ تعالى
ـ سورة الأنفال بالحديث عن علاقة المسلمين بعضهم ببعض ، وعن علاقتهم بغيرهم من
الكفار وعن الأحكام المنظمة لهذه العلاقات فقال ـ تعالى ـ :
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ
عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧٥)
هذه الآيات
الكريمة التي ختم الله ـ تعالى ـ بها سورة الأنفال ، وضحت أن المؤمنين في العهد
النبوي أقسام ، وذكرت حكم كل قسم منهم.
__________________
أما القسم الأول :
فهم المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى.
وأما القسم الثاني
: فهم الأنصار من أهل المدينة.
والقسم الثالث :
المؤمنون الذين لم يهاجروا.
والقسم الرابع :
المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
وقد عبر ـ سبحانه
ـ عن القسمين : الأول والثاني بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ...).
أى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان (وَهاجَرُوا) أى تركوا ديارهم وأوطانهم وكل نفيس من زينة الحياة الدنيا.
من أجل الفرار بدينهم من فتنة المشركين ، ومن أجل نشر دين الله في الأرض (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : أنهم مع إيمانهم الصادق ، وسبقهم بالهجرة إرضاء لله ـ
تعالى ـ ، قد بالغوا في إتعاب أنفسهم من أجل نصرة الحق ، فقدموا ما يملكون من
أموال ، وقدموا نفوسهم رخيصة لا في سبيل عرض من أعراض الدنيا ، وإنما في سبيل
مرضاة الله ونصرة دينه.
فأنت ترى أن الله
ـ تعالى ـ قد وصف هذا القسم الأول من المؤمنين وهم الذين سبقوا إلى الهجرة. بأعظم
الصفات وأكرمها.
فقد وصفهم
بالإيمان الصادق ، وبالمهاجرة فرارا بدينهم من الفتن ، وبالمجاهدة بالمال والنفس
في سبيل إعلاء كلمة الله.
وقد جاءت هذه
الأوصاف الجليلة مرتبة حسب الوقوع ، فإن أول ما حصل منهم هو الإيمان ، ثم جاءت من
بعده الهجرة ، ثم الجهاد.
ولعل تقديم
المجاهدة بالأموال هنا على المجاهدة بالأنفس ، لأن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا ،
وأتم دفعا للحاجة ، حيث لا تتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالأموال.
وقوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلق بقوله (جاهَدُوا) لإبراز أن جهادهم لم يكن لأى غرض دنيوى ، وإنما كان من أجل
نصرة الحق وإعلاء كلمته ـ سبحانه ـ وقوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا) بيان للقسم الثاني من أقسام المؤمنين في العهد النبوي ،
وهم الأنصار من أهل المدينة الذين فتحوا للمهاجرين قلوبهم ، واستقبلوهم أحسن
استقبال ، حيث أسكنوهم منازلهم ، وبذلوا لهم أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ،
ونصروهم على أعدائهم.
فالآية الكريمة قد
وصفت الأنصار بوصفين كريمين.
أولهما : الإيواء
الذي يتضمن معنى التأمين من الخوف ، إذا المأوى هو الملجأ والمأمن مما
يخشى منه ، ومن
ذلك قوله ـ تعالى ـ (إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ...) ، وقوله ـ تعالى ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا
عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ...) .
ولقد كانت المدينة
مأوى وملجأ للمهاجرين ، وكان أهلها مثالا للكرم والإيثار ...
ثانيهما : النصرة
، لأن أهل المدينة قد نصروا الرسول صلىاللهعليهوسلم والمهاجرين بكل ما يملكون من وسائل التأييد والمؤازرة ،
فقد قاتلوا من قاتلهم ، وعادوا من عاداهم ، ولذا جعل الله ـ تعالى ـ حكمهم وحكم
المهاجرين واحدا فقال : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ).
فاسم الإشارة يعود
إلى المهاجرين السابقين ، وإلى الأنصار.
وقوله : (أَوْلِياءُ) جمع ولى ويطلق على الناصر والمعين والصديق والقريب ...
والمراد بالولاية
هنا : الولاية العامة التي تتناول التناصر والتعاون والتوارث ..
أى : أولئك
المذكورون الموصوفون بهذه الصفات الفاضلة يتولى بعضهم بعضا في النصرة والمعاونة
والتوارث .. وغير ذلك ، لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة.
قال الآلوسى ما
ملخصه : «روى عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم آخى بين المهاجرين والأنصار ، فكان المهاجر يرثه أخوه
الأنصارى ، إذا لم يكن له بالمدينة ولى مهاجرى وبالعكس ، واستمر أمرهم على ذلك إلى
فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة .. وعليه فالآية منسوخة بقوله ـ تعالى
ـ بعد ذلك (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ..).
وقال الأصم :
الآية محكمة ، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة .
والذي نراه أن
الولاية هنا عامة فهي تشمل كل ما يحتاج إليه المسلمون فيما بينهم من تعاون وتناصر
وتكافل وتوارث وغير ذلك ..
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ..) بيان لحكم القسم الثالث من أقسام المؤمنين في العهد النبوي
..
أى : هذا الذي
ذكرته لكم قبل ذلك في الآية هو حكم المهاجرين السابقين والأنصار الذي آووهم
ونصروهم أما حكم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان
المشركين وحكمهم. فإنهم ليس بينهم وبين المهاجرين والأنصار ولاية إرث (حَتَّى يُهاجِرُوا) إلى المدينة ، كما أنكم ـ أيها المؤمنون ـ لا تنتظروا منهم
تعاونا أو مناصرة ، لأنهم
__________________
بسبب إقامتهم في
أرض الشرك وتحت سلطانه ـ أصبحوا لا يملكون وسائل المناصرة لكم.
ثم قال ـ تعالى : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ).
أى : وإن طلب منكم
هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا النصرة على أعدائكم في الدين ، فيجب عليكم أن
تنصروهم ، لأنهم إخوانكم في العقيدة ، بشرط ألا يكون بينكم وبين هؤلاء الأعداء عهد
ومهادنة ، فإنكم في هذه الحالة يحظر عليكم نصرة هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا ،
لأن في نصرتهم ـ على من بينكم وبينهم عهد ـ نقضا لهذا العهد.
أى : إن نصرتكم
لهم إنما تكون على الكفار الحربيين لا على الكفار المعاهدين وهذا يدل على رعاية
الإسلام للعهود ، واحترامه للشروط والعقود.
قال الجمل : أثبت
الله ـ تعالى ـ للقسمين الأولين النصرة والإرث ، ونفى عن هذا القسم الإرث وأثبت له
النصرة .
وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تذييل قصد به الترغيب في طاعة الله ، والتحذير من معصيته.
أى : والله ـ تعالى
ـ مطلع على كل أعمالكم فأطيعوه ، ولا تخالفوا أمره.
قبل أن تذكر
السورة القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، تتحدث عن ولاية الكفار بعضهم لبعض فتقول
: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسادٌ كَبِيرٌ).
أى : والذين كفروا
بعضهم أولياء بعض في النصرة والتعاون على قتالكم وإيذائكم ـ أيها المؤمنون ـ فهم
وإن اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم يتفقون على عداوتكم وإنزال الاضرار بكم.
وقوله : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي
الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) تحذير شديد للمؤمنين عن مخالفة أمره ـ سبحانه ـ.
أى : إلا تفعلوا ـ
أيها المؤمنون ـ ما أمرتكم به من التناصر والتواصل وتولى بعضكم بعضا ، ومن قطع
العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة كبيرة في الأرض ، ومفسدة شديدة فيها ،
لأنكم إذا لم تصيروا يدا واحدة على الشرك ، يضعف شأنكم ، وتذهب ريحكم ، وتسفك
دماؤكم ويتطاول أعداؤكم عليكم ، وتصيرون عاجزين عن الدفاع عن دينكم وعرضكم .. وبذلك
تعم الفتنة ، وينتشر الفساد.
__________________
وقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ، أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ..) كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة
للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار.
إذ أن الآية
الأولى من هذه الآيات الكريمة قد ساقها الله ـ تعالى ـ لإيجاب التواصل بينهم ، أما
هذه الآية فقد ساقها سبحانه ـ للثناء عليهم والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حق
الإيمان وأكمله ، بخلاف من أقام من المؤمنين بدار الشرك ، مع الحاجة إلى هجرته
وجهاده.
قال الفخر الرازي
: أثنى الله ـ تعالى ـ على المهاجرين والأنصار من ثلاثة أوجه :
أولها ـ قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فإن هذه الجملة تفيد المبالغة في مدحهم ، حيث وصفهم بكونهم
محقين في طريق الدين.
وقد كانوا كذلك ،
لأن من لم يكن محقا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ، ولم يفارق الأهل
والوطن ، ولم يبذل النفس والمال.
وثانيها ـ قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) والتنكير يدل على الكمال ، أى : مغفرة تامة كاملة.
وثالثها ـ قوله : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) والمراد منه الثواب الرفيع.
والحاصل : أنه ـ سبحانه
ـ شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).
وأما في الآخرة
فالمقصود إما دفع العقاب ، وإما جلب الثواب.
أما دفع العقاب
فهو المراد بقوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ...) وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) .
ثم ختم ـ سبحانه ـ
السورة الكريمة ببيان القسم الرابع من أقسام المؤمنين في العهد النبوي فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ..).
أى : والذين آمنوا
من بعد المؤمنين السابقين إلى الإيمان والهجرة ، وهاجروا إلى المدينة ، وجاهدوا مع
المهاجرين السابقين والأنصار من أجل إعلاء كلمة الله ، فأولئك الذين هذا شأنهم (مِنْكُمْ) أى : من جملتكم ـ أيها المهاجرون والأنصار في استحقاق
الموالاة والنصرة ، واستحقاق الأجر من الله ، إلا أن هذا الأجر ينقص عن أجركم ،
لأنه لا يتساوى السابق في الإيمان والهجرة والجهاد مع المتأخر في ذلك.
قالوا : والمراد
بهذا القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، أهل الهجرة الثانية التي وقعت بعد
__________________
الهجرة الأولى ،
وقيل المراد بهذا القسم المهاجرون بعد صلح الحديبية ، أو بعد غزوة بدر ، أو بعد
نزول هذه الآية ، فيكون الفعل الماضي (آمَنُوا) وما بعده بمعنى المستقبل.
وقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ..) بيان لحقوق الأقارب بالنسب والأرحام جمع رحم ، وأصله رحم
المرأة الذي هو موضع تكوين الولد في بطنها ، وسمى به الأقارب ، لأنهم في الغالب من
رحم واحدة وأولو الأرحام في اصطلاح علماء الفرائض : هم الذين لا يرثون بفرض ولا
تعصيب.
أى : وذوو القرابة
بعضهم أولى في التوارث وفي غير ذلك مما تقتضيه مطالب الحياة من التكافل والتراحم.
وقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) أى : في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به
عليهم صلة الأرحام في هذه الآية وغيرها.
قال الآلوسى : «أخرج
الطيالسي والطبراني وغيرهما عن ابن عباس قال : آخى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أصحابه ، وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا
ذلك وتوارثوا بالنسب» .
أى أن هذه الآية
الكريمة نسخت ما كان بين المهاجرين والأنصار من التوارث بسبب الهجرة والمؤاخاة.
وقوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تذييل ختمت به السورة الكريمة لحض المؤمنين على التمسك بما
اشتملت عليه من آداب وتشريعات وأحكام لينالوا رضاه وثوابه.
أى : إن الله ـ تعالى
ـ مطلع على كل شيء مما يدور ويجرى في هذا الكون ، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا
في السماء ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
وبذلك نرى الآيات
الكريمة قد مدحت المهاجرين والأنصار مدحا عظيما ، كما مدحت المؤمنين من بعدهم ،
وحضت على الجهاد في سبيل الله ، وأمرت بالوفاء بالعهود ، وبالوقوف صفا واحدا في
وجه الكفار حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وبعد : فهذا ما
وفق الله إليه في تفسير سورة الأنفال ، أو سورة بدر ـ كما سماها ابن عباس ـ لأنها
تحدثت باستفاضة عن أحداث هذه الغزوة وعن أحوال المشتركين فيها ، وعن
__________________
بشارات النصر التي
تقدمتها وصاحبتها وعن غنائمها وأسراها.
كما تحدثت عن صفات
المؤمنين الصادقين ، وعن الأقوال والأعمال التي يجب عليهم أن يتمسكوا بها لينالوا
رضا الله ونصره ، وعن رذائل المشركين ومسالكهم القبيحة لمحاربة الدعوة الاسلامية ،
وعن المبادئ التي يجب أن يسير عليها المسلمون في حربهم وسلمهم ، وعن سنن الله في
خلقه التي لا تتغير ولا تتبدل ، والتي من أهمها :
أنه ـ سبحانه ـ لا
يسلب نعمة عن قوم إلا بسبب معاصيهم وتنكبهم الطريق القويم ، قال ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).
وأنه ـ سبحانه ـ قد
جعل العاقبة الحسنة للمؤمنين ، والعاقبة السيئة للفاسقين ، وأخبر المنحرفين عن
صراطه بأنه سيغفر لهم ما سلف من خطاياهم متى أقلعوا عنها ، وأخلصوا له العبادة.
قال ـ تعالى ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ
الْأَوَّلِينَ ، وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ،
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ
النَّصِيرُ).
وختاما : نسأل
الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا للمداومة على خدمة كتابه ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ،
وأن يتمم لنا نورنا ويغفر لنا إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. محمد سيد
طنطاوى
تفسير
سورة التّوبة
مقدّمة
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد : فهذا تفسير
تحليلي لسورة التوبة ، توخيت فيه أن أبرز ما اشتملت عليه السورة الكريمة من
توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات شاملة ، وحكم جليلة ، وتراكيب بليغة ..
والله نسأل أن
يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ، وشفيعا لنا عنده ـ سبحانه ـ يوم
نلقاه ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
|
المؤلف
د. محمد سيد طنطاوى
|
تمهيد بين يدي تفسير سورة التوبة
نقصد بهذا التمهيد
ـ كما سبق أن بينا في تفسير السور السابقة ـ إعطاء القارئ صورة واضحة عن السورة
التي سنفسرها قبل أن نبدأ في تفسيرها آية آية. فنقول :
١ ـ سورة التوبة
هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور الفاتحة ، والبقرة ، وآل
عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال.
٢ ـ وعدد آياتها
مائة وتسعة وعشرون آية عند الكوفيين. ومائة وثلاثون آية عند جمهور العلماء.
٣ ـ أسماؤها :
عرفت هذه السورة
منذ العهد النبوي بجملة من الأسماء منها :
(ا) التوبة :
وسميت بهذا الاسم لتكرار الحديث فيها عن التوبة والتائبين ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ :
(فَإِنْ تُبْتُمْ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ...) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ...) .
وقوله ـ تعالى ـ :
(وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ...) .
إلى غير ذلك من
الآيات الكثيرة التي تكررت في هذه السورة عن التوبة والتائبين.
(ب) براءة : وسميت
بذلك لافتتاحها بقوله ـ سبحانه ـ : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ...).
وهذان الاسمان ـ التوبة
وبراءة ـ هما أشهر أسماء هذه السورة الكريمة.
(ج) الفاضحة :
وسميت بهذا الاسم لحديثها المستفيض عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم .. وفضيحتهم على
رءوس الأشهاد.
__________________
أخرج البخاري عن
سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة التوبة قال : التوبة هي الفاضحة. ما زالت
تنزل : ومنهم ومنهم ، حتى ظنوا أنها لن تبقى أحدا منهم إلا ذكر فيها .
(د) المنقرة :
وسميت بذلك ، لأنها نقرت عما في قلوب المنافقين والمشركين فكشفت عنه ، وأظهرته
للناس.
(ه) المثيرة :
وسميت بهذا الاسم ، لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم. أى : أخرجتها من الخفاء إلى
الظهور.
(و) المبعثرة :
لأنها بعثرت أسرارهم. أى بينتها وعرفتها للمؤمنين.
(ز) المدمرة : أى
المهلكة لهم.
إلى غير ذلك من
الأسماء التي اشتهرت بها هذه السورة الكريمة .
هذا ، وليس في سور
القرآن الكريم أكثر أسماء منها ومن سورة الفاتحة.
٤ ـ زمان ومكان
نزولها :
قال ابن كثير :
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما قال البخاري ...» .
وقال صاحب المنار
: هي مدنية بالاتفاق. وقيل : إلا قوله ـ تعالى ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى ...) الآية وذلك لما روى في الحديث المتفق عليه من نزولها في
النهى عن استغفاره صلىاللهعليهوسلم لعمه أبى طالب ـ كما سيأتى تفصيله عند تفسيرها.
ويجاب عنه بجواز
أن يكون نزولها تأخر عن ذلك ، وبما يقوله العلماء في مثل هذا المقام من جواز نزول
الآية مرتين : مرة منفردة ومرة في أثناء السورة.
واستثنى ابن الفرس
قوله ـ تعالى ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) إلى آخر الآيتين اللتين في آخرها ؛ فزعموا أنهما مكيتان.
ويرده ما رواه
الحاكم وأبو الشيخ في تفسيره عن ابن عباس من أن هاتين الآيتين من آخر ما نزل من
القرآن ، كما يرده أيضا قول الكثيرين من أن هذه السورة نزلت تامة.
__________________
وما يعارض هذا مما
ورد في أسباب نزول بعض الآيات ، يجاب عنه بأن أكثر ما روى في أسباب النزول ، كان
يراد به أن الآية نزلت في حكم كذا. أعنى أن الرواة كانوا يذكرونها كثيرا في مقام
الاستدلال. وهذا لا يدل على نزولها وحدها ، ولا على كون النزول كان عند حدوث ما
استدل بها عليه ، كما قلنا آنفا في احتمال نزول آية استنكار الاستغفار للمشركين في
المدينة ، وإن كان ما ذكروه من سببها حدث بمكة قبل الهجرة» .
وقال بعض العلماء
: ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ، ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة
عن أسباب النزول وملابساته ، ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك .. يتبين أن
السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.
ومع أننا لا نملك
الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع ، إلا
أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى
منها : كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام.
والمرحلة الثانية
: كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها.
والمرحلة الثالثة
: كانت بعد العودة منها.
أما مقدمات السورة
من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها ، فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة
التاسعة قبيل موسم الحج من ذي القعدة أو في ذي الحجة.
وهذا ـ على
الإجمال ـ هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه .
والذي نراه أن هذا
القول هو الذي تسكن إليه النفس في الحديث عن زمان ومكان نزول السورة الكريمة ؛ لأن
الذي يستعرض آياتها يراها ـ في مجموعها ـ ترسم للمؤمنين ما يجب أن تكون عليه
علاقاتهم مع المشركين ، ومع أهل الكتاب ومع المنافقين ؛ ومع غيرهم من الطوائف.
كما يراها ترسم
لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتخذوه أساسا لدولتهم. ومنهاجا لحياتهم ، حتى تستمر
عزتهم ، وتبقى كلمتهم عالية قوية بعد أن فتح الله لهم مكة وأذل الشرك وأهله.
كما يراها ـ أيضا
ـ تتحدث باستفاضة عن أحداث قد وقعت خلال غزوة تبوك أو قبلها أو بعدها. وغزوة تبوك
قد كانت في السنة التاسعة من الهجرة.
__________________
٥ ـ لما ذا لم
تذكر البسملة في أول سورة التوبة؟.
للإجابة على هذا
السؤال ذكر العلماء أقوالا متعددة لخصها القرطبي تلخيصا حسنا فقال :
واختلف العلماء في
سبب سقوط البسملة من أول هذه السورة على أقوال خمسة :
الأول : ـ أنه قيل
كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا
نقضه ، كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة ؛ فلما نزلت سورة براءة بنقض العهد
الذي كان بين النبي صلىاللهعليهوسلم والمشركين ، بعث بها النبي صلىاللهعليهوسلم على بن أبى طالب فقرأها عليهم في الموسم ، ولم يبسمل في
ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهود من ترك البسملة.
وقول ثان : ـ روى
النسائي قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد قال : حدثنا
عوف ، قال : حدثنا يزيد الرقاشي ـ وفي صحيح الترمذي يزيد الفارسي ـ قال : قال لنا
ابن عباس : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى «الأنفال» وهي من المثاني ،
وإلى «براءة» وهي من المئين فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن
الرحيم ، ووضعتموها في السبع الطوال ؛ فما حملكم على ذلك؟
قال عثمان : إن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : «ضعوا
هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وكانت «الأنفال» من أوائل ما أنزل
ـ أى بعد الهجرة ، و «براءة» من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها.
وقبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها ، فمن ثم قرنت
بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم.
وقول ثالث : روى
عن عثمان أيضا. وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : إنه لما
سقط أولها سقط بسم الله الرحمن الرّحيم معه.
وروى ذلك عن ابن
عجلان أنه بلغه أن سورة «براءة» كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها : فلذلك لم
يكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال سعيد بن جبير
: كانت مثل سورة البقرة.
وقول رابع : ـ قاله
خارجة وأبو عصمة وغيرهما. قالوا : لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال بعضهم : براءة والأنفال سورة واحدة ، وقال بعضهم :
هما سورتان ، فتركت بينهما فرجة لقول من قال إنهما سورتان وتركت بسم الله الرحمن
الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان معا ، وثبت حجتاهما في المصحف.
وقول خامس : قال
عبد الله بن عباس : سألت على بن أبى طالب لما ذا لم يكتب في براءة بسم الله
الرّحمن الرحيم؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس
فيها أمان.
ـ وكذا قال المبرد
: إن التسمية افتتاح للخير ، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود ، فلذلك لم تفتتح
بالتسمية.
ثم قال القرطبي
والصحيح أن التسمية لم تكتب ، لأن جبريل ـ عليهالسلام ـ ما نزل بها في هذه السورة ..» .
هذا ، وقول
القرطبي : والصحيح أن التسمية لم تكتب ... إلخ ، هو القول الذي نعتمده ، وتطمئن
إليه قلوبنا ، وقد رجحه المحققون من العلماء.
فقد قال الفخر
الرازي ـ وقد ذكر ستة أوجه في سبب إسقاط التسمية من أولها ـ :
الصحيح أنه صلىاللهعليهوسلم أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا ، وأنه حذف بسم
الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا .
وقال الجلال : ولم
تكتب فيها البسملة لأنه صلىاللهعليهوسلم لم يأمر بذلك ، كما يؤكد من حديث رواه الحاكم.
أى أنه ـ كما يقول
الجمل ـ لا مدخل لرأى أحد في الإثبات والترك ، وإنما المتبع في ذلك هو الوحى
والتوقيف وحيث لم يبين النبي صلىاللهعليهوسلم ذلك تعين ترك التسمية ، لأن عدم البيان من الشارع في موضع
البيان بيان للعدم» .
وقال بعض العلماء
: ولم تكتب في أولها البسملة لعدم أمره صلىاللهعليهوسلم بكتابتها ، إذ لم ينزل بها جبريل ـ عليهالسلام ـ والأصل في ذلك التوقيف».
أما الأقوال
الخمسة التي نقلناها عن القرطبي ـ منذ قليل ـ في سبب سقوط البسملة من أول سورة
التوبة ، فإننا لا نرى واحدا منها يعتمد عليه في هذا الأمر. لأن القول الأول الذي
حكاه بقوله : قيل كان من شأن العرب ... إلخ. إنما هو تعليل عقلي على سبيل الاجتهاد
لبيان الحكمة في عدم كتابة البسملة في أولها. ومثل هذا التعليل يقال في القول
الخامس الذي حكاه ابن عباس ، عن على بن أبى طالب.
__________________
وأما القول الثاني
ـ وهو الحديث الذي رواه النسائي والترمذي ـ فقد علق عليه أحد العلماء المحققين
بقوله : «في إسناده نظر كثير ، بل هو عندي ضعيف جدا ، بل هو حديث لا أصل له. يدور
إسناده في كل رواياته على «يزيد الفارسي» .. ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه : أهو
يزيد بن هرمز أم غيره.
قال البخاري في
التاريخ الكبير : «قال لي على : قال عبد الرحمن : يزيد الفارسي هو ابن هرمز. قال :
فذكرته ليحيى فلم يعرفه ، قال : «وكان يكون مع الأمراء». وفي التهذيب : «قال ابن
أبى حاتم : اختلفوا هل هو يعنى ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره ...
فهذا يزيد الفارسي
الذي انفرد برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولا ، حتى شبه على مثل ابن مهدى وأحمد
والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره.
ويذكره البخاري في
الضعفاء ، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به ، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن
الثابتة بالتواتر القطعي ، قراءة وسماعا وكتابة في المصاحف. وفيه تشكيك في إثبات
البسملة في أوائل السور ، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه ، وحاشاه من
ذلك.
فلا علينا إذا
قلنا إنه «حديث لا أصل له» تطبيقا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة
الحديث.
قال السيوطي في
تدريب الراوي في الكلام على أمارات الحديث الموضوع : أن «يكون منافيا لدلالة
الكتاب القطعية ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي» ... .
وأما القول الثالث
الذي يقول «إنه لما سقط أولها سقط معه بسم الله الرحمن الرحيم ...» فهو قول ساقط
لا يعتد به ، لأنه لا دليل عليه ولا سند له ، ويؤدى الالتفات إليه إلى المساس
بقداسة القرآن الكريم ، حيث إن بعض سوره كانت طويلة ثم سقط منها ما سقط.
وأما القول الرابع
الذي يزعم قائلوه أن بعض الصحابة قال : «براءة والأنفال سورة واحدة ...» فهو قول
ضعيف ولا يعتد به ـ أيضا ـ كسابقه ، لأنه قد عرف واشتهر بأنهما سورتان مستقلتان
منذ عهد النبي صلىاللهعليهوسلم إلى يومنا هذا.
ولأن الذي يقرأ
السورتين بإمعان وتدبر ، يرى أن لكل منهما موضوعاتها الخاصة بها ، والتي اهتمت بها
أكثر من غيرها ، فسورة الأنفال تحدثت باستفاضة عن غزوة بدر وما يتعلق بها .. بينما
سورة التوبة قد تحدثت باستفاضة عن غزوة تبوك أى في السنة التاسعة.
__________________
قال الحاكم :
استفاض النقل أنهما سورتان.
وقال أبو السعود :
اشتهارها ـ أى سورة التوبة ـ بهذه الأسماء المتقدمة ـ براءة والفاضحة ... إلخ ـ يقضى
بأنها سورة مستقلة ، وليست بعضا من سورة الأنفال ...» :
وقال بعض العلماء
: وهذه الأسماء وغيرها مما ثبت إطلاقه على السورة ـ أى سورة التوبة ـ من الصدر
الأول ، لم يعرف إطلاق واحد منها على السورة التي قبلها وهي سورة الأنفال ، كما لم
يعرف أنه أطلق اسم سورة الأنفال على هذه السورة. وبذلك احتفظت كل من السورتين منذ
العهد الأول بما لها من اسم لم تشاركها فيه صاحبتها.
وكما احتفظت كل من
السورتين بما لها من اسم ، احتفظت كل منهما بوقت نزولها ، فسورة الأنفال نزلت بعد
غزوة بدر. أى : في السنة الثانية من الهجرة. وسورة التوبة نزلت بعد غزوة تبوك ،
وبعد خروج أبى بكر على رأس المسلمين إلى الحج. أى : في أواخر السنة التاسعة.
وكما احتفظت كل
منهما بهذا وذاك ، احتفظت كل منهما ـ أيضا ـ بهدفها الخاص.
فسورة التوبة
عالجت شئونا حدثت بعد زمن طويل من نزول سورة الأنفال ، ومعرفتها باسم سورة
الأنفال. وسورة الأنفال عالجت شئونا حدثت قبل نزول سورة التوبة ولم يرد لها ذكر
فيها.
ولا شك أن كل هذه
الاعتبارات الواضحة المبينة والمحققة في السورتين من الصدر الأول ، تدل دلالة
واضحة على أنهما سورتان منفصلتان ، وأن عدهما سورة واحدة رأى لا قيمة له ، كما لا
قيمة للاشتباه في استقلال كل منهما حتى يقال : تركت البسملة بينهما نظرا لاحتمال
وحدتهما ، وتركت بينهما فرجة نظرا لاحتمال انفصالهما.
وقد عرف مع ترك
التسمية بينهما أنهما سورتان مستقلتان من عهد النبي صلىاللهعليهوسلم إلى يومنا هذا.
وقد جاءتا كذلك في
المصاحف الأولى : مصحف عثمان ، وعلى ، وابن عباس ، فلا معنى بعد هذا كله لإثارة
شبهة قد تمس من قرب أو بعد قداسة تنظيم كتاب الله وترتيبه بناء على روايات ضعيفة
أو موضوعة .
والخلاصة أن القول
بأنهما سورة واحدة ، قول لا وزن له ، ولا يعول عليه للأسباب التي ذكرناها آنفا.
__________________
٦ ـ مناسبتها
لسورة الأنفال :
قال الآلوسى :
ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما
علمت ، وفي هذه قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله.
وفي الأولى ـ أيضا
ـ ذكر العهود وهنا نبذها. وأنه ـ سبحانه ـ أمر في الأولى بالإعداد فقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ) ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا
لَهُ عُدَّةً).
وأنه ـ سبحانه ـ ختم
الأولى بإيجاب أن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية
، وصرح ـ جل شأنه ـ في هذه بهذا المعنى فقال : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ..).
إلى غير ذلك من
وجوه المناسبة .
وقال صاحب المنار
: وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع
بعض ، فهي ـ أى التوبة ـ كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين
وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وأحكام المعاهدات .. فما بدئ به في الأولى أتم في
الثانية ، مثال ذلك.
١ ـ أن العهود
ذكرت في سورة الأنفال ، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها ، ولا سيما نبذها
الذي قيد في الأولى بخوف خيانة الأعداء.
٢ ـ تفصيل الكلام
في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.
٣ ـ ذكر في الأولى
صد المشركين عن المسجد الحرام وأنهم ليسوا بأوليائه ، وجاء في الثانية (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ...).
٤ ـ ذكر في أول
الأولى صفات المؤمنين الكاملين ، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين ، ثم ذكر في
آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين. وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا .
والحق أن الذي
يقرأ السورتين بتأمل وتدبر يراهما تعطيانه ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة
لدعوة النبي صلىاللهعليهوسلم وجهاده إلى أن أتم الله له نعمة النصر.
__________________
فمثلا عند ما نقرأ
سورة الأنفال نراها تتحدث عن حالة المسلمين قبل الهجرة كما في قوله ـ تعالى ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ...) الآية ٢٦.
كما تتحدث عن
المكر السيئ الذي صدر عن المشركين والذي كان من أسباب الهجرة ، كما في قوله ـ تعالى
ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) الآية ٣٠.
ثم نراها تفيض في
الحديث عن غزوة بدر ، وتشير إلى ما ظهر من المنافقين فيها (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ). الآية ٤٩. وإلى ما حدث من اليهود من نقض للعهود (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) الآية ٥٨.
أما سورة التوبة
فنراها تذكر المسلمين بالنصر الذي منحه الله لهم في مواطن كثيرة قال ـ تعالى ـ (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ
كَثِيرَةٍ ...) «الآية ٢٥» كما
تصف بالتفصيل مواقف المنافقين في غزوة تبوك وغيرها.
ولعل قيام
السورتين الكريمتين بإعطاء القارئ ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة للدعوة
الإسلامية هو الحكمة في وضعهما مقترنتين وفي تسميتهما بالقرينتين.
قال القرطبي :
كانتا تدعيان القرينتين ؛ فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي
لزمهما من الاقتران ورسول الله صلىاللهعليهوسلم حي. .
٧ ـ المقاصد
الإجمالية لسورة التوبة :
عند ما نقرأ سورة
التوبة بتأمل وتدبر نراها في مطلعها تحدد تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه
المؤمنون في علاقتهم مع المشركين ، وتبين بوضوح وجلاء الأسباب التي تدعو المؤمنين
إلى التزام هذا المنهاج.
فهي في أولها تعلن
براءة الله ورسوله من المشركين بسبب خيانتهم ، وتمنحهم الأمان لمدة أربعة أشهر لكي
يدبروا فيها أمر أنفسهم ، وتعلن للناس عامة يوم الحج الأكبر أن الله ورسوله قد
برئا من عهود المشركين ، وأنها قد نبذت إليهم ، وتستثني من هؤلاء المشركين أولئك
الذين لم ينقضوا ، فتأمر المؤمنين بأن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ، فإذا ما
انتهت مدة الأمان فعلى المؤمنين أن يقتلوا المشركين الناكثين حيث وجدوهم ، وأن
يؤمنوا من يطلب الأمان منهم حتى يسمع القرآن ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الإسلام.
وبذلك لا يبقى له عذر.
__________________
استمع إلى السورة
الكريمة وهي تصور كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ الحاسم فتقول : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي
الْكافِرِينَ* وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنْ
تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
ثم تسوق السورة
بعد ذلك الأسباب التي دعت إلى البراءة من المشركين. والتي أوجبت على المؤمنين
قتالهم ، وحرضتهم على ذلك بأنواع من المشجعات فقالت :
(أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ ، أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ*
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ).
ثم توجه السورة
الكريمة خطابها إلى الذين شق عليهم القتال من المؤمنين ، وتبين أن الحكمة في الأمر
به ، إنما هي الامتحان والتمحيص فتقول :
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ، وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).
ثم تصرح السورة
الكريمة بعد ذلك بأن المؤمنين وحدهم هم الذين من حقهم أن يعمروا مساجد الله ...
أما المشركون فليس من حقهم ذلك بسبب كفرهم ونجاستهم.
قال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ* إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ
اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى
الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ).
فإذا ما وصلنا إلى
الرابع الثاني من سورة التوبة رأيناها في أوائله توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم
فيه أن يؤثروا محبة الله ورسوله على محبة الآباء والأبناء والأموال .. وتهدد من
يخالف ذلك فتقول :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ
وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها
وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ ، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).
ثم أخذت السورة
الكريمة في تذكير المؤمنين بألوان من نعم الله عليهم ، حيث نصرهم. سبحانه : على
أعدائهم في مواطن كثيرة ، وحيث أيدهم بعونه بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ
كَثِيرَةٍ ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئاً ، وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ، وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).
ثم وجهت إليهم
نداء ثانيا نهتهم فيه عن تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وبشرتهم بأن
الله ـ تعالى ـ سيغنيهم من فضله متى تابوا إليه وأطاعوه.
قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الآية ٢٨).
وإلى هنا نرى
السورة الكريمة قد حددت تحديدا حاسما المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في
علاقاتهم مع المشركين ، وأبرزت بصورة واضحة ومقنعة الأسباب المتنوعة التي أوجبت
سلوك هذا المنهاج.
وتلك عادة القرآن
الكريم في تشريعاته ، لا تكاد تجد تشريعا من تشريعاته إلا وقد صاحبته الحكمة التي
كان لأجلها هذا التشريع ، والتي من شأنها أن تدفع الناس إلى المسارعة في التنفيذ
والامتثال.
ثم بدأت السورة
بعد ذلك في تحديد المنهاج الذي يجب أن يسلكه المؤمنون في علاقاتهم مع المنحرفين من
أهل الكتاب ، وأبرزت ، أيضا : الأسباب التي تدعو إلى التزام هذا المنهاج ، فأمرت
باستمرار قتالهم ، وذكرت ما هم عليه من صفات سيئة تحمل المؤمنين على تأديبهم ،
وأرشدت إلى ما كان عليه رؤساؤهم من أكل لأموال الناس بالباطل ، ومن صد عن سبيل
الله ، استمع إلى الآيات الكريمة وهي تحكى كل ذلك فتقول :
(قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ* وَقالَتِ
الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ،
ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا
يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
ثم وجهت السورة
نداء رابعا إلى المؤمنين ، نعت فيه على المتثاقلين الذين دعوا إلى الجهاد فتكاسلوا
عنه .. وحذرتهم من سوء عاقبة هذا التكاسل وذكرتهم بما كان من نصر الله ـ تعالى
لنبيه وقت أن أحاط به المشركون وهو في الغار ، وأمرتهم بالخروج للجهاد في حالتي
اليسر والعسر والمنشط والمكره.
قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما
لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الْأَرْضِ ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ، فَما مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ* إِلَّا تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا
تَضُرُّوهُ شَيْئاً ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وبعد هذه الدعوة
الحارة للمؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله بالنفس والأموال بدأت السورة الكريمة في
الحديث عن المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم ، ورسمت أحوالهم النفسية
والعملية ، وفضحت مواقفهم في غزوة تبوك وما كان منهم قبلها وبعدها وأثناءها ،
وأظهرت حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم عن القتال ، وأزاحت الستار عن أساليب
نفاقهم وألوان فتنهم وتخذيلهم للمؤمنين ، وحكت ما كانوا ينطقون به من سوء في حق
النبي صلىاللهعليهوسلم وفي حق أصحابه.
وقد استغرق الحديث
عن المنافقين زهاء نصف سورة التوبة ـ أى من أواخر الربع الثالث منها إلى نهاية
الربع السابع.
وقد تركتهم السورة
الكريمة ـ بعد هذا الكشف السافر لأحوالهم : عراة من الخير أمام المؤمنين ، منبوذين
من جماعة المسلمين ، مميزين بصفاتهم القبيحة التي فصلها القرآن تفصيلا يجعل
العقلاء يعرفونهم ويحذرونهم.
فمن صفاتهم
الذميمة ومسالكهم الخبيثة التي تحدثت السورة عنها :
(أ) الفرار من
مواطن الجد والجهاد ، والتعلل بالأعذار الكاذبة ، والتستر بالأيمان الفاجرة ، وقد
حكت السورة عنهم ذلك في مواضع كثيرة منها.
قال تعالى : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً
قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ، وَسَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ
يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) :
وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ).
وقوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ
خِلافَ رَسُولِ اللهِ ، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) :
وقوله تعالى : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا
بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ
وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ).
(ب) إشاعة الفتنة
في صفوف الجيش الإسلامى متى وجدوا فيه ، أى أن خلو الجيش منهم خير وبركة ووجودهم
فيه شر وفتنة.
قال تعالى (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ
إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
(ج) كراهتهم الخير
للرسول صلىاللهعليهوسلم ولأصحابه ، ومحبتهم السوء لهم.
قال تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ،
وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ
وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ).
(د) تكاسلهم عن
أداء الشعائر الدينية بسبب فسوقهم وكفرهم :
قال تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ* وَما مَنَعَهُمْ
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ
وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ
إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ).
(ه) تظاهرهم
بالإسلام تقية وجبنهم عن التصريح بما هم عليه من كفر.
قال تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ* لَوْ يَجِدُونَ
مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).
(و) طعنهم على الرسول
صلىاللهعليهوسلم في قسمة الأموال وفي توزيع الصدقات بقصد إشاعة التهم
الباطلة حوله.
قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقاتِ ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا
هُمْ يَسْخَطُونَ).
(ز) وصفهم للرسول صلىاللهعليهوسلم بأنه أذن ـ أى يصدق كل ما يقال له بدون تثبت ...
قال تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ، يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ،
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
(ح) استهزاؤهم
بتعاليم الإسلام فيما بينهم ، واعتذارهم عن ذلك بأنهم لم يكونوا جادين فيما ينطقون
به من سوء ، وتكذيب الله لهم فيما اعتذروا عنه.
قال تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ
اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ* وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِؤُنَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ
عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ).
(ط) تعاطفهم فيما
بينهم وتعاونهم على الإثم والعدوان لا على البر والتقوى.
قال تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ
، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ).
(ى) سخريتهم من
فقراء المؤمنين ، لأنهم يتصدقون بالقليل الذي لا يملكون سواه.
قال تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
(ك) نقضهم للعهود
، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله.
قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ
آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا
آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).
(ل) اتخاذهم مسجدا
لهم لا من أجل العبادة ، وإنما من أجل المضارة وإيذاء المسلمين ومحاولة تفريق
كلمتهم ، وتشتيت وحدتهم.
قال تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ
اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى
، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).
وهكذا نرى السورة
الكريمة قد تتبعت المنافقين ، فكشفت عن أصنافهم وأوصافهم وأحوالهم .. بصورة تجعل
المؤمنين الصادقين يعرفونهم ويحذرونهم.
بعد ذلك اتجهت
السورة : في أواخرها بالحديث إلى المؤمنين الصادقين.
(أ) فذكرتهم
بالتعاقد الذي بينهم وبين خالقهم : عزوجل وبشرتهم برضوانه ومحبته متى وفوا بعهودهم فقال ، تعالى :
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
(ب) وأعلمتهم بأن
إيمانهم يحتم عليهم عدم الاستغفار لمن خالفهم في الدين مهما بلغت درجة قرابته.
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).
(ج) وأمرتهم بأن
يصحبوا رسولهم : صلىاللهعليهوسلم : في جهاده للأعداء ، وأن يكابدوا معه الشدائد والأهوال
برغبة ونشاط ؛ لأن كل تعب يلحقهم معه مكتوب لهم في سجل حسناتهم.
(ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ
لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
(د) وأرشدتهم إلى
أنه في حالة عدم خروج النبي صلىاللهعليهوسلم معهم للجهاد ، عليهم أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين : قسم
يخرج للجهاد وقسم آخر يبقى مع النبي صلىاللهعليهوسلم ليتعلم منه العلم ويحفظ عنه ما تجدد من أحكام.
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) :
(ه) ثم ختم.
سبحانه. هذه السورة الكريمة بهاتين الآيتين الدالتين على سابغ رحمته بعباده ، حيث
أرسل إليهم رسولا من أنفسهم حريصا على منفعتهم رحيما بهم ، فقال تعالى :
(لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
أما بعد : فهذا
عرض إجمالى لما اشتملت عليه سورة التوبة من موضوعات ومن هذا العرض يتبين لنا أن
السورة الكريمة قد اهتمت بأمور معينة من أهمها ما يأتى :
١ ـ رسم المنهاج
النهائى الذي يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع مشركي العرب ، ومع أهل
الكتاب ، ومع المنافقين ، مع بيان الأسباب التي تدعو المسلمين إلى التزام هذا
المنهاج.
٢ ـ كشف الغطاء عن
المنافقين وأصنافهم وأوصافهم ، وعما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد ، وعما سلكوه من
مسالك خبيثة لمحاربة الدعوة الإسلامية ، ومناوأة أتباعها الصادقين.
وقد أفاضت السورة
في الحديث عن ذلك إفاضة لا توجد في غيرها من سور القرآن الكريم.
٣ ـ حددت السورة
الكريمة معالم المجتمع الإسلامى بعد أن تم فتح مكة ، وبعد أن دخل الناس في دين
الله أفواجا.
فأثنت على
السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ووعدتهم بالفوز
العظيم.
قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وحكمت على كل فريق
من المتخلفين عن غزوة تبوك من أهل المدينة وما حولها بالحكم الذي يناسبه.
قال تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ
مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ
عَظِيمٍ).
وقال تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
وقال تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ
إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ).
وهكذا نرى السورة
الكريمة قد وضحت الطوائف المتنوعة التي كان المجتمع الإسلامى يتكون منها عند
نزولها ، أى : بعد أن تم فتح مكة.
٤ ـ يؤخذ من
الحديث المستفيض الذي ساقته السورة عن المنافقين وصفاتهم وأحوالهم .. أنهم بعد فتح
مكة بدأت دولتهم تعود إلى الظهور في المجتمع الإسلامى بينما كانت قبيل الفتح قد
أوشكت على التلاشى والاندثار.
ولعل السبب في ذلك
: أن كثيرا من الناس قد دخل في الإسلام بعد أن فتحت مكة ، لأسباب دنيوية متنوعة ،
دون أن يستقر الإيمان بالله في قلوبهم ، وإنما بقيت آثار الجاهلية لها وزنها في
تحريك طباعهم واتجاهاتهم وأفكارهم.
قال بعض العلماء :
سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح ، ويصف تكوينه
العضوى ، ومن هذه الصورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية
، كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال ، ومن النفاق والضعف ، والتردد في
الواجبات والتكاليف ، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين
المعسكر الإسلامى
والمعسكرات الأخرى ، وعدم المفاضلة الكاملة على أساس العقيدة ، وإن كان هذا كله لا
يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار ، مما
استدعى حملات مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير تفي بحاجة المجتمع
إليها.
وإن سبب هذه
الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح ، لم تتم
تربيتها ، ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامى الأصيل .
٥ ـ عرضت السورة
لبيان كثير من الأحكام والإرشادات التي تحتاج إليها الدولة الناشئة ، كحديثها عن
مصارف الزكاة ، وعن الجهاد وموجباته ، وعن العهود وأحكامها ، وعن الأشهر الحرم ..
إلى غير ذلك من الأحكام.
هذا ، ولعلنا ،
بعد هذا التمهيد الذي سقناه بين يدي تفسير سورة التوبة نكون قد أعطينا القارئ
الكريم فكرة واضحة عن أسماء هذه السورة ، وعن زمان ومكان نزولها ، وعن السبب في
عدم ذكر البسملة في أولها ، وعن مقاصدها وموضوعاتها الإجمالية.
والله نسأل أن
يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجنبنا الزلل والانحراف عن الطريق القويم.
وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
تفسير سورة التوبة قال تعالى :
(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ
وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ
تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا
عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٤)
قال الإمام ابن
كثير : أول هذه السورة نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رجع من غزوة «تبوك» وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين
يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة ، فكره
مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم
للناس مناسكهم ، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادى بالناس (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ..) ، فلما قفل أتبعه بعلى بن أبى طالب ، ليكون مبلغا عنه صلىاللهعليهوسلم لكونه عصبة له .
__________________
وقال محمد بن
إسحاق : لما نزلت (بَراءَةٌ) على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ ليقيم للناس
الحج ، قيل له : يا رسول الله ، لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال : «لا يؤدى عنى إلا
رجل من أهل بيتي».
ثم دعا على بن أبى
طالب فقال له : اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا
اجتمعوا بمنى : أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف
بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم عهد فهو له إلى مدته.
فخرج على بن أبى
طالب على ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم «العضباء» حتى
أدرك أبا بكر بالطريق ، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أم مأمور؟ فقال : بل مأمور.
ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من
الحج التي كانوا عليها في الجاهلية.
حتى إذا كان يوم
النحر قام على بن أبى طالب فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد
العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو إلى مدته ، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ،
ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحد كان له عند
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد العام مشرك
، ولم يطف بالبيت عريان ، ثم قدما على رسول الله صلىاللهعليهوسلم .
وقال الفخر الرازي
: روى أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا الأراجيف ،
جعل المشركون ينقضون العهد ، فنبذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم العهد إليهم .
هذه بعض الآثار
التي ذكرها المفسرون في هذا المقام.
وقوله ـ تعالى ـ :
(بَراءَةٌ) مصدر برئ «كتعب» ، وأصل البراءة : التباعد عن الشيء
والتخلص منه. تقول : برئت من هذا الشيء أبرأ براءة فأنا منه برىء ، إذا أزلته عن
نفسك ، وقطعت الصلة بينك وبينه. ومنه قولهم : برئت من الدين أى تخلصت منه.
__________________
ولفظ (بَراءَةٌ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والتنوين فيه للتفخيم و (مِنَ) لابتداء الغاية ، والعهد : العقد الموثق باليمين ، والخطاب
في قوله (عاهَدْتُمْ) للمسلمين.
والمعنى : هذه
براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين بسبب نقضهم لعهودهم ،
وإصرارهم على باطلهم ...
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟.
قلت : قد أذن الله
في معاهدة المشركين أولا ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله ـ تعالى ـ النبذ
إليهم ، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك فقيل لهم : اعلموا أن الله ورسوله قد برئا
مما عاهدتم به المشركين.
وروى أنهم عاهدوا
المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا إلا ناسا منهم ، فنبذ العهد إلى
الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين ..» .
وقال بعض العلماء
: والمعنى أن الله قطع ما بينه وبين المشركين من صلات فلا عهد ولا تعاهد ولا سلم
ولا أمان ، وتركهم تعمل فيهم سيوف المؤمنين حتى يقوموهم أو يبيدوهم. ولا يدخل في
هذا التبري قطع رحمته العامة عنهم التي كتبها على نفسه من جهة أنه الخالق وأنهم
المخلوقون ... فهو مع هذا التبري لا يزال من هذه الجهة يرحمهم بمنح الحياة وموارد
الرزق ، والتمكين من العمل حسب تقديره العام وسنته الشاملة في خلقه ولو أن التبري
كان على إطلاقه لما عاش كافر طرفة عين ، ولما استطاع كافر أن يقف في وجه مسلم.
فالآية تقرر حكما
تكليفيا للمسلمين في شأن معاملة المشركين ..
واعتبار أن الآية
تقرر حكما شرعيا والمشرع هو الله أضيف صدور البراءة إليه ـ سبحانه ـ وعطف عليه
الرسول صلىاللهعليهوسلم في هذا المقام ، لأنه هو المبلغ عنه ، والمنفذ لما يبلغه
..
ولما كان التعاهد
بين المؤمنين وغيرهم تنفيذا لأمر الله به ، وأصله حق لجماعتهم ، وإنما يقوم الإمام
به نائبا عن الجماعة ، أضيف ـ أى التعاهد ـ إلى جماعة المسلمين ، فقيل : (عاهَدْتُمْ) .. وكثيرا ما ينسب القرآن الأحكام العامة لجماعة المؤمنين
...
ويؤخذ من تقرير
البراءة من المشركين في هذه الآية جواز نبذ العهود لمن كان بيننا وبينه
__________________
عهد متى رأى
الإمام مصلحة الأمة في ذلك ، كأن خيف منهم خيانة ، أو نقضوا شيئا من شروط المعاهدة
، أو وضعت المعاهدة على غير شرط احترامها الشرعي ، وذلك كله أخذا من هذا المقام ،
ومن قوله ـ تعالى ـ في سورة الأنفال : (وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ).
كما يؤخذ أن عقد
المعاهدات إنما هو حق للجماعة ، يوافق عليه أصحاب الرأى والاختصاص في موضوع
المعاهدة ، وما هو في مصلحة الجماعة ، ثم يباشرها الإمام بعد ذلك نيابة عن الجماعة
.
وقوله ـ تعالى ـ :
(فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ...) بيان للمهلة التي منحها ـ سبحانه ـ للمشركين ليدبروا فيها
أمرهم.
والسياحة في الأصل
: جريان الماء وانبساطه على موجب طبيعته ، ثم استعملت في الضرب في الأرض والاتساع
في السير والتجوال. يقال : ساح فلان في الأرض سيحا وسياحة وسيوحا إذا تنقل بين
أرجائها كما يشاء.
والخطاب للمؤمنين
على تقدير القول. أى : فقولوا أيها المؤمنون للمشركين سيحوا في الأرض أربعة أشهر.
ويجوز أن يكون
الخطاب للمشركين أنفسهم على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الحضور ، لقصد تهيئة
خطابهم بالوعيد المذكور بعد ذلك في قوله ـ سبحانه ـ (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ).
والمقصود بالأمر
في قوله : (فَسِيحُوا) الإباحة والإعلام بحصول الأمان لهم في تلك المدة من أن
يقتلوا أو يقاتلوا أو يعتدى عليهم ..
والمعنى : قولوا
أيها المسلمون للمشركين ـ بعد هذه البراءة منهم ، سيحوا في الأرض ، أى : سيروا
فيها مقبلين ومدبرين حيث شئتم وأنتم آمنون في هذه المدة.
وفي التعبير بقوله
(فَسِيحُوا) من الدلالة على كمال التوسعة ، ما ليس في قوله (سِيرُوا) أو ما يشبهه ، لأن لفظ السياحة يدل على الاتساع في السير
والبعد عن المدن ، وعن موضع العمارة.
__________________
والحكمة في
إعطائهم هذه المدة تمكينهم من النظر والتدبر في أمر أنفسهم حتى يختاروا ما فيه
مصلحتهم ، ويعلموا أنهم ليس أمامهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو السيف ، ولكي لا
ينسب إلى المسلمين الغدر ونبذ العهد دون إعلام أو إنذار.
وهذا من سمو
تعاليم الإسلام. تلك التعاليم التي لم تبح لأتباعها أن يأخذوا أعدى أعدائهم على
غرة ، بل منحت هؤلاء الأعداء مهلة كافية يدبرون فيها أمر أنفسهم وهم آمنون من أن
يتعرض لهم أحد من المسلمين بأذى.
ومتى كان ذلك؟ كان
ذلك في الوقت الذي نقض فيه المشركون عهودهم عند أول بادرة لاحت لهم ، وفي الوقت
الذي أرجف فيه المرجفون أن المسلمين لن يعودوا من تبوك سالمين ، بل إن الروم
سيأخذونهم أسرى ، وفي الوقت الذي كانت المجتمعات فيه يغزو بعضها بعضا بدون إنذار
أو إعلام ...
فإن قيل : وما
الحكمة في تقدير هذه المهلة بأربعة أشهر؟
فالجواب ـ كما
يقول الجمل ـ اقتصر على الأربعة ـ هنا لقوة المسلمين إذ ذاك ، بخلاف صلح الحديبية
فإنه كان لمدة عشر سنين لضعف المسلمين إذ ذاك ، والحاصل أن المقرر في الفروع أنه
إذا كان بالمسلمين ضعف جاز عقد الهدنة عشر سنين فأقل ، وإذا لم يكن بهم ضعف لم تجز
الزيادة على أربعة أشهر .
وقال بعض العلماء
: ولعل الحكمة في تقدير تلك المدة بأربعة أشهر ، أنها هي المدة التي كانت تكفى ـ إذ
ذاك بحسب ما يألفون ـ لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض ، والتقلب في شبه
الجزيرة على وجه يمكنهم من التشاور والأخذ والرد مع كل من يريدون أخذ رأيه في
تكوين الرأى الأخير ، وفيه فوق ذلك مسايرة للوضع الإلهى في جعل الأشهر الحرم من
شهور السنة أربعة.
على أنا نجد في
القرآن جعل الأربعة الأشهر أمدا في غير هذا فمدة إيلاء الرجل من زوجه أربعة أشهر ـ
وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر.
ولعل ذلك ـ وراء
ما يعلم الله ـ أنها المدة التي تكفى بحسب طبيعة الإنسان لتقليب وجوه النظر فيما
يحتاج إلى النظر ، وتبدل الأحوال على وجه تستقر فيه إلى ما يقصد فيه.
__________________
ويؤخذ من تقرير
الهدنة للأعداء في هذا المقام تقرر مبدأ الهدنة والصلح في الإسلام ، طلبها العدو
أم تقدم بها المسلمون ، وأصل ذلك مع هدنة المشركين هذه قوله ـ تعالى ـ في سورة
الأنفال .. (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وأن مدتها تكون على حسب ما يرى الإمام وأرباب الشورى
المقررة في قوله ـ تعالى ـ (وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ) .
وقد اختلف
المفسرون في ابتداء هذه الأشهر الأربعة فقال مجاهد والسدى وغيرهما : كان ابتداء
هذه الأشهر الأربعة يوم الحج الأكبر من السنة التاسعة ونهايتها في العاشر من شهر
ربيع الآخر من السنة العاشرة ، وذلك لأن المشركين قد أعلموا بهذه المهلة يوم النحر
من السنة التاسعة على لسان على بن أبى طالب ـ كما سبق أن بينا.
وقيل كان ابتداء
هذه الأشهر الأربعة يوم النحر لعشر من ذي القعدة من السنة التاسعة ونهايتها في
اليوم العاشر من شهر ربيع الأول من السنة العاشرة ، وذلك لأن الحج في تلك السنة
كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي ابتدعه المشركون.
والرأى الأول أرجح
وعليه الأكثرون ، لأن معظم الآثار تؤيده. وكذلك اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فيمن
تنطبق عليهم هذه المهلة ، فقال مجاهد ؛ هذا تأجيل للمشركين مطلقا ، فمن كانت مدة
عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، ومن كان عهده بغير
أجل حد بها. ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ، ويؤسر ، إلا أن يتوب
ويؤمن .
وقال آخرون : كانت
هذه الأربعة الأشهر مهلة لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت
فأجله إلى مدته مهما كانت هذه المدة لقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى
مُدَّتِهِمْ).
وهذا القول قد
اختاره ابن جرير وغيره ، فقد قال ابن جرير ـ بعد أن ذكر عدة أقوال في ذلك :
«وأولى الأقوال في
ذلك بالصواب قول من قال : الأجل الذي جعله الله إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته ، فأما الذين لم ينقضوا
عهدهم ، ولم يظاهروا عليه ، فإن الله ـ تعالى ـ أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ
أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ) ، ثم قال : وبعد ففي
__________________
الأخبار المتظاهرة
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه حين بعث عليا ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره
فيما أمره أن ينادى به فيهم «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته».
وهو أوضح دليل على صحة ما قلنا.
وذلك أن الله لم
يأمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل ، فاستقاموا على عهدهم
بترك نقضه ، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل ، أو كان له
عهد إلى أجل غير محدود ، فأما من كان أجل عهده محدودا ، ولم يجعل بنقضه على نفسه
سبيلا ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا ، وبذلك بعث مناديه
في أهل الموسم من العرب ..» .
والذي يبدو لنا
بعد مراجعة الأقوال المتعددة في شأن من تنطبق عليهم هذه المهلة من المشركين ـ أن
ما اختاره ابن جرير هو خير الأقوال وأقواها ، لأن النصوص من الكتاب والسنة تؤيده.
ومن أراد معرفة
هذه الأقوال بالتفصيل فليراجع ما كتبه المفسرون في ذلك.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هذا الإمهال للمشركين لن ينجيهم من إنزال العقوبة بهم متى استمروا على كفرهم
فقال ـ تعالى ـ : (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ، وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ).
أى : واعلموا ـ أيها
المشركون ـ أنكم بسياحتكم في الأرض خلال تلك المهلة لن تعجزوا الله ـ تعالى ـ في
طلبكم ، فأنتم حيثما كنتم تحت سلطانه وقدرته ، واعلموا كذلك أنه ـ سبحانه ـ مذل
للكافرين ، في الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بالعذاب المهين.
فالآية الكريمة قد
ذيلت بما يزلزل قلوب المشركين بالحقيقة الواقعة ، وهي أن ذلك الإمهال لهم ، وتلك
السياحة في الأرض منهم ، كل هذا لن يجعلهم في مأمن من عقاب الله ، ومن إنزال
الهزيمة بهم ، لأنهم في قبضته.
ومهما أعدوا خلال
تلك المهلة من عدد وعدد لقتال المؤمنين ، فإن ذلك لن ينفعهم ، لأن سنته ـ سبحانه ـ
قد اقتضت أن يجعل النصر والفوز للمؤمنين والخزي والسوء على الكافرين.
قال الفخر الرازي
ما ملخصه ، وقوله : (وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ). المقصود منه : أنى أمهلتكم ـ أيها المشركون ـ وأطلقت لكم
السياحة في الأرض ـ فافعلوا كل ما
__________________
أمكنكم فعله من
إعداد الآلات والأدوات ، فإنكم لا تعجزون الله بل الله هو الذي يعجزكم ، لأنكم حيث
كنتم فأنتم في ملكه وتحت سلطانه .. .
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعد ذلك الموعد الذي تعلن فيه هذه البراءة من المشركين حتى لا يكون لهم عذر بعد
هذا الإعلان فقال ـ تعالى ـ :
(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ...).
الأذان : الإعلام
تقول : آذنته بالشيء إذا أعلمته به. ومنه الأذان للصلاة أى الإعلام بحلول وقتها.
وهو بمعنى الإيذان كما أن العطاء بمعنى الإعطاء.
قال الجمل : وهو
مرفوع بالابتداء. و (مِنَ اللهِ) إما صفته أو متعلق به (إِلَى النَّاسِ) الخبر ، ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف. أى : وهذه ، أى
: الآيات الآتي ذكرها إعلام من الله ورسوله ... .
والمعنى : وهذه
الآيات إيذان وإعلان من الله ورسوله إلى الناس عامة يوم الحج الأكبر بأن الله
ورسوله قد برئا من عهود المشركين ، وأن هذه العهود قد نبذت إليهم ، بسبب إصرارهم
على شركهم ونقضهم لمواثيقهم.
وأسند ـ سبحانه ـ الأذان
إلى الله ورسوله ، كما أسندت البراءة إليهما ، إعلاء لشأنه وتأكيدا لأمره :
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : أى فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة
، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت.
فإن قلت : لم علقت
البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت : لأن البراءة مختصة
بالمعاهدين والناكثين منهم وأما الأذان فعام لجميع الناس «من عاهد ومن لم يعاهد ،
ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث ».
واختير يوم الحج
الأكبر لهذا الإعلام ، لأنه اليوم الذي يضم أكبر عدد من الناس يمكن أن يذاع الخبر
عن طريقهم في جميع أنحاء البلاد.
وأصح ما قيل في
يوم الحج الأكبر أنه يوم النحر. وقيل : هو يوم عرفة ، وقيل : هو جميع أيام الحج.
__________________
وقد رجح ابن جرير
ـ بعد أن بسط الأقوال في ذلك ـ أن المراد بيوم الحج الأكبر : يوم النحر فقال.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا : قول من قال : يوم الحج الأكبر ، يوم النحر ،
لتظاهر الأخبار عن جماعة من الصحابة أن عليا نادى بما أرسله به رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المشركين يوم النحر ، هذا مع الأخبار التي ذكرناها عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال يوم النحر : «أتدرون أى يوم هذا؟ هذا يوم الحج
الأكبر» .
وقال بعض العلماء
: قال ابن القيم : والصواب أن المراد بيوم الحج الأكبر يوم النحر ، لأنه ثبت في
الصحيحين أن أبا بكر وعليا أذنا بذلك يوم النحر لا يوم عرفة. وفي سنن أبى داود
بأصح إسناد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يوم الحج الأكبر يوم النحر» ، وكذا قال أبو هريرة
وجماعة من الصحابة.
ويوم عرفة مقدمة
ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع ثم يوم النحر تكون الوفادة
والزيارة .. ويكون فيه ذبح القرابين ، وحلق الرءوس ، ورمى الجمار ، ومعظم أفعال
الحج .
وقد ساق ابن كثير
جملة من الأحاديث التي حكت ما كان ينادى به على بن أبى طالب والناس يوم الحج
الأكبر ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن محرز بن أبى هريرة عن أبيه قال : كنت مع
على بن أبى طالب حين بعثه النبي صلىاللهعليهوسلم ينادى ، فكان إذا صحل ناديت ـ أى كان إذا بح صوته وتعب من
كثرة النداء ناديت ـ قلت : بأى شيء كنتم تنادون؟ قال : بأربع : لا يطوف بالبيت
عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، ومن كان له
عهد عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعهده إلى مدته .
وسمى يوم النحر
بالحج الأكبر ، لأن العمرة كانت تسمى بالحج الأصغر ولأن ما يفعل فيه معظم أفعال
الحج ـ كما قال ابن القيم.
هذا ، وللعلماء
أقوال في إعراب لفظ (وَرَسُولِهِ) من قوله ـ تعالى ـ (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ). وقد لخص الشيخ الجمل هذه الأقوال تلخيصا حسنا فقال : قوله
(وَرَسُولِهِ) بالرفع باتفاق السبعة وقرئ شاذا بالجر على المجاورة. أو
على أن الواو للقسم وقرئ شاذا أيضا بالنصب على أنه مفعول معه ، أو معطوف على لفظ
الجلالة ، وفي الرفع ثلاثة
__________________
وجوه : أحدها أنه
مبتدأ والخبر محذوف أى : ورسوله برىء منهم ، وإنما حذف للدلالة عليه. والثاني أنه
معطوف على الضمير المستتر في الخبر ... والثالث : أنه معطوف على محل اسم أن ...».
ثم أردف ـ سبحانه
ـ هذا الإعلام بالبراءة من عهود المشركين بترغيبهم في الإيمان وتحذيرهم من الكفر
والعصيان فقال : (فَإِنْ تُبْتُمْ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللهِ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
أى : فإن تبتم
أيها المشركون من كفركم ، ورجعتم إلى الإيمان بالله وحده واتبعتم ما جاءكم به محمد
صلىاللهعليهوسلم فهو أى المتاب والرجوع إلى الحق (خَيْرٌ لَكُمْ) من التمادي في الكفر والضلال : (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) وأعرضتم عن الإيمان ، وأبيتم إلا الإقامة على باطلكم (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللهِ) أى : فأيقنوا أنكم لا مهرب لكم من عقاب الله ، ولا إفلات
لكم من أخذه وبطشه ، لأنكم أينما كنتم فأنتم في قبضته وتحت قدرته.
وقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ
أَلِيمٍ) تذييل قصد به تأكيد زجرهم عن التولي والإعراض عن الحق.
أى : وبشر ـ يا
محمد ـ هؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم بالعذاب الأليم في الآخرة بعد إنزال
الخزي والمذلة بهم في الدنيا.
ولفظ البشارة ورد
هنا على سبيل الاستهزاء بهم ، كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشتم.
وقوله ـ تعالى ـ بعد
ذلك : (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ
يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى
مُدَّتِهِمْ) استثناء من المشركين في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
والمعنى : اعلموا.
أيها المؤمنون أن الله ورسوله بريئان من عهود المشركين بسبب نقضهم لها ، لكن الذين
عاهدتموهم منهم ولم ينقضوا عهودهم ، ولم ينقصوكم شيئا من شروط العهد ، ولم يعاونوا
عليكم أحدا من الأعداء ، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ولا تعاملوهم معاملة
الناكثين.
فالآية الكريمة
تدل على أن المراد بالمشركين الذين تبرأ الله ورسوله منهم وأعطوا مهلة الأربعة
الأشهر ، هم أولئك الذين عرفوا بنقض العهود.
__________________
أما الذين عاهدوا
ووفوا بعهودهم ، فإن هؤلاء يجب إتمام عهدهم إلى مدتهم وفاء بوفاء ، وكرامة بكرامة.
وعبر ـ سبحانه ـ بثم
في قوله : (ثُمَّ لَمْ
يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادى المدة وتطاولها.
وقراءة الجمهور (يَنْقُصُوكُمْ) بالصاد المهملة ، وعليها يجوز أن يتعدى لواحد فيكون شيئا
منصوبا على المصدرية أى : لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا ، ويجوز
أن يتعدى لاثنين فيكون شيئا مفعوله الثاني ، أى : لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد
بل أدوها بتمامها.
وقرأ عطاء بن
السائب الكوفي وعكرمة وأبو زيد ثم لم ينقضوكم بالضاد المعجمة وهي على حذف مضاف أى
: ثم لم ينقضوا عهدكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وفي تنكير كلمة «شيئا»
وكلمة «أحدا» دلالة على أن انتقاص المعاهدة ولو شيئا يسيرا ، وأن معاونة الأعداء بأى
وسيلة مهما قلت ... كل ذلك مبيح لنبذ العهد ، لأن الخيانة الصغيرة كثيرا ما تؤدى
إلى الخيانة الكبيرة.
قالوا : والمراد
بهؤلاء الذين أمر المسلمون بإتمام عهدهم معهم : بنو ضمرة وبنو مدلج وهم من قبائل
بنى بكر وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر ، ولم ينقضوا مواثيقهم.
وقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، والتنبيه على أن
الوفاء بالعهد إلى نهايته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده
ويحبهم بسببها.
قال صاحب المنار :
والآية تدل على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام مادام العهد معقودا ، وعلى أن
العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة
العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره.
فإن نقص شيئا ما
من شروط العهد ، وأخل بغرض ما من أغراضه عد ناقضا ، لقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) ، ولفظ شيء أعم الألفاظ وهو نكرة في سياق النفي فيصدق
بأدنى إخلال بالعهد.
ومن الضروري أن من
شروطه التي ينتقض بالإخلال بها ، عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا ، وقد
صرح بهذا للاهتمام به ، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله ، وذلك أن الغرض الأول من
المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر ، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر
، أى معاونته ومساعدته على قتاله وما يتعلق به ، كمباشرته للقتال بنفسه.
يقال : ظاهره إذا
عاونه ، وظاهره عليه إذا ساعده عليه ، وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذي
يعبر به عن القوة ، ومنه بعير ظهير أى قوى» .
وقال بعض العلماء
: ويؤخذ من هذا أن الإسلام يقرر في حالة نبذ العهود لزوم إعلان العدو بذلك النبذ ،
على وجه يمكن العدو من إيصال خبر النبذ إلى أطراف بلده وأنحاء مملكته.
وفي ذلك يقول
الكمال بن الهمام الفقيه الحنفي ، وهو بصدد قوله ، تعالى. (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أنه لا يكفى مجرد إعلانهم ، بل لا بد من مضى مدة يتمكن
فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته ، ولا يجوز للمسلمين
أن يغيروا على شيء من أطرافهم قبل مضى المدة.
وذلك كله أثر من
آثار وجوب رعاية العهد والبعد عن النكث بكل ما يستطاع .
وبعد أن قررت
السورة الكريمة براءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين ، وأمرت بالوفاء لمن
وفي بعهده منهم .. بعد كل ذلك أخذت في بيان كيفية معاملة المشركين بعد انتهاء
المهلة الممنوحة لهم فقال ـ تعالى ـ :
(فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥)
وقوله : (انْسَلَخَ) من السلخ بمعنى الكشط ، يقال : سلخ الإهاب عن الشاة يسلخه
ويسلخه سلخا إذا كشطه ونزعه عنها. أو بمعنى الإخراج من قولهم : سلخت الشاة عن
الإهاب إذا أخرجتها منه ، ثم استعير للانقضاء والانتهاء فانسلاخ الأشهر استعارة لانقضائها
والخروج منها.
قال الآلوسى :
والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة ؛ وذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات
مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان ، وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام
والشهور والسنين ، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه ، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من
التلويح
__________________
بأن تلك الأشهر
كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدى المسلمين فنيط قتالهم بزوالها» .
والمراد بالأشهر
الحرم : أشهر الأمان الأربعة التي سبق ذكرها في قوله ، تعالى ، (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ) ، وعليه فتكون أل في قوله (الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ) للعهد الذكرى.
وسميت حرما لأنه.
سبحانه. جعلها فترة أمان للمشركين ، ونهى المؤمنين عن التعرض لهم فيها.
ووضع ـ سبحانه ـ المظهر
موضع المضمر حيث لم يقل فإذا انسلخت ، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيدا لما
ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها.
وقيل المراد
بالأشهر الحرم هنا : الأشهر المعروفة وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم
، روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير.
قال ابن كثير :
وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفى عنه
وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، وابن إسحاق ، وقتادة والسدى وعبد الرحمن ابن زيد
بن أسلم أن المراد بها أشهر التيسير الأربعة المنصوص عليها بقوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ) ، ثم قال (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أى : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها
قتالهم ، وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ، لأن عود العهد على مذكور أولى
من مقدر ، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتى بيان حكمها في آية أخرى وهي قوله ـ تعالى
ـ (إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ...) .
والمراد بالمشركين
في قوله : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أولئك الخائنون الذين انتهت مدة الأمان لهم ، أما الذين لم
يخونوا ولهم عهود مؤقتة بمدة معينة فلا يحل للمسلمين قتالهم ، إلا بعد انتهاء هذه
المدة ، كما سبق أن بينا قبل قليل تفسير قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ
أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ...).
والمعنى : فإذا
انتهت هذه الأشهر الأربعة التي جعلها الله مهلة للخائنين ، فاقتلوا ـ أيها
المؤمنون ـ أعداءكم المشركين (حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) أى : في أى مكان تجدونهم فيه
__________________
(وَخُذُوهُمْ) وهو كناية عن الأسر ، وكانت العرب تعبر عن الأسير بالأخيذ
، (وَاحْصُرُوهُمْ) أى : وامنعوهم من الخروج إذا كانت مصلحتكم في ذلك (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) والمرصد الموضع الذي يقعد فيه للعدو لمراقبته ، يقال :
رصدت الشيء أرصده رصدا ورصدا إذا ترقبته.
والمعنى : واقعدوا
لهم في كل موضع يجتازون منه في أسفارهم ، حتى تسد السبل في وجوههم ، وتضعف شوكتهم
، وتذهب ريحهم ، فيستسلموا لكم.
والمتدبر لهذه
الآية الكريمة يرى أن هذه الوسائل الأربع ـ القتل والأسر والمحاصرة والمراقبة ـ هي
الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأعداء ، ولا يخلو عصر من العصور من استعمال بعضها
أو كلها عند المهاجمة.
وهكذا نرى تعاليم
الإسلام تحض المسلمين على استعمال كل الوسائل المشروعة لكيد أعدائهم ، والعمل على
هزيمتهم .. ، ما دام هؤلاء الأعداء مستمرين في طغيانهم وعدوانهم وانتهاكهم لحدود
الله ـ تعالى ـ.
أما إذا فتحوا
قلوبهم للحق واستجابوا له ، فإن الآية الكريمة ترفع عنهم السيف ، وتأمر المؤمنين
بإخلاء سبيلهم.
استمع إلى بقيتها
حيث تقول : (فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ، إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أى : عليكم ـ أيها
المؤمنون ـ إذا ما انتهت أشهر الأمان الأربعة أن تقتلوا المشركين الناكثين لعهودهم
أينما وجدتموهم وأن تأسروهم وتحبسوهم وتراقبوهم على كل طريق حتى تضعف شوكتهم
فينقادوا لكم .. (فَإِنْ تابُوا) عن الشرك بأن دخلوا في الإسلام فاتركوا التعرض لهم ، وكفوا
عن قتالهم ، وافتحوا المسالك والطرق في وجوههم.
واكتفى ـ سبحانه ـ
بذكر الصلاة والزكاة عن ذكر بقية العبادات ، لكونهما الأساسين للعبادات البدنية
والمالية.
وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل قصد به التعليل لوجوب إخلاء سبيلهم أى ، إن فعلوا
ذلك فخلوا سبيلهم ، ولا تعاملوهم بما كان منهم من شرك ، فإن الإسلام يجب ما قبله ،
وإن الله قد غفر لهم ما سلف من الكفر والغدر بفضله ورحمته.
قال الإمام ابن
كثير : وقد اعتمد الصديق ـ رضى الله عنه ـ في قتال ما نعى الزكاة على هذه الآية
وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء
واجباته ، ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة
التي
هي حق الله ـ تعالى
ـ وبعدها الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة
بالمخلوقين ، ولهذا كثيرا ما يقرن الله الصلاة والزكاة.
وقد جاء في
الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة».
وروى الإمام أحمد
عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا
فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم»
ورواه البخاري وغيره.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ثم قال : يرحم الله أبا بكر
ما كان أفقهه .
وبذلك ترى هذه
الآية قد جمعت في إرشادها بين الترغيب والترهيب ؛ فقد أمرت المؤمنين بأن يستعملوا
مع أعدائهم كل الوسائل المشروعة لإرهابهم ثم أمرتهم في الوقت نفسه بإخلاء سبيلهم
متى تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ..
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ حكم المصرين على الشرك وهو قتالهم وأخذهم ، وحكم الراجعين عنه وهو إخلاء سبيلهم.
بعد ذلك بين ـ سبحانه ـ حكم المشركين الذين يطلبون الأمان لمعرفة شرائع الإسلام
فقال ـ تعالى ـ :
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ)(٦)
وقوله : استجارك ،
أى ، طلب جوارك وحمايتك من الاعتداء عليه ، وقد كان من الأخلاق الحميدة المتعارف
عليها حماية الجار والدفاع عنه ، حتى سمى النصير جارا ، وعلى هذا المعنى جاء قوله
، تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أى : نصير لكم.
و (إِنْ) شرطية و (أَحَدٌ) مرفوع بفعل مضمر يفسره الفعل الظاهر وهو
__________________
(اسْتَجارَكَ) والمعنى : وإن استأمنك ـ يا محمد ـ أحد من المشركين ، وطلب
جوارك وحمايتك بعد انقضاء مدة الأمان المحددة له ، (فَأَجِرْهُ) أى : فأمنه وأجبه إلى طلبه ، (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) أى : لكي يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو
إليه من تعاليم مقنعة للعقول السليمة بأن الشرك ظلم عظيم ..
واقتصر على ذكر
السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم ، لأنهم من أهل الفصاحة والبلاغة ، وقد
كان سماع بعضهم لشيء من كلام الله سببا في هدايته.
وقوله : (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) بيان لما يجب على المسلمين نحو هذا المشرك المستجير إذا ما
استمع إلى كلام الله ثم بقي على شركه.
أى : عليك ـ يا
محمد ـ أن تجيره حتى يسمع كلام الله ويتدبره ولا يبقى له عذر في الإصرار على شركه
، فإن آمن بعد سماعه صار من أتباعك ، وإن بقي على شركه وأراد الرجوع إلى جماعته ،
فعليك أن تحافظ عليه حتى يصل إلى مكان أمنه واستقراره ، وهو ديار قومه : ثم بعد
ذلك يصبح حكمه كحكم المصرين على الشرك ، ويعامل بما يعاملون به.
واسم الإشارة في
قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) يعود إلى الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن.
أى : ذلك الذي
أمرناك به من إجارة المستجير من المشركين وإبلاغه مأمنه إذا لم يسلم ، بسبب أنهم
قوم لا يعلمون الإسلام ولا حقيقة ما تدعوهم إليه أى قوم يحتاجون إلى فترة من الوقت
يسمعون كلام الله فيها وهم آمنون ، وبهذا السماع منك ومن أصحابك لا يبقى لهم عذر
أصلا في استمرارهم على الباطل.
عن سعيد بن جبير
قال : جاء رجل من المشركين إلى على بن أبى طالب فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتى
إلى محمد صلىاللهعليهوسلم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة : قتل؟ فقال
له على لا ، لأن الله يقول (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) الآية .
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من الآية ما يأتى :
١ ـ أن المستأمن
لا يؤذى ، بل يجب على المسلمين حمايته في نفسه وماله وعرضه مادام في دار الإسلام ،
وقد حذر الإسلام أتباعه من الغدر أشد تحذير ، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن
النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا برىء من القاتل
وإن كان المقتول كافرا».
__________________
وروى الشيخان
وأحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لكل غادر لواء
يعرف به يوم القيامة» .
٢ ـ يلحق
بالمستجير الطالب لسماع كلام الله ؛ من كان طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام
حقا ، ومن كان طالبا للجواب على الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام ، لأن هؤلاء
وأمثالهم يطرقون باب الفهم والمعرفة ويبحثون عن الحق فعلينا أن نحميهم ، وأن نبذل
أقصى الجهود في تعليمهم وإرشادهم وإزالة الشبهات عنهم ، لعل الله أن يشرح صدورهم
للإسلام بسبب هذا التعليم والإرشاد.
قال ابن كثير :
كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعطى الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة ، كما جاءه يوم
الحديبية جماعة من الرسل من قريش منهم عروة بن مسعود ، ومكرز بن حفص ، وسهيل بن
عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد ، يترددون في القضية بينه وبين المشركين ، فرأوا من
إعظام المسلمين لرسولهم صلىاللهعليهوسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى
قومهم ، وأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم .
٣ ـ على الإمام أو
من يقوم مقامه أن يعطى المستأمن المهلة التي يراها كافية لفهمه حقائق الإسلام وأن
يبلغه مأمنه بعد انقضاء حاجته ، وأن لا يمكنه من الإقامة في دار الإسلام إلا
بمقدار قضاء حاجته.
قال الإمام الرازي
: ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ، ولعله لا يعرف مقدارها
إلا بالعرف ، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال
أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه
.
٤ ـ أخذ العلماء
من هذه الآية وجوب التفقه في الدين ، وعدم الاكتفاء بالظنون والتقليد للغير ، وقد
وضح الإمام الرازي هذا المعنى فقال :
دلت الآية على أن
التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك لأنه لو كان
التقليد كافيا ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن وإما أن
نقتلك. فلما لم يقل له ذلك ـ بل أمهل وأزيل الخوف عنه ووجب تبليغه مأمنه ـ علم أن
ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل : فلذا أمهل
ليحل له النظر والاستدلال» .
__________________
٥ ـ تكلم العلماء
عمن له حق إعطاء الأمان للمستأمن فقال القرطبي : «ولا خلاف بين كافة العلماء أن
أمان السلطان جائز ؛ لأنه مقدم النظر والمصلحة. نائب عن الجميع في جلب المصالح
ودفع المضار. واختلفوا في أمان غير الخليفة ، فالحر يمضى أمانه عند كافة العلماء.
وأما العبد فله الأمان في مشهور مذهب المالكية وبه قال الشافعى وأحمد.
وقال أبو حنيفة :
لا أمان له. والأول أصح لقوله صلىاللهعليهوسلم «المسلمون تتكافأ
دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم».
قالوا : فلما قال «أدناهم»
جاز أمان العبد ... .
وقال بعض العلماء
: هذه الآية كانت أصلا عند الفقهاء في إباحة تأمين المشرك ، وقد توسع الإسلام في
باب الأمان فقرر به عصمة المستأمن ، وأوجب على المسلمين حمايته مادام في دار
الإسلام ، وجعل للمسلمين حق إعطاء ذلك الأمان ، ولم يشترط في ذلك إلا ما يضمن على
المسلمين سلامتهم ، بأن لا تظهر على المستأمن مظاهر الركون إلى التجسس على
المسلمين.
ولا ينسى الإسلام
ـ وهو يعطى هذا الحق للأفراد ـ حق الإمام المهيمن على شئون المسلمين ، بل جعل له
بمقتضى هيمنته العامة ، وتقديره لوجوه المصلحة ، حق إبطال أى أمان لم يصادف محله ،
أو لم يستوف شروطه ، كما له أن ينتزع ذلك الحق من الأفراد متى رأى المصلحة في ذلك.
والإسلام يبيح
بهذا الأمان التبادل التجارى والصناعى والثقافى ، وفي سائر الشئون ما لم يتصل شيء
منها بضرر الدولة .
٦ ـ هذه الآية
الكريمة تشهد بسمو تعاليم الإسلام وسماحتها وحرصها على هداية الناس إلى الحق ،
وعلى صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم من العدوان عليها .. حتى ولو كان هؤلاء الناس
من أعداء الإسلام.
وقد بسط هذا
المعنى بعض العلماء فقال ما ملخصه : إن هذه الآية تعنى أن الإسلام حريص على كل قلب
بشرى أن يهتدى وأن يثوب ، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار
الإسلام يجب أن يعطوا الجوار والأمان ذلك أنه في هذه الحالة آمن حربهم وتجمعهم
وتألبهم عليه ، فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين ، لعل
قلوبهم أن تتفتح وتستجيب وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل دار الإسلام
أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم.
__________________
ولقد كانت قمة
عالية تلك الإجارة والأمان لهم في دار الإسلام .. ولكن قمة القمم هذه الحراسة
للمشرك ـ عدو الإسلام والمسلمين ـ حتى يبلغ مأمنه خارج حدود دار الإسلام.
إنه منهج الهداية
لا منهج الإبادة ، حتى وهو يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام.
إن هذا الدين
إعلام لمن لا يعلمون ، وإجارة لمن يستجيرون ، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه
السيف وحاربوه وعاندوه .. .
وبعد أن صرحت
السورة الكريمة ببراءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين ، وأمرت المؤمنين
بإعطائهم مهلة يسيحون فيها في الأرض ، ويتدبرون خلالها أمرهم ، ثم بعد ذلك على المؤمنين
أن يقتلوهم حيث وجدوهم ، وأن يستعملوا معهم كل الوسائل المشروعة لإذلالهم ، وأن
يؤمنوا المشرك الذي يريد أن يسمع كلام الله ، وأن يحافظوا عليه حتى يصل إلى مكان
استقراره ..
بعد كل ذلك أخذت
السورة الكريمة في بيان الأسباب التي أوجبت البراءة من عهود المشركين ، والحكم
التي من أجلها أمر الله بقتالهم والتضييق عليهم فقال ـ تعالى ـ :
(كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ
اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي
مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ
__________________
فِي
الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
وَإِنْ
نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ)(١٢)
وقوله ـ سبحانه ـ :
(كَيْفَ يَكُونُ
لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) الاستفهام فيه للإنكار والاستبعاد لأن يكون للمشركين عهد.
وهو إنكار للوقوع لا للواقع. أى ؛ تحذير للمؤمنين من أن يقع منهم ذلك في المستقبل.
والمراد بالمشركين
أولئك الذين نقضوا عهودهم ، لأن البراءة إنما هي في شأنهم.
والعهد : ما يتفق
شخصان أو طائفتان من الناس على التزامه بينهما ، فإن أكداه ووثقاه بما يقتضى زيادة
العناية بالوفاء به سمى ميثاقا ، لاشتقاقه من الوثاق ـ بفتح الواو ـ وهو الحبل أو
القيد. وإن أكداه باليمين خاصة سمى يمينا.
وسمى بذلك لوضع كل
من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.
والمعنى : لا
ينبغي ولا يجوز أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأن هؤلاء المشركين لا
يدينون لله بالعبودية ، ولا لرسوله بالطاعة ، ولأنهم قوم دأبهم الخيانة. وعادتهم
الغدر ، ومن كان كذلك لا يكون له عهد عند الله ولا عند رسوله.
قالوا : وفي توجيه
الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته ، لأن كل
موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال ، فإذا انتفت جميع أحوال وجوده ، فقد
انتفى وجوده بالطريق البرهاني. وتكرير كلمة (عِنْدَ) للإيذان بعدم الاعتداد بعهودهم عند كل من الله ـ تعالى ـ ورسوله
صلىاللهعليهوسلم على حدة.
و (يَكُونُ) من الكون التام و (كَيْفَ) محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف. أو من الكون
الناقص فيكون قوله (عَهْدٌ) اسمها ، وقوله (كَيْفَ) خبرها وهو واجب التقديم ، لأن الاستفهام له صدر الكلام .
وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ..)
استثناء من
المشركين الذين استنكرت الآية أن تكون لهم عهود عند الله وعند رسوله.
__________________
والمراد بالمشركين
الذين استثنوا هنا : أولئك الذين سبق الحديث عنهم في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ
أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ..).
وهم ـ كما رجحه
ابن جرير والخازن ـ بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة من قبائل بنى بكر ، وكانوا قد
وفوا بعهودهم مع المسلمين .
وأعيد ذكر
استثنائهم هنا ، لتأكيد هذا الحكم وتقريره.
والمراد بالمسجد
الحرام : جميع الحرم ، فيكون الكلام على حذف مضاف.
أى : عند قرب
المسجد الحرام.
والتعرض لكون
المعاهدة عند المسجد الحرام ، لزيادة بيان أصحابها ، وللإشعار بسبب وجوب الوفاء
بها.
والمعنى : لا
ينبغي ولا يصح أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، لكن الذين عاهدتموهم ـ أيها
المؤمنون ـ عند المسجد الحرام من المشركين ولم ينقضوا عهودهم (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).
أى : فاستقيموا
لهم مدة استقامتهم لكم ، فتكون ما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية.
ويصح أن تكون
شرطية وعائدها محذوف فيكون المعنى : فأى زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم ، إذ
لا يجوز أن يكون نقض العهد من جهتكم.
وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تذييل قصد به التعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين أن الوفاء
بالعهد إلى مدته مع الموفين بعهدهم من تقوى الله التي يحبها لعباده ، ويحبهم بسبب
تمسكهم بها.
هذا ، وقد أخذ
العلماء من هذه الآية : ان العهد المعتد به في شريعة الإسلام ، هو عهد الأوفياء
غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده عاملناه بمقتضى استقامته ، وأن الالتزام
بالعهود من تقوى الله التي يحبها لعباده.
وقوله ـ سبحانه ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا
يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ...)
لاستبعاد ثبات
المشركين على العهد ، ولاستنكار ان يكون لهم عهد حقيق بالمراعاة ، وبيان لما يكون
عليه أمرهم عند ظهورهم على المؤمنين.
__________________
وفائدة هذا
التكرار للفظ (كَيْفَ) : التأكيد والتمهيد لتعداد الأسباب التي تدعو المؤمنين إلى
مجاهدتهم والإغلاظ عليهم ، والحذر منهم.
قال الآلوسى :
وحذف الفعل بعد كيف هنا لكونه معلوما من الآية السابقة ، وللإيذان بأن النفس
مستحضرة له ، مترقبة لورود ما يوجب استنكاره.
وقد كثر الحذف
للفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده. ومن ذلك قول كعب الغنوي
يرثى أخاه أبا المغوار :
وخبرتماني أنما
الموت بالقرى
|
|
فكيف وماتا هضبة
وقليب
|
يريد فكيف مات
والحال ما ذكر.
والمراد هنا : كيف
يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم (إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا
يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) .
وقوله : (يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يظفروا بكم ويغلبوكم. يقال : ظهرت على فلان أى : غلبته
ومنه قوله ـ تعالى ـ (فَأَيَّدْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أى : غالبين.
وقوله : (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) أى : لا يراعوا في شأنكم. يقال : رقب فلان الشيء يرقبه إذا
رعاه وحفظه .. ورقيب القوم حارسهم.
والإل : يطلق على
العهد ، وعلى القرابة ، وعلى الحلف.
قال ابن جرير ـ بعد
أن ساق أقوالا في معنى الإل ـ وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : والإل : اسم
يشتمل على معان ثلاثة : وهي العهد والعقد ، والحلف ، والقرابة .. ومن الدلالة على
أنه يكون بمعنى القرابة قول ابن مقبل :
أفسد الناس خلوف
خلفوا
|
|
قطعوا الإل
وأعراق الرحم
|
أى قطعوا القرابة.
ومن الدلالة على
أنه يكون بمعنى العهد قول القائل :
وجدناهم كاذبا
إلّهم
|
|
وذو الإل والعهد
لا يكذب
|
وإذا كانت الكلمة
تشمل هذه المعاني الثلاثة ، ولم يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى ، فالصواب أن
يعم ذلك كما عم بها ـ جل ثناؤه ـ معانيها الثلاثة ... .
__________________
والذمة : كل أمر
لزمك بحيث إذا ضيعته لزمك مذمة أو هي ما يتذمم به أى يجتنب فيه الذم.
والمعنى : بأية
صفة أو بأية كيفية يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ، والحال المعهود منهم
أنهم إن يظفروا بكم ويغلبوكم ، لا يراعوا في أمركم لا عهدا ولا حلفا ولا قرابة ولا
حقا من الحقوق.
وقوله ـ تعالى ـ :
(يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) زيادة بيان للأحوال القبيحة الملازمة لهؤلاء المشركين.
أى : أن هؤلاء
المشركين إن غلبوكم ـ أيها المؤمنون ـ فعلوا بكم الأفاعيل ، وتفتنوا في إيذائكم من
غير أن يقيموا ووزنا لما بينكم وبينهم من عهود ومواثيق ، وقرابات وصلات ... أما
إذا كانت الغلبة لكم فإنهم في هذه الحالة (يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْواهِهِمْ) أى : يعطونكم من ألسنتهم كلاما معسولا إرضاء لكم ، وهم في
الوقت نفسه (تَأْبى قُلُوبُهُمْ) المملوءة حقدا عليكم وبغضا لكم تصديق ألسنتهم ، فهم كما
وصفهم ـ سبحانه ـ في آية أخرى : (يَقُولُونَ
بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) .
وتقييد الإرضاء
بالأفواه ، للإشعار بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق
في قلوبهم.
وقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) أى : خارجون عن حدود الحق ، منفصلون عن كل فضيلة ومكرمة ،
إذ الفسق هو الخروج والانفصال. يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها وفسق فلان
إذا خرج عن حدود الشرع.
وإنما وصف أكثرهم
بالفسوق ، لأن هؤلاء الأكثرين منهم ، هم الناقضون لعهودهم ، الخارجون على حدود
ربهم ، أما الأقلون منهم فهم الذين وفوا بعهودهم ، ولم ينقصوا المؤمنين شيئا ، ولم
يظاهروا عليهم أحدا.
وبذلك نرى أن
الآية الكريمة قد وصفت هؤلاء المشركين وصفا في نهاية الذم والقبح ، لأنهم إن كانوا
أقوياء فجروا وأسرفوا في الإيذاء ، نابذين كل عهد وقرابة وعرف ... أما إذا شعروا
بالضعف فإنهم يقدمون للمؤمنين الكلام اللين الذي تنطق به ألسنتهم ، وتأباه قلوبهم
الحاقدة الغادرة.
أى أن الغدر ملازم
لهم في حالتي قوتهم وضعفهم ، لأنهم في حالة قوتهم (لا يَرْقُبُونَ فِي
__________________
مُؤْمِنٍ
إِلًّا وَلا ذِمَّةً). وفي حالة ضعفهم يخادعون ويداهنون حتى تحين لهم الفرصة
للانقضاض على المؤمنين.
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعد ذلك السبب الأصيل الذي جعل الغدر ديدنهم ، والحقد على المؤمنين دأبهم فقال : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
والمراد بالاشتراء
هنا الاستبدال والاستيعاض.
والمراد بآيات
الله : كل ما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم من آيات قرآنية ، ومن تعاليم سامية تهدى إلى الخير
والفلاح.
والمعنى ؛ إن
السبب الأصيل الذي حمل هؤلاء المشركين على الغدر ، وعلى الفجور والطغيان عند القوة
وعلى المداهنة والمخادعة عند الضعف. هو أنهم استبدلوا بآيات الله المتضمنة لكل خير
وفلاح ... ثمنا قليلا. أى : عرضا حقيرا من أعراض الدنيا وزخارفها.
وليس وصف الثمن
بالقلة هنا من الأوصاف المخصصة للنكرات. بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل
بالآيات. لأن كل ثمن يؤخذ في مقابل آيات الله فهو قليل وإن بلغ ما بلغ من أعراض
الدنيا وزينتها.
وقوله : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) بيان لما ترتب على استبدالهم بآيات الله ثمنا قليلا.
والصد : المنع
والحيلولة بين الشيء وغيره ، ويستعمل لازما فيقال : صد فلان عن الشيء صدودا بمعنى
أعرض عنه. ويستعمل متعديا فيقال : صده عنه إذا صرفه عن الشيء.
وهنا تصح إرادة
المعنيين فيكون التقدير : أن هؤلاء المشركين قد اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ،
يترتب على ذلك أن أعرضوا عن طريق الله الواضحة المستقيمة التي جاء بها نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولم يكتفوا بهذا بل صرفوا غيرهم عنها ، ومنعوه من الدخول
فيها.
وقوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم ، وقبح أعمالهم.
أى : إنهم ساء
وقبح عملهم الذي كانوا يعملونه من اشترائهم بآيات الله ثمنا قليلا ، ومن صدودهم عن
الحق وصدهم لغيرهم عنه .. وسيجازيهم الله على ذلك بما يستحقونه عن عقاب شديد.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن عداوة هؤلاء المشركين ليست خاصة بالمؤمنين الذين يقيمون معهم ، وإنما هي عداوة
عامة شاملة لكل مؤمن مهما تباعد عنهم فقال ـ تعالى ـ : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا
وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).
أى : أن هؤلاء
المشركين لا يراعون في أمر مؤمن يقدرون على الفتك به عهدا يحرم الغدر ، ولا قرابة
تقتضي الود ، ولا ذمة توجب الوفاء خشية الذم ... وإنما يبيتون الحقد والغدر والأذى
لكل مؤمن ، من غير أن يقيموا للعهود أو للفضائل وزنا.
وهذه الآية
الكريمة أعم من قوله ـ تعالى : قبل ذلك : (كَيْفَ وَإِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) لأن هذه بينت أن عدوانهم على المؤمنين مقيد بظهورهم عليهم
، أما التي معنا فقد بينت أن عدوانهم ليس مقيدا بشيء ، فهم متى وجدوا الفرصة
اهتبلوها في الاعتداء على المؤمنين ولأن التي معنا بينت أن عداوتهم قد شملت كل
مؤمن مهما كان موضعه. أما الآية السابقة فهي تخاطب المؤمنين الذين كان بينهم وبين
المشركين الكثير من الحروب والدماء.
وقوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) تذييل قصد به ذمهم والتحقير من شأنهم.
أى : وأولئك
المشركون الموصوفون بتلك الصفات السيئة هم المتجاوزون لحدود الله والخارجون على كل
فضيلة ومكرمة.
وبعد أن وضحت
السورة الكريمة طبيعة هؤلاء المشركين بالنسبة لكل مؤمن ، وبينت الأسباب التي
جعلتهم بمعزل عن الحق والخير .. شرعت في بيان ما يجب أن يفعله المؤمنون معهم في
حالتي إيمانهم وكفرهم فقال تعالى.
(فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ،
وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ
بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).
أى : فإن تابوا عن
شركهم وما يتبعه من رذائل ومنكرات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، على الوجه الذي
أمر الله به فهم في هذه الحالة (فَإِخْوانُكُمْ فِي
الدِّينِ) لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وهذه الأخوة تجبّ ما قبلها من
عداوات.
وقوله : (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) جملة معترضة ، جيء بها للحث والتحري على ما فصله ـ سبحانه
ـ من أحكام المشركين ، وعلى الالتزام بها.
هذا ما يجب على
المؤمنين نحو هؤلاء المشركين إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة .. أما إن كانت
الأخرى ، أى إذا لم يتوبوا وأصروا على عداوتهم ، فقد بين سبحانه. ما يجب على
المؤمنين نحوهم في هذه الحالة فقال : (وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ).
أى : وإن نقضوا
عهودهم من بعد أن تعاقدوا معكم على الوفاء بها.
وقوله : (نَكَثُوا) من النكث بمعنى النقض والحل. يقال نكث فلان الحبل إذا نقض
فتله
وحل خيوطه ومنه
قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) .
وقوله : (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) معطوف على ما قبله. أى : وعابوه وانتقصوه.
وقوله : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أى : فقاتلوهم فهم أئمة الكفر ، وحملة لوائه. فوضع ـ سبحانه
ـ الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع الضمير على سبيل الذم لهم.
وقيل : المراد
بأئمة الكفر رؤساؤهم وصناديدهم الذين كانوا يحرضونهم على عداوة المؤمنين ،
ويقودونهم لقتال النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه.
وعطف. سبحانه ـ قوله
(وَطَعَنُوا فِي
دِينِكُمْ) على ما قبله مع أن نقض العهد كاف في إباحة قتالهم ، لزيادة
تحريض المؤمنين على مجاهدتهم والاغلاظ عليهم.
وقوله : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) تعليل للأمر بقتالهم أى قاتلوا هؤلاء المشركين بعزيمة
صادقة ، وقلوب ثابتة. لأنهم قوم لا أيمان ولا عهود لهم على الحقيقة ، لأنهم لما لم
يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان.
وقرأ ابن عامر (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) ـ بكسر الهمزة. على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء
الأمان. أى إنهم لا أمان لهم فاحذروا الاغترار بهم. أو المراد الإيمان الشرعي. أى
إنهم لا تصديق ولا دين لهم ، ومن كان كذلك فلا وفاء له.
وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بقوله (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ).
أى : ليكن مقصدكم
من مقاتلتهم ـ بعد أن وجد منهم ما وجد من إيذائكم الرجاء في هدايتهم ، والانتهاء
عن كفرهم وخيانتهم .. واحذروا أن يكون مقصدكم من ذلك العدوان واتباع الهوى.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات سوى ما سبق ـ ما يأتى :
١ ـ أن ما ذكرته
الآيات من كون المشركين ، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، يقرر حقيقة واقعة ، ومن
الأدلة على ذلك ما فعله التتار بالمسلمين ـ وخاصة مسلمي بغداد. سنة ٦٥٦. وما فعله
الوثنيون الهنود مع مسلمي باكستان ، وما فعله الشيوعيون. في روسيا والصين وغيرها ـ
مع المسلمين الذين كانوا يعيشون معهم .
٢ ـ أن هؤلاء
المشركين متى تابوا عن كفرهم ، وأقلعوا عن شركهم ، واندمجوا في جماعة المؤمنين ..
صاروا إخوة لنا في الدين.
__________________
وهذه الأخوة
الدينية ـ كما يقول صاحب المنار ـ مما يحسدنا جميع أهل الملل عليها فهي لا تزال
أقوى فينا منها فيهم برا وتعاونا. وعاصمة لنا من فوضى الشيوعية ، وأثرة المادية
وغيرها ، على ما منيت به شعوبنا من الضعف واختلال النظام ، واختلاف الجنسيات
والأحكام .. .
٣ ـ قال القرطبي :
استدل بعض العلماء بهذه الآية (وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) ـ على وجوب قتل كل من طعن في الدين ، إذ هو كافر. والطعن
أن ينسب إليه ما لا يليق به ، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت من
الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه.
وقال ابن المنذر :
أجمع عامة أهل العلم على أن من سب النبي صلىاللهعليهوسلم عليه القتل. وممن قال بذلك مالك والليث وأحمد وإسحاق
والشافعى .
٤ ـ أخذ بعضهم من
قوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُمْ لا
أَيْمانَ لَهُمْ) أن الكافر لا يمين له على الحقيقة.
قال الفخر الرازي
: وبه تمسك أبو حنيفة. رحمهالله. في أن يمين الكافر لا يكون يمينا. وعند الشافعى. رحمهالله ـ يمينهم يمين. ومعنى الآية عنده : أنهم لما لم يفوا بها
صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه ـ سبحانه ـ وصفها
بالنكث في قوله (وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ ..) ولو لم يكن منعقدا لما صح وصفها بالنكث .
٥ ـ دل قوله تعالى
(لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ) على أن قتال المؤمنين للمشركين لا يراد به سلب أموالهم ولا
هتك أعراضهم .. وإنما المراد به الرجاء في هدايتهم ، والأمل في انتهائهم عن الكفر
وسوء الأخلاق.
قال صاحب الكشاف :
قوله (لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ) متعلق بقوله (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ
الْكُفْرِ).
أى : ليكن غرضكم
في مقاتلتهم ـ بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم ـ أن تكون المقاتلة سببا في
انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد
.
وبعد أن بينت
السورة الكريمة الأسباب الموجبة لقتال المشركين : شرعت في تحريض المؤمنين على
مهاجمتهم ومقاتلتهم بأسلوب يثير الحمية في النفوس ، ويحمل على الإقدام وعدم
المبالاة بهم .. فقال تعالى :
__________________
(أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤)
وَيُذْهِبْ
غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٥)
قال الآلوسى :
قوله تعالى (أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً ...) تحريض على القتال بأبلغ وجه ، لأن الاستفهام فيه للإنكار ،
والاستفهام الإنكارى في معنى النفي ، وقد دخل هنا على نفى ، ونفى النفي إثبات.
وحيث كان الترك منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه ، فيفيد
الحث والتحريض عليه. بأقوى الأدلة ، وأسمى الأساليب .
وقد ذكر ـ سبحانه
ـ هنا ثلاثة أسباب كل واحد منها يحمل المؤمنين على قتال المشركين بغلظة وشجاعة.
أما السبب الأول
فهو قوله تعالى : (نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ) أى : نقضوا عهودهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها لتأكيد
هذه العهود.
ومن مظاهر ذلك أن
هؤلاء المشركين الذين تعاهدوا معكم في صلح الحديبية على ترك القتال عشر سنين. قد
نقضوا عهودهم بمساعدة حلفائهم بنى بكر على قتال حلفائكم بنى خزاعة عند أول فرصة
سنحت لهم.
والسبب الثاني
قوله. سبحانه. (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ
الرَّسُولِ) والهم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه.
أى : وهموا بإخراج
الرسول صلىاللهعليهوسلم من مكة التي ولد فيها وعاش بها زمنا طويلا .. لكنهم لم
يستطيعوا ذلك ، بل خرج باختيار. وبإذن الله له في الهجرة.
وقد فصل سبحانه.
ما هموا به في قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
__________________
يُخْرِجُوكَ
، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) .
وإنما اقتصر ،
سبحانه ، في الآية التي معنا على همهم بإخراجه. صلىاللهعليهوسلم. من مكة ، مع أن آية الأنفال قد بينت أنهم قد هموا بأحد
أمور ثلاثة ـ لأن الإخراج هو الذي وقع أثره في الخارج بحسب الظاهر ، أما القتل
والحبس فلم يكن لهما أثر في الخارج.
وقيل : إنه.
سبحانه. قد اقتصر على الأدنى وهو الهم بالإخراج ، ليعلم غيره بالطريق الأولى ، إذ
الإخراج أهون من القتل والحبس.
وأما السبب الثالث
فهو قوله. سبحانه. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى : وهم الذين كانوا بادئين بقتالكم في أول لقاء بينكم
وبينهم وهو يوم بدر ، كما كانوا بادئين بالعدوان عليكم في كل قتال بعد ذلك ، كما
حدث منهم في أحد والخندق وكما حدث منهم مع حلفائكم من بنى خزاعة.
قال صاحب الكشاف :
قوله : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) أى : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير ، وتحداهم به ، فعدلوا عن
المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال. فهم البادئون بالقتال والبادئ أظلم ، فما يمنعكم
من أن تقابلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ .
فأنت ترى أن هذه
الآية الكريمة قد ذكرت ثلاثة أمور كل واحد منها كفيل بحمل المؤمنين على قتال
المشركين .. فكيف وقد توفرت هذه الأمور الثلاثة في هؤلاء المشركين؟.
ولم تكتف الآية
الكريمة بهذا التهييج والتحريض للمؤمنين على القتال ، بل أمرتهم بأن تكون خشيتهم
من الله وحده ، فقال سبحانه (أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أى : أتتركون ـ أيها
المؤمنون ـ قتال هؤلاء المشركين الذين (نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) خشية منهم ..؟ لا ، إن هذا لا يليق بكم ، وإنما الذي يليق
بكم ـ إن كنتم مؤمنين حقا ـ أن تكون خشيتكم من الله وحده.
قال الإمام الرازي
: وهذا الكلام يقوى داعية القتال من وجوه :
الأول : أن تعديد
الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوى هذه الداعية.
الثاني : أنك إذا
قلت للرجل : أتخشى خصمك؟ كان ذلك تحريكا لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من
خصمه.
الثالث : أن قوله
: (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ
تَخْشَوْهُ) يفيد ذلك كأنه قيل : إن كنت تخشى أحدا
__________________
فالله أحق أن
تخشاه ، لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة ..
الرابع : أن قوله
: (إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) معناه : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا ، وجب عليكم أن تقدموا
على هذه المقاتلة ومعناه : أنكم إذا لم تقدموا لا تكونوا كذلك ، فثبت أن هذا
الكلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار
الناقضين للعهد .
ثم أمرهم ـ سبحانه
ـ أمرا صريحا قاطعا بمقاتلة المشركين. ورتب على هذه المقاتلة خمسة أنواع من
الفوائد فقال : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ
اللهُ بِأَيْدِيكُمْ).
أى : أقدموا على
قتالهم وباشروه بشجاعة وإخلاص كما أمركم ربكم ، فإنكم متى فعلتم ذلك (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) بسبب ما تنزلونه بهم من قتل وأسر وجراحات بليغة ، واغتنام
للأموال.
وأسند ـ سبحانه ـ التعذيب
إليه ، لأنه أمر زائد على أسبابه من الطعن والضرب وما يفضيان إليه من القتل والجرح
.. والأسر. تلك هي الفائدة الأولى من قتالهم.
أما الفائدتان
الثانية والثالثة فتتجليان في قوله. تعالى. (وَيُخْزِهِمْ ؛
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ).
أى : ويخزهم بسبب
ما ينزل بهم من هزيمة وهوان وهم يتفاخرون بقواتهم وبأسهم ، وينصركم عليهم بأن يجعل
كلمتكم هي العليا وكلمتهم هي السفلى.
قال الإمام الرازي
: فإن قالوا : لما كان حصول ذلك الخزي مستلزما لحصول هذا النصر ، كان إفراده
بالذكر عبثا؟
فتقول : ليس الأمر
كذلك ، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلا أن المؤمنين قد
تحصل لهم آفة لسبب آخر ، فلما قال : (وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ) دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر» .
والفائدة الرابعة
بينها ـ سبحانه ـ في قوله. (وَيَشْفِ صُدُورَ
قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ).
أى : أنكم بقتالكم
لهم وانتصاركم عليهم ، تشفون قلوب جماعة من المؤمنين من غيظها المكظوم ، لأن هذه
الجماعة قد لقيت ما لقيت من أذى المشركين وظلمهم وغدرهم .. فكان انتصاركم عليهم
شفاء لصدورهم.
قالوا : والمراد
بهؤلاء القوم بنو خزاعة الذين غدر بهم بنو بكر بمساعدة قريش.
__________________
والأولى أن تكون
الجملة الكريمة عامة في كل من آذاهم المشركون.
أما الفائدة
الخامسة فقد بينها ـ سبحانه. في قوله (وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ) : أى : ويذهب غيظ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين ويزيل كربها
وغمها ، لأن الشخص الذي طال أذى خصمه له. ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإن
هذا الشخص في هذه الحالة يعظم سروره ، ويفرح قلبه ، ويتحول غيظه السابق إلى غبطة
وارتياح نفسي.
قال الآلوسى : «وظاهر
العطف أن إذهاب الغيط غير شفاء الصدور. ووجه بأن الشفاء يكون بقتل الأعداء وخزيهم
، وإذهاب الغيظ يكون بالنصر عليهم ... وقيل ؛ إذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر ،
وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله به عليهم من تعذيبه لأعدائهم ،
ونصرته لهم عليهم ، ولعل إذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه ، فيكون ذكره من
باب الترقي ...» .
وقوله : تعالى ـ (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كلام مستأنف لبيان شمول قدرة الله ـ تعالى ـ ، وواسع رحمته
، وبالغ حكمته.
أى : ويتوب الله
على من يشاء أن يتوب عليه من عباده فيوفقه للإيمان ، ويشرح صدره للإسلام ، والله ـ
تعالى عليم بسائر شئون خلقه ، حكيم في كل أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته ، فامتثلوا
أمره ، واجتنبوا نهيه ، لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.
قال الإمام الرازي
ما ملخصه : وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله ـ تعالى ـ إيمانا
حقيقيا ؛ لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة بالغضب وبالحمية من أجل الدين ، ومن
أجل الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام ، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب
المؤمنين الصادقين.
كما تدل على أنها
من المعجزات ، لأنه ـ تعالى ـ أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت كما أخبر فقد
انتصر المؤمنون ، وأسلم من المشركين أناس كثيرون ـ فيكون ذلك إخبارا عن الغيب ،
والإخبار عن الغيب معجزة» .
ثم ختم ـ سبحانه ـ
هذه الآيات الكريمة التي حرضت المؤمنين على القتال أعظم تحريض ، ببيان بعض الحكم
التي من أجلها شرع الجهاد في سبيل الله ، فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٦)
و «أم» هنا
للاستفهام الإنكارى. وحسب ـ كما يقول الراغب ـ مصدره الحسبان وهو أن يحكم الشخص
لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله ، فيحسبه ويعقد عليه الأصابع ، ويكون
بعرض أن يعتريه فيه شك. ويقارب ذلك الظن ، لكن الظن أن يخطر النقيضان بباله فيغلب
أحدهما على الآخر .
والواو في قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ...) حالية ، و (لَمَّا) للنفي مع توقع الحصول ، ونفى العلم هنا مجاز عن نفى
التبيين والإظهار والتمييز.
وقوله : (وَلِيجَةً) أى ، بطانة ومداخلة. من الولوج في الشيء أى الدخول فيه.
يقال : ولج يلج
ولوجا إذا دخل. وكل شيء أدخلته في شيء ولم يكن منه فهو وليجة.
والمراد بالوليجة
هنا : البطانة من المشركين الذين يطلعون على أسرار المؤمنين ويداخلونهم في أمورهم.
قال ابن جرير :
قوله : (وَلِيجَةً) هو الشيء يدخل في آخر غيره. يقال منه : ولج فلان في كذا
يلجه فهو وليجة. وإنما عنى بها في هذا الموضع : البطانة من المشركين ، نهى الله
المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء يفشون إليهم أسرارهم .
والمعنى : أحسبتم
ـ أيها المؤمنون ـ أن تتركوا دون أن تؤمروا بقتال المشركين ، والحال أن الله ـ تعالى
ـ لم يظهر الذين جاهدوا منكم بإخلاص ولم يتخذوا بطانة من أعدائكم .. ممن جاهدوا
منكم بدون إخلاص؟
لا. أيها المؤمنون
، إن كنتم حسبتم ذلك فهو حسبان باطل ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يميز المخلص في
جهاده من غيره ، وأن يجعل من حكم مشروعية الجهاد الامتحان والتمحيص.
قال ابن كثير :
والحاصل أنه ـ تعالى ـ لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة وهو اختبار
عبيده من يطيعه ممن يعصيه ، وهو ـ تعالى ـ العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو
__________________
كان كيف كان يكون
، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ولا رب سواه ،
ولا راد لما قدره وأمضاه» .
وقوله تعالى. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) بيان لشمول علمه ـ سبحانه لجميع شئون خلقه.
أى : والله ـ تعالى
ـ خبير بجميع أعمالكم ، مطلع على نياتكم ، فأخلصوا له العمل والطاعة ، لتنالوا
ثوابه ورضاه وعونه.
وبذلك نرى السورة
الكريمة من أولها إلى هنا قد أعلنت براءة الله ورسوله من عهود المشركين ، وأعطتهم
مهلة يتدبرون خلالها أمرهم ، وأمرت المؤمنين بعد هذه المهلة ـ أن يقتلوا المشركين
حيث وجدوهم .. ثم ساقت الأسباب التي تدعو إلى مجاهدتهم ، والفوائد التي تترتب على
هذه المجاهدة ، والحكم التي من أجلها شرعت هذه المجاهدة.
ثم أخذت السورة
بعد ذلك في إعلان حكم آخر يتعلق بتعمير مساجد الله ، فبينت أنه يحرم على المشركين
أن يعمروا مساجد الله ، وأن المستحقين لذلك هم المؤمنون الصادقون ، فقال ـ تعالى ـ
:
(ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ)(١٨)
قال الجمل : وسبب
نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر ، منهم العباس بن عبد المطلب
، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعيرونهم
__________________
بالشرك. وجعل على
بن أبى طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقطيعة الرحم.
فقال العباس : ما
لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له : وهل لكم محاسن؟ قال : نعم. ونحن
أفضل منكم. إنا لنعمر المسجد الحرام. ونحجب الكعبة ـ أى نخدمها ـ ، ونسقى الحجيج ،
ونفك العاني ـ أى الأسير ـ فنزلت هذه الآية .
وقال صاحب المنار
: والمراد أن هذه الآية تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به العباس
وغيره من كبراء المشركين ، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك القول لأجل الرد عليه في
أيام بدر من السنة الثانية من الهجرة ، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة
تبوك كما تقدم .
وقوله : (يَعْمُرُوا) من العمارة التي هي نقيض الخراب. يقال : عمر فلان أرضه
يعمرها عمارة إذا تعهدها بالخدمة والإصلاح والزراعة.
والمراد بعمارة
المساجد ، هنا : ما يشمل إقامة العبادة فيها ، وإصلاح بنائها وخدمتها ، ونظافتها ،
واحترامها ، وصيانتها عن كل مالا يتناسب مع الغرض الذي بنيت من أجله.
وقوله : (مَساجِدَ اللهِ) قرأ أبو عمرو وابن كثير مسجد الله بالإفراد ، فيكون المراد
به المسجد الحرام : لأنه أشرف المساجد في الأرض ، ولأنه قبلة المساجد كلها .. فلا
يجوز للمشركين دخوله أو الخدمة فيه.
وقرأ الجمهور (مَساجِدَ اللهِ) بالجمع ، فيكون المراد من المساجد جميعها لأنها جمع مضاف
في سياق النفي فيعم سائر المساجد ، ويدخل فيها المسجد الحرام دخولا أوليا ، لأن
تعميره مناط افتخارهم ، وأهم مقاصدهم. وهذه القراءة آكد في النفي ، لأن نفى الجمع
يدل على النفي عن كل فرد ، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية ، كما لو قلت
: فلان لا يقرأ كتب الله ، فإن قولك هذا أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
قوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ) حال من الواو في قوله (يَعْمُرُوا).
وفائدة المجيء
بهذه الجملة : الإشعار بأن كفرهم كفر صريح ، وأنهم يعترفون به اعترافا لا يملكون
إنكاره ، ولا يسعهم إلا إقراره.
والمعنى : لا
ينبغي ولا يصح للمشركين أن يعمروا مساجد الله التي بنيت لعبادته وحده
__________________
سبحانه. وذلك لأن
هؤلاء المشركين قد شهدوا على أنفسهم بالكفر شهادة نطقت بها ألسنتهم ، وأيدتها
أعمالهم.
فهم لا ينطقون
بكلمة التوحيد ، وإنما ينطقون بالكفر والإشراك. وهم لا يعملون أعمال المؤمنين ،
وإنما يعملون الأعمال القبيحة التي تدل على إصرارهم على باطلهم كسجودهم للأصنام
عقب الطواف بالكعبة.
قال الفخر الرازي
: وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها :
الأول ـ وهو الأصح
: أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان ، وتكذيب القرآن ، وإنكار نبوة محمد ـ عليه
الصلاة والسلام ـ وكل ذلك كفر ؛ فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على
نفسه بما هو كفر في نفس الأمر ، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كفرة.
الثاني. قال السدى
: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن يقول عابد الوثن أنا عابد الوثن.
الثالث : أنهم
كانوا يطوفون عراة ؛ وكلما طافوا شوطا سجدوا للأصنام. وكانوا يقولون : لبيك لا
شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك .
ثم بين ـ سبحانه :
في ختام الآية سوء عاقبتهم فقال (أُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) :
أى : أولئك
المشركون الشاهدون على أنفسهم بالكفر قد فسدت أعمالهم التي كانوا يفتخرون بها مثل
العمارة والحجابة والسقاية لأنها مع الكفر لا قيمة لها ، (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) يوم القيامة بسبب كفرهم وإصرارهم على باطلهم.
ثم بين. سبحانه.
أن المؤمنين الصادقين هم الجديرون بعمارة مساجد الله ، فقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلَّا اللهَ).
أى : ليس المشركون
أهلا لعمارة مساجد الله ؛ وإنما الذين هم أهل لذلك المؤمنون الصادقون الذين آمنوا
بالله إيمانا حقا ، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وآمنوا بما فرضه
الله عليهم من فرائض فأدوها بالكيفية التي أرشدهم إليها نبيهم صلىاللهعليهوسلم فهم في صلاتهم خاشعون ؛ وللزكاة معطون بسخاء وإخلاص.
وهم بجانب ذلك لا
يخشون أحدا إلا الله في تبليغ ما كلفوا بتبليغه من أمور الدين ؛
__________________
ولا يقصرون في
العمل بموجب أوامر الله ونواهيه.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : هلا ذكر الإيمان برسول الله صلىاللهعليهوسلم قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان
بالرسول. عليه الصلاة والسلام. لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها
عليهما مقترنين كأنهما شيء واحد .. انطوى تحت ذكر الإيمان بالله. تعالى. الإيمان
بالرسول صلىاللهعليهوسلم فإن قلت : كيف قال : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا
اللهَ) والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها.
قلت : هي الخشية
والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف : وإذا
اعترض أمران : أحدهما حق الله والآخر حق نفسه ، آثر حق الله على حق نفسه .
وقوله ـ تعالى ـ (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ) تذييل قصد به حسن عاقبة المؤمنين الصادقين.
أى : فعسى أولئك
المتصفون بتلك الصفات الجليلة من الإيمان بالله واليوم الآخر .. أن يكونوا من
المهتدين إلى الجنة وما أعد فيها من خير عميم ، ورزق كبير.
قال الآلوسى :
وإبراز اهتدائهم لذلك ـ مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة ـ في معرض التوقع ، لحسم
أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين. وهم من هم. إذا
كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فكيف يقطع المشركون. وهم بيت المخازي والقبائح. أنهم
مهتدون؟!.
وفيه قطع اتكال
المؤمنين على أعمالهم ، وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء .
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
١ ـ أن أعمال البر
الصادرة عن المشركين. كإطعام الطعام ، وإكرام الضيف .. إلخ. لا وزن لها عند الله ،
لاقترانها بالكفر والإشراك به ـ سبحانه ـ.
قال. تعالى. : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) .
٢ ـ أن عمارة
مساجد الله من حق المؤمنين وحدهم ، أما المشركون فإنهم لا يصح منهم ذلك بسبب كفرهم
ونجاستهم.
__________________
قال الجمل. لا يصح
للمشركين أن يعمروا مساجد الله بدخولها والقعود فيها. فإذا دخل الكافر المسجد بغير
إذن من مسلم عزّر ، وإن دخل بإذنه لم يعزر لكن لا بد من حاجة. فيشترط للجواز الإذن
والحاجة. ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلىاللهعليهوسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سوارى المسجد وهو كافر .
٣ ـ التنويه بشأن
بناء المساجد ، والتعبد فيها ، وإصلاحها ، وخدمتها ، وتنظيفها ، والسعى إليها ،
واحترامها ، وصيانتها عن كل ما يتنافى مع الغرض الذي بنيت من أجله ، وقد وردت
أحاديث كثيرة في هذا المعنى ، ومن ذلك : ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عثمان بن
عفان. رضى الله عنه. قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من بنى لله مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له
بيتا في الجنة».
وروى الشيخان.
أيضا. عن أبى هريرة. رضى الله عنه. قال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من غدا إلى
المسجد أو راح ـ أى سار قبل الزوال أو بعده لعبادة الله في المسجد ـ أعد الله له
نزلا ـ أى مكانا طيبا في الجنة ـ كلما غدا أو راح».
وروى الترمذي عن
أبى سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»
قال الله. تعالى ـ : (إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ..) الآية.
وروى أبو داود
والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد ، وأن تنشد فيه ضالة ؛ أو
ينشد فيه شعر». وروى مسلم في صحيحه عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا
القذر ، إنما هي لذكر الله تعالى. وقراءة القرآن» .
إلى غير ذلك من
الأحاديث التي وردت بشأن المساجد.
ثم بين. سبحانه.
بعد ذلك أنه لا يصلح أن يسوى بين هؤلاء المشركين ـ لمجرد سقايتهم الحجاج وعمارتهم
المسجد الحرام. وبين المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته فقال
ـ سبحانه ـ :
__________________
(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ
الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ
دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١)
خالِدِينَ
فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(٢٢)
ذكر المفسرون في
سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما رواه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر
عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر النبي. صلىاللهعليهوسلم في نفر من أصحابه فقال رجل : ما أبالى أن لا أعمل عملا بعد
الإسلام إلا أن أسقى الحاج. وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد
في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلىاللهعليهوسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله. تعالى. : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..) الآية وأخرج ابن جرير عن عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول
في قوله : (أَجَعَلْتُمْ
سِقايَةَ الْحاجِّ ..) : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر
يعيرونهم بالشرك. فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام. ونفك
العاني ، ونحجب البيت ، ونسقى الحاج فأنزل الله. تعالى. : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..) .
وقال صاحب المنار
، بعد أن ساق عددا من الروايات في سبب نزول هذه الآيات. :
__________________
والمعتمد من هذه
الروايات حديث النعمان لصحة سنده ، وموافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون
موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت وحجابه. من أعمال البر الهينة
المستلذة. وبين الإيمان والجهاد بالمال والنفس والهجرة وهي أشق العبادات البدنية
والمالية .
والسقاية والعمارة
: مصدران من سقى وعمر. بتخفيف الميم.
والمراد بسقاية
الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان العباس. رضى
الله عنه. هو الذي يتولى إدارة هذا العمل.
قال الجمل :
السقاية هي المحل الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم. كان يشترى الزبيب فينبذ في ماء
زمزم ويسقى للناس ، وكان يليها العباس جاهلية وإسلاما ، وأقرها النبي صلىاللهعليهوسلم له .. ويظهر أن المراد بها هنا المصدر. أى : إسقاء الحجاج
وإعطاء الماء لهم .
والمراد بعمارة
المسجد الحرام : ما يشمل العبادة فيه ، وإصلاح بنائه ، وخدمته ، وتنظيفه .. كما
سبق أن بينا.
والهمزة في قوله. (أَجَعَلْتُمْ) للاستفهام الإنكارى المتضمن معنى النهى.
والكلام على حذف
مضاف ، لأن العمارة والسقاية مصدران ولا يتصور تشبيههما بالأعيان ، فلا بد من
تقدير مضاف في أحد الجانبين حتى يتأتى التشبيه والمعنى : أجعلتم أهل سقاية الحاج
وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله؟
ويؤيده قراءة أجعلتم سقاة الحاج بضم السين. جمع ساق. وعمرة المسجد الحرام بفتح
العين والميم جمع عامر.
وعلى هذا المعنى
يكون التقدير في جانب الصفة ، ويجوز أن يكون التقدير في جانب الذات فيكون المعنى. أجعلتموهما
، أى السقاية والعمارة. كإيمان من آمن وجهاد من جاهد؟
والخطاب يشمل بعض
المؤمنين الذين آثروا السقاية والعمارة على الجهاد كما جاء في حديث النعمان. كما
يشمل المشركين الذين كانوا يتفاخرون بأنهم سقاة الحجيج ، وعمار المسجد الحرام.
والمقصود من
الجملة الكريمة إنكار التسوية بين العملين وبين الفريقين. وقد جاء هذا الإنكار
صريحا في قوله تعالى. (لا يَسْتَوُونَ
عِنْدَ اللهِ).
__________________
أى : لا يساوى
الفريق الأول الفريق الثاني في حكم الله ، إذ أن الفريق الثاني له بفضل إيمانه
الصادق. وجهاده الخالص الأجر الجزيل عند الله.
فالجملة الكريمة
مستأنفة لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده ثم ختم ـ سبحانه. الآية الكريمة بقوله. (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ).
أى. والله تعالى.
لا يوفق القوم الظالمين إلى معرفة الحق ، وتمييزه من الباطل ، لأنهم قد آثروا الشر
على الخير والضلالة على الهداية.
وقوله. (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِنْدَ اللهِ ..») استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد ، وتكميلا له.
أى : (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، (وَهاجَرُوا) من دار الكفر إلى دار الإيمان فرارا بدينهم ، (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمة الله (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) هؤلاء الذين توفرت فيهم هذه الصفات الجليلة (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أى : أعلى مقاما وأشرف منزلة في حكم الله وتقديره من أهل
سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام ومن كل من لم يتصف بهذه الصفات الأربعة
الكريمة وهي : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال ، والجهاد بالنفس.
قال الفخر الرازي.
فإن قيل : لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين. كما جاء في بعض
روايات أسباب النزول. فكيف قال في وصفهم أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة.
قلنا. الجواب عنه
من وجوه. الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة
عند الله ، ونظيره قوله. سبحانه (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ) .
الثاني : أن يكون
المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بهذه الصفات ، تنبيها على أنهم
لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات ، فبأن لا يقاسوا
إلى الكفار أولى.
الثالث : أن يكون
المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة. والمراد منه
ترجيح تلك الأعمال. ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير ، وإنما بطل ثوابها
في حق الكفار بسبب كفرهم .
__________________
وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أى : وأولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة ، هم الفائزون
، بثواب الله الأعظم ، وبرضائه الأسمى الذي لا يصل إليه ، سواهم ممن لم يفعل
فعلهم.
ثم فصل ـ سبحانه ـ
هذا الفوز فقال : (يُبَشِّرُهُمْ
رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
أى يبشرهم ربهم
على لسان نبيهم صلىاللهعليهوسلم في الدنيا وعلى لسان الملائكة عند الموت (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أى : برحمة واسعة منه ـ سبحانه ـ وبرضائه التام عنهم ،
وبجنات عالية لهم فيها نعيم عظيم لا يزول ولا يبيد.
(خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) أى : ماكثين في تلك الجنات مكثا أبديا.
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره لهؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل
الله بأموالهم وأنفسهم.
قال الآلوسى : ذكر
أبو حيان أنه ـ تعالى ـ لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة ، والجهاد
بالنفس والمال ، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث : الرحمة ، والرضوان ، والجنة.
وبدأ ـ سبحانه ـ بالرحمة
في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ، ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو
السابق.
وثنى ـ سبحانه ـ بالرضوان
الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي هو بذل الأنفس والأموال.
وثلث بالجنات في
مقابلة الهجرة وترك الأوطان ، إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها ـ في سبيله أعطاهم
بدلها دارا عظيمة دائمة وهي الجنات.
وفي الحديث الصحيح
يقول الله ـ سبحانه ـ : «يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا
عن نارك وأدخلتنا جنتك؟ فيقول ـ سبحانه ـ لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما
أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه : أحل لكم رضائى فلا أسخط عليكم بعده أبدا» .
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الكريمة قد بينت أنه لا تصح المساواة بين المؤمنين الصادقين
__________________
الذين هاجروا
وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وبين غيرهم ممن لم يفعل فعلهم ، ولم
يجاهد جهادهم ...
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ ما أعده من عطاء عظيم للمؤمنين الصادقين ، الذين هاجروا وجاهدوا في سبيله
بأموالهم وأنفسهم ... أتبع ذلك بتوجيه نداء إليهم ، حثهم فيه على أن يجردوا أنفسهم
لعقيدتهم ، وأن يقاطعوا أعداءهم في الدين مهما بلغت درجة قرابتهم منهم ، وأن
يؤثروا حب الله ورسوله على كل شيء من زينة الحياة الدنيا فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ)(٢٤)
والمعنى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا حقا (لا تَتَّخِذُوا
آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ) المشركين (أَوْلِياءَ) وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم ، وتطلعونهم على ما لا يجوز
اطلاعهم عليه من شئونكم ، وتلقون إليهم بالمودة .. فإن ذلك يتنافى مع الإيمان الحق
، ومع الإخلاص للعقيدة وإيثارها على كل ما سواها من زينة الحياة.
والمراد النهى لكل
فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة أى فرد من أفراد المشركين ، لأن الجمع إذا قوبل
بالجمع يوزع الفرد على الفرد ، كما في قوله ـ تعالى ـ (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) .
__________________
قال القرطبي : وخص
ـ سبحانه ـ الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم ليبين أن
القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان.
ولم يذكر الأبناء
في هذه الآية ، إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإحسان والهبة
مستثناة من الولاية. قالت أسماء : يا رسول الله إن أمى قدمت على راغبة وهي مشركة
أفأصلها؟ قال نعم. «صلى أمك» .
وقوله ـ سبحانه ـ :
(إِنِ اسْتَحَبُّوا
الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) قيد في النهى عن اتخاذهم أولياء. والاستحباب : طلب المحبة
: يقال : استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته.
أى : لا تتخذوهم
أولياء إن اختاروا الكفر على الإيمان وأصروا على شركهم وباطلهم .. أما إذا أقلعوا
عن ذلك ودخلوا في دينكم ، فلا حرج عليكم من اتخاذهم أولياء وأصفياء.
وقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تذييل قصد به الوعيد والتهديد لمن يفعل ذلك.
أى : ومن يتولهم
منكم في حال استحبابهم الكفر على الإيمان ، فأولئك الموالون لهم هم الظالمون
لأنفسهم ، لأنهم وضعوا الموالاة في غير موضعها ، وتجاوزوا حدود الله التي نهاهم عن
تجاوزها ، وسيجازيهم ـ سبحانه ـ على ذلك بما يستحقونه من عقاب.
ثم أمر ـ سبحانه ـ
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يعلن للناس هذه الحقيقة : وهي أن محبة الله ورسوله يجب
أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ) يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين : (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الذين أنتم بضعة منهم ، (وَأَبْناؤُكُمْ) الذين هم قطعة منكم (وَإِخْوانُكُمْ) الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم (وَأَزْواجُكُمْ) اللائي جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة (وَعَشِيرَتُكُمْ) أى : أقاربكم
الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة (وَأَمْوالٌ
اقْتَرَفْتُمُوها) أى : اكتسبتموها فهي عزيزة عليكم.
وأصل القرف
والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتساب
مطلقا :
(وَتِجارَةٌ
تَخْشَوْنَ كَسادَها) أى : تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من
متطلبات الإيمان.
يقال : كسد الشيء
من باب نصر وكرم. كسادا وكسودا ، إذا قل رواجه وربحه. (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أى : ومنازل تعجبكم الإقامة فيها.
__________________
قل لهم يا محمد :
إن كان كل ذلك ـ من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة ، والأموال ،
والتجارة ، والمساكن ـ (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ).
أى : إن كانت هذه
الأشياء أحسن في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في
سبيل إعلاء كلمة الحق ، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم ، وهو العذاب العاجل أو
العقاب الآجل.
فالجملة الكريمة
تهديد وتخويف لمن آثر محبة الآباء والأبناء ... على محبة الله ورسوله ، وعلى
الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين.
وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفاسِقِينَ) تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى : والله ـ تعالى ـ قد
اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته
ورضاه.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
(١) تحريم موالاة
الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم ، واعتبار هذه الموالاة من الكبائر ، لوصف فاعلها
بالظلم : قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
(٢) قوة إيمان
الصحابة ، وسرعة امتثالهم لأوامر الله ، فإنهم في سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس
إليهم ممن خالفوهم في الدين ، بل وحاربوهم وقتلوهم.
قال ابن كثير :
روى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح
ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر الجراح ، قصده ابنه
أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ـ التي بآخر سورة المجادلة ـ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ ، أَوْ أَبْناءَهُمْ ، أَوْ إِخْوانَهُمْ ، أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ،
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ،
وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ،
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ ، أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
(٣) إن المؤمن لا
يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب ، وقد وردت عدة
أحاديث في هذه المعنى ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبى عقيل
__________________
زهرة بن معبد أنه
سمع جده عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله لأنت أحب
إلى من كل شيء إلا من نفسي. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا يؤمن أحدكم
حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر : فأنت والله أحب إلى من نفسي. فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «الآن يا عمر» .
(٤) في الآية
الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا ، وجب
ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليما ، وهذا عمل لا يستطيعه إلا
الأتقياء .. ولذا قال الإمام الزمخشري : وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. كأنها
تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين. فلينصف أورع
الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه ، ما
يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ
الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته ، فلا يدرى أى
طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالى كأنما وقع على
أنفه ذباب فطيره؟ .
(٥) قال بعض
العلماء : وليس المطلوب. من قوله ـ تعالى ـ (قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ ...) إلخ. أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد
والمال والعمل والمتاع واللذة ، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة .. كلا إنما
تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة
الحاكمة ، وهي المحركة الدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم
بكل طيبات الحياة ، على أن يكون مستعدا لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع
مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو
أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من
أعراض هذه الحياة؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا
أن يستمتع بالأبناء والإخوة والعشيرة والزوج .. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر
والمساكن. ولا عليه أن يستمتع بزينة الله والطيبات من الرزق. في غير سرف ولا
مخيلة.
بل إن المتاع
حينئذ لمستحب ، باعتباره لونا من ألوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده.
وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
ثم انتقلت السورة
الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بلغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم
محبة الآباء والأبناء على محبة الله .. انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم
__________________
الله عليهم. حيث
نصرهم ـ سبحانه ـ في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال ـ تعالى
ـ :
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ
اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً
لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٧)
قال ابن كثير. هذه
أول آية نزلت من براءة يذكر ـ تعالى ـ المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره
إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده ـ تعالى ـ : وبتأييده
وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عنده سواء قل الجمع أم كثر
، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا
القليل منهم ... ثم أنزل الله نصره على رسوله والمؤمنين.
وقد كانت واقعة
حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة : وذلك أنه لما فرغ صلىاللهعليهوسلم من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، ومعهم ثقيف بكمالها
وبنو سعد بن بكر.
فخرج إليهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين
والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين. فسار
بهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ،
فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح.
انحدروا في الوادي
وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا
بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد .. فعند ذلك ولى المسلمون
الأدبار ، وثبت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وثبت معه من أصحابه قريب من مائة.
ثم أمر صلىاللهعليهوسلم عمه العباس ـ وكان جهير الصوت ـ أن ينادى بأعلى صوته يا
أصحاب الشجرة ـ أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا
عنه ـ فجعل ينادى بهم .. فجعلوا يقولون : لبيك لبيك.
وانعطف الناس
فتراجعوا .. فأمرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ،
فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا
فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة
بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم .
هذه خلاصة لغزوة
حنين التي اجتمع فيها للمسلمين ـ للمرة الأولى ـ جيش تعداده اثنا عشر ألفا ، فلما
أعجبتهم هذه الكثرة والقوة .. أصيبوا بالهزيمة في أول معركة .. ليعلموا أن كثرتهم
لن تغنى عنهم شيئا إذا لم يكن عون الله معهم.
فقوله ـ تعالى ـ :
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداوموا على
طاعته ومحبته. وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت.
والمواطن : جمع
موطن. وهو المكان الذي يقيم فيه الإنسان. يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله
وطنا له.
والمراد بالمواطن
هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم.
قال الآلوسى :
وقوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه
جائز .. وأوجب الزمخشري كون (يَوْمَ) منصوبا بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة.
أى : «ونصركم يوم
حنين ..» .
وقوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له.
__________________
وأعجبتكم : من
الإعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه. وسبب هذا الإعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا
عشر ألفا ، وعدد أعدائهم كان أربعة آلاف.
وقوله : (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) بيان للأثر السيئ الذي أعقب الإعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم
بهذه الكثرة لم يدم طويلا ، بل تبعه الحزن والهزيمة.
وقوله : (تُغْنِ) من الغناء بمعنى النفع. تقول : ما يغنى عنك هذا الشيء ، أى
: ما يجزئ عنك وما ينفعك وقوله : (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) بيان لشدة خوفهم وفزعهم.
قال القرطبي :
والرحب ـ بضم الراء ـ السعة. تقول منه : فلان رحب الصدر.
والرحب ـ بالفتح ـ
الواسع. تقول منه : بلد رحب وأرض رحبة.
وقيل : الباء
بمعنى مع ، أى : وضاقت عليكم الأرض مع رحبها. وقيل بمعنى على. أى : على رحبها.
وقيل المعنى برحبها فتكون «ما» مصدرية .
والمعنى : اذكروا
ـ أيها المؤمنون ـ نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر
هذه النعم أنه ـ سبحانه ـ قد نصركم على أعدائكم مع قلتكم. في مواقف حروب كثيرة ؛
كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير ... كما نصركم. أيضا. في يوم غزوة حنين ،
وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم : لن نغلب اليوم
من قلة ...
ولكن هذه الكثرة
التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئا من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول
الأمر ، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال
الشاعر :
كأن بلاد الله
وهي عريضة
|
|
على الخائف
المطلوب كفّة حابل
|
وقوله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم.
ووليتم : من
التولي بمعنى الإعراض. ومدبرين : من الإدبار بمعنى الذهاب إلى الخلف.
أى : ثم وليتم
الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شيء.
وهكذا ، نرى الآية
الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويرا بديعا
__________________
معجزا .. فهي
تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة
خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقفل في وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم
الحسية المتمثلة في تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب.
وبعد هذا الخوف
الشديد الذي أصاب المؤمنين في مبدأ لقائهم بأعدائهم في غزوة حنين ، يجيء نصر الله
الذي عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ..).
والسكينة :
الطمأنينة والرحمة والأمنة وهي فعيلة من السكون : وهو ثبوت الشيء بعد التحرك. أو
من السكن وهو كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيرهم.
أى : ثم أنزل الله
ـ تعالى ـ على رسوله صلىاللهعليهوسلم وعلى المؤمنين
رحمته التي تسكن إليها القلوب ، وتطمئن بها اطمئنانا يستتبع النصر القريب.
وقد كان الرسول صلىاللهعليهوسلم في حاجة إلى هذه السكينة ؛ لأنه مع شجاعته وثباته ووقوفه
في وجه الأعداء كالطود الأشم. أصابه الحزن والأسى لفرار هذا العدد الكبير من
أصحابه عنه.
وكان المؤمنون
الذين ثبتوا من حوله في حاجة إلى هذه السكينة ؛ ليزدادوا ثباتا على ثباتهم ،
وإيمانا على إيمانهم.
وكان الذين فروا
في حاجة إلى هذه السكينة ، ليعود إليهم ثباتهم ، فيقبلوا على قتال أعدائهم بعد أن
دعاهم رسولهم صلىاللهعليهوسلم إلى ذلك.
وقوله : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) بيان لنعمة أخرى سوى إنزال السكينة.
أى : وأنزل مع هذه
السكينة جنودا من الملائكة لم تروها بأبصاركم ، ولكنكم وجدتم أثرها في قلوبكم ،
حيث عاد إليكم ثباتكم وإقدامكم.
وقوله : (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، بيان لنعمة ثالثة سوى السابقتين.
أى : أنزل سكينته
وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا بأن سلطكم عليهم فقتلتم منهم من قتلتم ،
وأسرتم من أسرتم.
وقوله (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أى وذلك الذي نزل بهؤلاء الكافرين من التعذيب جزاء لهم على
كفرهم ، وصدهم عن سبيل الله.
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعض مظاهر قدرته ورحمته بعباده فقال ـ تعالى ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أى : ثم يتوب الله
ـ تعالى ـ من بعد هذا التعذيب للذين كفروا في الدنيا ، على من يشاء أن يتوب عليه
منهم ، بأن يوفقه للدخول في الإسلام ، والله ـ تعالى ـ واسع المغفرة ، عظيم الرحمة
، لا يحاسب الكافرين بعد إيمانهم على ما حصل منهم من كفر.
قال ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) .
قال ابن كثير :
وقوله : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ
مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ ...) قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا ، وقدموا عليه مسلمين
، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما فعند
ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف أسير ، ما بين
صبي وامرأة فرده عليهم : وقسم الأموال بين الغانمين ، ونفل أناسا من الطلقاء لكي
يتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإبل ، وكان من جملة من أعطاهم
مائة من الإبل مالك بن عوف النضري واستعمله على قومه .
وبذلك نرى هذه
الآيات الكريمة قد ذكرت المؤمنين بجانب من نعم الله عليهم. ومن رحمته بهم ،
وأرشدتهم إلى أن النصر لا يتأتى لمن أعجبوا بكثرتهم فانشغلوا بها عن الاعتماد عليه
ـ سبحانه ـ وإنما النصر يتأتى لمن أخلصوا لله سرائرهم وعلانيتهم. وباشروا الأسباب
التي شرعها ـ سبحانه ـ للوصول إلى الفوز والظفر.
قال ابن القيم :
افتتح الله ـ تعالى ـ غزوات العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، لهذا يقرن
بين هاتين بالذكر ، فقال بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين .. وبهاتين الغزوتين
طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمين. فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم ، والثانية
استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم ، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في
دين الله .
وبعد هذا التذكير
والتوجيه من الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين .. وجه ـ سبحانه ـ إليهم نداء أمرهم
فيه بمنع المشركين من قربان المسجد الحرام ، ووعدهم بالعطاء الذي يغنيهم ، فقال :
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٢٨)
وقوله : (نَجَسٌ) بالتحريك ـ مصدر نجس الشيء ينجس فهو نجس إذا كان قذرا غير
نظيف ، وفعله من باب «تعب» وفي لغة من باب «قتل».
قال صاحب الكشاف :
النجس : مصدر. يقال نجس نجسا وقذر قذرا ، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ،
ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم. أو جعلوا
كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها .
قيل : وجوز أن يكون
لفظ «نجس» صفة مشبهة ـ وإليه ذهب الجوهري ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا
مجموع معنى ، ليصح الإخبار به عن الجمع. أى جنس نجس ونحوه .
وقوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) فيه ما فيه من التعبير البديع المصور المجسم لهم ، حتى
لكأنهم بأرواحهم وماهيتهم وكيانهم : النجس يمشى على الأرض فيتحاشاه المتطهرون ،
ويتحاماه الأتقياء من الناس.
وقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
بَعْدَ عامِهِمْ هذا) تفريع على نجاستهم والمراد النهى عن الدخول إلا أنه عبر
عنه بالنهى عن القرب مبالغة في إبعادهم عن المسجد الحرام.
والنهى وإن كان
موجها إلى المشركين ، إلا أن المقصود منه نهى المؤمنين عن تمكينهم من ذلك ،
والمراد بقوله : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) العام الذي حصل فيه النداء بالبراءة من المشركين ، وبعدم
طوافهم بالمسجد الحرام .. وهو العام التاسع من الهجرة.
قال ابن كثير :
أمر الله عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا ـ عن
المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية. وكان نزولها في سنة تسع.
__________________
ولهذا بعث رسول
الله صلىاللهعليهوسلم عليا صحبة أبى بكر رضى الله عنهما ـ عامئذ ، وأمره أن
ينادى في المشركين : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم
الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا .
وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) بشارة من الله تعالى للمؤمنين بأن سيعطيهم من فضله ما
يغنيهم عن المشركين.
والعيلة : الفقر
والفاقة : يقال : عال الرجل يعيل عيلة فهو عائل إذا افتقر ، ومنه قول الشاعر :
وما يدرى الفقير
متى غناه
|
|
وما يدرى الغنى
متى يعيل
|
وقرئ «عائلة»
بمعنى المصدر كالعافية : اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أى : حالا عائلة.
قال ابن جرير ـ بعد
أن ساق روايات في سبب نزول الآية ـ : عن عطية العوفى قال : لما قيل «ولا يحج بعد
العام مشرك» قالوا : قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم ، قال فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا
، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ...) الآية .
والمعنى : لا
تمكنوا أيها المؤمنون. المشركين من دخول المسجد الحرام بعد هذه السنة ، لأنهم نجس
.. ولا تخشوا الفقر والفاقة بسبب عدم تمكينهم ، حيث إنكم تتبادلون معهم التجارات
والمبايعات .. لأن الله ـ تعالى ـ قد وعدكم أن يغنيكم من فضله بالعطايا والخيرات
التي تكفيكم أمر معاشكم ..
وقد أنجز الله ـ تعالى
ـ لهم وعده ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وفتح لهم البلاد ، فكثرت بين أيديهم
الغنائم وألوان الخيرات ، ودخل في دين الله من هم أيسر حالا وأغنى مالا من هؤلاء
المشركين ..
قال صاحب الكشاف :
قوله : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أى : من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل عليهم السماء
مدرارا ، فأغزر بها خيرهم ، وأكثر مسيرهم. وأسلم أهل تبالة وجرس فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به : فكان أعود عليهم
مما خافوا العيلة لفواته» .
__________________
والتقييد بالمشيئة
في قوله : (إِنْ شاءَ) ليس للتردد ، بل هو لتعليم المؤمنين رعاية الأدب مع الله ـ
تعالى ـ كما في قوله : (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ). ولبيان أن هذا الإغناء بإرادته ـ سبحانه ـ وحده ، فعليهم
أن يجعلوا اعتمادهم عليه ، وتضرعهم إليه لا إلى غيره ، وللتنبيه على أن عطاءه
سبحانه لهم ، هو من باب التفضل لا الوجوب ، لأنه لو كان واجبا ما قيده بالمشيئة.
ولما كانت مشيئته
ـ سبحانه ـ تجرى حسب مقتضى علمه وحكمته ، فقد ختم الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
أى : إن الله عليم
بأحوالكم ومصالحكم ، وبما يكون عليه أمر حاضركم ومستقبلكم حكيم فيما شرعه لكم.
فاستجيبوا له لتنالوا السعادة في دنياكم وآخرتكم.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي استنبطها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
١ ـ أن المراد
بالمشركين في الآية ما يتناول عبدة الأوثان وغيرهم من أهل الكتاب. كما هو مقتضى
ظاهر اللفظ ، وكما يدل عليه قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ..) .
أى : لا يغفر أن
يشرك به بأى لون من ألوان الشرك.
ويرى كثير من
الفقهاء أن المراد بالمشركين هنا عبدة الأوثان فحسب ، لأن الحديث خاص بهم من أول
السورة إلى هنا.
٢ ـ يرى جمهور
الفقهاء أن نجاسة المشركين مرجعها إلى خبث بواطنهم لعبادتهم سوى الله ـ تعالى ـ أما
أبدانهم فطاهرة.
وقد بسط صاحب
المنار القول في هذه المسألة فقال ما ملخصه : «قال بعضهم بنجاسة أعيان المشركين ،
ووجوب تطهير ما تصيبه أبدانهم مع البلل.
حكى هذا القول عن
ابن عباس والحسن البصري .. وجمهور الظاهرية ..
ويرى جمهور السلف
والخلف وأصحاب المذاهب الأربعة أن أعيانهم طاهرة. لأنه من المعلوم أن المسلمين
كانوا يعاشرون المشركين ويخالطونهم. ومع هذا فالنبي صلىاللهعليهوسلم لم يأمر بغسل شيء مما أصابته أبدانهم .. بل الثابت أنه صلىاللهعليهوسلم توضأ من مزادة مشركة ، وأكل من طعام اليهود ... وأطعم هو
وأصحابه وفدا من الكفار ولم يأمر بغسل الأوانى التي أكلوا وشربوا فيها ..
__________________
وروى الإمام أحمد
وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله ، فنصيب من آنية
المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك علينا ...» .
٣ ـ اختلف الفقهاء
في المراد بالمسجد الحرام في قوله ـ تعالى ـ (فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ...).
فقال ابن عباس
وابن جبير ومجاهد وعطاء : المراد به الحرم كله فيشمل المسجد الحرام ومكة ، لأن
المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله. وعليه فالكافر يمنع من
دخول الحرم كله ..
ويرى الشافعى أن
المراد المسجد الحرام بخصوصه أخذا بظاهر اللفظ.
قال القرطبي :
وقال الشافعى : الآية عامة في سائر المشركين ، خاصة في المسجد الحرام ، ولا يمنعون
من دخول غيره ، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد» .
ويرى الإمام مالك
أن المراد المسجد الحرام بالنص وبقية المساجد تقاس عليه ، لأن العلة ـ وهي النجاسة
ـ موجودة في المشركين ، والحرمة موجودة في كل مسجد.
وعليه فلا يجوز
تمكينهم لا من المسجد الحرام ولا من غيره من المساجد.
ويرى الأحناف أن
المراد بالمسجد الحرم كله ، إلا أن النهى هنا ليس منصبا على دخوله وإنما هو منصب
على المنع من الحج والعمرة. ومن الحج إليه أى : لا تمكنوا ـ أيها المؤمنون ـ المشركين
من الطواف بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا.
قال الآلوسى :
ويؤيده قوله ـ تعالى ـ (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، فإن تقييد النهى يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من
أوقات العام. أى : لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة
.. ويدل عليه نداء على ـ كرم الله وجهه ـ يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا
هذا مشرك ، وكذا قوله ـ سبحانه ـ (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً) أى : فقرا بسبب منعهم ، لما أنهم كانوا يأتون في الموسم
بالمتاجر ، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى.
ثم قال : والحاصل
أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهى عليه ، ولا يمنعون عنده
من دخول المسجد الحرام ومن دخول سائر المساجد» .
__________________
٤ ـ قال القرطبي :
في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز ، وليس ذلك بمناف
للتوكل ، وإن كان الرزق مقدرا ، ولكنه علقه بالأسباب لتظهر القلوب التي تتعلق
بالأسباب ، من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب وقد تقدم أن السبب لا ينافي
التوكل ، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري أن الرسول صلىاللهعليهوسلم قال : «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير
، تغدو خماصا وتروح بطانا» ـ أى : تغدو صباحا وهي جياع ، وتعود عشية وهي ممتلئة
البطون ـ.
هذا ، وبتدبر آيات
السورة الكريمة ـ من أولها إلى هنا ـ نراها قد وضحت العلاقات النهائية بين
المسلمين وعبدة الأوثان ، وفصلت كثيرا من الأحكام التي تخص الفريقين ، ومن ذلك
أنها قررت :
١ ـ براءة الله
ورسوله من عهود المشركين الذين مردوا على نقض المواثيق.
٢ ـ إعطاءهم مهلة
مقدارها أربعة أشهر يتدبرون خلالها أمرهم ، دون أن يتعرض المسلمون لهم بسوء.
٣ ـ إعلان الناس
جميعا يوم الحج الأكبر بهذه البراءة ..
٤ ـ أمر المؤمنين
بإتمام مدة العهد لمن حافظ من المشركين على عهده.
٥ ـ بيان ما يجب
على المؤمنين فعله إذا ما انقضت أشهر الأمان التي أعطيت للمشركين.
٦ ـ إرشاد
المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم تأمين المشرك المستجير بهم حتى يسمع كلام الله ،
ويطلع على حقيقة الإسلام .. ثم توصيله إلى موضع أمنه إن لم يسلم.
٧ ـ بيان الأسباب
التي تدعو إلى قتال المشركين ، وإلى وجوب البراءة منهم.
٨ ـ بيان بعض
الحكم والأسرار التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام.
٩ ـ بيان أن
المشركين ليسوا أهلا لعمارة مساجد الله .. وأن الذين هم أهل لذلك :
المؤمنون
الصادقون.
١٠ ـ توجيه
المؤمنين إلى أن إيمانهم يحتم عليهم أن يؤثروا محبة الله ورسوله على أى شيء آخر ،
من الآباء والأبناء والإخوان.
١١ ـ تذكيرهم
بجانب من نعم الله عليهم حيث نصرهم في مواطن كثيرة ونصرهم يوم غزوة حنين ، بعد أن
هزموا في أول المعركة دون أن تنفعهم كثرتهم التي أعجبوا بها.
__________________
١٢ ـ نهيهم عن
تمكين المشركين من قربان المسجد الحرام ، وإزالة الوساوس التي قد تخطر ببالهم بسبب
هذا النهى ، بأن وعدهم ـ سبحانه ـ بأنه سيعطيهم من فضله ما يغنيهم عن المكاسب التي
تأتيهم عن طريق تبادل المنافع مع المشركين في موسم الحج.
هذه أهم الموضوعات
التي تعرضت لها سورة التوبة في ثمان وعشرين آية من أولها إلى هنا. وهي موضوعات
وضحت. كما أسلفنا. الأحكام النهائية في علاقات المسلمين بالمشركين عبدة الأوثان.
ثم ساقت السورة
الكريمة بعد ذلك سبع آيات بينت فيها ما يجب أن يكون عليه موقف المسلمين من
المنحرفين من أهل الكتاب ، كما حكت بعض أقوالهم الذميمة ، وأفعالهم القبيحة ، التي
تدعو المسلمين إلى قتالهم حتى يخضعوا لسلطان الإسلام ، وقد بدئت هذه الآيات بقوله
ـ تعالى ـ
(قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ)(٢٩)
قال الإمام الرازي
: اعلم أنه لما ذكر ـ سبحانه ـ حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم ، وفي
إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام
.. ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون
على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد .
وقال ابن كثير ما
ملخصه : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى. وكان ذلك في
سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى
أحياء العرب حول المدينة ، فندبهم فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين
ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة. ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك
في عام جدب ، ووقت قيظ حر. وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم
__________________
يريد الشام لقتال
الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريبا من عشرين يوما ، ثم استخار الله
في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ....» .
وقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ ....) أمر منه ـ سبحانه ـ للمؤمنين بقتال أهل الكتاب ، وبيان
للأسباب التي اقتضت هذا الأمر ، وهي أنهم :
أولا : (لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) لأنهم لو كانوا مؤمنين به إيمانا صحيحا ، لاتبعوا رسوله
محمدا صلىاللهعليهوسلم ، ولأن منهم من قال : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ومنهم من قال : (الْمَسِيحُ ابْنُ
اللهِ).
وقولهم هذا كفر
صريح ، لأنه ـ سبحانه ـ منزه عما يقولون.
قال ـ تعالى ـ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ
الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).
وثانيا : أنهم «لا
يؤمنون باليوم الآخر» على الوجه الذي أمر الله ـ تعالى ـ به ، ومن كان كذلك كان
إيمانه. على فرض وجوده. كلا إيمان.
قال الجمل ما
ملخصه : فإن قلت : اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف
نفى الله عنهم ذلك؟
قلت : إن إيمانهم
بهما باطل لا يفيد ، بدليل أنهم لم يؤمنوا بالنبي صلىاللهعليهوسلم فلما لم يؤمنوا به كان إيمانهم بالله واليوم الآخر كالعدم
فصح نفيه في الآية ولأن إيمانهم بالله ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك أن اليهود
يعتقدون التجسيم والتشبيه ، والنصارى يعتقدون الحلول ، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن
بالله بل هو مشرك.
وأيضا فإن إيمانهم
باليوم الآخر ليس كإيمان المؤمنين ، وذلك لأنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجساد ،
وأن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون ـ أى أنهم يرون نعيم الجنة وعذاب
النار يتعلقان بالروح فقط ولا شأن للجسد بذلك. ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان
المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن .
وثالثا : أنهم (لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ
وَرَسُولُهُ) أى : أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم في القرآن والسنة ، وفضلا عن ذلك فهم لا يلتزمون ما حرمته
__________________
شريعتهم على ألسنة
رسلهم ، وإنما غيروا وبدلوا فيها على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم.
أى أنهم لا يحرمون
ما حرمه الله لا في شريعتنا ولا في شريعتهم.
فاليهود ـ بجانب
كفرهم بشريعتنا ـ لم يطيعوا شريعتهم ، بدليل أنهم استحلوا أكل أموال الناس بالباطل
مع أنها. أى شريعتهم. نهتهم عن ذلك.
قال ـ تعالى ـ (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا
عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ...) .
والنصارى ـ بجانب
كفرهم ـ أيضا ـ بشريعتنا ـ لم يطيعوا شريعتهم بدليل أنهم ابتدعوا الرهبانية مع أن
شريعتهم لم تشرع لهم ذلك.
قال ـ تعالى ـ (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ
بِرُسُلِنا ، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ ،
وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ
اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) .
ورابعا : (لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ). وقوله : (يَدِينُونَ) بمعنى يعتقدون ويطيعون. يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه
دينه ومعتقده وأطاع أوامره ونواهيه.
والمراد بدين الحق
: دين الإسلام الناسخ لغيره من الأديان.
أى : أنهم لا
يتخذون دين الإسلام دينا لهم ، مع أنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، والذي لا
يقبل ـ سبحانه ـ دينا سواه. قال ـ تعالى ـ : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً ...) .
وقال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) .
ويصح أن يكون
المراد بدين الحق. ما يشمل دين الإسلام وغيره من الأديان السماوية التي جاء بها
الأنبياء السابقون.
أى : ولا يدينون
بدين من الأديان التي أنزلها الله على أنبيائه ، وشرعها لعباده ، وإنما هم يتبعون
أحبارهم ورهبانهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم.
__________________
وعبر عنهم في قوله
: (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ ..) بالاسم الموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر
بالقتال.
أى أن العلة في الأمر
بقتالهم ، كونهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله ، ولا يدينون دين الحق.
وقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان للمتصفين بهذه الصفات الأربعة وهم اليهود والنصارى ؛
لأن الحديث عنهم ، وعن الأسباب التي توجب قتالهم.
والمراد بالكتاب :
جنسه الشامل للتوراة والإنجيل.
أى : قاتلوا من
هذه صفاتهم ، وهم اليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإنجيل ـ عن طريق
موسى وعيسى ـ عليهماالسلام ـ ولكنهم لم يعملوا بتعاليمهما وإنما عملوا بما تمليه
عليهم أهواؤهم وشهواتهم.
والمقصود بقوله : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تميزهم عن المشركين عبدة الأوثان في الحكم ، لأن حكم هؤلاء
قتالهم حتى يسلموا ، أما حكم أهل الكتاب فهو القتال ، أو الإسلام ، أو الجزية :
وقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صاغِرُونَ) غاية لإنهاء القتال.
أى : قاتلوا من
هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن طوع وانقياد ، فإن فعلوا ذلك
فاتركوا قتالهم.
والجزية : ضرب من
الخراج يدفعه أهل الكتاب للمسلمين وهي ـ كما يقول القرطبي :
ـ من جزى يجزى ـ مجازاة
ـ إذا كافأ من أسدى إليه. فكأنهم أعطوها للمسلمين جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي
كالقعدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
يجزيك أو يثنى
عليك وإن من
|
|
أثنى عليك بما
فعلت فقد جزى
|
والمراد بإعطائها
في قوله : (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ) ، التزام دفعها وإن لم يذكر الوقت المحدد لذلك.
واليد هنا : يحتمل
أن تكون كناية عن الاستسلام والانقياد. أى : حتى يعطوا الجزية عن خضوع وانقياد.
__________________
ويحتمل أن تكون
كناية و «عن» الدفع نقدا بدون تأجيل. أى : حتى يعطوها نقدا بدون تسويف أو تأخير.
ويحتمل أن تكون
على معناها الحقيقي ، و «عن» بمعنى الباء أى : حتى يعطوها بيدهم إلى المسلمين لا
أن يبعثوا بها بيد أحد سواهم.
وهذه المعاني لليد
إنما تتأتى إذا أريد بها يد المعطى. أى : يد الكتابي.
أما إذا أردنا بها
اليد الآخذة ـ وهي يد الحاكم المسلم ـ ففي هذه الحالة يكون معناها القوة والقهر
والغلبة.
أى : حتى يعطوها
عن يد غالبة قوية لا قبل لهم بالوقوف أمامها.
ورحم الله صاحب
الكشاف فقد قال : قوله : «عن يد» إما أن يراد يد المعطى أو الآخذ فمعناه على إرادة
يد المعطى حتى يعطوها عن يده ، أى عن يد مؤاتية غير ممتنعة ؛ إذ أن من أبى وامتنع
لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده ، إذا انقاد وأصحب ـ
أى : سهل بعد صعوبة ـ ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع
ربقة الطاعة عن عنقه.
أو المعنى : حتى
يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة ، لا مبعوثا بها على يد أحد ، ولكن يد المعطى إلى
يد الآخذ.
ومعناه على إرادة
يد الآخذ : حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية ـ وهي يد المسلمين ـ أو حتى يعطوها عن
إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم ، نعمة عظيمة عليهم» .
وقوله : (وَهُمْ صاغِرُونَ) من الصغار بمعنى الذل والهوان. يقال : صغر فلان يصغر صغرا
وصغارا إذا ذل وهان وخضع لغيره.
والمعنى : قاتلوا
من هذه صفاتهم من أهل الكتاب حتى يدفعوا لكم الجزية عن طواعية وانقياد. وهم أذلاء
خاضعون لولايتكم عليهم ... فإن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا
يحرمون ما حرمه الله ورسوله. ولا يتخذون الدين الحق دينا لهم. يستحقون هذا الهوان
في الدنيا ، أما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى.
هذا. ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
١ ـ إن هذه الآية
أصل في مشروعية الجزية ، وأنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عند
__________________
كثير من الفقهاء ـ
لأن أهل الكتاب هم الذين يخيرون بين الإسلام أو القتال أو الجزية ، أما غيرهم من
مشركي العرب فلا يخيرون إلا بين الإسلام أو القتال.
قال القرطبي ما
ملخصه : وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية فقال الشافعى : لا تقبل الجزية
إلا من أهل الكتاب خاصة ، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية : فإنهم هم الذين خصوا
بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم ، لقوله ـ تعالى ـ في شأن المشركين : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب.
وقال الشافعى :
وتقبل من المجوس لحديث «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أى : في أخذ الجزية منهم.
وبه قال أحمد وأبو
ثور. وهو مذهب الثوري وأبى حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعى : تؤخذ الجزية من كل عابد
وثن أو نار أو جاحد أو مكذب.
وكذلك مذهب مالك :
فإنه يرى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجميا تغلبيا أو
قرشيا ؛ كائنا من كان إلا المرتد ..» .
٢ ـ أن أخذ الجزية
منهم إنما هو نظير ما ينالهم ، وكفنا عن قتالهم ، ومساهمة منهم في رفع شأن الدولة
الإسلامية التي أمنتهم وأموالهم وأعراضهم ومعتقداتهم ، ومقدساتهم .. وإقرار منهم
بالخضوع لتعاليم هذه الدولة وأنهم متى التزموا بدفعها وجب علينا حمايتهم ،
ورعايتهم ، ومعاملتهم بالعدل والرفق والرحمة ..
وفي تاريخ الإسلام
كثير من الأمثلة التي تؤيد هذا المعنى ، ومن ذلك ، ما جاء في كتاب الخراج لأبى
يوسف أنه قال في خطابه لهارون الرشيد «وينبغي يا أمير المؤمنين ـ أيدك الله ـ أن
تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلىاللهعليهوسلم والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق
طاقتهم ، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم ؛ فقد روى عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من ظلم من أمتى معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا
حجيجه».
وكان فيما تكلم
عمر بن الخطاب عند وفاته : أوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يوفى بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوهم فوق
طاقتهم» .
وجاء في كتاب «أشهر
مشاهير الإسلام» أن جيوش التتار ، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى
الشام ، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى ثم خضد المسلمون
__________________
شوكة التتار ،
ودان ملوكهم بالإسلام ، خاطب شيخ الإسلام ابن تيمية ، أمير التتار بإطلاق الأسرى
فسمح له بالمسلمين وأبى أن يسمح بأهل الذمة ، فقال له شيخ الإسلام : لا بد من
إطلاق جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرا لا من أهل
الملة ، ولا من أهل الذمة ، فأطلقهم له» .
وجاء في كتاب «الإسلام
والنصرانية» للأستاذ الإمام محمد عبده ما ملخصه :
«... الإسلام كان
يكتفى من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ، ثم يترك الناس وما كانوا عليه
من دين. ثم يكلفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في
ديارهم ، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار ، لا يضايقون في عمل ،
ولا يضامون في معاملة.
خلفاء المسلمين
كانوا يوصون قوادهم باحترام العباد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديرة
للعبادة ، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال وكل من لم يعن على
القتال.
جاءت السنة بالنهى
عن إيذاء أهل الذمة ، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين ، «لهم ما لنا وعليهم
ما علينا» و «من آذى ذميا فليس منا».
واستمر العمل على
ذلك ما استمرت قوة الإسلام. ولست أبالى إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عند
ما بدأ الضعف في أبناء الإسلام فضيق الصدر من طبع الضعيف.
ثم قال : أما
المسيحية فترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله ،
وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم ، حتى إذا تمت لها
القدرة على طردهم ـ بعد العجز عن إخراجهم من دينهم ـ طردتهم عن ديارهم ، وغسلت
الديار من آثارهم ، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء
حقيقيا.
ولا يمنع غير
المسيحي من تعدى المسيحي إلا كثرة العدد أو شدة العضد ، كما شهد التاريخ ، وكما
يشهد كاتبوه.
ثم قال : فأنت ترى
الإسلام يكتفى من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها ، بشيء من المال ، أقل مما
كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم ، وبأن يعيشوا في هدوء ، لا يعكرون معه
__________________
صفو الدولة ، ولا
يخلون بنظام السلطة العامة ، ثم يرخى لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة
بهم ، لا رقيب عليهم فيها سوى ضمائرهم» .
وقال الشيخ
القاسمى ما ملخصه : قال السيوطي : استدل بقوله ـ تعالى ـ (وَهُمْ صاغِرُونَ) من قال إنها تؤخذ بإهانة ، بأن يجلس الآخذ ويقوم الذمي
ويطأطئ رأسه ، ويحنى ظهره ، ويقبض الآخذ لحيته ... إلخ.
وقد رد الإمام ابن
القيم على هذا القائل بقوله : هذا كله مما لا دليل عليه ، ولا هو من مقتضى الآية ،
ولا نقل عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا عن أصحابه.
والصواب في الآية
، أن الصغار : هو التزامهم بجريان أحكام الله عليهم ، وإعطاء الجزية ، فإن ذلك هو
الصغار ، وبه قال الشافعى» .
والذي نراه أن ما
قاله الإمام ابن القيم في رده هو عين الصواب ، وأن ما نقله السيوطي عن بعضهم ...
يتنافى مع سماحة الإسلام وعدله ورحمته بالناس.
هذا ، وهناك أحكام
أخرى تتعلق بالجزية لا مجال لذكرها هنا ، فليرجع إليها من شاء في بعض كتب الفقه
والتفسير .
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ بعض رذائل أهل الكتاب على سبيل الإجمال ، اتبع ذلك بتفصيل هذه الرذائل ، فحكى
أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم الذميمة ، ونواياهم السيئة فقال ـ تعالى ـ :
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
__________________
مَرْيَمَ
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٣٣)
أخرج ابن جرير عن
ابن عباس قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى. وشاس بن قيس ، ومالك بن
الصيف فقالوا : كيف نتبعك ـ يا محمد ـ وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا
ابن الله ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ..) الآية .
و «عزير» كاهن
يهودي سكن بابل سنة ٤٥٧ ق م تقريبا ، ومن أعماله أنه جمع أسفار التوراة ؛ وأدخل
الأحرف الكلدانية عوضا عن العبرانية القديمة ، وألف أسفار : الأيام ، وعزرا ،
ونحميا.
وقد قدسه اليهود
من أجل نشره لكثير من علوم الشريعة ، وأطلقوا عليه لقب «ابن الله».
قال البيضاوي :
وإنما قالوا ذلك ـ أى : عزير ابن الله ـ لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة «بختنصر» ـ سنة
٥٨٦ ق م ه من يحفظ التوراة. وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة
حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا لأنه ابن الله» .
وقال صاحب المنار
ما ملخصه : جاء في دائرة المعارف اليهودية الإنكليزية ـ طبعة ١٩٠٣ ـ أن عصر عزرا
هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره ، وعبق شذا
__________________
ورده. وأنه جدير
بأن يكون هو ناشر الشريعة ..» .
وقد ذكر المفسرون
هنا أقوالا متعددة في الأسباب التي حملت اليهود على أن يقولوا «عزير ابن الله»
وأغلب هذه الأقوال لا يؤيدها عقل أو نقل ، ولذا فقد ضربنا عنها صفحا .
وقد نسب ـ سبحانه
ـ القول إلى جميع اليهود مع أن القائل بعضهم ، لأن الذين لم يقولوا ذلك لم ينكروا
على غيرهم قولهم ، فكانوا مشاركين لهم في الإثم والضلال ، وفيما يترتب على ذلك من
عقاب.
وأما قول النصارى «المسيح
ابن الله» فهو شائع مشهور ، ومن أسبابه أن الله ـ تعالى ـ قد خلق عيسى بدون أب على
خلاف ما جرت به سنته في التوالد والتناسل ، فقالوا عنه «ابن الله».
وقد حاجهم ـ سبحانه
ـ في سورة آل عمران بأن آدم قد خلقه الله من غير أب أو أم ، فكان أولى بنسبة
البنوة إليه ، لكنهم لم ينسبوا إليه ذلك ، فينبغي أن يكون عيسى كآدم.
قال ـ تعالى ـ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
وقوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) ذم لهم على ما نطقوا به من سوء يمجه العقل السليم ، والفكر
القويم.
أى : ذلك الذي
قالوه في شأن «عزير والمسيح» قول تلوكه ألسنتهم في أفواههم بدون تعقل ، ولا مستند
لهم فيما زعموه سوى افترائهم واختلاقهم ، فهو من الألفاظ الساقطة التي لا وزن لها
ولا قيمة ، فقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد أو والد
أو صاحبة أو شريك.
قال ـ تعالى ـ (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَداً* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي
الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) .
ولقد أنذر ،
سبحانه ، الذين نسبوا إليه الولد بالعقاب الشديد فقال : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) .
__________________
وأسند ، سبحانه ،
القول إلى الأفواه مع أنه لا يكون إلا بها ، لاستحضار الصورة الحسية الواقعية ،
حتى لكأنها مسموعة مرئية ولبيان أن هذا القول لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع
، وإنما هو قول لغو ساقط وليد الخيالات والأوهام ، ولزيادة التأكيد في نسبة هذا
القول إليهم ، أى : أنه قول صادر منهم وليس محكيا عنهم.
قال صاحب الكشاف ،
فإن قلت : كل القول يقال بالفم فما معنى قوله (ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ)؟.
قلت : فيه وجهان :
أحدهما ـ أن يراد أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به ، فارغ من أى
معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدل على معان. وذلك أن
القول الدال على معنى ، لفظه مقول بالفم ، ومعناه مؤثر في القلب ، وما لا معنى له
مقول بالفم لا غير.
والثاني ـ أن يراد
بالقول : المذهب ، كقولهم «قول أبى حنيفة» يريدون مذهبه وما يقول به ، كأنه قيل :
ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة ، حتى يؤثر في
القلوب ، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد» .
وقوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْ قَبْلُ) ذم آخر لهم على تقليدهم لمن سبقوهم بدون تعقل أو تدبر.
قال الجمل ما
ملخصه : قرأ العامة (يُضاهِؤُنَ) بضم الهاء بعدها واو ـ. وقرأ عاصم «يضاهئون» بهاء مكسورة
بعدها همزة مضمومة ـ فقيل هما بمعنى واحد وهو المشابهة ، وفيه لغتان : ضاهأت
وضاهيت ...» .
والمراد بالذين
كفروا من قبل : قيل ، أهل مكة وأمثالهم من المشركين السابقين الذين قالوا ،
الملائكة بنات الله وقيل ، المراد بهم قدماء أهل الكتاب ، أى ، أن اليهود والنصارى
المعاصرين للنبي صلىاللهعليهوسلم يشابه قولهم في العزير وعيسى قول آبائهم الأقدمين ، ـ أى
المعاصرين للعهد النبوي ـ قد ورثوا الكفر كابرا عن كابر.
والأولى من هذين
الوجهين أن يكون المراد بالذين كفروا من قبل. جميع الأمم التي ضلت وانحرفت عن الحق
، وأشركت مع الله في العبادة آلهة أخرى.
قال صاحب المنار ،
وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة
__________________
الابن لله والحلول
والتثليث ، كانت معروفة عند البراهمة في الهند وفي الصين واليابان وقدماء المصريين
وقدماء الفرس.
وهذه الحقيقة
التاريخية ـ والتي بينها القرآن في هذه الآية ـ من معجزاته لأنه لم يكن يعرفها أحد
من العرب ولا ممن حولهم ، بل لم تظهر إلا في هذا الزمان» .
والمعنى. أن هؤلاء
الضالين الذين قال بعضهم «عزير ابن الله» وقال البعض الآخر «المسيح ابن الله» ليس
لهم على قولهم الباطل هذا دليل ولا برهان ، ولكنهم يشابهون ويتابعون فيه قول الذين
كفروا من قبلهم من الأمم «فهم على آثارهم يهرعون» .
وقوله. (قاتَلَهُمُ اللهُ) تعجيب من شناعة قولهم ، ودعاء عليهم بالهلاك فإن من قاتله
الله لا بد أن يقتل ، ومن غالبه لا بد أن يغلب.
وعن ابن عباس ، أن
معنى (قاتَلَهُمُ اللهُ) لعنهم الله وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن .
وقوله : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) تعجيب آخر من انصرافهم الشديد عن الحق الواضح إلى الباطل
المظلم المعقد.
و (أَنَّى) بمعنى كيف. و (يُؤْفَكُونَ) من الإفك بمنى الانصراف عن الشيء والابتعاد عنه ، يقال ،
أفكه عن الشيء يأفكه أفكا ، أى ، صرفه عنه وقلبه. ويقال ، أفكت الأرض أفكا ، أى :
صرف ، عنها المطر.
والمعنى : قاتل
الله هؤلاء الذين قالوا (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) والذين قالوا (الْمَسِيحُ ابْنُ
اللهِ) لأنهم بقولهم هذا محل مقت العقلاء وعجبهم ، إذ كيف يصرفون
عن الحق إلى الباطل ، بعد وضوح الدليل على استحالة أن يكون له ـ تعالى ـ ولد أو
والد أو صاحبة أو شريك ..؟!.
إن ما قالوه ظاهر
البطلان وهو محل عجب العقلاء واستنكارهم وغضبهم.
وقوله ـ سبحانه (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق
إلى الباطل ، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة ، وأفعال ذميمة.
__________________
والضمير في قوله (اتَّخَذُوا) يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من
باطل وبهتان.
والأحبار : علماء
اليهود جمع حبر ، بكسر الحاء وفتحها ـ وهو الذي يحسن القول ويتقنه ، مأخوذ من
التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن ، والرهبان
: علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا ، المنعزل عن الناس مأخوذ من
الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله ـ تعالى.
والمراد باتخاذهم
لأحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم ، وفيما
حرموه عليهم ، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفا لشرع الله.
وهذا التفسير
مأثور عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدى بن
حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فر إلى الشام : وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته
وجماعة من قومها ، ثم منّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أخته وأعطاها. فرجعت إلى أخيها ، فرغبته في الإسلام
وفي القدوم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقدم عدى المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم
الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي عنق عدى صليب من فضة ، وكان الرسول يقرأ هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ
أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ..).
قال عدى : فقلت ،
إنهم لم يعبدوهم ، فقال ، بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ،
فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم.
قال ابن كثير :
وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية : أنهم اتبعوهم
فيما حللوا وحرموا.
وقال السدى :
استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
وقال الآلوسى :
وقيل اتخاذهم أربابا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله ، تعالى ، وحينئذ فلا
مجاز ، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
والآية ناعية على
كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله ، لكلام علمائهم ورؤسائهم
، والحق أحق بالاتباع ، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده»
.
__________________
وقوله : (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) معطوف على قوله (أَحْبارَهُمْ) والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف أى : اتخذوه ربا
وإلها.
قال صاحب المنار
ما ملخصه : جمع ـ سبحانه. بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن
أعطوهم حق التشريع فيهم : وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم
المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا ، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه
ابن الله ، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح : إنه هو الله الخالق
المدبر لأمور العباد» .
وقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) جملة حالية أى : اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من
اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، بأن أطاعوهم فيما يحلونه
لهم وفيما يحرمونه عليهم ولو كان ذلك مخالفا لشرع الله ؛ وكذلك اتخذ النصارى
المسيح ابن مريم ربا وإلها.
والحال أنهم جميعا
ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده ، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه
إلا له ، ولا يكون الاعتماد إلا عليه ، وكل ما سواه فهو مخلوق له.
وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة ثانية لقوله (إِلهاً). أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده ،
وأنه ـ سبحانه ـ هو المستحق لذلك شرعا وعقلا.
وقوله : (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له.
أى : تنزه الله ـ عزوجل ـ وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ،
فهو رب العالمين ، وخالق الخلائق أجمعين ..
قال صاحب الظلال
عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : ومن النص القرآنى الواضح الدلالة ، ومن تفسير
رسول الله صلىاللهعليهوسلم للآية وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل
والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا
بغاية الاختصار وهي : أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول صلىاللهعليهوسلم فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى
الاعتقاد في ألوهيتهم ، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم ... ومع هذا فقد حكم الله
، سبحانه ، عليهم
__________________
بالشرك في هذه
الآية ، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها
واتبعوها ـ فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله ،
الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ، ويدخله في عداد الكافرين.
إن النص القرآنى
يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا
التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح
اعتقادا وقدموا إليه الشعائر في العبادة .
ثم بين ـ سبحانه ـ
بعد ذلك ما يهدف إليه أهل الكتاب من وراء أقاويلهم الكاذبة ، ودعاواهم الباطلة
فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ
يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).
والمراد بنور الله
: دين الإسلام الذي ارتضاه. سبحانه ـ لعباده دينا وبعث به رسوله ، صلىاللهعليهوسلم ، وأعطاه من المعجزات والبراهين الدالة على صدقه ، وعلى
صحته ما جاء به مما يهدى القلوب ، ويشفى النفوس ، ويجعلها لا تدين بالعبادة
والطاعة إلا لله الواحد القهار.
وقيل المراد بنور
الله : حججه الدالة على وحدانيته ـ سبحانه ـ وقيل المراد به ، القرآن ، وقيل
المراد به : نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم وكلها معان متقاربة.
والمراد بإطفاء
نور الله : محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه ، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه ،
كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه ، وكتحريضهم لأتباعهم وأشياعهم على الوقوف في
وجهه ، وعلى محاربته.
والمراد بأفواههم.
أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له ولا قيمة.
والمعنى : يريد هؤلاء
الكافرون بالحق من أهل الكتاب أن يقضوا على دين الإسلام ، وأن يطمسوا تعاليمه
السامية التي جاء بها نبيه صلىاللهعليهوسلم عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم من غير أن
يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه ، أو أصل تستند إليه ، وإنما هي أقوال من قبيل
اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة ...
قال الآلوسى ما
ملخصه : في الكلام استعارة تمثيلية ، حيث شبه ـ سبحانه ـ حال أهل
__________________
الكتاب في محاولة
إبطال نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم عن طريق تكذيبهم له ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم
مثبت في الآفاق ليطفئه بنفخه ..
وروعي في كل من
المشبه والمشبه به معنى الإفراط والتفريط ، حيث شبه الإبطال والتكذيب بالإطفاء
بالفم ، ونسب النور إلى الله ـ تعالى ـ العظيم الشأن.
ومن شأن النور
المضاف إليه ـ سبحانه ـ أن يكون عظيما ، فكيف يطفأ بنفخ الفم ..؟!!
وقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بشارة منه ـ سبحانه ـ للمؤمنين ، وتقرير لسنته التي لا
تتغير ولا تتبدل في جعل العاقبة للحق وأتباعه.
والفعل (يَأْبَى) هنا بمعنى لا يريد أو لا يرضى ـ أى : أنه جار مجرى النفي ،
ولذا صح الاستثناء منه.
قال أبو السعود :
وإنما صح الاستثناء المفرغ ـ وهو قوله (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ). من الموجب ، وهو قوله (وَيَأْبَى اللهُ) ـ لكونه بمعنى النفي ، ولوقوعه في مقابلة قوله : (يُرِيدُونَ) ، وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفى
الإرادة ، أى : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المستثنى منه
بقاؤه على ما كان عليه ، فضلا عن الإطفاء.
وفي إظهار النور
في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره ـ سبحانه ـ زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على
تشريف ، وإشعار بعلة الحكم» .
وجواب (لَوْ) في قوله (وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ) محذوف لدلالة ما قبله عليه.
والمعنى : يريد
أعداء الله أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، والحال أن الله ـ تعالى ـ لا يريد إلا
إتمام هذا النور ، ولو كره الكافرون هذا الإتمام لأتمه ـ سبحانه ـ دون أن يقيم
لكراهتهم وزنا.
فالآية الكريمة
وعد من الله ، تعالى للمؤمنين بإظهار دينهم وإعلاء كلمتهم لكي يمضوا قدما إلى
تنفيذ ما كلفهم الله به بدون إبطاء أو تثاقل ، وهي في الوقت نفسه تتضمن في ثناياها
الوعيد لهؤلاء الضالين وأمثالهم.
ـ ثم أكد ـ سبحانه
ـ وعده بإتمام نوره ، وبين كيفية هذا الإتمام فقال : (هُوَ الَّذِي
__________________
أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
والمراد بالهدى :
القرآن الكريم المشتمل على الإرشادات السامية ، والتوجيهات القويمة ، والأخبار
الصادقة ، والتشريعات الحكيمة.
والمراد بدين الحق
: دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.
وقوله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان ،
والسيادة والسلطان.
والجملة تعليلية
لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.
والضمير في (لِيُظْهِرَهُ) يعود على الدين الحق أو الرسول صلىاللهعليهوسلم والمعنى : هو الله ـ سبحانه ـ الذي أرسل رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بالقرآن الهادي للتي هي أقوم ، وبالدين الحق الثابت الذي
لا ينسخه دين آخر ، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان
بالحجة والغلبة ، ولإظهار رسوله صلىاللهعليهوسلم على أهل الأديان كلها ، بما أوحى إليه ـ سبحانه ـ من
هدايات ، وعبادات ، وتشريعات ، وآداب ... في اتباعها سعادة الدنيا والآخرة.
وختم ـ سبحانه ـ هذه
الآية بقوله : (وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ) وختم التي قبلها بقوله : (وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ) للإشعار بأن هؤلاء الذين قالوا : «عزير ابن الله والمسيح
ابن الله» قد جمعوا بسبب قولهم الباطل هذا ، بين رذيلتي الكفر والشرك ، وأنه ،
سبحانه ، سيظهر أهل دينه على جميع أهل الأديان الأخرى.
هذا ، وقد ساق
الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك ، منها : ما ثبت في الصحيح عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله زوى لي الأرض من مشارقها ومغاربها ،
وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها».
وروى الإمام أحمد
عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح ، فلما
صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها
في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة».
وروى أيضا عن تميم
الداري قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك
الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين ، يعز عزيزا ويذل ذليلا ، عزا يعز الله
به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر». وكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في
أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الشرف والخير والعز ، ولقد أصاب من كان كافرا
منهم الذل والصغار والجزية.
وأخرج أيضا عن عدى
بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا عدى أسلم تسلم» ، فقلت يا رسول الله : إنى من
أهل دين. قال : «أنا أعلم بدينك منك ، فقلت : أنت أعلم بديني منى؟ قال نعم ، ألست
من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك» .
قلت : بلى. قال : «فإن
هذا لا يحل لك في دينك».
ثم قال صلىاللهعليهوسلم : «أما إنى أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام تقول : إنما
اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، ومن رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة»؟
قلت : لم أرها وقد
سمعت بها.
قال : «فو الذي
نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر ، حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت
من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز».
قلت : كسرى بن
هرمز؟ قال : «نعم. كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد».
قال عدى بن حاتم :
فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد. ولقد كنت فيمن فتح
كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد قالها .
وإلى هنا نرى أن
هذه الآيات الكريمة قد كذبت أهل الكتاب في قولهم «عزير ابن الله والمسيح ابن الله»
، وأرشدتهم إلى الطريق الحق الواضح المستقيم ليسيروا عليه ، ووبختهم على تشبههم في
هذه الأقوال الباطلة بمن سبقهم من الضالين ، وعلى انقيادهم لأحبارهم ورهبانهم بدون
تعقل أو تدبر ، وبشرت المؤمنين بظهور دينهم الذي ارتضاه الله لهم على الأديان
كلها.
ثم ختم ـ سبحانه ـ
الحديث عن أهل الكتاب بتوجيه نداء إلى المؤمنين بين لهم فيه بعض الرذائل التي
انغمس فيها الأحبار والرهبان ، وكيف جمعوا بين ضلال أنفسهم وإضلال أتباعهم ، حيث
أمروا هؤلاء الأتباع بالانقياد لهم فيما يأتون ويذرون ... فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ
أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ)(٣٥)
قال الفخر الرازي
: اعلم أنه ـ تعالى ـ لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء
الربوبية والترفع على الخلق ، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال
الناس ، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر ، أخذ أموال
الناس بالباطل.
ولعمري من تأمل
أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم
، وفي شرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعى أنه لا يلتفت إلى الدنيا ، ولا يتعلق
خاطره بجميع المخلوقات ، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين ؛ حتى إذا
آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ؛ ويتحمل نهاية الذل والدناءة في
تحصيله .
والمراد بالأكل في
قوله ؛ (لَيَأْكُلُونَ) مطلق الأخذ والانتفاع.
وعبر عن ذلك
بالأكل ، لأنه المقصود الأعظم من جمع الأموال ، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده
، على سبيل المجاز المرسل ، بعلاقة العلية والمعلولية. وأكلهم أموال الناس بالباطل
، يتناول ما كانوا يأخذونه من سفلتهم عن طريق الرشوة والتدليس أو التحايل أو
الفتاوى الباطلة. كما يتناول ما سوى ذلك مما كانوا يأخذونه بغير وجه حق.
__________________
وأسند ـ سبحانه ـ هذه
الجريمة ـ وهي أكل أموال الناس بالباطل ـ إلى كثير من الأحبار والرهبان ولم يسندها
إلى جميعهم ، إنصافا للعدد القليل منهم الذي لم يفعل ذلك ، فإن كل طائفة أو جماعة
لا تخلو من وجود أفراد من بينها يتعففون عن الحرام ، ويقيدون أنفسهم بالحلال.
قال صاحب المنار :
وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحرى الحق في
عبارات الكتاب العزيز ، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو
فسقهم أو ظلمهم ، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر ، أو يطلق اللفظ العام ثم
يستثنى منه.
فمن الأول قوله ـ تعالى
ـ في اليهود : (وَتَرى كَثِيراً
مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ
لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما
كانُوا يَصْنَعُونَ) .
ومن الثاني قوله ـ
تعالى ـ في اليهود أيضا : (قُلْ يا أَهْلَ
الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) .
ومن الثالث قوله ـ
سبحانه ـ في شأن المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام من اليهود ـ أيضا ـ : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا ، وَاسْمَعْ غَيْرَ
مُسْمَعٍ ، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ
أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ وَأَقْوَمَ ، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ
إِلَّا قَلِيلاً) .
وقد نبهنا في
تفسير هذه الآيات وأمثالها على العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر وإنما
نكرره لعظيم شأنه ...» .
وقوله : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) جريمة من جرائمهم الكثيرة.
والصد : المنع
والصرف عن الشيء .. وسبيل الله : دينه وشريعته.
أى ، أن هؤلاء
الكثيرين من الأحبار والرهبان لا يكتفون بأكل أموال الناس بالباطل ، بل إنهم
يضيفون إلى ذلك جريمة ثانية من جرائمهم المتعددة وهي أنهم ينصرفون عن الدين الحق
وهو دين الإسلام انقيادا لأحقادهم وشهواتهم ، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل ،
كأن
__________________
يصفوه لهم بأنه
دين باطل ، أو بأن رسوله صلىاللهعليهوسلم ليس هو الرسول الذي بشرت به الكتب السماوية السابقة ...
إلى غير ذلك من وسائلهم المتنوعة في صرف الناس عن الحق.
والاسم الموصول في
قوله : (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ ..) يرى بعضهم أن المراد به أولئك الأحبار والرهبان ، لأن
الكلام مسوق في ذمهم ، وتكون هذه الجملة ذما لهم على رذيلة ثالثة هي الحرص والبخل
، بعد ذمهم على رذيلتي أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله.
ويرى آخرون أن
المراد بهم البخلاء من المسلمين ، وأن الجملة مستأنفة لذم مانعي الزكاة بقرينة
قوله : (وَلا يُنْفِقُونَها
فِي سَبِيلِ اللهِ) ويكون نظمهم مع أهل السوء من الأحبار والرهبان من باب
التحذير والوعيد والإشارة إلى أن الأشحاء المانعين لحقوق الله ، مصيرهم كمصير
الأحبار والرهبان في استحقاق البشارة بالعذاب.
وترى طائفة ثالثة
من العلماء أن المراد به كل من كنز المال ، ولم يخرج الحقوق الواجبة فيه ، سواء أكان
من المسلمين أم من غيرهم ، لأن اللفظ مطلق ، فيجب إجراؤه على إطلاقه وعمومه ، إذ
لم يرد ما يقيده أو يخصصه.
وقوله : (يَكْنِزُونَ) من الكنز ، وأصله في اللغة العربية : الضم والجمع.
يقال : كنزت التمر
في الوعاء إذا جمعته فيه. وكل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض أو على ظهرها
فهو كنز ، وجمعه كنوز.
وخص الذهب والفضة
بالذكر ، لأنهما الأصل الغالب في الأموال ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من
غيرهما.
وقال الفخر الرازي
ما ملخصه : ذكر ـ سبحانه ـ شيئين هما الذهب والفضة ثم قال : (وَلا يُنْفِقُونَها) ـ وكان الظاهر أن يقول «ولا ينفقونهما» والجواب من وجهين :
الأول : أن الضمير
عائد إلى المعنى دون اللفظ ، لأن كل واحد منهما جملة وافية ؛ وعدة كثيرة ودنانير
ودراهم فهو كقوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ..)
أو أن يكون
التقدير : والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها في سبيل الله ، فيكون الضمير عائد
إلى الكنوز المدلول عليها بالفعل (يَكْنِزُونَ).
الثاني : أن يكون
الضمير عائد إلى اللفظ ، ويكون ذكر أحدهما يغنى عن ذكر الآخر ،
كقوله ـ تعالى ـ (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً
انْفَضُّوا إِلَيْها) جعل الضمير للتجارة ... .
وقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) خبر الموصول.
والتعبير بالبشارة
من باب التهكم بهم ، والسخرية منهم ، فهو كقولهم : تحيتهم الضرب ؛ وإكرامهم الشتم.
وقوله : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ..)
تفصيل لهذا العذاب
الأليم ، وبيان لميقاته ، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم ، والأشحاء عن شحهم ...
والظرف (يَوْمَ) منصوب بقوله : (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ؛ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول.
أى : يعذبون يوم
يحمى عليها ، أو بفعل مقدر ؛ أى : اذكر يوم يحمى عليها.
وقوله (يُحْمى) يجوز أن يكون من حميت وأحميت ـ ثلاثيا ورباعيا ـ يقال :
حميت الحديدة وأحميتها ، أى : أوقدت عليها لتحمى.
وقوله : (عَلَيْها) جار ومجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ويجوز أن يكون
القائم مقام الفاعل مضمرا ، أى : يحمى الوقود أو الجمر عليها.
قال الآلوسى :
وأصله تحمى بالنار من قولك : حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة ؛ لأن
النار في ذاتها ذات حمى ، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها. ثم حذفت النار
، وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة
التأنيث إلى التذكير كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير. فإذا طرحت القصة وأسند
الفعل إلى الجار والمجرور قلت : رفع إلى الأمير ، وقرأ ابن عامر تحمى بالتاء
بإسناده إلى النار كأصله» . والمعنى : بشر ـ يا محمد ـ أولئك الذين يكنزون الأموال في
الدنيا ولا ينفقونها في سبيل الله ، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار
المشتعلة على تلك الأموال التي لم يؤدوا حق الله فيها (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ) أى : فتحرق بها جباههم التي كانوا يستقبلون بها الناس ،
والتي طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز ، وتحرق بها ـ أيضا ـ «جنوبهم» التي
كثيرا ما انتفخت من شدة الشبع وغيرها جائع ، وتحرق بها كذلك «ظهورهم» التي نبذت
وراءها حقوق الله بجحود وبطر ...
__________________
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : لم خصت هذه الأعضاء بالكي؟
قلت : لأنهم لم
يطلبوا بأموالهم ـ حيث لم ينفقوها في سبيل الله ـ إلا الأغراض الدنيوية ، من وجاهة
عند الناس ، وتقدم ، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم ، يتلقون بالجميل ويحيون بالإكرام
، ويبجلون ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة
من الثياب يطرحونها على ظهورهم ، كما ترى أغنياء زمانك ، هذه أغراضهم وطلباتهم من
أموالهم ، لا يخطر ببالهم قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ذهب أهل الدثور
بالأجر كله».
وقيل : لأنهم
كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه ، وتولوا
بأركانهم ، وولوه ظهورهم ..» .
وقوله : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) مقول لقول محذوف.
والتفسير : تقول
لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ ، وهي تتولى حرق جباههم وجنوبهم
وظهورهم : هذا العذاب الأليم النازل بكم في الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه في
الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه. فذوقوا وحدكم وبال كنزكم.
وتجرعوا غصصه ، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم ، لأنكم لم
تشكروا الله على هذه الأموال. بل استعملتموها في غير ما خلقت له.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.
١ ـ التحذير من
الانقياد لدعاة السوء ، ومن تقليدهم في رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما
جاء به الإسلام من تعاليم وتشريعات ...
ولذا قال ابن كثير
عند تفسيره للآية الأولى : والمقصود التحذير من علماء السوء ، وعباد الضلال ، كما
قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود ، ومن فسد من
عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى.
وفي الحديث الصحيح
: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا : اليهود والنصارى؟ قال : «فمن»؟
وفي رواية : فارس والروم؟ قال : «فمن الناس إلا هؤلاء» والحاصل التحذير من التشبه
بهم في أقوالهم وأحوالهم .
هذا ، ونص الحديث
الصحيح الذي ذكره الإمام ابن كثير ـ كما رواه الشيخان ـ هكذا
__________________
عن أبى سعيد
الخدري أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى
لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى؟ قال : فمن؟ .
أما الحديث الذي
جاء فيه حذو القذة بالقذة ، فقد أخرجه الإمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه : «ليحملن
شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم. أهل الكتاب ، حذو القذة بالقذة» .
٢ ـ يرى جمهور
العلماء أن المقصود بالكنز في قوله ، تعالى ، (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) .. ألخ المال الذي لم تؤد زكاته ، أما إذا أديت زكاته فلا
يسمى كنزا ، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذي اشتملت عليه الآية.
وقد وضح الإمام
القرطبي هذه المسألة فقال : واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا
أولا؟.
فقال قوم : نعم.
رواه أبو الضحى عن جعدة بن هبيرة عن على قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما
كثر فهو كنز وإن أديت زكاته ، ، ، ، ولا يصح.
وقال قوم : ما
أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز ، قال ابن عمر : ما أديت زكاته فليس بكنز
وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
ومثله عن جابر ،
وهو الصحيح.
وروى البخاري عن
أبى هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته ، مثل له يوم القيامة
شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعنى شدقيه ـ ثم
يقول : أنا مالك أنا كنزك ..».
وفيه أيضا عن أبى
ذر قال : انتهيت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «والذي نفسي بيده ، ما من رجل تكون له إبل أو بقر
أو غنم ، لا يؤدى حقها ، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه ، تطؤه
بأخفافها ، وتنطحه بقرونها ، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين
الناس».
فدل دليل خطاب
هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى. قال
له أعرابى : أخبرنى عن قول الله. تعالى ـ (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ
__________________
الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ ..)
الآية فقال ابن
عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له ، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما
أنزلت جعلها الله طهرا للأموال.
وروى أبو داود عن
ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ..) كبر ذلك على المسلمين ، فقال عمر : أنا أفرج عنكم ، فانطلق
فقال : يا نبي الله ، إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال صلىاللهعليهوسلم «إن الله لم يفرض
الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم» قال :
فكبر عمر. ثم قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة ، إذا
نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته» .
٣ ـ أخذ بعض
الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التي تفيض عن حاجات الإنسان الضرورية.
قال ابن كثير :
كان من مذهب أبى ذر ـ رضى الله عنه ـ تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان
يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ،
فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه
، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة ـ وهي بلدة قريبة من المدينة ـ وبها
مات ـ رضى الله عنه ـ في خلافة عثمان.
وروى البخاري في
تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبى ذر ، فقلت له : ما
أنزلك بهذه الأرض؟ قال : كنا بالشام فقرأت (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). فقال معاوية : ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال
: قلت : إنها لفينا وفيهم.
ثم قال ابن كثير :
وفي الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأبى ذر : «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر على
ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين» فهذا ـ والله أعلم ـ هو الذي حدا
أبا ذر على القول بهذا» .
وقال الشيخ
القاسمى : قال ابن عبد البر : وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى
أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد
نزلت في ذلك.
__________________
وخالفه جمهور
الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث
طلحة وغيره في قصة الأعرابى حيث قال : هل على غيرها؟ قال : لا ، إلا أن تطوع» .
وحديث طلحة الذي
أشار إليه ابن عبد البر ، قد جاء في صحيح البخاري ونصه : عن طلحة بن عبيد الله قال
: جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى
دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «خمس صلوات في اليوم
والليلة ، فقال : هل على غيرها؟ :
قال : «لا .. إلا
أن تطوع» ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وصيام رمضان» قال : هل على غيره؟ قال : «لا إلا أن تطوع»
، قال. وذكر له رسول الله صلىاللهعليهوسلم الزكاة ، قال. هل على غيرها؟ قال «لا إلا أن تطوع».
قال ، فأدبر الرجل
وهو يقول. والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال ، رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أفلح إن صدق» .
هذا ؛ ومما استدل
به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء ، على عدم حرمة اقتناء الأموال التي تفيض
عن الحاجة ـ مادام قد أدى حق الله فيها ـ ما يأتى :
(أ) أن قواعد
الشرع لا تحرم ذلك ، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن
الحاجة ، لما كان لمشروعية المواريث فائدة.
(ب) ثبت في الحديث
الصحيح أن سعد بن أبى وقاص عند ما كان مريضا ، وزاره رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : يا رسول الله : أأوصى بمالي كله؟ قال : «لا. قال
سعد : فالشطر؟ قال : لا. قال سعد : فالثلث؟ فقال له صلىاللهعليهوسلم : فالثلث والثلث كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن
تدعهم عالة يتكففون الناس ...» .
ولو كان جمع المال
واقتناؤه محرما ، لأقر النبي صلىاللهعليهوسلم سعدا على التصدق بجميع ماله ، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو
سعد ، ولكنه صلىاللهعليهوسلم لم يفعل ذلك ، بل قال لسعد : «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير
من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ..».
وقد كان في عهده صلىاللهعليهوسلم من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال ـ كعثمان بن
__________________
عفان ، وعبد
الرحمن بن عوف وغيرهما ـ ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية.
قال القرطبي : قرر
الشرع ضبط الأموال وأداء حقها ، ولو كان ضبط المال ممنوعا ، لكان حقه أن يخرج كله
، وليس في الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم ـ رضوان الله عليهم ـ وأما
ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له .
(ج) ما ورد من
آثار في ذم الكنز والكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو في حق من امتنع عن أداء
حق الله في ماله.
قال صاحب الكشاف.
فإن قلت فما تصنع في قوله صلىاللهعليهوسلم «من ترك صفراء أو
بيضاء كوى بها».
قلت. كان هذا قبل
أن تفرض الزكاة ، فأما بعد فرضيتها ، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من
حيث أذن له فيه ، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه ، ثم يعاقبه.
ولقد كان كثير من
الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها ،
وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل ، والاقتناء مباح
موسع لا يذم صاحبه ، ولكل شيء حد ».
٤ ـ أن الإسلام
وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال ـ بعد أداء حق الله فيه ـ إلا أنه أمر أتباعه
أن يكونوا متوسطين في حبهم لهذا الاقتناء ، حتى لا يشغلهم حب المال عن طاعة الله.
ورحم الله الإمام
الرازي ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه ، اعلم أن الطريق الحق أن يقال
، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير ، إلا أنه لم يمنع عنه في
ظاهر الشرع. فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى.
أما بيان أن
الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها :
أن كثرة المال سبب
لكثرة الحرص في الطلب ، والحرص متعب للروح والنفس والقلب .. والعاقل هو الذي يحترز
عما يتعب روحه ونفسه وقلبه. وأن كسب المال شاق شديد ؛ وحفظه بعد حصوله أشد وأشق
وأصعب ، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل ؛ وأخرى
__________________
في تعب الحفظ وأن
كثرة الجاه والمال تورث الطغيان ، كما قال ـ تعالى ـ (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) .
هذا ، وقد ساق
الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث في ذم التكثر من الذهب والفضة ، ومن ذلك ما رواه
الإمام أحمد عن حسان بن عطية قال :
كان شداد بن أوس ـ
رضى الله عنه ـ في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالسفرة نعبث بها ،
فأنكرت عليه ذلك. فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي
هذه فلا تحفظوها عنى واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا كنز الناس الذهب والفضة ، فاكنزوا هؤلاء
الكلمات : اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ؛ وأسألك شكر
نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، واسألك من
خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم. إنك أنت علام الغيوب .
وبعد : فهذه سبع
آيات عن أهل الكتاب ، بدأت ـ بقوله تعالى (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وانتهت بقوله تعالى : (فَذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ).
وقد بينت هذه
الآيات ما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين منهم ، وكشفت عن أقوالهم الباطلة ، وعن
جحود رؤسائهم للحق ، وعن انقياد : عامتهم للضلال ، وعن استحلال كثير من أحبارهم
ورهبانهم لمحارم الله ...
ثم عادت السورة
بعد ذلك إلى تكلمة الحديث عن أحوال المشركين السيئة ، وعن وجوب مقاتلتهم ، فقال
تعالى.
(إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما
يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
__________________
إِنَّمَا
النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ
عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا
ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ)(٣٧)
قال صاحب المنار ،
هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين ، وما يشرع من معاملاتهم بعد
الفتح ، وسقوط عصبية الشرك ، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين ـ في قتال أهل الكتاب
وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد ، اقتضاه ما ذكر قبله من
أحكام قتال المشركين ومعاملتهم ، وقد ختم الكلام في أهل الكتاب ببيان حال كثير من
رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية ، التي هي وسيلة العظمة
الدنيوية والشهوات الحيوانية ، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم
القيامة وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعا ..» .
والعدة ـ في قوله.
إن عدة الشهور ـ : على وزن فعله من العدد وهي بمعنى المعدود. قال الراغب : العدة :
هي الشيء المعدود ، قال ـ تعالى (وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أى : وما جعلنا عددهم إلا فتنة للذين كفروا ..
والشهور : جمع
شهر. والمراد بها هنا : الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وهي شهور. المحرم.
وصفر. وربيع الأول .. إلخ.
وهذه الشهور عليها
مدار الأحكام الشرعية ، وبها يعتد المسلمون في عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم.
والمراد بقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : الوقت الذي خلقهما فيه ، وهو ستة أيام كما جاء في كثير
من الآيات ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ) .
__________________
والمعنى : إن عدد
الشهور «عند الله» أى : في حكمه وقضائه (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) هي الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية.
وقوله (فِي كِتابِ اللهِ) ، أى : في اللوح المحفوظ.
قال القرطبي :
وأعاده بعد أن قال (عِنْدَ اللهِ) لأن كثيرا من الأشياء يوصف بأنه عند الله ، ولا يقال إنه
مكتوب في كتاب الله ، كقوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ) .
وقيل معنى «في
كتاب الله» أى فيما كتبه ـ سبحانه ـ وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق
السموات والأرض.
قال الجمل : وقوله.
(فِي كِتابِ اللهِ) صفة لاثنى عشر ، وقوله : (يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار ،
أو بالكتاب ، إن جعل مصدرا.
والمعنى : أن هذا
أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة أى : أن المقصود من هذه الآية الكريمة ، بيان أن كون
الشهور كذلك حكم أثبته ـ سبحانه ـ في اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم ، وبينه
لأنبيائه على هذا الوضع .. فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور ، والتزام
أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو
الزيادة عليها ، أو انتهاك حرمة المحرم منها.
وقوله ، (حُرُمٌ) جمع حرام ـ كسحب جمع سحاب ـ مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله
تعالى ـ أوجب على الناس احترام هذه الشهور ، ونهى عن القتال فيها :
وقد أجمع العلماء
على أن المراد بها ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، وبذلك تظاهرت الأخبار
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فقد أخرج البخاري
عن أبى بكر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال في خطبة حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته
يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. ثلاث متواليات
: ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» .
وسماه صلىاللهعليهوسلم رجب مضر ، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان
ويسمونه
__________________
رجبا وكانت قبيلة
مضر تحرم رجبا نفسه ، لذا قال صلىاللهعليهوسلم فيه «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
قال ابن كثير.
وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد. وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج
والعمرة فحرم قبل الحج شهرا وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة
لأنهم يوقعون فيه الحج ، ويشتغلون بأداء المناسك ، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم ،
ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت
والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا .
واسم الإشارة في
قوله : (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) يعود إلى ما شرعه الله ـ تعالى من أن عدة الشهور اثنا عشر
شهرا ، ومن أن منها أربعة حرم.
والقيم : القائم
الثابت المستقيم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج أى : ذلك الذي شرعناه لكم من كون عدة
الشهور كذلك ، ومن كون منها أربعة حرم : هو الدين القويم ، والشرع الثابت الحكيم ،
الذي لا يقبل التغيير أو التبديل .. لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض
الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم ، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم.
والضمير المؤنث في
قوله (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى : فلا تظلموا في
الشهور الاثنى عشر أنفسكم ، بأن تفعلوا فيها شيئا مما نهى الله عن فعله ، ويدخل في
هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا.
ويرى جمهور
العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم ، لأنه إليها أقرب ؛ لأن الله
تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها.
وقد رجح ابن جرير
ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من
قال : فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها ، فإن الله عظمها وعظم
حرمتها.
وعن قتادة : إن
الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا ، واصطفى من
الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ،
واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ،
فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم .. فإن قال قائل : فإن كان الأمر
على ما وصفت ، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة.
__________________
قيل : ليس ذلك
كذلك ، بل ذلك حرام علينا في كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهن على
سائر شهور السنة : فخص الذنب فيهن ، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف ، وذلك نظير قوله
ـ تعالى ـ (حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ،) ولكنه تعالى ـ زادها تعظيما ، وعلى المحافظة عليها توكيدا
، وفي تضييعها تشديدا ، فكذلك في قوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).
وقد كانت الجاهلية
تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن ، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه
لم يهجه .
وقال القرطبي : لا
يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول : للباري ـ تعالى ـ أن يفعل
ما شاء ، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة ، ولا عليه حجر ، بل يفعل ما يريد
بحكمته ، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى .
وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً
كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعة ، وعزيمة
صادقة.
وكلمة (كَافَّةً) مصدر في موضع الحال من ضمير الفاعل في (قاتِلُوا) أو من المفعول وهو لفظ المشركين ، ومعناها : جميعا.
وقالوا : وهذه
الكلمة من الكلمات التي لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهي
ملتزمة للإفراد والتأنيث مثل : عامة وخاصة .
أى : قاتلوا ـ أيها
المؤمنون ـ المشركين جميعا ، كما يقاتلونكم هم جميعا ، بأن تكونوا في قتالكم لهم
مجتمعين متعاونين متناصرين ، لا مختلفين ولا متخاذلين.
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ) تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم في قتالهم لأعدائهم
بعد أمرهم به.
أى : واعلموا ـ أيها
المؤمنون أن الله تعالى ـ مع عباده المتقين بالعون والنصر والتأييد ، ومن كان الله
معه فلن يغلبه شيء فكونوا ـ أيها المؤمنون من عباد الله المتقين الذين صانوا
أنفسهم عن كل ما نهى عنه ؛ لتنالوا عونه وتأييده.
__________________
ثم نعى ـ سبحانه ـ
على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم .. فقال تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي
الْكُفْرِ ..) والنسيء : مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشيء إذا أخره.
ومنه نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها عنه. ومنه : أنسأ الله في أجل فلان ، أى :
أخره والمراد به : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.
وقد أشار صاحب
الكشاف إلى الأسباب التي جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال :
«كانوا أصحاب حروب
وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه
ويحرمون مكانه شهرا آخر ـ وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها ـ حتى
رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ؛ فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر
، وذلك قوله (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ
ما حَرَّمَ اللهُ) أى ليوافقو العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا
التخصيص الذي هو أحد الواجبين .
والمعنى : إنما
النسيء الذي يفعله المشركون ، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر ، (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أى : زيادة في كفرهم ؛ لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا
آخر ، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين
الكفر في العقيدة والكفر في التشريع.
قال القرطبي :
وقوله : (زِيادَةٌ فِي
الْكُفْرِ) بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر ، فإنها
أنكرت وجود الباري ـ تعالى ـ فقالت : (وَمَا الرَّحْمنُ) في أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ، وأنكرت بعثة الرسل فقالوا : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) وزعمت أن التحليل والتحريم إليها ، فابتدعته من ذاتها
مقتفية لشهوانها فأحلت ما حرمه الله : ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون» .
وقوله (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول.
أى : يوقع الذين
كفروا بسبب ارتكابهم للنسيء في الضلال والموقع لهم في هذا الضلال كبراؤهم
وشياطينهم.
وقرأه أهل الحرمين
وأبو عمرو يضل بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل.
أى : يضل الله
الذين كفروا ، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم
للنسيء.
__________________
ويصح أن يكون
الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسيء الذي هو
لون من ألوان استحلال محارم الله.
وقوله : (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ
عاماً) بيان وتفسير لكيفية ضلالهم.
والضمير المنصوب
في (يُحِلُّونَهُ) و (يُحَرِّمُونَهُ) يعود إلى النسيء ، أى الشهر المؤخر عن موعده.
والمعنى أن هؤلاء
الكافرين من مظاهر ضلالهم ، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام ،
ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم ، وأنهم يحرمونه أى : يحافظون على
حرمة الشهر الحرام عاما آخر ، إذا كانت مصلحتهم في ذلك.
والمواطأة :
الموافقة. يقال : واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته.
والمعنى : فعل
المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم ، ليوافقوا بما
فعلوه عدة الأشهر الحرم ، بحيث تكون أربعة في العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة
في شريعة الله.
قال ابن عباس : ما
أحل المشركون شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الأشهر الحلال. وما
حرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام ، لكي يكون عدد
الأشهر الحرم أربعة. .
وقوله : (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) تفريع على ما تقدم.
أى : فيحلوا
بتغييرهم الشهور المحرمة ، ما حرمه الله في شرعه. فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله
في عدد الشهور المحرمة ، إلا أنهم خالفوه في تخصيصها فقد كانوا ـ مثلا ـ يستحلون
شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر.
وقوله : (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) ذم لهم على انتكاس بصائرهم ، وسوء تفكيرهم.
أى : زين لهم
الشيطان سوء أعمالهم ، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا. وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين.
أى : والله تعالى.
اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم ، لأنهم بسبب سوء
اختيارهم استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا طريق الغي على طريق الرشاد .. فكان
أمرهم فرطا.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.
__________________
١ ـ أن السنة اثنا
عشر شهرا ، وأن شهور السنة القمرية هي المعول عليها في الأحكام لا شهور السنة
الشمسية.
قال الفخر الرازي
، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهرا من الشهور القمرية ، والدليل
عليه هذه الآية (إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ) الآية ، وقوله ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ..) فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما
يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر.
وأيضا قوله. تعالى
: (يسألونك عن الأهلة ، قل هي مواقيت للناس والحج ..).
ثم قال ، واعلم أن
مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية ، وهذا الحكم توارثوه عن
إبراهيم وإسماعيل. عليهماالسلام. فأما عند اليهود والنصارى ، فليس الأمر كذلك ..) .
وقال الجمل : قوله
(اثنا عشر شهرا) هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل ،
وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر
أمورهم وأحكامهم. وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما. والسنة الشمسية
عبارة عن دوران الشمس في الفلك دورة تامة ، وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما. وربع
يوم. فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام ، فبسبب هذا النقصان تدور
السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف) .
هذا ، وقد تكلم
بعض المفسرين عن الشهور القمرية ، وعن سبب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت .
٢ ـ وجوب التقيد
بما شرعه الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها.
قال القرطبي ما
ملخصه : وضع ـ سبحانه ـ هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق
السموات والأرض ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة ، وهو معنى قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ
اثْنا عَشَرَ شَهْراً). وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير
المشركين لأسمائها ، وتقديم المقدم في الاسم منها.
والمقصود من ذلك
اتباع أمر الله فيها ، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور
وتقديمها.
__________________
ولذا قال صلىاللهعليهوسلم في خطبته في حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم
خلق الله السموات الأرض».
ثم قال القرطبي ؛
كانوا يحرمون شهرا فشهرا حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع
المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله فيه. فهذا معنى قوله صلىاللهعليهوسلم «إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» .
٣ ـ أخذ بعضهم من
قوله تعالى ـ (فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ ، وأنه لا
يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعا.
قال ابن جريج :
حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر
الحرم إلا أن يقاتلوا فيها.
وذهب جمهور
العلماء إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ ، بدليل أن الله ـ تعالى ـ بعد
أن نهى المؤمنين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير
تقيد بزمن فقال (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فدل ذلك على أن القتال في الأشهر الحرم مباح.
وبدليل أن النبي صلىاللهعليهوسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة.
قال ابن كثير :
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم .. لجئوا إلى الطائف ،
فعمد صلىاللهعليهوسلم إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها فثبت
أنه حاصر في الشهر الحرام ـ أى. في شهر ذي القعدة.
ثم قال ما ملخصه :
وأما قوله ـ تعالى ـ (وَقاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ، ويكون من باب
التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم .. ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم في
الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ـ. أى من الأعداء : كما قال : ـ تعالى ـ (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) وكما قال ـ تعالى ـ (وَلا تُقاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ).
وهكذا الجواب عن
حصار رسول الله صلىاللهعليهوسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ،
فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها ، فإنهم الذين بدءوا القتال للمسلمين .. فعند
ذلك قصدهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم
__________________
من حصونهم فنالوا
من المسلمين ، وقتلوا جماعة منهم .. واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوما ، وكان
ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم ، لأنه
يغتفر في الدوام مالا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر .
ومن كلام ابن
كثير. رحمهالله ـ نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهي عنه هو ابتداء
القتال في الأشهر الحرم ، لا إتمام القتال فيها متى بدأ الأعداء ذلك وهو قريب من
قول القائل : لا يحل القتال فيها ولا في الحرم إلا أن يكون دفاعا.
وهذا القول هو
الذي تطمئن إليه النفس ، لأنه لم يثبت أن الرسول صلىاللهعليهوسلم بدأ أعداءه القتال في الأشهر الحرم ، وإنما الثابت أن
الأعداء هم الذين ابتدءوا قتال المسلمين فيها ، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن
أنفسهم :
٤ ـ ذكر المفسرون
روايات في أول من أخر حرمة شهر إلى آخر ، فعن مجاهد قال : كان رجل من بنى كنانة
يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس : إنى لا أعاب ولا أخاب
ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده
فيقول مثل مقالته ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : هذا رجل من بنى كنانة يقال له «القلمس» وكان في الجاهلية. وكانوا
في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام. يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد
إليه يده. فلما كان هو قال لقوله : اخرجوا بنا ـ أى للقتال ـ. فقالوا له : هذا
المحرم. قال : ننسئه العام ، هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا ..
جعلناهما محرمين.
قال : ففعل ذلك.
فلما كان عام قابل قال : لا تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان» .
وقد كان بعض أهل
الجاهلية يتفاخر بهذا النسيء ، ومن ذلك قول شاعرهم :
ومنا ناسئ الشهر القلمس
قال آخر :
ألسنا الناسئين على
معد
|
|
شهور الحل
نجعلها حراما
|
__________________
وقد أبطل الإسلام
كل ذلك ، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها ـ سبحانه ـ عليه يوم خلق السموات
والأرض.
وبعد : فهذه سبع
وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا ، نراها ـ في مجموعها كما سبق أن بينا ـ قد
حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب ، كما
نراها قد أبرزت الأسباب التي دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكيم مؤثر ، يقنع العقول
، ويشبع العواطف.
ثم انتقلت السورة بعد
ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة .. وقد استغرق هذا
الحديث معظم آيات السورة ، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين ، والتحذير
منهم.
وقد بدأت السورة
حديثها عن غزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد
، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا
تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
إِلاَّ
تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ
مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ
تَرَوْها
وَجَعَلَ
كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤١)
قال الإمام ابن
كثير : هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر ،
وحمارة القيظ ، .
وتبوك : اسم لمكان
معروف في أقصى بلاد الشام من ناحية الجنوب ، ويبعد عن المدينة المنورة من الجهة
الشمالية بحوالى ستمائة كيلو متر.
وكانت غزوة تبوك
في شهر رجب من السنة التاسعة ، وهي آخر غزوة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وكان السبب فيها
أن الرسول صلىاللهعليهوسلم بلغه أن الروم قد جمعوا له جموعا كثيرة على أطراف الشام ،
وأنهم يريدون أن يتجهوا إلى الجنوب لمهاجمة المدينة.
فاستنفر صلىاللهعليهوسلم الناس إلى قتال الروم ، وكان صلىاللهعليهوسلم قلما يخرج إلى غزوة إلا ورى بغيرها حتى يبقى الأمر سرا.
ولكنه في هذه
الغزوة صرح للمسلمين بوجهته وهي قتال الروم ، وذلك لبعد المسافة ، وضيق الحال ،
وشدة الحر ، وكثرة العدو.
وقد لبى المؤمنون
دعوة رسولهم صلىاللهعليهوسلم لقتال الروم ، وصبروا على الشدائد ، والمتاعب وبذلوا
الكثير من أموالهم ، ولم يتخلف منهم إلا القليل.
أما المنافقون
وكثير من الأعراب ، فقد تخلفوا عنها ، وحرضوا غيرهم على ذلك ، وحكت السورة ـ في
كثير من آياتها الآتية ـ ما كان منهم من جبن ومن تخذيل الناس عن القتال ، ومن
تحريض لهم على القعود وعدم الخروج.
وبعد أن وصل
الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون إلى تبوك ، لم يجدوا جموعا للروم. فأقاموا
__________________
هناك بضع عشرة
ليلة ، ثم عادوا إلى المدينة» .
وقوله ـ سبحانه ـ :
(انْفِرُوا) من النفر وهو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لسبب من
الأسباب الداعية لذلك.
يقال : نفر فلان
إلى الحرب ينفر وينفر نفرا ونفورا ، إذا خرج بسرعة ويقال : استنفر الإمام الناس ،
إذا حرضهم على الخروج للجهاد. ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : وإذا استنفرتم فانفروا أى : وإذا دعاكم الإمام إلى
الخروج معه للجهاد فاخرجوا معه بدون تثاقل.
واسم القوم الذين
يخرجون للجهاد : النفير والنفرة والنفر.
ويقال : نفر فلان
من الشيء ، إذا فزع منه ، وأدبر عنه ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
وَحْدَهُ ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) .
وقوله : (اثَّاقَلْتُمْ) : من الثقل ضد الخفة. يقال : تثاقل فلان عن الشيء ، إذا
تباطأ عنه ولم يهتم به .. ويقال : تثاقل القوم : إذا لم ينهضوا لنجدة المستجير
بهم. وأصل (اثَّاقَلْتُمْ) تثاقلتم ، فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت فيها ، ثم اجتلبت
همزة الوصل من أجل التوصل للنطق بالساكن.
والمعنى : يا أيها
الذين آمنوا بالله ورسوله ، (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ
لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أى : ما الذي جعلكم تباطأتم عن الخروج إلى الجهاد ، حين
دعاكم رسولكم صلىاللهعليهوسلم إلى قتال الروم ، وإلى النهوض لإعلاء كلمة الله ، ونصرة
دينه؟
وقد ناداهم ـ سبحانه
ـ بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم ، وتوجيه عقولهم إلى ما يستدعيه
الإيمان الصادق من طاعة لله ولرسوله. والاستفهام في قوله : (ما لَكُمْ) لإنكار واستبعاد صدور هذا التثاقل منهم ، مع أن هذا يتنافى
مع الإيمان والطاعة.
قال الجمل : و «ما»
مبتدأ ، و «لكم» خبر ، وقوله «اثاقلتم» حال. وقوله : «إذا قيل لكم» ظرف لهذه الحال
مقدم عليها.
والتقدير : أى شيء
ثبت لكم من الأعذار. حال كونكم متثاقلين في وقت قول الرسول لكم : انفروا في سبيل
الله .
وقوله. «إلى الأرض»
متعلق بقوله : «اثاقلتم» على تضمينه معنى الميل إلى الراحة ،
__________________
والإخلاد إلى
الأرض ، ولذا عدى بإلى.
أى : اثاقلتم
مائلين إلى الراحة وإلى شهوات الدنيا الفانية ، وإلى الإقامة بأرضكم ودياركم ،
وكرهتم الجهاد مع أنه ذروة سنام الإسلام.
وإن التعبير بقوله
، سبحانه ، (اثَّاقَلْتُمْ) لفي أسمى درجات البلاغة ، وأعلى مراتب التصوير الصادق ،
لأنه بلفظه وجرسه يمثل الجسم المسترخى الثقيل الذي استقر على الأرض .. والذي كلما
حاول الرافعون أن يرفعوه عاد إليه ثقله فسقط من بين أيديهم ، وأخلد إلى الأرض.
وذلك لأن ما
استولى عليه من حب للذائذ الدنيا وشهواتها ، أثقل بكثير من حبه لنعيم الآخرة
وخيراتها.
وقوله ، سبحانه ،
: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ
الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) إنكار آخر لتباطئهم عن الجهاد ، وتعجب من ركونهم إلى
الدنيا مع أن إيمانهم يتنافى مع ذلك.
وقوله. (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) بيان لحقارة متاع الدنيا بالنسبة لنعيم الآخرة الدائم.
والمعنى : أى شيء
حال بينكم ، أيها المؤمنون ، وبين المسارعة إلى الجهاد عند ما دعاكم رسولكم صلىاللهعليهوسلم إليه. أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذائذها الناقصة.
إن كان أمركم كذلك
، فقد أخطأتم الصواب ، لأن متاع الحياة الدنيا مهما كثر فهو قليل مستحقر بجانب
متاع الآخرة الباقي ، ونعيمها الخالد.
قال الآلوسى ما
ملخصه : «في» من قوله (فَما مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) تسمى بفي القياسية. لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به.
وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ، ويستدعى الرغبة فيها ، وتجريد الآخرة
عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها.
وقد أخرج أحمد
ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المستورد ، أخى بنى فهر ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما الدنيا في
الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع» .
وقال الفخر الرازي
: اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال ، لأنه ،
__________________
سبحانه ، نص على
أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجبا لما كان هذا التثاقل
منكرا. وليس لقائل أن يقول : الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه
، لأنه عليهالسلام ، ما كان يخاف هجوم الروم عليه ، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد
معهم .. وأيضا هو واجب على الكفاية ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. والخطاب
في الآية للمؤمنين الذين تقاعسوا في الخروج إلى غزوة تبوك مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ .
ثم هددهم ، سبحانه
، بالعذاب الأليم ، إن لم ينفروا للجهاد في سبيله فقال (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً).
أى : (إِلَّا تَنْفِرُوا) ، أيها المؤمنون ، للجهاد كما أمركم رسولكم (يُعَذِّبْكُمْ) الله (عَذاباً أَلِيماً) في الدنيا بإنزال المصائب ، بكم ، وفي الآخرة بنار جهنم.
وقوله : (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أى : ويستبدل بكم قوما يطيعون رسوله في العسر واليسر ،
والمنشط والمكره .. كما قال ، : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).
قال صاحب المنار :
قيل المراد بهؤلاء القوم : أهل اليمن ، وقيل أهل فارس وليس في محله ، فإن الكلام
للتهديد ، والله يعلم أنه لا يقع الشرط ولا جزاؤه.
وإنما المراد
يطيعونه ـ سبحانه ـ ويطيعون رسوله ، لأنه قد وعده بالنصر ؛ وإظهار دينه ، فإن لم
يكن هذا الإظهار بأيديكم. فلا بد أن يكون بأيدى غيركم (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ).
وقد مضت سنته ـ تعالى
ـ بأنه لا بقاء للأمم التي تتثاقل عن الدفاع عن نفسها وحفظ حقيقتها وسيادتها ، ولا
تتم فائدة القوة الدفاعية والهجومية إلا بطاعة الإمام ، فكيف إذا كان الإمام
والقائد هو النبي الموعود من ربه بالنصر .. .
والضمير في قوله (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) يعود إلى الله ، تعالى.
أى : إن تباطأتم «أيها
المؤمنون» عن الجهاد ، يعذبكم الله عذابا أليما ويستبدل بكم قوما سواكم لنصرة نبيه
، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب تقاعسكم. لأنكم أنتم الفقراء إليه ، وهو ،
سبحانه ، الغنى الحميد.
وقيل : الضمير
يعود للرسول ، صلىاللهعليهوسلم أى : ولا تضروا الرسول شيئا ما من الضرر بسبب تثاقلكم عن
الجهاد ، لأن الله قد وعده بالنصر ووعده كائن لا محاله.
__________________
وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل مؤكد لما قبله.
أى : والله ،
تعالى : على كل شيء من الأشياء قدير ، ولا يعجزه أمر ، ولا يحول دون نفاذ مشيئته
حائل ، فامتثلوا أمره لتفوزوا برضوانه.
فأنت ترى أن هذه
الآية وسابقتها قد اشتملت على أقوى الأساليب التي ترغب في الجهاد ، وترهب من
النكوص عنه ، وتبعث على الطاعة لله ولرسوله.
ثم ذكرهم ، سبحانه
، بما يعرفونه من حال الرسول صلىاللهعليهوسلم حيث نصره الله. تعالى ، على أعدائه بدون عون منهم ، وأيده
بجنود لم يروها فقال ، (إِلَّا تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ).
قال ابن جرير. هذا
إعلام من الله لأصحاب رسوله صلىاللهعليهوسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه ، وإظهاره عليهم
دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به ، وهو من العدد في
قلة ، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة .
والمعنى : إنكم ،
أيها المؤمنون ، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده ، ولم تنصروا رسولكم
الذي استنفركم للخروج معه. فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة ، كما نصره ،
وأنتم تعلمون ذلك ، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أى : أحد اثنين. والثاني : أبو بكر الصديق ، رضى الله عنه.
يقال. فلان ثالث
ثلاثة ، أو رابع أربعة .. أى : هو واحد من الثلاثة أو من الأربعة.
فإذا قيل : فلان
رابع ثلاثة أو خامس أربعة ، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته إليهم ، أو
صير الأربعة خمسة.
وأسند سبحانه
الإخراج إلى المشركين مع أن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد خرج بنفسه بإذن من الله ، تعالى ، لأنهم السبب في هذا
الخروج حيث اضطروه إلى ذلك ، بعد أن تآمروا على قتله.
قيل : وجواب الشرط
في قوله ، (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) محذوف وقوله (فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ) تعليل لهذا المحذوف.
والتقدير : إلا
تنصروه ينصره الله في كل حال. (فَقَدْ نَصَرَهُ) سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بلده ولم يكن معه سوى رجل
واحد.
وقال صاحب الكشاف
: فإن قلت. كيف يكون قوله (فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ) جوابا للشرط؟.
قلت «فيه وجهان»
أحدهما : إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل
__________________
واحد. ولا أقل من
الواحد ، فدل بقوله. (فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ) على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت.
والثاني. أنه أوجب
له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده ، .
وقوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) حال من الهاء في قوله (أَخْرَجَهُ) أى أخرجه الذين كفروا حال كونه منفردا عن جميع الناس إلا
أبا بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ.
وقوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من قوله (إِذْ أَخْرَجَهُ).
والغار : النقب
العظيم يكون في الجبل. والمراد به هنا : غار جبل ثور. وهو جبل في الجهة الجنوبية
لمكة ، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام.
وقوله : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ
إِنَّ اللهَ مَعَنا) بدل ثان من قوله (إِذْ أَخْرَجَهُ).
أى. إلا تنصروه
فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر
في الغار ، ووقت أن كان صلىاللهعليهوسلم يقول لصاحبه الصديق : لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره
وحمايته.
وذلك أن أبا بكر
وهو مع النبي صلىاللهعليهوسلم في الغار ، أحس بحركة المشركين من فوق الغار ، فخاف خوفا
شديدا لا على حياته هو ، وإنما على حياة النبي صلىاللهعليهوسلم فلما رأى النبي صلىاللهعليهوسلم منه ذلك ، أخذ في تسكين روعه وجزعه وجعل يقول له : لا تحزن
إن الله معنا.
أخرج الشيخان عن
أبى بكر قال. نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رءوسنا ، فقلت. يا
رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ، فقال : «يا أبا بكر ما
ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا» .
وقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ..) بيان لما أحاط الله به نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من مظاهر الحفظ والرعاية.
والسكينة : من
السكون ، وهو ثبوت الشيء ؛ بعد التحرك. أو من السكن ـ بالتحريك ـ وهو كل ما سكنت
إليه نفسك ، واطمأنت به من أهل وغيرهم.
والمراد بها هنا :
الطمأنينة التي استقرت في قلب النبي صلىاللهعليهوسلم فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار ، لأنه
واثق بأنهم لن يصلوا إليه.
__________________
والمراد بالجنود
المؤيدين له. الملائكة الذين أرسلهم ـ سبحانه ـ لهذا الغرض : والضمير في قوله : (عَلَيْهِ) يعود إلى النبي صلىاللهعليهوسلم.
أى. فأنزل الله
سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله صلىاللهعليهوسلم وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم ، كان من
وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه.
ويرى بعضهم أن
الضمير في قوله (عَلَيْهِ) يعود إلى أبى بكر الصديق ، لأن الأصل في الضمير أن يعود
إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى
السكينة. وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر ، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف.
وقد رد أصحاب
الرأى الأول على ذلك بأن قوله (وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) الضمير فيه لا يصح إلا للنبي صلىاللهعليهوسلم وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله (عَلَيْهِ) عائدا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم حتى لا يحصل تفكك في الكلام.
أما نزول السكينة
فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف ، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان ،
وللدلالة على علو شأنه صلىاللهعليهوسلم.
قال ابن كثير قوله
(فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أى. تأييده ونصره عليه أى. على الرسول صلىاللهعليهوسلم في أشهر القولين. وقيل. على أبى بكر.
قالوا : لأن
الرسول صلىاللهعليهوسلم لم تزل معه سكينة. وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك
الحال ، ولهذا قال : (وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أى : الملائكة .
وقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا
السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة.
والمراد بكلمة
الذين كفروا. كلمة الشرك ، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهي
اتفاقهم على قتل رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
والمراد بكلمة
الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، وما يترتب على اتباع هذا
الدين من نصر وحسن عاقبة ، أى : كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة ، أن
جعل كلمة الشرك هي السفلى ، أى. المقهورة الذليلة. وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة
في دين الإسلام هي العليا أى : هي الثابتة الغالبة النافذة.
__________________
وقراءة الجمهور
برفع. (كَلِمَةَ) على الابتداء. وقوله (هِيَ) مبتدأ ثان : وقوله : (الْعُلْيا) خبرها ، والجملة خبر المبتدأ الأول.
ويجوز أن يكون
الضمير (هِيَ) ضمير فصل ، وقوله (الْعُلْيا) هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب (وَكَلِمَةُ اللهِ) بالنصب عطفا على مفعول جعل وهو (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا).
أى : وجعل كلمة
الذين كفروا السفلى ، وجعل كلمة الله هي العليا.
قالوا : وقراءة
الرفع أبلغ وأوجه ، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت ، ولأن الجعل لم
يتطرق إلى الجملة الثانية وهي قوله : (وَكَلِمَةُ اللهِ
هِيَ الْعُلْيا) لأنها في ذاتها عالية ثابتة ، بدون جعلها كذلك في حادثة
معينة. بخلاف علو غيرها فهو غير ذاتى ، وإنما هو علو مؤقت في حالة معينة ، ثم
مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك.
وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
أى : والله ـ تعالى
ـ (عَزِيزٌ) لا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر ، ولا ينصر من عاقبه ناصر
، (حَكِيمٌ) في تصريفه شأن خلقه ، لا قصور في تدبيره ، ولا نقص في
أفعاله.
هذا ، ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هذه الآية : الدلالة على فضل أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه
ـ وعلى علو منزلته ، وقوة إيمانه ، وشدة إخلاصه لله ـ تعالى ـ ولرسوله صلىاللهعليهوسلم.
ومما يشهد لذلك ،
أن الرسول صلىاللهعليهوسلم عند ما أذن الله له بالهجرة ، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في
طريق هجرته إلى المدينة.
ولقد أظهر الصديق
ـ رضى الله عنه ـ خلال مصاحبته للرسول صلىاللهعليهوسلم الكثير من ألوان الوفاء والإخلاص وصدق العقيدة .
قال الآلوسى ما
ملخصه : واستدل بالآية على فضل أبى بكر .. فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا
أبا بكر .. فعن الحسن قال : عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ) الآية.
__________________
ولأن فيها النص
على صحبته للرسول صلىاللهعليهوسلم ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة : لأنه هو المراد بالصاحب في
قوله (إِذْ يَقُولُ
لِصاحِبِهِ) وهذا مما وقع عليه الإجماع.
ومن هنا قالوا :
من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر ، لإنكار كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .
وقد ساق الإمام
الرازي ، والشيخ رشيد رضا ، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجها في فضل أبى بكر
الصديق ـ رضى الله عنه ـ ، فارجع إليهما إن شئت .
وبعد هذا التذكير
للمؤمنين بما كان منه ـ سبحانه ـ من تأييد لرسوله عند هجرته ، أمرهم ـ جل شأنه ـ بالنفير
في كل حال فقال : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً ، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ،
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
قال الفخر الرازي
ما ملخصه : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما توعد من لا ينفر مع الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وضرب له من الأمثال ما وصفنا ، اتبعه بهذا الأمر الجازم
فقال : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً).
والمراد : انفروا
سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها ، أو على الصفة التي يثقل. وهذا
الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة.
منها : (خِفافاً) في النفور لنشاطكم له ، و (ثِقالاً) عنه لمشقته عليكم.
ومنها : (خِفافاً) لقلة عيالكم ، و (ثِقالاً) لكثرتها.
ومنها : (خِفافاً) من السلاح ، و (ثِقالاً) منه.
والصحيح ما ذكرنا
، إذ الكل داخل فيه ، لأن الوصف المذكور وصف كلى يدخل فيه كل هذه الجزئيات» .
والمعنى : (انْفِرُوا) ـ أيها المؤمنون ـ (خِفافاً وَثِقالاً) أى : في حال سهولة النفر عليكم ، وفي حال صعوبته ومشقته.
(وَجاهِدُوا) أعداءكم ببذل أموالكم. وببذل أنفسكم (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ورسوله صلىاللهعليهوسلم فمن استطاع منكم الجهاد بالمال والنفس وجب عليه الجهاد
بهما. ومن قدر على أحدهما
__________________
دون الآخر ، وجب
عليه ما كان في قدرته منهما.
قال القرطبي روى
أبو داود عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم.
وهذا وصف لأكمل ما
يكون الجهاد وأنفعه عند الله ـ تعالى ـ فقد حض ـ سبحانه ـ على كمال الأوصاف.
وقدم الأموال في
الذكر ، إذ هي أول مصرف وقت التجهيز ، فرتب الأمر كما هو في نفسه .
واسم الإشارة في
قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعود إلى المذكور من الأمرين السابقين وهما : النفور
والجهاد.
أى : ذلكم الذي
أمرتم به من النفور والجهاد في سبيل الله ، خير لكم في دنياكم وفي آخرتكم من
التثاقل عنهما ، إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بين لكم خالقكم ومربيكم على لسان
رسوله صلىاللهعليهوسلم.
ولقد أدرك
المؤمنون الصادقون هذا الخير فامتثلوا أمر ربهم ، ونفروا للجهاد في سبيله خفاقا
وثقالا ، بدون تباطؤ أو تقاعس.
وقد ساق المفسرون
عند تفسيرهم لهذه الآية كثيرا من الأمثلة التي تدل على محبة السلف الصالح للجهاد
في سبيل الله ، ومن ذلك.
ما جاء عن أنس أن
أبا طلحة قرأ سورة براءة ، فأتى على هذه الآية : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً) فقال : أى بنى ، جهزوني جهزوني. فقال بنوه. يرحمك الله!!
لقد غزوت مع النبي صلىاللهعليهوسلم حتى مات ، ومع أبى بكر حتى مات. ومع عمر حتى مات. فنحن
نغزو عنك. فقال : لا ، جهزوني. فغزوا في البحر فمات في البحر ، فلم يجدوا له جزيرة
يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها ، ولم يتغير ـ رضى الله عنه.
وقال الزهري : خرج
سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل ، فقال : استنفر
الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع .
وأخرج ابن جرير عن
حيان بن زيد الشرعبى قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ، وكان
__________________
واليا على حمص ،
فلقيت شيخا كبيرا هرما ، على راحلته فيمن نفر ، فأقبلت عليه فقلت : يا عماه لقد
أعذر الله إليك.
قال : فرفع حاجبيه
فقال. يا ابن أخى ، استنفرنا الله خفافا وثقالا ، من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده
فيبقيه ، وإنما يبتلى الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله .
وعن أبى راشد
الحبرانى قال. وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وهو يريد الغزو
ـ وقد تقدمت به السن ـ فقلت له : لقد أعذر الله إليك.
فقال : أبت علينا
سورة البعوث ذلك. يعنى هذه الآية : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً) .
هذا ، ومن العلماء
من يرى أن هذه الآية تجعل الجهاد على الجميع حتى المريض والزمن والفقير .. وليس
الأمر كذلك ، فما معنى هذا الأمر؟.
قلت. من العلماء
من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ بقوله ـ تعالى ـ (لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ..) .
ومنهم من حمل هذا
الأمر على الندب.
والصحيح أنها
منسوخة ، لأن الجهاد من فروض الكفاية ، ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك
، وأن النبي صلىاللهعليهوسلم خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال ، فدل
ذلك على أن الجهاد من فروض الكفايات ، وأنه ليس على الأعيان .
ويرى بعض العلماء
أن الآية ليست منسوخة ، فقد قال الإمام القرطبي ـ ما ملخصه ـ واختلف في هذه الآية
، فقيل إنها منسوخة بقوله ـ تعالى ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ
وَلا عَلَى الْمَرْضى).
والصحيح أنها ليست
بمنسوخة.
روى ابن عباس عن
أبى طلحة في قوله ـ تعالى ـ : (انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً) قال : شبانا وكهولا. ما سمع الله عذر أحد. فخرج إلى الشام
فجاهد حتى مات.
ثم قال ـ بعد أن
ساق نماذج متعددة لمن خرجوا للجهاد خفافا وثقالا ـ فلهذا وما كان مثله مما روى عن
الصحابة والتابعين قلنا. إن النسخ لا يصح.
__________________
فقد تكون هناك
حالة يجب فيها نفير الكل ، وذلك إذا تعين الجهاد لغلبة العدو على قطر من الأقطار
الإسلامية ، أو بحلوله في العقر. ففي هذه الحالة يجب على جميع أهل الدار أن ينفروا
ويخرجوا إليه خفافا وثقالا ؛ شبابا وشيوخا ، كل على قدر طاقته. ولا يتخلف أحد يقدر
على الخروج.
فإن عجز أهل تلك
البلدة عن صد عدوهم ؛ كان على من قاربهم أن يخرجوا معهم لصد العدو ، وكذلك الشأن
بالنسبة لكل من علم بضعفهم عن عدوهم فالمسلمون كلهم يد على من سواهم.
حتى إذا قام بدفع
العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها ، سقط الفرض عن الآخرين.
ثم قال ـ رحمهالله ـ : ومن الجهاد أيضا ما هو نافلة ، وهو إخراج الإمام طائفة
.. لإظهار القوة ، وإعزاز دين الله.
ثم قال : وقال ابن
العربي ، ولقد نزل بنا العدو ـ قصمه الله. سنة سبع وعشرين وخمسمائة : فجاس ديارنا
، وأسر خيرتنا ، وتوسط بلادنا .. فقلت للوالي والمولى عليه : عدو الله قد حصل في
الشرك والشبكة ، فلتكن عندكم بركة ، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المعينة عليكم
حركة ، فليخرج إليه جميع الناس .. فيحاط به فيهلك.
فغلبت الذنوب ،
ورجفت القلوب بالمعاصي ، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوى إلى وجاره ، وإن رأى المكيدة بجاره.
فإنا لله وإنا
إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
والذي نراه. أن ما
ذهب إليه الإمام القرطبي ، من أن الآية الكريمة ليست منسوخة ، أولى بالاتباع.
لأن الجهاد قد
يكون فرض كفاية في بعض الحالات ، وقد يكون فرض عين في حالات أخرى والآية الكريمة
التي معنا تدعو المؤمنين إلى النفير العام في تلك الحالات الأخرى التي يكون الجهاد
فيها فرض عين وبذلك يمكن الجمع بين الآيات التي تدعو إلى النفير العام. والآيات
التي تعفى بعض الناس من مشاقه ومتاعبه.
ومن كل ما تقدم
يتبين لنا أن هذه الآيات الأربع قد عاتبت المؤمنين الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة
تبوك عتابا شديدا ؛ وأنذرتهم بالعذاب الأليم إن لم ينفروا .. وذكرتهم بما كان من
نصر الله لنبيه حين أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين .. وأمرتهم بالنفور إلى الجهاد
خفافا وثقالا.
__________________
وبمجاهدة المشركين
بأموالهم وأنفسهم ، فذلك هو الخير لهم في عاجلتهم وآجلتهم.
ثم أخذت السورة
الكريمة في بيان قبائح المنافقين ، ومعاذيرهم الواهية ، ومسالكهم الخبيثة.
وأيمانهم الفاجرة .. فقال ـ تعالى ـ :
(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً
وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٤٢)
قال الفخر الرازي
هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. والعرض. ما يعرض للإنسان من منافع الدنيا وشهواتها.
والسفر القاصد :
هو السفر القريب السهل الذي لا يصاحبه ما يؤدى إلى التعب الشديد. من القصد بمعنى
التوسط والاعتدال في الشيء.
والشقة : المسافة
التي لا تقطع إلا بعد تكبد المشقة والتعب ، فهي مأخوذة من المشقة وشدة العناء.
قال القرطبي : حكى
أبو عبيدة وغيره أن الشقة : السفر إلى أرض بعيدة. يقال : منه شقة شاقة. والمراد
بذلك كله غزوة تبوك ..» .
والمعنى : لو كان
الذي دعوتهم إليه يا محمد ، متاعا من متع الحياة الدنيا ، وسفرا سهلا قريبا ،
لاتبعوك فيما دعوتهم إليه ، لأنه يوافق أهواءهم ، ويشبع رغباتهم ، ولكنهم حين
عرفوا أن ما دعوتهم إليه هو الجهاد في سبيل الله وما يصحبه من أسفار شاقة. وتضحيات
جسيمة .. تعلّلوا لك بالمعاذير الكاذبة ، وتخلفوا عن الخروج معك ، جبنا منهم ،
وحبا للراحة والسلام.
وشبيه بهذه الآية
من حيث المعنى ، قول الرسول صلىاللهعليهوسلم في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة «لو يعلم أحدهم أنه يجد
عظما سمينا ، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء».
__________________
أى : لو يعلم أحد
هؤلاء المتخلفين عن صلاة العشاء في جماعة ، أنه يجد عند حضور صلاتها في جماعة شيئا
من اللحم لحضرها.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من الجهاد فقال : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ
اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ).
أى. وسيحلف هؤلاء
المنافقون بالله ـ كذبا وزورا ـ قائلين. لو استطعنا أيها المؤمنون أن نخرج معكم
للجهاد في تبوك لخرجنا : فاننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين ، فقد كانت لنا
أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف!!
وأتى ـ سبحانه ـ بالسين
في قوله : (وَسَيَحْلِفُونَ) لأنه من قبيل الإخبار بالغيب. فقد كان نزول هذه الآية قبل
رجوعه صلىاللهعليهوسلم من تبوك. وحلفهم هذا كان بعد رجوعه منها.
قال الفخر الرازي
: قالوا : الرسول صلىاللهعليهوسلم أخبر عنهم أنهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في
المستقبل ، والأمر لما وقع كما أخبر كان هذا إخبارا عن الغيب فكان معجزا ، .
والمراد
بالاستطاعة في قوله : «لو استطعنا» : وجود وسائل للجهاد معهم ، من زاد وعدة وقوة
في البدن ، وغير ذلك مما يستلزمه الجهاد في سبيل الله.
وقوله : (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ساد مسد جوابي القسم والشرط.
ثم بين ـ سبحانه ـ
سوء مصيرهم بسبب كذبهم ونفاقهم فقال : (يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) :
أى. أن هؤلاء
المتخلفين عن الجهاد يهلكون أنفسهم بسبب حلفهم الكاذب ، وجرأتهم على الله. تعالى.
في اختلاق المعاذير الباطلة ، مع أنه. سبحانه. يعلم إنهم لكاذبون في أيمانهم ،
وفيما انتحلوه من أعذار.
قال ابن جرير قوله
: (وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم : (لَوِ اسْتَطَعْنا
لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين ، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي
كان عندهم من الأموال ، مما يحتاج إليه الغازي في غزوة ، وصحة الأبدان ، وقوة
الأجسام .
هذا ، ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هذه الآية ، أن الأيمان الكاذبة تؤدى إلى الخسران والهلاك :
وفي الحديث الشريف : «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع؟؟؟».
__________________
ثم عاتب الله :
تعالى. نبيه صلىاللهعليهوسلم عتابا رقيقا لأنه أذن للمنافقين بالتخلف عن الجهاد حين
طلبوا منه ذلك ، دون أن يتبين أحوالهم فقال. تعالى.
(عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكاذِبِينَ)(٤٣)
قال ابن كثير. قال
مجاهد. نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإن أذن لكم فاقعدوا. وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
والعفو : يطلق على
التجاوز عن الذنب أو التقصير ، كما يطلق على ترك المؤاخذة على عدم فعل الأولى
والأفضل ، وهو المراد هنا.
والمعنى : عفا
الله عنك يا محمد ، وتجاوز عن مؤاخذتك فيما فعلته مع هؤلاء المنافقين من سماحك لهم
بالتخلف عن الجهاد معك في غزوة تبوك ، حين اعتذروا إليك بالأعذار الكاذبة ، وكان
الأولى بك أن تتريث وتتأنى في السماح لهم بالتخلف ، حتى يتبين لك الذين صدقوا في
اعتذارهم من الذين كذبوا فيه ، فقد كانوا ـ إلا قليلا منهم ـ كاذبين في معاذيرهم ،
وكانوا مصرين على القعود عن الجهاد حتى ولو لم تأذن لهم به.
وقدم سبحانه.
العفو على العتاب. وهو قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ـ للإشارة إلى المكانة السامية التي له صلىاللهعليهوسلم عند ربه.
قال بعض العلماء :
هل سمعتم بعتاب أحسن من هذا؟ لقد خاطبه سبحانه بالعفو قبل أن يذكر المعفو عنه.
وقال العلامة أبو
السعود ما ملخصه : وعبر ـ سبحانه ـ عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال
على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر
من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وبأن ما صدر من
الآخرين ، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ،
ناشئ عن رسوخهم في الكذب.
وعبر عن ظهور
الصدق بالتبين ، وعما يتعلق بالكذب بالعلم ، لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو
الصدق ، والكذب احتمال عقلي ، فظهور صدق الخبر إنما هو تبين ذلك المدلول ، وانقطاع
احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له احتمالا عقليا. وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة
للخبر عليه في
الجملة حتى يكون ظهوره تبينا له ، بل نقيض لمدلوله. فما يتعلق به يكون علما
مستأنفا .. .
هذا ، ومن الأمور
التي تكلم عنها العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية ما يأتى :
١ ـ أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحكم بمقتضى اجتهاده في بعض الوقائع. وقد بسط القول في
هذه المسألة صاحب المنار فقال ما ملخصه :
وقد كان الإذن
المعاتب عليه اجتهادا منه صلىاللهعليهوسلم فيما لا نص فيه من الوحى ، وهو جائز وواقع من الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم. وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه ، وإنما العصمة المتفق
عليها خاصة بتبليغ الوحى ببيانه والعمل به ، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو أن
يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل.
ويؤيده حديث طلحة
في تأبير النخل إذ رآهم صلىاللهعليهوسلم يلقحونها فقال : «ما أظن يغنى ذلك شيئا» فأخذوا بذلك
فتركوه ظنا منهم أن قوله هذا من أمر الدين ، فنفضت النخل وسقط ثمرها. فأخبر بذلك
فقال : «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإنى ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن ، ولكن
إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ، فانى لن أكذب على الله عزوجل».
وقد صرح علماء
الأصول بجواز الخطأ في الاجتهاد على الأنبياء. عليهم الصلاة والسلام ؛ قالوا :
ولكن لا يقرهم الله على ذلك ، بل يبين لهم الصواب فيه ..» .
٢ ـ أن من الواجب
على المسلم التريث في الحكم على الأمور.
قال الفخر الرازي
: دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأنى ، وترك الاغترار
بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من
التقريب أو الإبعاد .
٣ ـ أن المتتبع
لآراء العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية يرى لهم ثلاثة أقوال :
أما القول الأول
فهو لجمهور العلماء : وملخصه : أن المراد بالعفو في قوله سبحانه : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) عدم مؤاخذته : صلىاللهعليهوسلم في تركه الأولى والأفضل ، لأنه كان من الأفضل له ألا يأذن
للمنافقين في التخلف عن الجهاد حتى يتبين أمرهم.
وهذا القول هو
الذي نختاره ونرجحه ، لأنه هو المناسب لسياق الآية ولما ورد في سبب نزولها :
__________________
وأما القول الثاني
فهو لصاحب الكشاف : وملخصه : أن العفو هنا كناية عن الجناية ، فقد قال : قوله (عَفَا اللهُ عَنْكَ) كناية عن الجناية لأن العفو مرادف لها ، ومعناه. أخطأت
وبئس ما فعلت ، وقوله (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كنى عنه بالعفو .
ولم يرتض كثير من
العلماء ما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن العفو هنا كناية عن الجناية ، ووصفوا ما
ذهب إليه بالخطإ وإساءة الأدب.
قال أبو السعود :
ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن
الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت.
هب أنه كناية ، أليس
إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العقاب؟ : .
وقال الشيخ أحمد
بن المنير : ليس له ـ أى الزمخشري : ـ أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير ، وهو بين
أحد أمرين : إما أن لا يكون هو المراد وإما أن يكون هو المراد ، ولكن قد أحل الله
نبيه الكريم عن مخاطبته بصريح العتب ، وخصوصا في حق المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام
ـ فالزمخشرى على كلا التقديرين ذهل عما يجب في حقه صلىاللهعليهوسلم.
ولقد أحسن من قال
في هذه الآية : إن من لطف الله ـ تعالى ـ بنبيه ، أن بدأه بالعفو قبل العتب ، ولو
قال له ابتداء «لم أذنت لهم» لتفطر قلبه ـ عليه الصلاة والسلام. فمثل هذا الأدب
يجب احتذاؤه في حق سيد البشر ـ عليه الصلاة والسلام .
وأما القول الثالث
فهو للإمام الفخرى الرازي ، ولمن حذا حذوه كالقرطبى وغيره ، وملخص هذا القول أنه
يجوز أن يكون المراد بالعفو هنا : المبالغة في تعظيم النبي صلىاللهعليهوسلم وتوقيره ، أو أن قوله ـ سبحانه ـ : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) افتتاح كلام.
قال الفخر الرازي
ما ملخصه : لا نسلم أن قوله ـ تعالى ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يوجب الذنب ، ولم لا يجوز أن يقال : إن ذلك يدل على مبالغة
الله ، تعالى في تعظيمه وتوقيره ، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما عنده ، عفا
الله عنك ما صنعت في أمرى .. فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التبجيل
والتعظيم.
ويؤيد ذلك قول على
بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :
عفا الله عنك
ألا حرمة
|
|
تعوذ بعفوك أن
أبعدا
|
__________________
ألم تر عبدا عدا
طوره
|
|
ومولى عفا
ورشيدا هدى
|
أقلنى أقالك من
لم يزل
|
|
يقيك ، ويصرف
عنك الردى
|
وقال القرطبي :
قوله : ـ تعالى ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) قيل : هو افتتاح كلام ؛ كما تقول : أصلحك الله وأعزك ورحمك
كان كذا وكذا .. .
والذي نراه أن
القول الأول هو الراجح لما سبق أن بيناه.
ثم بين ـ سبحانه ـ
الصفات التي يتميز بها المؤمنون الصادقون ، عن غيرهم من ضعاف الإيمان ، فقال ـ تعالى
ـ :
(لا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ
قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(٤٥)
أى : ليس من شأن
المؤمنين الصادقين أن يستأذنوك ـ يا محمد ـ في (أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه .. وإنما الذي من
شأنهم وعادتهم ـ كما أثبته واقعهم وتاريخهم ـ أن ينفروا خفافا وثقالا عند ما يدعو
الداعي إلى الجهاد ، دون أن ينتظروا إذنا من أحد.
فهم لقوة إيمانهم
، وصفاء نفوسهم ، يسارعون إلى الجهاد بقلوب مشتاقة إليه ، وبنفوس تتمنى الموت عن
طريقه.
وهم في ذلك
ممتثلون لقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله
يطير على متنه ، كلما سمع هيعة ـ أى صيحة ـ وفزعا طار على متنه يبتغى
__________________
القتل أو الموت في
مظانه» .
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) تحريض لهم على الاتصاف بهذه الصفة الكريمة ، وهي صفة
التقوى.
والمراد بالعلم
هنا لازمه ، وهو مجازاتهم بالثواب الجزيل على تقواهم.
أى : والله ـ تعالى
ـ عليم بهؤلاء الذين ملأت خشيته قلوبهم. وسيثيبهم على ذلك ثوابا يرضيهم.
هذا ، وقد استنبط
العلماء من هذه الآية أنه ينبغي على المؤمن أن يقوم بأداء الأعمال الحسنة ،
والأفعال الجميلة بدون تردد أو استئذان.
قال صاحب الانتصاف
عند تفسيره لهذه الآية : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا ، فلا يليق بالمرء أن
يستأذن أخاه في أن يسدى له معروفا ، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه
طعاما ؛ فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره. وصلوات الله
وسلامه على خليله إبراهيم ، فقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى
شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله ـ تعالى ـ : بهذه
الخلة الجميلة ، فقال : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ
فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ..) أى : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به .. .
وقال صاحب المنار
: وقد استنبط من الآية أنه لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ، ولا في
الفضائل والفواضل من العادات ، كقرى الضيف ، وإغاثة الملهوف ، وسائر عمل المعروف.
ويعجبني قول بعض
العلماء ما معناه : من قال لك أتأكل؟ هل آتيك بكذا من الفاكهة مثلا؟ فقل له : لا
فإنه لو أراد أن يكرمك لما استأذنك .
ثم بين سبحانه ـ الصفات
التي يعرف بها المنافقون ، بعد بيانه للصفات التي يعرف بها المؤمنون الصادقون فقال
: (إِنَّما
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ ..).
أى : إنما يستأذنك
ـ يا محمد ـ في القعود عن الجهاد أولئك الذين من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بالله
إيمانا كاملا ، ولا يؤمنون باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب إيمانا يقينيا.
__________________
قال الآلوسى :
وتخصيص الإيمان بهما ـ أى بالله واليوم الآخر ـ في الموضعين للإيذان بأن الباعث
على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما ، فمن آمن بهما قاتل في
سبيل دينه ، وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ، ومن
لم يؤمن كان بمعزل عن ذلك. على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب
الإيمان به» .
وقوله : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) صفة ثالثة من صفاتهم الذميمة.
أى : أنهم بجانب
عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، رسخ الريب في قلوبهم فصاروا يشكون في صحة ما جئت
به ـ أيها الرسول الكريم ـ ، ويقفون من تعاليمك وتوجيهاتك ، موقف المكذب المرتاب
لا موقف المصدق المذعن.
وأضاف الشك
والارتياب إلى القلوب ، لأنها محل المعرفة والإيمان. وأوثرت صيغة الماضي ـ ارتابت
، للدلالة على تحقق الريب وتوبيخهم. وأصل معنى التردد : الذهاب والمجيء. والمراد
به هنا التحير على سبيل المجاز ، لأن المتحير لا يستقر في مكان ، ولا يثبت على
حال.
أى : فهم في شكهم
الذي حل بهم يتحيرون ، فنراهم كما وصفهم ـ سبحانه ـ في آية أخرى. (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى
هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ..) .
أى : متحيرين بين
الكفر وبين الإيمان.
وبذلك نرى أن
هاتين الآيتين قد ذكرتا السمات التي بها يتميز المؤمنون الصادقون عن ـ غيرهم من
الذين قالوا آمنا وما هم بمؤمنين.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
بعض المسالك الخبيثة التي كان يتبعها هؤلاء المنافقون لمحاربة الدعوة الإسلامية ،
وكيف أنه ـ سبحانه ـ أحبط مكرهم فقال ـ تعالى ـ :
(وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ
__________________
الْفِتْنَةَ
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)(٤٨)
وقوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ ..) كلام مستأنف لبيان المزيد من رذائل المنافقين. أو معطوف
على قوله ـ سبحانه ـ قبل ذلك (لَوْ كانَ عَرَضاً
قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ).
وقوله : (انْبِعاثَهُمْ) أى : نهوضهم وانطلاقهم للخروج بنشاط وهمة. من البعث وهو
إثارة الإنسان أو الحيوان وتوجيهه إلى الشيء بقوة وخفة.
تقول : بعثت
البعير فانبعث إذا أثرته للقيام والسير بسرعة.
وقوله : «فثبطهم»
أى : فمنعهم وحبسهم ، من التثبيط «وهو رد الإنسان عن الفعل الذي هم به عن طريق
تعويقه عنه ومنعه منه.
يقال : ثبطه
تثبيطا ، أى : قعد به عن الأمر الذي يريده ومنعه منه بالتخذيل ونحوه.
والمعنى : ولو
أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك ـ يا محمد ـ إلى تبوك لأعدوا لهذا الخروج عدته
اللازمة له من الزاد والراحلة ، وغير ذلك من الأشياء التي لا يستغنى عنها المجاهد
في سفره الطويل ، والتي كانت في مقدورهم وطاقتهم.
وقوله. (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) استدراك على ما
تقدم.
أى : ولو أرادوا
الخروج لأعدوا له عدته ، ولكنهم لم يريدوا ذلك ، لأن الله ـ تعالى ـ كره خروجهم
معك ، فحبسهم عنه ، لما يعلمه ـ سبحانه ـ من نفاقهم وقبح نواياهم ، وإشاعتهم للسوء
في صفوف المؤمنين.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت. كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت : لما كان قوله (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معطيا معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو ، قيل : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة
انبعاثهم ، كما تقول. ما أحسن إلى زيد ولكن أساء إلى ، .
وقال الجمل.
وهاهنا يتوجه سؤال ، وهو أن خروج المنافقين مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إما
__________________
أن يكون فيه مصلحة
أو مفسدة ، فإن كان فيه مصلحة فلم قال : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ
انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) وإن كان فيه مفسدة فلما ذا عاتب نبيه صلىاللهعليهوسلم في إذنه لهم في القعود؟
والجواب عن هذا
السؤال : أن خروجهم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان فيه مفسدة عظيمة : بدليل أنه ـ سبحانه ـ أخبر بتلك
المفسدة بقوله (لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً).
بقي أن يقال. فلم
عاتب الله نبيه بقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) فنقول : إنه صلىاللهعليهوسلم أذن لهم قبل إتمام الفحص ، وإكمال التدبير والتأمل في
حالهم ، فلهذا السبب قال ـ تعالى ـ (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحى إليه في
أمرهم بالقعود .
وقوله. (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) تذييل المقصود منه ذمهم ووصفهم بالجبن الخالع ، والهمة
الساقطة ، لأنهم بقعودهم هذا سيكونون مع النساء والصبيان والمرضى والمستضعفين
الذين لا قدرة لهم على خوض المعارك والحروب.
قال الآلوسى.
وقوله : (وَقِيلَ اقْعُدُوا
مَعَ الْقاعِدِينَ) : تمثيل لخلق الله داعية القعود فيهم ، وإلقائه كراهة
الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول
حقيقة. ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض ؛ أو حكاية لإذن الرسول صلىاللهعليهوسلم لهم في القعود ، فيكون القول على حقيقته .
هذا ، ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هذه الآية. أن الفعل يحسن بالنية ؛ ويقبح بها.
أيضا. ، وإن
استويا في الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر. وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ،
وذلك لأنه. تعالى. أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل من إرادة المكر بالمسلمين.
ومنها : أن للإمام
أن يمنع من يتهم بمضرة المسلمين من الخروج للجهاد ؛ حماية لهم من شروره ومفاسده.
ومنها : أن إعداد
العدة للجهاد أمر واجب ، وقد قال ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ) .
ثم بين ـ سبحانه ـ
المفاسد المترتبة على خروج المنافقين في جيش المؤمنين فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ
إِلَّا خَبالاً) ، وأصل الخبال. الاضطراب والمرض الذي يؤثر في العقل
كالجنون ونحوه. أو هو الاضطراب في الرأى.
__________________
أى : لو خرج هؤلاء
المنافقون معكم أيها المؤمنون إلى تبوك ما زادوكم شيئا من الأشياء إلا اضطرابا في
الرأى ؛ وفسادا في العمل ، وضعفا في القتال ، لأن هذا هو شأن النفوس المريضة التي
تكره لكم الخير ، وتحب لكم الشر.
قال الآلوسى.
والاستثناء مفرغ متصل ، والمستثنى منه محذوف ، ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو
خرجوا زادوه ؛ لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء.
وقال أبو حيان :
إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد
الخبال ، فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب .
وقوله : (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) معطوف على قوله : «ما زادوكم». والإيضاع. كما يقول
القرطبي. سرعة السير قال الراجز.
يا ليتني فيها
جذع
|
|
أخب فيها وأضع
|
يقال : وضع البعير.
إذا أسرع في السير ، وأوضعته. حملته على العدو .
والخلل الفرجة بين
الشيئين. والجمع الخلال ، أى : الفرج التي تكون بين الصفوف وهو هنا ظرف مكان بمعنى
بين ، ومفعول الإيضاع محذوف ، أى. ولأسرعوا بينكم ركائبهم بالوشايات والنمائم
والإفساد.
ففي الكلام
استعارة تبعية ، حيث شبه سرعة إفسادهم لذات البين بسرعة سير الراكب ، ثم استعير
لها الإيضاع وهو الإبل وأصل الكلام ولأوضعوا ركائبهم ، ثم حذفت الركائب.
وجملة (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) في محل نصب على الحال من فاعل (أوضعوا).
أى : لو خرجوا
فيكم ما زادوكم إلا شرا وفسادا ، ولأسرعوا بينكم بالإشاعات الكاذبة ، والأقوال
الخبيثة ، حال كونهم باغين وطالبين لكم الافتتان في دينكم ، والتشكيك في صحة
عقائدكم ، والتثبيط عن القتال ، والتخويف من قوة أعدائكم ، ونشر الفرقة في صفوفكم.
فالمراد بالفتنة
هنا : كل ما يؤدى إلى ضعف المسلمين في دينهم أو في دنياهم.
وقوله : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) بيان لأحوال المؤمنين في ذلك الوقت.
أى. وفيكم. في ذلك
الوقت. يا معشر المؤمنين ، أناس كثير والسماع لهؤلاء المنافقين ، سريعو الطاعة لما
يلقون إليهم من أباطيل.
قال ابن كثير.
قوله : (وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أى : مطيعون لهم ، ومستحسنون
__________________
لحديثهم وكلامهم ،
يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدى إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد
كبير.
وقال مجاهد وزيد
بن أسلم وابن جرير ، (وفيكم سماعون لهم) أى : عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها
إليهم.
وهذا لا يبقى له
اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جمع الأحوال.
والمعنى الأول
أظهر في المناسبة بالسياق. وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
وقال محمد بن
إسحاق : كان الذين استأذنوا ، فيما بلغني ، من ذوى الشرف ، منهم عبد الله بن أبى
بن سلول ، والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله لعلمه بهم أن
يخرجوا فيفسدوا عليه جنده. وكان في جنده قوم أهل محبة لهم ، وطاعة فيما يدعونهم
إليه لشرفهم فقال : (وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ) .
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تذييل المقصود منه وعيد هؤلاء المنافقين وتهديدهم بسبب ما
قدمت أيديهم من مفاسد.
أى : والله ـ تعالى
ـ لا تخفى عليه خافية من أحوال هؤلاء الظالمين ، وسيعاقبهم بالعقاب المناسب
لجرائمهم ورذائلهم.
وبذلك نرى أن
الآية الكريمة قد وضحت أن هناك ثلاث مفاسد كانت ستترتب على خروج هؤلاء المنافقين
مع المؤمنين إلى تبوك.
أما المفسدة
الأولى : فهي زيادة الاضطراب والفوضى في صفوف المجاهدين.
وأما المفسدة
الثانية : فهي الإسراع بينهم بالوشايات والنمائم والإشاعات الكاذبة.
وأما المفسدة
الثالثة : فهي الحرص على تفريق كلمتهم ، وتشكيكهم في عقيدتهم.
وهذه المفاسد
الثلاث ما وجدت في جيش إلا وأدت إلى انهزامه وفشله.
ومن هنا كان تثبيط
الله ـ تعالى ـ لهؤلاء المنافقين ، نعمة كبرى للمؤمنين.
ومن هنا ـ أيضا ـ كانت
الكثرة العددية في الجيوش لا تؤتى ثمارها المرجوة منها ، إلا إذا كانت متحدة في
عقيدتها ، وأهدافها ، واتجاهاتها .. أما إذا كانت هذه الكثرة مشتملة على عدد كبير
من ضعاف الإيمان ، فإنها في هذه الحالة يكون ضررها أكبر من نفعها.
ثم ذكر الله تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم بطرف من الماضي المظلم لهؤلاء المنافقين فقال :
(لَقَدِ
__________________
ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ ،
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ).
أى : لقد ابتغى
هؤلاء المنافقون إيقاع الشرور والمفاسد في صفوف المسلمين ، من قبل ما حدث منهم في
غزوة تبوك.
ومن مظاهر ذلك
أنهم ساءهم انتصاركم في غزوة بدر ، وامتنعوا عن مناصرتكم في غزوة أحد ، متبعين في
ذلك زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول ، ثم واصلوا حربهم لكم سرا وجهرا حتى كانت
غزوة تبوك التي فضح الله فيها أحوالهم.
فالمراد بقوله : (مِنْ قَبْلُ) أى : من قبل هذه الغزوة التي كانت آخر غزوة غزاها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم.
أى أن ما صدر عن
هؤلاء المنافقين من مسالك خبيثة خلال غزوة تبوك ليس هو الأول من نوعه ، بل هم لهم
في هذا المضمار تاريخ مظلم بدأ منذ أوائل عهد الدعوة الإسلامية بالمدينة.
وقوله : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) بيان لتفننهم في وجوه الأذى للنبي صلىاللهعليهوسلم وتقليب الأمر : تصريفه ، وترديده ، وإجالة الرأى فيه ،
والنظر إليه من كل نواحيه : لمعرفة أى ناحية منه توصل إلى الهدف المنشود.
والمراد أن هؤلاء
المنافقين قد ابتغوا الأذى للدعوة الإسلامية من قبل هذه الغزوة ، ودبروا لصاحبها صلىاللهعليهوسلم المكايد ، واستعملوا قصارى جهدهم ، ومنتهى اجتهادهم ،
وخلاصة مكرهم ، من أجل صد الناس عن الحق الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ
اللهِ ..) غاية لمحذوف ، والتقدير : أن هؤلاء المنافقين استمروا على
حربهم للدعوة الإسلامية «حتى جاء الحق» أى : النصر الذي وعد الله عباده به «وظهر
أمر الله» أى : دينه وشرعه «وهم» أى المنافقون وأشباههم «كارهون» لذلك ؛ لأنهم
يكرهون انتصار دين الإسلام ، ويحبون هزيمته وخذلانه ، ولكن الله ـ تعالى ـ خيب
آمالهم ، وأحبط مكرهم.
قال الإمام ابن
كثير : عند ما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة
ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبى ، وأصحابه
: هذا أمر قد توجه ، فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله
غاظهم وساءهم ، ولهذا قال ـ تعالى ـ : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) .
__________________
ثم واصلت السورة
الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة ، ومن أقوالهم
الخبيثة .. فقال ـ تعالى ـ :
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ(٤٩) إِنْ تُصِبْكَ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا
مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ
أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا
إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)(٥٢)
روى محمد بن إسحاق
ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبى بكر ، وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم وهو في جهازه ـ أى لغزوة تبوك ـ للجد بن قيس أخى
بنى سلمة : «هل لك يا جد في جلاد بنى الأصفر»؟ ـ يعنى الروم ـ فقال الجد : يا رسول
الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء منى ،
وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال قد أذنت لك».
ففي الجد بن قيس
نزلت هذه الآية (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) .
أى : ومن هؤلاء
المنافقين الذين لم ينته الحديث عنهم بعد «من يقول» لك ـ يا محمد ـ
__________________
«ائذن لي» في
القعود بالمدينة ، «ولا تفتني» أى ولا توقعني في المعصية والإثم بسبب خروجي معك
إلى تبوك ، ومشاهدتى لنساء بنى الأصفر.
وعبر ـ سبحانه ـ عن
قول هذا المنافق بالفعل المضارع ، لاستحضار تلك الحال لغرابتها ، فإن مثله في
نفاقه وفجوره لا يخشى إثم الافتتان بالنساء إذ لا يجد من دينه مانعا من غشيان
الشهوات الحرام.
وقوله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) رد عليه فيما قال ، وذم له على ما تفوه به.
أى : ألا إن هذا
وأمثاله في ذات الفتنة قد سقطوا ، لا في أى شيء آخر مغاير لها.
وبدأ ـ سبحانه ـ الجملة
الكريمة بأداة التنبيه «ألا» ، لتأكيد الخبر ، وتوجيه الأسماع إلى ما اشتمل عليه
من توبيخ لهؤلاء المنافقين.
وقدم الجار
والمجرور على عامله ؛ للدلالة على الحصر. أى فيها لا في غيرها قد سقطوا وهووا إلى
قاع سحيق.
قال الآلوسى : وفي
التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة
عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين .
وقال الفخرى
الرازي ما ملخصه : «وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في
الفتنة ، فالله ـ تعالى ـ بيّن أنهم في عين الفتنة واقعون ، لأن أعظم أنواع الفتنة
الكفر بالله وبرسوله ، والتمرد على قبول التكاليف التي كلفنا الله بها ..» .
وقوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ) وعيد وتهديد لهم على أقوالهم وأفعالهم.
أى : وإن جهنم
لمحيطة بهؤلاء الكافرين بما جاء من عند الله ، دون أن يكون لهم منها مهرب أو مفر.
وعبر عن إحاطتها
بهم باسم الفاعل الدال على الحال ، لإفادة تحقيق ذلك حتى لكأنه واقع مشاهد.
قالوا : ويحتمل
أنها محيطة بهم الآن ، بأن يراد بجهنم الأسباب الموصلة إليها من الكفر والنفاق
وغير ذلك من الرذائل التي سقطوا فيها.
وقوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ..) بيان لنوع آخر من خبث نواياهم ، وسوء بواطنهم.
__________________
أى : «إن تصبك» يا
محمد حسنة من نصر أو نعمة أو غنيمة ـ كما حدث يوم بدر ـ «تسؤهم» تلك الحسنة ،
وتورثهم حزنا وغما ، بسبب شدة عداوتهم لك ولأصحابك.
«وإن تصبك مصيبة»
من هزيمة أو شدة ـ كما حدث يوم أحد ـ «يقولوا» باختيال وعجب وشماتة «قد أخذنا
أمرنا من قبل».
أى : قد تلافينا
ما يهمنا من الأمر بالحزم والتيقظ ، من قبل وقوع المصيبة التي حلت بالمسلمين ، ولم
نلق بأيدينا إلى التهلكة كما فعل هؤلاء المسلمون.
وقوله : (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) تصوير لحالهم ، ولما جبلوا عليه من شماتة بالمسلمين.
أى : عند ما تصيب
المسلمين مصيبة أو مكروه ، ينصرف هؤلاء المنافقون إلى أهليهم وشيعتهم ـ والفرح
يملأ جوانحهم ـ ليبشروهم بما نزل بالمسلمين من مكروه.
قال الجمل : فإن
قلت : فلم قابل الله الحسنة بالمصيبة ، ولم يقابلها بالسيئة كما قال في سورة آل
عمران : «وإن تصيبكم سيئة يفرحوا بها»؟.
قلت : لأن الخطاب
هنا للنبي صلىاللهعليهوسلم وهي في حقه مصيبة يثاب عليها ، لا سيئة يعاتب عليها ،
والتي في آل عمران خطاب للمؤمنين» .
وقوله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ
اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا ..) إرشاد للرسول صلىاللهعليهوسلم إلى الجواب الذي يكبتهم ويزيل فرحتهم.
أى : «قل» يا محمد
ـ لهؤلاء المنافقين الذين يسرهم ما يصيبك من شر ، ويحزنهم ما يصيبك من خير ،
والذين خلت قلوبهم من الإيمان بقضاء الله وقدره ، قل لهم على سبيل التقريع
والتبكيت. لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا وقدره علينا «هو مولانا» الذي يتولانا
في كل أمورنا ، ونلجأ إليه في كل أحوالنا. وعليه وحده ـ سبحانه نكل أمورنا وليس
على أحد سواه.
وقوله : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا
إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ..) إرشاد آخر للرسول صلىاللهعليهوسلم إلى الجواب الذي يخرس ألسنة هؤلاء المنافقين ويزيل فرحتهم.
وقوله : (تَرَبَّصُونَ) التربص بمعنى الانتظار في تمهل. يقال : فلان يتربص بفلان
الدوائر ، إذا كان ينتظر وقوع مكروه به.
والحسنيان : مثنى
الحسنى. والمراد بهما : النصر أو الشهادة.
__________________
أى : قل يا محمد
لهؤلاء المنافقين ـ أيضا ـ إنكم ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين اللتين كل
واحدة منهما أحسن من جميع العواقب ، وهما إما النصر على الأعداء ، وفي ذلك الأجر
والمغنم والسلامة ، وإما أن نقتل بأيديهم وفي ذلك الشهادة والفوز بالجنة والنجاة
من النار.
قال الآلوسى :
والحاصل أن ما تنتظرونه بنا ـ أيها المنافقون ـ لا يخلو من أحد هذين الأمرين ، كل
منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصيبنا من القتل في الغزو سوء ، ولذلك
سررتم به.
وصح من حديث أبى
هريرة عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «تكفل الله ـ تعالى ـ لمن جاهد في سبيله لا يخرجه
من بيته إلا الجهاد في سبيله ، وتصديق كلمته أن يدخله الجنة. أو يرجعه إلى مسكنه
الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة» .
وقوله : (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) بيان لما ينتظر المؤمنون وقوعه بالمنافقين.
أى : ونحن معشر
المؤمنين نتربص بكم أيها المنافقون إحدى السوءيين من العواقب : إما أن يصيبكم الله
بعذاب» كائن «من عنده» فيهلككم كما أهلك الذين من قبلكم ، وإما أن يصيبكم بعذاب
كائن «بأيدينا» بأن يأذن لنا في قتالكم وقتلكم.
والفاء في قوله : (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ
مُتَرَبِّصُونَ) للإفصاح.
أى إذا كان الأمر
كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا ، فإنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم ، وسترون أن
عاقبتنا على كل حال هي الخير ، وأن عاقبتكم هي الشر.
وبذلك ترى أن هذه
الآيات الكريمة ، قد حكت طرفا من رذائل المنافقين ومن مسالكهم الخبيثة لكيد الدعوة
الإسلامية ، وردت عليهم بما يكبتهم ، ويفضحهم على رءوس الأشهاد.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أن هؤلاء المنافقين نفقاتهم غير مقبولة ، لأن قلوبهم خالية من الإيمان.
ولأن عباداتهم
ليست خالصة لوجه الله ، وأن ما ينفقونه سيكون عليهم حسرة فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً
فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ
وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ
إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٥٥)
روى أن بعض
المنافقين قال للنبي صلىاللهعليهوسلم عند ما دعاهم إلى
الخروج معه إلى تبوك : ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به ، فنزل قوله ـ تعالى
ـ : (قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ..).
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء ؛ أنفقوا ما شئتم من أموالكم في وجوه الخير حالة كونكم طائعين ، أى :
من غير إجبار أحد لكم ، أو كارهين ، أى بأن تجبروا على هذا الإنفاق إجبارا ، فلن
يقبل منكم ذلك الإنفاق.
والكلام وإن كان
قد جاء في صورة الأمر ، إلا أن المراد به الخبر وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف
بقوله.
فإن قلت : كيف
أمرهم بالإنفاق ثم قال : (لَنْ يُتَقَبَّلَ
مِنْكُمْ)؟
قلت : هو أمر في
معنى الخبر ، كقوله ـ تعالى ـ (قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله
ـ تعالى ـ : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وقول الشاعر.
أسيئى بنا أو
أحسني لا ملومة
|
|
لدينا ولا مقلية
إن تقلت
|
أى : لن يغفر الله
لهم ، استغفرت لهم .. أم لم تستغفر لهم. ولا نلومك سواء أسأت إلينا أم أحسنت ... .
__________________
وجاء الكلام في
صورة الأمر ، للمبالغة في تساوى الأمرين ، وعدم الاعتداد بنفقتهم سواء أقدموها عن
طواعية أم عن كراهية.
وقوله : (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) بيان لثمرة إنفاقهم. أى : لن يتقبل منكم ما أنفقتموه ، ولن
تنالوا عليه ثوابا.
وقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل لعدم قبول نفقاتهم.
أى : لن تقبل منكم
نفقاتكم بسبب عتوكم في الكفر ، وتمردكم على تعاليم الإسلام وخروجكم عن الطاعة
والاستقامة.
قال القرطبي ما
ملخصه. وفي الآية دليل على أن أفعال الكافر إذا كانت برا كصلة القرابة ، وجبر
الكسير ، وإغاثة الملهوف ، لا يثاب عليها ، ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه
يطعم بها في الدنيا.
دليله ما رواه
مسلم عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في
الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه؟
قال : لا ينفعه ،
إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وروى عن أنس قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى
بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا ، حتى إذا
أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» .
وقال الجمل : وهذه
الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين ، فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير
وجه الله ، بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه .
ثم بين ـ سبحانه ـ
على سبيل التفصيل لمظاهر فسقهم ـ أن هناك ثلاثة أسباب أدت إلى عدم قبول نفقاتهم.
أما السبب الأول
فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ
..).
أى : وما منعهم
قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله ـ تعالى ـ ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
فالاستثناء من أهم
الأشياء. والضمير في «منعهم» هو المفعول الأول للفعل ، وقوله :
__________________
(أَنْ تُقْبَلَ) هو المفعول الثاني ، لأن الفعل «منع» يتعدى لمفعولين تارة
بنفسه كما هنا ، وتارة يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف الجر وهو حرف «من» أو «عن».
والفاعل ما في حيز
الاستثناء وهو قوله : (إِلَّا أَنَّهُمْ
كَفَرُوا ..).
وأما السبب الثاني
فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَلا يَأْتُونَ
الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى).
ولفظ «كسالى». جمع
كسلان ، مأخوذ من الكسل بمعنى التثاقل عن الشيء ، والفتور عن أدائه. وفعله بزنة
فرح.
أى : ولا يأتون
الصلاة التي كتبها الله عليهم في حال من الأحوال ، إلا في حال كونهم قوم خلت
قلوبهم من الإيمان ، فصاروا لا يرجون من وراء أدائها ثوابا ولا يخشون من وراء
تركها عقابا ، وإنما يؤدونها رياء أو تقية للمسلمين.
وشبيه بهذه الجملة
الكريمة قوله ـ تعالى ـ في سورة النساء : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
، يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).
وأما ، السبب
الثالث فقد عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ
إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ).
أى. ولا ينفقون
نفقة في سبيل الله إلا وهم كارهون لها لأنهم يعدونها مغرما ، ويعتبرون تركها مغنما
، وما حملهم على الإنفاق إلا الرياء أو المخادعة أو الخوف من انكشاف أمرهم ،
وافتضاح حالهم.
قال صاحب الكشاف :
فإن قلت : الكراهية خلاف الطواعية ، وقد جعلهم الله ـ تعالى ـ طائعين في قوله «طوعا»
ثم وصفهم هنا بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون فكيف ذلك؟
قلت : المراد
بطوعهم أنهم يبذلون نفقتهم من غير إلزام من رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار ، لا
عن رغبة واختيار .
أى : أن نفقتهم في
جميع الأحوال لا يقصد بها الاستجابة لشرع الله ، وإنما يقصد بها الرياء أو
المخادعة ، أو خدمة مصالحهم الخاصة.
ثم نهى الله ـ تعالى
ـ المؤمنين في شخص نبيهم صلىاللهعليهوسلم عن التطلع إلى ما في أيدى هؤلاء المنافقين فقال. (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ ..).
__________________
والإعجاب بالشيء
معناه : أن تسر به سرورا يجعلك راضيا به ومتمنيا له ، والفاء في قوله : (فَلا تُعْجِبْكَ) للإفصاح.
أى إذا كان هذا هو
شأن المنافقين ، فلا تستحسن. أيها العاقل. ما أعطيناهم إياه من أموال وأولاد ،
فإنه نوع من الاستدراج.
وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) تعليل للنهى عن الإعجاب بما أعطاهم الله من أموال وأولاد.
أى : إنما يريد
الله بعطائهم تلك الأموال والأولاد أن يعذبهم بها في الحياة الدنيا ، وقد بسط
الإمام الرازي مظاهر تعذيب المنافقين في الدنيا بالأموال والأولاد فقال ما ملخصه :
المنافقون يعذبهم
الله بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا من وجوه :
أحدها : أن الرجل
إذا آمن بالله واليوم الآخر ، علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا ، وبهذا العلم يفتر
حبه للدنيا ، وأما المنافق فإنه لما اعتقد أنه لا سعادة له إلا في هذه الخيرات
العاجلة ، عظمت رغبته فيها ، واشتد حبه لها ، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها
أكثر في حقه .. فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب الأموال والأولاد.
وثانيا : أن النبي
صلىاللهعليهوسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ، ويكلفهم. إرسال
أولادهم إلى الجهاد والغزو ، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل ، وهم كانوا يعتقدون
أن محمدا ليس صادقا في كونه رسول ، وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها
من غير فائدة وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ،
ولا شك أن هذا كله تعذيب لهم.
وثالثا : أنهم
كانوا يبغضون محمدا صلىاللهعليهوسلم بقلوبهم ، ثم إنهم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم
في خدمته. ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة عليهم.
ورابعا : أنهم
كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهورا تاما ، فيصيرون أمثال سائر
أهل الحرب من الكفار. وحينئذ يتعرض الرسول صلىاللهعليهوسلم لهم بالقتل وسبى الأولاد .. وكل ذلك يوجب ألمهم وقلقهم.
وخامسا : أن كثيرا
من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبى عامر وعبد الله بن عبد الله بن
أبى .. وكانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ، ويقدحون فيهم.
والابن إذا صار
هكذا عظم تأذى الأب به ، واستيحاشه منه ، فصار حصول تلك الأولاد سببا لعذابهم .. .
__________________
وقوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كافِرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان عذابهم في الدنيا.
وزهوق النفس :
خروجها من الجسد بصعوبة ومشقة. يقال : زهقت نفسه تزهق إذا خرجت ، وزهق الشيء إذا
هلك واضمحل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ ...).
والمعنى : لا
تعجبك ـ أيها العاقل ـ أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم
بها في الحياة الدنيا ، ويريد كذلك أن تخرج أرواحهم من أجسادهم وهم كافرون ،
فيعذبهم بسبب كفرهم عذابا أليما.
فأنت ترى أن الآية
الكريمة قد توعدت المنافقين بسوء المصير في الآخرة ولن يحسد إنسان مصيره كهذا
المصير.
قال الإمام الرازي
: ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه ، فإنه ـ سبحانه ـ لما
بين قبائح أفعالهم ، وفضائح أعمالهم ، بين ما لهم في الآخرة من العذاب الشديد ، وما
لهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية ، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال
البر لا ينتفعون به يوم القيامة ألبتة ثم بين في هذه الآية أن ما يظنونه من منافع
الدنيا ، فهو في حقيقته سبب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم ، وعند ذلك يظهر
أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدنيا والدين ، ومبطل لجميع الخيرات في الدين
والدنيا ...» .
وبعد أن بينت
السورة الكريمة أن هؤلاء المنافقين قد خسروا الدنيا والآخرة ، أتبعت ذلك بالحديث
عن رذائلهم وقبائحهم التي على رأسها الجبن والكذب فقال ـ تعالى ـ :
(وَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
(٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ
أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)(٥٧)
أى : أن هؤلاء
المنافقين يحلفون بالله لكم ـ أيها المؤمنون ـ «إنهم لمنكم» أى : في الدين والملة
، والحق أنهم ما هم منكم ، لأنهم يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ، فهم كما وصفهم ـ سبحانه
ـ في قوله : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ
إِنَّكَ
__________________
لَرَسُولُهُ
، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ
جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).
وقوله : (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) استدراك للرد عليهم فيما قالوه وأقسموا عليه كذبا وزورا.
وقوله : (يَفْرَقُونَ) من الفرق ، بمعنى الفزع الشديد من أمر يتوقع حصوله.
يقال : فرق فرقا
إذا اشتد خوفه وهلعه.
أى : أن هؤلاء
المنافقين لشدة خوفهم وهلعهم ـ أيها المؤمنون ـ يحلفون لكم كذبا وزورا بأنهم منكم
، والحق أنهم ما هم منكم ، ولكنهم قوم جبناء. لا يستطيعون مصارحتكم بالعداوة ، ولا
يجرؤون على مجابهتكم بما تخفيه قلوبهم لكم من بغضاء.
وقوله ـ سبحانه ـ :
(لَوْ يَجِدُونَ
مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ ...) تأكيد لما كان عليه أولئك المنافقون من جبن خالع.
والملجأ : اسم
للمكان الذي يلجأ إليه الخائف ليحتمى به سواء أكان حصنا أو قلعة أو غيرهما.
والمغارات : جمع
مغارة وهي المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل. قال بعضهم : والغور ـ بفتح الغين
ـ من كل شيء قعره. يقال : غار الرجل غورا إذا أتى الغور وهو المنخفض من الأرض .
والمدخل ـ بتشديد
الدال اسم للموضع الذي يدخلون فيه ، بصعوبة ومشقة لضيقه ، كالنفق في الأرض.
وقوله : (يَجْمَحُونَ) أى : يسرعون أشد الإسراع مأخوذ من الجموح وهو أن يغلب
الفرس صاحبه في سيره وجريه. يقال : جمح الفرس براكبه جموحا ، إذا استعصى عليه حتى
غلبه.
والمعنى : أن
هؤلاء المنافقين لو يجدون حصنا يلتجئون إليه أو مغارات يستخفون فيها. أو سردابا في
الأرض ينجحرون فيه ، لأقبلوا نحوه مسرعين أشد الإسراع دون أن يردهم شيء ، كالفرس
الجموح الذي عجز صاحبه عن منعه من النفور والعدو.
فالآية الكريمة
تصوير معجز لما كان عليه أولئك المنافقون من خوف شديد من المؤمنين ،
__________________
ومن بغض دفين لهم
، حتى إنهم لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة ـ التي هي منفور منها ـ لأسرعوا نحوها
إسراعا شديدا.
ثم تمضى السورة
بعد ذلك في الكشف عن الأقوال المنكرة ، والأفعال القبيحة التي كانت تصدر عن
المنافقين فتقول.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا
مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
وَلَوْ
أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ
سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)(٥٩)
قال الإمام الرازي
: اعلم أن المقصود من هذا ، شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم ، وهو طعنهم في
الرسول صلىاللهعليهوسلم بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ، ويقولون إنه يؤثر بها من
يشاء من أقاربه وأهل مودته ، وينسبونه إلى أنه لا يراعى العدل ، .
هذا ، وقد ذكر
المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها :
ما أخرجه البخاري
والنسائي عن أبى سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ قال : بينما النبي صلىاللهعليهوسلم يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا
رسول الله ، فقال : «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل»؟ ، فقال عمر بن الخطاب ـ رضى
الله عنه ـ : ائذن لي فأضرب عنقه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه
مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية ...».
قال أبو سعيد ،
فنزلت فيهم : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ..).
وروى ابن مردويه
عن ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : «لما قسم النبي صلىاللهعليهوسلم غنائم حنين سمعت رجلا يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه
الله. فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم
__________________
فذكرت له ذلك فقال
: «رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر». ونزل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقاتِ) .
وقوله : (يَلْمِزُكَ) أى : يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات وغيرها من الأموال
، مأخوذ من اللمز وهو العيب. يقال لمزة وهمزة يلمزه ويهمزه إذا عابه وطعن عليه ،
ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).
وقيل : اللمز ما
كان يحضره الملموز ، والهمز ما كان في غيابه.
والمعنى : ومن
هؤلاء المنافقين ـ يا محمد ـ من يعيبك ويطعن عليك في قسمة الصدقات والغنائم ،
زاعمين أنك لست عادلا في قسمتك.
وقوله : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ...) بيان لفساد لمزهم وطعنهم ، وأن الدافع إليه إنما هو الطمع
والشره في حطام الدنيا ، وليس الغضب من أجل إحقاق الحق : أو من أجل نشر العدالة
بين الناس.
أى : أن هؤلاء
المنافقين إن أعطيتهم. يا محمد. من تلك الصدقات ، رضوا عنك ، وحكموا على هذا
العطاء بأنه عدل حتى ولو كان ظلما ، وإن لم تعطهم منها سخطوا عليك ، واتهموك بأنك
غير عادل ، حتى ولو كان عدم عطائهم هو الحق بعينه ، فهم لا يقولون ما يقولونه فيك
غضبا للعدل ، ولا حماسة للحق ، ولا غيرة على الدين .. وإنما يقولون ما يقولون من
أجل مطامعهم الشخصية ، ومنافعهم الذاتية.
قال الجمل. وقوله (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) إذا هنا فجائية ، قائمة مقام فاء الجزاء في الربط على حد
قوله : «وتخلف الفاء إذا المفاجأة». والأصل. فهم يسخطون ، وغاير. سبحانه. بين جوابي
الجملتين ، للاشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم .
وقال صاحب المنار.
وقد عبر ـ سبحانه ـ عن رضاهم بصيغة الماضي : للدلالة على أنه كان يكون لأجل العطاء
في وقته وينقضي ، فلا يعدونه نعمة يتمنون دوام الإسلام لدوامها ، وعبر عن سخطهم
بإذا الفجائية وبالفعل المضارع ، للدلالة على سرعته واستمراره. وهذا دأب المنافقين
وخلقهم في كل زمان ومكان ، كما نراه بالعيان حتى من مدعى كمال الإيمان ، والعلم
والعرفان .
__________________
ثم وضح ـ سبحانه ـ
: المنهج الذي يليق بأصحاب العقيدة السليمة فقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ..).
أى. ولو أن هؤلاء
المنافقين الذين يلمزونك. يا محمد. في الصدقات ، رضوا ما أعطاهم الله ورسوله من
عطاء ، وقالوا ـ على سبيل الشكر والقناعة ـ «حسبنا الله» أى : كفانا فضله وما قسمه
لنا ، «سيؤتينا الله من فضله ورسوله» أى : سيعطينا الله في المستقبل الكثير من
فضله وإحسانه ، وسيعطينا رسوله من الصدقات وغيرها «إنا إلى الله راغبون» أى : إنا
إلى الله راغبون في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقات وغيرها من أموال
الناس ومن صلاتهم ، لأنه ـ سبحانه ـ له خزائن السموات والأرض.
وجواب «لو» محذوف.
والتقدير : ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم.
قال الإمام الرازي
ما ملخصه : والآية تدل على أن من طلب الدنيا ـ بطمع وشراهة ـ آل أمره في الدين إلى
النفاق ، وأما من طلب الدنيا بتوسط وبغرض التوسل إلى مصالح الدين ، فهذا هو الطريق
الحق ، والأصل في هذا الباب أن يكون راضيا بقضاء الله.
ألا ترى أنه ـ سبحانه
ـ ذكر هنا في هذه الآية مراتب أربعة :
أولها : الرضا بما
آتاهم الله ورسوله ، لعلمه بأنه ـ تعالى ـ حكم منزه عن العبث ، وكل ما كان حكما له
وقضاء كان حقا وصوابا ولا اعتراض عليه.
وثانيها : أن يظهر
أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم : «حسبنا الله» يعنى : أن غيرنا أخذ المال ،
ونحن قد رضينا بحكم الله وقضائه. وفزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية.
وثالثها : وهي أن
الإنسان إذا لم يبلغ تلك الدرجة العالية التي عندها يقول : «حسبنا الله» ، نزل
منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول : «سيؤتينا الله من فضله ورسوله».
ورابعها : أن يقول
: «إنا إلى الله راغبون» فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال ، وإنما
نطلب اكتساب سعادات الآخرة .. .
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ المنهج اللائق بأصحاب العقيدة السليمة في طلب الدنيا عقب ذلك ببيان المستحقين
للصدقات فقال ـ تعالى ـ.
__________________
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ
السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠)
قال الإمام ابن
كثير. لما ذكر الله ـ تعالى ـ اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلىاللهعليهوسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات. بين ـ سبحانه ـ أنه هو الذي
قسمها ، وبين حكمها ، وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها
لهؤلاء المذكورين ، كما رواه أبو داود في سنته عن زياد بن الحارث الصدائى قال.
أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال. أعطنى من الصدقة فقال له. «إن
الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره. في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف
، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» .
والمراد بالصدقات
هنا ـ عند كثير من العلماء ـ الزكاة المفروضة.
ولفظ الصدقات.
مبتدأ ، والخبر محذوف ، والتقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء والمساكين ...
إلخ.
والفقراء. جمع
فقير ، وهو من له أدنى شيء من المال. أو هو من لا يملك المال الذي يقوم بحاجاته
الضرورية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.
يقال فقر الرجل
يفقر ـ من باب تعب ـ إذا قل ماله.
قالوا : وأصل
الفقير في اللغة : الشخص الذي كسر فقار ظهره ، ثم استعمل فيمن قل ماله لانكساره
بسبب احتياجه إلى غيره.
أو هو من الفقرة
بمعنى الحفرة ، ثم استعمل فيما ذكر لكونه أدنى حالا من أكثر الناس ، كما أن الحفرة
أدنى من مستوى سطح الأرض المستوية.
والمساكين : جمع
مسكين ، وهو من لا شيء له ، فيحتاج إلى سؤال الناس لسد حاجاته ومطالب حياته.
__________________
وهو مأخوذ من
السكون الذي هو ضد الحركة ، لأن احتياجه إلى غيره أسكنه وأذله.
وقيل. المسكين هو
الذي له مال أو كسب ولكنه لا يكفيه ، وعلى هذا يكون قريب الشبه بالفقير.
وقوله : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) بيان للصنف الثالث من الأصناف الذين تجب لهم الزكاة.
والمراد بهم. من
كلفهم الإمام بجمع الزكاة وتحصيلها ممن يملكون نصابها.
ويدخل فيهم العريف
، والحاسب ، والكاتب ، وحافظ المال ، وكل من كلفه الإمام أو نائبه بعمل يتعلق بجمع
الزكاة أو حفظها ، أو توزيعها.
وقوله. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) بيان للصنف الرابع.
والمراد بهم
الأشخاص الذين يرى الإمام دفع شيء من الزكاة إليهم تأليفا لقلوبهم ، واستمالة
لنفوسهم نحو الإسلام ، لكف شرهم ، أو لرجاء نفعهم ، وهم أنواع :
منهم قوم من
الكفار ، كصفوان بن أمية ، فقد أعطاه النبي صلىاللهعليهوسلم من غنائم حنين ، وكان صفوان يومئذ كافرا ، ثم أسلم وقال :
والله لقد أعطانى النبي صلىاللهعليهوسلم وكان أبغض الناس إلى ، فما زال يعطيني. حتى أسلمت وإنه
لأحب الناس إلى.
ومنهم قوم كانوا
حديثي عهد بالإسلام وكانوا من ذوى الشرف في أقوامهم فكان النبي صلىاللهعليهوسلم يعطيهم ، ليثبت إيمانهم ، وليدخل معهم في الإسلام أتباعهم.
ومن أمثلة ذلك ما
فعله الرسول صلىاللهعليهوسلم مع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، والزبرقان بن بدر ، فقد
أعطاهم صلىاللهعليهوسلم لمكانتهم في عشيرتهم ، ولشرفهم في أقوامهم. وليدخل معهم في
الإسلام غيرهم.
ومنهم قوم كانوا
ضعاف الإيمان ، فكان صلىاللهعليهوسلم يعطيهم تأليفا لقلوبهم ، وتقوية لإيمانهم. لكي لا يسرى ضعف
إيمانهم إلى غيرهم.
ومن أمثلة هذا
الصنف العباس بن مرداس السلمى ، فقد أعطاه النبي صلىاللهعليهوسلم تأليفا لقلبه ، وتثبيتا لإيمانه.
والخلاصة أن النبي
صلىاللهعليهوسلم كان يتألف قلوب بعض الناس بالعطاء ، دفعا لشرهم ، أو أملا
في نفعهم ، أو رجاء هدايتهم.
وقوله : (وَفِي الرِّقابِ) بيان لنوع خامس من
مصارف الزكاة. وفي الكلام مجاز بالحذف ، والتقدير : وتصرف الصدقات أيضا في فك
الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها
على أداء بدل
الكتابة ؛ لكن يصيروا أحرارا. أو بأن يشترى بجزء منها عددا من العبيد لكي يعتقوا
من الرق.
وذلك لأن الإسلام
يحبب أتباعه في عتق الرقاب ، وفي مساعدة الأرقاء على أن يصيروا أحرارا.
وقوله : «والغارمين»
من الغرم بمعنى الملازمة للشيء ومنه قوله. تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ
غَراماً) أى : عذاب جهنم كان ملازما لأهلها من الكافرين.
والمراد بالغارمين
: من لزمتهم الديون في غير معصية لله ، ولا يجدون المال الذي يدفعونه لدائنيهم ،
فيعطون من الزكاة ما يعينهم على سداد ديونهم.
وقوله : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) بيان لنوع سابع من مصارف الزكاة.
والسبيل : الطريق
الذي فيه سهولة ، وجمعه سبل. وأضيف إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه هو السبيل الحق
الذي لا يحوم حوله باطل ، وهو الذي يوصل السائر فيه إلى مرضاة الله ومثوبته.
أى : وتصرف
الصدقات في سبيل الله ، يدفع جزء منها لمساعدة المجاهدين والغزاة والفقراء الذين
خرجوا لإعلاء كلمة الله.
قال بعض العلماء
ما ملخصه : قال أبو حنيفة ومالك والشافعى. يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية
الكريمة إلى الغزاة .. ، لأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل
الله هو الغزو ، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك.
وقال الإمام أحمد
: يجوز صرف سبيل الله إلى مريد الحج.
وقال بعضهم. يجوز
صرف سبيل الله إلى طلبة العلم.
وفسره بعضهم بجميع
القربات. فيدخل فيه جميع وجوه الخير ، مثل تكفين الموتى ، وبناء القناطر ، والحصون
، وعمارة المساجد «وفي سبيل الله» عام في الكل .. .
وقوله : (وَابْنِ السَّبِيلِ) بيان للصنف الثامن والأخير من الأصناف الذين هم مصارف
الزكاة.
والمراد بابن
السبيل : المسافر المنقطع عن ماله في سفره. ولو كان غنيا في بلده ، فيعطى من
الزكاة ما يساعده على بلوغ موطنه.
وقد اشترط العلماء
لابن السبيل الذي يعطى من الصدقة ، أن يكون سفره في غير معصية
__________________
الله. فإن كان في
معصية لم يعط : لأن إعطاءه يعتبر إعانة له على المعصية ، وهذا لا يجوز.
وقد ألحقوا بابن
السبيل ، كل من غاب عن ماله ، ولو كان في بلده.
وقوله. فريضة من
الله ، منصوب بفعل مقدر أى : فرض الله لهم هذه الصدقات فريضة ، فلا يصح لكم أن
تبخلوا بها عنهم ، أو تتكاسلوا في إعطائها لمستحقيها.
فالجملة الكريمة
زجر للمخاطبين عن مخالفة أحكامه. سبحانه.
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل قصد به بيان الحكمة من فرضية الزكاة.
أى : والله ـ تعالى
ـ عليم بأحوال عباده ، ولا تخفى عليه خافية من تصرفاتهم ، حكيم في كل أوامره
ونواهيه ، فعليكم. أيها المؤمنون. أن تأتمروا بأوامره ، وأن تنتهوا عن نواهيه
لتنالوا رضاه.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
١ ـ أن المراد
بالصدقات هنا ما يتناول الزكاة المفروضة وغيرها من الصدقات المندوبة ، وذلك لأن
اللفظ عام فيشمل كل صدقة سواء أكانت واجبة أم مندوبة ، ولأن لفظ الصدقة في عرف
الشرع وفي صدر الإسلام ، كان يشمل الزكاة المفروضة ، والصدقة المندوبة ، ويؤيده
قوله ـ تعالى ـ : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).
ومن العلماء من
يرى أن المراد بالصدقات في الآية : الزكاة المفروضة ، لأن (أل) في الصدقات للعهد
الذكرى والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار إليها القرآن. بقوله قبيل هذه
الآية. (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية
كبناء المساجد والمدارس.
ويبدو لنا أن لفظ
الصدقات في الآية عام بحيث يتناول كل صدقة ، إلا أن الزكاة المفروضة تدخل فيه
دخولا أوليا.
٢ ـ قال بعض
العلماء : ظاهر الآية يقضى بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان.
الأول. ما يقتضيه
اللفظ اللغوي ، إن قلنا. الواو للجمع والتشريك.
والثاني. ما رواه
أبو داود في سنته من قوله صلىاللهعليهوسلم «إن الله لم يرض
بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء».
وقد ذهب إلى هذا
الشافعى وعكرمة والزهري ، إلا إن استغنى أحدهما فتدفع إلى الآخرين بلا خلاف.
وذهبت طوائف إلى
جواز الصرف في صنف واحد. منهم عمر وابن عباس وعطاء وابن جبير ومالك وأبو حنيفه.
قال في التهذيب :
وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر بوجوه :
الأول : أن الله ـ
تعالى ـ قال في سورة البقرة : (وَإِنْ تُخْفُوها
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها.
الثاني : الخبر ،
وهو قوله صلىاللهعليهوسلم لمعاذ : «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ
من أغنيائهم وترد في فقرائهم.
الثالث : حديث
سلمة بن صخر. فإنه صلىاللهعليهوسلم جعل له صدقة بنى زريق.
الرابع : أنه لم
يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .
٣ ـ يرى جمهور
العلماء أن الفقراء والمساكين صنفان من مصارف الزكاة لأن الله.
ـ تعالى ـ قد ذكر
كل صنف منهما على حدة ، إلا أنهم اختلفوا في أيهما أسوأ حالا من الآخر.
فالشافعية يرون أن
الفقير أسوأ حالا من المسكين.
ومن أدلتهم على
ذلك ، أن الله. تعالى. بدأ في الآية بالفقراء ، وهذا البدء. يشير إلى أنهم أشد
حاجة من غيرهم ، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم.
ولأن لفظ الفقير
أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره ؛ فلا يستطيع التكسب ، ومعلوم
أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال.
ولأن الله. تعالى.
وصف بالمسكنة من كانت له سفينة من سفن البحر فقال : (أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ..) .
أما الأحناف
والمالكية فيرون أن المسكين أسوأ حالا من الفقير.
ومن أدلتهم على
ذلك : أن علماء اللغة عرفوا المسكين بأنه أسوأ حالا من الفقير ، وإلى هذا ذهب
يعقوب بن السكيت ، والقتبى ، ويونس بن حبيب.
ولأن الله ـ تعالى
ـ وصف المسكين وصفا يدل على البؤس والفاقة فقال : (أَوْ مِسْكِيناً ذا
مَتْرَبَةٍ) أى : مسكينا ذا حاجة شديدة ، حتى لكأنه قد لصق بالتراب من
شدة الفاقة ، ولم يصف الفقير بذلك .. .
__________________
قال بعض العلماء :
وأنت إذا تأملت أدلة الطرفين وجدت أنها متعارضة ومحل نظر ، وأياما كان فقد اتفق
الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان.
وروى عن أبى يوسف
ومحمد أنهما صنف واحد واختاره الجبائي ، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم.
وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ؛ فمن قال إنهما صنف
واحد جعل لفلان نصف الموصى به ، ومن قال إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك .
٤ ـ ظاهر الآية
يدل على أن الزكاة يجوز دفعها لكل من يشمله اسم الفقير والمسكين ، إلا أن هذا
الظاهر غير مراد ؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد قيدت هذا الإطلاق.
قال القرطبي :
اعلم أن قوله ـ تعالى ـ : (لِلْفُقَراءِ) مطلق ليس فيه شرط وتقييد ، بل فيه دلالة على جواز الصرف
إلى جملة الفقراء ، سواء أكانوا من بنى هاشم أم من غيرهم ، إلا أن السنة وردت
باعتبار شروط ، منها : ألا يكونوا من بنى هاشم ، وألا يكونوا ممن تلزم المتصدق
نفقته ، وهذا لا خلاف فيه.
وشرط ثالث ألا
يكون قويا على الاكتساب ؛ لأنه صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تحل الصدقة لغنى ، ولا لذي مرة سوى».
ولا خلاف بين
علماء المسلمين في أن الصدقة المفروضة لا تحل للنبي صلىاللهعليهوسلم ولا لبنى هاشم ولا لمواليهم .. .
وكذلك لا يصح أن
تعطى لغير المسلمين ، ففي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : «أعلمهم أن عليهم صدقة
تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» فاقتضى ذلك ان الصدقة مقصورة على فقراء
المسلمين.
إلا أنه نقل عن
أبى حنيفة جواز دفع صدقة الفطر إلى الذمي.
٥ ـ أخذ بعض
العلماء من قوله ـ تعالى ـ (وَالْعامِلِينَ
عَلَيْها) أنه يجب على الإمام أن يرسل من يراه أهلا لجمع الزكاة ممن
تجب عليهم.
وقد تأكد هذا
الوجوب بفعل النبي صلىاللهعليهوسلم فقد ثبت في أحاديث متعددة أنه أرسل بعض الصحابة لجمع الزكاة.
__________________
روى البخاري عن
أبى حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجلا على صدقات بنى سليم يدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه
.
٦ ـ أخذ بعض
العلماء ـ أيضا ـ من قوله ـ تعالى ـ (وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ) أن حكمهم باق ، لأنهم قد ذكروا من بين مصارف الزكاة ، ولأن
الرسول صلىاللهعليهوسلم قد أعطاهم ، فيعطون عند الحاجة.
قال الإمام
القرطبي ما ملخصه : واختلف العلماء في بقاء المؤلفة قلوبهم.
فقال عمر والحسن
والشعبي وغيرهم : انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره.
وهذا مشهور من
مذهب مالك وأصحاب الرأى.
قال بعض علماء
الحنفية. لما أعز الله الإسلام وأهله ، أجمع الصحابة في خلافة أبى بكر على سقوط
سهمهم.
وقال جماعة من
العلماء : هم باقون لأن الإمام ربما احتاج أن يستألف على الإسلام وإنما قطعهم عمر
لما رأى من إعزاز الدين.
وقال ابن العربي.
الذي عندي أنه إن قوى الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يعطيهم ، فإن في الصحيح «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ»
.
والذي يبدو لنا أن
ما قاله ابن العربي أقرب الأقوال إلى الصواب لأن مسألة إعطاء المؤلفة قلوبهم تختلف
باختلاف الأحوال ؛ فإن كان الإمام يرى أن من مصلحة الإسلام إعطاءهم أعطاهم ، وإن
كانت المصلحة في غير ذلك لم يعطهم.
٧ ـ دلت الآية
الكريمة على أن الزكاة ركن من أركان الإسلام ، لقوله تعالى «فريضة من الله».
قال بعض العلماء
ما ملخصه ، تلك هي فريضة الزكاة. ليست أمر الرسول وإنما هي أمر الله وفريضته
وقسمته وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين.
وهذه الزكاة تؤخذ
من الأغنياء على أنها فريضة من الله ، وترد على الفقراء على أنها فريضة من الله ،
وهي محصورة في طوائف من الناس عينهم القرآن وليست متروكة لاختيار أحد حتى ولا
اختيار الرسول نفسه.
__________________
وبذلك تأخذ الزكاة
مكانها في شريعة الله ، ومكانها في النظام الإسلامى ، لا تطوعا ولا تفضلا ممن فرضت
عليهم ، فهي فريضة محتمة ، ولا منحة ولا جزافا من القاسم الموزع فهي فريضة معلومة.
إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدى بها خدمة
اجتماعية محدودة. وهي. ليست إحسانا من المعطى ، وليست شحاذة من الآخذ ، كلا فما
قام النظام الاجتماعى في الإسلام على التسول ولن يقوم.
إن قوام الحياة في
النظام الإسلامى هو العمل ـ بكل صنوفه وألوانه ـ على الدولة المسلمة أن توفر العمل
لكل قادر عليه.
والزكاة ضريبة
تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين ، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع
، متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح ، منفذا شريعة الله لا يبتغى له شرعا
ولا منهجا سواه.
إن فريضة الزكاة
تؤدى في صورة عبادة إسلامية ، ليطهر الله بها القلوب من الشح ، وليجعلها شرعة
تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة.
إنها فريضة من
الله ، الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، ويدير أمرها بالحكمة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
وبعد هذا الحديث
عن الصدقات التي كان المنافقون يلمزون الرسول صلىاللهعليهوسلم فيها ، أخذت السورة في مواصلة حديثها عن رذائل المنافقين ،
وعن سوء أدبهم .. فقال تعالى ـ :
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦١)
روى المفسرون في
سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن السدى أنها نزلت في
جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد بن صامت ورفاعة ابن عبد المنذر ،
__________________
ووديعة بن ثابت
وغيرهم ، قالوا مالا ينبغي في حقه صلىاللهعليهوسلم.
فقال رجل منهم لا
تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا ما تقولونه فيقع فينا. فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ،
ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا أذن .
فمرادهم بقولهم «هو
أذن» أى : كثير الاستماع والتصديق لكل ما يقال له.
قال صاحب الكشاف :
الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد ، سمى بالجارحة التي هي
آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للربيئة ـ أى الطليعة ـ عين» .
وقال بعضهم : «الأذن»
الرجل المستمع القابل لما يقال له. وصفوا به الذكر والأنثى والواحد والجمع. فيقال
: رجل أذن ، وامرأة أذن ورجال ونساء أذن ، فلا يثنى ولا يجمع. إنما سموه باسم
العضو تهويلا وتشنيعا فهو مجاز مرسل أطلق فيه الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته ـ لفرط
استماعه ـ آلة السماع ، كما سمى الجاسوس عينا لذلك» .
والمعنى : ومن
هؤلاء المنافقين قوم يؤذون النبي صلىاللهعليهوسلم فيقولون عنه أنه كثير السماع والتصديق لكل ما يقال له بدون
تمييز بين الحق والباطل.
وقوله : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) رد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويكبت أنفسهم وهو من قبيل إضافة
الموصوف إلى الصفة على سبيل المبالغة في المدح كقولهم رجل صدق أى قد بلغ النهاية
في الصدق والاستقامة.
والمعنى : قل لهم
يا محمد على سبيل التوبيخ والتبكيت : سلمنا. كما تزعمون. أنى كثير السماع والتصديق
لما يقال ، لكن هذه الكثرة ليست للشر والخير بدون تمييز وإنما هي للخير ولما وافق
الشرع فحسب.
ويجوز أن تكون
الإضافة فيه على معنى «في» ، أى هو أذن في الخير والحق ، وليس بأذن في غير ذلك من
وجوه الباطل والشر.
وهذه الجملة
الكريمة من أسمى الأساليب وأحكمها في الرد على المرجفين والفاسقين ، لأنه ـ سبحانه
ـ صدقهم في كونه صلىاللهعليهوسلم أذنا ، وذلك بما هو مدح له ، حيث وصفه بأنه أذن خير لا شر.
__________________
قال صاحب الإنصاف
: لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه ، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة ثم
كر على طمعهم بالحسم ، وأعقبهم في تنقصه باليأس ، منه ، ولا شيء أقطع من الإطماع
ثم اليأس يتلوه ويعقبه .
وقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) تفسير وتوضيح لكونه صلىاللهعليهوسلم أذن خير لهم لا أذن شر عليهم.
أى : أن من مظاهر
كونه صلىاللهعليهوسلم أذن خير ، أنه «يؤمن بالله» إيمانا حقا لا يحوم حوله شيء
من الرياء ، أو الخداع أو غيرهما من ألوان السوء «ويؤمن للمؤمنين» أى : يصدقهم
فيما يقولونه من أقوال توافق الشرع لأنهم أصحابه الذين أطاعوه ، واتبعوا النور
الذي أنزل معه ، فهم أهل للتصديق والقبول. دون غيرهم من المنافقين والفاسقين.
قال الفخر الرازي
: فإن قيل لما ذا عدى الإيمان إلى الله بالباء ، وإلى المؤمنين باللام؟
قلنا : لأن
الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء. والإيمان
المعدى إلى المؤمنين المراد منه الاستماع منهم ، والتسليم لقولهم فعدى باللام ،
كما في قوله (وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا). أى بمصدق لنا. وقوله : (أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وقوله : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) .
وقوله : (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) معطوف على قوله : (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ).
أى : أن هذا
الرسول الكريم بجانب أنه أذن خير لكم هو رحمة للذين آمنوا منكم ـ أيها المنافقون ـ
إيمانا صحيحا ، لأنه عن طريق إرشاده لهم إلى الخير ، واتباعهم لهذا الإرشاد يصلون
إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.
وعلى هذا يكون
المراد بالذين آمنوا من المنافقين : أولئك الذين صدقوا في إيمانهم ، وأخلصوا لله
قلوبهم ، وتركوا النفاق والرياء.
أو أن المراد
بالذين آمنوا منهم : أولئك الذين أظهروا الإيمان ، فيكون المعنى :
أن هذا الرسول
الكريم رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم ـ أيها المنافقون ـ حيث إنه صلىاللهعليهوسلم عاملهم بحسب الظاهر ، دون أن يكشف أسرارهم ، أو يهتك
أستارهم ؛ لأن الحكمة تقتضي ذلك.
وعلى هذا المعنى
سار صاحب الكشاف فقد قال : وهو رحمة لمن آمن منكم ، أى : أظهر
__________________
الإيمان ـ أيها
المنافقون ـ ، حيث يسمع منكم ، ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يكشف أسراركم ، ولا
يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في
الإبقاء عليكم ... .
وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم عن التعرض لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بأية إساءة.
أى : والذين يؤذون
رسول الله بأى لون من ألوان الأذى ، لهم عذاب أليم في دنياهم وآخرتهم ؛ لأنهم
بإيذائهم له يكونون قد استهانوا بمن أرسله الله رحمة للعالمين.
ثم حكى القرآن بعد
ذلك لونا من جبنهم وعجزهم عن مصارحة المؤمنين بالحقائق ، فقال ـ سبحانه ـ :
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا
مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً
فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)(٦٣)
قال القرطبي : روى
أن قوما من المنافقين اجتمعوا ، وفيهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه
وتكلموا فقالوا : إن كان ما يقوله محمد حقا لنحن شر من الحمير. فغضب الغلام وقال :
والله إن ما يقوله محمد صلىاللهعليهوسلم لحق ، ولأنتم شر من الحمير. ثم أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم بقولهم فحلفوا إن عامرا كاذب.
فقال عامر : هم
الكذبة ، وحلف على ذلك وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب
الكاذب. فأنزل الله هذه الآية .
فقوله ـ سبحانه ـ :
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) خطاب للمؤمنين الذين كان المنافقون يذكرونهم بالسوء ، ثم
يأتون إليهم بعد ذلك معتذرين.
__________________
أى : إن هؤلاء
المنافقين يحلفون بالله لكم ـ أيها المؤمنون ـ ليرضوكم ، فتطمئنوا إليهم ، وتقبلوا
معاذيرهم.
قال أبو السعود :
وإفراد إرضائهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول صلىاللهعليهوسلم للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه ، وأنه ـ عليه
الصلاة والسلام ـ إنما لم يكذبهم رفقا بهم ، وسترا لعيوبهم ، لا عن رضا بما فعلوا
، وقبول قلبي لما قالوا .. .
وقوله : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) جملة حالية في محل نصب من ضمير «يحلفون» جيء بها لتوبيخهم
على إيثارهم رضا الناس على رضا الله ورسوله.
أى : هم يحلفون
لكم. والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء منكم لأن الله ـ تعالى ـ هو خالقهم
ورازقهم ومالك أمرهم ، وهو العليم بما ظهر وبطن من أحوالهم. ولأن رسوله صلىاللهعليهوسلم هو المبلغ لوحيه ـ عزوجل ـ قال صاحب المنار ما ملخصه : وكان الظاهر أن يقال : «يرضوهما»
ونكتة العدول عنه إلى «يرضوه» : الإعلام بأن إرضاء رسوله عين إرضائه سبحانه ...
وهذا من بلاغة القرآن في نفس الإيجاز. ولو قال «يرضوهما» لما أفاد هذا المعنى ؛ إذ
يجوز في نفس العبارة أن يكون إرضاء كل منهما في غير ما يكون به إرضاء الآخر ، وهو
خلاف المراد هنا ، وكذلك لو قيل : «والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه» لا
يفيد هذا المعنى أيضا وفيه ما فيه من الركاكة والتطويل ...
وقد خرجه علماء
النحو على قواعدهم ... وأقرب الأقوال إلى قواعدهم قول سيبويه : إن الكلام جملتان
حذف خبر إحداهما لدلالة خبر الأخرى عليه ، كقول الشاعر :
نحن بما عندنا
وأنت بما عندك راض والرأى مختلف.
فهذا لا تكلف فيه
من ناحية التركيب العربي ، ولكن تفوت به النكتة التي ذكرناها ... .
وقوله : (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) تذييل قصد به بيان أن الإيمان الحق لا يتم إلا بإرضاء الله
ورسوله عن طريق طاعتهما والانقياد لأوامرهما.
أى : إن كانوا
مؤمنين حقا ، فليعملوا على إرضاء الله ورسوله ، بأن يطيعوا أوامرهما ،
__________________
ويجتنبوا نواهيهما
، وإلا كانوا كاذبين في دعواهم الإيمان ثم توعدهم ـ سبحانه ـ بسوء المصير بسبب
مخالفتهم لله ورسوله فقال :
(أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً
فِيها ...)
وقوله : (يُحادِدِ) من المحادة بمعنى المخالفة والمجانبة والمعاداة ، مأخوذة
من الحد بمعنى الجانب ، كأن كل واحد من المتخاصمين في جانب غير جانب صاحبه. ويقال
: حاد فلان فلانا ، إذا صار في غير حده وجهته بأن خالفه وعاداه.
والاستفهام في
الآية الكريمة للتوبيخ والتأنيب وإقامة الحجة.
والمعنى : ألم
يعلم هؤلاء المنافقون الذين مردوا على الفسوق والعصيان أنه من يخالف تعاليم الله
ورسوله ، فجزاؤه نار جهنم يصلاها يوم القيامة خالدا فيها؟! إن كانوا لا يعلمون ذلك
ـ على سبيل الفرض ـ فأعلمهم يا محمد بسوء مصيرهم إذا ما استمروا على نفاقهم
ومعاداتهم لله ولرسوله.
قال الجمل ما
ملخصه : «من» شرطية مبتدأ. وقوله : (فَأَنَّ لَهُ نارَ
جَهَنَّمَ) في موضع المبتدأ المحذوف الخبر ، والتقدير. فحق أن له نار
جهنم ، أى : فكون نار جهنم له أمر حق ثابت. وهذه الجملة جواب من الشرطية ، والجملة
الشرطية ، أى مجموع اسم الشرط وفعله والجزاء خبر أن الأولى ، وهي (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) وجملة أن الثانية واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي يعلم إن لم
يكن بمعنى العرفان ، ومسد مفعوله أى الواحد إن كان بمعنى العرفان .
واسم الإشارة في
قوله : (ذلِكَ الْخِزْيُ
الْعَظِيمُ) يعود على ما ذكر من العذاب أى : ذلك الذي ذكرناه من خلودهم
في النار يوم القيامة هو الذل العظيم ، الذي يتضاءل أمامه كل خزي وذل في الدنيا.
فأنت ترى أن هاتين
الآيتين قد ذكرتا جانبا من رذائل المنافقين وأكاذيبهم ، وتوعدتا كل مخالف لأوامر
الله ورسوله بسوء المصير.
ثم واصلت السورة
حملتها على المنافقين ، فكشفت عن خباياهم ، وهتكت أستارهم ، وأبطلت معاذيرهم ،
وتوعدتهم بسوء المصير فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(يَحْذَرُ
الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي
قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا
قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ
طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)(٦٦)
قال صاحب المنار :
هذه الآيات في بيان شأن آخر من شئون المنافقين التي كشفت سوأتهم فيها غزوة تبوك.
أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله ـ تعالى ـ : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) ...
قال : كانوا
يقولون القول فيما بينهم ثم يقولون : عسى أن لا يفشى علينا هذا.
وعن قتادة قال :
كانت هذه السورة تسمى الفاضحة. فاضحة المنافقين ، وكان يقال لها المنبئة. أنبأت
بمثالبهم وعوراتهم .
والضمير في قوله :
(عَلَيْهِمْ) وفي قوله : (تُنَبِّئُهُمْ) يعود على المنافقين. فيكون المعنى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) ويخافون من (أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ) أى : في شأنهم وحالهم «سورة من سور القرآن الكريم» ،
تنبئهم بما في قلوبهم. أى : تخبرهم بما انطوت عليه قلوبهم من أسرار خفية ، ومن
أقوال كانوا يتناقلونها فيما بينهم ، ويحرصون على إخفائها عن المؤمنين.
وفي التعبير بقوله
: (تُنَبِّئُهُمْ) مبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم ، حتى أنها تعلم
من أحوالهم الباطنة مالا يعلمونه هم عن أنفسهم ، فتنبئهم بهذا الذي لا يعلمونه ،
وتنعى عليهم قبائحهم ورذائلهم. وتذيع على الناس ما كانوا يخشون ظهوره من أقوال
ذميمة ، وأفعال أثيمة.
__________________
ومنهم من يرى أن
الضمير في قوله (عَلَيْهِمْ) وقوله : (تُنَبِّئُهُمْ) يعود على المؤمنين ، فيكون المعنى : يحذر المنافقون ويخشون
من أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين من أضغان وأحقاد وفسوق
عن أمر الله.
وقد ذكر هذين
الوجهين صاحب الكشاف فقال : والضمير في «عليهم» و «تنبئهم» للمؤمنين ، و «في
قلوبهم» للمنافقين. وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه.
ويجوز أن تكون
الضمائر للمنافقين : لأن السورة إذا نزلت في معناهم ـ أى في شأنهم وأحوالهم ـ فهي
نازلة عليهم. ومعنى «تنبئهم بما في قلوبهم» كأنها تقول لهم : في قلوبكم كيت وكيت :
يعنى أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها» .
وقال الإمام
الرازي. فإن قيل : المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحى على الرسول صلىاللهعليهوسلم؟ قلنا فيه وجوه؟
قال أبو مسلم :
هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول صلىاللهعليهوسلم يذكر كل شيء ، ويدعى أنه عن الوحى ، وكان المنافقون يكذبون
بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي
حذروا ظهوره ، وفي قوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) دلالة على ما قلناه.
٢ ـ أن القوم وإن
كانوا كافرين بدين الرسول صلىاللهعليهوسلم إلا أنهم شاهدوا أنه صلىاللهعليهوسلم كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه ، فلهذه التجربة وقع
الحذر والخوف في قلوبهم.
٣ ـ قال الأصم.
إنهم كانوا يعرفون كون الرسول صلىاللهعليهوسلم صادقا ، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا ...
٤ ـ معنى الحذر :
الأمر بالحذر. أى : ليحذر المنافقون ذلك.
٥ ـ أنهم كانوا
شاكين في صحة نبوته ، وما كانوا قاطعين بفسادها ، والشاك خائف ، فلهذا السبب خافوا
أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم . والذي نراه أن الرأى الخامس أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن
المنافقين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر : فهم كما وصفهم الله ـ تعالى ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى
هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ...).
ومن شأن هذا
التذبذب أن يغرس الخوف والحذر في القلوب.
__________________
أى أن هذا الحذر
والإشفاق. كما يقول بعض العلماء. أثر طبيعي للشك والارتياب ، لأنهم لو كانوا
موقنين بتكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم لما خطر لهم هذا الخوف على بال ، ولو كانوا موقنين بتصديقه
، لما كان هناك محل لهذا الحذر «لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان» .
وقوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ
ما تَحْذَرُونَ) تهديد ووعيد لهم على نفاقهم وسوء أدبهم.
أى : قل يا محمد
لهؤلاء المنافقين المذبذبين بين الحق والباطل ، قل لهم ، على سبيل التهديد
والتبكيت : افعلوا ما شئتم من الاستخفاف بتعاليم الإسلام إن الله ـ تعالى ـ مظهر
ما تحذرونه من إنزال الآيات القرآنية التي تفضحكم على رءوس الأشهاد ، والتي تكشف
عن أسراركم ، وتهتك أستاركم ، وتظهر للمؤمنين ما أردتم إخفاءه عنهم.
وأسند الإخراج إلى
الله ـ تعالى ـ للإشارة إلى أنه ـ سبحانه ـ يخرج ما يحذرونه إخراجا لا مزيد عليه
من الكشف والوضوح ، حتى يحترس منهم المؤمنون ولا يغتروا بأقوالهم المعسولة.
وقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ..) بيان للون آخر من معاذيرهم الكاذبة ، وجبنهم عن مواجهة
الحقائق.
وأصل الخوض ـ كما
يقول الآلوسى ـ الدخول في مائع مثل الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول
فيه تلويث وأذى .
أى : ولئن سألت يا
محمد هؤلاء المنافقين عن سبب استهزائهم بتعاليم الإسلام ليقولن لك على سبيل
الاعتذار ، إنما كنا نفعل ذلك على سبيل الممازحة والمداعبة لا على سبيل الجد.
وقوله : (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) إبطال لحجتهم ، وقطع لمعاذيرهم ، وتبكيت لهم على جهلهم
وسوء أخلاقهم.
أى : قل لهم يا
محمد ـ على سبيل التوبيخ والتجهيل ـ ألم تجدوا ما تستهزءون به في مزاحكم ولعبكم ـ كما
تزعمون ـ سوى فرائض الله وأحكامه وآياته ورسوله الذي جاء لهدايتكم وإخراجكم من
الظلمات إلى النور؟
فالاستفهام
للإنكار والتوبيخ ، ودفع ما تذرعوا به من معاذير واهية.
وقوله ـ سبحانه ـ :
(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ
كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...) تأكيد لإبطال ما أظهروه من معاذير.
__________________
والاعتذار معناه
محاولة محو أثر الذنب ، مأخوذ من قولهم : اعتذرت المنازل إذا اندثرت وزالت ، لأن
المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه.
والمعنى : قل يا
محمد لهؤلاء المنافقين المستهزئين بما يجب إجلاله واحترامه وتوقيره : قل لهم على
سبيل التوبيخ والتجهيل أيضا ـ لا تشتغلوا بتلك المعاذير الكاذبة فإنها غير مقبولة
، لأنكم بهذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ) أى : قد ظهر كفركم وثبت ، بعد إظهاركم الإيمان على سبيل
المخادعة ، فإذا كنا قبل ذلك نعاملكم معاملة المسلمين بمقتضى نطقكم بالشهادتين
فنحن الآن نعاملكم معاملة الكافرين بسبب استهزائكم بالله وآياته ورسوله صلىاللهعليهوسلم لأن الاستهزاء بالدين. كما يقول الإمام الرازي. يعد من باب
الكفر ، إذ أنه يدل على الاستخفاف ، والأساس الأول في الإيمان تعظيم الله ـ تعالى
ـ بأقصى الإمكان ، والجمع بينهما محال .
وقوله ـ تعالى ـ :
(إِنْ نَعْفُ عَنْ
طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) بيان لمظهر من مظاهر عدله ـ سبحانه ـ ورحمته.
أى : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) ـ أيها المنافقون ـ بسبب توبتهم وإقلاعهم عن النفاق ، (نُعَذِّبْ طائِفَةً) أخرى منكم بسبب إصرارهم على النفاق ، واستمرارهم في طريق
الفسوق والعصيان.
هذا ، وقد ذكر المفسرون
في سبب نزول هذه الآيات روايات منها :
ما جاء عن زيد بن
أسلم : أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك : ما أرى قراءنا هؤلاء
إلا أرغبنا بطونا ، وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء!! فقال له عوف : كذبت ،
ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذهب عوف إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه.
قال زيد : قال عبد
الله بن عمر : فنظرت إليه ـ أى إلى المنافق ـ متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم تنكبه الحجارة يقول : إنما كنا نخوض ونلعب ، فيقول له الرسول صلىاللهعليهوسلم «أبا لله وآياته
ورسوله كنتم تستهزءون» .
__________________
وعن قتادة قال :
بينما رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسير في غزوته إلى تبوك ، وبين يديه ناس من المنافقين
فقالوا : يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها!! هيهات هيهات!.
فأطلع الله نبيه صلىاللهعليهوسلم على ذلك ، فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم : «احبسوا على الركب» فأتاهم فقال لهم. قلتم كذا ، قلتم
كذا. فقالوا : «يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب» فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما
تسمعون .
وقال ابن إسحاق :
كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت .. ومنهم رجل من أشجع حليف لبنى سلمة
يقال له «مخشى بن حمير» يسيرون مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو منطلق إلى تبوك ـ فقال بعضهم ـ أتحسبون جلاد بنى
الأصفر ـ أى الروم ـ كقتال العرب بعضهم؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ،
إرجافا وترهيبا للمؤمنين.
فقال مخشى بن حمير
: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة ، وأننا ننجو أن ينزل فينا
قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما بلغني ـ لعمار بن ياسر ـ أدرك القوم فإنهم قد احترقوا
، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار ؛
فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتذرون إليه.
فقال وديعة بن
ثابت ـ ورسول الله صلىاللهعليهوسلم واقف على راحلته ـ يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب.
فقال مخشى بن حمير
: يا رسول الله ، قعد بن اسمى واسم أبى ، فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشى بن
حمير ، فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيدا ، لا يعلم مكانه. فقتل يوم
اليمامة ولم يوجد له أثر .
هذه بعض الآثار
التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، وهي توضح ما كان عليه المنافقون من كذب في
المقال ، وجبن عن مواجهة الحقائق.
ثم مضت السورة
الكريمة بعد ذلك في تقرير حقيقة المنافقين ، وفي بيان جانب من صفاتهم ، والمصير
السيئ الذي ينتظرهم فقال سبحانه وتعالى :
__________________
(الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ
الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)
وَعَدَ
اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٦٨)
قال الإمام الرازي
: اعلم أن هذا شرح لنوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم ، والمقصود بيان أن إناثهم
كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة ، والأفعال الخبيثة فقال : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أى : في صفة النفاق ، وذلك كما يقول إنسان لآخر : أنت منى
وأنا منك. أى : أمرنا واحد لا مباينة فيه ولا مخالفة ... .
وقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمَعْرُوفِ) تفصيل لجانب من رذائلهم ، ومن مسالكهم الخبيثة.
أى : يأمرون غيرهم
بكل ما تستنكره الشرائع ، وتستقبحه العقول ، وينهونه عن كل أمر دعت إليه الأديان ،
وأحبته القلوب السليمة.
وقوله : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) كناية عن بخلهم وشحهم ، لأن الإنسان السخي يبسط يده
بالعطاء ، بخلاف الممسك القتور فإنه يقبض يده عن ذلك.
أى : أن من صفات
هؤلاء المنافقين أنهم بخلاء أشحاء عن بذل المال في وجوهه المشروعة.
وقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) كناية عن رسوخهم في الكفر ، وانغماسهم في كل ما يبعدهم عن
الله ـ تعالى ـ.
والمقصود بالنسيان
هنا لازمه ، وهو الترك والإهمال ؛ لأن حقيقة النسيان محالة على الله ـ تعالى ـ ،
كما أن النسيان الحقيقي لا يذم صاحبه عليه لعدم التكليف به.
__________________
أى : تركوا طاعة
الله وخشيته ومراقبته ، فتركهم ـ سبحانه ـ وحرمهم من هدايته ورحمته وفضله.
وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تذييل قصد به المبالغة في ذمهم.
أى : إن المنافقين
هم الكاملون في الخروج عن طاعة الله ، وفي الانسلاخ عن فضائل الإيمان ، ومكارم
الأخلاق.
وقوله ـ سبحانه ـ :
(وَعَدَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ...) بيان لسوء مصيرهم ، بعد بيان جانب من صفاتهم الذميمة.
أى : وعد الله ـ تعالى
ـ المنافقين والمنافقات والكفار المجاهرين بكفرهم «نار جهنم خالدين فيها» خلودا
أبديا.
وقوله : (هِيَ حَسْبُهُمْ) أى : إن تلك العقوبة الشديدة كافية لإهانتهم وإذلالهم بسبب
فسوقهم عن أمر ربهم.
وقوله : (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أى : طردهم وأبعدهم من رحمته ولطفه.
وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) أى : ولهم عذاب دائم لا ينقطع ؛ فهم في الدنيا يعيشون في
عذاب القلق والحذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم ، وفي الآخرة يذوقون العذاب
الذي هو أشد وأبقى ، بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان.
وبذلك نرى الآيتين
الكريمتين قد بينتا جانبا من قبائح المنافقين ، ومن سوء مصيرهم في عاجلتهم
وآجلتهم.
ثم ساقت السورة
الكريمة ـ لهؤلاء المنافقين ـ نماذج لمن حبطت أعمالهم بسبب غرورهم ، وضربت لهم
الأمثال بمن هلك من الطغاة السابقين بسبب تكذيبهم لأنبيائهم ، فقال ـ تعالى ـ :
(كَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً
فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ
وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ
(٦٩) أَلَمْ
يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ
وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٧٠)
وقوله ـ تعالى ـ :
(كَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ...) جاء على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزجر
المنافقين ، وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار والاتعاظ.
والكاف في قوله : (كَالَّذِينَ) للتشبيه ، وهي في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.
والتقدير : أنتم ـ
أيها المنافقون ـ حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة في الانحراف عن الحق ،
والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها ، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين ، يمتازون عنكم
بأنهم «كانوا أشد منكم قوة» في أبدانهم ، وكانوا «أكثر» منكم «أموالا وأولادا».
وقوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله ـ تعالى ـ والخلاق
: مشتق من الخلق بمعنى التقدير. وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه.
أى : كانوا أشد
منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه ، بل فتنوا بما
بين أيديهم من نعم ، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الحياة الدنيا ، استمتاع
الجاحدين الفاسقين.
والتعبير بالفاء
المفيدة للتعقيب في قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا) ؛ للإشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم
بالنعم ، قد استعملوها في غير ما خلقت له ، وسخروها لإرضاء شهواتهم الخسيسة ،
وملذاتهم الدنيئة.
وقوله : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا
اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم ؛ لانتهاجهم جميعا طريق الشر
والبطر.
أى : فأنتم ـ أيها
المنافقون ـ قد استمتعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا ، وشهواتها الباطلة ،
كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم في ذلك.
وقوله : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) معطوف على ما قبله.
أى : وخضتم ـ أيها
المنافقون ـ في حمأة الباطل وفي طريق الغرور والهوى ، كالخوض الذي خاضه السابقون
من الأمم المهلكة.
قال الآلوسى قوله
: «وخضتم» أى : دخلتم في الباطل «كالذي خاضوا».
أى : كالذين فحذفت
نونه تخفيفا ، كما في قول الشاعر :
إن الذي حانت
بفلج دماؤهم
|
|
هم القوم كل
القوم يا أم خالد
|
ويجوز أن يكون «الذي»
صفة لمفرد اللفظ ، مجموع المعنى ، كالفوج والفريق ، فلوحظ في الصفة اللفظ. وفي
الضمير المعنى ، أو هو صفة لمصدر محذوف ، أى : كالخوض الذي خاضوه ، ورجح بعدم
التكلف فيه .
وقال صاحب الكشاف
: فإن قلت : أى فائدة في قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا
بِخَلاقِهِمْ) وقوله : (كَمَا اسْتَمْتَعَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) مغن عنه كما أغنى قوله : (كَالَّذِي خاضُوا) عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟
قلت : فائدته أن
يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم
الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ،
ويهجن أمر الرضا به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه
بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون : كان يقتل بغير جرم ، ويعذب
ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله.
وأما «وخضتم كالذي
خاضوا» فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة» .
وقوله : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الدارين.
واسما الإشارة
يعودان على المتصفين بتلك الصفات القبيحة من السابقين واللاحقين.
أى : أولئك
المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم في الشهوات الخسيسة ، والخائضون في الشرور والآثام «حبطت
أعمالهم» أى : فسدت وبطلت أعمالهم التي كانوا يرجون منفعتها «في الدنيا والآخرة»
لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص ، وإنما كان معها الرياء
__________________
والنفاق ، والفسوق
والعصيان ، والله ـ تعالى ـ لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم.
وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أى : الكاملون في الخسران ، الجامعون لكل ما من شأنه أن
يؤدى إلى البوار والهلاك.
ثم ساق لهم ـ سبحانه
ـ من أخبار السابقين ما فيه الكفاية للعظة والاعتبار لو كانوا يعقلون ، فقال ـ تعالى
ـ : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ
نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ ...).
والاستفهام
للتقرير والتحذير. والمراد بنبإ الذين من قبلهم : أخبارهم التي تتناول أقوالهم
وأعمالهم ، كما تتناول ما حل بهم من عقوبات ، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم.
والمعنى : ألم يصل
إلى أسماع هؤلاء المنافقين ، خبر أولئك المهلكين من الأقوام السابقين بسبب عصيانهم
لرسلهم ، ومن هؤلاء الأقوام «قوم نوح» الذين أغرقوا بالطوفان ، وقوم «عاد» الذين
أهلكوا بريح صرصر عاتية ، وقوم «ثمود» الذين أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم
جاثمين ، «وقوم إبراهيم» الذين سلب الله نعمه عنهم ، وأذل غرور زعيمهم الذي حاج
إبراهيم في ربه ، «وأصحاب مدين» وهم قوم شعيب الذين أخذتهم الصيحة ، «والمؤتفكات»
وهم أصحاب قرى قوم لوط ، التي جعل الله عاليها سافلها ...
والائتفاك : معناه
الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفله. يقال : أفكه يأفكه إذا قلبه رأسا على عقب.
وذكر ـ سبحانه ـ هنا
هذه الطوائف الست ، لأن آثارهم باقية ، ومواطنهم هي الشام والعراق واليمن ، وهي
مواطن قريبة من أرض العرب ، فكانوا يمرون عليها في أسفارهم ، كما كانوا يعرفون
الكثير من أخبارهم.
قال ـ تعالى ـ : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) .
وقوله : (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كلام مستأنف لبيان أنبائهم وأخبارهم.
أى : أن هؤلاء
الأقوام المهلكين السابقين ، قد أتتهم رسلهم بالحجج الواضحات الدالة على وحدانية
الله وعلى وجوب إخلاص العبادة له ..
والفاء في قوله : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) للعطف على كلام مقدر يدل عليه المقام.
أى : أتتهم رسلهم
بالبينات ، فكذبوا هؤلاء الرسل ، فعاقبهم الله ـ تعالى ـ على هذا التكذيب. وما كان
من سنته ـ سبحانه ـ ليظلمهم ، لأنه لا يظلم الناس شيئا «ولكن كانوا
__________________
أنفسهم يظلمون»
بسبب كفرهم وجحودهم ، واستحبابهم العمى على الهدى ، وإيثارهم الغي على الرشد.
هذا ، ومن هاتين
الآيتين الكريمتين نرى بوضوح ، أن الغرور بالقوة ، والافتتان بالأموال والأولاد ،
والانغماس في الشهوات والملذات الخسيسة. والخوض في طريق الباطل ، وعدم الاعتبار
بما حل بالطغاة والعصاة ..
كل ذلك يؤدى إلى
الخسران في الدنيا والآخرة ، وإلى التعرض لسخط الله وعقابه.
كما نرى منهما أن
من سنة الله في خلقه ، أنه ـ سبحانه ـ لا يعاقب إلا بذنب ، ولا يأخذ العصاة
والطغاة أخذ عزيز مقتدر ، إلا بعد استمرارهم في طريق الغواية ، وإعراضهم عن نصح
الناصحين ، وإرشاد المرشدين. وصدق الله إذ يقول : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وبعد أن تحدثت
السورة الكريمة عن أحوال المنافقين ، وصفاتهم ، وسوء عاقبتهم ..
أتبعت ذلك بالحديث
عن المؤمنين الصادقين ، وعما أعده الله لهم من نعيم مقيم ، فقال ـ سبحانه ـ :
(وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ
وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ
أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٧٢)
قال الإمام ابن
كثير : لما ذكر ـ سبحانه ـ صفات المنافقين الذميمة ، عطف بذكر صفات المؤمنين
المحمودة فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).
أى : يتناصرون
ويتعاضدون كما جاء في الحديث الصحيح : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».
وفي الصحيح ـ أيضا ـ : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» .
وقال ـ سبحانه ـ هنا
(بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بينما قال في المنافقين (بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ) للإشعار بأن المؤمنين في تناصرهم وتعاضدهم وتراحمهم
مدفوعون بدافع العقيدة الدينية التي ألفت بين قلوبهم ، وجعلتهم أشبه ما يكونون
بالجسد الواحد ، أما المنافقون فلا توجد بينهم هذه الروابط السامية ، وإنما الذي
يوجد بينهم هو التقليد واتباع الهوى ، والسير وراء العصبية الممقوتة ، فهم لا
ولاية بينهم ، وإنما الذي بينهم هو التقليد وكراهية ما أنزل الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ...) بيان للآثار التي تترتب على تلك الولاية الخالصة ، وتفصيل
للصفات الحسنة التي تحلى بها المؤمنون والمؤمنات.
أى : أن من صفات
هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين جمعتهم العقيدة الدينية على التناصر والتراحم ..
من صفاتهم أنهم (يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أى يأمرون بكل خير دعا إليه الشرع ، وينهون عن كل شر تأباه
تعاليم الإسلام الحنيف.
وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أى : يؤدونها في أوقاتها بإخلاص وخشوع ..
وقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أى : يعطونها لمستحقيها بدون منّ أو أذى ..
وقوله : (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أى : في سائر الأحوال بدون ملل أو انقطاع أو تكاسل ..
وقوله : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ
اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) بيان للجزاء الطيب الذي ادخره الله ـ تعالى ـ لهم.
أى : أولئك
المؤمنون والمؤمنات المتصفون بتلك الصفات السامية ، سيرحمهمالله ـ تعالى ـ برحمته الواسعة ، إنه ـ سبحانه ـ «عزيز» لا
يعجزه شيء «حكيم» في كل أفعاله وتصرفاته.
قال صاحب الكشاف :
«والسين هنا مفيدة لوجود الرحمة ، فهي تؤكد الوعد ، كما تؤكد الوعيد كما في قولك :
سأنتقم منك يوما ، تعنى أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونحوه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا)
__________________
ثم فصل ـ سبحانه ـ
مظاهر رحمته للمؤمنين والمؤمنات أصحاب تلك الصفات السابقة فقال : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).
أى : (وَعَدَ اللهُ) بفضله وكرمه (الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أى : من تحت بساتينها وأشجارها وقصورها (خالِدِينَ فِيها) في تلك الجنات خلودا أبديا.
ووعدهم كذلك «مساكن
طيبة» أى : منازل حسنة ، تنشرح لها الصدور وتستطيبها النفوس.
وقوله : «في جنات
عدن» أى في جنات ثابتة مستقرة. يقال : فلان عدن بمكان كذا ، إذا استقر به وثبت فيه
، ومنه سمى المعدن معدنا لاستقراره في باطن الأرض.
وقيل : إن كلمه «عدن»
علم على مكان مخصوص في الجنة ، أى في جنات المكان المسمى بهذا الاسم وهو «عدن».
ثم بشرهم ـ سبحانه
ـ بما هو أعظم من كل ذلك فقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ).
أى أن المؤمنين
والمؤمنات ليس لهم هذه الجنات والمساكن الطيبة فحسب وإنما لهم ما هو أكبر من ذلك
وأعظم وهو رضا الله ـ تعالى ـ عنهم ، وتجليه عليهم ، وتشرفهم بمشاهدة ذاته الكريمة
، وشعورهم بأنهم محل رعاية الله وكرمه.
والتنكير في قوله
: (وَرِضْوانٌ) للتعظيم والتهويل ، وللإشارة إلى أن الشيء اليسير من هذا
الرضا الإلهى على العبد ، أكبر من الجنات ومن المساكن الطيبة ، ومن كل حطام
الدنيا.
روى الشيخان عن أبى
سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله ـ عزوجل ـ يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا
وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ، وقد
أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا
ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
وروى البزار في
مسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله ـ تعالى ـ : هل
تشتهون شيئا فأزيدكم؟
قالوا : يا ربنا
وما خير مما أعطيتنا؟ قال : رضواني أكبر» .
وقوله : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أى : ذلك الذي وعد الله به المؤمنين والمؤمنات في جنات
ومساكن طيبة ، ومن رضا من الله عنهم ، هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا
يدانيه
__________________
نعيم ، ولا يسامى
شرفه شرف ..
وبهذا نرى أن
هاتين الآيتين الكريمتين قد بشرتا المؤمنين والمؤمنات بأعظم البشارات ، ووصفتهم
بأشرف الصفات ، وقابلت بين جزائهم وبين جزاء الكفار والمنافقين ، بما يحمل العاقل
على أن يسلك طريق المؤمنين ، وعلى أن ينهج نهجهم ، ويتحلى بأوصافهم ... وبذلك يفوز
بنعيم الله ورضاه كما فازوا ، ويسعد كما سعدوا ، وينجو من العذاب الذي توعد الله
به المنافقين والكافرين ، بسبب إصرارهم على الكفر والنفاق ، وإيثارهم الغىّ على
الرشد.
ثم أمر الله ـ تعالى
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم بمجاهدة الكفار والمنافقين بكل وسيلة ، لأنهم جميعا لا
يريدون الانتهاء عن المكر السيئ بالدعوة الإسلامية فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧٣)
وقوله ـ سبحانه ـ (جاهِدِ) من المجاهدة ، بمعنى بذل الجهد في دفع ما لا يرضى ، سواء أكان
ذلك بالقتال أم بغيره.
وقوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) من الغلظة التي هي نقيض الرقة والرأفة. يقال أغلظ فلان في
الأمر إذا اشتد فيه ولم يترفق.
ونحن عند ما نقرأ
السيرة النبوية ، نجد أنه صلىاللهعليهوسلم بعد هجرته إلى المدينة ، ظل فترة طويلة يلاين المنافقين ،
ويغض الطرف عن رذائلهم. ويصفح عن مسيئهم .. إلا أن هذه المعاملة الحسنة لهم زادتهم
رجسا إلى رجسهم .. لذا جاءت هذه السورة ـ وهي من أواخر ما نزل من القرآن لتقول
للنبي صلىاللهعليهوسلم لقد آن الأوان لإحلال الشدة والحزم ، محل اللين والرفق ،
فإن للشدة مواضعها وللين مواضعه ..
والمعنى : عليك ـ أيها
النبي الكريم ـ أن تجاهد الكفار بالسيف إذا كان لا يصلحهم سواه ، وأن تجاهد
المنافقين ـ الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ـ بما تراه مناسبا لردهم وزجرهم
وإرهابهم ، سواء أكان ذلك باليد أم باللسان أم بغيرهما ، حتى تأمن شرهم.
قال الإمام ابن
كثير ، أمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بجهاد الكفار والمنافقين ، كما أمره أن يخفض جناحه لمن
اتبعه من المؤمنين .. وقد تقدم عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أنه قال : بعث
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأربعة أسياف. سيف للمشركين (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) وسيف للكفار أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ ...) وسيف للمنافقين (جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ) وسيف للبغاة (فَقاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) وهذا يقتضى أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو
اختيار ابن جرير.
وقال ابن مسعود في
قوله : (جاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنافِقِينَ) قال : بيده ، فإن لم يستطع فليكشر في وجهه ـ أى فليلق
المنافق بوجه عابس لا طلاقة فيه ولا انبساط.
وقال ابن عباس :
أمره الله ـ تعالى ـ بجهاد المنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم.
وقد يقال أنه لا
منافاة بين هذه الأقوال ، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا ، وتارة بهذا على حسب الأحوال ...
.
والضمير المجرور
في قوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) يعود على الفريقين : الكفار والمنافقين أى : جاهدهم بكل ما
تستطيع مجاهدتهم به ، مما يقتضيه الحال ، واشدد عليهم في هذه المجاهدة بحيث لا تدع
مجالا معهم للترفق واللين ، فإنهم ليسوا أهلا لذلك ، بعد أن عموا وصموا عن النصيحة
، وبعد أن لجوا في طغيانهم.
وقوله : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) تذييل قصد به بيان سوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان ما يجب
على المؤمنين نحوهم في الدنيا.
أى : عليك ـ أيها
النبي ـ أن تجاهدهم وأن تغلظ عليهم في الدنيا ، أما في الآخرة فإن جهنم هي دارهم
وقرارهم.
والمخصوص بالذم
محذوف والتقدير : وبئس المصير مصيرهم ، فانه لا مصير أسوأ من الخلود في جهنم.
ومن هذه الآية
الكريمة نرى أن على المؤمنين ـ في كل زمان ومكان ـ أن يجاهدوا أعداءهم من الكفار
والمنافقين بالسلاح الذي يرونه كفيلا بأن يجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين
كفروا السفلى.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما كان عليه المنافقون من كذب وفجور ، ومن خيانة وغدر ، وفتح أمامهم باب التوبة ،
وأنذرهم بالعذاب الأليم إذا ما استمروا في نفاقهم فقال ـ سبحانه ـ :
__________________
(يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ
وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ
يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٧٤)
ذكر المفسرون في
سبب نزول هذه الآية روايات منها : ما رواه ابن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال :
نزلت هذه الآية : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ
ما قالُوا). الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت. أقبل هو وابن امرأته
مصعب من قباء. فقال الجلاس : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن أشر من حمرنا هذه التي
نحن عليها!!
فقال مصعب : أما
والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما قلت : قال مصعب : فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم. وخشيت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة .. فقلت يا رسول
الله : أقبلت أنا والجلاس من قباء. فقال كذا وكذا ، ولو لا مخافة أن أخلط بخطيئة
أو تصيبني قارعة ما أخبرتك.
قال مصعب : فدعا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الجلاس فقال له : أقلت الذي قال مصعب؟ فحلف الجلاس بأنه ما
قال ذلك. فأنزل الله الآية» .
وأخرج ابن إسحاق
وابن أبى حاتم عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن وفيه ذكر المنافقين قال الجلاس
بن سويد : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير. فسمعه عمير بن سعد
فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلى. وأحسنهم عندي أثرا. ولقد قلت مقالة لئن
ذكرتها لتفضحنك ، ولئن سكت عنها هلكت ، ولإحداهما أشد على من الأخرى.
__________________
فمشى عمير إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكر ما قال الجلاس. فسأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الجلاس عما قاله عمير ، فحلف بالله ما قال ذلك ، وزعم أن
عميرا كذب عليه فنزلت هذه الآية .
وقال الإمام أحمد
: حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبى الطفيل.
قال : لما أقبل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم من غزوة تبوك أمر مناديه فنادى إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخذ طريق العقبة ـ وهو مكان مرتفع ضيق ـ فلا يأخذها أحد.
قال : فبينما رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقود ركابه حذيفة ويسوقه عمار ، إذا أقبل رهط ملثمون على
الرواحل ، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لحذيفة : «قد ، قد». أى حسبك حسبك. حتى هبط رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورجع عمار.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم يا عمار : «هل عرفت القوم»؟ فقال : لقد عرفت عامة الرواحل
والقوم متلثمون. قال : «هل تدرى ما أرادوا»؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : «أرادوا
أن ينفروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم راحلته فيطرحوه» .. .
هذه بعض الروايات
التي وردت في سبب نزول هذه الآية وهي تكشف عن كذب المنافقين وغدرهم.
وقوله. سبحانه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ...) استئناف مسوق لبيان جانب مما صدر عنهم من جرائم تستدعى
جهادهم والإغلاظ عليهم.
أى : يحلف هؤلاء
المنافقون بالله كذبا وزورا أنهم ما قالوا هذا القول القبيح الذي بلغك عنهم يا
محمد.
والحق أنهم قد
قالوا «كلمة الكفر» وهي تشمل كل ما نطقوا به من أقوال يقصدون بها إيذاءه. صلىاللهعليهوسلم ، كقولهم : «هو أذن» وقولهم. «لئن كان ما جاء به حقا فنحن
أشر من حمرنا ...» وغير ذلك من الكلمات القبيحة التي نطقوا بها.
وأنهم قد «كفروا
بعد إسلامهم» أى : أظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام.
وأنهم قد «هموا
بما لم ينالوا» أى : حاولوا إلحاق الأذى برسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ، لأن الله تعالى. عصمه من شرورهم.
__________________
وقوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) توبيخ لهم على جحودهم وكنودهم ومقابلتهم الحسنة بالسيئة.
ومعنى : نقموا :
كرهوا وعابوا وأنكروا ، يقال نقم منه الشيء إذا أنكره ، وكرهه وعابه ، وكذا إذا
عاقبه عليه.
أى : وما أنكر
هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام شيئا ، إلا أنهم بسببه أغناهم الله ورسوله من فضله
بالغنائم وغيرها من وجوه الخيرات التي كانوا لا يجدونها قبل حلول الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه بينهم.
وهذه الجملة
الكريمة جاءت على الأسلوب الذي يسميه علماء البلاغة : تأكيد المدح بما يشبه الذم.
قال الجمل : كأنه
قال ـ سبحانه ـ ليس له صلىاللهعليهوسلم صفة تكره وتعاب ، سوى أنه ترتب على قدومه إليهم وهجرته
عندهم ، إغناء الله إياهم بعد شدة الحاجة ، وهذه ليست صفة ذم ـ بل هي صفة مدح ـ فحينئذ
ليس له صفة تذم أصلا» .
وشبيه بهذا
الأسلوب قول الشاعر يمدح قوما بالشجاعة والإقدام.
ولا عيب فيهم
غير أن سيوفهم
|
|
بهن فلول من
قراع الكتائب
|
ثم ختم ـ سبحانه ـ
الآية الكريمة بترغيبهم وترهيبهم فقال : (فَإِنْ يَتُوبُوا
يَكُ خَيْراً لَهُمْ. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ..)
أى : فإن يتب
هؤلاء المنافقون عن نفاقهم وشقاقهم وقبائح أقوالهم وأفعالهم ، يكن المتاب خيرا لهم
في دنياهم وآخرتهم. «وإن يتولوا» ويعرضوا عن الحق : ويستمروا في ضلالهم «يعذبهم
الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة».
أما عذاب الدنيا
فمن مظاهره : حذرهم وخوفهم من أن يطلع المؤمنون على أسرارهم وجبنهم عن مجابهة
الحقائق ، وشعورهم بالضعف أمام قوة المسلمين ، وإحساسهم بالعزلة والمقاطعة من جانب
المؤمنين ومعاقبة الرسول صلىاللهعليهوسلم إياهم بالعقوبة المناسبة لجرمهم ..
وأما عذاب الآخرة
، فهو أشد وأبقى ، بسبب إصرارهم على النفاق ، وإعراضهم عن دعوة الحق.
__________________
وقوله : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ
وَلا نَصِيرٍ) تذييل قصد به تيئيسهم من كل معين أو ناصر.
أى : أن هؤلاء
المنافقين ليس لهم أحد في الأرض يدفع عنهم عذاب الله ، أو يحميهم من عقابه ، لأن
عقاب الله لن يدفعه دافع إلا هو ، فعليهم أن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يتوبوا إلى
ربهم قبل أن يحل بهم عذابه.
ثم حكى ـ سبحانه ـ
بعد ذلك نماذج أخرى من جحودهم ، ونقضهم لعهودهم ، وبخلهم بما آتاهم الله من فضله
فقال ـ سبحانه ـ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ
مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)
فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما
وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ
الْغُيُوبِ)(٧٨)
قال الإمام ابن
كثير ما ملخصه : وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري ، أن سبب
نزول هذه الآيات أن ثعلبة بن حاطب الأنصارى قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال له الرسول صلىاللهعليهوسلم : «ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه.
ثم قال له مرة أخرى : «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فو الذي نفسي بيده لو شئت
أن تصير الجبال معى ذهبا وفضة لصارت».
فقال ثعلبة ،
والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم ارزق ثعلبة مالا».
فاتخذ ثعلبة غنما
فنمت ، ثم ضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر
والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة
، ثم ترك الجمعة ..
وأنزل الله ـ تعالى
ـ قوله : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فبعث الرسول صلىاللهعليهوسلم رجلين على الصدقة من المسلمين .. وقال لهما : «مرا على
ثعلبة وعلى فلان. رجل من بنى سليم. فخذا صدقاتهما».
فخرجا حتى أتيا
ثعلبة فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله. فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه
إلا أخت الجزية ، ما أدرى ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلى.
فانطلقا وسمع بهما
السلمى «فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة. ثم استقبلهم بها. فلما رأوها
قالوا له : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال : بل خذوها فإن نفسي
بذلك طيبة ، فأخذاها منه ومرا على ثعلبة فقال لهما : أرونى كتابكما فقرأه فقال :
ما هذه إلا جزية ... انطلقا حتى أرى رأيى.
فانطلقا حتى أتيا
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلما رآهما قال : «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما ، ودعا
للسلمى بالبركة. فأخبراه بالذي صنعه ثعلبة معهما ..
فأنزل الله تعالى
: (وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ ..) الآيات.
فسمع رجل من أقارب
ثعلبة هذه الآيات فذهب إليه وأخبره بما أنزل فيه من قرآن.
فخرج ثعلبة حتى
أتى النبي صلىاللهعليهوسلم وسأله أن يقبل منه صدقته فقال له : إن الله منعني أن أقبل
منك صدقتك ..
ثم لم يقبلها منه
بعد ذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان .
هذا ، وقد ضعف بعض
العلماء هذا الحديث ، لأسباب تتعلق بسنده ، وبصاحب القصة وهو ثعلبة بن حاطب.
والذي نراه أن هذه
الآيات الكريمة تحكى صورة حقيقية وواقعية لبعض المنافقين المعاصرين للعهد النبوي.
والذين عاهدوا الله فنقضوا عهودهم معه ، وقابلوا ما أعطاهم من نعم بالبخل والجحود
..
__________________
وتلك الصورة قد
تكون لثعلبة بن حاطب وقد تكون لغيره ، لأن المهم هو حصولها فعلا من بعض المنافقين.
وهذه الآيات ـ أيضا
ـ تنطبق في كل زمان ومكان على من يقابل نعم الله بالكفران ، إذ العبرة بعموم اللفظ
لا بخصوص السبب.
وإلى هذا المعنى
أشار صاحب المنار بقوله : هذا بيان لحال طائفة من أولئك المنافقين الذين أغناهم
الله ورسوله من فضله بعد الفقر والإملاق ، ويوجد مثلهم في كل زمان ، وهم الذين
يلجئون إلى الله ـ تعالى ـ في وقت العسرة والفقر ، أو الشدة والضر ، فيدعونه
ويعاهدونه على الشكر له ، والطاعة لشرعه ، إذا هو كشف ضرهم ، وأغنى فقرهم. فإذا
استجاب لهم نكسوا على رءوسهم ، ونكصوا على أعقابهم ، وكفروا النعمة ، وبطروا الحق
، وهضموا حقوق الخلق وهذا مثل من شر أمثالهم» .
ومعنى الآيات
الكريمة : ومن المنافقين قوم «عاهدوا الله» وأكدوا عهودهم بالأيمان المغلظة فقالوا
: «لئن آتانا» الله ـ تعالى ـ من فضله مالا وفيرا ، لنصدقن منه على المحتاجين ،
ولنعطين كل ذي حق حقه ولنكونن من عباده «الصالحين» الذين يؤدون واجبهم نحو الله
والناس ، والذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
قال الجمل وقوله :
(مَنْ عاهَدَ اللهَ) فيه معنى القسم ، وقوله : (لَئِنْ آتانا مِنْ
فَضْلِهِ) تفسير لقوله : عاهد الله. واللام موطئة لقسم مقدر. وقد
اجتمع هنا قسم وشرط ، فالمذكور وهو قوله : «لنصدقن» .. جواب القسم ، وجواب الشرط
محذوف ... واللام في قوله «لنصدقن» ... واقعة في جواب القسم .
وقوله : (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بَخِلُوا بِهِ) ... بيان لموقفهم الجحودى من عطاء الله وكرمه.
أى : فلما أعطى
الله ـ تعالى ـ من فضله هؤلاء المنافقين ما تمنوه من مال وفير «بخلوا به» أى :
بخلوا بهذا المال ، فلم ينفقوا منه شيئا في وجوهه المشروعة ، ولم يعترفوا فيه
بحقوق الله أو حقوق الناس ، ولم يكتفوا بذلك بل «تولوا وهم معرضون».
أى : أدبروا عن
طاعة الله وعن فعل الخير ، وهم قوم دأبهم التولي عن سماع الحق ، وشأنهم الانقياد
للهوى والشيطان.
__________________
وقوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ...) تصوير للآثار الذميمة التي ترتبت على بخلهم وإعراضهم عن
الحق والخير.
أى : فجعل الله ـ تعالى
ـ عاقبة فعلهم نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم إلى يوم يلقونه للحساب ، فيجازيهم بما
يستحقون على بخلهم وإعراضهم عن الحق.
فالضمير المستتر
في «أعقب» لله ـ تعالى ـ وكذا الضمير المنصوب في قوله : «يلقونه».
ويصح أن يكون
الضمير في «أعقب» يعود على البخل والتولي والإعراض ، فيكون المعنى : فأعقبهم
وأورثهم ذلك البخل والتولي والإعراض عن الحق والخير ، نفاقا راسخا في قلوبهم ،
وممتدا في نفوسهم إلى اليوم الذي يلقون فيه ربهم ، فيعاقبهم عقابا أليما على سوء
أعمالهم.
والباء في قوله : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ
وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) للسببية.
أى : أن النفاق قد
باض وفرخ في قلوبهم إلى يوم يلقون الله ـ تعالى ـ ، بسبب إخلافهم لوعودهم مع
خالقهم ، وبسبب استمرارهم على الكذب ، ومداومتهم عليه.
ثم ختم ـ سبحانه ـ
هذه الآيات الكريمة ، بتوبيخهم على إصرارهم على المعاصي ، مع علمهم بأنه ـ عزوجل ـ عليم رقيب عليهم ، ومطلع على أحوالهم فقال : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
أى : ألم يعلم
هؤلاء المنافقون أن الله ـ تعالى ـ يعلم ما يسرونه في أنفسهم من نفاق ، وما
يتناجون به فيما بينهم من أقوال فاسدة ، وأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء في
الأرض ولا في السماء؟ بلى إنهم ليعلمون ذلك علم اليقين ، ولكنهم لاستيلاء الهوى
والشيطان عليهم ، لم ينتفعوا بعلمهم.
فالاستفهام في
قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا ..) للتوبيخ والتهديد والتقرير ، وتنبيهم إلى أن الله عليم
بأحوالهم ، وسيجازيهم عليها.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
١ ـ وجوب الوفاء
بالعهود ، فإن نقض العهود ، وخلف الوعد ، والكذب كل ذلك يورث النفاق ، فيجب على
المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.
ومذهب الحسن
البصري ـ رحمهالله ـ أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية
وبقوله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن
: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» .
٢ ـ أن للإمام أن
يمتنع عن قبول الصدقة من صاحبها إذا رأى المصلحة في ذلك ، اقتداء بما فعله الرسول صلىاللهعليهوسلم مع ثعلبة ، فإنه لم يقبل منه الصدقة بعد أن جاء بها.
قال الإمام الرازي
: فإن قيل إن الله ـ تعالى ـ أمره ـ أى ثعلبة ـ بإخراج الصدقة فكيف يجوز من الرسول
صلىاللهعليهوسلم أن لا يقبلها منه؟
قلنا : لا يبعد أن
يقال أنه ـ تعالى ـ منع رسوله عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له ، ليعتبر
غيره به ، فلا يمتنع عن أداء الصدقات.
ولا يبعد ـ أيضا ـ
أنه إنما أتى بها على وجه الرياء لا على وجه الإخلاص وأعلم الله رسوله بذلك ، فلم
يقبل تلك الصدقة لهذا السبب.
ويحتمل ـ أيضا ـ أنه
ـ تعالى ـ لما قال : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقة ، فلهذا
السبب امتنع رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أخذ تلك الصدقة .
٣ ـ أن النفس
البشرية ضعيفة شحيحة ـ إلا من عصم الله.
وأن مما يعين
الإنسان على التغلب على هذا الضعف والشح ، أن يوطن نفسه على طاعة الله ، وأن
يجبرها إجبارا على مخالفة الهوى والشيطان ، وأن يؤثر ما عند الله على كل شيء من
حطام الدنيا ...
أما إذا ترك لنفسه
أن تسير على هواها ، فإنها ستورده المهالك ، التي لن ينفع معها الندم ، وستجعله
أسير شهواته وأطماعه ونفاقه إلى أن يلقى الله ، وصدق ـ سبحانه ـ حيث يقول : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ، بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا
يَكْذِبُونَ).
ثم حكى ـ سبحانه ـ
موقف هؤلاء المنافقين من المؤمنين الصادقين الذين كانوا يبذلون أموالهم في سبيل
الله ، فقال ـ سبحانه :
__________________
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ
إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ)(٧٩)
قال الإمام ابن
كثير عند تفسيره لهذه الآية : وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم
ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم. إن جاء أحد منهم بمال
جزيل ، قالوا : هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا ،
كما روى البخاري عن أبى مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : لما نزلت آية الصدقة كنا
نحامل على ظهورنا ـ أى : نؤاجر أنفسنا في الحمل ـ فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ،
فقالوا هذا يقصد الرياء ، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغنى عن صدقة هذا
، فنزلت هذه الآية .
وأخرج ابن جرير عن
عمر بن أبى سلمة عن أبيه : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «تصدقوا فإنى أريد أن أبعث بعثا ، ـ أى إلى تبوك ـ قال
: فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله .. إن عندي أربعة آلاف : ألفين أقرضهما
الله ، وألفين لعيالي.
قال : فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت»؟! فقال
رجل من الأنصار : وإن عندي صاعين من تمر ، صاعا لربي ، وصاعا لعيالي ، قال : فلمز
المنافقون وقالوا : ما أعطى أبو عوف هذا إلا رياء!!
وقالوا : أو لم
يكن الله غنيا عن صاع هذا!! فأنزل الله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ ...) .
وقال ابن إسحاق :
كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدى ـ أخا بني
عجلان ـ وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم رغب في الصدقة وحض عليها. فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق
بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عدى وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما ، وقالوا : ما
هذا إلا رياء. وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل ـ أخا بني أنيف ـ أتى بصاع من تمر ،
فأفرغها في الصدقة ، فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل» .
__________________
هذه بعض الروايات
التي وردت في سبب نزول هذه الآية ، وهناك روايات أخرى ، قريبة في معناها بما
ذكرناها.
وقوله : «يلمزون»
من اللمز ، يقال : لمز فلان فلانا إذا عابه وتنقصه.
والمراد بالمطوعين
: أغنياء المؤمنين الذين قدموا أموالهم عن طواعية واختيار ، من أجل إعلاء كلمة
الله.
والمراد بالصدقات
: صدقات التطوع التي يقدمها المسلم زيادة على الفريضة.
والمراد بالذين لا
يجدون إلا جهدهم : فقراء المسلمين. الذين كانوا يقدمون أقصى ما يستطيعونه من مال
مع قلته ، إذ الجهد : الطاقة ، وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان.
والمعنى : إن من
الصفات القبيحة ـ أيضا ـ للمنافقين ، أنهم كانوا يعيبون على المؤمنين ، إذا ما
بذلوا أموالهم لله ورسوله عن طواعية نفس ، ورضا قلب ، وسماحة ضمير ....
وذلك لأن هؤلاء
المنافقين ـ لخلو قلوبهم من الإيمان ـ كانوا لا يدركون الدوافع السامية ، والمقاصد
العالية من وراء هذا البذل ..
ومن أجل هذا كانوا
يقولون عن المكثر : إنه يبذل رياء ، وكانوا يقولون عن المقل : إن الله غنى عن
صدقته ، فهم ـ لسوء نواياهم وبخل نفوسهم ، وخبث قلوبهم ـ لا يرضيهم أن يروا
المؤمنين يتنافسون في إرضاء الله ورسوله.
وقوله : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا
جُهْدَهُمْ) معطوف على قوله : (الْمُطَّوِّعِينَ).
أى : أن هؤلاء
المنافقين يلمزون الأغنياء المطوعين بالمال الكثير ، ويلمزون الفقراء الباذلين
للمال القليل ؛ لأنه هو مبلغ جهدهم ، وآخر طاقتهم.
وقوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) بيان لموقفهم الذميم من المؤمنين.
أى : إن هؤلاء
المنافقين يستهزئون بالمؤمنين عند ما يلبون دعوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الإنفاق في سبيل الله.
وجاء عطف (فَيَسْخَرُونَ) على (يَلْمِزُونَ) بالفاء ، للإشعار بأنهم قوم يسارعون إلى الاستهزاء
بالمؤمنين ، بمجرد أن يصدر عن المؤمنين أى عمل من الأعمال الصالحة التي ترضى الله
ورسوله.
وقوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) بيان لجزائهم وسوء عاقبتهم.
أى : إن هؤلاء
الساخرين من المؤمنين جازاهم الله على سخريتهم في الدنيا ، بأن فضحهم وأخزاهم ،
وجعلهم محل الاحتقار والازدراء ...
أما جزاؤهم في
الآخرة فهو العذاب الأليم الذي لا يخف ولا ينقطع.
وبذلك نرى الآية
الكريمة قد بينت جانبا من طبائع المنافقين وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ويبشرهم
بالعذاب الأليم.
ثم عقب الله ـ تعالى
ـ هذا الحكم عليهم بالعذاب الأليم ، بحكم آخر وهو عدم المغفرة لهم بسبب إصرارهم
على الكفر والفسوق ، فقال ـ تعالى ـ :
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٨٠)
قال الجمل : قال
المفسرون : لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين ، وفي بيان نفاقهم ، وظهر أمرهم
للمؤمنين ، جاءوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتذرون إليه ، ويقولون : استغفر لنا فنزلت هذه الآية.
وهذا كلام خرج
مخرج الأمر ومعناه الخبر ، والتقدير : استغفارك وعدمه لهم سواء .
وإنما جاء هذا
الخبر هنا في صورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما.
وقد جاء هذا الحكم
في صورة الخبر في موضع آخر هو قوله ـ تعالى ـ (سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ
لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) .
والمقصود بذكر
السبعين في قوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) إرادة التكثير ، والمبالغة في كثرة الاستغفار ، فقد جرت
عادة العرب في أساليبهم على استعمال هذا العدد للتكثير لا للتحديد ، فهو لا مفهوم
له.
ونظيره قوله ـ تعالى
ـ (ذَرْعُها سَبْعُونَ
ذِراعاً ..) .
أى : مهما استغفرت
لهم يا محمد فلن يغفر الله لهم.
وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) بيان للأسباب التي أدت إلى عدم مغفرة الله لهم.
__________________
واسم الإشارة «ذلك»
يعود إلى امتناع المغفرة لهم ، المفهوم من قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ
لَهُمْ).
أى : ذلك الحكم
الذي أصدرناه عليهم بعدم مغفرة ذنوبهم مهما كثر استغفارك لهم ، سببه : أنهم قوم «كفروا
بالله ورسوله» ومن كفر بالله ورسوله ، فلن يغفر الله له ، مهما استغفر له
المستغفرون ، وشفع له الشافعون.
وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تذييل مؤكد لما قبله ، أى والله ـ تعالى ـ لا يهدى إلى
طريق الخير أولئك الذين فسقوا عن أمره ، وخرجوا عن طاعته ، ولم يستمعوا إلى نصح
الناصحين ، وإرشاد المرشدين ، وإنما آثروا الغواية على الهداية.
هذا ، ويؤخذ من
هذه الآية الكريمة ، شدة شفقته صلىاللهعليهوسلم بأمته ، وحرصه على هدايتها ، وكثرة دعائه لها بالرحمة
والمغفرة ، وأنه مع إيذاء المنافقين له كان يستغفر لهم ـ أملا في توبتهم ـ إلى أن
نهاه الله عن ذلك.
روى ابن جرير عن
ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية ، قال الرسول صلىاللهعليهوسلم أسمع ربي قد رخص لي فيهم ، فو الله لأستغفرن أكثر من سبعين
مرة ، فلعل الله أن يغفر لهم ، فقال الله ـ تعالى ـ من شدة غضبه عليهم (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ...) .
وعن قتادة لما
نزلت هذه الآية قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «وقد خيرنى ربي فلأزيدنهم على السبعين» فقال الله ـ تعالى
ـ : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ
لَهُمْ ...) .
وهكذا أصدر الله
حكمه العادل في هؤلاء المنافقين ، بعدم المغفرة لهم ، بسبب كفرهم به وبرسوله ...
وبعد هذا الحديث
الطويل المتنوع عن أحوال المنافقين ومسالكهم الخبيثة ، أخذت السورة الكريمة في
الحديث عن حال المنافقين الذين تخلفوا في المدينة ، وأبوا أن يخرجوا مع الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك ، فقال ـ تعالى ـ :
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ
بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ
__________________
وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ)(٨٣)
وقوله : «المخلفون»
اسم مفعول مأخوذ من قولهم خلف فلان فلانا وراءه إذا تركه خلفه.
والمراد بهم :
أولئك المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك بسبب ضعف إيمانهم ، وسقوط
همتهم ، وسوء نيتهم ..
قال الجمل : وقوله
(خِلافَ رَسُولِ اللهِ) فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر
مدلول عليه بقوله «مقعدهم» لأنه في معنى تخلفوا أى : تخلفوا خلاف رسول الله.
الثاني : أن خلاف مفعول لأجله والعامل فيه إما فرح وإما مقعد. أى : فرحوا لأجل
مخالفتهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه. أو بقعودهم لمخالفتهم
له ، وإليه ذهب الطبري والزجاج ، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : «خلف رسول الله» ـ بضم
الخاء واللام ، الثالث : أن ينتصب على الظرف. أى بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد
خلاف القوم ، أى : تخلف بعد ذهابهم ، وخلاف يكون ظرفا ، وإليه ذهب أبو عبيدة وغيره
، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس ، وأبى حيوه ، وعمرو بن ميمون ، «خلف رسول الله» ـ بفتح
الخاء وسكون اللام .
والمعنى : فرح
المخلفون : من هؤلاء المنافقين ، بسبب قعودهم في المدينة ، وعدم خروجهم إلى تبوك
للجهاد مع الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، وكرهوا أن يبذلوا شيئا من أموالهم وأنفسهم من
أجل إعلاء كلمة الله.
__________________
وإنما فرحوا بهذا
القعود ، وكرهوا الجهاد ؛ لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإيمان بالله واليوم الآخر ،
وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالى الأمور ، وآثروا الدنيا وشهواتها الزائلة على
الآخرة ونعيمها الباقي.
وفي التعبير بقوله
: (الْمُخَلَّفُونَ) تحقير لهم ، وإهمال لشأنهم ، حتى لكأنهم شيء من سقط المتاع
الذي يخلف ويترك ويهمل ؛ لأنه لا قيمة له ، أو لأن ضرره أكبر من نفعه.
قال الآلوسى :
وإيثار ما في النظم الكريم على أن يقال ، وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب
التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح وهو
القعود خلاف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه» .
وقوله : (وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) حكاية لأقوالهم التي تدل على ضعفهم وجبنهم ، وعلى أنهم قوم
لا يصلحون للأعمال التي يصلح لها الرجال.
أى. وقال هؤلاء
المنافقون المخلفون لغيرهم ، اقعدوا معنا في المدينة ، ولا تخرجوا للجهاد مع
المؤمنين ، فإن الحر شديد ، والسفر طويل ، وقعودكم يريحكم من هذه المتاعب ، ويحمل
غيرنا وغيركم على القعود معنا ومعكم ، وبذلك ننال بغيتنا من تثبيط همة المجاهدين
عن الجهاد في سبيل الله.
وقوله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) رد على أقولهم القبيحة ، وأفعالهم الخبيثة ، أى ، قل يا
محمد لهؤلاء المنافقين على سبيل التهكم بهم ، والتحقير من شأنهم : نار جهنم أشد
حرا من هذا الحر الذي تخشونه وترونه مانعا من النفير بل هي أشد حرا من نار الدنيا
...
روى الإمام مالك
عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال : «نار بنى آدم التي توقدونها. جزء من سبعين جزءا من
نار جهنم .. .
ورحم الله صاحب
الكشاف فقد قال : وقوله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا) استجهال لهم ، لأن من تصون مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك
التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل ، ولبعضهم :
مسرة أحقاب
تلقيت بعدها
|
|
مساءة يوم أريها
شبه الصاب
|
فكيف بأن تلقى
مسرة ساعة
|
|
وراء تقضيها
مساءة أحقاب
|
__________________
أى : أن حزن يوم
واحد يجعل المسرات الطويلة قبله تتحول إلى ما يشبه الصاب مرارة ، فكيف يكون الحال
إذا كانت المسرات ساعة واحدة تعقبها أحقاب طويلة من المساءات؟!!.
وقوله : (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) تذييل قصد به الزيادة في توبيخهم وتحقيرهم.
أى : لو كانوا
يفقهون أن نار جهنم أشد حرا ويعتبرون بذلك ، لما فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ،
ولما كرهوا الجهاد ، ولما قالوا ما قالوا ، بل لحزنوا واكتأبوا على ما صدر منهم ،
ولبادروا بالتوبة والاستغفار ، كما فعل أصحاب القلوب والنفوس النقية من النفاق
والشقاق.
وقوله : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا
كَثِيراً ..) وعيد لهم بسوء مصيرهم ، وإخبار عن عاجل أمرهم وآجله ، من
الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الآخرة.
والمعنى : إنهم
وإن فرحوا وضحكوا طوال أعمارهم في الدنيا ، فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة
، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية ، والمنقطع الفاني قليل بالنسبة إلى الدائم
الباقي.
قال صاحب المنار :
وفي معنى الآية قوله صلىاللهعليهوسلم «لو تعلمون ما
أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» متفق عليه ، بل رواه الجماعة إلا أبا داود من
حديث أنس ، ورواه الحاكم من حديث أبى هريرة بلفظ «لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا».
ثم قال : وإنما
كان الأمر في الآية بمعنى الخبر ، لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف وقد قيل في فائدة
هذا التعبير عن الخبر بالإنشاء ، إنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما
هو شأن الخبر لذاته في احتمالها ، لأن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب وهو حتم ..»
.
وقوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تذييل قصد به بيان عدالته ، سبحانه ، في معاملة عباده.
أى : أننا ما
ظلمناهم بتوعدنا لهم بالضحك القليل وبالبكاء الكثير ، وإنما هذا الوعيد جزاء لهم
على ما اكتسبوه من فنون المعاصي ، وما اجترحوه من محاربة دائمة لدعوة الحق.
وقوله : (جَزاءً) مفعول للفعل الثاني. أى : ليبكوا جزاء ، ويجوز أن يكون
مصدرا حذف ناصبه. أى : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء.
وجمع ـ سبحانه ـ في
قوله (بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) بين صيغتي الماضي والمستقبل ، للدلالة على الاستمرار
التجددي ماداموا في الدنيا.
ثم بين ـ سبحانه ـ
ما يجب على الرسول نحو هؤلاء المخلفين الكارهين للجهاد ، فقال :
__________________
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ..).
قوله : (رَجَعَكَ) من الرجع بمعنى تصيير الشيء إلى المكان الذي كان فيه أولا.
والفعل رجع أحيانا يستعمل لازما كقوله ـ تعالى ـ : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً ..).
وفي هذه الحالة
يكون مصدره الرجوع ، وأحيانا يستعمل متعديا كالآية التي معنا ، وكقوله ـ تعالى ـ :
(فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ
كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ..) وفي هذه الحالة يكون مصدره الرجع لا الرجوع.
قال الآلوسى : و «رجع»
هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع ، وقد يكون لازما ومصدره الرجوع ، وأوثر هنا
استعمال المتعدى ـ وإن كان استعمال اللازم كثيرا ـ إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه
من الخطر يحتاج الرجوع منه إلى تأييد إلهى ، ولذا أوثرت كلمة «إن» على «إذا» .
والمعنى : فإن ردك
الله ـ تعالى ـ من سفرك هذا ـ أيها الرسول الكريم ـ إلى طائفة من هؤلاء المنافقين
الذين تخلفوا عن الخروج معك إلى تبوك «فاستأذنوك للخروج» معك في غزوة أخرى بعد هذه
الغزوة «فقل» لهم على سبيل الإهانة والتحقير «لن تخرجوا معى أبدا» مادمت على قيد
الحياة «ولن تقاتلوا معى عدوا» من الأعداء الذين أمرنى الله بقتالهم ، والسبب في
ذلك «إنكم» أيها المنافقون «رضيتم بالقعود» عن الخروج معى وفرحتم به في «أول مرة»
دعيتم فيها إلى الجهاد ، فجزاؤكم وعقابكم أن تقعدوا «مع الخالفين» أى : مع الذين
تخلفوا عن الغزو لعدم قدرتهم على تكاليفه كالمرضى والنساء والصبيان. أو مع الأشرار
الفاسدين الذين يتشابهون معكم في الجبن والنفاق وسوء الأخلاق.
قال الإمام الرازي
ما ملخصه ، ذكروا في تفسير الخالف وجوها :
الأول : قال أبو
عبيدة الخالفون جمع ، واحدهم خالف ، وهو من يخلف الرجل في قومه ، ومعناه : فاقعدوا
مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت فلا يبرحونه.
الثاني : أن
الخالفين فسر بالمخالفين ، يقال : فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم ، وقوم
خالفون أى : كثير والخلاف لغيرهم.
الثالث : أن
الخالف هو الفاسد. قال الأصمعى : يقال : خلف عن كل خير يخلف خلوفا إذا فسد ، وخلف
اللبن إذا فسد.
__________________
إذا عرفت هذه
الوجوه الثلاثة فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها ، لأن أولئك المنافقين
كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات السيئة ...» .
وقال ـ سبحانه ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ
مِنْهُمْ ...) ولم يقل فإن رجعك الله إليهم ، لأن جميع الذين تخلفوا عن
الخروج مع الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك ، لم يكونوا من المنافقين ، بل كان هناك من تخلف
بأعذار مقبولة ، كالذين أتوا إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ليحملهم معه ، فقال لهم : «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا «وأعينهم
تفيض من الدمع حزنا».
وسيأتى الحديث
عنهم بعد قليل.
وقوله : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ،
وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) إخبار في معنى النهى للمبالغة وجمع ـ سبحانه ـ بين
الجملتين زيادة في تبكيتهم ، وفي إهمال شأنهم ، وفي كراهة مصاحبتهم ...
وذلك ، لأنهم لو
خرجوا مع المؤمنين ما زادوهم إلا خبالا ، ولو قاتلوا معهم ، لكان قتالهم خاليا من
الغاية السامية التي من أجلها قاتل المؤمنون وهي إعلاء كلمة الله ، وكل قتال خلا
من تلك الغاية كان مآله إلى الهزيمة ..
هذا ، وقد اشتملت
هذه الآيات الكريمة على أسوأ صفات المنافقين ، كما اشتملت على أشد ألوان الوعيد
لهم في الدنيا والآخرة «جزاء بما كانوا يكسبون».
قال الجمل : وفي
قوله ـ تعالى ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ...) الآية دليل على أن الشخص إذا ظهر منه مكر وخداع وبدعة ،
يجب الانقطاع عنه ، وترك مصاحبته ، لأنه ـ سبحانه ـ منع المنافقين من الخروج مع
الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى الجهاد ، وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم
وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات .
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ ما يجب أن يفعله الرسول صلىاللهعليهوسلم معهم في حياتهم ، أتبع ذلك ببيان ما يجب أن يفعله معهم بعد
مماتهم فقال ـ تعالى ـ :
(وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ)(٨٤)
__________________
قال الإمام ابن
كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : «أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يبرأ من المنافقين ، وأن لا يصلى على أحد منهم إذا مات
، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له ، أو يدعو له ؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله ،
وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبى بن سلول
رأس المنافقين.
فقد روى البخاري
عن ابن عمر قال : لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ، ثم
سأله أن يصلى عليه ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليصلى عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : يا رسول الله ، تصلى عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلى
عليه؟ فقال الرسول صلىاللهعليهوسلم «وإنما خيرنى الله»
فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وسأزيده على السبعين. قال : إنه منافق ـ قال : فصلى عليه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله ـ تعالى ـ قوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ..) الآية :
وروى الإمام أحمد
عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفى عبد الله ابن أبى دعى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم للصلاة عليه ، فقام عليه «فلما وقف عليه ـ يريد الصلاة ـ تحولت
حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله ، أعلى عدو الله : عبد الله بن أبى القائل
يوم كذا ، كذا وكذا ، ـ وأخذ يعدد أيامه. قال : ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال : تأخر عنى يا عمر. إنى خيرت
فاخترت ، قد قيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
...) الآية. لو أعلم أنى لو زدت على السبعين غفر له لزدت ، قال
: ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه. قال : فعجبت من جرأتى صلىاللهعليهوسلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم والله ورسوله أعلم. قال : فو الله ما كان إلا يسيرا حتى
نزلت (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية. قال : فما صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله ـ عزوجل» .
والمعنى : «لا تصل»
ـ أيها الرسول الكريم ـ «على أحد» من هؤلاء المنافقين «مات أبدا ولا تقم على قبره»
أى : ولا تقف على قبره عند الدفن أو بعده بقصد الزيارة أو الدعاء له ، وذلك لأن
صلاتك عليهم ، ووقوفك على قبورهم شفاعة لهم ، ورحمة بهم ، وتكريم لشأنهم. وهم
ليسوا أهلا لذلك.
__________________
وقوله : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) تعليل للنهى عن الصلاة عليهم ، والوقوف على قبورهم.
أى : نهيناك ـ يا محمد
ـ عن ذلك ، لأن هؤلاء المنافقين قد عاشوا حياتهم كافرين بالله ورسوله ، ومحاربين
لدعوة الحق ، وماتوا وهم خارجون عن حظيرة الإيمان.
وجمع ـ سبحانه ـ بين
وصفهم بالكفر ووصفهم بالفسق زيادة في تقبيح أمرهم ، وتحقير شأنهم ؛ فهم لم يكتفوا
بالكفر وحده ، وإنما أضافوا إليه الفسق ، وهو الخروج عن كل قول طيب ، وخلق حسن ،
وفعل كريم.
قال بعضهم : فإن
قلت : الفسق أدنى حالا من الكفر ، فما الفائدة في وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر؟
قلت إن الكافر قد يكون عدلا بأن يؤدى الأمانة ، ولا يضمر لأحد سوءا ، وقد يكون
خبيثا كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير ، وهذا أمر مستقبح عند كل أحد
، ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة ، وصفهم الله ـ تعالى ـ بكونهم فاسقين
بعد أن وصفهم بالكفر» .
هذا ، ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتى :
١ ـ تحريم الصلاة
على الكافر ، والوقوف على قبره ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ومشروعية
الوقوف على قبره ، والدعاء له.
قال الإمام ابن
كثير : ولما نهى الله ـ تعالى ـ عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم
للاستغفار لهم ، كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين ، فشرع ذلك وفي
فعله الأجر الجزيل ، كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ، من
شهدها حتى تدفن فله قيراطان ، قيل : وما القيراطان ، قال : «أصغرهما مثل أحد».
وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات ، فروى أبو داود عن عثمان بن عفان قال : كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا فرغ من الميت وقف عليه وقال : «استغفروا لأخيكم
واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل».
٢ ـ وجوب منع كل
مظهر من مظاهر التكريم ـ في الحياة وبعد الممات عن الذين يحاربون دعوة الحق ، ويقفون
في وجه انتشارها وظهورها :
__________________
أما منع تكريمهم
في حياتهم فتراه في قوله ـ تعالى ـ في الآية السابقة :
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
وأما منع تكريمهم
بعد مماتهم فتراه في هذه الآية : (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).
ولا شك أن حجب كل
تكريم عن أولئك المنافقين في العهد النبوي ، كان له أثره القوى في انهيار دولتهم ،
وافتضاح أمرهم ، وذهاب ريحهم ، وتهوين شأنهم ..
هذا ، وما فعله
الرسول صلىاللهعليهوسلم مع عبد الله بن أبى من الصلاة عليه ، والقيام على قبره
إنما كان قبل نزول هذه الآية ..
أو أنه صلىاللهعليهوسلم فعل ذلك تطييبا لقلب ابنه الذي كان من فضلاء الصحابة
وأصدقهم إسلاما.
فقد سبق أن ذكرنا
ما رواه البخاري عن ابن عمر أنه قال : لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ثم
سأله أن يصلى عليه .. الحديث.
ثم نهى الله ـ تعالى
ـ كل من يصلح للخطاب عن الاغترار بما عند هؤلاء المنافقين من مال وولد ، فقال ـ تعالى
:
(وَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٨٥)
أى : عليك ـ أيها
العاقل ـ أن لا تغتر بما عند هؤلاء المنافقين من أموال وأولاد ، وأن لا يداخل قلبك
شيء من الإعجاب بما بين أيديهم من نعم ، فإن هذه النعم ـ التي من أعظمها الأموال
والأولاد ـ إنما أعطاهم الله إياها ، ليعذبهم بسببها في الدنيا عن طريق التعب في
تحصيلها ، والحزن عند فقدها وهلاكها.
وقوله : (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كافِرُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان عذابهم في الدنيا ،
وزهوق النفس : خروجها من الجسد بمشقة وتعب.
أى : أنهم في
الدنيا تكون النعم التي بين أيديهم ، مصدر عذاب لهم ، وأما في الآخرة
فعذابهم أشد وأبقى
، لأن أرواحهم قد خرجت من أبدانهم وهم مصرون على الكفر والضلال.
فأنت ترى أن الآية
الكريمة قد توعدت هؤلاء المنافقين بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة ، ومن كان مصيره
كهذا المصير ، لا يستحق الإعجاب أو التكريم وإنما يستحق الاحتقار والإهمال.
وهذه الآية
الكريمة ، قد سبقتها في السورة نفسها آية أخرى شبيهة بها. وهي قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا
أَوْلادُهُمْ ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ، وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) .
وقد أشار صاحب
الكشاف إلى سر هذا التكرار فقال : «وقد أعيد قوله (وَلا تُعْجِبْكَ ...) ؛ لأن تجدد النزول له شأنه في تقرير ما نزل له وتأكيده ،
وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به
مهم يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشيء
الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا
المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
موقف المنافقين وموقف المؤمنين بالنسبة للجهاد ، كما بين عاقبة كل فريق فقال ـ تعالى
ـ :
(وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا
الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦)
رَضُوا
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ
لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨)
أَعَدَّ
اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٨٩)
__________________
والمراد بالسورة
في قوله ـ سبحانه ـ (وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ) : كل سورة ذكر الله ـ تعالى ـ فيها وجوب الإيمان به
والجهاد في سبيله.
أى : أن من الصفات
الذميمة لهؤلاء المنافقين ، أنهم كلما نزلت سورة قرآنية ، تدعو في بعض آياتها
الناس إلى الإيمان بالله والجهاد في سبيله ، ما كان منهم عند ذلك إلا الجبن
والاستخذاء والتهرب من تكاليف الجهاد ...
وقوله : (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ ...) بيان لحال هؤلاء المنافقين عند نزول هذه السورة.
والطول ـ بفتح
الطاء ـ يطلق على الغنى والثروة ، مأخوذ من مادة الطول بالضم التي هي ضد القصر.
والمراد بأولى
الطول : رؤساء المنافقين وأغنياؤهم والقادرون على تكاليف الجهاد.
أى : عند نزول
السورة الداعية إلى الجهاد ، يجيء هؤلاء المنافقون أصحاب الغنى والثروة ، إلى
الرسول صلىاللهعليهوسلم ليستأذنوا في القعود وعدم الخروج ... وليقولوا له بجبن
واستخذاء (ذَرْنا نَكُنْ مَعَ
الْقاعِدِينَ).
أى : اتركنا يا
محمد مع القاعدين في المدينة من العجزة والنساء والصبيان ، واذهب أنت وأصحابك إلى
القتال.
وإنما خص ذوى
الطول بالذكر ، تخليدا لمذمتهم واحتقارهم ؛ لأنه كان المتوقع منهم أن يتقدموا صفوف
المجاهدين ، لأنهم يملكون وسائل الجهاد والبذل ، لا ليتخاذلوا ويعتذروا ، ويقولوا
ما قالوا مما يدل على جبنهم والتوائهم.
وقوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ) زيادة في تحقيرهم وذمهم.
والخوالف : جمع
خالفة ، ويطلق على المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال لضعفها ، كما يطلق لفظ الخالفة
ـ أيضا ـ على كل من لا خير فيه.
والمعنى : رضى
هؤلاء المنافقون لأنفسهم ، أن يبقوا في المدينة مع النساء ، ومع كل من لا خير فيه
من الناس ، ولا يرضى بذلك إلا من هانت كرامته ، وسقطت مروءته ، وألف الذل والصغار.
وقوله (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ) بيان لما ترتب على استمرارهم في النفاق ، وعدم رجوعهم إلى
طريق الحق.
أى : أنه ترتب على
رسوخهم في النفاق ، وإصرارهم على الفسوق والعصيان أن ختم الله
على قلوبهم ،
فصارت لا تفقه ما في الإيمان والجهاد من الخير والسعادة ، وما في النفاق والشقاق
من الشقاء والهلاك.
وقوله ـ سبحانه ـ (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) استدراك لبيان حال الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، بعد بيان حال المنافقين.
أى : إذا كان حال
المنافقين كما وصفنا من جبن وتخاذل وهوان ... فإن حال المؤمنين ليس كذلك ، فإنهم
قد وقفوا إلى جانب رسولهم صلىاللهعليهوسلم فجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله ،
وأطاعوه في السر والعلن ، وآثروا ما عند الله على كل شيء في هذه الحياة ...
وقد بين ـ سبحانه
ـ جزاءهم الكريم فقال : (وَأُولئِكَ لَهُمُ
الْخَيْراتُ) أى : أولئك المؤمنون الصادقون لهم الخيرات التي تسر النفس
، وتشرح الصدر في الدنيا والآخرة (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بسعادة الدارين.
«أعد الله» ـ تعالى
ـ لهؤلاء المؤمنين الصادقين «جنات تجرى من» تحت ثمارها وأشجارها ومساكنها «الأنهار
خالدين» في تلك الجنات خلودا أبديا ، و «ذلك» العطاء الجزيل ، هو «الفوز العظيم»
الذي لا يدانيه فوز ، ولا تقاربه سعادة.
وبذلك ترى أن هذه
الآيات الكريمة قد ذمت المنافقين لجبنهم ، وسوء نيتهم ، وتخلفهم عن كل خير ...
ومدحت الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، الذين نهضوا بتكاليف العقيدة ، وأدوا ما يجب
عليهم نحو خالقهم وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمته ـ سبحانه.
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ أحوال المنافقين من سكان المدينة ، أتبع ذلك بالحديث عن المنافقين من الأعراب
سكان البادية فقال ـ تعالى :
(وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا
اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٠)
قال القرطبي ما
ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) قرأ الأعرج والضحاك المعذرون مخففا ، ورواها أبو كريب عن
أبى بكر عن عاصم ... وهي من
أعذر ، ومنه قد
أعذر من أنذر ، أى : قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك ، وأما ، «المعذرون»
بالتشديد ـ وهي قراءة الجمهور ـ ففيها قولان :
أحدهما : أنه يكون
المحق ، فهو في المعنى المعتذر ، لأن له عذرا ، فيكون «المعذرون» على هذه أصله
المعتذرون ، ثم أدغمت التاء في الذال ...
وثانيهما : أن
المعذر قد يكون غير محق ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له.
والمعنى ، أنهم
اعتذروا بالكذب ...
قال الجوهري :
وكان ابن عباس يقول : لعن الله المعذرين ، كان الأمر عنده أن المعذر ـ بالتشديد ـ هو
المظهر للعذر ، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر ...» .
ومن هذه الأقوال
التي نقلناها عن القرطبي يتبين لنا أن من المفسرين من يرى أن المقصود من المعذرين
: أصحاب الأعذار المقبولة.
وقد رجح الإمام
ابن كثير هذا الرأى فقال : بين الله ـ تعالى ـ حال ذوى الأعذار في ترك الجهاد ،
وهم الذين جاءوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتذرون إليه ، ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة
على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة.
قال الضحاك عن ابن
عباس : إنه كان يقرأ «وجاء المعذرون» ـ بالتخفيف ، ويقول : هم أهل العذر ... وهذا
القول أظهر في معنى الآية ؛ لأنه ـ سبحانه ـ قال بعد هذا : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ).
أى : لم يأتوا
فيعتذروا ...» .
وعلى هذا الرأى
تكون الآية قد ذكرت قسمين من الأعراب : قسما جاء معتذرا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقسما لم يجئ ولم يعتذر ، وهذا القسم هو الذي توعده الله
بسوء المصير.
ومنهم من يرى أن
المقصود بالمعذرين : أصحاب الأعذار الباطلة ، وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف
فقال : «المعذرون» من عذر في الأمر ، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد فيه ، وحقيقته
أنه يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له.
أو المعتذرون
بإدغام التاء في الذال ، وهم الذين يعتذرون بالباطل ، كقوله ، يعتذرون إليكم إذا
رجعتم إليهم ...
وقرئ «المعذرون»
بالتخفيف : وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه. قيل هم أسد
__________________
وغطفان. قالوا :
إن لنا عيالا ، وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف.
وقيل : هم رهط
عامر بن الطفيل ، قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا ومواشينا ،
فقال صلىاللهعليهوسلم «سيغنيني الله
عنكم» وعن مجاهد : نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله ـ تعالى ـ وعن قتادة :
اعتذروا بالكذب ... .
وعلى هذا الرأى
تكون الآية الكريمة قد ذكرت قسمين ـ أيضا ـ من الأعراب ، إلا أن أولهما قد اعتذر
بأعذار غير مقبولة ، وثانيهما لم يعتذر ، بل قعد في داره مصرا على كفره ، ولذا قال
أبو عمرو بن العلاء : كلا الفريقين كان سيئا : قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين
عناهم الله ـ تعالى. بقوله (وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ) ، وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله وهم
المنافقون ، فتوعدهم الله بقوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
والذي يبدو لنا أن
الرأى الأول أقرب إلى الصواب ؛ لتناسقه مع ما يفيده ظاهر الآية ، لأن الآية
الكريمة ذكرت نوعين من الأعراب ، أحدهما : المعذرون.
أى أصحاب الأعذار
، وثانيهما : الذين قعدوا في بيوتهم مكذبين لله ولرسوله ، فتوعدهم ـ سبحانه ـ بالعذاب
الأليم ، ولأنه لا توجد قرينة قوية تجعلنا نرجح أن المراد بالمعذرين هنا ، أصحاب
الأعذار الباطلة ، لأن التفسير اللغوي للكلمة ـ كما نقلنا عن القرطبي ـ يجعلها
صالحة للأعذار المقبولة ، فكان الحمل على حسن الظن أولى ، والله ، تعالى ، بعد ذلك
هو العليم بأحوال العباد ، ما ظهر منها وما بطن.
وعلى هذا يكون
معنى الآية الكريمة : وعند ما استنفر النبي صلىاللهعليهوسلم الناس إلى غزوة تبوك ، جاءه أصحاب الأعذار من الأعراب
ليستأذنوه في عدم الخروج معه ، فقبل صلىاللهعليهوسلم ما هو حق منها.
وقوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) بيان للفريق الثاني من الأعراب وهو الذي لم يجئ إلى الرسول
صلىاللهعليهوسلم معتذرا.
أى : وقعد عن
الخروج إلى تبوك ، وعن المجيء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم للاعتذار ، أولئك الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإيمان
، وهم الراسخون في النفاق والعصيان من الأعراب سكان البادية.
وقوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) وعيد لهم بسوء العاقبة في الدارين.
__________________
أى : سيصيب الذين
أصروا على كفرهم ونفاقهم من هؤلاء الأعراب ، عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، أما
الذين رجعوا عن كفرهم ونفاقهم منهم ، وتابوا إلى الله ـ تعالى ـ توبة صادقة ،
فهؤلاء عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
الأعذار الشرعية المقبولة عنده وعند رسوله ، والتي تجعل صاحبها لا حرج عليه إذا ما
قعد معها عن القتال ، فقال ، تعالى :
(لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ
مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١)
وَلا
عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً
أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)(٩٢)
ذكر المفسرون في
سبب نزول هاتين الآيتين روايات ، منها ما جاء عن زيد بن ثابت أنه قال كنت أكتب
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فكنت أكتب «براءة» ، فإنى لواضع القلم على أذنى ، إذ أمرنا
بالقتال ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول
الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ...) الآية.
وروى العوفى عن
ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه. فجاءته عصابة من أصحابه
فيهم عبد الله بن مقرن المزني ، فقالوا : يا رسول الله ، احملنا. فقال لهم :
«والله لا أجد ما أحملكم عليه» ، فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد
، ولا يجدون نفقة ولا محملا ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله ، أنزل
عذرهم في كتابه فقال : لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) ... الآية.
وقال محمد بن
إسحاق ـ في سياق غزوة تبوك ـ : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم البكاءون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ...
فاستحملوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ، وكانوا أهل حاجة فقال : «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا
وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.»
والضعفاء : جمع
ضعيف ، وهو من ليس عنده القوة على القيام بتكاليف الجهاد ، كالشيوخ والنساء
والصبيان ...
والمرضى : جمع
مريض ، وهم الذين عرضت لهم أمراض حالت بينهم وبين الاشتراك في القتال ، وهؤلاء
عذرهم ينتهى بزوال أمراضهم.
والمعنى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم ، أو لشيخوخة أقعدتهم
، (وَلا عَلَى الْمَرْضى) الذين حالت أمراضهم بينهم وبين الجهاد (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ) وهم الفقراء القادرون على الحرب ، ولكنهم لا يجدون المال
الذين ينفقونه في مطالب الجهاد ، ولا يجدون الرواحل التي يسافرون عليها إلى أرض
المعركة ، ليس على هؤلاء جميعا (حَرَجٌ) أى : إثم أو ذنب بسبب عدم خروجهم مع النبي صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك لقتال الكافرين ...
وقوله : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) : بيان لما يجب عليهم في حال قعودهم.
قال الجمل : ومعنى
النصح ـ هنا ـ أن يقيموا في البلد ، ويحترزوا عن إنشاء الأراجيف ، وإثارة الفتن ،
ويسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو ، ويقوموا بمصالح
بيوتهم ، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ؛ ويتابعوا الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فجملة هذه الأمور تجرى مجرى النصح لله ورسوله ، .
وقوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) استئناف مقرر لمضمون ما قبله.
والمحسنون. جمع
محسن ، وهو الذي يؤدى ما كلفه الله به على وجه حسن.
والسبيل : الطريق
السهل الممهد الموصل إلى البغية. ومن ، زائدة لتأكيد النفي.
أى : ليس لأحد أى
طريق يسلكها لمؤاخذة هؤلاء المحسنين ، بسبب تخلفهم عن الجهاد ، بعد أن نصحوا لله
ولرسوله ، وبعد أن حالت الموانع الحقيقية بينهم وبين الخروج للجهاد.
قال الآلوسى :
والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه : وألطف سبك ، وهو من بليغ
الكلام ، لأن معناه : لا سبيل لعاتب عليهم ، أى : لا يمر بهم العاتب ، ولا يجوز في
أرضهم ، فما أبعد العتاب عنهم ، وهو جار مجرى المثل.
ويحتمل أن يكون
تعليلا لنفى الحرج عنهم و (الْمُحْسِنِينَ) على عمومه. أى : ليس عليهم حرج ، لأنه ما على جنس المحسنين
سبيل ، وهم من جملتهم .
__________________
وقال صاحب المنار
: «والشرع الإلهى يجازى المحسن بأضعاف إحسانه ، ولا يؤاخذ المسيء إلا بقدر إساءته
، فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح
المذكور. انقطعت طرق المؤاخذة دونهم والإحسان أعم من النصح المذكور فالجملة
الكريمة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم مقرونا بالدليل ، فكل ناصح لله ورسوله محسن ،
ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج ، وهذه المبالغة في أعلى مكانة من
أساليب البلاغة .
وقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : والله تعالى ـ واسع المغفرة ، كثير الرحمة ، يستر على
عباده المخلصين ما يصدر عنهم من تقصير تقتضيه طبيعتهم البشرية.
وقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ...) معطوف على ما قبله ، من عطف الخاص على العام ، اعتناء
بشأنهم ، وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر ، مع أنهم مندرجون مع الذين وصفهم الله قبل
ذلك «لا يجدون ما ينفقون».
أى : لا حرج ولا
إثم على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، إذا ما تخلفوا
عن الجهاد ، وكذلك لا حرج ولا إثم ـ أيضا ـ على فقراء المؤمنين ، الذين إذا ما
أتوك لتحملهم على الرواحل التي يركبونها لكي يخرجوا معك إلى هذا السفر الطويل قلت
لهم يا محمد «لا أجد ما أحملكم عليه».
وفي هذا التعبير
ما فيه من تطييب قلوب هؤلاء السائلين فكأنه صلىاللهعليهوسلم يقول لهم إن ما تطلبونه أنا أسأل عنه ، وأفتش عليه فلا
أجده ، ولو وجدته لقدمته إليكم.
وقوله : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) بيان للآثار التي ترتبت على عدم وجود ما يحملهم من رواحل :
لكي يخرجوا مع الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك.
أى : أن هؤلاء
المؤمنين الفقراء ، عند ما اعتذرت لهم بقولك : «لا أجد ما أحملكم عليه» انصرفوا من
مجلسك ، وأعينهم تسيل بالدموع من شدة الحزن لأنهم لا يجدون المال الذي ينفقونه في
مطالب الجهاد ، ولا الرواحل التي يركبونها في حال سفرهم إلى تبوك.
فالجملة الكريمة
تعطى صورة صادقة مؤثرة للرغبة الصادقة في الجهاد ، وللألم الشديد للحرمان من نعمة
أدائه.
وبمثل هذه الروح
ارتفعت راية الإسلام ، وعزت كلمته ، وانتشرت دعوته.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي نستطيع أن نأخذها من هاتين الآيتين ما يأتى :
__________________
١ ـ أن التكاليف
الإسلامية تقوم على اليسر ورفع الحرج ، ومن مظاهر ذلك : أن الجهاد. وهو ذروة سنام
الإسلام ، قد أعفى الله ـ تعالى ـ منه الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون وسائله
ومتطلباته.
قال الإمام
القرطبي : قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ..) هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز ، فكل من عجز عن
شيء مسقط عنه ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال. ونظير هذه
الآية قوله. تعالى ـ : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وقوله : (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) .
٢ ـ أنه متى وجدت
النية الصادقة في فعل الخير. حصل الثواب وإن لم يكن هناك عمل ، بدليل أن المؤمنين
الذين لم يخرجوا للجهاد لعذر شرعي ، بشرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بأنهم مشاركون لمن خرج في الأجر.
قال الإمام ابن
كثير : في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال. «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ، ولا سرتم سيرا
إلا وهم معكم قالوا : وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر».
وروى الإمام أحمد
عن جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقد خلفتم بالمدينة رجالا ، ما قطعتم واديا ، ولا سلكتم
طريقا ، إلا شاركوكم في الأجر ، حبسهم المرض» .
٣ ـ أن الصحابة ـ رضى
الله عنهم ـ ضربوا أروع الأمثال في الحرص على الجهاد والاستشهاد وأن أعذارهم
الشرعية لم تمنع بعضهم من المشاركة في القتال ...
فهذا عبد الله بن
أم مكتوم وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء. وهذا عمرو ابن الجموح ـ وكان
أعرج ـ يخرج في مقدمة الجيوش فيقول له الرسول صلىاللهعليهوسلم : «إن الله قد عذرك» فيقول : «والله لأحفرن بعرجتي هذه
الجنة» ـ أى لأتركن آثار أقدامى فيها.
ومن كان يؤتى به
وهو يمشى بين الرجلين معتمدا عليهما من شدة ضعفه» ومع ذلك يقف في صفوف المجاهدين.
وبهذه القلوب
السليمة ، والعزائم القوية والنفوس النقية التي خالط الإيمان شغافها ..
__________________
ارتفعت كلمة الحق
، وعزت كلمة الإسلام.
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ أحكام أصحاب الأعذار المقبولة ، أتبع ذلك ببيان أحكام الأعذار الكاذبة ، والصفات
القبيحة ، فقال تعالى.
(إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا
مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ
قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ
الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)(٩٦)
فهذه الآيات
الكريمة بيان لما سيكون من أمر المنافقين الذين قعدوا في المدينة بدون عذر ، بعد
أن يرجع الرسول صلىاللهعليهوسلم إليهم والمؤمنون من تبوك.
والمعنى : إذا كان
الضعفاء والمرضى ومن في حكمهم ، لا إثم ولا عقوبة عليهم بسبب تخلفهم عن الجهاد ،
فإن «السبيل» أى الإثم والعقوبة «على الذين يستأذونك» في التخلف «وهم أغنياء» أى
يملكون كل وسائل الجهاد من مال وقوة وعدة.
وقوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ) استئناف تعليلى مسبوق لمزيد مذمتهم.
أى : استأذنوك في
القعود مع غناهم وقدرتهم على القتال ، لأنهم لخلو قلوبهم من الإيمان ، ولسقوط
همتهم وجبنهم ، رضوا لأنفسهم أن يقبعوا في المدينة مع الخوالف من النساء والصبيان
والعجزة.
وقوله : (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ
لا يَعْلَمُونَ) بيان لسوء مصيرهم.
أى : وبسبب هذا
الإصرار على النفاق ، والتمادي في الفسوق والعصيان ، ختم الله ـ تعالى ـ على
قلوبهم ، فصارت لا تعلم ما يترتب على ذلك من مصائب دينية ودنيوية وأخروية.
وقوله : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا
رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) ، إخبار عما سيقولونه للمؤمنين عند لقائهم بهم.
أى : أن هؤلاء
المنافقين المتخلفين عن الجهاد مع قدرتهم عليه ، سيعتذرون إليكم ـ أيها المؤمنون ـ
إذا رجعتم إليهم من تبوك ، بأن يقولوا لكم مثلا : إن قعودنا في المدينة وعدم
خروجنا معكم كانت له مبرراته القوية. فلا تؤاخذنا.
وهذه الجملة
الكريمة من الأنباء التي أنبأ الله بها نبيه صلىاللهعليهوسلم عن أحوال المنافقين وعما سيقولونه له وللمؤمنين بعد عودتهم
إليهم ، وهذا يدل على أن هذه الآيات نزلت في أثناء العودة ، وقبل وصول الرسول
وأصحابه إلى المدينة من تبوك.
وقوله : (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ
لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) ، إبطال لمعاذيرهم ، وتلقين من الله ـ تعالى ـ لرسوله
بالرد الذي يخرس ألسنتهم.
أى : قل لهم ـ أيها
الرسول الكريم ـ عند ما يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم ، قل لهم : دعوكم من هذه
المعاذير الكاذبة ، ولا تتفوهوا بها أمامنا ، فإننا «لن نؤمن لكم» ولن نصدق
أقوالكم ، فإن الله ، تعالى. قد كشف لنا عن حقيقتكم ووضح لنا أحوالكم ، وبين لنا
ما أنتم عليه من نفاق وفسوق وعصيان ، وما دام الأمر كذلك ، فوفروا على أنفسكم هذه
المعاذير الكاذبة.
وقال ، سبحانه. (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ
أَخْبارِكُمْ) ولم يقل قد نبأنى ، للإشعار بأن الله ـ تعالى ـ قد أمر
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يبلغ المؤمنين بأحوال هؤلاء المنافقين حتى يكونوا على
بينة من أمرهم.
وقوله : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) تهديد لهم على نفاقهم وكذبهم.
أى : دعوا عنكم
هذه الأعذار الباطلة ، فإن الله ـ تعالى ـ مطلع على أحوالكم ، وسيعلم سركم وجهركم
علما يترتب عليه الجزاء العادل لكم ، ويبلغ رسوله صلىاللهعليهوسلم بأخباركم ، هذا
في الدنيا ، أما
في الآخرة ، فأنتم «ستردون» يوم القيامة «إلى عالم الغيب والشهادة» الذي لا يخفى
عليه شيء في الأرض ولا في السماء «فينبئكم بما كنتم تعملون» أى : فيخبركم بما كنتم
تعملونه في الدنيا من أعمال قبيحة ، وسيجازيكم عليها بما تستحقونه من عقاب.
ثم أخبر ـ سبحانه
ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم بأن هؤلاء المنافقين ، سيؤكدون أعذارهم الكاذبة بالأيمان
الفاجرة فقال : (سَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ...).
أى : أنهم سيحلفون
بالله لكم ـ أيها المؤمنون ـ إذا ما رجعتم إليهم من تبوك وذلك لكي تعرضوا عنهم فلا
توبخوهم على قعودهم ، ولا تعنفوهم على تخلفهم.
وقوله (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) تعليل لوجوب الإعراض عنهم ، لا على سبيل الصفح والعفو ، بل
على سبيل الإهمال والترك والاحتقار.
أى : فأعرضوا ـ أيها
المؤمنون ـ عن هؤلاء المنافقين المتخلفين ، لأنهم «رجس».
أى : قذر ونجس
لسوء نواياهم ، وخبث طواياهم.
وقد جعلهم ـ سبحانه
ـ نفس الرجس ، مبالغة في نجاسة أعمالهم ، وقبح بواطنهم.
وقوله : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) بيان لسوء مصيرهم في الآخرة.
أى : أنهم في
الدنيا محل الاحتقار والازدراء لنجاسة بواطنهم ، أما في الآخرة فمستقرهم وموطنهم
جهنم بسبب ما اكتسبوه من أعمال قبيحة ، وما اجترحوه من أفعال سيئة.
وقوله : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ) بدل مما قبله.
ولم يذكر ـ سبحانه
ـ المحلوف به لظهوره أى : يحلفون بالله لترضوا عنهم ، ولتصفحوا عن سيئاتهم ...
وقوله : (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) بيان لحكم الله ـ تعالى ـ فيهم ، حتى يكون المؤمنون على
حذر منهم.
أى : إن هؤلاء
المنافقين المتخلفين عن الجهاد يحلفون بالله لكم بأنهم ما تخلفوا إلا لعذر ، لكي
تصفحوا عنهم ، أيها المؤمنون ، فإن صفحتم عنهم على سبيل الفرض فإن الله ـ تعالى ـ لا
يصفح ولا يرضى عن القوم الذين فسقوا عن أمره ، وخرجوا عن طاعته.
وقال الآلوسى ، «والمراد
من الآية الكريمة ، نهى المخاطبين عن الرضا عنهم ، وعن الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة
على أبلغ وجه وآكده ، فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله ـ تعالى ـ مما لا يكاد يصدر
عن المؤمنين ، والآية نزلت على ما روى عن ابن عباس في جد بن قيس ،
ومعتب بن قشير ،
وأصحابهما من المنافقين ، وكانوا ثمانين رجلا ، أمر النبي صلىاللهعليهوسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة ؛ ألا يجالسوهم ولا
يكلموهم فامتثلوا» .
وقال ـ سبحانه ـ (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ
الْفاسِقِينَ) ولم يقل فإن الله لا يرضى عنهم ، لتسجيل الفسق عليهم ،
وللإيذان بشمول هذا الحكم لكل من كان مثلهم في الفسوق وفي الخروج عن طاعة الله ،
تعالى.
وجواب الشرط في
قوله : (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) محذوف ، والتقدير : فإن ترضوا عنهم على سبيل الفرض ، فإن
رضاكم عنهم لن ينفعهم ، لأن الله تعالى. لا يرضى عن القوم الذين خرجوا عن طاعته.
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الكريمة قد ذكرت جانبا آخر من الأحوال القبيحة للمنافقين ، وردت على
معاذيرهم الكاذبة ، وأيمانهم الفاجرة بما يفضحهم ويخزيهم ، وتوعدتهم بسوء العاقبة
في الدنيا والآخرة.
ثم بعد الحديث
الطويل عن النفاق والمنافقين ، أخذت السورة الكريمة. في الحديث عن طوائف أخرى منها
الصالح ، ومنها غير الصالح ، وقد بدأت بالحديث عن الأعراب سكان البادية ، فقال ـ تعالى
ـ :
(الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ
عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ
اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٩٩)
__________________
قال صاحب المنار :
قوله ، سبحانه : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً). بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين ، لأنه مما
يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى.
والأعراب : اسم
جنس لبدو العرب ، واحده : أعرابى ، والأنثى أعرابية ، والجمع أعاريب ، والعرب :
اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة ، بدوه وحضره ، واحده : عربي ..» .
والمراد بالأعراب
هنا : جنسهم لا كل واحد منهم ، بدليل أن الله. تعالى. قد ذم من يستحق الذم منهم ، ومدح
من يستحق المدح منهم ، فالآية الكريمة من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده.
وقد بدأ ، سبحانه
، بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم ، إلحاقا لهم بمنافقى المدينة
الذين تحدثت السورة عنهم قبل ذلك مباشرة حديثا مستفيضا ، وبهذا الترتيب الحكيم
تكون السورة الكريمة قد واصلت الحديث عن منافقي الحضر والبدو.
والمعنى : «الأعراب»
سكان البادية «أشد كفرا ونفاقا» من الكفار والمنافقين الذين يسكنون الحضر والقرى.
وذلك ، لأن ظروف
حياتهم البدوية ، وما يصاحبها من عزلة وكر وفر في الصحراء ، وخشونة في الحياة ...
كل ذلك جعلهم أقسى قلوبا ، وأجفى قولا ، وأغلظ طبعا ، وأبعد عن سماع ما يهدى
نفوسهم إلى الخير من غيرهم سكان المدن.
وقوله : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ
ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) معطوف على ما قبله لتعديد صفاتهم الذميمة.
قال القرطبي :
قوله : «وأجدر» عطف على «أشد» ومعناه : أخلق ، وأحق ، يقال : فلان جدير بكذا ، أى
: خليق به. وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع جدراء وجديرون ، وأصله من جدر الحائط
وهو رفعه بالبناء فقوله : هو أجدر بكذا ، أى : أقرب إليه وأحق به .
والمعنى : الأعراب
أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين ، وهم كذلك أحق وأخلق من أهل
الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، بسبب ابتعادهم عن مجالس رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وعدم مشاهدتهم لما ينزل عليه صلىاللهعليهوسلم من شرائع وآداب وأحكام.
__________________
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أى : «عليم» بأحوال عباده الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه
شيء من صفاتهم وطباعهم «وحكيم» في صنعه بهم ، وفي حكمه عليهم ، وفيما يشرعه لهم من
أحكام ، وفيما يجازيهم به من ثواب أو عقاب.
هذا ، وقد ذكر المفسرون
هنا أمثلة متعددة لجفاء الأعراب وجهلهم ، ومن ذلك قول الإمام ابن كثير :
قال الأعمش عن
إبراهيم قال : جلس أعرابى إلى زيد بن صوهان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد
أصيبت يوم «نهاوند» فقال الأعرابى : والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك لتريبنى!!
فقال زيد : وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال!! فقال الأعرابى : والله ما أدرى اليمين
يقطعون أو الشمال!! فقال زيد : صدق الله إذ يقول : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ ..).
وروى الإمام أحمد
عن ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى
السلطان افتتن».
وروى الإمام مسلم
عن عائشة قال : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ فقال صلىاللهعليهوسلم نعم. فقالوا : لكنا والله ما نقبل!! فقال صلىاللهعليهوسلم «وما أملك إن كان
الله نزع منكم الرحمة» .
ثم بين ـ سبحانه ـ
حال فريق آخر من منافقي الأعراب فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً).
أى : ومن الأعراب
قوم آخرون يعتبرون ما ينفقونه في سبيل الله غرامة وخسارة عليهم لأنهم لا ينفقون ما
ينفقونه طمعا في ثواب ، أو خوفا من عقاب وإنما ينفقونه تقية ورياء ومداراة
للمسلمين ، لا مساعدة للغزاة والمجاهدين ، ولا حبا في انتصار المؤمنين.
قال الجمل : وقوله
: «من يتخذ ما ينفق مغرما» «من» مبتدأ ، وهي موصولة أو موصوفة ، و «مغرما». مفعول
ثان ، لأن «اتخذ» هنا بمعنى صير ، والمفعول الأول قوله : «ما ينفق».
والمغرم : الخسران
، مشتق من الغرم وهو الهلاك لأنه سببه ، وقيل أصله الملازمة ، ومنه الغريم للزومه
من يطالبه» .
__________________
وقوله : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) معطوف على ما قبله ، والتربص : الانتظار والترقب والدوائر
: جمع دائرة. وهو ما يحيط بالإنسان من مصائب ونكبات ، كما تحيط الدائرة بالشيء
الذي بداخلها.
أى : أنهم بجانب
اعتبارهم ما ينفقونه غرامة وخسارة ، ينتظرون بكم ـ أيها المؤمنون ـ صروف الدهر
ونوائبه التي تبدل حالكم من الخير إلى الشر ومن النصر إلى الهزيمة ، ومن الصحة إلى
المرض والأسقام ، ومن الأمان والاطمئنان إلى القلق والاضطراب ..
وقوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) جملة معترضة ، جيء بها للدعاء عليهم.
أى : عليهم لا
عليكم ـ أيها المؤمنون ـ تدور دائرة السوء ، التي يتبدل بها حالهم إلى الهلاك
والفساد.
والسوء ـ بفتح
السين ـ مصدر ساءه يسوءه سوءا ، إذا فعل به ما يكره ، والسوء ـ بالضم ـ اسم منه.
وقيل المفتوح بمعنى الذم ، والمضموم بمعنى العذاب والضرر.
وإضافة الدائرة
إلى السوء من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة ، كما في قولهم : رجل صدق.
وفي هذا التعبير
ما فيه من الذم لهؤلاء المنافقين ، لأنه ـ سبحانه ـ جعل السوء كأنه دائرة تطبق
عليهم فلا تفلتهم ، وتدور بهم فلا تدع لهم مهربا أو منجاة من عذابها وضررها.
وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تذييل قصد به تهديدهم وتحذيرهم بما ارتكسوا فيه من نفاق
وكفر وشقاق.
والله تعالى ـ «سميع»
لكل ما يتفوهون به من أقوال ، «عليم» بكل ما يظهرونه وما يبطنونه من أحوال ،
وسيحاسبهم على ما صدر منهم حسابا عسيرا يوم القيامة : وينزل بهم العقاب الذي يناسب
جرائمهم ..
وبعد أن ذكر ـ سبحانه
ـ حال هؤلاء الأعراب المنافقين ، أتبعه ببيان حال المؤمنين الصادقين منهم فقال : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
أى : ومن الأعراب
قوم آخرون من صفاتهم أنهم يؤمنون بالله إيمانا صادقا ، ويؤمنون باليوم الآخر وما
فيه من ثواب وعقاب.
وقوله : (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ
عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) مدح لهم على إخلاصهم وسخائهم وطاعتهم ...
والقربات : جمع
قربة وهي ما يتقرب به الإنسان إلى خالقه من أعمال الخير ، والمراد
بصلوات الرسول :
دعواته للمتقربين إلى الله بالطاعة.
أى : ومن الأعراب
من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا حقا ، ويعتبر كل ما ينفقه في سبيل الله وسيلة
للتقرب إليه ـ سبحانه ـ وتعالى بالطاعة ، ووسيلة للحصول على دعوات الرسول صلىاللهعليهوسلم له بالرحمة والمغفرة ، وبحسنات الدنيا والآخرة.
ولقد كان من عادة
النبي صلىاللهعليهوسلم أن يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ، فقد ورد في الحديث
الشريف أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا لآل أبى أوفى عند ما تقدموا إليه بصدقاتهم فقال : «اللهم
صل على آل أبى أوفى» أى : ارحمهم وبارك لهم في أموالهم ..
وقوله : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) شهادة لهم منه سبحانه ـ بصدق إيمانهم ، وخلوص نياتهم ،
وقبول صدقاتهم.
والضمير في قوله (إِنَّها) يعود على النفقة التي أنفقوها في سبيل الله و (أَلا) أداة استفتاح جيء بها لتأكيد الخبر والاهتمام به. أى : ألا
إن هذه النفقات التي تقربوا بها إلى الله ، مقبولة عنده ـ سبحانه ـ قبولا مؤكدا ،
وسيجازيهم عليها بما يستحقون من أجر جزيل ...
وقوله (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) وعد لهم بإحاطة رحمته بهم. والسين للتحقيق والتأكيد.
أى : أن هؤلاء
المؤمنين بالله واليوم الآخر ، والمتقربين إليه سبحانه بالطاعات ، سيغمرهم الله
تعالى برحمته التي لا شقاء معها.
قال صاحب الكشاف :
وقوله : (أَلا إِنَّها
قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات
وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفى التنبيه والتحقيق المؤذنتين
بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك قوله : (سَيُدْخِلُهُمُ) وما في السين من تحقيق الوعد. وما أدل هذا الكلام على رضا
الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان ، إذا خلصت النية من صاحبها .
وقوله : «إن الله
غفور رحيم» تذييل مقرر لما قبله على سبيل التعليل.
أى : إن الله
تعالى ـ واسع المغفرة ، كثير الرحمة للمخلصين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش
إلا اللمم.
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الكريمة قد ذمت من يستحق الذم من الأعراب ومدحت من يستحق المدح منهم ،
وبينت مصير كل فريق ليكون عبرة للمعتبرين وذكرى للمتذكرين.
__________________
وبعد هذا التقسيم
للأعراب ، انتقلت السورة للحديث عن المؤمنين الصادقين الذين وقفوا إلى جانب الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وأطاعوه في السر والعلن ، فقال تعالى :
(وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١٠٠)
فهذه الآية
الكريمة قد مدحت ثلاث طوائف من المسلمين المعاصرين للعهد النبوي.
الطائفة الأولى «السابقون
الأولون من المهاجرين» وهم الذين تركوا ديارهم وأموالهم بمكة ، وهاجروا إلى الحبشة
، ثم إلى المدينة من أجل إعلاء كلمة الله واستمروا في المدينة مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أن تم الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا.
وقيل المراد بهم :
الذين صلوا إلى القبلتين ، وقيل : الذين شهدوا غزوة بدر.
والطائفة الثانية
: السابقون الأولون من الأنصار ، وهم الذين بايعوا النبي صلىاللهعليهوسلم قبل أن يهاجر إليهم إلى المدينة بيعة العقبة الأولى
والثانية.
وكانت بيعة العقبة
الأولى في السنة الحادية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشتركين فيها سبعة أفراد.
أما بيعة العقبة
الثانية فكانت في السنة الثانية عشرة من البعثة ، وكان عدد المشركين فيها سبعين
رجلا وامرأتين.
ثم يلي هؤلاء
أولئك المؤمنون من أهل المدينة الذين دخلوا في الإسلام على يد مصعب بن عمير ، قبل
وصول الرسول صلىاللهعليهوسلم إليها.
ثم يلي هؤلاء
جميعا أولئك الذين آمنوا بالنبي صلىاللهعليهوسلم بعد مقدمه إلى المدينة.
والطائفة الثالثة
: «الذين اتبعوهم بإحسان» أى : الذين اتبعوا السابقين في الإسلام من المهاجرين
والأنصار ، اتباعا حسنا في أقوالهم وأعمالهم وجهادهم ونصرتهم لدعوة الحق.
قال الآلوسى ما
ملخصه : وكثير من الناس ذهب إلى أن المراد بالسابقين الأولين ، جميع المهاجرين
والأنصار. ومعنى كونهم سابقين : أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين.
روى عن حميد بن
زياد قال : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ، ألا تخبرني عن الصحابة فيما كان بينهم
من الفتن؟ فقال لي : إن الله ـ تعالى ـ قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنة في كتابه
، محسنهم ومسيئهم ، فقلت له : وفي أى موضع أوجب لهم الجنة ، فقال : سبحان الله!!
ألم تقرأ قوله. تعالى ـ : (وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ ..) الآية فقد أوجب. سبحانه لجميع الصحابة الجنة وشرط على
تابعيهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة وألا يقولوا فيهم إلا حسنا لا سوءا .. .
وقوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) بيان لسمو منزلتهم ، وارتفاع مكانتهم.
أى : رضى الله
عنهم في إيمانهم وإخلاصهم ، فتقبل أعمالهم ، ورفع درجاتهم وتجاوز عن زلاتهم ،
ورضوا عنه ، بما أسبغه عليهم من نعم جليلة ، وبما نالوه منه. سبحانه. من هداية
وثواب.
ثم ختم سبحانه
الآية الكريمة ببيان ما هيأه لهم في الآخرة من إكرام فقال : (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
أى : أنه ـ سبحانه
ـ بجانب رضاه عنهم ورضاهم عنه في الدنيا ، قد أعد لهم ـ سبحانه ـ في الآخرة جنات
تجرى من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها خلودا أبديا وذلك الرضا والخلود في
الجنات من الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا تدانيه سعادة.
قال الإمام ابن
كثير : أخبر الله ـ تعالى ـ في هذه الآية «أنه قد رضى عن السابقين الأولين من
المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. فيا ويل من أبغضهم ، أو سبهم ، أو أبغض
أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول ، وخيرهم وأفضلهم أعنى الصديق
الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبى قحافة ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة
يعادون أفضل الصحابة ، ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا يدل على أن
عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضى
الله عنهم؟
وأما أهل السنة
فإنهم يترضون عمن رضى الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالى
الله ، ويعادون من يعادى الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، وهؤلاء هم حزب الله
المفلحون ، وعباده المؤمنون .
وبهذا نرى أن هذه
الآية الكريمة قد مدحت السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن
__________________
تبعهم بإحسان ،
وذلك لقوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم وإيثارهم ما عند الله على هذه الدنيا وما فيها
..
ثم تحدثت السورة
بعد ذلك عن أصناف أخرى من الناس ، منهم قوم. أجادوا النفاق ، ومرنوا عليه ، ولجوا
فيه. ومنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم قوم موقوف أمرهم إلى أن يظهر
الله حكمه فيهم فقال تعالى :
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(١٠٣) أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ
الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٠٦)
قال القرطبي :
ومعنى : «مردوا على النفاق» أقاموا عليه ولم يتوبوا منه ، أو لجوا فيه وأبوا غيره
وأصل الكلمة من اللين والملاسة والتجرد ، فكأنهم تجردوا للنفاق ، ومنه رملة مرداء
أى لا نبت فيها ،
وغصن أمرد. أى : لا ورق له ... ويقال : مرد يمرد مرودا ومرادة» .
والمعنى : اذكروا
أيها المؤمنون أنه يسكن من حول مدينتكم قوم من الأعراب منافقون ، فاحترسوا منهم ،
واحترسوا ـ أيضا ـ من قوم آخرين يسكنون معكم داخل المدينة ، مردوا على النفاق ، أى
: مرنوا عليه ، وأجادوا فنونه ، حتى بلغوا فيه الغاية.
قال الآلوسى ما
ملخصه : والمراد بالموصول. في قوله «وممن حولكم». قبائل : جهينة ، ومزينة وأشجع ،
وأسلم ... وكانت منازلهم حول المدينة وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين.
واستشكل ذلك بأن
النبي صلىاللهعليهوسلم مدح بعض هذه القبائل ودعا لبعضها فقد أخرج الشيخان وغيرهما
عن أبى هريرة أنه قال : «قريش ، والأنصار ، وجهينة ، ومزينة ، وأشجع وأسلم ، وغفار
، موالي الله ـ تعالى ـ ورسوله لا والى لهم غيره».
وأجيب ذلك باعتبار
الأغلب منهم .
وقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) بيان لتمردهم في النفاق وتمهرهم فيه.
أى : أنت أيها
الرسول الكريم. لا تعرف هؤلاء المنافقين. مع كمال فطنتك ، وصدق فراستك لأنك تعامل
الناس بظواهرهم ، وهم قد أجادوا النفاق وحذقوه ، واجتهدوا في الظهور بمظهر
المؤمنين ، أما نحن فإننا نعلمهم لأننا لا يخفى علينا شيء من ظواهرهم أو بواطنهم
..».
قال الإمام ابن
كثير : وقوله تعالى (لا تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) لا ينافي قوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ ...) لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف
جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان صلىاللهعليهوسلم يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان
يراه صباحا ومساء.
وشاهد هذا بالصحة
ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه
ليس لنا أجر بمكة ، فقال : «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم برأسه فقال : «إن في أصحابى منافقين» : ومعناه أنه قد يبوح
بعض المنافقين والمرجفين بما لا صحة له من الكلام ، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي
سمعه جبير بن مطعم.
__________________
ثم قال : وقد تقدم
في تفسير قوله ـ تعالى ـ (وَهَمُّوا بِما لَمْ
يَنالُوا) أنه صلىاللهعليهوسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا. وهذا
تخصيص لا يقتضى أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم.
وروى الحافظ بن
عساكر عن أبى الدرداء ، أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : الإيمان ها هنا وأشار بيده إلى لسانه ، والنفاق ها
هنا وأشار بيده إلى قلبه فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «اللهم اجعل له
لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبى ، وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير».
فقال الرجل يا
رسول الله : إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم؟ فقال
: صلىاللهعليهوسلم : «ومن أتانا استغفرنا له ، ومن أصر فالله أولى به ، ولا
تخرقن على أحد سترا» .
وقال الآلوسى.
واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى معرفة الأمور الخفية من أعمال
القلب ونحوها ، فقد أخرج عبد الرازق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة : أنه قال : ما
بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون : فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت
أحدهم عن نفسه قال : لا أدرى. لعمري لأنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ، ولقد
تكلفت شيئا ما تكلفه نبي. فقد قال نوح عليهالسلام «وما علمي بما
كانوا يعملون» وقال شعيب عليهالسلام «وما أنا عليكم
بحفيظ» ، وقال الله تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم (لا تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ).
وهذه الآيات
ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء
القلب ، وتجرد النفس عن الشواغل.
ثم قال : والجملة
الكريمة «لا تعلمهم نحن نعلمهم» تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق ، أى : لا يقف
على سرائرهم المذكورة فيهم ، إلا من لا تخفى عليه خافية ، لما هم عليه من شدة
الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص .
وقوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وعيد لهم بسوء المصير في الدنيا والآخرة.
أى : هؤلاء
المنافقون الذين مردوا على النفاق ، سنعذبهم في الدنيا مرتين ، مرة عن طريق
فضحيتهم وهتك أستارهم وجعلهم يعيشون في قلق وهم دائم ، والأخرى عن طريق ضرب
__________________
الملائكة لوجوههم
وأدبارهم عند قبض أرواحهم وما يتبع ذلك من عذابهم في قبورهم إلى أن تقوم الساعة ،
فيجدون العذاب الأكبر الذي عبر عنه ـ سبحانه ـ بقوله (ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ).
أى : ثم يعودون
ويرجعون إلى خالقهم ـ سبحانه ـ يوم القيامة فيعذبهم عذابا عظيما بسبب إصرارهم على
النفاق ، ورسوخهم في المكر والخداع.
قال أبو السعود :
ولعل تكرير عذابهم ، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق ، أو النفاق المؤكد
بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير ، كما في قوله تعالى (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ) أى : كرة بعد أخرى .
ثم بين ـ سبحانه ـ
حال طائفة أخرى من المسلمين فقال : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) ..
قال الآلوسى :
قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم ... بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في
أمر الدين ، ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل هم طائفة من المنافقين إلا أنهم
وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم .
والمعنى : ويوجد
معكم أيها المؤمنون قوم آخرون من صفاتهم أنهم اعترفوا بذنوبهم أى أقروا بها ولم
ينكروها.
وقوله : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً) أى خلطوا عملهم الصالح وهو جهادهم في سبيل الله قبل غزوة
تبوك ، بعمل سيئ وهو تخلفهم عن الخروج إلى هذه الغزوة.
وقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) أى عسى الله تعالى : أن يقبل توبتهم ، ويغسل ، حوبتهم ،
ويتجاوز عن خطاياهم.
وعبر ـ سبحانه ـ بعسى
للإشعار بأن ما يفعله تعالى ليس إلا على سبيل التفضل منه ، حتى لا يتكل الشخص ، بل
يكون على خوف وحذر.
وقد قالوا إن كلمة
عسى متى صدرت عن الله تعالى ـ فهي متحققة الوقوع ، لأنها صادرة من كريم ، والله
تعالى أكرم من أن يطمع أحدا في شيء لا يعطيه إياه.
وقوله : إن الله
غفور رحيم ، تعليل لرجاء قبول توبتهم ، إذ معناه ، إن الله تعالى كثير المغفرة
للتائبين ، واسع الرحمة للمحسنين.
__________________
هذا ، وقد ذكر
المفسرون هنا روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية ولعل أرجح هذه الروايات ما رواه
ابن جرير من أن هذه الآية نزلت في أبى لبابة وأصحابه ، وكانوا تخلفوا عن النبي صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، فلما قفل رسول الله صلىاللهعليهوسلم من غزوته ، وكان قريبا من المدينة ندموا على تخلفهم عن
رسول الله وقالوا : نكون في الظلال والأطعمة والنساء ونبي الله في الجهاد
واللأواء. والله لنوثقن أنفسنا بالسوارى ، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله هو الذي
يطلقنا.
وأوثقوا أنفسهم.
وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم بالسوارى فقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من غزوته فمر بالمسجد فأبصرهم فسأل عنهم ، فقيل له : إنه
أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عنك يا نبي الله ، فصنعوا بأنفسهم ما ترى ، وعاهدوا الله
ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم.
فقال صلىاللهعليهوسلم : «لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم ، ولا أعذرهم حتى يعذرهم
الله ، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين» ، فأنزل الله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ...) الآية ، فأطلقهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعذرهم .
ثم أمر الله تعالى
ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يأخذ الصدقات من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم ومن غيرهم
، فقال : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).
أخرج ابن جرير عن
ابن عباس قال : لما أطلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبا لبابة وأصحابه جاءوا بأموالهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا له يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا ،
واستغفر لنا ، فقال : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا».
فأنزل الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ....) الآية .
وقال الإمام ابن كثير
: أمر الله تعالى ـ رسوله أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها. وهذا عام
وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم.
ولهذا اعتقد بعض
مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان هذا
خاصا بالرسول صلىاللهعليهوسلم ولهذا احتجوا بقوله : ـ تعالى ـ : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ....) الآية.
وقد رد عليهم هذا
التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة ، وقاتلوهم حتى
__________________
أدوا الزكاة الى
الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى قال الصديق : «والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونه
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لقاتلتهم على منعه ».
والمعنى : خذ ـ أيها
الرسول الكريم ـ من أموال هؤلاء المعترفين بذنوبهم ، ومن غيرهم من أصحابك «صدقة»
معينة ، كالزكاة المفروضة ، أو غير معينة كصدقة التطوع.
وقوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) بيان للفوائد المترتبة على هذه الصدقة.
أى : من فوائد هذه
الصدقة أنها تطهر النفوس من رذائل الشح والبخل والطمع .. وتزكى القلوب من الأخلاق
الذميمة ، وتنمى الأموال والحسنات قال بعضهم : قوله : «تطهرهم» قرئ مجزوما على أنه
جواب للأمر. وقرئ. مرفوعا على أنه حال من ضمير المخاطب في قوله : «خذ» أو صفة
لقوله «صدقة» والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده أى : تطهرهم بها ...
وقوله : «وتزكيهم»
لم يقرأ إلا بإثبات الياء ، على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة حال من الضمير في
الأمر أو في جوابه. أى : وأنت تزكيهم بها.
هذا على قراءة
الجزم في «تطهرهم» ، وأما على قراءة الرفع فيكون قوله «وتزكيهم بها» معطوف على
قوله «تطهرهم» حالا أو صفة .
وقوله : وصل عليهم
إن صلاتك سكن لهم أى : وادع لهم بالرحمة والمغفرة ، وقبول التوبة ، فإن دعاءك لهم
تسكن معه نفوسهم ، وتطمئن به قلوبهم ، ويجعلهم في ثقة من أن الله ـ تعالى ـ قد قبل
توبتهم ، فأنت رسوله الأمين ، ونبيه الكريم.
فالمراد بالصلاة
هنا : الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.
قال بعضهم : «وظاهر»
قوله : «وصل عليهم» أنه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق.
وبهذا أخذ داود وأهل الظاهر.
وأما سائر الفقهاء
فقد حملوا الأمر هنا على الندب والاستحباب ، لأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قال لمعاذ : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد
على فقرائهم» ولم يأمره بالدعاء ..
أما صيغة الدعاء
فلم يرد فيها تعيين إلا ما رواه الستة ـ غير الترمذي من قوله صلىاللهعليهوسلم «اللهم صل على آل
أبى أوفى» ـ عند ما أخذ منهم الزكاة ـ.
__________________
ومن هنا قال
الحنابلة وداود وأهل الظاهر لا مانع من أن يقول آخذ الزكاة : اللهم صل على آل
فلان.
وقال باقى الأئمة
لا يجوز أن يقال : اللهم صل على آل فلان ، وإن ورد في الحديث ، لأن الصلاة صارت
مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ، كما أن قولنا : ـ عزوجل ـ صار مخصوصا بالله ـ تعالى ـ.
قالوا : وإنما
أحدث الصلاة على غير الأنبياء مبتدعو الرافضة في بعض الأئمة ، والتشبه بأهل البدع
منهى عنه.
ولا خلاف في أنه
يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم فيقال : اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه
وأزواجه وذريته .. لأن السلف استعملوا ذلك ، وأمرنا به في التشهد ، ولأن الصلاة
على التابع تعظيم للمتبوع ..» .
وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أى : سميع لاعترافهم بذنوبهم وسميع لدعائك سماع قبول
وإجابة ، وعليم بندمهم وتوبتهم ، وبكل شيء في هذا الكون ، وسيجازى كل إنسان بما
يستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم حرضهم ـ سبحانه
ـ على التوبة النصوح ، وحثهم على بذل الصدقات فقال : (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ...).
أى : ألم يعلم
هؤلاء التائبون من ذنوبهم ، أن الله ـ تعالى ـ وحده ، هو الذي يقبل التوبة الصادقة
من عباده المخلصين ، وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي «يأخذ الصدقات».
أى : يتقبلها من
أصحابها قبول من يأخذ شيئا ليؤدى بدله : فالتعبير بالأخذ للترغيب في بذل الصدقات ،
ودفعها للفقراء. والاستفهام للتقرير والتحضيض على تجديد التوبة وبذل الصدقة.
وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ) تذييل قصد به تقرير ما قبله وتأكيده.
أى : وأن الله
وحده هو الذي يقبل توبة عباده المرة بعد الأخرى ، وأنه هو الواسع الرحمة بهم ،
الكثير المغفرة لهم :
قال ابن كثير :
قوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ..) هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب
ويمحقها ، وأخبر ـ تعالى ـ أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب
حلال فإن الله
__________________
يتقبلها بيمينه ،
فيربيها لصاحبها حتى تصير الثمرة مثل أحد ، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فعن أبى هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم
كما يربى أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتكون مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله قوله
: (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ). وقوله : (يَمْحَقُ اللهُ
الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).
وعن عبد الله بن
مسعود قال : إن الصدقة تقع في يد الله ـ تعالى ـ قبل أن تقع في يد السائل ، ثم قرأ
هذه الآية. (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ...) .
ثم أمر ـ سبحانه ـ
بالتزود من العمل الصالح ، وحذر من الوقوع في العمل السيئ ، فقال ـ تعالى ـ : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
أى : وقل ـ أيها
الرسول الكريم ـ لهؤلاء التائبين وغيرهم ، قل لهم : اعملوا ما تشاءون من الأعمال ،
فإن الله مطلع عليها ، وسيطلع رسوله والمؤمنون عليها كذلك.
وخص ـ سبحانه ـ رسوله
والمؤمنين بالذكر ، لأنهم هم الذين يهتم المخاطبون باطلاعهم.
قال الآلوسى ما
ملخصه : وقوله : (فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ ...) تعليل لما قبله ، أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب
والترهيب ، والسين للتأكيد .. والمراد من رؤية الله العمل ـ عند جمع ـ الاطلاع
عليه ، وعلمه علما جليا ، ونسبة ذلك للرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين ، باعتبار أن الله ـ تعالى ـ لا يخفى ذلك عنهم ،
بل يطلعهم عليه ...» .
وقوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بيان لما سيكون عليه حالهم في الآخرة.
أى : وسترجعون بعد
موتكم إلى الله ـ تعالى ـ الذي لا يخفى عليه شيء ، فينبئكم بما كنتم تعملونه في
الدنيا من خير أو شر ، وسيجازيكم بما تستحقونه من ثواب أو عقاب.
ثم بين ـ سبحانه ـ
حال قسم آخر من أقسام المتخلفين عن غزوة تبوك ، فقال ـ تعالى ـ : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ،
إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ..).
قال الجمل : قوله
: «وآخرون مرجون ...» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عمر وأبو بكر عن عاصم «مرجؤون»
بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة. وقرأ الباقون «مرجون» دون
__________________
تلك الهمزة ..
وهما لغتان ، يقال أرجأته وأرجيته ..» .
وهذه الآية
الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ..).
والمعنى : ومن
المتخلفين عن الخروج معك إلى تبوك ـ يا محمد ـ قوم آخرون موقوف أمرهم إلى أن يحكم
الله فيهم بحكمه العادل ، فهو ـ سبحانه ـ «إما يعذبهم» بأن يميتهم بلا توبة «وإما
يتوب عليهم» أى : يقبل توبتهم.
وهذا الترديد الذي
يدل عليه لفظ «إما» ، إنما هو بالنسبة للناس ، وإلا فالله ـ تعالى ـ عليم بما هو
فاعله بهم.
والحكمة من إيهام
أمرهم ، إثارة الهم والخوف في قلوبهم لتصح توبتهم ؛ لأن التوبة عند ما تجيء بعد
ندم شديد ، وتأديب نفسي .. تكون مرجوة القبول منه ـ سبحانه ـ.
وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ) أى : والله ـ تعالى ـ عليم بأحوال خلقه وبما يصلحهم في
أمورهم ، حكيم فيما يشرعه لهم من أحكام.
قال الآلوسى :
والمراد بهؤلاء «المرجون لأمر الله ..» كما جاء في الصحيحين : هلال بن أمية ، وكعب
بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، كانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، وهموا باللحاق به فلم يتيسر لهم ذلك ـ فقعدوا
في المدينة كسلا وميلا إلى الدعة ـ ولم يكن تخلفهم عن نفاق ، فلما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم وكان ما كان من أمر المتخلفين ـ قالوا : لا عذر لنا إلا
الخطيئة ، ولم يعتذروا كما اعتذر غيرهم ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم باجتنابهم .. إلى أن نزل قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ... (وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا ..) فأمر صلىاللهعليهوسلم بمخالطتهم ، وكانت مدة وقفهم خمسين ليلة بقدر مدة التخلف ،
إذ كانت مدة غيبته صلىاللهعليهوسلم عن المدينة خمسين ليلة ، فلما تمتعوا بالراحة في تلك المدة
مع تعب إخوانهم في السفر ، عوقبوا بهجرهم ووقفهم تلك المدة ..» .
وبذلك تكون هذه
الآيات الكريمة قد ذكرت ثلاث طوائف من المتخلفين عن غزوة تبوك.
أما الطائفة
الأولى فهي التي مردت على النفاق ، وقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ
مُنافِقُونَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ..).
__________________
وأما الطائفة
الثانية فهي التي سارعت إلى الاعتذار والاعتراف بالذنب ، فقبل الله توبتهم ، وقد
عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً).
وأما الطائفة
الثالثة فهي التي لم تجد عذرا تعتذر به ، فأوقف الله أمرهم إلى أن حكم بقبول
توبتهم بعد خمسين ليلة ، وقد عبر عنها ـ سبحانه ـ بقوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ،
إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ..).
ثم ختمت السورة
الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين ، بالحديث عن مسجد الضرار
الذي بناه المنافقون ليكون مكانا للإضرار بالإسلام والمسلمين ، فقال ـ تعالى ـ.
(وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)
لا
يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ
تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)
قال الإمام ابن
كثير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليها ، رجل من
الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في
الجاهلية ، وقرأ
علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير ، فلما قدم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه وصار للإسلام
كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز العداوة ،
وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة ليمالئهم على حرب المسلمين فاجتمعوا بمن
وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام «أحد» فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم
الله ـ تعالى ـ وكانت العاقبة للمتقين.
وكان هذا الفاسق
قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى
والسفلى وشج رأسه. وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم
، واستمالهم إلى نصره وموافقته. فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله لك عينا يا
فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه.
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ـ إلى مكة ـ وقرأ عليه القرآن
، فأبى أن يسلم وتمرد. فدعا عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة.
وذلك أنه لما فرغ
الناس من «أحد» ورأى أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من
الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم ، أنه سيقدم بجيش ليقاتل به النبي صلىاللهعليهوسلم ويغلبه ، ويرده عما هو فيه. وأمرهم أن يتخذوا له معقلا
يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصدا له إذا قدم عليه بعد
ذلك.
فشرعوا في بناء
مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوه أن يأتى إليهم فيصلى في مسجدهم ،
ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم ، وأهل
العلة في الليلة الشاتية!! فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : «إنا على سفر ولكنا إذا
رجعنا ـ إن شاء الله ـ أتيناكم فصلينا لكم فيه».
فلما قفل راجعا
إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه جبريل
بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر ، والتفريق بين جماعة المؤمنين في
مسجدهم. مسجد قباء. الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى مسجد الضرار من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة .
__________________
وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) منصوب على الذم.
أى : وأذم الذين
اتخذوا مسجدا ضرارا .. أو معطوف على ما سبق من أحوال المنافقين ، والتقدير : ومنهم
الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.
وقوله «ضرارا»
مفعول لأجله أى : اتخذوا هذا المسجد لا من أجل العبادة والطاعة لله تعالى. وإنما
اتخذوه من أجل الإضرار بالمؤمنين. وإيقاع الأذى بهم.
وقوله «وكفرا»
معطوف على «ضرارا» ؛ وهو علة ثانية لاتخاذ هذا المسجد.
أى : اتخذوه
للإضرار بالمؤمنين ، وللازدياد من الكفر الذي يضمرونه ومن الغل الذي يخفونه.
وقوله : (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) علة ثالثة.
أى : واتخذوه أيضا
للتفريق بين جماعة المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد هو مسجد قباء ، فأراد
هؤلاء المنافقون من بناء مسجد الضرار إلى جوار مسجد قباء ، أن يفرقوا وحدة
المؤمنين ، بأن يجعلوهم يصلون في أماكن متفرقة. حسدا لهم على نعمة الإخاء والتآلف
والاتحاد التي غرسها الإسلام في قلوب أتباعه.
وقوله : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) علة رابعة لاتخاذ هذا المسجد.
أى : واتخذوه
ليكون مكانا يرقبون فيه قدوم «من حارب الله ورسوله» وهو أبو عامر الراهب ، الذي
أعلن عداوته لدعوة الإسلام «من قبل» بناء مسجد الضرار.
فقد سبق أن ذكرنا
في أسباب نزول هذه الآيات ، أن أبا عامر هذا ، كتب إلى جماعة من قومه. وهو عند
هرقل. يعدهم ويمنيهم ، ويطلب منهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه فشرعوا في
بناء هذا المسجد.
فأنت ترى أن هذه
الآية الكريمة ، قد ذكرت أربعة من الأغراض الخبيثة التي حملت المنافقين على بناء
هذا المسجد ، وهي : مضارة المؤمنين ، وتقوية الكفر ، وتفريق كلمة أهل الحق وجعله
معقلا لالتقاء المحاربين لله ولرسوله.
وقد خيب الله
تعالى مسعاهم ؛ وأبطل كيدهم ، بأن أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بهدمه وإزالته.
وقوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا
الْحُسْنى) ذم لهم على أيمانهم الفاجرة ، وأقوالهم الكاذبة.
أى : أن هؤلاء
المنافقين قد بنوا مسجد الضرار لتلك المقاصد الخبيثة. ومع ذلك فهم يقسمون بأغلظ
الأيمان بأنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة الحسنى التي عبروا عنها قبل ذلك.
كذبا. بقولهم : «إننا
بنيناه للضعفاء ، وأهل العلة في الليلة الشاتية».
وقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) زيادة في مذمتهم وتحقيرهم.
أى : والله ـ تعالى
ـ يعلم ويشهد أن هؤلاء المنافقين لكاذبون في أيمانهم بأنهم ما أرادوا من بناء
مسجدهم إلا الحسنى ، فإنهم في الحقيقة لم يريدوا ذلك ، وإنما أرادوا تلك الأغراض
القبيحة السابقة ، وهي مضارة المؤمنين ، وتفريق كلمتهم.
ثم نهى الله ـ تعالى
ـ رسوله والمؤمنين عن الصلاة في هذا المسجد نهيا مؤكدا فقال ـ سبحانه ـ : (لا تَقُمْ فِيهِ ، أَبَداً).
أى : لا تصل. أيها
الرسول الكريم. في هذا المسجد في أى وقت من الأوقات لأنه لمن يبن لعبادة الله ،
وإنما بنى للشقاق والنفاق.
قال القرطبي :
قوله ـ تعالى ـ (لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً) يعنى مسجد الضرار. لا تقم فيه للصلاة ، وقد يعبر عن الصلاة
بالقيام. يقال : فلان يقوم الليل أى : يصلى ، ومنه الحديث الصحيح : «من قام رمضان
إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وقد روى أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لما نزلت هذه الآية كان لا يمر بالطريق التي فيها هذا
المسجد ، وأمر بموضعه أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف والأقذار ...» .
وقوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) جملة مسوقة لمدح مسجد قباء وتشريفه.
أى : لمسجد بنى
أساسه ، ووضعت قواعده على تقوى الله وإخلاص العبادة له منذ أول يوم بدئ في بنائه.
أحق أن تقوم للصلاة فيه من غيره.
قال الآلوسى ما
ملخصه : واللام في قوله «لمسجد» إما للابتداء أو للقسم ، أى : والله لمسجد ، وعلى
التقديرين فمسجد مبتدأ ، والجملة بعده صفته ، وقوله «أحق أن تقوم فيه» خبر المبتدأ
: «وأحق» أفعل تفضيل ، والمفضل عليه كل مسجد. أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير ،
أو على زعمهم ، وقيل إنه بمعنى حقيق ، أى : ذلك المسجد بأن تصلى فيه ..» .
وقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) جملة مسوقة لتكريم رواد هذا المسجد ومديحهم.
أى : في هذا
المسجد رجال أتقياء الظاهر والباطن ، إذ هم يحبون الطهارة من كل رجس
__________________
حسى ومعنوي ، ومن
كان كذلك أحبه الله ورضى عنه.
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه لا يستوي من أسس بنيانه على الحق ، ومن أسس بنيانه على الباطل فقال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى
تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا
جُرُفٍ هارٍ ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ..).
قال صاحب الكشاف :
قرئ أسّس بنيانه ، وأسّس بنيانه على البناء للفاعل والمفعول. والشفا : الحرف
والشفير. وحرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول ، فيبقى واهيا
، والهار وهو المتصدع الذي أوشك على التهدم ـ وهار صفة لجرف ، أى جرف موصوف بأنه
هائر أى متساقط.
والمعنى : أفمن
أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه «خير
أم من» أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء ، وهو الباطل والنفاق
الذي مثله مثل «شفا جرف هار» في قلة الثبات والاستمساك. وضع شفا الجرف في مقابلة
التقوى ، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى.
فإن قلت : فما
معنى قوله : «فانهار به في نار جهنم».
قلت : لما جعل
الجرف الهائر مجازا عن الباطل ، قيل : فانهار به في نار جهنم ، على معنى : فطاح به
الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ،
وليتصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم. فانهار به ذلك
الجرف فهوى في قعرها ، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ، ولا أدل منه على حقيقة الباطل
وكنه أمره» .
وقال صاحب المنار
ما ملخصه : والمراد بالمثل هنا بيان ثبات الحق الذي هو دين الإسلام وقوته ، ودوامه
، وسعادة أهله به ، وذكره بأثره وثمرته في عمل أهله وجماعها التقوى ، وبيان ضعف
الباطل واضمحلاله وقرب زواله ، وخيبة صاحبه ، وسرعة انقطاع آماله.
وقد ذكر في وصف
بنيان الفريق الأول وهم المؤمنون المشبه دون المشبه به لأنه هو المقصود بالذات ؛
وذكر من وصف الفريق الثاني ـ وهم المنافقون ـ الهيئة المشبه بها دون المشبه ، لأنه
ذكر قبل ذلك مقاصدهم الخبيثة من بناء مسجد الضرار. وهذا من دقائق إيجاز القرآن» .
وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) أى مضت سنة الله ـ تعالى ـ في خلقه أنه ـ سبحانه ـ لا يهدى
إلى طريق الخير أولئك الذين استحبوا العمى على الهدى وظلموا
__________________
أنفسهم بوضعهم
الأمور في غير مواضعها.
ثم بين ـ سبحانه ـ
الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار ، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال ـ تعالى
ـ ؛ (لا يَزالُ
بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
الريبة : اسم من
الريب بمعنى الشك والقلق والحيرة ، وتقطع ـ بفتح التاء ـ أصلها تتقطع فحذفت إحدى
التاءين ، من التقطع بمعنى التمزق. وقرأ بعضهم. «تقطع» ـ بضم التاء ـ من التقطيع
بمعنى التفريق والتمزيق.
والاستثناء مفرغ
من أعم الأوقات والأحوال ، والمستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يزال ما بناه
هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفوسهم في كل وقت وحال إلا في وقت واحد وهو وقت
أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى : أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء
، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق ، ويجدون مصيرهم الأليم.
والسبب في أن هذا
البناء كان مثار ريبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه ، أنهم بنوه بنية سيئة ، ولتلك
المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى ... فكانوا يخشون أن يطلع الله
نبيهم على مقاصدهم الذميمة ، فهذه الخشية أورثتهم القلق والريبة ، فلما أطلع الله
ـ تعالى ـ نبيه على أغراضهم ، وتم هدم مسجد الضرار ، وانهار الجرف المتداعي
المتساقط ، استمر قلقهم وريبهم ؛ لأنهم لا يدرون بعد ذلك ما ذا سيفعل المؤمنون
بهم.
وهكذا شأن
الماكرين في كل زمان ومكان ، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف
مكرهم ، ويظهر خداعهم.
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم.
أى : والله ـ تعالى
ـ عليم بكل شيء في هذا الكون ، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا :
حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفي صنعه بهم ، وسيجازيهم يوم القيام بما يستحقونه من
عقاب.
هذا ، ومن الأحكام
والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :
١ ـ وجوب بناء
المساجد على تقوى من الله ورضوان ، لأنها إذا بنيت على هذا الأساس ، كانت محل
القبول والثواب من الله ، أما إذا بنيت لأى مقصد يتنافى مع آداب الإسلام وأحكامه
وتشريعاته ، فإنها تكون بعيدة عن رضا الله ـ تعالى ـ وقبوله.
قال بعض العلماء ،
دلت الآيات على أن كل مسجد بنى على ما بنى عليه مسجد الضرار ، أنه لا حكم له ولا
حركة ، ولا يصح الوقف عليه. وقد حرق الراضي بالله ـ الخليفة
العباسي ـ كثيرا
من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة .
وقال الزمخشري :
قيل كل مسجد بنى مباهاة أو رياء وسمعة ، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال
غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن عطاء : لما
فتح الله. تعالى. الأمصار على عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أمر المسلمين أن
يبنوا المساجد ، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين ، يضار أحدهما صاحبه .
٢ ـ أن مسجد قباء
هو المقصود بقوله ـ تعالى ـ : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ...) وذلك لأن سياق الآيات في الحديث عنه ، وفي بيان أحقية
الصلاة فيه ، وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يزوره راكبا وماشيا ويصلى فيه ركعتين.
ولا منافاة بين
كون مسجد قباء هو المقصود هنا ، وبين الأحاديث التي وردت في أن المسجد الذي أسس من
أول يوم على تقوى من الله ورضوان ، هو المسجد النبوي ، لأن كليهما قد أسس على ذلك.
قال الإمام ابن
كثير : وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس ، وعروة بن الزبير ،
والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وقتادة.
وقد ورد في الحديث
الصحيح أن مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى ، وهذا
صحيح.
ولا منافاة بين
الآية وبين هذا ، أنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بطريق الأولى والأحرى» .
٣ ـ أن المحافظة
على الطهارة من الصفات التي يحبها الله ـ تعالى ـ فقد قال ـ تعالى ـ : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
وقد ساق الإمام
ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث منها : ما جاء عن ابن عباس أنه
قال : لما نزلت هذه الآية ، بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عويم بن مساعدة فقال له : «ما هذا الطهور الذي أثنى
الله عليكم به»؟.
فقال : يا رسول الله
ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه. فقال صلىاللهعليهوسلم : «هو هذا» ».
__________________
٤ ـ كذلك يؤخذ من
الآيات الكريمة ، استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على
عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحة ، والعباد
العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات .
وبعد أن بين ـ سبحانه
ـ أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك ، أتبع ذلك بالترغيب في الجهاد وفي بيان فضله فقال
ـ تعالى ـ :
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١١)
قال الفخر الرازي
: اعلم أن الله ـ تعالى ـ لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن
غزوة تبوك ، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع كل قسم ما كان لائقا به
، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية .
وقال القرطبي :
نزلت هذه الآية في البيعة الثانية ، وهي بيعة العقبة الكبرى وهي التي أناف فيها
رجال الأنصار على السبعين ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند العقبة ، فقال عبد الله بن رواحة للنبي صلىاللهعليهوسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي
أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فإذا فعلنا فما لنا؟ قال :
«لكم الجنة» قالوا
: ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية .
ثم هي بعد ذلك
عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة.
وقوله ـ سبحانه ـ :
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) تمثيل للثواب الذي منحه الله ـ تعالى ـ للمجاهدين في
سبيله.
__________________
فقد صور ـ سبحانه
ـ جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابته ـ سبحانه ـ لهم على ذلك
بالجنة ، صور كل ذلك بالبيع والشراء.
أى : أن الله ـ تعالى
ـ وهو المالك لكل شيء ، قد اشترى من المجاهدين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في
سبيله ، وأعطاهم في مقابل ذلك الجنة.
قال أبو السعود :
الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين في الجهاد ... وقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه
، حيث عبّر عن قبول الله ـ تعالى ـ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في
سبيله ـ تعالى ـ وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة
التبعية. ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد : أنفس المؤمنين وأموالهم
، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة : الجنة.
ولم يجعل الأمر
على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ؛ ليدل على
أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال
وسيلة إليها ، إيذانا بتعليق كمال العناية بهم وبأموالهم.
ثم إنه لم يقل «بالجنة»
بل قال : «بأن لهم الجنة» مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم «واختصاصه بهم» فكأنه
قيل : بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم .
وقوله : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) جملة مستأنفة جيء بها لبيان الوسيلة التي توصلهم إلى الجنة
وهي القتال في سبيل الله.
أى : أنهم يقاتلون
في سبيل الله ، فمنهم من يقتل أعداء الله ، ومنهم من يقتل على أيدى هؤلاء الأعداء
، وكلا الفريقين القاتل والمقتول جزاؤه الجنة.
وقرأ حمزة
والكسائي «فيقتلون ويقتلون» بتقديم الفعل المبنى للمفعول على الفعل المبنى للفاعل.
وهذه القراءة فيها
إشارة إلى أن حرص هؤلاء المؤمنين الصادقين على الاستشهاد أشد من حرصهم على النجاة
من القتل ؛ لأن هذا الاستشهاد يوصلهم إلى جنة عرضها السموات والأرض ، وإلى الحياة
الباقية الدائمة ..
وقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) تأكيد للثمن الذي وعدهم الله به.
أى : أن هذه الجنة
التي هي جزاء المجاهدين ، قد جعلها ـ سبحانه ـ تفضلا منه وكرما ،
__________________
حقا لهم عليه ،
وأثبت لهم ذلك في الكتب السماوية التي أنزلها على رسله.
قال الآلوسى ما
ملخصه : قوله : «وعدا عليه» مصدر مؤكد لمضمون الجملة وقوله «حقا» نعت له ، وقوله «عليه»
في موضع الحال من قوله «حقا» لتقدمه عليه ، وقوله : «في التوراة والإنجيل والقرآن»
متعلق بمحذوف وقع نعتا لقوله «وعدا» أيضا.
أى : وعدا مثبتا
في التوراة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن ، فالمراد إلحاق مالا يعرف بما يعرف.
إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن. ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أن أمة
محمد صلىاللهعليهوسلم اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بذلك ، أو أن من جاهد
بنفسه وماله. من حقه ذلك ، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن ...» .
وقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) جملة معترضة مسوقة لتأكيد مضمون ما قبلها من حقية الوعد
وتقريره : والاستفهام للنفي.
أى : لا أحد أوفى
بعهده من الله ـ تعالى ـ لأنه إذا كان خلف الوعد لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع
إمكان صدوره منهم ، فكيف يكون الحال من جانب الخالق ـ عزوجل ـ المنزه عن كل نقص ، المتصف بكل كمال.
وقوله : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تحريض على القتال ، وإعلام لهم بأنهم رابحون في هذه
الصفقة.
والاستبشار :
الشعور بفرح البشرى ، شعورا تنبسط له أسارير الوجه.
أى : إذا كان
الأمر كذلك فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به غاية الفرح ، وارضوا به نهاية الرضى ،
فإن ذلك البيع هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه.
قال بعض العلماء :
ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية لأنه أبرزه في صورة عقد عقده
رب العزة ، وثمنه مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل
المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانوا قاتلين أيضا لإعلاء كلمته ، ونصر
دينه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك. وجعل وعده حقا ، ولا أحد
أوفى من وعده فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم.
وهو استعارة تمثيلية ، حيث صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة
الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء وأتى بقوله : «يقاتلون» .. بيانا لمكان
التسليم وهو المعركة ، وإليه الإشارة بقوله صلىاللهعليهوسلم «الجنة تحت ظلال
السيوف» ، ثم أمضاه بقوله «وذلك هو الفوز العظيم» .
__________________
ويروى عن الحسن
البصري أنه قرأ هذه الآية فقال : انظروا إلى كرم الله. تعالى. أنفس هو خالقها ،
وأموال هو رازقها ، ثم يكافئنا عليها متى بذلناها في سبيله بالجنة.
ثم وصف الله ـ تعالى
ـ هؤلاء المؤمنين الصادقين بجملة من الأوصاف الكريمة ، فقال :
(التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٢)
قال الجمل ما
ملخصه : ذكر الله ـ تعالى ـ في هذه الآية تسعة أوصاف للمؤمنين ، الستة الأولى منها
تتعلق بمعاملة الخالق ، والوصفان السابع والثامن يتعلقان بمعاملة المخلوق ، والوصف
التاسع يعم القبيلين.
وقوله : (التَّائِبُونَ) فيه وجوه من الإعراب منها : أنه مرفوع على المدح. فهو خبر
لمبتدأ محذوف وجوبا للمبالغة في المدح أى : المؤمنون المذكورون التائبون ، ومنها
أن الخبر هنا محذوف ، أى : التائبون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة ....» .
والمعنى : «التائبون»
عن المعاصي وعن كل ما نهت عنه شريعة الله ، «العابدون» لخالقهم عبادة خالصة لوجهه
، «الحامدون» له ـ سبحانه ـ في السراء والضراء ، وفي المنشط والمكره ، وفي العسر
واليسر ، «السائحون» في الأرض للتدبر والاعتبار وطاعة الله. والعمل على مرضاته «الراكعون
الساجدون» لله ـ تعالى ـ عن طريق الصلاة التي هي عماد الدين وركنه الركين «الآمرون»
غيرهم «بالمعروف» أى : بكل ما حسنه الشرع «والناهون» له «عن المنكر» الذي تأباه
الشرائع والعقول السليمة ، «والحافظون لحدود الله» أى : لشرائعه وفرائضه وأحكامه
وآدابه .. هؤلاء المتصفون بتلك الصفات الحميدة ، بشرهم. يا محمد. بكل ما يسعدهم
ويشرح صدورهم ، فهم المؤمنون حقا ، وهم الذين أعد الله ـ تعالى ـ لهم الأجر الجزيل
، والرزق الكريم.
__________________
ولم يذكر ـ سبحانه
ـ المبشر به في قوله : «وبشر المؤمنين» ، للإشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به
الوصف ، ولا تحده العبارة.
ولم يذكر ـ سبحانه
ـ في الآية لهذه الأوصاف متعلقا ، فلم يقل «التائبون» من كذا ، لفهم ذلك من المقام
، لأن المقام في مدح المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا نفوسهم لله ، تعالى. فصاروا
ملتزمين طاعته في كل أقوالهم وأعمالهم.
وعبر عن كثرة
صلاتهم وخشوعهم فيها بقوله. «الراكعون الساجدون» للإشارة إلى أن الصلاة كأنها صفة
ثابتة من صفاتهم ، وكأن الركوع والسجود طابع مميز لهم بين الناس. وإنما عطف النهى
عن المنكر على الأمر بالمعروف للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب ،
أو لما بينهما من تباين إذ الأمر بالمعروف طلب فعل ، والنهى عن المنكر طلب ترك أو
كف.
وكذلك جاء قوله. «والحافظون
لحدود الله» بحرف العطف ومما قالوه في تعليل ذلك. أن سر العطف هنا التنبيه على أن
ما قبله مفصل للفضائل وهذا مجمل لها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به
معطوفا ، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله بالإجمال
والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه .
هذا ، وما ذكرناه
من أن المراد بقوله : «السائحون» أى : السائرون في الأرض للتدير والاعتبار والتفكر
في خلق الله ، والعمل على مرضاته .. هذا الذي ذكرناه رأى لبعض العلماء. ومنهم من
يرى أن المراد بهم الصائمون ومنهم من يرى أن المراد بهم : المجاهدون.
قال الآلوسى :
وقوله : «السائحون» أى الصائمون. فقد أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة
والتابعين. وجاء عن عائشة : «سياحة هذه الأمة الصيام».
وأخرج ابن أبى
حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون ، وليس في أمة محمد صلىاللهعليهوسلم سياحة إلا الهجرة.
وعن عكرمة أنهم
طلبة العلم ، لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه.
وقيل : هم
المجاهدون في سبيل الله ، لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما ، عن أبى أمامة
أن رجلا استأذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في السياحة فقال : إن سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله .
__________________
والذي نراه أقرب
إلى الصواب أن المراد بالسائحين هنا : السائرون في الأرض لمقصد شريف ، وغرض كريم.
كتحصيل العلم ، والجهاد في سبيل الله ، والتدبر في ملكوته ـ سبحانه ـ والتفكر في
سنته في كونه ، والاعتبار بما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب.
ولعل مما يؤيد ذلك
أن لفظ «السائحون» معناه السائرون ، لأنه مأخوذ من السيح وهو الجري على وجه الأرض
، والذهاب فيها. وهذه المادة تشعر بالانتشار ، يقال : ساح الماء أى جرى وانتشر.
وما دام الأمر
كذلك فمن الأولى حمل اللفظ على ظاهره ، مادام لم يمنع مانع من ذلك ، وهنا لا مانع
من حمل اللفظ على حقيقته وظاهره.
أما الأحاديث
والآثار التي استشهد بها من قال بأن المراد بالسائحين الصائمون فقد ضعفها علماء
الحديث.
قال صاحب المنار :
وأقول : وروى ابن جرير من حديث أبى هريرة مرفوعا وموقوفا حديث : «السائحون هم
الصائمون» لا يصح رفعه .. .
وفضلا عن كل هذا ،
فإن تفسير السائحين بأنهم السائرون في الأرض لكل مقصد شريف ، وغرض كريم .. يتناول
الجهاد في سبيل ، كما يتناول الرحلة في طلب العلم ، وغير ذلك من وجوه الخير.
وما أكثر الآيات
القرآنية التي حضت على السير في الأرض ، وعلى التفكر في خلق الله ، ومن ذلك قوله
تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي
الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) .
وقوله تعالى. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ،
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي
الصُّدُورِ) .
قال الإمام الرازي
: للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأن الإنسان يلقى الأكابر من الناس ، فيحتقر
نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف
أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله. تعالى. في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى
معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين .
ثم بين ـ سبحانه ـ
أنه لا يصح للنبي صلىاللهعليهوسلم ولا للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين مهما بلغت درجة قرابتهم
، لأن رابطة العقيدة هي الوشيجة الأساسية فيما بينهم فقال ـ تعالى :
__________________
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى
مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ
إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(١١٦)
قال الفخر الرازي
: اعلم أنه ـ تعالى ـ لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضوع وجوب إظهار
البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه ، بين في هذه الآية أنه تجب البراءة
عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان ، كما أوجبت البراءة عن أحيائهم ،
والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات ، والمنع من مواصلتهم بسبب من
الأسباب .
والمعنى : ما كان
من شأن النبي صلىاللهعليهوسلم ولا من شأن أصحابه المؤمنين ، أن يدعوا الله ـ تعالى ـ بأن
يغفر للمشركين في حال من الأحوال. ولو كان هؤلاء المشركون من أقرب أقربائهم «من
بعد ما تبين لهم» أى : للرسول صلىاللهعليهوسلم ولأصحابه ، أن هؤلاء المشركين من أصحاب الجحيم ، بسبب
موتهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، وعدم اعترافهم بدين الإسلام.
قال الآلوسى ما
ملخصه : والآية على الصحيح نزلت في أبى طالب ، فقد أخرج الشيخان
__________________
وغيرهما عن المسيب
بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة ، دخل عليه النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية فقال النبي صلىاللهعليهوسلم أى عم ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله. فقال
أبو جهل يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعرضها عليه. وأبو جهل وعبد الله بن أمية يعاودانه بتلك
المقالة. فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا
إله إلا الله. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ..) الآية.
ثم قال. واستبعد
بعضهم ذلك ، لأن موت أبى طالب كان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهذه السورة من أواخر
ما نزل بالمدينة.
وهذا الاستبعاد
مستبعد ، لأنه لا بأس من أن يقال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يستغفر لأبى طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية
وعليه فلا يراد من قوله «فنزلت» في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك
سبب النزول فحسب. فتكون الفاء للسببية لا للتعقيب .
وقال القرطبي :
هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم ، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن
يستغفروا للمشركين. فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. ، وقال كثير من العلماء.
بأنه لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ما داما حيين ، فأما من مات على الكفر
فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعى له .
ثم بين ـ سبحانه ـ
السبب الذي حمل إبراهيم على الاستغفار لأبيه ، ثم على ترك هذا الاستغفار فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) ..
قال القرطبي : روى
النسائي عن على بن أبى طالب قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان. فقلت : أتستغفر
لهما وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه. فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فذكرت له ذلك فنزلت (وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الآية.
والمعنى : لا حجة
لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم ، لأبيه ، لأن استغفاره له إنما كان بسبب
وعد صدر له بذلك. فلما أصر «آزر» أبو إبراهيم على كفره ، ومات مشركا بالله ،
__________________
تبرأ إبراهيم منه
ومن عمله.
والمراد بهذا
الوعد ما جاء في القرآن من قوله له : (سَلامٌ عَلَيْكَ
سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) .
وقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ
لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) .
وقوله : «إن
إبراهيم لأواه حليم» جملة مستأنفة مسوقة لبيان الداعي الذي دعا إبراهيم إلى
الاستغفار لأبيه قبل التبين.
أى : إن إبراهيم
لكثير التأوه والتوجع من خشية الله ، وكثير الحلم والصفح عمن آذاه.
قال الآلوسى :
قوله «إن إبراهيم لأواه حليم» أى لكثير التأوه ، وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما
يقوله الحزين .. وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة. ورقة القلب. وأخرج ابن جرير
وابن أبى حاتم وغيرهما عن عبد الله بن شداد. قال رجل : يا رسول الله ما الأواه؟ قال
: «الخاشع المتضرع الكثير الدعاء» .
ويؤخذ من هاتين
الآيتين ، أنه لا يجوز لمسلم أن يستغفر لمشرك بعد موته على الشرك مهما بلغت درجة
قرابته له.
ثم بين ـ سبحانه ـ
سنة من سننه العامة في خلقه ، وهي تدل على سعة رحمته ، ووافر عدله فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ
إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ..).
أى : وما كان من
شأن الله ـ تعالى ـ في لطفه وعدله .. أن يصف قوما بالضلال عن طريق الحق «بعد إذ
هداهم» إلى الإسلام ، لمجرد قول أو عمل صدر عنهم عن طريق الخطأ في الاجتهاد.
وإنما يصفهم بذلك
بعد أن يبين لهم ما يجب اتقاؤه من الأقوال والأفعال ، فلا يطيعون أمره ، ولا
يستجيبون لتوجيهه ـ سبحانه ـ قال صاحب الكشاف : يعنى ـ سبحانه ـ أن ما أمر باتقائه
واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيرها مما نهى عنه وبين أنه محظور ، لا يؤاخذ به
عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالا ، إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان
حظره عليهم ، وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل
عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ، ولا ببيع الصاع بصاعين قبل التحريم.
__________________
وهذا بيان لعذر من
خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه. وفي هذه الآية شديدة ما
ينبغي أن يغفل عنها : وهي أن المهدى للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله صار
داخلا في حكم الإضلال» .
وقال صاحب المنار
: أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن مسعود كان يخطب أصحابه كل عشية خميس ثم يقول :
فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل ، ولا يغدو لسوى ذلك ، فإن العالم
والمتعلم شريكان في الخير. أيها الناس : إنى والله لا أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم
يبين لكم ، وقد قال ـ تعالى ـ (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ..) .
وقوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل لما قبله ، أى إن الله ـ تعالى ـ عليم بكل شيء ، ولا
يخفى عليه شيء من أقوال الناس وأفعالهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على ذلك ، وسيجازى
الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
ثم ختم ـ سبحانه ـ
هذه الآيات ببيان أنه ـ سبحانه ـ هو المالك لكل شيء ، والخالق لكل شيء ، فقال : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ).
أى : إن الله ـ تعالى
ـ هو المالك للسموات والأرض وما بينهما ، ولا شريك له في خلقهما ، ولا في تدبير
شئونهما ، وهو ـ سبحانه ـ الذي يحيى من يريد إحياءه ، ويميت من يريد إماتته ، لا
راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه.
(وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أى : وليس لكم ـ أيها الناس ـ أحد سوى الله يتولى أمركم
وينصركم على أعدائكم.
وبذلك نرى أن هذه
الآيات الكريمة قد نهت المؤمنين عن الاستغفار للمشركين المصرين على شركهم ، كما
بشرتهم بأنه ـ سبحانه ـ لا يؤاخذهم على استغفارهم لهم قبل نهيهم عن ذلك. كما
أخبرتهم بأن ملك هذا الكون إنما هو لله وحده ، فعليهم أن يستجيبوا لأمره ، لكي
ينالوا رحمته ورضاه.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ
جانبا من مظاهر فضله على عباده المؤمنين ، حيث تقبل توبتهم ، وتجاوز عن زلاتهم ،
فقال ـ تعالى ـ :
__________________
(لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١١٧)
قال الإمام الرازي
: اعلم أنه ـ تعالى ـ لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك ، وبين أحوال المتخلفين
عنها ، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه فيما سبق ، عاد في هذه الآية
إلى شرح ما بقي من أحكامها ، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يجرى مجرى ترك الأولى ، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة
، فذكر ـ سبحانه ـ أنه تفضل عليهم ، وتاب عليهم ، في تلك الزلات ، فقال ـ تعالى ـ :
(لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ..) .
وللعلماء أقوال في
المراد بالتوبة التي تابها الله على النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى المهاجرين والأنصار : فمنهم من يرى أن المراد بها
قبول توبتهم ، وغفران ذنوبهم ، والتجاوز عن زلاتهم التي حدثت منهم في تلك الغزوة
أو في غيرها ، وإلى هذا المعنى أشار القرطبي بقوله : قال ابن عباس : كانت التوبة على
النبي صلىاللهعليهوسلم لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود ، بدليل قوله ـ سبحانه ـ
قبل ذلك : (عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ..).
وكانت توبته على
المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه ـ أى : إلى التخلف عن الخروج معه إلى
غزوة تبوك .
ومنهم من يرى أن
المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها ، والحض على تجديدها ، وإلى هذا المعنى
اتجه صاحب الكشاف فقال : «تاب الله على النبي» كقوله : «ليغفر لك الله ما تقدم من
ذنبك وما تأخر» وكقوله : «واستغفر لذنبك». وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما
من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرين والأنصار ،
وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء
كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح .. .
__________________
ومنهم من يرى أن
المراد بالتوبة هنا : دوامها لا أصلها ، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله : لقد
تاب الله على النبي ..» أى : أدام توبته على النبي والمهاجرين والأنصار. وهذا جواب
عما يقال : من أن النبي معصوم من الذنب ، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبا
في هذه القضية ، بل اتبعوه من غير تلعثم ، قلنا : المراد بالتوبة في حق الجميع
دوامها لا أصلها ..» .
ومنهم من يرى أن
ذكر النبي هنا إنما هو من باب التشريف ، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار
فيما صدر عن بعضهم من زلات. وقد وضح هذا المعنى الإمام الآلوسى فقال : قال أصحاب
المعاني : المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار ، إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلىاللهعليهوسلم تشريفا لهم ، وتعظيما لقدرهم ، وهذا كما قالوا في ذكره ـ تعالى
ـ في قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ..) الآية أى : عفا ـ سبحانه ـ عن زلات صدرت منهم يوم أحد ويوم
حنين ...» .
ويبدو لنا أن
الرأى الأول أقرب الآراء إلى الصواب ، لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله ـ تعالى
ـ على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة
وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ، وبمقتضى الاجتهاد في أمور لم
يبين الله ـ تعالى ـ حكمه فيها ، فهي لا تنقص من منزلة الرسول صلىاللهعليهوسلم ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم.
والمعنى ، لقد
تقبل الله ـ تعالى ـ توبة النبي صلىاللهعليهوسلم كما تقبل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار ، الذين اتبعوه
عن طواعية واختيار وإخلاص في ساعة العسرة. أى في وقت الشدة والضيق ، وهو وقت غزوة
تبوك ، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت.
وقد كانت غزوة
تبوك تسمى غزوة العسرة ، كما كان الجيش الذي اشترك فيها يسمى بجيش العسرة ، وذلك
لأن المؤمنين خرجوا إليها في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وفقر في الزاد والماء
والراحلة.
قال ابن كثير :
قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في
شدة من الأمر ، في سنة مجدبة ، وحر شديد ، وعسر في الزاد والماء.
وقال قتادة :
خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر ـ أى شدته ـ على ما يعلم الله من
__________________
الجهد ، أصابهم
فيها تعب شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما .
وقال الحسن : كان
العشرة منهم يعتقبون بعيرا واحدا ، يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك
، وكان النفر منهم يخرجون وليس معهم إلا التمرات اليسيرة فإذا بلغ الجوع من أحدهم
أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ، ثم يشرب عليها جرعة من الماء .. ومضوا مع النبي
صلىاللهعليهوسلم على صدقهم ويقينهم ـ رضى الله عنهم .
وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ) بيان لتناهى الشدة ، وبلوغها الغاية القصوى.
أى : تاب ـ سبحانه
ـ على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار ، من بعد أن أشرف فريق منهم على
الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك ، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب.
وفي ذكر «فريق
منهم» إشارة إلى أن معظم المهاجرين والأنصار ، مضوا معه صلىاللهعليهوسلم إلى تبوك دون أن تؤثر هذه الشدائد في قوة إيمانهم وصدق
يقينهم ، ومضاء عزيمتهم ، وشدة إخلاصهم.
قال الآلوسى ما
ملخصه : وفي «كاد» ضمير الشأن و «قلوب» فاعل «يزيغ» والجملة في موضع الخبر لكاد ..
وهذا على قراءة «يزيع» بالياء ، وهي قراءة حمزة ، وحفص ، والأعمش. وأما على قراءة «تزيغ»
بالتاء ، وهي قراءة الباقين. فيحتمل أن يكون «قلوب» اسم كاد «وتزيغ» خبرها ، وفيه
ضمير يعود على اسمها» .
وقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تذييل مؤكد لقبول التوبة ولعظيم فضل الله عليهم. ولطفه
بهم.
أى : ثم تاب عليهم
ـ سبحانه ـ بعد أن كابدوا ما كابدوا من العسر والمشقة ومجاهدة النفس. إنه بهم رءوف
رحيم.
قال بعضهم : فإن
قلت : قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانيا فما فائدة التكرار؟
قلت : إنه ـ سبحانه
ـ ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ، ثم ذكر الذنب بعد
ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه ـ تعالى ـ قد قبل
توبتهم ، وعفا عنهم ، ثم أتبعه بقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّهُ بِهِمْ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تأكيدا
__________________
لذلك. والرأفة
عبارة عن السعى في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع ، .
وقال القرطبي :
قوله «ثم تاب عليهم» قيل : توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ ؛ وتلك سنة
الحق ـ سبحانه ـ مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك ، أمطر
عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم.
قال الشاعر :
منك أرجو ولست
أعرف ربا
|
|
يرتجى منه بعض
ما منك أرجو
|
وإذا اشتدت
الشدائد في الأر
|
|
ض على الخلق
فاستغاثوا وعجوا
|
وابتليت العباد
بالخوف والجو
|
|
ع ، وصروا على
الذنوب ولجوا
|
لم يكن لي سواك
ربي ملاذ
|
|
فتيقنت أننى بك
أنجو
|
وكما تقبل الله ـ تعالى
ـ توبة المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسولهم صلىاللهعليهوسلم في ساعة العسرة .. فقد تقبل توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن
الاشتراك في غزوة تبوك ، فقال ـ تعالى ـ :
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ
إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ)(١١٨)
هذه الآية الكريمة
معطوفة على الآية السابقة لها. والمعنى : لقد تقبل الله ـ تعالى ـ بفضله وإحسانه
توبة النبي والمهاجرين والأنصار ، وتقبل كذلك توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن هذه
الغزوة كسلا وحبا للراحة ، والذين سبق أن أرجأ الله حكمه فيهم بقوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ
إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ..) .
وقوله :
(حَتَّى إِذا ضاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ
__________________
لا
مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) كناية عن شدة تحيرهم ، وكثرة حزنهم ، واستسلامهم لحكم الله
فيهم.
أى : حتى إذا ضاقت
عليهم الأرض على سعتها ، بسبب إعراض الناس عنهم ، ومقاطعتهم لهم ، وضاقت عليهم
أنفسهم ، بسبب الهم والغم الذي ملأها واعتقدوا أنهم لا ملجأ ولا مهرب لهم من حكم
الله وقضائه إلا إليه.
حتى إذا كان أمرهم
كذلك ، جاءهم فرج الله ، حيث قبل توبتهم ، وغفر خطأهم وعفا عنهم.
وقوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أى : بعد هذا التأديب الشديد لهم ، تقبل ـ سبحانه ـ توبتهم
، ليتوبوا إليه توبة صادقة نصوحا ، لا تكاسل معها بعد ذلك عن طاعة الله وطاعة
رسوله ، إن الله ـ تعالى ـ هو الكثير القبول لتوبة التائبين ، وهو الواسع الرحمة
بعباده المحسنين.
هذا ، والمقصود
بهؤلاء الثلاثة الذين خلفوا : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ؛
وكلهم من الأنصار.
وقد ذكرت قصتهم في
الصحيحين وفي غيرهما من كتب السنة والسيرة ، وهاك خلاصة لها : قال الإمام ابن كثير
: روى الإمام أحمد أن كعب بن مالك قال ، لم أتخلف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة غزاها قط إلا في تبوك.
وكان من خبري حين
تخلفت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك. أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت
عنه في تلك الغزوة.
وغزا رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، وتجهز لها المؤمنون
معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم. فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا .. فأقول لنفسي أنا
قادر على ذلك إذا أردت .. ولم يزل ذلك شأنى حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن
أرتحل فألحقهم ـ وليتني فعلت ـ ولكن لم يقدر لي ذلك.
ولم يذكرني رسول
الله صلىاللهعليهوسلم حتى بلغ تبوك فقال : ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بنى
سلمة : حبسه برداه والنظر في عطفيه.
فقال معاذ بن جبل
: بئسما قلت. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال كعب : فلما بلغني أن رسول الله قد توجه قافلا من تبوك
، حضرني بثي ، وطفقت أتذكر الكذب وأقول : بما ذا أخرج من سخطه غدا؟.
وعند ما عاد
الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه .. وجئت
إليه فقال : تعال .. ما خلفك؟! ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟
فقلت يا رسول الله
؛ إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر. والله لقد علمت
لئن حدثتك اليوم بحديث كاذب ترضى به عنى ، ليوشكن الله أن يسخطك على. ولئن حدثتك
بصدق تغضب على فيه ، إنى لأرجو عقبى ذلك من الله ـ تعالى ـ والله ما كان لي من
عذر.
قال صلىاللهعليهوسلم أما هذا فقد صدق. فقم حتى يقضى الله فيك. وكان هناك رجلان
قد قالا مثل ما قلت هما مرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية.
قال : ونهى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم كلامنا ، فاعتزلنا الناس وتغيروا لنا .. ولبثنا على ذلك
خمسين ليلة .. ثم أمرنا أن نعتزل نساءنا ففعلنا.
قال : ثم صليت
صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتها فبينا أنا على الحال التي ذكرها
الله عنا ، قد ضاقت على نفسي .. سمعت صارخا يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن
مالك.
وذهبت إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال : وأنزل
الله ـ تعالى ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا ..) الآية.
قال الإمام ابن
كثير بعد أن ساق هذا الحديث بتمامه : هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، وقد تضمن
تفسير الآية بأحسن الوجوه وأبسطها» .
وبذلك نرى أن
هاتين الآيتين قد ذكرتا جانبا من فضل الله على عباده ، حيث قبل توبتهم ، وغسل
حوبتهم. إنه بهم رءوف رحيم.
ثم وجه ـ سبحانه ـ
نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه بأن يتقوا الله حق تقاته وأن يكونوا مع الصادقين ،
وأوجب عليهم الغزو مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ووعدهم عليه بجزيل الثواب ، وتوعد المتخلفين عنه بشديد
العقاب فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
ما
كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ
__________________
مِنَ
الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا
نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ
عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ
نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ
لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢١)
والمعنى : يا من
آمنتم بالله واليوم الآخر .. اتقوا الله حق تقاته ، بأن تفعلوا ما كلفكم به. وتتركوا
ما نهاكم عنه ، «وكونوا مع الصادقين» في دين الله نية وقولا وعملا وإخلاصا ؛ فإن
الصدق ما وجد في شيء إلا زانه ، وما وجد الكذب في شيء إلا شانه.
قال القرطبي : حق
من فهم عن الله وعقل عنه ؛ أن يلازم الصدق في الأقوال والإخلاص في الأعمال ،
والصفاء في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى ربنا الغفار.
قال صلىاللهعليهوسلم «عليكم بالصدق فإن
الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق
حتى يكتب عند الله صديقا».
والكذب على الضد
من ذلك. قال صلىاللهعليهوسلم «إياكم والكذب ؛
فإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار. وما يزال الرجل يكذب
ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا».
فالكذب عار ،
وأهله مسلوبو الشهادة ، وقد رد صلىاللهعليهوسلم شهادة رجل في كذبة كذبها.
وسئل شريك بن عبد
الله فقيل له : يا أبا عبد الله ، رجل سمعته يكذب متعمدا ، أصلى خلفه؟ قال : لا .
__________________
ثم أوجب ـ سبحانه
ـ على المؤمنين مصاحبة رسولهم صلىاللهعليهوسلم في غزواته فقال : (ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ ...).
والمراد بالنفي
هنا النهى. أى : ليس لأهل المدينة أو لغيرهم من الأعراب سكان البادية الذين يسكنون
في ضواحي المدينة ، كقبائل مزينة وجهينة وأشجع وغفار.
ليس لهؤلاء جميعا
أن يتخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا ما خرج للجهاد ، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك ، لأن هذا
التخلف يتنافى مع الإيمان بالله ورسوله.
وليس لهم كذلك «أن
يرغبوا بأنفسهم عن نفسه» أى ليس لهم أن يؤثروا أنفسهم بالراحة على نفسه ، بأن
يتركوه يتعرض للآلام والأخطار. دون أن يشاركوه في ذلك ، بل من الواجب عليهم أن
يكونوا من حوله في البأساء والضراء ، والعسر واليسر ؛ والمنشط والمكره.
ورحم الله صاحب
الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة : أمروا بأن يصحبوه على البأساء
والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم من
الشدائد ما تلقاه نفسه ، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها ، فإذا تعرضت ـ مع
كرامتها وعزتها ـ للخوض في شدة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت ـ أى تتساقط
ـ فيما تعرضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ، ولا يقيمون لها وزنا ، وتكون أخف شيء
عليهم وأهونه ، فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ، ويضنوا بها على
ما سمح بنفسه عليه. وهذا نهى بليغ ، مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج
لمتابعته بأنفة وحمية» .
واسم الإشارة في
قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ..) يعود على ما دل عليه الكلام من وجوب مصاحبته وعدم التخلف
عنه.
أى : ذلك الذي
كلفناهم به من وجوب مصاحبته صلىاللهعليهوسلم والنهى عن التخلف عنه ، سببه أنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) أى عطش (وَلا نَصَبٌ) أى : تعب ومشقة (وَلا مَخْمَصَةٌ) أى : مجاعة شديدة تجعل البطون خامصة ضامرة (فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : في جهاد أعدائه وإعلاء كلمة الحق (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ
الْكُفَّارَ) أى : ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بأرجلهم أو بحوافر
خيولهم من أجل إغاظتهم وإزعاجهم .. (وَلا يَنالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلاً) أى : ولا يصيبون من عدو من أعدائهم إصابة كقتل أو أسر أو
غنيمة.
__________________
إنهم لا يفعلون
شيئا (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) أى : إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح ، ينالون
بسببه الثواب الجزيل من الله ، لأنه ـ سبحانه ـ (لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ) وإنما يكافئهم على إحسانهم بالأجر العظيم.
وقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً ..) معطوف على ما قبله.
أى : وكذلك لا
يتصدقون بصدقة صغيرة ، كالتمرة ونحوها ، ولا كبيرة كما فعل عثمان ـ رضى الله عنه ـ
في هذه الغزوة ، فقد تصدق بالكثير.
(وَلا يَقْطَعُونَ
وادِياً) من الوديان في مسيرهم إلى عدوهم ، أو في رجوعهم عنه.
لا يفعلون شيئا من
ذلك أيضا (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) أى : إلا كتب لهم ثوابه في سجل حسناتهم.
(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أى : أمرهم بمصاحبة نبيهم في كل غزواته ، وكلفهم بتحمل
مشاق الجهاد ومتاعبه. ليجزيهم على ذلك أحسن الجزاء وأعظمه ، فأنت ترى أن الله ـ تعالى
ـ قد حرض المؤمنين على الجهاد في هاتين الآيتين ، وبين لهم أن كل ما يلاقونه في
جهادهم من متاعب له ثوابه العظيم ، وما دام الأمر كذلك فعليهم أن يصاحبوا رسولهم صلىاللهعليهوسلم في جميع غزواته ، لأن التخلف عنه لا يليق بالمؤمنين
الصادقين ، فضلا عن أن هذا التخلف ـ بدون عذر شرعي ـ سيؤدي إلى الخسران في الدنيا
والآخرة.
وبعد أن حرض الله
ـ تعالى ـ المؤمنين على الجهاد في سبيله ، وحذرهم من التخلف عن الخروج مع رسوله صلىاللهعليهوسلم أتبع ذلك بالحديث عما يجب عليهم إذا لم تكن المصلحة تقتضي
النفير العام ، فقال ـ تعالى ـ :
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١٢٢)
قال الجمل : وسبب
نزول هذه الآية أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما بالغ في الكشف عن عيوب المنافقين ، وفضحهم في تخلفهم
عن غزوة تبوك. قال المسلمون : والله لا نتخلف عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا عن سرية بعثها ، فلما قدم صلىاللهعليهوسلم المدينة من تبوك ، وبعث السرايا ، أراد المسلمون أن ينفروا
جميعا للغزو وأن يتركوا النبي صلىاللهعليهوسلم وحده فنزلت هذه الآية .
والمعنى ، وما كان
من شأن المؤمنين ، أن ينفروا جميعا في كل سرية تخرج للجهاد ، ويتركوا الرسول صلىاللهعليهوسلم وحده بالمدينة ، وإنما يجب عليهم النفير العام إذا ما
دعاهم صلىاللهعليهوسلم إلى ذلك.
وقوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...) معطوف على كلام محذوف ، ولو لا حرف تحضيض بمعنى هلا.
أى : فحين لم يكن
هناك موجب لنفير الكافة ، فهلا نفر من كل فرقة من المؤمنين طائفة للجهاد ، وتبقى
طائفة أخرى منهم «ليتفقهوا في الدين» أى : ليتعلموا أحكامه من رسولهم صلىاللهعليهوسلم «ولينذروا قومهم»
أى : وليعلموهم ويخبروهم بما أمروا به أو نهوا عنه «إذا رجعوا إليهم» من الغزو «لعلهم
يحذرون» أى : لعل هؤلاء الراجعين إليهم من الغزو يحذرون ما نهوا عنه.
أى : أن على
المسلمين في حالة عدم النفير العام ، أن يقسموا أنفسهم إلى قسمين.
قسم يبقى مع
الرسول صلىاللهعليهوسلم ليتفقه في دينه ، وقسم آخر يخرج للجهاد في سبيل الله ، فإذا
ما عاد المجاهدون ، فعلى الباقين مع الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يبلغوا العائدين ما حفظوه عن الرسول صلىاللهعليهوسلم من أحكام.
وبذلك يجمع
المسلمون بين المصلحتين : مصلحة الدفاع عن الدين بالحجة والبرهان ، ومصلحة الدفاع
عنه بالسيف والسنان.
وعلى هذا التفسير
الذي سار عليه جمهور العلماء يكون الضمير في قوله «ليتفقهوا ولينذروا» يعود إلى
الطائفة الباقية مع الرسول صلىاللهعليهوسلم أما الضمير في قوله «لعلهم يحذرون» فيعود على الطائفة التي
خرجت للجهاد ثم عادت.
ومنهم من يرى أن
الضمير في قوله «ليتفقهوا ، ولينذروا» يعود على الطائفة التي خرجت للجهاد.
وقد رجح هذا
الاتجاه الإمام ابن جرير فقال : وأما قوله «ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم» فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : لتتفقه الطائفة
__________________
النافرة بما تعاين
من نصر الله لأهل دينه ولأصحاب رسوله على أهل عداوته والكفر به ، فيفقه بذلك من
معاينته حقيقة علم أمر الإسلام ، وظهوره على الأديان ، من لم يكن فقهه ، «ولينذروا
قومهم» فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله ، مثل الذي نزل بمن شاهدوا ، ممن ظفر بهم
المسلمون من أهل الشرك ، إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم «لعلهم يحذرون» أى : لعل
قومهم إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك ، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله ، حذرا من أن
ينزل بهم ما نزل بالذين أخبروا خبرهم ...» .
وقد علق صاحب
المنار على رأى ابن جرير هذا بقوله : وهذا تأويل متكلف ينبو عنه النظم الكريم ،
فإن اعتبار طائفة السرية بما قد يحصل لها من النصر ـ وهو غير مضمون ولا مطرد ـ لا
يسمى تفقها في الدين ، وإن كان يدخل في عموم معنى الفقه ، فإن التفقه هو التعلم
الذي يكون بالتكلف والتدرج ، والمتبادر من الدين علمه ، ولا يصح هذا المعنى في ذلك
العهد إلا في الذين يبقون مع النبي صلىاللهعليهوسلم فيزدادون في كل يوم علما وفقها بنزول القرآن ...» .
هذا ، ومن الأحكام
التي أخذها العلماء من هذه الآية : وجوب طلب العلم ، والتفقه في دين الله وتعليم
الناس إياه.
قال القرطبي : هذه
الآية أصل في وجوب طلب العلم ؛ لأن المعنى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي
صلىاللهعليهوسلم مقيم لا ينفر فيتركوه وحده «فلو لا نفر» بعد ما علموا أن
النفير لا يسع جميعهم «من كل فرقة منهم طائفة» وتبقى بقيتها مع النبي صلىاللهعليهوسلم ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا ، فإذا رجع النافرون إليهم
أخبروهم بما سمعوه وعلموه ، وفي هذا إيجاب التفقه ، في الكتاب والسنة ، وأنه على
الكفاية دون الأعيان ..» .
ثم ختمت السورة
الكريمة حديثها عن الجهاد في سبيل الله ، بدعوة المؤمنين إلى قتال أعدائهم بشدة
وغلظة فقال ـ تعالى ـ :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا
فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(١٢٣)
__________________
وقوله : (يَلُونَكُمْ) من الولي بمعنى القرب ، تقول جلست مما يلي فلان أى :
يقاربه.
قال ابن كثير :
أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا ، الأقرب فالأقرب ، إلى حوزة
الإسلام ، ولهذا بدأ الرسول صلىاللهعليهوسلم بقتال المشركين في
جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة واليمن .. وغير ذلك من
أقاليم العرب ، دخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال
أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب ، وأولى الناس
بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل كتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس ، وجدب
البلاد ، وضيق الحال ، ذلك سنة تسع من الهجرة ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة
الوداع ، ثم عاجلته المنية ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بعد حجة الوداع بأحد
وثمانين يوما وسار خلفاؤه الراشدون من بعده على نهجه.
وقوله (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أى : وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم ، فإن المؤمن
الكامل هو الذي يكون رفيقا بأخيه المؤمن ، غليظا على عدوه الكافر. قال ـ تعالى ـ :
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).
وفي الحديث أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أنا الضحوك القتال» يعنى : أنه ضحوك في وجه وليه
المؤمن ، قتال لهامة عدوه الكافر» .
وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ) تذييل قصد به حض المؤمنين على التسلح بسلاح الإيمان
والتقوى حتى ينالوا نصر الله وعونه.
أى : واعلموا أن
الله ـ تعالى ـ مع المتقين بنصره ومعونته ، فاحرصوا على هذه الصفة ليستمر معكم
نصره ـ سبحانه ـ وعونه.
وإنما أمر الله ـ تعالى
ـ المؤمنين أن يبدءوا قتالهم مع الأقرب فالأقرب من ديارهم ، لأن القتال شرع لتأمين
الدعوة الإسلامية ، وقد كانت دعوة الإسلام موجهة إلى الأقرب فالأقرب ، فكان من
الحكمة أن يبدءوا قتالهم مع المجاورين لهم حتى يأمنوا شرهم ، ولأنه من المعلوم أنه
ليس في طاقة المسلمين قتال جميع الكفار ، وغزو جميع البلاد في زمان واحد ، فكان من
قرب أولى ممن بعد.
ثم ختمت السورة ـ أيضا
ـ حديثها الطويل المتنوع عن المنافقين ببيان موقفهم من نزول الآيات القرآنية على
الرسول صلىاللهعليهوسلم
__________________
فقال ـ تعالى ـ :
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ
كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا
يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ
ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(١٢٧)
والمعنى : وإذا ما
أنزلت سورة من سور القرآن عليك يا محمد : تساءل المنافقون عنها في حذر وريبة «فمنهم
من يقول» لأشباهه في الكفر والنفاق على سبيل الاستهزاء والتهوين من شأن القرآن
الكريم «أيكم زادته هذه إيمانا» أى : أى واحد منكم زادته هذه السورة النازلة
إيمانا؟
وهنا يجيء الرد
الحاسم الذي يخرس ألسنتهم ، من جهته ـ تعالى ـ فيقول : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
أى : فأما الذين
آمنوا فزادهم نزول السورة القرآنية ، إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم ،
ويقينا على يقينهم ، «وهم» فوق ذلك «يستبشرون» ويفرحون بنزولها لما فيها من
المنافع الدينية والدنيوية.
هذا شأن المؤمنين
بالنسبة لنزول السورة القرآنية ، وأما المنافقون ، فقد صور القرآن حالهم بقوله (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ).
أى : وأما الذين
في قلوبهم شك ونفاق وارتياب ، فزادهم نزول السورة كفرا على كفرهم السابق.
وسمى ـ سبحانه ـ الكفر
رجسا ، لأنه أقبح الأشياء وأسوؤها.
وقوله : (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) تذييل قصد به بيان سوء عاقبتهم في الآخرة بعد بيان سوء
أعمالهم في الدنيا.
أى : لقد قضى
هؤلاء المنافقون حياتهم في الكفر والفسوق والعصيان ، ثم لم يتوبوا عن ذلك ولم
يرجعوا عنه ، بل ماتوا على الكفر والنفاق.
وقوله : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ..) توبيخ لهم على قسوة قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم ، وغفلتهم
عما يدعو إلى الاعتبار والاتعاظ.
أى : أبلغ الجهل
والسفه وعمى البصيرة بهؤلاء ، أنهم صاروا لا يعتبرون ولا يتعظون بما حاق من فتن
واختبارات وابتلاءات ، تنزل بهم في كل عام مرة أو مرتين؟
ومن هذه الفتن
والامتحانات : كشف مكرهم عن طريق اطلاع رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ما يضمرونه من سوء ، وما يقولونه من منكر ، وما
يفعلونه من أفعال خبيثة ، وحلول المصائب والأمراض بهم ، ومشاهدتهم لانتصار
المؤمنين وخذلان الكافرين.
قال الآلوسى :
والمراد من المرة والمرتين ـ على ما صرح به بعضهم ـ مجرد التكثير ، لا بيان الوقوع
على حسب العدد المذكور.
وقوله : (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ) بيان لرسوخهم في الجهل والجحود.
أى : ثم بعد كل
هذه الفتن النازلة بهم ، لا يتوبون من نفاقهم «ولا هم يذكرون» ويتعظون ، بل يصرون
على مسالكهم الخبيثة ، وأعمالهم القبيحة ، مع أن من شأن الفتن والمصائب والمحن ،
أنها تحمل على الاعتبار والاتعاظ ، والرجوع عن طريق الشر إلى طريق الخير.
ثم تصور السورة
الكريمة تصويرا معجزا ، مشهدهم عند ما تنزل السورة القرآنية على الرسول صلىاللهعليهوسلم وهم حاضرون في مجلسه فتقول : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ) أو آيات منها ، على الرسول صلىاللهعليهوسلم وهم موجودون في مجلسه (نَظَرَ بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ) في ريبة ومكر ، وتغامزوا بعيونهم وجوارحهم في لؤم وخسة ثم
تساءلوا : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ
أَحَدٍ) أى : هل يراكم من أحد من المسلمين إذا ما قمتم من هذا
المجلس ، قبل أن يتلو الرسول صلىاللهعليهوسلم هذه السورة أو الآيات التي قد تفضحكم وتكشف عما أسررتموه
فيما بينكم.
(ثُمَّ انْصَرَفُوا) من مجلس الرسول صلىاللهعليهوسلم متسللين في حذر حتى لا يراهم أحد من المسلمين.
وقوله : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ذم لهم لإيثارهم الغي على الرشد ، والضلالة على الهداية.
أى : صرف الله
قلوبهم عن الهداية والرشاد ، بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما فيه خيرهم ونفعهم. وإنما
يفقهون ما فيه شقاؤهم وتعاستهم.
هذا ، وإن الناظر
في هذه الآيات الكريمة بتدبر وإمعان ، ليراها قد صورت أحوال المنافقين وأخلاقهم
وحركاتهم تصويرا دقيقا معجزا ، حتى إنه ليخيل إلى القارئ لهذه الآيات الكريمة أو
السامع لها ، أنه يشاهد المنافقين مشاهدة حسية وهم على تلك الحالة من التحرك
المريب والنظرات الخبيثة ، والخروج من مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم في حذر وريبة ..
وهذا كله مما يشهد
بأن هذا القرآن إنما هو من عند الله العليم بخفايا الصدور ، وبطوايا النفوس.
ثم ختم ـ سبحانه
سورة التوبة ، بآيتين كريمتين ، اشتملتا على أسمى النعوت ، وأكرم الصفات للرسول صلىاللهعليهوسلم فقال ـ تعالى ـ :
(لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)
وجمهور المفسرين
على أن الخطاب في قوله ـ سبحانه ـ : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) للعرب : فهو كقوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ).
أى : لقد جاءكم ـ يا
معشر العرب ـ رسول كريم «من أنفسكم» أى : جنسكم ، ومن نسبكم ، فهو عربي مثلكم ،
فمن الواجب عليكم أن تؤمنوا به وتطيعوه.
فالمقصود من هذه
الجملة الكريمة ترغيب العرب في الإيمان بالنبي صلىاللهعليهوسلم وفي طاعته وتأييده ، فإن شرفهم قد تم بشرفه ، وعزهم بعزه ،
وفخرهم بفخره ، وهم في الوقت نفسه قد شهدوا له في صباه بالصدق والأمانة والعفاف
وطهارة النسب ، والأخلاق الحميدة.
قال القرطبي :
قوله «من أنفسكم» يقتضى مدحا لنسب النبي صلىاللهعليهوسلم وأنه من صميم العرب وخالصها ، وفي صحيح مسلم عن وائلة بن
الأسقع قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى
قريشا من كنانة ، واصطفى من قرش بنى هاشم ، واصطفاني من بنى هاشم» وعنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنى من نكاح ولست من سفاح» .
وقال الزجاج إن
الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر ، لعموم بعثته صلىاللهعليهوسلم ، ومعنى كونه صلىاللهعليهوسلم «من أنفسكم» أنه
من جنس البشر.
ويبدو لنا أن
الرأى الأول أرجح ؛ لأن الآية الكريمة ليست مسوقة لإثبات رسالته صلىاللهعليهوسلم وعمومها ، وإنما هي مسوقة لبيان منته وفضله ـ سبحانه ـ على
العرب ، حيث أرسل خاتم أنبيائه منهم ، فمن الواجب عليهم أن يؤمنوا به ، لأنه ليس
غريبا عنهم ، وإذا لم يؤمنوا به تكون الحجة عليهم ألزم ، والعقوبة لهم أعظم.
وقوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أى : شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ، لكونه بعضا منكم ؛
فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب.
يقال : عزّ عليه
الأمر أى صعب وشق عليه ، والعنت المشقة والتعب ومنه قولهم : أكمة عنوت ، إذا كانت
شاقة مهلكة ، والفعل عنت بوزن فرح.
وقوله : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أى : حريص على إيمانكم وهدايتكم وعزتكم وسعادتكم في الدنيا
والآخرة.
والحرص على الشيء
معناه : شدة الرغبة في الحصول عليه وحفظه.
وقوله : «بالمؤمنين
رءوف رحيم» أى : شديد الرأفة والرحمة بكم ـ أيها المؤمنون ـ والرأفة عبارة عن
السعى في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع ، فهو صلىاللهعليهوسلم يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين ، وفي إزالة كل
مكروه عنهم.
قال بعضهم : لم
يجمع الله ـ تعالى ـ لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلىاللهعليهوسلم فإنه قال (بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقال عن ذاته ـ سبحانه ـ (إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) .
ثم انتقل ـ سبحانه
ـ من خطاب المؤمنين إلى خطابه صلىاللهعليهوسلم فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ..).
__________________
أى : فإن أعرضوا
عن الإيمان بك ، وتركوا طاعتك ، فلا تبتئس ولا تيأس ، بل قل «حسبي الله» أى : هو
كافينى ونصيرى «لا إله إلا هو» ـ سبحانه ـ «رب العرش العظيم» الذي لا يعلم مقدار
عظمته إلا الله ـ عزوجل ـ.
ففي هاتين الآيتين
الكريمتين بيان للصفات التي منحها ـ سبحانه ـ لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، ودعوة له صلىاللهعليهوسلم إلى أن يفوض أمره إلى خالقه فهو ـ سبحانه ـ كافيه وناصره.
وبعد فهذه سورة
التوبة.
السورة التي احتوت
على بيان الأحكام النهائية في العلاقات الدائمة بين المجتمع الإسلامى ، والمجتمعات
الأخرى.
السورة التي حرضت
المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ، وساقت لهم من وسائل الترغيب في ذلك ، ما يجعلهم
يقدمون على قتال أعدائهم بصبر وثبات واستبشار.
السورة التي أوجبت
على المؤمنين أن تكون محبتهم لله ولرسوله ، ولإعلاء كلمة الحق ، فوق محبة الآباء
والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال.
السورة التي ذكرت
المؤمنين بنصر الله لهم في مواطن كثيرة ، وحذرتهم من الغرور بأنفسهم. والعجب
بقوتهم ، وأمرتهم بنصرة رسوله في السراء والضراء والعسر واليسر ، والمنشط والمكره.
السورة التي أمرت
المؤمنين بأن يخلصوا في دفاعهم عن دين الله وعن حرماته وعن مقدساته. وبشرتهم بأنهم
إذا فعلوا ذلك ، فسوف يغنيهم الله من فضله.
السورة التي فضحت
المنافقين ، وكشفت عن أساليبهم الخبيثة ، ومسالكهم القبيحة ، وأقوالهم المنكرة ،
وأفعالهم الأثيمة ، وسجلت عليهم الخزي والعار وحذرت المؤمنين من شرورهم ...
السورة التي رسمت
أسس التكافل الاجتماعى بين أفراد الأمة الإسلامية ، عن طريق مشروعية الزكاة ،
ووجوب أدائها لمستحقيها.
السورة التي ساقت
ألوانا من فضل الله على عباده المؤمنين ، حيث تقبل سبحانه توبتهم ، وغسل حوبتهم ،
وتجاوز عن خطئهم.
السورة التي صنفت
المجتمع الإسلامى في أواخر العهد النبوي تصنيفا دقيقا.
فهناك السابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهناك الذين خلطوا عملا
صالحا وآخر سيئا.
وهناك المرجون
لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
وهناك الأعراب
المنافقون ، وهناك الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة.
وقد بينت السورة
الكريمة ما يستحقه كل قسم من الأقسام من ثواب أو عقاب.
السورة التي أوجبت
على المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على أساس العقيدة الدينية لا على أساس القرابة
الجسدية ، فنهتهم أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.
هذا جانب من
المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها هذه السورة الكريمة ونسأل الله ـ تعالى ـ أن
يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ؛ وأن يرزقنا الإخلاص والتوفيق في القول
والعمل.
وصلى الله على
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فهرس إجمالى لتفسير سورة الأنفال
المقدمة.......................................................................... ٥
تمهيد بين يدي
السورة............................................................ ٧
١ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)................................................... ٢٣
٢ ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ).......................................... ٢٩
٣ ـ (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)................................................... ٣١
٤ ـ (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)................................................. ٣٢
٥ ـ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ)...................................................... ٣٧
٦ ـ (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ).................................................... ٣٩
٧ ـ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ).......................................... ٤٠
٨ ـ (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ
الْباطِلَ)............................................... ٤٢
٩ ـ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ)...................................................... ٤٣
١٠ ـ (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى)................................................ ٤٨
١١ ـ (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ).................................................... ٤٨
١٢ ـ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلائِكَةِ)............................................ ٥٢
١٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ).................................................. ٥٣
١٤ ـ (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ)......................................................... ٥٤
١٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)................................. ٦٠
١٦ ـ (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ)................................................. ٦١
١٧ ـ (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ
قَتَلَهُمْ).......................................... ٦٤
١٨ ـ (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ)....................................... ٦٦
١٩ ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ
الْفَتْحُ)......................................... ٦٧
٢٠ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ)........................................... ٦٩
٢١ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا
سَمِعْنا).......................................... ٧٠
٢٢ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ)....................................................... ٧٠
٢٣ ـ (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً)................................................ ٧١
٢٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ)........................................ ٧٢
٢٥ ـ (وَاتَّقُوا فِتْنَةً)........................................................... ٧٥
٢٦ ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ).................................................. ٧٨
٢٧ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَخُونُوا اللهَ)........................................ ٨٠
٢٨ ـ
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
أَمْوالُكُمْ).................................................. ٨٢
٢٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا)............................................ ٨٣
٣٠ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا)............................................. ٨٥
٣١ ـ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا)................................................. ٨٨
٣٢ ـ (وَإِذْ قالُوا اللهُمَ)....................................................... ٨٩
٣٣ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)................................................... ٩١
٣٤ ـ (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ)................................................ ٩٢
٣٥ ـ (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ)............................................ ٩٣
٣٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ)................................................. ٩٤
٣٧ ـ (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ)........................................... ٩٦
٣٨ ـ (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ).................................................... ٩٦
٣٩ ـ (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ)............................................ ٩٧
٤٠ ـ (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا)..................................................... ٩٨
٤١ ـ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ)................................................... ٩٩
٤٢ ـ (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا)................................................ ١٠٥
٤٣ ـ (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ)............................................. ١٠٨
٤٤ ـ (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ)............................................. ١١٠
٤٥ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ
فِئَةً)....................................... ١١٢
٤٦ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).................................................. ١١٢
٤٧ ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا)............................................ ١١٤
٤٨ ـ (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ)................................................ ١١٦
٤٩ ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ)................................................... ١٢٢
٥٠ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
كَفَرُوا)........................................ ١٢٤
٥١ ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).............................................. ١٢٥
٥٢ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ)................................................... ١٢٧
٥٣ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّراً)............................................ ١٣٠
٥٤ ـ (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ)................................................... ١٣١
٥٥ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ).............................................. ١٣٢
٥٦ ـ (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ)................................................. ١٣٤
٥٧ ـ (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ)............................................. ١٣٥
٥٨ ـ (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً)............................................ ١٣٦
٥٩ ـ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا).............................................. ١٣٧
٦٠ ـ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ).............................................. ١٣٨
٦١ ـ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ)................................................... ١٤٤
٦٢ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ).............................................. ١٤٧
٦٣ ـ (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)................................................... ١٤٨
٦٤ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ).............................................. ١٤٩
٦٥ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ).......................................... ١٥١
٦٦ ـ (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ)................................................ ١٥٢
٦٧ ـ (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ)................................................ ١٥٤
٦٨ ـ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ).............................................. ١٥٨
٦٩ ـ (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ).................................................... ١٦٠
٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ)................................................. ١٦١
٧١ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ).................................................. ١٦٢
٧٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا).............................................. ١٦٥
٧٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ)................................................ ١٦٨
٧٤ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا)................................................ ١٦٩
٧٥ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ)................................................. ١٦٩
فهرس إجمالى لتفسير آيات سورة التوبة
مقدمة....................................................................... ١٧٦
تمهيد بين يدي
السورة......................................................... ١٧٧
١ ـ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
الَّذِينَ عاهَدْتُمْ).................................. ١٩٤
٢ ـ (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)......................................... ١٩٧
٣ ـ (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).................................................. ٢٠١
٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ)......................................... ٢٠٣
٥ ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ).............................................. ٢٠٥
٦ ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ)....................................... ٢٠٨
٧ ـ (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ)............................................ ٢١٢
٨ ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ).............................................. ٢١٤
٩ ـ (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً)............................................ ٢١٧
١٠ ـ (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ).................................................. ٢١٧
١١ ـ (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ).............................................. ٢١٨
١٣ ـ (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا)............................................... ٢٢١
١٤ ـ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ
بِأَيْدِيكُمْ).......................................... ٢٢٣
١٥ ـ (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ)................................................. ٢٢٤
١٦ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا)................................................. ٢٢٥
١٧ ـ (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ)................................ ٢٢٦
١٨ ـ (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ)................................................ ٢٢٨
١٩ ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ)................................................. ٢٣١
٢٠ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا)................................................. ٢٣٣
٢١ ـ (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ)............................................. ٢٣٤
٢٢ ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).................................................... ٢٣٤
٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ).................................. ٢٣٥
٢٤ ـ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ)................................................... ٢٣٦
٢٥ ـ (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ
كَثِيرَةٍ)....................................... ٢٣٩
٢٦ ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى
رَسُولِهِ)....................................... ٢٤٢
٢٧ ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ)............................................ ٢٤٢
٢٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)............................... ٢٤٤
٢٩ ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ)........................................... ٢٤٩
٣٠ ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللهِ)........................................... ٢٥٦
٣١ ـ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ)............................................ ٢٦١
٣٢ ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا).................................................... ٢٦٣
٣٣ ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ)................................................ ٢٦٥
٣٤ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
كَثِيراً)........................................... ٢٦٧
٣٥ ـ (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ
جَهَنَّمَ)........................................ ٢٧٠
٣٦ ـ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ)............................................. ٢٧٦
٣٧ ـ (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي
الْكُفْرِ).......................................... ٢٨١
٣٨ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما
لَكُمْ إِذا)........................................ ٢٨٦
٣٩ ـ (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً).............................................. ٢٩٠
٤٠ ـ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللهُ)............................................ ٢٩١
٤١ ـ (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)................................................... ٢٩٥
٤٢ ـ (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً)................................................... ٢٩٩
٤٣ ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ
لَهُمْ)........................................... ٣٠١
٤٤ ـ (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ)............................................ ٣٠٤
٤٥ ـ (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ)........................................ ٣٠٥
٤٦ ـ (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا)............................................ ٣٠٦
٤٧ ـ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ)............................................ ٣٠٨
٤٨ ـ (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ
قَبْلُ)............................................. ٣١١
٤٩ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي)............................................. ٣١٢
٥٠ ـ (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ)............................................. ٣١٣
٥١ ـ (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ
اللهُ لَنا)....................................... ٣١٤
٥٢ ـ (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا)............................................... ٣١٤
٥٣ ـ (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً).............................................. ٣١٦
٥٤ ـ (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ)............................................. ٣١٧
٥٥ ـ (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ)................................................. ٣١٨
٥٦ ـ (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ
لَمِنْكُمْ)............................................ ٣٢٠
٥٧ ـ (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ).......................................... ٣٢١
٥٨ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي
الصَّدَقاتِ)....................................... ٣٢٢
٥٩ ـ (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ
اللهُ).......................................... ٣٢٤
٦٠ ـ (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ
وَالْمَساكِينِ)..................................... ٣٢٥
٦١ ـ ومنهم الذين
يؤذون النبي.................................................. ٣٣٢
٦٢ ـ يحلفون بالله
لكم ليرضوكم................................................ ٣٣٥
٦٣ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ
يُحادِدِ اللهَ).......................................... ٣٣٧
٦٤ ـ (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ)............................................. ٣٣٨
٦٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَ)................................................. ٣٤٠
٦٦ ـ (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ)............................................. ٣٤٠
٦٧ ـ (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ)................................................ ٣٤٣
٦٨ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ)........................................ ٣٤٤
٦٩ ـ (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا).............................................. ٣٤٤
٧٠ ـ (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ)......................................... ٣٤٧
٧١ ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ
بَعْضُهُمْ)......................................... ٣٤٨
٧٢ ـ (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ)......................................... ٣٥٠
٧٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ).................................. ٣٥١
٧٤ ـ (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا)................................................. ٣٥٣
٧٥ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ).............................................. ٣٥٦
٧٦ ـ (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بَخِلُوا بِهِ)........................................ ٣٥٨
٧٧ ـ (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ)............................................. ٣٥٩
٧٨ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ)......................................... ٣٥٩
٧٩ ـ (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).................................. ٣٦١
٨٠ ـ (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)........................................ ٣٦٣
٨١ ـ (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ
خِلافَ)...................................... ٣٦٤
٨٢ ـ (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا
كَثِيراً)........................................ ٣٦٧
٨٣ ـ (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ)............................................. ٣٦٨
٨٤ ـ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ
أَبَداً).................................... ٣٦٩
٨٥ ـ (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ
وَأَوْلادُهُمْ)......................................... ٣٧٢
٨٦ ـ (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا)............................................ ٣٧٣
٨٧ ـ (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ)........................................ ٣٧٤
٨٨ ـ (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ)........................................ ٣٧٥
٨٩ ـ (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا)................................... ٣٧٥
٩٠ ـ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ
الْأَعْرابِ).......................................... ٣٧٥
٩١ ـ (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضى).................................. ٣٧٨
٩٢ ـ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ
لِتَحْمِلَهُمْ).................................. ٣٨٠
٩٣ ـ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ).................................... ٣٨٢
٩٤ ـ (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا
رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ)....................................... ٣٨٣
٩٥ ـ (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا
انْقَلَبْتُمْ)........................................ ٣٨٤
٩٦ ـ (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ)........................................... ٣٨٤
٩٧ ـ (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً)............................................. ٣٨٥
٩٨ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما
يُنْفِقُ مَغْرَماً).................................. ٣٨٧
٩٩ ـ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللهِ)........................................... ٣٨٨
١٠٠ ـ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ).................................... ٣٩٠
١٠١ ـ (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ
مُنافِقُونَ).................................. ٣٩٢
١٠٢ ـ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ)............................................ ٣٩٥
١٠٣ ـ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً).............................................. ٣٩٦
١٠٤ ـ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ
يَقْبَلُ).......................................... ٣٩٨
١٠٥ ـ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ)...................................... ٣٩٩
١٠٦ ـ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ)........................................... ٣٩٩
١٠٧ ـ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِراراً)....................................... ٤٠١
١٠٨ ـ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ
أُسِّسَ)....................................... ٤٠٤
١٠٩ ـ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى
تَقْوى)........................................ ٤٠٥
١١٠ ـ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا).......................................... ٤٠٦
١١١ ـ (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ).......................................... ٤٠٨
١١٢ ـ (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ
الْحامِدُونَ)......................................... ٤١١
١١٣ ـ (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا).......................................... ٤١٤
١١٤ ـ (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ)....................................... ٤١٥
١١٥ ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)................................ ٤١٦
١١٦ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ).................................. ٤١٧
١١٧ ـ (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهاجِرِينَ).................................. ٤١٨
١١٨ ـ (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ
خُلِّفُوا).......................................... ٤٢١
١١٩ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَكُونُوا).................................. ٤٢٣
١٢٠ ـ (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ).................................... ٤٢٥
١٢١ ـ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً)............................................. ٤٢٦
١٢٢ ـ (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً)....................................... ٤٢٦
١٢٣ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا
الَّذِينَ)...................................... ٤٢٨
١٢٤ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ)................................. ٤٣٠
١٢٥ ـ (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ)........................................ ٤٣٠
١٢٦ ـ (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي).......................................... ٤٣١
١٢٧ ـ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ)............................................ ٤٣١
١٢٨ ـ (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ)...................................... ٤٣٢
١٢٩ ـ (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ
اللهُ)........................................... ٤٣٣
تم بحمد الله
|